ثم قيل: موضع الخلاف ترتب الأحكام على القسمة إذا قسم الإمام لا عن اجتهاد، لأن حكم الملك لا يثبت بدونه، وقيل: الكراهة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكانوا فيه آمنين.
م: (ثم قيل موضع الخلاف) ش: قال الأكمل: أي أن موضع الخلاف فيما إذا صدرت القسمة من الإمام بدون الاجتهاد، هل ثبت الملك لمن وقعت القسمة في نصيبه، من الأكل والوطء وسائر الانتفاع أو لا، فعنده يثبت، وعندنا لا يثبت، وقال الأترازي: قوله: ثم قيل: موضع الخلاف، يعني اختلفوا في المراد بقوله: ولا يقسم غنيمة في دار الحرب.
قال بعض المشائخ: المراد عدم جواز القسمة حتى لا تثبت الأحكام المترتبة على القسمة كامتياز الملك عن ملك الغير أو مبادلة الملك بملكه على وجه يظهر أثره في حق الوطء ونفاذاً كالبيع والهبة وغير ذلك، وقال بعضهم: المراد منه الكراهة بدونه، أي بدون الملك، انتهى.
قلت: تفسير الأكمل يشعر بأن مضي قوله: ثم قيل: موضع الخلاف، أي الخلاف الذي بيننا وبين الشافعي، وتفسير الأترازي يشعر بأن المراد من موضع الخلاف اختلاف المشائخ للنظر عن خلاف الشافعي، والذي قاله الأكمل أوجه على ما لا يخفى لأنه لا خلاف بيننا وبينه فيما إذا قسم الإمام عن اجتهاد أنه يجوز.
والخلاف فيما إذا قسم الإمام لا عن اجتهاد كما صرح به المصنف بقوله م: (ترتب الأحكام على القسمة) ش: ارتفاع ترتب الأحكام على أنه خبر لقوله مع منع الخلاف، وأراد بالأحكام أحكام الملك، وهي سائر الانتفاعات بالملك م: (إذا قسم الإمام لا عن اجتهاد) ش: قيد به لأنه إذا قسمها عن اجتهاد، جاز بالاتفاق، وإنما قيد بهذا ليظهر موضع الخلاف.
م: (لأن حكم الملك لا يثبت بدونه) ش: أي بدون الملك، معناه أن ترتب هذه الأحكام دليل ثبوت الملك المستلزم لجواز القسمة وقصده مترتبة بهذه القسمة الصادرة لا عن اجتهاد، فيلزم منه ثبوت الملك، وعندنا ليست بمترتبة، فدل على أن الملك لم يكن ثابتاً.
وهذا لأن الملك عليه لترتب الأحكام، وقد وجد المعلول فيلزم وجود العلة لئلا يلزم تخلف العلة عن المعلول، وعندنا لم يوجد المعلول فيلزم منه عدم وجود العلة لئلا يلزم تخلف العلة عن المعلول.
م: (وقيل الكراهة) ش: أي قيل: حكم قسم الغنائم في دار الحرب على مذهبنا الكراهة، لا عدم الجواز، لما أن القسمة من قطع شركة المراد فنقل بها عقبهم في اللحوق بالجيش، ولأنه إذا قسم تفرقوا، فربما يكون العدو على بعضهم، وهذا أمر وراء ما يتم به القسمة، فلا يمنع جوازها.(7/140)
وهي كراهة تنزيه عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه قال على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز القسمة في دار الحرب. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأفضل أن يقسم في دار الإسلام. وجه الكراهة أن دليل البطلان راجح، إلا أنه تقاعد عن سلب الجواز، فلا يتقاعد عن إيراث الكراهة. قال: والردء والمقاتل في العسكر سواء؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم أشار المصنف إلى الخلاف في الكراهة، هل هي كراهة تنزيه أو كراهة تحريم، فقال: م: (وهي كراهة تنزيه عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه قال) ش: فإن محمداً قال في " السير الكبير " م: (على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز القسمة في دار الحرب، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأفضل أن يقسم في دار الإسلام) ش: وفيه نظر لأن هذا يشير إلى أن قول محمد على خلاف قول أبي حنيفة في القسمة في دار الحرب وليس بمشهور، فإنه لا خلاف بينهم في ظاهر الرواية من أصحابنا.
وفي غير ظاهر الرواية الأفضلية منقولة عن أبي يوسف، وأيضاً قوله على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: لا تجوز القسمة، يدل على خلاف ما يدل عليه قوله وقيل الكراهة.
وفي الجملة هذا الموضع لا يخلو من تسامح، المخلص عنه أنهم اختلفوا في المراد بقوله: ولا يقسم غنيمة في دار الحرب، فقال بعض المشايخ: المراد به عدم جواز القسمة حتى لا تثبت الأحكام المترتبة على القسمة، وقال بعضهم: المراد به الكراهة، وعلى قوله على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: لا تجوز القسمة، إنما يصح على قول الأولين فافهم.
م: (وجه الكراهة أن دليل البطلان) ش: أي دليل بطلان القسمة م: (راجح) ش: على دليل جوازها لعدم تمام الاستيلاء م: (إلا أنه) ش: أي أنه دليل البطلان م: (تقاعد عن سلب الجواز) ش: إذ القسمة تجوز بالإجماع، أما عنده فظاهر، وأما عندنا إذا كانت عن اجتهاد، نظيره قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " الهرة سبع "، فإنه لما تقاعد عن سلب الطهارة قلنا بعدم الكراهة، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الهرة ليست نجسة» قلنا بالكراهة ثمة.
كذا هنا م: (فلا يتقاعد عن إيراث الكراهة) ش: لأنه لما ثبت نفي الجواز بالاتفاق يثبت الكراهة - بمذكر هنا - فلا يتقاعد عن إيراث الكراهة، لأن الدليل المرجوح لما لم يبطل أصلاً حصل من معارضة الراجح والمرجوح احتاج القراءة إلى الانتفاع بالمتاع والثياب والدواب قسمها بينهم في دار الحرب لتتحقق الحاجة.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (والردء) ش: بكسر الراء وسكون الدال المهملة، وفي آخره همزة، وهو العون، رداه: أعانه، والراء بالفتح مصدر، والردء مرفوع بالابتداء، وقوله م: (والمقاتل) ش: عطف عليه، وقوله م: (في العسكر) ش: ظرف الاثنتين، وقوله م: (سواء) ش:(7/141)
لاستوائهم في السبب وهو المجاوزة، أو شهود الواقعة على ما عرف، وكذلك إذا لم يقاتل لمرض أو لغيره لما ذكرنا،
وإذا لحقهم المدد في دار الحرب قبل أن يخرجوا الغنيمة إلى دار الإسلام شاركوهم فيها، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد انقضاء القتال، وهو بناء على ما مهدنا من الأصل. وإنما ينقطع حق المشاركة عندنا بالإحراز، أو بقسمة الإمام في دار الحرب أو ببيعه الغنائم فيها. لأن بكل واحد منها يتم الملك فينقطع حق شركة المدد. قال: ولا حق لأهل سوق العسكر في الغنيمة إلا أن يقاتلوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالرفع خبر المبتدأ، والقياس أن يقال: سواءان، ولكن جاء في الاستعمال بالإفراد أيضاً.
قال الجوهري: وهما في هذا الأمر سواء، وإن شئت سواءان وهم سواء للجميع هم أسواء هم سواسية، أي أثبتاه مثل ثمانية قياسها م: (لاستوائهم في السبب) ش: أي سبب الاستحقاق م: (وهو المجاوزة) ش: أي مجاوزة الدرب بنية القتال عندنا م: (أو بشهود الواقعة) ش: عند الشافعي، والواقعة صدمة الحرب، كذا في مجمل اللغة، م: (على ما عرف) ش: أي في طريق الخلاف.
م: (وكذلك) ش: أي وكذلك مستوٍ مع المقاتل في الحرب م: (إذا لم يقاتل) ش: أحد منهم م: (لمرض) ش: أي لأجل كونه مريضاً م: (أو لغيره) ش: أي أو غير المريض بأن بعثه الإمام إلى حاجة ولم يحضر الواقعة م: (لما ذكرنا) ش: من الاستواء في السبب.
[مشاركة المدد العسكر في الغنيمة]
م: (وإذا لحقهم المدد في دار الحرب قبل أن يخرجوا الغنيمة إلى دار الإسلام شاركوهم فيها) ش: أي شارك المدد العسكر في الغنيمة، وإنما أسند الفعل إلى ضمير الجماعة لأن المدد يقع على الجماعة م: (خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد انقضاء القتال) ش: فعنده إذا لحقوا بعد مضي الحرب وجمع الغنائم لم يشركوهم، وإذا لحقوا بعد مضي الحرب، وقبل إحراز الغنائم ففيه قولان.
م: (وهو) ش: أي المذكور من الخلاف م: (بناء على ما مهدنا من الأصل) ش: أن سبب ملك الغانمين تمام القهر، وذلك بالإحراز بدار الإسلام عندنا وعنده بتمام الانهزام.
م: (وإنما ينقطع حق المشاركة عندنا بالإحراز) ش: بدار الإسلام م: (أو بقسمة الإمام في دار الحرب) ش: قيل إلحاق المدد م: (أو ببيعه الغنائم فيها) ش: أي أو بيع الإمام الغنيمة في دار الحرب قبل إلحاق المدد م: (لأن بكل واحد منها) ش: أي ملك واحد من هذه الأشياء الثلاثة م: (يتم الملك) ش: أي ملك الغزاة م: (فينقطع حق شركة المدد) ش: فلا يستحقون شيئاً.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا حق لأهل سوق العسكر في الغنيمة إلا أن يقاتلوا) ش: أي ولا رضخ، وبه صرح في " المبسوط "، فإذا قاتلوا استحقوا السهم، وبه قال مالك وأحمد(7/142)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أحد قوليه: يسهم لهم لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الغنيمة لمن شهد الوقعة، ولأنه وجد الجهاد معنى بتكثير السواد. ولنا أنه لم توجد المجاوزة على قصد القتال فانعدم السبب الظاهر، فيعتبر السبب الحقيقي وهو القتال، فيفيد الاستحقاق على حسب حاله، فارسا أو راجلا عند القتال، وما رواه موقوف على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وتأويله أن يشهدها على قصد القتال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والشافعي في قول، وقال أشهب المالكي: لا يستحق أحد منهم شيئاً وإن قاتل؛ لعدم قصده الجهاد.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أحد قوليه: يسهم لهم لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «الغنيمة لمن شهد الوقعة» ش: الصحيح أن هذا ليس بحديث مرفوع، وإنما هو موقوف على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه ابن أبي شيبة في مصنفه مطولاً، حدثنا وكيع حدثنا شعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب «أن أهل البصرة غزوا نهاوند فأمدهم أهل الكوفة وعليهم عمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ... الحديث.
وفيه: كتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن الغنيمة لمن شهد الوقعة» ورواه الطبراني في " معجمه " والبيهقي في " سننه " وقال: هو صحيح من قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (ولأنه وجد الجهاد معنى بتكثير السواد) ش: أي سواد العسكر.
م: (ولنا أنه لم توجد المجاوزة) ش: أي عن الدرب م: (على قصد القتال) ش: لأن قصدهم التجارة لا إعزاز الدين ولا إرهاب العدو م: (فانعدم السبب الظاهر) ش: وهو مجاوزة الدرب بنية القتال، كما هو مذهبنا، أو شهود الواقعة بنية القتال كما هو مذهب الشافعي، وإذا كان كذلك م: (فيعتبر السبب الحقيقي وهو القتال فيفيد الاستحقاق) ش: أي يفيد القتال استحقاق السهم م: (على حسب حاله) ش: أي حال السوق حالة كونه م: (فارساً أو راجلاً عند القتال) ش: إن قاتل فارساً فله سهم الفرسان، وإن قاتل راجلاً فله سهم الرجالة.
م: (وما رواه) ش: أي الشافعي م: (موقوف على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: وقد ذكرناه، فإذا كان موقوفاً عليه يكون كلام الصحابي وقول الصحابي ليس بحجة عنده، فكيف يحتج بما ليس بحجة عنده علينا.
م: (وتأويله) ش: أي وتأويل هذا الذي احتج به الشافعي إن صح م: (أن يشهدها على قصد القتال) ش: أي لم يشهد الوقعة على نية القتال.(7/143)
فإن لم يكن للإمام حمولة يحمل عليها الغنائم قسمها بين الغانمين قسمة إيداع ليحملوها إلى دار الإسلام، ثم يرتجعها منهم فيقسمها. قال العبد الضعيف: هكذا ذكر في المختصر ولم يشترط رضاهم، وهو رواية " السير الكبير "، والجملة في هذا أن الإمام إذا وجد في المغنم حمولة يحمل الغنائم عليها، لأن الحمولة والمحمول مالهم، وكذا إذا كان في بيت المال فضل حمولة، لأنه مال المسلمين، ولو كان للغانمين أو لبعضهم لا يجبرهم في رواية السير الصغير، لأنه ابتداء إجارة، وصار كما إذا نفقت دابة في مفازة ومع رفيقه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن لم يكن للإمام حمولة) ش: بفتح الحاء يحمل عليها من بعير أو فرس أو بغل أو حمار م: (يحمل عليها) ش: أي على حمولة م: (الغنائم) ش: جمع غنيمة م: (قسمها) ش: أي الغنائم م: (بين الغانمين قسمة إيداع) ش: أي على وجه الوديعة لا قسمة تمليك م: (ليحملوها إلى دار الإسلام ثم يرتجعها منهم) ش: أي من الغانمين م: (فيقسمها) ش: بينهم بعد ذلك.
م: (قال العبد الضعيف) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (هكذا ذكر في المختصر) ش: أي هكذا ذكر القدوري في مختصره حيث قال: وإن لم يكن للإمام حمولة ... إلى آخر ما ذكرنا من كلام المصنف م: (ولم يشترط) ش: أي القدوري م: (رضاهم) ش: أي رضاء الغانمين، بل ذكره مطلقاً م: (وهو) ش: أي القدوري، ذكره مطلقاً م: (رواية " السير الكبير ") ش: حيث قال فيه: يكرههم على ذلك، لكن إجارة.
وهي رواية القدوري في مختصره لأنه فيه دفع الضرر العام بالخاص، ولأن منفعته عائدة إليهم فله أن يفعل ذلك لحقهم، فصار كمأكول، فصار إلى تأول طعام الغير حيث يتناولها بالغنيمة.
م: (والجملة في هذا) ش: أي جملة الكلام في هذا الموضع م: (أن الإمام إذا وجد في المغنم حمولة يحمل الغنائم عليها، لأن الحمولة والمحمول مالهم) ش: من نظر حمل مالهم على مالهم م: (وكذا) ش: أي حكم م: (إذا كان في بيت المال فضل حمولة، لأنه) ش: أي لأن بيت المال م: (مال المسلمين) ش: فتحمل مالهم بمالهم. م: (ولو كان) ش: أي ما يحمل عليه م: (للغانمين أو لبعضهم لا يجبرهم في رواية " السير الصغير ") ش: لا يكرههم عليه لعدم حل الانتفاع بمال الغير إلا بطيبة من نفسه، فيكون هذا جبراً على الإجارة ابتداء وهو معنى قوله م: (لأنه ابتداء إجارة) ش: فلا يجوز قوله: ابتداء إجارة، احترازاً عن إجارة في حالة البقاء حيث تجوز الحرمة باتفاق الروايات، كمن استأجر سفينة شهراً فمضت المدة وسط البحر، فإنه ينعقد عليها إجارة أخرى بغير رضى المالك بأجر المثل، ذكره في " المحيط ".
م: (وصار كما إذا نفقت دابة) ش: أي كما إذا هلكت دابة إنسان م: (في مفازة ومع رفيقه(7/144)
فضل حمولة ويجبرهم في رواية السير الكبير، لأنه دفع الضرر العام بتحصيل ضرر خاص.
ولا يجوز بيع الغنائم قبل القسمة في دار الحرب؛ لأنه لا ملك قبلها، وفيه خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقد بينا الأصل.
ومن مات من الغانمين في دار الحرب فلا حق له في الغنيمة. ومن مات منهم بعد إخراجها إلى دار الإسلام فنصيبه لورثته، لأن الإرث يجري في الملك ولا ملك قبل الإحراز وإنما الملك بعده، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من مات منهم بعد استقرار الهزيمة يورث نصيبه لقيام الملك فيه عنده وقد بيناه. قال: ولا بأس بأن يعلف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فضل حمولة) ش: حيث لا يجبر على الحمل بأجر المثل بلا رضاه، فكذا هذا، م: (ويجبرهم) ش: أي الإمام م: (في رواية السير الكبير، لأنه دفع الضرر العام بتحصيل ضرر خاص) ش: أي لأن الإجبار على الإجارة دفع الضرر العام بتحصيل الضرر الخاص آلة السفينة في وسط البحر، والدابة في وسط المفازة عند مضي مدة الإجارة أو مات صاحب الدابة أو السفينة، فلأنه تبقى الإجارة والأجر من الغنيمة.
[بيع الغنائم قبل القسمة في دار الحرب]
م: (ولا يجوز بيع الغنائم قبل القسمة في دار الحرب؛ لأنه لا ملك قبلها) ش: أي قبل القسمة، ومع هذا إذا باع الإمام صح، لأنه مجتهد فيه، ذكره في شرح الطحاوي، فعلم بهذا أن المراد بقوله: لا يجوز بيع الغنائم، الكراهة لا نفي ترتب الأحكام، والكراهة أيضاً فيما إذا باع لا لحاجة الغزاة.
وإذا باع لدفع حاجتهم فينبغي أن لا تكره، لأن مال أهل الحرب مباح، وبالضرورة يستباح المحظور، فلأن يستباح المباح وللكراهة مع الإباحة م: (وفيه) ش: أي وفي بيع الغنائم قبل القسمة م: (خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فعنده يجوز، لأن سبب الملك عنده الاستيلاء م: (وقد بينا الأصل) ش: أن الملك للغانمين قبل الإحراز بدار الإسلام لا يثبت عندنا، خلافاً له.
[حق من مات من الغانمين في دار الحرب من الغنيمة]
م: (ومن مات من الغانمين في دار الحرب فلا حق له في الغنيمة. ومن مات منهم بعد إخراجها) ش: أي بعد إخراج الغنيمة م: (إلى دار الإسلام، فنصيبه لورثته) ش: لورثة الذي مات من الغانمين م: (لأن الإرث يجري في الملك ولا ملك قبل الإحراز) ش: بدار الإسلام م: (وإنما الملك) ش: يثبت م: (بعده) ش: أي بعد الإحراز بدار الإسلام.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من مات منهم بعد استقرار الهزيمة يورث نصيبه لقيام الملك فيه عنده) ش: أي عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقد بيناه) ش: أي في مسألة قسمة الغنيمة في دار الحرب.
م: (قال: ولا بأس بأن يعلف) ش: يقال علف الدابة يعلف علفاً من باب ضرب يضرب: إذا أطعمها العلف، وقال ابن دريد: لا يقال: أعلفها، والدابة معلوفة وعليف، والعلف بفتح اللام(7/145)
العسكر في دار الحرب ويأكلوا مما وجدوه من الطعام. قال العبد الضعيف: أرسله ولم يقيد بالحاجة. وقد شرطها في رواية ولم يشترطها في الأخرى. وجه الأولى أنه مشترك بين الغانمين فلا يباح الانتفاع به إلا للحاجة كما في الثياب والدواب. وجه الأخرى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في طعام خيبر: «كلوها واعلفوها ولا تحملوها» ولأن الحكم يدار على دليل الحاجة، وهو كونه في دار الحرب، لأن الغازي لا يستصحب قوت نفسه وعلف ظهره مدة مقامه فيها، والميرة منقطعة، فبقي على أصل الإباحة للحاجة بخلاف السلاح لأنه يستصحبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كل ما أعلفه الدابة.
والعلف بسكون اللام مصدر كما ذكرناه، وقوله م: (العسكر) ش: بالرفع فاعل يعلف، المفعول محذوف وهو الدابة، ولفظ يعلف يدل عليه، لأن العلف يكون للدابة م: (في دار الحرب ويأكلوا مما وجدوه من الطعام. قال العبد الضعيف) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أرسله) ش: أي القدوري يعني أطلقه م: (ولم يقيده بالحاجة وقد شرطها) ش: أي شرط الحاجة محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في رواية) ش: وهي رواية " السير الصغير " م: (ولم يشترطها في الأخرى) ش: أي في الرواية الأخرى وهي رواية " السير الكبير "، واختارها الكرخي في مختصره وتبعه القدوري حيث أطلقها.
م: (وجه الأولى) ش: أي وجه الرواية الأولى، وهي رواية " السير الصغير " م: (أنه) ش: أي أن ما وجدوه من العلف والطعام م: (مشترك بين الغانمين فلا يباح الانتفاع به إلا للحاجة كما في الثياب والدواب) ش: أي كما لا يباح الاستعمال في الثياب والدواب والسلاح إلا لحاجة.
م: (وجه الأخرى) ش: أي وجه الرواية الأخرى وهي رواية " السير الكبير " م: (قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: (في طعام خيبر: «كلوها واعلفوها ولا تحملوها» ش: هذا رواه البيهقي في كتاب المعرفة بإسناده عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر: " كلوا واعلفوا ولا تحملوا» .
م: (ولأن الحكم يدار على دليل الحاجة، وهو كونه في دار الحرب، لأن الغازي لا يستصحب قوت نفسه، وعلف ظهره) ش: أي دابته.
قال في " الفائق ": الظهر: الراحلة، وقال في " المغرب ": لفظ الظهر مستعار للدابة م: (مدة مقامه فيها) ش: أي في دار الحرب م: (والميزة) ش: أي الطعام م: (منقطعة فبقي على أصل الإباحة للحاجة) ش: أي للاحتياج.
م: (بخلاف السلاح) ش: حيث لا يستعمله م: (لأنه) ش: أي لأن الغازي م: (يستصحبه)(7/146)
فانعدم دليل الحاجة، وقد تمس إليه الحاجة فيعتبر حقيقتها فيستعمله ثم يرده إلى المغنم إذا استغنى عنه، والدابة مثل السلاح والطعام كالخبز واللحم وما يستعمل فيه كالسمن والزيت.
قال: ويستعملوا الحطب. وفي بعض النسخ الطيب ويدهنوا بالدهن ويوقحوا به بالدابة؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي مستصحب السلاح م: (فانعدم دليل الحاجة وقد تمس إليه) ش: أي وقد تمس م: (الحاجة) ش: إلى السلاح بأن سقط السيف من يده أو انكسر أو نهب أو نحو ذلك م: (فيعتبر حقيقتها) ش: أي حقيقة الحاجة لا دليل الحاجة م: (فيستعمله) ش: أي فيستعمل السلاح م: (ثم يرده إلى المغنم إذا استغنى عنه) ش: أي عن السلاح م: (والدابة مثل السلاح) ش: أي يعتبر فيها حقيقة الحاجة وهذا إذا اعتبر فيها الركوب.
أما إذا اعتبر فيها الأكل فهي كالطعام، حتى يجوز ذبح الإبل والبقر والغنم للأكل، ذكره في " المحيط " و " الإيضاح " م: (والطعام) ش: أي المراد من الطعام المذكور فيما مضى من قوله: ويأكلوا ما وجدوه من الطعام م: (كالخبز واللحم وما يستعمل فيه) ش: أي في الخبز م: (كالسمن والزيت) ش:.
[تناول شيء من الأدوية والطيب ودهن البنفسج ودهن الخيري قبل القسمة للغنائم]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويستعملوا الحطب) ش: لتعذر نقله من دار الإسلام م: (وفي بعض النسخ) ش: أي في بعض نسخ القدوري م: (الطيب) ش: أي ويستعملوا الطيب.
وهذا ليس بصحيح، لأن القدوري نفسه قال في شرح مختصر الكرخي بعدم جواز الانتفاع بالطيب م: (ويدهنوا بالدهن) ش: هذا أيضاً لفظ القدوري المراد به الدهن المأكول كالزيت، لأنه لما صار مأكولا كان صرفه إلى بدنه كصرفه إلى أكله، وإذا لم يكن مأكولا لا ينتفع به، بل يرده إلى الغنيمة، كذا ذكره القدوري في شرحه.
وفي " المحيط ": لو أصابوا سمسماً أو زيتاً أو دهن سمسم أو فاكهة يابسة أو رطبة أو سكراً أو بصلاً أو غير ذلك من الأشياء التي تؤكل عادة، لا بأس بالتناول منها قبل القسمة، ولا يجوز تناول شيء من الأدوية والطيب ودهن البنفسج ودهن الخيري لأن هذه الأدهان لا تؤكل ولا تستعمل للحاجة الأصلية.
بل يستعمله للزينة وكل ما لا يؤكل ولا يشرب، فلا ينبغي أن ينتفع منه بشيء قل أو كثر، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ردوا الخيط والمخيط» ، وقال فيه وما استهلكه في دار الحرب مما له قيمة أو ليس له قيمة فذلك هدر.
م: (ويوقحوا به الدابة) ش: هذا أيضاً لفظ القدوري ويوقحوا من التوقيح، وتوقيح الدابة تصليب حافزها بالشحم المذاب إذا حفي، أي رق من كثرة المشي، وفي المجمل السفرقع الحافر، أي أصلب.(7/147)
لمساس الحاجة إلى جميع ذلك، ويقاتلوا بما يجدونه من السلاح، كل ذلك بلا قسمة، وتأويله إذا احتاج إليه بأن لم يكن له سلاح وقد بيناه. ولا يجوز أن يبيعوا من ذلك شيئا ولا يتمولونه؛ لأن البيع يترتب على الملك ولا ملك على ما قدمناه، وإنما هو إباحة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الأترازي: وهذا خطأ، كذا في " المغرب " ونسخة الإمام حافظ الدين الكبير - رَحِمَهُ اللَّهُ - بخط يده بالراء من الترقيح، وهو المنقول عن المصنف، قال: هكذا قرأناه على المشايخ، قال في " الجمهرة " رقح فلان عيشه ترقيحاً: إذا أصلحه.
وقال الكاكي: قال شيخي العلامة صاحب النهاية: ولكن صححه شيخي مولانا حافظ الدين بالراء من الترقيح وهو الإصلاح، وهو أصح لأنه أعم، وقال الأترازي: رأيت في نسخة من نسخ مختصر الكرخي مكتوبة في تاريخ سنة إحدى وأربعمائة بالواو كما قال صاحب المغرب لا بالراء. انتهى.
وكذا رأيت بخط شيخي العلاء أنه بالواو أولى م: (لمساس الحاجة إلى جميع ذلك) ش: أشار به إلى جميع ما ذكره من قوله، والطعام كالخبز، إلى هنا.
م: (ويقاتلوا بما يجدونه من السلاح) ش: هذا لفظ القدوري معطوف على قوله: بأن يعلق العسكر م: (كل ذلك بلا قسمة) ش: هذا أيضاً لفظ القدوري؛ أي كل ما قلنا من علف الدابة وأكل طعام الغنيمة واستعمال الحطب والادهان بالدهن.
والقتال بسلاح الغنيمة قبل مسها م: (وتأويله) ش: أي تأويل قول القدوري: ويقاتلوا بما يجدونه من السلاح م: (إذا احتاج إليه بأن لم يكن له سلاح) ش: وإنما احتاج إلى هذا التأويل لأنه إذا احتاج الغازي إلى استعمال سلاح الغنيمة بسبب صيانة سلاحه لا يجوز م: (وقد بيناه) ش: إشارة إلى قوله بخلاف السلاح لأنه مستصحبه، إلى آخره.
م: (ولا يجوز أن يبيعوا من ذلك شيئاً) ش: هذا أيضاً لفظ القدوري، وأشار بذلك إلى ما ذكره من قوله من علف الدواب، وأخذ الطعام للأكل والحطب للاستعمال والدهن بلا ادهان والسلك للقتال م: (ولا يتمولونه) ش: هذا أيضاً قال القدوري من التمول، وهو صيانة ذلك وادخاره إلى وقت الحاجة.
وقال الأترازي: ولا يتمولونه، عطف على قوله: ولا يجوز، لا على قول: أن يبيعه، لأن ذلك عكس الغرض، أي لا يبيعونه ولا يتمولونه، فلو كان عطفاً على أن يبيعوا كان إثبات التمول لأن نفي النفي إثبات م: (لأن البيع يترتب على الملك ولا ملك) ش: أي هنا م: (على ما قدمناه) ش: من قوله: إنه لا ملك قبل الإحرزا م: (وإنما هو إباحة) ش: أي الانتفاع بالأشياء المذكورة إباحة لهم للحاجة وقد زالت الحاجة فلا تبقى الإباحة.(7/148)
وصار كالمباح له الطعام، وقوله: ولا يتمولونه، إشارة إلى أنهم لا يبيعونه بالذهب والفضة والعروض، لأنه لا ضرورة إلى ذلك، فإن باعه أحدهم رد الثمن إلى الغنيمة، لأنه بدل عين كانت للجماعة،
وأما الثياب والمتاع فيكره الانتفاع بها قبل القسمة من غير حاجة للاشتراك، إلا أنه يقسم الإمام بينهم في دار الحرب إذا احتاجوا إلى الثياب والدواب والمتاع، لأن المحرم يستباح للضرورة فالمكروه أولى، وهذا لأن حق المدد محتمل، وحاجة هؤلاء متيقن بها فكان أولى بالرعاية، ولم يذكر القسمة في السلاح، ولا فرق في الحقيقة فإنه إذا احتاج واحد يباح له الانتفاع في الفصلين، وإن احتاج الكل يقسم في الفصلين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وصار) ش: هذا م: (كالمباح له الطعام) ش: يعني كما إذا أباح طعامه بغيره لا يجوز له أن يبيع ويتمول.
م: (وقوله) ش: أي وقول القدوري م: (ولا يتمولونه، إشارة إلى أنهم لا يبيعونه بالذهب والفضة والعروض، لأنه لا ضرورة إلى ذلك) ش: أي إلى البيع بشيء من هذه الأشياء، لأنه في معنى التمول، ولا حاجة لهم إلى ذلك م: (فإن باعه أحدهم) ش: أي فإن باع شيئاً من الأشياء التي لا يجوز بيعها أحدهم، أي أحد الغانمين م: (رد الثمن إلى الغنيمة، لأنه بدل عين كانت للجماعة) ش: أي عوض عين مشتركة بين الغانمين.
[الانتفاع بالثياب والمتاع قبل القسمة]
م: (وأما الثياب والمتاع فيكره الانتفاع بها قبل القسمة من غير حاجة للاشتراك) ش: أي لأجل اشتراك الغانمين فيهما م: (إلا أنه) ش: أي غير أن الشأن م: (يقسم الإمام بينهم في دار الحرب إذا احتاجوا إلى الثياب والدواب والمتاع، لأن المحرم يستباح للضرورة فالمكروه أولى) ش: بأن يستباح.
م: (وهذا لأن حق المدد) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر بأن يقال: كيف جازت القسمة وفيها قطع حق الغير وهو المدد لأن المدد إذا لحقهم بشوكتهم؟ فأجاب بقوله، وهذا، أي جواز القسمة لأن حق المدد الذي يأتي م: (محتمل وحاجة هؤلاء) ش: أي العسكر الموجودين م: (متيقن بها) ش: أي بالحاجة م: (فكان) ش: أي المتيقن بها. م: (أولى بالرعاية) ش: لأنه لا اعتبار للاحتمال مع وجود اليقين م: (ولم يذكر) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب السير م: (القسمة في السلاح) ش: إذا احتاجوا إليه م: (ولا فرق في الحقيقة) ش: بين السلاح وبين الثياب والمتاع والدواب في جواز القسمة عند الحاجة.
م: (فإنه) ش: أي فإن الثياب م: (إذا احتاج واحد يباح له الانتفاع في الفصلين) ش: أي في فصل السلاح وفصل الثياب والمتاع والدواب م: (وإن احتاج الكل) ش: أي كل الغزاة م: (يقسم في الفصلين) ش: المذكورين.(7/149)
بخلاف ما إذا احتاجوا إلى السبي حيث لا يقسم، لأن الحاجة إليه في فضول الحوائج. قال: ومن أسلم منهم معناه في دار الحرب أحرز بإسلامه نفسه، لأن الإسلام ينافي ابتداء الاسترقاق وأولاده الصغار، لأنهم مسلمون بإسلامه تبعا، وكل مال هو في يده؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أسلم على مال فهو له»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بخلاف ما إذا احتاجوا إلى السبي حيث لا يقسم، لأن الحاجة إليه) ش: أي إلى السبي م: (في فضول الحوائج) ش: لا من أصولها، وفي " المبسوط ": لا يقسم السبي وإن احتيج إليه قبل الإحراز، لأنه لا يقع حاجة الأحياء ولا يبيعهم، لأنه لا يملكهم قبل الإحراز، فإن أطاعوا المشي يمشيهم، لأن في الإركاب إعزازا وهم أصل الصغار، أي الذل.
فإن لم يطيقوه وليس معه فضل حمولة ولم تطب نفسه من معه فضل حمولة قبل الرجال وترك النساء والصبيان، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل رجال بني قريظة ولم يقتل النساء والصبيان» وهل يكره من عنده فضل حمولة على الحمل؟ فيه روايتان.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن أسلم منهم) ش: أي من الكفار، هذا لفظ القدوري م: (معناه في دار الحرب) ش: هذا لفظ المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي معنى قوله ومن أسلم منهم، أي أسلم في دار الحرب، إنما احتاج إلى هذا التأويل ليقع الاحتراز به عن مستأمن أسلم في دار الإسلام ثم ظهرنا على دار الحرب، كان أولاده وأمواله كلها فيئاً م: (أحرز بإسلامه نفسه، لأن الإسلام ينافي ابتداء الاسترقاق) ش: احترز به عن الاسترقاق بقاء، لأن الإسلام لا ينافيه.
وهذا لأن الرق جزاء الكفر الأصلي فإنهم لما استنكفوا أن يكونوا عبيداً لله - عز وجل - جازاهم الله - عز وجل - بأن يكونوا عبيد عبيده، بخلاف الرق في حالة آليتها، فإنه صار من الأمور الحكمية م: (وأولاده الصغار) ش: بالنصب؛ عطف على قوله: نفسه، أي وأحرز أيضاً أولاده الصغار، احترز به عن أولاده الكبار على ما يجيء.
م: (لأنهم مسلمون بإسلامه تبعاً) ش: أي بإسلام الأب بطريق التبعية له فصاروا أحراراً م: (وكل مال) ش: بالنصب أي أحرز كل مال م: (هو في يده لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «من أسلم على مال فهو له» ش: هذا الحديث رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده من حديث ياسين الزيات عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم على شيء فهو له» ورواه ابن عدي في " الكامل "، والبيهقي وأعله بياسين الزيات، وأسند تضعيفه عن البخاري والنسائي وابن معين، ورواه البيهقي وقال: إنما يروى عن ابن أبي مليكة،(7/150)
ولأنه سبقت يده الحقيقية إليه يد الظاهرين عليه، أو وديعة في يد مسلم أو ذمي، لأنه في يد صحيحة محترمة ويده كيده، فإن ظهرنا على دار الحرب فعقاره فيء، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو له لأنه في يده فصار كالمنقول.
ولنا أن العقار في يد أهل الدار وسلطانها إذ هو من جملة دار الحرب، فلم يكن في يده حقيقة. وقيل: هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - الآخر، وفي قول عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول: هو كغيره من الأموال بناء على أن اليد حقيقة لا يثبت على العقار عندهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن عروة مرسلاً.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الذي أسلم م: (سبقت يده الحقيقية إليه يد الظاهرين) ش: أي الغالبين م: (عليه) ش: أي على المال م: (أو وديعة) ش: بالرفع عطفاً على قوله: هو في يده م: (في يد مسلم أو ذمي لأنه) ش: أي لأن الوديعة، ذكر الضمير باعتبار المودع م: (في يد صحيحة) ش: احترز به عن يد الغاصب.
م: (محترمة) ش: احترز به عن الحربي م: (ويده) ش: أي يد كل واحد من المسلم والذمي م: (كيده) ش: لأنهما عاملان له ونائبان في الحفظ، فإن كانت وديعة عند حربي تصير فيئاً على رواية أبي حفص، وعلى رواية أبي سليمان لا يكون فيئاً.
م: (فإن ظهرنا على دار الحرب) ش: أي فإن غلبنا على دار الحرب التي أسلم المذكور منها م: (فعقاره فيء) ش: هذا ذكروه في شرح " الجامع الصغير "، ولم يذكروا فيه خلافاً بين أصحابنا، وليس في الأصل أيضاً ذكر الخلاف إلا أن الفقيه أبا الليث قال في شرح " الجامع الصغير ": قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأمالي ": لا يصير فيئاً، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإليه أشار بقوله م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو له) ش: أي العقار الذي أسلم، وبه قال مالك وأحمد م: (لأنه في يده) ش: أي لأن العقار في يده م: (فصار كالمنقول) ش: حيث يكون له بلا خلاف.
م: (ولنا أن العقار في يد أهل الدار) ش: أي دار الحرب م: (وسلطانها) ش: أي وفي يد سلطانها م: (إذ هو) ش: أي العقار م: (من جملة دار الحرب فلم يكن في يده حقيقة) ش: بخلاف المنقول.
م: (وقيل هذا) ش: أي قول القدوري فعقاره فيء م: (قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - الآخر) ش: أي القول الآخر، وإنما ذكره بقوله قيل هذا لأن الظاهر عن أصحابنا لا اختلاف فيه م: (وفي قول عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول، هو) ش: أي العقار م: (كغيره من الأموال بناء على أن اليد حقيقة لا يثبت على العقار عندهما) ش:(7/151)
وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يثبت وزوجته فيء، لأنها كافرة حربية لا تتبعه في الإسلام، وكذا حملها فيء خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو يقول: إنه مسلم تبعا كالمنفصل. ولنا أنه جزؤها فيرق برقها، والمسلم محل للتمليك تبعا لغيره، بخلاف المنفصل لأنه حر لانعدام الجزئية عند ذلك، وأولاده الكبار فيء؛ لأنهم كفار حربيون ولا تبعية.
ومن قاتل من عبيده فيء لأنه تمرد على مولاه، خرج من يده لأهل دارهم وما كان من ماله في يد حربي فهو فيء غصبا كان أو وديعة، لأن يده ليست بمحترمة؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يثبت) ش: وفي شرح الطحاوي: ما كان غير منقول في مثل الدار والعقار والزروع إذا كان غير محصور عندهما، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - المنقول وغير المنقول سواء م: (وزوجته فيء لأنها كافرة حربية لا تتبعه) ش: أي لا تتبع زوجها م: (في الإسلام) ش: فتكون فيئاً م: (وكذا حملها) ش: أي حمل المرأة م: (فيء خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يقول) ش: أي الشافعي م: (إنه) ش: أي إن الحمل م: (مسلم تبعاً) ش: أي لأبيه م: (كالمنفصل) ش: أي كالولد المنفصل.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن الحمل م: (جزؤها) ش: أي جزء أمه م: (فيرق برقها) ش: أي برق أمه م: (والمسلم محل للتمليك) ش: تقديره مسلماً لأنه مسلم تبعاً، لكن المسلم محل للتمليك، هذا جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه مسلم، ليكون ملكاً (تبعاً لغيره) كما إذا تزوج المسلم أمة الغير فيكون الولد رقيقاً بتبعية الأم وإن كان مسلماً بإسلام أبيه.
م: (بخلاف المنفصل) ش: جواب عن قوله: كالمنفصل تقديره م: (لأنه) ش: أي لأن المنفصل م: (حر لانعدام الجزئية عند ذلك) ش: أي عند الانفصال م: (وأولاده الكبار فيء لأنهم كفار حربيون ولا تبعية) ش: لأبيهم.
[من قاتل من عبيد الذمي الذي أسلم هل يعد فيئا]
م: (ومن قاتل من عبيده) ش: أي من عبيد الذمي الذي أسلم م: (فيء لأنه تمرد على مولاه خرج من يده) ش: وصار تبعاً م: (لأهل الدار) ش: أي لأهل دار الحرب م: (وما كان من ماله في يد حربي فهو فيء غصباً كان أو وديعة لأن يده) .
ش: أي يد الحربي م: (ليست بمحترمة) ش: اعترض عليه بأن قام مقام غيره، فإنما يعمل بوصف الأصل كالتراب مع الماء في التيمم، ولما قام الحربي مقام المودع المسلم كان الواجب أن تكون يده كيد المسلم محترمة نظراً إلى نفسه لا نظراً إلى الحربي.
وأجيب: بأن قيام يد المودع على الوديعة حقيقي، وقيام يد المالك عليها حكمي، واعتبار الحكمي إن أوجب عصمتها، فباعتبار الحكمي يمنعها والعصمة لم تكن ثابتة، لأن المال في أصله(7/152)
وما كان غصبا في يد مسلم أو ذمي فهو فيء عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يكون فيئا، قال العبد الضعيف: كذا ذكر الخلاف في " السير الكبير ". وذكروا في شرح " الجامع الصغير " قول أبي يوسف مع قول محمد - رحمهما الله -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على صفة الإباحة.
وعصمته تابعة لعصمة المالك، وإنما تثبت التبعية أن لو ثبتت يد المالك المعصوم له حقيقة وحكماً أو حكماً مع الاحترام، لأنه بدون الاحترام يتعارضها جهة الإباحة الأصلية، فلا يثبت بالشك.
[ما كان غصباً في يد مسلم أو ذمي هل يعد فيئا]
م: (وما كان غصباً في يد مسلم أو ذمي فهو فيء عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يكون فيئاً) ش: ثم م: (قال العبد الضعيف) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (كذا ذكر الخلاف في السير الكبير) ش: يعني ذكر الخلاف بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ناحية، وبين أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - في ناحية.
م: (وذكروا في شرح " الجامع الصغير " قول أبي يوسف مع قول محمد - رحمهما الله -) ش: حيث جعل الخلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وبين محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجعل أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ناحية، وجعل محمداً - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ناحية.
وقال الأترازي: وما كان غصباً في يد مسلم أو ذمي فهو فيء عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يكون فيئاً، وفي بعض نسخ " الهداية ": وقالا: لا يكون فيئاً، وليس ذلك بصحيح. انتهى.
فهو أراد أن الصحيح ما ذكره أولاً مصدراً له أو هو كون الخلاف بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبين محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولكن قول المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد هذا لهما، وبعده له، يدل على أن الصحيح قول: فهو فيء عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يكون فيئاً.
فإن قلت: يحتمل أن يكون قوله: لهما، أي لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقرينة ذكره بقوله، وذكر في شرح قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: قال الأكمل في قوله: وله أنه مال، أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فدل على أن المراد من قوله: لهما، أي لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فدل هذا كله أن الذي مال إليه المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو الخلاف الذي بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبين أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ودل أيضاً أن الذي قاله الأترازي وفي بعض نسخ " الهداية "،(7/153)
لهما أن المال تابع للنفس وقد صارت معصومة بإسلامه فيتبعها ماله فيها. وله أنه مال مباح فيملك بالاستيلاء والنفس لم تصر معصومة بالإسلام، ألا ترى أنها ليست بمتقومة، إلا أنه محرم التعرض في الأصل لكونه مكلفا وإباحة التعرض يعارض شره، وقد اندفع بالإسلام، بخلاف المال، لأنه خلق عرضة للامتهان، فكان محللا للتملك، وليست في يده حكما فلم تثبت العصمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقالا: لا يكون فما تصحيح غير صحيح فتأمل وتدبر.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن المال تابع للنفس وقد صارت) ش: أي نفسه م: (معصومة بإسلامه فيتبعها ماله فيها) ش: أي يتبع ماله نفسه في العصمة.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه مال مباح فيملك بالاستيلاء) ش: يعني الذي غصبه المسلم أو الذمي من الحربي الذي أسلم مال مباح لأنه ليس بمعصوم، والمباح تمليك بالاستيلاء، فكان فيئاً للغزاة م: (والنفس لم تصر معصومة بالإسلام) ش: جواب عن قولهما: إن المال تابع النفس وقد صارت معصومة بالإسلام فيتبعه مالها فيها، أي في العصمة.
وتقرير الجواب أنا لا نسلم أن النفس صارت معصومة بالإسلام، وأوضح ذلك بقوله م: (ألا ترى أنها) ش: أي أن النفس م: (ليست بمتقومة) ش: لأن العصمة المتقومة لا تثبت إلا بدار الإسلام، ولهذا إذا قتله مسلم عمداً أو خطأ لا يجب القصاص ولا الدية عندنا، خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ولكنها معصومة بالعصمة إليه أشار إليه بقوله: م: (إلا أنه محرم التعرض في الأصل) ش: هذا في الحقيقة جواب عما يقال لو لم تكن معصومة لما كانت تحرم التعرض كالحربي، وليس كذلك، وتقدير الجواب أنه يحرم التعرض في الأصل يعني في نفس الأمر م: (لكونه مكلفاً) ش: أي لكون الآدمي مخلوقاً لتحمل أعباء التكليف، ولا يتمكن من إقامتها إلا بالبقاء، ولا بقاء إلا بالعصمة وحرمة التعرض.
م: (وإباحة التعرض) ش: إنما هي م: (يعارض شره، وقد اندفع بالإسلام) ش: فعادت إلى أصلها لا باعتبار أنها معصومة.
م: (بخلاف المال، لأنه خلق) ش: في الأصل م: (عرضة للامتهان) ش: بأنواع الانتفاعات م: (فكان محلاً للتمليك) ش: فكان المقتضي موجوداً، والمانع منتف، لأن المانع كونه في يده حقيقة وحكماً م: (وليست في يده حكماً) ش: لأن يد الغاصب ليست بنائية عن يد المالك م: (فلم تثبت العصمة) ش: فيجعل كأنه ليس في يد أحد فكان فيئاً.(7/154)
وإذا خرج المسلمون من دار الحرب لم يجز أن يعلفوا من الغنيمة ولا يأكلوا منها، لأن الضرورة قد ارتفعت والإباحة باعتبارها، ولأن الحق قد تأكد حتى يورث نصيبه، ولا كذلك قبل الإخراج إلى دار الإسلام،
ومن فضل معه علف أو طعام رده إلى الغنيمة، معناه إذا لم تقسم. وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل قولنا، وعنه أنه لا يرد اعتبارا بالمتلصص. ولنا أن الاختصاص ضرورة الحاجة وقد زالت، بخلاف المتلصص، لأنه كان أحق به قبل الإحراز، فكذا بعده وبعد القسمة تصدقوا به إن كانوا أغنياء وانتفعوا به إن كانوا محاويج،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الأكل وعلف الدواب من الغنيمة إذا خرج المسلمون من دار الحرب]
م: (وإذا خرج المسلمون من دار الحرب لم يجز أن يعلفوا) ش: أي دوابهم م: (من الغنيمة ولا يأكلوا منها، لأن الضرورة قد ارتفعت، والإباحة باعتبارها) ش: أي باعتبار الضرورة م: (ولأن الحق) ش: أي حق المسلمين م: (قد تأكد) ش: وتقرر م: (حتى يورث نصيبه) ش: يعني إذا مات في هذه الحالة م: (ولا كذلك قبل الإخراج إلى دار الإسلام) ش: للضرورة.
[الرد إلى الغنيمة]
م: (ومن فضل معه علف أو طعام رده إلى الغنيمة) ش: هذا لفظ القدوري في مختصره، وقال الخضر: م: (معناه) ش: أي معنى قول القدوري: رده إلى الغنيمة م: (إذا لم تقسم) ش: أي الغنيمة لأنها إذا قسمت لا ينافي الرد.
م: (وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل قولنا، وعنه أنه لا يرد اعتباراً بالمتلصص) ش: كما إذا دخل الواحد أو الاثنان دار الحرب بلا إذن الإمام بنية الغارة قالوا شيئاً فلا يكون ذلك مشتركاً بين الغانميين لأنه مباح سبقت يده إليه ولا يخمس لأنه ليس بغنيمة.
م: (ولنا أن الاختصاص) ش: أي اختصاص العلف والطعام، وخبر أن محذوف تقديره أن الاختصاص حاصل أو كائن وقوله م: (ضرورة الحاجة وقد زالت) ش: أي الضرورة، هكذا أفاد شيخي العلاء - رَحِمَهُ اللَّهُ - بخطه م: (بخلاف المتلصص) ش: يعني قياسه المتلصص غير صحيح لوجود الفارق م: (لأنه) ش: أي لأن المتلصص م: (كان أحق به) ش: أي بالذي أخذه م: (قبل الإحراز) ش: بدار الإسلام م: (فكذا بعده) ش: أي بعد الإحراز من سائر الغانمين.
م: (وبعد القسمة) ش: ابتداء مسالة مستقلة بذاتها، أي بعد قسمة الإمام يعني إذا جاءوا بما فضل من علف أو طعام أخذوا من القسمة بعد قسمة الإمام الغنيمة في دار الإسلام م: (تصدقوا به) ش: أي بما فضل من ذلك بعينه إن كان قائماً م: (إن كانوا أغنياء وانتفعوا به إن كانوا محاويج) ش: أي إن كانوا محتاجين.
كذا في " المغرب "، يقال: حاج يحوج حوجاً، أي احتاج، والحائجة والحوجاء والحاجة حاجة بمعنى واحد وعلى هذه اللغة قيل حوائج في جمع حائجة.(7/155)
لأنه صار في حكم اللقطة لتعذر الرد على الغانمين، وإن كانوا انتفعوا به بعد الإحراز ترد قيمته إلى المغنم إن كان لم يقسم، وإن قسمت الغنيمة فالغني يتصدق بقيمته والفقير لا شيء عليه لقيام القيمة مقام الأصل فأخذ حكمه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كذا نقل ابن دريد عن الأصمعي: والحاج جمع حاجة ولم يذكر ابن دريد المحاويج، وكأنها جمع محوج اسم فاعل بإشباع الياء، لأن أحوج يجيء لازماً ومتعدياً، يقال: أحوج الرجل: إذا احتاج، وأحوجه إلى غيره.
م: (لأنه) ش: أي لأن الذي فضل بعد القسمة م: (صار في حكم اللقطة لتعذر الرد على الغانمين) ش: لأنهم تفرقوا فرقين م: (وإن كانوا انتفعوا به بعد الإحراز ترد قيمته إلى المغنم إن كان لم يقسم، وإن قسمت الغنيمة فالغني يتصدق بقيمته، والفقير لا شيء عليه لقيام القيمة مقام الأصل) ش: أي الفقير يحل له التناول من قيمته، لأن القيمة تقوم مقام الأصل م: (فأخذ حكمه) ش: أي أخذت القيمة حكم الأصل، وإنما ذكر ضمير القيمة على تأويل ما تقوم، أو على تأويل المذكور، هكذا قال الأكمل.
قلت: هذا على تقدير أن يكون فأخذ فعلاً ماضياً. وقال الأترازي فأخذ حكمه ولأخذ حكم الأصل فهو جعله مصدراً مجروراً عطف على ما قبله، وضبط شيخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في نسخته على ما قاله الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(7/156)
فصل في كيفية القسمة
قال: ويقسم الإمام الغنيمة فيخرج خمسها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] (الأنفال: الآية 41) ، استثنى الخمس،
ويقسم أربعة الأخماس بين الغانمين، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قسمها بين الغانمين، ثم للفارس سهمان وللراجل سهم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في كيفية القسمة]
م: (فصل في كيفية القسمة) ش: أي هذا فصل في بيان كيفية قسمة الغنائم، والقسمة عبارة عن جمع النصيب الشائع في مكان معين. وقال بعض أهل الحساب: القسمة تفريق أحد العددين بقدر ما في العدد الآخر من الآحاد، يعني تفريق المال المقسوم على عدة آحاد المقسوم عليه، وهذا لا يتأتى إلا في الصحاح، والصحيح أن يقال: معرفة نصيب الواحد.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ويقسم الإمام الغنيمة فيخرج خمسها لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] (الأنفال: الآية 41) استثنى الخمس) ش: أي أخرجه، استعارة الاستثناء للإخراج أجود، معناه فيه فكان استثنى معنى لا لفظاً. وقال الكاكي ويحتمل أن يكون من استثنيت الشيء: إذا زويته لنفسي، من ثنى العود: إذا اختار عطفه، أي استثنى الله الخمس لنفسه بقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] وقال تاج الشريعة: قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] استثني من حيث المعنى لإخراج الخمس مما غنموا، أو لأن حكم المستثنى بخلاف حكم المستثنى منه، وهنا كذلك، لأن حكم الخمس أن يكون لغير الغانمين وحكم أربعة الأخماس أن يكون للغانمين فيكون مخالفاً.
[قسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين]
م: (ويقسم أربعة الأخماس بين الغانمين، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (قسمها بين الغانمين) ش: أي قسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين، وأخرجه الطبراني في " معجمه " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا بعث سرية فغنموا، خمس الغنيمة فضرب ذلك الخمس في خمسة، ثم قرأ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] . الآية (الأنفال: الآية 41) .
فجعل سهم الله وسهم الرسول واحداً، ولذي القربى سهم، ثم جعل هذين السهمين قوة في الخيل والسلاح، وجعل سهم اليتامى وسهم المساكين وسهم ابن السبيل لا يعطيه غيرهم، ثم جعل الأربعة أسهم الباقية: للفرس سهمان، وللراكبة سهم، وللراجل سهم.»
م: (ثم للفارس سهمان وللراجل سهم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال زفر م: (وقالا)(7/157)
للفارس ثلاثة أسهم، وقو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما» ولأن الاستحقاق بالغناء. وغناؤه على ثلاثة أمثال الراجل، لأنه للكر والفر والثبات، والراجل للثبات لا غير، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى الفارس سهمين، والراجل سهما؛»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (للفارس ثلاثة أسهم، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ومالك وأحمد والليث وأبو ثور وأكثر أهل العلم م: (لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهماً» ش: هذا الحديث رواه الجماعة إلا النسائي عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وفي لفظ عن أصحاب السنن عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضاً «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، سهماً له وسهمين لفرسه» .
م: (ولأن الاستحقاق بالغناء) ش: أي بالكفاية، وهو بالفتح والمد، وهو بالغين المعجمة، يقال: أغنيت عنك، يعني فلاناً، ومعناه إذا أجزأت عنه وينيب منابه، وكفيت كفايته م: (وغناؤه) ش: أي غناء الفارس، أي كفايته م: (على ثلاثة أمثال الراجل لأنه) ش: أي لأن الفارس م: (للكر) ش: الكر بالتشديد الرجوع م: (والفر) ش: بفتح الفاء وتشديد الراء الفرار، قال امرؤ القيس في قصيدته الشهيرة:
مكر مفر مقبل مدبر معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
م: (والثبات) ش: أي للثبات في الحرب م: (والراجل للثبات لا غير)
ش: فإن قلت: الفرار غير محمود، وكيف يوصف به الفارس.
قلت: الفرار في موضعه ممدوح كيلا يرتكب النهي المذكور في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] (البقرة: الآية 135) .
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى الفارس سهمين والراجل سهماً» ش: هذا غريب من حديث ابن عباس، وفي الباب أحاديث، منها: ما رواه أبو داود في سننه عن مجمع بن يعقوب بن مجمع بن يزيد الأنصاري. قال: سمعت أبا يعقوب بن مجمع يذكر عن عمه عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري «عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مجمع بن حارثة الأنصاري، وكان أحد القراء الذي قرؤوا القرآن قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.... إلى أن قال: فقسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها رسول(7/158)
فتعارض فعلاه فيرجع إلى قوله، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «للفارس سهمان وللراجل سهم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ثمانية عشر سهماً فكان الجيش ألفاً وخمسمائة، فيهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفرس سهمين وأعطى صاحبه سهماً» .
قال أبو داود: وهذا وهم إن كانوا مائتي فارس فأعطى الفرس سهمين، وأعطى صاحبه سهماً قال: وحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أعطى الفارس ثلاثة أسهم» أصح، والعمل عليه.
وقال ابن القطان في كتابه: وعلة هذا الحديث الجهل بحال يعقوب بن مجمع، ولا يعرف. ومنها: ما رواه الطبراني بإسناده إلى «مقداد بن عمرو أنه كان يوم بدر على فرس له يقال له سبخة فأسهم له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفرسه سهم واحد وله سهم» وفي إسناده محمد بن عمر الواقدي في تفسيره في سورة الأنفال عن عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «أصاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبايا بني المصطلق فأخرج الخمس منها ثم قسم بين المسلمين فأعطى الفارس سهمين والراجل سهماً» .
م: (فتعارض فعلاه فيرجع إلى قوله) ش: أي فتعارض فعلا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهما في حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الذي احتج به المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - المذكور آنفاً، وحديث ابن عباس المذكور لأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وليت شعري ما هذه المعارضة، حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ليس له أصل كما ذكرنا عن هذا.
قال الأكمل: وطريقة الاستدلال لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مخالفة لقواعد الأصول، فإن الأصل أن الدليلين إذا تعارضا تعذر الترجيح والتوفيق يصار إلى ما بعده لا إلى ما قبله، وهو قال: فتعارض فعلاه فيرجع إلى قوله، والمسلك المعهود في مثله أن يستدل بقوله لأن القول أقوى.
م: (وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «للفارس سهمان وللراجل سهم» ش: هذا لأجل بيان قوله فيرجع إلى قوله وهذا الحديث غريب جداً، وقد أخطأ من عزاه إلى ابن أبي شيبة ولفظ هذا(7/159)
كيف وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم للفارس سهمين وللراجل سهما» وإذا تعارضت روايتاه ترجحت رواية غيره، ولأن الكر والفر من جنس واحد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحديث في حديث عمر الذي ذكره بعد هذا م: (كيف وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم للفارس سهمين» ش: أي وكيف يحتج لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهماً» .
والحال أنه قد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضاً «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قسم للفارس سهمين» رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا أبو أسامة وابن نمير قال: حدثنا عبيد الله عن نافع عن أبي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل للفارس سهمين» م: «وللراجل سهماً» ش: ومن طريق ابن أبي شيبة رواه الدارقطني في " سننه " وقال أبو بكر النيسابوري: هذا عندي وهم عند ابن أبي شيبة.
لأن أحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن بشر وغيرهما رووه عن ابن نمير بخلاف هذا، وكذلك رواه ابن كرامة وغيره عن أبي أسامة خلاف هذا المعنى، يعني أنه أسهم للفارس ثلاثة أسهم.
م: (وإذا تعارضت روايتاه) ش: أي روايتا ابن عمر م: (ترجحت رواية غيره) ش: قال الأترازي: إن سلمت رواية ابن عباس عن المعارض فيعمل بها. وقال صاحب " النهاية ": قوله: وإذا تعارضت روايتاه، أي روايتا ابن عمر، وهي روايتهما عنه على وفق مذهبهما، ورواية أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضاً على وفق مذهبه.
قوله: ترجحت، أي رواية غيره وهو ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثم قال: ومعنى قوله: ترجح، أي سلم رواية ابن عباس عن المعارض فيعمل بها، لأن للمرجع لا بد من المرجح، ورواية ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بعد التحافظ بالتعارض لا تصلح مرجحة. انتهى.
قلت: لا معارضة أصلاً في روايتي ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لأن الصحيح هو للرواية التي فيها ثلاثة أسهم للفارس، كيف تعارضها التي فيها سهمان وهي غير ثابتة على الصحة فيما ذكرنا، وكيف يقول صاحب النهاية ومن تبعه من الشراح: إن رواية ابن عباس سلمت عن المعارضة فيعمل بها، والحال أنه لم يصح كما ذكرنا، وهذا كله من آفة التعليل، وعدم رجوعهم إلى مدارك الأحاديث.
م: (ولأن الكر والفر من جنس واحد) ش: لأن الفر إنما يحل للكر لا لذاته، لأنه غير(7/160)
فيكون غناؤه مثلي غناء الراجل فيفضل عليه بسهم، ولأنه تعذر اعتبار مقدار الزيادة لتعذر معرفته فيدار الحكم على سبب ظاهر، وللفارس سببان: النفس والفرس، وللراجل سبب واحد فكان استحقاقه على ضعفه. ولا يسهم إلا لفرس واحد.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يسهم لفرسين لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم لفرسين» ولأن الواحد قد يعيا فيحتاج إلى الآخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مستحسن في نفسه، وإنما المستحسن منه ما كان لأجل الكر، فكانا نوعاً واحداً، ولا يكون الفر نوعاً آخر م: (فيكون غناؤه) ش: أي غناء الفارس م: (مثلي غناء الراجل فيفضل عليه بسهم) ش: لأن سبب الغناء في الفارس نفسه وفرسه فيعطى سهمين، وفي الراجل نفسه فيعطى سهماً، وفيه تأمل، لأن الرأي لا مدخل له في المقدرات الشرعية.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الشأن م: (تعذر اعتبار مقدار الزيادة) ش: لأن مقدار الزيادة أمر خفي، لأن الملك إنما يظهر عند المسابقة والمقاتلة عند التقاء الصفين، وكل منهم مشكوك بشأنه في ذلك الوقت م: (لتعذر معرفته) ش: أي لتعذر معرفة مقدار الزيادة م: (فيدار الحكم على سبب ظاهر) ش: وهو مجرد كونه فارساً وكونه راجلاً، إليه أشار في الأسرار م: (وللفارس سببان النفس والفرس، وللراجل سبب واحد فكان استحقاقه) ش: أي استحقاق الفارس م: (على ضعفه) ش: أي على ضعف استحقاق الراجل، فيعطى الفارس سهمين والراجل سهماً م: (ولا يسهم إلا لفرس واحد) ش: هذا لفظ القدوري ولم يذكر خلاف أحد.
وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يسهم لفرسين) ش: وقال في شرح الأقطع: هذا الذي ذكره القدوري قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - والحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يسهم لفرسين، وبه قال أحمد، وبقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي شرح الطحاوي: ولا يسهم إلا لفرس واحد في ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: يسهم لفرسين م: (لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم لفرسين» ش: هذا الحديث رواه الدارقطني في " سننه ": حدثنا إبراهيم بن حماد حدثنا علي بن حرب حدثني أبو حرب بن محمد بن الحسن عن محمد بن صالح عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمر عن أبيه عن جده «أبي عمر بشر بن عمرو بن محصن قال: أسهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفرسي أربعة أسهم ولي سهماً، فأخذت خمسة أسهم» .
م: (ولأن الواحد قد يعيا) ش: أي ولأن الفرس الواحد قد يتعب م: (فيحتاج) ش: أي صاحبه م: (إلى الآخر) ش: أي إلى الفرس الآخر.(7/161)
ولهما «أن البراء بن أوس قاد فرسين ولم يسهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا لفرس واحد» ولأن القتال لا يتحقق بفرسين دفعة واحدة، فلا يكون السبب الظاهر مفضيا إلى القتال عليهما فيسهم لواحد، ولهذا لا يسهم لثلاثة أفراس، وما رواه محمول على التنفيل كما أعطى سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سهمين وهو راجل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو وجه الظاهر م: (أن «البراء بن أوس قاد فرسين ولم يسهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا لفرس واحد» ش: هذا الحديث غريب، بل جاء عكسه كما ذكره ابن منذر في كتاب الصحابة في ترجمته فقال: روى علي بن قرين عن محمد بن عمر المدين عن يعقوب بن محمد بن صفصعة عن عبد الرحمن بن أبي صفصعة «عن البراء بن أوس أنه قاد مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرسين وضرب - عَلَيْهِ السَّلَامُ - له خمسة أسهم» .
فإذا كان كذلك لا يصح الاستدلال لهما بالحديث الذي ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما لا يخفى ولهذا استدل الأترازي لهما بما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «للفارس سهمان وللراجل سهم» . وقال الأكمل: وحاصل الدليلين وقوع التعارض لغواً، يعني بين روايتي فعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والرجوع إلى ما بعدهما وهو القياس بقوله:
م: (ولأن القتال لا يتحقق بفرسين دفعة واحدة) ش: ولا يتحقق إلا على فرس واحد م: (فلا يكون السبب الظاهر) ش: وهو مجاورة الدرب م: (مفضياً إلى القتال عليهما) ش: أي على الفرسين، فإن كان كذلك م: (فيسهم لواحد) ش: أي لفرس واحد م: (ولهذا) ش: أي ولأجل عدم تحقق القتال على فرسين، وعدم كون السبب الظاهر مفضياً إلى القتال على الفرسين م: (لا يسهم لثلاثة أفراس) ش: بالإجماع م: (وما رواه) ش: أي وما رواه أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (محمول على التنفيل) ش: هذا استظهار في تقوية الدليل، لأن ما رواه لما سقط بالمعارضة لا يحتاج إلى جواب عنه أو تأويل له، انتهى.
قلت: قد ذكرنا أن ما تميز هناك معارضة، فمن أين يأتي الاستظهار في قوة الدليل من تأمله يدري.
م: (كما «أعطى سلمة بن الأكوع - رَحِمَهُ اللَّهُ - سهمين وهو راجل» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم مطولاً في بيعة الحديبية عن إياس بن سلمة عن أبيه سلمة بن الأكوع، وفيه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالنا سلمة "، ثم أعطى له سهمين سهماً للفارس وسهماً للراجل، فجمعهما لي جميعاً» ولكن على قوله محمول على التنفيل ما رواه ابن حبان في " صحيحه ".
وقال: كان سلمة بن الأكوع في تلك الغزاة راجلاً فأعطاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهماً للراجل لما(7/162)
والبراذين والعتاق سواء، لأن الإرهاب مضاف إلى جنس الخيل في الكتاب، قال الله تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] (الأنفال: الآية 60) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يستحقه، وإنما أعطاه سهم الفارس أيضاً من خمس خمسه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دون أن يكون أعطاه من سهام المسلمين، وقال أبو عبيد: قال عبد الرحمن بن مهدي: أعطاه من سهمه الذي كان مباحاً به.
قوله: رجالتنا، بتشديد الجيم، جمع راجل، قال الجوهري: الراجل خلاف الفارس، والجمع رجل مثل صاحب وصحب، ورجالة ورجال والرجلان أيضاً، الراجل جمع رجلى ورجال مثل عجلى وعجلان. وقال الفتني: كان سلمة من الرماة المشهورين وروي أنه كان يعدو عدو الفرس.
م: (والبراذين والعتاق سواء) ش: هذا لفظ القدوري في مختصره وتمامه فيه: ولا يسهم لراجلة ولا بغل، ولم يذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - والبراذين جمع برذون وهو الكوذن وجمعه كواذن، وهي خيل العجم.
قال في " المجمل ": برذون الرجل برذنته: إذا أثقل، واشتقاق البرذون منه. والعتاق بكسر العين وتخفيف التاء المثناة من فوق جمع عتق، أي كريم، والعتاق كرام الخيل العربي. وقال الإمام الأسبيجابي في شرح الطحاوي: ويستوي الفرس العربي والنجيب، والبرذون والهجين وغيرهما مما يقع عليه اسم الخيل. وأما ما كان له جمل أو بغل أو حمار فهو والراجل سواء في شرح الأقطع، ومن الناس من قال: لا يسهم للبراذين.
قلت: قال الأوزاعي: لا يسهم للبرذين ويسهم للمقرف سهم وللهجين سهم واحد، وقال أحمد: يسهم لما عدا العربي سهم واحد. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان، في رواية مثل قول العامة، وفي رواية مثل قول أحمد. وروى مكحول أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى للعربي سهمين وللهجين سهماً» ولا يسهم لراجلة وللبغل بالاتفاق، لأن الإرهاب لا يحصل بهم.
ومن غزى على بعير لا يسهم له عند العلماء، عن أحمد يسهم له سهم فرس. وعنه إن عجز عن فرس وغزى عليه يسهم له سهم واحد، والفرس ما يكون أبوه عربياً وأمه من الكواذن.
والهجين ما يكون أبوه من الكواذن وأمه من العربي. وفي الجمهرة: الهجين من الناس الذي أمه أمة.
م: (لأن الإرهاب) ش: المذكور في الآية التي نذكرها م: (مضاف إلى جنس الخيل في الكتاب، قال الله تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] (الأنفال: الآية 60) ،(7/163)
واسم الخيل ينطلق على البراذين والعتاق والهجين والمقرف إطلاقا واحدا. ولأن العربي إن كان في الطلب والهرب أقوى فالبرذون أصبر وألين عطفا، ففي كل واحد منهما منفعة معتبرة فاستويا.
ومن دخل دار الحرب فارسا فنفق فرسه استحق سهم الفرسان. ومن دخل راجلا فاشترى فرسا استحق سهم راجل. وجواب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على عكسه في الفصلين، وهكذا روى ابن المبارك عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الفصل الثاني أنه يستحق سهم الفرسان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واسم الخيل ينطلق على البراذين والعتاق والهجين والمقرف إطلاقاً واحداً) ش: أراد أن لفظ الخيل بحسب اللغة إذا أطلق يشمل هذه الأنواع من غير فرق بينها، ومضى الآن بغير الهجين والمقرف.
م: (ولأن العربي إن كان في الطلب والهرب أقوى فالبرذون أصبر وألين عطفاً) ش: بفتح العين وكسرها، أي انعطافاً، يعني إذا أراد الانعطاف ينعطف من غير بطأ فيه. قال الكاكي: معنى الفتح الإمالة، ومعنى الكسر الجانب.
قلت: العطف من عطف الشيء أعطفه عطفاً: إذا ثنيته ورددته عن جهته، والعطف: الناحية من الإنسان والدواب.
م: (ففي كل واحد منهما) ش: أي من العربي والبرذون م: (منفعة معتبرة) ش: وهي التي ذكرنا م: (فاستويا) ش: أي العربي والبرذون في الاستحقاق من الأسهم على الاختلاف.
[دخل دار الحرب فارساً وهلك فرسه]
م: (ومن دخل دار الحرب فارساً) ش: أي حال كونه فارساً م: (فنفق فرسه) ش: أي هلك م: (استحق سهم الفرسان) ش: إلا إذا باع فرسه أو وهبه وسلم أو أجره أو أعاره، سقط سهم فرسه في ظاهر الرواية. وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن له سهم فارس.
م: (ومن دخل راجلاً) ش: أي حال كونه رجلاً م: (فاشترى فرساً استحق سهم راجل) ش: وكذا إذا وهب له أو ورث أو استعار أو استأجر بعدما دخل راجلاً وقاتل فارساً، فله سهم راجل، وفي رواية الحسن: له سهم فارس، كذا في التحفة.
م: (وجواب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على عكسه في الفصلين) ش: يعني لا يعتبر عنده دخوله دار الحرب فارساً ولا دخوله راجلاً، والمعتبر عنده كونه فارساً أو راجلاً عند شهود الوقعة، ورواه عنه: عند تقضي الحرب وبعد تمام القتال بالأولى.
قال مالك وأحمد م: (وهكذا) ش: أي مثل جواب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (روى ابن المبارك) ش: وهو عبد الله بن المبارك الإمام المشهور المروزي م: (عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الفصل الثاني) ش: يعني إذا دخل دار الحرب راجلاً فاشترى فرساً فقاتل فارساً م: (أنه يستحق سهم الفرسان) ش: عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضاً على رواية ابن المبارك عنه، وليس ذلك(7/164)
والحاصل أن المعتبر عندنا حالة المجاوزة، وعنده حال انقضاء الحرب. له أن السبب هو القهر والقتال فيعتبر حال الشخص عنده، والمجاوزة وسيلة إلى السبب كالخروج من البيت، وتعليق الأحكام بالقتال يدل على مكان الوقوف عليه، ولو تعذر أو تعسر يعلق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بظاهر الرواية عنه.
م: (والحاصل) ش: أي من بيان هذا الخلاف الذي بيننا وبين الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن المعتبر عندنا حالة المجاوزة) ش: أي مجاوزة الدرب، إلا أنه أطلق لشهرة المسألة عند الفقهاء والمتأخرين، قال الخليل: الدرب الباب الواسع على السكة وعلى كل مدخل من مدخل الروم ودرب من ورد بها، كذا في " المغرب ".
قال في " ديوان الأدب ": الدرب المضيق من مضائق من الدرب، وكذلك ما أشبهه، والمراد هنا فيه هو البرزخ الذي بين دار الحرب ودار الإسلام، فإذا جاوزه الغازي دخل دار الحرب، وإذا جاوزه الكافر دخل دار الإسلام.
م: (وعنده) ش: أي عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - المعتبر م: (حال انقضاء الحرب. له) ش: أي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن السبب) ش: أي سبب استحقاق الغنيمة م: (هو القهر والقتال فيعتبر حال الشخص عنده) ش: أي عند القتال فارساً أو راجلاً م: (والمجاوزة) ش: أي مجاوزة حال الحرب.
وأراد به الرد لمذهبنا م: (وسيلة إلى السبب) ش: حاله أنه لا يعتبر المجاوزة لكونها سبباً يعيد إلى القتال م: (كالخروج من البيت) ش: يعني للقتال، فإنه وسيلة إلى السبب، ولا اعتبار به في اعتبار حال الغازي من كونه فارساً أو راجلاً، كذلك في هذه الوسيلة.
م: (وتعليق الأحكام بالقتال) ش: هذا جواب بطريق المنع لما يقال من جهة أصحابنا أن القتال أمر خفي لا يوقف عليه، فيقام السبب الظاهر وهو المجاوزة مقامه، وتقرير هذا الجواب بأن نقول: لا نسلم أنه لا يوقف عليه، وكيف لا يوقف عليه.
وتعليق الأحكام بالقتال كإعطاء الرضخ للصبي إذا قاتل، وكذلك المرأة والعبد والذمي م: (يدل على مكان الوقوف عليه) ش: فلو لم يوقف عليه لم يتعلق به حكم.
م: (ولو تعذر) ش: هذا جواب بطريق التسليم بأن يقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - سلمان أن الوقوف على القتال متعذر ومتعسر مثلما قلتم، وهو معنى قوله ولو تعذر، أي الوقوف على القتال بأن يكون في الليل أو في مطر أو نحو ذلك.
م: (أو تعسر) ش: بأن كان كل واحد مشغولاً بنفسه فحينئذ م: (يعلق) ش: أي الوقوف م:(7/165)
بشهود الوقعة، لأنه أقرب إلى القتال. ولنا أن المجاوزة نفسها قتال؛ لأنه يلحقهم الخوف بها، والحال بعدها حالة الدوام ولا معتبر بها، ولأن الوقوف على حقيقة القتال متعسر، وكذا على شهود الوقعة لأنه حال التقاء الصفين، فتقام المجاوزة مقامه إذ هو السبب المفضي إليه ظاهرا إذا كان على قصد القتال فيعتبر حال الشخص بحالة المجاوزة فارسا كان أو راجلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(بشهود الوقعة) ش: يعني أقيم شهود الوقعة مقام الوقوف م: (لأنه) ش: أي لأن شهود الوقعة م: (أقرب إلى القتال) ش: من المجاوزة، فتعلق كونه فارساً أو راجلاً بشهود الوقعة وهي صورة الحرب.
م: (ولنا أن المجاوزة) ش: أي مجاوزة الدرب م: (نفسها قتال لأنه يلحقهم الخوف بها) ش: أي لأن الشأن أنه يلحق الكفار لخوف مجاوزة الدرب، لأن القتال اسم لفعل يقع به للعدو خوف، وبمجاوزة العسكر الدرب يحصل لهم الخوف والرهبة، فكان قتالاً م: (والحال بعدها) ش: أي بعد المجاوزة م: (حالة الدوام) ش: أي دوام القتال.
م: (ولا معتبر بها) ش: أي حالة الدوام بالإجماع، ولا يمكن تعلق الحكم بدوام القتال، لأن الفارس لا يمكنه أن يقاتل فارساً دائماً، لأنه لا بد له أن ينزل في بعض المضائق خصوصاً في الشجرة أو في الحصن أو في البحر.
م: (ولأن الوقوف على حقيقة القتال متعسر) ش: لأن الإمام لا يمكنه أن يراقب بنفسه حال كل أحد أنه قاتل أو لم يقاتل، وكذا بنائبه بأن يوكل عدلاً يثق بقوله يخبره من قاتل ومن لم يقاتل، لأن في إقامة العدل على كل واحد حرجاً عظيماً، ولا يعتبر إخبار كل واحد من الجند أيضاً أن صاحبه قاتل، لأن منهم فيه بحر النقع.
م: (وكذا) ش: يتعسر الوقوف م: (على شهود الوقعة، لأنه حال التقاء الصفين) ش: والاشتغال بالحرب فلم يتلفت إلى كونه سبباً قريباً بهذا المعنى، فإذا كان الأمر كذلك م: (فتقام المجاوزة) ش: أي مجاوزة الدرب م: (مقامه) ش: أي مقام القتال م: (إذ هو السبب المفضي إليه ظاهراً) ش: أي لأن قيام المجاوزة هو السبب الداعي إلى القتال بحسب الظاهر كما أقيم السفر مقام المشقة، والنوم مقام الحدث، والنكاح مقام الوطء في حرمة المصاهرة، فكان المعتبر حال المجاوزة لا حال القتال لكي م: (إذا كان) ش: تجاوزه م: (على قصد القتال) ش: لأن هذا هو الأصل.
فإذا كان الأمر كذلك م: (فيعتبر حال الشخص بحالة المجاوزة) ش: أي مجاوزة الدرب حال كونه م: (فارساً كان أو راجلاً) ش: وهاهنا سؤالان: الأول أن استحقاق الشيء بلا وجوده محال، والمستحق وهو الغنيمة حال المجاوزة معدوم، فكيف يثبت الاستحقاق. السؤال الثاني أن(7/166)
ولو دخل فارسا وقاتل راجلا لضيق المكان يستحق سهم الفرسان بالاتفاق، ولو دخل فارسا ثم باع فرسه أو وهب أو أجر أو رهن، ففي رواية الحسن عن أبي حنيفة - رحمهما الله - يستحق سهم الفرسان اعتبارا للمجاوزة، وفي ظاهر الرواية: يستحق سهم الرجالة. لأن الإقدام على هذه التصرفات يدل على أنه لم يكن من قصده بالمجاوزة القتال فارسا. ولو باعه بعد الفراغ لم يسقط سهم الفرسان، وكذا إن باع في حالة القتال عند البعض. والأصح أنه يسقط. لأن بيعه يدل على أن غرضه التجارة فيه إلا أن ينتظر غرته،
ولا يسهم لمملوك ولا امرأة ولا صبي ولا مجنون ولا ذمي، ولكن يرضخ لهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السبب إنما يقام مقام العلة إذا تصور من العلة وها هنا لا يتصور العلة وهو القتال حال المجاوزة، لأن القتال بدون شهود الوقعة محال.
الجواب عن الأول: أنه ليس المراد من الاستحقاق ثبوت الملك في الغنيمة أو ثبوت الحق فيها للغزاة في الحال، المراد به كون الشخص أخص بالغنيمة من غيره.
والجواب عن الثاني: أن القتال لشهود الوقعة والتقاء الصفين عند المجاوزة متصور، لأنه ليس بثابت، وشرط إقامة الشيء مقام غيره أن لا يكون ذلك الغير ثابتاً في الحال، لأنه إذا كان ثابتاً كيف يقام شيء آخر مقامه.
[دخل دار الحرب فارساً ثم باع فرسه أو وهب أو أجر أو رهن]
م: (ولو دخل فارساً وقاتل راجلاً لضيق المكان يستحق سهم الفرسان بالاتفاق) ش: أي باتفاق بيننا وبين الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولو دخل فارساً ثم باع فرسه أو وهب أو أجر أو رهن، ففي رواية الحسن عن أبي حنيفة - رحمهما الله - يستحق سهم الفرسان اعتباراً للمجاوزة) ش: أي عن الدرب م: (وفي ظاهر الرواية يستحق سهم الرجالة، لأن الإقدام على هذه التصرفات) ش: وهي البيع والهبة والإجارة والرهن م: (يدل على أنه لم يكن من قصده بالمجاوزة القتال فارساً ولو باعه بعد الفراغ) ش: أي بعد الفراغ من القتال م: (لم يسقط سهم الفرسان، وكذا) ش: أي وكذا لم يسقط سهم الفرسان م: (إن باع في حالة القتال عند البعض) ش: أي عند بعض مشايخنا، لأن بيعه عند زمان مخاطرة الروح دل على أنه إنما باعه لرأي رآه في الحرب له لتحصيله المال، لأن الروح فوق المال.
م: (والأصح أنه يسقط، لأن بيعه يدل على أن غرضه التجارة فيه إلا أن ينتظر غرته) ش: أي غرة الفرس، قال شيخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أي غرة فرسه، وقال الأترازي: فيه نظر، لأن الإنسان المقاتل في سبيل تلك الحالة لا يختار المال على روحه، ولهذا قال الأصح قول البعض.
[هل يسهم للمملوك والمرأة والصبي والمجنون والذمي]
م: (ولا يسهم لمملوك ولا امرأة ولا صبي ولا مجنون ولا ذمي، ولكن يرضخ لهم) ش: بالضاد والخاء المعجمتين، من رضخ فلان لفلان من ماله: إذا أعطاه قليلاً من كثير، والاسم الرضخ م:(7/167)
على حسب ما يرى الإمام، لما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان لا يسهم للنساء والصبيان والعبيد، ولكن كان يرضخ لهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(على حسب ما يرى الإمام، لما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «كان لا يسهم للنساء والصبيان والعبيد، ولكن كان يرضخ لهم» .
وقال الأترازي: وقد روي عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه كان لا يسهم للعبيد والنساء والصبيان، ويرضخ» انتهى.
ولم يبين من خرج هذا الحديث ولم يبين حاله. وأخرج مسلم عن يزيد عن هرمز قال: كتب بحجدة بن عامر القدوري إلى ابن عباس يسأله عن العبد والمرأة يحضران المغنم هل يقسم لهما؟ فكتب إليه: أن ليس لهما شيء إلا أن يحذيا. وفي لفظ: فكتب إليه وسأله عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم إذا حضروا البأس، فإنهم لم يكن لهم سهم معلوم، إلا أن يحذيا من غنائم القوم.
قوله: يحذيا، أي يعطيا بالحاء المهملة والذال المعجمة، وقد جاءت أحاديث مخالفة لهذا، منها: ما رواه أبو داود والنسائي عن رافع بن سلمة «عن حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه أنها خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة خيبر.. الحديث، وفيه: أسهم لنا كما أسهم للرجال» . وذكر الخطابي أن الأوزاعي قال: يسهم لهن، وأحسبه ذهب إلى هذا الحديث، وإسناده ضعيف لا تقوم به الحجة، وقال الترمذي: وقال الأوزاعي: وأسهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للصبيان بخيبر، وأسهمت أئمة المسلمين لكل مولود ولد في أرض الحرب.
وقال الأوزاعي: وأسهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للنساء بخيبر وأخذ بذلك المسلمون بعده، حدثنا بذلك علي ابن حزم، قال أبو عيسى بن يونس عن الأوزاعي بهذا.
ومنها ما رواه أبو داود مرسلاً عن محمد بن عبد الله بن مهاجر الشعبي، والبيهقي عن خالد بن معبد «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم للنساء والصبيان والخيل» . وأجاب الطحاوي عن مثل هذا وأمثاله أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم للنساء والصبيان، واستطاب أهل الغنيمة.
وأجاب غيره بقوله: يشبه أن يكون - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنما أعطاهم من الخمس الذي هو حقه دون حقوق من شهد الوقعة.(7/168)
ولما استعان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - باليهود على اليهود لم يعطهم شيئا من الغنيمة، يعني أنه لم يسهم لهم، ولأن الجهاد عبادة، والذمي ليس من أهلها، والمرأة والصبي عاجزان عنه، ولهذا لم يلحقهما فرضه، والعبد لا يمكنه المولى وله منعه، إلا أنه يرضخ لهم تحريضا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولما استعان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - باليهود على اليهود لم يعطهم شيئاً من الغنيمة، يعني أنه لم يسهم لهم) ش: هذا رواه البيهقي في كتاب المعرفة من طريق الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: «استعار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهود قينقاع فرضخ لهم» . ثم قال: تفرد به الحسن بن عمارة، وهو متروك. وروي حديث مخالف لهذا، رواه الترمذي من حديث الزهري قال: «أسهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقوم من اليهود قاتلوا معه» ورواه أبو داود في مراسيله، وزاد في آخره «هاهنا: ومثل سهمان المسلمين» . وقال " صاحب التنقيح ": مراسيل الزهري ضعيفة، وكان يحيى القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاًَ يقول: هي بمنزلة الريح.
واختلفوا هل يستعان بالكافر في القتال عند الحاجة؟ فعندنا - وأحمد - يستعان لما ذكرنا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول. وقال ابن المنذر وجماعة من أهل العلم: لا يستعان بالكافر لما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين» ، ما ذكر أنه استعان بهم غير ثابت.
قال الكاكي: قلنا: بل هو ثابت ذكره الثقات المشهورون، وما رواه غير مشهور وليس بثابت، فهو محمول على زجر قوم متعينين يريد إسلامهم، انتهى.
قلت: الحديث الذي ذكره ابن المنذر رواه إسحاق بن راهويه في مسنده والواقدي في كتاب " المغازي " والكاكي رده من غير وجه، ثم ادعى أن الذي ذكره عن الثقات المشهورين ولم يبين ذلك، والخصم لا يرضى بهذا المقدار، وهاهنا بحث كثير، ذكرناه في شرح للبخاري.
م: (ولأن الجهاد عبادة، والذمي ليس من أهلها) ش: أي من أهل العبادة م: (والمرأة والصبي عاجزان عنه) ش: أي عن الجهاد م: (ولهذا) ش: أي ولأجل عجزهما عن الجهاد م: (لم يلحقهما) ش: أي المرأة والصبي م: (فرضه) ش: أي فرض الجهاد م: (والعبد لا يمكنه المولى) ش: أي من الجهاد م: (وله) ش: أي للمولى م: (منعه) ش: أي عن الجهاد، ولأنه فرض كفاية، إلا إذا هجم العدو، فليس له منعه حينئذ، لأنه يصير فرض عين.
م: (إلا أنه) ش: أي غير أن الإمام م: (يرضخ) ش: أي يعطي م: (لهم تحريضاً) ش: شيئاً(7/169)
على القتال مع إظهار انحطاط رتبتهم،
والمكاتب بمنزلة العبد لقيام الرق فيه وتوهم عجزه، فيمنعه المولى عن الخروج إلى القتال، ثم العبد إنما يرضخ له إذا قاتل لأنه دخل لخدمة المولى، فصار كالتاجر، والمرأة يرضخ لها إذا كانت تداوي الجرحى، وتقوم على المرض؛ لأنها عاجزة عن حقيقة القتال، فيقام هذا النوع من الإعانة مقام القتال، بخلاف العبد، لأنه قادر على حقيقة القتال،
والذمي إنما يرضخ له إذا قاتل أو دل على الطريق ولم يقاتل، لأن فيه منفعة للمسلمين، إلا أنه يزاد له على السهم في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بحسب ما يراه، وبه قالت الثلاثة. وعن أحمد في رواية: يرضخ للكافر إن قاتل بإذن الإمام وبغير إذن الإمام، أي لأجل تحريضهم م: (على القتال مع إظهار انحطاط رتبتهم) ش: أي رتبة المرأة والصبي والعبد إن لم ينه متبوعهم، لأن العبد تبع للحر، والصبي تبع للبائع والذمي أيضاً تبع للمسلم، ولهذا لا يمكن أهل الذمة من نصب الراية لأنفسهم.
وقال مالك: يسهم للصبي المراهق إذا أطاق القتال، لأنه من أهل الجهاد، والرضخ من أين يكون؟ قال الشافعي في قول أحمد في رواية من الغنيمة، وبه قال أصحابنا، وقال في قول من أربعة الأخماس، وبه قال أحمد في رواية. وقال في قول: من خمس الخمس، وقال مالك: الرضخ من الخمس.
[متى يرضخ للمرأة]
م: (والمكاتب بمنزلة العبد لقيام الرق فيه وتوهم عجزه) ش: أي إذا أبدل الكتابة، فإذا كان كذلك م: (فيمنعه المولى عن الخروج إلى القتال، ثم العبد إنما يرضخ له إذا قاتل، لأنه دخل) ش: يعني مع العسكر في دار الحرب م: (لخدمة المولى) ش: أي لأجل خدمة مولاه م: (فصار كالتاجر) ش: يدخل للتجارة م: (والمرأة يرضخ لها إذا كانت تداوي الجرحى وتقوم على المرضى) ش: يعني إذا مرضتهم م: (لأنها) ش: أي لأن المرأة م: (عاجزة عن حقيقة القتال) ش: قيد به لأنها غير عاجزة عن شبهة القتال وهي الأمان، فإن أمانها يصح بلا خلاف م: (فيقام هذا النوع) ش: وهو مداواتها الجرحى وقيامها على المرضى م: (من الإعانة مقام القتال) ش: فإذا كان كذلك رضخ لها بلا قتال.
م: (بخلاف العبد) ش: يرتبط بقوله: لأنها عاجزة م: (لأنه قادر على حقيقة القتال) ش: حتى لم يرضخ له إذا لم يوجد منه القتال، بخلاف المرأة، فإن خدمتها لمرضى العسكر يقوم مقام القتال وليس كذلك خدمة العبد مولاه.
[متى يرضخ للذمي]
م: (والذمي إنما يرضخ له إذا قاتل أو دل على الطريق) ش: الذي يمشي فيها العسكر م: (ولم يقاتل) ش: أي والحال أنه لم يقاتل م: (لأن فيه) ش: أي في قتاله أو في كونه دالاً على الطريق م: (منفعة للمسلمين، إلا أنه يزاد له على السهم) ش: أي لا يزاد للذمي بالرضخ على السهم م: (في(7/170)
الدلالة إذا كانت فيها منفعة عظيمة، ولا يبلغ به السهم إذا قاتل لأنه جهاد، والأول ليس من عمله، فلا يسوى بينه وبين المسلم في حكم الجهاد، وأما الخمس فيقسم على ثلاثة أسهم، سهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل، يدخل فقراء ذوي القربى فيهم ويقدمون ولا يدفع إلى أغنيائهم. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لهم خمس الخمس يستوي فيه غنيهم وفقيرهم ويقسم بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدلالة) ش: على الطريق م: (إذا كانت فيها منفعة عظيمة، ولا يبلغ به السهم إذا قاتل) ش: أي الذمي.
قوله: السهم، مرفوع، كما في قولك: بلغ بعطائك خمسمائة، بالرفع، ولا يجوز النصب. والحاصل أنه إذا قاتل لا يزاد على سهم الراجل إن كان راجلاً ولا سهم الفارس إذا كان فارساً م: (لأنه جهاد) ش: والذمي تبع للمسلمين فيه، فلا يسوى بينه وبين المسلم.
م: (والأول ليس من عمله) ش: أي كونه دالاً على الطريق ليس من عمل الجهاد، فكان كسائر الأعمال م: (فلا يسوى بينه وبين المسلم في حكم الجهاد) ش: ولكن يعطى له من أجل دلالته زيادة على السهم، أي قدر تعبه. ولما فرغ من بيان أحكام الأربعة الأخماس شرع في بيان حكم الخمس فقال: م: (وأما الخمس فيقسم على ثلاثة أسهم، سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل) ش: هذا هو المشهور عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أنه يقسم على ثلاثة أصناف وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل.
وقال الطحاوي في " مختصره ": وقد روى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يقسم في ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل م: (يدخل فقراء ذوي القربى فيهم) ش: (أي في هذه الأصناف الثلاثة، قال العلامة بدر الدين الكردري: معنى هذا القول: أي أيتام ذوي القربى يدخلون في سهم المساكين، وأبناء السبيل يدخلون في سهم ابن السبيل؛ لما أن سبب الاستحقاق في هذه الأصناف الثلاثة الاحتياج، غير أن سببه مختلف في نفسه من اليتم والمسكنة وكونه ابن السبيل.
وفي " التحفة ": هذه الثلاثة الأصناف مصارف الخمس عندنا لا على سبيل الاستحقاق، حتى لو صرف إلى صنف واحد جاز كما في الصدقات م: (ويقدمون) ش: أي فقراء ذوي القربى يقدمون على الأصناف الثلاثة م: (ولا يدفع إلى أغنيائهم) ش: أي أغنياء ذوي القربى.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لهم) ش: أي لذوي القرى م: (خمس الخمس يستوي فيه غنيهم وفقيرهم ويقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين) ش: وعن الشافعي: يقسم الخمس على خمسة أسهم، سهم للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته، وبعد وفاته يصرفه الإمام إلى مصالح الذين يرى؛ وبه قال أحمد. وعن الشافعي أنه يرد سهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بعده على بقية الأصناف. وحكى ابن(7/171)
ويكون لبني هاشم وبني المطلب دون غيرهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] من غير فصل بين الغني والفقير. ولنا أن الخلفاء الأربعة الراشدين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قسموه على ثلاثة أسهم على نحو ما قلناه، وكفى بهم قدوة، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يا معشر بني هاشم إن الله تعالى كره لكم غسالة أيدي الناس وأوساخهم، وعوضكم منها بخمس الخمس»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المنذر قولاً ثالثاً أنه يكون للأئمة بعده، أي الخليفة. وقال مالك: تفرقة الخمس إلى الإمام، يفرقه فيما شاء، وسهم لليتامى لكل صغير فقير لا أب له.
[تقسيم خمس النبي]
م: (ويكون لبني هاشم وبني المطلب دون غيرهم) ش: من عبد شمس وبني نوفل. واعلم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وكان بنو عبد مناف خمساً؛ هاشم والمطلب ونوفلاً وعبد شمس وأبا عمر، واسمه عبيد ولم يعقب، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من بني عبد شمس لأنه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وجبير من بني نوفل فإنه جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل. وقال ابن إسحاق: عبد شمس وهاشم والمطلب إخوة لأم، وأمهم عاتكة بنت مرة، وكان نوفل أخاهم لأبيهم.
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] من غير فصل بين الغني والفقير) ش: فيشتركان.
م: (ولنا أن الخلفاء الأربعة الراشدين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (قسموه) ش: أي الخمس م: (على ثلاثة أسهم على نحو ما قلناه) ش: يعني به قوله: أما الخمس فيقسم على ثلاثة أسهم، إلى آخره، وروى أبو يوسف عن الكلبي عن أبي صالح وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن الخمس الذي كان يقسم على عهده - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على خمسة أسهم: لله وللرسول سهم، ولذي القربى واليتامى سهم، وللمساكين سهم، وابن السبيل سهم» ثم قسم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ثلاثة أسهم: سهم لليتامى وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل، انتهي. وكان ذلك بمحضر من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولم ينكر عليهم، فحل محل الإجماع م: (وكفى بهم قدوة) ش: أي كفى بالخلفاء الأربعة اقتداء.
م: (وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «يا معشر بني هاشم: إن الله تعالى كره لكم غسالة أيدي الناس وأوساخهم وعوضكم منها بخمس الخمس» ش: هذا الحديث غريب وقد تقدم في الزكاة.
وروى الطبراني في " معجمه " من حديث عكرمة عن ابن عباس قال: «بعث نوفل بن الحارث ابنيه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لهما-: انطلقا إلى ابن عمكما لعله يستعين بكما على الصدقات لعلكما تصيبان شيئاً فتتزوجان، فلقيا علياً - رضوان الله عليه - فقال: أين تأخذان؟ فحدثاه،(7/172)
والعوض إنما يثبت في حق من يثبت في حقه المعوض وهم الفقراء، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاهم للنصرة، ألا ترى أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -علل فقال: إنهم لن يزالوا معي هكذا في الجاهلية والإسلام، وشبك بين أصابعه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فقال لهما: ارجعا، فلما أمسيا أمرهما أن ينطلقا إلى نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما دفعا الباب استأذنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة: " أرخي الستار عليك سجفك أدخل علي ابن عمي "، فحدثا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحاجتهما، فقال نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يحل لكما أهل البيت من الصدقات شيء ولا غسالة أيدي الناس، إن لكم في خمس الخمس لما يغنيكم ويكفيكم» .
م: (والعوض إنما يثبت في حق من يثبت في حقه المعوض) ش: أراد بالعوض خمس الخمس، وبالمعوض على صيغة اسم المفعول من التعويض الزكاة. تقريره أن العوض وهو الزكاة لا يجوز دفعها إلى الأغنياء، فكذلك يجب أن يكون عوض الزكاة وهو خمس الغنائم لا يدفع إليهم، لأن العوض إنما يثبت في حق من فات عنه المعوض وإلا لا يكون عوضاً لذلك المعوض.
فإن قيل: هذا الحديث إما أن يكون ثابتاً صحيحاً أو لا، فإن كان الأول وجب أن يقسم الخمس على خمسة أسهم، وأنتم تقسمونه على ثلاثة أسهم، وهو مخالفة الحديث الثابت الصحيح وإن كان الثاني لا يصح الاستدلال به. أجيب: بأن لهذا الحديث دلالتين، إحداهما إثبات العوض في المحل الذي فات عنه المعوض على ما ذكرناه والثانية جعله على خمسة أسهم.
ولكن قام الدليل على انتفاء قسمة الخمس على خمسة أسهم، وهو فعل الخلفاء الراشدين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كما تقدم، ولم يقم الدليل على تغيير العوض ممن فات منه المعوض فقلنا به كما تمسك الخصم على تكرار الصلاة على الجنازة بما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سبعين صلاة، وهو لا يقول بالصلاة على الشهيد» ولكن يقول: للحديث دلالتان، إحداهما ثابتة وإن انتفت الأخرى.
م: (وهم الفقراء) ش: الضمير يرجع إلى كلمة من في قوله: من يثبت م: (والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاهم للنصرة) ش: هذا جواب عما يقال: لو كان ما ذكرتم صحيحاً، بجميع مقدماته، لما أعطاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد ثبت أنه أعطى بني هاشم وبني المطلب. وتقرير الجواب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أعطاهم للنصرة.
م: (ألا ترى أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (علل فقال: «إنهم لن يزالوا معي هكذا في الجاهلية والإسلام، وشبك بين أصابعه» ش: هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه(7/173)
دل على أن المراد من النص قرب النصرة لا قرب القرابة. فأما ذكر الله تعالى في الخمس فإنه لافتتاح الكلام تبركا باسمه.
وسهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سقط بموته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن ابن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن جبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لما قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم ذوي القربى من خيبر بين بني هاشم وبني المطلب، جئت أنا وعثمان قلنا: يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك منهم، إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال: " إنهم لم يفارقوني في الجاهلية والإسلام "وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، ثم شبك بين أصابعه» .
م: (دل على أنا المراد من النص قرب النصرة لا قرب القرابة) ش: وذكر أبو بكر الرازي في شرحه لمختصر الطحاوي أن أصحابنا اختلفوا في هذا فمنهم من قال: إنهم كانوا يستحقون السهم بالمعنيين النصرة والقرابة جميعاً.
واستدلوا بالحديث المذكور. وأخبر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنهم استحقوا بالنصرة وبالقرابة جيمعاً، فما لم يجتمعا لم يستحق، فمن جاء بعد ذلك من القرابة فقد عدمت منه النصرة فحينئذ إنما يستحقه بالفقر دون غيره، ولا حق لأغنياء. من أصحابنا من قال: إن سهم ذوي القربى في الأصل لم يجب إلا للفقراء منهم، ولم يكن مستحقا باسم القرابة دون الفقر.
والدليل على ذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى بني المطلب ولم يعط بني عبد شمس ولا بني نوفل، وهما جميعاً في محل واحد من القرابة، ولو كان مستحقاً بالقرب لاستحق الجميع لتساويهم فيه، ومن الدليل عليه أيضاً أن الخلفاء الراشدين لم يعطوا سهم ذوي القربى لأغنياء منهم، وإنما أعطوا الفقراء.
م: (فأما ذكر الله تعالى في الخمس) ش: في قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] (الأنفال: الآية 41) م: (فإنه لافتتاح الكلام تبركا باسمه) ش: روى أبو جعفر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح الآثار بإسناده إلى سفيان الثوري عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن بن محمد بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن قول الله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] قال: أما قوله: فأن لله خمسه، فهو مفتاح كلام، ولله الدنيا والآخرة.
م: (وسهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سقط بموته) ش: لأنه كان يستحق ذلك لكونه رسولاً، فلما مات سقط، لأنه لا رسول بعد وفاته، ولم يكن استحقاقه ذلك لقيامه بأمور أمته، ولهذا لم يرفع الخلفاء الراشدون بعده هذا السهم لأنفسهم.(7/174)
كما سقط الصفي، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستحقه برسالته ولا رسول بعده،
والصفي شيء كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصطفيه لنفسه من الغنيمة مثل درع أو سيف أو جارية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكانت له خصائص شرف الرسالة لم تكن للأئمة، كحل التسع وحرمة نسائه بعده على المؤمنين وإباحة البضع بلا مال، والعصمة عن الكذب م: (كما سقط الصفي) ش: بفتح الصاد وكسر الفاء وتشديد الياء، أي كما سقط الصفي بموته، وكذا سقط خمس الخمس وسهم رجل من الغنيمة.
م: (لأنه) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (كان يستحقه) ش: أي السهم م: (برسالته) ش: أي بسبب رسالته م: (ولا رسول بعده) ش: أي بعد موته، ولهذا لا يستحقه الخلفاء، ولأن الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - لا يورثون.
م: (والصيفي شيء كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصطفيه لنفسه من الغنيمة) ش: أي يختاره لنفسه م: (مثل درع أو سيف أو جارية) ش: وروى أبو داود في سننه: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن مطرف عن الشعبي قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعي الصفي إن شاء عبداً، أو شاء أمة، وإن شاء فرساً يختاره قبل الخمس» هذا مرسل.
وأخرج أيضاً عن ابن عون - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: سألت محمد بن سيرين عن سهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصفي، قال: كان يضرب له سهم مع المسلمين وإن لم يشهد، والصفي يؤخذ له [من] رأس الخمس، قبل أي شيء، وأخرج أيضاً عن سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كانت صفية من الصفي» ورواه الحاكم في " مستدركه " وقال: صحيح على شرط الشيخين - رحمهما الله - ولم يخرجاه.
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في السير الكبير بإسناده عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: «كان سيف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي تنفل يوم بدر، كان سيف العاص بن المنبه بن الحجاج، يعني اتخذه لنفسه صفياً» . قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فهذا دليل على أنه لم يحمل من الجنة.
وذكر هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه في كتاب السيوف: «كان سيف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذا الفقار، وكان للعاص بن منبه الحجاج السهمي، فقتله علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم بدر وجاء بسيفه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصار بعد لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أعطاه إياه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وله يقول القائل: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي» . إلى هنا كلام الكلبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(7/175)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصرف سهم الرسول إلى الخليفة، والحجة عليه ما قدمناه. وسهم ذوي القربى كانوا يستحقونه في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالنصرة لما روينا. قال: وبعده بالفقر، قال العبد الضعيف: هذا الذي ذكره قول الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سهم الفقير منهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وما ذكر الزمخشري في " فائقه ": أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنفله في غزوة المصطلق، ليس بصحيح لرواية من هو أقدم وأعلم بخلافه، ولا سيما أمر المغازي، فإن الكلبي آية فيه. وقال الأكمل: «واصطفى صفية من غنائم خيبر» . انتهى، قلت: ذكر البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغيره مسنداً إلى أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قدمنا خيبر فلما فتح الله عليه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب وقد قتل زوجها وكانت عروساً، فاصطفاها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنفسه» . م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصرف سهم الرسول إلى الخليفة) ش: هذا في رواية عنه وفي رواية: يصرف إلى مصالح المسلمين كسد الثغور، وبه قال أحمد. وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يرد سهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعده على بقية الأصناف.
م: (والحجة عليه) ش: أي على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ما قدمناه) ش: من أن الخلفاء الراشدين لم يرفعوا بعده هذا السهم لأنفسهم م: (وسهم ذوي القربى كانوا يستحقونه في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالنصرة لما رويناه) ش: إشارة إلى قوله: والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاهم للنصرة، إلى آخر ما قال.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وبعده بالفقر) ش: أي وبعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستحقون بالفقر، فلا يعطى شيء لأغنيائهم م: (قال العبد الضعيف) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (هذا الذي ذكره) ش: أي القدوري أن استحقاقهم بالفقر م: (قول الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) . (وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سهم الفقير منهم ساقط أيضاً لما رويناه من الإجماع) ش: أشار به إلى قوله: ولنا أن الخلفاء الراشدين قسموه على ثلاثة أسهم م: (ولأن فيه) ش: أي في سهم ذوي القربى م: (معنى الصدقة نظراً إلى المصرف) ش: لأن الهاشمي الذي يصرف إليه فقير، إذا لم يكن فقيراً لا يجوز صرفه إليه بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باتفاق الروايات عن أصحابنا، فلما كان فيه معنى الصدقة م: (فيحرم) ش: أي ذوي القربى م: (كما يحرم العمالة) ش: أي كما حرم الهاشمي العامل على الصدقة العمالة بضم العين، وهو ما يعطى على عمله.
م: (وجه الأول) ش: أراد قول الكرخي م: (وقيل هو الأصح) ش: إنما قال: وقيل؛ لأن في كون قول الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - صح اختلاف المشايخ م: (ما روي) ش: خبر لقوله: وجه الأول، وقوله: وقيل هو الأصح، جملة معترضة بين المبتدأ والخبر [....] م: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أعطى الفقراء منهم) ش: أي من ذوي القربى. روى أبو داود في " سننه " من حديث سعيد بن المسيب حدثنا جبير بن مطعم «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقسم لبني عبد شمس ولا(7/176)
ساقط أيضا لما روينا من الإجماع، ولأن فيه معنى الصدقة نظرا إلى المصرف، فيحرم كما يحرم العمالة، وجه الأول وقيل هو الأصح: ما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أعطى الفقراء منهم، والإجماع انعقد على سقوط حق الأغنياء، أما فقراؤهم فيدخلون في الأصناف الثلاثة.
وإذا دخل الواحد أو الاثنان دار الحرب مغيرين بغير إذن الإمام فأخذوا شيئا، لم يخمس؛ لأن الغنيمة هي المأخوذة قهرا أو غلبة لا اختلاسا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لبني نوفل من الخمس شيئاً، كما قسم لبني هاشم وبني المطلب، قال: وكان أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقسم الخمس نحو قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، غير أنه لم يعط قربى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما كان يعطيهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يعطيهم ومن كان بعده منه» .
م: (والإجماع) ش: أي إجماع الصحابة م: (انعقد على سقوط حق الأغنياء، أما فقراؤهم) ش: أي فقراء ذوي القربى م: (فيدخلون في الأصناف الثلاثة) ش: أي في اليتامى والمساكين وابن السبيل، فقد تقدم هذا في أول البحث، وكرر هنا لزيادة الإيضاح.
فإن قيل: إن كانت هؤلاء الثلاثة مصارف باعتبار الحاجة فلا يحل للأغنياء، فإذن فلا فائدة في ذكر الفقراء في القرآن، أجيب: بأنه إنما ذكرهم لأن أفهام بعض الناس تذهب إلى أن الفقير منهم لا يستحق لما أنه من قبيل الصدقة، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تحل الصدقة لمحمد ولا لآله» فإذًا زال ذلك الوهم بتخصيصهم بالذكر.
فإن قيل: ما الفائدة في ذكر اليتيم؟ لأنه يدخل في المساكين، أجيب: بأنه لدفع وهم من يتوهم أن اليتيم لا يستحق الخمس، لأن الخمس عن الغنيمة، والغنيمة بالجهاد تحصل واليتيم ليس بأهل للجهاد فأزال ذلك الوهم بتخصيص ذكر اليتيم.
[إذا دخل الواحد أو الاثنان دار الحرب مغيرين]
م: (وإذا دخل الواحد أو الاثنان دار الحرب مغيرين) ش: أي حال كونهم مغيرين من الإغارة، قال الكاكي: إنما ذكر بلفظ الجمع نظراً إلى قوله: أخذوا، فكان نظير قَوْله تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] (النساء: الآية 135) ، فرد الضمير إلى المعطوف والمعطوف عليه جميعاً في كلمة أو وإن كانت أو لأحد الشيئين م: (بغير إذن الإمام، فأخذوا شيئاً لم يخمس) ش: وقال الشافعي ومالك وأكثر أهل العلم: يخمس، لأنه مال حربي أخذتهن إن كان غنيمة فيخمس.
وأما ما ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله م: (لأن الغنيمة هي المأخوذة قهراً أو غلبة) ش: في بعض النسخ هو المأخوذ قهراً، أي من حيث القهر والغلبة م: (لا اختلاساً) ش: أي ليست الغنيمة هي المأخوذة من حيث الاختلاس.(7/177)
وسرقة والخمس وظيفتها.
ولو دخل الواحد أو الاثنان بإذن الإمام ففيه روايتان، والمشهور أنه يخمس، لأنه لما أذن لهم الإمام فقد التزم نصرتهم بالإمداد فصار كالمنعة، وإن دخلت جماعة لها منعة فأخذوا شيئا خمس وإن لم يأذن لهم الإمام، لأنه مأخوذ قهرا وغلبة، فكان غنيمة، ولأنه يجب على الإمام أن ينصرهم إذ لو خذلهم كان فيه وهن المسلمين، بخلاف الواحد والاثنين، لأنه لا يجب عليه نصرتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وسرقة) ش: أي من حيث السرقة م: (والخمس وظيفتها) ش: أي وظيفة الغنيمة والاختلاس والسرقة في دار الحرب كاكتساب مال مباح مثل الاصطياد والاحتطاب، وإنما ذكر واحد واثنين، وفي المنية: والثلاثة في حكم الاثنين، وفي كل يخمس وتوضع في بيت المال.
[دخول الواحد أو الاثنان دار الحرب بإذن الإمام]
م: (ولو دخل الواحد أو الاثنان بإذن الإمام ففيه روايتان، والمشهور أنه يخمس، لأنه لما أذن لهم الإمام فقد التزم نصرتهم بالإمداد) ش: بكسر الهمزة، أي بالآية م: (فصار كالمنعة) ش: أي فصار الإمام كالمنعة لهم، حيث أذن لهم، والرواية الأخرى وهي غير مشهورة، لأنه لا يخمس وهي رواية البرامكة، ذكرها الناطقي في الأجناس.
م: (وإن دخلت) ش: أي دار الحرب م: (جماعة لها منعة فأخذوا شيئا خمس وإن لم يأذن لهم الإمام) ش: هذا لفظ القدوري ولم ينص على قدر المنعة، وأشار في البرامكة في كتاب الخراج لابن شجاع إلى التسعة.
وفي " المحيط " عن أبي يوسف أنه قدر الجماعة التي لا منعة لها بتسعة تقود التي لها منعة بعشرة م: (لأنه مأخوذ قهراً وغلبة، فكان غنيمة) ش: فيخمس م: (ولأنه يجب على الإمام أن ينصرهم، إذ لو خذلهم) ش: بالخاء والذال المعجمتين، أي لو ترك عونهم ونصرتهم م: (كان فيه) ش: أي في خذلانهم ضعف المسلمين، يقال: خذلت الرجل أخذله خذلا وخذلاناً: إذا ترك معونته م: (وهن المسلمين) ش: أي ضعفهم، والوهن بسكون الهاء مصدر وهن يهن من باب ضرب يضرب، وبالفتح مصدر من باب وهن يهن من باب علم يعلم.
م: (بخلاف الواحد) ش: إذا دخل دار الحرب م: (والاثنين) ش: أي بخلاف الاثنين إذا دخلا دار الحرب م: (لأنه لا يجب عليه) ش: أي على الإمام نصرة الواحد والاثنين م: (نصرتهم) .(7/178)
فصل في التنفيل قال: ولا بأس بأن ينفل الإمام في حالة القتال ويحرض به على القتال فيقول: من قتل قتيلا فله سلبه، ويقول للسرية: قد جعلت لكم الربع بعد الخمس، معناه بعدما رفع الخمس، لأن التحريض مندوب إليه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] (الأنفال: الآية 65) ، وهذا نوع تحريض ثم قد يكون التنفيل بما ذكر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في التنفيل]
م: (فصل في التنفيل) ش: أي هذا فصل في بيان حكم التنفيل، وهو نوع من قسمة الغنيمة، فلذلك ألحقه بها، يقال: نفل الإمام الغازي: إذا أعطاه زائداً على سهمه بقوله: «من قتل قتيلاً فله سلبه» نفله نفلاً بالتخفيف، ونفله تنفيلاً بالتشديد، لغتان فصيحتان، كذا قال ابن دريد، والنفل بفتحتين: الغنيمة، وجمعه أنفال.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا بأس بأن ينفل الإمام في حالة القتال) ش: وفي " المبسوط ": ويستحب للإمام أن ينفل قبل الإصابة، فعلم من هذا ما قالوه أن لفظ لا بأس يستعمل فيما تركه أولى ليس بمجرى على عمومه، ولهذا قال في الكتاب: التحريض مندوب إليه، وإنما قيد بقوله: في حال القتال؛ لأن التنفيل إنما يصح عندنا إذا كان قبل الإصابة.
وعند الأوزاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصح بعد الإصابة في حق السلب للقاتل، كذا ذكره في الأسرار م: (ويحرض به) ش: أي بالتنفيل م: (على القتال فيقول) ش: أي الإمام [....] لتغير ما قبله م: (من قتل قتيلاً فله سلبه) ش: القتيل لا يقتل، إنما أريد به من يقدر له القتل من الكفار باعتبار المال.
م: (ويقول) ش: أي الإمام م: (للسرية) ش: وهي جيش قليل يسيرون، وقد مر الكلام فيه م: (قد جعلت لكم الربع بعد الخمس) ش: هذا كلام القدوري، وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (معناه) ش: أي معنى قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (بعدما رفع الخمس) ش: يعني ربع ما أصبتم بعد رفع خمسه م: (لأن التحريض مندوب إليه. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] (الأنفال: الآية 65) ، وهذا) ش: أي التنفيل م: (نوع تحريض) ش: لأن المنفل له يجد في القتال لأجل ما يحصل له من الزيادة على سهمه المعين المقدر.
فإن قيل: قوله: حرض، أمر، ومطلقه ينصرف إلى الوجوب.
أجيب: بأنه يعارضه دليل قسمة الغنائم، فانصرف إلى الاستحباب.
م: (ثم قد يكون التنفيل بما ذكر) ش: أي بما ذكر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو التنفيل بالربع(7/179)
وقد يكون بغيره، إلا أنه لا ينبغي للإمام أن ينفل بكل المأخوذ، لأن فيه إبطال حق الكل، فإن فعله مع السرية جاز، لأن التصرف إليه وقد تكون المصلحة فيه،
ولا ينفل بعد إحراز الغنيمة بدار الإسلام، لأن حق الغير قد تأكد فيه بالإحراز. قال: إلا من الخمس، لأنه لا حق للغانمين في الخمس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعد الخمس، أو التنفيل بالسلب م: (وقد يكون بغيره) ش: أي بغير ما ذكره ولا ينحصر بما ذكره، بل يجوز بغيره بأن يقول: جعلت لكم النصف بعد الخمس مثلاً، أو يقول: ما أصبتم فلكم، إلا أن الأولى أن لا يجعل بجميع المأخوذ، لأن فيه قطع الباقين من القراة، ومع هذا لو فعل جاز لما فيه من المصلحة على ما يجيء.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقال بعض الشارحين: أراد بقوله: وقد يكون بغيره نحو الذهب والفضة، وفيه نظر، لأنه دخل تحت ما ذكره في مختصر القدوري، لأن السلب يشتمل ما في وسط القتيل من الذهب والفضة، فكيف يكون غير ما ذكر المختصر.
قلت: أراد ببعض الشارحين صاحب " النهاية "، فإنه قال: وقد يكون بغيره نحو الذهب والفضة، وتبعه الأكمل على ذلك. وليس هذا محل نظر، لأن الغالب في السلب هو ما يكون على القتيل من سلاحه وثيابه، وكون الذهب والفضة في وسطه نادر، ومع هذا لو صرح الإمام في التنفيل بالذهب والفضة يجوز، وقال صاحب الإيضاح: ويجوز التنفيل بسائر الأموال من الذهب والفضة وغير ذلك.
م: (إلا أنه) ش: أي غير أن الشأن م: (لا ينبغي للإمام أن ينفل بكل المأخوذ، لأن فيه إبطال حق الكل) ش: أي حق كل الغزاة م: (فإن فعله مع السرية جاز) ش: أي فإن فعل الإمام التنفيل مع سرية يبعثها جاز م: (لأن التصرف إليه) ش: أي للإمام م: (وقد تكون المصلحة فيه) ش: أي في تنفيله كذلك.
وذكر في " السير الكبير ": إذا قال الإمام لعسكره جميعاًَ: ما أصبتم فلكم نفلاً بالسوية، لا يجوز، لأن المقصود من التنفيل التحريض على القتال، وإنما يحصل ذلك إذا خص البعض بالتنفيل، وكذلك إذا قال: ما أصبتم فهو لكم، ولم يقل: بعد الخمس، لأن فيه إبطال الخمس الذي أوجبه الله تعالى في الغنيمة وإبطال حق ضعفاء المسلمين، وذلك لا يجوز.
[النفل بعد إحراز الغنيمة بدار الإسلام]
م: (ولا ينفل بعد إحراز الغنيمة بدار الإسلام) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - (لأن حق الغير قد تأكد فيه بالإحراز) ش: أي بدار الإسلام.
فلا يجوز للإمام أن يقطع حق الغير م: (قال: إلا من الخمس) ش: أي قال القدوري: ولا ينفل بعد إحراز الغنيمة إلا من الخمس. وقال المصنف: م: (لأنه لا حق للغانمين في الخمس) ش:(7/180)
وإذا لم يجعل السلب للقاتل فهو من جملة الغنيمة، والقاتل وغيره في ذلك سواء.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: السلب للقاتل إذا كان من أهل أن يسهم له وقد قتله مقبلا لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من قتل قتيلا فله سلبه» والظاهر أنه نصب الشرع، لأنه بعث له، ولأن القاتل مقبلا أكثر غناء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فلا يلزم قطع حقهم، فيتصرف الإمام فيه على ما رأى من مصلحة في أموال المسلمين.
فإن قيل: إن لم يكن فيه إبطال حق الغانمين ففيه إبطال حق الأصناف الثلاثة، وذلك واجب بأن جوازه باعتبار أن المنفل له جعل واحداً من الأصناف الثلاثة.
فلم يكن ثمة إبطال حقهم، إذ يجوز صرف الخمس على أحد الأصناف الثلاثة لما تقدم أنهم مصارف لا يستحقون، لكن ينبغي أن يكون المنفل له فقيراً، لأن الخمس حق المحتاجين لا حق الأغنياء، فجعله للغني إبطال المحتاجين.
[من يستحق السلب من الغنيمة]
م: (وإذا لم يجعل السلب للقاتل فهو من جملة الغنيمة، والقاتل وغيره في ذلك سواء. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: السلب للقاتل) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إذا كان من أهل أن يسهم له) ش: أو من أهل أن يرضخ له عند أحمد. وعند الشافعي من أن يكون له الرضخ، فله في سلبه قولان، في قول كقول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي قول: لا سلب له م: (وقد قتله مقبلاً) ش: وقال الأترازي: قال الشافعي: إذا كان القاتل مقبلاً فالسلب للقاتل، انتهى. هذا مصرح أن مقبلاً حال من الضمير المرفوع في وقد قتله، وهذا سهو منه فإنه حال من الضمير المنصوب فيه كما ذكرنا، وقد كتب شيخي العلاء بيده: مقبلاً حال من المفعول، أي حال كون الكافر مقبلاً لا حال كونه مدبراً بالهزيمة.
وكذا قال تاج الشريعة في شرحه: قوله: مقبلاً حال من المفعول، لأن الشرط عنده، أي عند الشافعي كون القتيل مقبلاً، حتى لو قتل منهزماً أو نائماً أو مشغولاً بشيء لم يستحق السلب. قوله: مقبلاً، الواو فيه للحال، ومقبلاً حال أيضاً من الضمير المنصوب في قتله، احترز به عما إذا قتله مدبراً فإنه لا سلب له.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «من قتل قتيلاً فله سلبه» ش: هذا الحديث أخرجه الجماعة إلا النسائي عن أبي قتادة الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (والظاهر أنه) ش: أي أن هذا الحديث م: (نصب الشرع) ش: كما في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من بدل دينه فاقتلوه» ، فيكون السلب للقاتل سواء شرطه الإمام أو لم يشترط م: (لأنه بعث له) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث لنصب الشرع.
م: (ولأن القاتل مقبلاً) ش: أي كافراً مقبلاً إليه م: (أكثر غناء) ش: أي كفاية في الجهاد م:(7/181)
فيختص بسلبه إظهارا للتفاوت بينه وبين غيره. ولنا أنه مأخوذ بقوة الجيش غنيمة فيقسم قسمة الغنائم كما نطق به النص. وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لحبيب بن أبي سلمة: «ليس لك من سلب قتيلك إلا ما طابت به نفس إمامك»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(فيختص بسلبه إظهارا للتفاوت بينه وبين غيره) ش: أي بين قاتل الكافر المقبل وبين قاتل الكافر المدبر المعر، وقد شرح الأترازي هذا الموضع بناء على قوله: إن مقبلاً حال من القاتل، وقد ذكرنا أنه سهو منه، والمبني أيضاً سهو.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن السلب م: (مأخوذ بقوة الجيش غنيمة) ش: على وجه القهر م: (فيقسم قسمة الغنائم كما نطق به النص) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] .... الآية.
م: «وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لحبيب بن أبي سلمة ليس لك من سلب قتيلك إلا ما طابت به نفس إمامك» ش: قال مخرج أحاديث " الهداية ": هكذا وقع في الهداية حبيب بن أبي سلمة، وصوابه حبيب ابن مسلمة. قلت: هكذا هو في كتب أسماء الصحابة، قال أبو عمرو - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذكره في باب الحاء المهملة بفتح الحاء. وقال: حبيب بن مسلمة بن مالك الأكبر وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر بن مالك القرشي الفهري، يكنى أبا عبد الرحمن، يقال له: حبيب الروم، لكثرة دخوله إليهم وسلته منهم.
وولاه عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أعمال الجزيرة إذ عزل عنها عياض بن غنم، وضم إلى حبيب بن مسلمة أرمينية وأذربيجان وسلمان بن أبي ربيعة أحدهما مدد الصحابة، فتواعد بعضها بعضاً ومات بأرمينية سنة اثنتين وأربعين.
ثم حديثه الذي ذكره المصنف رواه الطبراني في " معجمه " الكبير والأوسط: حدثنا أحمد بن معلا الدمشقي والحسين بن إسحاق التستري وجعفر بن محمد الفريابي قالوا: حدثنا أحمد بن عمار أنا عمرو بن واقد أنا موسى بن سيار عن مكحول «عن جنادة بن أبي أمية قال: نزلنا دابقاً وعلينا أبو عبيدة بن الجراح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فبلغ حبيب بن مسلمة أن نبيه صاحب قبرص خرج يريد طريق أذربيجان ومعه زمرد وياقوت ولؤلؤ وغيرها فخرج إليه فقتله فجاء بما معه. فأراد أبو عبيدة أن يخمسه فقال له حبيب بن مسلمة: لا تحرمني رزقا رزقنيه الله تعالى، فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل السلب للقاتل، فقال معاذ: يا حبيب إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه» انتهى. وفي إسناده عمرو بن واقد الدمشقي البصري مولى قريش. قال(7/182)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك.
ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده حدثنا بقية بن الوليد حدثني رجل عن مكحول «عن جنادة بن أبي أمية قال: كنا معسكرين بدابق فذكر لحبيب بن مسلمة الفهري أن نبيه صاحب قبرص خرج بتجارته متجهاً بها إلى طريق أرمينية، فخرج عليه حبيب بن مسلمة فقاتله فجاء بسلبه يحمله على خمسة أبغال من الديباج والياقوت والزمرد والزبرجد.
فأراد حبيب أن يأخذه كله، وأبو عبيدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول بعضه، فقال حبيب لأبي عبيدة: قد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من قتل قتيلاً فله سلبه " فقال أبو عبيدة: لم يكن ذلك أبداً، وسمع معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بذلك فأتى أبا عبيدة وحبيب يخاصمه، فقال معاذ لحبيب: ألا تتقي الله وتأخذ ما طابت به نفس إمامك، فإنما لك ما طابت نفس إمامك.
وحدثهم معاذ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاجتمع رأيهم على ذلك فأعطوه بعد الخمس» فباعه حبيب بألف دينار، وذكره البيهقي في المعرفة بهذا الإسناد، ثم قال: وهو منقطع بين مكحول ومن فوقه، وراويه عن مكحول مجهول، وهذا الإسناد لا يحتج به، انتهى.
وفي هذا الموضع نظر [......] ثلاثة منها ترجع إلى كلام المصنف:
الأول: أنه ذكر حبيب بن أبي سلمة وليس في الصحابة إلا حبيب بن مسلمة، كما ذكرنا.
والثاني: أن الحديث الذي احتج به لأصحابنا ضعيف كما ذكرنا.
والثالث: أن هذا الحديث ليس لحبيب فإنه ما سمعه من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما هو لمعاذ بن جبل سمعه من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورد على حبيب حين أراد أن يستبد بالسلب الذي أخذه كما ذكرنا.
والنظر الرابع: يرجع إلى الشراح فإنهم كلهم تنكثوا عن التحرير في هذا الموضع ورضوا بما شرحوا فيه بما لا يرضى به من له أدني إلمام بالتصرف في الحديث، وجعلوا هذا حجة على الشافعي، وكيف يكون حجة وفيه ما ذكرنا.
واستدل الأترازي هنا لأصحابنا فقال: وروي في السنن وشرح الآثار مسنداً إلى عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من فعل كذا فله كذا " فذهبت شبان الرجال وحبست الشيوخ تحت الرايات، فلما كانت الغنيمة جاء الشبان يطلبون نفلهم، فقالت الشيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنا كنا تحت الرايات، ولو انهزمتم كنا ردأ لكم، فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] فقرأ حتى بلغ: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] أطيعوني في هذا الأمر كما رأيتم عاقبة أمري حيث خرجتم وأنتم(7/183)
وما رواه يحتمل نصب الشرع ويحتمل التنفيل، فنحمله على الثاني لما رويناه، وزيادة الغناء لا يعتبر في جنس واحد كما ذكرناه،
والسلب ما على المقتول من ثيابه وسلاحه ومركبه، وكذا ما على مركبه من السرج والآلة، وكذا ما معه على الدابة من ماله في حقيبته أو على وسطه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كارهون، فقسم بينهم بالسواء» ففي هذا الحديث دليل على أن السلب لا يكون للقاتل، لأنه لو كان له لأعطاه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خاصة دون غيره. انتهى.
واعترض عليه البيهقي بأن لا حجة لهم فيه، فإن غنيمة بدر كانت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنص الكتاب، فيعطي منها ما شاء. وقد قسم لجماعة لم يشهدوا ثم نزلت الآية في الغنيمة بعد بدر، فقضى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالسلب للقاتل، واستقر الأمر على ذلك. انتهى.
قلنا: حاصل هذا الكلام أن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل قتيلاً فله سلبه» على وجه التنفيل، وكذلك قال أبو عبيدة لم يقل ذلك للأبد ولاسيما إذا كان السلب كثيراً، ألا ترى إلى ما رواه الطبراني في " معجمه " عن الشعبي أن جرير بن عبد الله البجلي بارز مهران فقتله فقومت منطقته بثلاثين ألفا، فكتبوا إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال عمر: ليس هذا من السلب الذي يخمس، ولم ينفله وجعله مغنماً.
م: (وما رواه) ش: أي الشافعي م: (يحتمل نصب الشرع، ويحتمل التنفيل، فنحمله على الثاني) ش: أي لحمل الحديث الذي رواه الشافعي م: (لما رويناه) ش: أي حديث حبيب وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ليس لك من سلب القتيل إلا ما طابت به نفس إمامك» دفعاً للتعارض م: (وزيادة الغناء) ش: جواب عن قوله: لأن القاتل مقبلاً أكثر غناء، وهو أن زيادة الغناء في واحد م: (لا يعتبر في جنس واحد) ش:. وهو الكر والفر م: (كما ذكرناه) ش: إشارة إلى ما ذكره في فصل كيفية القسمة، ولأن الكر والفر من جنس واحد، وإلى قوله: تعذر اعتبار مقدار الزيادة، لأنه كم من واحد من الفرسان أو الرجال مثل الألف في الغناء، ولا يعتبر ذلك في استحقاق زيادة السهم، لأنه من جنس واحد.
[المراد بالسلب]
م: (والسلب ما على المقتول من ثيابه وسلاحه ومركبه) ش: بالرفع عطفاً على قوله ما على المقتول، أي السلب أيضاً مركبه م: (وكذا) ش: أي وكذا السلب م: (ما على مركبه من السرج والآلة) ش: أي وآلة السرج نحو بشرقه وخدامه وعبائه ولجامه.
م: (وكذا) ش: أي وكذا السلب م: (ما معه على الدابة من ماله في حقيبته) ش: وهو الوعاء الذي يجعل فيه الرجل حوائجه وزوادته فيه، ويجعل في مؤخر القتب. وفي الجمهرة الحقيبة الرقادة في مؤخر القتب م: (أو على وسطه) ش: نحو الهميان.(7/184)
وما عدا ذلك فليس بسلب، وما كان مع غلامه على دابة أخرى فليس بسلبه، ثم حكم التنفيل قطع حق الباقين، فأما الملك فإنما يثبت بعد الإحراز بدار الإسلام لما مر من قبل، حتى لو قال الإمام من أصاب جارية فهي له، فأصابها مسلم واستبرأها لم يحل له وطؤها، وكذا لا يبيعها، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال محمد - رحمه الله -: له أن يطأها ويبيعها، لأن التنفيل يثبت به الملك عنده كما يثبت بالقسمة في دار الحرب وبالشراء من الحربي ووجوب الضمان بالإتلاف قد قيل على هذا الاختلاف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وما عدا ذلك) ش: أي المذكور من هذه الأشياء م: (فليس بسلب) ش: وقال الشافعي: السلب ما كان عليه من ساحة الحرب كالثياب التي يقاتل فيها، والسلاح الذي به، والمركوب الذي يقاتل عليه، فأما ما في يده لا يقاتل به كالمنطقة والطوق والسوار والخاتم وما في وسطه من النفقة وحقيبته ففيه قولان:
أحدهما: أنه ليس من السلب وبه قال أحمد في رواية.
والثاني: أنه من السلب وهو قولنا، وعن أحمد في مركبه روايتان.
م: (وما كان مع غلامه على دابة أخرى فليس بسلبه) ش: بل هو من الغنيمة.
م: (ثم حكم التنفيل قطع حق الباقين، فأما الملك فإنما يثبت بعد الإحراز بدار الإسلام لما مر من قبل) ش: إشارة إلى ما ذكر في باب الغنائم بقوله: ولأن الاستيلاء إثبات اليد الحافظة والنافلة، والثانية منعدمة، أي اليد النافلة منعدمة قبل الإحراز فلا يثبت الملك.
م: (حتى لو قال الإمام: من أصاب جارية فهي له، فأصابها مسلم واستبرأها لم يحل له وطؤها، وكذا لا يبيعها، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: له أن يطأها ويبيعها) ش: ذكر الخلاف في الزيادات بين محمد وصاحبه، واعتمد عليه صاحب " الأسرار "، وتبعه صاحب " الهداية " ولم يذكر الخلاف في " السير الصغير "، واعتمد عليه الحاكم الشهيد في الكافي، وذكر الكرخي بين أبي حنيفة ومحمد، ولم يذكر قول أبي يوسف فقال: لا يطؤها عند أبي حنيفة خلافاً لمحمد، واعتمد عليه صاحب المختلف والمنظومة م: (لأن التنفيل يثبت به الملك عنده) ش: أي عند محمد.
وبه قالت الثلاثة: م: (كما يثبت) ش: أي الملك م: (بالقسمة في دار الحرب) ش: أي بقسمة الإمام الغنائم م: (وبالشراء من الحربي) ش: فإن اشترى جارية أو غيرها في دار الحرب من الحربي) م: (ووجوب الضمان بالإتلاف) ش: لفظ وجوب الضمان مرفوع بالابتداء وخبره قوله م: (قد قيل: على هذا الاختلاف) ش: وفي بعض النسخ وقد قيل بالواو، فيكون معطوفاً على قوله الملك، أي يثبت الملك ووجوب الضمان للمنفل له على ما أتلف [.....] سلبه الذي أصابه والأول أولى.(7/185)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإنما ذكره دفعاً لشبهة ترد على قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وبيان ذلك أن محمداً - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر في الزيادات أن المتلف السلب، نفله الإمام يضمن، لأن الحق متأكد ولم يذكر، فورد الضمان شبهة عليها، لأن الضمان دليل تمام الملك، فينبغي أن يحل الوطء على مذهبهما أيضاً بعد الاستبراء فقال في دفع ذلك: إنه أيضاً على الاختلاف، عند محمد: يضمن، وعندهما: لا يضمن، والله أعلم.(7/186)
باب استيلاء الكفار وإذا غلب الترك على الروم فسبوهم وأخذوا أموالهم ملكوها. لأن الاستيلاء قد تحقق في مال مباح وهو السبب على ما نبينه إن شاء الله تعالى، فإن غلبنا على الترك حل لنا ما نجده من ذلك اعتبارا بسائر أملاكهم، وإذا غلبوا على أموالنا - والعياذ بالله - وأحرزوها بدارهم ملكوها. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يملكونها، لأن الاستيلاء محظور ابتداء وانتهاء، والمحظور لا ينتهض سببا للملك على ما عرف من قاعدة الخصم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب استيلاء الكفار]
م: (باب استيلاء الكفار) ش: أي هذا باب في بيان استيلاء الكفار، وهذه الإضافة من قبيل إضافة المصدر إلى الفاعل، ولما شرع في استيلائهم بدأ باستيلاء بعضهم بعضاًَ فقال:
م: (وإذا غلب الترك على الروم) ش: الترك جمع تركي، والروم جمع رومي، والمراد كفار الترك ونصارى الروم م: (فسبوهم وأخذوا أموالهم ملكوها، لأن الاستيلاء قد تحقق في مال مباح وهو السبب) ش: أي الاستيلاء على مال مباح هو سبب الملك م: (على ما نبينه إن شاء الله تعالى) ش: أي عند قوله: وإذا غلبوا على أموالنا.
م: (فإن غلبنا على الترك حل لنا ما نجده من ذلك) ش: أي ما نجده في أيدي الترك مما أخذوه من الروم م: (اعتباراً بسائر أملاكهم) ش: أي قياساً على سائر أموال الترك، لأنهم لما ملكوا الذي أخذوه من الروم بالاستيلاء صار هو ومالهم الأصل سواء م: (وإذا غلبوا) ش: أي الكفار م: (على أموالنا والعياذ بالله وأحرزوها بدارهم ملكوها) ش: وبه قال مالك وأحمد إلا عند مالك يملكونها لمجرد الاستيلاء بدون الإحراز، ولأحمد روايتان، في رواية: مع مالك، وفي رواية: معنا.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يملكونها، لأن الاستيلاء محظور) ش: أي ممنوع حرام مطلقاً م: (ابتداء) ش: أي في دار الإسلام م: (وانتهاء) ش: أي بعد الإحراز بدار الحرب م: (والمحظور لا ينتهض سبباً للملك) ش: أي المحظور من وجه لا يكون سبباً للملك لأن المحظور من كل وجه وهو الباطل لا يكون سبباً للملك عندنا أيضاًَ كالبيع بالميتة والدم والخمر م: (على ما عرف من قاعدة الخصم) ش: وهي إراءة إليهم أن النهي بعد المشروعية عنده.
وقال الكاكي: وتقييده بقاعدة الخصم إنما يصح في المحظور من وجه دون وجه، كما في البيع الفاسد، أما المحظور من كل وجه لا يفيد الملك بالاتفاق كما في استيلاء المسلم على مال المسلم.
فإن قلت: يؤيد ما قاله الشافعي ما روي عن عمران بن الحصين «أن المشركين أغاروا على سرح(7/187)
ولنا أن الاستيلاء ورد على مال مباح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المدينة وذهبوا والعضباء وأسروا امرأة الراعي فانفلتت ذات ليلة فأتت بالعضباء فقعدت في عجزها ونذرت إن نجاها الله لتنحرنها، فلما قدمت المدينة ذكروا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " بئس ما جزتها، لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم " وأخذ ناقته» وعلم بهذا أن الكفار لا يملكون أموال المسلمين، فلو كانوا يملكون لملكت المرأة العضباء بالأخذ منهم.
قلت: ما كانوا أحرزوها بدارهم وأخذ المرأة العضباء كان قبله في الطريق. وقيل: الإحراز لا يثبت الملك. ودليلنا من القرآن قَوْله تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] .... (الحشر: الآية 8) ، فإنه تعالى سماهم فقراء، والفقير من لا ملك له، فلو لم يملك الكفار أموالهم لما سموا فقراء.
ودليلنا من المعقول هو قوله م: (ولنا أن الاستيلاء) ش: أي استيلاء الكفار م: (ورد على مال مباح) ش: لأن الاستيلاء عبارة عن الاقتدار على محل مطلقاً على وجه يتمكن من الانتفاع في الحال ومن الادخار في المآل، والاقتدار بهذه الصفة لا يكون إلا بعد الإحراز ثم بعد إحرازهم ارتفعت العصمة فورد الاستيلاء حينئذ على مال مباح لا على مال محظور، فصار كالاستيلاء على الصيد والحطب، ولهذا لا يملكون رقابنا.
فإن قيل: قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] (النساء: الآية 141) ، فكيف يملكون أموالنا بالاستيلاء والتمليك بالقهر من أقوى جهات السبيل؟.
قلنا: النص يتناول المؤمنين وهم لا يملكونهم بالاستيلاء، بل يملكون مالاً مباحاً كما ذكرنا.
فإن قلت: يرد عليكم الاسترداد بالملك القديم من الغازي الذي وقع في قسمته، أو من الذي اشتراه من أهل دار الحرب بدون رضى الغازي.
قلت: أجيب بأن بقاء حق الاسترداد بحق المالك القديم، لا يدل على قيام الملك للمالك القديم، ألا ترى أن للواهب الرجوع في الهبة والإعادة إلى قديم ملكه بدون رضى الموهوب له مع زوال ملك الواهب في الحال، وكذا الشفيع يأخذ الدار من المشتري بحق الشفعة بدون رضى المشتري مع ثبوت الملك له.
قلت: القياس على الهبة فيه نظر على ما لا يخفى.
فإن قلت: لا نسلم أن المال مباح بأصل الخلقة.
قلت: إنه مباح به لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] (البقرة: الآية 29) ، واللام للاختصاص، فيقتضي الاختصاص لجهة الانتفاع مطلقاً دون اختصاص الواحد بشيء من(7/188)
فينعقد سببا للملك دفعا لحاجة المكلف، كاستيلائنا على أموالهم، وهذا لأن العصمة تثبت على منافاة الدليل ضرورة تمكن المالك من الانتفاع، فإذا زالت المكنة عاد مباحا كما كان، غير أن الاستيلاء لا يتحقق إلا بالإحراز بالدار، لأنه عبارة عن الاقتدار على المحل حالا ومآلا، والمحظور لغيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك، لأن فيه منع الباقين من الانتفاع، وقد أضيف إليهم جميعاً بحرف الاختصاص.
م: (فينعقد) ش: أي ورود الاستيلاء على مال مباح م: (سبباً للملك دفعاًَ لحاجة المكلف كاستيلائنا على أموالهم) ش: بعد الإحراز، وإنما تثبت العصمة للمال لتمكن المالك من الانتفاع ودفع الحاجة، لأنه إذا لم يكن معصوماً كان كل واحد بسبيل من التعرض، فلا تحصل المصلحة المطلوبة من العصمة، وهي التمكن من الانتفاع ودفع الحاجة بعد إحرازهم، ارتفعت العصمة، فعاد مباحاً فملكوه بالاستيلاء.
م: (وهذا) ش: إشارة إلى أن الاستيلاء ورد على مال مباح، وبينه بقوله م: (لأن العصمة) ش: أي في المال م: (تثبت على منافاة الدليل) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] (البقرة: الآية 29) ، يقتضي أن لا يكون مالاً معصوماً لشخص، وإنما تثبت العصمة.
م: (ضرورة) ش: أي لضرورة م: (تمكن المالك من الانتفاع، وإذا زالت المكنة عاد مباحاً كما كان) ش: في الأصل.
وفي " الكافي ": قوله في " الهداية ": لأن العصمة تثبت على منافاة الدليل، إلى قوله: عاد مباحاً، مشكل، فإنا إذا غلبنا على أموال أهل البغي وأحرزنا بدارنا لم يملكها مع زوال المكنة. إلا أن يقال أراد به زوال المكنة بالإحراز بدار الحرب.
ثم أصل الدار واحدة وهي بحكم الديانة مختلفة. فتثبت العصمة من وجه دون وجه، فلم يثبت الملك بالشك، بخلاف أهل الحرب، لأن الدار مختلفة. والنعت متباينة من كل وجه، فبطلت العصمة لنا في حقهم.
م: (غير أن الاستيلاء لا يتحقق إلا بالإحراز بالدار، لأنه) ش: أي لأن الاستيلاء م: (عبارة عن الاقتدار على المحل حالاً) ش: أي بالانتفاع بالمال في الحال م: (ومآلاً) ش: أي عاقبة، يعنى بالادخار إلى الزمن الثاني م: (والمحظور لغيره) ش: جواب عن قول الخصم: إن الاستيلاء محظور لا ينتهض سبباً للملك.(7/189)
إذا صلح سببا لكرامة تفوق الملك، وهو الثواب الآجل، فما ظنك بالملك العاجل، فإن ظهر عليها المسلمون فوجدها المالكون قبل القسمة فهي لهم بغير شيء، وإن وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة إن أحبوا؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيه: إن وجدته قبل القسمة فهو لك بغير شيء، وإن وجدته بعد القسمة فهو لك بالقيمة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تقريره أن يقال: سلمنا أنه محظور، لكنه محظور لغيره مباح في نفسه، يعني أن المال مباح لعينه، لكن الحظر فيه لحق الغير وهو المالك، والمحظور لغيره، يعني لا لعينه م: (إذا صلح سبباً لكرامة تفوق الملك) ش: كالصلاة في الأرض المغصوبة، فإنها تصلح سبباً لاستحقاق إعلاء النعم وهو الثواب في الآخرة، فلأن يصلح للملك سبباً للملك في الدنيا أولى، وهو معنى قوله: م: (وهو الثواب الآجل) ش: يعني في الآخرة م: (فما ظنك بالملك العاجل) ش: يعني في الدنيا على أنا نقول: المحظور قد يصلح أن يكون سبباً للملك، كما في السوم على سوم أخيه، والبيع عند الأذان يوم الجمعة وبيع الحاضر للبادي، وبيع المتلقي للسلعة، فانتقض أصله حينئذ.
وفي " الكافي ": والمحظور بغيره، إلى قوله: بالملك العاجل، مشكل أيضاً، لأن العصمة لا تخلو إما أن زالت بالإحراز بدارهم أو لا، فإن زالت لا يكون الاستيلاء محظورا؛ لما مر أنه على مال مباح، وإن لم يترك لم تصر ملكاً لهم، كما في مسألة البغاة، إلا أن يقال: العصمة المؤثمة باقية، لأنها بالإسلام، وإن زالت بالقوة لأنها بالدار.
م: (فإن ظهر عليها المسلمون) ش: أي فإن غلب المسلمون على الأموال التي أخذها الكفار منا م: (فوجدها المالكون قبل القسمة فهي) ش: أي تلك الأموال م: (لهم) ش: أي للملاك م: (بغير شيء) ش: يعني يأخذونها مجاناً م: (وإن وجدوها بعد القسمة) ش: أي بعد قسمة الإمام الغنائم م: (أخذوها بالقيمة إن أحبوا) ش: يعني إن أرادوا أن يأخذوها يأخذونها بقيمتها.
قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يأخذون في الوجهين بغير شيء.
قلت: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولكن الإمام يعوض من وقع في سهمه من بيت المال، وإن لم يكن في بيت المال شيء أعاد القسمة.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (فيه) ش: أي هذا الحكم م: (إن وجدته قبل القسمة فهو لك بغير شيء، وإن وجدته بعد القسمة فهو لك بالقيمة) ش: هذا الحديث أخرجه الدارقطني ثم البيهقي في سننهما عن الحسن بن عمارة عن عبد الملك بن ميسرة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال فيما أحرزه العدو فاستنقذه المسلمون منهم: " إن وجده(7/190)
ولأن المالك القديم زال ملكه بغير رضاه، فكان له حق الأخذ نظرا له إلا أن في الأخذ بعد القسمة ضررا بالمأخوذ منه بإزالة ملكه الخاص فيأخذه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صاحبه قبل أن يقسم فهو أحق به، وإن وجده قد قسم به فإن شاء أخذه بالثمن» وقال: الحسن بن عمارة متروك.
وروى الطبراني في " معجمه " عن ياسين الزيات عن سماك بن حرب عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أصاب العدو ناقة رجل من بني سليم، ثم اشتراها رجل من المسلمين فعرفها صاحبها. فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره فأمره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالثمن الذي اشتراها به صاحبها من العدو، وإلا يخلي بينه وبينها» رواه أبو داود في مراسليه عن تميم بن طرفة قال: «وجد رجل مع رجل ناقة له فارتفعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأقام البينة أنها ناقته، وأقام الآخر البينة أنه اشتراها من العدو، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن شئت أن تأخذها بالثمن الذي اشتراها به فأنت أحق به، وإلا فخل ناقته» وقال عبد الحق: ياسين ضعيف.
وأخرج الدارقطني أيضاًَ في سننه عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من وجد ماله في الفيء قبل أن يقسم فهو له، ومن وجده بعدما قسم فليس له شيء» ، قال الدارقطني: إسحاق متروك، وهذا كما رأيت كله لا يرضى به الخصم، ولم يبق إلا أن يحتج بما رواه الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهذا في " سننه " عن قبيصة بن ذؤيب أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ما أصاب المشركون من أموال الناس فظهر عليهم فرأى رجل متاعه بعينه فهو أحق به من غيره، فإذا قسم ثم ظهر عليه فلا شيء له، إنما هو رجل منهم.
وكذا روى أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه عن خلاس عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحوه، قال البيهقي: رواية خلاس عن علي ضعيفة.
قلت: قال ابن حزم: رواية خلاس عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صحيحة.
م: (ولأن المالك القديم زال ملكه بغير رضاه، فكان له حق الأخذ نظراً له) ش: فيأخذه بغير شيء قبل القسمة، لأن الملك في المغنوم عام بين الغانمين، فقل الضرر عليهم م: (إلا أن في الأخذ) ش:(7/191)
بالقيمة ليعتدل النظر من الجانبين، والشركة قبل القسمة عامة فيقل الضرر فيأخذه بغير قيمة.
وإن دخل دار الحرب تاجر فاشترى ذلك وأخرجه إلى دار الإسلام، فمالكه الأول بالخيار إن شاء أخذه بالثمن الذي اشتراه وإن شاء تركه، لأنه يتضرر بالأخذ مجانا، ألا ترى أنه قد دفع العوض بمقابلته، فكان اعتدال النظر فيما قلناه. ولو اشتراه بعوض يأخذه بقيمة العوض. ولو وهبوه لمسلم يأخذه بقيمته لأنه ثبت له ملك خاص، فلا يزال إلا بالقيمة، ولو كان مغنوما وهو مثلي يأخذه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي غير أن في أخذ المالك القديم م: (بعد القسمة ضرراً بالمأخوذ منه بإزالة ملكه الخاص، فيأخذه بالقيمة ليعتدل النظر من الجانبين) ش: بغير جانب المالك القديم والمالك الجديد م: (والشركة قبل القسمة) ش: أي قبل قسم الإمام الغنيمة م: (عامة) ش: بينهم م: (فيقل الضرر، فيأخذه بغير قيمة) ش: والدليل على عموم الملك بين الغانمين أن واحداً من الغانمين لو استولد جارية من المغنم، لم يثبت النسب لعدم الملك لعموم الشركة، بخلاف ما بعد القسمة حيث يأخذه بالقيمة.
[شراء الذي استولى عليه الحربي]
م: (وإن دخل دار الحرب تاجر فاشترى ذلك) ش: أي الذي استولى عليه الحربي م: (وأخرجه) ش: أي أخرج ذلك الشيء م: (إلى دار الإسلام، فمالكه الأول بالخيار، إن شاء أخذه بالثمن الذي اشتراه) ش: أي التاجر، والقول في الثمن قول المشتري مع يمينه، كذا ذكره الحاكم الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإن شاء تركه لأنه) ش: أي لأن التاجر م: (يتضرر بالأخذ مجاناً) ش: يعني بغير شيء م: (ألا ترى أنه) ش: أي أن التاجر م: (قد دفع العوض بمقابلته) ش: أي بمقابلة ذلك الشيء الذي اشتراه م: (فكان اعتدال النظر فيما قلناه) ش: وهو قوله: ليعتدل النظر من الجانبين.
م: (ولو اشتراه بعوض) ش: أي الشيء بالشيء م: (يأخذه بقيمة العوض) ش: أي بقيمة ذلك العوض الذي اشتراه.
م: (ولو وهبوه لمسلم) ش: أي ولو وهب أهل الحرب ذلك الشيء لمسلم م: (يأخذه) ش: يعني صاحبه يأخذه م: (بقيمته) ش: أي بقيمة ذلك الشيء م: (لأنه ثبت له) ش: أي للموهوب له م: (ملك خاص) ش: بالهبة م: (فلا يزال إلا بالقيمة) ش: قيل على أن الملك يثبت للموهوب له مجاناً، فلا يتضرر بالأخذ منه مجاناً، بخلاف ما يثبت لأحد الغزاة بالقسمة، لأن هذا الحق إنما تعين له بأداء ما انقطع من حقه عما في أيدي الباقين.
وأجيب: بأن الملك هاهنا أيضاًَ يثبت بالعرض معنى، لأن المكافأة مقصودة في الهبة وإن لم تكن مشروطة، فجعل ذلك معتبراً في إثبات حقه في القيمة.
م: (ولو كان) ش: أي ما أخذه الكفار من المسلمين م: (مغنوماً) ش: أي مأخوذا بالقهر والغلبة م: (وهو مثلي) ش: أي والحال أنه مثلي كالذهب والفضة والحنطة والشعير م: (يأخذه) ش:(7/192)
قبل القسمة ولا يأخذه بعدها، لأن الأخذ بالمثل غير مفيد، وكذا إذا كان موهوبا لا يأخذه لما بينا. وكذا إذا كان مشترى بمثله قدرا ووصفا. قال: فإن أسروا عبدا فاشتراه رجل وأخرجه إلى دار الإسلام، ففقئت عينه وأخذ أرشها، فإن المولى يأخذه بالثمن الذي أخذ به من العدو، أما الأخذ بالثمن فلما قلنا، ولا يأخذ الأرش، لأن الملك فيه صحيح، فلو أخذه أخذه بمثله وهو لا يفيد ولا يحط شيء من الثمن، لأن الأوصاف لا يقابلها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي صاحبه وهو المالك القديم م: (قبل القسمة) ش: بلا شيء.
م: (ولا يأخذه بعدها) ش: أي بعد القسمة م: (لأن الأخذ بالمثل غير مفيد) ش: لأنه لو أخذه أخذ بالمثل ولا فائدة فيه م: (وكذا) ش: حكم المثلي م: (إذا كان موهوباً لا يأخذه) ش: لا يأخذه المالك القديم بعدم الفائدة م: (لما بينا) ش: إشارة إلى قوله: لأن الأخذ بالمثل غير مفيد.
م: (وكذا إذا كان مشترى بمثله قدراً ووصفاً) ش: أي وكذا لا يأخذه المالك القديم أيضاً إذا كان ما أخذه الكفار منا وأحرزوه بدارهم مشترى بمثله قدراً ووصفاً، لأنه لا فائدة في أن يعطي عشرة مثاقيل جياد، ويأخذ عشرة مثاقيل جياد، أو يعطي عشرة أقفز جيدة، ويأخذ عشرة أقفز جيدة.
وإنما قيد بقوله: قدراً ووصفاً، احترازاً عما لو اشتراه المسلم بأقل قدراً منه أو بجنس آخر أو بجنسه، ولكنه أردأ منه وصفاً، فإن له أن يأخذه بمثل المشترى، ولا يكون ذلك رباً، لأنه إنما قدر ليستخلص ملكه ويعيده إلى قديم ملكه، لا أنه يشتريه ابتداء.
م: (قال) ش: أي محمد - رحمة الله عليه - م: (وإن أسروا عبداً فاشتراه رجل وأخرجه إلى دار الإسلام ففقئت عينه وأخذ) ش: أي المولى م: (أرشها) ش: أي أرش العين م: (فإن المولى) ش: أي المولى الأول م: (يأخذه) ش: أي يأخذ العبد م: (بالثمن الذي أخذ به من العدو، وأما الأخذ بالثمن فلما قلنا) ش: إشارة إلى قوله: لأنه يتضرر بالأخذ مجاناً م: (ولا يأخذ) ش: أي المالك القديم م: (الأرش، لأن الملك فيه صحيح) ش: احتراز عن الشراء الفاسد، فإن الوصف فيه مضمون.
م: (فلو أخذه) ش: أي المالك لو أخذ الأرش م: (أخذه بمثله وهو لا يفيد) ش: لأن الأرش دراهم أو دنانير م: (ولا يحط شيء من الثمن) ش: يعني إذا أخذ الأرش لا يحط شيء من الثمن بسبب فقء العين، لأن العين بمنزلة الوصف لأنه يحصل بها صفة الكمال في الذات فيه، ولا ينحط شيء من الثمن م: (لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن) ش: وفي النهاية في قوله لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن نظر.
قال الكاكي: قال شيخي العلامة: وهو مشكل، وهكذا ذكر في الكافي، لأن الأوصاف إنما لا يقابلها شيء من الثمن إذا لم يصر مقصوداً بالتناول، فأما إذا صار مقصوداً فله حط من الثمن، كما لو اشترى عبداً ففقئت عينه ثم باعه مرابحة، فإنه يحط من الثمن ما يخص العين،(7/193)
شيء من الثمن بخلاف الشفعة؛ لأن الصفقة لما تحولت إلى الشفيع صار المشترى في يد المشتري بمنزلة المشترى شراء فاسدا، والأوصاف تضمن فيه كما في الغصب، أما هاهنا الملك صحيح فافترقا. وإن أسروا عبدا فاشتراه رجل بألف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بخلاف ما إذا عورت، ذكره في " الفوائد الفهيرية ".
وكما في مسألة الشفعة المذكورة في الكتاب، وهنا صارت مقصودة بالتناول، فينبغي أن يكون للمالك القديم حط ما يخص العين من الثمن.
أجيب عنه: بأن الوصف إنما بمقابلة شيء من الثمن عند صيرورته مقصوداً بالتناول في الملك الفاسد، أو في موضع الشبهة، كما في المسائل المذكورة، فإن الملك في المشترى بالنسبة إلى الشفيع كالفاسد.
وفي مسألة المرابحة الشبهة تلحقه بالحقيقة لا لإثبات المرابحة على الأمانة دون الخيانة، وهذا لأن الوصف مضمون في الغضب مراعاة لحق المالك.
وكذا في الشراء الفاسد، أما في الشراء الصحيح الثمن يقابل العين لا الوصف، إذ الوصف تابع، ولهذا لو ظهر للمبيع وصف مرغوب قد نفياه عند العقد، لم يكن للبائع أن يطالب بمقابله شيئاً وقد فات الملك في ملك صحيح، وبذهابه لا يسقط شيء من الثمن، لأنه تابع. ألا ترى أنه لو اشترى عبداً فذهبت يده أو عينه لا يسقط شيء من الثمن.
م: (بخلاف الشفعة) ش: يعني بخلاف الوصف في مسألة الشفعة، حيث يقابله شيء من الثمن. قال الكاكي: قوله: بخلاف الشفعة، إنما يستقيم فيما إذا كان فوات الأوصاف في الشفعة بفعل قصدي، فحينئذ يقابلها شيء من الثمن في الشفعة، بخلاف مسألتنا، أما إذا كان فواتها بآفة سماوية في الشفعة بأن حرق البستان فلا يقابلها شيء من الثمن، فحينئذ لا تخالف مسألة الشفعة مسألتنا.
م: (لأن الصفقة لما تحولت إلى الشفيع صار المشترى) ش: بفتح الراء م: (في يد المشتري) ش: بكسر الراء م: (بمنزلة المشترى) ش: بفتح الراء م: (شراء فاسداً، والأوصاف تضمن فيه) ش: أي في الشراء الفاسد، لأنه واجب الرد.
م: (كما في الغضب) ش: إذ الواجب فيه القيمة باعتبار القبض وهو يرد على المجموع. م: (أما هاهنا) ش: أي فيما إذا اشترى من العدو م: (الملك صحيح فافترقا) ش: أي الملك الصحيح، والمشترى شراء فاسداً.
م: (وإن أسروا عبداً) ش: أي وإن أسر أهل الحرب عبداً من المسلمين م: (فاشتراه رجل بألف(7/194)
درهم فأسروه ثانية وأدخلوه دار الحرب فاشتراه رجل آخر بألف درهم، فليس للمولى الأول أن يأخذه من الثاني بالثمن، لأن الأسر ما ورد على ملكه، وللمشتري الأول أن يأخذ من الثاني بالثمن، لأن الأسر ورد على ملكه، ثم يأخذه المالك القديم بألفين إن شاء، لأنه قام عليه بالثمنين فيأخذه بهما، وكذا إذا كان المأسور منه الثاني غائبا، ليس للأول أن يأخذه اعتبارا بحال حضرته.
ولا يملك علينا أهل الحرب بالغلبة مدبرينا وأمهات أولادنا ومكاتبينا وأحرارنا، ونملك عليهم جميع ذلك، لأن السبب إنما يفيد الملك في محله، والمحل المال المباح والحر معصوم بنفسه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
درهم فأسروه ثانية) ش: أي مرة ثانية م: (وأدخلوه دار الحرب، فاشتراه رجل آخر بألف درهم، فليس للمولى الأول أن يأخذه من الثاني) ش: لأن الأسر ما ورد على ملكه، وللمشتري الأول أن يأخذه من الثاني.
م: (بالثمن لأن الأسر ما ورد على ملكه، وللمشتري الأول أن يأخذ من الثاني بالثمن، لأن الأسر ورد على ملكه ثم يأخذه المالك القديم بألفين إن شاء، لأنه قام عليه) ش: أي على المشتري الأول م: (بالثمنين فيأخذه بهما، وكذا إذا كان المأسور منه الثاني) ش: وهو المشتري الأول م: (غائباً ليس للأول) ش: أي للمولى الأول وهو المالك القديم م: (أن يأخذه اعتبار بحال حضرته) ش: أي بحضرة المأسور منه الثاني وهو المشتري الأول.
قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: واعترض على قوله: وللمشتري الأول أن يأخذه من الثاني بالثمن، ما قالوا ببقاء حق الآخذ الذي اشتراه من العدو وتضرر المالك، لأنه حينئذ يأخذه بالثمن.
وأجيب: بأن رعاية حق من اشتراه من العدو أولاً أولى، لأن حقه يعود في الألف التي بعدها بلا عوض يقابلها، والمالك القديم يلحقه الضرر، ولكن يعوض بمقابله وهو العبد، فكان ما قلناه أولى.
م: (ولا يملك علينا أهل الحرب بالغلبة مدبرينا وأمهات أولادنا ومكاتبينا وأحرارنا، ونملك عليهم) ش: أي على أهل الحرب إذا غلبنا عليهم م: (جميع ذلك) ش: إشارة إلى ذكر من تقدم [ ... ] وغيرهم.
وفائدة ذلك أن المولى يأخذه وهؤلاء بلا شيء قبل القسمة، وبعدها، كذلك إن اشترى رجل واحداً من ما ذكرنا من أهل الحرب بعد استيلائهم بأخذ المولى بلا شيء، والأصل فيه ما ذكرنا في شرح الطحاوي أن كل ما يملك بالميراث يملك بالأسر والاسترقاق والقهر والغلبة.
وكل ما لا يملك بالميراث لا يملك بالأسر والاسترقاق والقهر والغلبة م: (لأن السبب) ش: وهو الاستيلاء م: (إنما يفيد الملك في محله) ش: يعني إذا قصد بالمحل كما في سائر الأسباب م: (والمحل المال المباح، والحر معصوم بنفسه) ش: باعتبار أن الآدمي خلق للحمل لأعباء التكاليف،(7/195)
وكذا من سواه لأنه تثبت الحرية فيه من وجه، بخلاف رقابهم، لأن الشرع أسقط عصمتهم جزاء على جنايتهم وجعلهم أرقاء، ولا جناية من هؤلاء.
وإذا أبق عبد مسلم لمسلم فدخل إليهم فأخذوه لم يملكوه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يملكونه، لأن العصمة لحق المالك لقيام يده، وقد زالت. ولهذا لو أخذوه من دار الإسلام ملكوه. وله أنه ظهرت يده على نفسه بالخروج من دارنا، لأن سقوط اعتبارها لتحقق يد المولى عليه تمكينا له من الانتفاع وقد زالت يد المولى فظهرت يده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولا قدرة على التكليف إلا بواسطة العصمة، فكان التعرض له حراماً. م: (وكذا من سواه) ش: أي من سوى الحر من أم الولد والمدبر والمكاتب، فللمالك أن يأخذهم قبل القسمة بغير شيء، وقال مالك وأحمد: يملكون المدبر والمكاتب بالاستيلاء حتى يأخذهما سيدهما بالقيمة في الهبة وبالثمن بالشراء، أو في أم الولد لا يملكونها عند أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الزهري: يأخذها سيدها بالقيمة في الهبة. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يفديها الإمام، فإن لم يفعل يأخذها سيدها بالقيمة ولا يدعها يستحل فرجها من لا يحل له م: (لأنه تثبت الحرية فيه) ش: أي فيمن سوى الحر م: (من وجه) ش: لاستحقاقهم الحرية، ولهذا لا يصح أن يملكهم بالعقود.
م: (بخلاف رقابهم) ش: أي رقاب أهل الحرب م: (لأن الشرع أسقط عصمتهم جزاء على جنايتهم وجعلهم أرقاء) ش: لأنهم لما أنكروا وحدانية الله تعالى جازاهم بأن جعلهم عبيد عبيده م: (ولا جناية من هؤلاء) ش: أي من أحرارنا ومدبرينا وأمهات أولادنا ومكاتبينا، لأنه لم يوجد منهم جناية الكفر فلا يستحقون الرق.
[أبق عبد مسلم لمسلم فدخل إلى أهل الحرب فأخذوه]
م: (وإذا أبق عبد مسلم لمسلم فدخل إليهم) ش: أي إلى أهل الحرب م: (فأخذوه لم يملكوه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال أحمد في رواية والشافعي. وقيل المسلم اتفاقي والحكم في عبد الذمي كذلك.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد: م: (يملكونه) ش: وبه قال مالك وأحمد في المشهور عنه م: (لأن العصمة) ش: أي العصمة الموجودة في العبد كانت م: (لحق المالك لقيام يده عليه وقد زالت) ش: يده، فزالت العصمة م: (ولهذا) ش: أي زوال يده م: (لو أخذوه) ش: أي العبد م: (من دار الإسلام ملكوه) ش: ولو كانت العصمة بالإسلام لما ملكوه، كذا قال تاج الشريعة.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (أنه) ش: أي أن العبد م: (ظهرت يده على نفسه بالخروج من دارنا، لأن سقوط اعتبارها) ش: أي اعتبار يد العبد م: (لتحقق يد المولى عليه تمكينا له من الانتفاع) ش: أي لأجل تمكن المولى من الانتفاع به م: (وقد زالت يد المولى فظهرت يده(7/196)
على نفسه وصار معصوما بنفسه، فلم يبق محلا للملك، بخلاف المتردد، لأن يد المولى باقية لقيام يد أهل الدار، فمنع ظهور يده. وإذا لم يثبت الملك لهم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يأخذه المالك بغير شيء موهوبا كان أو مشترى أو مغنوما قبل القسمة، وبعد القسمة يؤدى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على نفسه) ش: لأنه حين دخل دار الحرب زالت يد المولى فظهرت يده على نفسه عنه لا إلى من صار يخلفه، لأن يد المولى عبارة عن القدرة على التصرف في المحل كيف شاء ولم يبق ذلك م: (وصار) ش: أي العبد م: (معصوماً بنفسه فلم يبق محلاً للملك) ش: لأنه يصير في يد نفسه وهي يد محترمة يمنع الإحراز، فيمنع التملك، لأنه يملك بدون الإحراز.
فإن قيل: لا نسلم أنها زالت لا إلى من يخلفه، فإن يد الكفرة قد خلفت يد المولى، لأن دار الحرب في أيديهم.
أجيب: بأن بين الدارين حداً لا يكون في يد أحد، وعند ذلك تظهر يد العبد على نفسه، ولأن يد الدار يد حكمية، ويد العبد يد حقيقية فلا تندفع بيد الدار، إليه أشار فخر الإسلام، وفيه نظر، لأن حصول اليد الحقيقية في غيره الفراغ. والجواب أن اليد كما ذكرنا عبارة عن القدرة على التصرف كيف شاء وحين دخول العبد في دار الحرب يحصل له ذلك قبل استيلاء الكفرة عليه.
فإن قيل: لو حصل له يد حقيقة لعتق، وليس كذلك.
أجيب: بمنع الملازمة، لأن ظهور يده على نفسه لا يستلزم زوال ملك المولى، فإنه لما ظهرت يده على نفسه صار غاصباً ملك المولى، وجاز أن تؤخذ اليد بلا ملك، كما في المغصوب والمشترى قبل القبض، فإن الملك للمولى واليد لغيره.
م: (بخلاف المتردد) ش: أي خلاف العبد الآبق المتردد في دار الحرب وهو الذي يدور في دار الإسلام م: (لأن يد المولى باقية لقيام يد أهل الدار) ش: لأن الاقتدار على المحل قائم بالطلب، والاستعانة بأهل الدار م: (فمنع ظهر يده) ش: لنفسه، ولهذا لو وهبه لابنه الصغير صار قابضاً له لبقاء يده حكماً.
م: (وإذا لم يثبت الملك لهم) ش: أي لأهل الحرب على العبد م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يأخذه المالك القديم بغير شيء) ش: سواء كان العبد م: (موهوباً) ش: لأحد من أهل الحرب م: (كان أو مشترى) ش: أي لو كان العبد مشترى بأن اشتراه أحد منهم م: (أو مغنوماً) ش: أي لو كان المولى وحده مغنوماً في يد الغانمين.
هذا كله إذا كان م: (قبل القسمة، وبعد القسمة يؤدى) ش: أي على صيغة المجهول، أي(7/197)
عوضه من بيت المال، لأنه لا يمكن إعادة القسمة لتفرق الغانمين وتعذر اجتماعهم، وليس له على المالك جعل الآبق، لأنه عامل لنفسه إذ في زعمه أنه ملكه. وإن ند بعير إليهم فأخذوه ملكوه لتحقق الاستيلاء، إذ لا يد للعجماء لتظهر عند الخروج من دارنا، بخلاف العبد على ما ذكرنا، وإن اشتراه رجل وأدخله دار الإسلام فصاحبه يأخذه بالثمن إن شاء لما بينا، فإن أبق عبد إليهم وذهب معه بفرس ومتاع فأخذ المشركون ذلك كله، واشترى رجل ذلك كله وأخرجه إلى دار الإسلام، فإن المولى يأخذ العبد بغير شيء، والفرس والمتاع بالثمن، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يؤدي للمولى م: (عوضه من بيت المال) ش: ولا يعطي المشتري العوض، لأنه قد يكون ملكه بغير أمره، فكان متبرعاً، حتى لو أمره بذلك رجع على المشتري بالثمن، وأما المولى فإنما يأخذ عوضه من بيت المال م: (لأنه لا يمكن إعادة القسمة لتفرق الغانمين وتعذر اجتماعهم) ش: وإنما يعوض من بيت المال، لأن هذه من نوائب المسلمين ومال بيت المال معد لذلك.
م: (وليس له على المالك) ش: أي للغازي أو للتاجر أو للموهوب له م: (جعل الآبق لأنه) ش: أي لأن كل واحد من هؤلاء م: (عامل لنفسه) ش: في زعمه م: (إذ في زعمه أنه ملكه) ش: أي أن العبد، فيكون عاملاً لنفسه لا للمولى القديم.
م: (وإن ند بعير إليهم) ش: أي ذهب على وجهه شارداً، يقال: ند يند نداً، أو ندوداً من باب ضرب يضرب م: (فأخذوه ملكوه لتحقق الاستيلاء، إذ لا يد للعجماء) ش: أي البهمية، وإنما سميت عجماء، لأنها لا تتكلم، فكذلك كل من لم يقدر على الكلام فهو أعجم ومستعجم.
وقال: «صلاة النهار عجماء» ؛ لأنها لا يجهر فيها بالقراءة م: (لتظهر عند الخروج من دارنا) ش: أي دار الإسلام م: (بخلاف العبد) ش: إذا أبق، لأن له يداً للظهور عند الخروج م: (على ما ذكرنا) ش: إشارة إلى قوله: إنه ظهرت يده على نفسه بالخروج من دارنا.
م: (وإن اشتراه رجل) ش: أي وإن اشترى هذا البعير، رجل منهم م: (وأدخله دار الإسلام فصاحبه يأخذه بالثمن إن شاء لما بينا) .
ش: وإن شاء تركه م: (فإن أبق عبد إليهم وذهب معه بفرس ومتاع فأخذ المشركون ذلك كله، واشترى رجل ذلك كله وأخرجه إلى دار الإسلام، فإن المولى يأخذ العبد بغير شيء والفرس والمتاع بالثمن، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: لما أن عنده يثبت الملك للغازي في المال دون العبد، واعتراض بأن على قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ينبغي أن يأخذ المالك المتاع أيضاً بغير شيء، لأنه لما ظهرت يد العبد على نفسه ظهرت على المال أيضاً لانقطاع يد المولى من المال، لأنه في دار الحرب ويد العبد أسبق من يد الكفار عليه، فلا يصير ملكاً لهم.(7/198)
وقالا: يأخذ العبد وما معه بالثمن إن شاء اعتبارا لحالة الاجتماع بحالة الانفراد، وقد بينا الحكم في كل فرد.
وإذا دخل الحربي دارنا بأمان واشترى عبدا مسلما وأدخله دار الحرب عتق عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يعتق، لأن الإزالة كانت مستحقة بطريق معين، وهو البيع وقد انقطعت ولاية الجبر عليه، فبقي في يده عبدا،
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن تخليص المسلم عن ذل الكافر واجب، فيقام الشرط وهو تباين الدارين مقام العلة وهو الإعتاق تخليصا له، كما يقام مضي ثلاث حيض مقام التفريق فيما إذا أسلم أحد الزوجين في دار الحرب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأجيب: بأن يد العبد ظهرت على نفسه مع المنافي وهو الرق، فكانت ظاهرة من وجه دون وجه، فجعلناها ظاهرة في حق نفسه غير ظاهرة في حق المال، هكذا قاله الأكمل. وفيه تأمل، لأن استيلاء العبد على المال حقيقة وجد وهو مال مباح، فينبغي أن يمنع استيلاء الكفار كما في العبد.
م: (وقالا: يأخذ العبد وما معه بالثمن إن شاء اعتباراً لحالة الاجتماع بحالة الانفراد) ش: يعني إذا أبق العبد وحده كان الحكم فيه كذلك، فكذلك إذا أبق ومعه فرس ومتاع م: (وقد بينا الحكم في كل فرد) ش: أي عند قوله: وإذا غلبوا على أموالنا وأحرزوها بدارهم يملكونها.
[دخل الحربي دارنا بأمان واشترى عبداً مسلماً وأدخله دار الحرب]
م: (وإذا دخل الحربي دارنا بأمان واشترى عبداً مسلماً وأدخله دار الحرب عتق عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يعتق) ش: وبه قال مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في قول. واعلم أن الحربي المستأمن إذا اشترى عبداً مسلماً جاز ويجبر على البيع، لأنه لا يجوز أن يبقى المسلم في ذل الكافر، لأن الإسلام يعلو ولا يعلى.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز بيعه أصلاً م: (لأن الإزالة) ش: أي إزالة اليد من الحربي م: (كانت مستحقة بطريق معين، وهو البيع، وقد انقطعت ولاية الجبر عليه) ش: بالدخول في دار الحرب م: (فبقي في يده عبداً) ش: فلا يعتق، لأنه ملكه في دار الإسلام وأحرزه بدارهم.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن تخليص المسلم عن ذل الكافر واجب) ش: لقوله عز وجل: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] (النساء: الآية 141) ، م: (فيقام الشرط، وهو تباين الدارين مقام العلة وهو الإعتاق) ش: بيان هذا أن الحربي المستأمن في دارنا يزال ملكه بالعوض بحرمة ماله بأمانه.
فإذا دخل دار الحرب انتهت الحرمة بانتهاء الأمان وسقطت عصمة ماله فيعتق العبد م: (تخليصاً له) ش: وقد عجز القاضي عن عتاقه عليه إذ لا ينفذ قضاؤه على من في دار الحرب. فقام شرط زوال عصمة ماله وهو دخوله دار الحرب فقام عليه الزوال، وهو إعتاق القاضي م: (كما يقام مضي ثلاث حيض مقام التفريق) ش: بين الزوجين م: (فيما إذا أسلم أحد الزوجين في دار الحرب)(7/199)
وإذا أسلم عبد لحربي ثم خرج إلينا أو ظهر على الدار فهو حر، وكذلك إذا خرج عبيدهم إلى عسكر المسلمين فهم أحرار، لما روي أن عبيدا من عبيد الطائف أسلموا وخرجوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقضى بعتقهم وقال: هم عتقاء الله. ولأنه أحرز نفسه بالخروج إلينا مراغما لمولاه أو بالالتحاق بمنعة المسلمين إذا ظهر على الدار،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: فانقضاء ثلاث حيض - الذي هو شرط البينونة في الطلاق الرجعي- أقيم مقام علة البينونة وهي عرض القاضي الإسلام وتفريقه بعد الأمانة لعجز القاضي عن حقيقة العلة فيما إذا أسلم أحد الزوجين في دارهم، ثم يلزمها أن تتقيد بثلاث حيض من بعد ذلك.
[أسلم عبد الحربي ثم خرج إلينا]
م: (وإذا أسلم عبد الحربي ثم خرج إلينا أو ظهر) ش: على صيغة المجهول، أي غلب م: (على الدار) ش: أي دارهم م: (فهو) ش: أي العبد م: (حر، وكذلك إذا خرج عبيدهم إلى عسكر المسلمين فهم أحرار لما روي «أن عبيداً من عبيد الطائف أسلموا وخرجوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقضى بعتقهم. وقال: هم عتقاء الله» ش: وروى أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مسنده وابن أبي شيبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه " والطبراني في معجمه من حديث الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن عبدين خرجا من الطائف إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسلما فأعتقهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أحدهما أبو بكرة» .
وأخرج البيهقي عن عبد الله بن مكرم الثقفي قال: «لما حاصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل الطائف خرج إليه رقيق من رقيقهم، فمنهم أبو بكرة، وكان عبد الحارث بن كلاء والمنبعث ونجب، وورد أن في رهط من رقيقهم فأسلموا، قالوا: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد علينا رقيقنا الذي أتوك فقال: لا، أولئك عتقاء الله عز وجل، ورد على كل رجل ولاء عبده» .
م: (ولأنه) ش: أي ولأن العبد الذي خرج إلينا م: (أحرز نفسه بالخروج علينا مراغماً) ش: أي منابذاً، يقال راغم فلان قومه مراغمة: إذا خرج عنهم ونبذهم، وقيد بقوله: مراغماً، لأنه إذا خرج تابعاً م: (لمولاه) ش: يباع وثمنه للحربي.
وعليه نص الحاكم الشهيد في " الكافي " م: (أو بالالتحاق بمنعة المسلمين إذا ظهر على الدار) ش: متصل بقوله: إذا ظهر على الدار، كما أن قوله: ولأنه أحرز نفسه، متصل بقوله: ثم خرج إلينا.
وعن هذا قال الأترازي: وفيه لف ونشر، أعني أنه أحرز نفسه بالخروج إلينا وبالالتحاق فيما إذا ظهر على الدار.
قلت: هذا كلام مترتب ليس فيه لف ولا نشر.(7/200)
واعتبار يده أولى من اعتبار يد المسلمين، لأنها أسبق ثبوتا على نفسه، فالحاجة في حقه إلى زيادة توكيد، وفي حقهم إلى إثبات اليد ابتداء، فكان أولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (واعتبار يده) ش: أي يد العبد م: (أولى من اعتبار يد المسلمين، لأنها أسبق ثبوتاً على نفسه، فالحاجة في حقه) ش: أي في حق العبد م: (إلى زيادة توكيد) ش: بمنعة المسلمين.
م: (وفي حقهم) ش: أي والحاجة في حق المسلمين م: (إلى إثبات اليد ابتداء، فكان) ش: أي اعتبار يده م: (أولى) ش: توضيح هذا، لأنه لما التحق بمنعة المسلمين، صار كأنه خرج إلى دار الإسلام، ولا يكون عبداً للغزاة، لأنهم محتاجون أن يملكوه بالإحراز، وهو يحتاج إلى أن يحرز نفسه لتناول شرف الحرمة، وإحرازه أسبق من إحرازهم، فصار أولى، لأنه صاحب يد في نفسه، لكنه يحتاج إلى ما يؤكد يده بمنعة المسلمين وهم محتاجون إلى إثبات اليد ابتداء، فكان اعتبار يده أولى، والله أعلم.(7/201)
باب المستأمن وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرا فلا يحل له أن يتعرض لشيء من أموالهم ولا من دمائهم، لأنه ضمن أن لا يتعرض لهم بالاستئمان، فالتعرض بعد ذلك يكون غدرا، والغدر حرام إلا إذا غدر بهم ملكهم فأخذ أموالهم أو حبسهم أو فعل غيره بعلم الملك، ولم يمنعه، لأنهم هم الذين نقضوا العهد، بخلاف الأسير، لأنه غير مستأمن، فيباح له التعرض، وإن أطلقوه طوعا. فإن غدر بهم أعني التاجر فأخذ شيئا وخرج به ملكه ملكا محظورا لورود الاستيلاء على
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب المستأمن]
م: (باب المستأمن) ش: أي هذا باب في بيان حكم المستأمن وهو المسلم الذي يدخل دار الحرب بالأمان، وكذلك يطلق على الحربي الذي يطلب الأمان من المسلمين، وقدم المستأمن المسلم ثم عقبه بالمستأمن الحربي بفصل على حدة، كما يجيء إن شاء الله عز وجل.
م: (وإذا دخل المسلم دار الحرب) ش: حال كونه م: (تاجراً، فلا يحل له أن يتعرض لشيء من أموالهم، ولا من دمائهم، لأنه ضمن أن لا يتعرض لهم) ش: أي لأهل الحرب لأنهم ما مكنوه من الدخول في دارهم بعد الاستئمان إلا بشرط أن لا يتعرض لهم بشيء من ديارهم وأموالهم. وقوله م: (بالاستئمان) ش: يتعلق بقوله: ضمن، وضمانه شرط، والمؤمن عند شرطه م: (فالتعرض بعد ذلك) ش: أي بعد شرط عدم التعرض م: (يكون غدراً، والغدر حرام) ش: لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان» .
م: (إلا إذا غدر بهم) ش: أي بالمسلمين م: (ملكهم) ش: أي ملك الكفار م: (فأخذ أموالهم) ش: أي أموال التجار م: (أو حبسهم أو فعل غيره) ش: أي غير الملك م: (بعلم الملك، ولم يمنعه) ش: فحينئذ لا يكون أخذ تجارنا أموالهم غدراً م: (لأنهم هم الذين نقضوا العهد) ش: وفعلوا الغدر.
م: (بخلاف الأسير، لأنه غير مستأمن) ش: ولم يوجد منه الالتزام بعقد أو عهد، فإذا كان كذلك م: (فيباح له التعرض) ش: لأنه بالوجه المذكور لا يكون أخذ الأسير المسلم غدراً م: (وإن أطلقوه) ش: واصل بما قبله م: (طوعاً) ش: أي لا إكراهاً. حاصل الكلام يباح له التعرض، وإن كان مطلق العنان عندهم، لأنه لم يوجد الاستئمان صريحاً، فلم يلزم الغدر.
م: (فإن غدر) ش: أي التاجر م: (بهم) ش: أي بأهل الحرب، وقد بين فاعل غدر بقوله م: (أعني التاجر فأخذ شيئاً وخرج به) ش: إلى دار الإسلام م: (ملكه ملكاً محظوراً لورود الاستيلاء على(7/202)
مال مباح، إلا أنه حصل بسبب الغدر، فأوجب ذلك خبثا فيه فيؤمر بالتصدق به، وهذا لأن الحظر لغيره لا يمنع انعقاد السبب على ما بيناه.
وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فأدانه حربي أو أدان هو حربيا، أو غضب أحدهما صاحبه ثم خرج إلينا واستأمن الحربي لم يقض لواحد منهما على صاحبه بشيء، أما الإدانة فلأن القضاء يعتمد الولاية، ولا ولاية وقت الإدانة أصلا ولا وقت القضاء على المستأمن، لأنه ما التزم حكم الإسلام فيما مضى من أفعاله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مال مباح) ش: لأن مال أهل الحرب مباح فيملكه م: (إلا أنه حصل بسبب الغدر فأوجب ذلك خبثاً فيه، فيؤمر بالتصدق به) ش: أي بالمال الذي أخرجه، حتى لو كانت جارية يكره له وطؤها، وإن أحرزها بدارنا.
وكذا يكره للمشتري منه لقيام الحظر في الملك بسبب الغدر، وبخلاف مشتري الجارية من مشتريها شراء فاسداً، حيث يحل له وطؤها بعد الاستبراء، لأن الكراهة في حق المشتري الأول لقيام حق بائعه في الاسترداد وقد زال حقه ببيع المشتري من آخر، فظهر الفرق. والرواية مذكورة في " المبسوط " وغيره.
وفي " المغني " للحنابلة: يجب عليه رد ما أخذ من مالهم بالخيانة أو بالاستقراض بأن بيعت.
ولو جاء بأمان أو إيمان يجب الرد عليه كما لو أخذه من مسلم. وعندنا لا يجب الرد، لكن يتصدق به ولا يجب عليه رد ما استقرض قضاء.
م: (وهذا) ش: إشارة إلى قوله: ملكه ملكاً محظوراً، أي خبيثاً م: (لأن الحظر لغيره لا يمنع انعقاد السبب) ش: أي سبب الملك، وهو الاستيلاء م: (على ما بيناه) ش: يعني في أوائل باب استيلاء الكفار بقوله المحظور بغيره إذا صلح سبباً لكرامة تفوق الملك...... إلى آخره.
[دخل المسلم دار الحرب بأمان فأدانه]
م: (وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فأدانه) ش: بتخفيف الدال من الإدانة وهو البيع بالدين، واستدانه الابتياع بالدين. وقولهم: ادان، بتشديد الدال من باب الافتعال، أي قبل الدين، وقوله م: (حربي) ش: فاعله م: (أو أدان هو حربياً) ش: وهو أيضاً من الإدانة م: (أو غصب أحدهما) ش: أي أحد الاثنين، وهما المسلم والحربي م: (صاحبه) ش: بالنصب، لأنه مفعول غصب م: (ثم خرج إلينا) ش: أي أحدهما م: (واستأمن الحربي) ش: يعني خرج مستأمناً م: (لم يقض لواحد منهما على صاحبه بشيء، أما الإدانة فلأن القضاء يعتمد الولاية) ش: أي ولاية القاضي.
م: (ولا ولاية وقت الإدانة أصلاً) ش: لأنه لا ولاية لنا على أهل الحرب م: (ولا وقت القضاء) ش: أي ولا ولاية وقت القضاء، أي الحكم م: (على المستأمن لأنه ما التزم حكم الإسلام فيما مضى من أفعاله) ش: في دار الحرب.(7/203)
وإنما التزم ذلك في المستقبل، وأما الغصب فلأنه صار ملكا للذي غصبه واستولى عليه لمصادفته مالا غير معصوم على ما بيناه، وكذلك لو كانا حربيين فعلا ذلك ثم خرجا مستأمنين لما قلنا. ولو خرجا مسلمين قضى بالدين بينهما ولم يقض بالغصب، أما المداينة فلأنها وقعت صحيحة لوقوعها بالتراضي، والولاية ثابتة حالة القضاء لالتزامهما الأحكام بالإسلام، وأما الغصب فلما بينا أنه ملكه، ولا خبث في ملك الحربي حتى يؤمر بالرد،
وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فغصب حربيا ثم خرجا مسلمين أمر برد الغصب ولم يقض عليه، أما عدم القضاء فلما بينا أنه ملكه، وأما الأمر بالرد ومراده الفتوى به، فلأنه فسد الملك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإنما التزم ذلك) ش: أي حكم الإسلام م: (في المستقبل) ش: في مقابلة فعلها في دار الإسلام، فلما انتفت الولاية لم يقض بشيء، لأنه لا قضاء بدون الولاية. وفي " شرح الطحاوي ": ولكنه ينبغي فيما بينه وبين الله تعالى أن يقضي.
م: (وأما الغصب) ش: فإنما يقضى لواحد منهما على الآخر م: (فلأنه) ش: أي فلأن المغصوب م: (صار ملكاً للذي غصبه واستولى عليه لمصادفته مالاً غير معصوم) ش: لأن دار الحرب دار القهر والغلبة، فإذا استولى أحدهما على مال الآخر فقد ملكه، ولا يحكم بالرد لثبوت الملك م: (على ما بيناه) ش: يعني فيما تقدم الآن.
م: (وكذلك) ش: أي وكذلك لا يقضي بشيء م: (لو كانا حربيين فعلا ذلك) ش: أي الإدانة والغصب جميعاً م: (ثم خرجا مستأمنين) ش: أي حال كونهما مستأمنين م: (لما قلنا) ش: إشارة إلى قوله من قبل أن القضاء يعتمد الولاية إلى آخره.
م: (ولو خرجا) ش: أي الحربيان لو خرجا حال كونهما م: (مسلمين قضى بالدين بينهما، ولم يقض بالغضب) ش: الذي حصل بينهما م: (أما المداينة فلأنها وقعت صحيحة لوقوعها بالتراضي والولاية) ش: أي ولاية القاضي م: (ثابتة حالة القضاء لالتزامهما الأحكام بالإسلام، وأما الغصب فلما بيناه) ش: فيما تقدم عن قريب م: (أنه ملكه، ولا خبث في ملك الحربي حتى يؤمر بالرد) ش: لأن مال الحربي غير معصوم.
[دخل المسلم دار الحرب بأمان فغصب حربيا]
م: (وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فغصب حربياً) ش: أي مال حربي، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه م: (ثم خرجا) ش: حال كونهما م: (مسلمين) ش: المسلم بإسلامه القديم، والحربي بدخوله في دار الإسلام م: (أمر برد الغصب) ش: ديانة م: (ولم يقض عليه) ش: يعني يقضي القاضي بالرد عليه م: (أما عدم القضاء فلما بينا) ش: فيما تقدم عن قريب م: (أنه ملكه) ش: لكونه مالاً غير معصوم.
م: (وأما الأمر بالرد ومراده الفتوى به) ش: أي بالرد فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يحكم بالجبر والإلزام، والظاهر أن الضمير في مراده يرجع إلى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فلأنه فسد الملك(7/204)
لما يقارنه من المحرم، وهو نقض العهد. وإذا دخل مسلمان دار الحرب بأمان فقتل أحدهما صاحبه عمدا أو خطأ فعلى القاتل الدية في ماله وعليه الكفارة في الخطأ، أما الكفارة فلإطلاق الكتاب، والدية لأن العصمة الثابتة بالإحراز بدار الإسلام لا تبطل بعارض الدخول بالأمان، وإنما لا يجب القصاص لأنه لا يمكن استيفاؤه إلا بمنعة،
ولا منعة بدون الإمام وجماعة المسلمين ولم يوجد ذلك في دار الحرب، وإنما تجب الدية في ماله في العمد، لأن العواقل لا تعقل العمد، وفي الخطأ، لأنه لا قدرة لهم على الصيانة مع تباين الدارين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لما يقارنه من المحرم، وهو نقض العهد، وإذا دخل مسلمان دار الحرب بأمان فقتل أحدهما صاحبه عمداً أو خطأ فعلى القاتل الدية في ماله، وعليه الكفارة في الخطأ) ش: هكذا ذكر من غير خلاف في عامة النسخ من شروح " الجامع الصغير "، ولكن ذكره قاضي خان في الجامع الصغير، وجعل هذا الحكم فيه قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ثم قال: وقالا - أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - عليه القصاص في العمد، وهو قول الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأنه قتل شخصاً معصوماً إذ عصمته ما زالت بالاستئمان فيجب بقتله في دار الإسلام م: (أما الكفارة فلإطلاق الكتاب) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] (النساء: الآية 92) ، وتخصيصها بالخطأ، لأنه لا كفارة في العمد عندنا.
م: (والدية) ش: أي وأما وجوب الدية م: (لأن العصمة الثابتة بالإحراز بدار الإسلام لا تبطل بعارض الدخول بالأمان) ش: لأنه لما كان على قصد الرجوع كان كأنه في دار الإسلام تقديراً، حتى إن المستأمن بهم لما كان على قصد الرجوع كان كأنه يقصد الرجوع في دار الحرب.
م: (وإنما لا يجب القصاص) ش: جواب سؤال مقدار، بأن يقال: كان القياس وجوب القصاص، فأجاب بقوله: وإنما لا يجب القصاص فيه م: (لأنه لا يمكن استيفاؤه إلا بمنعة) ش: أي إلا بقوة وعزة، لأن الواحد يقاوم الواحد غالباً.
[قتل مسلم تاجرا أسيراً]
م: (ولا منعة بدون الإمام وجماعة المسلمين، ولم يوجد ذلك في دار الحرب) ش: فلا فائدة في الوجوب كالحد، وعند الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يجب الحد، إلا أن عند أحمد لا تقام في دار الحرب، حتى ترجع. وعند الشافعي يؤخر أيضاً إذا لم يكن أمير الجيش أو الإمام، وإلا لا يؤخر.
م: (وإنما تجب الدية في ماله في العمد، لأن العواقل) ش: جمع عاقلة م: (لا تعقل العمد، وفي الخطأ) ش: أي وتجب الدية أيضاً في الخطأ في ماله م: (لأنه لا قدرة لهم) ش: أي للعواقل م: (على الصيانة مع تباين الدارين) ش: لأن الوجوب عليهم لتقصيرهم في الصيانة عن ارتكاب هذه الجناية،(7/205)
والوجوب عليهم على اعتبار تركها وإن كانا أسيرين فقتل أحدهما صاحبه أو قتل مسلم تاجرا أسيرا، فلا شيء على القاتل إلا الكفارة في الخطأ عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا في الأسيرين الدية في الخطأ والعمد، لأن العصمة لا تبطل بعارض الأسر، كما لا تبطل بعارض الاستئمان على ما بيناه، وامتناع القصاص لعدم المنعة، وتجب الدية في ماله لما قلنا. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن بالأسر صار تبعا لهم بصيرورته مقهورا في أيديهم، ولهذا يصير مقيما بإقامتهم ومسافرا بسفرهم، فيبطل به الإحراز أصلا. وصار كالمسلم الذي لم يهاجر إلينا، وخص الخطأ بالكفارة، لأنه لا كفارة في العمد عندنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكيف يجب على العواقل، وهم في دار الإسلام صيانة عن الجناية وهو في دار الحرب م: (والوجوب) ش: أي وجوب الدية م: (عليهم) ش: أي على العواقل م: (على اعتبار تركهم) ش: أي ترك الصيانة.
م: (وإن كانا أسيرين) ش: أي وإن كان المسلمان م: (فقتل أحدهما صاحبه، أو قتل مسلم تاجرا أسيراً فلا شيء على القاتل إلا الكفارة في الخطأ عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا في الأسيرين) ش: أي في قتل الأسيرين أحدهما الآخر م: (الدية) ش: أي تجب الدية أو الدية واجبة م: (في الخطأ والعمد، لأن العصمة) ش: المتقومة بالإحراز بدارنا م: (لا تبطل بعارض الأسر، كما لا تبطل بعارض الاستئمان) ش: وهو طلب الأمان منهم.
م: (على ما بيناه) ش: إشارة إلى قوله: لأن العصمة الثابتة بالإحراز بدار الإسلام لا تبطل بعارض الدخول بالأمان م: (وامتناع القصاص لعدم المنعة، وتجب الدية في ماله) ش: أي في مال القاتل م: (لما قلنا) ش: إشارة إلى قوله: لأن العواقل لا تعقل العمد.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن بالأسر صار تبعاً لهم بصيرورته مقهوراً في أيديهم) ش: فصار بحكم القهر تبعاً م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كونه تبعاً لهم م: (يصير مقيماً بإقامتهم، ومسافراً بسفرهم فيبطل به) ش: أي بالأسر م: (الإحراز) ش: بدار الإسلام م: (أصلاً) ش: ولما بطل الإحراز لم تثبت العصمة المتقومة، فلم تجب الدية لأنها بناء على تلك العصمة، بخلاف الكفارة، فإنها تجب بالعصمة المؤثمة وهي الإسلام.
م: (وصار) ش: هذا م: (كالمسلم الذي) ش: أسلم في دار الحرب كالمسلم الذي م: (لم يهاجر إلينا) ش: والجامع كون كل واحد منهما مقهوراً في أيديهم، بخلاف المستأمن لأنه ممكن من الخروج من دارهم، فلا يكون تبعاً لهم، فلا تبطل عصمته م: (وخص الخطأ بالكفارة، لأنه لا كفارة في العمد عندنا) ش: خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(7/206)
فصل وإذا دخل الحربي إلينا مستأمنا لم يمكن أن يقيم في دارنا سنة، ويقول له الإمام: إن أقمت تمام السنة وضعت عليك الجزية، والأصل فيه أن الحربي لا يمكن من إقامة دائمة في دارنا إلا بالاسترقاق أو الجزية، لأنه يصير عينا لهم وعونا علينا فيلحق المضرة بالمسلمين ويمكن من الإقامة اليسيرة، لأن في منعها قطع الميرة، والحلب وسد باب التجارة، ففصلنا بينها بسنة، لأنها مدة تجب فيها الجزية، فتكون الإقامة لمصلحة الجزية، ثم إن رجع بعد مقالة الإمام قبل تمام السنة إلى وطنه، فلا سبيل عليه، وإذا مكث سنة فهو ذمي، لأنه لما أقام سنة بعد تقدم الإمام إليه صار ملتزما بالجزية، فيصير ذميا، وللإمام أن يوقت في ذلك ما دون السنة كالشهر والشهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل إذا دخل الحربي إلينا مستأمنا]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل في بيان حكم المستأمن من أهل الحرب.
م: (وإذا دخل الحربي إلينا مستأمنا) ش: أي حال كونه مستأمناً م: (لم يمكن أن يقيم في دارنا) ش: أي في دار الإسلام م: (سنة، ويقول له الإمام: إن أقمت تمام السنة وضعت عليك الجزية، والأصل فيه) ش: أي في أصل هذا الحكم م: (أن الحربي لا يمكن من إقامة دائمة في دارنا إلا بالاسترقاق أو الجزية) ش: تضرب عليه.
م: (لأنه) ش: أي لأن الحربي المستأمن م: (يصير عيناً لهم) ش: أي ديدباناً وجاسوساً م: (وعوناً) ش: أي ظهيرا م: (علينا) ش: والعون هو الظهير على الأمر والجمع أعوان م: (فيلتحق المضرة بالمسلمين ويمكن من الإقامة اليسيرة، لأن في منعها قطع الميرة) ش: وهي الطعام تمتاره الأسنان من مار ييمر. وقيل الميرة بكسر الميم وسكون الياء الطعام، والميرة بالهمزة التميمة.
م: (والحلب) ش: أي وقطع الحلب بفتحتين، وهو كل شيء يحلب من إبل وخيل وغنم وغيرها من الحيوانات م: (وسد باب التجارة) ش: أي وفي منع المدة اليسيرة سد باب التجارة، وفيه ضرر أيضاً م: (ففصلنا بينهما) ش: أي بين الإقامة الدائمة المدة اليسيرة م: (بسنة لأنها مدة تجب فيها الجزية، فتكون الإقامة لمصلحة الجزية، ثم إن رجع بعد مقالة الإمام) ش: أي ثم إذا أراد أن يرجع بعد مقالة الإمام، أي بعد أن قال له الإمام: إن أقمت سنة وضعت عليك الجزية م: (قبل تمام السنة إلى وطنه فلا سبيل عليه) ش: أي لا يمنع من الرجوع.
م: (وإذا مكث سنة فهو ذمي، لأنه لما أقام سنة بعد تقدم الإمام إليه صار ملتزماً بالجزية فيصير ذمياً) ش: لأنه أقام مدة مضروبة عليه، والذمي لا يجوز رجوعه إلى دار الحرب م: (وللإمام أن يوقت في ذلك) ش: أي في ضرب المدة م: (ما دون السنة كالشهر والشهرين) ش: على حسب ما يرى من المصلحة.(7/207)
وإذا أقامها بعد مقالة الإمام يصير ذميا لما قلنا، ثم لا يترك أن يرجع إلى دار الحرب، لأن عقد الذمة لا ينقض، كيف وأن فيه قطع الجزية وجعل ولده حربا علينا، وفيه مضرة بالمسلمين،
فإن دخل الحربي دارنا بأمان فاشترى أرض خراج، فإذا وضع عليه الخراج فهو ذمي، لأن خراج الأرض بمنزلة خراج الرأس، فإذا التزمه صار ملتزما بالمقام في دارنا، أما مجرد الشراء لا يصير ذميا، لأنه قد يشتريها للتجارة، وإذا لزمه خراج الأرض، فبعد ذلك تلزمه الجزية لسنة مستقبلة، لأنه يصير ذميا بلزومه الخراج فتعتبر المدة من وقت وجوبه. وقوله في الكتاب فإذا وضع عليه الخراج فهو ذمي تصريح بشرط الوضع فيتخرج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإذا أقامها) ش: أي المدة م: (بعد مقالة الإمام يصير ذمياً لما قلنا) ش: إشارة إلى قوله: لأنه لما أقام سنة بعد تقدم الإمام إليه صار ملتزماً بالجزية.
وفي " فتاوى العتابي ": لو أقام سنتين من غير أن يتقدم عليه الإمام فله أن يرجع إلا إذا قال الإمام: إذا رجعت إلى كذا وإلا جعلتك ذمياً، فلم يرجع، صار ذمياً، فوجب عليه الجزية بحول بعد مضي المدة المضروبة، إلا أن يكون شرط عليه أنه إن مكث سنة أخذ منه الجزية، فيأخذها منه حينئذ.
م: (ثم لا يترك أن يرجع إلى دار الحرب، لأن عقد الذمة لا ينقض) ش: لأن عقد الذمة خلف عن الإسلام لا ينقض، فكذا خلفه م: (كيف) ش: أي كيف ينقض.
م: (وأن فيه) ش: بفتح الهمزة بخط شيخي م: (قطع الجزية وجعل ولده) ش: ذلك م: (حربا علينا) ش: بطريق التولد والتناسل م: (وفيه) ش: أي وفي نقض عقد الذمة م: (مضرة بالمسلمين) ش: وهو ظاهر.
[دخل الحربي دارنا بأمان فاشترى أرض خراج]
م: (فإن دخل الحربي دارنا بأمان فاشترى أرض خراج، فإذا وضع عليه الخراج) ش: أي وضع عليه م: (فهو ذمي، لأن خراج الأرض بمنزلة خراج الرأس) ش: لأن لكل منهما حكما متعلقا بالمقام في دارنا، فصار ذمياً ضرورة م: (فإذا التزمه) ش: أي فإذا التزم الخراج م: (صار ملتزما بالمقام في دارنا، أما بمجرد الشراء لا يصير ذمياً، لأنه قد يشتريها للتجارة) ش: وبه صرح الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مختصره. ومن المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - من قال: يصير ذمياً بمجرد الشراء، ذكره قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ -
م: (وإذا لزمه خراج الأرض فبعد ذلك تلزمه الجزية لسنة مستقبلة، لأنه يصير ذمياً بلزومه الخراج، فتعتبر المدة من وقت وجوبه) ش: أي وقت وجوب الخراج م: (وقوله في الكتاب) ش: أي وقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (فإذا وضع عليه الخراج فهو ذمي تصريح بشرط الوضع فيتخرج) ش: على صيغة المجهول من باب التفعيل. وقال الأترازي: فيخرج على صيغة(7/208)
عليه أحكام جمة فلا يغفل عنه.
وإذا دخلت حربية بأمان فتزوجت ذميا صارت ذمية؛ لأنها التزمت المقام تبعا للزوج،
وإذا دخل حربي بأمان فتزوج ذمية لم يصر ذميا، لأنه يمكنه أن يطلقها فيرجع إلى بلده، فلم يكن ملتزما المقام. ولو أن حربيا دخل دارنا بأمان ثم عاد إلى دار الحرب وترك وديعة عند مسلم أو ذمي أو دينا في ذمتهم، فقد صار دمه مباحا بالعود، لأنه أبطل أمانه، وما في دار الإسلام من ماله على خطر، فإن أسر أو ظهر على الدار فقتل سقطت ديونه، وصارت الوديعة فيئا. أما الوديعة فلأنها في يده تقديرا، لأن يد المودع كيده، فيصير فيئا تبعا لنفسه، وأما الدين فلأن إثبات اليد عليه بواسطة المطالبة وقد سقطت ويد من عليه أسبق إليه من يد العامة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المبني للفاعل، يقال: خرجته فتخرج م: (عليه أحكام جمة) ش: أي على شرط الوضع أحكام جمة، أي كثيرة، والجم الكثير من كل شيء، ومادته جيم وميم.
ومن الأحكام: المنع من الخروج إلى دار الحرب ووجوب الضمان في إتلاف خمره وخنزيره ووجوب الدية في قتله خطأ، وجريان القصاص بينه وبين المسلمين عندنا، ووجوب كل حكم يثبت في حق الذمي م: (فلا يغفل عنه) ش: على صيغة المجهول، ففي عنه أي عن شرط الوضع، لأنه إنما تثبت تلك الأحكام بعد وضع الخراج لا قبله.
[دخلت حربية بأمان فتزوجت ذمياً]
م: (وإذا دخلت حربية بأمان فتزوجت ذمياً صارت ذمية، لأنها التزمت المقام تبعاً للزوج) ش: فيجري عليها أحكام أهل الذمة من وضع الخراج على أرضها ومنع الخروج إلى دار الحرب. وقالت الأئمة الثلاثة: لا تصير ذمية، ولا تمنع من الخروج إذا الزوج فارقها.
[دخل حربي بأمان فتزوج ذمية]
م: (وإذا دخل حربي بأمان فتزوج ذمية لم يصر ذمياً لأنه يمكنه أن يطلقها ويرجع إلى بلده، فلم يكن ملتزما بالمقام، ولو أن حربياً دخل دارنا بأمان ثم عاد إلى دار الحرب وترك وديعة عند مسلم أو ذمي أو ديناً) ش: أي أو ترك ديناً.
م: (في ذمتهم) ش: أي في ذمة المسلمين أو في ذمة أهل الذمة م: (فقد صار دمه مباحاً بالعود) ش: إلى دار الحرب م: (لأنه أبطل أمانه وما في دار الإسلام من ماله على خطر) ش: أي تردد، وبين التردد بحرف الفاء في قوله م: (فإن أسر أو ظهر على الدار) ش: أي دار الحرب، وكل واحد منهما على صيغة المجهول م: (فقتل) ش: مجهول أيضاً م: (سقطت ديونه) ش: أي عن الذين عليهم ديونه م: (وصارت الوديعة فيئا) ش: أي غنيمة.
م: (أما الوديعة فلأنها في يده تقديراً، لأن يد المودع) ش: بفتح الدال م: (كيده، فيصير فيئا تبعاً لنفسه، وأما الدين فلأن إثبات اليد عليه بواسطة المطالبة وقد سقطت) ش: أي المطالبة.
م: (ويد من عليه أسبق إليه من يد العامة) ش: أي يد الذي عليه الدين أسبق إليه من يد العامة،(7/209)
فيختص به. وإن قتل ولم يظهر على الدار فالقرض والوديعة لورثته، وكذلك إذا مات لأن نفسه لم تصر مغنومة فكذلك ماله، وهذا لأن حكم الأمان باق في ماله فيرد عليه أو على ورثته من بعده. قال: وما أوجف عليه المسلمون من أموال أهل الحرب بغير قتال يصرف في مصالح المسلمين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي يد كل واحد من الناس لسبق يده م: (فيختص به) ش: أي فيختص من عليه الدين بالدين الذي عليه، يعني لا يطالبه أحد، فإذا كان كذلك فيسقط، أي الدين لسقوط المطالبة.
م: (وإن قتل) ش: على صيغة المجهول أيضاً، أي هذا الحربي الذي دخل دارنا بأمان ثم عاد إلى دار الحرب م: (ولم يظهر على الدار) ش: على صيغة المجهول أيضا، أي لم يغلب عليها م: (فالقرض) ش: الذي عند الناس.
م: (والوديعة) ش: التي عند المودع م: (لورثته) ش: وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تكون الوديعة لورثته. وفي الديون قولان، أحدهما أنها لورثته، والآخر أنها غنيمة.
م: (وكذلك) ش: أي الحكم م: (إذا مات) ش: هذا الحربي حتى يكون قرضه وديعة لورثته م: (لأن نفسه لم تصر مغنومة، فكذلك ماله) ش: لا يصير مغنوماً.
م: (وهذا) ش: أي عدم كون نفسه مغنومة م: (لأن حكم الأمان باق في ماله فيرد عليه) ش: في حياته م: (أو على ورثته من بعده) ش: لأن يد المودع كيده، وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -.
فإن قيل: ينبغي أن يصير فيئاً، كما إذا أسلم الحربي في دار الإسلام وله وديعة عند مسلم في دار الحرب، ثم ظهر على الدار فيكون فيئاً، ولا تكون يد المودع كيده.
قلنا: عصمة المال لما كانت ثابتة في دار الإسلام معصوماً من وجه دون وجه، فلا تصير معصومة بالشك، أما هاهنا العصمة ثابتة عند الإيداع ولم يظهر على دار الحرب، فكانت العصمة باقية كما كانت في دار الإسلام دار العصمة، وإليه أشار قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وما أوجف عليه المسلمون) ش: يقال وما أوجف الفرس أو البعير عدا وجفا وأوجفه صاحبه إيجافاً، ويقال: وجف البعير وجفاً ووجيفاً، وهو ضرب من مشي الإبل، وربما استعمل في الخيل، وأوجفت البعير: إذا حملته على الوجيف، والمعنى الذي أوجف عليه المسلمون، أي أعملوا خيالهم وركائبهم.
وفي بعض النسخ وما أوجف المسلمون عليه م: (من أموال) ش: أي من أموال م: (أهل الحرب بغير قتال يصرف في مصالح المسلمين) ش: كعمارة الرباطات والقناطر والجسور وسد الثغور وكري الأنهار العظام التي لا ملك لأحد فيها كجيحون والفرات ودجلة، ومن مصالح المسلمين الصرف(7/210)
كما يصرف الخراج، قالوا: هو مثل الأراضي التي أجلوا أهلها عنها والجزية ولا خمس في ذلك. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيهما الخمس اعتبارا بالغنيمة. ولنا ما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخذ الجزية وكذا عمر ومعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ووضع في بيت المال ولم يخمس،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى أرزاق القضاة والولاة والمحتسبين والمعلمين وأرزاق المقاتلة، ومنها أن يصرف إلى رصد الطريق عن اللصوص وقطاع الطريق.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقسم ما أوجف عليه المسلمون، فأربعة أخماسه للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخمسه يقسم كما يقسم خمس الغنيمة وخمس الخمس للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ففي نصيبه بعد وفاته قولان:
في قول: يصرف إلى مصالح المسلمين، وفي قول: إلى المقاتلة، وكذلك قال في الجزية م: (كما يصرف الخراج) ش: أي في مصالح المسلمين.
م: (قالوا) ش: أي مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: م: (هو) ش: يرجع إلى قوله: وما أوجف المسلمون عليه م: (مثل الأراضي التي أجلوا أهلها عنها) ش: أي أجلى المسلمون أهل تلك الأراضي عنها، أي أخرجوهم عنها، يقال: جلى السلطان القوم عن أوطانهم وأجلاهم فجلوا، أي أخرجهم فخرجوا، كلاهما يتعدى ولا يتعدى، والجلاء بالفتح والمد الخروج عن الوطن والإخراج.
م: (والجزية) ش: قال الأترازي: والجزية بالجر عطفاً على قوله الأراضي، أي هذا مثل الأراضي ومثل الجزية، وكذا قال غيره من الشراح، وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والجزية إن رفعتها تكون معطوفة على مثل، وإن خفضتها تكون عطفاً على الأراضي م: (ولا خمس في ذلك) ش: أي فيما أوجف عليه المسلمون.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فيهما الخمس) ش: أي في الأراضي التي أجلوا أهلها عنها مثل الجزية. وفي بعض النسخ وفيها بإفراد الضمير، أي في الثلاثة الاثنان المذكوران والخراج، وقد بينا قول الشافعي مفصلاً عن قريب م: (اعتبارا بالغنيمة) ش: أي قياساً عليها وسيجيء الجواب عنه.
م: (ولنا ما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخذ الجزية، وكذا عمر ومعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ووضع في بيت المال ولم يخمس» ش: لم يذكر أحد من الشراح الذين وقفت على شروحهم شيئاً ما يتعلق بقوله ولنا ما روي إلى آخره، ورأيت في بعض نسخ " الهداية "، وكذا عمر وعثمان ومعاذ، ثم شطب على قوله: عثمان، والشطب صحيح، وفي بعضها: ولنا ما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أخذ الجزية.(7/211)
ولأنه مال مأخوذ بقوة المسلمين من غير قتال، بخلاف الغنيمة، لأنه مملوك بمباشرة الغانمين وبقوة المسلمين، فاستحق الخمس بمعنى، واستحقه الغانمون بمعنى، وفي هذا السبب واحد وهو ما ذكرناه فلا معنى لإيجاب الخمس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكذا عمر ومعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وشطب على قوله: عن علي، والشطب صحيح، والنسخة الصحيحة ما كتبناها أولاً وهي: ولنا ما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخذ الجزية، يعني من مجوس هجر» وكتب تحت قوله: وكذا عمر: من أهل السواد، وكتب تحت قوله: ومعاذ: يعني من أهل اليمن، ولم يذكر شيئاً غير ذلك.
وذكر مخرج أحاديث الهداية فقال: الحديث الثالث: روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكره مثل ما ذكر المصنف، ثم قال: أخرج أبو داود في كتاب الخراج عن أبي معد الكندي أي عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب أن من سأل عن مواضع الفيء فهي ما حكم فيه عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرآه المؤمنون عدلاً موافقاً لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه» فرض الأعطية وعقد لأهل الأديان ذمة بما فرض عليهم من الجزية، لم يضرب بخمس ولا بغنم، ثم قال: وهو ضعيف فإن فيه مجهولاً. وعمر بن عبد العزيز لم يدرك عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن المأخوذ بإيجاف المسلمين م: (مال مأخوذ بقوة المسلمين من غير قتال) ش: بل أخذ منهم بالرعب من المسلمين فلم يصح اعتباره بالغنيمة م: (بخلاف الغنيمة، لأنه) ش: أي لأن الغنيمة بتأويل المغنوم م: (مملوك بمباشرة الغانمين، وبقوة المسلمين) ش: يعني مملوك بسببين وهما مباشرة الغانمين وقوة المسلمين، فلما كان السبب مختلفاً اختلف الاستحقاق أيضاً م: (فاستحق الخمس بمعنى) ش: وهو الرعب م: (واستحقه الغانمون بمعنى) ش: وهو مباشرتهم القتال م: (وفي هذا) ش: أي فيما أوجف المسلمون عليه م: (السبب واحد) ش: وهو الرعب بظهر المسلمين، لأنه لم يوجد السعي من القراءة فلم ينقض الاستحقاق، فكان بين جماعة المسلمين.
م: (وهو ما ذكرناه) ش: إشارة إلى قوله: لأنه مال مأخوذ بقوة المسلمين بغير قتال م: (فلا معنى لإيجاب الخمس) ش: لأنه تعالى قال: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] (الحشر: الآية 6) ، فيجعل كله للمسلمين.(7/212)
وإذا دخل الحربي دارنا بأمان وله امرأة في دار الحرب وأولاد صغار وكبار ومال أودع بعضه ذميا وبعضه حربيا وبعضه مسلما فأسلم هاهنا، ثم ظهر على الدار فذلك كله فيء، أما المرأة وأولاده الكبار فظاهر، لأنهم حربيون كبار وليسوا بأتباع، وكذلك ما في بطنها لو كانت حاملا لما قلنا من قبل، وأما أولاده الصغار فلأن الصغير إنما يصير مسلما تبعا لإسلام أبيه إذا كان في يده وتحت ولايته، ومع تباين الدارين لا يتحقق ذلك، وكذا أمواله لا تصير محرزة بإحرازه نفسه لاختلاف الدارين، فبقي الكل فيئا وغنيمة،
وإن أسلم في دار الحرب ثم جاء فظهر على الدار فأولاده الصغار أحرار مسلمون تبعا لأبيهم، لأنهم كانوا تحت ولايته حين أسلم، إذ الدار واحدة
وما كان من مال أودعه مسلما أو ذميا فهو له، لأنه في يد محترمة ويده كيده، وما سوى ذلك فيء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[دخل الحربي دارنا بأمان وله امرأة في دار الحرب وأولاد صغار وكبار ومال]
م: (وإذا دخل الحربي دارنا بأمان وله امرأة في دار الحرب وأولاد صغار وكبار، ومال أودع بعضه ذمياً وبعضه حربياً وبعضه مسلماً فأسلم هاهنا) ش: أي في دار الإسلام م: (ثم ظهر) ش: على صيغة المجهول، أي غلب م: (على الدار) ش: أي على دار الحرب.
م: (فذلك) ش: أي المذكور م: (كله فيء) ش: أي غنيمة م: (أما المرأة وأولاده الكبار فظاهر) ش: أي في كونهم فيئاً م: (لأنهم حربيون كبار وليسوا بأتباع) ش: أي بالبلوغ م: (وكذلك ما في بطنها لو كانت حاملاً) ش: أي وكذلك الجنين فيء لأنه تابع للإسلام في الرق والجزية م: (لما قلنا من قبل) ش: إشارة إلى ما قال في باب الغنائم بقوله: ولنا جزؤها فيرق برقها.
م: (وأما أولاده الصغار فلأن الصغير إنما يصير مسلماً تبعاً لإسلام أبيه إذا كان في يده وتحت ولايته، ومع تباين الدارين) ش: أي دار الإسلام ودار الحرب م: (لا يتحقق ذلك) ش: أي كونه تابعاً لإسلام أبيه م: (وكذا أمواله لا تصير محرزة بإحرازه نفسه لاختلاف الدارين، فبقي الكل فيئاً وغنيمة) ش: وذلك أن الأصل أن تكون الأموال بأيدي الملاك بالعرف.
فإن قلت: قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عصموا مني دماءهم وأموالهم» .
قلت: هذا باعتبار الغلبة، يعني المال الذي في يده أو ما هو في معناه للعرف لأن من دأب الشرع بناء الحكم على الغلبة.
[أسلم في دار الحرب ثم جاء إلى دار الإسلام]
م: (وإن أسلم في دار الحرب ثم جاء) ش: إلى دار الإسلام م: (فظهر على الدار) ش: أي دار الحرب م: (فأولاده الصغار أحرار مسلمون تبعاً لأبيهم، لأنهم كانوا تحت ولايته حين أسلم، إذ الدار واحدة) ش: أي إن الدار كانت واحدة في حالة الإسلام، ولم يوجد حينئذ ما يمنع التبعية وهو تباين الدارين.
م: (وما كان من مال أودعه مسلماً أو ذمياً فهو له، لأنه في يد محترمة ويده كيده وما سوى ذلك فيء) ش: أراد به المرأة وأولاده الكبار والمال الذي غصبه مسلم أو ذمي أو كان مودعاً عند حربي م:(7/213)
أما المرأة وأولاده الكبار فلما قلنا، وأما المال الذي في يد الحربي فلأنه لم يصر معصوما لأن يد الحربي ليست يدا محترمة. وإذا أسلم الحربي في دار الحرب فقتله مسلم عمدا أو خطأ وله ورثة مسلمون هنالك، فلا شيء عليه إلا الكفارة في الخطأ. وقال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تجب الدية في الخطأ والقصاص في العمد، لأنه أراق دما معصوما لوجود العاصم وهو الإسلام لكونه مستجلبا للكرامة، وهذا لأن العصمة أصلها المؤثمة لحصول أصل الزجر بها، وهي ثابتة إجماعا والمقومة كمال فيه لكمال الامتناع به، فيكون وصفا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(أما المرأة وأولاده الكبار فلما قلنا) ش: أشار به إلى قوله: لأنهم حربيون كبار م: (وأما المال الذي في يد الحربي فلأنه لم يصر معصوماً، لأن يد الحربي ليست يداً محترمة، وإذا أسلم الحربي في دار الحرب فقتله مسلم عمداً أو خطأ وله ورثة مسلمون هنالك، فلا شيء عليه إلا الكفارة) ش: وهي الرواية المشهورة عن أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - في " الجامع الصغير " وغيره.
وروي عن أبي حنيفة قال: لا دية عليه ولا كفارة من قبل أن الحكم لم يجر عليهم. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: أضمنه الدية وأجعل عليهم م: (في الخطأ) ش: الكفارة. وأستحسن ذلك وأدع القياس، كما قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كذا ذكره الكرخي في مختصره.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تجب الدية في الخطأ والقصاص في العمد) ش: وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله - م: (لأنه) ش: أي لأن القاتل م: (أراق دماً معصوماً لوجود العاصم وهو الإسلام لكونه) ش: أي لكون الإسلام م: (مستجلباً للكرامة) ش: يعني أن الإسلام مستجل للكرامة. وفي بعض النسخ: لكونه مستجلباً للكرامة. وتحقيقه أن العصمة تثبت نعمة وكرامة، فتعلق بما له أثر في استحقاق الكرامات وهو الإسلام؛ إذ به تحصل السعادة الأبدية التي هي جماد ولا أثر لها في استحقاق الكرامة. ومن أراق دماً معصوماً إن كان خطأ ففيه الدية والكفارة، وإن كان عمداً ففيه القصاص، كما لو فعل ذلك في دار الإسلام.
م: (وهذا) ش: أي وجوب الدية في الخطأ والقصاص في العمد م: (لأن العصمة أصلها المؤثمة لحصول أصل الزجر بها) ش: أي بالمؤثمة، فإن من علم أنه يأثم بقتل الزجر عنه نظراً إلى الجبلة السليمة عن الميل عن الاعتدال م: (وهي) ش: أي العصمة م: (ثابتة) ش: أي بالإسلام م: (إجماعاً) ش: لأنه لا قائل بعدم الإثم على من قتل مسلماً، في أي موضع كان.
م: (والمقومة) ش: أي العصمة المقومة. م: (كمال فيه) ش: أي في أصل العصمة م: (لكمال الامتناع به) ش: أي بأصل العصمة؛ لأنه إذا وجب الإثم والمال كان في ذلك أكمل، وأثم في المنع من الذي وجب في الإثم دون المال. م: (فيكون وصفاً فيه) ش: أي فيكون الكمال وصفاً في ذلك(7/214)
فيه فتتعلق بما علق به الأصل. ولنا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] (النساء: الآية 92) ، جعل التحرير كل الموجب رجوعا إلى حرف الفاء، أو إلى كونه كل المذكور، فينتفي غيره، ولأن العصمة المؤثمة بالآدمية؛ لأن الآدمي خلق متحملا لأعباء التكليف، والقيام بها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأصل وهو العصمة المؤثمة م: (فيتعلق) ش: أي يتعلق الوصف الذي هو المقومة بالإسلام م: (بما علق به الأصل) ش: وهو العصمة المؤثمة، وهي تتعلق بنفس الإسلام، وكذا العصمة المقومة أيضاً فتثبت العصمة به جميعاً بالإسلام، فتجب الكفارة والدية بقتل الذي لم يهاجر إلينا.
م: (ولنا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] (النساء: الآية 92)) ش: وإن أبا حنيفة يؤول هذه الآية بالذين أسلموا في دار الحرب ولم يهاجروا، وهو المنقول عن بعض أئمة التفسير.
ووجه الاستدلال بالآية أن الله تعالى بين المؤمن المطلق، وبين المؤمن الذي هو من قوم عدو لنا في حق الحكم المختص بالقتل، فجعل الحكم في الأول الكفارة بقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وفي الثاني الكفارة دون الدية بقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] بيان ذلك من وجهين:
أحدهما: م: (جعل التحرير كل الموجب) ش: بفتح الجيم م: (رجوعاً) ش: أي من حيث الرجوع م: (إلى حرف الفاء) ش: فإنه للجزاء، اسم لما يكون كافياً، فإذا كان كافياً كان كل الموجب، فإذا وجب غيره ما يكون التحرير كافياً ولا كل الجزاء.
والوجه الثاني: وهو قوله م: (أو إلى كونه) ش: أي أو رجوعا إلى كونه التحرير م: (كل المذكور) ش: حيث لم يذكر غيره م: (فينتفي غيره) ش: أي غير التحرير، لأن قصد الشارع في مثله إخراج العبد عن عهدة الحكم المتعلق بالحادثة ولا يتحقق ذلك إلا ببيان الحكم كله. فلو كان غيره من تتمة هذا الحكم لذكره في موضع البيان.
وقال مولانا حافظ الدين: بيان الشارع على نوعين: بيان كفاية وبيان نهاية، وهاهنا بيان النهاية، فلا يجوز أن تكون الدية واجبة ولا ذكرها، إذ لو وجبت لكان البيان قاصراً، فيلزم التكرار.
م: (ولأن العصمة المؤثمة) ش: هذا دليل معقول، بيان ذلك أن العصمة المؤثمة متعلقة م: (بالآدمية لأن الآدمي خلق متحملاً لأعباء التكليف) ش: أي لأثقاله، جمع عبأ بالكسر، وهو المحل، ومن خلا من شيء وجب عليه القيام به فالآدمي وجب عليه القيام بأعباء التكاليف م: (والقيام بها)(7/215)
بحرمة التعرض، والأموال تابعة لها، أما المقومة فالأصل فيها الأموال، لأن التقوم يؤذن بجبر الفائت، وذلك في الأموال دون النفوس، لأن من شرطه التماثل وهو في المال دون النفس فكانت النفوس تابعة،
ثم العصمة المقومة في الأموال تكون بالإحراز بالدار، لأن العزة بالمنعة فكذلك في النفوس، إلا أن الشرع أسقط اعتبار منعة الكفرة. لما أنه أوجب إبطالها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي بأعباء التكاليف إنما يكون م: (بحرمة التعرض) ش: فالآدمي وجب أن يكون حرام التعرض مطلقاً، إلا أن الله أبطل ذلك في الكافر بعارض الكفر، فإذا زال الكفر بالإسلام عاد على الأصل م: (والأموال تابعة لها) ش: أي للآدمية التي تثبت العصمة المؤثمة لها، لأن الأموال جعلت في الأصل مباحة، وإنما صارت معصومة لتمكن الآدمي من الانتفاع بها في حاجته، فكانت تابعة للآدمية.
م: (أما المقومة) ش: أي أما العصمة المقومة م: (فالأصل فيها الأموال) ش: يعني الأصل في المتقومة غير الآدمي م: (لأن التقوم يؤذن) ش: أي يشعر م: (بجبر الفائت) ش: ومعنى الجبر يتحقق في الأموال دون النفوس، إذ من شرط الجبر التماثل م: (وذلك في الأموال دون النفوس، لأن من شرطه التماثل) ش: أي من شرط الجبر التماثل صورة ومعنى، كما في ذوات الأمثال أو معنى فقط، كما في ذوات القيم م: (وهو في المال دون النفس) ش: لأنه يتحقق في النفس، فإذا كان كذلك م: (فكانت النفوس تابعة) ش: للأموال في التقوم في العصمة، ومن هذا علم أن العصمة المؤثمة أصل مستقل في شيء، والعصمة المقومة أصل في شيء آخر، وليس أحدهما بكمال في الآخر ولا وصف زائد عليه.
م: (ثم العصمة المقومة في الأموال تكون بالإحراز بالدار) ش: أي بدار الإسلام، لأنها عزة فلا تكون بغيره م: (لأن العزة بالمنعة) ش: أي منعة المسلمين، لأن التقويم يبنى على خطر المحل، والخطر إنما يثبت إذا كان ممنوعاً عن الأخذ، إذ فيما تصل إليه الأيدي بلا منازع، وإلا موانع لا تكون خطيرة كالماء والتراب، فعلقنا التقويم بالإحراز بالمنعة، وأما الإسلام فلا يؤثر في إناءة العصمة المقومة، لأن الدين ما وضع لاكتساب الدنيا، وإنما وضع لاكتساب الآخرة، وإذا كانت العصمة المقومة في الأموال بالمنعة.
م: (فكذلك في النفوس) ش: لأنها تابعة لها كما ذكرنا، لكن لا صفة لدار الحرب، وهو معنى قوله م: (إلا أن الشرع أسقط اعتبار منعة الكفرة، لما أنه) ش: أي أن الشرع م: (أوجب إبطالها) ش: أي أن الشرع سلطنا على إبطال منعة الكفرة، وإذا لم يكن منعة لا يوجب الإحراز، وإذا لم يوجد الإحراز لا توجد العصمة المقومة. وإذا لم توجد العصمة المقومة لا تجب الدية.(7/216)
والمرتد والمستأمن في دارنا من أهل دارهم حكما لقصدهما الانتقال إليها.
ومن قتل مسلما خطأ لا ولي له، أو قتل حربيا دخل إلينا بأمان فأسلم فالدية على عاقلته للإمام،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأكمل: هذا في غاية التحقيق خلا أنه يوهم أن لا يملكوا أموالنا بالإحراز إلى دارهم كما قال به الشافعي، ودفعه بأن معنى قوله: إن الشرع أسقط اعتبارها حال كونهم في دارهم، وأما إذا وقع خروجهم إلى دارنا وإحراز أموالنا باليد المحافظة والناقلة، فقد استولوا على مال مباح كما مر، وذلك يوجب الملك لا محالة.
م: (والمرتد والمستأمن في دارنا من أهل دارهم) ش: أي دار أهل الحرب م: (حكماً) ش: أي من حيث الحكم، وهذا جواب عما يقال: إن المرتد والمستأمن محرز بدار الإسلام، فيجب أن يتقوم مالهم تقوماً حتى لا تجب الدية بقتلهما.
فأجاب: بينهما من أهل دارهم حكما م: (لقصدهما الانتقال إليها) ش: أي إلى دار الحرب، وكون المستأمن من أهل دارهم ظاهر، ولا شك في قصده الانتقال، وأما المرتد فكذلك، لأنه يقصد الانتقال رجوعاً عن القتل.
وقيل الدار داران عندنا: دار الإسلام ودار لحرب. وعند الشافعي الدنيا دار واحدة، والبلاد أجزاؤها، فلا تتغاير أحكامها.
ونحن نقول: المراد بدار الإسلام بلاد تجري فيها أحكام الإسلام، وبلاد الحرب بلاد يجري فيها أمر عظيمهم، وتكون تحت قهره، فتغايرا اسماً ووصفاً فيتغايران حكماً.
وعلى هذا الأصل مسائل فيها هذه:
ومنها: أن المرتد إذا لحق بدار الحرب وحكم به عتق مدبروه، وأمهات أولاده، وتنفسخ إجارته على ما يجيء في بابه إن شاء الله تعالى.
ومنها: وقوع الفرقة بتباين الدارين.
ومنها: وجوب الحد على من زنى في دار الحرب.
ومنها: استحقاق سهم الفرسان إذا جاوز الدرب فارسا فنفق فرسه وقاتل راجلاً.
ومنها: عدم جواز القسمة في دارهم، وغير ذلك من الأحكام.
[من قتل مسلماً خطأ لا ولي له أو قتل حربياً دخل إلينا بأمان]
م: (ومن قتل مسلماً خطأ لا ولي له، أو قتل حربياً دخل إلينا بأمان) ش: أي إلى دار الإسلام م: (فأسلم فالدية على عاقلته للإمام) ش: أي على عاقلة القاتل الدية للإمام.(7/217)
وعليه الكفارة، لأنه قتل نفسا معصومة خطأ، فيعتبر بسائر النفوس المعصومة، ومعنى قوله: للإمام، أن حق الأخذ له، لأنه لا وارث له، وإن كان عمدا، فإن شاء الإمام قتله، وإن شاء أخذ الدية، لأن النفس معصومة والقتل عمد والولي معلوم، وهو العامة أو السلطان، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السلطان ولي من لا ولي له» ، وقوله: إن شاء أخذ الدية، معناه بطريق الصلح، لأن موجب العمد هو القود عينا، وهذا لأن الدية أنفع في هذه المسألة من القود،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي بعض النسخ: على العاقلة للإمام م: (وعليه الكفارة، لأنه قتل نفساً معصومة خطأ، فيعتبر بسائر النفوس المعصومة) ش: أما المسلم فلقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء: 92] ... (النساء: الآية 92) ، وأما المستأمن لما أسلم صار من أهل دارنا، فصار حكمه حكم سائر المسلمين، وللإمام أن يأخذ ديتها ويضعها في بيت المال لعدم الوارث.
م: (ومعنى قوله: للإمام) ش: أي معنى قول محمد: للإمام م: (أن حق الأخذ له، لأنه لا وارث له وإن كان عمداً) ش: أي وإن كان قتل المذكورين عمداً، أي قتلاً عمداً م: (فإن شاء الإمام قتله) ش: أي القاتل م: (وإن شاء أخذ الدية، لأن النفس معصومة، والقتل عمد والولي معلوم، وهو العامة أو السلطان) .
ش: اعترض عليه: بأن التردد فيمن له ولاية القصاص يوجب سقوطه، كما في المكاتب إذا قتل عن وفاء وله وارث.
وأجيب: بأن الإمام ها هنا نائب عن العامة، فصار كأن الولي واحد، بخلاف مسألة المكاتب.
م: (قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السلطان ولي من لا ولي له» ش: هذا قطعة من حديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فالمهر لها لما أصاب منها، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» وقال الترمذي: حديث حسن، وقد تقدم الكلام فيه في أوائل النكاح.
م: (وقوله) ش: أي وقول محمد في " الجامع الصغير " م: (وإن شاء أخذ الدية، معناه بطريق الصلح، لأن موجب العمد هو القود عيناً) ش: أي القصاص معينا م: (وهذا) ش: أي جواز أخذ الدية هنا م: (لأن الدية أنفع في هذه المسألة من القود) ش: أي القصاص، والحق للعامة والإمام(7/218)
فلهذا كان له ولاية الصلح على المال، وليس له أن يعفو؛ لأن الحق للعامة، وولايته نظرية، وليس من النظر إسقاط حقهم من غير عوض.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كالنائب عنهم م: (فلهذا كان له ولاية الصلح على المال، وليس له أن يعفو، لأن الحق للعامة) ش: أي لعامة الناس م: (وولايته) ش: أي الإمام م: (نظرية، وليس من النظر إسقاط حقهم) ش: أي حق العامة م: (من غير عوض) ش: عن القتل. وإذا كان المقتول لقيطاً فقتله الملتقط أو غيره خطأ تجب الدية لبيت المال على عاقلة القاتل، والكفارة عليه. وإن كان عمداً فإن شاء الإمام قتله وإن شاء صالحه على الدية عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: الدية عليه في مسألة ولا أقتله به، قيل: إني لا أعرف له ولياً، كذا ذكره الحاكم في " الكافي " وشمس الأئمة البيهقي في " الشمائل ".(7/219)
باب العشر والخراج قال: أرض العرب كلها أرض عشر، وهي ما بين العذيب إلى أقصى حجر باليمن بمهرة إلى حد الشام. والسواد أرض خراج، وهو ما بين العذيب إلى عقبة حلوان، ومن الثعلبية ويقال من العلث إلى عبادان؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب العشر والخراج]
م: (باب العشر والخراج) ش: أي هذا باب في بيان حكم العشر والخراج. والعشر لغة أحد الأجزاء العشرة، والخراج اسم لما يخرج من غلة الأرض أو الغلام، ثم سمي ما يأخذه السلطان خراجاً، فيقال: أدى فلان خراج أرضه، وأدى أهل خراج رؤسهم، يعني الجزية.
م: (قال: أرض العرب كلها أرض عشر) ، ش: قال الكرخي في مختصره: أرض العرب كلها أرض عشر، وهي أرض الحجاز وتهامة ومكة واليمن والطائف والبرية، قال القدوري: ما ذكره المصنف بقوله:.
م: (وهي) ش: أي أرض العرب، وفي بعض النسخ: وهو، قال الكاكي: ذكره بالنظر إلى خبره، وهو ما يعني كلمة ما التي في قوله م: (ما بين العذيب إلى أقصى حجر باليمن بمهرة إلى حد الشام) ش: أي حد الشام عذيب، بضم العين المهملة وفتح الذال المعجمة وبالباء الموحدة، وهو ماء التميم. والحجر بفتحتين يعني الصخر، لأنه وقع في أمالي أبي يوسف: الصخر موضع الحجر، ويظهر من ذلك أن من روى بسكون الجيم وفسره بالجانب فقد حرف.
ومهرة بفتح الهاء والسكون اسم رجل، وقيل اسم قبيلة تنسب إليها الإبل المهرية، وسمي ذلك المقام به فيكون بمهرة بدلاً من قوله: باليمن، هذا أطول أرض العرب. وأما عرضها من يسرين والدهناء ورمل عالج إلى مشارق الشام، أي قراها.
م: (والسواد أرض خراج) ش: أي أرض سواد العراق، أي قراها أرض خراج، وبه صرح التمرتاشي. وسمي السواد لخضرة أشجاره وزروعه م: (وهو) ش: أي السواد م: (ما بين العذيب إلى عقبة حلوان) ش: بضم الحاء اسم بلد. وقال الأترازي: المراد من السواد المذكور سواد الكوفة، وهو سواد العراق، وحده من العذيب إلى عقبة حلوان عرضاً، ومن العلث إلى عبادان طولاً. وأما سواد البصرة قال: الأهواز وفارس.
وقال المصنف: م: (ومن الثعلبية، ويقال من العلث إلى عبادان) ش: وقال الأترازي: وما قيل من الثعلبية إلى عبادان غلط، لأن الثعلبية من منازل البادية بعد العذيب بكثير، والعلث بفتح العين وسكون اللام وبالثاء المثلثة قرية موقوفة على العلوية على شرقي دجلة، وهو أول العراق(7/220)
لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والخلفاء الراشدين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لم يأخذوا الخراج من أراضي العرب، لأنه بمنزلة الفيء، فلا يثبت في أراضيهم، كما لا يثبت في رقابهم، وهذا لأن وضع الخراج من شرطه أن يقر أهلها على الكفر كما في سواد العراق،
ومشركو العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين فتح سواد العراق وضع الخراج عليها بمحضر من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شرقي دجلة، وعبادان بتشديد الباء الموحدة: حضر صغير على شط البحر، وفي المثل: ما وراء عبادان قرية.
وفي شرح " الوجيز ": سواد العراق من عبادان إلى حديثة الموصل طولاً، ومن عذيب القادسية إلى حلوان عرضاً، وطوله مائة وستون فرسخاً، وعرضه ثمانون فرسخاً، ومساحته ستة وثلاثون ألف ألف جريب.
م: (لأن «النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والخلفاء الراشدين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لم يأخذوا الخراج من أراضي العرب» ش: هذا ليس له أصل في كتب الحديث، ولم يذكر أحد من الشراح حال هذا الحديث بالكلية، غير أن الأترازي ذكره مثل ما ذكره المصنف، ثم قال: والأرض لا تخلو من أحد الحقين، يعني العشر والخراج، فدل أن الذي ذكره المصنف على أن أرض العرب عشرية.
م: (لأنه) ش: أي ولأن الخراج م: (بمنزلة الفيء) ش: من حيث إنه لا يبتدئه المسلم م: (فلا يثبت) ش: أي الخراج م: (في أراضيهم) ش: أي في أراضي العرب م: (كما لا يثبت في رقابهم) ش: لأن شرط وضعه في الرقاب إقرار أهلها عليها على الكفر، لأنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف كما يذكره المصنف الآن م: (وهذا لأن وضع الخراج) ش: على أرض العرب م: (من شرطه) ش: أي من شرط الوضع م: (أن يقر أهلها على الكفر كما في سواد العراق) ش: حيث وضع عليه الخراج كما يجيء الآن.
[مشركوا العرب هل يقبل منهم الخراج]
م: (ومشركو العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين فتح سواد العراق وضع الخراج عليها بمحضر من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: وكان فتح سواد العراق على يدي سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في خلافة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان ابتداء سعد في غزو العراق في سنة أربع عشرة، لم يزل يفتح مدنه إلى سنة سبعة عشر.
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه: حدثنا علي بن أبي مهر عن الشيباني عن أبي عبيد الله الثقفي، قال: وضع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أهل السواد، على كل جريب يبلغه الماء عامراً ودامراً درهما وقفيزاً من طعامهم، وعلى الرطاب على كل جريب أرض خمسة دراهم وخمسة أقفزة من طعام، وعلى الكروم على كل جريب أرض عشرة دراهم وعشرة أقفزة. ولم يضع على النخل(7/221)
ووضع على مصر حين افتتحها عمرو بن العاص،
وكذا اجتمعت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على وضع الخراج على الشام. قال: وأرض السواد مملوكة لأهلها يجوز بيعهم لها وتصرفهم فيها، لأن الإمام إذا فتح أرضا عنوة وقهرا له أن يقر أهلها عليها ويضع عليها وعلى رؤوسهم الخراج، فتبقى الأرض مملوكة لأهلها، وقد قدمناه من قبل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شيئاً جعله تبعاً للأرض.
م: (ووضع على مصر حين افتتحها عمرو بن العاص) ش: وكان فتح مصر في سنة عشرين من الهجرة. قال الأترازي: وضع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الخراج على مصر حين افتتحت صلحاً على يد عمرو بن العاص، انتهى.
وقال الواقدي: حدثني من سمع صالح بن كيسان عن يعقوب بن عيينة عن شيخه من أهل مصر أن عمرو بن العاص افتتح مصر عنوة، واستباح ما فيها وعزل منه مغانم المسلمين، ثم صالحهم عمرو بن العاص بعد وضع الجزية في رقابهم، ووضع الخراج على أرضهم، ثم كتب إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذلك.
[وضع الخراج على الشام]
م: (وكذا اجتمعت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وضع الخراج على الشام) ش: قال الأترازي: وضع عمر بن الخطاب الخراج على الشام حين افتتح بيت المقدس ومدن الشام كلها صلحاً دون أراضيها. وأما أراضيها ففتحت عنوة على يدي زيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وأبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - انتهى. قلت: قال ابن كثير: اختلفت العلماء في دمشق هل فتحت صلحاً أو عنوة، فأكثر العلماء على أنه استقر أمرها على الصلح، وقيل بل جعل نصفها صلحاً ونصفها عنوة، ونصر بن إسحاق وسيف بن عمر وظيفة بن خياط وأبو عبيدة وآخرون، أن فتح دمشق كان في سنة أربع عشرة من الهجرة.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وأرض السواد مملوكة لأهلها) ش: هو سواد العراق كما ذكرناه م: (يجوز بيعهم لها) ش: أي الأرض م: (وتصرفهم فيها) ش: أي في أرض السواد بأي نوع كان من أنواع التصرفات م: (لأن الإمام إذا فتح أرضاً عنوة وقهراً) ش: عطف قهراً على عنوة عطف تفسير م: (له) ش: أي للإمام م: (أن يقر أهلها عليها ويضع عليها وعلى رؤوسهم الخراج) ش: والمراد من الخراج على الرؤوس الجزية.
ولما جاز إقرار الإمام إياهم على أراضيهم م: (فتبقى الأرض مملوكة لأهلها) ش: يتصرفون فيها كيفما شاءوا ولهم بيعها وغير ذلك م: (وقد قدمناه من قبل) ش: أي في باب قسمة الغنائم، وقال الشافعي - في الأظهر - ومالك وأحمد: لا يجوز بيعها وهبتها وحبسها لأهلها، لأنها موقوفة على المسلمين. وعن الشافعي يقسمها ويخمسها ولا يقر أهلها عليها.(7/222)
قال: وكل أرض أسلم أهلها أو فتحت عنوة وقسمت بين الغانمين فهي أرض عشر، لأن الحاجة إلى ابتداء التوظيف على المسلم والعشر أليق به؛ لما فيه من معنى العبادة، وكذا هو أخف حيث يتعلق بنفس الخارج،
وكل أرض فتحت عنوة فأقر أهلها عليها فهي أرض خراج. وكذا إذا صالحهم، لأن الحاجة إلى ابتداء التوظيف على الكافر والخراج أليق به. ومكة مخصوصة من هذا، فإن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فتحها عنوة وتركها لأهلها ولم يوظف الخراج. وفي " الجامع الصغير ": كل أرض فتحت عنوة فوصل إليها ماء الأنهار فهي أرض خراج، وما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والحجة عليه فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين فتح العراق بمحضر من الصحابة من غير نكير.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وكل أرض أسلم أهلها أو فتحت عنوة وقسمت بين الغانمين فهي أرض عشر، لأن الحاجة إلى ابتداء التوظيف على المسلم) ش: أي لأن الحق المتعلق لها ابتدأ به المسلم م: (والعشر أليق به لما فيه من معنى العبادة) ش: ولهذا تصرف الصدقات م: (وكذا هو) ش: أي العشر م: (أخف) ش: أي عن الخراج م: (بحيث يتعلق بنفس الخارج) ش: لأنه لا يجب حتى يوجد الخارج.
م: (وكل أرض فتحت عنوة فأقر أهلها فهي أرض خراج، وكذا إذا صالحهم، لأن الحاجة إلى ابتداء التوظيف على الكافر والخراج أليق به) ش: أي بالكافر، لأن فيه معنى العقوبة، لأنه يشبه الجزية التي هي العقوبة على الكافر، ولأن في الخراج تغليظاً، ولهذا أنه يجب وإن لم يزرع م: (ومكة مخصوصة من هذا) ش: هذا جواب القياس: في أرض مكة الخراج، لأنها فتحت عنوة، وقال: ومكة مخصوصة من هذا، هذا جواب القياس، فإن القياس في أرض مكة الخراج، لأنها فتحت عنوة. وقال: مكة مخصوصة بفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكما لا رق على العرب؛ فكذلك لا خراج على أراضيهم. وقيل: جعلت مكة عشرية تعظيماً لها. قوله من هذا، أي من قوله وكل أرض فتحت عنوة.. إلى آخره م: (فإن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فتحها) ش: أي فتح مكة م: (عنوة وتركها لأهلها ولم يوظف الخراج) ش: فيه وردت أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه البخاري ومسلم «عن أم هانئ أنها أجارت رجلاً من المشركين يوم الفتح، فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك فقال: " قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت» .
قال المنذري في " مختصره ": استدل بهذا الحديث على أن مكة فتحت عنوة، إذ لو فتحت صلحا لوقع به الإذن العام، ولم يحتج إلى أمان أم هانئ ولا تجديده من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (وفي " الجامع الصغير ": كل أرض فتحت عنوة فوصل إليها ماء الأنهار فهي أرض خراج، وما(7/223)
لم يصل إليها ماء الأنهار واستخرج منها عين فهي أرض عشر، لأن العشر يتعلق بالأرض النامية، ونماؤها بمائها، فيعتبر السقي بماء العشر أو بماء الخراج.
ومن أحيا أرضا مواتا فهي عند أبي يوسف معتبرة بحيزها، فإن كانت من حيز أرض الخراج ومعناه بقربه فهي خراجية، وإن كانت من حيز أرض العشر فهي عشرية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يصل إليها ماء الأنهار واستخرج منها عين فهي أرض عشر، لأن العشر يتعلق بالأرض النامية، ونماؤها بمائها فيعتبر السقي بماء العشر أو بماء الخراج) ش: وقال الفقيه أبو الليث في شرح " الجامع الصغير " فقوله: ولو كانت البلدة خراجية ونحا رجل في بعض النواحي، فإن سقاها من غير أن استيقظها أو من ماء السماء فهي عشرية، وإن سقاها من الأنهار الصغار فهي خراجية.
وإن سقاها من الأنهار العظام فقد روي عن محمد في هذا روايتان، في رواية أبي سليمان: تكون خراجية، ويجعلها تابعة للبلدة، وفي رواية هشام عن محمد: تكون عشرية لأن هذا مباح كماء السماء.
فائدة:
خراسان ومرو والري فتحها عبد الله بن عامر بن كدير في خلافة عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأما ما وراءها فافتتح بعد عثمان على يدي سعيد بن عفان لمعاوية صلحاً، وسمرقند وكشر ونصف وبخارى، فتحت على يدي المهلب بن أبي صفرة وقتيبة بن مسلم، والذي فتحها أبو موسى الأشعري في ولاية عثمان صلحاً، وطبرية فتحها سعيد بن العاص في ولاية عثمان صلحاً، ثم فتحها عمر بن العلاء والطالقان ودين سنة سبع وخمسين ومائة.
وأما جرجان فافتتحها يزيد بن المهلب في خلافة سليمان بن عبد الملك سنة ثمان وتسعين. وأما كرمان ومستحناه ففتحهما عبد الله بن عامر في خلافة عثمان صلحاً. وأما الأهواز وفارس وأصبهان، ففتحت عنوة على يدي أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وأما الجبل فافتتح كله عنوة في وقعة جر ونهاوند على يدي سعيد والنعمان ابني مقرن.
والجزيرة فتحت صلحاً على يدي عياض بن غنم، والجزيرة ما بين الفرات ودجلة، والموصل من الجزيرة. وأما أرض الهند فافتتحها القاسم بن محمد الثقفي سنة ثلاث وتسعين، كذا ذكر القتبي.
[من أحيا أرضاً مواتاً من حيز أرض الخراج]
م: (ومن أحيا أرضاً مواتاً فهي عند أبي يوسف معتبرة بحيزها، فإن كانت من حيز أرض الخراج ومعناه بقربه فهي خراجية، وإن كانت من حيز أرض العشر فهي عشرية) ش: أي معنى قول القدوري بحيزها بقربها، وهذا تفسير المصنف لقول القدوري، لأنه ذكره في مختصره.(7/224)
والبصرة عنده كلها عشرة بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لأن حيز الشيء يعطى له حكمه،
كفناء الدار يعطى له حكم الدار، حتى يجوز لصاحبها الانتفاع به.
وكذا لا يجوز أخذ ما قرب من العامر، وكان القياس في البصرة أن تكون خراجية، لأنها من حيز أرض الخراج، إلا أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وظفوا عليها العشر فترك القياس لإجماعهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال في " ديوان الأدب ": حيز الناحية وجمعه أحياز جمع على لفظه، وأصله من الواو، قال في المجمل: القياس أحواز.
قلت: لأن أصل حيز حيوز، لأنه من الحوزاء، جمعت الياء والواو فسبقت إحداهما بالسكون فأبدلت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء.
والمراد من قوله: ومن أحيا أرضاً مواتاً، لمسلم، فإن الذمي إذا أحيا أرضاً مواتاً تكون خراجية، كذا في شرح الطحاوي.
وعلى قياس أبي يوسف ينبغي أن تكون البصرة عنده خراجية لكونها من حيز أرض الخراج، وإن أحياها المسلمون، إلا أن القياس ترك بإجماع الصحابة على توظيف العشر عليها. وهذا معنى قوله م: (والبصرة عنده كلها عشرية بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: كذا: قاله أبو عمر وغيره م: (لأن حيز الشيء يعطى له حكمه) ش: أي حكم ذلك الشيء، وهذا دليل أبي يوسف على مذهبه.
م: (كفناء الدار يعطى له حكم الدار، حتى يجوز لصاحبها الانتفاع به) ش: أي حتى يجوز لصاحب الدار الانتفاع بفناء داره، وإن لم يكن الفناء ملكاً له لاتصاله بملكه، وقد ذكر في " المبسوط ": قال المستأجر لأجراء: هذا فنائي وليس لي فيه حق الحفر، فحفروا فمات فيه إنسان، فالضمان على الأجراء قياساً، لأنهم علموا بفساد الأمر فما منعهم.
وفي الاستحسان أن الضمان على المستأجر، لأن كونه فناء منزله كونه مملوكاً له لإطلاق يده في التصرف فيه من القانطين والحطب وربط الدواب والركوب وبناء الدكان، فعلم أن الفناء حق الانتفاع وإن لم يكن ملكاً له.
[توظيف العشر على البصرة]
م: (وكذا لا يجوز أخذ ما قرب من العامر) ش: وفي بعض النسخ: وكذا لا يجوز أخذ ما قرب العامر، لأن لأهل العامر حق الانتفاع فيما قرب من العامر م: (وكان القياس في البصرة أن تكون خراجية) ش: قيل هذا تكرار، لأنه قال: والبصرة عشرية، إلى آخره.
ورد عليه بأن الأول رواية القدوري وهذا شرح لذلك م: (لأنها من حيز أرض الخراج، إلا أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وظفوا عليها العشر، فترك القياس لإجماعهم) ش: أي لإجماع الصحابة على توظيف العشر على البصرة، وقد ذكرناه.(7/225)
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن أحياها ببئر حفرها أو بعين استخرجها أو ماء دجلة والفرات أو الأنهار العظام التي لا يملكها أحد، فهي عشرية، وكذا إن أحياها بماء السماء، وإن أحياها بماء الأنهار التي احتفرها الأعاجم مثل نهر الملك ونهر يزدجرد، فهي خراجية لما ذكرنا من اعتبار الماء، إذ هو السبب للماء، ولأنه لا يمكن توظيف الخراج ابتداء على المسلم كرها، فيعتبر في ذلك الماء لأن السقي بماء الخراج دلالة التزامية. قال: والخراج الذي وضعه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أهل السواد من كل جريب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن أحياها ببئر حفرها أو بعين استخرجها أو ماء دجلة والفرات أو الأنهار العظام التي لا يملكها أحد فهي عشرية، وكذا إن أحياها بماء السماء) ش: أي المطر م: (وإن أحياها بماء الأنهار التي احتفرها الأعاجم مثل نهر الملك) ش: ونهر الملك قريب من بغداد على طريق الكوفة، والمراد من الملك كسرى نوشيروان بن قباز، وكان جميع ملكه سبعاً وأربعين سنة وسبعة أشهر.
وكسرى برويز من أولاده، وهو برويز بن هرمز بن كسرى نوشيروان، وقام على الملك ثمانياً وثلاثين سنة م: (ونهر يزدجرد) ش: وهو يزدجرد بن شهريار بن كسرى، ملك وهو ابن خمس عشرة سنة، ثم لما قتل رستم في قتال سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالفارسية، هرب يزدجرد إلى مرو في طريق سجستان فقتل هناك.
وكان جميع ملكه عشرين سنة وهو آخر ملوك العجم، ولم يزل منهزماً من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى خراسان، وإلى بلاد الترك وعاد فقتل بمرو، وكان ذلك في سنة إحدى وثلاثين في خلافة عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (فهي خراجية لما ذكرنا من اعتبار الماء، إذ هو السبب للنماء، ولأنه لا يمكن توظيف الخراج ابتداء على المسلم كرهاً، فيعتبر في ذلك الماء، لأن السقي بماء الخراج دلالة التزامية) ش: أي التزام الخراج فتكون الأرض خراجية م: (قال: والخراج الذي وضعه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أهل السواد من كل جريب) ش: وهي أرض طولها ستون ذراعاً بذراع الملك كسرى، يزيد على ذراع العامة بقبضة، وهي ست قبضات، وذراع الملك سبع قبضات، كذا في " المغرب ".
وذكر التمرتاشي: أن طول الجريب ستون ذراعاً، وعرضه ستون ذراعاً بذراع الملك. وقيل: الجريب ما بذر فيه مائة رطل.
وقيل: الجريب ما بذر فيه من الحنطة ستون مناً في ديارنا. وقيل: الجريب خمسون مناً في ديارنا.
وقيل: ما نقله مقدار، كذا في " القنية " وفتاوى [ ... ] وفي " الكافي ": قيل: الجريب ستون(7/226)
يبلغه الماء قفيز هاشمي وهو الصاع ودرهم،
ومن جريب الرطبة خمسة دراهم،
ومن جريب الكرم المتصل والنخيل المتصل عشرة دراهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في ستون حكاية عن جريبهم في أراضيهم، وليس بتقدير لازم في الأراضي كلها، بل جريب الأرض يختلف باختلاف البلدان، فيعتبر في كل بلد بتعارف أهله م: (يبلغه الماء) ش: جملة من الفعل والفاعل والمفعول صفة لجريب.
وقوله: م: (قفيز هاشمي) ش: خبر المبتدأ، أعني قوله والخراج، وفسروا القفيز الهاشمي بقوله: م: (وهو الصاع ودرهم) ش: الصاع ثمانية أرطال، أي أربعة مناً، خلافاً لأبي يوسف. وقال الأترازي: اعلم أن القفيز الواجب في الخراج مطلق عن قيد الهاشمي والحجاجي في أكثر نسخ الفقه كالكاكي للحاكم الشهيد و " الشامل " في شرح الطحاوي وشروح " الجامع الصغير " للفقيه أبي الليث فخر الإسلام البزدوي وغير ذلك. وقال الولوالجي في فتاواه: القفيز هو الحجاجي، وهو ثمانية أرطال، وهو صاع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما نسب إلى الحجاجي أخرجه بعدما فقد، وأنه يسع فيه ثمانية أرطال وهي أربعة مناً. وفي قول أبي يوسف خمسة أرطال وثلث رطل، وكذلك في " خلاصة الفتاوى " فإذا كان الحجاجي وهو صاع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف يقيد صاحب " الهداية " والشافعي بالهاشمي، والهاشمي اثنان وثلاثون رطلاً.
وقال محمد: القفيز قفيز الحجاج، وهو ربع الهاشمي، وهو مثل الصاع، والصاع كان على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمانية أرطال.
وقال الأترازي: والمراد من القفيز الواجب قفيز ما يزرع فيها، كذا في " شرح الطحاوي ".
وقال الإمام ظهير الدين: إنه قفيز من حنطة أو شعير، والمراد من الدرهم درهم يوزن سبعة.
م: (ومن جريب الرطبة خمسة دراهم) ش: الرطبة بفتح الراء. قال في " المغرب ": المفرد الرطب، والجمع رطاب. ومنه حديث حذيفة وابن حنيف وظفا على كل جريب من أرض الزرع درهماً من أرض الرطبة خمسة دراهم.
وفي كتاب العشر: البقول غير الرطاب، فإنما البقول مثل الكراث ونحو ذلك، والرطاب هو القثاء والبطيخ والباذنجان وما يجري مجراه، انتهى.
قلت: الرطبة هي التي يقولها أهل مصر البرسيم، وأهل البلاد التركية ينجا، بضم الياء أول الحروف وسكون النون وبالجيم مقصور.
م: (ومن جريب الكرم المتصل والنخيل المتصل عشرة دراهم) ش: قال تاج الشريعة: الكرم المتصل(7/227)
وهذا هو المنقول عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه بعث عثمان بن حنيف حتى يمسح سواد العراق، وجعل حذيفة عليه مشرفا فمسح فبلغ ستا وثلاثين ألف جريب، ووضع على ذلك ما قلنا، وكان ذلك بمحضر من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والنخيل، والمتصلة ما يصل بعضها ببعض على وجه تكون كل الأرض مشغولة بها م: (وهذا هو المنقول عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أشار به إلى الذي ذكره على الوجه المذكور، منقول عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: (فإنه) ش: أي فإن عمر م: (بعث عثمان بن حنيف حتى يمسح سواد العراق، وجعل حذيفة عليه مشرفاً، فمسح فبلغ ستاً وثلاثين ألف جريب) ش: روى عبد الرزاق في " مصنفه ": أخبرنا معمر عن قتادة عن أبي محلف عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، بعث عمر بن الخطاب عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وعثمان بن حنيف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلى الكوفة فجعل عماراً على الصلاة والقتال.
وجعل ابن مسعود على القضاء وعلى بيت المال، وجعل عثمان بن حنيف على مساحة الأرض، وجعل لهم كل يوم شاة، ثم قال: ما أرى قرية يؤخذ منها كل يوم شاة إلا سيسرع فيها، ثم قال لهم: إني أنزلتكم في هذا المال ونفسي كوالي اليتيم، من كان غنياً فليستعفف، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف.
قال: فمسح عثمان بن حنيف سواد الكوفة من أرض أهل الذمة، فجعل على كل جريب النخل عشرة دراهم، وعلى كل جريب العنب ثمانية دراهم، وعلى جريب القصب ستة دراهم، وعلى الجريب من البر أربعة دراهم، وعلى الجريب من الشعير درهمين، وجعل على رأس كل رجل منهم أربعة وعشرين درهماً كل عام، ولم يضرب على النساء والصبيان، وأخذ من تجارهم من كل عشرين درهماً درهماً، فرفع ذلك إلى عمر - رضي الله عيه - فرضي به، انتهى.
وعثمان بن حنيف من أكابر الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وقد شهد أحدا والمشاهد، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخي بينه وبين علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مات في خلافة معاوية، وحذيفة بن اليمان هو حذيفة بن حسل بن جابر بن عمرو بن ربيعة اليمان، وينسب إلى جده هذا، سكن الكوفة ومات بالمدائن سنة ستة وثلاثين.
م: (ووضع على ذلك ما قلنا) ش: وقال الأترازي هكذا أثبت في النسخ، وكأنه سهو من الكاتب، لأن قياس الترتيب أن يقال وضع ذلك على ما قلنا، أي وضع الخراج على الوجه الذي قلنا في جريب الزرع وجريب الرطبة، وجريب الكرم. ورأيت في شرح تاج الشريعة نقل ذلك على الصحة، حيث قال: ووضع ذلك على ما قلنا، ولم يذكر شيئاً غير ذلك، فدل هذا على أن تفسير التركيب من الناسخ الجاهل م: (وكان ذلك بمحضر من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أي(7/228)
من غير نكير، فكان إجماعا، ولأن المؤن متفاوتة، فالكرم أخفها مؤنة، والمزارع أكثرها مؤنة، والرطاب بينهما، والوظيفة تتفاوت بتفاوتها، فجعل الواجب في الكرم في أعلاها وفي الزرع أدناها وفي الرطبة أوسطها، قال: وما سوى ذلك من الأصناف كالزعفران
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان ما نقل عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بحضور من صحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (من غير نكير، فكان إجماعا ") ش: أي من غير أن ينكر عليه أحد منهم، فكان إجماعاً على ذلك.
م: (ولأن المؤن) ش: بضم الميم وفتح الهمزة جمع مؤنة بفتح الميم وضم الهمزة. وفي " المغرب " المؤنة: الثقل بقوله: من: مانت القوم: إذا اجتمعت مؤنتهم، وقيل: من: منت الرجل مؤنة. وقيل: هي مفعلة عن الأون والأين، والأول أصح.
وقال الجوهري: المؤنة تهمز ولا تهمز وهي فعولة. وقال الفراء هي مفعلة من الأين وهو التعب والشدة، ويقال: هي مفعلة من الأون وهو الخروج والعدل، لأنه ثقل على اللسان.
ومانت القوم أمانهم أماناً: إذا حملت مؤنتهم. ومن ترك الهمزة قال: منتهم م: (متفاوتة) ش: والتفاوت الفوت أثر في تفاوت الواجب.
ألا ترى أن الواجب فيما سقي سيحاً من الأرض العشرية وهو العشر، وفيما سقي بغرب أو دالية أو سمانية نصف العشر.
م: (فالكرم أخفها مؤنة) ش: أي أخف الأشياء المذكورة وهي الرطبة، والكرم والنخل وريعه أكثر، فالواجب فيه أعلى وهو عشرة دراهم.
وهذا لأنه يبقى دهرً مديداً مع قلة المؤنة م: (والمزارع أكثرها) ش: أي أكثر الأشياء المذكورة م: (مؤنة) ش: لأن الزرع يحتاج فيه إلى الكرب وإلقاء البذر والحصاد والدياس ونحو ذلك كل سنة.
م: (والرطاب بينهما) ش: أي بين الأخف والأكثر، لأنه لا يحتاج إلى إلقاء البذر كل عام ولا بذرية فيها أصلاً، وتدوم أعواماً ليس كدوام الكرم، فكان الواجب فيما بين الأمرين وهو خمسة دراهم. قلت: هذا الذي قاله الشرح باعتبار عادة بلادهم، وأما في بلاد مصر ففي كل سنة يزرعونها.
م: (والوظيفة تتفاوت بتفاوتها) ش: أي بتفاوت المؤنة كما ذكرنا م: (فجعل الواجب في الكرم في أعلاها) ش: أي في أعلي المؤن م: (وفي الزرع أدناها، وفي الرطبة أوسطها. قال) ش: أي القدوري م: (وما سوى ذلك من الأصناف) ش: أي ما سوى جريب الزرع وجريب الرطبة وجريب الكرم م: (كالزعفران) ش: وفي النهاية أي أرض الزعفران تلحق بأرض الزرع أو الرطبة أو الكرم، وبأيها كانت أشبه في قدر العنة فهو مبلغ الطاقة، كذا ذكره الإمام التمرتاشي.(7/229)
والبستان وغيره يوضع عليها بحسب الطاقة، لأنه ليس فيه توظيف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد اعتبر الطاقة في ذلك، فتعتبرها فيما لا توظيف فيه. قالوا: ونهاية الطاقة أن يبلغ الواجب نصف الخارج لا يزاد عليه، لأن التنصيف عين الإنصاف، لما كان لنا أن نقسم الكل بين الغانمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[أنواع الخراج]
م: (والبستان) ش: كل أرض يحوطها حائط. في " فتاوى الظهيرية ": ولو كان في جوانب الأرض أشجار ووسطها مزرعة ففيها وظيفة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا شيء في الأشجار، وكذا لو غير أشجاراً غير مثمرة.
ولو كانت الأشجار مثمرة لا يمكن زراعة أرضها فهي كرم م: (وغيره) ش: أي وغير البستان م: (يوضع) ش: أي الخراج م: (عليها) ش: أي على الزعفران والبستان وغير البستان م: (بحسب الطاقة) ش: ففي أرض النخيل المطلقة يجعل عليها الخراج بقدر ما يطيق.
ولا يزاد على جريب الكرم. وفي جريب الزعفران بقدر ما يطيق أيضاً، وينظر إلى غلتها، فإن بلغت غلة الزرع تؤخذ قدر خراج الزرع، وإن بلغت قدر غلة الرطبة يؤخذ خمسة م: (لأنه ليس فيه) ش: أي فيما سوى ذلك م: (توظيف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: وذلك الخراج على نوعين، خراج وظيفة وهو الذي يشبه توظيف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وخراج مقاسمة وهو أن يكون الخراج من الأرض لا يوظف فيه فيوضع فيه بحسب الطاقة، وهو معنى قوله م: (وقد اعتبر الطاقة في ذلك) ش: فيما سوى ذلك من الأصناف م: (فتعتبرها) ش: أي الطاقة م: (فيما لا توظيف فيه) ش: لأن يوظف به.
م: (قالوا) ش: أي مشايخنا م: (ونهاية الطاقة أن يبلغ الواجب نصف الخارج لا يزاد عليه، لأن التنصيف عين الإنصاف) ش: قال فخر الإسلام البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإنما تتناهى الطاقة إلى نصف الخارج لا يزاد عليه.
ألا ترى أنه قال في كتاب " العشر " و " الخراج " و " السير الكبير " في أرض لم يخرج من الغلة إلا قدر قفيزين ودرهمين، وهي جريب: إن خراجها قفيز ودرهم، وهذا لأنا لما ظفرنا بهم وسعنا أن نسترقهم ونقسم أموالهم، فإذا مننا عليهم وقاطعناهم على نصف الخراج كان التنصيف هو الإنصاف بعينه، حيث كان النصف لنا والنصف لهم م: (لما كان لنا أن نقسم الكل بين الغانمين) ش: هذا متصل بما قبله.
حاصل معناه أنا حين ملكناهم كان لنا أن نقسم الكل بين الغانمين، ولكن أنصفناهم حيث رضينا بنصف الخارج من غير زيادة، وهذا عين الإنصاف منا حيث جعلنا النصف لهم والنصف لنا.(7/230)
والبستان كل أرض يحوطها حائط وفيها نخيل متفرقة وأشجار أخر. وفي ديارنا وظفوا من الدراهم في الأراضي كلها وترك كذلك، لأن التقدير يجب أن يكون بقدر الطاقة من أي شيء كان. قال: فإن لم تطق ما وضع عليها نقصهم الإمام، والنقصان عند قلة الريع جائز بالإجماع، ألا ترى إلى قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق، فقالا: لا، بل حملناها ما تطيق ولو زدناها لأطاقت،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والبستان كل أرض يحوطها حائط) ش: أي يكون حواليها حيطان) م: وفيها نخيل متفرقة وأشجار أخر ش: وفي المغرب: البستان: الجنة م: (وفي ديارنا) ش: ديار صاحب " الهداية " فرغانة، ويقال له الفرغاني والمرغيناني أيضاً.
وفرغانة بفتح الفاء وسكون الراء سجون، ومرغينان من بلاد غانة م: (وظفوا من الدراهم في الأراضي كلها وترك كذلك، لأن التقدير يجب أن يكون بقدر الطاقة من أي شيء كان) ش: أي من أي جنس كان مما فيه الخراج.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن لم تطق) ش: أي الأرض م: (ما وضع عليها) ش: وفي بعض النسخ فإن كان لم يطق. قال الأترازي: إن صح لفظ كان فهو زائد، وعدم الإطاقة عبارة عن قلة الريع م: (نقصهم الإمام) ش: أي نقص الإمام عن أصحاب الأراضي التي لا تطيق ما وضع عليها م: (والنقصان عند قلة الريع جائز بالإجماع) ش: والريع النماء والزيادة، وأراد به هنا الغلة.
وقال الكاكي: إذا جاز النقصان عند قيام الطاقة فعند عدم الطاقة بالطريق الأولى.
وفي " الخلاصة ": إن كانت الأرض لا تطيق أن يكون الخارج لا يبلغ عشرة دراهم، يجوز أن ينقص حتى يصير الخراج مثل نصف الخارج. أما إذا كانت تطيق ذلك وزيادة فقال الولوالجي في فتاواه: أجمعوا على أن الزيادة على وظيفة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في سواد العراق وفي بلدة وظف الإمام عليها الخراج لا يجوز، فأما في بلدة أراد الإمام أن يبتدئ بها بالتوظيف، قال أبو يوسف: لا نزيد. وقال محمد: يزيد. وعن أبي حنيفة مثل قول أبي يوسف، ويجيء الآن ما ذكره الولوالجي.
م: (ألا ترى إلى قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق، فقالا: لا، بل حملناها ما تطيق، ولو زدناها لأطاقت) ش: هذا أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب " فضائل الصحابة " وفي كتاب " السعة " لعثمان عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبل أن يصاب بأيام بالحديبية وقف على حذيفة وعثمان بن حنيف قال: كيف فعلتما، أتخافان أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق، فقالا: حملناها أمراً هي له مطيقة، فيها كثير فضل.(7/231)
وهذا يدل على جواز النقصان. وأما الزيادة عند زيادة الريع يجوز عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبارا بالنقصان، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يزد حين أخبر بزيادة الطاقة، وإن غلب على أرض الخراج الماء أو انقطع الماء عنها أو اصطلم الزرع آفة فلا خراج عليه، لأنه فات التمكن من الزراعة وهو النماء التقديري المعتبر في الخراج.
وفيما إذا اصطلم الزرع آفة فات النماء التقديري في بعض الحول، وكونه ناميا في جميع الحول شرط كما في مال الزكاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: انظرا أن تكونا حملتماها ما لا تطيق، فقالا: لا، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: كيف سلمها الله عن أراملة العراق، لا يحتجي إلى أحد بعدي، قال: فما أتت عليه أربعة حتى أصيب ... الحديث بطوله، وهو حديث مقتل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وتبعه عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقد عرفت أن قول عمر: لعلكما، خطاب لحذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف، الصحابيين الكبيرين. والضمير في قوله: قالا، في الموضعين، يرجع إليهما. م: (وهذا) ش: أي قولهما: ولو زدنا لأطاقت م: (يدل على جواز النقصان) ش: عند قلة الريع بالإجماع م: (وأما الزيادة عند زيادة الريع يجوز عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتباراً بالنقصان. وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز: لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يزد حين أخبر بزيادة الطاقة) ش: وهو في قولهما ولو زدنا لأطاقت م: (وإن غلب على أرض الخراج الماء أو انقطع الماء عنها أو اصطلم الزرع آفة) ش: أي استأصلته، والاصطلام: الاستئصال، وهو القلع من الأصل م: (فلا خراج عليه، لأنه فات التمكن من الزراعة) ش: قال الكاكي: قال مشايخنا: ما ذكر في الكتاب بأن الخراج يسقط بالاصطلام، محمول على ما إذا لم يبق من السنة مقدار ما يمكن أن يزرع الأرض ثانياً، أما إذا بقى لا يسقط الخراج، ذكره في " شرح الطحاوي ".
وفي " فتاوى البكري " وتكلموا أن المعتبر في ذلك زرع الحنطة والشعير أم أي زرع كان، وأن المعتبر مدة ترك الزرع فيها أم مدة تبلغ الزرع مبلغا تكون قيمته ضعف الخراج، وفي ذلك كلام، والفتوى على أنه مقيد بثلاثة أشهر م: (وهو النماء التقديري المعتبر في الخراج) ش: أي التمكن من الزراعة هو النماء التقديري، والنماء على قسمين: حقيقي وتقديري، والخراج يتعلق بأحدهما، وهنا لما غلب الماء على الأرض بحيث لم تبق صالحة للزراعة، أو كانت مدة لم توجد النماء التقديري فلا يجب التقديري.
[استأجر رجل أرضاً فزرعها فاصطلمت الزرع آفة]
م: (وفيما إذا اصطلم الزرع آفة فات النماء التقديري في بعض الحول، وكونه نامياً في جميع الحول شرط كما في مال الزكاة) ش: فإن من اشترى جارية للتجارة فمضى عليها ستة أشهر ثم نواها(7/232)
أو يدار الحكم على الحقيقة عند خروج الخارج.
وإن عطلها صاحبها فعليه الخراج، لأن التمكن كان ثابتا وهو الذي فوته، قالوا: من انتقل إلى أخس الأمرين بغير عذر، فعليه الخراج الأعلى؛ لأنه هو الذي ضيع الزيادة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للخدمة سقطت الزكاة، لأنها لم تبق نامية في جميع الحول م: (أو يدار الحكم على الحقيقة عند خروج الخارج) ش: أي حقيقة الخارج؛ إذ التمكن من الزراعة قائم مقامه، فإذا وجد الأصل سقط اعتبار الخلف وتعلق الحكم بالأصل، فإذا هلك بطل ما تعلق به.
حاصله أن النماء التقديري كان قائماً مقام النماء الحقيقي، فلما وجد الحقيقي تعلق الحكم به لكونه الأصل، وقد هلكت فيهلك معه الخراج، بخلاف ما إذا أعطاها وهو متمكن من الزراعة، حيث يكون الخراج ديناً في ذمته فيعتبر الخراج بالنماء التقديري حينئذ، ألا ترى أن رجلاً لو استأجر بيتاً أو حانوتاً معطلة فعليه الأجر، فإن لم يتمكن من الانتفاع بأن غصبه غاصب أو نحو ذلك لا يجب الأجر.
فإن قلت: لو استأجر رجل أرضاً فزرعها فاصطلمت الزرع آفة، أنه يجب عليه الأجر. قلت: أجيب: بأن الأجر إلى وقت هلاك الزرع، ولا يجب عليه بعد ذلك، وليس الأجر بمنزلة الخراج، لأن الخراج وضع على مقدار الخارج. وإذا صلحت الأرض للزراعة فإذا لم تخرج شيئاً جاز إسقاطه والأجر لم يوضع إلى مقدار الخارج فجاز إيجابه وإن لم تخرج.
م: (وإن عطلها) ش: أي الأرض م: (صاحبها فعليه الخراج، لأن التمكن) ش: من الزراعة م: (كان ثابتاً، وهو الذي فوته) ش: أي فوت الريع مع إمكان تحصيله. قال التمرتاشي: هذا إذا كانت الأرض صالحة للزراعة، والمالك متمكن من الزراعة فلم يزرعها. أما إذا عجز المالك عن الزراعة لعدم قوته وأسبابه، فللإمام أن يدفعها إلى غيره مزارعة ويأخذ الخراج من نصيب المالك ويمسك الباقي للمالك.
وإن شاء أجرها وأخذ الخراج من الأجرة، وإن شاء زرعها لمنفعة بيت المال، فإن لم يتمكن من ذلك ولم يوجد من يقبل ذلك باعها وأخذ من ثمنها الخراج، وهذا بلا خلاف.
وعن أبي يوسف: يدفع إلى العاجز كفايته من بيت المال ليعمل فيها فرضاً. وفي " جمع الشهيد ": باع أرضاً خراجية، فإن بقي من السنة مقدار ما ملك المشتري من الزراعة والخراج عليه، وإلا فعلى البائع.
م: (قالوا) ش: أي قال مشايخنا في شروح " الجامع الصغير " م: (من انتقل إلى أخس الأمرين بغير عذر) ش: كمن له أرض الزعفران فتركها وزرع الحبوب م: (فعليه الخراج الأعلى) ش: وهو خراج الزعفران م: (لأنه هو الذي ضيع الزيادة) ش: فكان التقصير منه.(7/233)
وهذا يعرف ولا يفتى به كيلا يتجرأ الظلمة على أخذ أموال الناس،
ومن أسلم من أهل الخراج أخذ منه الخراج على حاله، لأن فيه معنى المؤنة فيعتبر مؤنة في حالة البقاء، فأمكن إبقاؤه على المسلم.
ويجوز أن يشتري المسلم أرض الخراج من الذمي ويؤخذ منه الخراج لما قلنا. وقد صح أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اشتروا أراضي الخراج وكانوا يؤدون خراجها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أي الحكم م: (يعرف ولا يفتى به كيلا يتجرأ الظلمة على أخذ أموال الناس) ش: لأنهم لا يعلمون بالشرع وليس لهم دأب إلا تحصيل الأموال من أي وجه كان، وما عندهم قوة دين يمنعهم عن ذلك.
ورد بأنه كيف يجوز الكتمان، وأنهم لو أخذوا كان في موضعه لكونه واجباً. وأجيب: بأنا لو أفتينا بذلك لادعى كل ظالم في أرض ليس شأنها ذلك أنها قبل هذا كانت تزرع الزعفران، فأخذ خراج ذلك، وهو ظلم وعدوان. وفي " شرح الطحاوي " جعل أرض الزعفران مسكناً أو خاناً للغلة أو مقبرة أو مسجداً يسقط الخراج.
[من أسلم من أهل الخراج]
م: (ومن أسلم من أهل الخراج أخذ منه الخراج على حاله) ش: وقال مالك والشافعي: يسقط الخراج. وعند مالك تسقط الجزية أيضاً، وكذا لو باعها من مسلم يجوز البيع عندنا وعند الشافعي، وعند مالك لا يجوز.
وفي رواية: يجوز ويسقط الخراج م: (لأن فيه معنى المؤنة فيعتبر مؤنة) ش: لأن الخراج مؤنة الأرض النامية كالعشر والمسلم من أهل التزام المؤنة، وهذا لأنه بعد الإسلام لا يخلي أرضه عن مؤنة في حالة البقاء كما كانت م: (في حالة البقاء، فأمكن إبقاؤه على المسلم) ش: لأن إبقاء ما تقرر واجباً أولى، لأنا إن أسقطنا ذلك احتجنا إلى إيجاب العشر، بخلاف خراج الرأس، لأنا لو أسقطنا ذلك عنه بعد إسلامه لا يحتاج إلى إيجاب مؤنة أخرى.
م: (ويجوز أن يشتري المسلم أرض الخراج من الذمي ويؤخذ منه الخراج) ش: وقد ذكرنا الخلاف فيه آنفاً م: (لما قلنا) ش: وهو قوله لأن فيه معنى المؤنة، والمسلم من أهل المؤنة م: (وقد صح أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اشتروا أراضي الخراج) ش: من الذمي م: (وكانوا يؤدون خراجها) .
وقال الكاكي: صح عن ابن مسعود والحسن بن علي وشريح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، انتهى.
ولم يبين وجه الصحة ولا من خرجه، وغيره من الشراح لم يذكره أصلا، غير أن صاحب " النهاية " قال: روي عن عبد الله بن مسعود والحسن بن علي وشريح أنهم كانت لهم أراض بالسواد ويؤدون خراجها، انتهى.
وهذا ذكره بياناً بصيغة التمريض، وهي لا تدل على الصحة. غير أنا نحتج في ذلك بما(7/234)
فدل على جواز الشراء وأخذ الخراج وأدائه للمسلم من غير كراهة،
ولا عشر في الخارج من أرض الخراج، وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجمع بينهما، لأنهما حقان مختلفان وجبا في محلين بسببين مختلفين فلا يتنافيان. ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال البيهقي في كتاب " المعرفة ":
قال أبو يوسف القاضي: القول ما قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كان لابن مسعود وخباب بن الأرت والحسن بن علي وشريح أرض الخراج. حدثنا مجالد بن سعيد عن عامر عن عتبة بن فرقد السلمي أنه قال لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إني اشتريتها أرضاً في أرض السواد، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنت بمثل فيها بمثل صاحبها.
وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا الثوري عن قيس بن أسلم عن طارق بن شهاب أن دهقانة من أرض نهر الملك أسلمت، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ادفعوا إليها أرضها تؤدي عنها الخراج م: (فدل على جواز الشراء وأخذ الخراج وأدائه للمسلم من غير كراهة) ش: احترز به عن قول المتقشفة، فإنهم يكرهونه ويستدلون بما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى شيئاً من آلات الحراثة فقال: «ما دخل هذا بيت قوم إلا ذلوا» ظنوا أن المراد بالذل التزام الخراج وليس كذلك، بل المراد أن المسلمين إذا شغلوا بالزراعة واتبعوا أذناب البقر وقعدوا عن الجهاد كر عليهم عدوهم فجعلوهم أذلة، وفيه تأمل. وقال الأترازي في قول المصنف: للمسلم، لو قال: من المسلم، كان أولى، ولم يبين وجه ذلك.
[الجمع بين العشر والخراج]
م: (ولا عشر في الخارج من أرض الخراج) ش: يعني لا يجمع بين العشر والخراج م: (وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يجمع بينهما) ش: أي بين العشر والخراج، وبه قال مالك وأحمد م: (لأنهما) ش: أي لأن العشر والخراج م: (حقان مختلفان) ش: يعني من حيث الذات.
فإن أخذها مؤنة فيه معنى العبادة، والآخر مؤنة فيها معنى العقوبة م: (وجبا في محلين بسببين مختلفين) ش: فإن الخراج في الذمة والعشر في الخارج بسببين مختلفين، فإن سبب العشر الأرض النامية بحقيقة الخارج، وسبب الخراج الأرض النامية بالتمكن، ويختلفان مصرفاً أيضاً، فإن مصرف العشر الفقراء، ومصرف الخراج المقاتلة.
فإذا كان كذلك م: (فلا يتنافيان) ش: أي العشر والخراج فوجوب أحدهما لا ينافي وجوب الآخر، كوجوب الدين مع العشر أو الخراج.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم» ش: قال الأترازي: ولنا ما روى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه(7/235)
ولأن أحدا من أئمة العدل والجور لم يجمع بينهما، وكفى بإجماعهم حجة. ولأن الخراج يجب في أرض فتحت عنوة وقهرا، والعشر في أرض أسلم أهلها طوعا، والوصفان لا يجتمعان في أرض واحدة، وسبب الحقين واحد وهو الأرض النامية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: «لا يجتمع عشر وخراج في أرض واحدة»
قلت: رواه ابن عدي في " الكامل " عن يحيى بن عتبة عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجتمع على مسلم خراج وعشر» وقال ابن عدي: ويحيى بن عتبة منكر الحديث، وإنما يروى هذا عن قول إبراهيم، فجاء يحيى بن عتبة فأطال فيه ووصله إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحيى بن عتبة مكشوف الرأس لروايته عن الثقات الموضوعات فمات.
وقال ابن جران: ليس هذا كلام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحيى بن عتبة رجل يضع الحديث، لا تحل الرواية عنه. وقال الدارقطني: يحيى هذا رجل يضع الحديث، وهو كذب على أبي حنيفة ومن بعده إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال البيهقي: هذا حديث باطل، ويحيى هذا اشتهر بالوضع.
قلت: وقع في مسند أبي حنيفة مثل ما رواه ابن عدي، ولكن عدي وآخرون تكلموا فيه بسبب يحيى بن عتبة، ولما علمنا من يحيى بن عتبة؛ لأن أصحابنا رووا هذا في كتبهم وهم ثقات، على أن ابن شاهين رواه عن يحيى بن عيسى عن أبي حنيفة.
فإن قلت: أنكر يحيى بن عيسى، وقال: هو يحيى بن عتبة.
قلت: من اطلع في أحوال هؤلاء عرف أن الخطيب كيف يتكلم في الحقيقة ولا يلتفت إليه في مثل هذا.
م: (ولأن أحداً من أئمة العدل والجور لم يجمع بينهما) ش: أي بين العشر والخراج م: (وكفى بإجماعهم حجة) ش: حيث لم ينقل عن واحد منهم أنه جمع بينهما، واجتماع الأئمة على فعل قضية أو منعها حجة.
م: (ولأن الخراج يجب في أرض فتحت عنوة وقهراً، والعشر في أرض) ش: أي يجب في أرض م: (أسلم أهلها طوعاً، والوصفان) ش: وهما الطوع والقهر م: (لا يجتمعان في أرض واحدة) ش: لمنافاة بينهما إذ الطوع ضد الكره الحاصلة من القهر، فلما لم يجتمع السببان لم يثبت الحكمان.
م: (وسبب الحقين) ش: أي العشر والخراج م: (واحد وهو الأرض النامية) ش: بدليل إضافة(7/236)
إلا أنه يعتبر في العشر تحقيقا، وفي الخراج تقديرا، ولهذا يضافان إلى الأرض، وعلى هذا الخلاف الزكاة مع أحدهما،
فلا يتكرر الخراج بتكرار الخارج في سنة، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يوظفه مكررا بخلاف العشر، لأنه لا يتحقق عشرا إلا بوجوبه في كل خارج.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العشر والخراج إليهما، والإضافة دليل السببية، فلما كان السبب واحدا كان المسبب أحدهما من غير جمع بينهما كالدية والقصاص م: (إلا أنه) ش: أي أن السبب م: (يعتبر في العشر تحقيقاً) ش: لأن العشر أحد الأجزاء العشرة من الخراج م: (وفي الخراج) ش: أي يعتبر في الخراج م: (تقديراً) ش: أي من حيث التقدير.
وذلك لأن سبب الخراج ملك الأرض النامية بالنماء التقديري م: (ولهذا) ش: أي ولأجل أن السبب هو الأرض النامية م: (يضافان) ش: أي العشر والخراج م: (إلى الأرض) ش: فيقال عشر الأرض وخراج الأرض م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور بيننا وبين الشافعي م: (الزكاة مع أحدهما) ش: أي الزكاة مع أحدهما لا تجتمع مع الخراج والعشر عندنا، خلافاً له.
صورته رجل اشترى أرض عشر أو خراج بنية التجارة، لم يكن عليه زكاة التجارة. وعن محمد أن عليه الزكاة مع أحدهما، وهو قول الشافعي لاختلاف سببيهما ومحلهما. قلنا: الواجب حق الله تعالى فيه، فتعلق بالأرض فلا يجتمعان، كما لا يجب زكاة السائمة والتجارة باعتبار مال واحد.
[لا يؤخذ خراج الأرض في سنة إلا مرة واحدة]
م: (فلا يتكرر الخراج بتكرار الخارج في سنة) ش: يعني لا يؤخذ خراج الأرض في سنة إلا مرة واحدة، وإن أغلها صاحبها مرات م: (لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يوظفه) ش: أي الخراج م: (مكرراً) ش: أي ما أخذ الخراج والجزية في السنة إلا مرة واحدة. وقال الحاكم في الكافي: الحجة في هذا فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لأنه لو وجب الخراج وتكرر لانبغى أن يكون هذا في خراج الموظفة لا في خراج المقاسمة لأن خراج المقاسمة حكمه حكم العشر، ويكون ذلك في الخارج م: (بخلاف العشر، لأنه يتحقق عشراً) ش: أي لا يوجد حال كونه عشراً م: (إلا بوجوبه) ش: أي بسبب وجوبه م: (في كل خارج) ش: لأن العشر وظيفة لازمة تؤخذ من الخارج فتكرر بتكرار الخارج.(7/237)
باب الجزية وهي على ضربين، جزية توضع بالتراضي والصلح، فتقدر بحسب ما يقع عليه الاتفاق كما صالح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل نجران على ألف ومائتي حلة، ولأن الموجب هو التراضي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الجزية]
م: (باب الجزية) ش: أي هذا باب في بيان حكم الجزية، والجزية ما يؤخذ من الذمي باعتبار رأسه. والجمع من قبيل اللحية واللحى، وسميت بها، لأنها تجزي، أي تقضي، وتكفي في الذمي عن القتل، أو يعتق بها وتسقط عنه القتل. ولما فرغ من خراج الأرض شرع في خراج الرأس وهو الجزية، إلا أنه قدم الأول لأنه شاركه في سببه. وفي الشرع معنى الجزية وبيان العريان مقدم.
م: (وهي) ش: أي الجزية م: (على ضربين) ش: أي نوعين، أحدهما م: (جزية توضع بالتراضي والصلح، فتقدر بحسب ما يقع عليه الاتفاق كما «صالح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل نجران على ألف ومائتي حلة» ش: هذا أخرجه أبو داود عن إسماعيل بن عبد الرحمن البغدادي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «صالح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل نجران على ألفي حلة، النصف في صفر، والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين ... » الحديث.
ونجران بفتح النون وسكون الجيم بلاد من اليمن أصلها نصارى. والحلة بضم الحاء المهملة وتشديد اللام: إزار ورداء، هذا هو المختار، لا يسمى حلة حتى يكون ثوبين وهي من الحلول أو الحل لما بينهما من الوجه. وقال الولوالجي في فتاواه: وتوضع على نصارى نجران على رؤوسهم وأراضيهم في كل سنة ألفا حلة، كل حلة خمسون درهماً.
قلت: الذي ذكر المصنف غير موافق للحديث، مع أن الحديث حديث واحد رواه ابن عباس وأخرجه عنه أبو داود كما ذكرنا.
م: (ولأن الموجب) ش: بكسر الجيم، أي لأن الموجب لتقدير ما وقع عليه م: (هو التراضي) ش: لا لموجب الجزية، فإن موجبه في الأصل اختيارهم البقاء على الكفر بعد أن غلبوا.
فإن قلت: كيف يجوز تقرير الكافر على الشرك الذي هو أعظم الجنايات بأخذ المال، ولو جاز ذلك جاز تقرير الزاني على الزنا بالمال.
قلت: ليس أخذ الجزية يدل على تقرير الكفر، وإنما هو عوض عن ترك القتل ولا يستعرفان الواجبين. فجاز كإسقاط الواجب بالقصاص بعوض، أو هي عقوبة على الكفر، فيجوز(7/238)
فلا يجوز التعدي إلى غير ما وقع عليه الاتفاق. وجزية يبتدئ الإمام بوضعها إذا غلب الإمام على الكفار وأقرهم على أملاكهم فيضع على الغني الظاهر الغنى في كل سنة ثمانية وأربعين درهما يأخذ منهم في كل شهر أربعة دراهم، وعلى متوسط الحال أربعة وعشرين درهما في كل شهر درهمين، وعلى الفقير المعتمل اثني عشر درهما في كل شهر درهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كالاسترقاق.
م: (فلا يجوز التعدي إلى غير ما وقع عليه الاتفاق) ش: أي لا يجوز التجاوز إلى غير ما وقع عليه التراضي م: (وجزية) ش: أي الضرب الثاني جزية م: (يبتدئ الإمام بوضعها) ش: أي بوضع الجزية م: (إذا غلب الإمام على الكفار وأقرهم على أملاكهم) ش: هذا الضرب بوضع الإمام بغير رضى منهم، وهو تفاوت بتفاوت الطبقات، وبين ذلك بحرف الباء بقوله م: (فيضع على الغني الظاهر الغنى) ش: في شرح الطحاوي ظاهر الغنى من يملك عشرة آلاف درهم م: (في كل سنة ثمانية وأربعين درهماً يأخذ منهم في كل شهر أربعة دراهم) ش: هذا لأجل التسهيل، ولا تجب الجزية بأول الحول، وإنما الحول يتحقق ويتسهل عند أبي حنيفة.
وكذلك قال هو في الزكاة م: (وعلى متوسط الحال) ش: وهو من يملك مائتي درهم إلى عشرة آلاف درهم م: (أربعة وعشرين درهماً) ش: أي يضع على المتوسط الحال أربعة وعشرين درهما م: (في كل شهر درهمين) .
م: (وعلى الفقير المعتمل) ش: أن يضع عليه م: (اثني عشر درهماً في كل شهر درهماً) ش: أي يأخذ في كل شهر درهماً، والفقير من لا يملك درهمين، وإنما شرط المعتمل، لأن الجزية عقوبة فإنما تجب على من كان من أهل القتال حتى لا يلزم الزمن منهم جزية وإن كان مفرطاً في اليسار. والمعتمل هو الذي يقدر على العمل وإن لم يحسن حرفة.
وقال الكاكي: والمعتمل هو المكتسب، والإعمال الاضطراب في العمل وهو الاكتساب. وقال أيضاً، وإنما قيد بالاعتمال لأنه لو كان مريضاً في السنة كلها أو مضطرباً أو أكثر لا يجب عليه.
ولو ترك العمل مع القدرة عليه، فهو كالمعتمل، كمن قدر على الزراعة ولم يزرع، يجب عليه الخراج، ذكره في الإيضاح، ويجيء أيضاً إن شاء الله تعالى.
وقال الفقيه أبو الليث في شرح " الجامع الصغير " ذكر عن عيسى بن أبان أنه قال: من كان له عشرة آلاف درهم فصاعداً فهو موسر. ومن كان له مائتا درهم فهو متوسط. ومن كان معتملاً فهو كبير.(7/239)
وهذا عندنا. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضع على كل حالم دينارا أو ما يعدل الدينار، الغني والفقير في ذلك سواء لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «خذ من كل حالم وحالمة دينارا أو عدله معافر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذكر عن بشر بن غياث أنه قال: من كان يملك قوته وقوت عياله وزيادة فهو موسر. ومن كان يقدر على مقدار القوت ولا يملك الفضل وله مقدار الكفاية فهو الوسط. ومن لم يكن له مقدار الكفاية فهو مكسب.
وكان الفقيه أبو جعفر يقول: ينظر إلى عادة كل بلد، لأن البلدان مختلفة في الغناء. ألا ترى أن صاحب خمسين ألف ببلخ يعد من المكثرين. وإذا كان ببغداد أو بالبصرة لا يعد من المتكثرين. وفي بعض البلدان صاحب عشرة آلاف يعد من المتكثرين، فيعد كل بلد.
وذكر هذا القول أبو نصر محمد بن سلام أيضاً، وذكر عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يأخذ ممن ركب البغال ويتختم بالذهب ثمانية وأربعين درهماً، إلى هنا لفظ الفقيه أبي الليث في كتابه.
وقال الكاكي: وقيل: من لا بد له من الكسب لإصلاح معيشته فهو معسر، ومن له مال يعمل به متوسط. ومن لا يعمل لكثرة مال فهو فائق في الغنى، وقيل: من لا كفاف له فهو معسر. ومن ملك قوت عياله فهو متوسط.
ومن ملك لما فضل عليه فهو عتق، وقيل: هذا يختلف باختلاف الأماكن، ويعتبر وجود هذه الصفة في آخر السنة م: (وهذا عندنا) ش: أي هذا الوجه المذكور مفصلاً عند أصحابنا.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: مبتدأ وخبره قوله م: (يضع على كل حالم دينارا أو ما يعدل الدينار، الغني والفقير في ذلك سواء) ش: وهو اثني عشر درهما، وأقل الدينار أي عشرة دراهم مسكوكة. من النقرة الخالصة.
ولا يجب على الإمام أن يجبرهم على أكثر ما عليهم، ويستحب أن يماكس حتى يأخذ من المتوسط دينارين، ومن الغني أربعة دنانير، ولا يصير الدراهم إلا بالنقرة والقيمة عند عامة أصحابه، كذا في شرح " الوجيز ". وقال مالك: يأخذ أربعين درهما أو أربعة دنانير، ومن الفقير عشرة دراهم أو ديناراً لما روى الإمام، وهو قول الثوري، وفي رواية مثل قولنا، وفي رواية أقلها دينار.
وتجوز الزيادة ولا يجوز النقصان م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: (لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «خذ من كل حالم وحالمة ديناراً أو عدله معافر» ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي في الزكاة عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق «عن معاذ قال: بعثني(7/240)
من غير فصل» .
ولأن الجزية إنما وجبت بدلا عن القتل حتى لا تجب على من لا يجوز قتله بسبب الكفر كالذراري والنسوان، وهذا المعنى ينتظم الفقير والغني. ومذهبنا منقول عن عمر وعثمان وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولم ينكر عليهم أحد من المهاجرين والأنصار، ولأنه وجب نصرة للمقاتلة فتجب على التفاوت بمنزلة خراج الأرض. وهذا لأنه وجب بدلا عن النصرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين ستة، ومن كل حالم دينارا أو عدله معافر» . وقال الترمذي: حديث حسن. وذكر أن بعضهم رواه عن مسروق عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلا، قال: وهو الأصح. قوله: من كل حالم، يعني: محتلم. قوله: أو عدله، العدل بالفتح: المثل من خلاف الجنس، وبالكسر المثل من الجنس.
قوله: معافر، بفتح الميم والعين المهملة وبالفاء والراء المهملة إلى أخذ مثل دينار ثوباً من هذا الجنس، والمعافر أي ثوب منسوب إلى معافرين، من ثم صار اسماً للثوب بغير نسبة. ويقال: معافر حي من همدان، نُسب إليه هذا النوع من الثياب م: (من غير فصل) ش: يعني بين الغني والفقير.
[وجوب الجزية بدلا عن القتل]
م: (ولأن الجزية إنما وجبت بدلاً عن القتل حتى لا تجب على من لا يجوز قتله بسبب الكفر كالذراري والنسوان، وهذا المعنى) ش: أي وجوب الجزية بدلا عن القتل م: (ينتظم الفقير والغني) ش: أي يشملهما م: (ومذهبنا منقول عن عمر وعثمان وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: روى ابن أبي شيبة في مصنفه: حدثنا علي بن مهير عن الشيباني عن ابن عون محمد بن عبد الله الثقفي قال: وضع عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الجزية على رؤوس الرجال، على الغني ثمانية وأربعين درهماً، وعلى المتوسط أربعة وعشرين، وعلى الفقير اثني عشر درهماً. وهو مرسل. ورواه ابن زنجويه في كتاب " الأموال "، حدثنا أبو نعيم حدثنا مندي عن الشيباني عن أبي عون عن المغيرة بن شعبة أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وضع.. إلى آخره. انتهى. وكان ذلك بحضرة الصحابة من غير نكير، فحل محل الإجماع. ثم بعد ذلك عمل عثمان ثم عمل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (ولم ينكر عليهم أحد من المهاجرين والأنصار) ش: فصار إجماعاً.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الجزية ذكرت على تأويل خراج الأس م: (وجب نصرة للمقاتلة) ش: أي نصرة وكفاية لغزاة المسلمين بمال يؤخذ من الذمي م: (فتجب على التفاوت) ش: أي الجزية تجب على التفاوت لا المذكور عن قريب م: (بمنزلة خراج الأرض، وهذا لأنه وجب بدلاً عن النصرة) ش: أي بمنزلة وجوب التفاوت في الخراج.(7/241)
بالنفس والمال، وذلك يتفاوت بكثرة الوفر وقلته، فكذا ما هو بدله، وما رواه محمول على أنه كان ذلك صلحا، ولهذا أمره بالأخذ من الحالمة وإن كانت لا يؤخذ منها الجزية.
قال: وتوضع الجزية على أهل الكتاب والمجوس،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والدليل على أنها تجب نصرة وكفاية لهم، لأنها تصرف إليهم ولا توضع موضع الزكاة، وكان الواجب أن ينصروا المسلمين م: (بالنفس والمال) ش: لأن من كان من أهل دار الإسلام يجب عليه النصرة للدار بالنفس والمال، ولكن لا يصلحوا لنصرتهم لنقلهم إلى دار الحرب اعتقاداً قامت الجزية المأخوذة منهم المصروفة إلى الغزاة مقام النصرة بالنفس، ثم النصرة من المسلم تتفاوت، إذ الفقير ينصر دارنا راجلاً ومتوسطاً بحال ينصرها راكباً وراجلاً.
والموسر بالركوب بنفسه وإركاب غيره، لما كان الأصل متفاوتاً تفاوتت الجزية التي قامت مقامه.
فإن قيل: النصرة طاعة لله تعالى وهذه عقوبة، فكيف تكون العقوبة خلفاً عن الطاعة؟ أجيب: بأن الخلف في النصرة في حق المسلمين من زيادة القوة للمسلمين وهم يبانون في تلك الزيادة الحاصلة بسبب أموالهم، بمنزلة ما لو [....] فيجب على التفاوت، لأنه أي لأن الجزية بتأويل خراج الرأس [كما] ذكرنا الآن، وجبت بدلاً عن النصرة بالنفس والمال.
م: (وذلك) ش: أي المذكور عن النصرة بالنفس والمال م: (يتفاوت بكثرة الوفر) ش: أي غير المال م: (وقلته، فكذا ما هو بدله) ش: أي فكذا يتفاوت ما كان خلفاً عن النصرة م: (وما رواه) ش: أي الذي رواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «خذ من كل حالم وحالمة ديناراً» م: (محمول على أنه كان ذلك صلحاً) ش: أي محمول على مال وقع الصلح عليه.
ألا ترى أنه قال في رواية: «خذ من كل حالم وحالمة دينارا» ولا تجب على النساء إلا مال الصلح. قلت: الأحسن أن يقال: هذا ليس بحجة، لأن الصحيح أنه مرسل، فكيف يحتج به م: (ولهذا) ش: أي ولكونه كان محمولا على مال الصلح م: (أمره) ش: أي أمر معاذاً م: (بالأخذ من الحالمة، وإن كانت لا يؤخذ منها الجزية) ش: والمحفوظ أن لفظ حالمة مدرج في الحديث.
[وضع الجزية على أهل الكتاب]
م: (قال وتوضع الجزية على أهل الكتاب والمجوس) ش: جمع مجوسي، وهو منسوب إلى المجوس. وقال الجوهري: هي نحلة ومذهب المجوسي أنهم قائلون بالنور والظلمة، يدعون أن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة، ولهذا يعبدون النار، لأنه من النور. أما وضع الجزية على أهل الكتاب فهو بلا خلاف. وأهل الكتاب اليهود والنصارى ومن دان بدينهم يدينون بالتوراة ويعملون بشريعة موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وخالفوهم في فروع دينهم.(7/242)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] (التوبة: الآية 29) ، ووضع رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الجزية على المجوس. قال: وعبدة الأوثان من العجم وفيه خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفرق النصارى من اليعقوبية والنسطورية والملكية الفرنج والروم والأدنى، وغيرهم ممن دان بالإنجيل وانتسب إلى عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والعمل بشريعتهم، فكلهم من أهل الكتاب.
واختلف أهل العلم في الصابئين، عن أحمد أنهم جنس من النصارى. وعن عمر: هم ينسبون بهم من اليهود. وقال مجاهد: بين اليهود والنصارى. وقال الذمي الزبيع: هم أهل الكتاب، وتوقف الشافعي فيهم.
ويروى عنهم أنهم يقولون: الفلك حسي ناطق، والكواكب السبعة آلهة. والصحيح أنهم إن كانوا يقرون نبي كتاب فهم من أهل الكتاب، وإن كانوا من عبدة الكواكب فهم كعبدة الأوثان، وقد مر في النكاح. وأما المجوس فلهم شبهة الكتاب، فيجوز أخذ الجزية بالحديث منهم.
ولا يجوز نكاح نسائهم ولا ذبائحهم، وعليه أكثر أهل العلم. وعن أبي ثور أنهم من أهل الكتاب، فتحل نساؤهم وذبائحهم لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنهم كانوا أهل كتاب، فلما وقع ملكهم على بنته أو أخته رفع العلم عن صدورهم وما بقي كتابهم.
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] (التوبة: الآية 29)) ش: هذا صريح في جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب، سواء كانوا من العرب والعجم، ولهذا ذكر أهل الكتاب مطلقاً م: «ووضع رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الجزية على المجوس» ش: حتى «شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذها من مجوس هجر،» انتهى. وهجر بفتحتين اسم بلد في البحرين.
م: (قال) ش: أي القدوري في مختصره: م: (وعبدة الأوثان من العجم) ش: هو بالجر عطفاً على أهل الكتاب، وقيد بقوله: من العجم، احترازاً عن عبدة الأوثان من العرب، فإنهم لا توضع عليهم الجزية على ما ذكر في الكتاب م: (وفيه خلاف الشافعي) ش: فإن عنده لا يؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس.
وله في أهل الكتاب غير اليهود والنصارى مثل أصحاب صحف إبراهيم وشيث وإدريس وزبور داود، ومن تمثل بدين آدم، والسامرة والصابئين، وجهان: أحدهما: تؤخذ. والثاني لا، والوثني إذا دخل في دين أهل الكتاب بعد المسيح لم يؤخذ منه الجزية، وقال المزني: تؤخذ.
وقال مالك: يؤخذ من جميع الكفار إلا مشركي قريش، لأنهم ارتدوا. وعندنا تؤخذ من جميع الكفار إلا من عبدة الأوثان، وبه قال أحمد في رواية عنه، وفي رواية: لا تؤخذ إلا من أهل(7/243)
هو يقول: إن القتال واجب لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ} [البقرة: 193] إلا أنا عرفنا جواز تركه في حق أهل الكتاب بالكتاب، وفي حق المجوس بالخبر، فبقي من وراءهم على الأصل. ولنا أنه يجوز استرقاقهم، فيجوز ضرب الجزية عليهم، إذ كل واحد منهما يشتمل على سلب النفس منهم، فإنه يكتسب ويؤدي إلى المسلمين، ونفقته في كسبه، وإن ظهر عليهم قبل ذلك فهم ونساؤهم وصبيانهم فيء لجواز استرقاقهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكتاب ومن وافقهم في دينهم وآمن بكتابهم كالسامرة. وتؤخذ من المجوس أيضاً، ولا تؤخذ من غيرهم من عبدة الأوثان.
م: (هو) ش: أي الشافعي م: (يقول: إن القتال واجب لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وقاتلوهم) ش: لأنه أمر بالقتال وهو عام م: (إلا أنا عرفنا جواز تركه) ش: أي في القتال م: (في حق أهل الكتاب بالكتاب) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] .
م: (وفي حق المجوس) ش: أي وعرفنا ترك القتال في المجوس م: (بالخبر) ش: وهو حديث عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (فبقي من وراءهم) ش: أي من وراء أهل الكتاب والمجوس م: (على الأصل) ش: أي من النصوص العامة.
م: (ولنا أنه يجوز استرقاقهم) ش: بالإجماع م: (فيجوز ضرب الجزية عليهم، إذ كل واحد منهما) ش: أي من الاسترقاق والجزية م: (يشتمل على سلب النفس منهم) ش: معنى حتى يصير مشبهاً بالبهائم، أما الاسترقاق فظاهر، لأن نفع الرقيق يعود إلينا جملة.
وأما الجزية م: (فإنه) ش: أي فإن الكافر م: (يكتسب ويؤدي إلى المسلمين، ونفقته في كسبه) ش: فكأن أداء كسبه إلى المسلمين في معنى أخذ النفس منه حكما، وهو معنى قوله: ونفقته في كسبه، أي والحال أن نفقته في كسبه الذي هو سبب حياته، وفيه معنى سلب النفس. ونوقض بأن من جاز استرقاقه لو جاز ضرب الجزية عليه لجاز ضربها على المرأة والصبي، واللازم باطل.
وأجيب: بأن ذلك بمعنى آخر، وهو أن الجزية بدل النصرة ولا نصرة على المرأة والصبي، فكذا بدل، وهذا ليس بدافع بل هو متقرر للنقض.
والصواب أن قول: المحل شرط نافذ المؤثر، فكان بمعنى قوله: وكل من يجوز استرقاقهم يجوز ضرب الجزية عليهم إذا كان المحل قابلاً، والمرأة والصبي ليسا كذلك، لأن الجزية إنما تكون من الكسب وهما عاجزان عنه.
م: (وإن ظهر) ش: على صيغة المجهول أي غلب م: (عليهم) ش: أي على أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان من العجم م: (قبل ذلك) ش: أي قبل وضع الجزية عليهم م: (فهم ونساؤهم وصبيانهم فيء) ش: أي غنيمة للمسلمين م: (لجواز استرقاقهم) ش: وللإمام الخيار بين(7/244)
ولا توضع على عبدة الأوثان من العرب، ولا المرتدين، لأن كفرهما قد تغلظ. أما مشركو العرب فلأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نشأ بين أظهرهم، والقرآن نزل بلغتهم، فالمعجزة في حقهم أظهر، وأما المرتد فلأنه كفر بربه بعدما هدي للإسلام ووقف على محاسنه، فلا يقبل من الفريقين إلا الإسلام أو السيف زيادة في العقوبة، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يسترق مشركو العرب. وجوابه ما قلنا. وإذا ظهر عليهم فنساؤهم وصبيانهم فيء؛ لأن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استرق نسوان بني حنيفة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاسترقاق وضرب الجزية م: (ولا توضع) ش: أي الجزية م: (على عبدة الأوثان من العرب ولا المرتدين) ش: سواء كانوا من العرب أو العجم م: (لأن كفرهما قد تغلظ) ش: وكل من تغلظ كفره لا يقبل منه إلا السيف أو الإسلام.
م: (أما مشركو العرب فلأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نشأ بين أظهرهم، والقرآن نزل بلغتهم فالمعجزة في حقهم أظهر) ش: وكانوا أحق الناس بالتساعد والقيام بتصرفه والذب عنه. ولقائل أن يقول: هذا منقوض بأهل الكتاب، فإنه يغلظ كفرهم؛ لأنهم عرفوا النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - معرفة تامة محضة، ومع هذا نكروه وغيروا اسمه ونعته من الكتب، وقد قبل منهم الجزية. وأجيب: بأن القياس كان يقتضي أن لا يقبل منهم الجزية، إلا أنه نزل بالكتاب بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] ... الآية.
م: (وأما المرتد فلأنه كفر بربه بعدما هدي للإسلام، ووقف على محاسنه) ش: أي محاسن الإسلام م: (فلا يقبل من الفريقين) ش: أي من فريق عبدة الأوثان من العرب ومن فريق المرتدين م: (إلا الإسلام أو السيف زيادة في العقوبة) ش: لزيادة دينهم م: (وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يسترق مشركو العرب) ش: وبه قال مالك وأحمد، إلا أن الاسترقاق إتلاف حكماً، فيجوز كإتلافه حقيقة بالقتل. م: (وجوابه) ش: أي جواب الشافعي م: (ما قلنا) ش: وهو قوله: لأن كفرهم قد تغلظ.
م: (وإذا ظهر عليهم) ش: أي إذا غلب على مشركي العرب والمرتدين م: (فنساؤهم وصبيانهم فيء) ش: أي غنيمة المسلمين، إلا أن ذراري المرتدين ونساءهم يجبرون على الإسلام بدون ذراري عبدة الأوثان ونسائهم، لان الإجبار على الإسلام إنما يكون بعد ثبوت الإسلام في حقهم، وذراري المرتدين قد ثبت في حقهم تبعاً لآبائهم فيجبرون عليه. والمرتدات قريبات عهد بالإسلام - فيجبرون عليه، بخلاف ذراري العبدة ونسائهم.
م: (لأن «أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استرق نساء بني حنيفة» ش: وبنو حنيفة بطن من العرب، وهو حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وإنما سمي حنيفة لأنه لقي(7/245)
وصبيانهم لما ارتدوا وقسمهم بين الغانمين، ومن لم يسلم من رجالهم قتل لما ذكرنا.
ولا جزية على امرأة ولا صبي لأنها وجبت بدلا عن القتل أو عن القتال، وهما لا يقتلان ولا يقاتلان لعدم الأهلية. قال ولا زمن ولا أعمى، وكذا المفلوج والشيخ الكبير لما بينا، وعن أبي يوسف أنه تجب إذا كان له مال، لأنه يقتل في الجملة إذا كان له رأي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خزيمة، أبي حي من عبد القيس، فضرب خزيمة حنيفة فجذم يده، فسمي هذا حنيفة، وسمي ذاك خزيمة.
وقيل: المراد بني حنيفة، وهو مسيلمة الكذاب لعبدانه م: (وصبيانهم) ش: أي سبي أيضاً صبيانهم حتى وقع من قسم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استرق نساء بني حنيفة، وهو وحنيفة بطن من العرب، وهو حنيفة بن لجيم من الحنفية، قوله منها محمد بن الحنفية م: (لما ارتدوا) ش: أي حتى ارتدت بنو حنيفة أو كان ذلك بعد وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (وقسمهم) ش: أي قسم أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نساء بني حنيفة وصبيانهم م: (بين الغانمين) ش: من الصحابة وغيرهم م: (ومن لم يسلم من رجالهم قتل لما ذكرنا) ش: إشارة إلى قوله: فلا يقبل من الفريقين إلا الإسلام أو السيف زيادة في العقوبة.
[الجزية على المرأة والصبي]
م: (ولا جزية على امرأة ولا صبي لأنها) ش: أي لأن الجزية م: (وجبت بدلاً عن القتل) ش: يعني في المأخوذ م: (أو عن القتال، وهما) ش: أي المرأة والصبي م: (لا يقتلان ولا يقاتلان لعدم الأهلية) ش: فيهما، فإذا كان كذلك لا يجب عليه البدل وهو الجزية م: (قال: ولا زمن) ش: أي ولا جزية أيضاً على زمن، وزمن الرجل يزمن زمانة وهو عدم بعض أعضائه وتعطل قواه م: (ولا أعمى) ش: أي ولا أعمى.
م: (وكذا المفلوج) ش: من فلج على صيغة المجهول: إذا ذهب نصفه فهو مفلوج. وقال أهل الطب: الفالج استرخاء عام لآمر شقي البدن طولاً م: (والشيخ الكبير) ش: يعني لا توضع عليه الجزية م: (لما بينا) ش: وهو قوله: لأنهما لا يقتلان ولا يقاتلان.
م: (وعن أبي يوسف أنه) ش: أي الجزية، ذكره بتأويل خراج الرأس م: (تجب إذا كان له) ش: أي الشيخ الكبير رأي، لأنه تقليل في الجملة، يعني في صورة من الصور، وهو معنى قوله: إذا كان له رأي، أي من أمور الحرب.
وقال الأترازي: وعن أبي يوسف في رواية: توضع عليهم، أي الجزية إذا كانوا أغنياء، لأن الغناء هو الأصل في المال لما سيجيء.
قلت: هذا مخالف لما في المتن، لأن المعهود من كلام المصنف أن الرواية عن أبي يوسف وجوب الجزية على الشيخ الكبير فقط، حيث إذا كان له م: (مال لأنه يقتل في الجملة إذا كان له رأي)(7/246)
ولا على فقير غير معتمل خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - له إطلاق حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولنا أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يوظفها على فقير غير معتمل، وذلك بمحضر من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولأن خراج الأرض لا يوظف على أرض لا طاقة لها، فكذا هذا الخراج. والحديث محمول على المعتمل. ولا يوضع على المملوك والمكاتب والمدبر وأم الولد، لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: بإفراد الضمير
وكذا ذكر بإفراد الضمير في قوله: إذا كان له رأي بخلاف الأعمى والزمن والمفلوج. فلو كانت الرواية عن أبي يوسف في الوجوب على الكل، يقال: إذا كان لهم مال بضمير الجماعة. وفي قول عن الشافعي: وتؤخذ الجزية من الأعمى والمفلوج والشيخ الكبير.
م: (ولا على فقير) ش: أي ولا جزية على فقير إذا كان م: (غير معتمل) ش: وهو الذي لا يقدر على العمل. والمعتمل الكاسب الذي يقدر على العمل وإن لم يحسن حرفة م: (خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن عنده يجب عليه م: (له) ش: أي للشافعي م: (إطلاق حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خذ من كل حالم ديناراً» وهو مطلق لا فصل فيه بين الفقير المعتمل وغيره.
م: (ولنا أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يوظفها) ش: أي الجزية م: (على فقير معتمل) ش: المراد من عثمان هذا عثمان بن حنيف لا عثمان بن عفان، وقد غفل عنه أكثر الشراح، وقد مضى أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما بعث حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف إلى سواد العراق وظف الجزية على الفقير دون غير معتمل، ذلك محل الإجماع، لأن أحدا من الصحابة لم ينكر عليهم.
أشار إليه المصنف بقوله م: (وذلك بمحضر من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: لأنهم كلهم علموا ذلك ولم يقع من أحد منهم إنكار، فكأنهم حاضرين في ذلك الوقت. ذكر الغزالي في وجيزه: قال أصحاب الشافعي: الفقير العاجز عن الكسب يخرج من الدار على قول، وتقرر على قول مجاناً، وتقرر بجزية في ذمته على قول.
م: (ولأن خراج الأرض لا يوظف على أرض لا طاقة لها، فكذا هذا الخراج) ش: أي خراج الرأس وهو الجزية، لأن الخراج نوعان، خراج الأرض وخراج الرأس كما مر غير مرة، فإذا اعتبرت الطاقة في خراج الأرض فكذا تعتبر في خراج الرأس.
م: (والحديث) ش: أي الحديث الذي احتج به الشافعي م: (محمول على المعتمل) ش: توفيقا بين الحديثين.
م: (ولا يوضع) ش: أي الجزية م: (على المملوك والمكاتب والمدبر وأم الولد لأنه) ش: أي لأن(7/247)
بدل عن القتل في حقهم، وعن النصرة في حقنا، وعلى اعتبار الثاني لا تجب فلا تجب بالشك، ولا يؤدي عنهم مواليهم لأنهم تحملوا الزيادة بسببهم.
ولا توضع على الرهبان الذين لا يخالطون الناس، كذا ذكر هاهنا. وذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه توضع عليهم إذا كانوا يقدرون على العمل، وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجه الوضع عليهم أن القدرة على العمل هو الذي ضيعها، فصار كتعطيل الأرض الخراجية. ووجه الوضع عليهم أنه لا قتل عليهم إذا كانوا لا يخالطون الناس، والجزية في حقهم لإسقاط القتل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجزية باعتبار تأويل خراج الأرض م: (بدل عن القتل في حقهم، وعن النصرة في حقنا، وعلى اعتبار الثاني) ش: وهو النصرة بالمال في حقنا ولا مال لهم، فعلى هذا م: (لا تجب) ش: وعلى اعتبار الأول يجب، لأن الأصل يتحقق في المماليك، لأن المملوك الحربي يقتل، فيجوز تحقق البدل أيضاً، فإذا كان الأمر دائراً بين الشيئين م: (فلا تجب بالشك) ش: لأن الأصل عدم الوجوب. م
م: (ولا يؤدي عنهم مواليهم، لأنهم تحملوا الزيادة بسببهم) ش: أي صار مواليهم بسببهم من الاعتبار، فوجبت عليهم زيادة في الوظيفة، فلا يجب عليهم شيء آخر بسببهم، وقال في " مختصر الأسرار ": وقولهم: إن الجزية يجب الحد والولي يؤدي لها عنه، باطل؛ لأنه لو كانوا كذلك لاختلف بكثرة العدد، فلهم كصدقة الفطر.
[أصحاب الصوامع هل يوضع عليهم الخراج]
م: (ولا توضع) ش: أي الجزية م: (على الرهبان الذين لا يخالطون الناس، كذا ذكر ها هنا) ش: أي القدوري، وهو قول أبي يوسف، وبه قال الشافعي في قول وأحمد في رواية. م: (وذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه توضع عليهم إذا كانوا يقدرون على العمل، وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وقال الكرخي في مختصره: قال عمر بن أبي عمر: سألت محمداً عن أصحاب الصوامع هل يوضع عليهم الخراج، قال: كان أبو حنيفة يقول: يوضع عليهم إذا كانوا ممن يقومون على العمل.
قلت لمحمد: فما قولك؟ قال: العامر ما قاله أبو حنيفة، قال محمد: ليس على السياحين ولا على الرهبان خراج، وإن عزل أحدهم، إلا أنه يخالط الناس فعليه الخراج.
م: (وجه الوضع) ش: أي وجه وضع الجزية م: (عليهم) ش:، أي على الرهبانيين الذين يخالطون الناس م: (أن القدرة على العمل) ش: ثابتة، أي موجودة، وإنما م: (هو الذي ضيعها) ش: أي ضيع القدرة م: (فصار كتعطيل الأرض الخراجية) ش: مع التمكن من الانتفاع.
م: (ووجه الوضع عليهم) ش: أي وجه وضع الجزية عليهم م: (أنه لا قتل عليهم إذا كانوا لا يخالطون الناس، والجزية في حقهم لإسقاط القتل) ش: أراد أن الجزية بدل من إسقاط القتل في حقهم، ولا قتل على الذين لا يخالطون الناس، فلا تجب الجزية.(7/248)
ولا بد أن يكون المعتمل صحيحا ويكتفى بصحته في أكثر السنة.
ومن أسلم وعليه جزية سقطت، وكذلك إذا مات كافرا خلافا للشافعي فيهما. له أنها وجبت بدلا عن العصمة أو عن السكنى، وقد وصل إليه المعوض فلا يسقط عنه العوض بهذا العارض كما في الأجرة والصلح عن دم العمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا بد أن يكون المعتمل صحيحاً) ش: ذكر هذا تفريعاً لمسألة القدوري م: (ويكتفى بصحته في أكثر السنة) ش: أو نصفها، فلا جزية عليه، وإن كان في أقلها عليه الجزية، لأن الإنسان لا يخلو عن قليل مرض، فلا يجعل عذراً.
[من أسلم وعليه جزية]
م: (ومن أسلم وعليه جزية) ش: أي ومن أسلم ممن عليه جزية، والحال أن عليه جزية لم يؤدها م: (سقطت، وكذلك إذا مات كافراً) ش: حال كونه كافراً سقط عنه الجزية م: (خلافاً للشافعي فيهما) ش: أي فيمن أسلم وعليه جزية وفيمن مات كافراً م: (له) ش: أي للشافعي م: (أنها) ش: أي أن الجزية م: (وجبت بدلاً عن العصمة) ش: أي عن حقن الدم م: (أو عن السكنى) ش: في دار الإسلام، وإنما تردد بينهما لأن العلماء اختلفوا في أن الجزية وجبت بدل الأمان.
قال بعضهم: بدلاً عن العصمة الثابتة بعقد الذمة، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول.
وقال بعضهم: بدلاً عن النصرة التي قامت بإحرازهم على الكفر، وهو الأصح. وقال بعضهم: بدلاً عن السكنى في دارنا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ولهذا قال في قول: تؤخذ الجزية عن الأعمى والمعتوه والمقعد، لأنهم يشاركون في السكنى، وعندنا لا يجوز كما بينا.
م: (وقد وصل إليه المعوض) ش: وهو العصمة والسكنى م: (فلا يسقط عنه العوض) ش: وهو الجزية م: (بهذا العارض) ش: أي بالإسلام أو بالموت م: (كما في الأجرة) ش: يعني إذا استوفى الذمي منافع دار المستأجر، ثم أسلم أو مات لا تسقط عنه الأجرة، لأن المعوض وصل إليه، وهو منافع الدار فلا يسقط العوض وهو الأجرة م: (والصلح عن دم العمد) ش: يعني إذا قتل الذمي رجلاً عمداً ثم صالح عن دم العمد على بدل معلوم، ثم أسلم أو مات لا تسقط عنه الأجرة، لأن العوض وهو نفسه مسلم له فلا يسقط البدل.
فإن قيل: لا نسلم أن الجزية بدل عن النصرة، ألا ترى أن الإمام لو استعان بأهل الذمة منه فقاتلوا معه لا تسقط عنهم جزية تلك السنة، فلو كانت بدلاً لسقطت. أجيب: بإنما لم تسقط، لأنه يلزم حينئذ تغير الشرع، وليس للإمام ذلك. وهذا، لأن الشرع جعل طريق النصرة في حق الذمي المال دون النصرة.(7/249)
ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ليس على مسلم جزية» ولأنها وجبت عقوبة على الكفر، ولهذا تسمى جزية، وهي والجزاء واحد وعقوبة الكفر تسقط بالإسلام ولا تقام بعد الموت. ولأن شرع العقوبة في الدنيا لا يكون إلا لدفع الشر، وقد اندفع بالموت والإسلام،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: الجزية حق مال وجب على الكافر على كفره فوجب أن لا يسقط بالإسلام كخراج الأرض.
أجيب: بأن خراج الرأس وقيد الصغار بالنص، ولهذا لا يوضع على المسلم أصلاً، بخلاف خراج الأرض فإنها على الصغار، ولهذا لا يوجد في أرض خراجية المسلم، فافترقا.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «ليس على مسلم جزية» ش: هذا الحديث رواه أبو داود في الخراج، والترمذي في الزكاة عن جرير عن فائز بن أبي طيبان عن أبيه عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على مسلم جزية» .
قال أبو داود: سئل أبو يوسف من الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن هذا؟ فقال: يعني إذا أسلم فلا جزية عليه. وقال الترمذي: وقد روي عن موسى عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلا. ورواه في " مسنده " والدارقطني في " سننه " وسكت عنه.
وقد روي باللفظ الذي فسره به سفيان. قال الطبراني في " معجمه الأوسط " بإسناده عن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم فلا جزية عليه»
م: (ولأنهما) ش: ولأن الجزية م: (وجبت عقوبة على الكفر، ولهذا) ش: إيضاح لوجوب الجزية عقوبة على الكفر م: (تسمى جزية وهي) ش: أي الجزية م: (والجزاء واحد) ش: يعني إذا سميت جزاء من الجزاء، لأنها عقوبة تقع جزاء على الإصرار على الكفر م: (وعقوبة الكفر تسقط بالإسلام ولا تقام بعد الموت) ش: أي ولا تقام الجزية بعد الموت، يعني لا يوجد بعد الموت من عليه الجزية وإن خلف شيئاً، لأن الموت كالقتل، لأنها خلف عن القتل.
ولهذا سميت جزية وهو عقوبة، ولهذا يستوفى بطريق الذلة والصغار ويستحق بالجناية، ولا جناية أعظم من الكفر، وعقوبة الكفر في الدنيا لا تكون إلا بدفع الشر، وقد صار مدفوعاً بالموت والإسلام، فيسقط، وهذا معنى قوله م: (ولأن شرع العقوبة في الدنيا لا يكون إلا لدفع الشر وقد اندفع) ش: أي الشر م: (بالموت والإسلام) ش: أي بموت من عليه الجزية أو بالإسلام(7/250)
ولأنها وجبت بدلا عن النصرة في حقنا، وقد قدر عليها بنفسه بعد الإسلام، والعصمة تثبت بكونه آدميا،
والذمي يسكن ملك نفسه، فلا معنى لإيجاب بدل العصمة والسكنى،
وإن اجتمعت عليه الحولان تداخلت. وفي " الجامع الصغير ": ومن لم يؤخذ منه خراج رأسه حتى مضت السنة وجاءت سنة أخرى لم يؤخذ، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: يؤخذ منه، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أيضاً، وأما شرع العقوبة في الآخرة بالعذاب أتم لهم.
م: (ولأنها) ش: أي الجزية م: (وجبت بدلاً عن النصرة في حقنا) ش: أراد أن وجوب الجزية شرع للنصرة وكفاية للغزاة م: (وقد قدر عليها) ش: أي على النصرة م: (بنفسه بعد الإسلام) ش: فسقطت، لقدرته على الأصل م: (والعصمة تثبت) ش: هذا جواب عن قول الشافعي: إنها وجبت بدلاً عن العصمة، بيان أن العصمة ثابتة م: (بكونه آدمياً) ش: يعني من حيث إنه آدمي خلق معصوماً محقون الدم لكونه مكلفاً، فلا ينافي له العام بأمور التكليف إلا بكونه معصوماً، وإنما يطلب عصمته بعارض الكفر، ثم لما أسلم عادت العصمة، فصارت العصمة به لا بقبول الجزية.
ولقائل أن يقول: إنها ثابتة بالآدمية، ولكنها سقطت بالكفر، فالجزية بعدها على ما كانت فكانت بدلاً. والجواب أنها لو كانت بدلاً عن العصمة، فإما أن تكون عن عصمة فيما مضى، أو فيما يستقبل، ولا سبيل إلى الأول لوقوع الفتنة عنه، ولا إلى الثاني لأن الإسلام يغني عنها.
م: (والذمي يسكن ملك نفسه) ش: هذا جواب عن قوله: أو عن السكنى، بيانه أن الذمي إنما سكن في ملكه إما بالشراء أو بغيره من أسباب الملك م: (فلا معنى لإيجاب بدل العصمة والسكنى) ش: يعني لا فائدة في إيجاب البدل، لكنه في موضع مملوك له، فلو كانت الجزية أخذ وجوبها بالإجماع لا محالة، ويشترط فيها التأقيت، لأن الإبهام سلطها وحيث لم يشترط التأقيت في السكنى دل على أن السكنى لم تكن بطريق الإجارة.
[اجتمعت علي الذمي جزية الحولين]
م: (وإن اجتمعت عليه) ش: أي على الذمي م: (الحولان) ش: أي جزية الحولين فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وفي بعض النسخ وإن اجتمعت عليه الحولان، بناء هذا للفعل باعتبار تقديره جزية الحولين كما ذكرنا. وقال الأترازي: ويجوز أن يراد بالحولين الجزيتان مجازاً، إطلاقاً لاسم المحل على الحال. أو أنث الفعل على السنة، لأن الحول في معناها م: (تداخلت) ش: أي الجزية، وهذا لفظ القدوري آتية في شرح الأقطع.
م: (وفي " الجامع الصغير ": ومن لم يؤخذ منه خراج رأسه حتى مضت سنة أخرى لم يؤخذ) ش: أي لا يؤخذ ما مضى م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: يؤخذ منه) ش: يعني مما مضى م: (وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش:(7/251)
وإن مات عند تمام السنة لم يؤخذ منه في قولهم جميعا، وكذلك إن مات في بعض السنة. أما مسألة الموت فقد ذكرناها. وقيل: خراج الأرض على هذا الخلاف، وقيل: لا تداخل فيه بالاتفاق، لهما في الخلافية أن الخراج وجب عوضا، والأعواض إذا اجتمعت وأمكن استيفاؤها تستوفى، وقد أمكن فيما نحن فيه بعد توالي السنين، بخلاف ما إذا أسلم لأنه تعذر استيفاؤه. ولأبي حنيفة أنها وجبت عقوبة على الإصرار على الكفر على ما بيناه، ولهذا لا تقبل منه لو بعث على يد نائبه في أصح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبه قال أحمد. وقال مالك: يؤخذ منه إلا إذا كان فقيراً لم يؤخذ منه بعشرة، إذ الفقير لا جزية عليه عنده.
م: (وإن مات عند تمام السنة) ش: أي عند تمام السنة الأولى م: (لم يؤخذ في قولهم جميعاً) ش: أي في قول أصحابنا المذكورين والشافعي.
م: (وكذلك) ش: أي لا تؤخذ م: (إن مات في بعض السنة) ش: لأنه إن مات قبل الوجوب فلا شبهة فيه، وإن مات بعد الوجوب فقط سقط بالموت عندنا خلافاً للشافعي.
م: (أما مسألة الموت فقد ذكرناها) ش: أشار به إلى قوله: ولأن شرع العقوبة في الدنيا لا تكون إلا لدفع الشر وقد اندفع بالموت والإسلام م: (وقيل: لا تداخل فيه) ش: أي في الخراج م: (بالاتفاق) ش: ووجه الفرق بينهما أن الخراج في حالة البقاء مؤنة من غير التفات إلى معنى العقوبة.
ولهذا إذا اشترى المسلم أرضاً خراجية يجب عليه الخراج، فجاز أن لا يداخل، بخلاف الجزية فإنها عقوبة ابتداء نصاً، ولهذا لم يشرع في حق المسلم أصلاً، والعقوبات تتداخل.
م: (ولهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (في الخلافية) ش: أي فيما إذا اجتمع عليه حولان م: (أن الخراج وجب عوضاً) ش: أي عن سائر الأعواض: حقن الدم أو عن السكنى م: (والأعواض إذا اجتمعت وأمكن استيفاؤها تستوفى) ش: كما في سائر الأعواض م: (وقد أمكن فيما نحن فيه بعد توالي السنين) ش: أي بعد تتابعها، لأن الفرض أنه حي وانتفاء المال من الحي ممكن إذا لم يمنع عنه الإسلام م: (بخلاف ما إذا أسلم لأنه تعذر استيفاؤه) ش: لأن المؤمن يؤمن لإيمانه، فيتعذر انتفاؤه من الوجه الذي وجب.
م: (ولأبي حنيفة أنها) ش: أي الجزية م: (وجبت عقوبة على الإصرار على الكفر على ما بيناه) ش: أراد بقوله ما ذكره قبل هذا بقوله: ولأنها وجبت عقوبة م: (ولهذا) ش: أي ولكونها وجبت عقوبة م: (لا تقبل منه) ش: أي من الذمي م: (لو بعث) ش: أي جزيته م: (على يد نائبه في أصح(7/252)
الروايات، بل يكلف أن يأتي به بنفسه فيعطي قائما، والقابض منه قاعد. وفي رواية: يأخذ بتلابيبه ويهزه هزا ويقول: أعطني الجزية يا ذمي، وقيل عدو الله، فيثبت أنه عقوبة، والعقوبات إذا اجتمعت تداخلت كالحدود. ولأنها وجبت بدلا عن القتل في حقهم وعن النصرة في حقنا، كما ذكرنا، لكن في المستقبل لا في الماضي، لأن القتل إنما يستوفى لحراب قائم في الحال لا لحراب ماض، وكذا النصرة في المستقبل، لأن الماضي وقعت الغيبة عنه، ثم قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجزية. وفي " الجامع الصغير ": وجاءت سنة أخرى حمله بعض المشايخ على المضي مجازا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الروايات) ش: وهنا ثلاث روايات، بين المصنف منها روايتين، وهي قوله: ولا يقبل، وقوله م: (بل يكلف) ش: إلى آخره من تتمة هذه الراوية.
وقوله مكلف أي الذي إلى م: (أن يأتي به) ش: أي بما وجبت عليه من الجزية م: (بنفسه) ش: أي يأتي بنفسه فيعطي) ش: حال كونه م: (قائما والقابض منه قاعد) .
م: (وفي رواية يأخذ) ش: هذه الرواية الثانية وهي أن يأخذ، أي القابض م: (بتلابيبه) ش: والتلبيبة أخذ موضع القلب من الثياب، واللبيب موضع القدرة من العذرة م: (ويهزه) ش: أي يهز القابض الذمي م: (هزاً ويقول: أعطني الجزية يا ذمي. وقيل عدو الله) ش: وفي شرح الطحاوي تؤخذ منه الجزية بطريق الاستحقار له حتى يضع حالة الأخذ، وإذا كان الأمر كذلك م: (فيثبت أنه) ش: أي أن الذي يؤخذ منه وهو الجزية م: (عقوبة، والعقوبات إذا اجتمعت تداخلت) ش: إذا كانت من جنس واحد تداخلت م: (كالحدود) ش:
م: (ولأنها) ش: أي ولأن الجزية م: (وجبت بدلاً عن القتل في حقهم، وعن النصرة في حقنا) ش: أي بدلاً عن النصرة في حقنا، وبدلاً عن النصرة في حق المسلمين م: (كما ذكرنا) ش: عند قوله فيما تقدم عن قريب، ولأنها وجبت عن النصرة في حقنا.
م: (لكن في المستقبل) ش: هذا إذاً استدراك من قوله: لأنها وجبت بدلاً عن القتل، يعني كونها بدلاً عن القتل إنما يظهر في المستقبل م: (لا في الماضي، لأن القتل إنما يستوفى لحراب قائم في الحال لا لحراب ماض) ش: لأن الماضي فات م: (وكذا النصرة) ش: أي وكذا كون النصرة في حقنا م: (في المستقبل؛ لأن الماضي وقعت الغيبة عنه) ش: لعدم فائدتها في الماضي الغائب.
م: (ثم قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجزية) ش: أشار به إلى بيان قول محمد الذي نقله م: (وفي الجامع الصغير) ش: عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجزية بقوله م: (وجاءت سنة أخرى حمله) ش: أي حمل المجيء م: (بعض المشايخ على المضي) ش: يعني معناه مضت حتى لتحقق اجتماع الحولين، لأنها عند الحول تجب، وهذا ضرب من المجاز، أشار إليه بقوله م: (مجازاً) ش: لأن مجيء كل شهر بمجيء أوله. ويجوز المجاز أن يجيء الشهر مستلزم(7/253)
وقال: الوجوب بآخر السنة فلا بد من المضي ليتحقق الاجتماع فتداخل، وعند البعض هو مجرى على حقيقته، والوجوب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأول الحول فيتحقق الاجتماع بمجرد المجيء، والأصح أن الوجوب عندنا في ابتداء الحول، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في آخره اعتبارا بالزكاة. ولنا أن ما وجب بدلا عنه لا يتحقق إلا في المستقبل على ما قررناه، فتعذر إيجابه بعد مضي الحول، فأجبناه في أوله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مضي الآخر لا محالة. وذكر اللزوم وإرادة اللازم مجازاً.
م: (وقال) ش: بعض المشايخ: م: (الوجوب) ش: أي وجوب الجزية م: (بآخر السنة فلا بد من المضي ليتحقق الاجتماع) ش: أي اجتماع الحولين م: (فتداخل) ش: حينئذ الحولان م: (وعند البعض) ش: أي بعض المشايخ م: (هو) ش: أي المجيء م: (مجرى على حقيقته) ش: أي على حقيقة المجيء، وهو دخول السنة م: (والوجوب) ش: أي وجوب الجزية م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأول الحول، فيتحقق الاجتماع بمجرد المجيء) ش: تحقيقاً عند أبي حنيفة، ولذلك قال هو في الزكاة: إنما يجب في أول الحول.
م: (والأصح أن الوجوب) ش: أي نفس الوجوب م: (عندنا في ابتداء الحول، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في آخره اعتباراً بالزكاة. ولنا أن ما وجب بدلاً عنه) ش: أي عن القتل إذ القتال م: (لا يتحقق إلا في المستقبل على ما قررناه) ش: أشار به إلى قوله: لأن القتل إنما يستوفى لحراب قائم في الحال لا الحراب ماض له، قاله الأترازي.
وقال الكاكي: قوله على ما قررناه وهو الجزية بدل عن القتل في حقهم، وعن النصرة في حقنا، وهذا إنما يتحقق في المستقبل لا في الماضي، فكذلك وجب أن يكون الحكم في أيديهما كذلك أيضاً، وهو أن لا يجب بنصرة ماضية، ويجب بنصرة مستقبلة، فينبغي أن يجب في أول الحول لتحقق سببه، وهو وجوب النصرة عليهم بالمال، بخلاف الزكاة، لأنها تجب في المال النامي الحول للتمكن من الاشتمال اشتمال الحول على الفصول الأربعة، فيتعذر إتمامه بعد مضي الحول، يعني إنما وجب لما لم يتحقق إلا في المستقبل بعذر إيجابه بعد مضي الحول، يعني م: (فتعذر إيجابه) ش: ما وجب م: (بعد مضي الحول، فأوجبناه في أوله) ش: أي في أول الحول، لأنه أول أوقات إمكان الوجوب.(7/254)
فصل ولا يجوز إحداث بيعة ولا كنيسة في دار الإسلام، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة» والمراد إحداثها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل ولا يجوز إحداث بيعة ولا كنيسة في دار الإسلام]
م: (فصل)
ش: هذا فصل في بيان ما يجوز لهم أن يفعلوا بما يتعلق بالسكنى وغير ذلك من أحوالهم. م: (ولا يجوز إحداث بيعة) ش: بكسر الباء م: (ولا كنيسة في دار الإسلام) ش: يقال كنيسة اليهود والنصارى لتعبدهم.
وكذلك البيعة كان مطلقاً في الأصل، ثم غلب استعمال البيعة لمتعبد اليهود، والكنيسة لمتعبد النصارى م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة» ش: هذا الحديث رواه البيهقي في سننه عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة» وضعفه. ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام بلفظ المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وروى ابن عدي في " الكامل " عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبنى كنيسة في الإسلام، ولا يبنى ما خرب منها» وفي إسناده سعيد بن سنان واعلم به، وقال: عامة ما يرويه غير محفوظ، وعن أحمد وابن معين: ضعيف. وقال ابن القطان: وفيه من الضعفاء غير سعيد بن سنان وهو محمد بن جامع أبو عبد الله العطار. قال أبو زرعة: ليس بصدوق، وفيه أيضاً سعيد بن عبد الجبار، ضعيف، بل متروك، وحكى البخاري أن جرير بن عبد الحميد كان يكذبه.
قوله: لا خصاء بكسر الخاء مصدر خصاه، أي نزع خصيتيه، والإخصاء في معناه خطأ، ذكره في " المغرب " والوجه في الجمع بين الخصاء والكنيسة أن الخصاء نوع ضعف في الإنسان في الخطأ، وكذا الكنيسة في دار الإسلام تورث الضعف في الإسلام، أو في الخطأ تغيير عما عليه أصل الخلقة، وكذا في بناء الكنيسة تغيير عما عليه بها دار الإسلام.
قلت: الأوجه أن يقال: سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الخصاء، واتفق أن سائلاً آخر سأل عن الكنيسة فأجابهما بقوله: «لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة» وهذا من الفيض الإلهي، فلله الحمد. وقيل: المراد في قَوْله تَعَالَى: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] (النساء: الآية 119) ، الخصاء. وقيل: المراد به التبتل والامتناع من النساء.
م: (والمراد إحداثها) ش: أي المراد من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ولا كنيسة» أي إحداث الكنيسة. وقيل: أمصار المسلمين ثلاثة، أحدها: ما مصره المسلمون منها، كالكوفة والبصرة وبغداد(7/255)
وإن انهدمت البيع والكنائس القديمة أعادوها؛ لأن الأبنية لا تبقى دائمة. ولما أقرهم الإمام فقد عهد إليهم الإعادة، إلا أنهم لا يمكنون من نقلها، لأنه إحداث في الحقيقة، والصومعة للتخلي فيها بمنزلة البيعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وواسط، فلا يجوز فيها إحداث بيعة، ولا كنيسة ولا مجتمع لصلواتهم ولا صومعة، بإجماع أهل العلم، ولا يملكون فيه شرب الخمر واتخاذ الخنزير وضرب الناقوس.
وثانيها: ما فتحه المسلمون عنوة، فلا يجوز إحداث شيء فيها بالإجماع، وما كان فيها شيء من ذلك هدمه، فقال مالك والشافعي في قول، وأحمد في رواية: يجب هدمه، وعندنا يأمرهم الإمام أن يجعلوا كنائسهم مساكن ويمنع من صلاتهم فيها، ولكن لا تهدم.
هذا إذا صالحهم بعد الفتح أن يجعلهم ذمة، وبه قال الشافعي في قول وأحمد في رواية؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فتحوا كثيراً من البلاد عنوة ولم يهدموا كنائسهم. وكتب عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى عماله: لا تهدموا بيعة ولا كنيسة، وقال: ما فتح صلحاً فإن صالحهم على أن الأرض وكذا الخراج لنا فجاز إحداثهم، وإن صالحهم على أن الدار لنا ويؤدون الجزية، فالحكم بالكنائس على ما وقع عليه الصلح على شرط تمكين الإحداث لأئمتهم، والأولى أن يصالحهم على شرط ما وقع صلح عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من عدم إحداث البيعة والكنيسة، ويمنعون من ضرب الناقوس وشرب الخمر واتخاذ جزية الخنزير.
ولو وقع الصلح مطلقاً لا يجوز الإحداث ولا يتعرض للقديمة، ويمنعون من ضرب الناقوس وشرب الخمر واتخاذ الخنزير بالإجماع. وفي المحيط: لو ضربوا الناقوس في جوف كنائسهم لا يمنعون.
[إحداث البيع والكنائس في أرض العرب]
م: (وإن انهدمت البيع والكنائس القديمة أعادوها) ش: المراد من القديمة ما كانت قبل فتح الإمام بلدهم ومصالحتهم على إقرارهم على بلدهم وأراضيهم، ولا يشترط أن يكون في زمن الصحابة والتابعين لا محالة م: (لأن الأبنية لا تبقى دائمة، ولما أقرهم الإمام فقد عهد إليهم الإعادة، إلا أنهم لا يمكنون من نقلها، لأنه) ش: أي لأن النقل م: (إحداث في الحقيقة) ش: وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " نوادر هشام ": إن انهدمت كنيسة من كنائسهم أو بيعة أو بيت نار، فلهم أن يبنها كما كانت.
وليس لهم أن يحولوها من موضع إلى آخر في المصر. فقوله: أن يبنوه كما كانت، يريد به قد مر بناء الأول، أما الزيادة على البناء الأول فممنوع، لأنه إحداث بيعة في المصر.
م: (والصومعة) ش: قال الجوهري: فوعلة، يعني وزنها يدل على أن الواو فيه زائدة، وهو بيت يبنى بأساس طويل ليعبد فيها بالانقطاع عن الناس، وهو معنى قوله م: (للتخلي فيها بمنزلة البيعة) ش: إنما قال: بمنزلة البيعة، يعني لا يجوز إحداثها مثلما لا يجوز إحداث البيعة. م:(7/256)
بخلاف موضع الصلاة في البيت؛ لأنه تبع للسكنى، وهذا في الأمصار دون القرى؛ لأن الأمصار هي التي تقام فيها الشعائر، فلا تعارض بإظهار ما يخالفها. وقيل في ديارنا يمنعون من ذلك في القرى أيضاً؛ لأن فيها بعض الشعائر، والمروي عن صاحب المذهب في قرى الكوفة؛ لأن أكثر أهلها أهل الذمة، وفي أرض العرب يمنعون من ذلك في أمصارها وقراها؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(بخلاف موضع الصلاة في البيت) ش: حتى لا يمنع، يعني إذا عين موضعاً من البيت للصلاة فيه لا يمنع منه م: (لأنه تبع للسكنى) ش: أي لأنه تابع لمسكنه، فتكون من جملة مسكنه م: (وهذا في الأمصار) ش: أي عدم جواز إحداث البيعة والكنيسة في الأمصار م: (دون القرى؛ لأن الأمصار هي التي تقام فيها الشعائر) ش: أي شعائر الإسلام م: (فلا تعارض بإظهار ما يخالفها) ش: أي خالف الشعائر.
م: (وقيل في ديارنا يمنعون من ذلك) ش: أي من إحداث البيعة والكنيسة م: (في القرى أيضاً؛ لأن فيها بعض الشعائر) ش: مثل الأذان والإقامة والصلاة بالجماعة م: (والمروي عن صاحب المذهب) ش: وهو الإمام أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أي الذي روي عن أبي حنيفة من عدم المنع من إحداث الكنيسة والبيعة.
م: (في قرى الكوفة لأن أكثر أهلها أهل الذمة) ش: لم تكن قراها موضعاً فتقيد الأحكام لتعليمهم، فلم يرد المنع من الإحداث. وقال في " الفتاوى الصغرى " إذا أرادوا إحداث البيع والكنائس في الأمصار يمنعون بالإجماع أما في السواد وذكر في العشر والخراج أنهم يمنعون. وفي الإجارات أنهم لا يمنعون. واختلف المشايخ فيه، قال مشايخ بلخ يمنع، وقال الفضلي ومشايخ بخارى: لا يمنع، وذكر شمس الأئمة السرخسي: الأصح عندي أنهم يمنعون عن ذلك في السواد، وهل تهدم البيع القديمة في السواد على الروايات كلها أم لا؟ أما في الأمصار ذكر في الإجارات لا تهدم البيع القديمة بل تترك. وذكر في العشر والخراج أنها تهدم.
م: (وفي أرض العرب يمنعون من ذلك) ش: من إحداث البيع والكنائس م: (في أمصارها وقراها؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» ش: هذا الحديث رواه إسحاق بن راهويه في مسنده أخبرنا النضر بن شميل حدثنا صالح بن أبي الأحصر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مرضه الذي توفي فيه: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» ، انتهى. إنها سميت الجزيرة؛ لأن بحر فارس وبحر الحبش ودجلة والفرات قد أحاطت بها، وقيل لانجزارها عن موضعها، والجزر(7/257)
قال: ويؤخذ أهل الذمة بالتمييز عن المسلمين في زيهم ومراكبهم وسروجهم وقلانسهم ولا يركبون الخيل، ولا يعملون بالسلاح، وفي " الجامع الصغير ": ويؤخذ أهل الذمة بإظهار الكستيجات والركوب على السروج التي هي كهيئة الأكف،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القطع لأنها جزرت عن المياه التي حواليها لبحور البصرة وعمان وعدن والفرات.
وقال الزهري: سميت جزيرة لأن بحر فارس وبحر السواد أحاطا بجانبيها، يعني البحر وأحاطت بالجانب الشمالي دجلة والفرات، وأسند أبو داود عن سعيد بن عبد العزيز قال: جزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن إلى نحو العراق إلى النجف.
وقال المنذري في مختصره: قال مالك: جزيرة العرب المدينة نفسها، وروي عنه أنها الحجاز واليمن، ولما لم يبلغه ملك فارس والروم، وحكى البخاري عن المغيرة أنها مكة والمدينة. وقال الأصمعي: هي من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول. وأما العرض فمن جدة وما والاها من ثماجيل البحر إلى أطراف الشام. قال أبو عبيدة جزيرة العرب ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول.
وأما العرض فما بين مرسل سيرين إلى مقطع السماء. وفي شرح ديوان الفرزدق حفر أبي موسى فاتخذ على خمس مراحل من البصرة. وقال أبو عبيد: أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإخراج اليهود والنصارى من هذا كله.
[تمييز أهل الذمة عن المسلمين في زيهم]
م: (قال: ويؤخذ أهل الذمة بالتمييز عن المسلمين في زيهم) ش: بكسر الزاي وتشديد الياء الزي الهيئة وأصله زوي قلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء م: (ومراكبهم) ش: جمع مركوب م: (وسروجهم) ش: جمع سرج م: (وقلانسهم) ش: جمع قلنسوة. وقال الكرخي: تكون قلانس الرجال سواء طوالاً مضربته م: (ولا يركبون الخيل ولا يعملون بالسلاح. وفي " الجامع الصغير ") ش: إنما ذكر لفظ " الجامع الصغير " ليعلم أنه تفسير لما ذكره القدوري؛ لأن المذكور فيما قبله لفظ القدوري م: (ويؤخذ أهل الذمة بإظهار الكستيجات) ش: جمع كستج، وفسره الكرخي ما يحيط العقدة على وسطه. وعن أبي يوسف: كستج خيط غليظ بقدر الإصبع يشده الذمي فوق ثيابه دون ما سرين به من الزنار المتخذة من الإبريسم.
وقال فخر الإسلام: في تفسير الكستيجات هي أعلام الكفر، وهي فارسية معربة، وحقيقة الزجر والذل بلغة العجم.
م: (والركوب على السروج التي هي كهيئة الأكف) ش: بضم الهمزة والكاف جمع إكاف(7/258)
وإنما يؤخذون بذلك إظهارا للصغار عليهم وصيانة لضعفة المسلمين. ولأن المسلم يكرم والذمي يهان، ولا يبتدأ بالسلام ويضيق عليه الطريق، فلو لم تكن علامة مميزة فلعله يعامل معاملة المسلمين، وذلك لا يجوز. والعلامة يجب أن تكون خيطا غليظا من الصوف يشده على وسطه دون الزنار، ومن الإبريسم فإنه جفاء في حق أهل الإسلام، ويجب أن تتميز نساؤهم عن نسائنا في الطرقات والحمامات، ويجعل على دورهم علامات كي لا يقف عليها سائل يدعو لهم بالمغفرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالكسر وتفسيره ما قال الكرخي في مختصره وهي أن يكون على قربوص السرج مثل الرمانة م: (وإنما يؤخذون بذلك) ش: أي بما ذكر من الأشياء م: (إظهاراً للصغار عليهم وصيانة لضعفة المسلمين) ش: يعني في الدين لا في اليدين حتى لا يميلوا إليهم بأن رأوهم أصحاب النعمة والحقص والدعة.
ويقولون إن المؤمنين في مشقة ومحنة وأهل الذمة في راحة ونعمة، فلذلك وجب تمييزهم بأعلام وآثار تدل على الذل ولا يتركون يتجملون، ولهذا كان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يأمر عماله أن يأخذوا أهل الذمة.
م: (ولأن المسلم يكرم) ش: لأجل إسلامه م: (والذمي يهان) ش: لأجل كفره م: (ولا يبتدأ بالسلام) ش: أي الذمي بالسلام م: (ويضيق عليه الطريق) ش: يعني يلحق إلى أضيق الطريق م: (فلو لم تكن علامة مميزة) ش: على صيغة اسم الفاعل من التمييز م: (فلعله) ش: أي فلعل الذمي م: (يعامل) ش: على صيغة المجهول م: (معاملة المسلمين، وذلك لا يجوز، والعلامة يجب أن تكون خيطاً غليظاً من الصوف يشده على وسطه دون الزنار، من الإبريسم فإنه جفاء) ش: أي فإن الزنار جفاء، أي خوف. وترك الخمس المعشرة م: (في حق أهل الإسلام) ش: والإبريسم معرب، والعرب تخلط فيما ليس من كلامها.
وقال هو بكسر الهمزة والراء وفتح السين. وقال التمرتاشي: ينبغي في كل بلد من العلامة ما تعارفه أهله؛ لأنه المقصود، ويعلم بهذا أن الأمصار على هذه العلامة المخصوصة لازم.
م: (ويجب أن تتميز نساؤهم عن نسائنا في الطرقات والحمامات) ش: كالجلاجل وغير ذلك.
وكذا قال شمس الأئمة السرخسي في شرح " الجامع الصغير ". وقال أيضاً: وكذا من تكون يروه من نسائهم تؤمر باتخاذ علامة فوق الحلات لتميز بذلك من المسلمات. وإذا كانت ممن لا يخرج لا يحتاج إلى العلامة م: (ويجعل على دورهم علامات كي لا يقف عليها سائل يدعو لهم بالمغفرة) ش: لأن فيه إهانة المسلم في نفس الأمر، حيث يدعو لعدو الله تعالى ووقوف المسلم على باب أهل الكفر ذل، وإهانة للمسلم فضلاً أن يدعو له.(7/259)
قالوا: الأحق أن لا يركبوا إلا للضرورة، وإذا ركبوا للضرورة فلينزلوا في جامع المسلمين، فإن لزمه ضرورة اتخذوا سرجا بالصفة التي تقدمت، ويمنعون عن لباس يختص به أهل العلم والزهد والشرف.
ومن امتنع من أداء الجزية أو قتل مسلما أو سب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أو زنى بمسلمة لم ينتقض عهده؛ لأن الغاية التي ينتهي بها القتال التزام الجزية لا أداؤها، والالتزام باق. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - سب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يكون نقضا؛ لأنه لو كان مسلما ينقض أمانه، فكذا ينقض أمانه إذ عقد الذمة خلف عنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قالوا) ش: أي مشايخنا الأخر إن م: (الأحق أن لا يركبوا إلا للضرورة) ش: كالخروج إلى الرهبان وذهاب المريض إلى موضع محتاج إليه، وكذا إذا استعان بهم الإمام في الحرب.
م: (وإذا ركبوا للضرورة فلينزلوا في جامع المسلمين، فإن لزمه ضرورة اتخذوا سرجاً بالصفة التي تقدمت) ش: وهي كهيئة الأكف، إذ السرج للقرابة، ولهذا يكره للنساء الركوب على السرج؛ لأنهن ليسوا من أهل الجهاد م: (ويمنعون عن لباس يختص به أهل العلم والزهد والشرف) ش: هكذا أمر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[نقض عهد من امتنع من أداء الجزية]
م: (ومن امتنع من أداء الجزية أو قتل مسلماً أو سب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أو زنى بمسلمة لم ينتقض عهده) ش: وقال أصحاب الشافعي: ينقض العهد بجميع ذلك، كذا ذكر في شرح الأقطع م: (لأن الغاية التي ينتهي بها القتال التزام الجزية لا أداؤها والالتزام باق) ش: يعني التزام الجزية باق، فيكون على عهده، ولقد طول الأترازي هنا في كلامه، وأكثر ما يعجبني أنه أفتى بقتله لسبه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكون سبه لله تعالى.
والوجه مع أصحاب الشافعي م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يكون نقضاً) ش: أي للعهد م: (لأنه لو كان مسلماً ينقض أمانه) ش: يعني على تقدير أنه لو كان مسلماً وكان سب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان ينقض أمانه.
كذا فسره الشراح - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (فكذا ينقض أمانه) ش: أي أمانه الذي كان له بعقد الذمة م: (إذ عقد الذمة خلف عنه) ش: عن الأمان. وقال الشافعي إذا امتنع من بدل الجزية وقبول أحكام الإسلام ينتقض عهده ولا ينتقض بزنا مسلمة وإن غصبها بنكاحها، أو يفتن مسلماً عن دينه أو بقطع الطريق أو يؤدي إلى الكفار عيناً أو يدل على عورات الإسلام.
وبه قال مالك وأحمد. وقال مالك: ينتقض بإكراه المسلمة على الزنا وفي سب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أو ذكر الله تعالى بما لا ينبغي وللشافعي قولان، أحدهما ينتقض، والثاني لا، وفي " شرح الوجيز " امتناع الجزية مع القدرة انتقاض في عهده وأما لعجز لا. أي عن الأمان.(7/260)
ولنا أن سب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كفر منه، والكفر المقارن لا يمنعه فالطارئ لا يرفعه. قال: ولا ينقض العهد إلا أن يلتحق بدار الحرب، أو يغلبوا على موضع فيحاربوننا؛ لأنهم صاروا حربا علينا، فيعرى عقد الذمة عن الفائدة وهو دفع شر الحراب. وإذا نقض الذمي العهد فهو بمنزلة المرتد، معناه في الحكم بموته باللحاق؛ لأنه التحق بالأموات، وكذا في حكم ما حمله من ماله إلا أنه لو أسر لا يسترق بخلاف المرتد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا أن سب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كفر منه) ش: أي من الذمي م: (والكفر المقارن) ش: أي المعتزل به م: (لا يمنعه) ش: أي لا يمنع الأمان م: (فالطارئ) ش: أي الكفر الطارئ بعارض م: (لا يرفعه) ش: أي الأمان.
م: (قال: ولا ينقض العهد إلا أن يلتحق بدار الحرب أو يغلبوا) ش: أي أهل الذمة م: (على موضع، فيحاربوننا؛ لأنهم صاروا حرباً علينا، فيعرى عقد الذمة عن الفائدة، وهو دفع شر الحراب، وإذا نقض الذمي العهد فهو بمنزلة المرتد) ش: وبينه المصنف بقوله: م: (معناه في الحكم بموته باللحاق؛ لأنه التحق بالأموات) ش: بمعنى إذا تاب ورجع لا يقتل، وإن لحق بدار الحرب ما يعمل في تركته المرتد. فإن خلف امرأة ذمية في دار الإسلام بانت منه لتباين الدارين. وإذا لحقت معه بدارهم ثم عاد إلى دارنا فهما على حقها، إلا أن الذمي اللاحق بدارهم إذا غلب عليها يسترق، والمرتد ما دامت في دارنا لا يسترق، فإذا لحقت بدار الحرب ثم ثبت استرقت، ويجوز مع ذلك على الإسلام.
م: (وكذا في حكم ما حمله من ماله) ش: يعني أن الذمي الناقض للعهد إذا حمل ماله إلى دار الحرب تكون فيئاً للمسلمين إذا ظهروا عليها كمال المرتد إذا حمله إلى دار الحرب م: (إلا) ش: استثنى من قوله فهو بمنزلة المرتد، أي إلا أن الذمي لو أسر يسترق بخلاف المرتد م: (أنه لو أسر لا يسترق) ش: بل يقتل إن أصر على استرداده، وكذا يجوز وضع الجزية على ذمي نقض العهد، ولحق بدار الحرب م: (بخلاف المرتد) .(7/261)
فصل ونصارى بني تغلب يؤخذ من أموالهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صالحهم على ذلك بمحضر من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ويؤخذ من نسائهم ولا يؤخذ من صبيانهم؛ لأن الصلح وقع على الصدقة المضاعفة، والصدقة تجب عليهن دون الصبيان، فكذا المضاعف. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يؤخذ من نسائهم أيضا، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه جزية في الحقيقة على ما قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذه جزية فسموها ما شئتم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل نصارى بني تغلب يؤخذ من أموالهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام نصارى بني تغلب، وذكر هنا في فصل، هذا على حدة؛ لأن حكمهم مخالف لحكم سائر النصارى وبنو تغلب بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الغين المعجمة وكسر اللام وائل بن فاسط بن رهيب بن أوضى بن يحيى بن حذيفة بن أسد بن ربيعة بن سادر سلموا أي الجاهلية إلى النصرانية، فدعاهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى بدل الجزية، فأبو وأنفوا، وقالوا: نحن عرب، خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض الصدقات. فقال لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة يا أمير المؤمنين إن القوم لهم بأس شديد، ذويهم عرب يأنفون من الجزية فلا تعن عدوك عليك بهم، وخذ منهم الجزية باسم الصدقة، فبعث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في طلبهم وضعف عليهم فأجمع الصحابة على ذلك، وقال به الفقهاء.
م: (ونصارى بني تغلب يؤخذ من أموالهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صالحهم على ذلك بمحضر من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: تقدم هذا في كتاب الزكاة في آخر باب زكاة الخيل م: (ويؤخذ من نسائهم ولا يؤخذ من صبيانهم) ش: هذا لفظ القدوري في مختصره وهو ظاهر الرواية. وقال الفقيه أبو الليث في شرح " الجامع الصغير " روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: لا يؤخذ من نساء بني تغلب شيء.
قال الفقيه: وذكر عن أبي الحسن الكرخي أنه قال: هذه الرواية أقيس؛ لأنه لا يؤخذ من نساء أهل الذمة جزية فكذلك لا تؤخذ من نسائهم - تغلب - مضاعفة الصدقة.
م: (لأن الصلح وقع على الصدقة المضاعفة، والصدقة تجب عليهن دون الصبيان، فكذا المضاعف) ش: لا تجب عليهم م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يؤخذ من نسائهم أيضاً) ش: وفي بعض النسخ من سواهم م: (وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قول زفر وهو قول الشافعي م: (لأنه) ش: أي لأن الذمي يؤخذ منهم م: (جزية في الحقيقة على ما قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذه جزية فسموها ما شئتم) ش: أي هذه الصدقة المضاعفة جزية فسموها حسبما شئتم أنتم.(7/262)
ولهذا تصرف مصارف الجزية ولا جزية على النسوان. ولنا أنه مال وجب بالصلح والمرأة من أهل وجوب مثله عليها، والمصرف مصالح المسلمين؛ لأنه مال بيت المال، وذلك لا يختص بالجزية ألا ترى أنه لا يراعى فيه شرائطها، ويوضع على مولى التغلبي الخراج، أي الجزية وخراج الأرض بمنزلة مولى القرشي. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضاعف لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إن مولى القوم منهم، ألا ترى أن مولى الهاشمي يلحق به في حق حرمة الصدقة. ولنا أن هذا تخفيف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهذا أيضاً تقدم في باب زكاة الخيل في كتاب الزكاة، وأما صبيانهم فلا يؤخذ منهم شيء.
وكذا مجانينهم، وعند أحمد يجب عليهما كالزكاة م: (ولهذا) ش: أي لكونها جزية في الحقيقة م: (تصرف مصارف الجزية، ولا جزية على النسوان) ش: فلا يؤخذ شيء من نساء بني تغلب أيضاً.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن المأخوذ منهم م: (مال وجب بالصلح والمرأة من أهل وجوب مثله عليها) ش: أي مثلما وجب ببدل الصلح فتجب عليها م: (والمصرف مصالح المسلمين) ش: هذا جواب من قوله: تصرف مصارف الجزية، تقريره أن يقال: لا نسلم أن كونه مصرف الجزية يدل على أنه جزية؛ لأن مصرفه مصالح المسلمين م: (لأنه مال بيت المال وذلك) ش: أي مصرف مصالح المسلمين م: (لا يختص بالجزية) ش: وحدها، بل يوضع فيه خراج الأرضين والجزية، وأما أهله أهل الحرب وغيرها.
م: (ألا ترى أنه لا يراعى فيه) ش: أي في المأخوذ منها م: (شرائطها) ش: أي شرائط الجزية بوصف العقار وغيره من عدم القبول من الثابت وبالإعطاء قائماً والقابض قاعداً وأخذ التلبيب والهز. م: (ويوضع على مولى التغلبي الخراج) ش: هذا من مسائل الجامع، وفسره المصنف بقوله م: (أي الجزية) ش: لأنها خراج الرأس ومولى التغلبي معتقه م: (وخراج الأرض) ش: أي يوضع عليها خراج الأرض م: (بمنزلة مولى القرشي) ش: لا يؤخذ الجزية والخراج من القرشي، ويؤخذ من مولاه، فكذلك هاهنا.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضاعف) ش: أي يضاعف على مولى التغلبي م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «إن مولى القوم منهم» ش: هذا الحديث تقدم في باب من يجوز دفع الصدقة إليه ومن لا يجوز.
وجه استدلاله به ظاهر؛ لأن مولاه عليه التضعيف فعليه كذلك؛ لأنه منه، وهو المروي عن عامر التغلبي أيضاً م: (ألا ترى أن مولى الهاشمي يلحق به في حق حرمة الصدقة) ش: لأنه منه بظاهر الحديث، فكذلك مولى التغلبي.
م: (ولنا أن هذا) ش: أي أخذ مضاعف الزكاة م: (تخفيف) ش: يعني أنه ليس فيه وصف(7/263)
والمولى لا يلحق بالأصل فيه، ولهذا توضع الجزية على مولى المسلم إذا كان نصرنيا، بخلاف حرمة الصدقة؛ لأن الحرمات تثبت بالشبهات فألحق المولى بالهاشمي في حقه، ولا يلزم مولى الغني حيث لا تحرم عليه الصدقة؛ لأن الغني من أهلها، وإنما الغنى مانع ولم يوجد في حق المولى، أما الهاشمي فليس بأهل لهذه الصلة أصلا؛ لأنه صين لشرفه وكرامته عن أوساخ الناس فألحق به مولاه. قال: وما جباه الإمام من الخراج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصغار بخلاف الجزية م: (والمولى لا يلحق بالأصل فيه) ش: أي في التخفيف م: (ولهذا) ش: أي ولكون المولى لا يلحق بالأصل في التخفيف م: (توضع الجزية على مولى المسلم إذا كان نصرانياُ) ش: ولم يلحق لمولاه في ترك الجزية، وإن كان الإسلام على أسباب التخفيف بالتخلص عن التدين بالإمام، وقد ألحق مولى الهاشمي فيها بالهاشمي.
وتقرير الجواب أن ذلك م: (بخلاف حرمة الصدقة؛ لأن الحرمات تثبت بالشبهات) ش: لأنها في باب الحرمات ملحقة بالحقيقة م: (فألحق المولى بالهاشمي في حقه) ش: أي في حق ما هو لمولاه، وهو حرمة الصدقة.
م: (ولا يلزم مولى الغني) ش: جواب عما يقال مال مولى الغني لم يلحق به في حرمة الصدقة والعلة المذكورة، وهي أن الحرمات تثبت بالشبهات.
فأجاب بقوله ولا يلزم المولى الغني علينا م: (حيث لا تحرم عليه) ش: أي على الغني م: (الصدقة؛ لأن الغني من أهلها) ش: أي من أهل الصدقة في الجملة، ألا ترى أنه إذا كان عاملا يعطى من الصدقة ما يكفيه، وكذلك ابن السبيل يجوز له أخذ الزكاة. م: (وإنما الغنى مانع ولم يوجد في حق المولى، أما الهاشمي فليس بأهل لهذه الصلة أصلاً لأنه صين) ش: أي حفظ، وهو مجهول صانه، وأصله صون قلبت الواو ألفاً لتحركها وافتتاح ما قبلها وأصل صين صون قلبت الواو ياء، ثم أبدلت ضمة الصاد كسرة لأجل الياء م: (لشرفه) ش: أي لأجل شرفه.
م: (وكرامته عن أوساخ الناس) ش: وذلك لأجل التعظيم لقرابة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا كان الأمر كذلك م: (فألحق به) ش: أي بالهاشمي م: (مولاه) ش: لأنه نسبة، ولم يذكر جواباً عن الحديث، وهو أنه ورد بخلاف القياس فاقتصر على مورد النص.
وهو حرمة الصدقة خاصة فلم يجز التعدية إلى غيرها؛ لأن ذلك كان لإظهار فضل قرابة رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في إلحاق مولاهم بهم، ومولى التغلبي ليس من ذلك في شيء.
م: (قال: وما جباه الإمام) ش: أي وما جمعه الإمام م: (من الخراج) ش: أي خراج الأراضي(7/264)
ومن أموال بني تغلب وما أهداه أهل الحرب إلى الإمام والجزية، يصرف في مصالح المسلمين كسد الثغور وبناء القناطر والجسور، ويعطى قضاة المسلمين وعمالهم وعلماؤهم منه ما يكفيهم، ويدفع منه أرزاق المقاتلة وذراريهم؛ لأنه مال بيت المال، فإنه وصل إلى المسلمين من غير قتال وهو معد لمصالح المسلمين، وهؤلاء عملتهم، ونفقة الذراري على الآباء، فلو لم يعطوا كفايتهم لاحتاجوا إلى الاكتساب لا يفرغون للقتال. ومن مات منهم في نصف السنة فلا شيء له من العطاء؛ لأنه نوع صلة وليس بدين، ولهذا سمي عطاء فلا يملك قبل القبض ويسقط بالموت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ومن أموال بني تغلب وما أهداه أهل الحرب إلى الإمام والجزية يصرف في مصالح المسلمين كسد الثغور) ش: وهو جمع ثغر، وهو موضع مخاف البلدان م: (وبناء القناطر) ش: جمع قنطرة وهو ما يحكم بناؤه ولا يرفع م: (والجسور) ش: جمع جسر، وهو ما يوضع ويرفع م: (ويعطى قضاة المسلمين وعمالهم) ش: بضم العين وتشديد الميم جمع عامل.
م: (وعلماؤهم منه) ش: أي من الذي جباه الإمام من الأشياء المذكورة م: (ما يكفيهم) ش: أي ما يكفي القضاة وعمالهم والعلماء م: (ويدفع منه) ش: أي من الذي جباه أيضاً م: (أرزاق المقاتلة وذراريهم) ش: أي وأرزاق ذراريهم؛ لأن نقصانهم واجب عليهم، فلو لم يكن موقوفاُ لذراري آبائهم لم يتفرغوا للقتال، ولبطل أمر الجهاد الذي من أعظم مصالح المسلمين؛ لاشتغال المقاتلة بأكساب النفقات للذراري.
م: (لأنه) ش: أي لأن الذي جباه الإمام م: (مال بيت المال، فإنه وصل إلى المسلمين من غير قتال، وهو) ش: أي المال الذي جباه م: (معد لمصالح المسلمين، وهؤلاء عملتهم) ش: أي القضاة وعمالهم والعلماء عملتهم وهو جمع عامل م: (ونفقة الذراري على الآباء، فلو لم يعطوا كفايتهم لاحتاجوا إلى الاكتساب لا يفرغون للقتال) ش: وقد شرحناه الآن.
م: (ومن مات منهم) ش: أي من المذكورين م: (في نصف السنة فلا شيء له من العطاء) ش: وهو ما يكتب للقراء في الديوان ولكل من قام بأمر الدين م: (لأنه نوع صلة وليس بدين، ولهذا سمي عطاء فلا يملك قبل القبض ويسقط بالموت) ش: وإنما وضع المسألة نصف السنة؛ لأنه لو مات في آخر السنة يستحب صرف ذلك إلى قريبه؛ لأنه قد وافى غناءه، ويستحب الصرف إلى قريبه ليكون أقرب إلى الولائم قبل رزق القاضي ومن في معناه في آخر السنة يعطى، ولو أخذ في أولها ثم عزل أو مات قبل نصفها قيل: يجب رد ما بقي من السنة، وقيل على قياس نفقة المرأة لا يجب.
وقال محمد وأحب إلي رد الباقي، وكذا لو عجل لها نفقته يسترضيها فمات قبل التزوج(7/265)
وأهل العطاء في زماننا مثل القاضي والمدرس والمفتي، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لعدم حصول المقصود، وعندهما أنها صلة من وجه فيقطع الاسترداد بالموت كالرجوع في الهبة، ذكره في جامع قاضي خان والتمرتاشي. م: (وأهل العطاء في زماننا مثل القاضي والمدرس والمفتي، والله أعلم) ش: إنما قال ذلك لأنه في الابتداء كان يعطى لكل من كان له ضرب من به في الإسلام كأزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأولاد المهاجرين والأنصار.(7/266)
باب أحكام المرتدين قال: وإذا ارتد المسلم عن الإسلام - والعياذ بالله - عرض عليه الإسلام، فإن كانت له شبهة كشفت عنه؛ لأنه عساه اعترته شبهة فتزاح، وفيه دفع شره بأحسن الأمرين إلا أن العرض على ما قالوا غير واجب؛ لأن الدعوة بلغته. قال: ويحبس ثلاثة أيام، فإن أسلم وإلا قتل. وفي " الجامع الصغير ": المرتد يعرض عليه الإسلام، فإن أبى قتل حرا كان أو عبدا، وتأويل الأول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب أحكام المرتدين]
م: (باب أحكام المرتدين) ش: أي هذا باب في بيان أحكام المرتدين وهو جمع مرتد، وهو الذي يرتد، أي يرجع عن دين الإسلام إلى الكفر - والعياذ بالله تعالى - ولما فرغ من بيان أحكام الكفر الأصلي شرع في بيان أحكام الكفر الطارئ؛ لأن الطارئ إنما هو بعد وجود الأصلي.
م: (قال: وإذا ارتد المسلم عن الإسلام - والعياذ بالله - عرض عليه الإسلام) ش: وفي أكثر النسخ، وإذا ارتد المسلم عن الإسلام عرض عليه الإسلام م: (فإن كانت له شبهة كشفت عنه) ش: وفي بعض نسخ القدوري كشفت له.
م: (لأنه) ش: أي لأن الذي ارتد م: (عساه) ش: أي لعله م: (اعترته شبهة) ش: وفي بعض النسخ اعترضت له شبهة، يقال عراه أعراه بمعنى إذا أباح م: (فتزاح) ش:، أي تزال من الإزاحة، وفي بعض النسخ: فتزاح عنه أي عن الذي ارتد.
م: (وفيه) ش: أي وفي عرض الإسلام م: (دفع شره) ش: أي دفع شر المرتد م: (بأحسن الأمرين) ش: أراد بهما الإسلام والقتل، وأحسنهما الإسلام م: (إلا أن العرض) ش: أي غير أن عرض الإسلام عليه.
م: (على ما قالوا) ش: أي المشايخ م: (غير واجب، لأن الدعوة بلغته) ش: أي لأنه عذر، ولكن العرض مستحب. وفي الإيضاح ويستحب عرض الإسلام على المرتدين؛ لأن رجاء عوده إلى الإسلام ثبت على ما يجيء.
م: (قال: ويحبس ثلاثة أيام فإن أسلم) ش: فبها ونعمت م: (وإلا قتل) ش: أي وإن لم يسلم بعد ثلاثة أيام قتل. إلى هاهنا كلام القدوري مع شرح المصنف إياه م: (وفي " الجامع الصغير " المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أبى قتل) ش: مكانه، وذكره في شرحه: في المسلم يرتد أن يقتل م: (حراً كان أو عبداً) ش: وقال فخر الإسلام: ولا يؤخر إلى أن نتمهل؛ لأنه قد ارتد بعد المعرفة، فلا عفو له م: (وتأويل الأول) ش: وهو قوله ثلاثة أيام.(7/267)
أنه يستمهل فيمهل ثلاثة أيام لأنها مدة ضربت لإيلاء الإعذار، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله - أنه يستحب أن يؤجله ثلاثة أيام طلب ذلك أو لم يطلب. وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن على الإمام أن يؤجله ثلاثة أيام، ولا يحل له أن يقتله قبل ذلك؛ لأن ارتداد المسلم يكون عن شبهة ظاهرا، فلا بد من مدة يمكنه التأمل، فقدرناه بالثلاثة. ولنا قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] من غير قيد الإمهال، وكذا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من بدل دينه فاقتلوه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أنه) ش: أي أن المرتد م: (يستمهل) ش: على صيغة المعلوم من الاستمهال، وهو طلب المهلة. حاصل معناه أنه إذا طلب المهلة م: (فيمهل) ش: على صيغة المجهول من الإمهال م: (ثلاثة أيام؛ لأنها مدة ضربت لإيلاء الإعذار) ش: بكسر الهمزة.
أي لاختيار الأعذار كما في شرط خيار قصة موسى، والعبد الصالح وإن لم يطلب المهلة فالظاهر من حالته أنه متعنت في ذلك، فلا بأس بقتله، إلا أن له يستحب أن يستر؛ لأنه بمنزلة كافر بلغته الدعوة.
فإن قيل تقدير المدة هاهنا بثلاثة أيام نصب الحكم بالرأي فيما لا مدخل للقتل فيه؛ لأنه المقادير. أجيب: بأن هذا من قبيل إثبات الحكم بدلالة النص؛ لأن ورود النص في خيار البيع بثلاثة أيام، وورد فيه لأن التقدير بثلاثة أيام هناك كان للتأمل. والتقدير هاهنا أيضاً للتأمل.
م: (وعن أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - أنه يستحب أن يؤجله ثلاثة أيام طلب ذلك) ش: أي الإمهال أو التأجيل م: (أو لم يطلب. وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن على الإمام أن يؤجله ثلاثة أيام ولا يحل له أن يقتله قبل ذلك؛ لأن ارتداد المسلم يكون عن شبهة ظاهراً، فلا بد من مدة يمكنه التأمل. فقدرناه بالثلاثة) .
ش: وقال الكاكي: ومدة الاشتباه ثلاثة أيام عندنا ومالك وأحمد والشافعي في قول.
وفي أصح قوليه إن تاب في الحال وإلا قتل؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من بدل دينه فاقتلوه» وهو اختيار ابن المنذر. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يستتاب شهراً. وقال الثوري يستتاب ما رجي عوده. وقال النخغي يستتاب أبداً، وهذا يقتضي أن لا يقتل أبداً، وهو مخالف للسنة والإجماع.
م: (ولنا قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] من غير قيد الإمهال، وكذا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من بدل دينه فاقتلوه» ش: هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرجه البخاري في حديث استتابة المرتدين وفيه «من بدل دينه فاقتلوه» .(7/268)
ولأنه كافر حربي بلغته الدعوة فيقتل للحال من غير استمهال، وهذا لأنه لا يجوز تأخير الواجب لأمر موهوم. ولا فرق بين الحر والعبد لإطلاق الدلائل. وكيفية توبته أن يتبرأ عن الأديان كلها سوى الإسلام؛ لأنه لا دين له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروي عن معاوية بن حيدة، أخرجه الطبراني في الكبير قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدل دينه فاقتلوه» أن لا تقبل توبته عن الكفر بعد إسلامه. وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط عنها مرفوعاً نحوه سواء.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن المرتد م: (كافر حربي بلغته الدعوة فيقتل للحال من غير استمهال) ش: إنما قال كافر حربي؛ لأنه ليس بذمي ولا مستأمن، إذ لا يقبل الجزية، وما طلب الأمان فكان حربياً فيقتل لإطلاق النص. ولأنه بنفس الردة صار محارباً لأهل الإسلام فيقتل، إلا إذا استمهل فيمهل ثلاثة أيام كما مر.
ونقل الناطقي في كتاب " الأجناس " عن كتاب " الارتداد للحبس " فأناب المرتد وعاد إلى الإسلام ثم عاد إلى الكفر حتى فعل ذلك ثلاث مرات، وفي كل مرة طلب من الإمام التأجيل أجله الإمام ثلاثة أيام. فإن عاد إلى الكفر رابعاً ثم طلب التأجيل فإنه لا يؤجله، فإن أسلم وإلا قتل.
وقال الكرخي في " مختصره ": فإن رجع أيضاًَ عن الإسلام يأتي به الإمام بعد ثلاثة استتابات أيضاً. فإن لم يتب قتله ولا يؤجله، وإن هو تاب ضربه ضرباً وجيعاً ولا يبلغ به الحد، ثم يحبسه ولا يخرجه من السجن حتى يرى عليه خشوع التوبة، ويرى من حاله حال إنسان قد أخلص، فإذا فعل ذلك خلى سبيله. فإن عاد بعدما خلى سبيله فعل به مثل ذلك أبداً ما دام يرجع إلى الإسلام، ولا يقتل إلا أن يأبى أن يسلم.
وقال أبو الحسن الكرخي: هذا قول أصحابنا جميعاً أن المرتد يستتاب أبداً. وروي عن علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه لا تقبل توبة بعد المرة الثالثة؛ لأنه مستحق السبي وليس بثابت م: (وهذا) ش: أي قتله للحال من غير إمهال م: (لأنه) ش: أي لأن القتال م: (لا يجوز تأخير الواجب) وهو القتل م: (لأمر موهوم) ش: وهو إسلام المرتد م: (ولا فرق بين الحر والعبد) ش: أي لا فرق في قتل المرتد أن يكون حراً أو عبداً إذا أبى الإسلام م: (لإطلاق الدلائل) ش: هو قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من بدل دينه فاقتلوه» وغيرهما من غير فصل بين الحر والعبد. م: (وكيفية توبته) ش: أي توبة المرتد م: (أن يتبرأ عن الأديان كلها سوى الإسلام لأنه لا دين له) ش: يعني لو كان له دين كاليهودية والنصرانية يوجب عليه أن يبرأ عن ذلك، ولكن ليس له دين فلأجل هذا يبرأ عن الأديان كلها سوى دين الإسلام بعد أن يأتي بالشهادتين.(7/269)
ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه لحصول المقصود. قال: فإن قتله قاتل قبل عرض الإسلام عليه كره ولا شيء على القاتل. ومعنى الكراهية هاهنا ترك المستحب، وانتفاء الضمان؛ لأن الكفر مبيح للقتل والعرض بعد بلوغ الدعوة غير واجب. وأما المرتدة فلا تقتل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال في شرح الطحاوي: سئل أبو يوسف عن المرتد كيف يستتاب فقال: يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. ويقر بما جاء من عند الله من الذي انتحل، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وقال: ولم أدخل في هذا الدين قط وأنا بريء منه، أي من الذي ارتد إليه فهي توبة أيضاً.
كذا نقل الشيخ أبو الحسن الكرخي عن أبي يوسف، وقال في شرح الطحاوي: إسلام النصراني أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويبرأ من النصرانية، وإن كان يهودياً يبرأ من اليهودية.
وكذلك إذا كان كل ملة توقف عليها. وأما إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فإنه لا يكون مسلماً بهذا الاسم؛ لأنهم يقولون هذا إلا أنهم إذا فسروا قالوا: رسول الله إليكم، هذا في اليهود والنصارى والذمي بين ظهراني أهل الإسلام.
وأما إذا كان في دار الحرب وحمل عليه رجل من المسلمين فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فهذا دليل الإسلام، أو قال محمد رسول الله، أو قال: دخلت في دار الإسلام، أو قال: دخلت في دين محمد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فهذا دليل إسلامه، ذكره في كتاب المرتد.
[المرتد إذا قتله قاتل قبل عرض الإسلام عليه]
م: (ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه لحصول المقصود) ش: لأنه مسلمة للمرتد بعد ما كان عليه إذا تبرأ عما انتقل إليه حصل المقصود، والإقرار بالبعث والنشور مستحب، وبه قالت الأئمة الثلاثة.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (فإن قتله قاتل قبل عرض الإسلام عليه كره، ولا شيء على القاتل) ش: لأن القتل وجب عليه بالنصوص لمجرد الكفر، فلم يجب الضمان على قاتله لوجود المبيح م: (ومعنى الكراهية هاهنا ترك المستحب) ش: لأن في القتل تفويت الغرض المستحب.
وعند من قال بوجوب العرض يحرم قتله م: (وانتفاء الضمان لأن الكفر مبيح للقتل، والعرض بعد بلوغ الدعوة غير واجب) ش: لأن الكافر إذا بلغته الدعوة لا يجب تجديد العرض عليه، بل يستحب، فكذا هنا.
وفائدة الاستحباب محل قتله العرض م: (وأما المرتدة فلا تقتل) ش: ولكن حتى تسلم سواء كانت حرة أو أمة، ولو قتلها قاتل لم يجب عليه شيء.(7/270)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقتل لما روينا؛ ولأن ردة الرجل مبيحة للقتل من حيث إنها جناية مغلظة فتناط بها عقوبة مغلظة، وردة المرأة تشاركها فيها فتشاركها في موجبها. ولنا أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن قتل النساء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقتل لما روينا؛ ولأن ردة الرجل مبيحة للقتل من حيث إنها جناية مغلظة فتناط بها عقوبة مغلظة، وردة المرأة تشاركها فيها فتشاركها في موجبها. ولنا «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن قتل النساء»
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقتل) ش: وبه قال مالك وأحمد وأبو الليث والزهري والنخعي والأوزاعي ومكحول وحماد وإسحاق. وهو قول أبي يوسف أولاً، ذكره أبو الليث م: (لما روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من بدل دينه فاقتلوه» ومن تعم الرجال والنساء.
وروى الدارقطني «أن امرأة يقال لها مروان ارتدت فأمر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت» م: (ولأن ردة الرجل مبيحة للقتل من حيث إنها جناية مغلظة فتناط بها) ش: أي يتعلق بها م: (عقوبة مغلظة) ش: وهو القتل م: (وردة المرأة تشاركها فيها) ش: أي تشارك ردة الرجل في هذه العقوبة م: (فتشاركها في موجبها) ش: وهو القتل؛ لأن الاشتراك في العلة موجب الاشتراك في المعلول، فصار كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، وفيه نظر؛ لأنه إثبات ما يندرئ بالشبهات بالرأي.
م: (ولنا أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن قتل النساء) ش: وروى الجماعة إلا ابن ماجه عن نافع عن ابن عمر «أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنهى عن قتل النساء والصبيان» .
وفي لفظ البخاري ومسلم: «فأنكر قتل النساء والصبيان» . وأخرج أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «انطلقوا باسم الله وعلى ملة رسول الله، لا تقتلوا شيخاًَ فانياً ولا طفلاً ولا صغيراً ولا امرأة» .... الحديث، فإذا لم يقتل بالكفر الأصلي فبالطارئ بطريق الأولى كالصبي.
وروى الدارقطني في " سننه " عن عبد الله بن عيسى الجزري حدثنا عقال شعير عن عاصم عن أبي ربيعة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقتل المرأة إذا ارتدت» ، قال الدارقطني: وعبد الله هذا كذاب يضع الحديث على عقال وغيره، هذا لا يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والجواب عن الحديث الذي اتضح به الشافعي أنه عام متروك الظاهر؛ لأن من بدل دينه من اليهودية إلى النصرانية أو من النصرانية إلى اليهودية أو من الكفر إلى الإسلام، لا يقتل مع وجود التبديل على الرجل المرتد توفيقاً بين الحديثين.(7/271)
ولأن الأصل تأخير الأجزية إلى دار الآخرة، إذ تعجيلها يخل بمعنى الابتلاء، وإنما عدل عنه دفعا لشر ناجز وهو الحراب، ولا يتوجه ذلك من النساء لعدم صلاحية البنية. بخلاف الرجال فصارت المرتدة كالأصلية. قال: ولكن تحبس حتى تسلم لأنها امتنعت عن إيفاء حق الله تعالى بعد الإقرار، فتجبر على إيفائه بالحبس كما في حقوق العباد. وفي " الجامع الصغير ": وتجبر المرأة على الإسلام حرة كانت أو أمة، والأمة يجبرها مولاها. أما الجبر فلما ذكرنا من المولى لما فيه من الجمع بين الحقين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن الأصل تأخير الأجزية إلى دار الآخرة، إذ تعجيلها يخل بمعنى الابتلاء) ش: الذي هو من الله إظهار علمه؛ لأن الناس يمتنعون خوفاً من لحوقه، فصاروا في المعنى كالمحورين، وفيه إخلال بالإسلام م: (وإنما عدل عنه) ش: أي عن هذا الأصل م: (دفعاً لشر ناجز) ش: أي واقع م: (وهو الحراب) ش: يقال: ناجزاً مناجزاً، أي يتداخل.
م: (ولا يتوجه ذلك) ش: أي الحرب م: (من النساء لعدم صلاحية البنية) ش: يعني بنيتهن غير صالحة لذلك.
م: (بخلاف الرجال، فصارت المرتدة كالأصلية) ش: كالكافرة الأصلية والكافرة الأصلية لا تقتل، فكذا المرتدة.
وقال الأكمل: ما قيل: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل مرتدة فقد قيل: إنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يقتلها لمجرد الردة، بل؛ لأنها كانت شاخة شاعرة تهجو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان لها ثلاثون ابناً، وهي تحرضهم على قتال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر بقتلها.
م: (قال: ولكن تحبس حتى تسلم؛ لأنها امتنعت عن إيفاء حق الله تعالى بعد الإقرار فتجبر على إيفائه) ش: أي إيفاء حق الله تعالى م: (بالحبس كما في حقوق العباد) ش: حيث تحبس لإيفاء ما عليها من الحق.
م: (وفي " الجامع الصغير ") ش: إنما أعاد رواية " الجامع الصغير " لاشتمالها على ذكر الحر والحرة والأمة م: (وتجبر المرأة على الإسلام حرة كانت أو أمة، والأمة يجبرها مولاها، أما الجبر فلما ذكرنا) ش: يعني أنه امتنعت عن إيفاء حق الله بعد الإقرار م: (من المولى) ش: أي وأما الإجبار من المولى م: (لما فيه من الجمع بين الحقين) ش: أي حق الله تعالى وهو الجبر على الإسلام وحق العبد وهو الاستخدام.
وفي " الإيضاح " قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن احتاج المولى إلى خدمتها دفعها القاضي إليه وأمره أن يجبرها إلى الإسلام وأرسل إليها القاضي كل أيام يهددها ويضربها أسواطاً حتى تموت أو تسلم. والصحيح أنه يدفعها إلى المولى احتاج أو استغنى طلب أم لا؛ لأن الحبس(7/272)
ويروى: تضرب في كل أيام مبالغة في الحمل على الإسلام. قال: ويزول ملك المرتد عن أمواله بردته زوالا مراعى، فإن أسلم عادت إلى حالها. قالوا هذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما لا يزول ملكه؛ لأنه مكلف محتاج فإلى أن يقتل بقي ملكه كالمحكوم عليه بالرجم والقصاص. وله أنه حربي مقهور تحت أيدينا حتى يقتل. ولا قتل إلا بالحراب وهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تصرف فيها، وذا إلى المولى.
فإن قيل: للمولى حق الاستخدام في العبد والأمة جميعاً، فكيف دفعت إليه الأمة دون العبد.
أجيب: بأن العبد إذا أبى يقتل، فلا فائدة في الدفع إلى المولى.
م: (ويروى: تضرب في كل أيام مبالغة في الحمل على الإسلام) ش: وعن الحسن أن المرتدة تضرب كل يوم تسعة وثلاثين سوطا حتى تموت أو تسلم.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويزول ملك المرتد عن أمواله بردته) ش: أي بسبب ردته م: (زوالاً مراعى) ش: أي محفوظاً موقوفاً حتى يتبين حاله. وبه قال الشافعي في الأصح ومالك وأحمد في رواية، وبيانه في قوله م: (فإن أسلم عادت) ش: أي أمواله م: (إلى حالها) ش: أي تبقى ملكاً له كما كانت م: (قالوا) ش: أي المشايخ م: (هذا) ش: أي الذي ذكره القدوري من الزوال المراعى قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وفي بعض النسخ م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وهو الأصح م: (وعندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد م: (لا يزول ملكه) ش: وبه قال الشافعي في قوله، واختاره المزني وأحمد في ظاهر الرواية، وبه قال ابن المنذر وأكثر أهل العلم على أنه لا يزول بمجرد الردة م: (لأنه مكلف محتاج فإلى أن يقتل بقي ملكه) ش: ولا يتمكن من إقامة التكلف وأثر الردة في إباحة دمه لا في زوال ملكه كالمقضي عليه بالقود والرجم وهو معنى قوله م: (كالمحكوم عليه بالرجم والقصاص) ش: فإن ملكه لا يزول بإباحة دمه.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنه) ش: أي أن المرتد م: (حربي مقهور) ش: أما كونه حربياً، فلأنه كافر غير مستأمن والحربي كذلك؛ لأنه كافر غير مستأمن. وأما كونه مقهوراً فلأنه م: (تحت أيدينا حتى يقتل) ش: وقد زالت عصمة نفسه بالردة حتى يستحق القتل، ولذلك إن زالت عصمة نفسه تبعا له م: (ولا قتل إلا بالحراب) ش: فكان القتل هنا مستلزما للحراب، لأن نفس الكفر ليس مبيح له، ولهذا لا يقتل الأعمى والمقعد والشيخ الفاني، وقد تحقق اللزوم بالاتفاق، وهو كونه: من يقتل، فلا بد من لازمه، وهو كونه حربياً (وهذا) ش: أي كونه حربياً(7/273)
يوجب زوال ملكه ومالكيته، غير أنه مدعو إلى الإسلام بالإجبار عليه، ويرجى عوده إليه فتوقفنا في أمره، فإن أسلم جعل هذا العارض كأن لم يكن في حق هذا الحكم، وصار كأن لم يزل مسلما ولم يعمل السبب.
وإن مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه استقر كفره فيعمل السبب عمله وزال ملكه. قال: وإن مات أو قتل على ردته انتقل ما اكتسبه في حال إسلامه إلى ورثته المسلمين وكان ما اكتسبه في حال ردته فيئا، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مقهوراً تحت أيدينا م: (يوجب زوال ملكه ومالكيته) ش: بالجر عطفاً على قوله: ملكه؛ لأن المقهور به أمارة المملوكية، فإذا كان مقهوراً ارتفعت مالكيته وارتفاعها مستلزم ارتفاع الملك؛ لأن ارتفاع المالكية مع بقاء الملك بحال.
م: (غير أنه) ش: أي أن المرتد م: (مدعو إلى الإسلام بالإجبار عليه ويرجى عوده إليه) ش: أي على الإسلام، وذلك موجب بقاء المالكيه؛ لأنه حي مكلف يحتاج إلى ما تمكن منه من أداء ما يتكلف به، فبالنظر إلى الأول يزول وبالنظر إلى الثاني لا يزول م: (فتوقفنا في أمره) ش: فقلنا بزوال موقوف.
م: (فإن أسلم جعل هذا العارض كأن لم يكن في حق هذا الحكم) ش: أي في حق بقاء ملكه على ماله، واحترز بقوله في حق هذا الحكم عن جبر عليه وعن بينونة امرأته وعن وجوب تجديد كلمة الشهادة؛ لأن ردته لا تجعل كأنه لم تكن في هذه الأحكام م: (وصار كأن لم يزل مسلماً ولم يعمل) ش: على صيغة المجهول م: (السبب) ش: أي سبب المرتد ونكله وهو الارتداد
[ميراث المرتد إن مات أو قتل على ردته]
م: (وإن مات أو قتل على ردته بدار الحرب وحكم بلحاقه) ش: بدار الحرب م: (استقر كفره فيعمل السبب عمله وزال ملكه) ش: مبتدأ إلى وقت الردة، كما في البيع بشرط الخيار للمشتري. م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن مات أو قتل على ردته انتقل ما اكتسبه في حال إسلامه إلى ورثته المسلمين) ش: وقال الأترازي: فلو قال: وإن مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب، فحكم بلحاقه كان أولى؛ لأن حكم الحاكم باللحاق مثل موته، انتهى.
قلت: لم يقل هكذا هنا لا كفاية بما ذكره قبله، قيل إنه تكرار.
قلت: لا؛ لأن الأول لفظه، والثاني لفظ القدوري م: (كان ما اكتسبه في حال ردته فيئاً) ش: يعني غنيمة للمسلمين. م: (وهذا) ش: أي المذكور م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال زفر والحسن، كذا ذكره الكرخي.(7/274)
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كلاهما لورثته. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كلاهما فيء؛ لأنه مات كافرا، والمسلم لا يرث الكافر، ثم هو مال حربي لا أمان له، فيكون فيئا. ولهما أن ملكه في الكسبين بعد الردة باق على ما بيناه، فينتقل بموته إلى ورثته، ويستند إلى ما قبيل ردته، إذ الردة سبب الموت فيكون توريث المسلم من المسلم. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يمكن الاستناد في كسب الإسلام لوجوده قبل الردة. ولا يمكن الاستناد في كسب الردة لعدمه قبلها، ومن شرطه وجوده، ثم إنما يرثه من كان وارثا له حالة الردة، وبقي وارثا إلى وقت موته في رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبارا للاستناد. وعنه أنه يرثه من كان وارثا له وقت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كلاهما) ش: يعني الكسبان جميعاً م: (لورثته. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كلاهما فيء) ش: وبه قال مالك وأحمد م: (لأنه مات كافراً والمسلم لا يرث الكافر ثم هو مال حربي لا أمان له فيكون فيئاً) ش: يعني يوضع في بيت المال ليكون للمسلمين باعتبار أنه مال ضائع.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي يوسف ومحمد م: (أن ملكه في الكسبين بعد الردة باق على ما بيناه) ش: إشارة إلى قوله: لأنه مكلف يحتاج إلى آخره م: (فينتقل بموته إلى ورثته ويستند إلى ما قبيل ردته) ش: هذا جواب عما يقال: هذا توريث المسلم من الكافر، فأجاب بقوله: ويمتد، أي إلى إرسال.
وخرج في " المبسوط " ويستند التوريث إلى ما قبل ردته، فيكون كأنه كسب الردة كسب الإسلام م: (إذ الردة سبب الموت) ش: ولما كان سبب الموت جعل موتاً حكماً، فكان آخر جزء من أجزاء إسلامه آخر جزء من أجزاء حياته حكماً م: (فيكون توريث المسلم من المسلم) ش: بهذه الحيثية.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يمكن الاستناد) ش: أي إسناد التوريث م: (في كسب الإسلام لوجوده) ش: أي لوجود الكسب م: (قبل الردة، ولا يمكن الاستناد في كسب الردة لعدمه قبلها) ش: أي لعدم الكسب قبل الردة.
م: (ومن شرطه) ش: أي من شرط إسناد التوريث م: (وجوده) ش: أي وجود الكسب قبل الردة، ليكون توريث المسلم من المسلم؛ لأنا لو قلنا بالتوريث فيما كسب في حال الردة لزم توريث المسلم من الكافر، وذلك لا يجوز م: (ثم إنما يرثه) ش: أي إنما يرث المرتد م: (من كان وارثاً له حالة الردة، وبقي وارثاً إلى وقت موته في رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتباراً للاستناد) ش: ذكر هذا الروايات تفريعاً لمسألة القدوري، وهذه الرواية رواية الحسن م: (وعنه أنه يرثه من كان وارثاً له وقت(7/275)
الردة، ولا يبطل استحقاقه بموته بل يخلفه وارثه؛ لأن الردة بمنزلة الموت، وعنه أنه يعتبر وجود الوارث عند الموت؛ لأن الحادث بعد انعقاد السبب قبل تمامه كالحادث قبل انعقاده بمنزلة الولد الحادث من المبيع قبل القبض،
وترثه امرأته المسلمة إذا مات أو قتل على ردته وهي في العدة؛ لأنه يصير فارا، وإن كان صحيحا وقت الردة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الردة) ش: وولد له من علوق حادث وبقي إلى موته يرثه.
ومن حدث بعد ذلك لا يرثه حتى لو أسلم بعض قرابته بعد ردته، وولد من علوق حادث بعد ردته لا يرثه على هذه الرواية م: (ولا يبطل استحقاقه) ش: أي استحقاق الوارث م: (بموته) ش: قبل موت المرتد م: (بل يخلفه وارثه. لأن الردة بمنزلة الموت) ش: في حكم التوريث. ومن مات من الورثة بعد موت مورثه قبل قسمة الميراث لا يبطل استحقاقه، ولكن يخلفه وارثه فيه، وهذا مثله.
م: (وعنه) ش: أي وعن أبي حنيفة هذه الرواية رواها محمد عن أبي حنيفة م: (أنه يعتبر وجود الوارث عند الموت) ش: سواء كان موجوداً عند الردة أو حدث بعدها. وفي المبسوط هذا أصح م: (لأن الحادث بعد انعقاد السبب قبل تمامه) ش: أي تمام السبب م: (كالحادث قبل انعقاده) ش: أي قبل السبب فلا جرم تعتبر زمان الموت؛ لأن السبب يتم به حتى يرثه الولد الحادث بعد الردة قبل القتل أو الموت.
وهذا م: (بمنزلة الولد الحادث من المبيع قبل القبض) ش: بغير الولد الحادث في المشتراة قبل القبض، حيث يكون له حصة من الثمن غير مضمونة، حتى إذا هلك من يد البائع قبل القبض بغير فعل أحد هلك معه العوض وبقي الثمن كله متعلقاً بالأصل، كما كان كذلك لو كان الولد حادثا قبل انعقاد السبب وهو البيع.
قال في " النهاية ": وحاصله أنه على رواية الحسن يشترط الوصفان وهما: كونه وارثاً وقت الردة، وكونه باقياً إلى وقت الموت أو القتل، حتى لو كان وارثاً ثم مات قبل موت المرتد أو جد وارث بعد الردة فإنه لا يرثانه.
وعلى رواية أبي يوسف: يشترط الوصف الأول دون الثاني، وعلى رواية محمد: يشترط الوصف الثاني دون الأول.
[ميراث زوجة المرتد إذا قتل على ردته وهي في العدة]
م: (وترثه) ش: أي ترث المرتد م: (امرأته المسلمة إذا مات) ش: أي المرتد م: (أو قتل على ردته وهي في العدة) ش: الواو فيه للحال م: (لأنه يصير فاراً، وإن كان) ش: أي المرتد والواو للاتصال م: (صحيحاً وقت الردة) ش: لأن الردة سبب الهلاك كالمرض، فأشبه بردته التي حصلت بها بينونة الطلاق في حالة المرض.(7/276)
والمرتدة كسبها لورثتها؛ لأنه لا حراب منها فلم يوجد سبب الفيء، بخلاف المرتد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويرثها زوجها المسلم إن ارتدت وهي مريضة لقصدها إبطال حقه، وإن كانت صحيحة لا يرثها؛ لأنها لا تقتل فلم يتعلق حقه بمالها بالردة، بخلاف المرتد. قال: وإن لحق بدار الحرب مرتدا وحكم الحاكم بلحاقه عتق مدبروه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والطلاق البائن حالة المرض يوجب الإرث إذا كانت في العدة. وفي رواية أبي يوسف: يرث وإن انقطعت العدة؛ لأن العدة تغير قيام السبب وقت الردة، ذكره في " المبسوط ".
فإن قيل: أضاف أبو حنيفة التوريث إلى ما قبل الردة، وذلك مستلزم أن لا يتفاوت الحكم بين المدخول بها وغير المدخول؛ لأن الردة موت، وامرأة الميت ترثه سواء كان مدخولاً بها أو لم تكن.
أجيب: بأن الموت الحقيقي سبب للإرث حقيقة، يستوي فيه المدخول بها وغيرها. وأما الردة فإنها جعلت موتاً حكماً ليكون توريث المسلم، فهي ضعيفة في السببية فلا من تقررها بما هو من آثار النكاح من الدخول وقيام العدة.
م: (والمرتدة كسبها) ش: أي كسب المرتدة م: (لورثتها؛ لأنه لا حراب منها) ش: أي من المرأة. ومعنى هذا أن عصمة المال تبع لعصمة النفس، فالردة لا تزيل عصمة نفسها حتى لا تقتل، فكذا لا تزيل عصمة مالها، فكان الكسبان ملكها فيكون ميراثاً لورثتها. فإذا لم يكن حراب منها م: (فلم يوجد سبب الفيء) ش: فلا يترتب عليه الحكم م: (بخلاف المرتد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن كسبه فيء لكونه محارباً في الحال أو في المآل باللحاق.
وحاصل العرف أن عصمة المال تابعة للنفس، فالمرتدة لا تقتل فلا تسقط عصمة نفسها، فكذا لا تسقط عصمة مالها، بخلاف المرتد فإنه يقتل فتسقط عصمة نفسه، فكذا عصمة ماله لما ذكرنا م: (ويرثها) ش: أي المرتدة م: (زوجها المسلم إن ارتدت وهي مريضة) ش: الواو فيه للحال م: (لقصدها إبطال حقه) ش: أي حق الزوج بقصد الفرار من ميراث الزوج.
م: (وإن كانت) ش: أي المرتدة م: (صحيحة لا يرثها؛ لأنها لا تقتل، فلم يتعلق حقه بمالها بالردة) ش: لأنها ماتت بنفس الردة، فلم يضر فيه على الهلاك لأنها لا تقتل م: (بخلاف المرتد) ش: فلا يكون في حكم الفارة المريضة، فلا يرث زوجها منها، بخلاف المرتد منفصل بقوله: فلم يتعلق حق بمالها.
وفي المرتد يتعلق حقها بماله إذا مات وهي في العدة سواء ارتد في صحته أو في مرضه؛ لأنه مستحق القتل فكان فاراً بالارتداد فورثته.
م: (قال: وإن لحق بدار الحرب) ش: حال كونه م: (مرتداً وحكم الحاكم بلحاقه عتق مدبروه(7/277)
وأمهات أولاده وحلت الديون التي عليه، ونقل ما اكتسبه في حال الإسلام إلى ورثته من المسلمين. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يبقى ماله موقوفا كما كان؛ لأنه نوع غيبة فأشبه الغيبة في دار الإسلام. ولنا أنه صار مرتدا باللحاق من أهل الحرب وهم أموات في حق أحكام الإسلام، لانقطاع ولاية الإلزام كما هي منقطعة عن الموتى، فصار كالموت، إلا أنه لا يستقر لحاقه إلا بقضاء القاضي لاحتمال العود إلينا، فلا بد من القضاء. وإذا تقرر موته ثبتت الأحكام المتعلقة به وهي ما ذكرناها، كما في الموت الحقيقي، ثم يعتبر كونه وارثا عند لحاقه في قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن اللحاق هو السبب والقضاء لتقرره بقطع الاحتمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأمهات أولاده) ش: من جميع المال، كذا في شرح الطحاوي م: (وحلت الديون التي عليه) ش: يعني ديونه المؤجلة م: (ونقل ما اكتسبه في حال الإسلام إلى ورثته من المسلمين. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يبقى ماله موقوفاً كما كان) ش: في دار الإسلام، ويحفظه الحاكم وبه قال مالك وأحمد. والذي نقله المصنف عن الشافعي وأحمد، وأقواله.
كذا قاله الأكمل: وليس له إلا قولان، أحدهما: ما نقله، والآخر أن ملكه يزول م: (لأنه) ش: أي لأن إلحاقه بدار الحرب م: (نوع غيبة، فأشبه الغيبة في دار الإسلام) ش: فلا يتغير حكم ماله.
م: (ولنا أنه صار مرتداً باللحاق من أهل الحرب وهم أموات في حق أحكام الإسلام) ش: ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] (الأنعام: الآية 122) ، أي كافراً فهديناه م: (لانقطاع ولاية الإلزام) ش: هذا تعليل لقوله: وهم أموات؛ لأنه بإلحاق ينقطع عنه الأحكام كما ينقطع عنه بموته.
وهو معنى قوله م: (كما هي) ش: أي أحكام الإسلام م: (منقطعة عن الموتى فصار) ش: أي المرتد باللحاق م: (كالموت إلا أنه) ش: أي غير أنه م: (لا يستقر لحاقه إلا بقضاء القاضي لاحتمال العود إلينا فلا بد من القضاء) ش: لترجح جانب عدم العود إلينا م: (وإذا تقرر موته) ش: أي موته الحكمي بالقضاء م: (ثبتت الأحكام المتعلقة به) ش: أي بالمرتد.
م: (وهي ما ذكرناها) ش: أي الأحكام المتعلقة به، ما ذكرناها من عتق مدبريه أو أمهات أولاده وحلول ديونه المؤجلة ونقل كسب الإسلام إلى ورثته م: (كما في الموت الحقيقي) ش: أي كما تثبت هذه الأحكام في الموت الحقيقي.
م: (ثم يعتبر كونه) ش: أي كون وارث المرتد م: (وارثاً عند لحاقه) ش: أي عند لحاق المرتد بدار الحرب م: (في قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن اللحاق هو السبب) ش: لزوال ملكه م: (والقضاء لتقرره) ش: أي لتقرير السبب، وقيل: لتقرير اللحاق وهما متفاوتان م: (بقطع الاحتمال) ش: أي احتمال العود إلى دار الإسلام.(7/278)
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقت القضاء لأنه يصير موتا بالقضاء. والمرتدة إذا لحقت بدار الحرب فهي على هذا الخلاف، وتقضى الديون التي لزمته في حال الإسلام مما اكتسبه في حال الإسلام، وما لزمه في حال ردته من الديون يقضى مما اكتسبه في حال ردته. قال العبد الضعيف عصمه الله: هذه رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعنه أنه يبدأ بكسب الإسلام، فإن لم يف بذلك يقضي من كسب الردة، وعنه على عكسه، وجه الأول: أن المستحق بالسببين مختلف، وحصول كل واحد من الكسبين باعتبار السبب الذي وجب به الدين، فيقضى كل دين من الكسب المكتسب الذي في تلك الحالة، ليكون الغرم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقت القضاء) ش: أي يعتبر كونه وارثاً وقت القضاء باللحاق م: (لأنه) ش: أي لأن المرتد م: (يصير موتاً بالقضاء) ش: أي بقضاء القاضي واللحاق غلبة م: (والمرتدة إذا لحقت بدار الحرب فهي على هذا الخلاف) ش: أي على هذا الخلاف بين أبي يوسف ومحمد، فعند أبي يوسف: يعتبر وجود الوارث وقت القضاء، وعند محمد: وقت اللحاق أو معناه على هذا الذي ذكرناه من عتق المدبر وأم الولد وحلول الدين ونقل الكسب إلى الورثة، لكن إلى ورثته قبل اللحاق أو وقت القضاء على الاختلاف م: (وتقضى الديون التي لزمته في حال الإسلام مما اكتسبه في حال الإسلام، وما لزمه في حال ردته من الديون يقضى مما اكتسبه في حال ردته) ش: هذا كله قول القدوري.
م: (قال العبد الضعيف -عصمه الله -:) ش: أي المصنف م: (هذه رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعنه) ش: أي وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه) .
وقال الأترازي: إن الشأن م: (يبدأ) ش: في قضاء الذي م: (بكسب الإسلام) ش: وهذه الرواية رواها الحسن عن أبي حنيفة م: (فإن لم يف بذلك) ش: أي فإن لم يكن في كسب الإسلام وفاء بالدين م: (يقضى من كسب الردة. وعنه) ش: أي وعن أبي حنيفة م: (على عكسه) ش: أي يقضى كسب الردة، فإن لم يف يقضى من كسب الإسلام، وهذه الرواية رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة.
م: (وجه الأول) ش: أي وجه المذكور الأول وهو قضاء دين على كل حال من كسب تلك الحال م: (أن المستحق بالسببين مختلف) ش: أحدهما: بالسبب الواقع في حالة الإسلام، والآخر: بالسبب الواقع في حالة الردة مختلف؛ لأن الحد الواقع بالسبب في حالة الإسلام يخالف الدين الواجب بالسبب الواقع في حالة الردة.
م: (وحصول كل واحد من الكسبين) ش: أي من كسب الإسلام وكسب الردة م: (باعتبار السبب الذي وجب به الدين فيقضى كل دين من الكسب المكتسب الذي في تلك الحالة ليكون الغرم(7/279)
بالغنم. وجه الثاني: أن كسب الإسلام ملكه حتى يخلفه الوارث فيه. ومن شرط هذه الخلافة الفراغ عن حق المورث، فيقدم الدين عليه.
وأما كسب الردة فليس بمملوك له؛ لبطلان أهلية الملك بالردة عنده، فلا يقضى دينه منه إلا إذا تعذر قضاؤه من محل آخر، فحينئذ يقضى منه كالذمي إذا مات ولا وارث له يكون ماله لجماعة المسلمين. ولو كان عليه دين يقضى منه كذلك هاهنا. وجه الثالث: أن كسب الإسلام حق الورثة وكسب الردة خالص حقه، فكان قضاء الدين منه أولى، إلا إذا تعذر بأن لم يف به، فحينئذ يقضى من كسب الإسلام تقديما لحقه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالغنم) ش: أي بإزاء الغنم.
م: (وجه الثاني) ش: وهو الذي يبدأ فيه بكسب الإسلام م: (أن كسب الإسلام ملكه) ش: أي ملك المرتد وأوضح ذلك بقوله م: (حتى يخلفه الوارث فيه) ش: بضم الفاء؛ لأن حتى للحال. قول فيه: أي في كسب الإسلام م: (ومن شرط هذه الخلافة الفراغ عن حق المورث) ش: أراد أن الوارث إنما يكون خلفاً عن الميت إذا لم يكن عليه دين، فإذا كان عليه دين م: (فيقدم الدين عليه) ش: أي على الوارث.
[كسب الردة قضاء الدين منه]
م: (وأما كسب الردة فليس بمملوك له لبطلان أهلية الملك بالردة عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (فلا يقضى دينه منه، إلا إذا تعذر قضاؤه من محل آخر) ش: أراد به كسب الإسلام م: (فحينئذ يقضى منه) ش: أي من كسب الردة كالذمي، جواب سؤال يرد عليه، وهو إن كسب الردة لما لم يكن مملوكاً له كيف يؤدى منه دينه إذا لم يكن له كسب الإسلام؟
فأجاب بقوله: م: (كالذمي) ش: يعني هذا غير بعيد، فإن الذمي م: (إذا مات ولا وارث له) ش: الواو فيه للحال م: (يكون ماله لجماعة المسلمين، ولو كان عليه دين يقضى منه، كذلك هاهنا) ش: أي كذلك الحكم في هذا الوجه.
م: (وجه الثالث) ش: وهو البداءة من كسب الردة، فإن لم يف فمن كسب الإسلام م: (أن كسب الإسلام حق الورثة، وكسب الردة خالص حقه، فكان قضاء الدين منه) ش: أي من كسب الردة م: (أولى إلا إذا تعذر بأن لم يف به) ش: أي كسب الردة م: (فحينئذ يقضى من كسب الإسلام تقديماً لحقه) ش: أي لحق المرتد؛ لأن الدين مقدم على الإرث وفيه بحث من أوجه:
الأول: ما قيل إن هذا ناقض قوله، أما كسب الردة فليس بمملوك؛ لبطلان أهلية الملك بالردة.
والثاني: أن كون سبب الإسلام حق الورثة ممنوع، فإن حقهم إنما يكون متعلقاً بالتركة بعد الفراغ عن حق المورث.
والثالث: أن قضاء الدين من خالص ماله واجب، ومن حق غيره ممتنع، فلا وجه بقوله: فكان قضاء الدين منه أولى.(7/280)
وقال أبو يوسف ومحمد: تقضى ديونه من الكسبين لأنهما جميعا ملكه حتى يجري الإرث فيهما، والله أعلم. قال: وما باعه أو اشتراه أو رهنه أو أعتقه أو وهبه أو تصرف فيه من أمواله في حال ردته فهو موقوف، فإن أسلم صحت عقوده. وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب بطلت، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز ما صنع في الوجهين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأجيب عن الأول: بأن المعنى من خلوص الحق هنا أن لا يتعلق حق الغير به كما يتعلق في مال المريض. ثم لا يلزم من كونه خالص حقه كونه ملكاً له، ألا ترى أن كسب المكاتب خالص حقه وليس بملك له، وكذلك الذي إذا مات ولا وارث له على ما ذكرنا.
وعن الثاني: أن الدين إنما يتعلق بماله عند الموت، لا ما زال من قبل، وكسب الإسلام قد زال وانتقل بالردة إلى الورثة، وكسب في الردة هو ماله عند الموت يتعلق الدين به.
وعن الثالث: بأن كسب الإسلام بعرضية أن يكون خالص حقه بالتوبة، فكان أحدهما خالص حقه، والآخر بعرضه، أي يصير خالص حقه، ولا شك أن قضاء الدين من الأول أولى، هذا على طريق أبي حنيفة.
م: (وقال أبو يوسف ومحمد: تقضى ديونه من الكسبين) ش: أي كسب الإسلام، وكسب الردة م: (لأنهما) ش: أي لأن الكسبين م: (جميعاً ملكه حتى يجري الإرث فيهما، والله أعلم) ش: وبه قالت الأئمة الثلاثة.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وما باعه) ش: أي الذي باعه المرتد م: (أو اشتراه أو رهنه أو أعتقه أو وهبه أو تصرف فيه) ش: أي الذي تصرف فيه م: (من أمواله في حال ردته فهو موقوف) ش: دخل بقوله: ما باعه، والمعطوفات عليه يدخل فيه.
فهو جملة اسمية في محل الرفع على أنها خبر المبتدأ، أعني قوله: وما باعه، والمبتدأ إذا تضمن معنى الشرط تدخل في خبره الفاء على ما عرف في موضعه، وأوضح معنى الموقوف بقوله م: (فإن أسلم صحت عقوده) ش: المذكورة م: (وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب بطلت) ش: هذه العقود.
م: (وهذا) ش: أي كون هذه التصرفات موقوفة م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: إنما قال المصنف: هذا؛ لأن القدوري لم يذكر الخلاف في هذا الموضع.
م: (وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز ما صنع في الوجهين) ش: أحدهما: الإسلام، والثاني: أخذ الرجف السلامة من الغرق والقتل واللحاق.(7/281)
اعلم أن تصرفات المرتد على أقسام: نافذ بالاتفاق: كالاستيلاد والطلاق؛ لأنه لا يفتقر إلى حقيقة الملك، وتمام الولاية. وباطل بالاتفاق: كالنكاح والذبيحة؛ لأنه يعتمد الملة ولا ملة له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الشامل ": جمع تصرف المرتد في حالة ردته من بيع وشراء وعتق وتدبير وكتابة ووطء، أو غالبه جائز إن أسلم، وباطل إن لحق السبب فإنه يثبت عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف: يجوز كما يجوز من الصحيح، وعند محمد كما يجوز من المريض.
[تصرفات المرتد]
م: (اعلم أن تصرفات المرتد على أقسام) ش: قسم منها م: (نافذ بالاتفاق كالاستيلاد والطلاق) .
ش: فإن قلنا: كيف يقدم طلاق المرتد وبمجرد الردة تبين المرأة.
قلت: هذا ليس بممنوع، ألا ترى أن المسلم إذا أبان زوجته ثم طلقها في عدتها جاز، فكذا هذا. يمكن ألا تقع البينونة بالردة أصلاً كما إذا ارتد الزوجان معاً طلقهما بعد الردة فلا يرد السؤال.
وفي " المحيط ": أن التفرقة التي تقع بالارتداد يقع بعدها الطلاق، فكان طلاق المرتد واقعاًَ كما لو طلقت بالإبانة بالطلاق البائن م: (لأنه لا يفتقر إلى حقيقة الملك) ش: قوله: ولا يفتقر إلى حقيقة الملك، يرجع إلى قوله كالاستيلاد، أي لأن الاستيلاد لا يفتقر إلى حقيقة الملك، بدليل أن الاستيلاد يصح في جارية الابن، وإن لم يكن فيها ملك حقيقة، بل له حق التمليك في مال الابن لدفع حاجته، والاستيلاد من حاجته.
م: (وتمام الولاية) ش: يرجع إلى الطلاق وفيه لف ونشر، أي لأن الطلاق لا يفتقر إلى تمام الولاية، ألا ترى أن العبد يصح طلاقه مع أنه لا ولاية له على نفسه أصلاً. ومن هذا القسم النافذ تسليم الشفعة وقبول الهبة والحجر على عبده المأذون.
م: (وباطل بالاتفاق) ش: أي القسم الثاني من تصرفات المرتد باطل بالاتفاق بين أصحابنا م: (كالنكاح والذبيحة؛ لأنه) ش: أي لأن كل واحد من النكاح والذبيحة م: (يعتمد الملة) ش: بلا اختلاف بين العلماء م: (ولا ملة له) ش: أي للمرتد؛ لأنه ترك ما كان عليه، ولا يقر على ما دخل فيه لوجوب القتل.
فإن قيل: أي شيء يريد بالمسألة إن ردت مسألة الإسلام ينقض بأهل الكتاب، وإن أردته الملة السماوية ينقض بصحة نكاح المشرك والمجوسي فيما بينهم، وليس لهم ملة سماوية أصلاً، لا تقرير ولا حجة فيه. قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ولدت من نكاح لا من سفاح» .
قلنا: قال الإمام ظهير الدين في فوائده: راجعت الفحول في هذا فلم أجد جواباً شافياً، وكنت في ذلك متملياً حتى هجنت فؤادي.(7/282)
وموقوف بالاتفاق: كالمعاوضة؛ لأنها تعتمد المساواة، ولا مساواة بين المسلم والمرتد ما لم يسلم. ومختلف في توقفه وهو ما عددناه. لهما أن الصحة تعتمد الأهلية والنفاذ يعتمد الملك، ولا خفاء في وجود الأهلية لكونه مخاطبا. وكذا الملك لقيامه قبل موته على ما قررناه من قبل، ولهذا لو ولد له ولد بعد الردة لستة أشهر من امرأة مسلمة يرثه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال: المعنى من الملة التي تدينون بذلك النكاح المتوارث؛ لأن عند ذلك حصل ما هو الغرض من النكاح وهو التوالد والتناسل، والمرتد والمرتدة ليسا على تلك الملة، فلا يصح نكاحهما؛ لأن المرتد يقتل والمرتدة تحبس، فكيف ينتظم ما هو الغرض من النكاح. بخلاف المجوس والمشركين، فإنهم يدينون بذلك النكاح المتوارث.
م: (وموقوف بالاتفاق) ش: أي القسم الثالث من تصرفات المرتد موقوف باتفاق أصحابنا م: (كالمعاوضة) ش: معناه: أن المرتد إذا فاوض مسلماً يعني شركة المعاوضة، يوقف فإن أسلم نفدت المعاوضة، وإن مات أو قتل أو قضي بلحاقه في دار الحرب بطلت المعاوضة بالاتفاق.
م: (لأنها) ش: أي لأن المعاوضة م: (تعتمد المساواة) ش: وقد علم أن المعاوضة أن يضمن وكالة ونكالة وأن يساويا مالاً وتصرفاً وديناً، فلا تصح بين حر وعبد ذمي وبالغ ومسلم وكافر لعدم التساوي م: (ولا مساواة بين المسلم والمرتد ما لم يسلم) ش: وفي " الكافي " إذا بطلت المعاوضة تصير عناناً يعني شركة عنان. وعند أبي حنيفة تبطل أصلاً؛ لأن في اكتنازه وكالة وهي موقوفة.
م: (ومختلف في توقفه) ش: أي القسم الرابع من تصرفات المرتد مختلف فيه، هل هو نافذ أم باطل أو موقوف، فقال: هذا القسم مختلف في توقيفه، وأشار إلى بيانه بقوله م: (وهو) ش: أي المختلف فيه م: (ما عددناه) ش: من البيع والشراء والإعتاق والهبة ونحو ذلك، فقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: موقوف، إن أسلم جاز ما صنع، وإن مات أو قتل على ردة أو لحق بدار الحرب، بطل ذلك كله. وقال أبو يوسف ومحمد: نافذ، كذا قال الصدر الشهيد في شرح " الجامع الصغير ".
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن الصحة) ش: أي صحة التصرف م: (تعتمد الأهلية والنفاذ يعتمد الملك ولا خفاء في وجود الأهلية لكونه مخاطباً) ش: ألا ترى أن القتل يحسب عليه بارتداده.
ولو كانت أهليته معدومة أو ناقصة لم يجب عليه القتل م: (وكذا الملك) ش: لا شك في بقائه م: (لقيامه قبل موته) ش: أي قيام ملكه قبل موته م: (على ما قررناه من قبل) ش: إشارة إلى قوله لأنه مكلف يحتاج إلى آخره.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل قيام ملكه قبل موته م: (لو ولد له ولد بعد الردة لستة أشهر من امرأة مسلمة يرثه) ش: فلو كان ملكه زائلاً لم يرثه بهذا الوالد.(7/283)
ولو مات ولده بعد الردة قبل الموت لا يرثه فتصح تصرفاته قبل الموت، إلا أن عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - تصح كما تصح من الصحيح؛ لأن الظاهر عوده إلى الإسلام إذ الشبهة تزاح فلا يقتل، وصار كالمرتد. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تصح كما تصح من المريض؛ لأن من انتحل إلى نحلة، لا سيما معرضا عما نشأ عليه قلما يتركه، فيفضي إلى القتل ظاهرا، بخلاف المرتدة؛ لأنها لا تقتل. ولأبي حنيفة: أنه حربي مقهور تحت أيدينا على ما قررناه في توقف الملك، وتوقف التصرفات بناء عليه، وصار كالحربي يدخل دارنا بغير أمان فيؤخذ ويقهر، وتتوقف تصرفاته لتوقف حاله، وكذا المرتد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو مات ولده) ش: أي الولد المولود قبل الردة م: (بعد الردة قبل الموت لا يرثه) ش: فلو لم يكن قائماً بعد الردة لورثة هذا الولد؛ لأنه كان حياً وقت ردة الأب.
ولما كان ملكه قائماً م: (فتصح تصرفاته قبل الموت إلا أن عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - تصح كما تصح من الصحيح) ش: يعني من جمع المال م: (لأن الظاهر عوده إلى الإسلام، إذ الشبهة تزاح) ش: أي تزال وهو من الإزاحة وهي الإزالة م: (فلا يقتل) ش: حينئذ م: (وصار كالمرتد) ش:، حيث لا يقتل.
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تصح) ش: أي تصرفاته م: (كما تصح من المريض) ش: يعني من ثلث المال؛ لأنه على شرف الهلاك حقيقة م: (لأن من انتحل إلى نحلة) ش: أي لأن من أثبت إلى دين، وفي " ديوان الأدب " يقال: انتحل فلان قول غيره أو شعر غيره إذا ادعاه لنفسه، والنحلة بكسر النون وسكون الحاء المهملة: الدعوى.
قال الأترازي: وكأنه أراد به هنا من أثبت إلى الدعوى م: (لا سيما) ش: أي خصوصاً حال كونه م: (معرضاًَ عما نشأ عليه) ش: قوله م: (قلما يتركه) ش: جواب من، أي قلما يترك الذي انتحل، أي م: (فيفضي إلى القتل ظاهراً، بخلاف المرتدة؛ لأنها لا تقتل) ش: فلا يعتبر استمرارها على ما انتحلت إليه أولاً، واحتج محمد على أبي يوسف بأنه إذا أمر لوارث بدين لم يجز.
م: (ولأبي حنيفة أنه حربي مقهور تحت أيدينا على ما قررناه في توقف الملك) ش: إشارة إلى ما ذكروا من تعليل أبي حنيفة بقوله: وله أنه حربي مقهور تحت أيدينا عند قوله ويزول ملك المرتد م: (وتوقف التصرفات بناء عليه) ش: أي على توقف الملك.
م: (وصار) ش: أي هذا المرتد م: (كالحربي يدخل دارنا) ش: أي دار الإسلام م: (بغير أمان فيؤخذ ويقهر وتتوقف تصرفاته لتوقف حاله) ش: أي حال الحربي بين الاسترقاق والقتل والمن.
م: (كذا المرتد) ش: وإن ترك بعد، فكذلك هاهنا. وقال الأترازي في قوله: كالحربي إلى حد وسطه؛ لأن الحربي الداخل دارنا بغير أمان فيء، فكيف تتوقف تصرفاته. فلو قال كالحربي(7/284)
واستحقاقه القتل لبطلان سبب العصمة في الفصلين فأوجب خللا في الأهلية، بخلاف الزاني وقاتل العمد؛ لأن الاستحقاق في ذلك جزاء على الجناية. وبخلاف المرأة لأنها ليست حربية، ولهذا لا تقتل،
فإن عاد المرتد بعد الحكم بلحاقه بدار الحرب إلى دار الإسلام مسلما، فما وجده في يد ورثته من ماله بعينه أخذه؛ لأن الوارث إنما يخلفه فيه لاستغنائه. وإذا عاد مسلما احتاج إليه فيقدم عليه. بخلاف ما إذا أزاله الوارث عن ملكه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذي أسر عليها أيضاًَ لكان ذكره أولى. انتهى.
ونقل الأكمل هذا بقوله: واعترض عليه بأن الحربي الذي دخل دارنا بغير أمان يكون فيئاً، فكيف تتوقف تصرفاته. ثم قال: والاعتراض بجواز المن يسقط الاعتراض.
م: (واستحقاقه القتل) ش: جواب عن قولهما: لا خفاء في وجود الأهلية وتقريره لا نسلم وجود الأهلية؛ لأن الصحة تقتضي أهلية كاملة وليست بموجودة في المرتد، كما أنها ليست بموجودة في الحربي؛ لأن كل واحد منهما يتحقق القتل م: (لبطلان سبب العصمة) ش: وزاد بسبب العصمة الإسلام م: (في الفصلين) ش: يعني في فصل الحربي وفصل المرتدة م: (فأوجب) ش: أي بطلان سبب العصمة م: (خللاً في الأهلية) ش:.
فإن قيل: لو كان استحقاق القتل موجباً لخلل في الأهلية أثر في توقف التصرفات، لكان تصرف الزاني المحصن الذي استحق القتل، وقاتل العمد موقوفة لاستحقاقهما القتل.
فأجاب المصنف عن ذلك بقوله: م: (بخلاف الزاني وقاتل العمد؛ لأن الاستحقاق في ذلك جزاء على الجناية) ش: يعني أن الاستحقاق الموجب للخلل هو ما كان باعتبار بطلان سبب العصمة، والزاني والقاتل ليسا كذلك، لأن الاستحقاق فيهما جزاء على الجناية؛ لأن العصمة باقية فيهما لبقاء الإسلام.
م: (وبخلاف المرأة) ش: جواب عن قولهما: وصار كالمرتد م: (لأنها ليست حربية، ولهذا لا تقتل) ش: عندنا إلا إذا لحقت بدارهم فحينئذ تصير حربية والمرتد حربي في الحال لوجوب جزاء المحاربة عليه، فلهذا كانت عقوبة المرتدة كلها جائزة إلا معارضتها، فإنها موقوفة. فإن أسلمت صحت وإلا صارت عناناً. كما قال في المرتد.
م: (فإن عاد المرتد بعد الحكم بلحاقه بدار الحرب إلى دار الإسلام) ش: حال كونه م: (مسلماً فما وجده في يد ورثته من ماله بعينه أخذه؛ لأن الوارث إنما يخلفه فيه) ش: أي في ماله م: (لاستغنائه) ش: أي لاستغناء المرتد عنه حيث أدخل دار الحرب م: (وإذا عاد) ش: حال كونه م: (مسلماً احتاج إليه فيقدم عليه) ش: أي على الوارث م: (بخلاف ما إذا أزاله الوارث عن ملكه) ش: سواء كان بسبب يلحقه الفسخ كالبيع والهبة، أو بسبب لا يلحق الفسخ كالإعتاق والتدبير والاستيلاد، فذلك كله(7/285)
وبخلاف أمهات أولاده ومدبريه؛ لأن القضاء قد صح بدليل مصحح فلا ينقض، ولو جاء مسلما قبل أن يقضي القاضي بذلك، فكأنه لم يزل مسلما لما ذكرنا.
وإذا وطئ المرتد جارية نصرانية كانت له في حالة الإسلام فجاءت بولد لأكثر من ستة أشهر منذ ارتد، فادعاه، فهي أم ولد له، والولد حر وهو ابنه ولا يرثه، وإن كانت الجارية مسلمة، ورثه الابن إن مات على الردة أو لحق بدار الحرب، أما صحة الاستيلاد فلما قلنا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مأمن، ولا سبيل للمرتد عليه وهو لا ضمان على الوارث أيضاً؛ لأنه إزالة حين كان له سبيل من الإزالة.
وقال الكرخي في " مختصره ": إن كان المكاتب، أي مكاتب المرتد أدى ما عليه من الكتابة إلى الورثة فيعتق، ثم جاء المرتد، لما عتق المكاتب فلا يفسخ، وإن كان ما أداه قائماً في يد ورثته أخذه المرتد. وقال في شرح الطحاوي: الولاء للمرتد.
م: (وبخلاف أمهات أولاده ومدبريه) ش: حيث لا يفسخ م: (لأن القضاء) ش: أي قضاء القاضي بعثتهم م: (قد صح بدليل مصحح) ش: وهو قضاؤه عن ولايته، فلا يحتمل الفسخ م: (فلا ينقض) ش: ولايته لما جاء إلينا تائباً صار كأنه حياً بعد أن مات، فلو حيا حقيقة بعد الموت وإن كان ذلك بخلاف الولادة لم يكن له على أمهات الأولاد والمدبرين سبيل، فكذا هذا.
م: (ولو جاء مسلماً قبل أن يقضي القاضي بذلك) ش: أي بلحاقه م: (فكأنه لم يزل) ش: بفتح الزاي م: (مسلماً لما ذكرنا) ش: وهو قوله: إلا أنه لا يستقر لحاقه إلا بالقضاء، فلا يعتق عليه شيء من أمهات أولاده ومدبريه.
[وطئ المرتد جاريته النصرانية فجاءت بولد لأكثر من ستة أشهر منذ ارتد]
م: (وإذا وطئ المرتد جارية نصرانية، كانت له في حالة الإسلام فجاءت بولد لأكثر من ستة أشهر منذ ارتد) ش: أي من حين ارتد م: (فادعاه فهي أم ولد له والولد حر وهو ابنه ولا يرثه) ش: وفي " الكافي " وغيره: فجاءت بولد لسنة فألحقوا السنة بالأكثر، وإنما قيد بالأكثر لأنه لو جاء لأقل من ستة أشهر فالولد يرث من أبيه المرتد، وإن كانت أمه تقر أبيه بتيقن وجوده في البطن قبل الردة فلم ينتقض ما ادعاه وقت الردة فيجعل الولد مسلماً تبعاً للأب، ذكره قاضي خان.
م: (وإن كانت الجارية مسلمة ورثه الابن إن مات) ش: أي الأب م: (على الردة أو لحق بدار الحرب، أما صحة الاستيلاد فلما قلنا) ش: إشارة إلى قوله قبل صحته؛ لأنه لا يفتقر إلى حقيقة الملك فصحت دعوته.
واعلم أن دعوة الولد صحيحة على قولهما بلا إشكال؛ لأن عقود المرتد عندهما جائزة، فكذلك دعوته. أما أبو حنيفة فإنه جعل عقوده موقوفة، لكن جعل دعوته صحيحة؛ لأن الاستيلاد لا يفتقر إلى حقيقة الملك، ألا ترى أن العبد المأذون إذا ادعى النسب من الجارية التي من(7/286)
وأما الإرث فلأن الأم إذا كانت نصرانية والولد تبع له لقربه إلى الإسلام للجبر عليه فصار في حكم المرتد، والمرتد لا يرث المرتد، أما إذا كانت مسلمة فالولد مسلم تبعا لها لأنها خيرهما دينا، والمسلم يرث المرتد. وإذا لحق المرتد بماله بدار الحرب ثم ظهر على ذلك المال فهو فيء، فإن لحق ثم رجع وأخذ مالا وألحقه بدار الحرب فظهر على ذلك المال فوجدته الورثة قبل القسمة رد عليهم؛ لأن الأول: مال لم يجر فيه الإرث. والثاني: انتقل إلى الورثة بقضاء القاضي بلحاقه، وكان الوارث مالكا قديما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تجارته جاز، وكذلك الأب إذا ادعى ولد جارية ابنه يرث بالنسب. وتأويل المرتد أكثر من تأويلهما، فإذا ثبت النسب ثبت التفريع المذكور في إرثه وعدمه.
فإن قلت: كيف جعلتم الصبي تبعاً للمرتد فيما إذا كانت أمه يهودية أونصرانية ولم يجعلوه مسلما تبعا لدار الإسلام.
قلت: تبعية الدار إنما تكون إذا لم يكن معه أحد أبويه. فإذا كان فلاناً، فإن قيل: هذا ينقض بما إذا ارتد الأبوان المسلمان ولهما طفل ولد قبل ردتهما فإنه يبقى مسلماً تبعاً للدار ولا يعتبر مرتداً تبعا لهما. وإن ماتا لا نسلم أنه يبقى تبعاً للدار، بل كان هو مسلماً تبعاً لأبويه، فيبقى على ما كان بعد ردتهما، بخلاف ما يجيء فإن الولد لم يثبت له حكم الإسلام أصلاً، فجعل تبعاً لأبيه المرتد لقربه إلى الإسلام.
م: (وأما الإرث فلأن الأم إذا كانت نصرانية والولد تبع له) ش: أي للأب م: (لقربه إلى الإسلام للجبر عليه) ش: لأنه لا يقر على الردة بل يجبر على الإسلام، ولا تجبر الأم. ولما كان تبعاً لأبيه م: (فصار في حكم المرتد، والمرتد لا يرث المرتد) ش: ولا يرث من أحد لا من المسلم ولا من المرتد.
م: (أما إذا كانت مسلمة فالولد مسلم تبعاً لها؛ لأنها) ش: أي لأن الأم م: (خيرهما ديناً) ش: والولد يتبع خير الأبوين ديناً م: (والمسلم يرث المرتد. وإذا لحق المرتد بماله بدار الحرب ثم ظهر على ذلك) ش: أي غلب على ذلك م: (المال فهو فيء) ش: أي غنيمة لأنه مال حربي، فيكون حكمه حكم سائر أموال أهل الحرب ولا حق للورثة فيه لتباين الدارين.
م: (فإن لحق) ش: أي بدار الحرب م: (ثم رجع) ش: إلى دار الإسلام م: (وأخذ مالاً وألحقه بدار الحرب فظهر على ذلك المال فوجدته الورثة قبل القسمة رد عليهم؛ لأن الأول مال لم يجر فيه الإرث) ش: فهو مال لحربي، وإذا ظهر على مال الحربي فهو فيء لا محالة م: (والثاني) ش: أي المال الثاني م: (انتقل إلى الورثة بقضاء القاضي بلحاقه، وكان الوارث مالكاً قديماً) ش: والمالك القديم إذا وجد ماله في القسمة أخذه مجاناً، فإن لم يكن القاضي حكم بلحاقه والمسألة بحالها ففي ظاهر الرواية رد على الورثة أيضاًَ؛ لأنه شيء لحق بدار الحرب فالظاهر أنه لا يعود، فكان فيئاً ظاهراً. وفي بعض روايات السير يكون فيئاً لا حق للورثة فيه؛ لأن الحق لا يثبت لهم إلا(7/287)
وإذا لحق المرتد بدار الحرب وله عبد فقضى به لابنه وكاتبه الابن ثم جاء المرتد مسلما فالكتابة جائزة، والكتابة والولاء للمرتد الذي أسلم؛ لأنه لا وجه إلى بطلان الكتابة لنفوذها بدليل منفذ فجعلنا الوارث الذي هو يكون خلفه كالوكيل من جهته وحقوق العقد فيه ترجع إلى الموكل والولاء لمن يقع العتق عنه.
وإذا قتل المرتد رجلا خطأ ثم لحق بدار الحرب، أو قتل على ردته فالدية في مال اكتسبه في حال الإسلام خاصة عند أبي حنيفة. وقالا: الدية فيما اكتسبه في حالة الإسلام والردة؛ لأن العواقل لا تعقل المرتد لانعدام النصرة فتكون في ماله، وعندهما الكسبان جميعا ماله لنفوذ تصرفاته في الحالين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالقضاء.
م: (وإذا لحق المرتد بدار الحرب وله عبد فقضى به لابنه وكاتبه الابن ثم جاء المرتد مسلماً فالكتابة جائزة) ش: خلافاً للأئمة الثلاثة.
م: (والكتابة والولاء للمرتد الذي أسلم لأنه لا وجه إلى بطلان الكتابة لنفوذها بدليل منفذ) ش: أو أدبه قضاء القاضي باللحاق م: (فجعلنا الوارث الذي) ش: هو ابن المرتد الذي، م: (هو يكون خلفه) ش: أي خلف أبيه المرتد م: (كالوكيل من جهته) ش: أي من جهة المرتد لأنه لما لحق بدار الحرب صار كأنه سلط أبنه على ماله وجعله خلفاً عنه في التصرف، فلما عاد ثبت حكم الإحياء وبطل حكم الموت ولم يفسخ الكتابة لما ذكرنا، وكان بدل الكتابة لأن أبنه كالوكيل من جهته.
م: (وحقوق العقد فيه) ش: أي في عقد الكتابة م: (ترجع إلى الموكل) ش: لا إلى الوكيل م: (والولاء لمن يقع العتق عنه) ش: ولم يقع إلا عن المرتد الذي أسلم فيكون الولد ولده بخلاف ما إذا أدى بدل الكتابة للوارث، فإن الولاء حينئذ يكون للوارث لوقوع العتق عنه، وبخلاف ما لو رجع بعد عتق المكاتب، فإن الولاء فيه للابن أيضاً.
[قتل المرتد رجلاً خطأ ثم لحق بدار الحرب]
م: (وإذا قتل المرتد رجلاً خطأ ثم لحق بدار الحرب أو قتل على ردته فالدية) ش: أي دية القتيل م: (في مال اكتسبه في حال الإسلام خاصة عند أبي حنيفة. وقالا) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد م: (الدية فيما اكتسبه) ش: أي يجب فيما اكتسبه م: (في حالة الإسلام والردة) ش: في بعض النسخ جميعاً، وبقولهما قالت الثلاثة.
وكذا لو كان حياً في دار الإسلام فالدية في ماله م: (لأن العواقل لا تعقل المرتد لانعدام النصرة) ش: لأن العقل بمعنى النصرة، والمسلم لا يلزمه نصرة المرتد م: (فتكون) ش: أي الدية م: (في ماله) ش: أي في مال المرتد القاتل لانعدام النصرة م: (وعندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد م: (الكسبان جميعاً) ش: أي كسب الإسلام وكسب المرتد م: (ماله) ش: أي مال المرتد م: (لنفوذ تصرفاته في الحالين) ش: أي في حال كسب الإسلام وحال الردة.(7/288)
ولهذا يجري الإرث فيهما عندهما، وعنده ماله المكتسب في الإسلام لنفاذ تصرفه فيه دون المكسوب في الردة لتوقف تصرفه، ولهذا كان الأول ميراثا عنه، والثاني فيئا عنده،
وإذا قطعت يد المسلم عمدا فارتد - والعياذ بالله - ثم مات على ردته من ذلك أو لحق بدار الحرب ثم جاء مسلما فمات من ذلك فعلى القاطع نصف الدية في ماله للورثة، أما الأول فلأن السراية حلت محلا غير معصوم فأهدرت، بخلاف ما إذا قطعت يد المرتد ثم أسلم فمات من ذلك؛ لأن الإهدار لا يلحقه الاعتبار،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهذا) ش: إيضاح لما قبله م: (يجري الإرث فيهما) ش: أي في كسب الإسلام وكسب الردة م: (عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد.
م: (وعنده) ش: أي وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ماله المكتسب في الإسلام) ش: أي مال المرتد هو الذي اكتسبه في الإسلام دون الذي اكتسبه في الردة.
فقوله ماله مبتدأ، وقوله: المكتسب خبره وليس بصفة له إذ المعنى لا يستقيم على تقدير الصفة، وكان حق التركيب أن يقول بضمير الفصل حتى لا يتوهم الصفة كما في قَوْله تَعَالَى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] م: (لنفاذ تصرفه فيه) ش: في كسب الإسلام م: (دون المكسوب في الردة لتوقف تصرفه) ش: في كسب الردة.
م: (ولهذا) ش: إيضاح لقوله وماله الكسب في الإسلام م: (كان الأول) ش: أي كسب الإسلام م: (ميراثاً عنه) ش: أي عن المرتد. م: (والثاني) ش: أي كسب الردة أي كان كسب الردة م: (فيئاً) ش: أي غنيمة م: (عنده) ش: أي عند أبي حنيفة.
[قطعت يد المرتد ثم أسلم فمات من ذلك]
م: (وإذا قطعت يد المسلم عمداً فارتد - والعياذ بالله - ثم مات على ردته من ذلك) ش: أي من القطع م: (أو لحق بدار الحرب ثم جاء مسلماً فمات من ذلك) ش: أي من القطع م: (فعلى القاطع نصف الدية في ماله للورثة) ش: أي لورثة المقطوع يده م: (أما الأول) ش: أي الوجه الأول وهو: ما إذا مات على ردته م: (فلأن السراية) ش: أي سراية القطع إلى الموت م: (حلت محلاً غير معصوم فأهدرت) ش: يعني هدر اعتبارها فلم يجب دية النفس لأنها فور ما حصل في حال لا قيمة لها.
ولم يجب القصاص في اليد؛ لأن اعتراض الردة صار شبهة، فإذا لم يجب القطع وجبت دية اليد وهي نصف دية النفس؛ لأن قطع اليد حصل في حال عصمة اليد وهي في حالة الإسلام، وإنما كانت الدية في ماله لكون القطع عمداً، أما إذا كان خطأ فقال الحاكم: هي فيء على عاقلته.
م: (بخلاف ما إذا قطعت يد المرتد ثم أسلم فمات من ذلك) ش: يعني لا يجب الضمان أصلاً م: (لأن الإهدار لا يحلقه الاعتبار) ش: يعني الجناية إذا صارت هدراً لا يلحقه الاعتبار بعد ذلك،(7/289)
أما المعتبر فقد يهدر بالإبراء فكذا بالردة. وأما الثاني: وهو ما إذا لحق ومعناه إذا قضى بلحاقه فلأنه صار ميتا تقديرا، والموت يقطع السراية، وإسلامه حياة حادثة في التقدير فلا يعود حكم الجناية الأولى، فإذا لم يقض القاضي بلحاقه فهو على الخلاف الذي نبينه إن شاء الله تعالى. قال: فإن لم يلحق وأسلم ثم مات فعليه الدية كاملة، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -. وقال محمد وزفر - رحمهما الله -: في جميع ذلك نصف الدية؛ لأن اعتراض الردة أهدر السراية فلا ينقلب بالإسلام إلى الضمان. كما إذا قطع يد مرتد فأسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يعني إذا لم يقطع معتبراً ابتداء لا يتغلب معتبراً بعد ذلك؛ لأن غير الموجب لا يتغلب موجباً م: (أما المعتبر فقد يهدر بالإبراء، فكذا بالردة) ش: أي فكذا يهدر بالردة، وكذا بالإعتاق وبالبيع أيضاً، حتى لو قطع عبد يد إنسان ثم باعه المولى ثم رد عليه نصيبه ثم مات فلا يضمن البائع ضمان النفس؛ لأنه لما باعه فقد أبرأه عن ضمان السراية من حيث البيع.
م: (وأما الثاني) ش: أي الوجه الثاني م: (وهو ما إذا لحق) ش: بدار الحرب م: (ومعناه إذا قضى بلحاقه فلأنه) ش: أي فلأن المرتد اللاحق م: (صار ميتاً تقديراً) ش: من حيث الحكم لا من حيث الحقيقة م: (والموت يقطع السراية) ش: لأن القاضي لما قضى بالحلف صار ميتاً حكماً كما ذكرنا.
م: (وإسلامه) ش: بعد ذلك م: (حياة حادثة في التقدير) ش: لأنها نفس أخرى م: (فلا يعود حكم الجناية الأولى) ش: وأورد الولوالجي في فتاواه في هذا الفصل عن أبي يوسف روايتين في رواية يضمن دية النفس، وفي رواية لا يضمن.
وأما إذا عاد مسلماً بعد اللحاق قبل قضاء القاضي ثم مات من ذلك فقال فخر الإسلام في شرح " الجامع الصغير ": لا نص فيه.
ثم قال: وهو على الاختلاف يعني عند محمد يجب نصف الدية. وعند صاحبيه يجب دية النفس كاملة وإليه أشار المصنف بقوله م: (فإذا لم يقض القاضي بلحاقه فهو على الخلاف الذي نبينه إن شاء الله تعالى) ش: أشار به إلى المسألة التي تلي قوله وإذا لم يقض.... إلى آخره وهو قوله:
م: (قال: فإن لم يلحق) ش: أي دار الحرب م: (وأسلم ثم مات فعليه الدية كاملة، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله) .
م: (وقال محمد وزفر - رحمهما الله -: في جميع ذلك نصف الدية) ش: أي فيما إذا مات على ردته أو لحق ثم جاء مسلماً أو لم يلحق وأسلم م: (لأن اعتراض الردة أهدر السراية، فلا ينقلب بالإسلام إلى الضمان) ش: لأنه بعد الارتداد صار مباحاً لو قتله قاتل لا يجب عليه شيء، فصارت الردة مهدرة كما في قوله من القطع، وصار م: (كما إذا قطع يد مرتد فأسلم) ش: سواء مات من(7/290)
ولهما أن الجناية وردت على محل معصوم وتمت فيه فيجب ضمان النفس، كما إذا لم يتخلل الردة، وهذا لأنه لا معتبر بقيام العصمة في حال بقاء الجناية. وإنما المعتبر قيامها في حال انعقاد السبب، وفي حال ثبوت الحكم، وحالة البقاء بمعزل من ذلك كله، وصار كقيام الملك في حال بقاء اليمين.
وإذا ارتد المكاتب ولحق بدار الحرب واكتسب مالا فأخذ أسيرا بماله وأبى أن يسلم فقتل، فإنه يوفى مولاه ومكاتبه، وما بقي فلورثته، وهذا ظاهر على أصلهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القطع أو لم يمت، حيث لا يجب ضمان النفس في الأول، ولا ضمان اليد في الثاني بناء على الأصل المار أن المهدر لا يلحقه الاعتبار.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أن الجناية وردت على محل معصوم وتمت فيه) ش: أي في محل معصوم كأنه كان في الحالين مسلماً م: (فيجب ضمان النفس) ش: وهو الدية الكاملة م: (كما إذا لم يتخلل الردة) ش: وبه قالت الأئمة الثلاثة م: (وهذا لأنه لا معتبر بقيام العصمة في حال بقاء الجناية، وإنما المعتبر قيامها) ش: أي قيام العصمة م: (في حال انعقاد السبب) ش: وهو ضمان الجناية م: (وفي حال ثبوت الحكم) ش: يوجب الضمان م: (وحالة البقاء بمعزل من ذلك كله) ش: أي من حال انعقاد السبب من حال ثبوت الحكم، ولا يعتبر بقاء العصمة في هذه الحالة، كما لا يعتبر بنقصان الحول في الزكاة. وقال ابن دريد: أي من هدر الأمر بمعزل، أي ليفسخ.
م: (وصار كقيام الملك في حالة بقاء اليمين) ش: يعني إذا قال لعبده إن دخلت الدار فأنت حر ثم باعه ثم اشتراه ثم دخل الدار عتق أعاد على عدم الملك عند اليمين أو عند الجناية ثم يعتق.
وفرق بين الردة والبيع بأن الردة ليست بإبراء ولا مستلزم؛ لأنها وضعت لتبديل الدين، وتصح من غير إبراء؛ لأنه إذا مات على الردة لم يجب الضمان لهدر دمه بالردة، بخلاف بيع العبد المجني عليه؛ لأن البيع وضع لقطع ملكه والضمان بدل ملكه. فإذا قطع الأصل قصداً فقد قطع التبدل أيضاً، فصار كالإبراء.
ولم يذكر في الكتاب ما إذا ارتد يقتل أو مات المقطوع يده بالسراية مسلماً، فقال في " الشامل " إن كان عمداً فلا شيء عليه؛ لأن القاتل مات، وإن كان خطأ فعلى عاقلته دية النفس؛ لأن الجناية انعقدت موجبة للفعل؛ لأن الجاني كان مسلماً يوم الجناية لا جرم لو كانت الجناية في حال ردته كانت في ماله.
[ارتد المكاتب ولحق بدار الحرب واكتسب مالاً فأخذ أسيراً بماله]
م: (وإذا ارتد المكاتب ولحق بدار الحرب واكتسب مالاً فأخذ أسيراً بماله وأبى) ش: أي امتنع م: (أن يسلم فقتل فإنه) ش: أي فإن الحكم أن م: (يوفى) ش: على صيغة المجهول من وفاة حقه بالتشديد إذا أعطاه واف م: (مولاه ومكاتبه) ش: أي بدل الكتابة من ماله م: (وما بقي) ش: بعد ذلك م: (فلورثته) ش: أي فلورثة المكاتب م: (وهذا ظاهر على أصلهما) ش: أي هذا المذكور من الحكم(7/291)
لأن كسب الردة ملكه إذا كان حرا فكذا إذا كان مكاتبا. وأما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلأن المكاتب إنما يملك أكسابه بالكتابة، والكتابة لا تتوقف بالردة، فكذا أكسابه. ألا ترى أنه لا يتوقف تصرفه بالأقوى وهو الرق، فكذا بالأدنى بطريق الأولى.
وإذا ارتد الرجل وامرأته - والعياذ بالله - ولحقا بدار الحرب، فحبلت المرأة في دار الحرب، وولدت ولدا، وولد لولدهما ولد، فظهر عليهم جميعا فالولدان فيء؛ لأن المرتدة تسترق فيتبعها ولدها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ظاهر على أصل أبي يوسف ومحمد م: (لأن كسب الردة ملكه) ش: أي ملك المرتد م: (إذا كان حراً فكذا إذا كان مكاتباً) ش: يكون كسباً له.
م: (وأما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يعني هذا مشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن كسب الردة لا يكون للمرتد عنده إذا كان حراً، وهاهنا جعله ملكاً للمكاتب، ويحتاج أبو حنيفة إلى الفرق بين المرتد الحر والمكاتب حيث لم يجعل كسبه ملكاً له إذا كان حراً، وجعله ملكاً له إذا كان مكاتباً، ووجه الفرق ما ذكره بقوله م: (فلأن المكاتب إنما يملك أكسابه بالكتابة) ش: أي بعقد الكتابة.
م: (والكتابة) ش: أي والكتابة م: (لا تتوقف بالردة) ش: أي لا يبطل بها؛ لأنه لا يبطل بحقيقة الموت، فكذا بالموت حكماً بلحوقه في دار الحرب فتكون مكاتبة كمكاتبة الإسلام وجعل كأنه في دار الإسلام، إذ قيام ملك المولى في رقبته يمنع ضرورته حربياً ويجعل في حكم الردة، وفي دار الإسلام. كذا في جامع شمس الأئمة وقاضي خان.
وإذا لم يتوقف عقد الكتابة بالردة م: (فكذا أكسابه) ش: الحاصلة لا تتوقف، واستوضح ذلك بقوله م: (ألا ترى أنه لا يتوقف تصرفه بالأقوى وهو الرق، فكذا بالأدنى) ش: وهو الردة م: (بطريق الأولى) ش: وإنما كان الرق أقوى من الردة في المانعية عن التصرف؛ لأن بعض تصرفات المرتد نافذ بالإجماع كالاستيلاد والطلاق، وعندهما عامة تصرفاته نافذة كالبيع والشراء وغيرهما، فأما العبد فممنوع من التصرفات كلها ثم لما يتوقف تصرفات المكاتب مع كونه رقيقاً لم يتوقف تصرفه أيضاً مع أنه مرتد أولى.
[ارتد الرجل وامرأته ولحقا بدار الحرب فحبلت المرأة في دار الحرب]
م: (وإذا ارتد الرجل وامرأته - والعياذ بالله - ولحقا بدار الحرب فحبلت المرأة في دار الحرب) ش: وقيد الحبل بدار الحرب وقع اتفاقاً.
وإن حبلت في دار الإسلام فكذلك الحكم م: (وولدت ولداً وولد لولدهما ولد فظهر) ش: بضم الظاء، أي فغلب م: (عليهم جميعاً فالولدان فيء) ش: أي الولد وولد الولد غنيمة م: (لأن المرتدة تسترق فيتبعها ولدها) ش: لأن الولد يتبع الأم في الرق والحرية فيكون فيئاً كما يجيء م:(7/292)
ويجبر الولد الأول على الإسلام، ولا يجبر ولد الولد. وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجبر تبعا للجد وأصله التبعية في الإسلام، وهي رابعة أربعة مسائل كلها على الروايتين والثانية صدقة الفطر، والثالثة جر الولاء، والأخرى الوصية للقرابة، قال: وارتداد الصبي الذي يعقل ارتداد عند أبي حنيفة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويجبر الولد الأول على الإسلام) ش: بإجماع الأئمة الأربعة بعد أن يصير محرراً تبعاً لأبيه م: (ولا يجبر ولد الولد) ش: لأن الأولاد يتبعون الآباء في الدين، والأحفاد لا يتبعون الأجداد.
م: (وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه) ش: أي أن ولد الولد م: (يجبر) ش: على الإسلام م: (تبعاً للجد) ش: لأن الجد له حكم الأب في إنكاح الصغير والصغيرة، ولهذا لا يكون لهما الخيار بعد البلوغ، وكذلك في بيع مال الصغير، فكذا في تبعية الإسلام م: (وأصله التبعية في الإسلام) ش: أي أصل الخلاف التبعية في الإسلام م: (وهي) ش: أي التبعية في الإسلام م: (رابعة أربعة مسائل) ش: أي أربع مسائل، حاصل معناه إحدى أربع مسائل. والفرق بين رابع ثلاثة وبين رابع أربعة، هو أن معنى الأول: يصير الثلاثة أربعة.
ومعنى الثاني: أحدهما لا يحصل الحاصل بحال فلا يتحقق معنى التصيير م: (كلها على الروايتين) ش: أي كل هذه الأربعة على الروايتين، أحدهما ظاهر الرواية، والأخرى رواية الحسن فالجد فيها على رواية كالأب، وفي ظاهر الرواية.
م: (والثاني) ش: أي المسألة الثانية م: (صدقة الفطر) ش: ولا في ظاهر الرواية لا يؤدي الجد صدقة الفطر عن ابن أبيه. وفي رواية الحسن يؤديها إذا لم تكن لابن الابن مالكاً لأب لكن إذا كان الأب فقيراً.
م: (والثالثة) ش: أي المسألة الثالثة م: (جر الولاء) ش: قال الحاكم الشهيد في " الكافي " قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لا يجر الجد الولاء، يعني إذا أعتق الجد والحافد معتق والأب رقيق لا يجر ولاء الحافد إلى مواليه. وعلى رواية الحسن يجر الجد الولاء لأب إذا أعتق. ونقل الحاكم في " الكافي " عن الشعبي أنه إذا أعتق الجد جر الولاء.
م: (والأخرى) ش: أي المسألة الأخرى وهي الرابعة م: (الوصية للقرابة) ش: فإذا وصى لقرابته أو لأقربائه لا يدخل في الوصية الوالد؛ لأن الله تعالى جعله أقرب من القرابة، قال الله تعالى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] ، ثم الجد لا يدخل أيضاً على رواية الحسن؛ لأنه كالأب. وعلى ظاهر الرواية يدخل لأنه ليس كالأب.
م: (قال: وارتداد الصبي الذي يعقل ارتداد) ش: يعني إذا ارتد يصير مرتداً م: (عند أبي حنيفة(7/293)
ومحمد - رحمهما الله - ويجبر على الإسلام ولا يقتل، وإسلامه إسلام، ولا يرث أبويه إن كانا كافرين. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ارتداده ليس بارتداد وإسلامه إسلام. وقال زفر والشافعي - رحمهما الله - إسلامه ليس بإسلام وارتداده ليس بارتداد، لهما في الإسلام أنه تبع لأبويه فيه فلا يجعل أصلا، ولأنه يلزمه أحكاما يشوبها المضرة فلا يؤهل له. ولنا فيه أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسلم في صباه، وصحح النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إسلامه وافتخاره بذلك مشهور،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومحمد - رحمهما الله -) ش: وبه قال مالك وأحمد م: (ويجبر على الإسلام ولا يقتل. وإسلامه) ش: أي وإسلام الصبي الذي يعقل م: (إسلام) ش: أي معتد به م: (ولا يرث أبويه إن كانا كافرين. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ارتداده ليس بارتداد) ش: يعني ليس بمعتبر م: (وإسلامه إسلام. وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: إسلامه ليس بإسلام، وارتداده ليس بارتداد) ش: يعتبر كلاهما لا يعتبر لأن م: (لهما) ش: أي لزفر والشافعي م: (في الإسلام أنه تبع لأبويه فيه) ش: أي في الإسلام م: (فلا يجعل أصلاً) ش: لأنه مولى عليه في الإسلام، فلا يكون أصلاً له بنفسه م: (ولأنه) ش: أي ولأن الصبي م: (يلزمه أحكام يشوبها) ش: من الشوب وهو الخلط، يقال شاب الماء اللبن وهي جملة من الفعل والمفعول، وقوله م: (المضرة) ش: فاعل الجملة لحرمان الميراث ونحوه. والصبي أهل الوجه لا المضرة، فلا يعتبر إسلامه بلزوم المضرة، ولأن قول الصبي غير ملتزم، ألا ترى أنه لو طلق أو علق أو باع أو اشترى لا يجوز، فكذا إذا أسلم أو ارتد م: (فلا يؤهل له) ش: أي فلا يجعل الصبي أهلاً للإسلام.
م: (ولنا فيه) ش: أي في اعتداد الصبي م: (أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسلم في صباه وصحح النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: وعن عروة، أن عمره كان حين أسلم سبع سنين أو ثماني سنين. وروى ابن سعد في الطبقات بإسناده عن مجاهد، قال: أول من صلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو ابن عشر سنين. وعن محمد بن عبد الرحمن بن زرارة قال: أسلم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو ابن تسع سنين ولم يعبد وثناً.
وقال ابن الجوزي في " التحقيق ": وروي عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسلم علي وهو ابن ثماني سنين، وروي عنه أيضاً أنه أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة ولم يصح هذا. وقال: والنصوص عن أحمد صحة إسلام الصبي ابن سبع سنين، فقال إذا بلغ الغلام سبع سنين جاز إسلامه، ويجبر على الإسلام إذا كان أحد أبويه مسلماً، فإن رجع عن الإسلام انتظر به حتى يبلغ. فإن أسلم وإلا قتل.
م: (إسلامه، وافتخاره بذلك مشهور) ش: أي وافتخار علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بإسلامه مشهور(7/294)
ولأن الصبي أتى بحقيقة الإسلام وهي التصديق والإقرار معه؛ لأن الإقرار عن طوع دليل على اعتقاده على ما عرف، والحقائق لا ترد، وما يتعلق به سعادة أبدية ونجاة عقباوية، وهي من أجل المنافع وهو الحكم الأصلي، ثم يبتنى عليه غيرها، فلا يبالي بشوبه، ولهم في الردة أنها مضرة محضة، بخلاف الإسلام على أصل أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه تعلق به أعلى المنافع على ما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن الصبي أتى بحقيقة الإسلام وهي التصديق والإقرار معه) ش: وهو ركن الإيمان؛ لأن الإيمان هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان، فلذا حصل ذلك والحجر عن الإيمان كفر م: (لأن الإقرار عن طوع دليل على اعتقاده على ما عرف) ش: في علم الكلام م: (والحقائق لا ترد) ش: لأن الشرع ما يسقط اعتبار حقيقة في موضع ما بغير ضرورة، بخلاف الأقارير والطلاق؛ لأن الشرع أسقط اعتبار حقيقتهما ببعض الأعذار م: (وما يتعلق به سعادة أبدية) ش: يجوز أن يكون معطوفاً على التصديق، أي هو التصديق وهو ما يتعلق. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون مبتدأ، وخبره قوله هو الحكم الأصلي على تقدير أن يكون بغير واو.
ويجوز أن يكون وما يتعلق به مبتدأ، وقوله سعادة أبدية خبره وهو الأولى، وهو جواب عن قولهما ولأنه يلزمه أحكام تشوبها المضرة.
وعورض بأنه لو صح إسلامه بنفسه وقع فيئاً؛ لأنه لا نفل في الإيمان. ومن ضرورة كونه فرضاً أن يكون مخاطباً به وهو غير مخاطب بالاتفاق، فإذا لم تكن بصحيحة فرضاً لم تصح، بخلاف سائر العبادات، فإنه يتردد بين الفرض والنفل.
والجواب لا نسلم أن من ضرورة كونه فرضاً أن يكون مخاطباً، فإن المسافر إذا حضر جمعة وصلى فرضاً وليس بمخاطب به، ومن صلى في أول الوقت وقع فرضاً وليس بمخاطب عندنا في ذلك الوقت.
م: (ونجاة عقباوية) ش: نسبته إلى عقبى، وعقبى كل شيء م: (وهي) ش: أي السعادة الأبدية م: (من أجل المنافع) ش: أي من أعظمها م: (وهو الحكم الأصلي) ش: أي الموضوع له م: (ثم يبتنى عليه غيرها) ش: مثل حرمان الميراث م: (فلا يبالي بشوبه) ش: لأن المنظور إليه في التصرفات الموضوعة الأصلية.
وقال تاج الشريعة: المراد من الحكم الأصلي ما وضع ذلك الشيء لأجله، وأما ما ذكر من لزوم أحكام تشوبها المضرة فكذلك [....] .
م: (ولهم) ش: أي لأبي يوسف وزفر والشافعي م: (في الردة أنها) ش: أي أن الردة م: (مضرة محضة) ش: أي من التصرفات الضارة المحضة م: (بخلاف الإسلام على أصل أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه تعلق به) ش: أي بالإسلام م: (أعلى المنافع) ش: لأنه منفعة محضة م: (على ما مر)(7/295)
مر. ولأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - أنها موجودة حقيقة، ولا مرد للحقيقة كما قلنا في الإسلام، إلا أنه يجبر على الإسلام لما فيه من النفع له ولا يقتل؛ لأنه عقوبة، والعقوبات موضوعة عن الصبيان مرحمة عليهم، وهذا في الصبي الذي يعقل، ومن لا يعقل من الصبيان لا يصح ارتداده؛ لأن إقراره لا يدل على تغيير العقيدة، وكذا المجنون والسكران الذي لا يعقل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: وهو قوله: وهي من أجل المنافع، والمقصود به فوز السعادة الأبدية. ومذهب أبي يوسف وهو القياس في الردة.
م: (ولأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - أنها) ش: أي أن الردة م: (موجودة حقيقة، ولا مرد للحقيقة كما قلنا في الإسلام، إلا أنه يجبر على الإسلام لما فيه من النفع له) ش: واعترض بأن هذا اعتبار بما هو مضرة محضة بما هو منفعة محضة، وذلك جمع بين السببين بالقياس فرق الشارع بينهما، ومثله فاسد على ما عرف في الأصول.
وأجيب: بأن هذا قياس فيها لوجود شيء آخر وتحققه في عدم جواز الرد ولا نسلم أن الشارع فرق بينهما م: (ولا يقتل لأنه) ش: أي لأن القتل، م: (عقوبة، والعقوبات موضوعة عن الصبيان مرحمة عليهم) ش: أي لأجل الترحم عليهم.
قيل في هذا التعليل نظر؛ لأنه سقط عقوبة القتل من الصبي المرتد باعتبار الرحمة بصباه، وما أسقط عقوبة النار مخلداً فإنه ذكر في " الأسرار " و " المبسوط " وجامع التمرتاشي: أنه يعاقب بالردة يوم القيامة. وأحال التمرتاشي هذه الرواية إلى التبصرة وفيه تأمل.
م: (وهذا) ش: أي وهذا الخلاف م: (في الصبي الذي يعقل، ومن لا يعقل من الصبيان لا يصح ارتداده؛ لأن إقراره لا يدل على تغيير العقيدة) ش: لعدم تمييزه م: (وكذا) ش: أي لا يصح ارتداد م: (المجنون والسكران الذي لا يعقل) ش: وقال في شرح الطحاوي: ارتداد السكران لا يكون ارتداداً، ولا تبين منه امرأته.
وروي عن أبي يوسف أنه قال: تبين امرأته وعقوده نافذة، وطلاقه واقع إلا على قول عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يقع طلاقه.
[الشهادة على الردة] 1
فروع: تقبل الشهادة على الردة من عدلين باتفاق أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً خالفهم إلا الحسن، فإنه قال لا يقبل في القتل إلا أربعة قياساً على الزنا. وقيل المرتد إلى الإمام عند عامة أهل العلم إلا عند الشافعي في وجه في العبد إلى سيده، ومن أصاب حداً ثم ارتد ثم أسلم إن لم يلحق بدار الحرب أقيم عليه الحد، وإن لحق ولي، وبه قال الثوري ومالك وأحمد في رواية. وقال الشافعي وأحمد: أقيم عليه الحد سواء ألحق بدار الحرب أو لا.
ولا تقبل توبة الساحر في رواية، وبه قال مالك وأحمد ولا تقبل توبة الزنديق. وقال مالك(7/296)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأحمد في رواية وقال الشافعي وأحمد في رواية: تقبل توبة كل مرتد سواء كان كفره مما سقط هو به وأهله، أو مما نيط به أهله كالزندقة والتعطيل.
ثم للسحر حقيقة وله تأثير في آلام الأجسام. وقال بعض أصحاب الشافعي وبعض الظاهرية: لا تأثير له في الجسم ولا حقيقة له، وإنما هو تخييل وتعليمه حرام، وكذا تعلمه بلا خلاف من أهل العلم. ولو اعتقد إباحته كفر. وعن أصحابنا ومالك وأحمد يكفر الساحر لتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو لا، ويقتل. وكذا روي عن عمر وعثمان وابن عمر وجنيد بن عبد الله وأحمد بن كعب وقيس بن سالم وعمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فإنهم قتلوه بدون الاستتابة. وعن الشافعي لا يقتل ولا يكفر إلا إذا اعتقد إباحته.
وأما الكاهن: هو الساحر، وقيل هو العراف الذي يحدث ويحرض، وقيل هو الذي له وذي من الجن يأتيه بالأخبار. وقال أصحابنا: إن اعتقد أن الشياطين يفعلون له ما يشاء كفر، وإن اعتقد أنه لا يحل لم يكفر. وعند الشافعي إن اعتقد ما يوجب الكفر مثل التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل بالتيمن يكفر. وعند أحمد حكمه حكم الساحر، في رواية يقتل لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اقتلوا كل ساحر وكاهن، وبالله التوفيق.(7/297)
باب البغاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب البغاة]
م: (باب البغاة) ش: أي هذا باب في بيان أحكام البغاة، وهو جمع باغ كقضاة جمع قاض، من البغي وهو الخروج عن طاعة الإمام. وأصل البغي الطلب، قال: ما كنا نبغي، أي ما كنا نطلب ما لا يجوز شرعاً. وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: البغي التعدي، وبغي الموالي ظلم، وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشرع فهو بغي.
وفي كتاب أهل الشرع الخروج عن طاعة الإمام. وقال الأترازي: المراد من البغاة الخوارج، ولهذا ذكر هذا الباب في المبسوط بيان الخوارج. وقال في فصول الأستروشني لا بد من معرفة أهل البغي.
فأهل البغي هم الخارجون على إمام الحق بغير حق. بيانه أن المسلمين إذا اجتمعوا على إمام، وصاروا آمنين به، فخرج عليه طائفة من المؤمنين، فإن فعلوا الظلم ظلمهم، فهم ليسوا من أهل البغي، وعليه أن يترك الظلم وينصفهم.
ولا ينبغي للناس أن يعينوه؛ لأن فيه إعانة على الظلم، وأن لا يعينوا تلك الطائفة على الإمام أيضاً؛ لأن فيه إعانة لهم على خروجهم على الإمام، وإن لم يكن ذلك لظلم ظلمهم، ولكن ادعوا الحق والولاية فقالوا: الحق معنا فهم أهل البغي، فعلى كل من يقوى على القتال أن ينصروا إمام المسلمين على هؤلاء الخارجين لأنهم ملعونون على لسان صاحب الشرع.
فإنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها» فإن كانوا تكلموا بالخروج لكن لم يعزموا على الخروج بعد فليس للإمام أن يتعرض لهم؛ لأن العزم على الجناية لم يوجد بعد، كذا ذكر في واقعات الإمام اللاسي.
وذكر العلامي في تهذيبه قال بعض المشايخ: لولا علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما درئنا القتال مع أهل القبلة، وكان علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وممن تبعه من أهل العدل وخصمه ومن تبعه من أهل البغي وفي زماننا الحكم للقبلة، ولا ندري العادلة والباغية كلهم يطلبون الدنيا، إلى هنا لفظ كتاب الفصول.
وقال الكاكي: ثم اعلم أن طاعة الإمام الحق هو الذي أجمع عليه المسلمون أو من ثبتت إمامته بعد إمام الحق واجب وكل من خرج عليه قتاله لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أعطى إماماً صفقة يده وثمرة قلبه فليعطه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» رواه مسلم وأجمعت الأمة على قتال البغاة.(7/298)
وإذا تغلب قوم من المسلمين على بلد وخرجوا من طاعة الإمام دعاهم إلى العود إلى الجماعة وكشف عن شبهتهم؛ لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل كذلك بأهل حروراء قبل قتالهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأكثر الفقهاء على عدم جواز تكفيرهم. وفي " المحيط " في تكفير أهل البدع كلام، فبعض العلماء لا يكفرون أحداً منهم وبعضهم يكفرون البعض، وهو أن كل بدعة تخالف دليلاً قطعياً فهو كفر، وكل بدعة لا تخالف دليلاً قطعياً يوجب العلم فهو بدعة ضلالة، وعليه اعتمد جماعة أهل السنة والجماعة.
م: (وإذا تغلب) ش: مرة قومهم تغلب على بلد كذا أي استولى عليه قهراً م: (قوم من المسلمين على بلد وخرجوا من طاعة الإمام دعاهم) ش: أي الإمام م: (إلى العود إلى الجماعة وكشف عن شبهتهم) ش: وقال الطحاوي في مختصره: وإذا ظهرت جماعة من أهل القبلة داعية وقاتلت عليه وصار لها منعة ليست عما دعاها إلى الخروج. فإن ذكرت ظلماً أنصفت من ظالمها وإلا دعيت إلى الرجوع عن البدعة.
وقال أبو بكر الرازي في شرحه: وإنما سئلت عن ذلك لجواز أن يكون خروجها للامتناع من ظلم جرى عليها أو على غيرها.
وإن كانوا ممتنعين من الظلم فهم محقون لا يجب قتالهم، بل يجب معاونتهم؛ لأنهم حينئذ خرجوا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإذا علم أن خروجهم لم يكن لظلم لحقهم أو لحق غيرهم دعوا إلى الجماعة والدخول في طاعة الإمام.
والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] ..... الآية (الحجرات: الآية 9) فاستفدنا من هذه الآية حكمين، أحدهما: ما كان لنا طمع في استصلاحهم ورجوعهم فعلينا أن ندعوهم ونستصلحهم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] ، والثاني: أنهم إذا لم يجيبوا إلى الصلح والرجوع وأظهروا البغي وجب علينا قتالهم.
م: (لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل كذلك بأهل حروراء قبل قتالهم) ش: هذا رواه النسائي في سننه الكبرى. وفي خصائص علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أخبرنا عمرو بن علي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا عكرمة بن عمار حدثني أبو سهيل كمال الحنفي حدثني عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما خرجت الحرورية اعتزلوا في دار وكانوا ستة آلاف، فقلت لعلي: يا أمير المؤمنين، ابرد بالصلاة دعني أكلم هؤلاء القوم، فقال: إني أخفهم عليك.
فقلت: كلا، فلبست ثيابي ومضيت حتى دخلت عليهم في دار وهم مجتمعون فيها، فقالوا: مرحباً بك يا بن عباس، ما جاء بك، فقلت: أتيتكم من عند أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصهره، وعليهم نزل القرآن فهم أعلم بتأويله منكم(7/299)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وليس فيكم منهم أحد لأبلغكم ما يقولون وأبلغهم ما تقولون، فانتحى لي نفر منهم.
قلت: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وابن عمه وختنه وأول من آمن به، قالوا: ثلاث، قلت: ما هي، قالوا: إحداهن أنه حكم الرجال في دين الله وقد قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] .
قلت: هذه واحدة. قالوا: وأما الثانية فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، فإن كانوا كفاراً فقد حلت لنا نساؤهم وأموالهم، وإن كانوا مؤمنين فقد حرمت علينا دماؤهم، قلت: هذه أخرى، قالوا: وأما الثالثة فإنه محا نفسه من إمرة المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
قلت: هل عندكم شيء غير هذا، قالوا: حسبنا هذا، قلت لهم: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله عز وجل وحدثتكم من سنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يرد قولكم هذا أترجعون. قالوا: اللهم نعم.
قلت: أما قولكم إنه حكم الرجال في دين الله - عز وجل - فأنا أقرأ عليكم أن الله تعالى حكم الرجال في أرنب ثمنه ربع درهم، قال الله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] إلى قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] . وقال في المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] أنشدكم أتعلمون حكم الرجال في حق دمائهم وأنفسهم وإصلاح ذات بينهم أفضل، أو في حكم أرنب ثمنه ربع درهم وفي بضع امرأة؟ قالوا: بلى هذا أفضل، قال: أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم.
قلت: وأما قولكم إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، أتسبون أمكم عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فتستحلون منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم، لئن فعلتم لقد كفرتم، وإن قلتم: ليست أمنا فقد كفرتم، قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] فأنتم بين ضلالتين فأتوا منها بمخرج، أخرجت من هذه الأخرى، قالوا: اللهم نعم.
قلت: وأما قولكم إنه محا نفسه من إمرة المؤمنين «فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا قريشاً يوم الحديبية على أن يكتب بينه وبينهم كتاباً، فقال: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله.
فقال: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، يا علي اكتب محمد بن عبد الله،» فرسول الله خير من علي، وقد محا نفسه، ولم يكن محوه ذلك محواً من النبوة، أخرجت من هذه الأخرى، فقالوا: اللهم نعم، فرجع منهم ألفان، وبقي سائرهم فقاتلوا على ضلالتهم، فقتلهم(7/300)
ولأنه أهون الأمرين، ولعل الشر يندفع به فيبدأ به، ولا يبدأ بقتال حتى يبدؤوه، فإن بدؤوه قاتلهم حتى يفرق جمعهم. قال العبد الضعيف: هكذا ذكره القدوري في مختصره. وذكر الإمام المعروف بخواهر زاده أن عندنا يجوز أن يبدأ بقتالهم إذا تعسكروا واجتمعوا، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز حتى يبدؤوا بالقتال حقيقة؛ لأنه لا يجوز قتل المسلم إلا دفعا وهم مسلمون،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المهاجرون والأنصار.
ورواه ابن عبد الرزاق في " مصنفه " وقال في آخره فرجع منهم عشرون ألفاً وبقي أربعة آلاف فقتلوا على ضلالتهم، وحروراء بفتح الحاء المهملة تمد وتقصر قرية بالكوفة كان لها اجتماع الخوارج فنسبوا إليها، يقال: فلان حروري من الحرورية.
م: (ولأنه) ش: كشف شبههم مع دعوتهم إلى الجماعة م: (أهون الأمرين) ش: أحدهما: الدعوة إلى الجماعة، والآخر القتال م: (ولعل الشر يندفع به) ش: أي بكشف شبههم مع دعوتهم إلى الجماعة. في " المبسوط ": الأحسن أن يقدم ذلك على القتال؛ لأن الكي آخر الدواء م: (فيبدأ به) ش: أي بكشف الشبهة مع الدعوة م: (ولا يبدأ) ش: أي الإمام م: (بقتال) ش: البغاة م: (حتى يبدؤوه، فإن بدؤوه) ش: أي بالقتال م: (قاتلهم حتى يفرق جمعهم) .
م: (قال العبد الضعيف) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (هكذا ذكره القدوري في مختصره، وذكر الإمام المعروف بخواهر زاده أن عندنا يجوز أن يبدأ) ش: أي الإمام م: (بقتالهم) ش: أي بقتال البغاة م: (إذا تعسكروا واجتمعوا) ش: الإمام خواهر زاده هو الإمام أبو بكر محمد الحسين البخاري، وسمي خواهر زاده؛ لأنه كان ابن أخت القاضي الإمام أبي ثابت قاضي سمرقند صاحب " الذخيرة " و " المبسوط " و " الإيضاح ".
وكان خواهر زاده إماماً كاملاً في الفقه بحراً غزيراً صاحب التصانيف ومبسوطه أطول المباسيط، مات في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وهي السنة التي توفي فيها شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكانت وفاة القدوري سنة ثمان وعشرين وأربعمائة.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز) ش: البدء بقتالهم م: (حتى يبدؤوا بالقتال حقيقة) ش: وبه قال مالك وأحمد وأكثر أهل العلم م: (لأنه لا يجوز قتل مسلم) ش: وفي بعض النسخ لا يحل قتل المسلم م: (إلا دفعاً) ش: لقتالهم م: (وهم مسلمون) ش: أي البغاة مسلمون بدليل قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} [الحجرات: 9] (الحجرات: الآية 9) ، أي إحدى الطائفتين من المؤمنين، وقد(7/301)
بخلاف الكافر؛ لأن نفس الكفر مبيح عنده. ولنا أن الحكم يدار على الدليل وهو الاجتماع والامتناع، وهذا لأنه لو انتظر الإمام حقيقة قتالهم وربما لا يمكنه الدفع، فيدار الحكم على الدليل ضرورة دفع شرهم.
وإذا بلغه أنهم يشترون السلاح، ويتأهبون للقتال ينبغي أن يأخذهم ويحبسهم حتى يقلعوا عن ذلك، ويحدثوا توبة دفعا للشر بقدر الإمكان. والمروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - من لزوم البيت محمول على حال عدم الإمام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سمى البغاة مؤمنين م: (بخلاف الكافر؛ لأن نفس الكفر مبيح عنده) ش: أي عند الشافعي، يعني أن علة إباحة القتال وهي الكفر عنده، وعندنا العلة هو الخراب.
م: (ولنا أن الحكم يدار على الدليل) ش: أي دليل القتال م: (وهو الاجتماع والامتناع) ش: يعني إذا اجتمعوا فصارت لهم منعة دفعهم بالقتال.
م: (وهذا) ش: يعني دوران الحكم على الدليل م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (لو انتظر الإمام حقيقة قتالهم، وربما لا يمكنه الدفع) ش: أي دفعهم بحصول الشوكة لهم والقوة على المؤمنين، فإذا كان الأمر كذلك م: (فيدار الحكم على الدليل) ش: أي دليل قتالهم وهو شجرهم واجتماعهم م: (ضرورة) ش: أي لأجل الضرورة م: (دفع شرهم) ش: وفي " المبسوط " و " الإيضاح ": فحالهم في ذلك كحال المرتدين وأهل الحرب الذين بلغتهم الدعوة.
ولهذا يجوز قتالهم بكل ما يجوز قتال أهل الحرب به كالرمي بالنبل والمنجنيق وإرسال الماء والنار عليهم والبيان بالنبل؛ لأن قتالهم حينئذ فرض كقتال أهل الحرب والمرتدين. وعند الأئمة الثلاثة قتالهم بالمنجنيق وإرسال الماء والنار لا يجوز إلا إذا لم يندفعوا بدونه.
[إعانة الإمام الحق على قتال البغاة]
م: (وإذا بلغه) ش: أي الإمام م: (أنهم) ش: أي أن البغاة م: (يشترون السلاح ويتأهبون للقتال ينبغي أن يأخذهم) ش: أي الإمام م: (ويحبسهم حتى يقلعوا عن ذلك) ش: أي حتى يمتنعوا عما قصدوه، ويقلعوا بضم الياء من الإقلاع وهو الامتناع، ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقلعوا عن المعاصي قبل أن يأخذكم الله» م: (ويحدثوا توبة) بضم الياء، أي يحدثوا توبة عما هم فيه م: (دفعاً للشر بقدر الإمكان) ش: أي لأجل دفع شرهم بحسب إمكانهم.
م: (والمروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - من لزوم البيت محمول على حال عدم الإمام) ش: بيان ذلك أن الشيخ أبا الحسن الكرخي قال في مختصره: قال الحسن بن زياد وقال أبو حنيفة: إذا وقعت الفتنة بين المسلمين فينبغي للرجل أن يعتزل الفتنة ويلزم بيته ولا يخرج في الفتنة، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من فر من الفتنة أعتق الله رقبته من النار» .
وقال المصنف: هذا محمول على حال عدم الإمام الداعي إلى القتال، أما إذا كان المسلمون مجتمعين على إمام كانوا آمنين به وإسلامه، فخرج عليه طائفة من المؤمنين فحينئذ يجب على كل(7/302)
أما إعانة الإمام الحق فمن الواجب عند الغناء والقدرة، فإن كانت لهم فئة أجهز على جريحهم واتبع موليهم دفعا لشرهم كي لا يلتحقوا بهم. وإن لم يكن لهم فئة لم يجهز على جريحهم ولم يتبع موليهم لاندفاع الشر دونه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز ذلك في الحالين؛ لأن القتال إذا تركوه لم يبق قتلهم دفعا، وجوابه ما ذكرناه أن المعتبر دليله لا حقيقته، ولا يسبى لهم ذرية ولا يقسم لهم مال؛ لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم الجمل: ولا يقتل أسير ولا يكشف ستر ولا يؤخذ مال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من يقوى على القتال أن يقاتلهم نصرة لإمام المسلمين.
أشار إليه بقوله: م: (أما إعانة الإمام الحق فمن الواجب) ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] ... الآية (الحجرات: الآية 9) فإن الأمر للوجوب م: (عند الغناء) ش: بفتح الغين المعجمة وبالمد، وهو الكفاية م: (والقدرة) ش: بالجر عطفاً على ما قبله، ويجوز أن يكون العطف للتفسير.
فإن قلت: روي عن ابن عمر وغيره من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قعودهم وترك الإعانة.
قلت: هو أيضاً محمول، ولكن على عدم قدرتهم على القتال، والعاجز لا يلزمه الحضور.
م: (فإن كانت لهم فئة) ش: أي جماعة غير المصدرين للقتال م: (أجهز) ش: على صيغة المجهول من أجهزت م: (على جريحهم) ش: إذا أسر عن قتله وقد تممت عليه، يعني كان مجروحاً أشرف على الموت قيمة م: (واتبع موليهم) ش: على صيغة المجهول أيضاً وبكسر اللام وسكون الياء.
وهو الذي يولي ويهرب خوفاً بنفسه م: (دفعاً لشرهم) ش: أي لأجل دفع شر البغاة م: (كي لا يلتحقوا) ش: أي الجريح والمولي م: (بهم) ش: أي لبغاة فيميلان إليهم م: (وإن لم يكن لهم فئة لم يجهز على جريحهم ولم يتبع موليهم) ش: وكلا اللفظين أيضا على صيغة المجهول م: (لاندفاع الشر دونه) ش: أي دون إجهاز جريحهم واتباع موليهم.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز ذلك في الحالين) ش: أي فيما إذا كانت لهم فئة، وإن لم يكن لهم فئة م: (لأن القتال إذا تركوه لم يبق قتلهم دفعاً) ش: للشر؛ لأن شرهم قد اندفع فلا حاجة إلى الامتناع، وهذا لأنه قتال على وجه الدفع، فصار كقتال غير الخوارج.
م: (وجوابه) ش: أي جواب الشافعي م: (ما ذكرناه أن المعتبر دليله) ش: أي دليل القتال وهو الإجماع م: (لا حقيقته) ش: أي لا حقيقة القتال، وبقولنا قال مالك وبعض أصحاب الشافعي: م: (ولا يسبى لهم ذرية ولا يقسم لهم مال لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم الجمل: ولا يقتل أسير ولا يكشف ستر ولا يؤخذ مال) ش: يوم الجمل هو اليوم الذي كان فيه وقعة عائشة مع علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.(7/303)
وهو الذي يقتدى به في هذا الباب. وقوله في الأسير: تأويله إذا لم يكن لهم فئة، فإن كانت يقتل الإمام الأسير، وإن شاء حبسه لما ذكرنا، ولأنهم مسلمون والإسلام يعصم النفس والمال، ولا بأس بأن يقاتلوا بسلاحهم إن احتاج المسلمون إليه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز، والكراع على هذا الخلاف. له أنه مال مسلم فلا يجوز الانتفاع به إلا برضاه. ولنا أن عليا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذلك أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما قتل يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين بويع لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالمدينة بالخلافة يوم قتل عثمان، بايعه من كان في المدينة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم وفيهم طلحة وزيد.
وذكر أنهما بايعاه كارهين غير طائعين، فخرجا من مكة ومعهما عائشة إلى البصرة يطالبون بدم عثمان، وبلغ علياً ذلك فخرج من المدينة إلى العراق، وبعث عمار بن ياسر والحسن بن علي إلى الكوفة يستنصر أهلها بالمسير معه، فقدموا عليه فأنزلهم البصرة فلقي طلحة والزبير وعائشة ومن معهم من أهل البصرة وغيرهم، فوقع بينهم قتال عظيم، فظنوهم قتل يومئذ طلحة والزبير وغيرهما، وبلغت القتلى ثلاثة عشر ألف قتيل، وإنما سمي يوم الجمل؛ لأن عائشة كانت يومئذ على جمل يسمى عكرا.
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا عبدة بن سليمان عن جرير عن الضحاك أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما هزم طلحة والزبير وأصحابهما أمر منادياً فنادى أن لا يقتل مقبل ولا مدبر، ولا يفتح باب، ولا يقل قرح، ولا مال. قوله: ولا يكشف ستر أي لا يسبى نساؤهم وهو القدوة عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (وهو الذي يقتدى به في هذا الباب) ش: أي في باب قتال الخوارج م: (وقوله) ش: أي قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (في الأسير) ش: أي: ولا يقتل أسير م: (تأويله) ش: أي تأويل كلامه م: (إذا لم يكن لهم فئة، فإن كانت يقتل الإمام الأسير، وإن شاء حبسه لما ذكرنا) ش: أي عند قوله ويحبسهم إلى قوله دفعاً لشرهم، وعند الأئمة الثلاثة: لا يقتل الأسير بل يحبسه م: (ولأنهم) ش: أي ولأن البغاة م: (مسلمون، والإسلام يعصم النفس والمال) ش: للحديث المشهور.
م: (ولا بأس بأن يقاتلوا بسلاحهم إن احتاج المسلمون إليه) ش: أي إلى سلاحهم لأجل القتال م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز) ش: وبه قال أحمد في رواية م: (والكراع على هذا الخلاف) ش: أي الخلاف الذي بيننا وبين الشافعي، يعني: يجوز استعمال الكراع وهو الجمل عند الحاجة عندنا. وقال الشافعي وأحمد في رواية: لا يجوز، وبقولنا قال مالك وأحمد في رواية.
م: (له) ش: أي للشافعي م: (أنه مال مسلم فلا يجوز الانتفاع به إلا برضاه. ولنا: أن علياً -(7/304)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قسم السلاح فيما بين أصحابه بالبصرة، وكانت قسمته للحاجة لا للتمليك ولأن للإمام أن يفعل ذلك في مال العادل عند الحاجة. ففي مال الباغي أولى. والمعنى فيه إلحاق الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى. ويحبس الإمام أموالهم ولا يردها عليهم، ولا يقسمها حتى يتوبوا فيردها عليهم، أما عدم القسمة فلما بينا. وأما الحبس فلدفع شرهم بكسر شوكتهم، ولهذا يحبسها عنهم: وإن كان لا يحتاج إليها إلا أنه يبيع الكراع؛ لأن حبس الثمن أنظر وأيسر. وأما الرد بعد التوبة فلاندفاع الضرورة ولا استغنام فيها.
قال: وما جباه أهل البغي من البلاد التي غلبوا عليها من الخراج والعشر لم يأخذه الإمام ثانيا. لأن ولاية الأخذ له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قسم السلاح فيما بين أصحابه بالبصرة) ش: وروى ابن أبي شيبة في مصنفه، حدثنا وكيع عن مطرف عن مسند عن ابن الحنفية أن علياً قسم يوم الجمل في العسكر ما أجافوا عليه من كراع وسلاح م: (وكانت قسمته للحاجة لا للتمليك) ش: يعني كانت قسمته قسمة انتفاع لدفع الحاجة، لا قسمة تمليك، ولهذا لما وضعت الحرب أوزارها ردها إليهم.
م: (ولأن للإمام أن يفعل ذلك في مال العادل عند الحاجة، ففي مال الباغي أولى، والمعنى فيه) ش: أي المعنى المبيح في استعمال أسلحة أهل البغي وكراعهم م: (إلحاق الضرر الأدنى) ش: وهو ضرر صاحب السلاح وصاحب الكراع م: (لدفع الضرر الأعلى) ش: وهو الضرر العام الواقع على عامة المسلمين، فيحتمل الأدنى لدفع الأعلى م: (ويحبس الإمام أموالهم ولا يردها عليهم ولا يقسمها حتى يتوبوا فيردها عليهم، أما عدم القسمة فلما بينا) ش: إشارة إلى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا يؤخذ مال.
قال الأكمل: قلت: ليس بذلك، بل إشارة إلى قوله: لأنه مال مسلم فلا يجوز الانتفاع به م: (وأما الحبس فلدفع شرهم بكسر شوكتهم) ش: كي لا يستعينوا بها علينا م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كسر شوكتهم م: (يحبسها عنهم، وإن كان لا يحتاج إليها إلا أنه) ش: أي أن الإمام م: (يبيع الكراع؛ لأن حبس الثمن أنظر) ش: للمالك م: (وأيسر) ش: للحافظ؛ لأن إبقاءه يحتاج إلى النفقة والخدمة.
م: (وأما الرد بعد التوبة فلاندفاع الضرورة ولا استغنام فيها) ش: يعني أموال أهل البغي لا يبيعها لعصمتها، فلا يقسم لأجل هذا بين أهل العدل، لكنها تجر ضرورة دفع الشر، فإذا اندفعت الضرورة بتوبتهم ردت إليهم.
[ما جباه أهل البغي من البلاد التي غلبوا عليها من الخراج والعشر]
م: (قال: وما جباه أهل البغي من البلاد التي غلبوا عليها من الخراج والعشر لم يأخذه الإمام ثانياً) ش: وبه قال الشافعي وأحمد وابن الماجشون المالكي وابن القاسم لا يعتبر ذلك. وعلى من أخذ منه الزكاة الإعادة، وبه قال أبو عبيد؛ لأن الأخذ ممن لا ولاية له م: (لأن ولاية الأخذ له) ش: أي(7/305)
باعتبار الحماية ولم يحمهم، فإن كانوا صرفوه في حقه أجزأ من أخذ منه لوصول الحق إلى مستحقه. وإن لم يكونوا صرفوه في حقه فعلى أهله فيما بينهم وبين الله - تعالى - أن يعيدوا ذلك؛ لأنه لم يصل إلى مستحقه. قال العبد الضعيف: قالوا لا إعادة عليهم في الخراج؛ لأنهم مقاتلة، فكانوا مصارف، وإن كانوا أغنياء، وفي العشر إن كانوا فقراء فكذلك؛ لأنه حق الفقراء، وقد بيناه في الزكاة. وفي المستقبل يأخذه الإمام؛ لأنه يحميهم فيه لظهور ولايته.
ومن قتل رجلا وهما من عسكر أهل البغي ثم ظهر عليهم فليس عليهم شيء؛ لأنه لا ولاية لإمام العدل حين القتل. فلم ينعقد موجبا كالقتل في دار الحرب. وإن غلبوا على مصر فقتل رجل من أهل المصر رجلا من أهل المصر عمدا ثم ظهر على المصر، فإنه يقتص منه. وتأويله:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإمام م: (باعتبار الحماية ولم يحمهم) ش: ألا ترى إلى قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إن كنت لا تحمهم فلا تجبهم.
م: (فإن كانوا) ش: أي أهل البغي إن كانوا م: (صرفوه) ش: الذي أخذوه م: (في حقه) ش: أي في الجهة التي عينها الشارع له م: (أجزأ من أخذ منه، لوصول الحق إلى مستحقه، فإن لم يكونوا صرفوه في حقه فعلى أهله فيما بينهم وبين الله - تعالى - أن يعيدوا ذلك؛ لأنه لم يصل إلى مستحقه) ش: لأن سقوط المطالبة قضاء لا يوجب سقوطها ديانة.
م: (قال العبد الضعيف) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (قالوا) ش: أي المشايخ م: (لا إعادة عليهم في الخراج) ش: ديانة أيضاً؛ لأنهم محل الخراج م: (لأنهم مقاتلة، فكانوا مصارف، وإن كانوا أغنياء، وفي العشر إن كانوا فقراء فكذلك) ش: لا إعادة عليهم م: (لأنه) ش: أي لأن العشر م: (حق الفقراء) ش: من أهل الإسلام وهذا أوجه م: (وقد بيناه في الزكاة) ش: أي وقد بينا الحكم المذكور قبل فصل في الفضة م: (وفي المستقبل يأخذه الإمام) أي في الحول إلا فيء يأخذ الإمام العشر والخراج م: (لأنه) ش: أي لأن الإمام م: (يحميهم فيه) ش: أي في المستقبل من الزمان م: (لظهور ولايته) ش: حينئذ.
[المقتول من عسكر أهل البغي]
م: (ومن قتل رجلاً وهما) ش: أي والحال أنهما م: (من عسكر أهل البغي ثم ظهر عليهم) ش: بضم الظاء، أي غلب عليهم م: (فليس عليهم شيء) ش: أي لا يجب على القاتل دية ولا قصاص. وقالت الأئمة الثلاثة: يؤخذ بموجب الجناية، أي جناية كانت بعموم الآية والأخبار م: (لأنه لا ولاية لإمام العدل حين القتل، فلم ينعقد موجباً كالقتل في دار الحرب) ش: لعدم الولاية م: (وإن غلبوا) ش: أي البغاة م: (على مصر فقتل رجل من أهل المصر رجلاً من أهل المصر عمداً ثم ظهر على المصر) ش: أي غلب عليه بأن رفعت عنها أيدي البغاة م: (فإنه يقتص منه) ش: أي من القاتل م: (وتأويله) ش: أي تأويل قوله: يقتص منه، وإنما قال المصنف: وتأويله؛ لأن المسألة التي ذكرها من مسائل " الجامع الصغير "، ولم يذكر فيه، أي لم يجر على أهله أحكامهم، وإنما ذكر هذا فخر(7/306)
إذا لم يجر على أهله أحكامهم وأزعجوا قبل ذلك، وفي ذلك لا تنقطع ولاية الإمام فيجب القصاص.
وإذا قتل رجل من أهل العدل باغيا فإنه يرثه، فإن قتله الباغي وقال: قد كنت على حق، وأنا الآن على حق ورثه، وإن قال: قتلته وأنا أعلم أني على الباطل لم يرثه، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يرث الباغي في الوجهين، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصله أن العادل إذا أتلف نفس الباغي أو ماله لا يضمن ولا يأثم؛ لأنه مأمور بقتالهم دفعا لشرهم، والباغي إذا قتل العادل لا يجب الضمان عندنا ويأثم. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم: إنه يجب، وعلى هذا الخلاف إذا تاب المرتد وقد أتلف نفسا أو مالا. له أنه أتلف مالا معصوما. أو قتل نفسا معصومة فيجب الضمان اعتبارا بما قبل المنعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإسلام البزدوي في شرحه " للجامع الصغير " ونقله المصنف منه هكذا حيث قال م: (إذا لم يجر على أهله) ش: أي أهل المصر م: (أحكامهم) ش: أي أحكام البغاة الذين غلبوا عليه.
م: (وأزعجوا قبل ذلك) ش: أي أزعج أهل البغي قبل إجراء أحكامهم على أهل المصر وأزعجوا على صيغة المجهول من أزعجه أي قلعه من مكانه م: (وفي ذلك) ش: أي وفيما لم يجر أحكامهم م: (لا تنقطع ولاية الإمام فيجب القصاص) ش: لأن استيلاءهم كان بعارض، وبقاء ولاية الإمام.
[قتل رجل من أهل العدل باغياً]
م: (وإذا قتل رجل من أهل العدل باغياً فإنه يرثه، فإن قتله الباغي) ش: أي وإن قتل الباغي رجلاً من أهل العدل م: (وقال: قد كنت على حق وأنا الآن على حق ورثه، وإن قال: قتلته وأنا أعلم أني على الباطل لم يرثه، وهذا) ش: أي المذكور من الأحكام م: (عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يرث الباغي في الوجهين) ش: أي فيما إذا قال: كنت على حق، وفيما إذا قال: كنت على باطل م: (وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قول أبي يوسف، وهو قول الشافعي في القديم.
م: (وأصله) ش: أي وأصل هذا الخلاف م: (أن العادل إذا أتلف نفس الباغي أو ماله لا يضمن ولا يأثم؛ لأنه مأمور بقتالهم دفعاً لشرهم، والباغي إذا قتل العادل لا يجب الضمان عندنا) ش: وبه قال أحمد م: (ويأثم) ش: لأنه قتل نفساً.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم: إنه يجب) ش: الضمان. وبه قال مالك م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي المذكور م: (إذا تاب المرتد وقد أتلف نفساً) ش: أي والحال أنه قد أتلف نفساً م: (أو مالاً) ش: لا يجب الضمان عندنا، وعلى قول الشافعي في القديم يجب م: (له) ش: أي للشافعي م: (أنه أتلف مالاً معصوماً أو قتل نفساً معصومة فيجب الضمان اعتباراً بما قبل المنعة) ش:(7/307)
ولنا إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ورواه الزهري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأنه أتلف عن تأويل فاسد، والفاسد منه ملحق بالصحيح إذا ضمت إليه المنعة في حق الدفع، كما في منعة أهل الحرب وتأويلهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي قياس ما إذا تلف قبل أن يكون لهم منعة.
م: (ولنا إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ورواه الزهري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي روى محمد بن مسلم الزهري إجماع الصحابة على أنه لا يضمن الباغي إذا قتل العادل.
وقال الأترازي: ذكر أصحابنا في كتبهم لفخر الإسلام وغيره عن الزهري أنه قال: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متوافرون فاتفقوا على أن كل مال استحل بتأويل القرآن فهو موضوع، وكل مال استحق بتأويل القرآن فهو موضوع، وكل فرج استحل بتأويل القرآن فهو موضوع. وما كان قائماً يرد. انتهى.
قلت: روى عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا معمر عن الزهري أن سليمان بن هشام كتب إليه يسأله عن امرأة خرجت من عند زوجها وشهدت على قومها بالشرك ولحقت بالحرورية فتزوجت، ثم إنها رجعت إلى أهلها ثانية.
قال الزهري: فكتب إليه أما بعد فإن الفتنة الأولى مارت وأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمن شهد بدراً كريماً فاجتمع رأيهم على أن لا يقيموا على أحد حداً في فرج استحلوه، بتأويل القرآن ولا قصاص في دم استحلوه بتأويل القرآن. ولا يرد مال استحلوه بتأويل القرآن إلا أن يوجد شيء بعينه فيرد على صاحبه، وإن رأى أن يرد على زوجها وأن يحل من افترى عليها، انتهى.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الباغي م: (أتلف عن تأويل فاسد، والفاسد منه) ش: أي من التأويل م: (ملحق بالصحيح) ش: أي بالتأويل الصحيح م: (إذا ضمت إليه المنعة في حق الدفع) ش: أي إلى التأويل يتعلق بقوله: ملحق بالصحيح، أي في دفع الضمان، بيانه أن الخوارج يستحلون دماء المسلمين بالمعصية صغيرة كانت أو كبيرة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [الجن: 23] (الجن: الآية 23) ، وتأويلهم هذا وإن كان فاسداً لكن اعتبر في دفع الضمان لما روي عن الزهري آنفاً.
وقال في " تحفة الفقهاء ": هذا إذا أتلفوا في حال المنعة، فأما إذا أتلفوا مالهم ونفوسهم قبل ظهور المنعة أو بعد الانهزام فإنهم يضمنون لأنهم من أهل دار الإسلام، ثم قال: هذا جواب الحكم، وبمعنى أن يضمن كل واحد من الفريقين للآخر ما أتلف من الأنفس والأموال؛ لكونها معصومة في هذه الحالة إلا بطريق الدفع م: (كما في منعة أهل الحرب وتأويلهم) ش: يعني بعدما أسلموا.(7/308)
وهذا لأن الأحكام لا بد فيها من الإلزام أو الالتزام، ولا التزام لاعتقاد الإباحة عن تأويل، ولا إلزام لعدم الولاية لوجود المنعة، والولاية باقية قبل المنعة، وعند عدم التأويل ثبت الالتزام اعتقادا. بخلاف الإثم لأنه لا منعة في حق الشارع، إذا ثبت هذا فنقول قتل العادل الباغي قتل بحق فلا يمنع الإرث. ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قتل الباغي العادل أن التأويل الفاسد إنما يعتبر في حق الدفع. والحاجة هاهنا إلى استحقاق الإرث فلا يكون التأويل معتبرا في حق الإرث. ولهما فيه أن الحاجة إلى دفع الحرمان أيضا، إذ القرابة سبب الإرث فيعتبر الفاسد فيه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أشار به إلى قوله: والباغي إذا قتل العادل لا يجب الضمان عندنا ويأثم م: (لأن الأحكام) ش: أي أحكام الشرع في حق الدنيا م: (لا بد فيها من الإلزام أو الالتزام) ش: يعني الباغي م: (ولا التزام لاعتقاد الإباحة عن تأويل) ش: أي الالتزام منه لتأويله الفاسد أن يقال: العادل مباح، ويجوز إراقة دمه لأن من عصى الله صغيرة أو كبيرة فقد كفر م: (ولا إلزام لعدم الولاية) ش: أي ولا إلزام على الباغي لعدم ولاية الإمام م: (لوجود المنعة) ش: أي منعة أهل البغي الحرب، بخلاف ما قبل ظهور المنعة.
م: (والولاية) ش: جواب عن قول الثاني اعتباراً بما قبل المنعة، أي ولاية الإمام م: (باقية قبل المنعة) ش: عليهم كما كانت م: (وعند عدم التأويل ثبت الالتزام اعتقاداً) ش: أي من حيث الاعتقاد.
م: (بخلاف الإثم) ش: حيث يثبت سواء كانت لهم منعة أو لم تكن م: (لأنه لا منعة في حق الشارع) ش: ومنعتهم في حق الشارع كالمنعة فلا يكون وجود منعتهم دفعاً للإثم م: (إذا ثبت هذا) ش: أشار به إلى قوله: لأن الأحكام لا بد فيها ... إلى آخره، م: (فنقول: قتل العادل الباغي قتل بحق فلا يمنع الإرث) ش: لأن حرمان الإرث جزاء فعل محظور فلا يعطى بمباح.
م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قتل الباغي العادل: أن التأويل الفاسد إنما يعتبر في حق الدفع) ش: أي في حق دفع الضمان م: (والحاجة هاهنا إلى استحقاق الإرث فلا يكون التأويل معتبراً في حق الإرث) ش: حاصل هذا الكلام أن التأويل الفاسد يعتبر في حق دفع لا في حق استحقاق الميراث فيحرم الإرث؛ لأنه قتله بغير حق.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد م: (فيه) ش: أي في قتل الباغي العادل م: (أن الحاجة إلى دفع الحرمان أيضاً) ش: أي في دفع الحرمان عن الإرث أيضاً يعني كما أن تأويله يعتبر في حق دفع الضمان يعتبر أيضاً في دفع الحرمان أيضاً م: (إذ القرابة) ش: أي لأن القرابة م: (سبب الإرث فيعتبر الفاسد) ش: أي التأويل الفاسد م: (فيه) ش: أي في دفع الحرمان من شرطه استثناء من قوله: يعتبر الفاسد.(7/309)
إلا أن من شرطه بقاؤه على ديانته، فإذ قال: كنت على الباطل لم يوجد الدافع فوجب الضمان. قال ويكره بيع السلاح من أهل الفتنة وفي عساكرهم؛ لأنه إعانة على المعصية، وليس ببيعه بالكوفة من أهل الكوفة ومن لم يعرفه من أهل الفتنة بأس؛ لأن الغلبة في الأمصار لأهل السلاح، وإنما يكره بيع نفس السلاح لا بيع ما لا يقاتل به إلا بصنعة، ألا ترى أنه يكره بيع المعازف ولا يكره بيع الخشب، وعلى هذا الخمر مع العنب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إلا أن من شرطه) ش: أي من شرط الإرث م: (بقاؤه) ش: أي بقاء الباغي م: (على ديانته) ش: يكون مصراً على دعواه، فإذا رجع فقد بطلت ديانته وهو معنى قوله م: (فإذا قال: كنت على الباطل لم يوجد الدافع) ش: أي الضمان م: (فوجب الضمان) ش: لعدم الدافع.
م: (قال: ويكره بيع السلاح من أهل الفتنة وفي عساكرهم) ش: أي عساكر أهل الفتنة م: (لأنه إعانة على المعصية) ش: قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] (المائدة: الآية 2) م: (وليس بيعه) ش: أي بيع السلاح م: (بالكوفة من أهل الكوفة ومن لم يعرفه من أهل الفتنة بأس) ش: بالرفع اسم ليس م: (لأن الغلبة في الأمصار لأهل السلاح) ش: وأهل الفتنة فيها قليل، وتقييده بالكوفة باعتبار أن البغاة خرجوا منها أولاً فالحكم في غيرها كذلك.
م: (وإنما يكره بيع نفس السلاح لا بيع ما لا يقاتل به إلا بصنعة) ش: متجددة، فإنه لا بأس من أهل الفتنة.
وأوضح ذلك بقوله م: (ألا ترى أنه يكره بيع المعازف) ش: جمع معزف بكسر الميم وهو ضرب من الطنابير تتخذ به أهل اليمن م: (ولا يكره بيع الخشب) ش: أي الذي يتخذ منه المعزف م: (وعلى هذا) ش: أي الحكم م: (الخمر مع العنب) ش: حيث لا يجوز بيع الخمر ويجوز بيع عصير العنب.
والفرق لأبي حنيفة بين كراهية بيع السلاح من أهل الفتنة وعدم كراهة بيع العصير ممن يتخذه خمراً أن الضرر هنا يرجع إلى العامة وهناك يرجع إلى الخاصة.
فروع: يكره أن يبعث برؤوس البغاة أو الحربي إلى الأماكن إلا إذا كان في ذلك وهن لهم فلا بأس به.
قتلى أهل العدل في الحرب شهداء يفعل بهم ما يفعل بالشهداء، وقتلى أهل البغي لا يصلى عليهم سواء كانت لهم فئة أو لا، هو الصحيح، ولكن يغسلون ويكفنون. وإذا أغاروا مستدلين بنصوص غير متأولين على مدينة وقاتلوا وقتلوا الأنفس وأخذوا أموالاً أخذوا بالجميع، وكذا إذا خرج جماعة لا منعة لهم، ولا خلاف فيه لأهل العلم.
ولو استعان أهل البغي بأهل الحرب وأودع أهل البغي أهل الحرب فأعانهم أهل الحرب على(7/310)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أهل العدل يسبون ويقتلون لأنهم نقضوا العهد.
ولو طلب أهل البغي الموادعة أجيبوا إن كان خيراً لنا، ولا يأخذ الإمام منهم شيئاً.
ولو نصب أهل البغي قاضياً للقضاء إن كان من أهل العدل يجوز بلا خلاف، وإن كان ممن لا يستحل لا يجوز عندنا ويجوز عند الشافعي وأحمد.
ولو كتب قاضيهم إلى قاضي أهل العدل كتاباً يقبل بلا خلاف، والأولى أن لا يقبل كسراً لمواليهم. وعندنا كل متسلط إذا تم تسليطه يصير سلطاناً فيصح تقليده القضاء ويصح منه ما يصح من السلطان العادل، وبالله الرحمة، وهو ولي التوفيق.(7/311)
كتاب اللقيط اللقيط سمي باعتبار مآله، لما أنه يلقط، والالتقاط مندوب إليه لما فيه من إحيائه. وإن غلب على ظنه ضياعه فواجب. قال: اللقيط حر لأن الأصل في بني آدم إنما هو الحرية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب اللقيط]
[حكم الإ لتقاط]
م: (كتاب اللقيط) ش: أي هذا الكتاب في بيان أحكام اللقيط. والمناسبة بين كتاب اللقيط وكتاب السير من حيث إن فيهما عرضة الفوات للأنفس والأموال. وقدم اللقيط على اللقطة لما أن ذكر النفس مقدم، وهو على وزن فعيل بمعنى مفعول من اللقط، وهو الرفع. معناه لغة: ما يلقط، أي ما يرفع من الأرض، وفي الشرع: اللقيط اسم المولود طرحه أهله خوفاً من العيلة أو فراراً من تهمة الزنا.
قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (اللقيط سمي باعتبار مآله لما أنه يلقط) ش: أشار به إلى أنه في باب تسمية الشيء باعتبار ما يئول إليه، كما في قوله: «من قتل قتيلاً فله سلبه» وكما في قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] (يوسف: الآية 36) م: (والالتقاط مندوب إليه) ش: أي رفع اللقيط من الأرض مستحب م: (لما فيه من إحيائه) ش: لأنه على شرف الهلاك وإحياء الحي بدفع سبب الهلاك، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] (المائدة: الآية 32) .
ولهذا كان رفعه أفضل من تركه لما في تركه من ترك الرحمة على الصغار، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يرحم صغيرنا....» الحديث، وفي رفعه إظهار الشفقة على الصغار، وهو أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله، والتعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، كذا في " المبسوط ".
م: (وإن غلب على ظنه ضياعه) ش: أي على ظن الشخص ضياع اللقيط بتركه م: (فواجب) ش: أي التقاطه حينئذ واجب.
وقال الشافعي ومالك وأحمد: رفعه فرض كفاية إلا إذا خاف هلاكه، فحينئذ فرض عين؛ لإجماع الأمة، كمن رأى أعمى يقع في البئر يفرض عليه حفظه عن الوقوع، وتمسكوا على وجوبه بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] الآية (المائدة: الآية: 2) .
م: (قال: اللقيط حر) ش: أي في جميع أحكامه حتى يحد قاذفه، ولا يحد قاذف أمه، ذكره في شرح الطحاوي، ولا خلاف أنه حر إلا ما روي عن النخعي شاذاً أنه قال: إن رفعه حبسه فهو حر.
وإن أراد أن يسترقه فهو له، وهذا مخالف لإجماع العلماء، م: (لأن الأصل في بني آدم إنما هو الحرية) ش: إذ الإنسان أولاد آدم وحواء - صلوات الله عليهما وسلامه - وكانا حرين، ولأن(7/312)
وكذا الدار دار الأحرار، ولأن الحكم للغالب، ونفقته في بيت المال هو المروي عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأنه مسلم عاجز عن التكسب، ولا مال له ولا قرابة فأشبه المقعد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرق بعارض الكفر، والأصل عدم العارض.
م: (وكذا الدار دار الأحرار) ش: أي الدار دار الإسلام، فيمن كان فيها يكون حراً باعتبار الظاهر م: (ولأن الحكم للغالب) ش: أي لأن الغالب فيمن سكن دار الإسلام الأحرار والعبرة للغالب م: (ونفقته في بيت المال) ش: أي إذا لم يكن معه مال م: (هو المروي عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ش: أما الرواية عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجها مالك في " الموطأ " في كتاب الأقضية عن ابن شهاب الزهري عن سنين أبو جميلة - رجل من بني سليم - أنه وجد منبوذاً في زمن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: فجئت إلى عمر وقال: ما حملك على حمل هذه التسمية؟ فقال: وجدتها ضائعة فأخذتها.
فقال له عريفه: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح، قال: كذلك، قال: نعم، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اذهب به فهو حر وعلينا نفقته.
ورواه عبد الرزاق في " مصنفه ": أخبرنا مالك عن ابن شهاب حدثني أبو جميلة أنه وجد منبوذاً على عهد عمر بن الخطاب فأتاه به فاتهمه عمر، فأثني عليه خيراً، فقال عمر: هو حر وولاؤه لك، ونفقته من بيت المال.
ورواه الطبراني في " معجمه " من طريق عبد الرزاق، ورواه الطبراني في كتاب " العلل " وزاد فيه زيادة حسنته، وهي أبو جميلة أدرك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحج حجة الوداع.
قلت: اسمه سنين بضم السين المهملة وفتح النون وسكون الياء قبل آخر الحروف، وفي آخره نون، وكنيته أبو جميلة بفتح الجيم. وقال: ولولا أدرك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: إنه شهد معه حنيناً، وحدث عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وروى عنه ابن شهاب يعني محمد بن مسلم الزهري.
وأما الرواية عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجها عبد الرزاق، حدثنا سفيان الثوري عن الزهري عن ثابت عن ذهب بن أوس عن تميم أنه وجد لقيطاً فأتي به إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فألحقه بأمه انتهى. وذكره الكاكي فقال: عن علي أنه قال: نفقته في بيت المال، وولاؤه للمسلمين.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن اللقيط م: (مسلم عاجز عن التكسب، ولا مال له ولا قرابة فأشبه المقعد(7/313)
الذي لا مال له ولا قرابة. ولأن ميراثه لبيت المال، والخراج بالضمان، ولهذا كانت جنايته فيه،
والملتقط متبرع في الإنفاق عليه لعدم الولاية إلا أن يأمره القاضي به ليكون دينا عليه لعموم الولاية. قال: فإن التقطه رجل لم يكن لغيره أن يأخذه منه؛ لأنه ثبت حق الحفظ له ولسبق يده عليه فإن ادعى مدع أنه ابنه فالقول قوله، معناه إذا لم يدع الملتقط نسبه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذي لا مال له ولا قرابة) ش:، والجامع بينهما الإسلام، والعجز عن الاكتساب وعدم المال وعدم من يجب عليه نفقته م: (ولأن ميراثه) ش: أي ميراث اللقيط م: (لبيت المال) ش: لعدم وارثه م: (والخراج بالضمان) ش: الخراج ما يخرج من غلة الأرض أو الغلام، يقال: خراج غلامه إذا اتفقا على ضريبة يؤديها إليه في وقت معلوم، ومعنى الخراج بالضمان أي الغلة سبب إن ضمنته لعين أن ميراث اللقيط لما كان لبيت المال كان مؤنة نفقته في بيت المال؛ لأن الغرم بإزاء الغنم.
وقال الأكمل: قوله: الخراج بالضمان أي له غنيمته وعليه غرمه، أي على العبد المعيب للمشتري قبل ولائه قبل الرد في ضمانه م: (ولهذا كانت جنايته فيه) ش: أي ولأجل كون الخراج بالضمان، وكانت جناية اللقيط في بيت المال.
[الإنفاق علي اللقيط]
م: (والملتقط متبرع في الإنفاق عليه) ش: أي على اللقيط م: (لعدم الولاية) ش: أي لعدم ولايته في تقصير حقه فيكون متبرعاً م: (إلا أن يأمره القاضي به) ش: أي بالإنفاق عليه م: (ليكون) ش: ما أنفقه عليه م: (ديناً عليه لعموم الولاية) ش: أي ولاية القاضي، وإن أمره القاضي بذلك مطلقاً، ولم يقل على أن يكون ديناً عليه. ذكر في " مختصر العصام " أنه يكون ديناً عليه، ويرجع عليه إذا كبر، ذكر في " الكافي " أنه لا يكون ديناً عليه، ولا يرجع عليه. وهذا أصح لأن الأمر المطلق محتمل قد يكون للحث في إتمام ما شرع فيه من التبرع.
وقد يكون للرجوع، وإنما يزول هذا الاحتمال إذا شرط أن يكون ديناً عليه، وإن كان مع اللقيط مال أو دابة لم ينفق عليه من ماله بأمر القاضي؛ لأن اللقيط حر، وما في يده فهو له لظاهر ما ذكره في فتاوي الولوالجي.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن التقطه رجل لم يكن لغيره أن يأخذه منه لأنه ثبت حق الحفظ له ولسبق يده عليه) ش: أي على اللقيط، فكان أولى به كما في سائر المباحات م: (فإن ادعى مدع أنه ابنه، فالقول قوله) ش: هذا لفظ القدوري.
وقال المصنف: م: (معناه) ش: أي معنى كلام القدوري م: (إذا لم يدع الملتقط نسبه) ش: أي نسب اللقيط. أما إذا ادعى الملتقط نسبه فهو أولى لأنهما استويا في الدعوى، ولأحدهما يد وصاحب اليد أولى.
وكذا إذا كان الملتقط ذمياً فهو أولى من المسلم الخارج حتى إذا كان في يد ذمي يدعي أنه ابنه،(7/314)
وهذا استحسان، والقياس أن لا يقبل قوله؛ لأنه يتضمن إبطال حق الملتقط. وجه الاستحسان أنه إقرار للصبي بما ينفعه؛ لأنه يتشرف بالنسب ويعير بعدمه، ثم قيل يصح في حقه دون إبطال يد الملتقط، وقيل يبتنى عليه بطلان يده. ولو ادعاه الملتقط قيل يصح قياسا واستحسانا والأصح أنه على القياس والاستحسان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأقام أحد من المسلمين أنه ابنه فهو للذمي بحكم يده.
وأما لو كان مدعيا اللقيط خارجين أحدهما مسلم والآخر ذمي، وأقاما بينة من المسلمين يقضى للمسلم، فالحاصل أن الترجيح في باب النسب أو على الأمر باليد كذا في " الذخيرة " و " الإيضاح ".
وقال الشافعي وأحمد: الترجيح بقول القافة م: (وهذا استحسان) ش: أي هذا الذي ذكره القدوري استحسان م: (والقياس أن لا يقبل قوله؛ لأنه يتضمن إبطال حق الملتقط) ش: من حق اللقيط وما لعامة المسلمين من الولاء، فلا يقبل من غير بينته م: (وجه الاستحسان أنه إقرار للصبي بما ينفعه) ش: من حيث وجوب المنفعة والحضانة فقبل قوله م: (لأنه) ش: أي لأن اللقيط م: (يتشرف بالنسب ويعير بعدمه) ش: أي بعدم النسب.
م: (ثم قيل: يصح في حقه) ش: هذه إشارة، إلى خلاف المشايخ في ادعاء الخارج أن اللقيط ابنه، فقال بعضهم: يصح ادعاؤه في حق النسب يعني في حق ثبوته في إبطال يد الملتقط، وهذا معنى قوله م: (دون إبطال يد الملتقط) ش: وقال بعضهم: يقبل قوله فيهما جميعاً.
وهو معنى قوله م: (وقيل: يبتنى عليه) ش: أي على ثبوت النسب م: (بطلان يده) ش: أي يد الملتقط؛ لأن الأب أحق بالولد من الأجنبي، ويجوز أن يثبت الشيء ضمناً وإن لم يثبت قصداً، كما يثبت الإرث بشهادة القابلة على الولادة حكماً.
م: (ولو ادعاه الملتقط) ش: أي ولو ادعى نسب الملتقط وهو الذي التقطه، وهذا ذكره المصنف تفريعاً لمسألة القدوري م: (قيل: يصح) ش: أي ادعاؤه م: (قياساً واستحساناً) ش: يعني من حيث القياس ومن حيث الاستحسان؛ لأنه لم تبطل دعواه حق أحد، ولا منازع له في ذلك. م: (والأصح أنه على القياس والاستحسان) ش: أي على اختلاف حكم القياس مع حكم الاستحسان، يعني في القياس لا يصح، وفي الاستحسان يصح كما في دعوى غير الملتقط. ولهذا لم يذكرهما الكرخي.
وإنما ذكرهما الطحاوي فقال: القياس أن لا تصح دعواه إلا ببينته، وفي الاستحسان تصح بغير بينته.
ثم اعلم أن وجه القياس هنا غير وجه القياس في دعوى الأجنبيين، بيانه أن دعوى الأجنبيين(7/315)
وقد عرف في الأصل وإن ادعاه اثنان ووصف أحدهما علامة في جسده فهو أولى به؛ لأن الظاهر شاهد له. لموافقة العلامة كلامه وإن لم يصف أحدهما علامة فهو ابنهما لاستوائهما في السبب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إنما لا تصح قياساً للزوم بطلان حق الملتقط، ودعوى الملتقط إنما لا تصح قياساً لتناقض كلامه؛ لأنه لما زعم أنه لقيط كان نافياً نسبه لأن ابنه لا يكون لقيطاً في يده، ثم إنه لما ادعى أنه ابنه كان مناقضاً لا محالة، وجه الاستحسان ظاهر وهو أن فيه بقاء الصبي من حيث وجوب النفقة والحضانة وثبوت النسب ويحصل له أسرى بذلك وفاء.
قيل: من التناقض في وجه القياس ليس بمعتبر لاشتباه الحال، فربما يكون الصبي منبوذاً بقبض الحوارث، فيظن الملتقط أنه لقيط، ثم تبين أنه ولده فلا تناقض إذاً، ولئن سلمنا التناقض ظاهراً فالتناقض لا يمنع ثبوت النسب كالملاعن إذا كسب نفسه.
م: (وقد عرف في الأصل) ش: أي قد عرف حكم هذا في " المبسوط "، وهو ما ذكرناه م: (وإن ادعاه اثنان) ش: أى وإن ادعى اللقيط شخصان من خارج م: (ووصف أحدهما علامة في جسده) ش: أي في جسد اللقيط، مثل ثيابه أو سلعته أو أثر لذلك ونحو ذلك م: (فهو أولى به) ش: أي الذي وصف علامة أولى باللقيط م: (لأن الظاهر شاهد له، لموافقة العلامة كلامه) ش: فيجب على اللقيط دفعه إليه.
وقال الشافعي وأحمد وأبو الليث وأبو ثور والأوزاعي: يعتبر قول القافة، وإذا اشتبه على القافة أقرع، وكذا إذا تعارضت بينتاهما لحديث المدلجي. وقال مالك: لا يثبت النسب ببينة، أو يكون لدعوى أحدكم بل عرف أنه لا يعيش له الولد فزعم أنه رماه؛ لأنه سمع إذا طرح نفس عاش، ونحو ذلك مما يدل على صدقه، وقال أشهب: يلحق بمجرد الدعوى إذا ادعاه ملتقطه أو غيره، إلا إن بان كذبه كذا في جواهر المالكية.
م: (وإن لم يصف أحدهما علامة فهو ابنهما لاستوائهما في السب) ش: وهو الدعوة لأنها سبب الاستحقاق في حق اللقيط، وقد مر خلاف الشافعي وأحمد في اعتبارهما قول القافة.
وإن كان المدعي أكثر من اثنين.
روي عن أبي حنيفة أنه جزاء إلى خمسة، ولا يلحق بأكثر من اثنين عند أبي يوسف، وبه قال أحمد في رواية، وقال محمد: يلحق بأكثر من ثلاثة، وبه قال أحمد في رواية. في " الإيضاح ": ولو وافق بعض القافة وخالف البعض سقط الترجيح.
وفي " الذخيرة ": وهذا بخلاف في اللقطة لو تنازعا فيها ووصف أحدهما ووافق من حيث لا يرجح صاحب الوصف، بل إذا انفرد الواصف بحل الملتقط دفعها عليه، ولا يجب وهنا يلزمه(7/316)
ولو سبقت دعوى أحدهما فهو ابنه؛ لأنه ثبت حقه في زمان لا منازع له فيه، إلا إذا أقام الآخر البينة؛ لأن البينة أقوى.
وإذا وجد في مصر من أمصار المسلمين، أو في قرية من قراهم فادعى ذمي أنه ابنه ثبت نسبه منه وكان مسلما، وهذا استحسان؛ لأن دعواه تتضمن النسب، وهو نافع للصغير، وإبطال الإسلام الثابت بالدار وهو يضره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دفعه، والفرق أن في فصل اللقيط، ألا ترى أنه لو انفرد بدعوى اللقيط قضي له به كما لو أقام البينة فمعتبر الوصف لترجح سبب الاستحقاق.
وأما في اللقيط فالدعوى ليست بسبب الاستحقاق حتى يترجح بالوصف، فلو اعتبر الوصف اعتبر أصل الاستحقاق، والوصف لا يصلح سبباً له فافترقا.
م: (ولو سبقت دعوى أحدهما فهو ابنه؛ لأنه ثبت حقه في زمان لا منازع له فيه إلا إذا أقام الآخر البينة؛ لأن البينة أقوى) ش: لتأكد دعواه بها، وفي " الشامل " ادعته امرأة أنه ابنها لم يقبل إلا ببينة لأن في دعوى المرأة حمل النسب على الزوج، وإذا ادعته امرأتان وأقامتا البينة فهو ابنهما عند أبي حنيفة في رواية أبي حفص.
وعندهما لا يكون ابن واحدة منهما، وهو رواية أبي سليمان عن أبي حنيفة أيضاً، وفي وجيز الشافعية، ولو ازدحم اثنان قدم من سبق فإن استويا قدم الغني على الفقير، والبلدي على القروي والقروي على البدوي، وكل ذلك ينظر للصبي، وظاهر العدالة يقدم على المستور في أحسن الوجهين، فإن تساويا من كل وجه أقرع بينهما، وسلم إلى من خرجت قرعته.
[الرجل يلتقط اللقيط فيدعيه النصراني]
م: (وإذا وجد) ش: أي اللقيط م: (في مصر من أمصار المسلمين أو في قرية من قراهم فادعى ذمي أنه ابنه ثبت نسبه منه وكان مسلماً) ش: هذا لفظ القدوري في مختصره.
وقال المصنف: م: (وهذا استحسان) ش: والقياس أنه لا يثبت نسبه من الذمي؛ لأن المنبوذ في دار الإسلام محكوم عليه بإسلامه، بدليل الصلاة عليه إذا مات ودفنه في مقابر المسلمين، وإذا ثبت إسلامه بحكم دار الإسلام لا يصدق ذمي على دعواه؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، وأشار إلى وجه الاستحسان بقوله م: (لأن دعواه تتضمن النسب وهو نافع للصغير) ش: من حيث وجوب النفقة والحضانة. م: (وإبطال الإسلام) ش: أي يتضمن دعواه أيضاً إبطال الإسلام م: (الثابت بالدار) ش: أي بدار الإسلام م: (وهو يضره) ش: أي وإبطال الإسلام يضر اللقيط. ولا يمنع أن يكون الذمي ولد مسلم، ولهذا يكون ولده مسلماً إذا أسلمت أمه، وقال الكرخي في " مختصره "، وقال ابن سماعة عن محمد في " النوادر " في الرجل يلتقط اللقيط فيدعيه النصراني، قال: فهو ابنه وهو مسلم، وإن كان عليه رأي الإسلام فإني أجعله مسلماً وأثبت نسبته من(7/317)
فصحت دعوته فيما ينفعه دون ما يضره، وإن وجد في قرية من قرى أهل الذمة، أو في بيعة أو كنيسة كان ذميا، وهذا الجواب فيما إذا كان الواجد ذميا رواية واحدة. وإن كان الواجد مسلما في هذا المكان أو ذميا في مكان المسلمين اختلفت الرواية فيه. ففي رواية كتاب اللقيط اعتبر المكان لسبقه، وفي كتاب الدعوى في بعض النسخ اعتبر الواجد، وهو رواية ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لقوة اليد، ألا ترى أن تبعية الأبوين فوق تبعية الدار حتى إذا سبي مع الصغير أحدهما يعتبر كافرا، وفي بعض نسخه اعتبر الإسلام نظرا للصغير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النصراني؛ لأن ذلك لا يضره، وينفق عليه، قال: وإن كان عليه زي الشرك فهو ابنه وهو نصراني على دينه، وذلك أن يكون في رقبته صليب وعليه قميص ديباج ووسط رأسه مجزوز إلى هنا لفظه.
م: (فصحت دعوته) ش: إلى دعوة الذمي م: (فيما ينفعه) ش: أي في الشيء الذي ينفع اللقيط وهو الإسلام م: (دون ما يضره) ش: وهو إبطال الإسلام م: (وإن وجد) ش: أي اللقيط م: (في قرية من قرى أهل الذمة، أو في بيعة) ش: أي وجد في بيعة اليهود م: (أو كنيسة) ش: أي أو وجد في كنيسة النصارى م: (كان) ش: أي الملتقط م: (ذمياً) ش: لأنه لما وجد في مواضع مختصة بهم كان ظاهراً من حاله أنه منهم م: (وهذا جواب فيما إذا كان الواجد ذمياً رواية واحدة) ش: من غير خلاف فيها. م: (وإن كان الواجد مسلماً) ش: في حيز الجواز أن يكون لغيرهم ولهذا يحكم منبوذ وجد في دار الحرب لدلالة الظاهر، وإن جاز أن يكون ولد مسلم تاجر أو أسير وهو الجواب أي الجواب الذي ذكر القدوري.
وهو قوله كان ذمياً؛ لأن لفظه في مختصره م: (في هذا المكان) ش: يعني في البيعة والكنيسة م: (أو ذمياً) ش: الواجد ذمياً م: (في مكان المسلمين اختلفت الرواية فيه) ش: أي في هذا الفصل م: (ففي رواية كتاب اللقيط) ش: يعني ففي رواية كتاب اللقيط من " المبسوط " م: (اعتبر المكان لسبقه) ش: أي لسبق المكان على يد الواجد، والسبق من أسباب الترجيح م: (وفي كتاب الدعوى) ش: من " المبسوط " م: (في بعض النسخ) ش: ويروى في بعض نسخه أي في بعض نسخ الدعوى من " المبسوط " م: (اعتبر الواجد وهو رواية ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لقوة اليد) ش: لأنه كالمباحات التي تستحق سبق اليد، فكان اعتبار الواجد أولى.
ثم أوضح ذلك بقوله م: (ألا ترى أن تبعية الأبوين فوق تبعية الدار حتى إذا سبي مع الصغير أحدهما) ش: أي أحد الأبوين م: (يعتبر كافراً) ش: لا مسلماً م: (وفي بعض نسخه) ش: أي في بعض نسخ الدعوى من " المبسوط م: (اعتبر الإسلام نظراً للصغير) ش: لأنه ينفعه، والكفر يضره، وقال الشافعي إن كان يوجد في بلد المسلمين وفيه مسلمون أو في بلد كان لهم أخذ الكفار(7/318)
ومن ادعى أن اللقيط عبده لم يقبل منه لأنه حر ظاهرا إلا أن يقيم البينة أنه عبده، فإن ادعى عبد أنه ابنه ثبت نسبه منه؛ لأنه ينفعه. وكان حرا لأن المملوك قد تلد له الحرة فلا تبطل الحرية الظاهرة بالشك. والحر في دعوته اللقيط أولى من العبد، والمسلم أولى من الذمي ترجيحا لما هو الأنظر في حقه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فهو مسلم، وإن وجد في بلد فتحه المسلمون، ولا مسلم فيه أو في بلد الكفار ولا مسلم فيه فهو كافر. وإن وجد في بلد الكفار وفيه مسلمون فهو مسلم، وقيل هو كافر، وبه قال أحمد ومالك اعتبر المكان، وأشهب اعتبر الواجد في مكان أهل الكفر ترجيحاً للإسلام م: (ومن ادعى أن اللقيط عبده لم يقبل منه) ش: هذا لفظ القدوري في مختصره. وقال الكاكي: يجب أن يقيد هذا بقيدين أي ادعى الحر المسلم، وقيد المسلم؛ لأنه إذا كان المدعي ذمياً ففي قبول نسبه تفصيل إن شهد مسلمان تقبل، ويجعل اللقيط حراً مسلماً، وإن شهد كافران لا يقبل، وقبل الجزية لأن المدعي إذا كان عبداً وأضاف ولادته إلى امرأته الأمة فإن فيه خلافاً بين أبي يوسف ومحمد، فذكر في " الذخيرة " أن الولد حر عند محمد، وعبد عند أبي يوسف.
م: (لأنه حر ظاهراً) ش: لأن الأصل في بني آدم الحرية؛ لأن الناس كلهم أولاد آدم وحواء صلوات الله عليهما وسلامه، وهما كانا مسلمين حرين فكان أولادهما أحراراً تبعاً لهما، والرق بعارض الكفر، فكأن الحرية هي الظاهر والحكم بالظاهر إلى أن يثبت خلافه بالبينة وهو معنى قوله م: (إلا أن يقيم البينة) ش: أي المدعي الذي ادعى اليتيم م: (أنه عبده) ش: فحينئذ يكون عبده، فإن قيل: البينة لا تقوم إلا على خصم منكر، ولا خصم هنا، أجيب: بأن الملتقط خصم لأنه أحق بحقه، ولا تزول يده إلا بالبينة م: (فإن ادعى عبد أنه ابنه ثبت نسبه منه) ش: هذا لفظ القدوري في مختصره.
وقال المصنف: م: (لأنه ينفعه) ش: أي لأن النسب ينفعه لأنه تيسر فيه م: (وكان حراً) ش: من تتمة كلام القدوري قال المصنف: م: (لأن المملوك قد تلد له الحرة فلا تبطل الحرية الظاهرة بالشك) ش: حاصل الكلام أن المملوك قد تلد له الحرة، فلا يكون عبداً وقد تلد له الأمة فيكون عبدا، والظاهر في بني آدم الحرية، فلا يبطل بالشك م: (والحر في دعوته اللقيط أولى من العبد) ش: الحر مرفوع على أنه مبتدأ وقوله: أولى خبره.
وقوله: في دعوته مصدر مضاف إلى فاعله، وقوله: اللقيط بالنصب مفعول قوله من العبد أي من دعوى العبد م: (والمسلم أولى من الذمي) ش: أي ودعوى المسلم أولى من دعوى الذمي إذا ادعى كل واحد منهما أن اللقيط ابنه م: (ترجيحاً) ش: أي لأجل الترجيح م: (لما هو الأنظر في حقه) ش: أي في حق اللقيط، إنما ذكر المصنف هذا تفريعا لما قاله القدوري، ثم كون المسلم أولى من الذمي مما إذا ادعيا وهما خارجان، أما إذا كان أحدهما ذا اليد كان هو أولى.(7/319)
وإن وجد مع اللقيط مال مشدود عليه فهو له اعتبارا للظاهر، وكذا إذا كان مشدودا على دابة وهو عليها لما ذكرنا، ثم يصرفه الواجد إليه بأمر القاضي؛ لأنه مال ضائع، وللقاضي ولاية صرف مثله إليه، وقيل يصرفه بغير أمر القاضي، لأن اللقيط ظاهر وله ولاية الإنفاق، وشراء ما لا بد منه كالطعام والكسوة لأنه من الإنفاق له، ولا يجوز تزويج الملتقط، لانعدام سبب الولاية من القرابة والملك والسلطنة. ولا تصرفه في مال الملتقط اعتبارا بالأم وهذا لأن ولاية التصرف لتثمير المال، وذلك إنما يتحقق بالرأي الكامل والشفقة الوافرة والموجودة في كل واحد منهما أحدهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[وجد مع اللقيط مال مشدود عليه]
م: (وإن وجد مع اللقيط مال مشدود عليه فهو له اعتبارا للظاهر) ش: أي لظاهر يده لكونه من أهل الملك لكونه حرا، فيكون ما في يده له م: (وكذا) ش: أي وكذا يكون اللقيط م: (إذا كان) ش: أي المال م: (مشدودا على دابة وهو عليها) ش: أي اللقيط على الدابة م: (لما ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله اعتبارا للظاهر م: (ثم يصرفه الواجد إليه) ش: الملتقط، ينفق عليه من ذلك المال.
م: (بأمر القاضي) ش: لعموم ولاية القاضي، لأنه نصب قاضيا لأمور المسلمين، هو ظاهر الرواية م: (لأنه مال ضائع) ش: أي لأن المال الذي وجد مع هذا اللقيط مال ضائع م: (وللقاضي ولاية صرف مثله إليه) ش: أي مثل مال الضائع إلى اللقيط، وكذا لغيره بأمره، وبه قال الشافعي.
وقال ولو أنفقت بغير أمر القاضي ضمنه، وإن لم يكن بحاكم وأنفق بدون الإشهاد ضمن أيضا، وإن أنفق بالإشهاد ففيه قولان، قال في " الشامل " وهو مصدق في نفقة مثله.
م: (وقيل يصرفه) ش: أي يصرف الملتقط إلى اللقيط م: (بغير أمر القاضي، لأن) ش: أي لأن المال م: (اللقيط ظاهر) ش: أي بحسب الظاهر م: (وله) ش: أي ولملتقطه م: (ولاية الإنفاق وشراء ما لا بد منه) ش: عطف على قوله ولاية الإنفاق، أي وله شراء ما لا يستغي عنه م: (كالطعام والكسوة، لأنه من الإنفاق له) ش: أي لأن شراء ما لا بد منه من الإنفاق عليه. وبه قال أحمد م: (ولا يجوز تزويج الملتقط) ش: أي تزويجه اللقيط م: (لانعدام سبب الولاية) ش: للملتقط م: (من القرابة والملك والسلطنة) ش: ولم يوجد واحد منهما، فلا يثبت الولاية لعدم سببها م: (ولا تصرفه) ش: أي تصرف الملتقط م: (في مال الملتقط اعتبارا بالأم) ش: أي قياسا على عدم جواز تصرفها في مال ابنها.
م: (وهذا) ش: أي عدم جواز تصرف الملتقط في مال اللقيط م: (لأن ولاية التصرف لتثمير المال) ش: أي يكره بالفائدة والربح م: (وذلك) ش: أي تثمير المال م: (إنما يتحقق بالرأي الكامل والشفقة الوافرة والموجودة في كل واحد منهما) ش: أي من الأم والملتقط م: (أحدهما) ش: أي من(7/320)
قال: ويجوز أن يقبض له الهبة؛ لأنه نفع محض، ولهذا يملكه الصغير بنفسه إذا كان عاقلا وتملكه الأم ووصيها. قال: ويسلمه في صناعة؛ لأنه من باب تثقيفه وحفظ حاله. قال: ويؤاجره، قال العبد الضعيف: وهذا رواية القدوري في مختصره، وفي " الجامع الصغير ": لا يجوز أن يؤاجره، ذكره في الكراهية وهو الأصح، وجه الأول: أنه يرجع إلى تثقيفه، ووجه الثاني: أنه لا يملك إتلاف منافعه فأشبه العم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرأي الكامل والشفقة الوارفة، وفي الأم الشفقة الوافرة دون الرأي الكامل.
وفي الملتقط على العكس فلم يكن لهما ولاية التصرف في المال لعدم المقصود، وهما بخلاف الأب فإن له شفقة وافرة ورأياً كاملاً، فكان له التصرف في النفس والمال جميعاً.
م: (قال: ويجوز أن يقبض له الهبة) ش: أي يجوز للملتقط أن يقبض اللقيطة الهبة م: (لأنه) ش: أي ولأن قبض الهبة له م: (نفع محض) ش: لا شك فيه بلا خلاف م: (ولهذا) ش: أي ولكون الهبة نفعاً محضاً م: (يملكه الصغير بنفسه) ش: أي يملك قبض الهبة بيده م: (إذا كان عاقلا) ش: فلا يفعل ذلك ويميزه م: (وتملكه الأم) ش: أي تملك قبض الهبة لابنها م: (ووصيها) ش: أي ويملك أيضاً وصي الأم؛ لأنه نفع محض للصغير.
م: (قال: ويسلمه) ش: أي يسلم الملتقط اللقيط م: (في صناعة لأنه من باب تثقيفه) ش: التثقيف تقويم المعوج بالثقاف، وهو ما يسوي به الرماح ويستعار للتأديب والتهذيب م: (وحفظ حاله) ش: من الاشتغال باللعب وتعلم الفساد.
م: (قال: ويؤاجره) ش: أي يؤاجر الملتقط اللقيط؛ لأن فيه نفعاً له، ولفظ يؤاجره ليس على قانون اللغة، وإنما هو اصطلاح الفقهاء.
م: (قال العبد الضعيف) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهذا رواية القدوري في مختصره) ش: يعني جواز إجارة الملتقط اللقيط على رواية القدوري في مختصره.
م: (وفي " الجامع الصغير ": لا يجوز أن يؤاجره ذكره في الكراهية) ش: ذكره محمد في باب الكراهية م: (وهو الأصح) ش: أن المذكور في " الجامع الصغير " هو الأصح مما ذكره القدوري.
م: (وجه الأول) ش: أراد به رواية القدوري م: (أنه يرجع إلى تثقيفه) ش: وقد مر معناه آنفاً م: (ووجه الثاني) ش: أراد به رواية الجامع الصغير م: (أنه) ش: أي أن الملتقط م: (لا يملك إتلاف منافعه) ش: أي منافع اللقيط بالاستخدام.
م: (فأشبه العم) ش: أي فأشبه الملتقط العم، أي كما لا يجوز لعم إتلاف منافع الصغير(7/321)
بخلاف الأم؛ لأنها تملكه على ما نذكره في الكراهية، إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فكذلك لا يجوز للملتقط م: (بخلاف الأم لأنها تملكه) ش: يعني الأم تملك إتلاف منافع الصغير بالاستخدام بلا عوض.
فلأن يملكه بالإجارة بعوض أولى م: (على ما نذكره في الكراهية إن شاء الله تعالى) ش: أي في آخر كتاب الكراهية في مسائل متفرقة.(7/322)
كتاب اللقطة قال: اللقطة أمانة إذا أشهد الملتقط أنه يأخذها ليحفظها ويردها على صاحبها؛ لأن الأخذ على هذا الوجه مأذون فيه شرعا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب اللقطة]
[تعريف اللقطة]
م: (كتاب اللقطة) ش: أي هذا الكتاب في بيان أحكام اللقطة، اللقطة واللقيط متقاربان لفظاً ومعنى، وخص اللقيط بابن آدم واللقطة لغيره للتمييز بينهما، وقدم الأول لشرف بني آدم، وقيل: خص لفظ اللقطة بالمال؛ لأن الفعلة بضم الفاء وفتح العين نعت للمبالغة في الفاعلية، كالضحكة واللعنة.
واللقيط فعيل بمعنى المفعول، فاللقيط الدال على الفاعلية أولى بالمال، [....] على الإسناد الخبري كناية كحلوب وركوب كأنها تحلب نفسها وتركب عليه نفسها على وجه المبالغة لزيادة رغبة من رآها في الحلب والركوب.
أما الطفل المفقود لا يميل كل من رآه لرفعه لزيادة ضرر حاضر، فإن أمه نبذته قصد ضرر خاص، بخلاف اللقطة، فإن فيها نفعاً حاضراً، وفي " المغرب " اللقطة الشيء تجده ملقى فتأخذه، وقيل: عين المال الضائع عن صاحبه يلتقطه غيره، وعن الخليل اللقطة بفتح القاف للملتقط؛ لأن ما جاء على فعلة فهو اسم للفاعل، وسكون القاف المال الملتقط مثل الضحكة للذي يضحك منه، وعن الأصمعي وابن الأعرابي، والفراء بفتح القاف اسم للحال أيضاً م: (قال اللقطة أمانة إذا أشهد الملتقط أنه يأخذها ليحفظها ويردها على صاحبها) ش: هذا لفظ القدوري في مختصره، وشرط الإشهاد كما ترى بلا ذكر خلاف، حتى إذا ملك عنده وقد ترك الإشهاد يضمن.
وقال الطحاوي في " مختصره ": إن أبا حنيفة كان يقول: إن كان أشهد على ذلك فلا ضمان عليه فيها، وإن لم يشهد على ذلك كان عليه ضمانها، وقال أبو يوسف: للضمان عليه فيها أشهد على أنه أخذها ليعرف بها، وإن لم يشهد بعد أن يحلف بالله ما أخذها إلا ليعرف بها، ثم قال الطحاوي: وبه يأخذ، ولم يذكر الطحاوي قول محمد، وذكر " المتوسطة " و " المختلف " و " الحصة " و " فتاوى الولوالجي ".
وخلاصة الفتاوى قول محمد مع أبي حنيفة، وذكر في " التحفة " و " شرح الأقطع " قول محمد مع أبي يوسف ثم علل المصنف ما ذكره القدوري بقوله م: (لأن الأخذ) ش: أي أخذ اللقطة م: (على هذا الوجه) ش: أي على وجه الإشهاد عند الأخذ م: (مأذون فيه شرعاً) ش: لأجل الحفظ على صاحبها، وإذن الشارع ليس أقل من إذن المالك، فإذا أذن المالك فلا ضمان، فكذا(7/323)
بل هو الأفضل عند عامة العلماء. وهو الواجب إذا خاف الضياع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إذا أذن الشارع، ألا ترى أن الوديعة لا يجب فيها الضمان لوجود الإذن فكذا هذا، فإن قلت من أين يوجد إذن الشارع فيه.
قلت: من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أصاب لقطة فليشهد ذا عدل» . رواه إسحاق بن راهويه في " مسنده " عن عياض بن حمار عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فإنه يدل على أن له أن يأخذها بالإشهاد م: (بل هو الأفضل) ش: أي بل أخذ اللقطة أفضل قال في " الشامل ": أخذ اللقطة مندوب إليه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] (المائدة: الآية 2) .
وفي " المبسوط " اختلف في رفعها فالمتقشفة يقولون: لا يحل رفعها؛ لأنه أخذ مال الغير بغير إذنه، وهو حرام شرعاً، وهو مخالف للحديث، وإجماع الأئمة، وقال بعض التابعين: تحل رفعها ولكن الترك أفضل، وبه قال أحمد في الأصح، وأشار المصنف إلى أن رفعها أفضل: (عند عامة العلماء) .
ش: إذا وجدها بموضعه فله رفع ذلك وهو رواية عن أحمد واختارها أبو الخطاب الحنبلي، وعن الشافعي في قول إذا لم يأمن عليها رفعها واجب.
وقال مالك: إن كان شيئاً له مال فرفعه أحب إلي؛ لأن فيه حفظ مال المسلم، فكان أولى من وضعه وفي شرح الأقطع مستحب أخذ اللقطة، ولا يجب.
وقال في " النوازل ": أبو نصر محمد بن محمد بن سلام: ترك اللقطة أفضل في قول أصحابنا من رفعها ورفع اللقيط أفضل من تركه.
وقال في " خلاصة الفتاوى ": إن خاف ضياعها يعرض الرفع، وإن لم يخف لا يباح رفعها، وأجمع العلماء عليه، والأفضل الرفع في ظاهر المذهب، وقال في فتاوى الولوالجي اختلف العلماء في رفعها.
قال بعضهم: رفعها أفضل من تركها، وقال بعضهم: يحل رفعها وتركها أفضل، وقال الأسبيجابي في " شرح الطحاوي ": ولو رفعها ووضعها في مكانه ذلك فلا ضمان عليه في ظاهر الرواية.
وقال بعض مشايخنا: هذا إذا أخذ ولم يبرح عن ذلك المكان حتى وضع هناك، فأما إذا ذهب عن مكانه ذلك ثم أعادها ووضعها فإنه يضمن، وقال بعضهم: إذا أخذها ثم أعادها إلى ذلك المكان فهو ضامن ذهب عن ذلك المكان أو لم يذهب، وهذا خلاف ظاهر الرواية.
م: (وهو الواجب) ش: أي رفعها هو الواجب م: (إذا خاف الضياع) ش: أي ضياع اللقطة م:(7/324)
على ما قالوا، وإذا كان كذلك لا تكون مضمونة عليه، وكذلك إذا تصادقا أنه أخذها للمالك؛ لأن تصادقهما حجة في حقهما، فصار كالبينة، ولو أقر أنه أخذها لنفسه يضمن بالإجماع؛ لأنه أخذ مال غيره بغير إذنه وبغير إذن الشرع، وإن لم يشهد الشهود عليه، وقال الآخذ: أخذته للمالك وكذبه المالك يضمن عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا يضمن، والقول قوله لأن الظاهر شاهد له لاختياره الحسبة دون المعصية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(على ما قالوا) ش: أي المشايخ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] : (التوبة: الآية 71) ، فإذا كان وليه وجب عليه حفظ ماله، وفي " الذخيرة " يفترض رفعها إذا خاف ضياعها بتركه.
م: (وإذا كان كذلك) ش: وإذا كان أخذ اللقطة مأذونا فيه م: (لا تكون مضمونة عليه) ش: أي على الملتقط لجواز الأخذ له شرعا.
م: (وكذلك) ش: أي وكذا لا تكون اللقطة مضمونة م: (إذا تصادقا) ش: أي المالك والملتقط م: (أنه) ش: أي أن الملتقط م: (أخذها للمالك؛ لأن تصادقهما حجة في حقهما فصار) ش: أي فضل فيهما م: (كالبينة) ش: يعني أن البينة إذا وجدت عند الأخذ لا يجب الضمان، فكذا إذا وجد التصادق.
م: (ولو أقر أنه أخذها لنفسه يضمن بالإجماع) ش: ذكر هذا تفريعاً لمسألة القدوري. إنما قيد بالإجماع احترازاً عن الضمان الذي يلزم عند عدم الإشهاد عند أبي حنيفة؛ لأن فيه خلاف أبي يوسف م: (لأنه) ش: أي لأن الملتقط م: (أخذ مال غيره بغير إذنه وبغير إذن الشرع) ش: فكان عاصياً، وقال في " شرح الطحاوي ": أخذها ليأكلها لا ليردها على صاحبها ثم هلكت فإنه يضمن ولا يبرأ من ضمانها حتى يدفعها على صاحبها م: (وإن لم يشهد الشهود عليه) ش: أي عند الالتقاط.
م: (وقال الآخذ: أخذته للمالك وكذبه المالك يضمن عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا يضمن) ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد؛ لأن الإشهاد غير واجب بل هو مستحب، وذكر في شرح الأقطع قول محمد مثل قول أبي يوسف.
م: (والقول قوله) ش: أي قول الملتقط مع يمينه م: (لأن الظاهر) ش: أي ظاهر الحال م: (شاهد له) ش: أي للملتقط م: (لاختياره الحسبة دون المعصية) ش: أي لاختيار الملتقط وجه الله تعالى، والحسبة أي من الاحتساب كالعدة من الإعداد، وإنما قيد الحسبة عملاً لم ينو به وجه الله تعالى؛ لأن له حينئذ أن يعيد عمله، فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتد.... كذا ذكره الزمخشري في " الفائق ".(7/325)
ولهما أنه أقر بسبب الضمان وهو أخذ مال الغير وادعى ما يبرئه وهو الأخذ لمالكه، وفيه وقع الشك، فلا يبرأ وما ذكر من الظاهر يعارضه مثله؛ لأن الظاهر أن يكون المتصرف عاملا لنفسه،
ويكفيه في الإشهاد أن يقول من سمعتموه ينشد لقطة فدلوه علي، واحدة كانت اللقطة أو أكثر؛ لأنه اسم جنس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحاصل الكلام أن مطلق فعل المسلم محمود على ما يحل شرعاً، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تظن بكلمة خرجت من في أخيك سوءاً وأنت تجد لها محملاً من الخير» وإنما كان القول قول صاحبها؛ لأن صاحبها يدعي سبب الضمان وهو ينكر، فالقول له كما في الغصب.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد م: (أنه) ش: أي أن الملتقط م: (أقر بسبب الضمان وهو أخذ مال الغير) ش: بغير إذنه م: (وادعى ما يبرئه) ش: بضم الياء من الإبراء أي ما يبرئه عن الضمان وهو الأخذ أي دعواه ما يبرئه.
م: (وهو الأخذ لمالكه وفيه) ش: أي وفي قوله هذا وقع الشك، وهو أنه يحتمل أنه أخذه لنفسه فيضمن ويحتمل أنه أخذ لمالك فلا يضمن م: (وقع الشك فلا يبرأ) ش: عن الضمان.
م: (وما ذكر) ش: أي والذي ذكر أبو يوسف م: (من الظاهر) ش: وهو قوله لأن الظاهر شاهد له م: (يعارضه مثله) ش: أي مثل هذا الظاهر. وهو أن يقال الأصل م: (لأن الظاهر أن يكون المتصرف عاملاً لنفسه) ش: أي تصرف الإنسان له لا لغيره وذكروا في نسخ الفتاوى هذا الاختلاف إذا كان متمكناً من الإشهاد، فإن لم يكن لعدم من يشهد على ذلك أو لحقوق أن يأخذ منه ظاهر، فالقول قوله مع اليمين بالإجماع، ولا ضمان عليه في ترك الإشهاد.
[الإشهاد على اللقطة]
م: (ويكفيه) ش: أي ويكفي الملتقط م: (في الإشهاد أن يقول من سمعتموه ينشد لقطة) ش: أي ينادي ويقول من رأى لقطة كذا وكذا م: (فدلوه علي) ش: بضم الدال وتشديد اللام، علي بتشديد الياء، سواء كانت اللقطة م: (واحدة) ش: أو أكثر يعني م: (كانت اللقطة أو أكثر) ش: من جنس واحد أو من أجناس مختلفة، بأن يكون ذهباً وفضة أو أثواباً يكفيه أن يقول من سمعتموه ينشد لقطة ولا يحتاج إلى الزيادة م: (لأنه) ش: أي لأن اللقطة م: (اسم جنس) ش: فيتناول، وعند أحمد ينبغي أن يذكر جنسها من ذهب أو فضة، وفي شرح الطحاوي ولو قال التقطت لقطة أو ضالة أو قال عندي شيء، فمن سمعتموه يسأل شيئا: فدلوه علي، فلما جاء صاحبها قال: هلكت لا ضمان عليه، وكذلك لو وجد لقطتين فقال: من سمعتموه يسأل شيئاً فدلوه علي، ولم يقل عندي لقطتان، وكذلك لو قال عندي لقطة برئ من الضمان، وإن كانت عشراً.
وهذا كله إشهاد أنه إنما أخذها ليردها على صاحبها، وقال شمس الأئمة الحلواني: أوفى ما يكون في التعريف أن يشهد عند الأخذ ويقول أخذتها لأردها، فإن فعل ذلك ولم يعد فيها(7/326)
قال: فإن كانت أقل من عشرة دراهم عرفها أياما، وإن كانت عشرة فصاعدا عرفها حولا. قال: وهذه رواية عن أبي حنيفة، وقوله أياما معناه على حسب ما يرى الإمام، وقدره محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل بالحول من غير تفصيل بين القليل والكثير، وهو قول مالك والشافعي لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من التقط شيئا فليعرفه سنة» من غير فصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعد ذلك كفى م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن كانت) ش: أي اللقطة م: (أقل من عشرة دراهم عرفها أياماً، وإن كانت عشرة فصاعداً عرفها حولاً) ش: هذا لفظ القدوري في " مختصره ".
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وهذه رواية عن أبي حنيفة) ش: أي هذه الرواية التي ذكرها القدوري بالترديد رواية عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأشار بهذا إلى أنها ليست ظاهر الرواية، وفي ظاهر الرواية مدة التعريف مقدرة بالحول، فإن الطحاوي أيضاً قال: وإذا التقط لقطة أنه يعرفها سنة، سواء كان الشيء نفياً أو حبسا في ظاهر الرواية وفي " فتاوى الولوالجي "، وعن أبي حنيفة إن كانت مائتي درهم فما فوقها يعرفها حولاً، وإن كانت أقل من مائتي درهم إلى عشرة يعرفها شهراً، وإن كانت أقل من عشرة يعرفها على حسب ما يرى.
وعن أبي حنيفة في رواية أخرى وإن كانت مائتي درهم فصاعداً يعرفها حولاً، وإن كانت عشرة فصاعداً يعرفها شهراً وإن كانت ثلاثة فصاعداً يعرفها عشرة أيام، وإن كانت درهماً فصاعداً يعرفها ثلاثة أيام، وإن كانت دانقاً فصاعدا يعرفها يومان وإن كانت دون ذلك ينظر عنه ويسره ثم يصدقه في كف فقير، وقال شمس الأئمة السرخسي: وشيء من هذا ليس بتقدير لازم؛ بل لا يعرف القليل بقدر ما يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك، وقال أصحاب الشافعي: التعريف واجب منه وهو قول مالك وأحمد.
م: (وقوله) ش: أي وقول القدوري م: (أياماً معناه على حسب ما يرى الإمام) ش: أي أن الملتقط يعرفها على أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك، وقال أصحاب الشافعي: التعريف واجب منه وهو قول مالك وأحمد.
م: (وقوله) ش: أي وقول القدوري م: (أياماً معناه على حسب ما يرى الإمام) ش: أي أن الملتقط يعرفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك م: (وقدره محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل) ش: أي في " المبسوط " قدر محمد التعريف م: (بالحول من غير تفصيل بين القليل والكثير) ش: وهكذا روي عن محمد وعلي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولأن السنة لا تأخر عنها القوافل، ويمضي فيها الزمان الذي يقصد فيها البلاد من الخبر والبرد والاعتدال فصلحت قدر المدة أجل العين. م: (وهو) ش: أي قول محمد بالحول م: (قول مالك والشافعي) ش: وأحمد أيضاً م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «من التقط شيئا فليعرفه سنة» من غير فصل) ش: هذا الحديث رواه إسحاق بن راهويه بإسناده عن عياض، وعن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد ذكرنا بعضه عن قريب له، وفيه وليعرفها سنة، وإن جاء صاحبها وإلا فهو مال الله يؤتيه(7/327)
وجه الأول: أن التقدير بالحول ورد في لقطة كانت مائة دينار تساوي ألف درهم، والعشرة وما فوقها في معنى الألف في تعلق القطع به في السرقة وتعلق استحلال الفرج به، وليست في معناها في حق تعلق الزكاة، فأوجبنا التعريف بالحول احتياطا، وما دون العشرة ليس في معنى الألف بوجه ما، ففوضنا إلى رأي المبتلى به،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من يشاء.
وأخرج الدارقطني في " سننه " عن زيد بن خالد الجهني قال: «سأل رجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن اللقطة فقال: " عرفها سنة» الحديث، من غير فصل يعني بين القليل والكثير م: (وجه الأول) ش: وهو ما روي عن أبي حنيفة أنه عرفها حولاً إذا كانت عشرة فصاعداً م: (أن التقدير بالحول ورد في لقطة كانت مائة دينار تساوي ألف درهم) ش: يشير به إلى ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أخذت مرة مائة دينار فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " عرفها حولاً " فعرفتها فلم أجد من يعرفها ثم أتيته فقال: " عرفها حولاً " فعرفتها فلم أجد ثم أتيته ثلاثاً فقال: " احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فإن بان صاحبها وإلا فاستمتع بها» . وجه الاستدلال أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اعتبر الحول في كل كرة يجب التعريف بالحول مطلقاً، وأجاب المصنف عن هذا بقوله: م: (والعشرة وما فوقها، في معنى الألف في تعلق القطع به في السرقة) ش: لأن اليد تقطع بالعشرة كما تقطع بما فوقها، وكذلك في صلاحية العشرة للمهر فما فوقها، وهو معنى قوله م: (وتعلق استحلال الفرج به) ش: أي وكما في تعلق استحلال الفرج في النكاح.
م: (وليست في معناها) ش: أي وليست العشرة في معنى الألف م: (في حق تعلق الزكاة) ش: وهذا ظاهر، وكأن للعشرة جهتين، إحداهما حال كونها في معنى الأول، والأخرى في عدم كونها، فلما كان الأمر كذلك قال المصنف: م: (فأوجبنا التعريف بالحول احتياطاً) ش: نظراً إلى اعتبار الجهة الأولى م: (وما دون العشرة ليس في معنى الألف بوجه ما) ش: أي بوجه من الوجوه.
قال: فإذا كان الأمر كذلك م: (ففوضنا) ش: يعني تقدير المدة م: (إلى رأي المبتلى به) ش: أي بما دون العشرة، وقال الكاكي: وما روي عن أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمره بتعريف مائة دينار غير صحيح، قال أبو داود: شك الراوي في ذلك، وقال الراوي: ثلاثة أعوام أو عام واحد. انتهى.
قلت: الحديث رواه مسلم أيضاً في " صحيحه "، وفي آخره، فقال: لا أدري بثلاثة أحوال أو حول واحد، وفي لفظ: عامين أو ثلاثة، وفي لفظ: قال: " ثلاثة أحوال ". وفي لفظ: قال عرفها عاماً واحداً، وقال ابن الجوزي في " التحقيق ": ولا تخلو هذه الروايات عن غلط(7/328)
وقيل: الصحيح أن شيئا من هذه المقادير ليس بلازم، ويفوض إلى رأي الملتقط يعرفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك، ثم يتصدق بها، وإن كانت اللقطة شيئا لا يبقى عرفها حتى إذا خاف أن يفسد تصدق به، وينبغي أن يعرفها في الموضع الذي أصابها، وفي المجامع فإن ذلك أقرب إلى الوصول إلى صاحبها، وإن كانت اللقطة شيئا يعلم أن صاحبها لا يطلبها كالنواة وقشور الرمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعض بدليل أن شعب قال بالتعريف فيه مستحقة يقول: بعد عشر سنين عرفها عاماً واحداً، ويكون - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علم أنه لم يقع تعريفها كما ينبغي فلم يجب له بالتعريف الأول.
م: (وقيل الصحيح) ش: أشار به إلى قول شمس الأئمة السرخسي، وقد ذكرناه عن قريب، ولهذا قال بعض أصحاب مالك وأصحاب أحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (أن شيئاً من هذه المقادير ليس بلازم، ويفوض إلى رأي الملتقط يعرفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك ثم يتصدق بها) ش: أي باللقطة.
م: (وإن كانت اللقطة شيئا لا يبقى) ش: قالوا في نسخ " الفتاوى ": وإن كانت اللقطة مما لا تبقى إذا مر عليه يوم أو يومان عرفها، فإذا خاف الفساد تصدق بها م: (عرفها حتى إذا خاف أن يفسد تصدق به) ش: كلمة حتى هنا بمعنى إلى، والمعنى عرفها إلى أن خاف فسادها أي تلفها فحينئذ يتصدق به.
والضمير في قوله: عرفها يرجع إلى اللقطة، أو في قوله: به يرجع إلى قوله: شيئاً م: (وينبغي أن يعرفها في الموضع الذي أصابها، وفي المجامع) ش: مجمع الناس كالأسواق وأبواب المساجد، وفي " الشامل ": والتعريف أن ينادي في الأسواق والمساجد من ضاع له شيء فليطلبه عندي م: (فإن ذلك) ش: أشار به إلى الموضع أصابه فيه م: (أقرب إلى الوصول إلى صاحبها) ش: لأن صاحبها يرجع إلى الموضع الذي نسيه فيه.
م: (وإن كانت اللقطة شيئاً يعلم أن صاحبها لا يطلبها كالنواة وقشور الرمان) ش: يعني في مواضع مختلفة، فجمعها حتى صارت بحكم الكثرة لها قيمة فلا اعتبار بقيمتها؛ لأنها ظهرت بصيغة وهي جمعه، وله الانتفاع بذلك، وذكر شيخ الإسلام: ولو كانت متفرقة جمعها للمالك أخذها، لأنه يصير ملكاً للأخذ بالجمع.
وكذا الجواب في التقاط المسائل، وبه كان يفتي الصدر الشهيد كذا في " الذخيرة " وفي " المحيط ": لو وجد النواة والصور في مواضع متفرقة يجوز الانتفاع بها، أما لو كانت مجتمعة في موضع فلا يجوز الانتفاع بها؛ لأن صاحبها لما جمعها فالظاهر أنه ما ألقى بها، بل سقطت منه.... انتهى.(7/329)
يكون إلقاؤه إباحة حتى جاز الانتفاع به من غير تعريف، ولكنه يبقى على ملك مالكه؛ لأن التمليك من المجهول لا يصح قال: فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها إيصالا للحق إلى المستحق، وهو واجب بقدر الإمكان، وذلك بإيصال عينها عند الظفر بصاحبها، وإيصال العوض وهو الثواب على اعتبار إجازته التصدق بها، وإن شاء أمسكها رجاء الظفر بصاحبها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكلام المصنف يدل على شيئين أحدهما أنه إذا جمعها يجوز الانتفاع بها؛ لأنه علل بقوله: م: (يكون إلقاؤه إباحة) ش: أي إلقاء الشيء الذي يعلم أن صاحبه لا يطلبه يكون إباحة منه لمن يأخذه م: (حتى جاز الانتفاع به من غير تعريف) ش: لأنه حينئذ من الإباحات.
والثاني يدل على أنه لا يخرج من ملك مالكها أشار إليه بقوله: م: (ولكنه يبقى على ملك مالكه) ش: لأنه لم يخرج من ملكه فلا يكون ملكاً لمن أخذه م: (لأن التمليك من المجهول لا يصح) ش: فإذا وجده في يده الملتقط أخذ منه إن شاء، وفي " المبسوط " روى بشر عن أبي يوسف لو جز صوف شاة ميتة ملقاة كان له أن ينتفع به، ولو وجده صاحب الشاة في يده كان له أن يأخذه منه، ولو دفع جلدها كان لصاحبها أن يأخذ الجلد منه بعدما يعطيه ما زاد الدباغ فيه؛ لأن ملكه لم يزل بالإلقاء.
وفي " خلاصة الفتاوى ": التفاح والكمثرى والحطب في المال لا بأس أن يأخذها م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن جاء صاحبها) ش: أي صاحب اللقطة إن جاء بعد التعريف، وخبر إن محذوف تقديره دفعها إليه م: (وإلا) ش: أي وإن لم يجئ، يعني إذا لم يظفر الملتقط بصاحبها م: (تصدق بها) ش: والمسألة من القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وتمامها فيه، فإن جاء صاحبها بعد ذلك فهو بالخيار إن شاء أمضى الصدقة وإن شاء ضمن الملتقط.
وشرح المصنف كلام القدوري بقوله م: (إيصالاً) ش: أي لأجل الإيصال م: (للحق إلى المستحق وهو) ش: أي إيصال الحق إلى المستحق م: (واجب بقدر الإمكان) ش: ليخرج من عهدته، ولما كان الإيصال أعم من أن يكون لصاحب الحق أو لغيره أوضح ذلك بقوله م: (وذلك) ش: أي إيصال الحق.
م: (بإيصال عينها) ش: أي عين اللقطة، م: (عند الظفر بصاحبها وإيصال العوض وهو الثواب على اعتبار إجازته) ش: أي إجازة صاحب اللقطة م: (التصدق بها، وإن شاء أمسكها رجاء الظفر بصاحبها) ش: أي باللقطة أي مستحقة، وإنما قيد به لأنه إذا لم يجز التصدق لا يكون الثواب له.(7/330)
قال: فإن جاء صاحبها يعني بعد ما تصدق بها فهو بالخيار إن شاء أمضى الصدقة، ولو ثوابها؛ لأن التصدق وإن حصل بإذن الشرع لم يحصل بإذنه، فيتوقف على إجازته، والملك يثبت للفقير قبل الإجازة فلا يتوقف على قيام المحل بخلاف بيع الفضولي لثبوته بعد الإجازة فيه، وإن شاء ضمن الملتقط؛ لأنه سلم ماله إلى غيره بغير إذنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: فإن جاء صاحبها يعني بعدما تصدق بها فهو) ش: أي صاحبها م: (بالخيار إن أمضى الصدقة وله ثوابها؛ لأن التصدق وإن حصل بإذن الشرع) ش: حيث جاء في حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه البزار «فإن جاء صاحبها فليرده إليه، وإن لم يأت فليتصدق به.....» الحديث.
فهذا التصدق وإن حصل بإذن الشرع م: (لم يحصل بإذنه) ش: أي بإذن صاحبها الذي هو المالك، فإن كان كذلك م: (فيتوقف على إجازته) ش: أي إجازة صاحب الصدقة م: (والملك يثبت للفقير) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال لما توقف فعاد التصدق على إجازته فينبغي أن يشترط وجود المحل عند الإجازة، لكن لا يشترط حتى إذا هلك المال في يد الفقير، ثم أجاز المالك جاز، وتقدير الجواب أن الملك ثبت للفقير م: (قبل الإجازة) ش: لأن الملتقط لما أذن له الشرع في التصدق ملكه الفقير؛ لأن الصدقة من أسباب الملك م: (فلا يتوقف) ش: أي ثبوت الملك م: (على قيام المحل) ش: حتى لو هلك المال في يد الفقير تجوز الإجازة.
فإن قيل: لو ثبت الملك للفقير فالأخذ ينبغي أن لا يأخذه المالك إذا كان قائماً في يده.
قلنا: ثبوت الملك لا يمنع صحة الاسترداد كالواهب يملك الرجوع بعد ثبوت الملك للموهوب له. وكالمرتد لو عاد من دار الحرب مسلماً بعد قسمة ماله بين ورثته، فإنه يأخذ ما وجده قائماً بعد ثبوت الملك لهم م: (بخلاف بيع الفضولي) ش: حيث يشترط فيه الإجازة قيام المحل م: (لثبوته) ش: أي لثبوت الملك م: (بعد الإجازة) ش: أي بعد إجازة المالك م: (فيه) ش: أي في بيع الفضولي، وإذا أجاز المالك بيع الفضولي يشترط لصحة الإجازة قيام الأربعة: المالك والمتعاقدان والمقصود عليه إن كان الثمن ديناً. وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى في باب البيوع. م: (وإن شاء ضمن الملتقط) ش: هذا عطف على قوله إن شاء أمضى الصدقة م: (لأنه) ش: أي لأن الملتقط م: (سلم ماله إلى غيره بغير إذنه) ش: أي سلم مال صاحب اللقطة إلى غيره بغير إذن منه فله أن يضمنه، وبه قال مالك والثوري والحسن بن صالح.
وقال الشافعي وأحمد فإذا لم يجئ بعد التعريف ملكها الملتقط بحكم القاضي، وصارت من ماله كسائر أمواله غنياً كان الملتقط أو فقيراً، وروي مثله عن عمر وابن مسعود وحارث - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وبه قال عطاء والنخعي وابن المنذر واحتج الشافعي وأحمد بحديث زيد بن(7/331)
إلا أنه بإباحته من جهة الشرع، وهذا لا ينافي الضمان حقا للعبد كما في تناول مال الغير حال المخمصة وإن شاء ضمن المسكين إذا هلك في يده لأنه قبض ماله بغير إذنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خالد، فإن لم يعرف فاستنفقها، وفي رواية فاستمتع بها، ولنا حديث أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن اللقطة فقال: «لا تحل اللقطة، فمن التقط شيئاً فليعرفه سنة، فإن جاء صاحبه فليرده إليه، وإن لم يأت فليتصدق به فإن جاء فليخير بين الأجر وبين العطالة» رواه البزار، ولأنها ملك الغير فلا يملكها لغيرها ويملكها الفقير عنه. فلحديث عياض بن حمار والمجاشعي وقد ذكرناه، وفيه «فإن جاء صاحبها وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء» . رواه النسائي وغيره. وما يضاف إلى الله تعالى إنما يملكه من يستحق الصدقة، وعن أحمد مثله، وحديث زيد بن خالد يمكن أن يكون في فقير فيحل عليه جمعاً بين الأحاديث.
فإن قلت: قيل إن حديث أبي هريرة غريب.
قلت: ليس كذلك بل نقله القدوري وهو موافق للنصوص في عدم جوازه بملك مال الغير بغير إذنه.
فإن قلت: كيف يضمن الملتقط وقد تصدق بإذن الشرع؟
قلت: الشرع أباح له التصدق وما ألزمه ذلك وهو يعني قول المصنف م: (إلا أنه) ش: أي أن الملتقط م: (بإباحته من جهة الشرع) ش: يعني أن الإذن كان إباحة منه لا إلزاماً ومثل ذلك الإذن يسقط الإثم لا الضمان وهو معنى قوله.
م: (وهذا لا ينافي الضمان حقاً للعبد كما في تناول مال الغير حال المخمصة) ش: فإنه يحل بإباحة شرعية، لكن مع الضمان، وكذا الرمي إلى الصيد مباح، وكذا المشي في الطريق مباح، فإذا هلك بذلك شيء يجب الضمان على الرامي والماشي؛ لأن إسقاط حق محترم لا يجوز.
وفي " خلاصة الفتاوى ": إن تصدق الملتقط بإذن القاضي ليس له أن يضمنه، وقال الكاكي: هذا ليس بصواب إذا تصدق الملتقط بإذن القاضي لا يكون أعلى حالاً من تصدق القاضي بنفسه، ويقال يضمن القاضي وهاهنا أولى، كذا في " الذخيرة " و " فتاوى قاضي خان " م: (وإن شاء ضمن المسكين إذا هلك في يده لأنه قبض ماله بغير إذنه) ش: أي لأن المسكين قبض مال مالك اللقطة بغير إذن منه فصار الملتقط كالغاصب والمسكين كغاصب الغاصب، لكن إن ضمن لا يرجع على صاحبه بشيء.
أما المسكين؛ فلأنه أخذ لنفسه، ومن أخذ لنفسه لا يرجع على أحد كالمعتبر. وأما الملتقط(7/332)
وإن كان قائما أخذه؛ لأنه وجد عين ماله.
قال: ويجوز الالتقاط في الشاة والبقر والبعير، وقال مالك والشافعي: إذا وجد البعير والبقر في الصحراء فالترك أفضل، وعلى هذا الخلاف الفرس لهما، أن الأصل في أخذ مال الغير الحرمة والإباحة مخافة الضياع، وإذا كان معها ما يدفع عن نفسها يقل الضياع ولكنه يتوهم فيقضى بالكراهة والندب إلى الترك، ولنا أنها لقطة يتوهم ضياعها، فيستحب أخذها وتعريفها صيانة لأموال الناس كما في الشاة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإنه لما ضمن مالك اللقطة وقت التصدق بغير أنه تصدق بملك نفسه م: (وإن كان) ش: أي المال الذي هو لقطة م: (قائماً) ش: في يد الفقير م: (أخذه لأنه وجد عين ماله) ش: وهو حقه فليأخذه إن شاء.
[الالتقاط في الشاة والبقر والبعير]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ويجوز الالتقاط في الشاة والبقر والبعير) ش: هذا كلام القدوري.
وقال المصنف: م: (وقال مالك والشافعي: إذا وجد البعير والبقر في الصحراء فالترك أفضل) ش: وبه قال أحمد، وعن مالك والليث في ضالة الإبل لو وجدها في القرى عرفها، وفي الصحراء لا يتعرض لها وهو رواية المزني عن الشافعي، وعن مالك أن البقر كالشاة، أما إذا وجدها في مكان يغلب على الظن هلاكها أو في قرية لا مرعى فيها فالأولى أخذها عند الكل، وفي " الوجيز ": لو وجدها في بلدة أو قرية أو قريب منهما فوجهان أحدهما لا يجوز وأصحهما يجوز. هذا إذا كان في وقت أمن، أما في زمن النهب والفساد يجوز في الصحراء والعمران.
وما لا يمنع من صغار المتاع كالبعير والغنم والفحول والفصلان يجوز التقاطه في المفازة والعمران، في الأصح.
وفي " شرح الأقطع ": الخلاف في الجواز، وذكر الكتاب الخلاف في الأفضلية، وروايات كتبهم ومستمسكاتهم تدل على أن الخلاف في الجواز م: (وعلى هذا الخلاف الفرس) ش: وعلى الخلاف المذكور التقاط الفرس م: (لهما) ش: أي للشافعي ومالك م: (أن الأصل في أخذ مال الغير الحرمة والإباحة مخافة الضياع) ش: أي إباحة أخذ مال الغير لأجل الخوف عن ضياعه.
م: (وإذا كان معها) ش: أي مع اللقطة م: (ما يدفع عن نفسها) ش: كالعزل ونحوه م: (يقل الضياع ولكنه يتوهم) ش: أي ولكن الضياع يتوهم م: (فيقضى بالكراهة والندب إلى الترك) ش: أي المستحب أن يتركها، وقد ذكرنا الآن عن الأقطع أنه خلاف الجواز م: (ولنا أنها) ش: أي أن البقر والبعير والفرس م: (لقطة يتوهم ضياعها فيستحب أخذها وتعريفها صيانة لأموال الناس كما في الشاة) ش: فإن التقاطها يستحب بالإجماع.
وإذا خيف الضياع على البعير ونحوها يستحب أخذها أيضاً صيانة لأموال الناس.
فإن قلت: ما تقول في حديث رواه البخاري عن زيد بن خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلاً(7/333)
فإن أنفق الملتقط عليها بغير إذن الحاكم فهو متبرع لقصور ولايته عن ذمة المالك. وإن أنفق بأمره كان ذلك دينا على صاحبه؛ لأن للقاضي ولاية في مال الغائب نظرا له، وقد يكون النظر في الإنفاق على ما نبين، إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن اللقطة فقال: " عرفها سنة " إلى أن قال: فضالة الغنم؟ قال: " خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب " قال فضالة الإبل؟ قال: فغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى احمرت وجنتاه واحمر وجهه. ثم قال: " مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وترعى الشجر، فذرها حتى يلقاها ربها» .
قلت: هو محمول على ما إذا لم يخف عليها، أما إذا خيف عليها فأخذها للصيانة أولى، ويدل عليه ما رواه الطحاوي عند عبد الله بن عمرو بن العاص «أن رجلاً من مدينة أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأل كيف ترى في ضالة الغنم قال: " طعام مأكول لك أو لأخيك أو للذئب أحسن على أخيك ضالته " قال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكيف ترى في ضالة الإبل؟ قال: " مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ولا تخاف عليها الذئب تأكل الكلأ وترد الماء فدعا حتى يجيء طالبها....» انتهى.
قوله: سقاؤها بكسر السين وأراد بها إذا وردت الماء تشرب ما يكون بها من ظمأ والحذاء بكسر الحاء المهملة بالذال المعجمة وبالألف ممدودة وأراد بها خفافها التي تقوى بها على السير.
فإن قلت: ينبغي أن لا يجوز أخذ اللقطة أصلاً بدليل ما روي في شرح الآثار عن أبي عبادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ضالة المسلم حرق النار» ..
قلت: معناه إذا أخذها للركوب لا للتعريف، والحرق بفتحتين اسم الإحراق. وعن ثعلب الحرق: اللهب يعني إن تملكها سبب العقاب في النار. وكذا الجواب عن الحديث الآخر، وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يؤوي الضالة إلا الضال» يعني إذا أخذها لنفسه وإن أبرأها إذا كان لنفسه لا للتعريف
م: (فإن أنفق الملتقط عليها) ش: أي على اللقطة م: (بغير إذن الحاكم فهو متبرع لقصور ولايته عن ذمة المالك) ش: فصار لو قضى دين غيره بغير أمره وبغير أمر القاضي م: (وإن أنفق بأمره) ش: أي بأمر القاضي م: (كان ذلك) ش: أي إنفاقه م: (ديناً على صاحبه) ش: أي صاحب اللقطة، وإنما ذكر الضمير باعتبار المال م: (لأن للقاضي ولاية في مال الغائب نظراً له) ش: أي لأجل النظر للغائب؛ لأنه نصب لمصالح المسلمين فتعم ولايته.
م: (وقد يكون النظر في الإنفاق) ش: أي وقد يكون نظر الحاكم في الأمر بالإنفاق على اللقطة، فكل ما رآه القاضي أحوط وأصلح كان له ذلك م: (على ما نبين إن شاء الله تعالى) ش: أي بعد خمسة خطوط عند قوله.(7/334)
وإذا رفع ذلك إلى الحاكم نظر فيه، فإن كان للبهيمة منفعة أجرها وأنفق عليها من أجرتها؛ لأن فيه إبقاء العين على ملكه من غير إلزام الدين عليه وكذلك يفعل بالعبد الآبق. وإن لم يكن لها منفعة وخاف أن تستغرق النفقة قيمتها باعها وأمر بحفظ ثمنها إبقاء له معنى عند تعذر إبقائه صورة، وإن كان الأصلح الإنفاق عليها أذن في ذلك، وجعل النفقة دينا على مالكها لأنه نصب ناظرا، وفي هذا نظر من الجانبين، قالوا: وإنما يأمر بالإنفاق يومين أو ثلاثة أيام على قدر ما يرى رجاء أن يظهر مالكها، فإذا لم يظهر يأمر ببيعها؛ لأن دارة النفقة مستأصلة، فلا ينظر في الإنفاق مدة مديدة، قال في الأصل: شرط إقامة البينة وهو الصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإذا كان الأصلح الإنفاق عليها م: (وإذا رفع ذلك) ش: أي أمر اللقطة م: (إلى الحاكم نظر فيه) ش: أي في أمر اللقطة م: (فإذا كان للبهيمة منفعة) ش: وهي صلاحيتها للإجارة كالحيوان التي تركب م: (أجرها وأنفق عليها من أجرتها لأن فيه) ش: أي لأن في أمر الإجارة م: (إبقاء العين) ش: أي عين اللقطة م: (على ملكه) ش: أي على ملك صاحبها م: (من غير إلزام الدين عليه) ش: أي على صاحبها.
م: (وكذلك يفعل) ش: أي الحاكم م: (بالعبد الآبق) ش: فإنه يؤجره وينفق عليه من أجرته؛ لأن فيه إبقاء لملكه م: (وإن لم يكن لها منفعة) ش: كالشاة مثلاً م: (وخاف أن تستغرق النفقة قيمتها باعها وأمر) ش: أي الملتقط م: (بحفظ ثمنها إبقاء له) ش: أي لأجل إبقاء اللقطة للمالك. م: (معنى عند تعذر إبقائه صورة) ش: أي من حيث المعنى بالمالية حيث لم يكن إبقاء الصورة؛ لأنه يخاف عليها أن يستأصل النفقة القيمة م: (وإن كان الأصلح الإنفاق عليها) ش: يعني القاضي لو رأى الإنفاق أصلح م: (أذن في ذلك) ش: أي في الإنفاق.
م: (وجعل النفقة ديناً على مالكها لأنه) ش: أي لأن القاضي م: (نصب ناظراً) ش: في أمور المسلمين يفعل ما رآه أحوط وأصلح كان له ذلك بعموم ولايته م: (وفي هذا) ش: أي وفي إذن القاضي للملتقط في الإنفاق وجعل النفقة ديناً على المالك م: (نظر من الجانبين) ش: جانب المالك بإبقاء عين ملكه وجانب الملتقط برجوعه على المالك بما أنفق.
م: (قالوا) ش: أي المشايخ: م: (وإنما يأمر بالإنفاق يومين أو ثلاثة أيام على قدر ما يرى رجاء أن يظهر مالكها، فإذا لم يظهر يأمر ببيعها) ش: أي يأمر القاضي ببيع اللقطة م: (لأن دارة النفقة) ش: أي استمرارها م: (مستأصلة) ش: للقيمة م: (فلا ينظر في الإنفاق مدة مديدة) ش: أي طويلة.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (في الأصل) ش: أي في " المبسوط " م: (شرط إقامة البينة) ش: حيث قال: فإن رفعها إلى قاض وأقام بينة أنه التقطها أمره بأن ينفق عليها م: (وهو الصحيح) ش: وفي بعض النسخ: وهو الصحيح وهو اختيار المصنف، وقال الولوالجي في " فتاواه ":(7/335)
لأنه يحتمل أن يكون غصبا في يده ولا يأمر فيه بالإنفاق بخلاف الوديعة حيث يأمره بالإنفاق فيها، فلا بد من البينة لينكشف الحال، وليست تقام للقضاء، وإن قال: لا بينة لي يقول له القاضي: أنفق عليه إن كنت صادقا فيما قلت حتى يرجع على المالك إن كان صادقا ولا يرجع إن كان غاصبا، وقوله في الكتاب وجعل النفقة دينا على صاحبها إشارة إلى أنه إنما يرجع على المالك بعدما حضر، ولم يبع اللقطة إذا شرط القاضي الرجوع على المالك وهذه رواية وهو الأصح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قالوا: هذا إذا كانت اللقطة شيئاً لا يخاف الهلاك عليه لذلك لم ينفقه إلى أن تقوم البينة.
أما إذا كان يخاف أمان القاضي لا يكلفه إقامة البينة لكن يقول له أنفق عليه إن كنت صادقاً م: (لأنه يحتمل أن يكون غصباً في يده ولا يأمر فيه بالإنفاق بخلاف الوديعة حيث يأمره بالإنفاق فيها) ش: خوفاً من ضياعها م: (فلا بد) ش: أي فإذا احتمل في اللقطة الغصب فلا بد م: (من البينة) ش: على أنه التقطها م: (لينكشف الحال) ش: للحاكم حتى يقع أمره على الصواب.
م: (وليست تقام) ش: أي البينة م: (للقضاء) ش: أي لأجل الحكم، وهذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: كيف شرط في الأصل إقامة البينة، ولا تقوم البينة إلا على مدع منكر، ولم يوجد ذلك هنا؟، وتقدير الجواب: أن البينة هنا ليست لأجل قضاء القاضي، وإنما لكشف الحال يعني تقام حتى ينكشف حال البهيمة أنها لقطة أو غصب، فإن في الأولى يأمر القاضي بالإنفاق دون الثاني.
م: (وإن قال: لا بينة لي) ش: أي وإن قال الملتقط: لا بينة لي على أني التقطها م: (يقول له القاضي أنفق عليه إن كنت صادقاً فيما قلت حتى يرجع على المالك، إن كان صادقاً، ولا يرجع إن كان غاصباً) ش: قوله ولا يرجع بالنصب؛ لأنه عطف على قوله حتى يرجع فإن يرجع فيه منصوب بتقدير أن بعد حتى.
م: (وقوله) ش: أي قول القدوري وهو مبتدأ م: (في الكتاب) ش: أي في " مختصر القدوري " م: (وجعل النفقة ديناً على صاحبها) ش: هذا من لفظ القدوري م: (إشارة) ش: بالرفع خبر المبتدأ المذكور م: (إلى أنه إنما يرجع) ش: أي الملتقط م: (على المالك بعد ما حضر، ولم يبع اللقطة) ش: اللقطة، وضبطه بعضهم على صيغة المجهول م: (إذا شرط القاضي الرجوع) ش: هذا متصل بقوله: إنما يرجع الملتقط م: (على المالك) ش: إذا شرط القاضي الرجوع على المالك.
م: (وهذه رواية) ش: أي شرط الرجوع رواية، فعلى هذه الرواية إذا أمر القاضي بالإنفاق على اللقطة ولم يشترط الرجوع على المالك لا يرجع عليه، وفي الرواية الأخرى يرجع.
م: (وهو الأصح) ش: أي الأصح في الرجوع إن شرط القاضي الرجوع، واحترز به عن(7/336)
وإذا حضر المالك فللملتقط أن يمنعها منه حتى يحضر النفقة؛ لأنه يحيى بنفقته، فصار كأنه استفاد الملك من جهته فأشبه المبيع، وأقرب ذلك رد الآبق فإن له الحبس لاستيفاء الجعل لما ذكرنا، ثم لا يسقط دين النفقة بهلاكه في يد الملتقط قبل الحبس ويسقط إذا هلك بعد الحبس؛ لأنه يصير بالحبس شبيه الرهن،
قال: ولقطة الحل والحرم سواء، وقال الشافعي: يجب التعريف إلى أن يجيء صاحبها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحرم: «لا يحل لقطتها إلا لمنشدها» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قول بعض أصحابنا إن مجرد أمر القاضي يكفي للرجوع. م: (وإذا حضر المالك فللملتقط أن يمنعها منه) ش: أي يمنع اللقطة من المالك م: (حتى يحضر النفقة) ش: الذي أنفقها الملتقط على اللقطة م: (لأنه) ش: أي لأن اللقطة، ذكر الضمير باعتبار المذكور.
قاله الكاكي، والأوجه أن يقال: ذكره باعتبار المال، وكذلك الكلام في قوله م: (يحيى بنفقته) ش: أن بنفقة الملتقط م: (فصار، كأنه استفاد الملك من جهته) ش: أي من جهة الملتقط م: (فأشبه المبيع) ش: حيث يجوز للبائع أن يحبس المبيع لاستيفاء الثمن.
م: (وأقرب من ذلك) ش: أي أقرب من البيع إلى اللقطة في السيد م: (رد الآبق) ش: أي العبد الهارب؛ لأن الذي رده لحبسه لأجل أخذ الجعل، وهو معنى قوله م: (فإن له) ش: أي الراد دل عليه قوله، رد الآبق م: (الحبس) ش: أي حبس الآبق م: (لاستيفاء الجعل) ش: وهو أربعون درهماً على ما يأتي م: (لما ذكرنا) ش: هو قوله: حتى ينفقه، فكما أن اللقطة حيث ينفقه الملتقط، فكذلك الآبق حتى يرد من مسك م: (ثم لا يسقط دين النفقة بهلاكه) ش: أي بهلاك اللقطة على تأويل المال م: (في يد الملتقط قبل الحبس، ويسقط إذا هلك بعد الحبس؛ لأنه) ش: أي لأن اللقطة على تأويل المال لما ذكرنا م: (يصير بالحبس شبيه الرهن) ش: إذا هلك بعد حبس الرهن بالنفقة.
وفي " الذخيرة ": إذا أبى الراهن أن ينفق على الرهن فللمرتهن أن يجب الرهن حتى في النفقة، ولو هلك الرهن بعد ذلك لا شيء على الراهن ثم قال قول زفر، وقال أبو يوسف: ليس له أن يحبس بالنفقة، فإذا هلك في يد المشتري، والنفقة دين على الراهن بحاله.
[تعريف لقطة الحرم]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولقطة الحل والحرم سواء) ش: يعني في الحكم م: (وقال الشافعي: يجب التعريف) ش: أي تعريف لقطة الحرم م: (إلى أن يجيء صاحبها) ش: قال أحمد في رواية م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: (في الحرم: «لا يحل لقطتها إلا لمنشدها» ش: هذا أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فتح مكة ... الحديث بطوله وفيه: «ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها»
الحديث، وفي لفظ لها: يلتقط شيئاً قطعهما إلا منشد، وقال أبو عبيد: المنشد المعرف،(7/337)
ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة» من غير فصل، ولأنها لقطة، وفي التصدق بعد مدة التعريف إبقاء ملك المالك من وجه فيملكه كما في سائرها، وتأويل ما روي أنه لا يحل الالتقاط إلا للتعريف والتخصيص بالحرم لبيان أنه: لا يسقط التعريف فيه لمكان أنه للغرباء ظاهرا. وإذا حضر رجل فادعى اللقطة لم تدفع إليه حتى يقيم البينة، فإن أعطى علامتها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والناشد: الطالب، معناه: لا يحل لقطة مكة إلا لمن يعرفها.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اعرف عفاصها، ووكاءها ثم عرفها سنة» من غير فصل) ش: يعني بين لقطة الحل ولقطة الحرم، والحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن زيد بن خالد الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جاء رجل فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن اللقطة فقال: «اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها ... » الحديث، والعفاص الوعاء الذي يكون فيه النفقة من جلد أو خرقة أو غير ذلك، والوكاء بكسر الواو بالمد هو الرباط يشد به.
م: (ولأنها) ش: أي ولأن لقطة الحرم م: (لقطة) ش: كسائر اللقطات فأبيح أخذها، وجاز الانتفاع بها بعد الحول كلقطة الحل م: (وفي التصدق بعد مدة التعريف إبقاء ملك المالك من وجه) ش: يعني من حيث يحصل الثواب له م: (فيملكه) ش: أي الملتقط م: (كما في سائرها) ش: أي كما يملك في سائر اللقطات م: (وتأويل ما روي) ش: أي ما رواه الشافعي م: (أنه لا يحل الالتقاط إلا للتعريف) ش: ولهذا ذكر في رواية أخرى: ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها.
م: (والتخصيص بالحرم) ش: هذا جواب عما يقال ما وجه تخصيص الحرم في هذا المعنى، وتقدير الجواب أن تخصيص حل الرفع بالحرم يعني بلقطة الحرم م: (لبيان أنه لا يسقط التعريف فيه) ش: أي في الحرم م: (لمكان أنه) ش: أي أن الذي يلتقط فيه م: (للغرباء ظاهراً) ش: أي من حيث الظاهر، بيان ذلك أن مكة مكان الغرباء؛ لأن الناس يأتون إليها من الأقطار من كل فج عميق، ثم يتفرقون في شعابها فالغالب: إن لقطها الغريب لا يدرى عوده إلى مكة، فلا فائدة إذاً في التعريف فينبغي أن يسقط التعريف أصلاً لعدم الفائدة، فأزال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك الوهم، فقال: لا يحل رفع لقطتها إلا لمعرف كما هو الحكم في غيرها من البلاد.
وقيل لا يصح عند الشافعي بالحديث المذكور إلا إذا جعل الناشد، وجعل إلا بمعنى ولا، تقديره: لا يحل لقطها لا لغير الملتقط ولا للملتقط.... انتهى.
قلت: قد ذكرنا أن المنشد هو المعرف، والناشد هو الطالب ومذهبه ليس كذلك، قال صاحب الوجيز: معنى الحديث لا يحل لقطها إلا لمنشد على الدوام، وإلا لم تظهر فائدة التخصيص م: (وإذا حضر رجل فادعى اللقطة لم تدفع إليه حتى يقيم البينة فإن أعطى علامتها(7/338)
حل للملتقط أن يدفعها إليه، ولا يجبر على ذلك في القضاء، وقال مالك والشافعي: يجبر والعلامة مثل أن سمى وزن الدراهم وعددها ووكاءها ووعاءها، لهما أن صاحب اليد ينازعه في اليد ولا ينازعه في الملك فيشترط الوصف لوجود المنازعة من وجه، ولا يشترط إقامة البينة لعدم المنازعة من وجه، ولنا أن اليد حق مقصود كالملك فلا يستحق إلا بحجة، وهي البينة اعتبارا بالملك إلا أنه يحل له الدفع عند إصابة العلامة؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فإن جاء صاحبها وعرف عفاصها وعددها فادفعها إليه» وهذا للإباحة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حل للملتقط أن يدفعها إليه، ولا يجبر على ذلك) ش: أي على الدفع م: (في القضاء) ش: بمعنى الحاكم لا يجبره على الدفع م: (وقال مالك والشافعي: يجبر) ش: على الدفع، قال الكاكي: هذا وقع في نسخ أصحابنا، ولكن القائل بوجوب الدفع بالعلامة، مالك وأحمد وداود وابن المنذر فإن في كتب أصحاب الشافعي قوله كقولنا م: (والعلامة مثل أن سمى وزن الدراهم وعددها ووكاءها ووعاءها) ش: ويصف في ذلك كله، وقد مر عن قريب تفسير الوكاء.
م: (لهما) ش: أي لمالك والشافعي م: (أن صاحب اليد) ش: الذي هو الملتقط م: (ينازعه) ش: أن ينازع المدعي؛ لأن اللقطة له م: (في اليد ولا ينازعه في الملك فيشترط الوصف) ش: أي وصف اللقطة بذكر العلامة م: (لوجود المنازعة من وجه) ش: وهي المنازعة في اليد م: (ولا يشترط إقامة البينة لعدم المنازعة من وجه) ش: وهي المنازعة في الملك، وحاصله أن الملتقط لا نزاع له في الملك؛ لأنه لا يدعي الملك، وإنما نزاعه في اليد، فكان نزاعه من وجه دون وجه فاشترط بيان العلامة دون إقامة البينة م: (ولنا أن اليد حق مقصود) ش: للإنسان م: (كالملك) ش: حتى يجب الضمان على الغاصب بإزالة اليد، ألا ترى أن المدبر إذا غصبه غاصب يلزم الضمان لإزالة يد المحرم وإن لم يكن المدبر قابلاً للملك.
فإذا كان كذلك م: (فلا يستحق) ش: أي المدعي م: (إلا بحجة وهي البينة اعتباراً بالملك) ش: إذا ادعاه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «البينة على المدعي» م: (إلا أنه) ش: أي غير أن الملتقط م: (يحل له الدفع) ش: أي دفع اللقطة إلى صاحبها م: (عند إصابة العلامة لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فإن جاء صاحبها وعرف عفاصها وعددها فادفعها إليه» ش:.... الحديث رواه مسلم عن أبي كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في اللقطة: «عرفها فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووكائها ووعائها فأعطه إياها وإلا فاستمتع بها» ، وفي رواية: «وإلا فهي كسبيل مالك» ، وفي رواية أبي داود: «فإن جاء مالكها فعرف عددها ووكاءها فادفعها إليه» .
م: (وهذا) ش: أي قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فادفعها إليه م: (للإباحة) ش: يعني الأمر فيه(7/339)
عملا بالمشهور، وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «البينة على المدعي» .... الحديث ويأخذ منه كفيلا إذا كان يدفعها إليه استيثاقا، وهذا بلا خلاف؛ لأنه يأخذ الكفيل لنفسه بخلاف التكفيل لوارث غائب عنده، وإذا صدقه قيل لا يجبر على الدفع كالوكيل بقبض الوديعة إذا صدقه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للإباحة؛ لأن الأمر يجيء للإباحة م: (عملاً بالمشهور) ش: أي لأجل العمل بالحديث المشهور م: (وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «البينة على المدعي ... » الحديث) ش: أي أتم الحديث، وتمامه: «واليمين على من أنكر» بيانه أن قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " ادفعها إليه " ون لم يحمل على الإباحة، وحمل على الوجوب لزم التعارض على وجه يلزم التنافي وهو الاستحقاق وعدمه.
والأصل في التعارض الجمع عملاً بالدليلين، فحملنا ما تمسك به الشافعي على إباحة الدفع دفعاً للتعارض بين الحديثين.
وقال الأكمل: ولقائل أن يقول الحمل على الإباحة عملاً بالمشهور يلزم عدم جواز الدفع أيضاً؛ لأن انتفاء الوجوب يلزم انتفاء الجواز وأن الشافعي لم يقل بانتفاء الجواز بانتفاء الوجوب، والمصنف هاهنا في مقام الدفع فجاز أن يدفعه على طريقه فيلزمه الخصم.
م: (ويأخذ منه) ش: أي من مدعي اللقطة م: (كفيلاً إذا كان) ش: أي الملتقط م: (يدفعها إليه) ش: أي يدفع اللقطة إلى المدعي م: (استيثاقاً) ش: أي لأجل الاستيثاق لنفسه حتى إذا ظهر الأمر بخلاف، وتقدر الرجوع إليه يرجع على الكفيل.
هذا إذا دفعها بالعلامة، أما لو دفعها بالبينة، فلأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان، والصحيح أنه لا يأخذ كفيلاً، كذا في " جامع قاضي خان " م: (وهذا بلا خلاف) ش: يعني أخذ الكفيل سوماً بلا خلاف م: (لأنه يأخذ الكفيل لنفسه) ش: ولا يأخذه لغيره م: (بخلاف التكفيل لوارث غائب عنده) ش: أي عند أبي حنيفة ودل الضمير إليه، وإن لم يسبق ذكره لشهرة حكم تلك المسألة، صورته ميراث قسم بين الغرماء أو الورثة لا يؤخذ من الغريم ولا من الوارث كفيل عند أبي حنيفة.
وعندهما تؤخذ، والفرق عند أبي حنيفة أن حق الحاضر هاهنا غير ثابت، فيمكن أن يكون غيره فيضمنه، ولا يمكن الرجوع على الآخذ؛ لأنه قد يتوارى فيحتاط بأخذ الكفيل.
أما في الميراث فحق الحاضر ثابت ومعلوم، وحق الآخر موهوم، فلا يجوز أن يأخذ حق الحاضر الثابت لموهوم، وقال الأترازي: قوله ويأخذ منه كفيلاً إلى قوله: وهذا بلا خلاف فيه، تناقض من المصنف؛ لأنه قال في فصل المواريث: فيه روايتان، والأصح أنه على الخلاف.
م: (وإذا صدقه) ش: أي إذا صدق الملتقط مدعي اللقطة م: (قيل لا يجبر على الدفع كالوكيل بقبض الوديعة إذا صدقه) ش: أي لا يجبر المودع على الدفع يعني لو جاء رجل إلى المودع وقال أنا(7/340)
وقيل يجبر لأن المالك هاهنا غير ظاهر، والمودع مالك ظاهر، ولا يتصدق باللقطة على غني؛ لأن المأمور هو التصدق لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فإن لم يأت - يعني صاحبها - فليتصدق به» والصدقة لا تكون على غني فأشبه الصدقة المفروضة، وإن كان الملتقط غنيا لم يجز له أن ينتفع بها، وقال الشافعي: يجوز، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث أبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «فإن جاء صاحبها فادفعها إليه وإلا فانتفع بها» وكان من المياسير،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكيل المودع في استرداد الوديعة منك فصدقه لا يجبر على الدفع إليه؛ لأنه أمر بحق القبض في ملك الغير.
م: (وقيل: يجبر لأن المالك هاهنا غير ظاهر) ش: أي مالك آخر غير هذا المدعي في اللقطة غير ظاهر ولما أقر أنه هو المالك يلزمه إقراره فيجب على الدفع.
م: (والمودع) ش: بكسر الدال م: (مالك ظاهر) ش: فبالإقرار بالوكالة لا يلزمه الدفع إليه؛ لأنه غير مالك بيقين، ثم في الوديعة إذا دفع إليه بعدما صدقه وهلك في يده ثم حضر المودع وأنكر والوكالة وضمن المودع ليس له أن يرجع على الوكيل بشيء.
وهنا للملتقط أن يرجع على القابض؛ لأن هناك في زعم المودع أن الوكيل عامل للمودع في قبضه له لم يأمره، وأنه ليس بضامن بل المودع ظالم في تضمينه إياه، ومن ظلم فليس له أن يظلم غيره وهنا في زعمه أن القابض عامل لنفسه وإنه ضامن بعدما ثبت الملك لغيره بالبينة فكان له أن يرجع عليه بما ضمن لهذا، كذا في " المبسوط ".
م: (ولا يتصدق باللقطة على غني لأن المأمور هو التصدق لقوله - عليه السلم -: فإن لم يأت يعني صاحبها - فليتصدق به) ش: أي ما أمر بالصدقة م: (والصدقة لا تكون على غني فأشبه الصدقة المفروضة) ش: حيث لا تصح على غني، والحديث رواه أبو هريرة، أخرجه الدارقطني، وقد تقدم م: (وإن كان الملتقط غنياً لم يجز له أن ينتفع بها) ش: أي باللقطة م: (وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يجوز) ش: وبه قال أحمد م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (في حديث أبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «فإن جاء صاحبها فادفعها إليه وإلا فانتفع بها» ش: حديث أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الصحيحين، وفيه: «فاحفظ عددها ووعاءها ووكاءها، فإن جاء صاحبها وإلا فانتفع بها ... » الحديث.
م: (وكان) ش: أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (من المياسير) ش: أي من الأغنياء، وهذا من كلام المصنف وليس من سنن الحديث، والمياسير جمع ميسور ضد المسور، وهما(7/341)
ولأنه إنما يباح للفقير حملا له على رفعها صيانة لها والغني يشاركه فيه، ولنا أنه مال الغير فلا يباح الانتفاع به إلا برضاه لإطلاق النصوص والإباحة للفقير لما رويناه أو بالإجماع فيبقى ما رواه على الأصل، والغني محمول على الأخذ؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجهان عند سيبويه، ومصدران عند غيره.
قيل: يرد كلام المصنف ما رواه البخاري ومسلم «عن أبي طلحة. قلت: يا رسول الله: إن الله تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] (آل عمران، الآية: 92) ، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها فما ترى يا رسول الله؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اجعلها في فقراء قرابتك " فجعلها أبو طلحة في أبي، وحسان،» فهذا صريح أن أبياً كان فقيراً.
قلت: يحتمل أنه أيسر بعد ذلك، وقضايا الأحوال متى تطرق إليها الاحتمال سقط منها الاستدلال.
م: (ولأنه) ش: أي لأن الانتفاع باللقطة م: (إنما يباح للفقير حملاً له على رفعها) ش: أي لكونه حاملاً وباعثاً على رفعها أي على رفع اللقطة م: (صيانة لها) ش: أي حفظاً للقطة، يعني حفظاً لها عن الضياع م: (والغني يشاركه فيه) ش: أي يشارك الفقير في الانتفاع بها.
حاصله أن حل الانتفاع باللقطة بعد التعريف للفقير لا للتصدق فيصير ذلك سبباً للالتقاط، فيصير المال محفوظاً على المالك.
فإنه متى علم أنه يحل له الانتفاع به بعد التعريف يرغب في الالتقاط والغني يشارك الفقير في هذا المعنى، فيشاركه في الانتفاع.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن اللقطة، ذكر الضمير باعتبار المال م: (مال الغير فلا يباح الانتفاع به إلا برضاه لإطلاق النصوص) ش: الحرية للتعرض لملك مال الغير فلا يباح، قال الله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] .
م: (والإباحة للفقير لما رويناه) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " فليتصدق به " فعلم أن الإباحة بطريق التصدق. م: (أو بالإجماع) ش: على جواز تعادل الصدقة للفقير دون الغني م: (فيبقى ما رواه على الأصل) ش: أي بقي ما رواه جواز الانتفاع الفقير على الأصل وهو حرمة الانتفاع بمال الغير بغير إذنه.
م: (والغني محمول على الأخذ) ش: هذا جواب عما قال الشافعي: يجوز الانتفاع للغني بعد مدة التعريف حتى يكون حاملاً على رفع اللقطة وصيانتها؛ لأنه إذا عرف أن اللقطة يجوز له(7/342)
لاحتمال افتقاره في مدة التعريف، والفقير قد يتوانى لاحتمال استغنائه فيها، وانتفاع أبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان بإذن الإمام وهو جائز بإذنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الانتفاع بها بعد التعريف يرفعها رجاء أن يؤول إليه، وتقرير الجواب أن الغني محمول على الأخذ، يعني كونه حاملاً لرفعها م: (لاحتمال افتقاره في مدة التعريف) ش: يعني يحتمل أن يكون فقيراً في مدة التعريف.
م: (والفقير قد يتوانى) ش: أي قد يتكاسل في الأخذ م: (لاحتمال استغنائه فيها) ش: أي في مدة التعريف، فيكون الحاصل في كل منهما رفع اللقطة والحاجة إليها، وكذلك في كل منهما مال عدم رفعها، إلا أن الحامل في الغني لا يوجب الانتفاع بها بخلاف الفقير وتطرق الاحتمال في المال لا يؤثر في الحال.
فإن قلت: في صحيح البخاري عن زيد بن خالد الجهني: «فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك» فدل على الانتفاع للملتقط غنياً كان أو فقيراً.
قلت: معنى شأنك الزم شأنك بها في الحفظ لصاحبها م: (وانتفاع أبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان بإذن الإمام) ش: هذا جواب عن استدلال الشافعي بحديث أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بيانه أن انتفاع أبي ابن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان بإذن الإمام تخصيصاً له، كما في شهادة خزيمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (وهو جائز بإذنه) ش: أي الانتفاع باللقطة بعد مدة التعريف جائز للغني بإذن الإمام على وجه يكون قرضاً.
وهذا الجواب الذي أجاب به المصنف عن حديث أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنما يمشي على كون أبي غنياً؛ لأنه قال فيما مضى وكان من المياسير، وقد قلنا فيما مضى أنه كان فقيراً وبينا ذلك، قال الأترازي في جوابه عن حديث أبي، قال أصحابنا: إنه كان فقيراً وذكر حديث أبي طلحة، وقد ذكرناه.
فإن قلت: قال الترمذي عقيب حديث أبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والعمل عليه عند أهل العلم، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا لصاحب اللقطة أن ينتفع بها إذا كان غنياً.
ولو كانت اللقطة لا تحل إلا لمن تحل له الصدقة لم يحل لعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد أمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأكل الدينار حين وجده، ومن لم يعرفه.
قلت: أجيب عن هذا بما أجيب عن حديث أبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرواه أبو داود في سننه عن سهل بن سعد «أن علي بن أبي طالب دخل على فاطمة وحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهما يبكيان، فقال: ما يبكيكما؟ قالا: الجوع، فخرج علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فوجد ديناراً بالسوق، فجاء فاطمة فأخبرها، فقالت: اذهب إلى فلان اليهودي فخذ لنا دقيقاً، فجاء اليهودي(7/343)
وإن كان الملتقط فقيرا فلا بأس بأن ينتفع بها لما فيه من تحقيق النظر من الجانبين، ولهذا جاز الدفع إلى فقير غيره، وكذا إذا كان الفقير أباه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واشترى به دقيقاً.
فقال اليهودي: أنت ختن هذا الذي يزعم أنه رسول الله؟ قال: نعم، قال: فخذ ثم جاء فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فأخبرها، فقالت: اذهب به إلى فلان الجزار فخذ لنا بدرهم لحماً فذهب فرهن الدينار بدرهم، فطبخت وخبزت وأرسلت إلى أبيها، فجاء فقالت: يا رسول الله أذكر لك فإن كان لنا حلالاً أكلناه، من شأنه كذا وكذا، فقال: " كلوا باسم الله " فأكلوا فبينما هم مكانهم إذا غلام ينشد الله والإسلام الدينار.
فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدعي، فسأله فقال: سقط مني في السوق، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا علي اذهب إلى الجزار فقل له إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسل إلي بالدينار، ودرهمك علي " فأرسل به فدفعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليه ... » انتهى.
واستشكل هذا من جهة أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنفق الدينار قبل التعريف، وأجاب المنذري بأن مراجعة علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ملأ الخلق إعلان به، ثم قال: بهذا يؤيد الاكتفاء بالتعريف مرة واحدة.
قلت: هذا رواه عبد الرزاق عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «إن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجد ديناراً في السوق فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " عرفه ثلاثة أيام " قال: فعرفه ثلاثة أيام فلم يجد من يعرف، فرجع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبره فقال: " شأنك ... » الحديث.
م: (وإن كان الملتقط فقيراً فلا بأس بأن ينتفع بها لما فيه) ش: أي من الانتفاع م: (من تحقيق النظر من الجانبين) ش: جانب الملتقط بالانتفاع، وجانب المالك بحصول الثواب له.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون النظر فيه من الجانبين م: (جاز الدفع) ش: أي دفع اللقيط م: (إلى فقير غيره) ش: من الفقراء أو هو وسائر الفقراء سواء في الفقر، فجاز الانتفاع له أيضاً، م: (وكذا) ش: أي وكذا يجوز م: (إذا كان الفقير أباه) ش: أي أب الملتقط.(7/344)
أو ابنه أو زوجته، وإن كان هو غنيا لما ذكرنا، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أو ابنه أو زوجته، وإن كان هو) ش: أي الملتقط م: (غنياً) ش: وصرفها إلى هؤلاء، وكلمة إن واصلة بما قبلها م: (لما ذكرنا) ش: أي لما فيه من تحقيق النظر من الجانبين، ولو التقط العبد شيئاً بغير إذن مولاه يجوز عندنا ومالك وأحمد والشافعي في قول، فإذا أتوه طولب ربه بقضاء الدين أو البيع فيه سواء أتوه قبل التعريف أو بعده.
وبه قال أحمد والشافعي في وجه؛ لأنه ضمان خيانة فتعلق برقبته، ويظهر في حق المولى، وعند مالك إن أتلفه قبل التعريف يؤمر الولي بالدفع أو القدر، وإن أتلف بعد التعريف يطالب العبد بعد العتق؛ لأن الشرع أذن له في الانتفاع فكان ضمان بحصته فلا يظهر في حق المولى م: (والله أعلم) .(7/345)
كتاب الإباق الآبق أخذه أفضل في حق من يقوى عليه لما فيه من إحيائه، وأما الضال فقد قيل كذلك، وقد قيل تركه أفضل؛ لأنه لا يبرح مكانه فيجده المالك ولا كذلك الآبق، ثم آخذ الآبق يأتي به إلى السلطان؛ لأنه لا يقدر على حفظه بنفسه بخلاف اللقطة، ثم إذا رفع الآبق إليه يحبسه، ولو رفع الضال لا يحبسه؛ لأنه لا يؤمن على الآبق الإباق ثانيا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الإباق]
م: (كتاب الإباق) ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الإباق وهو الهرب من أبق من باب ضرب يضرب، وفي " المبسوط " الإباق التمرد في الانطلاق وهو من سوء الأخلاق، ورواة الأعراق يطهر العبد عن نفسه فراراً ليصير ماله ضماناً أو رده إلى مولاه إحسان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
والآبق هو الذي يهرب عن مولاه قصداً، والضال هو الذي ضل الطريق إلى منزله، وفي النهاية هذا الكسب أعني اللقيط واللقطة والإباق والعتق ركيت يجانس بعضها بعضاً من حيث إن في كل منها عرضة الزوال والهلاك.
م: (الآبق) ش: على وزن فاعل مرفوع بالابتداء، وقوله م: (أخذه) ش: مبتدأ ثان وخبره هو قوله م: (أفضل) ش: والجملة خبر المبتدأ الأول م: (في حق من يقوى عليه) ش: أي من يقدر على أخذه ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم م: (لما فيه) ش: أي لما في أخذه م: (من إحيائه) ش: لأنه هالك في حق المولى، فيكون الرد إحياءه.
م: (وأما الضال فقد قيل كذلك) ش: أي حكم الآبق أخذه أفضل، لما فيه من إحياء النفس ومن التعاون على البر كالآبق م: (وقد قيل تركه أفضل لأنه لا يبرح مكانه) ش: يعني الضال يطلب مالكه فلا يبرح عن مكانه م: (فيجده المالك ولا كذلك الآبق) ش: بخلاف الآبق؛ لأنه يخفى عن مولاه، وإذا لم يؤخذ يضيع حقه م: (ثم آخذ الآبق) ش: الآخذ على صيغة اسم الفاعل م: (يأتي به) ش: أي بالآبق م: (إلى السلطان) ش: أو نائبه أو القاضي م: (لأنه) ش: أي لأن آخذه م: (لا يقدر على حفظه) ش: أي حفظ الآبق م: (بنفسه) ش: لتمرده أو عجز آخذه، ثم هذا الذي ذكر من الإتيان بالعبد الآبق إلى السلطان اختيار شمس الأئمة السرخسي، وأما اختيار شمس الأئمة الحلواني فالآخذ بالخيار إن شاء حفظه لنفسه وإن شاء دفعه إلى الإمام.
وكذلك الضال والضالة الواجد فيهما بالخيار كذا في الذخيرة م: (بخلاف اللقطة) ش: حيث لا يرفعها إلا السلطان؛ لأنه قادر على حفظها بنفسه م: (ثم إذا رفع الآبق إليه) ش: أي إلى السلطان م: (يحبسه، ولو رفع الضال لا يحبسه لأنه لا يؤمن على الآبق الإباق ثانياً) ش: فيكون ترك(7/346)
بخلاف الضال، قال: ومن رد آبقا على مولاه من مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا فله عليه جعله أربعون درهما، وإن رده لأقل من ذلك فبحسابه، وهذا استحسان، والقياس أن لا يكون له شيء إلا بالشرط وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه متبرع بمنافعه فأشبه العبد الضال. ولنا أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اتفقوا على وجوب أصل الجعل، إلا أن منهم من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حبسه تعريضاً على الإباق م: (بخلاف الضال) ش: لأن الظاهر أنه لا يروح إذا لم يحبس.
وقال الحاكم الشهيد في " الكافي ": وإذا أتى الرجل بالعبد فأخذه السلطان فحبسه فادعاه رجل وأقام البينة أنه عبده قال: يستحلفه ما بعته ولا رهنته، ثم يدفعه إليه ولا أحب أن يأخذ منه كفيلاً.
وإن أخذ منه القاضي كفيلاً لم يكن ليأخذه ولكن لا يأخذه أحب إلي، قال الحاكم: هذه رواية أبي حفص ورأيت في بعض روايات سليمان قال: أحب إلي أن يأخذ منه كفيلاً.
وإن لم يأخذ منه كفيلاً وسعه ذلك وإن لم يكن للمدعي بينة، وأقر العبد أنه عبده قال: يدفعه إليه ويأخذ منه كفيلاً، وإن لم يجئ للعبد طالب. قال: إذا طال بعد ذلك باعه الإمام وأمسك ثمنه حتى يجيء له طالب ويقيم البينة بأن العبد عبده فيدفع الثمن ولا ينقض بيع الإمام، وينفق عليه الإمام في مدة حبسه من بيت المال ثم يأخذ من صاحبه إن حضر ومن ثمنه إن باعه.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن رد آبقاً على مولاه من مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً فله عليه جعله أربعون درهماً، وإن رده لأقل من ذلك) ش: أي من مسيرة السفر م: (فبحسابه) ش: أي فيحسب الجعل بحساب ما دون السفر، والجعل بالضم ما يجعل للعامل على عمله.
م: (وهذا استحسان) ش: أي وجوب الجعل استحسان المشايخ لاتفاق الصحابة على ذلك م: (والقياس أن لا يكون له) ش: أي للمسير م: (شيء إلا بالشرط وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال ابن المنذر وبعض أصحاب أحمد، وهو قول إبراهيم النخعي أيضاً.
ولكن ما أنفق عليه إنما يجب بالشرط، بأن قال: من رد عبدي علي فله كذا م: (لأنه) ش: أي لأن المراد م: (متبرع بمنافعه) ش: في رده م: (فأشبه العبد الضال) .
ش: حيث لا يجب شيء فيه، ولو تبرع عليه يعني من أعيان ماله فلا يرجع عليه، فكذا إذا تبرع بمنافعه، ولا يستوجب الآبق نهياً له عن المنكر، والنهي عن المنكر فرض، فإذاً لا يستوجب فاعل الفرض جعلاً.
م: (ولنا أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اتفقوا على وجوب أصل الجعل، إلا أن منهم من أوجب أربعين درهماً، ومنهم من أوجب ما دونها) ش: أي ما دون الأربعين، فمن الصحابة الذين أوجبوا الأربعين درهماً، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه "، حدثنا(7/347)
أوجب أربعين درهما، ومنهم من أوجب ما دونها فأوجبنا الأربعين في مسيرة السفر وما دونها فيما دونه، توفيقا وتلفيقا بينهما؛ ولأن إيجاب الجعل أصله حامل على الرد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
محمد بن يزيد عن أيوب عن أبي العلاء عن قتادة وأبي هاشم أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " قضى في جعل الآبق أربعين درهماً " ومنهم معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه ابن أبي شيبة أيضاً، حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن أبي إسحاق قال: أعطيت الجعل في زمن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أربعين درهماً، ومنهم عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رواه عبد الرزاق في " مصنفه " أخبرنا سفيان الثوري عن أبي رباح عن عبد الله بن رباح عن أبي عمرو الشيباني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أصبت غلماناً أباقاً بالغين، فذكرت ذلك لابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: الأجر والغنيمة، قلت: هذا الأجر، فما الغنيمة؟ قال: أربعون درهماً من كل رأس.
ومن الصحابة الذين أوجبوا أقل من أربعين درهماً علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا محمد بن يزيد ويزيد بن هارون عن حجاج عن حصين عن الشعبي عن الحارث عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه جعل في جعل الآبق ديناراً، أو اثني عشر درهماً، وفيه حديث مرفوع مرسل: أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في " مصنفيهما " عن عمرو بن دينار «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في العبد الآبق يؤخذ خارج الحرم بدينار أو عشرة دراهم» .
م: (فأوجبنا الأربعين في مسيرة السفر وما دونها) ش: أي أوجبنا ما دون الأربعين م: (فيما دونه) ش: أي فيما دون السفر م: (توفيقاً) ش: بين الآثار المذكورة م: (وتلفيقاً بينهما) ش: أي جمعاً بين الروايات المتعارضة، والتلفيق الضم يقال: لفقت الثوب ألفقه وهو أن يضم شفة إلى أخرى كذا في " الصحاح ".
فإن قلت: كان الواجب أن يؤخذ بأقل المقادير تيقنة. قلت: لم يؤخذ بالأقل لإمكان التوفيق بين أقاويلهم وأشار إليه المصنف بقوله: فأوجبنا الأربعين إلى آخره، وعن أحمد: إن رده من المصر فله عشرة دراهم أو دينار، وإن رده من خارج المصر سواء كان مدة السفر أو لا فله أربعون، وقال مالك: له أجر مثله في قدر تعبه وسفره، وتكلف طلبه ممن شأنه وعادته طلب الإباق، وإن لم يكن ممن نصب نفسه كذلك فله نفقته عليه؛ لأنه اختلف فيه الصحابة، فعلم أنه غير مقدر بشيء معين فيجب أجر المثل م: (ولأن إيجاب الجعل أصله حامل على الرد) ش: هذا دليل عقلي لوجوب الجعل، بيانه أن الأصل في إيجاب الجعل هو أنه يحمل على رد الآبق.(7/348)
إذ الحسبة نادرة فتحصل صيانة أموال الناس، والتقدير بالسمع ولا سمع في الضال فامتنع، ولأن الحاجة إلى صيانة الضال دونها إلى صيانة الآبق؛ لأنه لا يتوارى، والآبق يختفي، ويقدر الرضخ في الرد عما دون السفر باصطلاحهما، أو يفوض إلى رأي القاضي، وقيل: يقسم الأربعون.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إذ الحسبة) ش: أي العمل فيه لأجل اعتقاد الأجر م: (نادرة) ش: فإذا كان كذلك م: (فتحصل) ش: بوجوب الجعل م: (صيانة أموال الناس) ش: من الضياع فيرغب كل واحد عن تحصيل الآبق ليرده إلى صاحبه، فيأخذ الجعل. والرد يحتاج إلى عناء فقلما يرغب الناس في التزام ذلك حسبة، ففي إيجاب الجعل يحصل صيانة الأموال م: (والتقدير بالسمع) ش: جواب عن قياس الشافعي الآبق على الضال في عدم وجوب الجعل أي تقدير الجعل في الآبق بدليل سمعي أو هو إجماع الصحابة الذي ورد في حكم الآبق من وجوب الجعل على حسب الاختلاف في كمية المقدار فيه، ولا اختلاف في أصل الوجوب؛ لأنه وقع مجمعاً عليه من غير نكير منهم. م: (ولا سمع في الضال) ش: أي لم يرد شيء في وجوب شيء في رد الضال م: (فامتنع) ش: قياس الآبق على الضال، وكان القياس في رد الآبق عدم الوجوب أيضاً، إلا أنا تركنا القياس فيه لوجود السمع.
ولا سمع في الضال، فبقي على أصل القياس م: (ولأن الحاجة) ش: إشارة إلى بقاء إلحاق الآبق بالضال، بيانه أن الحاجة م: (إلى صيانة الضال دونها) ش: أي دون الحاجة م: (إلى صيانة الآبق لأنه) ش: أي لأن الضال م: (لا يتوارى) ش: أي لا يختفي م: (والآبق يختفي) ش: لأنه هارب، والهارب يخفي نفسه.
م: (ويقدر الرضخ) ش: تفصيل لقوله: وإن رده لأقل من ذلك فبحسابه بأن عملوا بالقسمة كان لكل يوم ثلاثة عشر درهماً، وثلاثة دراهم، ورد هذا قول من قال: إن قوله رضخ إلى آخره تكرار لما ذكره قبله، وإن رده لأقل من ذلك فبحسابه، بيانه أن هذه الأوجه الثلاثة أعني قوله: الرضخ إلى قوله: وإن كانت تفصيل لما ذكره أولاً. فإن التقدير الشرعي إذا ثبت على خلاف القياس يمنع أن يكون لما دون القدر حكم القدر فقال: لأجل ذلك ويقدر الرضخ بالمعجمتين من قولهم، أرضخ فلان بفلان ماله إذا أعطاه قليلاً من كثير، والاسم الرضيخة يقال: أعطاه رضيخة من ماله ورضاخة كذا ذكره ابن دريد.
م: (في الرد عما دون السفر باصطلاحهما) ش: أي باصطلاح الراد والمالك يجب ما يقع عليه اتفاقهما، وهذا أحد الوجوه الثلاثة التي أشرنا إليها م: (أو يفوض إلى رأي القاضي) ش: هذا هو الوجه الثاني أو يفوض أمر الرضخ إلى رأي القاضي على حسب ما يرى.
قالوا: هذا هو الأشبه بالاعتبار م: (وقيل: يقسم الأربعون) ش: هذا هو الوجه الثالث أي(7/349)
على الأيام الثلاثة، إذ هي أقل مدة السفر
قال: وإن كانت قيمته أقل من أربعين يقضى له بقيمته إلا درهما، قال: وهذا قول محمد، وقال أبو يوسف: له أربعون درهما؛ لأن التقدير بها ثبت بالنص فلا ينقص عنها، ولهذا لا يجوز الصلح على الزيادة بخلاف الصلح على الأقل؛ لأنه حط منه. ولمحمد أن المقصود حمل الغير على الرد ليحيي مال المالك فينقص درهم ليسلم له شيء تحقيقا للفائدة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يقسم الأربعون التي هي الجعل م: (على الأيام الثلاثة) ش: فيجب بإزاء كل يوم ثلاثة عشر درهماً وثلث درهم م: (إذ هي) ش: أي الأيام الثلاثة م: (أقل مدة السفر) ش: في القصر في الصلاة وغيرها.
وفي " فتاوى الولوالجي ": وإذا كان العبد الآبق بين رجلين أو ثلاثة فالجعل عليها على قدر الأنصباء؛ لأن منفعة الرد حصلت لهما ثلاثاً، فكذلك الجعل عليها يكون، وفي " الذخيرة ": ولو كان أحدهما غائباً فليس للحاضر أن يأخذه حتى يعطي الجعل كله أو لا يكون معتبراً في نصيب الغائب بل يرجع عليه.
[رد الآبق على مولاه من مسيرة ثلاثة أيام]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن كانت قيمته) ش: أي قيمة الآبق م: (أقل من أربعين يقضى له) ش: أي للراد م: (بقيمته) ش: أي بقيمة العبد الآبق م: (إلا درهماً) ش: ينقص من الأربعين لأن ما دون الدرهم كسور، ولا يجوز اعتباره شرعاً للنص.
م: (قال) ش: أي المصنف: م: (وهذا قول محمد، وقال أبو يوسف: له أربعون درهماً) ش: وبه قال أحمد م: (لأن التقدير بها) ش: أي بالأربعين م: (ثبت بالنص) ش: أي بالأثر م: (فلا ينقص عنها) ش: أي عن الأربعين.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون الأربعين منصوصاً عليها م: (لا يجوز الصلح على الزيادة) ش: أي على الأربعين يعني إذا صالح المالك مع الراد على أكثر من الأربعين درهماً لا يجوز الصلح لتعيين الأربعين بالنص م: (بخلاف الصلح على الأقل) ش: حيث يجوز م: (لأنه حط منه) ش: أي من الأربعين.
م: (ولمحمد أن المقصود) ش: يعني من الجعل م: (حمل الغير على الرد) ش: أي رد الآبق م: (ليحيي مال المالك) ش: لأن الآبق كالهالك م: (فينقص درهم ليسلم له شيء) ش: من مالية العبد م: (تحقيقاً للفائدة) ش: وهي حياة مال المالك نظراً له، ولا نظر في إيجاب أربعين كلها في رد ما لا يساوي أربعين. ثم اعلم أن قول أبي يوسف كان أولاً مثل قول محمد، ولهذا لم يذكر الخلاف شيخ الإسلام خواهر زاده في " مبسوطه " أو شمس الأئمة البيهقي في " الشامل " وكذلك في عامة نسخ الفقه، ولم يذكروا قول أبي حنيفة.(7/350)
وأما أم الولد والمدبر في هذا بمنزلة القن إذا كان الرد في حياة المولى، لما فيه من إحياء ملكه، ولو رد بعد مماته لا جعل فيهما؛ لأنهما يعتقان بالموت بخلاف القن، ولو كان الراد أبا المولى أو ابنه وهو في عيال الأب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذكر في " شرح الطحاوي " قوله مع محمد، فقال: لو كان العبد يساوي أربعين أو دونها فإنه ينقص من قيمته درهم واحد عند أبي حنيفة ومحمد، وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولاً، ثم رجع وقال: يجب الجعل درهماً وإن كانت قيمته درهماً.
م: (وأما أم الولد والمدبر في هذا) ش: أي في وجوب الجعل م: (بمنزلة القن إذا كان الرد في حياة المولى) ش: لأنهما مملوكان له، ولهذا هو أحق بكسبها، وهما بمنزلة القن، ووجب الجعل لإحياء ما بينهما بالرد، وتعليل المصنف بقوله م: (لما فيه من إحياء ملكه) ش: أولى بتعليل غيره لما فيه إحياء المالية؛ لأن أم الولد لا مالية فيها عند أبي حنيفة.
وقال الكاكي: فإن قيل: الجعل يجب لإحياء المالكية، ولا مالية لأم الولد خصوصاً عند أبي حنيفة.
قلنا: المالك أحق بكسبها، ولها مالية باعتبار كسبها، وقد أحياها بالرد إليه فيستوجب الجعل بخلاف المكاتب، فإنه أحق بمكاسبه فلا يكون رده إحياء لمالية المولى لا باعتبار الرقبة، ولا باعتبار المكسبة كذا في " المبسوط ".
م: (ولو رد بعد مماته) ش: أي ولو رد أم الولد والمدبر بعد موت المولى م: (لا جعل فيهما لأنهما يعتقان بالموت) ش: أي بموت المولى م: (بخلاف القن) ش: حيث يجب الجعل برده بعد موت مولاه، وقوله: يعتقان بموته ظاهر في حق أم الولد.
وفي حق المدبر الذي لا سعاية عليه، أما الذي عليه السعاية بأن لم يكن للمولى مال سواه فكذلك لا يستوجب الجعل على الورثة لأن السعي كالمكاتبة عنده، وهو مديون عندهما، ولا جعل لرد المكاتب أو الحر.
م: (ولو كان الراد أبا المولى أو ابنه) ش: أو ابن المولى م: (وهو) ش: أي والحال أن الراد م: (في عيال الأب) ش: قيد به إذا لم يكن في عياله يجب الجعل، وحمله ذلك أن الراد إذا كان في عياله مالك العبد أي في مؤنته ونفقته لا جعل له سواء كان الراد أبا المالك أو ابناً له.
وأما إذا لم يكن في عياله لا جعل له سواء كان الرد فعل التفضيل إن كان الراد ابن المالك فليس له جعل، وإن كان أباه فله الجعل المشار إليه في " الذخيرة ". وفي " شرح الطحاوي ": ولو كان الراد ذا رحم محرم من المردود عليه فإنه ينظر إن وجد الرجل عبد أبيه، فلا جعل له سواء كان في عياله أو لم يكن، وكذا المرأة والزوج.(7/351)
أو أحد الزوجين على الآخر فلا جعل؛ لأن هؤلاء يتبرعون بالرد عادة ولا يتناولهم إطلاق الكتاب. قال: وإن أبق من الذي رده فلا شيء عليه؛ لأنه أمانة في يده، لكن هذا إذا أشهد، وقد ذكرناه في اللقطة. قال: وذكر في بعض النسخ أنه لا شيء له، وهو صحيح أيضا لأنه في معنى البائع من المالك، ولهذا كان له أن يحبس الآبق حتى يستوفي الجعل بمنزلة البائع يحبس المبيع لاستيفاء الثمن، وكذلك إذا مات في يده لا شيء عليه لما قلنا. قال: ولو أعتقه المولى كما لقيه صار قابضا بالإعتاق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن وجد الأب عند أبيه إن لم يكن في عياله فله الجعل، وإن كان في عياله فلا جعل له، وكذلك الأخ وسائر ذوي الأرحام إذا وجد عبد أخيه إن كان في عياله، فلا جعل له، وإن لم يكن في عياله فله الجعل.
م: (أو أحد الزوجين على الآخر) ش: أي ورد الآبق أحد الزوجين على الآخر م: (فلا جعل) ش: لهؤلاء م: (لأن هؤلاء يتبرعون بالرد عادة ولا يتناولهم إطلاق الكتاب) ش: أي القدوري، وأراد بإطلاق ما ذكره القدوري بقوله: ومن رد الآبق على مولاه من مسيرة ثلاثة أيام، فصاعداً فله عليه جعل أربعون درهماً.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن أبق) ش: أي العبد م: (من الذي رده فلا شيء عليه) ش: أي لا ضمان عليه م: (لأنه أمانة في يده، لكن هذا) ش: أي عدم وجوب الضمان م: (إذا أشهد) ش: عند الأخذ.
م: (وقد ذكرناه في اللقطة) ش: أي وقد ذكرناه في كتاب اللقطة أن الأخذ على هذا الوجه ما دون فيه شرعاً.
م: (قال) ش: أي المصنف: م: (وذكر في بعض النسخ) ش: من " المختصر " للقدوري م: (أنه لا شيء له) ش: أي لأجل الراد إذا أبق الآبق منه م: (وهو صحيح أيضاً لأنه) ش: أي لأن الراد م: (في معنى البائع من المالك) ش: لأن عامة منافع العبد زالت بالإباق وإنما سيعيدها المولى والرد بما يجب عليه، والبائع إذا هلك في يده المبيع سقط الثمن.
فكذلك هنا سقط الجعل ثم استوضح المصنف ذلك بقوله: م: (ولهذا كان له) ش: أي للراد م: (أن يحبس الآبق حتى يستوفي الجعل) ش: أي حتى يأخذ الجعل، وهذا م: (بمنزلة البائع يحبس المبيع لاستيفاء الثمن) ش: أي يأخذ جميع الثمن.
م: (وكذلك إذا مات) ش: أي الآبق م: (في يده) ش: أي في يد الراد م: (لا شيء عيه) ش: أي لا ضمان عليه م: (لما قلنا) ش: أنه أمانة عنده م: (قال: ولو أعتقه المولى كما لقيه) ش: أي أعتقه قبل أن يقبضه وقت لقائه م: (صار قابضاً بالإعتاق) ش: فيجب عليه الجعل، وأشار بقوله(7/352)
كما في العبد المشترى، وكذا إذا باعه من الراد لسلامة البدل له، والرد وإن كان له حكم البيع لكنه بيع من وجه، فلا يدخل تحت النهي الوارد عن بيع ما لم يقبض فجاز. قال: وينبغي إذا أخذه أن يشهد أنه يأخذه ليرده، فالإشهاد حتم فيه عليه على قول أبي حنيفة ومحمد، حتى لو رده من لم يشهد وقت الأخذ لا جعل له عندهما. لأن ترك الإشهاد أمارة أنه أخذه لنفسه، فصار كما إذا اشتراه من الآخذ أو بهبة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالإعتاق إلى أنه لو دبره فكان الإعتاق لم يصر قابضاً.
والفرق بينهما أن الإعتاق إتلاف للمالية فيصير به قابضاً بالإعتاق، وأما التدبير فليس بإتلاف المال، فلا يصير به المولى قابضاً إلا أن يصل إلى يده م: (كما في العبد المشترى، وكذا إذا باعه) ش: أي وكذا يصير قابضاً إذا باع العبد الآبق م: (من الراد لسلامة البدل له) ش: وهو بالثمن لسلامة العين فيجب عليه الجعل.
م: (والرد وإن كان له حكم البيع) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر يرد على قوله: لأنه في معنى البائع من المالك، وهو أن يقال لما كان الراد في معنى البائع كان المالك في معنى المشتري، فعلى هذا ينبغي أن يجوز بيعه من الراد قبل القبض لورود النهي عن بيع المشتري قبل القبض.
فأجاب بقوله: والراد وإن كان له حكم البيع لكن ليس من كل وجه، وهو معنى قوله م: (لكنه بيع من وجه) ش: عن إعادة ملك التصرف إليه، وهذا لأن ملك الرقبة ليس بزائل على المولى، فلما كان كذلك جاز بيع المالك م: (فلا يدخل تحت النهي الوارد عن بيع ما لم يقبض فجاز) ش: أي البيع لأن النهي ورد مطلقاً، والمطلق يتناول الكامل، وامتناع جواز البيع قبل القبض، وليس من خصائص البيع، أي ليس من لوازمه لا محالة، فإن بيع العقار قبل القبض جائز على قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وينبغي إذا أخذه) ش: أي إذا أخذ الآبق م: (أن يشهد أنه يأخذه ليرده) ش: هذا كلام القدوري في " مختصره "، وقال المصنف: م: (فالإشهاد حتم) ش: أي واجب م: (فيه) ش: أي في الآبق م: (عليه) ش: أي على الآخذ م: (على قول أبي حنيفة ومحمد حتى لو رده من لم يشهد وقت الأخذ لا جعل له عندهما) .
) ش: وعند أبي يوسف والأئمة الثلاثة ليس الإشهاد بشرط، وقد مر في اللقطة م: (لأن ترك الإشهاد أمارة) ش: بفتح الهمزة أي علامة م: (أنه أخذه لنفسه فصار كما إذا اشتراه من الآخذ) ش: إذا رده على مولاه لا جعل له لأنه أخذه لنفسه إلا إذا لم يشهد حين اشتراه أنه إنما اشتراه على صاحبه؛ لأنه لا يقدر عليه إلا بشراء، فله الجعل لأن هذا الشراء لا يعد ملكاً، فكان الآخذ بدون الشراء، وإن لم يشهد لا يستحق الجعل، وإن أشهد استحق، فكذا هذا م: (أو بهبة) ش: أي قبل هبته إن(7/353)
أو ورثه فرده على مولاه لا جعل له؛ لأنه رده لنفسه إلا إذا أشهد أنه اشتراه ليرده فيكون له الجعل، وهو متبرع في أداء الثمن، فإن كان الآبق رهنا فالجعل على المرتهن؛ لأنه أحيا ماليته بالرد، وهي حقه إذ الاستيفاء منها والجعل بمقابلة إحياء المالية، فيكون عليه، والرد في حياة الراهن وبعده سواء؛ لأن الرهن لا يبطل بالموت وهذا إذا كانت قيمته مثل الدين أو أقل منه، فإن كانت أكثر فبقدر الدين عليه؛ والباقي على الراهن؛ لأن حقه بالقدر المضمون، فصار كثمن الدواء، وتخليصه عن الجناية بالفداء. وإن كان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهبه الآخذ، صورته وهبه الآخذ لرجل فرد الموهوب له على مولاه م: (أو ورثه فرده على مولاه) ش: أي أو ورث الآبق من الآخذ فرده الوارث عن مولاه ففي هذه الصور كلها.
م: (لا جعل له لأنه رده لنفسه) ش: لأنه لم يأخذه ليرده بل أخذه لنفسه، مسألة الوصية ذكرها الحاكم، وفي " المبسوط " عبد آبق فأخذه رجل فاشتراه منه رجل آخر فرده على مولاه فلا جعل له، وكذا لو وهب له أو أوصى أو ورثه؛ لأنه ضمنه بالأخذ على هذا الوجه فيكون رده لإسقاط الضمان.
م: (إلا إذا أشهد أنه اشتراه ليرده) ش: على مولاه، لأنه لا يقدر على رده إلا بشراء م: (فيكون له الجعل وهو متبرع في أداء الثمن) ش: يعني لا يرجع على سيده قل أو كثر كما لو أنفق عليه بغير أمر القاضي م: (فإن كان الآبق رهناً) ش: فرده، آخذه م: (فالجعل على المرتهن؛ لأنه أحيا ماليته بالرد، وهي حقه) ش: أي مالية العبد حق المرتهن م: (إذ الاستيفاء منها) ش: أي لأن الاستيفاء حقه من مالية العبد م: (والجعل بمقابلة إحياء المالية فيكون عليه) ش: أي فيكون الجعل على المرتهن.
وقال الأكمل: والجعل بمقابلة إحياء المالية فيه نظر لأنه يلزمه إذا رد أم الولد، وليس ثم إحياء المالية عند أبي حنيفة واجب بأنه لا مالية فيها باعتبار الرقبة، ولها مالية باعتبار كسبها لأنه أحق بكسبها وقد أحيا الراد ذلك برده. م: (والرد في حياة الراهن وبعده سواء لأن الرهن لا يبطل بالموت) ش: فكان الرد بعد موته وقبله سواء م: (وهذا) ش: أي كون الجعل على الراهن م: (إذا كانت قيمته) ش: أي قيمة الآبق م: (مثل الدين أو أقل منه، فإن كانت أكثر فبقدر الدين عليه) ش: أي فيقدر حصة الدين على المرتهن م: (والباقي على الراهن لأن حقه) ش: أي حق الرهن م: (بالقدر المضمون) ش: لا غير فيجب عليه الجعل بقدره م: (فصار كثمن الدواء) ش: حيث يجب ذلك على المرتهن بقدر دينه والباقي على الراهن.
م: (وتخليصه) ش: أي تخليص العبد المرهون م: (عن الجناية بالفداء) ش: فإن البقاء يجب على المرتهن بقدر دينه وحصته على الراهن، فكذلك الجعل م: (وإن كان) ش: أي العبد الآبق(7/354)
مديونا فعلى المولى إن اختار قضاء الدين وإن بيع بدئ بالجعل، والباقي للغرماء؛ لأنه مؤنة الملك، والملك فيه كالموقوف فيجب على من يستقر له، وإن كان جانيا فعلى المولى إن اختار الفداء لعود المنفعة إليه، وعلى الأولياء إن اختار الدفع لعودها إليهم، وإن كان موهوبا فعلى الموهوب له، وإن رجع الواهب في هبته بعد الرد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مأذوناً م: (مديوناً فعلى المولى) ش: أي فالجعل على المولى م: (إن اختار قضاء الدين) ش: لأجل انتفاء العبد على ملكه.
م: (وإن بيع) ش: أي العبد بالدين م: (بدئ بالجعل) ش: يعني يستوفي من الجعل أولاً م: (والباقي) ش: من الثمن م: (للغرماء لأنه) ش: أي لأن الجعل م: (مؤنة الملك والملك فيه) ش: أي ملك المولى في العبد لحقوق الدين م: (كالموقوف) ش: بين أن يسد على المولى متى اختار قضاء الدين، وبين أن يصير للغرماء متى اختار البيع.
م: (فيجب على من يستقر له) ش: أي فيجب الجعل على من يستقر له الملك، فإن اختار المولى قضاء الدين استقر الملك له فيجب الجعل عليه، وإن بيع العبد المستقر الملك فيه للغرماء فيجب الجعل عليهم.
م: (وإن كان) ش: أي الآبق م: (جانياً) ش: بأن أخطأ م: (فعلى المولى) ش: أي فالجعل على المولى م: (إن اختار الفداء لعود المنفعة إليه) ش: أي منفعة الرد إلى المولى م: (وعلى الأولياء) ش: أي والجعل على الأولياء م: (إن اختار) ش: أي المولى م: (الدفع) ش: أي دفع العبد م: (لعودها إليهم) ش: أي إلى الأولياء لأن منفعة الرد سلمت لهم م: (وإن كان موهوباً) ش: أي وإن كان العبد الآبق موهوباً م: (فعلى الموهوب له) ش: أي فالجعل على الموهوب له.
م: (وإن رجع الواهب في هبته) ش: كلمة إن للوصل لما قبله م: (بعد الرد) ش: أي بعد رد الآبق، وإنما ذكر أن الواصلة لدفع شبهة ترد على قوله فيجب من يستقر له الملك وعلى قوله فعلى المولى إن اختار الفداء لعود المنفعة إليه، فعلى هذا ينبغي أن يجب الجعل على الواهب لهذين المعنيين.
فأجاب بقوله م: (لأن المنفعة للواهب ما حصلت بالرد) ش: أي برد الآبق م: (بل بترك الموهوب له التصرف) ش: من الهبة والبيع وغيرهما من التصرف الذي يمنع الواهب من الرجوع في هبته، وزوال الملك بالرجوع كزواله بموت العبد فلم يبطل الجعل عليه برجوع الواهب كما في الموت.
فإن قيل: المنفعة حصلت للواهب بالرد وترك التصرف في الموهوب له فيه قلنا: نعم، لكن ترك الموهوب له التصرف آخرهما وجوداً، فيضاف الحكم إليه كما في القرابة مع الملك يضاف التصرف إلى آخرهما وجوداً كذا هذا م: (فيه) ش: أي في الآبق م: (بعد الرد) ش: أي بعد رد الآبق(7/355)
لأن المنفعة للواهب ما حصلت بالرد بل بترك الموهوب له التصرف فيه بعد الرد، وإن كان للصبي فالجعل يجب في ماله لأنه مؤنة ملكه، وإن رده وصيه فلا جعل له؛ لأنه هو الذي يتولى الرد فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من إباقه م: (وإن كان) ش: أي العبد الآبق م: (للصبي فالجعل يجب في ماله لأنه) ش: أي لأن الجعل م: (مؤنة ملكه) ش: أي ملك الصبي.
م: (وإن رده) ش: أي الآبق م: (وصيه) ش: أي وصي الصبي م: (فلا جعل له لأنه هو الذي يتولى الرد فيه) ش: أي في الآبق إذ هو الطالب لآبق اليتيم عادة، وشرعاً يتحقق الرد فيه على نفسه، وكذا لو كان اليتيم في حجر رجل يعوله فيرده الرجل لا جعل له لأنه هو الطالب عادة، وكذا لا جعل للسلطان أو الشحنة أو الظفير لا جعل لهم في رد الآبق، والمال من أيدي قطاع الطريق لوجوب الفعل عليهم.
كذا في " المبسوط " و " الذخيرة ". وفي " المحيط " لو أخذ رجل آبقاً فغصبه من الآخذ رجل، وجاء إلى مولاه وأخذ جعله ثم جاء للآخر وأقام بينة أنه أخذ من مسيرة سفر يأخذ الجعل من سيده ثانياً ويرجع السيد على الغاصب بما وقع إليه، ولو جاء رجل بالآبق من مسيرة سفر فلما دخل مصر سيده هرب من الآخذ فوجده آخر وجاء به إلى سيده فلا جعل لواحد منهما، ولو خرج من المصر بعد الهرب وجاء به الآخر مدة سفر فالجعل للثاني.
وذكر الحاكم في " الكافي " إذا أبقت الأمة ولها صبي مرضعاً فردهما رجل كان له جعل واحد، فإن كان ابنها غلاماً قد قارب الحلم فله جعل ثمانون درهماً، وعلل في " الشامل " وقال: لأن من لم يراهق لم يقر آبقاً.(7/356)
كتاب المفقود إذا غاب الرجل فلم يعرف له موضع ولا يعلم أحي هو أم ميت نصب القاضي من يحفظ ماله ويقوم عليه ويستوفي حقه؛ لأن القاضي نصب ناظرا لكل عاجز عن النظر لنفسه، والمفقود بهذه الصفة، وصار كالصبي والمجنون، وفي نصب الحافظ لماله والقائم عليه نظر له، وقوله: ليستوفي حقه لإخفاء أنه يقبض غلاته، والدين الذي أقر به غريم من غرمائه لأنه من باب الحفظ، ويخاصم في دين وجب بعقده لأنه أصيل في حقوقه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب المفقود]
[حفظ مال من غاب فلم يعرف له موضع ولا يعلم أحي هو أم ميت]
م: (كتاب المفقود) ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام المفقود، ووجه مناسبة هذا الباب بالباب الذي قبله قد ذكرناه، يقال فقدت الشيء أي غاب عني فقداً وفقوداً وفقداناً فهو مفقود أي غائب، وهو من الأضداد. يقال فقدت الشيء أي ضللته، وفقدته أي طلبته وكلا المعنيين موجود في المفقود وقد ضل عن أهله وهو في طلبه، إذ هو اسم لحر غائب لم يرد موضعه ولا حياته ولا مماته وأهله في طلبه. وفي " المبسوط " هو حي غائب عن بلده أو أسر وأهله في طلبه، وقد انقطع خبره واستتر عليهم أثره ففي مستقره في الحد قد يصلون إلى المراد وربما يتأخر اللقاء إلى يوم التناد.
وفي ذكر المصنف في الكتاب ما ينفر مرامه الشرعي وهو قوله م: (إذا غاب الرجل فلم يعرف له موضع ولا يعلم أحي هو أم ميت نصب القاضي من يحفظ ماله ويقوم عليه) ش: أي على حفظ ماله م: (ويستوفي حقه لأن القاضي نصب ناظراً لكل عاجز عن النظر لنفسه، والمفقود بهذه الصفة) ش: أي الصفة المذكورة وهي قوله إذا غاب الرجل إلى آخره م: (وصار) ش: أي المفقود م: (كالصبي والمجنون) ش: حيث يحتاجان إلى من ينظر في أمرهما م: (وفي نصب الحافظ لماله) ش: أي وفي نصب القاضي الحافظ المقصود م: (والقائم عليه) ش: أي على مال المفقود م: (نظر له) ش: أي للمفقود وارتفاع نظر على أنه مبتدأ وله خبره.
م: (وقوله) ش: أي قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ليستوفي حقه) ش: وهذا من لفظه في " مختصره " أي يستوفي الذي نصب له لحفظ ماله، والقيام عليه حق المفقود، ولما كان هذا محتاجاً إلى إيضاحه أوضحه المصنف بقوله م: (لإخفاء أنه يقبض غلاته) ش: لأنها من جملة حقه.
م: (والدين) ش: أي ويقبض الدين م: (الذي أقر به غريم من غرمائه) ش: أي من غرماء المفقود م: (لأنه) ش: أي لأن قبض كل واحد من غرمائه الدين المذكور م: (من باب الحفظ ويخاصم) ش: أي الذي نصب له م: (في دين وجب بعقده) ش: أي بعقد الذي له.
م: (لأنه) ش: أي لأن الذي نصب له م: (أصيل في حقوقه) ش: أي في حقوق العقد الذي(7/357)
ولا يخاصم في الذي تولاه المفقود. ولا في نصيب له عقار أو عروض في يد رجل؛ لأنه ليس بمالك ولا نائب عنه إنما هو وكيل بالقبض من جهة القاضي وأنه لا يملك الخصومة بلا خلاف. وإنما الخلاف في الوكيل بالقبض من جهة المالك في الدين، وإذا كان كذلك يتضمن الحكم به قضاء على الغائب، وأنه لا يجوز إلا إذا رآه القاضي وقضى به؛ لأنه مجتهد فيه، ثم ما كان يخاف عليه الفساد يبيعه القاضي لأنه تعذر عليه حفظ صورته فينظر له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تولاه المفقود، وفائدته أن لا يقبل البينة عليه لأنه ليس من باب النظر للمفقود، وأنه قضاء على الغائب ولا في نصب له.
م: (ولا يخاصم في الذي تولاه المفقود ولا في نصيب له) ش: في نصيب للمفقود كائناً م: (في عقار أو عروض في يد رجل لأنه) ش: أي لأن الذي نصب م: (ليس بمالك ولا نائب عنه) ش: أي عن المفقود م: (إنما هو وكيل بالقبض من جهة القاضي، وأنه لا يملك الخصومة بلا خلاف، وإنما الخلاف في الوكيل بالقبض من جهة المالك في الدين) ش: يعني الوكيل يقبض الدين من جهة المالك ويملك الخصومة عند أبي حنيفة خلافاً لهما.
م: (وإذا كان كذلك) ش: أي وإذا كان الوكيل بالقبض من جهة القاضي لا يملك الخصومة م: (يتضمن الحكم به) ش: أي حكم القاضي بثبوت ذلك م: (قضاء على الغائب وأنه) ش: أي وأن قضاء القبض على الغائب م: (لا يجوز إلا إذا رآه القاضي) ش: إلا إذا رأى القاضي ذلك مصلحة.
م: (وقضى به) ش: أي بما رآه جاز ذلك م: (لأنه مجتهد فيه) ش: أي في الحكم على الغائب، وعند الشافعي يجوز لأن القضاء إذا لاقى فضلاً مجتهداً فيه بعد.
وفي " الخلاصة " ذكر الإمام السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا بناء على أن القاضي هل يقضي على الغائب وهل ينصب وكيلاً على الغائب، فعندنا لا وهي معروفة، أما لو فعل وقضى على الغائب فقد جاز بالإجماع. وهكذا ذكر في الزيادات، فإن قيل المجتهد نفس القضاء فينبغي أن يتوقف على إمضاء قاض آخر.
قلنا: لا بل المجتهد سبب القضاء وهو أن البينة هل تكون حجة من غير خصم حاضر للقضاء أم لا، فإذا رآها القاضي حجة وقضى بها بقذف كما لو قضى بشهادة المحدود في القذف ثم قال في " الخلاصة " و " الفتوى " على هذا.
ونقل الأستروبشتي في فصوله عن فتاوى ظهير الدين أن نفس القضاء مختلف فيه فيتوقف على إمضاء قاض آخر كما لو كان القاضي محدوداً في القذف م: (ثم ما كان يخاف عليه الفساد) ش: (مثل الثمار ونحوها م: (يبيعه القاضي لأنه تعذر عليه) ش: أي على القاضي م: (حفظ صورته) ش: ومعناه وهو ما ينساه أراد أن حفظ صورته وحفظ ماله كليهما متعذر م: (فينظر له) ش: أي(7/358)
بحفظ المعنى. ولا يبيع ما لا يخاف عليه الفساد في نفقته ولا في غيرها؛ لأنه لا ولاية له على الغائب إلا في حفظ ماله. فلا يسوغ له ترك حفظ الصورة وهو ممكن. قال: وينفق على زوجته وأولاده من ماله، وليس هذا الحكم مقصورا على الأولاد بل يعم جميع قرابة الولاد، والأصل أن كل من يستحق النفقة في ماله حال حضرته بغير قضاء القاضي ينفق عليه من ماله عند غيبته؛ لأن القضاء حينئذ يكون إعانة، وكل من لا يستحقها في حضرته إلا بالقضاء لا ينفق عليه من ماله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للمفقود م: (بحفظ المعنى) ش: وهو المالية وهي تبقى بحفظ الثمن والحفظ من وجه أولى من ترك الحفظ من كل وجه.
م: (ولا يبيع) ش: أي القاضي م: (ما لا يخاف عليه الفساد في نفقته) ش: أي لأجل نفقته، وهو يتعلق بقوله ولا يبيع م: (ولا في غيرها) ش: أي ولا في غير النفقة وما لا يخاف عليه الفساد، وسواء كان منقولاً أو عقاراً، وبه صرح خواهر زادة في مبسوطه م: (لأنه) ش: أي لأن القاضي م: (لا ولاية له على الغائب إلا في حفظ ماله فلا يسوغ له) ش: أي فلا يجوز له م: (ترك حفظ الصورة، وهو ممكن) ش: الواو فيه للحال قيد بالإمكان لأن عند عدمه له أن يبيعه م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وينفق على زوجته) ش: أي زوجة المفقود. م: (وأولاده من ماله) ش: أي من مال المفقود، أي هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وليس هذا الحكم مقصوراً على الأولاد بل يعم) ش: أي الحكم م: (جميع قرابة الولاد) ش: كالآباء والأجداد وإن علوا والأولاد وإن سفلوا والجدات وإن علون.
م: (والأصل) ش: أي في هذا الباب الذي يبنى عليه أحكام هذا الباب م: (أن كل من يستحق النفقة في ماله) ش: أي مال المفقود م: (حال حضرته بغير قضاء القاضي) ش: كالأبوين والأولاد الصغار ذكوراً كانوا أو إناثاً، والأولاد الكبار من النساء، والزمنى الذكور الكبار، م: (ينفق) ش: أي القاضي.
م: (عليه) ش: أي على من يستحق النفقة م: (من ماله عند غيبته؛ لأن القضاء حينئذ) ش: أي حين إنفاق القاضي عليهم م: (يكون إعانة) ش: أي تمكيناً للمستحق من الأخذ، ولهذا لو تمكنوا من ذلك لهم الأخذ فيعينهم القاضي على ذلك إلزاماً إذ اللزوم ثابت قبل القضاء، ولأن للقاضي إن يعين صاحب الحق على إيفاء حقه حال غيبته كما لو علم بوجوب الدين فإنه يعطيه الدين من مال الغائب.
م: (وكل من لا يستحقها) ش: أي النفقة م: (في حضرته) ش: أي في حضرة المفقود م: (إلا بالقضاء) ش: كما في الأخ والأخت والخال والخالة م: (لا ينفق عليه من ماله) ش: أي لا ينفق(7/359)
في غيبته؛ لأن النفقة حينئذ تجب بالقضاء، والقضاء على الغائب ممتنع، فمن الأول الأولاد الصغار والإناث من الكبار والزمنى من الذكور الكبار، ومن الثاني الأخ والأخت والخال والخالة. وقوله: من ماله مراده الدراهم والدنانير؛ لأن حقهم في المطعوم والملبوس، فإذا لم يكن ذلك في ماله يحتاج إلى القضاء بالقيمة وهي النقدان والتبر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القاضي عليه من مال المفقود م: (في غيبته لأن النفقة حينئذ تجب بالقضاء، والقضاء على الغائب ممتنع) ش: خلافاً للشافعي.
م: (فمن الأول) ش: أي فمن يستحق النفقة بغير قضاء القاضي م: (الأولاد الصغار والإناث من الكبار والزمنى من الذكور الكبار ومن الثاني) ش: أي وممن لا يستحق النفقة بغير قضاء القاضي م: (الأخ والأخت والخال والخالة) ش: والعم والعمة.
وإنما كان هذا من الثاني؛ لأنها نفقة ذي الرحم المحرم وهي مجتهد فيها، فلا تجب إلا بالقضاء والرضاء، ولهذا لم يكن لهم الأخذ بدون القضاء.
والعرف بين قرابة الأولاد وغيرهم من سائر المحارم وحيث استحق الأولون النفقة بلا قضاء ولم يستحق الآخرون إلا بالقضاء فإن حق ولاية الأولاد في النفقة مثل الدين من حق غيرهم؛ لأنهم يستحقون النفقة بالقرابة المحرمة للنكاح وبالولاد، وغيرهم بالقرابة المحرمة لا بالولاد.
فلما ظهر لهم فضل مزية ثبت استحقاق النفقة بلا قضاء بخلاف قرابة الإخوة والأخوات وسائر المحارم. وممن لا يستحق النفقة بغير قضاء القاضي الأخ والأخت والخال والخالة والعم والعمة.
وأما الزوجة فحقها في النفقة آكد أيضاً من قرابة الولاد، ولهذا تستحق النفقة، وإن كانت غنية، وإن كان الورثة كباراً ليس لهم زمانة ولا فيهم امرأة، وكانوا إخوة من الرضاع أو بني عم لم ينفق عليهم القاضي من مال المفقود لأنهم لا يستحقون النفقة حال حضرة المفقود.
وكذا حال غيبته، وقال خواهر زاده في " مبسوطه ": وإن استوثق منهم بكفيل فحسن لجواز أنهم أخذوا نفقة هذه المدة من المفقود، ومرة فيأخذ منهم كفيلاً حتى إذا حضر المفقود وأثبت أنه دفع إليهم نفقة هذه المدة مرة وإن لم يقدر عليهم أخذ من الكفيل وإن شاء ضمنهم.
م: (وقوله) ش: أي وقول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (من ماله) ش: يعني في قوله وينفق على زوجته وأولاده من ماله م: (مراده) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (الدراهم والدنانير؛ لأن حقهم) ش: أي حق قرابة الولاد والزوجة م: (في المطعوم والملبوس) ش: لا في غيرها م: (فإذا لم يكن ذلك) ش: أي المطعوم والملبوس م: (في ماله يحتاج إلى القضاء بالقيمة وهي) ش: أي القيمة م: (النقدان) ش: وهما الدراهم والدنانير فكانت من جنس حقهم م: (والتبر) ش: وهو ما كان غير(7/360)
بمنزلتهما في هذا الحكم لأنه يصلح قيمة كالمضروب، وهذا إذا كانت في يد القاضي، فإن كانت وديعة أو دينا ينفق عليهم منهما إذا كان المودع والمديون مقرين بالوديعة والدين والنكاح والنسب، وهذا إذا لم يكونا ظاهرين عند القاضي، فإن كانا ظاهرين فلا حاجة إلى الإقرار، وإن كان أحدهما ظاهرا يشترط الإقرار بما ليس بظاهر، هذا هو الصحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مضروب من الفضة والذهب كما قاله في " المغرب " م: (بمنزلتهما) ش: أي بمنزلة النقدين م: (في هذا الحكم) ش: أي في القضاء بالقيمة م: (لأنه يصلح قيمة كالمضروب) ش: أي كالدراهم والدنانير فلهم أخذ جنس حقهم، وللقاضي إعانته في ذلك.
م: (وهذا) ش: أي هذا الذي ذكرناه من إنفاق القاضي عليهم من الدراهم والدنانير م: (إذا كانت في يد القاضي، فإن كانت وديعة) ش: عند رجل م: (أو دينا ينفق) ش: أي القاضي م: (عليهم منهما) ش: أي من الوديعة والدين م: (إذا كان المودع) ش: بفتح الدال م: (والمديون مقرين بالوديعة والدين والنكاح) ش: بين المفقود دون وجه م: (والنسب) ش: بينه وبين من يستحق عليه النفقة م: (وهذا) ش: أي الاحتياج إلى الإقرار إنما هو م: (إذا لم يكونا ظاهرين عند القاضي) ش: أي الدين والوديعة والنكاح وبعد النسب جعل الدين والوديعة شيئاً واحداً، والنكاح والنسب كذلك، فكذلك ذكرهما بلفظ التنبيه بدليل قوله بعد م: (فإن كانا ظاهرين) ش: أي الوديعة والدين والنكاح والنسب ظاهرين عند القاضي م: (فلا حاجة إلى الإقرار) ش: أي إقرار المودع أو المديون.
م: (وإن كان أحدهما ظاهراً) ش: أي أحد الشيئين اللذين أحدهما الوديعة والدين، وقد ذكرناه أنه جعلهما واحداً، والآخر من الشيئين هو قوله أو النكاح والكسب، أي أو كان الظاهر عند القاضي النكاح والكسب م: (يشترط الإقرار بما ليس بظاهر) ش: مثلها إن لم تكن الزوجية ظاهرة عند القاضي يشترط إقرار المودع والمديون، كأن يقول: هذه زوجة فلان المفقود أو يقول هذا ابن فلان المفقود.
وكذا إذا لم يكن الدين أو الوديعة ظاهراً عند القاضي يقول من في يده المال هذه وديعة فلان المفقود أو دين فلان المفقود، وقال خواهر زاده في " مبسوطه ": ولم يذكر في الكتاب يعني في " المبسوط " أنه إذا كان للمفقود ديناً ووديعة ينفق أولاً من الوديعة أو من الدين ثم قال: وذكر في " السير الكبير ": ينفق من الوديعة أولاً؛ لأن النظر للغائب في هذا لأنه إذا أنفق أولاً من الدين ربما تهلك الوديعة في يد المودع في مدة الإنفاق.
فإذا حضر الغائب لا يلقى إلا الدين ولا يجد الوديعة، والدين لا ينوى م: (هذا هو الصحيح) ش: أي الإنفاق من الوديعة والدين على الزوجة وقرابة الولاد، هو الصحيح وهو وجه الاستحسان، واحترز بقوله هو الصحيح عن وجه القياس، وهو قول زفر؛ لأنه قضاء على الغائب(7/361)
فإن دفع المودع بنفسه أو من عليه الدين بغير أمر القاضي يضمن المودع ولا يبرأ المديون؛ لأنه ما أدى إلى صاحب الحق ولا إلى نائبه، بخلاف ما إذا دفع بأمر القاضي؛ لأن القاضي نائب عنه. وإن كان المودع والمديون جاحدين أصلا أو كانا جاحدين الزوجية والنسب، لم ينتصب أحد من مستحقي النفقة خصما في ذلك؛ لأن ما يدعيه للغائب لم يتعين سببا لثبوت حقه، وهو النفقة لأنها كما تجب في هذا المال تجب في مال آخر للمفقود.
قال: ولا يفرق بينه وبين امرأته، وقال مالك: إذا مضى أربع سنين يفرق القاضي بينه وبين امرأته وتعتد عدة الوفاة ثم تتزوج من شاءت؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هكذا قضى في الذي استهواه الجن بالمدينة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فلا يجوز.
وجه الاستحسان: أن الوديعة والدين مال المفقود وهو جنس حقهم، فكان للقاضي أن ينفق عليهم من ذلك كما ينفق من المال الذي في يده أو في بيته.
م: (فإن دفع المودع) ش: بفتح الدال م: (بنفسه أو من عليه الدين) ش: أي أو أعطى من عليه الدين م: (بغير أمر القاضي يضمن المودع ولا يبرأ المديون لأنه ما أدى إلى صاحب الحق ولا إلى نائبه بخلاف ما إذا دفع بأمر القاضي؛ لأن القاضي نائب عنه) ش: أي عن المفقود.
م: (وإن كان المودع والمديون جاحدين أصلاً) ش: يعني منكرين بالكمية ولا يعتبران لا بالوديعة ولا بالدين ولا بالنكاح والنسب م: (أو كانا جاحدين الزوجية والنسب لم ينتصب أحد من مستحقي النفقة خصماً في ذلك) ش: لأن الخصومة إما دفع من المالك أو نائب المالك، ولم يوجد لا هذا ولا ذاك م: (لأن ما يدعيه) ش: أي الآخذ من المتحققين.
م: (للغائب) ش: أي لأجله م: (لم يتعين سبباً لثبوت حقه وهو النفقة؛ لأنها) ش: أي لأن النفقة م: (كما تجب في هذا المال تجب في مال آخر للمفقود) ش: فلم يكن خصماً عن المفقود حكماً، وقال شيخي العلاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حاصله أن ما يدعيه الزوجة والأولاد أن هذا المال هو الدين والوديعة مال للغائب لم يتعين لنفقتهم؛ لأنه كما تجوز النفقة في الدين والوديعة تجوز في مال آخر أيضاً للمفقود فلم ينتصب خصماً.
وقوله: لم يتعين سبباً لثبوت حقه أي لم يتعين محلاً لثبوت حق آخذ مستحق النفقة، وإنما ذكر السبب مقام ذكر المحل لمناسبة بينهما، لما أن السبب يعمل في المحل.
[حق امرأة المفقود]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا يفرق بينه وبين امرأته، وقال مالك: إذا مضى أربع سنين يفرق القاضي بينه وبين امرأته وتعتد عدة الوفاة ثم تتزوج من شاءت؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هكذا قضى في الذي استهواه الجن بالمدينة) ش: هذا رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه) في(7/362)
وكفى به إماما، ولأنه منع حقها بالغيبة فيفرق القاضي بينهما بعد مضي المدة اعتبارا بالإيلاء والعنة، وبعد هذا الاعتبار أخذ المقدار منهما: الأربع من الإيلاء والسنين من العنة عملا بالشبهين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كتاب " النكاح ".
حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن يحيى بن جعدة أن رجلاً استهواه الجن على عهد عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأتت امرأته عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأمرها أن تتربص أربع سنين ثم أمر وليه بعد أربع سنين أن يطلقها، ثم أمرها أن تعتد، فإذا انقضت عدتها تزوجت، فإن جاء زوجها خير بين امرأته والصداق.
ورواه عبد الرزاق أيضاً في " مصنفه "، وفي آخره فخير عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بينها وبين الصداق الذي أصدقها، ورواه من طريق آخر، وفي آخره فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن شئت رددنا إليك امرأتك وإن شئت زوجناك غيرها، قال: بل زوجني غيرها، ثم جعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسأله عن الجن، وهو يخبره.
قوله: استهواه الجن، قال الكاكي: أي جرته الجن وتهمته. قلت: يقال استهواه أي جره إلى المهاوي وهي المساقط والمهالك.
م: (وكفى به) ش: أي بعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (إماماً) ش: أي من حيث الإمامية م: (ولأنه) ش: أي ولأن المفقود م: (منع حقها) ش: أي حق امرأته م: (بالغيبة فيفرق القاضي بينهما بعد مضي المدة اعتباراً بالإيلاء والعنة) ش: يعني يفرق بينه وبين امرأته كما يفرق بين العنين والمولى دفعاً للضرر عنها كي لا تبقى معلقة لا ذات بعل ولا مطلقة.
م: (وبعد هذا الاعتبار) ش: أي بالإيلاء والعنة م: (أخذ) ش: أي مالك م: (المقدار) ش: أي المقدار الذي يفرق م: (منهما) ش: أي من الإيلاء والعنة م: (الأربع) ش: أي أخذ الأربع م: (من الإيلاء) ش: لأن مقداره أربعة أشهر م: (والسنين) ش: أي أخذ السنين م: (من العنة) ش: لأن المقدار فيها سنة م: (عملاً بالشبهين) ش: أي شبه الإيلاء وشبه العنة.
حاصله أن امرأة المفقود تشبه امرأة المولى من حيث إن حقها في الجماع فات بالسفر كفوات حق امرأة المفقود وشبهه امرأة المولى فالجماع بصفته وهو الإيلاء.
وتشبه امرأة العنين من حيث إن حقها في الجماع فات من جهة الزوج بسبب هو فيه معذور؛ لأن العنة مباح كما أن حق امرأة العنين فات في الجماع، ونفقة الزوج وهو فيها معذور فضربناها مدة الخلاص متصل إلى حقها في الجماع أربع سنين اعتباراً بالشبهين.(7/363)
ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في امرأة المفقود: «إنها امرأته حتى يأتيها البيان» وقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيها هي امرأة ابتليت فلتصبر حتى يتبين موت أو طلاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: (في امرأة المفقود إنها «امرأته حتى يأتيها البيان» ش: هذا أخرجه الدارقطني في " سننه " عن سوار بن مصعب حدثنا محمد بن شرحبيل الهمداني عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان» ويروى: «حتى يأتيها الخبر» .
وهذا حديث ضعيف. قال ابن أبي حاتم في كتاب " العلل ": سألت أبي عن حديث رواه سوار بن مصعب عن محمد بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة، قال أبي: هذا حديث منكر، ومحمد بن شرحبيل: متروك الحديث، يروي عن المغيرة مناكير وأباطيل، وذكره عبد الحق في " أحكامه " من جهة الدارقطني، وأعله بمحمد بن شرحبيل وقال: إنه متروك. وقال ابن القطان في " كتابه ": سوار بن مصعب أشهر المتروكين منه، ودونه صالح بن مالك، ولا يعرف، ودونه محمد بن الفضل ولا يعرف حاله.
وقال الأترازي: ولنا ما روى علماؤنا في " المبسوط " عن المغيرة بن شعبة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " في امرأة المفقود إنها «امرأته حتى يأتيها البيان» ... انتهى
قلت: كأنه لم يقف على رواية الدارقطني فلهذا نسب روايته إلى أصحابنا من غير إسناد، قلت: الأول: مسلم، والثاني: ممنوع على ما لا يخفى.
م: (وقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: مرفوع بالابتداء وخبره قوله خرج بياناً، والجملة عطف على قوله: ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - م: (فيها) ش: أي في امرأة المفقود م: (هي امرأة ابتليت فلتصبر حتى يتبين موت أو طلاق) ش: هذا رواه عبد الرزاق في " مصنفه " في كتاب الطلاق أخبرنا محمد بن عبد الله العرزمي عن الحكم بن عتيبة أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في امرأة المفقود: هي امرأة ابتليت، فلتصبر حتى يأتيها موت أو طلاق.
وأخبرنا معمر عن ابن أبي ليلى عن الحكم أن علياً قال، فذكره سواء، أخبرنا سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن الحكم بن عتيبة عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال تتربص حتى تعلم أحي هو أم ميت.(7/364)
خرج بيانا للبيان المذكور في المرفوع، ولأن النكاح عرف ثبوته، والغيبة لا توجب الفرقة والموت في حيز الاحتمال، فلا يزال النكاح بالشك، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رجع إلى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولا معتبر بالإيلاء؛ لأنه كان طلاقا معجلا، فاعتبر في الشرع مؤجلا، فكان موجبا للفرقة ولا بالعنة؛ لأن الغيبة تعقب الأوبة، والعنة قلما تنحل بعد استمرارها سنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (خرج بياناً) ش: خبر المبتدأ أعني قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كما ذكرنا، أي خرج مظهراً م: (للبيان المذكور في المرفوع) ش: أي لمعنى البيان المذكور في الحديث المرفوع، وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في المفقود: إنها «امرأته حتى يأتيها البيان؛» لأن قوله البيان مجمل في أن إتيان البيان من أي طريق يكون فبين علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذلك المجمل بقوله: حتى يتبين موت أو طلاق، وفي هذا المكان تأمل لا يخفى.
م: (ولأن النكاح عرف ثبوته) ش: عمن يعرف المفقود وامرأته م: (والغيبة) ش: أي غيبة المفقود م: (لا توجب الفرقة) ش: كما في غيبة غير المفقود م: (والموت في حيز الاحتمال) ش: أي في جهة الاحتمال، يقال هذا الكلام في حيز التواتر أي في جهته ومكانه وهو مجاز.
م: (فلا يزال النكاح) ش: أي الذي بين المفقود وامرأته م: (بالشك) ش: لأن الشك لا يزيل الثابت م: (وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رجع إلى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: هذا جواب عن استدلال مالك بقوله: لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هكذا قضى في الذي استهوته الجن، ولم يبين وجه الرجوع.
وقال الكاكي: وذكر عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رجع عن ثلاث قضيات إلى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أحدها مال المفقود وغيرها مذكور في " المبسوط ".
وقال الأترازي فلما ثبت أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رجع إلى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كان ذلك إجماعاً على قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفيه تأمل لا يخفى.
م: (ولا معتبر بالإيلاء) ش: هذا جواب عن قياس مالك صورة النزاع على الإيلاء، بيانه ما ذكره من قوله م: (لأنه) ش: أي لأن الإيلاء م: (كان طلاقاً معجلاً) ش: في الابتداء م: (فاعتبر في الشرع مؤجلاً) ش: أي طلاقاً مؤجلاً م: (فكان) ش: أي الطلاق م: (موجباً للفرقة) ش: أي مزيلاً لملك النكاح، وليس كذلك امرأة المفقود؛ لأنه لم يوجد من الزوج طلاق أصلاً، لا طلاق معجل ولا مؤجل.
م: (ولا بالعنة) ش: أي ولا معتبر أيضاً بالعنة م: (لأن الغيبة) ش: وفي بعض النسخ لأن الغربة م: (تعقب الأوبة) ش: أي الرجوع إذ الظاهر حال الغائب أنه يؤوب م: (والعنة قلما تنحل بعد استمرارها سنة) ش: أي بعد استحكامها سنة، إيضاح ذلك أنه ثبت في باب العنة حق الفرقة(7/365)
قال: وإذا تم له مائة وعشرون سنة من يوم ولد حكمنا بموته. قال: وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي ظاهر المذهب يقدر بموت الأقران، وفي المروي عن أبي يوسف بمائة سنة، وقدره بعضهم بتسعين، والأقيس أن لا يقدر بشيء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لفوات حق المرأة في الجماع على التأبيد.
لأن أمر العنة متردد بين أن يكون خلقة وبين أن يكون عارضاً، فجعل الشارع العامل الفاصل بينهما مضي سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة المشتملة على الطبائع، فإذا مضت منه ولم تزل العنة علم أنها كانت خلقة، وما كان خلقة لا يزول أبداً، وهو الظاهر، ولا يزول غالباً بخلاف امرأة المفقود فإن حقها في الجماع لم يفت على التأبيد؛ لأنه يرجى مجيئه بعد أربع سنين، كما قيل ذلك بعد القياس هذا حاصل ما ذكره خواهر زاده في " مبسوطه ".
[إذا تم للمفقود من عمره مائة وعشرون منذ ولدته أمه]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإذا تم له مائة وعشرون سنة من يوم ولد حكمنا بموته) ش: أي إذا تم للمفقود من عمره مائة وعشرون منذ ولدته أمه حكمنا بموته قبل هذا يرجع إلى أهل قول الطبائع والنجوم، فإنهم يقولون: لا يجوز أن يعيش أحد أكثر من هذه المدة، وقولهم باطل بالنصوص الواردة في طول عمر من كان قبلنا لنوح وغيره - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -.
م: (قال) ش: أي المصنف م: (وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي ظاهر المذهب يقدر بموت الأقران) ش: كذا اعتبر محمد في الأصل، ولم يذكر محمد أنه يعتبر موت أقرانه من أهل بلده، وقال خواهر زاده في " مبسوطه ": قال بعضهم: يعتبر أقرانه في السن في جميع البلدان؛ لأنه ذكر الأقران مطلقاً، فيتناول أقرانه في السن في جميع البلدان لا بلده خاصة.
وقال بعضهم: يعتبر أقرانه في السن من أهل بلده؛ لأن الأعمار تتفاوت وتختلف باختلاف الأقاليم والبلدان، حتى قالوا: الصقالبة أطول أعماراً من أهل الروم، فإذا كان كذلك يعتبر أقرانه في السن من أهل بلده لا من جميع البلدان، ثم قال خواهر زاده: وهذا القول أصح وأرفق بالناس.
م: (وفي المروي عن أبي يوسف بمائة سنة) ش: كذا في " الشامل " وشرح الطحاوي، وفي رواية عنه بثمانية وخمسين سنة م: (وقدره بعضهم بتسعين) ش: لأنه متوسط ليس بغالب ولا نادر، وقال الصدر الشهيد: عليه الفتوى، كذا قال في الخلاصة، وقال المتأخرون من مشايخنا ستين سنة رفقاً بالناس هاهنا لرفع الحرج عنهم.
وفي " فتاوى الولوالجي " قال بعضهم: هو مفوض إلى رأي القاضي، يعني أي وقت رأى المصلحة حكم بموته.
م: (والأقيس أن لا يقدر بشيء) ش: الأقيس أفعل التفضيل للمفضول كالأشهر في تفضيل(7/366)
والأرفق أن يقدر بتسعين، وإذا حكم بموته اعتدت امرأته عدة الوفاة من ذلك الوقت، وقسم ماله بين ورثته الموجودين في ذلك الوقت كأنه مات في ذلك الوقت معاينة، إذ الحكمي معتبر بالحقيقي، ومن مات قبل ذلك لم يرث منه لأنه لم يحكم بموته فيها فصار كما إذا كانت حياته معلومة، ولا يرث المفقود أحد مات في حال فقده، لأن إبقاءه حيا في ذلك الوقت باستصحاب الحال وهو لا يصلح حجة في الاستحقاق،
وكذلك لو أوصى للمفقود ومات الموصي ثم الأصل أنه لو كان مع المفقود وارث لا يحجب به،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المشهور، ولا تفضيل للمفعول إلا شاذاً كما في قولهم اشتعل من ذات الختين كفى من المقادير المذكورة كالمائة والتسعين ونحو ذلك، بل يعتبر بموت الأقران؛ لأن حياة الإنسان بعد موت جميع أقرانه نادر ولا عبرة بالنادر.
م: (والأرفق أن يقدر بتسعين) ش: لأن الحياة بعده نادر.
وفي " الكافي " وعليه الفتوى م: (وإن حكم بموته اعتدت امرأته عدة الوفاة من ذلك الوقت) ش: أي من وقت الحكم بالموت م: (وقسم ماله بين ورثته الموجودين في ذلك الوقت) ش: أي وقت الحكم بالموت م: (كأنه) ش: أي كأن المفقود م: (مات في ذلك الوقت معاينة) ش: أي عياناً م: (إذ الحكمي) ش: أي الموت الحكمي م: (معتبر بالحقيقي) ش: فلو ثبت موته حقيقة تعتد امرأته، وقسم ماله بين ورثته، فكذلك في الموت الحكمي.
م: (ومن مات قبل ذلك) ش: أي من مات من ورثة المفقود م: (لم يرث منه لأنه لم يحكم بموته فيها) ش: أي في مدة الفقد م: (فصار كما إذا كانت حياته معلومة ولا يرث المفقود أحد مات في حال فقده؛ لأن إبقاءه حياً في ذلك الوقت باستصحاب الحال وهو) ش: أي استصحاب الحال م: (لا يصلح حجة في الاستحقاق) ش: واستصحاب الحال عبارة عن بقاء ما كان على ما كان لعدم الدليل المزيل فيصلح الاستصحاب عندنا حجة للدفع لا للاستحقاق. فلهذا اعتبر المقصود حياً في مال غيره حتى لا يرث من المفقود في حال فقده، ولا يرث المفقود عن أحد بل يوقف نصيبه من حال مورثه، فإذا مضت المدة أو علم موته يرد الموقوف لأجله إلى وارث مورثه الذي ورث من ماله.
[أوصى للمفقود ومات الموصي]
م: (وكذلك لو أوصى للمفقود ومات الموصي) ش: أي لا يقضى للمفقود بالوصية إذا مات الموصي في حال فقده، بل تكون الوصية موقوفة كالميراث إلى أن يظهر حاله، وفي " الذخيرة ": لا يقضى بصحتها. ولا تبطل حتى يظهر حال المفقود، ولأن الوصية أخت الميراث، وفي الميراث يحبس حصة المفقود إلى أن يظهر حاله من الميراث، فكذا في الوصية.
م: (ثم الأصل) ش: أي في مال المفقود م: (أنه لو كان مع المفقود وارث لا يحجب به) ش: أي(7/367)
ولكنه ينتقص حقه به ويعطى أقل النصيبين ويوقف الباقي.
وإن كان معه وارث يحجب به لا يعطى أصلا، بيانه: رجل مات عن ابنتين وابن مفقود وابن ابن وبنت ابن والمال في يد الأجنبي، وتصادقوا على فقد الابن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا يكون محروماً، وما ليست المفقود م: (ولكنه) ش: أي ولكن الوارث م: (ينتقص حقه به) ش: أي بالمفقود م: (ويعطى) ش: على صيغة المجهول أي يعطى الوارث م: (أقل النصيبين ويوقف الباقي) ش: صورته تركت امرأة زوجاً وأماً وأختاً لأم وأخاً كذلك مفقوداً فللأم السدس على تقدير حياته وعلى تقدير موته الربع.
وللزوج النصف على تقدير حياته وعلى تقدير موته ربع الثمن، وكذلك الأخت على تقدير مماته وعلى تقدير حياته لها التسع، فيعطى كل واحد منهم الأقل ويوقف الباقي من نصيبه.
وهذه المسألة تصح من ثمانية عشر على تقدير الحياة، وعلى تقدير الوفاة من ثمانية بينهما موافقة بالنصف، فإذا ضربت نصف أحدهما في جميع الآخر تصير اثنين وسبعين، فمنه تصح للزوج سبعة وعشرون، وتسعة موقوفة من نصيبه.
وللأم اثني عشر وستة موقوفة من نصيبها، وللأخت ثمانية وعشرة موقوفة من نصيبها، فإذا ظهرت حياته كان مستحقاً على ذلك التقدير، فيكون للزوج ستة وثلاثون ويبقى الذي أصاب الأم والأخت بحال.
لأن الحاصل لهما على تقدير حياته هو الأقل، والباقي للأخ وهو ستة عشر سهماً، وإن حكم بموته بقي الزوج بحاله، وكمل للأم والأخت ما كان موقوفاً من نصيبهما.
م: (وإن كان معه) .
أي مع المفقود م: (وارث يحجب به لا يعطى أصلاً، بيانه رجل مات عن ابنتين وابن مفقود وابن ابن وبنت ابن والمال في يد الأجنبي وتصادقوا) ش: أي الورثة المذكورون والأجنبيون م: (على فقد الابن) ش: قبل التصادق؛ لأن الأجنبي الذي في يده المال إذا قال قد مات المفقود قبل ابنه فإنه يجبر على دفع الثلثين إلى البنتين؛ لأن إقرار ذي اليد فيما في يده معتبر.
وقد أقر أن ثلثي ما في يده لهما فيجبر على تسليم ذلك إليهما، وقول أولاد الابن: أبونا مفقود لا يمنع إقرار ذي اليد؛ لأنهم لا يدعون لأنفسهم شيئاً بهذا القول ويوقف الباقي على يد ذي اليد، حتى يظهر مستحقه هذا إذ أقر من في يده المال.
أما لو جحد أن يكون المال في يده للميت فأقامت البنتان البينة أن أباهما مات، وترك هذا المال ميراثاً لهما ولأخيهما المفقود، فإن كان حياً فهو الوارث معهما وإن كان ميتاً فولده الوارث معهما، فإنه يدفع إلى البنتين النصف لأنهما بهذه البينة ثبت أن الملك لأبيهما في هذا المكان،(7/368)
وطلبت الابنتان الميراث تعطيان النصف؛ لأنه متيقن به، ويوقف النصف الآخر، ولا يعطى ولد الابن لأنهم يحجبون بالمفقود، ولو كان حيا فلا يستحقون الميراث بالشك، ولا ينزع من يد الأجنبي إلا إذا ظهرت منه خيانة ونظير هذا الحمل، فإنه يوقف له ميراث ابن واحد على ما عليه الفتوى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والأب ميت وأحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت في إثبات الملك له بالبينة.
وإذا ثبت ذلك يدفع إليهما النصيب وهو النصف ويوقف الباقي على عدل لأن الذي في يده حجة فهو غير مؤتمن عليه، وإنما قيد بقوله والمال في يد أجنبي؛ لأنه إذا كان في يد الابنتين والمسألة بحالها. فإن القاضي لا ينبغي له أن يحول المال من موضعه، ولا يوقِف منه شيئاً للمفقود، ومراده بهذا اللفظ أنه لا يخرج المال من أيديهما؛ لأن النصف صار بينهما بتصرف النصف الباقي للمفقود من وجه، ويريد بقوله: ولا يوقف منه شيئاً للمفقود، أن لا يجعل شيئاً مما في يد الاثنين ما كان للمفقود على الحقيقة.
وكذلك لو كان المال في يد ولدي الابن المفقود تطلب النساء ميراثهما، وإن وافقوا أن الابن مفقود فإنه يعطى البنتان النصف، وهو أدنى ما يصيبهما ويترك الباقي في يد ولدي الابن المفقود من غير أن يقضى به لهما ولا لأبيهما لأنا لو قدرنا الابن المفقود كان نصيبهما الثلثين، فكان النصف منقضياً به، وقوله: تصادقوا، قد ذكرنا معناه وذكرنا وجه قيد التصادق.
م: (وطلبت الابنتان الميراث تعطيان النصف لأنه) ش: أي لأن النصف م: (متيقن به) ش: لأنا لو قدرنا المفقود ميتاً كان نصيبهما الثلثين، ولو قدرناه حياً كان نصيبهما النصف، فالنصف متيقن به م: (ويوقف النصف الآخر) ش: إلى أن يظهر حال المفقود م: (ولا يعطى ولد الابن لأنهم يحجبون بالمفقود، ولو كان حياً) ش: لأن المفقود لو كان حياً كان ابنه يحجب أولاده، ولما لم يعلم حياة المفقود ولا مماته حصل الشك.
م: (فلا يستحقون الميراث بالشك ولا ينزع) ش: أي النصف الموقوف م: (من يد الأجنبي) ش: لأن المال لا يخرج من يد ذي اليد إلا بالخصم م: (إلا إذا ظهرت منه) ش: أي من الأجنبي م: (خيانة) ش: بأن يكون جحده، بأن قال: ليس للميت مال في يدي؛ لأنه لما جحد ظهرت خيانته، فلا يترك مال الغير في يد الخائن، ويوضع على يد عدل إلى أن يظهر المستحق.
م: (ونظير هذا) ش: أي نظير المفقود م: (الحمل) ش: في حق وقف النصف م: (فإنه) ش: أي فإن الحمل م: (يوقف له ميراث ابن واحد على ما عليه الفتوى) ش: احترز به عما روي أنه يوقف له نصيب أكثر من واحد، وروى ليث بن سعد عن محمد أنه يوقف نصيب ثلاثة.
وفي رواية هشام نصيب ابنتين، وهي إحدى الروايتين عن أبي يوسف، وروى ابن المبارك(7/369)
ولو كان معه وارث آخر إن كان لا يسقط بحال، ولا يتغير بالحمل يعطى كل نصيبه، فإن كان ممن يسقط بالحمل لا يعطى، وإن كان ممن يتغير به يعطى الأقل للتيقن به كما في المفقود، وقد شرحناه في كفاية المنتهي بأتم من هذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن أبي حنيفة أنه يوقف نصيب أربعة بنين ويوقف ثلث ماله، وبه أخذ ابن المبارك وإبراهيم النخعي ومالك وشريك.
م: (ولو كان معه) ش: أي مع الحمل م: (وارث آخر) ش: فلا يخلو م: (إن كان) ش: هذا الوارث م: (لا يسقط بحال) ش: كالابن والجدة مثلاً م: (ولا يتغير بالحمل) ش: ولا شك أن الابن يتغير بالحمل فإذا كان كذلك م: (يعطى كل نصيبه) ش: لعدم فائدة تأخيره عما يستحقه من الإرث، وأما إن كان سقط وهو معنى قوله م: (فإن كان) ش: أي الوارث م: (ممن يسقط بالحمل) ش: كابن الابن والأخ والعم م: (لا يعطى، وإن كان ممن يتغير به) ش: أي بالحمل ولكن لا يسقط كالأم والزوجة م: (يعطى الأقل للتيقن به) ش: أي بالأقل م: (كما في المفقود) ش: فإنه إذا مات وترك ابنا مفقودا أو جدة معه أو أخا أو أما فللجدة السدس والباقي موقوف لأن الجدة لا تسقط، ولا يغير نصيبها ولا يعطى الأخ شيئاً لأنه يسقط بالابن.
وتعطى الأم السدس لكونه نصيباً؛ لأنه أقل من الثلث؛ لأن المفقود وإن كان حياً استحقت الأم السدس، وإن كان ميتاً استحقت الثلث فيعطى السدس والباقي يوقف إلى أن يظهر حال المفقود م: (وقد شرحناه في كفاية المنتهى بأتم من هذا) ش: أي شرحنا حكم مسألة المفقود في الشرح المسمى " بكفاية المنتهي " ببيان أتم من هذا البيان. وبالله التوفيق وعليه التكلان.(7/370)
كتاب الشركة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الشركة]
[تعريف الشركة]
م: (كتاب الشركة) ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الشركة، والشرك بمعنى واحد، قال ابن دريد: الشرك مصدر شركته رجلان الشركة شركاه في المال، وشريك الرجل وشاركه سواء، وقال تاج الشريعة: شركته في كذا شركاء، وشركته وهو شريك، وهم شركاء، والتركيب دال على الخليط ومنه الشركة تشابكها واختلاط بعضها ببعض.
ولهذا سمي النصيب الشائع شركاء. قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} [فاطر: 40] (الأحقاف: الآية 4) ، أي نصيب شائع، فسمي هذا العقد بها؛ لأنه سبب لإجماع النصيبين وعشر في المال وتركها في شريك الحال اجتماع النصيبين، وفي شركة العقد الإيجاب والقبول.
وقال الكاكي: للشركة مناسبة بالمفقود والإباق واللقطة من حيث إن المال أمانة في يد الشريك، كما أن الآبق واللقطة ومال المفقود في يد من كان في يده أمانة، وللشركة مناسبة خاصة بالمفقود من حيث إن قريب المفقود لو مات كان فيه اختلاط مال المفقود الحاصل من الإرث بمال غيره من الوارث على تقدير الحياة.
وفي الشركة اختلاط المالين، فكذلك ذكرها عقيب المفقود وقدم المفقود لمناسبة خاصة له بالإباق، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مناسبة الشركة بالمفقود من حيث إن المال في يد الشريك أمانة كما أن نصيب المفقود أمانة في يد من كان المال في يده. وأيضاً نصيب المفقود من مال مورثه مختلط بنصيب غيره كاختلاط المالين في الشركة، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مثله أو قريباً منه.
قلت: إذا كان الذي ذكره الشراح وجهاً معتبراً في وجه المناسبة يمكن أن يذكر أحد عقب الصلاة أو الزكاة ما بأس أي من كان من أبواب الفقه؛ لأنه يمكن ذكر مناسبة بينهما مثلما ذكر. لأنه لا بد من وجه يوجد ولو كان بعيداً فيعتبر الواضع وجه المناسبة، وهذا كله بعيد وتركه أحسن.
ثم اعلم أن شرعية الشركة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول، أما الكتاب قَوْله تَعَالَى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] (النساء: الآية 12) ، وقوله {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24] (ص: الآية 24) ، والخلطاء هم الشركاء، وأما السنة فما رواه أبو داود عن محمد بن الزبرقان عن أبي حيان التيمي عن أبيه عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قال الله تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانا خرجت(7/371)
الشركة جائزة؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث والناس يتعاملون بها فقرهم عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من بينهما» . ورواه الحاكم في " مستدركه " وصححه.
وقال الأترازي: قال أصحابنا في كتبهم روي «أن أسامة بن شريك جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أتعرفني؟ فقال: " وكيف لا أعرفك وكنت شريكي في الجاهلية. فكنت خير شريك لا تداري ولا تماري ... » انتهى. قلت: هذا أخرجه أبو داود وابن ماجه عن سفيان عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن قائد السائب عن السائب بن أبي السائب أنه قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك لا تداري ولا تماري» ورواه الحاكم وصححه، ورواه أحمد في " مسنده " من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم عن مجاهد عن السائب «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاركه قبل الإسلام في التجارة فلما كان يوم الفتح جاءه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مرحباً بأخي وشريكي، كان لا يداري ولا يماري، يا سائب قد كنت تعمل أعمالاً في الجاهلية لا تقبل منك، وهي اليوم تقبل منك، وإن كان ذا سلف وصدقة» .
وقال السهيلي في " الروض ": حديث السائب كثير الاضطراب فروي عن السائب ابن أبي السائب، وروي عن قيس بن السائب، وروي عن عبد الله، وهذا اضطراب لا يثبت به شيء ولا تقوم به حجة، والسائب بن أبي السائب من المؤلفة قلوبهم، وممن حسن إسلامه منهم واضطرب في متنه أيضاً، فمنهم من يجعله من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أبي السائب، ومنهم من يجعله من قول أبي السائب في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، انتهى.
وقد عرفت أن قول الأترازي: إن أصحابنا قالوا: روي أن أسامة بن شريك جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى آخره ليس مستقيم؛ لأن أحداً من أصحاب الحديث لم يذكر أن هذا الحديث لأسامة بن شريك، وذكره الكاكي وقال: السائب بن شريك ثم قال: وفي " شرح الوجيز ": السائب بن يزيد وهذا أيضاً فيه ما فيه، وذكر " إبراهيم الحربي " في كتابه " غريب الحديث " أن يدارئ مهموز من المدارأة وهي الموافقة، وتمارى غير مهموز من المماراة وهي المجادلة، وأما الإجماع فإن الأئمة أجمعوا على جوازها، وأما المعقول فهي طريق لانتفاء الفضل وهو مشروع بالكتاب. م: (الشركة جائزة لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بعث والناس يتعاملون بها فقرهم عليه) ش: يعني لما كان الناس يعقدون(7/372)
قال: الشركة ضربان: شركة أملاك، وشركة عقود، فشركة الأملاك العين يرثها الرجلان أو يشتريانها فلا يجوز لأحدهما أن يتصرف في نصيب الآخر إلا بإذنه وكل واحد منهما في نصيب صاحبه كالأجنبي، وهذه الشركة تتحقق في غير المذكور في الكتاب كما إذا اتهب الرجلان عينا أو ملكاها بالاستيلاء لو اختلط مالهما من غير صنع أحدهما أو بخلطهما خلطا يمنع التمييز رأسا أو لا يخرج، ويجوز بيع أحدهما نصيبه من شريكه في جميع الصور، ومن غير شريكه بغير إذنه إلا في صورة الخلط والاختلاط فإنه لا يجوز إلا بإذنه، وقد بينا الفرق في " كفاية المنتهي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عقد الشركة والنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم ينكرها دل ذلك على جوازها، فلو لم تكن جائزة لأنكرها؛ لأنه مبعوث لبيان الحق.
[أنواع الشركة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (الشركة ضربان، شركة أملاك وشركة عقود، فشركة الأملاك العين يرثها الرجلان أو يشتريانها فلا يجوز لأحدهما أن يتصرف في نصيب الآخر إلا بإذنه وكل واحد منهما في نصيب صاحبه كالأجنبي) ش: إلى هنا كلام القدوري.
وقال المصنف: م: (وهذه الشركة) ش: أي الشركة التي ذكرها القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله: فشركة الأملاك إلى آخره م: (تتحقق في غير المذكور في الكتاب) ش: أي في " مختصر القدوري "، والمذكور في الكتاب شيئان الإرث والشراء فقط، ثم أوضح بتحقق غير المذكور من الكتاب بقوله م: (كما إذا اتهب الرجلان عيناً) ش: أي بما وهبت لهما م: (أو ملكاها بالاستيلاء) ش: أي أو ملك العين رجلان بالاستيلاء على مال من أموال أهل الحرب م: (أو اختلط مالهما) ش: أي اختلط مال الرجلين م: (من غير صنع أحدهما) ش: نحوها إذا أشبق الكيسان فاختلط ما فيهما من الدراهم.
م: (أو بخلطهما) ش: أي أو اختلط مالهما بخليطهما العماء بأنفسهما م: (خلطاً يمنع التمييز رأساً) ش: يعني بالكلية كخلط الحنطة بالحنطة ونحوها م: (أو لا يخرج) ش: أي أو اختلط خلطاً لا يمكن التمييز كخلط الحنطة بالشعير، فهذه الأنواع أيضاً من شركة الأملاك، وكذا من شركة الأملاك الذي يملك الإنسان بصدقة أو [....] م: (ويجوز بيع أحدهما) ش: أي أحد الشريكين م: (نصيبه من شريكه في جميع الصور) ش: المذكورة.
م: (ومن غير شريكه بغير إذنه إلا في صورة الخلط، والاختلاط فإنه) ش: أي فإن بيع أحدهما نصيبه من غير شريكه م: (لا يجوز إلا بإذنه وقد بينا الفرق) ش: أي بين الجواز في الصورة المذكورة مطلقاً وبين عدم الجواز في صورة الخلط والاختلاط إلا بإذن شريكه.
وبينه في الكتاب الموسوم ب م: (" كفاية المنتهي ") ش: وإنما أحال بيانه عليه إما طلباً للاختصار، وإما بأن له مصنفاً آخر سمي بكفاية المنتهي، قيل: إن الفرق أن خلط الجنس بالجنس على سبيل التعدي سبب لزوال الملك عن المخلوط الخالط، فإن حصل بغير نقد كان سبب الزوال(7/373)
والضرب الثاني شركة العقود وركنها الإيجاب والقبول، وهو أن يقول أحدهما شاركتك في كذا وكذا. ويقول الآخر قبلت، وشرطه أن يكون التصرف المعقود عليه عقد الشركة قابلا للوكالة ليكون ما يستفاد بالتصرف مشتركا بينهما فيتحقق حكم المطلوب من الشركة، ثم هي على أربعة أوجه: مفاوضة وعنان وشركة الصناع وشركة الوجوه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ماشياً من وجه دون وجه، فاعتبر نصيب كل واحد زائلاً إلى الشريك من حق البيع من الأجنبي غير زائل في حق البيع من الشريك، كأنه بيع ملك نفسه عملاً بالشبهين.
م: (والضرب الثاني شركة العقود) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي النوع الثاني من نوع الشركة شركة العقود م: (وركنها الإيجاب والقبول) ش: أي ركن شركة العقود الإيجاب من أحدهما، والقبول من الآخر.
وفسر ذلك بقوله م: (وهو أن يقول أحدهما) ش: أي أحد المتعاقدين م: (شاركتك في كذا وكذا) ش: في المال في البر ونحوه ... أو في عموم التجارات م: (ويقول الآخر قبلت) ش: هذه الشركة على هذا الوجه.
م: (وشرطه) ش: أي شرط الضرب الثاني وهو شركة العقود م: (أن يكون التصرف المعقود عليه) ش: أي أن يكون التصرف الذي وقع عليه العقد، وقوله: التصرف اسم يكون، وقوله: المعقود عليه بالدفع صفة التصرف.
وقوله م: (عقد الشركة) ش: منصوب على المصدر، وقوله م: (قابلاً) ش: نصب على أنه خبر يكون م: (للوكالة) ش: احترز به عن الشركة في التكري والأخشاش والاحتطاب والاصطياد بأن المسألة في هذه الصورة يقع عمن باشر منه خاصة لا على وجه الاشتراك.
وعقد الشركة يتضمن الوكالة؛ لأن المقصود من الشركة يحصل بالربح بالتجارة والتصرف في مال الغير لا يجوز إلا بولاية أو وكالة من طريق أو الحكم، ولم يوجد الولاية والمنطق بالتوكيل، فشراء من الثالث لتحقق الحكم المطلوب من الشركة وهو الربح. وهذا معنى قوله م: (ليكون ما يستفاد بالتصرف مشتركاً بينهما) ش: أي بين الشريكين، م: (فيتحقق حكم المطلوب من الشركة) ش: وهو الربح، وهذا معنى قوله ليكون ما يستفاد بالتصرف شركاً بينهما، أي بين الشريكين فتحقق حكم المطلوب منه.
أي حكم عقد الشركة المطلوب من عقد الشركة. م: (ثم هي) ش: أي الشركة م: (على أربعة أوجه: مفاوضة وعنان وشركة الصناع وشركة الوجوه) ش: المفاوضة يجوز فيها الرفع والنصب والجر، أما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره أحدها مفاوضة.
وأما النصب فعلى تقدير أعني مفاوضة، وأما الجر فعلى أنه عطف بيان وما بعد مفاوضة(7/374)
فأما شركة المفاوضة فهي أن يشترك الرجلان فيتساويان في مالهما وتصرفهما ودينهما؛ لأنها شركة عامة في جميع التجارات يفوض كل واحد منهما أمر الشركة إلى صاحبه على الإطلاق إذ هي من المساواة. قال قائلهم:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
داخل في الوجوه المذكورة بحيث العطف ثم شرع بين هذه الأربعة بالفاء التفصيلية بقوله م: (فأما شركة المفاوضة فهي أن يشترك الرجلان فيتساويان في مالهما) ش: المراد من التساوي في المال التساوي في مال يصح فيه الشركة على ما يجيء عن قريب.
م: (وتصرفهما ودينهما لأنها شركة عامة في جميع التجارات يفوض كل واحد منهما أمر الشركة إلى صاحبه على الإطلاق) ش: يعني بغير قيد بشيء.
م: (إذ هي) ش: أن لأن المعاوضة م: (من المساواة) ش: يعني من حيث المعنى لا من حيث الاشتقاق، ولهذا قال صاحب " المبسوط ": اشتقاق المعاوضة من التعويض، إذ كل واحد منهما مفوض التصرف إلى صاحبه.. انتهى.
وليست هي منفعة من المساواة لعدم شرط الاشتقاق بل من جهة المعنى لأن معنى المعاوضة المساواة المشاركة والمفوضة الشركة والناس فوضى في هذا الأمر أي سواء لا تباين بينهم، كذا ذكره الزمخشري في " الفائق " واستدل المصنف على هذا بقوله م: (قال قائلهم) ش: وهو الأفوه الأدوي الشاعر:
م:
(لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا)
ش: وقبله:
يهدي الأمور بأهل الرأي ما صلحت ... فإن تولت فبالجهال تنقاد
ومعنى البيت إذا لم يكن للناس أمير وسيد كان كل واحدا مستقلاً بنفسه فتتحقق المنازعة والفساد، والاستشهاد في قوله فوضى أي لا يصلح الناس المأذون في الأمر.
قوله لا سراة لهم حال، والسراة جمع سري قال في " الصحاح ": هو جمع عزيز لا يعرف غيره جمع فعيل على فعلة، وفي المفصل المسراة اسم جمع السري كركب في الراكب، والسري السيد من سرى فهو سري وهم سرات وسروات أي سارات.
كذا في " المغرب "، وفي " الصحاح " [.....] مروة يقال سرى يسرو ويسري بالكسر يسري سرواً فيهما ويسروا سراوة أي سار سرياً.(7/375)
أي متساويين، فلا بد من تحقيق المساواة ابتداء وانتهاء، وذلك في المال والمراد به ما تصح الشركة فيه،
ولا يعتبر التفاضل فيما لا يصلح الشركة فيه. وكذا في التصرف لأنه لو ملك أحدهما تصرفا لا يملكه الآخر لفات التساوي، وكذلك في الدين لما سنبين إن شاء الله تعالى. وهذه الشركة جائزة عندنا استحسانا وفي القياس لا يجوز وهو قول الشافعي، وقال مالك لا أعرف ما المفاوضة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقصر المصنف فوضى بقوله م: (أي متساويين) ش: أي لا يصلح الناس إذا كانوا متساويين في الأمور، فكل منهم يريد مضي أمره فيقع الاختلاف، ولا يصلح الائتلاف.
م: (فلا بد من تحقيق المساواة ابتداء وانتهاء) ش: أما ابتداء فظاهر بناء على ما ذكر من مأخذ استقامة، وأما انتهاء فلأن المعاوضة من المفقود الجائزة فإن كان لكل واحد منهما الامتناع بعد عقد الشركة فكان لدوامهما حكم الابتداء في ابتداء المتفاوضة بشرط المساواة، فكذا في الانتهاء، حتى إذا زاد مال أحدهما بعد العقد لا تكون المساواة، فلا يبقى المعاوضة.
م: (وذلك) ش: أي تحقق المساواة م: (في المال، والمراد به ما تصح الشركة فيه) ش: أي المراد بالمال الذي اشترط فيه المساواة هو المال الذي تصلح الشركة فيه كالدراهم والدنانير والفلوس أيضاً على قولهما، لا ما لا يصلح فيه الشركة كالعروض والعقار التفاضل فيه يبطل المعاوضة، وهو معنى قوله:
[التفاضل فيما لا يصلح الشركة فيه]
م: (ولا يعتبر التفاضل فيما لا يصلح الشركة فيه) ش: كالنبات ونحوها، وكذا الديون لا تصلح فيها الشركة حتى لو كان لأحدهما ديون على الناس لا يبطل المعاوضة ما لم ينفر ذكره في " الإيضاح " و " الذخيرة ". م: (وكذا في التصرف) ش: عطف على قوله وذلك في المال، أي وكذا تحقيق المساواة في التصرف م: (لأنه لو ملك أحدهما تصرفاً لا يملكه الآخر لفات التساوي) ش: بأن كان الآخر عبداً أو صبياً أو ذمياً، فلا يصلح المفاوضة بين الحر والعبد والصبي والبالغ والمسلم والذمي م: (وكذا في الدين) ش: عطف على قوله وذلك م: (لما سنبين إن شاء الله تعالى) ش: عن قريب سنبين اشتراط التساوي في هذه الأشياء المذكورة م: (وهذه الشركة) ش: أي شركة المفاوضة م: (جائزة عندنا استحساناً، وفي القياس لا يجوز وهو قول الشافعي) ش: وبه قال أحمد.
م: (وقال مالك لا أعرف ما المفاوضة) ش: وفي " الكافي " وهذا تناقض لأنه إذا لم يعرفها كيف يحكم بالفساد إذ لا تصديق بلا تصور، ورد هذا بأن قوله لا أدري ما يكون حكماً بالفساد ولا بالجواز حتى يلزم التناقض.
وفي " الحلية ": والمعنى وحكي عن أصحاب مالك أن المفاوضة تجوز في الجملة وصفها عنده أن يفوض كل واحد إلى آخر التصرف مع حضوره وغيبته، وتكون يده كيده، ولا يشترط فيه(7/376)
وجه القياس أنها تضمنت الوكالة بمجهول الجنس والكفالة بمجهول، وكل ذلك بانفراده فاسد. وجه الاستحسان قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاوضوا فإنه أعظم للبركة، وكذا الناس يتعاملون بها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التساوي في المال.
م: (وجه القياس أنها) ش: أي إن المفاوضة م: (تضمنت الوكالة بمجهول الجنس) ش: أي بشراء شيء مجهول الجنس م: (والكفالة) ش: أي تضمنت الكفالة م: (بمجهول، وكل ذلك) ش: أي المذكور من الوكالة بمجهول الجنس الكفالة بمجهول. م: (بانفراده فاسد) ش: فعند انضمامهما بالطريق الأولى ألا ترى أنه قال وكلتك بالشراء أو شراء الثوب لا تصح الوكالة والكفالة بمجهول لا يصح أيضاً بخلاف الكفالة بمعدوم، فإنها جائزة كما في قوله ما داب لك على فلان يعني به.
فإن قيل: الوكالة العامة جائزة كما إذا قال لآخر وكلتك في مالي اصنع ما شئت، فإنه يجوز له أن يتصرف فيما أصيب بالعموم ليس بمراد هاهنا، فإنه لا تثبت الوكالة في حق شراء الطعام والكسوة لأهله، فإذا لم يكن عاماً كان توكيلاً بمجهول الجنس فلا يجوز. م: (وجه الاستحسان قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «فاوضوا فإنه أعظم للبركة» ش: هذا غريب ليس له أصل، وقال الأترازي وجه الاستحسان ما روى أصحابنا في عامة كتبهم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا لا يرضى به الخصم.
وقال ابن قدامة في " المغني " لا يعرف الخبر ولا رواه أصحاب السنن، وقال الكاكي: قيل له هذا لا يدل على عدم صحته، إذ ليس من شرط صحة الحديث أن يرويه أصحاب السنن.
قلت: سلمنا ذلك ولكن لا بد من شرط صحة الحديث أن يروي ثقة عن ثقة إلى أن ينتهي إلى أحد من الصحابة ثم إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذكر الكاكي أيضاً قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا فاوضتم فأحسنوا المفاوضة» .
قلت: أيضاً غريب مثل ذلك، نعم روى ابن ماجه في " سننه " في التجارات عن صالح بن صهيب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث فيهن البركة البيع إلى أجل والمفاوضة واختلاط البر بالشعير للبيت لا للبيع..» انتهى.
قوله: المفاوضة بالقاف والواو في بعض نسخ ابن ماجه المفاوضة بالفاء، ورواه إبراهيم الحربي في كتاب " غريب الحديث "، وضبط المعاوضة بالعين والضاد، وفسر المعاوضة بأن بلغ عرضاه بعرض مثله. قال والعرض هو مأجور النفور من دابة أو غيرها، وقال العرض بفتح الراء حطام الدنيا، ومنه قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس» .
قلت: هذا أيضاً لا يصح به الاستدلال لوجه الاستحسان م: (وكذا الناس يتعاملون بها) ش:(7/377)
من غير نكير وبه يترك القياس والجهالة متحملة تبعا كما في المضاربة.
ولا تنعقد إلا بلفظة المفاوضة لبعد شرائطها عن علم العوام حتى لو بينا جميع ما تقتضيه المفاوضة تجوز لأن المعتبر هو المعنى قال: فيجوز بين الحرين الكبيرين مسلمين أو ذميين، لتحقق التساوي، وإن كان أحدهما كتابيا والآخر مجوسيا يجوز أيضا لما قلنا ولا تجوز بين الحر والمملوك، ولا بين الصبي والبالغ لانعدام التساوي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي بالمفاوضة م: (من غير نكير) ش: فكان دليلاً على جوازها.
م: (وبه) ش: أي بتعامل الناس بها م: (يترك القياس) ش: قال الكاكي: لأن التعامل كالإجماع، وقال أبو بكر الرازي في " شرحه لمختصر الطحاوي ": وقد رد جواز الشركة المفاوضة عن الشعبي وابن سيرين - رحمهما الله تعالى.
م: (والجهالة متحملة تبعاً) ش: هذا جواب عن جهة القياس تقديره أن الجهالة التي ذكرت فيه تحملت تبعاً لا قصداً، وكم من شيء يثبت ضمناً ولا يثبت قصداً بأن الوكالة لمجهولة الجنس لا يثبت قصداً ويثبت ضمناً بالإجماع م: (كما في المضاربة) ش: فإن الضارب وقت تصرفه وكيل عن رب المال لكن بمجهول الجنس فتحملت الجهالة لثبوتها في ضمن عقد المضاربة لا قصداً، ولأن الجهالة تبطل باعتبار المنازعة لا بد ولا منازعة هنا.
[حكم شركة المعاوضة]
م: (ولا تنعقد) ش: أي شركة المعاوضة م: (إلا بلفظ المفاوضة لبعد شرائطها عن علم العوام) ش: فإن أكثر الناس لا يعرفون جميع أحكامها م: (حتى لو بينا) ش: بلفظ التثنية أي حتى لو بين المتعاقدان م: (جميع ما تقتضيه المفاوضة تجوز لأن المعتبر هو المعنى) ش: لا اللفظ.
وهذا يجعل للكفالة بشرط براءة الأصل حوالة، والحوالة بشرط ضمان الأصل كفالة.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فيجوز بين الحرين الكبيرين مسلمين أو ذميين) ش: أي فتجوز المعاوضة بين حرين احترز به عن أن يكون بين الحر والعبد، وقوله: الكبيرين صفة الحرين احترز به عن أن يكون الكبير والصغير.
وقوله: مسلمين حال الضرر به عن أن يكون أحدهما مسلماً والآخر ذمياً، وقوله أو ذميين أي أو بين ذميين م: (لتحقق التساوي) ش: في جميع ذلك، ولم يذكر المصنف بعد قوله مسلمين لفظ عاقلين، ولا بد من ذلك.
م: (وإن كان أحدهما) ش: أي أحد المتعاوضين م: (كتابياً والآخر مجوسياً يجوز أيضاً لما قلنا) ش: وهو قوله لتحقق التساوي بينهما؛ لأن الكفر كله ملة واحدة.
م: (ولا تجوز) ش: أي المفاوضة م: (بين الحر والمملوك ولا بين الصبي والبالغ لانعدام التساوي)(7/378)
لأن الحر البالغ يملك التصرف والكفالة، والمملوك لا يملك واحدا منهما إلا بإذن المولى، والصبي لا يملك الكفالة ولا يملك التصرف إلا بإذن الولي. قال ولا بين المسلم والكافر. وهذا قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز للتساوي بينهما في الوكالة والكفالة، ولا يعتبر بزيادة تصرف يملكه أحدهما كالمفاوضة بين الشفعوي والحنفي فإنها جائزة، ويتفاوتان في التصرف في متروك التسمية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: وفي بعض النسخ لعدم المساواة م: (لأن الحر البالغ يملك التصرف والكفالة والمملوك لا يملك واحداً منهما) ش: أي من التصرف والكفالة م: (إلا بإذن المولى) ش: يرجع إلى قوله: بين الحر والمملوك.
م: (والصبي لا يملك الكفالة) ش: أذن له وليه أو لا م: (ولا يملك التصرف إلا بإذن الولي) ش: إلى هنا من قوله ولا يجوز بين الحر والمملوك من كلام المصنف شرح لكلام القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقوله م: (ولا بين المسلم والكافر) ش: من كلام القدوري أي لا يجوز المفاوضة بينهما لعدم التساوي.
م: (وهذا) ش: أي وعدم جواز المفاوضة يبن المسلم والكافر م: (قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف يجوز للتساوي بينهما) ش: أي بين المسلم والكافر م: (في الوكالة والكفالة) ش: لأن كل منهما يملك التوكيل والتكفيل.
وذكر الشراح أن عند أبي يوسف يجوز ذلك لتساويهما في التصرف؛ لأن كل ما يملكه الذمي من شراء الخمر والخنزير يملكه المسلم أيضاً بالتوكيل، وجوابه أن الذمي يملكه بنفسه، والمسلم لا يملكه بنفسه فانعدم التساوي وصار كالحر مع العبد.
م: (ولا يعتبر بزيادة تصرف) ش: هذا جواب من جهة أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عما يقال: كيف يؤخذ التساوي بين المسلم والكافر، فالكافر يجوز له التصرف في الخمر والخنزير، ولا يجوز للمسلم فانعدم التساوي، وتقرير الجواب أنه لا يعتبر بزيادة تصرف م: (يملكه أحدهما) ش: أي أحد المتعاوضين م: (كالمفاوضة بين الشفعوي والحنفي فإنها جائزة) ش: بالاتفاق م: (ويتفاوتان في التصرف في متروك التسمية) ش: عمداً؛ لأنه يعتقد حلالاً بخلاف الحنفي.
وحاصل الكلام أن الاعتبار بالتساوي في أصل التصرف كما أن أحدهما يملك التصرف بأمر له أو نيابة، فكذلك الآخر لكن أحدهما اختص بزيادة تصرف، فلا يصرف ذلك كالمفاوضة بين الشافعي والحنفي، كما ذكرنا قوله بين الشفعوي نسبة إلى الشافعي.
فكذا لا يصح، بل الصواب أن يقال الشافعي المذهب، كما يقال للإمام الشافعي فإنه منسوب إلى شافع أحد أجداده، وفي نسخة شيخي العلاء بين الشافعي والحنفي على الصحة، وقال(7/379)
إلا أنه يكره لأن الذمي لا يهتدي إلى الجائز من العقود، ولهما أنه لا تساوي بينهما في التصرف فإن الذمي لو اشترى برأس المال خمورا أو خنازير صح، ولو اشتراها مسلم لا يصح.
ولا يجوز بين العبدين ولا بين الصبيين ولا بين المكاتبين لانعدام صحة الكفالة، وفي كل موضع لم تصح المفاوضة لفقد شرطها، ولا يشترط ذلك في العنان كان عنانا لاستجماع شرائط العنان، إذ هو قد يكون خاصا، وقد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكاكي: وفي بعض النسخ بين الشافعي والحنفي يعني بالفاء بعد النون، والصواب الحنفي منسوب إلى أبي حنيفة بالنسبة إلى فعيلة فعلاً بحذف الياء، والحنفي بالياء منسوب إلى الحنف بدون الياء.
م: (إلا أنه يكره) ش: استثناء من قوله، وقال أبو يوسف يجوز التساوي بينهما في الوكالة والكفالة، ووجه الكراهة، وهو ما ذكره بقوله م: (لأن الذمي لا يهتدي إلى الجائز من العقود) ش: لأنه لا يحترز من الدين، فلا يؤمن أن يكون شريكه حراماً.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد م: (أنه لا تساوي بينهما في التصرف، فإن الذمي لو اشترى برأس المال خموراً أو خنازير صح، ولو اشتراها) ش: أي الخمر والخنازير م: (مسلم لا يصح) ش: فلا يساوي.
فإن قلت: لكل معاوضة الكتابي المجوسي بحيث يصح، ولا مساواة في التصرف منها، فإن المجوسي يتصرف في الموقودة؛ لأنه يعتقد المالية، والكتابي لا يتصرف، وكذا الكتابي يؤاجر نفسه للذبح والمجوسي لا يؤاجر نفسه للذبح. قلت: من جعل الموقودة مالاً يفصل بين الكتابي والمجوسي فتحقق المساواة، والمساواة في المؤاجرة ثابتة، يعني فإن كل واحد من المجوسي والكتابي من أجل أن ينقل ذلك العمل عليه أن يقيمه بنفسه أو بنائبه، وإجارة المجوسي للذبح صحيحة مستوجب بها الأجر، وإن كان لا يحل ذبيحته.
[المفاوضة بين العبدين والصبيين والمكاتبين]
م: (ولا يجوز) ش: أي المفاوضة م: (بين العبدين ولا بين الصبيين ولا بين المكاتبين لانعدام صحة الكفالة) ش: أي من العبد والصبي والمكاتب والمفاوضة تتضمن الكفالة، فلا يصح مفاوضتهم. قال: لا بين المكاتبين.
وكذا لا يصح بين المكاتب والحر م.
(وفي كل موضع تصح المفاوضة لفقد شرطها، ولا يشترط ذلك في العنان) ش: أي والحال أنه لا يشترط ذلك الشرط في شركة العنان م: (كان عناناً) ش: لأنه أتى بمعنى العنان بعبارة المفاوضة م: (لاستجماع شرائط العنان) ش:.
م: (إذ هو) ش: أي عقد شركة العنان م: (قد يكون خاصاً) ش: في نوع من التجارة م: (وقد(7/380)
يكون عاما. قال: وتنعقد على الوكالة والكفالة، أما الوكالة فلتحقق المقصود وهو الشركة في المال على ما بيناه. وأما الكفالة لتحقق المساواة فيما هو من مواجب التجارات وهو توجه المطالبة نحوهما جميعا. قال ما يشتريه كل واحد منهما تكون على الشركة إطعام أهله وكسوتهم، وكذا كسوته، وكذا الإدام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يكون عاماً) ش: في أنواع التجارة، والمفاوضة عامة فيها نظيره ما ذكرناه في " الشامل " في قسم " المبسوط ". وإن تعارض عبدان مسلم وذمي كانت شركة العنان والمفاوضة أعم من العنان، فإذا بطل يعني العموم فبقي معنى الخصوص، فجاز إثبات العنان بلفظ المفاوضة، كما جاز إثبات الخصوص بلفظ العموم.
وتنعقد أي المعاوضة في بعض النسخ م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وتنعقد على الوكالة والكفالة) ش: يعني أن كل واحد من الشريكين يكون فيما باشر وكيلاً عن الآخر وكفيلاً عنه م: (أما الوكالة فلتحقق المقصود وهو الشركة في المال) ش: لأن التصرف في مال الغير لا يجوز إلا بولاية أو وكالة، ولم توجد الولاية فتثبت الوكالة لتحقق المقصود من الشركة فيكون كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه في النصف م: (على ما بيناه) ش: يعني عند قوله قبل هذا ليكون ما تستفاد بالتصرف مشتركاً بينهما.
م: (وأما الكفالة لتحقق المساواة فيما هو من مواجب التجارات) ش: أي وأما انعقاد المفاوضة على الكفالة فيتحقق معنى المفاوضة وهي المساواة في أمر هو من موجبات التجارة أي من مقتضياتها، أي الأمر الآخر الذي هو من مواجب التجارة ويوجب التجارة.
م: (وهو توجه المطالبة نحوهما جميعاً) ش: فيكون كل واحد منهما كفيلاً عن الآخر فيما وجب عليه بسبب التجارة، وإذا كفل أحدهما بمال عن أجنبي لزم الآخر عند أبي حنيفة، وخلافاً لهما على ما يجيء إن شاء الله تعالى. وإذا اشتراه كل واحد منهما وفي أكثر النسخ.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وما يشتريه كل واحد منهما) ش: أي من المتعاوضين م: (تكون على الشركة إطعام أهله وكسوتهم) ش: فإنها تكون الذي اشتراه خاصة.
قال المصنف م: (وكذا كسوته) ش: أي وكذا كسوة الذي اشتراه يكون له خاصة م: (وكذا الإدام) ش: يعني يكون الذي اشتراه لا على الشركة، لكن يطالب كل واحد منهما بالثمن، ألا ترى إلى ما قاله الكرخي في " مختصره ".
وإذا اشترى أحدهما طعاماً لأهله أو كسوة أو ما لا بد لهم منه، فذلك جائز وهو قول خاصة دون صاحبه، وللبائع أن يطالب بثمن ذلك أيهما شاء على ما يجيء.
وكذا إذا اشترى أحدهما جارية ليطأها بإذن شريكه، وليس له أن يشتري جارية للوطء إذا(7/381)
لأن مقتضى العقد للمساواة، وكل واحد منهما قائم مقام صاحبه في التصرف، وكان شراء أحدهما كشرائهما إلا ما استثناه في الكتاب فهو استحسان لأنه مستثنى عن المفاوضة للضرورة، فإن الحاجة الراتبة معلومة الوقوع ولا يمكن إيجابه على صاحبه ولا الصرف من ماله، ولا بد من الشراء فيختص به ضرورة، والقياس أن يكون على الشركة لما بينا، وللبائع أن يأخذ بالثمن أيهما شاء المشتري بالأصالة، وصاحبه بالكفالة، ويرجع الكفيل على المشتري بحصته بما أدى؛ لأنه قبض دينا عليه من مال مشترك بينهما. قال: ولا يلزم كل واحد منهما من الديون بدلا عما يصح فيه الاشتراك فالآخر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يأذن له شريكه.
وكذلك إذا اشترى جارية للخدمة وفي " مختصر الكرخي " - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضاً وإن اشترى أحدهما جارية للوطء بإذن شريكه فاستولدها ثم استحقت فعلى الواطئ العقد يأخذ المستحق بالعقد أيهما شاء.
م: (لأن مقتضى العقد) ش: أي عقد شركة المفاوضة م: (للمساواة) ش: وهذا تعليل للمثنى منه، وهو قوله يكون على الشركة م: (وكل واحد منهما) ش: أي من المتعاوضين م: (قائم مقام صاحبه في التصرف وكان شراء أحدهما كشرائهما إلا ما استثناه في الكتاب) ش: أي في القدوري.
م: (فهو) ش: أي المستثنى منه م: (استحسان لأنه مستثنى عن المفاوضة للضرورة) ش: لأن كل واحد منهما حين يشارك شارك صاحبه عالم بحاجته إلى ذلك، ومعلوم أن كل واحد منهما لم يقصد بلفظ المفاوضة أن تكون نفقته ونفقة عياله على شريكه.
م: (فإن الحاجة الراتبة) ش: أي الراتبة من قولهم رتب الشيء إذا استقر ودام، وأمر مرتب دائم ثابت م: (معلومة الوقوع، ولا يمكن إيجابه) ش: أي إيجاب شراء أحد المتعاوضين م: (على صاحبه ولا الصرف) ش: أي صرف الثمن م: (من ماله، ولا بد من الشراء) ش: أي شراء طعام الأهل وكسوتهم م: (فيختص به) ش: أي يختص المشتري بالطعام والكسوة م: (ضرورة) ش: لأنه لا بد من شراء ذلك.
م: (والقياس أن يكون) ش: كل ذلك م: (على الشركة لما بينا) ش: وهو قوله لأن مقتضى العقد المساواة م: (وللبائع أن يأخذ بالثمن) ش: أي بثمن الطعام والكسوة والإدام م: (أيهما) ش: أي المتعاوضين م: (شاء المشتري) ش: أي يطالب المشتري م: (بالأصالة) ش: لأنه هو المباشر م: (وصاحبه) ش: أي يطالب صاحبه م: (بالكفالة) ش: لأنه كفيل عنه م: (ويرجع الكفيل على المشتري بحصته بما أدى) ش: يعني من مال الشركة م: (لأنه قضى ديناً عليه من مال مشترك بينهما) ش: أي بين المتعاوضين م: (وما يلزم كل واحد منهما من الديون بدلاً عما يصح فيه الاشتراك فالآخر) ش: أي(7/382)
ضامن له تحقيقا للمساواة، فما يصح فيه الاشتراك الشراء والبيع والاستئجار، ومن القسم الآخر الخيانة والنكاح والخلع والصلح عن دم العمد وعن النفقة ولو كفل أحدهما بمال عن أجنبي لزم صاحبه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال لا يلزم لأنه تبرع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فالشريك الآخر م: (ضامن له، تحقيقاً للمساواة) ش: أي يعني المساواة الذي تقتضيه شركة المتعاوضة م: (فما يصح الاشتراك فيه) ش: أي فمن جملة ما يصح الاشتراك فيه.
م: (البيع والشراء) ش: صورتهما ظاهرة، لكن الثمن في البيع الجائز، والقيمة في البيع الفاسد م: (والاستئجار) ش: صورته أن مستأجر أحد المتعاوضين أجير في تجارتهما أو دابة أو شيئاً من الأشياء فللمؤجر أن يأخذ الأجر أيهما شاء؛ لأن الإجارة من عقود التجارة، وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه لما يلزمه من التجارة.
وكذلك إن استأجره لحاجة نفسه أو استأجر إبلاً إلى مكة تحج عليها فللمكاري أن يأخذ أيهما شاء، إلا أن شريكه إذا أدى من خالص ماله يرجع به عليه؛ لأنه أدى ما كفل عنه بأمره وإن أدى من مال الشركة يرجع عليه نصيبه من الدرئ.
وأما في شركة العنان فلا يؤخذ به غير الذي استأجر لأنه هو الذي استأجره؛ لأنه هو الملتزم بالعقد وصاحبه ليس بكفيل عنه م: (ومن القسم الآخر) ش: أي مما لا يصح فيه الاشتراك م: (الخيانة) ش: أراد بها الخيانة على نفي الدم؛ لأن ضمان العقب يلزم الشريك، وفي " المبسوط " إذا ادعى رجل على أحدهما خطأ لهما إن شق مقدورات استحلفه فحلف، ثم أراد أن يستحلف شريكه ليس له ذلك إذ لا خصومة له مع شريكه إذ لا يكون أحد كفيلاً عن الآخر فيما ليس في التجارة.
م: (والنكاح والخلع والصلح عن دم العمد) ش: ففي هذه الأشياء إذا ادعى رجل على أحدهما وحلفه ليس له أن يحلف الآخر بخلاف ما لو ادعى على أحدهما ببيع خادم يخدم للمدعي أن يحلف المدعى عليه على الثبات وشريكه على العلم، وصورة الخلع ما لو عقدت المرأة مع آخر عقد مفاوضة ثم خالعت زوجها بمال لا يلزم ذلك على شريكها، كذا لو أقرت ببدل الخلع لا يلزم شريكها.
م: (وعن النفقة) ش: أي وكذا الصلح عن النفقة على شيء لا يلزم شريكه شيء من ذلك م: (ولو كفل أحدهما) ش: أي أحد المفاوضين م: (بمال عن أجنبي لزم صاحبه عند أبي حنيفة، وقال: لا يلزمه) ش: أي لأن الكفيل متبرع على صيغة اسم الفاعل وفي بعض النسخ م: (لأنه تبرع) ش: بصفة المصدر أي لأن عقد الكفالة تبرع.
وكذا في نسخة شيخي العلاء، وقال الفقيه أبو الليث: وهذا إذا كفل بأن المكفول عنه وإن(7/383)
ولهذا لا يصح من الصبي والعبد والمأذون والمكاتب ولو صدر من المريض يصح من الثلث وصار كالإقراض والكفالة بالنفس، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه تبرع ابتداء ومعاوضة بقاء؛ لأنه يستوجب الضمان بما يؤدي عن المكفول عنه إذا كانت الكفالة بأمره فبالنظر إلى البقاء صح لتضمنه المفاوضة وبالنظر إلى الابتداء لم تصح ممن ذكره،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كفل بغير إذنه ينبغي أن لا يجب شيء على صاحبه في قولهم جميعاً، وفي " شرح الطحاوي " إن كانت الكفالة بالنفس فلا يؤاخذ به صاحبه بالإجماع.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون عقد الكفالة متبرعاً م: (لا يصح من الصبي والعبد والمأذون والمكاتب) ش: لأنهم ليسوا من أهل التبرع م: (ولو صدر) ش: أي التكفل أو عقد الكفالة م: (من المريض) ش: مرض الموت م: (يصح من الثلث) ش: قال الكاكي: وقيد صدور الكفالة بحالة المرض؛ لأن المريض لو أقر بالكفالة السابقة في حالة الصحة يعتبر ذلك في جميع المال بالإجماع.
م: (وصار) ش: أي عقد الكفالة بالمال م: (كالإقراض) ش: حيث لا يلزم الشريك، وقال الكاكي: وفي الإقراض اختلاف فإنه ذكر في " الإيضاح ": لو قرض أحد المتفاوضين مالاً، وأعطاه رجلاً وأخذ الصحة كان جائراً عليهما ولا يضمن ثمن المال أولاً، وفي قياس قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمن القرض صحة شريكه.
م: (والكفالة بالنفس) ش: حيث لا يؤاخذ به الآخر م: (ولأبي حنيفة) ش: أي عقد الكفالة م: (أنه تبرع ابتداء) ش: أي في ابتداء الأمر، ألا ترى أن المريض لو كفل يعتبر من الثلث، ولو كفل العبد المأذون لا يجوز كفالته م: (ومعاوضة بقاء) ش: أي في حالة البقاء ألا ترى أنه [ ... ] على الأداء م: (لأنه) ش: هذا تعليل لكون الكفالة مفاوضة بقاء، يعني أن الكفيل م: (يستوجب الضمان) ش: أي يستحقه على المكفول عنه م: (بما يؤدي عن المكفول عنه إذا كانت الكفالة بأمره) ش: أي بأمر المكفول عنه.
م: (فبالنظر إلى البقاء صح لتضمنه المفاوضة وبالنظر إلى الابتداء لم تصح) ش: وكلامنا في البقاء؛ لأنه يلزم شريكه بعد ما لزم عليه، وفي نسخة شيخنا العلاء لأنه مستوجب الضمان عما يؤدي على المكفول عنه.
فإذا كانت الكفالة بأمره فبالنظر إلى البقاء تتضمنه المعاوضة وبالنظر إلى الابتداء لم يصح، وكذا قال الأكمل فبالنظر إلى البقاء تتضمنه المفاوضة يعني وحاجتنا هاهنا إلى البقاء إذ المطالبة متوجه بعد الكفالة لأنها حكمها، فلما لزم المال على الشريك الضامن لزم الأجر.
وهذه هي حالة البقاء بخلاف الصبي وغيره لأن كلامنا ثمة في الابتداء بأنه قد يضمنه أولاً، فاعتبرنا [ ... ] النزع فيه ولم يعتبره هاهنا؛ لأن الابتداء ثمة محتاج إليه ولا كذلك هاهنا لصحة(7/384)
ويصح من الثلث من المريض بخلاف الكفالة بالنفس لأنه تبرع ابتداء وانتهاء، وأما الإقراض فعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يلزم صاحبه ولو سلم فهو إعارة فيكون لمثلها حكم عينها لا حكم البدل حتى لا يصح فيه الأجل فلا تتحقق معاوضة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الابتداء، لكن الضامن من أهل الضمان دون الصبي ممن ذكره.
قال الأكمل: ويريد به الصبي والمجنون، وقال تاج الشريعة: يريد به المكاتب والصبي والعبد المأذون.. انتهى.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقول. م: (ممن ذكره) ش: أي ذكره أبو يوسف ومحمد لأن القياس أن تقول ذكراه بضمير الاثنين أو القياس أن يترك الضمير المنصوب ويذكر الفعل على صيغة المبني للمفعول، فلعله وقع هكذا من قلم الكاتب.. انتهى.
قلت: فيه نسبة المصنف إلى السهو بجنس العبارة وقوله ممن ذكره بضمير الإفراد صحيح لأن المسألة من مسائل " الجامع الصغير " الذي يذكر فيه منسوبًا إلى محمد، وإن كان أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - معه في مواضع وإفراده للضمير بهذا الاعتبار أي ممن ذكره محمد في " الجامع الصغير " فافهم.
[عقد الكفالة من المريض]
م: (ويصح) ش: أي عقد الكفالة. م: (من الثلث) ش: أي من ثلث المال. م: (من المريض) ش: مرض الموت، وقد مر بيانه. م: (بخلاف الكفالة بالنفس) ش: حيث لا يلزم شريكه. م: (لأنه) ش: أي لأن عقد الكفالة بالنفس. م: (تبرع ابتداء وانتهاء) ش: إذ لا يستوجب الكفيل قبل المكفول عنه شيئًا.
م: (وأما الاقتراض) ش: هذا في الحقيقة جواب عن قولهما وصار كالإقراض بطريق المشبع، بيانه أن الإقراض. م: (فعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: رواه الحسن. م: (أنه يلزم صاحبه) ش: عند أبي حنيفة ولا نسلم أنه لا يلزمه على رواية الحسن حتى لو فرض أحد المتعاوضين جاز عليه وعلى شريكه، ولا يضمن لشريكه شيئًا.
م: (ولو سلم) ش: جواب بطريق التسليم يعني ولو سلمنا أن الإقراض لا يلزم صاحبه عند أبي حنيفة. م: (فهو) ش: أي الإقراض. م: (إعارة) ش: لا معاوضة بدليل جوازه إذ لو كان معاوضة لكان فيه بيع النقد بالنسبة في الأموال الربوية، فإذا كان كذلك. م: (فيكون لمثلها) ش: أي لمثل الإعارة. م: (حكم عينها) ش: أي عين ما أقرضه. م: (لا حكم البدل) ش: كما في الإعارة الحقيقية. م: (حتى لا يصح فيه الأجل) ش: أي لا يلزم لأن تأجيل الإقراض والعارية جائز، ولكنه لا يلزمه المضي على ذلك التأجيل، وإذا كان الأمر كذلك. م: (فلا تتحقق المعاوضة) ش: في الإقراض في الأمراض.(7/385)
ولو كانت بغير أمره لم تلزم صاحبه في الصحيح لانعدام معنى المفاوضة، ومطلق الجواب في الكتاب محمول على المقيد وضمان الغصب والاستهلاك بمنزلة الكفالة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه معاوضة انتهاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الكفالة بغير أمر المكفول]
م: (ولو كانت) ش: الكفالة. م: بغير أمره) ش: أي بغير أمر المكفول عنه. م: (فالصحيح أنه لا يلزم صاحبه لانعدام معنى المفاوضة) ش: وإليه ذهب الفقيه أبو الليث في " شرح الجامع الصغير " وتبعه المصنف حيث قال. م: (ومطلق الجواب في الكتاب) ش: أي في " الجامع الصغير " عن قيد الكفالة بأمر المكفول عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا المقدار.
هذا إذا كانت الكفالة بأمر المكفول عنه، وعامة المشايخ لم يفرقوا في شروح " الجامع الصغير " بينهما إذا كان بأمره أو بغيره إطلاق جواب كتاب " الجامع الصغير ". م: (محمول على المقيد وضمان الغصب والاستهلاك بمنزلة الكفالة) ش: يعني في أنه يلزم شريكه. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ضمان الغصب والاستهلاك بمنزلة الكفالة. م: (عند أبي حنيفة) ش: عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غير رواية الأصول أنه لا يلزم الشريك. م: (لأنه معاوضة انتهاء) ش: لأن الغرض عند الطلب.
وقال الكاكي: يختص أبو حنيفة في قوله بمنزلة الكفالة عنده، إنما يصح في حق الكفالة لا في حق ضمان الغصب والاستهلاك، فإن فيهما محمدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أنه يلزمه شريكه وفي الكفالة مع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكان حق الكلام أن يقول: وضمان الغاصب والاستهلاك بمنزلة الكفالة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد خلافًا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غير رواية الأصول أنه لا يلزم الشريك لأنه معاوضة انتهاء؛ لأن الغرض عند الطلب.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تخصيص أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله بمنزلة الكفالة عنه إنما يصح في حق الكفالة لا في حق ضمان الغصب والاستهلاك، فإن سيما محمد مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أنه يلزمه شريكه، وفي الكفالة مع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال الأترازي: وكان حق الكلام أن يقول: وضمان الغصب والاستهلاك بمنزلة الكفالة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافًا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غير رواية الأصول.
وقال الأكمل: تلميح تحرير المذاهب على هذا الوجه يظهر لك سقوط ما اعترض به على المصنف في قوله بمنزلة الكفالة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأن محمدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في لزوم ضمان الغصب واستهلاك الشريك فلا يكون لتخصيص أبي حنيفة ولا لقوله بمنزلة الكفالة وجه.(7/386)
وإن ورث أحدهما مالا تصح في الشركة، أو وهب له ووصل إلى يده بطلت المفاوضة وصارت عنانا لفوات المساواة فيما يصلح رأس المال؛ إذ هي شرط فيه ابتداء وبقاء وهذا لأن الآخر لا يشاركه فيما أصابه لانعدام السبب في حقه، إلا أنها تنقلب عنانا للإمكان، فإن المساواة ليست بشرط فيه ولدوامه حكم الابتداء لكونه غير لازم فإن ورث أحدهما عرضا فهو له. ولا تفسد المفاوضة، وكذا العقار لأنه لا تصح فيه الشركة، فلا يشترط المساواة فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[بطلان المفاوضة وصيرورتها عنانًا]
م: (وإن ورث أحدهما) ش: أي أحد المتعاوضين. م: (مالا تصح فيه الشركة) ش: هذه الجملة صفة لقوله مالًا، والمال كالدراهم والدنانير والفلوس النافقة. م: (أو وهب له) ش: أي لأحد المتعاوضين. م: (ووصل) ش: أي المال. م: (إلى يده بطلت المفاوضة وصارت) ش: أي الشركة. م: (عنانًا لفوات المساواة) ش: التي هي الشرط. م: (فيما يصلح رأس المال إذ هي) ش: أي المساواة. م: (شرط فيه) ش: أي في عقد الشركة المفاوضة. م: (ابتداء وبقاء) ش: أي في حال الابتداء وحالة البقاء. لا قضاء مساواة الدوام.
م: (وهذا) ش: أي بطلان المفاوضة وصيرورتها عنانًا. م: (لأن الآخر) ش: أي الشريك الآخر. م: (لا يشاركه) ش: أي لا يشارك صاحبه. م: (فيما أصابه) ش: من المال. م: (لانعدام السبب) ش: أي سبب الشركة وهي التجارة. م: (في حقه) ش: أي في حق الآخر. م: (إلا أنها) ش: أي غير أن المفاوضة. م: (تنقلب عنانًا للإمكان، فإن المساواة ليست بشرط فيه) ش: أي في العنان ابتداء، وكل ما ليس بشرط فيه الابتداء لا يشترط فيه دوامًا. م: (ولدوامه) ش: أي ولدوام العنان. م: (حكم الابتداء لكونه غير لازم) ش: أي لكونه عقدًا غير لازم فإن أحد الشريكين إذا امتنع عن المضي على موجب العقد لا يجبره القاضي على ذلك فصار كالوكالة المفردة، فصار كأنهما إنشاء الشركة في الحال، ولا مساواة بينهما فيكون عنانًا.
فإن قيل: الإجارة عقد لازم حتى لا يتفرد كل واحد من المتعاقدين بالفسخ ويجبرهما القاضي على المضي ومع ذلك لدوامها حكم الابتداء حتى لا يبقى بموت أحد المتعاقدين فكيف يصح التعليل بعدم اللزوم لإثبات مدعاه؛ إذ العقد اللازم لدوام حكم الابتداء كما في الإجارة.
قيل: في جوابه الإجارة عقد غير لازم كما قال شريح لكون العقود عليه معه، وما في الحال فكان بمنزلة العارية، إلا أنه عند معاوضة واللزوم أصل في المعاوضات تحقيقًا للنظر من الجانبين كما في البيع والإجارة بموت أحدهما لا باعتبار كونه لازمًا باعتبار فوت المستحق؛ لأن رقبة الدار تنتقل إلى الوارث. م: (وإن ورث أحدهما) ش: أي أحد المتعاوضين. م: (عرضًا) ش: أي متاعًا من الأمتعة. م: (فهو له) ش: أي فالعرض له، يعني لا يكون في الشركة.
م: (ولا تفسد المفاوضة، وكذا العقار) ش: أي وكذا لا يفسد المفاوضة، إذا ورث أحدهما عقارًا. م: (لأنه لا تصح فيه الشركة ولا شرط المساواة فيه) ش: أي في العنان، والله أعلم بالصواب.(7/387)
فصل ولا تنعقد الشركة إلا بالدراهم والدنانير والفلوس النافقة، وقال مالك: تجوز بالعروض والمكيل والموزون إذا كان الجنس واحدا؛ لأنها عقدت على رأس مال معلوم فأشبه النقود. بخلاف المضاربة؛ لأن القياس يأباها، لما فيها من ربح ما لم يضمن فتقتصر على مورد الشرع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل ولا تنعقد الشركة إلا بالدراهم والدنانير والفلوس النافقة]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل في بيان ما يصلح من الأموال لرأس مال الشركة، ولما كان المبحث هنا غير المبحث فيما قبله ذكره بفصل على حدة فقال. م: (ولا تنعقد الشركة إلا بالدراهم والدنانير والفلوس النافقة) ش: قال الكاكي في " المبسوط ": تكون المفاوضة والعنان في شركة البقل والوجوه مع عدم المال فيهما فكان قوله لا تنعقد الشركة إلا بكذا كيف يتحصل.
قلت: المراد بقوله لا تنعقد الشركة هي شركة المفاوضة؛ لأن اللام للتعريف في الشركة فيصرف المذكور إلى السابق.
وقال صاحب " النهاية " أيضًا: المراد شركة المفاوضة؛ لأنه شرع فيه بعد بيان المفاوضة، ولهذا بدأ بعد هذا ببيان شركة العنان، بقوله أما شركة العنان. بقوله بالفلوس النافقة إلى الرابحة؛ لأن غير النافقة من العروض وكذا يجوز بالبر النافقة ولا خلاف في أن المشتركة تصح بالنقدين والفلوس النافقة والخلاف في العروض، فقال أصحابنا أحمد والشافعي في وجه: لا يجوز، وقال في وجه: إن كانت العروض مثليًا يجوز؛ إذ المثلي نسبة المفقود، ويرجع عند المعاوضة بمثلها.
م: (وقال مالك: يجوز بالعروض والمكيل والموزون أيضًا إذا كان الجنس واحدًا؛ لأنها) ش: أي لأن الشركة. م: (عقدت على رأس مال معلوم فأشبه النقود) ش: واشتراط اتحاد الجنس بناء على أن الخلط شرط عنده، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في ذلك خلاف مالك نظر لما تقدم من قوله، وقال مالك: لا أعرف، والمفاوضة إلا إذا ثبت عنه روايتان أو يكون تعريفًا على قول من يقول لها كما نقل عن أبي حنيفة في الزراعة. انتهى.
قلت: نقل هذا عن مالك غير صحيح، وإنما هذا منقول عن الشافعي، وعند مالك يجوز لما نقله المصنف، وعن أحمد في رواية تجوز الشركة والمضاربة بالعروض، وبه قال الأوزاعي وطاووس وحماد بن أبي سليمان وابن أبي ليلى. م: (بخلاف المضاربة) ش: من تتمة قول مالك يعني المضاربة مختصة بالدراهم والدنانير.
م: (لأن القياس يأباها) ش: أن يمنع جوازها. م: (لما فيها من ربح ما لم يضمن) ش: لأن المال ليس بمضمون على المضاربة بل هو أمانة في يده، فكان ما حصل من الربح ربح بمال غير مضمون، يستحق رب المال؛ لأنه لم يعمل في ذلك الربح، فلا يصح. م: (فيقتصر على مورد الشرع)(7/388)
ولنا أنه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن لأنه إذا باع كل واحد منهما رأس ماله وتفاضل الثمنان فما يستحقه أحدهما من الزيادة في مال صاحبه ربح ما لم يملك وما لم يضمن بخلاف الدراهم والدنانير لأن ثمن ما يشتريه في ذمته؛ إذ هي لا تتعين، فكان ربح ما ضمن، ولأن أول التصرف في العروض البيع وفي النقود الشراء وبيع أحدهما ماله على أن يكون الآخر شريكا في ثمنه لا يجوز، وشراء أحدهما شيئا بماله على أن يكون البيع بينه وبين غيره جائزا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: وهي الدراهم والدنانير.
وأما في الشركة فإن كان واحدًا من الشريكين يعمل في ذلك المال فيستوي فيه العروض والنقود كما لو عمل واحد منهما في مال لنفسه يعتبر شركة يصح.
م: (ولنا أنه) ش: أي عقد الشركة بالعروض. م: (يؤدي إلى ربح ما لم يضمن) ش: وأنه لا يجوز لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذلك وأوضح فيما يروى أن ربح ما لم يضمن لا يجوز بقوله. م: (لأنه إذا باع كل واحد منهما) ش: أي من الشريكين من العروض. م: (رأس ماله وتفاضل الثمنان) ش: بأن باع أحدهما عرضه بأضعاف قيمته والآخر بمثل قيمته فاشتركا في الربح. م: (فما يستحقه أحدهما من الزيادة في مال صاحبه ربح ما لم يضمن) ش: وما لم يملك، وذلك لا يجوز م: بخلاف الدراهم والدنانير؛ لأن ثمن ما يشتريه) ش: كل واحد منهما برأس المال يتعلق الشراء برأس المال بعينه.
وإنما يتعلق بمثله دينًا. م: (في ذمته إذ هي) ش: أي الأثمان. م: (لا تتعين) ش: والتغيير. م: (فكان ربح ما يضمن) ش: لتحقق شرط طيب الربح وهو وجوب المال في الذمة.
م: (ولأن أول التصرف) ش: دليل آخر، أي أول التصرف في الشركة. م: (في العروض البيع) ش: أنه بيع العروض. م: (وفي النقود) ش: أي وفي الشركة في الدراهم والدنانير. م: (الشراء) ش: وهو ظاهر. م: (وبيع أحدهما) ش: أي أحد الشريكين.
م: (ماله على أن يكون الآخر شريكًا في ثمنه لا يجوز) ش: لأن الشركة تقتضي الوكالة والتوكيل على الوجه الذي تضمنه الشركة لا يصح في العروض، فإنه لو قال لغيره: بع عرضك على أن ثمنه بيننا لا يصح.
م: (وشراء أحدهما شيئًا بماله على أن يكون البيع بينه وبين غيره جائزًا) ش: ألا ترى أن من قال: اشتر بألف من مالك على أن ما تربح مشترك بيننا فالشركة جائزة وقدر صاحب " النهاية " هذا الدليل الثاني على وجه يئول إلى ربح ما لم يضمن، وذلك لأنه قال: لأن صحة الشركة باعتبار الوكالة في كل موضع لا تجوز الوكالة ملك الصفة لا تجوز الشركة، ومعنى هذا أن الوكيل بالبيع أن يكون أمينًا.
فإذا شرط له جزءًا من الربح ما لم يضمن، فأما الوكيل بالشراء فهو من [..] في ذمته،(7/389)
وأما الفلوس النافقة تروج رواج الأثمان فألحقت بها. قالوا: هذا قول محمد لأنها ملحقة بالنقود عنده حتى لا تتعين بالتعيين، ولا يجوز بيع اثنين بواحد بأعيانها على ما عرف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإذا شرط له جزءًا من الربح كان هذا ربح ما قد ضمن.
[الشركة بالفلوس النافقة]
م: (وأما الفلوس النافقة) ش: فلأنها. م: (تروج رواج الأثمان) ش: أي كرواج الأثمان. م: (فالتحقت بها) ش: أي بالأثمان. م: (قالوا) ش: أي قال المتأخرون. م: (هذا) ش: أي هذا الذي ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - من جواز الشركة بالفلوس النافقة وهو. م: (قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: كذا فسره الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن ماله الفلوس التي ذكرها في أول الفصل، ذكرها القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مختصره وغيره. قال: قوله هذا أي جواز الشركة بالفلوس النافقة قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (لأنها) ش: أي لأن الفلوس النافقة. م: (ملحقة بالنقود عنده) ش: أي عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (حتى لا يتعين بالتعيين) ش: كالدراهم والدنانير.
م: (ولا يجوز بيع اثنين بواحد) ش: أي بيع فلسين بفلس واحد. م: (بأعيانها على ما عرف) ش: في نوع، وإنما قيد بأعيانها لتظهر ثمرة الاختلاف، فإنه لو باع فلسين بواحد من الفلوس نسيئة لا يجوز بالإجماع المركب.
أما عندهما فله وجه النسبة في الجنس الواحد، وأما عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلهذا أو لمعنى الثمن، وأما إذا كانت بأعيانهما فعندهما يجوز وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز.
ولم يذكر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الفلوس النافقة خلافًا، وإنما ألحقها بالدراهم والدنانير، ولم يذكر الخلاف فيها، وكذلك حكم الشبهة لم يذكر الخلاف فيها.
وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": والأموال التي يصح بها عقد الشركة الدراهم والدنانير في قولهم جميعًا، ثم قال: وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصح بالفلوس أيضًا.
وفي " الشامل " تجوز الشركة بالفلوس لأنها لا تتغير في العقد، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تصح، وهو رواية عن أبي حنيفة لأنه بيع مكادة وثمن أخرى.
وقال الأسبيجابي في " شرح الطحاوي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولو كان رأس مال أحدهما لم تجز الشركة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الفلوس إنما صارت ثمنًا باصطلاح الناس، وليس بثمن في الأصل، وعند محمد تجوز وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول.(7/390)
أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - لا تجوز الشركة والمضاربة بها؛ لأن ثمنها يتبدل ساعة فساعة وتصير سلعة، ويروى عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والأول أقيس وأظهر، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - صحة المضاربة بها. قال: ولا تجوز الشركة بما سوى ذلك إلا أن تعامل الناس بالتبر
والنقرة فتصح الشركة بهما هكذا ذكر في الكتاب. وفي " الجامع الصغير " ولا تكون المعاوضة بمثاقيل ذهب أو فضة، ومراده التبر. فعلى هذه الرواية التبر سلعة تتعين بالتعيين، فلا تصلح رأس المال في المضاربات والشركات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - لا تجوز الشركة ولا المضاربة بها) ش: أي بالفلوس. م: (لأن ثمنها يتبدل ساعة فساعة وتصير سلعة) ش: فلا تجوز الشركة ولا المضاربة بالسلعة.
م: (ويروى عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يعني لا يجوز بيع الفلسين بفلس واحد، وهذا قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولًا. م: (والأول) ش: أي كون أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (أقيس) ش: أي أشبه. م: (وأظهر) ش: لأن أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - جوز بيع الفلسين بفلس واحد إذا كانا عينين كأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وجعل الفلوس كالمعروض، فلما كان مذهبه في مسألة البيع مذهب أبي حنيفة كان مذهبه أيضًا في مسألة الشركة، لأن العروض لا تصلح رأس مال الشركة والمضاربة.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي روي عن أبي حنيفة رواه الحسن عنه. م: (صحة المضاربة بها) ش: أي بالفلوس النافقة. م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
م: (ولا تجوز الشركة بما سوى ذلك) ش: أي سوى المذكور من الدراهم والدنانير والفلوس النافقة. م: (إلا أن تعامل الناس بالتبر) ش: بكسر التاء المثناة من فوق وسكون الباء الموحدة وهو من الذهب والفضة ما كان غير مصوغ.
[عقد الشركة بما سوى المذكور من الدراهم والدنانير والفلوس النافقة]
م: (والنقرة) ش: بضم النون وهي القطعة المذابة من الفضة والذهب. م: (فتصح الشركة بهما) ش: أي بالتبر والنقرة. م: (هكذا ذكره في الكتاب) ش: أي في " مختصر القدوري " - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (وذكر في الجامع الصغير ولا تكون المعاوضة بمثاقيل ذهب أو فضة ومراده التبر) ش: أي مراد محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " من قوله قبل ذهب أو فضة التبر.
م: (فعلى هذه الرواية) ش: أي رواية " الجامع الصغير ". م: (التبر سلعة تتعين بالتعيين، فلا تصلح رأس المال في المضاربات والشركات) ش: لأنه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن.(7/391)
وذكر في كتاب الصرف أن النقرة لا تتعين بالتعيين حتى لا ينفسخ العقد بهلاكه قبل التسليم. فعلى تلك الرواية تصلح رأس المال فيهما، وهذا لما عرف أنهما خلقا ثمنين في الأصل، إلا أن الأول أصح لأنها وإن خلقت للتجارة في الأصل لكن الثمنية تختص بالضرب المخصوص؛ لأنه عند ذلك لا يصرف أي شيء آخر ظاهرا، إلا أن يجري التعامل باستعمالهما ثمنا فينزل التعامل بمنزلة الضرب فيكون ثمنا ويصلح رأس المال، ثم قوله: ولا يجوز بما سوى ذلك يتناول المكيل والموزون والعددي المتقارب ولا خلاف فيه بيننا قبل الخلط، ولكل واحد منهما ربح متاعه، وعليه وضيعته، وإن خلطا ثم اشتركا فكذلك لا يجوز عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشركة شركة ملك لا شركة عقد وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تصح شركة العقد. وثمرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وذكر في كتاب الصرف) ش: من " الجامع الصغير ". م: (أن النقرة لا تتعين بالتعيين حتى لا ينفسخ العقد بهلاكه قبل التسليم. فعلى تلك الرواية تصلح رأس المال فيهما) ش: أي في المضاربات والشركات.
م: (وهذا) ش: إشارة إلى أن النقرة لا تتعين بالتعيين. م: (لما عرف أنهما) ش: أن الذهب والفضة. م: (خلقا ثمنين في الأصل) ش: يعني رواية " الجامع الصغير " لأنها وإن خلقت للتجارة في الأصل لكن الثمنين مختصين بالضرب المخصوص؛ لأن عند ذلك أي عند الضرب المخصوص لا يصرف أي شيء آخر ظاهرًا.
م: (إلا) ش: أن يجري التعامل. هذا استثناء من قوله. م: (أن الأول أصح لأنها وإن خلقت للتجارة في الأصل لكن الثمنية تختص بالضرب المخصوص؛ لأنه عند ذلك لا يصرف أي شيء آخر ظاهرًا، إلا أن يجري التعامل باستعمالها ثمنًا فينزل التعامل بمنزلة الضرب فيكون ثمنًا ويصلح رأس المال) ش: يعني أن الأول وهي رواية " الجامع الصغير " وهي أن النقرة لا تصلح إلا إذا جرى التعامل باستعمالها ثمنًا فينزل التعامل منزلة الضرب فيكون ثمنًا ويصلح رأس المال.
م: (ثم قوله) ش: أي ثم قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ". م: (ولا يجوز بما سوى ذلك) ش: أي لا يجوز عقد الشركة بما سوى المذكور من الدراهم والدنانير والفلوس النافقة. م: (يتناول المكيل والموزون والعددي المتقارب ولا خلاف فيه بيننا) ش: أي لا خلاف في عدم جواز الشركة بالمكيل والموزون. والعددي المتقارب. م: (قبل الخلط) ش: فيما بينا، أي باتفاق أصحابنا. م: (ولكل واحد فيهما ربح متاعه وعليه وضيعته) ش: أي خسته وفي " المختلف " فإن خلطا ثبت بينهما شركة ملك، فإذا باعا فالربح والوضعية على قدر مالها كسائر الأعيان.
م: (وإن خلطا ثم اشتركا فكذلك لا يجوز عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشركة شركة ملك لا شركة عقد) ش: أي لا شركة عقد. م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تصح شركة العقد، وثمرة(7/392)
الاختلاف تظهر عند التساوي في المالين، واشتراط التفاضل في الربح فظاهر الرواية ما قاله أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه يتعين بالتعيين بعد الخلط كما يتعين قبله ولمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنها ثمن من وجه حتى جاز البيع بها دينا في الذمة وبيع من حيث إنه يتعين بالتعيين، فعملنا بالشبهين بالإضافة إلى الحالين بخلاف العروض لأنها ليست ثمنا بحال، ولو اختلفا جنسا كالحنطة والشعير والزيت والسمن فخلطا لا تنعقد الشركة بها بالاتفاق، والفرق لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لاختلاف تظهر عند التساوي في المالين، واشتراط التفاضل في الربح) ش: عند أبي يوسف لا يستحق زيادة الربح بل لكل واحد من الربح بقدر ملكه، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الربح بينهما على ما شرط.
م: (وظاهر الرواية ما قاله أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه) ش: أي كل من المذكور من المكيل والموزون والعددي المتقارب. م: (يتعين بالتعيين بعد الخلط كما يتعين قبله) ش: وشرط جواز الشركة أي لا يكون رأس المال مما يتعين بالتعيين لئلا يلزم ربح ما لم يضمن وما يصلح فيكون رأس مال الشركة لا يختلف الحكم فيه بالخلط وعدمه كالتعوذ.
فكذا ما لا يصلح رأس مال الشركة لا يختلف الحكم فيه بالخلط وعدمه لأن قبل الخلط إنما لا يجوز شرط العقد بها لأنها متعينة، وأول التصرف فيها بيع فيؤدي إلى ربح ما لم يضمن، وهذا المعنى موجود بعد الخلط بل يزداد، وتقديرًا بالخلط لأن الخلط لا يتقرر إلا في معين، والمخلوط المشترك لا يكون إلا معينًا فيقرر المعنى المقر فلا يكون مصححًا للعقد.
م: (ولمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها) ش: أي أن المكيل والموزون والعددي المتقارب. م: (ثمن من وجه حتى جاز البيع بها) ش: حال كونها. م: (دينًا في الذمة) ش: إذ هو من أحكام الثمن. م: (وبيع من حيث إنه يتعين بالتعيين، فعملنا بالشبهين) ش: أي سبب العرض والثمن.
م: (بالإضافة إلى الحالين) ش: أي حالة الخلط وحالة عدمه فأشبها بالعروض لا تجوز الشركة بها قبل الخلط ولشبهها بالأثمان تجوز بعد الخلط.
وهذا لأنه باعتبار الشبهين تضعف إضافة عقد الشركة إليها فيتوقف ثبوتها على ما يقويها، وهو الخلط يثبت شركة الملك لا محالة فتناول به شركة العقد لا محالة والعكس يتضمن ربح ما لم يضمن. م: (بخلاف العروض لأنها ليست ثمنًا بحال) ش: معين ليست بها جهة الثمنية، فلم تجز الشركة بها بعد الخلط أيضًا.
م: (ولو اختلفا) ش: أي لو اختلف المالان. م: (جنسًا) ش: أي من حيث الجنسية. م: (كالحنطة والشعير والزيت والسمن فخلطا) ش: على صيغة المجهول. م: (لا تنعقد الشركة بها بالاتفاق) ش: فإذا كان كذلك يحتاج محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى الفرق أشار إليه بقوله. م: (والفرق لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -)(7/393)
أن المخلوط من جنس واحد من ذوات الأمثال، ومن جنسين من ذوات القيم. فتمكن الجهالة كما في العروض، وإذا لم تصح الشركة فحكم الخلط قد بيناه في كتاب القضاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: إنما احتاج إلى الفرق لأنه يقول بانعقاد الشركة بعد الخلط في جنس واحد ولا يقول بانعقادها إذا عقدا عقد الشركة بعد الخلط في جنسين، وبيان الفرق هو قوله. م: (أن المخلوط من جنس واحد من ذوات الأمثال) ش: حتى إن من أتلفه يضمن مثله. م: (ومن جنسين من ذوات القيم) ش: حتى إن من أتلفه ضمن قيمته فيمكن الجهالة؛ لأنه لا يمكن وصول كل واحد منهما إلى عين حقه من رأس المال قبل القسمة فلم تنعقد الشركة للجهالة بخلاف الجنس الواحد.
فإن كل واحد منهما يمكنه أن يصل إلى عين حقه من رأس المال قبل القسمة باعتبار الملك. انعقدت الشركة. م: (فتمكن الجهالة كما في العروض) ش: قال تاج الشريعة: قوله من ذوات القيم لهذا يجب مبلغه القيمة، فكان المخلوط بمنزلة العروض، ذكره أبو الفضل. م: (وإذا لم تصح الشركة فحكم الخلط قد بيناه في كتاب القضاء) ش: أي إذا لم تصح شركة العقد يعني إذا عقداها بعد الخلط في جنس، أما شركة الملك فتثبت لا محالة لاختلاط المالين برضا صاحبيهما، ومعنى قوله فحكم الخلط يعني أن الحنطة إذا كانت وديعة عند رجل فخلطها الرجل بغير نفسه والحل بفتح فيقطع حق المالك إلى الضمان، وكذا إذا خلط المودع الحل الوديعة زيت نفسه، والحل بفتح الحاء المهملة، دهن السمسم.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله قد بيناه في كتاب " القضاء " فيه نظر؛ لأن صاحب " الهداية " لم يذكر حكم الخلط فيه، بل ذكره في كتاب الوديعة، وإنما ذكروا حكم الخلط في كتاب القضاء في " شرح الجامع الصغير " والله أعلم بصحة ما قال، إلا إذا قيل إنه بينه في " كفاية المنتهي " فله وجه إن صح ذلك.
قال الكاكي: قوله في كتاب القضاء أراد القضاء في " الجامع الصغير "، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كذلك، أي كتاب القضاء الجامع، وأما في هذا الكتاب فقد بينه في كتاب الوديعة والدليل على أن مراده قضاء " الجامع الصغير " قوله: قد بيناه بلفظ الماضي، ولو كان مراده كتاب القضاء من هذا الكتاب لقال بينه، وقال تاج الشريعة قوله في كتاب القضاء، أورد المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذه المسألة في كتاب الوديعة.. انتهى.
قلت: قد رأيت أن أحدًا من هؤلاء لم ينف القليل ولم يرو القليل.
قلت: إن كان مراده في كتاب القضاء الذي ذكره في " كفاية المنتهي " على ما قيل لا يرد عليه شيء، وإن كان مراده كتاب القضاء الجامع على ما نص عليه أكثر الشراح فيحمل على أنه بينه هناك بكتابة شيء من الحواشي وتقديره بينا في قدريته.(7/394)
قال: وإذا أرادا الشركة بالعروض باع كل واحد منهما نصف ماله بنصف مال الآخر ثم عقد الشركة. قال: وهذه شركة ملك لما بينا أن العروض لا تصلح رأس مال الشركة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مختصره. م: (فإذا أرادا الشركة بالعروض باع كل منهما نصف ماله بنصف مال الآخر ثم عقد الشركة) ش: هذه حيلة في تجويز عقد الشركة بالعروض توسعة على الناس، وقوله باع كل واحد منهما إلى آخره، صورة هذه الشركة إذا باع كل واحد منهما نصف ماله بنصف مال الآخر صار نصف مال واحد منهما مضمونًا على الآخر بالثمن، فيكون الربح الحاصل ربح ماله مضمون، فيكون العقد صحيحًا.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (وهذه شركة ملك لما بينا أن العروض لا تصلح رأس مال الشركة) ش: وفي الكاكي هذا مشكل لأن ذلك يحصل بمجرد البيع فلا يحتاج إلى قوله ثم عقد الشركة إلا أن يقال أراد بقوله عقد الشركة أي شركة ملك وفيه بعد.
وقال الأترازي: ظاهر كلام القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن هذا شركة العقد لا شركة الملك لأنه قال ثم عقد الشركة.
وقال صاحب " النهاية " وهذه شركة ملك، وهذا عجيب منه وبعيد وقوله عن مثله قضاء تحقيقًا، وملخص النص ما ذكره في " المبسوط " ولو كان لأحدهما عروض وللآخر دراهم فباع هذا نصف العروض بنصف تلك الدراهم وتقابضا واشتركا شركة أو معاوضة جاز والحق العنان والمعاوضة في هذه الشركة وهما من شركة العقود.
لأنه شركة الملك وملخص التحقيق أن العروض إنما لا تصلح رأس المال الشركة قبل البيع لأنه يقتضي ربح ما لا يضمن بخلاف ما إذا كان بعد البيع على الوجه المذكور الربح فيه يحصل من مال مضمون كما ذكرناه.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قال شيخي العلامة عدم جواز الشركة بالعروض كناية عن معنيين أحدهما: ربح مال يضمن كما بينا.
والثاني حرما له رأس المال، فإذا باع أحدهما نصف عرضه بنصف عرض عن الآخر ثم عقد الشركة فقال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وروي يجوز، واختاره شيخ الإسلام وصاحب " الذخيرة " وصاحب " شرح الطحاوي " والمزني من أصحاب الشافعي لأن رأس المال صار معلومًا، وصار نصف مال كل منهما بالبيع مضمومًا على صاحبه بالثمن، فكان الربح الحاصل في ماليهما ربح مال مضمون عليهما فيجوز.
ثم قال الكاكي ثم المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - اختار عدم الجواز وعدم ما ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وروي ما علله وقال وهو نظير ما ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويستحب للمتأخر(7/395)
وتأويله إذا كانت قيمة متاعهما على السواء، ولو كانت بينهما تفاوت بيع صاحب الأقل بقدر ما تثبت به الشركة.
قال: وأما شركة العنان فتنعقد على الوكالة دون الكفالة وهي أن يشترك اثنان في نوع بز أو طعام أو يشرك في عموم التجارات. ولا يذكرن الكفالة وانعقاده على الوكالة لتحقق مقصوده كما بيناه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن ينوي الطهارة ثم عدم المصنف بقوله فالنية والوضوء سنة، وله في هذا الكتاب نظائر كثيرة. انتهى.
قلت: قد طول الشراح هنا كلامهم، والأحسن أن يقال: إن صاحب القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - اختار ما ذكره واختار صاحب " الهداية " ما ذكره وليس فيه اعتراض لأحدهما على الآخر ولا لغيرهما اعتراض عليها فافهم.
م: (وتأويله) ش: أي تأويل ما قاله القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره " من بيع نصف عرض أحدهما بنصف عرض الآخر. م: (إذا كانت قيمة متاعيهما على السواء. ولو كانت بينهما) ش: أي بين متاعيهما. م: (تفاوت بيع صاحب الأقل بقدر ما تثبت به الشركة) ش: مثل أن تكون قيمة عرض أحدهما أربعمائة وقيمة عرض الآخر مائة يبيع صاحب الأقل أربعة أخماس عرضه بخمس عرض آخر، فيكون الربح الحاصل في المالين ربح مال مضمون على كل واحد منهما فيطيب ويصير المتاع كله أخماسًا ويكون الربح بينهما على قدر رأس ماليهما.
[صورة شركة العنان]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ". م: (وأما شركة العنان) ش: وهذا عطف على قوله فأما شركة المفاوضة في أوائل الكتاب. م: (فتنعقد على الوكالة دون الكفالة) ش: ويجيء بيانه عن قريب.
م: (وهي) ش: أي شركة العنان أي صورتها. م: (أن يشترك اثنان في نوع بز) ش: بفتح الباء الموحدة وتشديد الزاء، قال ابن دريد: البز متاع البيت من الثياب خاصة، وعن الليث ضرب من الثياب ومنه البز متاع جاريته إذا جوزها من الثياب.
وعن ابن الرنسباري رجل حبس البز أي الثياب، وعن الجوهري وهو من الثياب، وقال في " السير الكبير " عند أهل الكوفة ثياب الكتان والقطن لا ثياب الصوف والخز، ويقال البزاز لبائعه، والبز حرفته، والبز بكسر الباء كقولهم رجل حسن البزة.
م: (أو طعام) ش: أي أو اشتركا في طعام أي حنطة. م: (أو يشترك في عموم التجارات) ش: عطف على قوله أن يشترك. م: (ولا يذكرن الكفالة) ش: أي في العقد. م: (وانعقاده) ش: أي انعقاد عقد شركة العنان. م: (على الوكالة لتحقق مقصوده) ش: أي لتحقق المقصود من العقد وهو التصرف في مال الغير فلا يكون ذلك إلا بالوكالة عند عدم الوكالة. م: (كما بيناه) ش: أي فيما مضى في(7/396)
ولا ينعقد على الكفالة لأن اللفظ مشتق من الأعراض يقال عن له أي عرض وهذا لا ينبئ عن الكفالة، وحكم التصرف لا يثبت بخلاف مقتضى اللفظ. ويصح التفاضل في المال للحاجة إليه، وليس من قضية اللفظ المساواة ويصح أن يتساويا في المال ويتفاضلا في الربح، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أول الكتاب من قوله وشرطه أن يكون التصرف المقصود عليه عقد الشركة قابلًا للوكالة ليكون ما استفاد بالتصرف مشتركًا بينهما فيتحقق حكمه المطلوب له.
م: (ولا ينعقد على الكفالة) ش: أي لا تنعقد شركة العنان على الكفالة بأن لا يكون كل واحد منهما كفيلًا عن الآخر. م: (لأن اللفظ) ش: أي لفظ العنان. م: (مشتق من الأعراض) ش: أراد بالاشتقاق من جهة المعنى لا من جهة اللفظ؛ لأن لفظ العنان غير مشتق يجب الاصطلاح من الأعراض بل من حيث المعنى.
ولهذا قال. م: (يقال عن له أي عرض) ش: يقال كذا أي عرض؛ قال امرؤ القيس:
فعن لنا سرب كأن نعاجه
معناه ظهر لنا قطيع من بقر الوحش. وقال ابن المكسر كأنه عن لهما شيء فاشتركا فيه، وقال بعض أهل اللغة هذا شيء أخذ به أهل الكوفة ولم يتكلم به العرب، وليس كذلك بما ذكرنا من شعر امرئ القيس.
وقيل هذا مأخوذ من عنان الفرس كما ذهب إليه النسائي والأصمعي إذ كل منهما جعلا عنان التصرف في بعض ماله إلى صاحبه، أو لأنه يجوز أن مقارنًا في المال والربح، كما يتفاوت العنان في يد الراكب حالة المد والادخار، كذا في " المبسوط " و" الإيضاح ".
م: (وهذا) ش: أي معنى العنان. م: (لا ينبئ عن الكفالة) ش: أي لا يفهم منه معنى الكفالة فلا ينعقد عليها. م: (وحكم التصرف لا يثبت بخلاف مقتضى اللفظ) ش: أي حكم التصرف في اللفظ لا يثبت بخلاف ما يقتضيه ذلك اللفظ، فلفظ العنان لا يدل على معنى الكفالة فلا يتضمنها. م: (ويصح التفاضل في المال للحاجة إليه) ش: لأنه لا يقتضي المساواة فجاز التفاضل، وهو معنى قوله. م: (وليس من قضية اللفظ المساواة) ش: أي ليس من مقتضى لفظ العنان المساواة مثل المفاوضة.
م: (ويصح أن يتساويا) ش: أي الشريكان شركة العنان. م: (في المال ويتفاضلا في الربح) ش: وبه قال أحمد. م: (وقال زفر والشافعي: لا يجوز) ش: وبه قال مالك.
وفي " فتاوى قاضي خان " لو شرط المساواة في الربح أو شرطا لأحدهما فضل ربح أي شرطا العمل عليها كان الربح بينهما على ما شرطا عملًا جميعًا أو عمل أحدهما وإن شرطا العمل على أقليهما ربحًا لا يجوز في " الذخيرة ".(7/397)
لأن التفاضل فيه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن، فإن المال إذا كان نصفين والربح أثلاثا فصاحب الزيادة يستحقها بلا ضمان إذ الضمان بقدر رأس المال، ولأن الشركة عندهما في الربح للشركة في الأصل لهذا يشترطان الخلط، فصار ربح المال بمنزلة نماء الأعيان فيستحق بقدر الملك في الأصل ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الربح ما على شرطا والوضيعة على قدر المالين، ولم يفصل، ولأن الربح كما يستحق بالمال يستحق بالعمل كما في المضاربة. وقد يكون أحدهما أحذق وأهدى وأكثر عملا وأقوى، فلا يرضى بالمساواة فمست الحاجة إلى التفاضل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والأصل أن في هذه الشركة حقوق العقد ترجع إلى العاقد لا غير، وإذا شرطا في هذه الشركة العمل وشرطا التفاوت في الربح مع التساوي في المال جاز عند علمائنا الثلاثة.
م: (لأن التفاضل فيه) ش: أي في الربح. م: (يؤدي إلى ربح ما لم يضمن) ش: وهو لا يجوز. م: (فإن المال إذا كان نصفين والربح أثلاثًا) ش: أي وكان الربح أثلاثًا. م: (فصاحب الزيادة يستحقها بلا ضمان إذ الضمان بقدر رأس المال) ش: ولهذا يصح الشرط معه على هذا الوجه. م: (ولأن عقد الشركة عندهما) ش: أي عند زفر والشافعي. م: (في الربح للشركة في الأصل يشترطان الخلط) ش: في المالين حتى لو لم يخلطا رأس مالهما لا تثبت الشركة عندهما. م: (فصار ربح المال بمنزلة نماء الأعيان فيستحق بقدر الملك في الأصل، ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: (الربح على ما شرطا والوضيعة على قدر المالين) ش: هذا غريب جدًا وليس له أصل، ويوجد في بعض كتب الأصحاب من قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وعن هذا قال الأترازي: ولنا ما روى أصحابنا في كتبهم عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: الربح على ما اشترط العاقدان والوضيعة على قدر المال، وكذا قال أكثر الشراح. م: (ولم يفصل) ش: يعني بين التساوي والتفاضل، وفي بعض النسخ من غير فصل. م: (ولأن الربح كما يستحق بالمال يستحق بالعمل كما في المضاربة) ش: أي كما يستحق بالعمل في المضاربة.
فإن قيل: في المضاربة لو شرطا العمل على رب المال تفسد العقود وهاهنا لا يفسد، فكيف جواز إلحاقه بالمضاربة؟
قلنا: المضاربة أمانة، وتمام الأمانة تقف على التخلية فإذا شرط على رب المال لم توجد التخلية، أما هاهنا فكل واحد كالأجير من مال الآخر فشرطه على رب المال لا يبطل العقد، فإن من استأجر أجيرًا لنفسه على العمل جاز. كذا في " الإيضاح ".
م: (وقد يكون أحدهما) ش: أي أحد شريكي العنان. م: (أحذق) ش: بالحاء المهملة والذال المعجمة أي أنفس في أسماء المالية. م: (وأهدى) ش: إلى طريق الصواب في تصرفاته. م: (وأكثر عملًا وأقوى) ش: في عمله من صاحبه. م: (فلا يرضى بالمساواة فمست الحاجة إلى التفاضل) ش:(7/398)
بخلاف اشتراط جميع الربح لأحدهما؛ لأنه يخرج العقد به من الشركة ومن المضاربة أيضا إلى قرض باشتراطه للعامل أو إلى بضاعة باشتراطه لرب المال،
وهذا العقد يشبه المضاربة من حيث إنه يعمل في مال الشريك ويشبه الشركة اسما وعملا فإنهما يعملان فعملنا بشبه المضاربة، وقلنا يصح اشتراط الربح من غير ضمان وبشبه الشركة. حتى لا يبطل باشتراط العمل عليهما. قال ويجوز أن يعقدها كل واحد منهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيجوز كذلك. م: (بخلاف اشتراط جميع الربح لأحدهما) ش: هذا جواب عما يقال إذا شرط جميع الربح لأحدهما لا يجوز، فكذا إذا شرط الفضل.
والجامع القول بالربح عن العيط على قدر المال، وتقدير الجواب هو قوله. م: (لأنه) ش: أي لأن اشتراط الربح أحدهما. م: (يخرج العقد به) ش: أي باشتراط الربح لأحدهما. م: (من الشركة) ش: لأن الشركة هي أن يكون الربح مشتركًا.
م: (ومن المضاربة أيضًا) ش: أي ويخرج باشتراط جميع الربح لأحدهما من عقد المضاربة أيضًا. م: (إلى قرض) ش: يتعلق بقوله يخرج العقد به أراد أن اشتراط الربح أحدهما إن كان للعامل فيكون قرضًا، وهو معنى قوله إلى قرض. م: (باشتراطه) ش: أي باشتراط الربح. م: (للعامل أو إلى بضاعة) ش: أي أو يخرج العقد باشتراط الربح لأحدهما إلى بضاعة يعني يصير بضاعة إن كان هو رب المال.
وهو معنى قوله إلى بضاعة. م: (باشتراطه لرب المال) ش: ويخرج عن كونه شرطة لأنه إما أن يكون قرضًا وإما أن يكون بضاعة.
م: (وهذا العقد يشبه المضاربة) ش: هذا جواب لقول زفر والشافعي - رحمهما الله - إن التفاضل في الربح مع التساوي في المال يؤدي إلى ربح ما لم يضمن بطريق التسليم بيانه أن هذا العقد أي شركة العنان تشبه المضاربة. م: (من حيث إنه يعمل في مال الشريك) ش: لأنه يحل لواحد منهما [أن] يعمل في مال صاحبه كالمضارب يعمل في مال رب المال.
م: (ويشبه الشركة) ش: أي شركة المفاوضة. م: (اسمًا) ش: أي من حيث الاسم؛ لأن كل واحد من العنان والمفاوضة يسمى شركة. م: (وعملًا) ش: أي من حيث العمل. م: (فإنهما يعملان) ش: لأن شريك العنان يعمل في نصيب صاحبه كالمفاوضة فصار لهما شبهان شبه المضاربة وشبه بالشركة المفاوضة. م: (فعملنا بشبه المضاربة وقلنا يصح اشتراط الربح من غير ضمان وبشبه الشركة) ش: أي عملها يشبه شركة المفاوضة.
م: (حتى لا يبطل باشتراط العمل عليهما) ش: أي على الشريكين. م: (قال) ش: أي القدوري في " مختصره ". م: (ويجوز أن يعقدها) ش: أي أن يعقد شركة العنان. م: (كل واحد منهما) ش: أي(7/399)
ببعض ماله دون البعض لأن المساواة في المال ليس يشترط فيه إذ اللفظ لا يقتضيه، ولا يصح إلا بما بينا أن المفاوضة تصح للوجه الذي ذكرناه، ويجوز أن يشتركا، من جهة أحدهما دنانير ومن الآخر دراهم. وكذا من أحدهما دراهم بيض ومن الآخر سود. وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: لا يجوز وهذا بناء على اشتراط الخلط وعدمه فإنه عندهما شرط، ولا يتحقق ذلك في مختلفي الجنس، وسنبينه من بعد إن شاء الله تعالى.
قال وما اشتراه كل واحد منهما للشركة طولب بثمنه دون الآخر لما بينا أنه يتضمن الوكالة دون الكفالة، والوكيل هو الأصل في الحقوق. قال ثم يرجع على شريكه بحصته منه معناه إذا أدى من مال نفسه لأنه وكيل من جهته في حصته فإذا نقد من مال نفسه رجع عليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من الشريكين. م: (ببعض ماله دون البعض) ش: بأن يكون مال آخر مما يجوز عليه الشركة سوى المال الذي اشتركا فيه. م: (لأن المساواة في المال ليست بشرط فيه) ش: أي في العنان. م: (إذ اللفظ) ش: أي لفظ العنان. م: (لا يقتضيه) ش: أي لا يقتضي المساواة بتأويل الاستواء بخلاف لفظ المفاوضة. م: (ولا يصح) ش: أي شركة العنان. م: (إلا بما بينا) ش: عند قوله ولا تنعقد الشركة إلا بالدراهم والدنانير والفلوس النافقة، ولا تصح بالعروض. م: (أن المفاوضة تصح للوجه الذي ذكرناه) ش: يعني ما ذكره في أول هذا الفصل أنه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن. م: (ويجوز أن يشتركا، من جهة أحدهما دنانير ومن الآخر دراهم) ش: لفظ القدوري.
وقال المصنف. م: (وكذا من أحدهما دراهم بيض ومن الآخر سود) ش: وفي " الأسرار " وكذا الصحاح والكبيرة. م: (وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: لا يجوز وهذا بناء) ش: أي هذا الخلاف مبني. م: (على اشتراط الخلط وعدمه فإنه عندهما) ش: أي عند زفر والشافعي - رحمهما الله - الخلط. م: (شرط، ولا يتحقق ذلك) ش: أي الخلط. م: (في مختلفي الجنس) ش: لأن الدراهم والدنانير مالان لا يختلطان. م: (وسنبينه من بعد إن شاء الله تعالى) ش: أي سنبين أشياء الخلط في جواز الشركة عند زفر والشافعي - رحمهما الله - وعدم اشتراطه عندنا عند قوله وتجوز الشركة وإن لم يخلطا المال.
م: (قال) ش: أي القدوري. م: (وما اشتراه كل واحد منهما) ش: أي من الشريكين العنان. م: (للشركة) ش: أي لأجل الشركة. م: (طولب) ش: أي الذي اشتراه. م: (بثمنه) ش: أي بثمن الذي اشتراه. م: (دون الآخر) ش: أي الشريك الآخر، أي لا يطالب به. م: (لما بينا) ش: فيما مضى. م: (أنه) ش: أي إن العنان. م: (يتضمن الوكالة دون الكفالة، والوكيل هو الأصل في الحقوق) ش: يعني هو الطالب فيها. م: (قال) ش: أي القدوري. م: (ثم يرجع) ش: أي الذي اشتراه. م: (على شريكه بحصته منه) ش: أي من الثمن. م: (معناه) ش: أي معنى كلام القدوري. م: (إذا أدى من مال نفسه لأنه وكيل من جهته في حصته) ش: أي في حصة صاحبه. م: (فإذا نقد من مال نفسه رجع عليه) ش: أي(7/400)
فإن كان لا يعرف ذلك إلا بقوله فعليه الحجة لأنه يدعي وجوب المال في ذمة الآخر، وهو منكر. والقول للمنكر مع يمينه.
قال وإذا هلك مال الشركة أو أحد المالين قبل أن يشتريا شيئا بطلت الشركة لأن المعقود عليه في عقد الشركة المال فإنه يتعين فيه كما في الهبة والوصية وبهلاك المعقود عليه يبطل العقد كما في البيع بخلاف المضاربة والوكالة المفردة؛ لأنه لا يتعين الثمنان فيهما بالتعيين، وإنما يتعينان بالقبض على ما عرف،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على شريكه. م: (فإن كان لا يعرف ذلك إلا بقوله) ش: يعني إذا لم يعرف أنه أدى الثمن من مال نفسه أو من مال الشركة إلا بقوله. م: (فعليه الحجة) ش: أي فعليه إقامة البينة. م: (لأنه يدعي وجوب المال في ذمة الآخر، وهو منكر) ش: أي والآخر منكر. م: (والقول للمنكر مع يمينه) ش: بالنص.
[هلك مال الشركة أو أحد المالين قبل أن يشتريا شيئًا]
م: (قال) ش: أي القدوري في " مختصره ". م: (وإذا هلك مال الشركة أو أحد المالين) ش: أي أو هلك أحد المالين. م: (قبل أن يشتريا شيئًا بطلت الشركة لأن المعقود عليه في عقد الشركة المال) ش: أي المعقود عليه هو المال فإذا فات المعقود عليه لا يبقى العقد كما في البيع. م: (فإنه) ش: أي فإن المال. م: (يتعين فيه) ش: أي في عقد الشركة، وإن كان لا يتعين في سائر المعاوضات عندنا خلافًا لزفر والشافعي - رحمهما الله -. م: (كما يتعين) ش: أي المال. م: (في الهبة والوصية) ش: والوديعة أيضًا.
م: (وبهلاك المعقود عليه يبطل العقد كما في البيع) ش: أي كما يبطل في البيع لأن الركن فيه هو المال. م: (بخلاف المضاربة والوكالة المفردة) ش: احترز بالمفردة عن الوكالة الثابتة في ضمن عقد الشركة وفي ضمن عقد الرهن؛ لأن المعقود يتعين فيهما. م: (لأنه) ش: أي لأن الثمنين. م: (لا يتعين الثمنان) ش: أراد بهما الدراهم والدنانير. م: (فيهما) ش: أي المضاربة والوكالة المفردة. م: (بالتعيين وإنما يتعينان بالقبض على ما عرف) ش: في موضعه، والوكالة المفردة، فمن وكل رجلًا بشراء عبد دفع إليه دراهم فهلك فإنها لا تبطل.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فيه نظر؛ لأن المعقود يتعين في المضاربة والشركة جميعًا قبل القبض والتسليم حتى إذا هلك قبل التسليم بطلت نص عليه، وفي الزيادات بخلاف الوكالة فإن النقود فيها لا تتعين قبل التسليم. أما بعد التسليم ففي نفسها اختلاف المشايخ، فقال بعضهم: تتعين فيها النقود، وقال بعضهم: لا تتعين. وقال شيخي العلاء: الذي ذكره في الزيادات من اشتراط قبض رأس المال في المضاربة محمول على عقد المضاربة بالتعاطي وهو أن يقول رب المال للمضارب خذ هذا المال مضاربة بالنصف فإن المضاربة رب لو لم تعرف تبطل المضاربة، وهذا يرد نظر الأترازي.(7/401)
وهذا ظاهر فيما إذا هلك المالان، وكذا إذا هلك أحدهما لأنه ما رضي بشركة صاحبه في ماله إلا ليشركه في ماله، فإذا فات ذلك لم يكن راضيا بشركته فيبطل العقد لعدم فائدته أيهما هلك من مال صاحبه إن هلك في يده فظاهر، وكذا إذا كان هلك في يد الآخر؛ لأنه أمانة في يده بخلاف ما بعد الخلط حيث يهلك على الشركة؛ لأنه لا يتميز فيجعل الهلاك من المالين. وإن اشترى أحدهما بماله وهلك مال الآخر قبل الشراء فالمشترى بينهما على ما شرطا؛ لأن الملك حين وقع مشتركا بينهما لقيام الشركة وقت الشراء، فلا يتغير الحكم بهلاك مال الآخر بعد ذلك، ثم الشركة شركة عقد عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا للحسن بن زياد، حتى إن أيهما باع جاز بيعه لأن الشركة قد تمت في المشترى، فلا تنتقض بهلاك المال بعد تمامها. قال ويرجع على شريكه بحصة من ثمنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا ظاهر) ش: أي بطلان الشركة ظاهر. م: (فيما إذا هلك المالان) ش: لفوات المعقود عليه. م: (كذا إذا هلك أحدهما) ش: أي أحد المالين.
م: (لأنه) ش: أي لأن الشريك الذي لم يهلك ماله. م: (ما رضي بشركة صاحبه في ماله إلا ليشركه في ماله، فإذا فات ذلك لم يكن راضيًا بشركته فيبطل العقد لعدم فائدته) ش: أي فائدة العقد. م: (وأيهما) ش: أي المالين. م: (هلك من مال صاحبه إن هلك في يده فظاهر) ش: وإن هلك في يد صاحبه فكذلك، وهو معنى قوله: م: (وكذا إذا كان) ش: أي الهالك. م: (هلك في يد الآخر؛ لأنه أمانة في يده) ش: ولا ضمان على الأمين. م: (بخلاف ما بعد الخلط) ش: أي بخلاف ما إذا كان هلاك المال ما بعد الخلط. م: (حيث يهلك على الشركة؛ لأنه لا يتميز فيجعل الهلاك من المالين) .
ش: وفي بعض النسخ: فيجعل الهلاك من المالين أي يجعل الهلاك هلاكًا من المالين. م: (وإن اشترى أحدهما) ش: أي أحد الشريكين. م: (بماله وهلك مال الآخر قبل الشراء فالمشترى بينهما على ما شرطا؛ لأن الملك حين وقع مشتركًا بينهما لقيام الشركة وقت الشراء، فلا يتغير الحكم) ش: أي حكم الملك. م: (بهلاك مال الآخر بعد ذلك، ثم الشركة شركة عقد عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافًا للحسن بن زياد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن عنده شركة ملك وفائدة هذا الخلاف تظهر في قوله. م: (حتى إن أيهما باع جاز بيعه) ش: عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ولا يجوز عند الحسن أن يتصرف في نصيب الآخر لأنه شركة ملك، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - شركة عقد. م: (لأن الشركة قد تمت في المشترى، فلا تنتقض بهلاك المال بعد تمامها) ش: فجاز تصرف كل منهما في نصيب الآخر.
م: (قال) ش: أي القدوري. م: (ويرجع على شريكه بحصة من ثمنه) ش: أي بحصة الشريك(7/402)
لأنه اشترى نصفه بوكالته ونقد الثمن من مال نفسه وقد بيناه هذا إذا اشترى أحدهما بأحد المالين أولا ثم هلك مال الآخر، أما إذا هلك مال أحدهما ثم اشترى الآخر بمال الآخر إن صرحا بالوكالة في عقد الشركة، فالمشترى مشترك بينهما على ما شرطا لأن الشركة إن بطلت فالوكالة المصرح بها قائمة، فكان مشتركا بحكم الوكالة وتكون شركة ملك ويرجع على شريكه بحصته من الثمن لما بيناه، وإن ذكرا مجرد الشركة ولم ينص على الوكالة فيها كان المشترى للذي اشتراه خاصة لأن الوقوع على الشركة حكم الوكالة التي تضمنتها الشركة حتى إذا بطلت يبطل ما في ضمنها بخلاف ما إذا صرح بالوكالة لأنها مقصودة.
قال وتجوز الشركة وإن لم يخلطا المال، وقال زفر والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تجوز لأن الربح فرع المال ولا يقع الفرع على الشركة إلا بعد الشركة في الأصل وإنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثمن المشتري، وذلك. م: (لأنه اشترى نصفه) ش: وهو حصة الشريك. م: (بوكالته ونقد الثمن من مال نفسه) ش: والوكيل إذا قضى الثمن من مال نفسه يرجع على الموكل، فكذا هنا.
م: (وقد بيناه) ش: أي عند قوله إذا أدى من مال نفسه. م: (هذا) ش: أي هذا الذي قلنا فيها.
م: (إذا اشترى أحدهما بأحد المالين أولًا ثم هلك المال الآخر) ش: بالرفع صفة للمال، وفي بعض النسخ في مال الآخر، أي الشريك الآخر. م: (أما إذا هلك مال أحدهما) ش: أي أحد المالين. م: (ثم اشترى الآخر بمال الآخر إن صرحا بالوكالة في عقد الشركة فالمشترى مشترك بينهما على ما شرطا لأن الشركة إن بطلت فالوكالة المصرح بها قائمة، فكان مشتركًا بحكم الوكالة) ش: المقصودة لا بحكم عقد الشركة. م: (وتكون شركة ملك) ش: لا فلوس، لا يجوز لأحدهما أن يتصرف في نصيب الآخر إلا بإذنه؛ لأن الملك بالوكالة، والوكيل لا يتصرف في المشترى بدون إذن الوكيل فكذا هذا.
م: (ويرجع على شريكه بحصته من الثمن لما بيناه) ش: إشارة إلى قوله لأنه وكيل من جهته. م: (وإن ذكرا مجرد الشركة ولم ينص على الوكالة فيها) ش: أي في الشركة. م: (كان المشترى للذي اشتراه خاصة؛ لأن الوقوع على الشركة حكم الوكالة التي تضمنتها الشركة فإذا بطلت يبطل ما في ضمنها) ش: أي فإذا بطلت الشركة بطلت الوكالة البائعة في عقد الشركة أيضًا. م: (بخلاف ما إذا صرح بالوكالة؛ لأنها مقصودة) ش: أي لأن الوكالة مقصودة، فيكون المشترى بينهما بحكم الوكالة المقصودة.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (وتجوز الشركة وإن لم يخلطا المال) ش: وبه قال أحمد ومالك - رحمهما الله - إلا أن مالكًا شرط أن تكون أيديهما عليه بأن يجعل في حانوت لهما أو في يد وكيل لها. م: (وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: لا تجوز لأن الربح فرع المال ولا يقع الفرع على الشركة إلا بعد الشركة في الأصل) ش: الذي هو المال. م: (وإنه) ش: أي وإن الشركة على(7/403)
بالخلط، وهذا لأن المحل هو المال، ولهذا يضاف إليه ويشترط تعين رأس المال بخلاف المضاربة؛ لأنها ليست بشركة وإنما هو يعمل لرب المال فيستحق الربح على عمالة عمله، أما هنا بخلافه، وهذا أصل كبير لهما حتى يعتبر اتحاد الجنس ويشترط الخلط ولا يجوز التفاضل في الربح مع التساوي في المال ولا تجوز شركة التقبل والأعمال لانعدام المال. ولنا أن الشركة في الربح مستندة إلى العقد دون المال لأن العقد يسمى شركة. فلا بد من تحقق معنى هذا الاسم فيه فلم يكن الخلط شرطا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تأويل الاشتراك إنما يكون. م: (بالخلط) ش: لأن الشركة عبارة عن الاختلاط.
م: (وهذا) ش: إشارة إلى قوله لأن الربح على المال يعني وإنما قلنا إن الربح فرع المال. م: (لأن المحل) ش: أي محلًا للشركة. م: (هو المال، ولهذا يضاف إليه) ش: يقال عقد شركة المال. م: (ويشترط تعيين رأس المال) ش: فتكون الشركة في الثمرة مسندة إلى المال. م: (بخلاف المضاربة) ش: فإنها تصح بدون الخلط. م: (لأنها ليست بشركة وإنما هو) ش: أي المضارب. م: (يعمل لرب المال فيستحق الربح على عمالة عمله، أما هنا بخلافه) ش: بالإضافة قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: نصب بنزع الخافض أي من عمالة عمله وهي أجرة العمل، وفي نسخة شيخي العلاء عمالة على عمله، وفسر العمالة بالجهالة، وكون العمالة منصوبًا بنزع الخافض، ليس له وجه على ما لا يخفى لا وجه أن يكون منصوبًا على التعليل أي لأجل عمالة على عمله.
م: (وهذا أصل كبير) ش: إشارة إلى قوله لأن الربح فرع المال. م: (لهما) ش: أي لزفر والشافعي - رحمهما الله -، ثم أوضح كون هذا أصلًا كبيرًا عندهما - رحمهما الله - بقوله. م: (حتى يعتبر اتحاد الجنس) ش: يعني بناء على أصلهما ذلك، فإنه إذا كان رأس مال أحدهما دراهم، والآخر دنانير فإنه تنعقد الشركة بينهما صحيحة عندنا، خلافًا لزفر والشافعي - رحمهما الله -. م: (ويشترط الخلط) ش: عندهما. م: (ولا يجوز التفاضل في الربح مع التساوي في المال) ش: هذا أيضًا على أصلهما. م: (ولا تجوز شركة التقبل والأعمال لانعدام المال) ش: هذا أيضًا على أصلهما. م: (ولنا أن الشركة في الربح مستندة إلى العقد دون المال) ش: وكل ما هو مسند إليه هو الأصل.
م: (لأن العقد يسمى شركة) ش: لا المال. م: (فلا بد من تحقق معنى هذا الاسم فيه) ش: أي اسم الشركة في العقد إذا كان الأصل هو العقد وهو موجود يثبت الحكم في الفرع وهو الربح. م: (فلم يكن الخلط شرطًا) ش: لأن الشركة حصلت في الأصل وهو العقد بلا خلط، وحصلت في الفرع وهو الربح الذي استعيد من العقد فلم يكن اتحاد الجنس شرطًا ولا الخلط ولا التساوي في الربح على ما يجيء.(7/404)
ولأن الدراهم والدنانير لا يتعينان، فلا يستفاد الربح برأس المال، وإنما يستفاد بالتصرف؛ لأنه في النصف أصيل وفي النصف وكيل، وإذا تحققت الشركة في التصرف بدون الخلط تحققت في المستفاد به وهو الربح بدونه، وصار كالمضاربة فلا يشترط اتحاد الجنس والتساوي في الربح، وتصح شركة التقبل. قال ولا تجوز الشركة إذا شرط لأحدهما دراهم مسماة من الربح لأنه شرط يوجب انقطاع الشركة فعساه لا يخرج إلا قدر المسمى لأحدهما ونظيره في المزارعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن الدراهم والدنانير لا يتعينان) ش: هذا دليل ثان هو كالشرح للدليل الأول، ومعنى لا يتعينان في الشراء لا في الشركة، أي لا يتعينان في حق الاستحقاق إذا وجد الشراء بهما، فإذا لم يتعينا. م: (فلا يستفاد الربح برأس المال وإنما يستفاد في التصرف لأنه) ش: أي لأن كل واحد من الشريكين. م: (في النصف أصيل، وفي النصف وكيل) ش: لأن موجب العقد الوكالة فكان كل واحد منهما موكلًا للآخر في نصيبه فيصرف كل واحد منهما في مال الشركة في بعضه بطريق الأصالة، وفي بعضه بطريق الوكالة. وهذه الوكالة إنما تثبت في ضمن عقد الشركة فلذلك يضاف الربح الحال إلى العقد؛ لأن الحكم كما يضاف إلى العلة يضاف إلى علة العلة فكان الربح مستندًا إلى العقد بهذا الطريق لا إلى المال كما قالا.
م: (وإذا تحققت الشركة في التصرف بدون الخلط تحققت في المستفاد به) ش: أي بالتصرف. م: (وهو الربح بدونه) ش: أي المستفاد وهو الربح بدون الخلط. م: (وصار كالمضاربة) ش: أي صار عقد الشركة كالمضاربة يعني أن الربح في المضاربة مستحق بلا شركة في أصل المال فكذلك في عقد الشركة فلم ينزل من الاشتراك في الربح الاشتراك في أصل المال. م: (فلا يشترط اتحاد الجنس) ش: يعني إذا كان عقد الشركة كالمضاربة فلا يشترط اتحاد جنس المال.
م: (والتساوي) ش: ولا يشترط التساوي يعني أن الربح في المضاربة مستحق بلا شركة في أصل المال، فكذلك في عقد الشركة فلم يزل من الاشتراك في الربح الاشتراك في أصل المال فلا يشترط اتحاد الجنس يعني إذا كان عقد الشركة كالمضاربة فلا يشترط اتحاد جنس المال والتساوي أو لا يشترط التساوي. م: (في الربح وتصح شركة التقبل) ش: وإن لم يوجد المال.
1 -
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا تجوز الشركة إذا شرط لأحدهما) ش: أي لأحد الشريكين. م: (دراهم مسماة من الربح لأنه شرط يوجب انقطاع الشركة فعساه) ش: أي لعله. م: (لا يخرج إلا قدر المسمى لأحدهما) ش: فيكون الربح لأحدهما خاصة وهو خلاف تقضي الشركة لأن مقتضاها الاشتراط في الربح لا اختصاص واحد منهما. م: (ونظيره في المزارعة) ش: أي نظير ما قالا من عدم جواز الشركة ثابت في المزارعة وهو ما إذا شرطا لأحدهما فقرأنا مسماه فهي باطلة لانقطاع الشركة في الخارج؛ إذ من شرط المزارعة أن يكون الخارج مشتركًا بينهما لأنها تنعقد شركة في الانتهاء.(7/405)
قال: ولكل واحد من المفاوضين وشريكي العنان أن يبضع المال لأنه معتاد في عقد الشركة، ولأن له أن يستأجر على العمل والتحصيل بغير عوض دونه فيملكه وكذا له أن يودعه لأنه معتاد، ولا يجد التاجر منه بدا، قال ويدفعه مضاربة لأنها دون الشركة فيتضمنها، وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه ليس له ذلك لأنه نوع شركة، والأصح هو الأول وهو رواية الأصل لأن الشركة غير مقصودة وإنما المقصود تحصيل الربح، كما إذا استأجر بأجرة، بل أولى لأنه تحصيل بدون ضمان في ذمته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (ولكل واحد من المفاوضين وشريكي العنان أن يبضع المال) ش: من الإبضاع يقال: أبضعته إذا رفعت له مالًا يعمل فيه. م: (لأنه) ش: أي لأنه الإبضاع. م: (معتاد في عقد الشركة، ولأن له أن يستأجر على العمل) ش: أي مستأجر أجيرًا على عمل يحصل منه الربح. م: (والتحصيل بغير عوض دونه) ش: أي دون الاستئجار.
م: (فيملكه) ش: أي فيملك التحصيل بغير عوض وهو الإبضاع وفيه تحصيل الربح بلا أجر فكان الاستئجار على من ملك إلا على ملك الأدنى. م: (وكذا له) ش: أي لأحد الشريكين. م: (أن يودعه) ش: أي يودع مال الشركة. م: (لأنه) ش: أي لأن الإيداع. م: (معتاد) ش: بين التجار. م: (ولا يجد التاجر منه) ش: أي من الإيداع. م: (بدًا) ش: أي انقطاعًا منه. م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ويدفعه مضاربة) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويدفعه بالنصب عطفًا على قوله أن يضع. م: (لأنها) ش: أي لأن المضاربة. م: (دون الشركة) ش: ألا ترى أن المضارب ليس عليه شيء من الوضيعة وأن المضاربة لو فسدت لم يكن للمضارب شيء من الربح، وهذا ظاهر الرواية.
م: (فيتضمنها، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي روى الحسن عنه. م: (أنه ليس له ذلك) ش: أي ليس له أن يدفع المال مضاربة. م: (لأنه نوع شركة) ش: وليس لأحد الشريكين أن يشارك مع غيره بمال الشركة، فكذا لا يدفعه مضاربة. م: (والأول أصح) ش: أي جواز الدفع مضاربة أصح. م: (وهو رواية الأصل) ش: أي " المبسوط ". م: (لأن الشركة غير مقصودة) ش: في المضاربة. م: (وإنما المقصود تحصيل الربح) ش: وهو ثابت بالمضاربة فيملكه أحد الشريكين.
م: (كما إذا استأجر) ش: أحد الشريكين أجيرًا. م: (بأجرة) ش: ليعمل فإنه يجوز قولًا واحدًا لأنه إذا عمل ولم يحصل الربح لا يجب على رب المال شيء. م: (بل أولى) ش: جواب إذا. م: (لأنه) ش: أي لأن عقد المضاربة. م: (تحصيل) ش: أي للربح. م: (بدون ضمان في ذمته) ش: أي في ذمة رب المال فكان أولى بالجواز، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز للشريك التصرف في نصيب صاحبه إلا بإذنه، وفي قوله إلا بتصريح في العهد العقد وفي الأظهر يجوز كقولنا م:(7/406)
بخلاف الشركة حيث لا يملكها لأن الشيء لا يستتبع مثله. قال ويوكل من يتصرف فيه لأن التوكل بالبيع والشراء من توابع التجارة والشركة انعقدت للتجارة بخلاف الوكيل بالشراء حيث لا يملك أن يوكل غيره لأنه عقد خاص طلب منه تحصيل العين فلا يستتبع مثله.
قال ويده في المال يد أمانة؛ لأنه قبض المال بإذن المالك، لا على وجه البدل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(بخلاف الشركة حيث لا يملكها) ش: الشريك. م: (لأن الشيء لا يستتبع مثله) ش: إذ يلزم المحال منه وهو أن يكون مثل الشيء دونه فإن قيل: هذا منقوض بالمكاتب فإن له أن يكاتب عنده، وبالعبد المأذون، فإن له أن يأذن عبده، وباقتداء المفترض بالمفترض، وباقتداء المتنفل بالمتنفل، مع أن كل واحد منهما مثل الآخر والإمام يستتبع قومه في حق جواز الصلاة وفسادها ولأن المثل يرفع المثل كالنص الناسخ يرفع النص المنسوخ وهما مثلان.
الجواب في المكاتب والمأذون أنهما أطلقا في الكتب وأسبابه، وليس هذا من قبيل الاستيفاء بل من إثبات الكسب المطلق لهما.
وأما اقتداء المفترض بمثله فيجوز بالإجماع لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الإمام ضامن» ، ولأن صلاة المقتدي مبنية على صلاة الإمام جوازًا وقضاء بالحديث؛ لأن يكون صلاة تتبعه صلاة المقتدي، وأما الناسخ فهو رافع صورة يتعين معنى، فلم يكن رافعًا في الحقيقة، فلا يرد نقضًا.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (ويوكل من يتصرف فيه) ش: بنصب يوكل عطفًا على قوله: أن يضع أي يوكل الشريك من يتصرف في مال الشركة. م: (لأن التوكيل بالبيع والشراء من توابع التجارة، والشركة انعقدت للتجارة) ش: للربح، وكل واحد من الشريكين ربما لا يبيعها له مباشرة تبعًا لها. م: (بخلاف الوكيل بالشراء حيث لا يملك) ش: بنفسه، فلا بد من التوكيل ثبت التوكيل في ضمن التجارة تبعًا لها بدلالة الحال، فصار كل منهما كأنه أمر صاحبه أن توكل بخلاف الوكيل بالشراء حيث لا يملك. م: (أن يوكل غيره لأنه) ش: أي التوكيل بالشراء. م: (عقد خاص طلب منه تحصيل العين) ش: أي لتحصيل شيء معين معلوم جنسه وصفته. م: (فلا يستتبع مثله) ش: لما ذكرنا أنه يلزم فيه المحال.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ويده) ش: أي يد كل واحد من المفاوضين وشريكي العنان. م: (في المال يد أمانة) ش: حتى إذا هلك المال في يده هلك بلا ضمان. م: (لأنه قبض المال بإذن المالك لا على وجه البدل) ش: أي على وجه إعطاء البدل، واحترز به عن المقبوض على سوم الشراء؛ لأن المقبوض على سوم الشراء قبض لأجل أن يدفع الثمن.(7/407)
والوثيقة فصار كالوديعة.
قال: وأما شركة الصنائع وتسمى شركة التقبل كالخياطين والصباغين يشتركان على أن يقبلا الأعمال ويكون الكسب بينهما، فيجوز ذلك، وهذا عندنا، وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: لا تجوز لأن هذه شركة لا يفيد مقصودهما وهو التثمير؛ لأنه لا بد من رأس المال، وهذا لأن الشركة في الربح تبتني على الشركة في المال على أصلهما على ما قررناه. ولنا أن المقصود منه التحصيل، وهو يمكن بالتوكيل لأنه لما كان وكيلا في النصف أصيلا في النصف تحققت الشركة في المال المستفاد، ولا يشترط فيه اتحاد العمل والمكان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والوثيقة) ش: أي على وجه الوثيقة، واحترز به عن الرهن فإن الرهن مقبوض لأجل الوثيقة؛ لأن الرهن مضمون بأقل من قيمته ومن الدين. م: (فكان كالوديعة) ش: في عدم وجوب الضمان.
[شركة الصنائع]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وأما شركة الصنائع وتسمى شركة التقبل كالخياطين والصباغين يشتركان على أن يقبلا الأعمال ويكون الكسب بينهما، فيجوز ذلك، وهذا عندنا) ش: أي جواز هذه الشركة عند أصحابنا.
م: (وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: لا تجوز لأنها شركة لا تفيد مقصودهما) ش: أي مقصود الشريكين، وفي بعض النسخ مقصودها أي الشركة أضاف المقصود إلى الشركة، وإن كان المقصود للشريكين بأدنى بلا نسبة هو ملبس الشريكين فعقد الشركة. م: (وهو التثمير) ش: أي المقصود من التثمير وهو حصول الربح. م: (لأنه لا بد من رأس المال) ش: للتثمير. م: (وهذا) ش: أي قول الشافعي وزفر - رحمهما الله -: لا بد من رأس المال. م: (لأن الشركة في الربح تبتني على الشركة في المال على أصلهما) ش: أي على أصل زفر والشافعي - رحمهما الله -. م: (على ما قررناه) ش: أي عند قوله وتجوز الشركة وإن لم يخلطا المال. م: (ولنا أن المقصود منه) ش: أي من عقد الشركة. م: (التحصيل) ش: أي تحصيل الربح.
م: (وهو) ش: أي تحصيل الربح. م: (يمكن بالتوكيل) ش: أي بتوكيل كل واحد من الشريكين صاحبا مقبول العمل. م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد منهما. م: (لما كان وكيلًا في النصف أصيلًا في النصف تحققت الشركة في المال المستفاد) ش: بعقد الشركة حينئذ، ثم إذا عمل فكل واحد مستحق فائدة عمله، وهو كسبه.
وإذا عمل أحدهما كان العامل معينًا لشريكه فيما لزمه بالتقبل فوقع عمله فكأن الشريك استعان بأجنبي حتى عمل، وهذا جائز لأن المشروط مطلق العمل لا عمل الصلح بنفسه، فإن القصار إذا استعان بغيره أو استأجر غيره حتى عملا يستحق القصار الأجر.
م: (ولا يشترط فيه) ش: أي في عقد شركة الصلح. م: (اتحاد العمل والمكان) ش: حتى إذا كان(7/408)
خلافا لمالك وزفر - رحمهما الله - فيهما؛ لأن المعنى المجوز للشركة وهو ما ذكرناه لا يتفاوت. ولو شرط العمل نصفين والمال أثلاثا جاز، وفي القياس لا يجوز لأن الضمان بقدر العمل، فالزيادة عليه ربح ما لم يضمن، فلم يجز العقد لتأديته إليه، وصار كشركة الوجوه، لكنا نقول: ما يأخذه لا يأخذه ربحا؛ لأن الربح عند اتحاد الجنس،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما قصارًا والآخر خياطًا أو قعدا في دكاكين جاز عندنا. م: (خلافًا لمالك وزفر - رحمهما الله - فيهما) ش: لأنه إذا كان العمل مختلفًا ففي كل واحد منهما عن عمل صاحبه الذي يتقبله؛ لأن ذلك ليس من صيغته فلا يحصل المقصود من الشركة.
ولنا ما قاله المصنف بقوله. م: (لأن المعنى المجوز للشركة وهو ما ذكرناه) ش: أشار إلى قوله ولنا أن المقصود منه التحصيل: وهو يمكن بالتوكيل. م: (لا يتفاوت) ش: خبر إن، أي لا يتفاوت باتحاد العمل والمكان أو اختلافهما فإن قيل قد تقدم أن من الفروع المرتبة على أصل زفر والشافعي - رحمهما الله - في مسألة الخلط أن شركة المستقبل لا تجوز فكيف يصح قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في جوازها إذا كانت الأعمال منفعة، أجيب: بأن زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - له في هذه المسألة أعني الخلط قولان، فذكر المصنف في تلك المسألة حكم الرواية التي لا يشترط فيها، ولكن أطلق في اللفظ ولم يذكر اختلاف الروايتين فيرى ظاهره مناقضًا.
م: (ولو شرط العمل نصفين) ش: أي شرط الشريكان في شركة الفصل أن يكون العمل نصفين. م: والمال) ش: أي الربح الحاصل. م: أثلاثًا جاز) ش: استحسانًا. م: (وفي القياس لا يجوز) ش: وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (لأن الضمان بقدر العلم) ش: أي الضمان في كل واحد منهما بقدر عمله، وعمله في النصف. م: (فالزيادة عليه) ش: أي على عمله في النصف.
م: (ربح ما لم يضمن) ش: لأنه يؤجل الزمان فيما زاد على النصف فيكون شرط فصل الربح ربح ما لم يضمن، وهو حرام لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك. م: (فلم يجز العقد لتأديته) ش: أي لتأدية هذا العقد. م: (إليه) . ش: أي إلى ربح ما لم يضمن. م: (وصار كشركة الوجوه) ش: في أن التفاوت فيها في الربح لا يجوز إلا إذا كان المشترى بينهما على السواء.
وأما إذا شرطا التفاوت في ملك المشترى فيجوز التفاوت حينئذ في الربح في شركة الوجوه أيضًا.
م: (لكنا نقول) ش: بيان وجه الاستحسان. م: (ما يأخذه) ش: أي ما يأخذه كل من الشريكين. م: (لا يأخذه ربحًا) ش: أي حال كونه ربحًا. م: (لأن الربح عند اتحاد الجنس) ش: أي لأن الربح لا يكون إلا عند اتحاد الجنس.
ولهذا قالوا استأجر دارًا بعشرة دراهم ثم أجرها بثوب يساوي خمسة عشر جاز لما أن الربح(7/409)
وقد اختلف لأن رأس المال عمل، والربح مال فكان بدل العمل والعمل يتقوم بالتقويم، فيتقدر بقدر ما قوم به فلا يحرم بخلاف شركة الوجوه؛ لأن جنس المال متفق
والربح يتحقق في الجنس المتفق، وربح ما لم يضمن لا يجوز إلا في المضاربة.
قال: وما يتقبله كل واحد منهما من العمل يلزمه ويلزم شريكه، حتى إن كل واحد منهما يطالب بالعمل ويطالب بالأجر ويبرأ الدافع بالدفع إليه، وهذا ظاهر في المفاوضة وفي غيرها استحسان، والقياس خلاف ذلك لأن الشركة وقعت مطلقة والكفالة تقتضي المفاوضة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا يتحقق عند اختلاف الجنس، والجنس فيما نحن فيه لم يتحد.
م: (وقد اختلف لأن رأس المال عمل والربح مال، فكان) ش: أي ما يأخذه. م: (بدل العمل والعمل يتقوم بالتقويم) ش: فإذا ضيقا بقدر معنى كان ذلك مهمًا تقويمًا للعمل. م: (فيتقدر بقدر ما قوم به فلا يحرم) ش: لأنه لم يتأد إلا ربح ما لم يضمن. م: (بخلاف شركة الوجوه؛ لأن جنس المال متفق) ش: وهو الثمن الواجب في ذمتهما دراهم كانت أو دنانير.
م: (والربح يتحقق في الجنس المتفق وربح ما لم يضمن لا يجوز) ش: تقدير هذا الكلام لو جاز اشتراط زيادة الربح كان ربح ما لم يضمن وربح ما لم يضمن لا يجوز. م: (إلا في المضاربة) ش: أي جاز فيها لوقوعه بمعاملة العمل في جانب المضارب المال في جانب رب المال.
وليس واحد منهما في شركة الوجوه ولا الضمان بمقابلة الربح موجودًا فلزم ما لم يضمن فلا يجوز.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وما يتقبله كل واحد منهما) ش: أي من شريك التقبل. م: (من العمل يلزمه ويلزم شريكه حتى إن كل واحد من الشريكين يطالب بالعمل ويطالب بالأجر) ش: أي يطالب الأول بفتح اللام. م: (ويبرأ الدافع بالدفع إليه) ش: أي يبرأ الدافع الأجر إلى كل واحد من الشريكين.
وقال الكاكي: يجوز أن يراد بالدافع دافع الأجرة إليه، أي كل واحد منهما، وهو الظاهر، ويجوز أن يراد بالدافع كل منهما إليه، أي إلى صاحب الثوب يعني لو أخذ الثوب أحدهما للصبغ، ثم دفعه إلى صاحبه غير الذي أخذه يبرأ الآخذ من الضمان.
م: (وهذا) ش: إشارة إلى لزوم العمل على كل واحد منهما وهو معنى الكفالة. م: (ظاهر في المفاوضة وفي غيرها) ش: وهو العنان. م: (استحسان، والقياس خلاف ذلك؛ لأن الشركة وقعت مطلقة) ش: عن ذكر الكفالة وليست الكفالة من مقتضاها حتى تثبت، وإن لم تذكر الكفالة بمقتضى المعاوضة بدون التصريح.
م: (والكفالة تقتضي المفاوضة) ش: فلا يثبت معها ما ليس من مقتضاها بدون التصريح بذكر(7/410)
وجه الاستحسان أن هذه الشركة مقتضية للضمان ألا ترى أن ما تقبله كل واحد منهما من العمل مضمون على الآخر، ولهذا مستوجب الأجر يستحق الأجر بسبب نفاذ تقبله عليه، فجرى مجرى المفاوضة في ضمان العمل واقتضاء البدل.
قال وأما شركة الوجوه فالرجلان يشتركان ولا مال لهما على أن يشتريا بوجوههما ويبيعا، فتصح الشركة على هذا سميت به؛ لأنه لا يشتري بالنسيئة إلا من كان له وجاهة عند الناس، وإنما تصح مفاوضة لأنه يمكن تحقيق الكفالة والوكالة في الإبدال، وإذا أطلقت تكون عنانا لأن مطلقه ينصرف إليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وجه الاستحسان، أن هذه الشركة مقتضية للضمان، ألا ترى أن ما تقبله كل واحد منهما من العمل مضمون على الآخر، ولهذا) ش: أي لكون العمل مضمونًا. م: (مستوجب الأجر) ش: أي مستحق الأجر. م: (يستحق الأجر بسبب نفاذ تقبله عليه) ش: أي يقبل صاحبه عليه لو لم يكن مضمونًا عليه لما استحق الأجر.
لأن الغرم بالغنم، فإذا كان كذلك. م: (فجرى) ش: أي هذا العقد. م: (مجرى المفاوضة في ضمان العمل واقتضاء البدل) ش: وإنما قال يجريانه مجرى المفاوضة بهذين الشيئين؛ لأنه فيما عدا ذلك لم يجر هذا العقد مجراه، حتى قالوا إذا أقر أحدهما بدين من ثمن أشنان وصابون أو أجر أجير بيتًا لمرة مضت لم يصدق على صاحبه إلا ببينة ويلزمه خاصة؛ لأن التنصيص على مفاوضته لم يوجد، وبقاء الإقرار يوجب المفاوضة.
[المراد بشركة الوجوه]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وأما شركة الوجوه فالرجلان يشتركان ولا مال لهما على أن يشتريا بوجوههما) ش: يعني بوجاهتهما، وأمانتهما عند الناس فيبيع الناس فيهما السلعة بالنسبة لأمانتهما، وقال بعضهم: إنما سميت هذه الشركة شركة الوجوه لأنه ليس لهما مال ولا عمل فجلس كل واحد منهما ينظر إلى صاحبه.
م: (ويبيعا) ش: عطف على قوله أن يشتريا. م: (فتصح الشركة على هذا) ش: أي على كونهما مشتريين وجوهًا. م: (سميت به) ش: أي شركة الوجوه على تأويل العقد. م: (لأنه لا يشتري بالنسيئة إلا من كان له وجاهة عند الناس) ش: الوجه والجاه بمعنى واحد، يقال فلان وجيه إذا كان ذا جاه عند الناس. قال الله تعالى: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] (الأحزاب: الآية 69) .
م: (وإنها) ش: أي شركة الوجوه. م: تصح مفاوضة) ش: إذا كان الرجلان من أهل الكفالة. م: (لأنه يمكن تحقيق الكفالة والوكالة في الإبدال) ش: أي الثمن فيكون ثمن المشترى على كل واحد منهما نصفه، ويكون المشترى بينهما نصفين، ولا بد من التلفظ بلفظ المفاوضة أو ما قام مقامه.
م: (وإذا أطلقت) ش: أي أن شركة الوجوه بحيث لم يذكر في الكفالة؛ إذ الوكالة. م: (تكون عنانًا؛ لأن مطلقه) ش: أي لأن مطلق عقد الشركة الصنائع. م: (ينصرف إليه) ش: أي إلى العنان،(7/411)
وهي جائزة عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والوجه من الجانبين ما قدمناه في شركتنا تقبل.
قال وكل واحد منهما وكيل الآخر فيما يشتريه لأن التصرف على الغير لا يجوز إلا بوكالة أو بولاية ولا ولاية فتعين الأول، فإن شرطا أن المشترى بينهما نصفان والربح كذلك يجوز ولا يجوز أن يتفاضلا فيه، وإن شرطا أن يكون المشترى بينهما أثلاثا فالربح كذلك وهذا لأن الربح لا يستحق إلا بالمال أو العمل أو بالضمان. فرب المال يستحقه بالمال والمضارب يستحقه بالعمل والأستاذ الذي يلقي العمل على تلميذه بالنصف بالضمان فلا يستحق بما سواها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لكون المعتاد بين الناس. م: (وهي) ش: أي شركة الضائع. م: جائزة عندنا) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (خلافًا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبقوله قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (والوجه من الجانبين) ش: أي من جانبنا وجانب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (ما قدمناه في شركتنا تقبل) ش: وهو أن الربح عنده فرع المال، فإذا لم يعد المال لا تنعقد الشركة، وقلنا: إن الشركة في الربح مسندة إلى العقد شركة إلى آخره.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وكل واحد منهما) ش: أي من الشريكين. م: (وكيل الآخر فيما يشتريه؛ لأن التصرف على الغير لا يجوز إلا بوكالة أو بولاية، ولا ولاية فتعين الأول) ش: أي الوكالة.
م: (فإن شرطا) ش: أي الشريكان. م: (أن المشترى بينهما نصفان والربح كذلك) ش: يكون بينهما نصفين. م: (يجوز، ولا يجوز أن يتفاضلا فيه) ش: أي في الربح فإن شرط لأحدهما الفضل يبطل الشرط والربح بينهما على قدر ضمانهما.
م: (وإن شرطا أن يكون المشترى بينهما أثلاثًا فالربح كذلك) ش: أي يكون أثلاثًا يجعل لما ذكرنا، وهو إشارة إلى المساواة في اشتراط الربح. م: (وهذا لأن الربح لا يستحق إلا بالمال أو بالعمل أو بالضمان) ش: أشار بهذا إلى أن الاستحقاق يكون بأحد الأمور الثلاثة ثم أوضحها بقوله. م: (فرب المال يستحقه) ش: إلى الربح. م: (بالمال والمضارب يستحقه) ش: أي يستحق المضاربة الربح. م: (بالعمل والأستاذ الذي) ش: يحبس الرجل على دكانه وهو تلميذه الذي يعمل له بالأجر، وبعد ذلك. م: (يلقي العمل) ش: من الإلقاء. م: (على تلميذه) ش: الذي أجلسه على دكانه. م: (بالنصف) ش: يعني نصف الربح. م: (بالضمان) ش: يعني يطالب الأستاذ بتحصيل ذلك العمل فكان العمل مضمونًا على الأستاذ والقيد بالنصف اتفاقي فإنه يجوز أن يبلغ بأقل من النصف.
م: (فلا يستحق بما سواها) ش: أي فلا يستحق الربح بما سوى الثلاثة المذكورة، يعني الاستحقاق لا يكون إلا بواحد من الوجوه الثلاثة المذكورة دون غيرها، فإن قيل: لم لا يجوز أن يستحق الزيادة بزيادة اهتدائه ومتانة رأيه وتدبيره في الأمور العامة والخاصة، والعمل بالتجارة.(7/412)
ألا ترى أن ما قال لغيره تصرف في مالك على أن لي ربحه لم يجز لعدم هذه المعاني، واستحقاق الربح في شركة الوجوه بالضمان على ما بينا، والضمان على قدر الملك في المشترى، فكان الربح الزائد عليه ربح ما لم يضمن، فلا يصح اشتراطه إلا في المضاربة. والوجوه ليست في معناها بخلاف العنان لأنه في معناها من حيث إن كل واحد منهما يعمل في مال صاحبه، فيلحق بها، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أجيب: بأن اشتراط الزيادة في الربح بزيادة العمل إنما تجوز إذا كان في مال معلوم كما في العنان أو المضاربة ولم يوجد هاهنا.
م: (ألا ترى) ش: توضيح لقوله فلا يستحق بما سواها. م: (أن من قال لغيره: تصرف في مالك على أن لي ربحه لم يجز لعدم هذه المعاني) ش: الثانية المذكورة. م: (واستحقاق الربح في شركة الوجوه بالضمان) ش: هذا عود إلى البحث لإتمام المطلوب، يعني أن صورة النزاع استحقاق الربح فيها بالضمان لا بالمال ولا بالعمل.
م: (على ما بينا) ش: إشارة إلى ما ذكره في شركة التقبل بقوله: إن الضمان بقدر العمل فالزيادة عليه ربح ما لم يضمن فلا يجوز العقد لتأديته إليه وصار شركة الوجوه، وقيل هذا إشارة إلى قوله بخلاف شركة الوجوه؛ لأن جنس المال متفق.. إلى آخره، والضمان على قدر الملك يقرر هذا أن استحقاق الربح في شركة الوجوه بالضمان.
م: (والضمان على قدر الملك في المشترى فكان الربح الزائد عليه ربح ما لم يضمن، فلا يصح اشتراطه إلا في المضاربة) ش: فإنه يصح منها لما ذكرنا من وجوه مقابلة بالمال والعمل والوجوه أي شركة. م: (والوجوه ليست في معناها) ش: لأن المال فيها مضمون على كل واحد من الشريكين.
وأما المال في المضاربة فليس بمضمون على المضارب ولا العمل على رب المال. م: (بخلاف العنان لأنه في معناها من حيث إن كل واحد منهما) ش: من شريكي العنان يعمل في مال صاحبه كالمضارب. م: (يعمل في مال صاحبه) ش: رب المال. م: (فيلحق بها، والله أعلم) ش: أي بالمضاربة.(7/413)
فصل في الشركة الفاسدة ولا تجوز الشركة في الاحتطاب والاصطياد، وما اصطاده كل واحد منهما أو احتطبه فهو له دون صاحبه، وعلى هذا الاشتراك في أخذ كل شيء مباح لأن الشركة متضمنة معنى الوكالة والتوكيل في أخذ المال المباح باطل لأن أمر الموكل به غير صحيح والوكيل يملكه بدون أمره، فلا يصلح نائبا عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الشركة الفاسدة]
م: (فصل في الشركة الفاسدة) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام الشركة الفاسدة، وأخر الشركة الفاسدة لانحطاطها شرعًا. م: (ولا تجوز الشركة في الاحتطاب والاصطياد وما اصطاده كل واحد منهما أو احتطبه فهو له دون صاحبه، وعلى هذا) ش: كله لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وزاد المصنف عليه بقوله على هذا الحكم.
م: (الاشتراك) ش: الأخذ. م: (في أخذ كل شيء مباح) ش: كاحتباء الثمار من الجبال والبراري كالفستق والجوز واللوز وغير ذلك وطلب الكنوز من المعادن، ونقل الطين من موضعه لا يملكانه أو الجص أو الملح أو الكحل وما أشبه ذلك وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعند مالك وأحمد - رحمهما الله - يجوز لأن هذه شركة الأبدان فيجوز كما في الصباغين.
وكذلك إن اشتركا على أن يلبثا من طين غير مملوك أو يطبخا آجرًا فإن كان الطين أو النورة أو سهلة الزجاج مملوكًا واشترطا أن يشتريا ذلك وطبخا به ويبيعا جاز وهو شركة الوجوه. م: (لأن الشركة متضمنة معنى الوكالة والتوكيل في أخذ المال المباح باطل؛ لأن أمر الموكل به غير صحيح) ش: هذان دليلان على المطلوب تقرير الأول المدعى أن التوكيل في أخذ المباح باطل لأنه يقتضي صحة أمر الموكل بموكل به.
وهو أخذ المباح وأمر الموكل بأخذه غير صحيح لأنه صادق غير محل ولايته، وتقرير الثاني التوكيل بأخذ المباح باطل. أشار إليه بقوله. م: (والوكيل يملكه بدون أمره) ش: أي بدون أمر الموكل ومن ملك شيئًا بدون أمر الموكل.
م: (فلا يصلح) ش: أن يكون. م: (نائبًا عنه) ش: أي عن الموكل لأن التوكيل إثبات ولاية التصرف فيما هو ثابت للموكل، وهذا المعنى لا يتحقق فيمن يملك بدون أمره لئلا يلزم إثبات الثابت.
فإن قيل: يشكل هذا بالتوكيل بشراء عبد بغير عينه أنه يجوز مع أن التوكيل يملك الشراء لنفسه قبل التوكيل وبعده، فعلم أنه لا يشترط بصحة التوكيل أن لا يملك الوكيل ذلك التصرف قبل التوكيل.(7/414)
وإنما يثبت الملك لهما بالأخذ، وإحراز المباح، فإن أخذاه معا فهو بينهما نصفان لاستوائهما في سبب الاستحقاق،
وإن أخذه أحدهما ولم يعمل الآخر شيئا فهو للعامل،
وإن عمل أحدهما وأعانه الآخر في عمله بأن قلعه أحدهما وجمعه الآخر أو قلعه وجمعه وحمله الآخر؛ فللمعين أجر مثله بالغا ما بلغ عند محمد وعند أبي يوسف - رحمهما الله - لا يجاوز به نصف ثمن ذلك وقد عرف في موضعه، قال: وإذا اشتركا ولأحدهما بغل وللآخر راوية يستقي عليها الماء فالكسب بينهما لا تصح الشركة، والكسب كله للذي استقى وعليه أجر الراوية، وإن كان العامل صاحب البغل، وإن كان صاحب الراوية فعليه أجر مثل البغل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أجيب: بأنه لا يشكل لما أن التوكيل بالشراء يخالف التوكيل بالاحتطاب؛ لأن التوكيل في الاحتطاب في الحطب المعين وغيره سواء في عدم صحة التوكيل في أمر مباح لها.
وقال الأكمل: وجوابه أن معناه يملك بدون أمر الموكل بلا عقد وصورة النفس ليست كذلك فإنه لا يملكه إلا بالشراء. م: (وإنما يثبت الملك) ش: وبما ذكر أن الشركة لا تصح في الأشياء المذكور شرع في بيان أن ملك هذه الأشياء بماذا يثبت؟ فقال: إنما يثبته. م: (لهما بالأخذ، وإحراز المباح) ش: أراد أن سبب تلك المباحات أخذها وحيازتها، فكل من قاربه بالسبب فإن بها. م: (فإن أخذاه معًا) ش: أي فإن أخذ الأشياء المباحة مجتمعين.
م: (فهو) ش: أي المأخوذ. م: (بينهما نصفان لاستوائهما في سبب الاستحقاق) ش: وهو الأخذ والحيازة.
م: (وإن أخذه أحدهما ولم يعمل الآخر شيئًا فهو للعامل) ش: لوجود السبب فيه أي في الآخذ وهو الأخذ.
م: (وإن عمل أحدهما وأعانه الآخر في عمله بأن قلعه أحدهما وجمعه الآخر أو قلعه وجمعه وحمله الآخر؛ فللمعين أجر مثله بالغا ما بلغ) ش: لأنه استوفى منافعه بحكم عقد فاسد فلزمه أجر مثله على الكمال. م: (عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند أبي يوسف - رحمهما الله - لا يجاوز به نصف ثمن ذلك) ش: فقوله: لا يجوز على بناء المفعول، ونصف ثمن ذلك بالرفع لأنه قائم مقام الفاعل.
م: (وقد عرف في موضعه) ش: أي في باب الإجارة الفاسدة، وقال الأترازي: أي في كتاب الشركة من " المبسوط ". م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (وإذا اشتركا ولأحدهما بغل وللآخر راوية يستقي عليها الماء فالكسب بينهما لا تصح الشركة، والكسب كله للذي استقى وعليه أجر الراوية، وإن كان العامل صاحب البغل، وإن كان صاحب الراوية فعليه أجر مثل البغل) ش: أي هذا كلام القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(7/415)
أما فساد الشركة فلانعقادها على إحراز المباح وهو الماء، وأما وجوب الأجر فلأن المباح إذا صار ملكا للحرز وهو المستقي فقد استوفى في منافع ملك الغير وهو البغل أو الراوية بعقد فاسد فيلزمه أجره وكل شركة فاسدة فالربح فيها على قدر المال، ويبطل شرط التفاضل؛ لأن الربح فيها تابع للمال فيتقدر بقدره، كما أن الريع تابع للمبذر في المزارعة، والزيادة إنما تستحق بالتسمية وقد فسدت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فقال المصنف: م: (أما فساد الشركة فلانعقادها على إحراز المباح وهو الماء) ش: وقد مر أن الشركة في المباحات باطلة كالاصطياد، فإذا فسدت الشركة كان الكسب للمنفي خاصة كما في الشركة في الاصطياد فيكون الصيد لمن أخذ وأحمل معنى فيه وهو الأظهر من قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعلى قياس قول أحمد ومالك - رحمهما الله - ينبغي أن تجوز ذكره في " المغني " لابن قدامة.
وقال بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: [ ... ] فيه لأن في قول يصح والثاني أن الكسب للمستسقي، وقال بعض أصحابه: إن كان الماء مملوكًا للبيهقي فالكسب له وعليه أجر ما حمل عليه، وإن كان مباحًا فالكسب على الشركة.
م: (وأما وجوب الأجر) ش: أي أجر مثل البغل أو الراوية لصاحب البغل ولصاحب الراوية. م: (فلأن المباح إذا صار ملكًا للحرز) ش: بكسر الراء وهو. م: (وهو المستقي فقد استوفى منافع ملك الغير وهو البغل أو الراوية بعقد فاسد فيلزمه أجره) ش: الراوية في الأصل بغير السقاء؛ لأنه يروي الماء في محله ثم كثر حتى استعمل في المرادة، وهي المرادة هاهنا.
قال أبو عبيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: المرادة لا تكون إلا من جلدين مقام بجلد ثالث بينهما للسقي والجمع للمراد ومزائد. م: (وكل شركة فاسدة فالربح فيها على قدر المال ويبطل شرط التفاضل) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قال المصنف: م: (لأن الربح فيها تابع للمال فيتقدر بقدره) ش: أي تقدير الربح بقدر المال. م: (كما أن الريع) ش: بفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف وبالعين المهملة وهو النماء والزيادة. م: (تابع للمبذر في المزارعة) ش: كما عرف في موضعه.
وقال الأكمل: قوله الربح فيه تابع. إلى آخره فيه نظر لأن الربح عندنا فرع العقد كما مر، وكل فرع تابع وكونه تابعًا للمال إنما هو مذهب الشافعي كما تقدم، فكان الكلام متناقضًا. والجواز أنه تابع للعقد إذا كان العقد موجودًا وهاهنا قد فسر كيد العقد فيكون تابعًا للمال؛ لأنه شرط فإن العلة إذا لم تصح لإضافة الحكم إليها يضاف إلى الشرط.
م: (والزيادة إنما تستحق بالتسمية وقد فسدت) ش: أي التسمية لفساد العقد لكونه واجب(7/416)
فبقي الاستحقاق على قدر رأس المال. وإذا مات أحد الشريكين أو ارتد ولحق بدار الحرب بطلت الشركة لأنها تتضمن الوكالة، ولا بد منها لتتحقق الشركة على ما مر، والوكالة تبطل بالموت، وكذا بالالتحاق مرتدا إذا قضى القاضي بلحاقه؛ لأنه بمنزلة الموت على ما بيناه من قبل، ولا فرق بينهما إذا علم الشريك بموت صاحبه أو لم يعلم؛ لأنه عزل حكمي
فإذا بطلت الوكالة بطلت الشركة بخلاف ما إذا فسخ أحد الشريكين الشركة حيث يتوقف على علم الآخر؛ لأنه عزل قصدي، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدفع فصار كالتسمية لم يوجد أصلًا. م: (فبقي الاستحقاق على قدر رأس المال، وإذا مات أحد الشريكين أو ارتد ولحق بدار الحرب بطلت الشركة) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال المصنف: م: (لأنها) ش: أي لأن الشركة. م: (تتضمن الوكالة، ولا بد منها لتتحقق الشركة على ما مر) ش: فيما مضى في هذا الفصل. م: (والوكالة تبطل بالموت) ش: أي بموت الموكل. م: (وكذا) ش: أي تبطل. م: (بالالتحاق) ش: أي التحاق بدار الحرب حال كونه. م: (مرتدًا إذا قضى القاضي بلحاقه؛ لأنه) ش: أي إلحاق على الوجه المذكور. م: (بمنزلة الموت على ما بيناه من قبل) ش: أي في باب أحكام المرتدين بقوله ولنا أن باللحاق صار من أهل الحرب لهم أمران في أحكام الإسلام لانقطاع ولاية الإلزام كما هي منقطعة عن الموت.
م: (ولا فرق بينهما إذا علم الشريك بموت صاحبه أو لم يعلم لأنه) ش: أي لأن الموت. م: (عزل حكمي) ش: لتحول ملكه إلى وارثه فلا يتوقف حكمه على العلم لثبوته ضمنًا، ألا ترى أن الوكيل يعزل بموت الموكل وإن لم يعلم به.
[فسخ أحد الشريكين الشركة]
م: (فإذا بطلت الوكالة بطلت الشركة بخلاف ما إذا فسخ أحد الشريكين الشركة) ش: ومال الشركة دراهم أو دنانير. م: (حيث يتوقف على علم الآخر؛ لأنه عزل قصدي) ش: أي لأن فسخ أحد الشريكين عزل يقصد فيعتمد العلم؛ لأنه نوع حجر فشرط عليه ثبوت الحجر دفعًا للضرر عنه واعترض بأنه قد تقدم أن الوكالة تثبت في ضمن الشركة، فإذا كان كذلك كانت تابعة لنا ولا يلزم من بطلان التابع بطلان النوع.
وأجيب: بأن الوكالة تابعة للشركة من حيث إنها شرطها لا تصح الشركة بدونها أشار المصنف إلى ذلك أيضًا بقوله: ولا بد منها أي من الوكالة لتحقق الشركة، وإذا كانت شرطًا لا يتحقق بقاء المشروط بدونه.(7/417)
فصل وليس لأحد الشريكين أن يؤدي زكاة مال الآخر إلا بإذنه؛ لأنه ليس من جنس التجارة، فإن أذن كل واحد منهما لصاحبه أن يؤدي زكاته، فأدى كل واحد منهما، فالثاني ضامن علم بأداء الأول أو لم يعلم، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يضمن إذا لم يعلم، وهذا إذا أديا على التعاقب
أما إذا أديا معا ضمن كل واحد منهما نصيب صاحبه. وعلى هذا الاختلاف المذكور المأمور بأداء الزكاة إذا تصدق على الفقير بعدما أدى الآمر بنفسه. لهما أنه مأمور بالتملك من الفقير، وقد أتى به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل وقد ذكرنا غير مرة أن لفظ إذا فصل عما بعده لا يكون معربًا؛ لأن من شرط الإعراب التركيب فيكون حكمه مثل أحكام الأسماء المفردة إذا ذكرت بغير تركيب. م: (وليس لأحد الشريكين أن يؤدي زكاة مال الآخر إلا بإذنه) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال المصنف: م: (لأنه) ش: أي لأن دفع زكاة صاحبه. م: (ليس من جنس التجارة، فإن أذن كل واحد منهما لصاحبه أن يؤدي زكاته، فأدى كل واحد منهما فالثاني ضامن علم بأداء الأول أو لم يعلم، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) .
م: (وقالا: لا يضمن إذا لم يعلم) ش: وإن علم ضمن، هكذا ذكر في كتاب الزكاة في " الزيادات " للعتابي لا يضمن وإن علم عندهما وهو الصحيح عندهما، وعلى هذا الخلاف لو دفع ماله إلى رجل ليكفر عنه كفر الآمر بنفسه ثم كفر المأمور، وعلى هذا الخلاف المأمور بأداء الزكاة وهو إشارة إلى وجوب الضمان.
م: (وهذا) ش: على الثاني خاصة. م: (إذا أديا على التعاقب) ش: يعني أحدهما عقيب أداء الآمر.
[أداء الزكاة من مال الشريكين]
م: (أما إذا أديا معًا ضمن كل واحد منهما نصيب صاحبه) ش: فإن قيل إذا أديا معًا ينبغي أن لا يجب الضمان عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لعدم السبق؛ إذ الموكل لم يقع فعلى الوكيل فعلًا.
قلنا: الموكل إن لم يسبقه تحقيقًا فقد سبقه اعتبارًا أو تقديرًا؛ لأن يصرف الموكل على نفسه أقرب من تصرف الوكيل إليه فيصير سابقا معنى كالوكيل بالبيع مع الموكل إذا باعا وخرج الوكيل معه فقد تبع الموكل دون الوكيل.
م: (وعلى هذا الاختلاف المذكور المأمور بأداء الزكاة إذا تصدق على الفقير بعدما أدى الآمر بنفسه لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -. م: (أنه مأمور بالتمليك من الفقير، وقد أتى به)(7/418)
فلا يضمن للموكل، وهذا لأن في وسعه التمليك لا وقوعه زكاة لتعلقه بنية الموكل، وإنما يطلب منه ما في وسعه، وصار كالمأمور بذبح دم الإحصار إذا ذبح بعدما زال الإحصار وحج الآمر لم يضمن المأمور علم أو لا. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه مأمور بأداء الزكاة والمؤدى لم يقع زكاة فصار مخالفا، وهذا لأن المقصود من الأمر إخراج نفسه عن عهدة الواجب؛ لأن الظاهر أنه لا يلتزم الضرر إلا لدفع ضرر آخر، وهذا المقصود حصل بأدائه وعري أداء المأمور عنه فصار معزولا علم أو لم يعلم لأنه عزل حكمي، وأما دم الإحصار فقد قيل هو على هذا الاختلاف، وقيل بينهما فرق. ووجهه أن الدم ليس بواجب عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي بما أمر به. م: (فلا يضمن للموكل. وهذا) ش: أي عدم ضمانه للموكل. م: (لأن في وسعه التمليك) ش: من الفقير. م: (لا وقوعه زكاة لتعلقه بنية الموكل، وإنما يطلب منه ما في وسعه) ش: والمرء لا يكلف بما ليس في وسعه فكذا لم يضمن الثاني، وإن لم يقع ما أداه زكاة. م: (وصار) ش: أي المأمور هنا. م: (كالمأمور بذبح دم الإحصار إذا ذبح بعدما زال الإحصار وحج الآمر لم يضمن المأمور علم أو لا. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه مأمور بأداء الزكاة والمؤدى) ش: بفتح الدال المهملة. م: (لم يقع زكاة فصار) ش: أي المأمور.
م: (مخالفًا وهذا) ش: أي كونه مخالفًا. م: (لأن المقصود من الأمر إخراج نفسه عن عهدة الواجب؛ لأن الظاهر أنه لا يلتزم الضرر) ش: بيانه أن زوال ملكه في بعض ماله ضرر وفي دفع الوكيل سبيل الزكاة عند ذلك وبقاؤه في عهدة الواجب أيضًا ضرر، وهو لم يلزم ضرر دفع الوكيل ماله.
م: (إلا لدفع ضرر آخر) ش: وهو إسقاط الواجب عن ذمته؛ لأن المقصود من الأمر بأداء الزكاة إخراج النفس عن عهدة الواجب.
م: (وهذا المقصود حصل بأدائه وعري أداء المأمور عنه) ش: أي عن المقصود. م: (فصار معزولًا علم أو لم يعلم لأنه عزل حكمي) ش: فلا حاجة إلى العلم. م: (وأما دم الإحصار) ش: جواب عن قوله فصار كالمأمور بذبح دم الإحصار.
م: (فقد قيل هو على هذا الاختلاف) ش: يعني يضمن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فهذا جواب على سبيل المنع، ثم أجاب بطريق التسليم بقوله. م: (وقيل بينهما فرق) ش: يعني ولئن سلمنا لا يضمن بالاتفاق، ولكن قيل: إن بينهما فرق أشار إلى الفرق بقوله: م: (ووجهه أن الدم ليس بواجب عليه) ش: يعني أن دم الإحصار ليس بواجب لا محالة؛ لأنه لو يصبر إلى أن يزول الإحصار لم يطالب بدم الإحصار، وهو معنى قوله:(7/419)
فإنه يمكنه أن يصبر حتى يزول الإحصار، وفي مسألتنا الأداء واجب فاعتبر الإسقاط مقصودا فيه دون دم الإحصار. قال وإذا أذن أحد المتفاوضين لصاحبه أن يشتري جارية فيطأها ففعل. فهي له بغير شيء عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا يرجع عليه بنصف الثمن؛ لأنه أدى دينا عليه خاصة من مال مشترك، فيرجع عليه صاحبه بنصيبه كما في شراء الطعام والكسوة، وهذا لأن الملك واقع له خاصة، والثمن بمقابلة الملك، وله أن الجارية دخلت في الشركة على البتات جريا على مقتضى الشركة؛ إذ هما لا يملكان تغييره فأشبه حال عدم الإذن،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإنه يمكنه أن يصبر حتى يزول الإحصار، وفي مسألتنا) ش: وهي مسألة الزكاة. م: (الأداء) ش: أي أداء الزكاة. م: (واجب فاعتبر الإسقاط) ش: أي إسقاط الواجب. م: (مقصودًا فيه) ش: وقد حصل هذا المقصود بأداء الآمر نفسه فعري فعل المأمور من المقصود فضمن. م: (دون دم الإحصار) ش: لأنه ليس بواجب البتة كما ذكرنا. م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا أذن أحد المتفاوضين لصاحبه أن يشتري جارية فيطأها ففعل. فهي له بغير شيء عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا يرجع عليه) ش: أي على المأمور. م: (بنصف الثمن؛ لأنه) ش: أي لأن المأمور. م: (أدى دينًا عليه) ش: أي على نفسه. م: (خاصة من مال مشترك، فيرجع عليه صاحبه بنصيبه كما في شراء الطعام والكسوة) ش: تحقيق هذا أن الحاجة إلى الوطء من الحوائج الأصلية إلا أنها ليست بلازمة كالطعام ولم تكن مستثناة من عقد الشركة بلا شرط بخلاف الحاجة إلى الطعام فإنها لازمة فكانت مستثناة بلا شرط ثم بالتصريح على الوطء التحق بحاجة الطعام، فوقع شراء الجارية لشركة المشتري خاصة.
م: (وهذا) ش: بيان بقوله: أدى دينًا عليه خاصة. م: (لأن الملك واقع له خاصة) ش: بدليل حل وطئها. م: (والثمن بمقابلة الملك) ش: فكان الدين عليه خاصة. م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أن الجارية دخلت في الشركة على البتات) ش: بعصبته عقد المعاوضة وأدى المشتري ثمنها من مال الشركة وكلما دخل في الشركة فأدى المشتري ثمنها من مال الشركة لا يرجع على صاحبه بشيء كما لو اشترى الجارية قبل الإذن. وأدى ثمنها من مال الشركة فإنه لا يرجع عليه بشيء وبين دخولها في الشركة بقوله. م: (جريًا على مقتضى الشركة) ش: أي شركة المفاوضة، فإن ذلك يقتضي دخول ما ليس بشيء كالطعام والكسوة بحقها وشركة الجارية ليس بشيء فيدخل تحتها.
م: (إذ هما لا يملكان) ش: أي الشريكان. م: (تغييره) ش: أي بغير مقتضى شركة مع بقائها. م: (فأشبه حال عدم الإذن) ش: أي صار كما لو اشتراها بغير إذن الشريك، غير أن الإذن يتضمن هبة نصيبه منه أما من قوله فأشبه حال عدم الإذن فكأنه توهم أن يقال: كيف يشبه حال عدم الإذن، وهناك لم يحل وطؤها.(7/420)
غير أن الإذن يتضمن هبة نصيبه منه؛ لأن الوطء لا يحل إلا بالملك، ولا وجه إلى إثباته بالبيع لما بينا أنه يخالف مقتضى الشركة فأثبتناه بالهبة الثابتة في ضمن الإذن بخلاف الطعام والكسوة لأن ذلك مستثنى عنها للضرورة، فيقع الملك له خاصة بنفس العقد، فكان مؤديا دينا عليه من مال الشركة، وفي مسألتنا قضى دينا عليهما لما بينا، وللبائع أن يأخذ بالثمن أيهما شاء بالاتفاق؛ لأنه دين وجب بسبب التجارة، والمفاوضة تضمنت الكفالة فصار كالطعام والكسوة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبعد الإذن يحل أشار إلى ذلك بقوله: م: (غير أن الإذن يتضمن هبة نصيبه منه؛ لأن الوطء لا يحل إلا بالملك، ولا وجه إلى إثباته بالبيع لما بينا أنه يخالف مقتضى الشركة) ش: إشارة إلى قوله جريًا على مقتضى الشركة. م: (فأثبتناه بالهبة الثابتة في ضمن الإذن) ش: فكأنه قال: اشتر جارية بيننا وقد وهبت نصيبي منها لك، فجازت الهبة في السابع لأن الجارية مما لا ينقسم.
م: (بخلاف الطعام والكسوة) ش: حيث تقع للمشتري خاصة. م: (لأن ذلك مستثنى عنها للضرورة فيقع الملك له) ش: أي للمشتري.
وإنما رجع الضمير إليه وإن لم يذكر لظهور فهم؛ لأن الشهوة قائمة مقام الذكر. م: (خاصة بنفس العقد فكان مؤديًا دينًا عليه من مال الشركة، وفي مسألتنا) ش: أي فيما اشترى أحد المتعاوضين الجارية للوطء بإذن الآخر. م: (قضى دينًا عليهما لما بينا) ش: أنها دخلت في الشركة.
م: (وللبائع أن يأخذ بالثمن أيهما) ش: أي الشريكين. م: (شاء بالاتفاق لأنه دين وجب بسبب التجارة، والمفاوضة تضمنت الكفالة) ش: فيطالب المشتري إن شاء وإن شاء يطالب شريكه لأنه كفيل. م: (فصار كالطعام والكسوة) ش: أي فصار حكم الجارية المشتراة للوطء بالإذن كالطعام والكسوة المشترك يطالب البائع أيهما شاء، فإذا استحقت الجارية فعلى الواطئ العقر بأخذ المستحق بالفقر أيهما شاء، والله أعلم.(7/421)
كتاب الوقف قال أبو حنيفة: لا يزول ملك الواقف عن الوقف، إلا أن يحكم به الحاكم، أو يعلقه بموته، فيقول: إذا مت فقد وقفت داري على كذا. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يزول ملكه بمجرد القول، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يزول حتى يجعل للوقف وليا ويسلمه إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الوقف]
م: (كتاب الوقف) ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الوقف، وقال الشراح كلهم: مناسبة ذكر الوقف بعد الشركة هي أن المقصود بكل منهما الانتفاع بما يزيد على أصل المال وليس بموجبه كما سنبين، والوقف في اللغة: الحبس، من قولهم وقفت الدابة إذا تبعته في السير.
وقال ابن دريد: الوقف: مصدر وقفت الدابة أوقفتها وقفًا، ووقف بنفسه وقوفًا يتعدى ولا يتعدى، ومنه وقف الأرض على ولده؛ لأنه جنس الملك عليه.
وقيل للموقوف: وقف، تسمية بالمصدر وتجمع على أوقاف كوقت يجمع على أوقات، وقالوا: لا يقال فيه: أوقف إلا في لغة رديئة [ ... ] كذا في " الصحاح ".
وقال شمس الأئمة: الوقف شريعة عبارة عن: حبس المملوك عن التمليك من الغير وسيجيء مشروحًا. م: (قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يزول ملك الواقف عن الوقف، إلا أن يحكم به الحاكم، أو يعلقه بموته، فيقول: إذا مت فقد وقفت داري على كذا) ش: هذا كلام القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - غير أن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - قدم ذكر لفظ أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يزول ملك الواقف عن الوقف عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا مت فقد وقفت داري على كذا.
هذا كلام غير المصنف والباقي مثله، وفي " المحيط " لشمس الأئمة الحلواني: بشرط جواز الوقف على قول أبي حنيفة وزفر - رحمهما الله - أن يكون موصى به حتى لو لم يوص به لا يصح ويبقى على ملكه، ويجوز له بيعه، ولو ورث عنه إلا أن يخبر الورثة فيصير جائزًا أو يتأبد الوقف.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يزول ملكه بمجرد القول، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يزول حتى يجعل للوقف وليًا ويسلمه إليه) ش: هذا أيضًا لفظ القدوري.
وهذا يدل على أن الوقف عندهما جائز في حال الصحة أو المرض، إلا أنهما اختلفا فيما بينهما، قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز مشاعًا كان أو منوعًا سلمه إلى المتولي أو لم يسلمه(7/422)
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الوقف لغة هو الحبس يقول: وقفت الدابة، أو وقفتها بمعنى، وهو في الشرع عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة بمنزلة العارية، ثم قيل: المنفعة معدومة، والتصدق بالمعدوم لا يصح، فلا يجوز الوقف أصلا عنده، وهو الملفوظ في الأصل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شرط التأبيد أو لم يشترطه.
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز إلا باستجماع شرائطه وهي ثلاثة أن يكون مقسومًا مخرجًا من يده سلمًا إلى المتولي، وإن شرطا فيه التأبيد وهو أن يجعل آخره إلى سبيل خير لا ينقطع أبدًا كذا قال في " الأسبيجابي ".
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (الوقف لغة) ش: أي من حيث لغة العرب. م: (هو الحبس يقول: وقفت الدابة، أو وقفتها بمعنى) ش: أي بمعنى واحد وقد مر الكلام فيه مقتضى.
م: (وهو) ش: أي الوقف. م: (في الشرع عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة) ش: على الفقراء أو على جهة من سبيل الخيرات. م: (بمنزلة العارية) ش: يعني جواز الوقف عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - جواز العارية فيرجع فيه ويباع.
وفي " شرح الطحاوي ": الوقف عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ثلاثة أوجه: في وجه لا يجوز، وهو ما إذا وقف داره أو أرضه في صحة فلا يجوز، وإن اشترط التأبيد وسلمه إلى المتولي يجوز بيعه، ويكون ميراثًا عن الواقف، وفي وجه: يجوز.
وهذا إذا وقفه في حال حياته، وجعل وصية بعد وفاته فإنه يجوز من ثلث ماله، وفي وجه: لا يجوز في ظاهر الرواية، وهو ما إذا وقف في مرض موته، فهو كالوقف في حال صحته.
وروى الطحاوي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجوز في هذا كله كالوصية بعد وفاته، وقيل: الوقف جائز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لكن ليس بلازم حتى يجوز إعادته إلى يده، ولو قضى القاضي بلزومه يلزم بالإجماع لأنه مجتهد فيه، وعندهما - رحمهما الله - لازم على كل حال، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ثم قيل: المنفعة معدومة، والتصدق بالمعدوم لا يصح، فلا يجوز الوقف أصلًا، عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وهو الملفوظ في الأصل) ش: يعني عدم جواز الوقف عنده هو الملفوظ في " المبسوط " فإنه قال عنه: فإن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجيز ذلك.(7/423)
والأصح: أنه جائز عنده، إلا أنه غير لازم بمنزلة العارية، وعندهما حبس العين على حكم ملك الله تعالى فيزول ملك الواقف عنه إلى الله تعالى على وجه تعود منفعته إلى العباد، فيلزم، ولا يباع، ولا يوهب، ولا يورث. واللفظ ينتظمهما، والترجيح بالدليل. لهما «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين أراد أن يتصدق بأرض له تدعى ثمغ: " تصدق بأصلها، لا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال قاضي خان: وظاهر هذا اللفظ أخذ بعض الناس، فقال: عند أبي حنيفة: لا يجوز الوقف، وليس كما ظن بل هو جائز عند الكل بالأحاديث المشهورة وإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلا عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - وعامة الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إذا صح الوقف يزول ملك الواقف لا إلى مالك.
فيلزم ولا يملك، وهو الأصح عند الشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وقال الشافعي في قول، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية: ينتقل إلى مال الموقوف عليه إن كان أهلا للملك لامتناع السابعة، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو حبس العين على ملك الواقف فلا يزول ملكه لكن لا يباع ولا يورث ولا يوهب وقال أبو العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من أصحاب الشافعي -: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهذا قول آخر للشافعي وأحمد - رحمهما الله - لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حبس الأصل وسأل الثمرة.
[حكم الوقف]
م: (والأصح) ش: أي أن الوقف. م: أنه جائز عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (إلا أنه غير لازم بمنزلة العارية) ش: فإنها جائزة غير لازمة، فإذا كان كذلك فتصرف المنفعة إلى جهة الوقف وتبقى العين على ملك الواقف فله أن يرجع، ويجوز بيعه. ويورث عنه.
م: (وعندهما حبس العين) ش: أي الوقف حبس العين. م: (على حكم ملك الله تعالى، فيزول ملك الواقف عنه إلى الله تعالى على وجه تعود منفعته إلى العباد، فيلزم، ولا يباع، ولا يوهب، ولا يورث) ش: حاصل هذا أن تقدير الوقف عندهما أن يقول: إزالة العين عن ملكي إلى الله عز وجل وجعلته محبوسًا في ملكه، ومنفعته للعباد، وإذا كان تقدير الوقف هذا عندهما أصح ولو لم يكن يوصي به فيلزم ولا يباع ولا يورث.
م: (واللفظ ينتظمهما) ش: أي لفظ الوقف ينتظم أي يتناول ما قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو حبس العين على ملك الواقف ويتناول ما قال صاحباه، وهو حبس العين على ملك الله. م: (والترجيح بالدليل) ش: أي ترجيح أحد المذهبين على الآخر بالدليل وشرع بعد ذلك في بيان الدليل فقال:
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. م: «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين أراد أن يتصدق بأرض له تدعى ثمغ: " تصدق بأصلها لا(7/424)
تباع، ولا تورث، ولا توهب» ولأن الحاجة ماسة إلى أن يلزم الوقف منه؛ ليصل ثوابه إليه على الدوام، وقد أمكن دفع حاجته بإسقاط الملك، وجعله لله تعالى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تباع ولا توهب ولا تورث» ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - كلهم عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «أصاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بخيبر أرضًا فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " أصبت أرضًا لم أصب مالًا قط أنفس منه فكيف تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، فتصدق بها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث في الفقراء والقربى، والرقاب، وفي سبيل الله» وزاد عن بشر: والضيف، ثم اتفقوا: " لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقًا غير متمول فيه "، وفي رواية البخاري: «أن هذا المال كان نخلًا» .
وأخرج الطحاوي بإسناده عن نافع عن ابن عمر «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أن يتصدق بماله ثمغ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تصدق به تقسم ثمره وتحبس أصله لا يباع ولا يوهب ".» انتهى.
وفيه نص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الوقف لازمة الفروع خلافًا لمن يبطله جملة وهو قول شريح - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفيه أن الوقف لا يجوز بيعه ولا هبته. ولا يكون ميراثًا، وفيه أن الوقف يجوز بلفظ: حبسه بل الأصل فيه هذا اللفظ؛ لأن معنى الوقف في اللغة: الحبس، وفيه أن يقسم الموقف له بأن يتناول من عليه الوقف بالمعروف، ولا يتناول أكثر من حاجته، هذا إذا لم يعين له الواقف شيئًا معينًا.
فإذا عينه فله أن يأخذ ذلك قليلًا أو كثيرًا، قوله ثمغ بفتح الثاء المثلثة وسكون الميم، وبالغين المعجمة وهي بقعة على نحو ميل من المدينة، [..] تلقاء المدينة كان فيها مال لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فخرج إليه يومًا ففاتته صلاة العصر، فقال [..] تمنع عن الصلاة. أشهدكم أنها صدقة.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقد وقع سماعنا هنا بلا تنوين، وقد أثبت في كتب غرائب الحديث المصححة عند الثقات منسوبًا وغير منسوب كما في " وعد "، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ونسخة مولانا حافظ الدين بغير تنوين للعلمية والتأنيث. انتهى.
قلت: سبحان الله هذا الكلام منهما كلام من لم يميز بالنحو، وقد ثبت فيه الأمثل، وهذا يجوز فيه الوجهان عدم المصرف للعلتين المذكورتين.
وجواز الصرف بسكون وسطه فإنه يقاوم أحد العلتين فبقي الاسم بعلة واحدة، فلا يمنع من الصرف. م: (ولأن الحاجة ماسة إلى أن يلزم الوقف منه) ش: أي من الوقف. م: (ليصل ثوابه إليه) ش: أي إلى الواقف. م: (على الدوام، وقد أمكن دفع حاجته بإسقاط الملك، وجعله لله تعالى) ش: يمكن أن(7/425)
إذ له نظير في الشرع وهو المسجد، فيجعل كذلك، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " لا حبس عن فرائض الله تعالى "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يكون هذا جوابًا عما يقال كيف يلزم الوقف ويخرج عن ملكه لا إلى مالك؟ وتقدير الجواب أنه يمكن أن يدفع حاجة الواقف عن ملكه بإسقاطه عنه، وجعله لله تعالى، فإذا جعل لله تعالى يلزم، ويدوم ويصل إليه ثوابه.
م: (إذ له نظير في الشرع) ش: هذا أيضًا جواب عما يقال كيف يخرج الوقف عن ملكه ولا يدخل في ملك أحد، وهو محال.
وتقدير الجواب أن هذا له نظير في الشرع. م: (وهو المسجد) ش: فإن اتخاذ المسجد يلزم بالاتفاق وهو إخراج الملك من المنفعة، وهو مالك، ولا يدخل في ملك أحد، وكالعبد المشترى لخدمة الكعبة، فإنه يصح ولا يدخل في ملك.
وفي " المبسوط ": ثم للناس حاجة إلى ما يرجع إلى مصالح معايشهم ومعادتهم كسائر الخانات والرباطات، واتخاذ المقابر، ويستدلون بالعتق أيضًا، فإنه إزالة الملك لا إلى مالك، وصح ذلك على قدر التقرب.
م: (فيجعل كذلك) ش: أي فيجعل الوقف كالمسجد، وفي " فتاوى قاضي خان " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولم يأخذ، والقول قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - للآثار المشهورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة وتعامل الناس باتخاذ الرباطات والخانات أولها أوقاف خليل الرحمن - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -، فهي باقية إلى اليوم، وكذا أوقاف الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - بمكة والمدينة.
م: (ولأبي حنيفة قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا حبس عن فرائض الله تعالى» ش: هذا [الحديث] أخرجه الدارقطني في " سننه - في الفرائض " عن عبد الله بن لهيعة عن أخيه عيسى بن لهيعة عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حبس عن فرائض الله» وعبد الله بن لهيعة وأخوه عيسى ضعيفان، ورواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " موقوفًا على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال حدثنا هشام عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا حبس عن فرائض الله تعالى إلا ما كان من سلاح أو كراع. وعن شريح أنه قال: جاء محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبيع الحبيس، هذا رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه - في البيوع " حدثنا وكيع، وابن أبي زائدة عن مسعر عن ابن عون عن شريح قال: " جاء محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبيع الحبيس " وأخرجه البيهقي.(7/426)
«عن شريح: " جاء محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ببيع الحبس» ؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: لا حبس عن فرائض الله تعالى، أي لا مال يحبس بعد موت صاحبه عن القسمة بين ورثته لكنهم يحملون هذا على ما كان عليه أهل الجاهلية من البحيرة والسائبة والوجلة والحاسي، ويقولون الشرع أبطل ذلك كله.
وكنا نقول النكرة في موضع النفي تعم فيتناول كل طريق يكون فيه حبس عن الميراث إلا ما قام عليه الدليل.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحبس ما كانوا يفعلونه في الابتداء قبل سورة النساء كانوا [..] العين على ملكهم، ويتصدقون بالعلة ويرون أن بيع الأصل ممتنعًا لمكان الصدقة بالعلة فجاء محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونسخ هذا وجوز بيعه.
والمعنى هذه المسألة أن هذا تصدق بالعلة المعدومة لا بالعين فلا يمنع البيع ولا الإرث، إذا لم يكن موصى به قياسًا على ما لو قال: تصدقت بعلة هذه الأرض على الفقراء والمساكين أبدًا.
وفي " مبسوط " شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الاستدلال بهذا الحديث غير مستقيم؛ لأنه إنما يستقيم هذا إذا تعلق به حق الوارث، فأما إذا كان الوقف قبل التعلق فليس حبس عن فرائض الله كالتصدق بالمنقولات.
فإن قلت: قال ابن حزم - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قولهم لا حبس عن فرائض الله، قول فاسد؛ لأنهم لا يختلفون في جواز الهبة والصدقة في الحياة والوصية بعد الموت، فكل هذا سقط لفرائض الله.
قلت: لا نسلم أن هذه الأشياء سقط لفرائض الورثة، أما الهبة والصدقة فإنهما يكونان في حياة الرجل في ذلك الوقت وفرائض للورثة وأما الوصية فإنها لا تنعقد إلا عن الثلث، ففرائض الورثة في الثلثين.
فإن قلت: هذا الحديث ضعيف، كما مر من جهة أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -[..] فكيف يستدل به لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: أخرجه الطحاوي بتمامه بإسناد صحيح فقال حدثنا سليمان بن شعيب عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عطاء بن السائب - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال سألت شريحًا ... الحديث، وفيه: «لا حبس عن فرائض الله» ، فإن كان الذي روى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ضعيف، فهذا الذي روى.
م: (وعن شريح) ش: صحيح، ومع هذا جاء عنه أيضًا. م: (" جاء محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ببيع الحبس ") ش: كما ذكرنا وشريح هو ابن الحارث الكندي وهو قاضي عمر وعثمان وعلي(7/427)
ولأن الملك باق فيه، بدليل أنه يجوز الانتفاع به زراعة، وسكنى، وغير ذلك، والملك فيه للواقف، ألا ترى أن له ولاية التصرف فيه بصرف غلاته إلى مصارفها ونصب القوام فيها، إلا أنه يتصدق بمنافعه فصار شبيه العارية؛ ولأنه يحتاج إلى التصدق بالغلة دائما، ولا تصدق عنه إلا بالبقاء على ملكه، ولأنه لا يمكن أن يزال ملكه لا إلى مالك، ولأنه غير مشروع مع بقائه كالسائبة بخلاف الإعتاق؛ لأنه إتلاف، وبخلاف المسجد؛ لأنه جعل خالصا لله تعالى، ولهذا: لا يجوز الانتفاع به، وهاهنا لم ينقطع حق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الخلفاء الراشدين المهديين، ومعنى جاء محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: جاء شرعه ببيع الحبس.
م: (ولأن الملك باق فيه) ش: أي في الوقف. م: (بدليل أنه يجوز الانتفاع به) ش: أي بالوقف. م: (زراعة، وسكنى، وغير ذلك) ش: نحو إسكانه وإجارته كما يشفع بالمملوكات. م: (والملك فيه للواقف) ش: بدليل تصرفه فيه بالأشياء المذكورة، ثم أوضح ذلك بقوله. م: (ألا ترى أن له ولاية التصرف فيه بصرف غلاته إلى مصارفها ونصب القوام فيه) ش: بضم القاف وتشديد الواو جمع قائم بالأمر، والضمير في مصارفها يرجع إلى الغلات، وفي منصب القوام فيها إلى المصارف. م: (إلا أنه) ش: أي للواقف. م: (يتصدق بمنافعه فصار) ش: أي الوقف. م: (شبيه العارية) ش: من حيث إن ملك الغير قائم فيها، والغير ينتفع بمنافعها. م: (ولأنه يحتاج إلى التصدق بالغلة دائمًا) ش: فاستدعى دوام ملك الواقف وهو معنى قوله. م: (ولا تصدق عنه إلا بالبقاء على ملكه) ش: وفي بعض النسخ إلا بالبقاء على ملكه.
م: (ولأنه لا يمكن أن يزال ملكه لا إلى مالك، ولأنه غير مشروع مع بقائه) ش: أي مع بقاء ملكه. م: (كالسائبة) ش: وهي الناقة التي تسيب لنذر، كان الرجل يقول: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة. ومعناه: أن الوقف بمنزلة تسيب أهل الجاهلية من حيث إن العين لا يخرج من أن يكون مملوكًا له منتفعًا به فإنه لو سيب دابته لم تخرج عن ملكه فكذلك إذا وقف داره أو أرضه.
م: (بخلاف الإعتاق) ش: جواب عما يقال لو كان أزال الملك لا إلى ملك غير مشروع لما جاز العتق، فلأنه إزالة الملك الثابت في العبد من غير تمليك لأحد فأجاب عنه بقوله. م: (لأنه إتلاف) ش: أي إسقاط صفة المملوكية. م: (وبخلاف المسجد) ش: وجواب عن قياسهم الوقف على المسجد فأجاب عنه بقوله. م: (لأنه جعل خالصًا لله تعالى) ش: أي لأجل أنه جعل خالصًا لله تعالى.
م: (ولهذا: لا يجوز الانتفاع به، وهاهنا) ش: أي لا ينتفع به بشيء من منافع الملك وإن كان يصلح لها، والأصل في الشرع وهو الكعبة، فإنها محرزة عن ملك العباد فألحقت سائر المساجد بها، والموقف ليس بإحالته إلى الله تعالى كما ذكرنا، وهاهنا يعني في الوقف. م: (لم ينقطع حق(7/428)
العبد عنه، فلم يصر خالصًا لله تعالى. قال - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " الكتاب ": لا يزول ملك الواقف، إلا أن يحكم به الحاكم أو يعلقه بموته، وهذا في حكم الحاكم صحيح؛ لأنه قضاء في مجتهد فيه، أما في تعليقه بالموت فالصحيح أنه لا يزول ملكه، إلا أنه تصدق بمنافعه مؤبد، فيصير بمنزلة الوصية بالمنافع مؤبدًا فيلزم حينئذ، والمراد بالحاكم: المولى، فأما المحكم ففيه اختلاف المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العبد عنه، فلم يصر خالصًا لله تعالى. فقال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (قال في " الكتاب ") ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ". م: (لا يزول ملك الواقف، عن الوقف إلا أن يحكم به الحاكم أو يعلقه بموته) ش: إلى هنا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - غير أن فيه لا يزول ملك الواقف عند أبي حنيفة، فأسقط المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ثم قال: م: (وهذا) ش: أي هذا الذي ذكره القدوري. م: (في حكم الحاكم صحيح؛ لأنه قضاء في مجتهد فيه) ش: صورة الحكم إن سلم الواقف ما وقفه إلى المتولي، ثم يريد أن يرجع عنه فينازعه بعدم اللزوم فيختصمان إلى القاضي فيقضي القاضي بلزومه.
م: (أما في تعليقه بالموت فالصحيح أنه لا يزول ملكه) ش: يعني أن المشايخ اختلفوا على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقيل يزول الملك بالتعليق بالموت؛ لأنه وقت خروج الأملاك عن ملكه فالتعليق به يدل على أن مراده الخروج من الملك، وقيل: لا يزول، وهو الصحيح؛ لأن الوقف يصدق بالعلة، وهو ما لا يستدعي زوال أصل الملك.
وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (إلا أنه تصدق بمنافعه مؤبد) ش: يعني دائمًا. م: (فيصير بمنزلة الوصية بالمنافع مؤبدًا فيلزم حينئذ، والمراد بالحاكم) ش: الذي ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (المولى) ش: بفتح اللام الذي ولاه الإمام عمل القضاء. م: (فأما المحكم) ش: بتشديد الكاف المفتوحة الذي ينفذ عليه الحكم في حادثة معينة باتفاق المتخاصمين. م: (ففيه اختلاف المشايخ) ش: قال في كتاب " القضاء - من خلاصة الفتاوى ": وأما حكم المحكم في اليمين المضافة وسائر المجتهدات، والأصح أن ينفذ، لكن لا يفتى به. كذا ذكر في " الأقضية ".
وقال في " الفتاوى الصغرى ": الحاكم المحكم إذا قضى عليه المحكمين فظاهر الجواب " أنه ينفذ، وجواب " فتاوى السمرقندي " أنه لا يبعد زجرًا لهم عن ذلك، وإني أقول: لا يحل لأحد أن يفعل ذلك، يعني في إطلاق المصارف، ولا يفتى على هذا.
وحكي عن شمس الأئمة الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: مسألة الحاكم المحكم يعلم ولا يفتي به، وكان يقول ظاهر المذهب أنه يجوز، إلا أن القاضي الإمام الأستاذ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أبا علي البيهقي، كان يقول: يكتم هذا الفعل ولا يفتي به لئلا يتطرق الجهال إلى هذا فيؤدي إلى(7/429)
ولو وقف في مرض موته. وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو بمنزلة الوصية بعد الموت، والصحيح أنه لا يلزمه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما يلزمه، إلا أنه يعتبر من الثلث، والوقف في الصحة في جميع المال، وإذا كان الملك يزول عندهما، يزول بالقول عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بمنزلة الإعتاق لأنه إسقاط الملك عنه، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا بد من التسليم إلى المتولي؛ لأنه حق الله تعالى، وإنما يثبت فيه في ضمن التسليم إلى العبد؛ لأن التمليك من الله تعالى - وهو مالك الأشياء - لا يتحقق مقصودا، وقد يكون تبعا لغيره فيأخذ حكمه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هدم مذهبنا، فأما المذهب [..] الأول، إلى هنا لفظ كتاب " الفتاوى الصغرى ".
[وقف في مرض موته]
م: (ولو وقف في مرض موته، قال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم الحجري البصري الطحاوي ونسبه إلى طحا قرية من أعمال الأشمونين بالصعيد الأدنى، الإمام المحدث الفقيه الحنفي، ولد في سنة تسع وعشرين ومائتين ومائة ليلة الخميس مستهل ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة بمصر، ودفن بالقرافة.
م: (هو) ش: أي الوقف. م: (بمنزلة الوصية بعد الموت) ش: يعني يلزم الوقف حينئذ على مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بخلاف الوقف في الصحة فإنه لا يلزم عنده، ثم قال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": وقد روى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة أن ذلك لا يجوز منه في مرضه، كما لا يجوز في صحته، ثم قال: وهو الصحيح على أصوله.
م: (والصحيح أنه لا يلزم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما يلزمه، إلا أنه يعتبر من الثلث، والوقف في الصحة في جميع المال، وإذا كان الملك يزول عندهما، يزول بالقول عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي يزول الملك عن الواقف بمجرد قوله: وقفت. م: (وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأكثر أهل العلم. وفي " التميمة ": والفتوى على قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي " المحيط "، والسرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ومشايخنا أخذوا بقول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ترغيبًا للناس في الوقف، ومشايخ بخارى أخذوا بقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (بمنزلة الإعتاق) ش: حيث يزول ملك المعتق بمجرد قوله: أعتقت عبدي. م: (لأنه) ش: أي لأن الإعتاق. م: (إسقاط الملك عنه) ش: عن الملك. م: (وعند محمد لا بد من التسليم إلى المتولي؛ لأنه حق الله تعالى، وإنما يثبت فيه) ش: أي في الوقف. م: (في ضمن التسليم إلى العبد؛ لأن التمليك من الله تعالى - وهو مالك الأشياء - لا يتحقق مقصودًا) ش: فيأخذ الملك من الله تعالى حكم التمليك من غيره حتى يشترط فيه التسليم والقبض، وقوله وهو مالك الأشياء جملة معترضة بين اسم إن وخبرها. م: (وقد يكون تبعًا لغيره فيأخذ حكمه) ش: أي قد يكون التمليك تبعًا لغيره أي ضمنًا؛(7/430)
فينزل منزلة الزكاة والصدقة. قال: وإذا صح الوقف على اختلافهم، وفي بعض النسخ: وإذا استحق مكان قوله: وإذا صح خرج من ملك الواقف، ولم يدخل في ملك الموقوف عليه؛ لأنه لو دخل في ملك الموقوف عليه، لا يتوقف عليه، بل ينفذ بيعه كسائر أملاكه، ولأنه لو ملكه لما انتقل عنه بشرط المالك الأول، كسائر أملاكه،
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقوله: خرج عن ملك الواقف يجب أن يكون قولهما على الوجه الذي سبق ذكره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن التمليك من الله قصدًا لا يثبت [..] من شيء، بل يثبت ضمنًا ولا يثبت قصدًا فيأخذ التمليك من الله حكم التمليك من غيره حتى يشترط فيه التسليم والقبض. م: (فينزل منزلة الزكاة والصدقة) ش: يعني ينزل التمليك من الله تعالى في الوقف في ضمن التسليم إلى العبد منزلة تملك المال من الله تعالى في الزكاة حيث يتحقق التمليك منه في ضمن التسليم إلى الفقير.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (وإذا صح الوقف على اختلافهم) ش: أي على اختلاف العلماء في صحته حيث لا يصح عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - على رواية الأصل خلافًا لصاحبيه.
م: (وفي بعض النسخ) ش: أي في بعض نسخ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (وإذا استحق مكان قوله، وإذا صح خرج من ملك الواقف، ولم يدخل في ملك الموقوف عليه) ش: خلافًا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
م: (لأنه) ش: أي لأن الوقف. م: (لو دخل في ملك الموقوف عليه، لا يتوقف عليه) ش: أي على ملكه، وجاز له إخراجه عن ملكه كسائر أملاكه وهو معنى قوله. م: (بل ينفذ بيعه كسائر أملاكه) ش: أي كما ينفذ تصرفه في سائر أملاكه.
ومع هذا لا يجوز لعدم دخوله في ملكه. م: (ولأنه لو ملكه) ش: دليل بأن في عدم دخوله في ملكه، أي: ولأن الموقوف عليه لو ملك الموقوف. م: (لما انتقل عنه بشرط المالك الأول) ش: وهو الواقف يعني ما كان ينتقل إلى من بعده ممن شرط الوقف بقوله: بعد هذا الموقوف عنه إلى الفقراء رعاية لشرطه.
لكن ليس له ذلك بالاتفاق يدل على أنه لا يدخل في ملك الموقوف عليه. م: (كسائر أملاكه) ش: أي كسائر أملاك الموقوف عليه.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (وقوله) ش: أي وقول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ". م: (خرج عن ملك الواقف يجب أن يكون قولهما على الوجه الذي سبق ذكره) ش: يعني أن الوقف عندهما حبس العين على ملك الله تعالى، وبزوال الملك الواقف عنه إلى الله تعالى، فلما زال ملك الواقف عندهما يجب أن يكون قوله خرج على ملك الواقف قولهما(7/431)
قال: ووقف المشاع جائز عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن القسمة من تمام القبض، والقبض عنده ليس بشرط، فكذا تتمته، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز؛ لأن أصل القبض عنده شرط، فكذا ما يتم به، وهذا فيما يحتمل القسمة، فأما فيما لا يحتمل القسمة فيجوز مع الشيوع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بخلاف قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإن بالوقف عنده حبس العين على ملك الواقف، والتصدق بالنفقة.
فإذا كان محبوسًا على ملك الواقف لا يصح قوله: خرج عن ملك الواقف، على مذهب، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله يجب أن يكون قولهما مطلقًا لا يستقيم. أجيب عنه: بأنه قال: وإذا صح الوقف لم تدل الصحة على اللزوم كالعقود الصحيحة الغير اللازمة من العارية والوكالة والمضاربة، فكان القول بخروج الوقف عن ملك الواقف إذا صح الوقف، قولهما: إذا حكم به، فحينئذ خروجه قول الكل.
[وقف المشاع]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (ووقف المشاع جائز عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. م: (لأن القسمة من تمام القبض) ش: لأن القبض للخيارة وتمام الخيارة مما يقسم بالقسمة. م: (والقبض عنده) ش: أي عند أبي يوسف. م: (ليس بشرط فكذا تتمته) ش: وهي القسمة وهو كونه مقسومًا مقررًا.
وهذا لأن الوقف إسقاط الملك كالإعتاق، والشيوع لا يمنع العتاق فَلَا خَوْفٌ الوقف أيضًا، يؤيده «حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أصاب [..] ، واستأذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها فأمره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بوقفها» .
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز؛ لأن أصل القبض عنده شرط، فكذا ما يتم به) ش: أي ما يتم به القبض وهو كونه مقسومًا.
وقال الولوالجي في " فتاوى مشايخ بلخ ": أخذوا بقول أبي يوسف ومشايخ بخارى - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أخذوا بقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ثم قال: وبه يفتى ثم قال: فإن رفع إلى القاضي فقضى بجوازه جاز عند الكل؛ لأنه مختلف فيه فيصير متفقًا عليه باتصال القضاء.
وقال في " خلاصة الفتاوى ": ولو وقفت نصف الحمام، جاز يعني بلا خلاف من أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - لأنه لا يحتمل القسمة فصار كسهم المشاع فيما لا يحتمل القسمة.
م: (وهذا) ش: أي وهذا الخلاف المذكور بين أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -. م: (فيما يحتمل القسمة، وأما فيما لا يحتمل القسمة) ش: كالحمام والرحى ونحوهما. م: (فيجوز مع الشيوع(7/432)
عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا؛ لأنه يعتبره بالهبة والصدقة المنفذة إلا في المسجد والمقبرة، فإنه لا يتم مع الشيوع فيما لا يحتمل القسمة أيضا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن بقاء الشركة يمنع الخلوص لله تعالى، ولأن المهايأة فيهما في غاية القبح بأن يقبر فيه الموتى سنة ويزرع سنة، ويصلى فيه في وقت ويتخذ إصطبلا في وقت بخلاف الوقف، لإمكان الاستغلال وقسمة الغلة. ولو وقف الكل، ثم استحق جزءا منه، بطل في الباقي، عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الشيوع مقارن، كما في الهبة، بخلاف ما إذا رجع الواهب في البعض، أو رجع الوارث في الثلثين بعد موت المريض، وقد وهب أو وقف في مرضه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا؛ لأنه) ش: أي لأن محمدا. م: (يعتبره) ش: أي الوقف بالنوع. م: (بالهبة) ش: أي لجواز الهبة المشاعة. م: (والصدقة المنفذة) ش: وهي التي سلمت إلى الفقير وجعلت مملوكة له، وفيه لا يمنع الشيوع، وكذا في الصدقة الموقوفة، وهي التي لم يملكها الموقوف عليه إلا إذا تصدق عليه بمنفعتها. م: (إلا في المسجد والمقبرة) ش: استثناء من قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعني لا يصح وقف المسجد والمقبرة فيما لا يحتمل القسمة أيضًا بأن كان الموضع صغيرًا لا يصلح بما أراده الواقف من المسجد والمقبرة على تقدير القسمة؛ لأن المسجد خالص لله تعالى، والشيوع بناء في الخلوص، ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18] (الجن: الآية 18) .
م: (فإنه لا يتم) ش: أي فإن الوقف لا يتم. م: (مع الشيوع فيما لا يحتمل القسمة أيضًا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن بقاء الشركة يمنع الخلوص لله تعالى) ش: كما ذكرناه.
م: (ولأن المهايأة فيهما) ش: أي في المسجد والمقبرة. م: (في غاية القبح بأن يقبر بأن يقبر فيه الموتى سنة ويزرع سنة ويصلى فيه في وقت ويتخذ إصطبلًا في وقت بخلاف الوقف) ش: أي وقف المشاع، فإنه لا قبح فيه.
م: (لإمكان الاستغلال وقسمة الغلة) ش: بين مستحق الوقف وبين صاحب الملك. م: (ولو وقف الكل) ش: ذكر هذا تفريعًا لمسألة القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أنه وقف عقارًا كله. م: (ثم استحق جزءًا منه) ش: بأن مالكه مستحقًا في النصف أو الثلث أو الربع ونحوهما. م: (بطل) ش: أي الوقف. م: (في الباقي) ش: بعد الاستحقاق. م: (عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الشيوع مقارن) ش: للقبض؛ لأن حق المستحق كان ثابتًا في الموقوف حال الوقف فلم يتم القبض، وهو شرط عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فبطل في الباقي لانتفاء الشرط. م: (كما في الهبة) ش: المشاعة لمقارنة الشيوع فيه عند القبض. م: (بخلاف ما إذا رجع الواهب في البعض) ش: في النصف مثلًا بعد قبض الموهوب له. م: (أو رجع الوارث في الثلثين) ش: بأن وهب في مرض موته فمات ورجع الوارث. م: (بعد موت المريض، وقد وهب أو وقف في مرضه) ش: والحال أن الواهب وهب في مرضه أو(7/433)
وفي المال ضيق؛ لأن الشيوع في ذلك طارئ، ولو استحق جزء مميز بعينه لم يبطل في الباقي لعدم الشيوع، ولهذا جاز في الابتداء وعلى هذا الحكم الهبة والصدقة المملوكة.
قال: ولا يتم الوقف عند أبي حنيفة ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - حتى يجعل آخره لجهة لا تنقطع أبدا. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا سمى فيه جهة تنقطع جاز وصار بعدها للفقراء وإن لم يسمهم، لهما أن موجب الوقف زوال الملك بدون التمليك، وأنه يتأبد كالعتق، فإذا كانت الجهة يتوهم انقطاعها لا يتوفر عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الواقف وقف في مرضه.
م: (وفي المال ضيق) ش: أي والحال أن في المال ضيقًا، يعني لا مال سواه لا يسع المال الهبة ولا الوقف، وأصله أن حكم هبة المريض كحكم الوهب حتى يصير خروجها من الثلث، وكذلك الوقف، ثم إن الوارث لما أبطله فيما زاد على الثلث بقي في الثلث صحيحًا؛ لأن حق الوارث إنما يثبت بعد الموت، فإبطاله بعد الموت في القدر الذي بطل فيقدر على ذلك الوقف ولا يتعين الوقف في الجزء الشائع.
م: (لأن الشيوع في ذلك طارئ) ش: وهذا مجرى الرجوع في الهبة ظاهرًا، وكذا في رجوع الورثة؛ لأن حقهم يثبت في المال ثم سد فيكون طارئًا. م: (ولو استحق جزء مميز بعينه) ش: يعني في المسألة المذكورة. م: (لم يبطل) ش: أي الوقف. م: (في الباقي لعدم الشيوع) ش: لأن المفسد هو الشيوع وهو منتف هنا.
م: (ولهذا جاز في الابتداء) ش: أي ولكون استحقاق جزء معين في المكان غير مانع جاز الوقف في ابتداء الأمر لعدم الشيوع المفسد. م: (وعلى هذا الحكم الهبة والصدقة المملوكة) ش: أي للفقير، يعني إذا استحق جزءًا معينًا لا تبطل الهبة والصدقة في الباقي.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (ولا يتم الوقف عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - حتى يجعل آخره لجهة لا تنقطع أبدًا) ش: مثل أن يقول: علي كذا وكذا ثم على فقراء المسلمين حيث ما وجدوا.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا سمى فيه جهة تنقطع جاز، وصار بعدها) ش: أي بعد تلك الجهة. م: (للفقراء وإن لم يسمهم) ش: مثل أن يثبت علي كذا وكذا، وعلى أمهات أولاده، جاز، صار بعدها للفقراء. م: (لهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -. م: (أن موجب الوقف زوال الملك بدون التمليك) ش: يعني لا إلى ملك. م: (وأنه) ش: أي وأن زوال الملك بدون التمليك. م: (يتأبد كالعتق) ش: فإنه زوال الملك وهو متأبد.
م: (فإذا كانت الجهة) ش: التي عينها الواقف. م: (يتوهم انقطاعها لا يتوفر عليها) ش: أي على(7/434)
مقتضاه، ولهذا كان التوقيت مبطلا له كالتوقيت في البيع ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المقصود هو التقرب إلى الله تعالى، وهو موفر عليه؛ لأن التقرب تارة يكون في الصرف إلى جهة تنقطع، ومرة بالصرف إلى جهة تتأبد، فيصح في الوجهين، وقيل: إن التأبيد شرط بالإجماع، إلا أن عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يشترط ذكر التأبيد؛ لأن لفظة الوقف والصدقة مبينة عنه، لما بينا أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوقف. م: (مقتضاه) ش: وهو التأبيد. م: (ولهذا كان التوقيت) ش: في الوقف. م: (مبطلًا له) ش: أي للوقف كما إذا وقف داره عشرين سنة فلا يجوز. م: (كالتوقيت في البيع) ش: إلى عشرة أيام مثلًا.
فإن قيل: كيف يستقيم قوله: إنه زوال الملك بدون التمليك على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن عنده الوقف حبس العين على ملك الواقف، ولم يزل ملكه، وهذا تناقض.
أجيب: بأن في " المبسوط " و" الذخيرة " و" التتمة " وغيرها جعل زوال الملك بشرط التأبيد، [وهو] قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خاصة وقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
فعلى ما ذكر في الكتاب جاز أن يكون عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان أو أراد هاهنا ما إذا حكم الحاكم بصحته ولزومه فحينئذ يخرج بالاتفاق، وفرع أبو حنيفة على قول من يرى خروجه وهو قولهما كما في المزارعة.
م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المقصود) ش: من الوقف. م: (هو التقرب إلى الله تعالى) ش: بالتصدق بالنفقة.
م: (وهو موفر عليه) ش: أي بالتقرب إلى الله تعالى موفر على جعل الوقف بجهة تنقطع وبجهة لا تنقطع. م: (لأن التقرب تارة يكون في التصرف إلى جهة تنقطع ومرة بالصرف إلى جهة تتأبد) ش: يعني لا تنقطع. م: (فيصح في الوجهين) ش: فعلى هذا إذا انقطعت الجهة عاد الوقف إلى ملكه إن كان حيّا، وإلى ملك ورثته إن كان ميتًا.
ولقائل أن يقول: هذا التعليل غير مطابق لما ذكر عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه قال: وصار بعدها للفقراء فإن لم يسمهم وذلك يدل على أن التأبيد شرط.
والجواب: أن المروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أمران: أحدهما: أنه لا يشترط التأبيد أصلًا، والثاني: أنه يشترط، لكن لا يشترط ذكره باللسان.
والمصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أشار إلى القول الأول بالتعليل وإلى الثاني بذكر المذهب، واستدل عليه بقوله. م: (وقيل: إن التأبيد شرط بالإجماع، إلا أن عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يشترط ذكر التأبيد؛ لأن لفظة الوقف والصدقة مبينة عنه) ش: أي عن التأبيد. م: (لما بينا) ش: فيما مضى. م: (أنه)(7/435)
إزالة الملك بدون التمليك كالعتق، ولهذا قال في " الكتاب " في بيان قوله، وصار بعدها للفقراء، وإن لم يسمهم وهذا هو الصحيح، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر التأبيد شرط؛ لأن هذه صدقة بالمنفعة أو بالغلة، وذلك قد يكون مؤقتا وقد يكون مؤبدا، فمطلقه لا ينصرف إلى التأبيد فلا بد من التنصيص.
قال: ويجوز وقف العقار؛ لأن جماعة من الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وقفوه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي أن الوقف. م: (إزالة الملك بدون التمليك كالعتق، ولهذا قال في " الكتاب ") ش: أي قال في " مختصر القدوري ". م: (في بيان قوله) ش: أي قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (وصار بعدها للفقراء، وإن لم يسمهم) ش: أي الفقراء.
م: (وهذا) ش: أي كون التأبيد شرطًا، وذلك عند غير أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (هو الصحيح، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر التأبيد شرط؛ لأن هذه صدقة بالمنفعة أو بالغلة، وذلك قد يكون مؤقتًا وقد يكون مؤبدًا، فمطلقه لا ينصرف إلى التأبيد فلا بد من التنصيص) ش: على التأبيد، وفي " الذخيرة " و" الأسرار ": لو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة مؤبدة تصير وقفًا بالإجماع ولو لم يقل مؤبدة تصير وقفًا في قول عامة من يجيز الوقف أن الصدقة تثبت مؤبدة؛ لأنها تحتمل الفسخ كالإعتاق.
وإذا انقطعت الجهة تصرف إلى المساكين، وبه قال مالك، وأحمد في رواية، والشافعي في قول، وقال الشافعي في قول: يصرف إلى أقارب الواقف المحتاجين، وبه قال أحمد في رواية، وفي رواية عن أحمد: يوضع في بيت المال.
[وقف العقار]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (ويجوز وقف العقار) ش: هذا لفظ، وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (لأن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وقفوه) ش: أي العقار وقد مر أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقف أرضًا تسمى ثمغ.
وفي " الخلافيات " للبيهقي قال أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي: تصدق أبو بكر بداره بمكة على ولده فهي إلى اليوم، وتصدق عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بربعه عند المروة على ولده فهي إلى اليوم، وتصدق علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بأرضه وداره بمصر وبأمواله بالمدينة على ولده فذلك إلى اليوم، وتصدق سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بربعه عند المروة وبداره بالمدينة وبداره في مصر على ولده، فذلك إلى اليوم، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تصدق بدومة فهي إلى اليوم، وعمرو بن العاص - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالوهد بالطائف وداره بمكة والمدينة على ولده، فذلك إلى اليوم، وإلا يحضر في كثير.(7/436)
ولا يجوز وقف ما ينقل، ويحول. قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا على الإرسال لقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال أبو يوسف: إذا وقف ضيعة ببقرها وأكرتها وهم عبيده، جاز، وكذا سائر آلات الحراثة؛ لأنه تبع للأرض في تحصيل ما هو المقصود، وقد يثبت من الحكم تبعا، ما لا يثبت مقصودا، كالشرب في البيع، والبناء في الوقف، وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - معه فيه؛ لأنه لما جاز إفراد بعض المنقول بالوقف عنده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا يجوز وقف ما ينقل ويحول) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (وهذا على الإرسال) ش: أي على الإطلاق، ففي قوله في الكتاب: ولا يجوز وقف ما ينقل ويحول مطلقًا من غير ذكر خلاف. م: (لقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا وقف ضيعة ببقرها وأكرتها) ش: [..] وأكرتها بفتح الكاف [..] الأكار وهو الفلاح.
م: (وهم عبيده) ش: أي عبيد الواقف. م: (جاز، وكذا سائر آلات الحراثة) ش: أي وكذا يجوز وقف آلات الحراثة مع البقر.
م: (لأنه) ش: أي لأن المذكور من هذه الأشياء. م: (تبع للأرض في تحصيل ما هو المقصود) ش: وهو الغلة. م: (وقد ثبت من الحكم تبعًا) ش: أي بطريق التبعية. م: (ما لا يثبت مقصودًا) ش: أي من حيث القصد. م: (كالشرب في البيع) ش: أي لجواز الشرب في بيع الأرض. م: (والبناء في الوقف) ش: أي ولجواز الوقف تبعًا للأرض.
ولا يجوز وقفه مقصودًا. م: (وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - معه) ش: أي مع محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (فيه) ش: أي في جواز وقف المنقول.
م: (لأنه لما جاز إقرار بعض المنقول بالوقف عنده) ش: أي عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما يتعارف الناس وقفه كالمنشار والفأس والجنازة والمصحف لقراءة القرآن والقدور والمراجيل، وما لم يتعارف الناس وقفه لا يجوز وقفه كوقف الثياب وغيرها من الأمتعة، وقال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يجوز وقف كل ما ينتفع به مع بقاء عينه، وعن مالك في الكراع والسلاح روايتان.
وأما وقف ما لا ينتفع به إلا بالإتلاف كالذهب والفضة والمأكول والمشروب، فقيل: جائز في قول عامة الفقهاء وأهل العلم إلا ما حكي عن مالك والأوزاعي - رحمهما الله -: أن وقف الطعام يجوز.
ولم يحكمه أصحاب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وليس بصحيح، والمراد بالذهب والفضة الدراهم والدنانير وما ليس بحلي، أما الحلي فيصح وقفه عند أحمد والشافعي - رحمهما الله -(7/437)
فلأن يجوز الوقف فيه تبعا أولى. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز حبس الكراع والسلاح، معناه: وقفه في سبيل الله، وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - معه فيه على ما قالوا، وهذا استحسان، والقياس أن لا يجوز، لما بينا من قبل، وجه الاستحسان الآثار المشهورة فيه منها قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وأما خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقد حبس أدرعا وأفراسا له في سبيل الله تعالى»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فلأن يجوز الوقف فيه) ش: أي في المنقول. م: (تبعًا) ش: أي من حيث التبعية. م: (أولى) ش: بالجواز. م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز حبس الكراع) ش: أي الخيل، قال في " ديوان الأدب ": الكراع: الخيل.
وكذا فسره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما يأتي عن قريب إن شاء الله تعالى، والكراع من البعير والبقر والغنم، ما استدق من الساق يذكر ويؤنث والجمع كرع وأكارع. كذا في " الصحاح "، [و] المراد الأول.
م: (والسلاح) ش: أي وحبس السلاح أيضًا، وقال المصنف. م: (معناه) ش: معنى قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز حبس الكراع والسلاح. م: (وقف في سبيل الله عز وجل، وأبو يوسف معه) ش: أي مع محمد. م: (فيه) ش: أي في الجواز حبس الكراع والسلاح. م: (على ما قالوا) ش: أي المشايخ.
م: (وهذا) ش: أي جواز حبس الكراع والسلاح. م: (استحسان) ش: أي بطريق الاستحسان. م: (والقياس أن لا يجوز، لما بينا من قبل) ش: أي من حبس شرط التأبيد؛ لأن المنقول لا يتحقق فيه التأبيد لعدم بقائه. م: (وجه الاستحسان الآثار المشهورة فيه) ش: أي في جواز حبس الكراع والسلام. م: (منها) ش: أي من الآثار. م: (قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (وأما خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقد حبس أدرعًا وأفراسًا له في سبيل الله تعالى) ش: هذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على الصدقة فمنع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله، وأما خالد، فإنكم تظلمون خالدًا، فقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله ... » الحديث.
قوله: أعتده: جمع قلة عتاد بكسر العين، وتخفيف التاء المثناة من فوق وهو ما أعده الراجل من السلاح والدواب وآلة الحرب، ويروى أنه احتبس أدراعه وأعتاده، وقال الدارقطني: قال أحمد بن حنبل: قال علي بن حفص: [من قال] : وأعتاد أخطأ فيه وصحفه، وإنما هو أعتده، والأدراع جمع درع وهي الزروية.(7/438)
وطلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حبس دروعه في سبيل الله تعالى، ويروى: وأكراعه، والكراع الخيل ويدخل في حكمه الإبل؛ لأن العرب يجاهدون عليها، وكذا السلاح يحمل عليها، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجوز وقف ما فيه تعامل من المنقولات: كالفأس، والمر، والقدو، والمنشار، والجنازة، وثيابها، والقدور، والمراجل، والمصاحف، وعند أبي يوسف: لا يجوز لأن القياس إنما يترك بالنص، والنص ورد في الكرع والسلاح فيقتصر عليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال ابن الأثير: وجاء في رواية وأعبده بالباء الموحدة جمع قلة للعبد، وقال الكاكي: وروي أن خالدًا جمع ثلاثمائة فرس في خلافة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مكتوب على لماذه حبس في سبيل الله.
م: (وطلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حبس دروعه في سبيل الله تعالى) ش: هذا غريب جدًا ليس له أصل. م: (ويروى: وأكراعه) ش: والرواية غير صحيحة من وجهين: أحدهما: أنها لم تنقل عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - من الرواة الثقات، والآخر من جهة اللفظ؛ لأن كراعًا عليه وزن فعال، ولم يسمع جمعه على أفعال.
م: (والكراع: الخيل، ويدخل في حكمه الإبل؛ لأن العرب يجاهدون عليها) ش: وقال الأنباري: كان القياس أن يقول: في حكمها؛ لأن الكراع مؤنث سماعي.
قلت: يجوز في المؤنث السماعي التذكير بالنظر إلى ظاهر اللفظ.
م: (وكذا السلاح يحمل عليها) ش: أي كما يقوى عليها محمد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أيضًا فيحبس كذلك. م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز وقف ما فيه تعامل من المنقولات: كالفأس، والمر) ش: بفتح الميم وتشديد الراء هو الآلة التي يعمل بها في الطين. م: (والقدوم) ش: بفتح القاف وضم الدال المخففة لا غير، وجمعه قدم قاله ابن رزين وهي التي فتحت بها.
م: (والمنشار) ش: بكسر الميم الآلة التي ينشر بها الخشب. م: (والجنازة) ش: بكسر الجيم وهي التي يحمل عليها الميت. م: (وثيابها) ش: أي ثياب الجنازة، وهي التي تغطى بها الجنازة. م: (والقدور) ش: جمع قدر. م: (والمراجل) ش: بالجيم جمع مرجل وهو قدر من نحاس، كذا في " ديوان الأدب ". وقال ابن دريد: المرجل بمعروف عرفي صحيح.
قلت: الفرق بين القدر والمرجل أن المرجل لا يكون إلا من نحاس، والقدر قد تعمل من طين ويسمى المبيرام.
م: (والمصاحف) ش: جمع مصحف وهو مشهور. م: (وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز؛ لأن القياس إنما يترك بالنص، والنص ورد في الكراع والسلاح فيقتصر عليه) ش: أي على النص(7/439)
ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: القياس قد يترك بالتعامل كما في الاستصناع، وقد وجد التعامل في هذه الأشياء. وعن نضر بن يحيى أنه وقف كتبه إلحاقا لها بالمصحف، وهذا صحيح لأن كل واحد تمسك للدين تعليما وتعلما وقراءة، وأكثر فقهاء الأمصار على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وما لا تعامل فيه لا يجوز عندنا وقفه، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كل ما يمكن الانتفاع به مع بقاء أصله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: القياس قد يترك بالتعامل كما في الاستصناع، وقد وجد التعامل في هذه الأشياء) ش: أي في وقف هذه الأشياء المذكورة، كالفأس والمر إلى آخره.
م: (وعن نضر بن يحيى أنه وقف كتبه إلحاقًا لها بالمصحف) ش: أي لأجل إلحاق وقف الكتب يجوز وقف المصاحف، وقال صاحب " التحفة ": وعن نضر بن يحيى أنه وقف كتبه على أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وقال في " النوازل ": سئل أبو نصر عن رجل وقف الكتب قال: كان محمد بن سلمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجيزه، وكان نصر بن يحيى يجيزه وقد وقف كتبه. وقال الفقيه: وكان أبو جعفر يخبر ذلك وبه يأخذ، إلى هنا لفظ كتاب النوازل.
ونصر بن يحيى من كبار علمائنا في بلخ مات سنة ثمان وستين ومائتين، وكان تلميذًا للحسن بن زياد، ومات الحسن سنة أربع ومائتين، وهو تلميذ أبي حنيفة ومحمد بن سلمة - رحمهما الله - مات في شوال سنة ثمان وسبعين ومائتين. وأبو نصر محمد بن سلام مات سنة خمس وثلاثمائة وأبو جعفر الهندواني مات ببخارى سنة ست وستين وثلاثمائة وهو ابن اثنين وستين سنة، وكان أستاذ الفقيه أبي الليث، كان أبو نصر تلميذ محمد بن سلمة ونصر جميعًا، وهما تلميذا عصام بن يوسف القاضي، ومات عصام ببلخ سنة خمس عشرة ومائتين.
م: (وهذا صحيح) ش: أي قول نصر بن يحيى صحيح. م: (لأن كل واحد) ش: أي من الكتب. م: (يمسك) ش: على صيغة المجهول. م: (للدين) ش: أي لأجل مصالح الدين معلمًا، أي من حيث. م: (تعليمًا وتعلمًا) ش: أي من حيث التعليم.
م: (وقراءة) ش: أي من حيث القراءة. م: (وأكثر فقهاء الأمصار على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: في جواز وقف الأشياء المذكورة، وفي " فتاوى قاضي خان "، اختلف المشايخ في وقف الكتب، وجوزه الفقيه أبو الليث، وعليه الفتوى.
م: (وما لا تعامل فيه) ش: أي والذي لا يتعامل الناس فيه الوقف من المنقولات كالثياب والحيوان. م: (لا يجوز وقفه عندنا، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كل ما يمكن الانتفاع به مع بقاء أصله) ش: احترز به عن الدراهم والدنانير، فإن الانتفاع الذي خلفته الدراهم والدنانير لأجله وهو الثمنية لا يمكن سهمًا مع بقاء أصله في ملك.(7/440)
ويجوز بيعه ويجوز وقفه؛ لأنه يمكن الانتفاع به فأشبه العقار والكراع والسلاح. ولنا أن الوقف فيه لا يتأبد منه على ما بيناه، فصار كالدراهم والدنانير بخلاف العقار ولا معارض من حيث السمع ولا من حيث التعامل، فبقي على أصل القياس، وهذا لأن العقار يتأبد والجهاد سنام الدين، فكان معنى القربة فيهما أقوى فلا يكون غيرهما في معناهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ويجوز بيعه) ش: احترز به عن حمل الناقة والجارية فإنه لا يجوز بيعه، فكذا وقفه عنده أيضًا، وقوله. م: (ويجوز وقفه) ش: خبر قوله كلما يمكن. م: (لأنه يمكن الانتفاع به، فأشبه العقار والكراع والسلاح) ش: ووجه أن الأصل لا يجوز وقف الكراع والسلاح، أي فأشبه ما ينتفع به مع بقاء أصل العقار في صحة وقفه. م: (ولنا أن الوقف فيه) ش: أي في النقول التي ذكرها.
م: (لا يتأبد منه) ش: أي والحال لا بد من التأبيد، وما لا يتأبد لا يجوز وقفه. م: (على ما بيناه) ش: فيما حتى من اشتراط التأبيد. م: (فصار) ش: أي كل ما ينتفع به مع بقاء أصله. م: (كالدراهم والدنانير) ش: في عدم الجواز. م: (بخلاف العقار) ش: فإن فيه التأبيد، وإن لم يذكر ولم يشترط.
م: (ولا معارض من حيث السمع) ش: جواب عن قوله فأشبه العقار والكراع والسلاح أيضًا كالدراهم والدنانير كونه يعارض وأرجح من حيث السمع.
م: (ولا من حيث التعامل) ش: جواب عما يقال ترك الأصل في الكراع والسلاح معارض من حيث السمع، وهو ليس بموجود في [ ... ] القدوم وغيرهما، فلتكن صورة النزاع مقيدة على ذلك ووجه أن لها معارضًا من حيث التعامل وليس بموجود في صورة النزاع كالعبيد والإماء والثياب والبسط وأمثالها.
م: (فبقي على أصل القياس وهذا) ش: استظهار على أن إلحاق غير العقار والكراع بهما غير جائز فقال. م: (لأن العقار يتأبد والجهاد سنام الدين) ش: أي معظم الدين؛ لأنه من فروض الكفاية وسنام البعير معروف.
م: (فكان معنى القربة فيهما) ش: أي في الكراع والسلاح. م: (أقوى) ش: لأن الكراع آلة الجهاد، الذي هو فرض كفاية، والقربة بسائر المقولات تطوع. م: (فلا يكون) ش: في معناه، فلا يكون. م: (غيرهما) ش: أي غير الكراع والسلاح. م: (في معناهما) ش: يقولهما ولم ينكر التعامل اعتمادًا على شهرة كون التعامل أقوى من القياس، فجاز أن يترك في العبد.
قال صاحب " المحيط ": وقف مائة وخمسين دينارًا على مرضى الوصية تصح وتدفع الذهب إلى إنسان بمضاربة يتعلمها يستعملها ويصرف الربح، وفي " المحيط ": وكذلك وقف الدراهم، والمكيل والموزون.(7/441)
قال: وإذا صح الوقف لم يجز بيعه ولا تمليكه إلا أن يكون مشاعا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيطلب الشريك القسمة فيصح مقاسمته، أما امتناع التمليك فلما بينا. وأما جواز القسمة فلأنها تميز وإفراد غاية الأمر أن الغالب في غير المكيل والموزون يكون بمعنى المباذلة، إلا أن في الوقف جعلنا الغالب معنى الإفراز نظرا للوقف، فلم يكن بيعا وتمليكا، ثم إن وقف نصيبه من عقار مشترك فهو الذي يقاسم شريكه؛ لأن الولاية إلى الواقف وبعد الموت إلى وصيه، وإن وقف نصف عقار خالص له، فالذي يقاسمه القاضي أو يبيع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال تاج الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز صرف الأودية الموقوفة في الماشان إلى الغني، ولا يجوز وقف الأودية فيه إلا إذا ذكر الفقراء، ولو قال: على الفقراء والأغنياء يجوز، وتدخل الأغنياء تبعًا.
[بيع الوقف أو تمليكه]
م: (قال) ش: أي القدوري. م: (وإذا صح الوقف لم يجز بيعه ولا تمليكه إلا أن يكون مشاعًا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيطلب الشريك القسمة، فيصح مقاسمته) ش: إلى هنا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (أما امتناع التمليك فلما بينا) ش: أشار به إلى ما ذكر في أوائل الكتاب من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «تصدقا بأصلها لا تباع ولا تورث ولا توهب» ، ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله لهما: إن موجب الوقف زوال الملك بدون التمليك، وهذا قوله: ولا يتم الوقف عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - حتى يجعل آخره لجهة لا يقطع أبدًا.
ويجوز أن يكون إشارة إلى ما ذكر من المعنى بقوله، ولأن الحاجة ماسة إلى آخره، وقوله إلا أن يكون مشاعًا استثناء من قوله: لم يجز بيعه وهو منقطع أو متصل؛ لأن معنى المبادلة في قسمة العقار راجح، فجعل كأنه بيع الساعة.
م: (وأما جواز القسمة فلأنها) ش: أي فلأن القسمة. م: (تميز وإفراز) ش: أي تميز للحقوق، وإفراد كل نصيب منه والممنوع التمليك لا الإفراد. م: (غاية الأمر أن الغالب في غير المكيل والموزون يكون بمعنى المباذلة) ش: وهي في العقار والعروض والحيوانات للتفاوت المكيل والموزون والعددي الذي لا يتفاوت، فإن الإفراد هو الغالب منها.
م: (إلا أن في الوقف جعلنا الغالب معنى الإفراز نظرًا للوقف) ش: في حق الفقراء. م: (فلم يكن) ش: القسمة فيه. م: (بيعًا وتمليكًا) ش: قرع المصنف على مسألة القدوري فقال: م: (ثم إن وقف نصيبه من عقار مشترك، فهو الذي يقاسم شريكه) ش: لا القاضي. م: (لأن الولاية إلى الواقف وبعد الموت إلى وصيه، وإن وقف نصف عقار خالص له فالذي يقاسمه القاضي أو يبيع) ش: أي الواقف(7/442)
نصيبه الباقي من رجل ثم يقاسمه المشتري ثم يشتري ذلك منه؛ لأن الواحد لا يجوز أن يكون مقاسما ومقاسما، ولو كان في القسمة فضل دراهم إن أعطى الواقف لا يجوز لامتناع بيع الوقف، وإن أعطى الواقف جاز، ويكون بقدر الدراهم شراء.
قال: والواجب أن يبتدئ من ارتفاع الوقف بعمارته شرط ذلك الواقف أو لم يشترط؛ لأن قصد الواقف صرف الغلة مؤبدا، ولا تبقى دائمة إلا بالعمارة فيثبت شرط العمارة اقتضاء، ولأن الخراج بالضمان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (نصيبه الباقي) ش: من العقار وهو النصف.
م: (من رجل ثم يقاسمه الواقف المشتري ثم يشتري ذلك منه؛ لأن الواحد لا يجوز أن يكون مقاسمًا) ش: بكسر السين. م: (ومقاسمًا) ش: بفتح السين؛ لأن القسمة تجري بين اثنين، فلا يتأتى في واحد.
م: (ولو كان في القسمة فضل دراهم) ش: بأن يكون أحد النصيبين أجود من الآخر، فجعل بأن الجودة دراهم. م: (إن أعطى) ش: أي المشتري. م: (والواقف ذلك) ش: أي فضل دراهم. م: (لا يجوز لامتناع بيع الوقف) ش: لأن الأخذ للدراهم إذا كان الواقف يصير بائعًا بعض الوقف، فلا يجوز بيع الوقف.
م: (وإن أعطى الواقف) ش: أي وإن أعطى الواقف الشريك. م: (جاز) ش: لأن الواقف مشتر لا بائع، فكأنه اشترى بعض نصيب شريكه لوقفه. م: (ويكون بقدر الدراهم شراء) ش: أي يكون للمشتري وليس بوقف.
كذا في " الفتاوى الظهيرية "، و" الكافي "، وفي " النهاية ": ويصير الواقف مشتريًا بمقابلة الدراهم وقفًا، أي كذلك الشيء الذي اشتراه فيجوز.
م: (قال) ش: أي القدوري. م: (والواجب أن يبتدئ من ارتفاع الوقف بعمارته شرط الواقف ذلك أو لم يشترط) ش: إلى هنا كلام القدوري، ثم قال المصنف. م: (لأن قصد الواقف صرف الغلة مؤبدًا، ولا تبقى دائمة إلا بالعمارة فيثبت شرط) ش: الواقف والعمارة اقتضى ضرورة التصدق.
م: (ولأن الخراج بالضمان) ش: معناه الغلة سبب أن ضمنت وقد مر بيانه في أول كتاب اللقيط، يعني لما كان صلة الوقف للموقوف عليهم كانت العمارة أيضًا عليهم.
(وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: " «الخراج بالضمان» " لفظ الحديث، وهو من جوامع الكلم؛ لإجراء معارضة جرى مجرى المثل واستعمل في كل مرة مقابلة منفعته، ومعناه ما ذكرناه الآن، ولم يبين أصلًا الحديث، فنقول حديث أبي عبيدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في كتاب " غريب الحديث " عن مروان الفزاري، عن ابن أبي ذئب، عن [ ... ]- رَحِمَهُ اللَّهُ -.(7/443)
وصار كنفقة العبد الموصى بخدمته، فإنها على الموصى له بها، ثم إن كان الوقف على الفقراء، ولا يظفر لهم وأقرب أموالهم هذه الغلة فيجب فيها، ولو كان الوقف على رجل بعينه وأخره للفقراء فهو في ماله أي ماله شاء في حال حياته، ولا يؤخذ من الغلة؛ لأنه معين يمكن مطالبته، وإنما تستحق العمارة عليه بقدر ما تبقى الموقوف على الصفة الذي وقفه، وإن خرب يبنى على ذلك الوصف؛ لأنها بصفتها صارت غلتها مصروفة إلى الموقوف عليه. فأما الزيادة على ذلك فليست بمستحقة عليه، والغلة مستحقة له، فلا يجوز صرفها إلى شيء آخر إلا برضاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن عروة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قضى أن الخراج بالضمان» قال أبو عبيد معناه - والله أعلم -: الرجل يشتري المملوك [..] فقضى أنه يرد العبد على البائع بالعيب، ويرجع بالثمن فيأخذه ويكون له الغلة طيبة وهو الخراج، وإنما طابت له الغلة لأنه كان ضامنًا للعبد، ولو فات من مال المشتري لأنه في يده. إلى هنا لفظ أبي عبيد.
م: (وصار) ش: أي حكم. م: (كنفقة العبد الموصى بخدمته فإنها) ش: أي فإن نفقته. م: (على الموصى له بها) ش: أي بالخدمة؛ لأن الغرم بإزاء الغنم والخراج بالضمان. م: (ثم إن كان الوقف على الفقراء، ولا يظفر بهم) ش: أي بالفقراء والظفر الفوز، وإنما لا يظفر بهم لأنهم لا يحصون.
م: (وأقرب أموالهم هذه الغلة فيجب فيها) ش: أي فتجب العمارة في الغلة. م: (ولو كان الوقف على رجل بعينه وأخره للفقراء فهي) ش: أي العمارة. م: (في ماله) ش: أي ماله. م: (شاء في حال حياته ولا يأخذ من الغلة) ش: أي لا يأخذ منها صاحبها لأنه قال في مال أي مال شاء.
وهذه الغلة أيضًا من ماله، فلو لم يفد بذلك فمقتضى كلامه ما قاله الأكمل.
م: (لأنه) ش: أي لأن الموقوف عليه معنى. م: (معين يمكن مطالبته، وإنما تستحق العمارة عليه بقدر ما يبقى الموقوف على الصفة التي وقفه، وإن خرب) ش: أي الوقف. م: (يبنى على ذلك الوصف) ش: أي الذي كان الواقف وقفه عليه.
م: (لأنها) ش: أي لأن العمارة. م: (بصفتها صارت غلتها مصروفة إلى الموقوف عليها، فأما الزيادة على ذلك) ش: أي على الوصف الذي وقف الواقف بذلك الوصف.
م: (فليست) ش: أي الزيادة. م: (بمستحقة) ش: أي على الموقوف. م: (عليه والغلة مستحقة له) ش: أي للموقوف عليه. م: (فلا يجوز صرفها) ش: أي صرف ما يستحقه. م: (إلى شيء آخر) ش: من زيادة العمارة. م: (إلا برضاه) ش: أي برضاء الموقوف عليه.(7/444)
ولو كان الوقف على الفقراء فكذلك عند البعض وعند الآخرين يجوز ذلك، والأول أصح لأن الصرف إلى العمارة ضرورة إبقاء الوقف ولا ضرورة في الزيادة، وإن وقف دارا على سكنى ولده فالعمارة على من له السكنى؛ لأن الخراج بالضمان على ما مر فصار كنفقة العبد الموصى بخدمته. فإن امتنع من ذلك أو كان فقيرا أجرها الحاكم وعمرها بأجرتها، وإذا عمرها ردها إلى من له السكنى؛ لأن في ذلك رعاية الحقين حق الواقف وحق صاحب السكنى؛ لأنه لو لم يعمرها تفوت السكنى أصلا والأول أولى، ولا يجبر الممتنع على العمارة لما فيه من إتلاف ماله فأشبه امتناع صاحب البذر في المزارعة، فلا يكون امتناعه رضا منه ببطلان حقه لأنه في حيز التردد، ولا يصح إجارة من له السكنى لأنه غير مالك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو كان الوقف على الفقراء فكذلك) ش: أي لا تجوز الزيادة على البناء على الصفة التي وقفه الواقف عليها. م: (عند البعض) ش: أي بعض المشايخ.
م: (وعند الآخرين يجوز ذلك) ش: أي ما يعمل من الزيادة. م: (والأول) ش: أي عدم جواز الزيادة في البناء. م: (أصح) ش: مما قاله البعض. م: (لأن الصرف إلى العمارة ضرورة إبقاء الوقف ولا ضرورة في الزيادة، وإن وقف دارًا على سكنى ولده فالعمارة على من له السكنى؛ لأن الخراج بالضمان على ما مر) ش: عن قريب. م: (وصار كنفقة العبد الموصى بخدمته) ش: نفقته تجب عليه لأن الغرم بالغنم.
م: (فإن امتنع) ش: أي ولده. م: (من ذلك أو كان فقيرًا أجرها الحاكم وعمرها بأجرتها، وإذا عمرها ردها إلى من له السكنى؛ لأن في ذلك رعاية الحقين حق الواقف وحق صاحب السكنى؛ لأنه لو لم يعمرها) ش: أي القاضي. م: (تفوت السكنى أصلًا والأول) ش: أي عمارة القاضي الوقف بالأجرة. م: (أولى) ش: من البطالة؛ لأن يفضي إلى استيصال حق السكنى.
م: (ولا يجبر الممتنع) ش: أي عن العمارة من الموقوف عليهم. م: (على العمارة لما فيه من إتلاف ماله) ش: بالنفقة على العمارة، فله الامتناع من الضرر وهو إتلاف ماله. م: (فأشبه امتناع) ش: حال هذا الممتنع. م: (صاحب البذر في المزارعة) ش: بأن عقد اثنان عقد المزارعة وأحدهما عليه البذر، ثم امتنع من عليه البذر من العمل لا يجبر عليه لئلا يلزم الضرر، وهو إتلاف ماله.
م: (ولا يكون امتناعه) ش: من العمارة. م: (رضًا منه ببطلان حقه لأنه في حيز التردد) ش: أي في ناحية التردد، وذلك لأنه يحتمل أن يكون امتناعه لعدم القدرة بعدم النفقة، ويحتمل أن يكون لرجائه إصلاح القاضي ومؤنته، ويحتمل أن يكون لإبطال حقه بالنزول عنه، فلما ترددت الدلالة لم يثبت الرضا بالشك.
م: (ولا يصح إجارة من له السكنى لأنه غير مالك) ش: للعين لأن الإجارة تملك المنافع(7/445)
قال: وما انهدم من بناء الوقف وآلته صرفه الحاكم في عمارة الوقف إن احتاج إليه، وإن استغنى عنه أمسكه حتى يحتاج إلى عمارته فيصرفه فيه لأنه لا بد من العمارة ليبقى على التأبيد فيحصل مقصود الواقف، فإن مست الحاجة إليه في الحال صرفها فيها وإلا أمسكها حتى لا يتعذر عليه ذلك أوان الحاجة فيبطل المقصود، وإن تعذر إعادة عينه إلى موضعين وصرف ثمنه إلى المرمة صرفا للبدل إلى مصرف المبدل. ولا يجوز أن يقسمه يعني النقض بين مستحقي الوقف لأنه جزء من العين ولا حق للموقوف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعوض، والتمليك إنما يتحقق من المالك، وهنا من له السكنى ليس بمالك للسكنى، وإنما تجب منفعة السكنى ليسهل الثواب الواقف، ونوقض بالمستأجر فإن له أن يؤجر الدار وليس بمالكها.
وأجيب: بأنه مالك المنفعة، ولهذا أقيمت العين في ابتداء العقد مقام المنفعة لئلا يلزم تمليك المنفعة المعدومة، ومن له السكنى أقيمت له النفقة، ولهذا لم يقم العين مقام المنفعة في ابتداء العقد مقام المنفعة في ابتداء الوقف، ولا يلزم من جواز تمليك المالك جواز تمليك غيره.
[ما انهدم من آلة الوقف]
م: (قال) ش: أي القدوري. م: (ومن هدم من بناء الوقف وآلته) ش: قال صاحب " النهاية " قوله وآلته يحتمل أن يكون مجرورًا بالعطف على النبي بمعنى ما انهدم من آلة الوقف بأن يلي خشب الوقف.
وقيد ويحتمل أن يكون مرفوعًا بالعطف على ما الموصولة وهو المنقول عن الثقات لأنه لا يقال انهدمت الآلة. م: (صرفه الحاكم في عمارة الوقف إن احتاج إليه، وإن استغنى عنه أمسكه حتى يحتاج إلى عمارته فيصرفه فيه لأنه لا بد من العمارة ليبقى) ش: أي الوقف. م: (على التأبيد فيحصل مقصود الواقف، فإن مست الحاجة إليه) ش: أي إلى أن يعمر الوقف. م: (في الحال صرفها) ش: أي إلى ما انهدم من البناء وآلته. م: (فيها) ش: أي في العمارة. م: (وإلا أمسكها) ش: أي إن لم يمس الحاجة إلى العمارة في الحال سلمها. م: (حتى لا يتعذر عليه) ش: أي على الحاكم.
م: (ذلك) ش: أي الصرف. م: (أوان الحاجة) ش: أي وقت الاحتياج. م: (فيبطل المقصود) ش: من الوقف. م: (وإن تعذر إعادة عينه) ش: أي عين ما انهدم. م: (إلى موضعه بيع) ش: أي باعه القاضي. م: (وصرف ثمنه إلى المرمة) ش: أي إلى الإصلاح، يقال: رم البناء يرمه رمًا ومرمة إذا أصلحه. م: (صرفًا للبدل) ش: وهو الثمن. م: (إلى مصرف المبدل) ش: وهو الوقف. م: (ولا يجوز أن يقسمه) ش: هذا لفظ القدوري، وقال المصنف. م: (يعني النقض) ش: بضم النون وسكون القاف بمعنى المنقوض، وهو اسم للبناء المنقوض. م: (بين مستحقي الوقف) ش: من تتمة كلام القدوري، والنون فيه سقطت للإضافة.
م: (لأنه) ش: أي لأن النقض. م: (جزء من العين) ش: أي من عين الوقف. م: (ولا حق للموقوف(7/446)
عليهم فيه، وإنما حقهم في المنافع والعين حق الله تعالى فلا يصرف إليهم غير حقهم. قال: وإذا جعل الواقف غلة الوقف لنفسه أو جعل الولاية إليه جاز عند أبي يوسف، قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذكر فصلين شرط الغلة لنفسه وجعل الولاية إليه، أما الأول فهو جائز عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا يجوز على قياس قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول هلال الرازي وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيل إن الاختلاف بينهما بناء على الاختلاف في اشتراط القبض والإفراز، وقيل هي مسألة مبتدأة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عليهم فيه) ش: أي في النقض. م: (وإنما حقهم) ش: أي حق المستحقين. م: (في المنافع والعين حق الله تعالى فلا يصرف إليهم غير حقهم) ش: لما فيه من الظلم، فلا يجوز.
[جعل الواقف غلة الوقف لنفسه أو جعل الولاية إليه]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (وإذا جعل الواقف غلة الوقف لنفسه أو جعل الولاية إليه جاز عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وابن أبي ليلى والزهري وابن شريح من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[شرط الواقف الغلة لنفسه]
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (ذكر) ش: أي القدوري. م: (فصلين) ش: أحدهما هو. م: (شرط الغلة لنفسه) ش: والآخر هو قوله: م: (وجعل الولاية إليه) ش: أمام: م: (الأول) ش: وهو جعل الغلة لنفسه. م: (فهو جائز عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وقال الولوالجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " فتاواه " ومشايخ بلخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أخذوا بقول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضًا كان يفتي به أيضًا ترغيبًا للناس في الوقف.
م: (ولا يجوز على قياس قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول هلال الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال مالك وهلال الرازي وأضيف هلال إلى الرازي لكونه من أصحاب الرازي، وفي " المغرب " الرازي تصحيف.
قلت: ما وقع في نسخ الهداية إلا الرازي، والصواب ما قاله صاحب " المغرب " وهو هلال بن يحيى البصري هو من أصحاب يوسف بن خالد السمتي البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو من أصحاب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ووصية أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - مشهورة يجب حفظها لكل فقيه. وقيل: إن هلالًا أخذ الفقه عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضًا.
م: (وقيل إن الاختلاف بينهما) ش: أي بين أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (بناء على الاختلاف في اشتراط القبض والإفراز) ش: يعني عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يشترط ذلك خلافًا لمحمد، فلا جرم أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - صحح شرط الغلة لنفسه لأنه لا يشترط القبض والإفراز ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يصححه لأنه يشترطهما. م: (وقيل هي مسألة مبتدأة) ش: يعني الخلاف واقع فيها ابتداء.(7/447)
والخلاف فيما إذا شرط البعض لنفسه في حياته وبعد موته للفقراء، وفيما إذا شرط الكل لنفسه في حياته وبعد موته للفقراء، ولو وقف وشرط البعض أو الكل لأمهات أولاده ومدبريه ما داموا أحياء، فإذا ماتوا فهو للفقراء والمساكين، فقد قيل: يجوز بالاتفاق، وقد قيل هو على الخلاف أيضا وهو الصحيح؛ لأن اشتراطه لهم في حياته كاشتراطه لنفسه وجه قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الوقف تبرع على وجه التمليك بالطريق الذي قدمناه، فاشتراط البعض أو الكل لنفسه يبطله؛ لأن التمليك من نفسه لا يتحقق فصار كالصدقة المنفذة، وشرط بعض بقعة المسجد بنفسه، ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما روي «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يأكل من صدقته»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الهندواني: ليس في هذا رواية ظاهرة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا شيء ذكره في كتاب الوقف قال: إذا وقف على أمهات أولاده جاز؛ لأن الوقف عليهن بمنزلة الوقف على نفسه؛ لأن ما يكون لأم ولده حال حياته يكون له.
م: (والخلاف) ش: أي بين أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (فيما إذا شرط البعض لنفسه في حياته وبعد موته للفقراء، وفيما إذا شرط الكل لنفسه في حال حياته وبعد موته للفقراء سواء) ش: هكذا ذكر الفقيه أبو جعفر الهندواني. م: (ولو وقف وشرط البعض أو الكل) ش: أي بعض العلة أو كلها. م: (لأمهات أولاده ومدبريه ما داموا أحياء، فإذا ماتوا فهو للفقراء والمساكين، فقد قيل: يجوز بالاتفاق، وقد قيل هو على الخلاف أيضًا) ش: عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز.
م: (وهو الصحيح) ش: احترازا عن القول الأول، هو القول بالجواز بالاتفاق، ولكنه مخالف لرواية " المبسوط " و" الذخيرة "، و" التتمة "، و" فتاوى قاضي خان "، فإن فيها جعل جواز الوقف علمين بالاتفاق. م: (وجه قول محمد أن الوقف تبرع على وجه التمليك بالطريق الذي قدمناه) ش: أشار به إلى قوله لا بد من التسليم إلى المتوسط. م: (فاشتراط البعض) ش: أي بعض الغلة. م: (أو الكل) ش: أو اشتراطه كل الغلة. م: (لنفسه يبطله؛ لأن التمليك من نفسه لا يتحقق) ش: لأنه جعل فقه ملكه فقه لنفسه.
م: (فصار) ش: أي حكم هذا. م: (كما في الصدقة المنفذة) ش: فإنه لا يجوز أن يسلم قدرًا من ماله على وجه الصدقة بشرط أن يكون بعضه له، فهذا الشرط باطل. م: (وشرط بعض بقعة المسجد لنفسه) ش: بالجر عطفًا على الصدقة المتعذرة بأن وقف مسجدًا وشرطه أن يكون البعض من نفقة المسجد له، فهذا غير جائز.
م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأكل من صدقته) ش: هذا غريب ليس له أصل. روى ابن أبي شيبة في " مصنفه " في باب الأحاديث التي اعترض بها على أبي(7/448)
والمراد منها صدقته الموقوفة، ولا يحل الأكل منها إلا بالشرط، فدل على صحته، ولأن الوقف إزالة الملك إلى الله تعالى على وجه القرابة على ما بيناه، فإذا شرط البعض أو الكل لنفسه فقد جعل ما صار مملوكا لله تعالى لنفسه لا أن يجعل ملك نفسه لنفسه، وهذا جائز كما إذا بنى خانا أو سقاية أو جعل أرضه مقبرة، وشرط أن ينزله أو يشرب منه أو يدفن فيه، ولأن مقصوده القربة، وفي التصرف إلى نفسه ذلك. قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: نفقة الرجل على نفسه صدقة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - حدثنا ابن عيينة عن ابن طاووس عن أبيه أخبرني حجة الدري، قال صدقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يأكل منها أهلها بالمعروف. م: (والمراد منها صدقته الموقوفة) ش: بمعنى قوله كان من صدقته الموقوفة وصحة هذا المعنى على صحة هذا الحديث المذكور فلم يصح.
وقد قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وجه قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما رواه زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأكل من صدقته» ذكر الحديث شيخ الإسلام خواهر زاده في " مبسوطه ".. انتهى.
قلت: هذا لا يغني شيئًا في الاستدلال على المدعى. م: (ولا يحل الأكل منها إلا بالشرط) ش: لأن أكل الواقف لا يخلو من أحد الأمرين إلا أن يكونا شرطًا أولًا، والثاني: لا يحل بالإجماع فتعين الأول. م: (فدل على صحته) ش: أي صحة الشرط. م: (ولأن الوقف إزالة الملك إلى الله تعالى على وجه القربة على ما بيناه) ش: إشارة إلى ما ذكر عند قوله: ولا يتم الوقف عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - حتى يجعل آخر لهجة لا تنقطع أبدًا بقوله لهما: إن موجب الوقف زوال الملك بدون التمليك، وإلى قوله لأبي يوسف أن المقصود هو المعتبر فعلم من هذا المجموع أن الوقف إزالة الملك إلى الله تعالى على وجه القربة.
م: (فإذا شرط البعض أو الكل لنفسه فقد جعل ما صار مملوكًا لله تعالى لنفسه لا أن يجعل ملك نفسه لنفسه، وهذا جائز كما إذا بنى خانًا أو سقاية أو جعل أرضه مقبرة وشرط أن ينزله) ش: أي في الخان. م: (أو يشرب منه) ش: أي من السقاية. م: (أو يدفن فيه) ش: أي في المقبرة ويذكر الضمير في الموضعين باعتبار المذكور.
م: (ولأن مقصوده) ش: أي مقصود الواقف. م: (القربة وفي التصرف إلى نفسه ذلك) ش: أي حصول التقرب. م: (قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: «نفقة الرجل على نفسه صدقة» ش: هذا الحديث رواه ابن ماجه من حديث المقدام بن معد يكرب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما كسب الرجل كسبًا أطيب من عمل يده، وما أنفق الرجل على نفسه وأهله وولده وخادمه فهو له صدقة» ،(7/449)
ولو شرط الواقف أن يستبدل به أرضا أخرى إذا شاء ذلك فهو جائز عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الوقف جائز والشرط باطل، ولو شرط الخيار لنفسه في الوقف ثلاثة أيام جاز الوقف والشرط عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الوقف باطل وهذا بناء على ما ذكرنا، وأما فضل الولاية فقد نص فيه على قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول هلال أيضا وهو ظاهر المذهب، وقال هلال في وقفه، وقال أقوام إن شرط الواقف الولاية لنفسه كانت له، وإن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى ابن حبان عن أبي سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل كسب مالًا من حلال فأطعمه لنفسه أو كساها فمن دونه من خلق الله تعالى فإن له به زكاة» ورواه الحاكم في " مستدركه "، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
[شرط الواقف أن يستبدل بالوقف أرضا أخرى]
م: (ولو شرط الواقف أن يستبدل به) ش: أي بوقفه. م: (أرضًا أخرى إذا شاء ذلك، فهو جائز) ش: والشرط باطل وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -: والقياس لا يجوز الوقف والشرط، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وفي " الفتاوى الصغرى " عن " السير الكبير " أن استدلال الوقف باطل لا رواية.
م: (عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الوقف جائز والشرط باطل، ولو شرط الخيار لنفسه في الوقف ثلاثة أيام جاز الوقف والشرط عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: كما هو مذهبه في التوسع في الوقف.
وإنما قيد بقوله ثلاثة أيام لتكون مدة الخيار صدقة حتى لو كانت مجهولة، لا يجوز الوقف على قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضًا، وفي " النوازل " قد ذكر هلال بن يحيى هذه المسألة، وقال: إذا وقف على أنه الخيار فالوقف باطل سواء بين الخيار وقفًا أو لم يبين. وروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: يبين للخيار وقتًا معلومًا جاز الوقف والشرط، وإن لم توقت وقتًا فالوقف والشرط باطلان.
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الوقف باطل) ش: وبه قال هلال. م: (وهذا) ش: أي الخلاف المذكور. م: (بناء على ما ذكرنا) ش: أشار به إلى أنه جعل عليه الوقف لنفسه جائز عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإنه لما جاز أن بنى الواقف الغلة لنفسه ما دام حيًا، فكذلك يجوز أن يشترط الخيار لنفسه ثلاثة أيام لرأي النظر فيه.
م: (وأما فضل الولاية فقد نص فيه) ش: أي فقد نص القدوري في فضل الولاية بالجواز. م: (على قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول هلال أيضًا، وهو ظاهر المذهب، وقال هلال في وقفه، وقال أقوام - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: أي بعض المشايخ. م: (إن شرط الواقف الولاية لنفسه كانت له، وإن(7/450)
لم يشترط لم تكن له ولاية. قال مشايخنا: الأشبه أن يكون هذا قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن من أصله أن التسليم إلى القيم شرط لصحة الوقف، فإذا سلم لم يبق له ولاية فيه. ولنا أن المتولي إنما يستفيد الولاية من جهة الوقت بشرطه فيستحيل أن لا يكون له الولاية وغيره يستفيد الولاية منه، ولأنه أقرب الناس إلى هذا الوقف فيكون أولى لولايته كمن اتخذ مسجدًا يكون أولى بعمارته ونصب المؤذن فيه، وكمن أعتق عبدًا كان الولاء له لأنه أقرب الناس إليه، ولو أن الواقف شرط ولايته لنفسه وكان الواقف غير مأمون على الوقف فللقاضي أن ينزعها من يده نظرًا للفقراء، كما له أن يخرج الوصي نظرًا للصغار، وكذا إذا شرط أن ليس للسلطان ولا للقاضي أن يخرجها من يده ويوليها غيره؛ لأنه شرط مخالف لحكم الشرع فبطل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يشترط لم تكن له ولاية، قال مشايخنا الأشبه أن يكون هذا قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أن الذي ذكره هلال في وقفه وهو أن تكون الولاية للواقف إذا شرط وإلا فلا.
م: (لأن من أصله أن التسليم إلى القيم شرط لصحة الوقف فإذا سلم لم يبق له ولاية فيه) .
فإن قلت: مذهب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن التسليم إلى المتولي شرط الولاية لنفسه هنا في التسليم فما وجهه؟
قلت: لا نسلم المنافاة لأن شرط الولاية سابق، والتسليم لاحق بعد ذلك هل يكون له الولاية أم لا؟ قال: إذا وجد الشرط أولًا كانت له الولاية وإلا فلا.
م: (ولنا أن المتولي إنما يستفيد الولاية من جهة الواقف بشرطه، فيستحيل أن لا يكون له الولاية، وغيره يستفيد الولاية منه) ش: قوله: ولنا.. إلى آخره استدلال لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعبر عنه بقوله إشارة إلى أن المختار.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الوقف. م: (أقرب الناس على هذا الوقف فيكون أولى لولايته كمن اتخذ مسجدًا يكون أولى بعمارته ونصب المؤذن فيه) ش: وقال أبو نصر: العمارة للباني، وأما نصب المؤذن والإمام لأهل المحلة، ولا يكون للباني منهم ذلك. وقال أبو بكر الإسكاف: الباني أحق بنصيبهما من غيره كما العمارة كالقاضي، وقال أبو الليث: وبه نأخذ إلا أن يريد الثاني إمامًا ومؤذنًا والقوم يريدون أصلح، فلهم أن يفعلوا ذلك، كذا في " النوازل ".
م: (وكمن أعتق عبدًا كان الولاء له؛ لأنه أقرب الناس إليه، ولو أن الواقف شرط ولايته لنفسه، وكان الواقف غير مأمون على الوقف فللقاضي أن ينزعها) ش: أي الولاية. م: (من يده نظرًا للفقراء كما له) ش: أي للقاضي. م: (أن يخرج الوصي نظرًا للصغار، وكذا) ش: أي للقاضي أن يخرجه. م: (إذا شرط أن ليس للسلطان، ولا للقاضي أن يخرجها من يده ويوليها غيره؛ لأنه شرط مخالف لحكم الشرع فبطل)(7/451)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: لأن الشرع أطلق للقاضي إخراج من كان متهمًا دفعًا للضرر من الفقراء.
ولو شرط الولاية لرجل فالولاية له كما شرط بلا خلاف، وأن للواقف إخراجه فذلك.
ولو شرط أن ليس له إخراج القيم بطل شرطه؛ لأنه مخالف لحكم الشرع إن لازمه وكالة وهي ليست بلازمة.
ولو جعلت الولاية إليه في حياته وبعد مماته كان جائزًا وهو وكيل في حياته ووصي بعد وفاته.
فرع: لو قال: أرضي موقوفة إن شئت أو أجيب كان الوقف باطلًا؛ لأن تعليقه بالشرط باطل.
وكذا لو قال: أرضي صدقة موقوفة إن شئت ثم قال: شئت وكان الوقف باطلًا، ولو قال: شئت وجعلها صدقة موقوفة صح؛ لأنها ابتداء وقف له.(7/452)
فصل وإذا بنى مسجدا لم يزل ملكه عنه حتى يفرزه عن ملكه بطريقه ويأذن للناس بالصلاة فيه، فإذا صلى فيه واحد زال ملكه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أما الإفراز فلأنه لا يخلص لله تعالى إلا به، وأما الصلاة فيه فلأنه لا بد من التسليم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويشترط تسليم نوعه، وذلك في المسجد بالصلاة فيه أو لأنه لما تعذر القبض يقام تحقق المقصود مقامه، ثم يكتفى بصلاة الواحد فيه في رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكذا عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن فعل الجنس متعذر فيشترط أدناه، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يشترط الصلاة بالجماعة؛ لأن المسجد يبنى لذلك في الغالب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل وإذا بنى مسجدًا لم يزل ملكه عنه حتى يفرزه عن ملكه بطريقه]
م: (فصل) ش: لما كان أحكام هذا الفصل غير الأحكام التي قبله فصل ذلك بفصل على حدة. م: (وإذا بنى مسجدًا لم يزل ملكه عنه حتى يفرزه عن ملكه بطريقه، ويأذن للناس بالصلاة فيه، فإذا صلى فيه واحد زال ملكه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: هذا كله لفظ القدوري، وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أما الإفراز فلأنه لا يخلص لله تعالى إلا به، وأما الصلاة فيه فلأنه لا بد من التسليم عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - ويشترط تسليم نوعه) ش: أي يشترط تسليم كل شيء على ما يليق به.
م: (وذلك في المسجد بالصلاة فيه) ش: وهو معنى قوله وذلك بالصلاة فيه. م: (أو لأنه لما تعذر القبض) ش: لعدم نقص حقيقته بعلم. م: (يقام تحقق المقصود) ش: وهو الصلاة فيه. م: (مقامه) ش: أي مقام القبض.
م: (ثم يكتفى بصلاة الواحد فيه) ش: أي في المسجد. م: (في رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكذا عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية لأن فعل الجنس) ش: وهو صلاة الكل. م: (متعذر فيشترط أدناه) ش: أي أدنى فعل الجنس وهو صلاة الواحد لتعذر فعل الكل، فإن الواحد عن الكل فيما هو حقهم، وفي " المبسوط ": المسجد موضع المسجد، وقد حصل بصلاة الواحد بلا جماعة. م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يشترط الصلاة بالجماعة؛ لأن المسجد يبنى لذلك في الغالب) ش: أي قبل الصلاة بالجماعة في المسجد قبض باتفاق الروايات عن أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله.
وإذا صلى فيه واحد أو جماعة وحدانًا قبل أن يكون قبضًا فقال شيخ الإسلام خواهر زاده في " مبسوطه " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان: في رواية لا يكون قبضًا وفي رواية يكون قبضًا، وقال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير ": وإن صلى فيه واحد من المسلمين صح التسليم فيه عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضًا.(7/453)
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يزول ملكه بقوله جعلته مسجدا؛ لأن التسليم عنده ليس بشرط؛ لأنه إسقاط لملك العبد فيصير خالصا لله تعالى في سقوط حق العبد، وصار كالإعتاق، وقد بيناه من قبل. . قال: ومن جعل مسجدًا تحته سرداب أو فوقه بيت وجعل باب المسجد إلى الطريق وعزله عن ملكه فله أن يبيعه، وإن مات يورث عنه؛ لأنه لم يخلص لله تعالى لبقاء حق العبد متعلقًا به، ولو كان السرداب لمصالح المسجد جاز كما في مسجد بيت المقدس، وروى الحسن عنه أنه قال إذا جعل السفل مسجدًا وعلى ظهره مسكن فهو مسجد؛ لأن المسجد مما يتأبد، وذلك يتحقق في السفل دون العلو،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال في " الذخيرة " عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه يشترط الصلاة بالجماعة فحصل حينئذ عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان أيضًا، هذا إذا صلى فيه، أما إذا لم يصل فيه لكنه دفع إلى المتولي، فهل يكون ذلك قبضًا على قولهما، فيه اختلف المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ذكره شيخ الإسلام، قيل بأنه قبض؛ لأن المسجد له خادم يكبر ومغلق الباب والتسليم إليه قبض كما في سائر الأوقات، وقيل: يقبض لأن المسجد ليس لها متول كما يكون كسائر الأوقات، واختلف المشايخ إذا جعل أرضه مقبرة، ودفعها إلى المتولي ولم يذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المبسوط " فقال بعضهم: إنه قبض كما في الخان والسقاية.
وقال بعضهم: ليس بقبض لأن المقبرة لا يكون لها متول، وإنما ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المقبرة أنه إذا دفن فيها واحد أو اثنان فإنه يصير قبضًا. م: (وقال أبو يوسف: يزول ملكه بقوله جعلته مسجدًا؛ لأن التسليم عنده ليس بشرط لأنه إسقاط لملك العبد فيصير خالصًا لله تعالى في سقوط حق العبد، وصار كالإعتاق) ش: لأنه إسقاط للملك، وبه قالت الثلاثة. م: (وقد بيناه من قبل) ش: أشار به إلى قوله ولا يتم الوقف عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله لهما: إن موجب الوقف زوال الملك بدون التمليك، وأنه يتأكد كالعتق.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ". م: (ومن جعل مسجدًا تحته سرداب) ش: بكسر السين معرب سرورية وهو بيت يتخذ تحت الأرض للتبريد وهي معروفة سردابة. م: (أو فوقه) ش: أي فوق المسجد. م: (بيت وجعل باب المسجد إلى الطريق وعزله عن ملكه فله أن يبيعه) ش: أي لا يكون مسجدًا. م: (وإن مات يورث عنه لأنه لم يخلص لله تعالى لبقاء حق العبد متعلقًا به) ش: والمسجد ما يكون خالصًا لله تعالى.
م: (ولو كان السرداب لمصالح المسجد جاز كما في بيت المقدس) ش: لأنه حينئذ لا يكون السرداب مملوكًا لأحد كما أن سرداب بيت المقدس ليس بمملوك لأحد. م: (وروى الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه) ش: أي عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. م: (أنه قال: إذا جعل السفل مسجدًا وعلى ظهره مسكن فهو مسجد؛ لأن المسجد مما يتأبد، وذلك) ش: أي التأبيد. م: (يتحقق في السفل دون العلو)(7/454)
وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على عكس هذا؛ لأن المسجد معظم، وإذا كان فوقه مسكن أو مستغل، يتعذر تعظيمه، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه جوز في الوجهين حين قدم بغداد ورأى ضيق المنازل فكأنه اعتبر الضرورة، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه حين دخل الري أجاز ذلك كله لما قلنا. قال: وكذلك إن اتخذ وسط داره مسجدا، وأذن للناس بالدخول فيه، يعني له أن يبيعه، ويورث عنه لأن المسجد ما لا يكون لأحد فيه حق المنع، وإذا كان ملكه محيطا بجوانبه كان له حق المنع، فلم يصر مسجدا؛ لأنه أبقى الطريق لنفسه فلم يخلص لله تعالى، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: فإنه لا يتأبد فيه.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على عكس هذا) ش: أي روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عكس هذا بأن جعل العلو مسجدًا صح، وإذا جعل السفل لا يصح. م: (لأن المسجد يعظم، وإن كان فوقه مسكن أو مستغل) ش: أي يكرى للاستغلال. م: (يتعذر تعظيمه) ش:
وعن بعض المشايخ إذا كان العلو مسجدًا والسفل حوانيت موقوفة على المسجد أو على الأغلب لا بأس به؛ لأن الكل منقطع عن حقوق العباد، ولو كان تحته حوض العامة اختلف فيه على قول من يجوز اتخاذ العلو مسجدًا، قيل: لا يجوز قياسًا على الحوض الحاض، وقيل: يجوز.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه جوز في الوجهين) ش: يعني إذا كان تحته سرداب أو فوقه بيت. م: (حين قدم بغداد ورأى ضيق المنازل، فكأنه اعتبر الضرورة، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه حين دخل الري أجاز ذلك كله لما قلنا) ش: أي للضرورة.
وإنما أعاد ذكر قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بهذا الطريق ولم يقله عن أبي يوسف ومحمد مع أن هذين القولين في الحكم عندهما سواء [ ... ] ما ذكر لكل واحد من دخول مخصوص في مصر مخصوص، ولزيادة [
] التعليم بلفظ الكل، وكذلك عطف على قوله، ومن جعل مسجدًا تحته سرداب فله أن يبيعه.
م: (قال وكذلك) ش: أي يبيعه. م: (إن اتخذ وسط داره مسجدًا، وأذن في الناس بالدخول فيه) ش: وهذه من مسائل " الجامع الصغير "، وقوله: م: (يعني له أن يبيعه) ش: من كلام المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولقوله وسط بسكون السين؛ إذ المراد غير معين، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا مقيد بقيد العلامة مولانا حافظ الدين.
م: (ويورث عنه لأن المسجد ما لا يكون لأحد فيه حق المنع، وإذا كان ملكه محيطًا بجوانبه) ش: أي بجوانب المسجد. م: (كان له حق المنع فلم يصر مسجدًا؛ لأنه أبقى الطريق لنفسه فلم يخلص لله تعالى، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي روي عنه في هذه المسألة أنه قال: م: (أنه) ش: أي أن(7/455)
لا يباع ولا يوهب ولا يورث يعتبر مسجدا، وهكذا عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يصير مسجدا لأنه لما رضي بكونه مسجدا، ولا يصير مسجدا إلا بالطريق دخل فيه الطريق فصار مستحقا كما يدخل في الإجارة من غير ذكر،
قال: ومن اتخذ أرضه مسجدا لم يكن له أن يرجع فيه ولا يبيعه ولا يورث عنه؛ لأنه محرز عن حق العباد فصار خالصا لله تعالى، وهذا لأن الأشياء كلها لله تعالى، وإذا أسقط العبد ما ثبت له من الحق رجع إلى لأصله فانقطع تصرفه عنه كما في الإعتاق، ولو خرب ما حول المسجد، واستغني عنه يبقى مسجدا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه إسقاط منه فلا يعود إلى ملكه، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعود إلى ملك الباني أو إلى وارثه من بعد موته لأنه عينه لنوع قربته، وقد انقطعت فصار كحصير المسجد أو حشيشه إذا استغنى عنه إلا أن أبا يوسف يقول في الحصير والحشيش أنه ينقل إلى مسجد آخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذا المسجد. م: (لا يباع ولا يوهب ولا يورث يعتبر) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (مسجدًا، وهكذا) ش: أي روي. م: (عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يصير مسجدًا لأنه لما رضي كونه مسجدًا، ولا يصير مسجدًا إلا بالطريق دخل فيه الطريق فصار مستحقًا كما يدخل) ش: أي الطريق. م: (في الإجارة من غير ذكر) ش: بمعنى وإن لم يذكر ويدخل فيه الطريق، فصار مستحقًا.
م: (ومن اتخذ أرضه مسجدًا لم يكن له أن يرجع فيه ولا يبيعه ولا يورث عنه؛ لأنه محرز) ش: أي مخلص. م: (عن حق العباد، فصار خالصًا لله تعالى) ش: لكن هذا إذا سلم إلى المتولي أو صلى فيها بجماعة، أما إذا لم يصل فيه بجماعة، ولم يؤخذ التسليم لا يصح الوقف؛ لأن التسليم أو الصلاة بجماعة شرط عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الصلاة وحدانًا اختلاف الرواية.
م: (وهذا) ش: توضيح لقوله. م: (لأن الأشياء كلها لله تعالى، وإذا أسقط العبد ما ثبت له من الحق رجع إلى أصله) ش: وهو كونه لله تعالى. م: (فانقطع تصرفه عنه كما في الإعتاق) ش: فإنه لما أحرز مملوكه رجع إلى أصله وهو الرقة فانقطع حقه عنه. م: (ولو خرب ما حول المسجد واستغني عنه) ش: على صيغة المجهول، أي استغنى أهل المحلة عن الصلاة فيه. م: (يبقى مسجدًا) ش: على حاله. م: (عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه إسقاط منه فلا يعود إلى ملكه، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعود إلى ملك الباني أو إلى وارثه من بعد موته؛ لأنه عينه لنوع قربته، وقد انقطعت) ش: أي القربة.
م: (فصار كحصير المسجد أو حشيشه إذا استغنى عنه إلا أن أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول في الحصير والحشيش: إنه ينقل إلى مسجد آخر) ش: وكذا قنديله إذا خرب المسجد يعود إلى ملك مسجده، وكما لو كفن ميتًا فافترسه سبع عاد إلى ملك مالكه وكالمحصر إذا بعث الهدي ثم زال(7/456)
قال: ومن بنى سقاية للمسلمين أو خانا يسكنه بنو السبيل أو رباطا أو جعل أرضه مقبرة لم يزل ملكه، عن ذلك حتى يحكم الله به الحاكم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لم ينقطع عن حق العبد ألا ترى أن له أن ينتفع به فيسكن في الخان وينزل في الرباط ويشرب من السقاية ويدفن في المقبرة فيشترط حكم الحاكم أو الإضافة إلى ما بعد الموت كما في الوقف على الفقراء بخلاف المسجد؛ لأنه لم يبق له حق الانتفاع به فخلص لله تعالى من غير حكم الحاكم، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يزول ملكه بالقول كما هو أصله؛ إذ التسليم عنده ليس بشرط والوقف لازم، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا استقى الناس من السقاية وسكنوا الخان والرباط ودفنوا في المقبرة زال الملك؛ لأن التسليم عنده شرط، والشرط تسليم نوعه وذلك بما ذكرناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإحصار فأدرك الحج كان له أن يصنع بهديه ما شاء.
وقال أبو العباس الناطفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأجناس ": قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " النوادر ": إذا خرب المسجد حتى لا يصلى فيه، فالذي بناه إن شاء أدخله داره وإن شاء باعه. وكذلك الفرس إذا جعله حبسًا في سبيل الله فصار لا يستطاع أن يركب فإنه يباع ويصير ثمنها لصاحبها أو لورثته فإن لم يعرف للمسجد بانيه فخرب وبنى أهل المسجد آخر ثم أجمعوا على بيعه واستعانوا بثمنه في مكمل المسجد الآخر فلا بأس بذلك.
ثم نقل الناطفي عن كتاب " الصلاة " مسجد بأوائله وعطلت الصلاة فيه لم يجز للآخر أن يهدمه، ولا يجبر به منزلًا ولا يبيعه، قال الناطفي: هذا عند قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (ومن بنى سقاية للمسلمين أو خانًا يسكنه بنو السبيل أو رباطًا) ش: وهو الموضع الذي يرابط فيه ناس أيام السفر بإزاء العدو. م: (وجعل أرضه مقبرة لم يزل ملكه عن ذلك حتى يحكم به الحاكم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لم ينقطع عنه حق العبد، ألا ترى أن له أن ينتفع به ويسكن في الخان وينزل في الرباط ويشرب من السقاية ويدفن في المقبرة، فيشترط حكم الحاكم أو الإضافة إلى ما بعد الموت، كما في الوقف على الفقراء، بخلاف المسجد؛ لأنه لم يبق له حق الانتفاع به فخلص لله تعالى من غير حكم الحاكم، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يزول ملكه بالقول كما هو أصله إذ التسليم عنده ليس بشرط والوقف لازم. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا استقى الناس من السقاية وسكنوا الخان والرباط ودفنوا في المقبرة زال الملك؛ لأن التسليم عنده شرط، والشرط تسليم نوعه) ش: لأن كل باب يعتبر فيه ما يليق به ففي الخان يحصل التسليم بالسكنى، وفي الرباط بالنزول، وفي السقاية بالشرب، وفي المقبرة بدفنهم.
م: (وذلك بما ذكرناه) ش: أي التسليم يحصل بالاستسقاء والسكنى والنزول والدفن في(7/457)
ويكتفى بالواحد لتعذر فعل الجنس كله، وعلى هذا البئر الموقوفة والحوض،
ولو سلم إلى المتولي صح التسليم في هذه الوجوه كلها؛ لأنه نائب عن الموقوف عليه وفعل النائب كفعل المنوب عنه، وأما في المسجد فقد قيل: لا يكون تسليما لأنه لا تدبير للمتولي فيه، وقيل يكون تسليما لأنه يحتاج إلى ما يكنسه ويغلق بابه، فإذا سلم إليه صح التسليم، والمقبرة في هذا بمنزلة المسجد على ما قيل لأنه لا متولي له عرفا، وقيل هي بمنزلة السقاية والخان فيصح التسليم إلى المتولي لأنه لو نصب المتولي يصح، وإن كان بخلاف العادة، ولو جعل دارا له بمكة سكنى لحاج بيت الله تعالى والمعتمرين أو جعل داره في غير مكة سكنا للمساكين أو جعلها في ثغر من الثغور سكنى للغزاة والمرابطين أو جعل غلة أرضه للغزاة في سبيل الله تعالى، ودفع ذلك إلى وال يقوم عليه فهو جائز، ولا رجوع فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السقاية والخان والرباط والمقبرة. م: (ويكتفى بالواحد) ش: أي باستسقاء الواحد وسكنى الواحد ونزول الواحد ودفن الواحد. م: (لتعذر فعل الجنس كله) ش: يعني لتعذر استيفاء جميع الناس من السقاية، وسكن الجميع في الخان والرباط وكذا دفن الجميع.
م: (وعلى هذا) ش: أي وعلى هذا الحكم المذكور. م: (البئر الموقوفة والحوض) ش: أي حكم البئر والحوض الموقوفات على الحكم المذكور.
[الواقف لو نصب المتولي على المقبرة]
م: (ولو سلم إلى المتولي صح التسليم في هذه الوجوه كلها) ش: أي في السقاية والخان والرباط والمقبرة. م: (لأنه) ش: أي المتولي. م: (نائب عن الموقوف عليه وفعل النائب) ش: وهو القبض. م: (كفعل المنوب عنه، وأما في المسجد، فقد قيل: لا يكون تسليمًا لأنه لا تدبير للمتولي فيه، وقيل يكون تسليمًا لأنه يحتاج إلى من يكنسه ويغلق بابه، وإذا سلم إليه صح التسليم والمقبرة في هذا بمنزلة المسجد على ما قيل؛ لأنه لا متولي له عرفًا) ش: أي في عرف الناس فلا يعتبر القبض فيه.
م: (وقد قيل هي بمنزلة السقاية والخان فيصح التسليم إلى المتولي لأنه لو نصب المتولي) ش: أي لأن الواقف لو نصب المتولي على المقبرة. م: (يصح) ش: فإذا صح يعتبر قبضه. م: (وإن كان) ش: أي نصب المتولي على المقبرة. م: (بخلاف العادة، ولو جعل دارًا له بمكة سكنى لحاج بيت الله تعالى) ش: وهو اسم جمع بمعنى الحجاج كالسائر بمعنى الماء في قوله أسائرًا تهجرون. م: (والمعتمرين) ش: أي والمعتمرين. م: (أو جعل داره في غير مكة سكنًا للمساكين أو جعلها في ثغر من الثغور) ش: الثغر موضع المخافة من بروج البلدان. م: (سكنى للغزاة والمرابطين) ش: جمع مرابط، يقال رابط الجيش أقام في الثغر بإزاء العدو ومرابطة ورباطًا.
م: (أو جعل غلة أرضه للغزاة في سبيل الله ودفع ذلك إلى وال يقوم عليه، فهو جائز ولا رجوع فيها(7/458)
لما بينا إلا أن في الغلة يحل الفقراء دون الأغنياء وفيما سواه من سكنى الخان والاستقاء من البئر والسقاية وغير ذلك يستوي فيه الغني والفقير، والفارق هو العرف في الفصلين، فإن أهل العرف يريدون بذلك في الغلة الفقراء وفي غيرها التسوية بينهم الأغنياء، ولأن الحاجة تشمل الغني والفقير في الشرب والنزول، والغني لا يحتاج إلى صرف هذه الغلة لغناه، والله أعلم بالصواب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لما بينا) ش: أشار به إلى قوله وهذا لأن الأشياء كلها لله تعالى، فإذا أسقط العبد ما ثبت له من الحق رجع إلى أصله فانقطع تصرفه عنه كما في الإعتاق.
م: (إلا) ش: هذا الاستثناء لبيان الفرق بين جعل غلة الأرض للغزاة حيث يكون للفقراء منهم وهو معنى قوله. م: (إن في الغلة) ش: أي غلة الأرض. م: (يحل للفقراء دون الأغنياء) ش: إلا بالتنصيص، وبين جعل الدار سكنى إلى آخر ما يذكره، أشار إلى بقوله: م: (وفيما سواه) ش: أي فيما سوى المذكور. م: (من سكنى الخان والاستقاء من البئر والسقاية وغير ذلك يستوي فيه الفقير والغني، والفارق) ش: بين هذا وبين الذي قبله. م: (وهو العرف بين الفصلين، فإن أهل العرف يريدون بذلك في الغلة الفقراء وفي غيرها) ش: أي وفي الغلة المستوية أي يريدون. م: (التسوية بينهم) ش: أي بين الفقراء وبين. م: (الأغنياء، ولأن الحاجة تشمل الغني والفقير في الشرب والنزول، والغني لا يحتاج إلى صرف هذه الغلة لغناه) ش: أي لقيام الغني فإنه مستغنٍ بمال نفسه عن صدقة غيره، وإما لا مستغنٍ عن الحال للنزول. وعن المقبرة للدفن، وعن الماء للشرب منه، إذ كل واحد لا يقدر أن يشتري في كل منزل موضعًا ولا يستصحب الماء لنفسه في كل مكان فتحت للغني والفقير، والله أعلم.
[الأوقاف إذا تعطلت وتعذر اشتغالها هل للمتولي بيعها ويشتري مكانها] 1
فروع: وفي " فتاوى الظهيرية " سئل الحلواني عن أوقاف إذا تعطلت وتعذر اشتغالها هل للمتولي بيعها ويشتري مكانها أخرى؟ قال: نعم. وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقد يجوز قبل أن يتعطل، ولكن يأخذ ثمنها ما هو خير منها.
ومن المشايخ من لم يجوز بيع الوقف تعطل أو لم يتعطل، وبه قال الشافعي ومالك - رحمهما الله -، وكذا لم يجوز الابتداء بما هو خير منها، وهكذا حكي عن شمس الأئمة.
قال أبو يوسف: يجوز الاستبدال، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: إذا صار الوقف بحيث لا ينتفع به المساكين للقاضي أن يبيعه ويشتري بثمنه غيره، ولو سكن دار الوقف بغير أجرة بإذن المتولي أو بغير إذنه يجب عليه أجر المثل سواء كانت بعدة الاستغلال أو لا، وعليه الفتوى.
وفي " الأجناس " حانوت وقف صحيح احترق السوق والحانوت وصار بحال لا ينتفع به ولا يستأجر بشيء يخرج من الوقفية، وكذا الرباط إذا احترق يبطل الوقف ويصير ميراثًا. ولو بنى(7/459)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رجل على هذه الأرض فالبناء للباني وأصل الوقف لورثة الواقف عند محمد، وفي " العتبية ": قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مبادلة دار الوقف بدار أخرى، إنما يجوز إذا كانتا في محلة واحدة، أو تكون محلة المملوك جزءًا من محلة موقوفة، وعلى عكسه لا يجوز، وإن كانت المملوكة أكبر مساحة وقيمة وأجرة لاحتمال خرابها وقلة رغبات النفس فيها.
والله الموفق للصواب.
تم الجزء السابع من البناية في شرح الهداية ويليه الجزء الثامن مبتدئًا بكتاب البيوع.(7/460)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب البيوع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب البيوع]
م: (كتاب البيوع) ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام البيوع، وهو جمع بيع، وإنما ذكره بالجمع؛ لأن تحته أنواع على ما يأتي، وهو في اللغة عبارة عن تمليك المال بالمال، وكذا في الشرع لكن زيد فيه قيد التراضي، فقيل: هو في الشرع عبارة عن مبادلة المال بالمال على وجه التراضي، وفي النهاية هو من الأضداد، ويقال: باع الشيء إذا شراه أو اشتراه، ويتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه وبحرف الجر، يقال: باعه الشيء وباعه منه، انتهى.
ثم يحتاج إلى معرفة جوازه، وسببه، وركنه، وشرطه، وحكمه، وأنواعه.
فدليل جوازه الكتاب وهو قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] (البقرة: الآية 275) ، والسنة وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يا معشر التجار، إن بيعكم هذا يشوبه اللغو والكذب فشوبوه بالصدقة» . رواه أبو داود من رواية قيس بن أبي عذرة. وفي رواية الترمذي عنه: «خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نسمى السماسرة، فقال: "يا معشر التجار، إن الشيطان والإثم يحضران البيع، فشوبوا بيعكم بالصدقة» وقال: حديث حسن صحيح. وإجماع الأمة، فإنه منعقد على جواز البيع، وقد بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس يتبايعون فقررهم على ذلك.
وأما سببه فتعلق البقاء المقدور بتعاطيه.
وأما ركنه فالإيجاب والقبول على ما يأتي.
وأما شرطه فأنواع: منها في العاقد، وهو أن يكون عاقلا مميزا، ومنها في الآلة، وهو أن يكون بلفظ الماضي، ومنها في المحل وهو أن يكون مالا متقوما، وأن يكون مقدور التسليم، ومنها التراضي. ومنها شرط النفاذ، وهو الملك أو الولاية.
وأما حكمه: فملك البائع الثمن، والمشتري المبيع.
وأما أنواعه: بيع المقايضة وهو بيع العين بالعين، وبيع العين بالدين، وبيع الدين بالدين، وهو بيع الثمن المطلق بالثمن المطلق كبيع الدراهم والدنانير بالدراهم والدنانير، وهو بيع الصرف وبيع الدين بالعين، وهو السلم فإن المسلم فيه مبيع، وهو دين، وبيع المرابحة،(8/3)
قال: البيع ينعقد بالإيجاب والقبول إذا كانا بلفظ الماضي، مثل أن يقول أحدهما: بعت، والآخر: اشتريت؛ لأن البيع إنشاء تصرف والإنشاء يعرف بالشرع، والموضوع للإخبار قد استعمل فيه فينعقد البيع به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبيع التولية، وبيع الوضيعة، وبيع الاستبضاع، والبيع بالخيار.
فإن قلت: ما المناسبة بين كتاب البيع وبين كتاب الوقف حتى ذكره عقيب الوقف.
قلت: المناسبة من حيث إن في كل منهما معنى إزالة الملك، ففي الوقف يزول الملك عن الواقف بعد حكم الحاكم، من غير أن يدخل في ملك الموقوف عليه، وفي البيع يزول الملك عن البائع، ويدخل في ملك المشتري، فكان الوقف كالمفرد والبيع كالمركب والمفرد سابق على المركب، فلذلك أخر ذكر البيع عنه.
[أركان البيع]
[الإيجاب والقبول في البيع]
م: (قال) ش: أي القدوري في "مختصره ": م: (البيع ينعقد بالإيجاب والقبول إذا كانا بلفظ الماضي) ش: هذا لفظ القدوري، وقال المصنف: م: (مثل أن يقول أحدهما: بعت، والآخر: اشتريت) ش: والمراد من الانعقاد انضمام كلام أحد المتعاقدين إلى الآخر على وجه يظهر أثره في المحل شرعا، والإيجاب: عبارة عما صدر عن أحد العاقدين أولا، سمي به؛ لأن الإيجاب نقيض السلب، وهو الإثبات، والمتكلم منهما أولا بقوله: بعت أو اشتريت يريد إثبات العقد بشرط أن ينضم إليه قبول الآخر.
وسمي به؛ لأن قوله: بعت أو اشتريت فعل، والفعل صرف، والتمكن من الإمكان إلى الوجوب، وكان قوله بعت أو اشتريت إيجابا؛ لأنه قبل التلفظ به كان في حيز الإمكان، فصار بعد التلفظ به واجب الوجود لغيره، ثم سمي كلام الآخر قبولا لما أوجبه الآخر، وإن كان هو أيضا إيجابا في الحقيقة حتى يمتاز السابق من كلام العاقدين من اللاحق.
م: (لأن البيع إنشاء تصرف) ش: الإنشاء إثبات أمر لم يكن، ويراد به الإيجاد للحال، ومعنى قوله: إنشاء أن هذا التصرف إنشاء؛ لأن المبادلة ما كانت ثابتة وقد ثبتت بعد صدور اللفظين، فيكون إنشاء م: (والإنشاء يعرف بالشرع) ش: لا من حيث الحقيقة كالأكل وغيره، فإنه إنشاء حقيقة، فإذا احتاج المكلف إليه لا بد من استعمال لفظ يدل عليه.
والشرع قد استعمل الموضوع للإخبار لغة في الإنشاء والواضع ما وضع للإنشاء لفظا خاصا، فيجوز بالشرع استعمال اللفظ الذي وضع للإخبار عن الماضي للإنشاء؛ دفعا لحاجته، وهو معنى قوله: م: (والموضوع للإخبار) ش: وهو لفظ بعت واشتريت م: (قد استعمل فيه) ش: أي في الإنشاء، فإذا كان كذلك م: (فينعقد البيع به) ش: أي بهذا اللفظ الموضوع للإخبار الذي استعمل في الإنشاء، وإنما خص بهذه اللفظة المناسبة بين الإنشاء والإخبار؛ لأن الإنشاء تحقيق(8/4)
ولا ينعقد بلفظين: أحدهما لفظ المستقبل والآخر بلفظ الماضي بخلاف النكاح، وقد مر الفرق هناك، وقوله: رضيت بكذا، أو أعطيتك بكذا، أو خذه بكذا في معنى قوله: بعت واشتريت؛ لأنه يؤدي معناه، والمعنى هو المعتبر في هذه العقود
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشيء.
والإخبار يستدعي تحقيق المخبر به سابقا؛ ليصح الكلام حكمة وعقلا، فصار الوجود حقا له بمقتضى الحكمة، فإذا وجد الإنشاء والإيجاد يختار اللفظ الذي يلزمه الوجود، يعني لفظ الإخبار عن الماضي، وهو أن يقول أحدهما: بعت والآخر يقول اشتريت، أما إذا قال: أبيع منك أو قال المشتري: بعني لم ينعقد البيع؛ لأن الأول عده مساومة وإليه أشار المصنف بقوله:
م: (ولا ينعقد بلفظين أحدهما لفظ المستقبل والآخر بلفظ الماضي) ش: أي أحد اللفظين لفظ المستقبل، مثل أبيع منك، أو لفظ بعني كما ذكرنا، وقيل: هذا إذا كان اللفظان أو أحدهما مستقبلا بدون نية الإيجاب في الحال، وأما إذا كان المراد ذلك فينعقد البيع، كذا ذكر الطحاوي؛ لأن قوله: أبيع منك أو بعني وضع للحال، وفي وقوعه للاستقبال ضرب تجوز، كذا أورده السيرافي في شرح الكتاب.
م: (بخلاف النكاح) ش: يعني أنه ينعقد بذلك فإن أحدهما إذا قال: زوجني فقال الآخر: زوجتك فقد انعقد م: (وقد مر الفرق هناك) ش: أي مر الفرق بين البيع والنكاح في كتاب النكاح، وأشار به إلى ما قال ثمة بقوله: لأن هذا توكيل بالنكاح، والواحد يتولى طرفي النكاح.
م: (وقوله) ش: أي قول المشتري م: (رضيت بكذا) ش: في قول البائع بعت م: (أو أعطيتك بكذا) ش: أي قول البائع أيضا في جواب قول المشتري: اشتريت بكذا من الدراهم م: (أو خذه بكذا، في معنى قوله: بعت واشتريت) ش: فيقول في بعني: بعت يرجع إلى قول المشتري أخذت، وقوله اشتريته يرجع إلى قول المشتري في جواب قوله للبائع: أعطيتك بكذا، أو أخذت بكذا وكذا لو قال المشتري: قبلت أو رضيت أو أجزت، وما أشبه ذلك.
ولا فرق بين أو يكون البادئ البائع أو المشتري، والحاصل أن انعقاد البيع لا ينحصر في لفظ بعت أو اشتريت، بل كل ما دل على ذلك ينعقد به م: (لأنه يؤدي معناه) ش: أي؛ لأن قوله رضيت إلى آخره يؤدي معنى قوله بعت واشتريت، فإن معنى الإعطاء والأخذ يتضمن معنى البيع؛ لأن الأمر بالأخذ بالبدل يستدعي سبق البيع م: (والمعنى هو المعتبر في هذه العقود) ش: أي في هذه العقود الشرعية.(8/5)
ولهذا ينعقد بالتعاطي في النفيس والخسيس وهو الصحيح لتحقق المراضاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واحترز به عن الطلاق والعتاق، فإن اللفظ فيهما يقام مقام المعنى، ولا خلاف فيه للأئمة الأربعة، وفي " الإيضاح " هذا أصل لنا في جميع العقود، إلا ما روي عن أبي حنيفة أن المفاوضة لا تنعقد إلا بلفظ المفاوضة؛ لأن هذا العقد يشتمل على معان وشروط، والعوام لا يمكنهم استيفاء ذلك حتى لو استوفى بلفظ آخر جاز.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل أن المعنى هو المعتبر في العقود م: (ينعقد) ش: أي البيع م: (بالتعاطي) ش: وهو أن البائع يعطي المبيع، ولا يتلفظ بشيء، والمشتري يعطي الثمن كذلك م: (في النفيس والخسيس) ش: قال الأترازي: النفيس هو الذي يكثر ثمنه كالعبد ونحوه، و [الخسيس] ما يقل ثمنه كالبقل والرمانة والخبز واللحم ونحو ذلك.
وقال الكاكي: الخسيس ما يكون قيمته دون نصاب السرقة، والنفيس ما يكون قيمته مثله أو فوقه م: (وهو الصحيح) ش: احترز به عن ما روي عن الكرخي: أن البيع بالتعاطي إنما ينعقد بالأشياء الخسيسة دون النفيسة، وعامة المشايخ لم يفرقوا بينهما والمشهور من مذهب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن البيع لا ينعقد بالتعاطي.
وقال مالك: ينعقد البيع بكل ما يعده الناس بيعا، وبه قال بعض أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (لتحقق المراضاة) ش: يعني من الجانبين.
وفي " الإيضاح " انعقاد البيع يكون بالألفاظ وبالتعاطي، فالألفاظ كل لفظين ينبئان عن معنى التمليك بصيغة الماضي أو الحال، دون الأمر والمستقبل، وفي جميع النوازل قال: أتبيعني عبدك بألف؟ باستفهام، فقال: نعم، فقال: أخذته، فهو بيع لازم.
وفي " شرح الإسبيجابي " لو قال: أبيع منك هذا، أو أعطيتكه، فقال: اشتريته بكذا ونوى الإيجاب للحال، ينعقد البيع.
وفي " فتاوى قاضي خان " اشتريت منك بألف، فقال: فعلت، أو نعم، أو هات الثمن، صح وإلا فلا، وكذا الإقالة، وفي المحيط: سماع المتعاقدين الإيجاب والقبول شرط للانعقاد، ولو سمع أهل المجلس وقال البائع: لم أسمعه وليس به وقر لم يصدق. ولو قال: كل هذا الطعام بدرهم لي عليك، فأكل تم البيع، وأكله حلال، والأكل والركوب واللبس بعد قول البائع بعت -رضى بالبيع، ولو قال: وهبت لك هذه الدار أو هذا العبد بثوبك هذا فبيع بالإجماع، ولو قال: إن أديت ثمنه فقد بعته منك فأداه ثمنه في المجلس صح استحسانا، ولو قال: هو لك بكذا إن وافقك، أو قال: إن أعجبك أو إن أردت، فقال: وافقني أو أعجبني، أو أردت جاز، ولو قال: وبعته من فلان غائب فحضر الغائب في المجلس وقال:(8/6)
قال: وإذا أوجب أحد المتعاقدين البيع، فالآخر بالخيار، إن شاء قبل في المجلس، وإن شاء رد، وهذا خيار القبول؛ لأنه لو لم يثبت له الخيار يلزمه حكم البيع من غير رضاه، وإذا لم يفد الحكم بدون قبول الآخر فللموجب أن يرجع عنه قبل قبوله؛ لخلوه عن إبطال حق الغير، وإنما يمتد إلى آخر المجلس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اشتريت صح، ولو قال لرسوله فبلغه فقال: اشتريت صح، والواحد لا يتولى طرفي العقد إلا الأب يشتري مال ولده الصغير لنفسه، أو الوصي مال اليتيم لنفسه، أو القاضي بأمره أو العبد نفسه من مولاه بأمره، وفي " أجناس الناطقي " لو قال: بكم تبيع قفيز حنطة، فقال: بدرهم، فقال: اعزله فعزله، فهو بيع، وكذا لو قال مثله للقصاب فوزنه وهو ساكت فهو بيع حتى لو امتنع من دفع الثمن، وأخذ اللحم، أو امتنع القصاب من دفع اللحم أجبره القاضي عليه، وعن محمد أن بيع التعاطي كما يثبت بقبض البدلين يثبت بقبض أحدهما، وقال صدر القضاة وغيره: إن بيع التعاطي بيع وإن لم يوجد تسليم الثمن.
[خيار القبول]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا أوجب أحد المتعاقدين البيع فالآخر بالخيار، إن شاء قبل في المجلس وإن شاء رد) ش: انتهى إلى هنا كلام القدوري، ومعنى أوجب أثبت وحقق بأن قال: بعت، أو قال: اشتريت، والمراد بالإيجاب ما يبدي من لفظه بعت أو اشتريت أو ما يقوم مقامهما.
قال المصنف: م: (وهذا خيار القبول) ش: أي الخيار الذي ذكره القدوري خيار القبول م: (لأنه) ش: أي؛ لأن أحد المتعاقدين م: (لو لم يثبت له الخيار، يلزمه حكم البيع من غير رضاه) ش: فيكون مجبورا، فينتفي التراضي فما فرضته بيعا لم يكن بيعا، وهذا خلف م: (وإذا لم يفد الحكم) ش: أي إذا لم يفد إيجاب أحدهما الحكم م: (بدون قبول الآخر، فللموجب) ش: أي البائع أو المشتري م: (أن يرجع عنه قبل قبوله) ش: قبل قبول الآخر م: (لخلوه عن إبطال حق الغير) .
ش: فإن قلت: يثبت للمشتري حق التملك بقول البائع، فيكون الرجوع إبطالا، قلت: هذا الحق ثبت له من جهة البائع فيكون له إبطال ما أثبت.
فإن قيل: يشكل بما إذا عجل الزكاة إلى الساعي قبل الحول حيث لا يجوز له حق الاسترداد لتعلق حق التملك للفقير.
أجيب: بأن الأصل موجود وهو النصاب، والوصف ثابت وهو النماء، فلا يرجع لأجل فوات الأصل، ولا كذلك هاهنا؛ لأن الأصل ما وجد بل وجد شطره فلا يكون البيع موجودا.
م: (وإنما يمتد إلى آخر المجلس) ش: هذا يجوز أن يكون جوابا عما يقال، ما وجه اختصاص(8/7)
لأن المجلس جامع المتفرقات فاعتبرت ساعاته ساعة واحدة؛ دفعا للعسر وتحقيقا لليسر، والكتاب كالخطاب، وكذا الإرسال حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرسالة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خيار الرد والقبول بالمجلس؟ ولم لا يبطل الإيجاب عقب خلوه عن القبول، أو يتوقف على ما وراء المجلس؟ وتقريب الجواب أن امتداده إلى آخر المجلس م: (لأن المجلس جامع المتفرقات) ش: كما في الصرف والسلم وخيار المخيرة وقراءة آية السجدة م: (فاعتبرت ساعاته) ش: أي ساعات المجلس م: (ساعة واحدة) ش: كما في الأشياء المذكورة.
وإنما فعل كذلك هنا أيضا م: (دفعا للعسر) ش: أي لأجل دفع العسر عن البائع والمشتري جميعا، أما عن المشتري فلأن في إبطاله قبل انقضاء المجلس عسرا له، وأما عن البائع فلأن في إبقائه فيما وراء المجلس عسرا له وفي التوقف على المجلس يسر لهما جميعا، وأشار إليه بقوله: م: (وتحقيقا لليسر) ش: أي ولأجل تحقيق اليسر في حقهما.
فإن قيل: فلم يكن الخلع والعتق على مال كذلك. قلنا: فإنهما اشتملا على اليمين من جانب الزوج والمولى، فكان ذلك مانعا عن الرجوع في المجلس فيتوقف الإيجاب فيهما على ما وراء المجلس.
م: (والكتاب كالخطاب) ش: إذ الكتاب من الغائب كالخطاب من الحاضر، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبلغ تارة بالكتاب، وتارة بالخطاب، فلو لم يكن الكتاب كالخطاب لم يكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مبلغا به، قاله تاج الشريعة.
وصورة الكتابة أن يكتب إلى رجل: أما بعد فقد بعت عبدي فلانا منك بكذا، فلما بلغه الكتاب وقرأ وفهم ما فيه، وقبل في المجلس صح البيع م: (وكذا الإرسال) ش: أي وكذا الإرسال كالخطاب، صورته أن يقول الرجل: اذهب إلى فلان وقل له: إن فلانا باع عبده فلانا منك بكذا فجاءه الرسول وأخبره بما قال فقال فلان في مجلسه ذلك: اشتريت أو قبلت، تم البيع، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ينعقد في صورة الكتابة على أصح الوجهين إذا كانت مقرونة بالنية، وفي وجه لا ينعقد، وبالرسالة ينعقد كما في الكفالة، كذا في " شرح الوجيز ".
وفي " الحلية ": لو كتب إليه بيع سلعة منه لم يصح في أصح الوجهين. وفي " المجتبى ": يصح الرجوع عن الرسالة، ولو بلغه الرسول بغير أمره فقال: اشتريت لم يجز. ولو كتب إليه يعني بكذا فوصل إليه فكتب إليه بعتك لم يتم، ما لم يقل الكاتب: اشتريت، ولو كتب إليه اشتريت بكذا فكتب إليه بعت تم البيع، ولو قال: بعته من فلان الغائب وحضر الغائب في المجلس وقبل صح.
م: (حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرسالة) ش: هذا نتيجة قوله والكتاب كالخطاب(8/8)
وليس له أن يقبل في بعض المبيع، ولا أن يقبل المشترى ببعض الثمن؛ لعدم رضا الآخر بتفرق الصفقة إلا إذا بين ثمن كل واحد؛ لأنه صفقتان معنى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
، وكذا الإرسال وقوله -حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب- يرجع إلى قوله -والكتاب كالخطاب- وقوله- وأداء الرسالة، يرجع إلى - قوله- وكذا الإرسال-.
وفي " شرح الطحاوي " بعدما كتب شطر العقد أو بعدما أرسل رسولا إذا رجع عن ذلك صح رجوعه سواء علم الرسول أو لم يعلم، بخلاف ما إذا وكل وكيلا ثم عزله بغير محضر منه، فلا يصح عزله.
وفي " التحفة " وعلى هذا الجواب في الإجارة والهبة والكتابة، وأما في الخلع والعتق على مال فإنه يتوقف شطر العقد على قبول الآخر في ذلك المجلس بالإجماع، فإن من قال: خالعت امرأتي فلانة الغائبة على ألف درهم، فبلغها الخبر فأجازت أو قبلت صح. وكذا لو قال: أعتقت عبدي فلان الغائب بألف درهم فإنه يتوقف على إجازة العبد، فأما في جانب المرأة والعبد لا يتوقف إذا كان الزوج والمولى غائبين، وأما في النكاح فلا يتوقف الشطر عند أبي حنيفة ومحمد، وعلى قول أبي يوسف يتوقف.
وتفسير ما قال في " شرح الطحاوي ": وهو أن يقول الرجل للشهود: إني قد تزوجت فلانة بكذا، فبلغها الخبر فأجازت، أو قالت المرأة: بكذا فبلغ الزوج الخبر فأجاز لا يجوز عندهما، ويجوز عند أبي يوسف.
وفي البيع لا يتوقف بالإجماع، وقال شمس الأئمة السرخسي في كتاب النكاح من " المبسوط ": كما ينعقد النكاح بالكتاب ينعقد البيع وسائر التصرفات بالكتاب أيضا.
م: (وليس له) ش: أي للبائع م: (أن يقبل في بعض المبيع) ش: يعني إذا أوجب المشتري في شيء، فليس للبائع أن يقبل في بعض م: (ولا أن يقبل المشترى) ش: بفتح الراء أي المبيع م: (ببعض الثمن) ش: يعني أن البائع إذا أوجب في شيء بأن قال: بعته بألف، فقال المشتري قبلت بخمسمائة فليس له ذلك م: (لعدم رضا الآخر بتفرق الصفقة) ش: فإن من عادة الناس ضم الرديء إلى الجيد في البياعات؛ ليروج الرديء بالجيد.
فلو ثبت خيار القبول في أحدهما فالمشتري يقبل العقد في الجيد ويترك الرديء على البائع فيزول الجيد عن ملكه بأقل من ثمنه، وفيه ضرر للبائع، فكان تفريق الصفقة مستلزما للضرر، وفي " المغرب ": الصفقة ضرب اليد على اليد في البيع، ثم جعلت عبارة عن نفس العقد.
م: (إلا إذا بين) ش: أي البائع م: (ثمن كل واحد؛ لأنه صفقتان معنى) ش: أي؛ لأن البيع الذي فيه بيان ثمن كل واحد صفقتان من حيث المعنى.(8/9)
أيهما قام عن المجلس قبل القبول بطل الإيجاب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الكاكي: ومراده إذا تكرر لفظ البيع بأن قال: بعت هذا بكذا؛ لأن به تتعدد الصفقة لا ببيان ثمن كل واحد، فإنه لو قال: بعتهما بألف: هذا بخمسمائة وهذا بخمسمائة فقبل أحدهما لا يصح، كذا في " المبسوط ".
وفي " الكافي ": لو قال: بعتك هذين فقبل أحدهما، أو قال لرجلين: بعتكما هذا العبد فقبل أحدهما لم يجز للزوم تفريق الصفقة، ولو قال: بعتك هذين: هذا بمائة وهذا بمائة للمشتري أن يقبل أيهما شاء؛ لأن البائع فرق.
وفي " المحيط ": ولو كان الثمن متفرقا ينظر إن اتحد الإيجاب والقبول فالصفقة متحدة وإن تفرق الإيجاب والقبول فالصفقة متفرقة، وإن تفرق الإيجاب واتحد القبول أو على عكسه، فالصفقة متفرقة قيل: هذا عندهما، وأما عند أبي حنيفة متحدة.
[خيار المجلس]
م: (وأيهما قام عن المجلس قبل القبول بطل الإيجاب) ش: هذا لفظ القدوري في "مختصره ". وقال الأكمل: هذا متصل بقوله: إن شاء قبل في المجلس وإن شاء رد، وهو إشارة إلى أن رد الإيجاب تارة يكون صريحا وأخرى دلالة، فإن القيام دليل الإعراض والرجوع، والدلالة تعمل عمل الصريح.
فإن قيل: نعم هذا إذا لم يوجد صريح يعارضه، وهاهنا لو قال بعد القيام: قبلت وجد الصريح فيرجح على الدلالة، أجيب بأن الصريح إنما وجد بعد عمل الدلالة فلا يعارضها.
وقال الكاكي: قوله أيهما قام ذكر على وجه التعميم على المتعاقدين احترازا عن إيجاب الخلع والعتق على مال، فإنه لا يعم المتعاقدين حيث لا يبطل الإيجاب بقيام الزوج والمولى، بخلاف قيام المرأة والعبد، وقيل: المراد بالقيام عن المجلس الذهاب عن ذلك المكان لا مجرد الانتصاب، وإن كان المذكور في عامة الكتب مطلق القيام؛ لأن شيخ الإسلام خواهر زاده ذكره في شرح الجامع إذا قام البائع ولم يذهب عن ذلك المكان قبل المشتري صح.
وفي قوله: قام عن المجلس دليل على أن الذهاب عنه شرط؛ لأن القيام عنه يتحقق بالذهاب، أما لو لم يذهب لا يقال: قام عنه بل يقال: قام فيه.
وفي شرح " الطحاوي " وإن تعاقدا عقد البيع وهما يمشيان أو يسيران على دابة واحدة أو دابتين فإن أخرج المخاطب جوابه متصلا بخطاب صاحبه تم العقد بينهما وإن فصل عنه وإن قل، فإنه لا يصح وإن كانا على دابة واحدة في محمل واحد؛ لأنه لما وجد سيرا أو مشيا من أحدهما أو منهما معا من بين الخطابين، وإن قل فقد بطل المجلس ووجد الإعراض قبل تمامه فيبطل.(8/10)
لأن القيام دليل الإعراض والرجوع، وله ذلك على ما ذكرناه،
وإذا حصل الإيجاب والقبول لزم البيع ولا خيار لواحد منهما إلا من عيب أو عدم رؤية. وقال الشافعي: يثبت لكل واحد منهما خيار المجلس لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا» . ولنا أن في الفسخ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن القيام دليل الإعراض والرجوع، وله ذلك) ش: أي لكل واحد منهما الإعراض والرجوع عما أوجب الموجب قبل قبول الآخر م: (على ما ذكرناه) ش: إشارة إلى قوله: لأنه لو لم يثبت له الخيار يلزمه حكم العقد من غير رضاه إلى قوله: فللموجب أن يرجع لخلوه عن إبطال حق الغير.
م: (وإذا حصل الإيجاب والقبول) ش: يعني عن الأصل مضافا إلى المحل مع شرط النفاذ وهو الملك أو الولاية م: (لزم البيع ولا خيار لواحد منهما) ش: أي لأحد المتعاقدين، وبه قال مالك.
وفي " شرح الطحاوي " هذا في البيع الصحيح م: (إلا من عيب أو عدم رؤية) ش: فإن فيهما الخيار على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
م: (وقال الشافعي: يثبت لكل واحد منهما خيار المجلس) ش: وبه قال أحمد وذكر في كتبهم إذا حصل الإيجاب والقبول انعقد البيع ويثبت لهما الخيار ما لم يتفرقا أو يتخايرا، وهو أن يقول: أجزنا إمضاء البيع أو فسخه م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا» ش: هذا الحديث رواه الأئمة الستة عن نافع عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البيعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا» . وبلفظ الكتاب رواه النسائي.
م: (ولنا أن في الفسخ إبطال حق الغير، فلا يجوز) ش: لما قال الشافعي: أثبت الشارع لكل واحد من المتبايعين خيار المجلس على ما دل عليه الحديث المذكور، فعلم أن لكل منهما بعد تمام العقد أن يرد العقد بدون رضى صاحبه ما لم يتفرقا بالأبدان، قال المصنف: م: (ولنا أن في الفسخ) ش: أي في فسخ العقد بعد وقوعه إبطال حق الآخر وهو الساكت عن الفسخ، فلا يجوز لعدم رضاه.
والعجب من المصنف أن الخصم مستدل بالحديث الصحيح وهو يستدل بالدليل العقلي، ثم يحمل الحديث على ما ذكره وكان الواجب أن يستدل بدليل نقلي إما من الكتاب أو السنة، ثم يستدل بالدليل العقلي ثم يجيب عن حديث الخصم كما فعله غيره على هذا الوجه، حيث قالوا: ولنا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . (المائدة: 1) والبيع عقد يلزم الوفاء به بظاهر الآية فلو كان خيار المجلس ثابتا لم يكن الوفاء بعقد البيع لازما، وقَوْله تَعَالَى(8/11)
إبطال حق الغير فلا يجوز، والحديث محمول على خيار القبول، وفيه إشارة إليه فإنهما متبايعان حالة المباشرة لا بعدها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أيضا: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] (البقرة: الآية 282) ندب إلى الإشهاد على العقد توثقة لهما، وفي ثبوت الخيار يسقط معنى التوثيق فكان فيه إبطال معنى الكتاب.
وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المسلمون عند شروطهم» ، وقد شرطا إمضاء البيع فيلزمهما، «وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لحبان بن منقذ: "إذا اشتريت فقل: لا خلابة ولي الخيار» . فعلم أن البيع يلزم بالإيجاب والقبول، وفي إثبات الخيار لأحدهما يلزم إبطال حق الآخر فينتفي بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» أي لا يضر الرجل أخاه ابتداء؛ لأن الضرر بمعنى الضر، وهو يكون من واحد، والضرار من اثنين بمعنى المضارة وهو أن تضر من ضرك ذكره في " المغرب ".
م: (والحديث محمول على خيار القبول) ش: لأن سياق الحديث يدل على ذلك؛ لأنهما يسميان متبايعين حقيقة حالة التشاغل لفعل البيع بأن يقول أحدهما بعني ويقول: الآخر بعت، فيتخير كل منهما بعد ذلك.
أما البائع له الخيار إما أن يثبت على ما قال أو يرجع عنه، وأما المشتري فله الخيار أيضا إما أن يقبل أو يرد ما داما في المجلس، وهذا تأويل قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - م: (وفيه إشارة إليه) ش: أي في الحديث إشارة إلى خيار القبول، وبين ذلك بالفاء التفسيرية بقوله: م: (فإنهما متبايعان حالة المباشرة لا بعدها) ش: يعني أن حقيقة اسم المتبايعين لهما حالة التشاغل بالعقد لا بعد الفراغ منه كالمتقابلين والمتناظرين.
وبه نقول: إن لكل واحد من المتساومين الخيار؛ لأن كونهما متبايعتين حالة المباشرة بطريق الحقيقة، لبقاء قوله بعت، إلى قوله اشتريت من حيث الشرع فالحقيقة الشرعية بمنزلة الحقيقة لغة، فيكون ما قلناه حقيقة، وما قاله الخصم مجازا باعتبار ما كان، إذ لو بقي قوله بعد بعت واشتريت بعد التكلم بهما لما جازت الإقالة؛ لأن رفع الشيء في حال ثبوته محال، وهذا؛ لأن البائع والمشتري قد اجتمعا على المبيع، فإذا تم الإيجاب والقبول فقد تفرقا عما اجتمعا عليه.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون الإيجاب والقبول شرطا باقيا ما داما في المجلس؟ قلت: لم ذكرنا من صحة الإقالة فيكون الباقي بمعنى الذي ثبت بالإيجاب والقبول.(8/12)
أو يحتمله فيحمل عليه، والتفرق فيه تفرق الأقوال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أو يحتمله فيحمل عليه) ش: أي أو يحتمل ما قاله الخصم، ويحتمل ما قلنا وما قلناه راجح لما ذكرنا أنه حقيقة، والحمل عليه أولى، ولا يقال العقود الشرعية في حكم الجواهر، فيكونان متبايعين بعد وجود كل كلاميهما؛ لأن الباقي بعد كلاميهما حكم كلاميهما شرعا لا حقيقة كلاميهما، والكلام في حقيقة الكلام.
م: (والتفرق فيه تفرق الأقوال) ش: أي التفرق المذكور في الحديث تفرق الأقوال، وقال الأكمل: هذا جواب عما قال: التفرق عرض فيقوم بالجوهر، ولقائل أن يقول: حمل التفرق على ذلك يستلزم قيام العرض بالعرض وهو محال بإجماع أهل السنة فيكون إسناد التفرق إليهما مجازا فما وجه ترجيح مجازكم على مجازهم؟ وأجيب بأن إسناد التفريق والتفرق إلى غير الأعيان سائغ وشائع، فصار بسبب فشو الاستعمال فيه بمنزلة الحقيقة، قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة: 4] (البينة: الآية 4) وقال تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] (البقرة: الآية 285) .
والمراد التفرق في الاعتقاد، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» وهو أيضا في الاعتقاد، وفيه نظر؛ لأن المجاز باعتبار ما يئول إليه، أو ما كان عليه أيضا، كذلك على أن ذلك يصح على مذهب أبي يوسف ومحمد لا على مذهب أبي حنيفة.
فإن الحقيقة المستعملة أولى من المجاز المتعارف عنده، ولعل الأولى أن يقال: حمله على التفرق بالأبدان رد إلى جهالة، إذ ليس له وقت معلوم، ولا غاية معروفة، فيصير من أشباه بيع المنابذة والملامسة وهو مقطوع بفساده، وهذا معنى قول مالك: ليس لهذا الحديث حد معروف.
وفي " المبسوط " راوي حديث مالك وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ومذهبه أن خيار المجلس لا يثبت، وعمل الراوي بخلاف الحديث دليل ضعفه، ولهذا قال ابن العربي: قال مالك: ليس لهذا الحديث عندنا حد معروف، ولا أمر معمول به.
وقال الأكمل: أو نقول: التفريق يطلق على الأعيان والمعاني بالاشتراك اللفظي، وترجيح جهة التفرق بالأقوال بما ذكرنا من أداء حمله على التفرق بالأبدان إلى الجهالة.
وقال الطحاوي: اختلف الناس في تأويل قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» . فقال قوم هذا على الافتراق بالأقوال، ثم بسط الكلام فيه.
قلت: في شرحي الذي سميته " نخب الأفكار في تنقيح مبان الأخبار في شرح معاني الآثار " أراد بالقول هو لإبراهيم النخعي وسفيان الثوري في رواية، وربيعة الرأي ومالكا وأبا(8/13)
قال: والأعواض المشار إليها لا يحتاج إلى معرفة مقدارها في جواز البيع؛ لأن بالإشارة كفاية في التعريف وجهالة الوصف فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حنيفة ومحمد بن الحسن، فإنهم قالوا: المراد من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "ما لم يتفرقا"، هو التفرق بالأقوال، فإذا قال البائع: قد بعت، وقال المشتري: قد اشتريت، فقد تفرقا، ولا شيء لهما بعد ذلك الخيار، ويتم به البيع ولا يقدر المشتري على رد البيع إلا بخيار الرؤية، أو خيار العيب أو خيار الشرط، أي شرطه.
وقال عيسى بن أبان: الفرقة التي تقطع الخيار في حديث هي الفرقة بالأبدان، ولكن فسره بقوله: إن الرجل إذا قال للرجل: قد بعتك عبدي بألف درهم فللمخاطب بذلك القول أن يقبل ما لم يفارقه صاحبه، فإذا افترق لم يكن له بعد ذلك أن يرجعه، لولا أن هذا الحديث جاء ما علمنا ما نقطع به للمخاطب من قبول المخاطبة التي خاطبه بها صاحبه، وأوجب له بها البيع فلما جاء هذا الحديث، علمنا أن افتراق أبدانهما بعد المخاطبة بالبيع يقطع قبول تلك المخاطبة، وقد روي هذا التفسير عن أبي يوسف، وقاله الطحاوي.
وقال آخرون: هذه التفرقة المذكورة في هذا الحديث هي الفرقة بالأبدان، فلا يتم البيع حتى يكون، فإذا كانت تم البيع.
قلت: أراد بالآخرين سعيد بن المسيب، والزهري، وعطاء بن أبي رباح، وابن أبي ذئب، وسفيان بن عيينة، والأوزاعي، والليث بن سعد، وابن أبي ليلى، والحسن البصري، وهشام بن يوسف، وابن عبد الرحمن، وعبد الله بن حسن القاضي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبا ثور، وأبا عبيد، وأبا سليمان، ومحمد بن جرير الطبري، وأهل الظاهر.
وقال الأوزاعي: حد التفرق أن يغيب كل واحد منهما عن صاحبه حتى لا يراه وقال عياض: قال الليث: هو أن يقوم أحدهما، وقال آخرون: هو افتراقهما من مجلسهما أو نقلهما.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (والأعواض المشار إليها لا يحتاج إلى معرفة مقدارها في جواز البيع) ش: أراد بذلك ما تبع العقد عليه سواء كان من النقدين أو غيرهما، وسواء كانت ثمنا أو مثمنا بعد أن لم يكن في الأموال الربوية، فإنها إذا بيعت بجنسها عند جهالة مقدارها لا يجوز، وإن أشار إليها لاحتمال الربا.
والتقييد بالبيع احتراز عن السلم، فإن رأس المال فيه إذا كان مكيلا أو موزونا يشترط معرفة مقداره في جواز السلم عند أبي حنيفة، كما يجيء، ولا يكتفي بالإشارة م: (لأن بالإشارة كفاية في التعريف، وجهالة الوصف فيه) ش: أي جهالة القدر في العوض المشار إليه.(8/14)
لا تفضي إلى المنازعة.
والأثمان المطلقة لا تصح إلا أن تكون معروفة القدر والصفة؛ لأن التسليم والتسلم واجب بالعقد، وهذه الجهالة مفضية إلى المنازعة، فيمتنع التسليم والتسلم، وكل جهالة هذه صفتها تمنع الجواز. هذا هو الأصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الكاكي: أي وصف المقدار في التعريف أو في البيع م: (لا تفضي إلى المنازعة) ش: لأنها حاضرة، والتقابض حال بخلاف جهالة وصف المقدار في المسلم فيه حيث لا يجوز، لأدائها إلى المنازعة لعدم حضوره.
[الجهالة في الأثمان المطلقة]
م: (والأثمان المطلقة) ش: قال الأكمل: أي المطلقة عن الإشارة لا يصح بها العقد، وكل ما هو واجب بالعقد يمتنع حصوله بالجهالة المفضية إلى النزاع، وقال الأترازي: المراد بالأثمان المطلقة الدراهم والدنانير؛ لأنهما أثمان بكل حال؛ لأن الله تعالى خلق الذهب والفضة ثمنا للأشياء، والمعنى بالثمينة كونه بحال يقدر به مالية الأشياء، ويتوصل به إليها ومما بهذه الصفة قبل الصياغة وبعدها، ويجوز أن يراد المطلقة عن قيد الإشارة وقد ذكرنا هذا عن الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الكاكي: ذكر الإطلاق هاهنا للاحتراز عن كونها مشارا إليها لا للاحتراز عن أثمان غير مخلوقة للثمنية؛ لأنه ذكره بعد قوله: والأعواض المشار إليها مع اختلاف الحكم م: (لا تصح إلا أن تكون معروفة القدر) ش: كالخمسة والعشرة م: (والصفة) ش: كالبخاري والسمرقندي.
م: (لأن التسليم والتسلم واجب بالعقد، وهذه الجهالة) ش: أي جهالة القدر والصفة م: (مفضية إلى المنازعة) ش: المانعة من التسليم والتسلم م: (فيمتنع التسليم والتسلم) ش: أي من جهة الآخر م: (وكل جهالة هذه صفتها تمنع الجواز) ش: أي جواز العقد م: (هذا) ش: أي كون الجهالة المفضية إلى المنازعة مانعة م: (هو الأصل) ش: أي في كتاب البيوع بالإجماع؛ لأن شرعية المعاملات لقطع المنازعات المفضية إلى الفساد، ثم لا بد من معرفة الأثمان المطلقة.
قال في " الكامل ": النقدان والفلوس ثمن كيفما ذكر؛ لأنهما لا يتعينان عندنا خلافا للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فيثبت في الذمة، وعن الفراء الثمن ما يثبت في الذمة، قال صاحب المجتبى: فهو المراد بالأثمان المطلقة هاهنا.
وعن الكرخي: ما يتعين في العقد فهو مبيع وما لم يتعين فهو ثمن، وقال الأترازي: ثم الأموال ثلاثة أنواع، ثمن مطلق وسلعة محضة، ودائر بينهما، بيان ذلك فيما قال صاحب التحفة: ثم الدراهم والدنانير أثمان أبدا، سواء كان في مقابلتها أمثالها أو أعيان صحبها حرف الباء أو لا حتى إن في الأثمان يصير صرفا.(8/15)
قال: ويجوز البيع بثمن حال ومؤجل إذا كان الأجل معلوما، لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] (البقرة: الآية 275) ، وعنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أنه اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعه» . ولا بد أن يكون الأجل معلوما؛ لأن الجهالة فيه مانعة من التسليم الواجب بالعقد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو كانت بمقابلتها السلعة تصير ثمنا، والسلعة مبيعا على كل حال؛ لأنها أثمان مطلقة على كل حال، فلا يتعين بالتعيين، وأما الأعيان التي ليست من ذوات الأمثال كالثياب والدور والعقار والعبيد والعدديات المتفاوتة كالبطيخ والثمار، فهي مبيعة ويتعين بالتعيين، ولا يجوز البيع فيها إلا عينا إلا فيما يجوز فيه السلم كالثياب، بخلاف القياس.
ثم الثياب كما تثبت بيعا في الذمة مؤجلا بطريق السلم تثبت دينا في الذمة مؤجلا بطريق الثمن، والأجل شرط في الثياب، لا لأنه شرط في الأثمان ولكن شرط لتصير ملحقة بالسلم في كونها دينا في الذمة.
وأما المكيل والموزون والعددي المتقارب إن كانت في مقابلتها أثمان فهي مبيعة، وإن كان في مقابلتها أمثالها أعني المكيل والموزون والعددي المتقارب، فكل ما كان موصوفا في الذمة يكون ثمنا، وكل ما كان معينا يكون مبيعا، وإن كان كل واحد منهما موصوفا في الذمة فما صحبه حرف الباء يكون ثمنا، والآخر مبيعا؛ لأن هذا مما يتعين بالتعيين، ويثبت دينا في الذمة أيضا، فتعين أحد الوجهين بالدليل.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويجوز البيع بثمن حال ومؤجل) ش: وفي بعض النسخ أو مؤجل، وعليه إجماع العلماء، وفي " الكامل ": لو قال: بعتكه بألف حالا أو بألفين نسيئة لا يجوز لجهالة الثمن م: (إذا كان الأجل معلوما) ش: لأن جهالته مانعة من التسليم والتسلم، فيؤثر في صحة العقد م: (لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] (البقرة: الآية 275) ش: لأنه لم يفصل بين ثمن حال وثمن مؤجل.
م: (وعنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (أنه اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعه) ش: وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن الأسود عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعا له من حديد» وفي لفظ البخاري: ثلاثين صاعا من شعير، وهذا اليهودي اسمه: أبو الشحم رجل من بني ظفر، هكذا وقع مسمى في سنن البيهقي، أخرجه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (ولا بد أن يكون الأجل معا؛ لأن الجهالة فيه مانعة من التسليم الواجب بالعقد) ش: هو(8/16)
فهذا يطالبه به في قريب المدة، وهذا يسلمه في بعيدها.
قال: ومن أطلق الثمن في البيع كان على غالب نقد البلد؛ لأنه هو المتعارف، وفيه التحري للجواز فيصرف إليه، فإن كانت النقود مختلفة فالبيع فاسد إلا أن يبين أحدها، وهذا إذا كان الكل في الرواج سواء؛ لأن الجهالة مفضية إلى المنازعة، إلا أن ترتفع الجهالة بالبيان أو يكون أحدها أغلب وأروج، فحينئذ يصرف إليه تحريا للجواز. وهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التسليم والتسلم م: (فهذا يطالبه به) ش: أي يطالب المشتري بالثمن م: (في قريب المدة، وهذا) ش: أي المشتري م: (يسلمه في بعيدها) ش: أي في بعيد المدة.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن أطلق الثمن في البيع) ش: بأن ذكر القدر دون الصفة، مثل أن يقول المشتري مثلا: اشتريت بعشرة دراهم ولم يقيدها بالبخارية أو السمرقندية ونحو ذلك، أو قال: اشتريت بكذا مثقالا ولم يقيده بالخليفتي والركني ونحو ذلك.
وقال الكاكي: قوله: ومن أطلق الثمن يعني ذكر القدر، والنوع دون الوصف فإنه لو لم يذكرهما كانت المسألة عين الأولى وهي قوله: والأثمان المطلقة. وفي " البداية ". إنما أورد هذا ليبين أن تعريف الصفة كما يحصل بالتنصيص يحصل بطريق الدلالة باعتبار العرف وكثرة الاستعمال، وفي " الجنازية ": قوله أطلق أي ذكر الوصف وعن نقد البلد بعد أن سمى قدره ونوعه م: (كان على غالب نقد البلد؛ لأنه هو المتعارف) ش: أي؛ لأنه هو المتفاهم في عرف الناس والمطلق من الألفاظ ينصرف إليه بدلالة العرف.
وقال تاج الشريعة: نقد البلد أي البلد الذي جرى فيه البيع لا في بلد المتبايعين م: (وفيه التحري للجواز) ش: أي وفي غالب نقد البلد التحري لجواز العقد م: (فيصرف إليه) ش: أي فيصرف إطلاق الثمن إلى غالب نقد البلد.
م: (فإن كانت النقود مختلفة) ش: أي إن كانت النقود في البلد على اختلاف الوزن رائحة على السواء م: (فالبيع فاسد) ش: للجهالة المانعة من التسليم والتسلم م: (إلا أن يبين أحدها) ش: استثنى من قوله: فالبيع فاسد أي إلا أن يبين أحد النقود المختلفة فحينئذ يجوز م: (وهذا) ش: أي فساد البيع م: (إذا كان الكل في الرواج سواء؛ لأن الجهالة مفضية إلى المنازعة) .
ش: لأنه لا يمكن ترجيح بعضها على البعض لإطلاق التسمية م: (إلا أن ترتفع الجهالة بالبيان) ش: بأن يبين بعض النقود أنه هو المراد م: (أو يكون أحدها) ش: أي أحد النقود م: (أغلب وأروج، فحينئذ يصرف إليه) ش: أي إلى الأغلب الأروج م: (تحريا للجواز) ش: أي طلبا لجواز العقد إذ أمور المسلمين محمولة على الصحة ما أمكن م: (وهذا) ش: أي فساد العقد في المستوية(8/17)
إذا كانت مختلفة في المالية فإن كانت سواء فيها كالثنائي والثلاثي والنصرتي اليوم بسمرقند، والاختلاف بين العدالي بفرغانة جاز البيع إذا أطلق اسم الدرهم، كذا قالوا. وينصرف إلى ما قدر به من أي نوع كان؛ لأنه لا منازعة ولا اختلاف في المالية.
قال: ويجوز بيع الطعام والحبوب مكايلة ومجازفة. وهذا إذا باعه بخلاف جنسه؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرواج م: (إذا كانت) ش: أي النقود م: (مختلفة في المالية) ش: كالذهب الركني والخليفتي فإن الخليفتي أفضل في المالية من الركني. م: (فإن كانت سواء فيها) ش: أي في المالية م: (كالثنائي) ش: وهو ما كان الاثنان منه يعبر دانقا م: (والثلاثي) ش: وهو ما كان الثلاث منه يعبر دانقا م: (والنصرتي اليوم بسمرقند) ش: وهو بمنزلة الناصري ببخارى، كذا قال الإمام حميد الدين في "فوائده " م: (والاختلاف بين العدالي بفرغانة) ش: قال الأترازي: وهي لغة فقهاء ما وراء النهر ويسمون الدرهم عداليا. وقد استعملوها في كتبهم م: (جاز البيع) ش: جواب قوله: فإن كانت سواء م: (إذا أطلق اسم الدرهم) ش: أي فيما ذكر من هذه الأشياء م: (كذا قالوا) ش: أي كذا قال المتأخرون من المشايخ م: (وينصرف إلى ما قدر به) ش: أي ينصرف اسم الدرهم إلى ما قدر به من المقدار كعشرة ونحوه م: (من أي نوع كان) ش: من غير قيد بنوع معين م: (لأنه لا منازعة) ش: في الاستواء في الرواج م: (ولا اختلاف في المالية) ش: للمساواة فيها.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ويجوز بيع الطعام) ش: والمراد بالطعام الحنطة ودقيقها؛ لأنه يقع عليهما عرفا، كذا قاله الشراح، وقيدوا بقولهم: عرفا ويؤيد هذا ما قاله الخليل أن المعالي في لغة العرب أن الطعام هو البر خاصة م: (والحبوب) ش: كالعدس والحمص ونحوهما، ومن جعل الطعام أعم قال ذكر الحبوب مستدرك وليس كذلك؛ لأن الطعام اسم للبر خاصة والحبوب غيره فافهم م: (مكايلة) ش: مصدر من باب المفاعلة يقال: كايلته مكايلة إذا كلت له، وكال لك م: (ومجازفة) ش: وهو أيضا مصدر من جازف.
وقال الجوهري: الجزف أخذ الشيء مجازفة فارسي معرب، وفي " المغرب " وهو البيع بالحدس والظن بلا كيل ولا وزن، وفي " الجمهرة " الجزف: الأخذ بكثرة ومن ذلك قولهم: جزف له في الكيل إذا أكثر، ومنه الجزاف والمجازفة في الشرك والبيع وهو يرجع إلى المساهلة.
م: (وهذا) ش: أي البيع مجازفة م: (إذا باعه بخلاف جنسه) ش: فحينئذ يجوز م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم» ش: هذا الحديث بهذا اللفظ غريب، وقد روى الجماعة غير البخاري عن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير،(8/18)
بخلاف ما إذا باعه بجنسه مجازفة لما فيه من احتمال الربا. ولأن الجهالة غير مانعة من التسليم والتسلم فشابه جهالة القيمة.
قال: ويجوز بإناء بعينه لا يعرف مقداره وبوزن حجر بعينه لا يعرف مقداره؛ لأن الجهالة لا تفضي إلى المنازعة، لما أنه يتعجل فيه التسليم فيندر هلاكه قبله، بخلاف السلم؛ لأن التسليم فيه متأخر، والهلاك ليس بنادر قبله فيتحقق المنازعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والتمر التمر، والملح الملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» .
م: (بخلاف ما إذا باعه بجنسه مجازفة) ش: حيث لا يجوز م: (لما فيه من احتمال الربا) ش: لأنه ربما يزيد أحد الجنسين على الآخر فيصير ربا.
وقال الكاكي: قوله: إذا باعه بخلاف جنسه إنما يفيد فيما إذا كان شيئا يدخل تحت الكيل، وأما إذا كان قليلا لا يدخل تحت الكيل، فيجوز بيع بجنسه مجازفة أيضا كذا في " الذخيرة " م: (ولأن الجهالة) ش: عطف على قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أي؛ لأن جهالة بيع الحبوب والطعام مكايلة ومجازفة م: (غير مانعة من التسليم والتسلم فشابه جهالة القيمة) ش: أي شابه المجازفة جهالة القيمة بأن اشترى شيئا بدرهم، ولم يدر قيمته أزيد منه أو أنقص يجوز؛ لأن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة، والمانع هي الجهالة المفضية إلى المنازعة.
م: (قال) ش: أي القدوري في "مختصره " م: (ويجوز) ش: أي البيع م: (بإناء بعينه) ش: بأن قال: بهذا الإناء وأشار إليه، ولكن م: (لا يعرف مقداره) ش: أي مقدار الإناء م: (وبوزن حجر) ش: أي وكذا يجوز البيع بوزن حجر م: (بعينه لا يعرف مقداره؛ لأن الجهالة لا تفضي إلى المنازعة، لما أنه يتعجل فيه التسليم فيندر هلاكه قبله) ش: أي قبل التسليم؛ لأنه يندر هلاك كل من الإناء والحجر قبل التسليم.
وفي " المبسوط ": لو اشترى بهذا الإناء يدا بيد فلا بأس به؛ لأن في "المعين". البيع مجازفة يجوز.
م: (بخلاف السلم) ش: حيث لا يجوز فيه بإناء بعينه ولا بحجر بعينه م: (لأن التسليم فيه) ش: أي؛ لأن تسليم المعقود عليه في السلم م: (متأخر) ش: إلى مدة م: (والهلاك) ش: أي هلاك الإناء والحجر المعينين م: (ليس بنادر قبله) ش: أي قبل التسليم م: (فيتحقق المنازعة) ش: عند ذلك فلا يجوز.
وقال الكاكي: ويجوز بإناء من حديد أو خشب وما أشبه ذلك، أما إذا جهل كالزنبيل والجوالق والغراير لا يجوز، ولو باعه طعاما على أن يكيله بزنبيل أو بإناء يشبه الزنبيل لا يجوز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وكذا لو اشترط عليه وزن ثوب أو متاع أو ملء جوالق،(8/19)
وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز في البيع أيضا، والأول أصح وأظهر.
قال: ومن باع صبرة طعام كل قفيز بدرهم جاز البيع في قفيز واحد عند أبي حنيفة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " جمع التفاريق " عن محمد جواز الشراء بوزن هذا الحجر وفيه الخيار، وعن أبي يوسف لا يجوز، وفي " جميع النوازل ": لو اشترى بوزن هذا الحجر ذهبا ثم علم به، جاز وله الخيار، وكذا لو باع عبده بما باع به فلان عبده جاز، وفي " جمع العلوم ": لو يعلم المشتري جاز وبما يبيع الناس لا يجوز، وهكذا ظاهر مذهب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وحكي عنه وجه أنه يجوز، وإن لم يعلم ما باع فلان، وعن أبي جعفر لو قال: بعتك من هذه الحنطة ما يملأ هذا البيت لا يجوز، ومثل ما يملأ هذا الطست يجوز، وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لا يحوز شراء قربة من ماء هذا النهر؛ لأن الماء ليس عنده، ولا يعرف قدر القربة، وأطلق جوازه في " البحر "، وكذا قربة بعينها أو إداوة من ماء الفرات يوفيه في منزله.
وجوز أبي يوسف أيضا، وعنه إذا ملأ ثم تراضيا جاز وهذه مجازفة، وقال برهان الدين: باع كل حق له في هذه القربة ولم يعلمها نصيبه لم يجز، ولو علما جاز، ولو علم المشتري دون البائع جاز وبه قال الشافعي ومالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعلى عكسه لا يجوز عند أبي حنيفة، وبه قال الشافعي، وقال مالك: إن بينه البائع يجوز. م: (وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز في البيع أيضا) ش: أي في بيع المساواة أيضا، وهو رواية الحسن عنه، روى ذلك الفقيه أبو الليث في " العيون "، ثم قال: وهو قول أبي يوسف الأول، ثم رجع فقال: إذا كان الإناء مما لا يقع إذا حشى فيه فالبيع جائز مثل الطست ونحو ذلك، وأما الزنبيل والجوالق فلا يجوز لاحتمال الزيادة والنقصان م: (والأول) ش: أراد به ما ذكره القدوري بقوله ويجوز بإناء بعينه لا يعرف مقداره م: (أصح) ش: ودليله مذكور في المتن م: (وأظهر) ش: أي بحسب الرواية والتعليل.
[باع صبرة طعام كل قفيز بدرهم]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ومن باع صبرة طعام كل قفيز بدرهم جاز البيع في قفيز واحد عند أبي حنيفة) ش: الصبرة الطعام المجتمع كالكومة وجمعها صبر بضم الصاد وفتح الباء. وقال الجوهري: الصبرة واحدة صبر الطعام، ويقال: اشتريت الشيء صبرة أو بلا وزن ولا كيل والقفيز مكيال، وجمعه قفزان قاله في " المغرب " ولم يبين قدره.
وقال الجوهري: القفيز ثمانية مكاكيك ولم يبين المكوك إلا في باب الكاف، وقال: المكوك مكيال وهو ثلاث كيلجات والكيلجة منان وسبعة أثمان من، والمن رطلان والرطل ثنتا عشرة أوقية، والأوقية أستار وثلثا أستار، والأستار أربعة مثاقيل ونصف، والمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم، والدرهم ستة دوانيق، والدانق: قيراطان، والقيراط: طسوجتان، والطسوج: حبتان، والحبة: سدس ثمن درهم وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءا من درهم، والجمع مكاكيك، انتهى كلام الجوهري.(8/20)
إلا أن يسمي جملة قفزانها. وقالا: يجوز في الوجهين. له أنه تعذر الصرف إلى الكل؛ لجهالة المبيع والثمن فيصرف إلى الأقل وهو معلوم إلا أن تزول الجهالة بتسمية جميع القفزان، أو بالكيل في المجلس، ولهما أن الجهالة بيدهما إزالتها ومثل ذلك غير مانع، كما إذا باع عبدا من عبدين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إلا أن يسمي جملة قفزانها) ش: في بعض النسخ جمع قفزانها فحينئذ يصح في الكيل، وكذلك إذا كال الصبرة في المجلس صح البيع، وثبت للمشتري الخيار.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد: م: (يجوز في الوجهين) ش: وهو ما إذا ذكر جملة القفزان، وما إذا لم يذكر وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (له) ش: أي لأبي حنيفة م: (أنه تعذر الصرف إلى الكل لجهالة المبيع والثمن) ش: لأن جملة القفزان غير معلوم، فيكون ما بإزائهما غير معلوم أيضا، فإن قيل: سلمنا جهالتهما ولكن جهالة لا تفضي إلى المنازعة فينبغي أن لا يفسد البيع كما في الأعراض المشار إليها؛ لأن كل قفيز بدرهم فبعد ذلك لا يتفاوت أن يكون الصبرة مائة، أو أقل، أو أكثر، قلنا: قد يفضي إلى المنازعة؛ لأن البائع يطالب المشتري بالثمن أولا، والثمن غير معلوم فيعجز عن تسليم الثمن، وكذا البائع يعجز عن تسليم المبيع لعدم عرفانه قدر المبيع، فيتنازعان م: (فيصرف إلى الأقل) ش: أي يصرف البيع إلى الأقل م: (وهو) ش: أي الأقل م: (معلوم) ش: أي معلوم القدر والثمن وجاز إفراده من الجملة؛ لعدم الضرر لأحد صيانة لكلاميهما عن الإلغاء بقدر الإمكان م: (إلا أن تزول الجهالة بتسمية جميع القفزان) ش: بأن يقول: بعتك هذه الصبرة بمائة درهم كل قفيز بدرهم فيصح حينئذ، ويقع البيع على جميعها م: (أو بالكيل) ش: أي أو تزول الجهالة بكيل الصبرة م: (في المجلس) ش: قيد به؛ لأنه إذا كال بعد الافتراق منه لا يصح؛ لأن ساعات المجلس جعلت كساعة واحدة، فالعلم فيه كالعلم في حالة العقد، أما لو افترقا تقرر الفساد فلا ينقلب جائزا.
فإن قيل: يشكل بما إذا كان الفساد بأجل مجهول أو بشرط خيار أربعة أيام، فإنه ينقلب جائزا برفع المفسد بعد الافتراق عن المجلس. قلنا: الفساد ثمة لم يتمكن في صلب العقد فلا يتقيد رفع المفسد بالمجلس، فإن أثر الفساد هناك لا يظهر في الحال بل يظهر عند دخول اليوم الرابع وامتداد الأجل إليه.
م: (ولهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن الجهالة بيدهما إزالتها) ش: أي إزالة الجهالة بأن يكيلا الصبرة في المجلس فلا يفضي إلى المنازعة م: (ومثل ذلك غير مانع) ش: أي مثل المذكور من الجهالة غير مانع عن صحة العقد، وفي بعض النسخ: ومثلها غير مانع، أي ومثل الجهالة الغير المفضية إلى المنازعة غير مانع، ونظر لذلك بقوله: م: (كما إذا باع عبدا من عبدين(8/21)
على أن المشتري بالخيار، ثم إذا جاز في قفيز واحد -عند أبي حنيفة فللمشتري الخيار لتفرق الصفقة عليه، وكذا إذا كيل في المجلس أو سمى جملة قفزانها؛ لأنه علم بذلك الآن فله الخيار. كما إذا رآه ولم يكن رآه وقت البيع. ومن باع قطيع غنم كل شاة بدرهم فسد البيع في جميعها- عند أبي حنيفة، وكذلك من باع ثوبا مذارعة كل ذراع بدرهم ولم يسم جملة الذرعان. وكذا كل معدود متفاوت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على أن المشتري بالخيار) ش: إن شاء أخذ هذا وإن شاء أخذ ذلك، فإذا أخذ أيهما شاء ارتفعت الجهالة فكذا هنا. م: (ثم إذا جاز في قفيز واحد -عند أبي حنيفة فللمشتري الخيار لتفرق الصفقة عليه) ش: أي على المشتري ولا خيار للبائع، وإن تفرقت الصفقة عليه أيضا؛ لأن التفرق جاء منه وهو امتناعه عن تسمية جملة القفزان، أو الكيل في المجلس فيكون راضيا به م: (وكذا إذا كيل في المجلس) ش: أي وكذا الخيار للمشتري إذا كيل المذكور من الصبرة في المجلس م: (أو سمى جملة قفزانها) ش: بأن قال: بعتك هذه الصبرة مائة كل قفيز بدرهم فللمشتري الخيار أيضا.
م: (لأنه علم بذلك الآن فله الخيار) ش: لأنه ربما كان في حدسه أو ظنه أن الصبرة تأتي بمقدار ما يحتاج إليه فزادت، وليس له في الثمن ما يقابله، ولا يمكن أخذ الزائد مجانا، وفي تركه تفريق الصفقة على البائع أو نقصت فيحتاج أن يشتري في مكان آخر، وهل يوافق أم لا؟ فإذا كان كذلك فله الخيار؛ لأنه يصير م: (كما إذا رآه ولم يكن رآه وقت البيع) ش: فيثبت له الخيار. وقال تاج الشريعة: والجواب لأبي حنيفة من بيع عبد من عبدين أن القياس فيه الفساد فيه أيضا إلا أنا جوزناه استحسانا بالنص.
م: (ومن باع قطيع غنم) ش: أي طائفة منه، وكذا من البقر، وفي " المغرب " القطيعة الطائفة م: (كل شاة بدرهم) ش: يجوز في لفظ كل الرفع والنصب، أما الرفع فعلى الابتداء تقديره: كل شاة سميت بدرهم، وأما النصب فيحتمل أن يكون بدلا من القطيع بدل البعض عن الكل.
م: (فسد البيع في جميعها عند أبي حنيفة) ش: وهذه المسألة ذكرها القدوري ولم يذكر فيها الخلاف والمصنف ذكره.
م: (وكذلك من باع ثوبا مذارعة) ش: أي بشرط الذرع، كذا قاله الأترازي والكاكي، ولكن هذا اللفظ من باب المفاعلة، فالمعنى: من باع ثوبا على أنه والمشتري يذارعانه مذارعة م: كل ذراع بدرهم، ولم يسم جملة الذرعان) ش: بضم الذال جمع ذراع م: (وكذا) ش: أي وكذا فسد البيع إذا باع.
م: (كل معدود متفاوت) ش: أي متفاوت في القيمة كالبطيخ والرمان والسفرجل والخشب والأواني، ولم يسم جملة العدد، هذه المسألة على ثلاثة أوجه:(8/22)
وعندهما يجوز في الكل لما قلنا، وعنده ينصرف إلى الواحد لما بينا، غير أن بيع شاة من قطيع، وذراع من ثوب لا يجوز للتفاوت، وبيع قفيز من صبرة يجوز لعدم التفاوت، فلا تفضي الجهالة إلى المنازعة فيه، وتفضي إليها في الأول فوضح الفرق.
قال: ومن ابتاع صبرة طعام على أنها مائة قفيز بمائة درهم فوجدها أقل كان المشتري بالخيار إن شاء أخذ الموجود بحصته من الثمن، وإن شاء فسخ البيع؛ لتفرق الصفقة عليه، فلم يتم رضاه بالموجود. وإن وجدها أكثر فالزيادة للبائع؛ لأن البيع وقع على مقدار معين، والقدر ليس بوصف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدها: أن يبين جملة الذرعان، وقال بعده: كل ذراع بدرهم ولم يبين جملة الثمن فهو جائز؛ لأن المبيع معلوم وجملة الثمن معلومة لبيان الذرعان.
الثانية: أن يبين جملة الثمن لا المبيع، وقال بعده: كل ذراع بدرهم فهو أيضا جائز؛ لأنه لما بين جملة الثمن، وسمى لكل ذراع درهما صار جميع الذرعان معلوما.
والثالثة: ألا يبين جملة المبيع ولا جملة الثمن، وقال بعده: كل ذراع بدرهم فهي مسألة الكتاب، ذكرها في النهاية، وعندهما؛ أي عند أبي يوسف ومحمد.
م: (وعندهما يجوز في الكل) ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (لما قلنا) ش: وهو أن إزالة الجهالة بيدهما م: (وعنده) ش: أي وعند أبي حنيفة م: (ينصرف إلى الواحد لما بينا) ش: وهو قوله ينصرف إلى الأقل وهو معلوم م: (غير أن بيع شاة من قطيع وذراع من ثوب لا يجوز للتفاوت وبيع قفيز من صبرة طعام يجوز؛ لعدم التفاوت، فلا تفضي الجهالة إلى المنازعة فيه، وتفضي إليها) ش: أي وتفضي الجهالة إلى المنازعة.
م: (في الأول) ش: وهو بيع شاة من قطيع وذراع من ثوب م: (فوضح الفرق) ش: أي ظهر وانكشف وهو أن الأقل هو الشاة الواحدة من قطيع، والذراع من ثوب لم يصرف إليه للتفاوت، والقفيز الواحد من صبرة يصرف إليه لعدم التفاوت، وهو الفرق.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن ابتاع صبرة طعام) ش: أي من اشتراها م: (على أنها مائة قفيز بمائة درهم فوجدها أقل) ش: أي من المائة وفي بعض النسخ أقل من ذلك م: (كان المشتري) ش: بكسر الراء م: (بالخيار إن شاء أخذ الموجود بحصته من الثمن، وإن شاء فسخ البيع؛ لتفرق الصفقة عليه) ش: أي على المشتري م: (فلم يتم رضاه بالموجود) ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (وإن وجدها أكثر) ش: أي وإن وجد الصبرة أكثر من مائة قفيز م: (فالزيادة للبائع؛ لأن البيع وقع على مقدار معين) ش: وهو مائة قفيز.
م: (والقدر ليس بوصف) ش: أي القدر الزائد على المقدار المعين ليس بوصف، فالبيع لا يتناوله فكان للبائع.(8/23)
ومن اشترى ثوبا على أنه عشرة أذرع بعشرة، أو أرضا على أنها مائة ذراع بمائة فوجدها أقل، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذها بجملة الثمن، وإن شاء ترك؛ لأن الذرع وصف في الثوب، ألا ترى أنه عبارة عن الطول والعرض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واعلم أن المشايخ ذكروا في الفرق بين القدر وهو الأصل، والوصف حدودا فقيل: كل ما يتعيب بالتنقيص والتشقيص فهو وصف، وما لا يتعيب بهما فهو أصل. وقيل: ما يكون وجوده جهة في تقوم نفسه وغيره، وعدمه جهة في نقصان نفسه وغيره فهو وصف، وما لا يكون بهذه المثابة فهو أصل فيخرج على هذا المكيلات والموزونات والمذروعات، فإن المكيل لا يتعيب بالتنقيص والمذروع يتعيب، والطول والعرض يزيد في قيمة نفسه وغيره، بخلاف المكيل والموزون، فإن صبرة الأقفزة إذا انتقص منها قفيز يشتري الباقي بالثمن الذي يخصه مع القفيز، والذراع الواحد إذا فات لا يشتري الباقي بالثمن الذي كان يشتري معه.
وقال الكاكي: وثمرة كون الذرع وصفا، والقدر أصلا يظهر في مواضع: منها ما ذكر في الكتاب وهو أنه إذا وجده زائدا فهو للبائع، ومنها: أنه لا يجوز للمشتري التصرف في المبيع قبل الكيل والوزن إذا اشتراه بشرط الكيل. وفي المذروع يجوز له التصرف في المبيع قبل الذرع سواء اشتراه مجازفة أو على أنه عشرة أذرع؛ لأنه لما كان وصفا لا يكره اختلاط البيع بغيره، فيجوز التصرف له قبل الذرع؛ لأن الكل له سواء نقص أو زاد، بخلاف المكيل والموزون؛ لأن الزائد أصل لا تبع، فيلزم الاختلاف، فلا يجوز التصرف قبل الكيل أو الوزن، ومنها: أن بيع الواحد للاثنين لا يجوز في المكيلات والموزونات.
وفي المذروعات يجوز؛ لأن الزيادة لما كانت أصلا وكانت شيئا يعتد به فلا يجوز بدون المساواة في الأموال الربوية، بخلاف المذروع فلم يعتبر زيادة مانعة لكونه تبعا.
م: (ومن اشترى ثوبا على أنه عشرة أذرع بعشرة أو أرضا) ش: أي أو اشترى أرضا م: (على أنها مائة ذراع بمائة فوجدها أقل، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذها بجملة الثمن، وإن شاء ترك؛ لأن الذرع وصف في الثوب) ش: لما بينا من ظهور أمارة الوصفية، والتبعية فيه دون غيره من زيادة القوة بزيادته ونقصانه بنقصانه ولعدم تمكن أفراده من الجملة، حتى لو باع ذراعا من ثوب لم يجز؛ لأن المقصود من الثوب هو التزين واللبس لا يحصل بذراع، بخلاف القفيز من الصبرة.
م: (ألا ترى أنه عبارة عن الطول والعرض) ش: هذا توضيح لكونه بمنزلة الوصف.
فإن قيل: الاستدلال بهذا على أن الذرع وصف غير مستقيم، فإن الطول والعرض كما هو وصف فكذلك القلة والكثرة من حيث الكيل والوزن أيضا وصف، يقال شيء قليل وكثير، فلم يكن القفيز الزائد هنالك وصفا. قلنا: بل إن القلة والكثرة من حيث الكيل والوزن كان أصلا،(8/24)
والوصف لا يقابله شيء من الثمن كأطراف الحيوان، فلهذا يأخذه بكل الثمن، بخلاف الفصل الأول؛ لأن المقدار يقابله الثمن، فلهذا يأخذه بحصته إلا أنه يتخير لفوات الوصف المرغوب فيه لتغير المعقود عليه فيختل الرضا. وإن وجدها أكثر من الذراع الذي سماه فهو للمشتري، ولا خيار للبائع؛ لأنه صفة فكان بمنزلة ما إذا باعه معيبا فإذا هو سليم. ولو قال: بعتكها على أنها مائة ذراع بمائة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومن حيث الذرع كان وصفا لدخولهما تحت الحدود التي ذكرنا في التفرقة بين الأصل والوصف، فإنه زيادة شبر واحد مثلا على العشرة يوجب زيادة قيمة العشرة، مع أن وصف الكثرة والقلة حصل به؛ لأن الكثرة بكثرة الدخول بخلاف الذرع، فإن زيادته توجب زيادة قيمة لم تكن لها بدون ذلك الذرع، وهذا متعارف بين التجار فكان الذرع وصفا.
م: (والوصف لا يقابله شيء من الثمن) ش: إلا إذا كان مقصودا بالتناول حقيقة، كما إذا قطع البائع يد العبد المبيع قبل القبض يسقط نصف الثمن أو حكما لحق البائع، كما إذا حدث عيب آخر عند المشتري أو لحق الشارع، كما إذا خاط المشتري الثوب المبيع، ثم اطلع على عيب يكون للوصف قسط من الثمن م: (كأطراف الحيوان) ش: يعني إذا اشترى جارية فاعورت عند البائع لا ينتقص شيء من الثمن. وكذا المشتري باعها مرابحة إذا اعورت بعدما قبضها بدون البيان، وسيجيء ذلك في باب المرابحة إن شاء الله تعالى.
م: (فلهذا) ش: إيضاح لقوله: والوصف لا يقابله شيء من الثمن م: (يأخذه بكل الثمن) ش: أي يأخذ ذاك الثوب الذي اشتراه على أنه عشرة أذرع فوجده أقل، فإنه يأخذه بجملة الثمن إن شاء كما مر الآن م: (بخلاف الفصل الأول) ش: وهو فصل الكيل فإنه يأخذ الموجود بحصته من الثمن م: (لأن المقدار يقابله الثمن) ش: لأنه ليس بوصف م: (فلهذا) ش: أي ولكون المقدار لا يقابله شيء من الثمن م: (يأخذه بحصته) ش: من الثمن م: (إلا أنه يتخير) ش: استثناء من قوله: أي إلا أن المشتري خير بين الأخذ والفسخ م: (لفوات الوصف المرغوب فيه) ش: وفي نسخة شيخنا لفوات الوصف المذكور، ثم كتب تحته: أي المذكور في هذه المسألة في الفصل الأول م: (لتغير المعقود عليه فيختل الرضا) ش: أي رضا المشترى.
م: (وإن وجدها أكثر من الذراع الذي سماه فهو للمشتري، ولا خيار للبائع؛ لأنه صفة) ش: أي؛ لأن الذرع صفة، والوصف لا يقابله شيء من الثمن م: (فكان) ش: نظير هذا م: (بمنزلة ما باعه معيبا) ش: بأن باع عبدا على أنه أعمى م: (فإذا هو سليم) ش: أي فإذا العبد وجد سليما أي بصيرا، حيث لا خيار فيه م: (ولو قال: بعتكها) ش: يعني الثياب والمذروعات كذا في " النهاية ". وقال الأكمل: فيه نظر؛ لأن المبيع إذا كان ثيابا لم تكن هذه المسألة، والأولى أن يقال بعني الأرض. وقال الأترازي: أي بعت الأرض والثياب م: (على أنها مائة ذراع بمائة(8/25)
درهم كل ذراع بدرهم فوجدها ناقصة فالمشتري بالخيار: إن شاء أخذها بحصتها من الثمن، وإن شاء ترك؛ لأن الوصف وإن كان تابعا لكنه صار أصلا بإفراده بذكر الثمن، فينزل كل ذراع منزلة ثوب، وهذا؛ لأنه لو أخذه بكل الثمن لم يكن آخذا لكل ذراع بدرهم. وإن وجدها زائدة فهو بالخيار: إن شاء أخذ الجميع كل ذراع بدرهم، وإن شاء فسخ البيع؛ لأنه إن حصل له الزيادة في الذرع يلزمه زيادة الثمن، فكان نفعا يشوبه ضرر فيتخير، وإنما يلزمه الزيادة لما بينا أنه صار أصلا، ولو أخذه بالأقل لم يكن آخذا بالمشروط.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
درهم، كل ذراع بدرهم، فوجدها ناقصة، فالمشتري بالخيار، إن شاء أخذها بحصتها من الثمن، وإن شاء ترك؛ لأن الوصف وإن كان تابعا لكنه صار أصلا بإفراده بذكر الثمن، فينزل كل ذراع منزلة ثوب) ش: وهذا معنى قولهم: إن الوصف يقابله شيء من الثمن، إذا كان مقصودا بالتناول.
فإن قيل: لو صار كل ذراع بمنزلة ثوب ينبغي أن يفسد البيع إذا وجدها زائدة. كما لو قال: بعتك هذه الرزمة على أنها خمسون ثوبا كل ثوب بعشرين درهما فوجدها زائدة فالبيع فاسد، وكذا لو اشترى عدلا على أنه كذا ثوبا ذكر ثمنا أن المشترى بالخيار.
قلنا: الفرق بينهما ما بينا أن في الذرع جهة الوصفية والأصلية، فمن حيث إنه أصل لا نسلم له الزيادة بغير عوض من حيث إنه وصف يكون بعض الذرعان تابعا للبعض، فلا يفسد، وأما بعض الثياب لا يكون تبعا للبعض فيبقى المبيع مجهولا بجهالة تفضي إلى المنازعة؛ لأن الثياب مختلفة كذا في " جامع قاضي خان ".
فإن قيل: لو كان أصلا على تقدير الإفراد بذكر الثمن يجب أن يمتنع دخول الزيادة في العقد كما في الصبرة، وقد جوز أخذ الجميع بحكم البيع في هذه المسألة. قلنا الفرق بينهما هو أن الزيادة لو لم تدخل في العقد يفسد العقد؛ لأنه يصير بعض ما مر الثوب وأنه لا يجوز بخلاف الصبرة؛ لأنها لو لم تدخل لا يفسد العقد، كذا في " الفوائد الظهيرية ". م: (وهذا) ش: أي أخذها بحصتها من الثمن إنما هو م: (لأنه لو أخذه بكل الثمن لم يكن) ش: أي المشتري م: (آخذا لكل ذراع بدرهم) ش: وهو لم يبع إلا بشرط أن يكون كل ذراع بدرهم؛ لأن كلمة على تأتي بمعنى الشرط م: (وإن وجدها زائدة) ش: عطف على قوله: فوجدها ناقصة.
م: (فهو بالخيار: إن شاء أخذ الجميع كل ذراع بدرهم، وإن شاء فسخ البيع؛ لأنه إن حصل له الزيادة في الذرع يلزمه زيادة الثمن فكان نفعا يشوبه ضرر) ش: لأن الزيادة نفع، ولزوم الثمن بإزائهما ضرر، فإذا كان كذلك م: (فيتخير) ش: بين أخذ الجميع كل ذراع بدرهم وبين الفسخ م: (وإنما يلزمه الزيادة) ش: أي زيادة الثمن م: (لما بينا أنه صار أصلا) ش: مشروطا م: (ولو أخذه بالأقل لم يكن آخذا بالمشروط) ش: وهو أن يكون كل ذراع بدرهم.(8/26)
ومن اشترى عشرة أذرع من مائة ذراع من دار أو حمام فالبيع فاسد عند أبي حنيفة، وقالا: هو جائز، وإن اشترى عشرة أسهم من مائة سهم جاز في قولهم جميعا، لهما أن عشرة أذرع من مائة ذراع عشر الدار فأشبه عشرة أسهم، وله أن الذراع اسم لما يذرع به، واستعير لما يحله الذراع، وهو المعين دون المشاع، وذلك غير معلوم بخلاف السهم. ولا فرق عند أبي حنيفة بين ما إذا علم جملة الذرعان، أو لم يعلم وهو الصحيح، خلافا لما يقوله الخفاف، لبقاء الجهالة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ومن اشترى عشرة أذرع من مائة ذراع من دار أو حمام فالبيع فاسد عند أبي حنيفة، وقالا: هو جائز) ش: وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ويعني بقوله وقالا: هو جائز إذا كانت الدار كلها مائة ذراع، هكذا ذكر الصدر الشهيد والإمام الزاهد العتابي في شرحيهما للجامع الصغير ولو كانت أقل من مائة لا يجوز بالإجماع.
م: (وإن اشترى عشرة أسهم من مائة سهم جاز في قولهم جميعا، لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن عشرة أذرع من مائة ذراع عشر الدار فأشبه عشرة أسهم) ش: أي في كونهما عشرا فتخصيص الجواز بأحدهما تحكم م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن الذراع اسم لما يذرع به) ش: في الحقيقة وإرادة الحقيقة هنا متعذرة فيكون المراد ما يحله الذراع، وتجاوزه مجازا بإطلاق اسم الحال على المحل.
وهو معنى قوله: م: (واستعير لما يحله الذراع) ش: يعني استعير للموضع الذي يحل ذلك الخشب فيه؛ لأن المبيع المحل لا الخشب م: (وهو المعين) ش: أي ما يحله الذراع هو المعين، فكان المسمى في العقد جزءا معينا م: (دون المشاع) ش: يعني المشاع ليس كذلك م: (وذلك غير معلوم) ش: أي ما يحله الذراع غير معلوم موضعه لا يدري من أي جانب هو، فيبطل العقد م: (بخلاف السهم) ش: فإنه أمر عقلي لا يقتضي محلا حسيا، فيجوز أن يكون في المشايع فالجهالة لا تفضي إلى المنازعة.
م: (ولا فرق عند أبي حنيفة بين ما إذا علم جملة الذرعان أو لم يعلم، هو الصحيح) ش: يعني لا فرق بين ما إذا علم جملة الذرعان، كما إذا قال: عشرة أذرع من هذه الدار من غير ذكر ذرعان جميع الدار، وهو الصحيح لبقاء الجهالة المانعة من الجواز م: (خلافا لما يقوله الخفاف) ش: وهو أبو بكر أحمد بن عمرو من كبار العلماء المتقدمين، وله تصانيف كثيرة، وكان معاصرا مع الشيخ أبي جعفر أحمد بن أبي عمران - رَحِمَهُ اللَّهُ - أستاذ أبي جعفر الطحاوي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى -.
والخفاف يقول: إن الفساد إنما هو عند جهالة جملة الذرعان، وأما إذا عرفت مساحتها فإنه يجوز جعل هذه المسألة نظير ما لو باع كل شاة من القطيع بدرهم إذا كان جملة الشياه معلوما، فإنه يجوز عنده م: (لبقاء الجهالة) ش: دليل قوله: ولا فرق عند أبي حنيفة رضي الله(8/27)
ولو اشترى عدلا على أنه عشرة أثواب فإذا هو تسعة أو أحد عشر فسد البيع، لجهالة المبيع أو الثمن، ولو بين لكل ثوب ثمنا جاز في فصل النقصان بقدره وله الخيار، ولم يجز في الزيادة لجهالة العشرة المبيعة. وقيل: عند أبي حنيفة لا يجوز في فصل النقصان أيضا، وليس بصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه، يعني أن جملة ذرعان الدار وإن عرفت لا يعلم موضع عشرة أذرع من مائة ذراع منها فبقيت الجهالة.
م: (ولو اشترى عدلا) ش: عدل الشيء بكسر العين مثله من جنسه في مقداره ومنه عدل الحمل، وقال الأترازي: العدل العلم إذا عدل بمثله م: (على أنه عشرة أثواب فإذا هو تسعة) ش: أي فظهرت أنها تسعة أثواب م: (أو أحد عشر) ش: أي أو ظهر أنه أحد عشر ثوبا م: (فسد البيع) ش: أما إذا زاد فهو م: (لجهالة المبيع) ش: لأن الزائد لم يدخل تحت العقد، فيجب رده، والأثواب مختلفة وكان المبيع مجهولا جهالة تفضي إلى المنازعة، وأما إذا نقص فلوجوب حصة الناقص عن ذمة المشتري وهي مجهولة؛ لأنه لا يدري أنه كان جيدا أو وسطا أو رديئا، وحينئذ لا يدري قيمته بيقين، حتى يسقط، فكانت جهالتها توجب جهالة الباقي من الثمن فلا يشك في فساده، وإلى هذا أشار بقوله: م: (أو الثمن) ش: أي فسد البيع لجهالة الثمن في صورة النقصان.
م: (ولو بين لكل ثوب ثمنا) ش: بأن يقول: كل ثوب بدرهم م: (جاز في فصل النقصان بقدره وله الخيار) ش: أي للمشتري الخيار إذا بين لكل ثوب إن شاء أخذ بحصته من الثمن، وإن شاء ترك م: (ولم يجز في الزيادة لجهالة العشرة المبيعة) ش: لأن العقد يتناول العشرة فعليه رد الثوب الزائد وهو مجهول وبجهالته يصير المبيع مجهولا.
م: (وقيل عند أبي حنيفة: لا يجوز في فصل النقصان أيضا) ش: أي قال البعض من مشايخنا: إن البيع فاسد عند أبي حنيفة في فصل النقصان أيضا؛ لأنه جمع بين المعدوم والموجود في صفته فكان قبول البيع في المعدوم شرطا لقبوله في الموجود فيفسد العقد، كما إذا جمع بين حر وعبد في صفقة، وسمى لكل واحد ثمنا، فإنه لا يجوز البيع عنده في القن، خلافا لهما كذلك هنا.
وكما لو اشترى هرويين فإذا أحدهما مروي فإن العقد فاسد عنده قال المصنف: م: (وليس بصحيح) ش: أي عدم الجواز في فصل النقصان غير صحيح.
وقال الأترازي: أي ما قيل: إن عند أبي حنيفة لا يجوز البيع في فصل النقصان ليس بصحيح؛ لأن ثمن كل ثوب معلوم قطعا، فإذا نقصت يكون باقي الثمن معلوما لا محالة.(8/28)
بخلاف ما إذا اشترى ثوبين على أنهما هرويان، فإذا أحدهما مروي حيث لا يجوز فيهما، وإن بين ثمن كل واحد منهما؛ لأنه جعل القبول في المروي شرطا لجواز العقد في الهروي، وهو شرط فاسد، ولا قبول يشترط في المعدوم فافترقا.
ولو اشترى ثوبا واحدا على أنه عشرة أذرع كل ذراع بدرهم فإذا هو عشرة ونصف أو تسعة ونصف. قال أبو حنيفة في الوجه الأول: يأخذه بعشرة من غير خيار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بخلاف ما إذا اشترى ثوبين) ش: هذا جواب عما استدل به بعض المشايخ فيما قالوا بمسألة من اشترى ثوبين هرويين، فإذا أحدهما مروي على ما ذكرنا فقاله المصنف، هذا الذي نحن فيه لا يشبه هذه المسألة، وبين ذلك بقوله: بخلاف ما إذا اشترى ثوبين م: (على أنهما هرويان، فإذا أحدهما مروي حيث لا يجوز فيهما، وإن بين ثمن كل واحد منهما؛ لأنه جعل القبول في المروي شرطا لجواز العقد في الهروي وهو شرط فاسد) ش: لأن المروي غير مذكور في العقد، فشرط قبوله مما لا يقتضيه العقد، فكان فاسدا، بيانه أنه شرط لقبول المبيع قبول ما ليس بمبيع، وإنه مفسد للبيع لكونه مخالفا لمقتضى العقد، وهذا لا يوجد هاهنا، فإنه ما شرط قبول العقد في المعدوم وهو معنى قوله: م: (ولا قبول يشترط في المعدوم) ش: ولا قصد إيراد العقد على المعدوم؛ لعدم تصور ذلك فيه، وإنما قصد إيراده على الموجود فقط، ولكنه غلط في العدد. وهروي: بفتح الراء، ومروي بسكونها، قال الكاكي: منسوب إلى هراة ومرو؛ قريتان بخراسان وتبعه الأكمل على ذلك.
قلت: هذا عجيب منهما، فإن هراة مدينة عظيمة مشهورة بخراسان، قاله في " المشترك "، ومرو: مدينة قديمة يقال: إنها من بناء طحمورث، وقال في " المشترك " أيضا: مدينة عظيمة بينها وبين كل واحد من نيسابور وهراة وبلخ وبخارى اثنا عشر يوما.
م: (فافترقا) ش: أي شراء العدل على أنه عشرة أثواب بمائة كل ثوب بعشرة فإذا هو تسعة، وشراء الثوبين على أنهما هرويان فإذا أحدهما مروي افترقا، حيث جاز البيع في الأول دون الثاني.
وقال الكاكي: حاصل الفرق بينهما هو أن الشيئين الموصوفين بوصف إذا دخلا في عقد واحد كان قبول كل واحد منهما شرطا لصحة العقد في الآخر بذلك الوصف، فإذا انعدم ذلك الوصف كان فاسدا بالنظر إلى انعدام ذلك الوصف، وأما إذا كان أحدهما معدوما بذاته ووصفه لم يكن هذا داخلا في نفس العقد حتى يكون قبوله شرطا لصحة العقد في الآخر.
م: (ولو اشترى ثوبا واحدا على أنه عشرة أذرع كل ذراع بدرهم فإذا هو عشرة ونصف أو تسعة ونصف، قال أبو حنيفة -في الوجه الأول: يأخذه) ش: أي يأخذ الثوب في الأول، وهو فيما إذا ظهر عشرة ونصف م: (بعشرة) ش: ويسلم له النصف مجانا م: (من غير خيار) ش:(8/29)
وفي الوجه الثاني: يأخذه بتسعة إن شاء. وقال أبو يوسف: في الوجه الأول يأخذه بأحد عشر إن شاء، وفي الوجه الثاني يأخذه بعشرة إن شاء. وقال محمد في الأول يأخذه بعشرة ونصف إن شاء، وفي الثاني بتسعة ونصف ويخير؛ لأن من ضرورة مقابلة الذراع بالدرهم مقابلة نصفه بنصفه فيجزئ عليه حكمها. ولأبي يوسف أنه لما أفرد كل ذراع ببدل نزل كل ذراع منزلة ثوب على حدة وقد انتقص. ولأبي حنيفة أن الذراع وصف في الأصل، وإنما أخذ حكم المقدار بالشرط وهو مقيد بالذراع فعند عدمه عاد الحكم إلى الأصل، وقيل في الكرباس الذي لا تتفاوت جوانبه: لا يطيب للمشتري ما زاد على المشروط؛ لأنه بمنزلة الموزون حيث لا يضره الفصل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
متعلق بقوله: يأخذه.
م: (وفي الوجه الثاني) ش: وهو فيما إذا ظهر أنه تسعة ونصف م: (يأخذه بتسعة إن شاء) ش: يعني له الخيار م: (وقال أبو يوسف: في الوجه الأول يأخذه بأحد عشر إن شاء) ش: يعني له الخيار م: (وفي الوجه الثاني يأخذه بعشرة إن شاء) ش: يعني له الخيار.
م: (وقال محمد: في الأول يأخذه بعشرة ونصف إن شاء، وفي الثاني بتسعة ونصف ويخير) ش: يعني له الخيار في الوجهين م: (لأن من ضرورة مقابلة الذراع بالدرهم مقابلة نصفه بنصفه فيجزئ عليه حكمها) ش: من التجزية وفي بعض النسخ (فيجري عليه) ، أي على النصف حكم المقابلة ويخير كما لو باع عشرة بعشرة فنقص ذراع.
م: (ولأبي يوسف أنه لما أفرد كل ذراع ببدل نزل كل ذراع منزلة ثوب على حدة وقد انتقص) ش: والثوب إذا بيع على أنه كذا ذراعا فنقص ذراع لا يسقط شيء من الثمن، ولكن يثبت له الخيار.
م: (ولأبي حنيفة أن الذراع وصف في الأصل) ش: لا يقابله شيء من الثمن م: (وإنما أخذ حكم المقدار) ش: وهو الكيل والوزن م: (بالشرط) ش: بأن قال: كل ذراع بدرهم م: (وهو) ش: أي الشرط م: (مقيد بالذراع فعند عدمه) ش: أي عدم الشرط، وهو ما إذا كان أقل من الذراع م: (عاد الحكم إلى الأصل) ش: وهو الوصف وصارت العشرة والنصف بمنزلة العشرة الجيدة، والتسعة والنصف بمنزلة التسعة الجيدة، كذا ذكره فخر الإسلام.
م: (وقيل في الكرباس) ش: أشار بهذا إلى أن هذه الأقوال الثلاثة في الثوب الذي يتفاوت كالقميص، والسراويل، والعمائم، والأقبية، أما في الثوب م: (الذي لا تتفاوت جوانبه) ش: كالكرباس الذي لا تتفاوت جوانبه م: (لا يطيب للمشتري ما زاد على المشروط؛ لأنه) ش: أي؛ لأن الكرباس م: (بمنزلة الموزون حيث لا يضره الفصل) ش: بالصاد المهملة، أي المقطع وإن كان(8/30)
وعلى هذا قالوا: يجوز بيع ذراع منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
متصلا بعضه ببعض لكن ليس في الفصل ضرر كالموزون، فلا يتمكن فيه الضرب لسبب بمنزل البعض عن البعض، فيصير كل ذراع أصلا كالقفيز والكرباس بكسر الكاف فارسي معرب، والجمع الكرابيس م: (وعلى هذا قالوا) ش: أي المشايخ م: (يجوز بيع ذراع منه) ش: وإن لم يعين موضعه كما في الحنطة إذا باع قفيزا منها حيث يجوز، كذا في " الذخيرة "، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو قال بعت قفيزا من هذه الحنطة يجوز لقولنا، وعن القفال من أصحابه إذا لم يعلما مبلغ قفزان الصبرة لم يصح، وقد خالف نص الشافعي كذا في " الحلية ".(8/31)
فصل ومن باع دارا دخل بناؤها في البيع، وإن لم يسمه؛ لأن اسم الدار يتناول العرصة والبناء في العرف، ولأنه متصل به اتصال قرار فيكون تبعا له. ومن باع أرضا دخل ما فيها من النخل والشجر وإن لم يسمه؛ لأنه متصل به للقرار فأشبه البناء. ولا يدخل الزرع في بيع الأرض إلا بالتسمية؛ لأنه متصل به للفصل فشابه المتاع الذي فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في بيان ما يدخل تحت البيع من غير ذكره]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل في بيان ما يدخل تحت البيع من غير ذكره، وما لا يدخل وما يلحقهما م: (ومن باع دارا دخل بناؤها في البيع وإن لم يسمه؛ لأن اسم الدار يتناول العرصة) ش: كل بقعة ليس فيها بناء فهي عرصة م: (والبناء في العرف) ش: قيد به؛ لأنه بحسب اللغة لا يتناول البناء، وقد ورد في الأيمان أن البناء في مسألة اليمين حتى لو دخل العرصة بعد انهدام البناء يحنث، ولكن المطلق من الألفاظ ينصرف إلى المتفاهم في العرف، ولا يفهم في العرف من بيع الدار بيع عرصتها لا بناؤها بل بيعهما جميعا.
م: (ولأنه متصل به) ش: أي ولأن البناء متصل بالعرصة، ذكر الضمير باعتبار المكان م: (اتصال قرار فيكون تبعا له) ش: أي للعرصة باعتبار المكان أيضا وفي نسخة شيخي تابعا لها، وكذلك قوله متصلا بها على الأصل، فلا يحتاج إلى التأويل ويدخل السلم المتصل والفلق المركب والحجر الأسفل من الرحى، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وكذلك يدخل الحجر الأعلى عندنا وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأظهر، ولا يدخل القفل ومفتاحه والباب الموضوع بالاتفاق.
م: (ومن باع أرضا دخل ما فيها من النخل والشجر وإن لم يسمه؛ لأنه) ش: أي؛ لأن الشجر م: (متصل به) ش: أي بالأرض على تأويل المكان م: (للقرار فأشبه البناء) ش: فيكون تبعا له م: (ولا يدخل الزرع في بيع الأرض إلا بالتسمية؛ لأنه) ش: أي؛ لأن الزرع م: (متصل به) ش: أي بالأرض م: (للفصل) ش: يعني ليس اتصاله للتأبيد، ولرفعه غاية معلومة م: (فشابه المتاع الذي فيها) ش: أي في الأرض فلم يدخل في المبيع إلا بالشرط، ونوقص بالحمل، فإنه متصل بالأم للفصل ويدخل في بيع الأم، والجواب أنه غير وارد على التفسير المذكور، فإن البشر ليس في وسعه فصل الحمل عن الأم.
وفي " الخلاصة " والقطن فاختلف المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فيه، والصحيح أنه لا يدخل، وأما الكتان إن كان ظاهرا فلا يدخل، وإن كان معيبا فالصحيح أنه يدخل، ثم قال: أما الأشجار إن كانت بحال تقطع في كل ثلاث سنين، وإن كانت تقلع من الأصل يدخل تحت(8/32)
ومن باع نخلا أو شجرا فيه ثمر فثمرته للبائع، إلا أن يشترط المبتاع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البيع وهو الشجر الصغير الذي لا يباع في السوق في الربيع، وإن كانت تقطع من وجه الأرض فالصحيح أنها تدخل تحت البيع، أيضا من ذكر مثمرة كانت أو غير مثمرة، صغيرة أو كبيرة، للحطب أو لغيره، وفيه اختلاف المشايخ، واختار الولوالجي في "فتاواه " أنها لا تدخل؛ لأنها بمنزلة الثمر.
وفي " الفتاوى الصغرى ": قال مشايخنا: إن كان شجرا يغرس للقطع لا للبقاء كشجر الحطب وغيره لا تدخل؛ لأنها بمنزلة الزرع، وفي " الخلاصة ": وشجرة الخلاف والمغرب للمشتري، وكذا كل ما كان له ساق ولا يقطع أصله حتى كان شجرا، وأصل الآس والزعفران للبائع والقصب في الأرض كالثمرة والرطبة التي يقال لها سبيت كالثمر، وأما عروقها فتدخل في المبيع وقوام الخلاف يدخل في البيع وقوام الباذنجان كذلك، ذكره الإمام السرخسي، والإمام الفضلي جعل قوائم الخلاف كالتمر بلغ أوان القطع وبه قال وبه يفتي.
وقال الولوالجي في " فتاواه ": رجل اشترى كرما وفيه ورق التوت والورد، لا يدخل ذلك في البيع؛ لأنه بمنزلة التمر، وفي " المجتبى " يدخل في بيع الدار المخرج والمربط والمطبخ والبئر وبكرتها دون الحبل والدلو، إلا إذا قال مرافقها فيدخلان.
وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولا يدخل الشرب والطريق في بيع الأرض والدار إلا بذكر الحقوق ونحوها، وكذا في الإقرار والصلح والوصية وغيرها ويدخلان في الإجارة والقسمة والرهن والوقف وفي جمع البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أراد بالطريق الذي لا يدخل في بيع الدار بلا ذكر الطريق الخاص في ملك إنسان.
أما الطريق إلى الطريق الأعظم أو إلى سكة غير نافذة يدخل بلا ذكر، وكذا حق مسيل الماء وحق إلقاء الشلخ في ملك خاص لا يدخل بلا ذكر الحقوق والمرافق. وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وفي " فتاوى قاضي خان ": والبستان الذي في الدار يدخل، وقيل: إن كان من الدار يدخل وإلا فلا، وفي " جمع البخاري " باع دارا لفنائها لم يصح كما إذا جمع بين حر وعبد في بيع الحانوت يدخل ألواحه، وإن لم يقل بمنافعه.
وفي " جمع البخاري ": قدور القصارين والصباغين والجاحين الغسالين وخوابي الزياتين ودناتهم، وجذع القصار الذي يدق عليه المثبت في الأرض لا يدخل، وإن قال بحقوقها.
[باع نخلا أو شجرا فيه ثمر]
م: (ومن باع نخلا أو شجرا فيه ثمر فثمرته للبائع، إلا أن يشترط المبتاع) ش: أي المشتري م:(8/33)
لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "من اشترى أرضا فيها نخل فالثمرة للبائع، إلا أن يشترط المبتاع"، ولأن الاتصال وإن كان خلقة فهو للقطع لا للبقاء فصار كالزرع، ويقال للبائع: اقطعها وسلم المبيع، وكذا إذا كان فيها زرع؛ لأن ملك المشتري مشغول بملك البائع، فكان عليه تفريغه وتسليمه، كما إذا كان فيه متاع. وقال الشافعي: يترك حتى يظهر صلاح الثمر ويستحصد الزرع؛ لأن الواجب إنما هو التسليم المعتاد. وفي العادة أن لا يقطع كذلك، وصار كما إذا انقضت مدة الإجارة وفي الأرض زرع، قلنا هناك التسليم واجب أيضا حتى يترك بأجر، وتسليم العوض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «من اشترى أرضا فيها نخل فالثمرة للبائع، إلا أن يشترط المبتاع» ش: هذا الحديث غريب بهذا اللفظ، وأخرج الأئمة الستة في كتبهم عن سالم بن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من باع عبدا له مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع، ومن باع نخلا مؤبرا فالثمرة للبائع إلا أن يشترط المبتاع» .
م: (ولأن الاتصال) ش: أي اتصال الثمر بالشجر م: (وإن كان خلقة فهو للقطع لا للبقاء فصار كالزرع) ش: حيث لا يدخل في بيع الأرض م: (ويقال للبائع) ش: يعني إذا لم تدخل الثمرة تحت بيع النخل والشجر يقال البائع: م: (اقطعها) ش: أي اقطع الثمرة م: (وسلم المبيع) ش: للمشتري.
م: (وكذا) ش: أي وكذا الحكم م: (إذا كان فيها) ش: أي في الأرض م: (زرع) ش: يؤمر البائع بحصاد الزرع وتسليم الأرض للمشتري م: (لأن ملك المشتري مشغول بملك البائع فكان عليه) ش: أي على البائع م: (تفريغه) ش: أي تفريغ ملك المشتري م: (وتسليمه) ش: إلى البائع م: (كما إذا كان فيه) ش: أي في ملك المشتري م: (متاع) ش: بأنه باع أرضا فيها متاعه أو حملا عليه رحله يجب التفريغ والتسليم.
م: (وقال الشافعي: يترك) ش: أي على الشجر م: (حتى يظهر صلاح الثمر ويستحصد الزرع) ش: يقال: استحصد الزرع، جاز له أن يحصد أي يقطع بالمنجل، وبقوله قال مالك وأحمد هذا إذا أطلق البيع، ولم يشترط القطع في الحال، وفي وجيزهم قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ليس لمشتري الأشجار أن يكلف البائع بقطع الثمار، بل الإبقاء إلى أوان القطاف للعرف م: (لأن الواجب إنما هو التسليم المعتاد. وفي العادة أن لا يقطع كذلك) ش: أي أن لا تقطع الثمر قبل ظهور صلاحها م: (وصار) ش: أي صار حكم هذا م: (كما إذا انقضت مدة الإجارة، وفي الأرض زرع) ش: حيث يؤخر إلى الحصاد.
م: (قلنا هناك) ش: أي في الزرع م: (التسليم واجب أيضا حتى يترك بأجر وتسليم العوض)(8/34)
كتسليم المعوض. ولا فرق بين ما إذا كان الثمر بحال له قيمة أو لم يكن في الصحيح، ويكون في الحالين للبائع؛ لأن بيعه يجوز في أصح الروايتين على ما نبين، فلا يدخل في بيع الشجر من غير ذكر، وأما إذا بيعت الأرض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: وهو الأجر م: (كتسليم المعوض) ش: وهو الأرض.
فإن قيل: ينبغي أن يجوز أن يستأجر البائع الأرض والشجر من المشتري إلى وقت الإدراك فيكون تسليم الأجرة تسليم الأرض والشجر دفعا للضرر عنه.
قلنا: كان القياس في الإجارة والمبيع القطع والتسليم إلا أن في صورة البيع وجد من البائع دلالة الرضاء بقطع الثمر والزرع قبل الإدراك، وهو إقدامه على بيع الأرض والشجر مع علمه أن المشتري يطالبه بتفريغ ملكه عن ملك البائع وتسليمه إليه فارغا عن حق الغير، فلما وجد منه دلالة الرضا بذلك لم يجب رعاية جانبه بتبقية الأرض والشجر على حكم ملكه بالإجارة.
بخلاف المستأجر فإنه لم يوجد منه بعد انقضاء مدة الإجارة فعل ما يدل على الرضا بقطع الثمر والزرع، فوجب رعاية جانبه بتبقية الأرض على حكم ملكه بالإجازة، وأما العادة فغير مسلم، ولئن سلمنا كان المشترك؛ لأنهم كما يتركون حتى يستحصد الزرع يبيعون بشرط القطع كذا في " تعليقات البرغري ".
م: (ولا فرق) ش: قال الكاكي: كأنه رد لقول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإن عنده غير المؤبرة للمشتري.
وقال الأترازي: ولا فرق إلى آخره، يتصل بقوله: ومن باع نخلا أو شجرا فيه ثمر فثمرته للبائع يعني، أن الثمر للبائع في الحالين يعني م: (بين ما إذا كان الثمر بحال له قيمة، أو لم يكن في الصحيح) ش: احترز به عن قول المشعري فإنه قال: إن لم يكن له قيمة يدخل، والصحيح أنه لم يدخل في الحالين؛ لأن بيعه يصح في أصح الروايتين وما يصح بيعه منفردا لا يدخل في بيع غيره. ولا يلزم عليه البقاء فإن بيعه يجوز منفردا، ومع أنه يدخل في بيع الأرض تبعا؛ لأن البناء للقرار فيكون كجزء من أجزاء البيع، بخلاف الثمر، فإنه المفصل فلم يكن كجزء من أجزائه.
م: (ويكون في الحالين) ش: أي في حال يكون له قيمة، وفي حال لا يكون له قيمة يكون م: (للبائع؛ لأن بيعه يجوز في أصح الروايتين على ما نبين) ش: أشار به إلى ما ذكره بعد تسعة خطوط بقوله: ومن باع ثمرة لم يبد صلاحها في الحال، أو قد بدا جاز م: (فلا يدخل في بيع الشجر من غير ذكر) ش: يعني إذا كان الأمر كذلك لا يدخل الثمر في بيع الشجر بلا ذكر.
م: (وأما إذا بيعت الأرض) ش: قال الأكمل: قوله وإذا بيعت الأرض معطوف على ولا(8/35)
وقد بذر فيها صاحبها ولم ينبت بعد لم يدخل فيه؛ لأنه مودع فيها كالمتاع، ولو نبت ولم تصر له قيمة فقد قيل: لا يدخل فيه، وقد قيل: يدخل فيه، وكان هذا بناء على الاختلاف في جواز بيعه قبل أن يناله المشافر والمناجل، ولا يدخل الزرع والثمر بذكر الحقوق والمرافق؛ لأنهما ليسا منهما، ولو قال: بكل قليل وكثير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فرق، يعني الثمر لا يدخل في البيع وإن لم يكن له قيمة، وأما إذا بيعت الأرض م: (وقد بذر فيها صحابها) ش: أي والحال أن صاحبها قد بذر في الأرض.
م: (ولم ينبت) ش: أي والحال أنه لم ينبت م: (بعد لم يدخل فيه) ش: أي في البيع م: (لأنه) ش: أي؛ لأن البذر م: (مودع فيها) ش: أي في الأرض م: (كالمتاع) ش: الموضوع فيها حيث لا يدخل م: (ولو نبت ولم تصر له قيمة فقد قيل: لا يدخل فيه) ش: أي في البيع وهو قول أبي القاسم الصغار م: (وقد قيل: يدخل فيه) ش: وهو قول أبي بكر الإسكاف.
وفي " الذخيرة ": هذا إذا لم يفسد البذر في الأرض، فلو فسد وعفن فهو للمشتري؛ لأن العفن لا يجوز بيعه على الانفراد فصار بمنزلة جزء من أجزاء الأرض، فيدخل في بيع الأرض، واختار الفقيه أبو الليث أنه لا يدخل بكل حال، إلا إذا بيع مع الأرض نصا أو دلالة، وهو قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وفي " فتاوى الفضلي " ولو عفن البذر في الأرض فهو للمشتري وإلا فهو للبائع، ولو سقاه المشتري حتى نبت ولم يكن عفن عند البيع فهو للبائع والمشتري متطوع فيما فعل، وكذا إذا نبت ولم يتقوم بعد م: (وكان) ش: قال الأكمل: وصحح بعض الشارحين بتشديد النون.
قلت: أراد به الأترازي فإنه قال: وكأن هذا بتشديد النون م: (هذا بناء على الاختلاف في جواز بيعه) ش: يعني فمن جوز بيعه م: (قبل أن يناله المشافر) ش: وهو جمع مشفر البعير، شفته م: (والمناجل) ش: جمع منجل بكسر الميم وهو ما يحصد به الزرع.
م: (ولا يدخل الزرع والثمر بذكر الحقوق والمرافق؛ لأنهما) ش: أي؛ لأن الزرع والثمر م: (ليسا منهما) ش: أي من الحقوق والمرافق، الحقوق جمع حق، والمراد به هاهنا ما يثبت له من ذلك، والمرافق: جمع مرفق بفتح الميم وكسر الفاء، قال الجوهري: والمرفق من الأمر ما ارتفقت به، ومرافق الدار مسيل الماء أو نحوها.
م: (ولو قال: بكل قليل وكثير) ش: هذا يذكر للمبالغة في إسقاط حق البائع عن المبيع وما يتصل بالبيع.
والألفاظ في بيع الأرض المزروعة والشجرة المثمرة أربعة:(8/36)
وهو له فيها ومنها من حقوقها، أو قال: من مرافقها، لم يدخلا فيه لما قلنا. وإن لم يقل: من حقوقها أو من مرافقها دخلا فيه. أما الثمر المجذوذ والزرع المحصود لا يدخل إلا بالتصريح به؛ لأنه بمنزلة المتاع.
قال: ومن باع ثمرة لم يبد صلاحها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأول: أن يقول: بعت الأرض أو الشجر بكل قليل أو كثير م: (وهو له) ش: أي للبائع م: (فيها) ش: أي في الأرض م: (ومنها) ش: أي من الأشجار وقال شيخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه لف ونشر؛ لأن قوله: فيها يرجع إلى الأرض التي فيها الزرع.
وقوله: منها يرجع إلى الأشجار التي فيها الثمر م: (من حقوقها) ش: أي قال من حقوقها م: (أو قال: من مرافقها لم يدخلا فيه) ش: أي الزرع والثمر م: (لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله؛ لأنهما ليسا منهما.
والثاني: أن يقول: بعت منك قليل أو كثير هو له فيها ولم يقل: من حقوقها وهو معنى قوله م: (وإن لم يقل من حقوقها أو من مرافقها دخلا فيه) ش: أي في البيع لعموم تمام اللفظ.
والثالث: أن يقول: بعت الأرض والشجر ولم يزد على ذلك، وقد تقدم بيان ذلك.
والرابع: أن يقول: بعت بحقوقها ومرافقها لا يدخلان؛ لأن الحق في العادة يذكر لما هو تبع لا بد للمبيع منه كالطريق والشرب والمرافق، فإنه حقوقه وهو مخصوص بالتوابع كمسيل الماء، والزرع والثمار ليسا كذلك فلا يدخلان.
م: (أما الثمر المجذوذ) ش: بذالين معجمتين ويجوز بمهملتين؛ لأن كليهما بمعنى واحد وهو المقطوع، قال الأترازي: الأول بالإهمال لتناسب بينه وبين المحصود، وهو قوله: م: (والزرع المحصود لا يدخل إلا بالتصريح به) ش: أي لا يدخل بمجرد قوله: بكل قليل وكثير هو له فيها، وإن لم يقل من حقوقهما أو من مرافقها م: (لأنه) ش: أي؛ لأن كل واحد من المجذوذ والمحصود م: (بمنزلة المتاع) ش: الموضوع فيها.
[باع ثمرة لم يبد صلاحها]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن باع ثمرة لم يبد صلاحها) ش: لا خلاف للعلماء في بيع الثمار بعد بدو الصلاح، لكن الخلاف في تفسير بدو الصلاح، فعندنا هو أن يأمن العاهة والفساد ذكره في " المبسوط ".
وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ظهور الصلاح بظهور الفتح ومبادئ الحلاوة، أما قبل بدو الصلاح إذا اشتراها مطلقا يجوز عندنا، وعند الشافعي ومالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لا يجوز البيع، والبيع بشرط القطع قبل بدو الصلاح يجوز فيما ينتفع به بالإجماع وبشرط الترك لا يجوز بالإجماع، وبيع الثمار قبل الظهور لا يجوز بالإجماع، وبعد الظهور على ثلاثة أوجه:(8/37)
أو قد بدا جاز البيع؛ لأنه مال متقوم، إما لكونه منتفعا به في الحال أو في المآل، وقد قيل: لا يجوز قبل أن يبدو صلاحها، والأول أصح. وعلى المشتري قطعها في الحال تفريعا لملك البائع، وهذا إذا اشتراها مطلقا أو بشرط القطع. وإن شرط تركها على النخيل فسد البيع؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدها: أن يبيعها قبل صيرورتها منتفعا بها، فإن لم يصلح لتناول بني آدم وعلف الدواب فقال شيخ الإسلام: لا يجوز، وذكر القدوري في شرحه والإسبيجابي: أنه يجوز وإليه أشار محمد في كتاب الزكاة في باب العشر والخراج في الجامع وهو الصحيح.
والثاني: ما إذا باعه بعدما صار منتفعا به إلا أنه لم يتناه عظمه فالبيع جائز، ... فالبيع فاسد؛ لأنه شرط ما لا يقتضيه العقد وفيه نفع لأحد المتعاقدين.
والثالث: إذا باعه بعدما تناهى عظمه فالبيع جائز عند الكل إذا باعه مطلقا أو بشرط القطع، ولو باعه بشرط الترك لا يجوز في القياس، وهو قولهما ويجوز في الاستحسان، وهو قول محمد والشافعي ومالك وأحمد على ما سيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى.
وقال القدوري: ومن باع ثمرة لم يبد صلاحها م: (أو قد بدا جاز البيع) ش: وقد روي عدم الجواز قبل بدو الصلاح والأول أظهر م: (لأنه مال متقوم إما لكونه منتفعا به في الحال أو في المآل) ش: وفي بعض النسخ، أو في الثاني أو ثاني الحال، كبيع الحجر، ومولود ولد من ساعته، ومهر صغير.
وفي " قاضي خان " لم يجوّز عامة مشايخنا بيع الثمار قبل أن تصير منتفعة؛ لنهيه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عن بيعها قبل بدو الصلاح، والمراد بالصلاح الانتفاع وقد قال الفضلي: يجوز بيعها قبل الظهور والنهي محمول على بيعها قبل ظهور صلاحها للانتفاع في الزمان الثاني.
م: (وقد قيل: لا يجوز) ش: وهو قول شمس الأئمة السرخسي وشيخ الإسلام خواهر زاده م: (قبل أن يبدو صلاحها، والأول) ش: أي جواز البيع في الحالين م: (أصح) ش: كما قاله الإمام الفضلي واختاره المصنف م: (وعلى المشتري قطعها في الحال تفريغا لملك البائع وهذا) ش: إشارة إلى الجواز أي الجواز إنما يكون م: (إذا اشتراها مطلقا أو بشرط القطع) ش: أي إذا اشتراها بشرط أن يقطعه م: (وإن شرط تركها) ش: بأن قال: اشتريت على أني أتركه م: (على النخيل فسد البيع؛ لأنه) ش: أي؛ لأن شرط الترك م: (شرط لا يقتضيه العقد) ش: لأن مطلق البيع يقتضي(8/38)
وهو شغل ملك الغير أو هو صفقة في صفقة وهو إعارة أو إجارة في بيع، وكذا بيع الزرع بشرط الترك لما قلنا، وكذا إذا تناهى عظمها -عند أبي حنيفة وأبي يوسف - لما قلنا. واستحسنه محمد للعادة، بخلاف ما إذا لم يتناه عظمها؛ لأنه شرط فيه الجزء المعدوم وهو الذي يزيد بمعنى من الأرض أو الشجر. ولو اشتراها مطلقا وتركها بإذن البائع طاب له الفضل، وإن تركها بغير إذنه تصدق بما زاد في ذاته لحصوله بجهة محظورة، وإن تركها بعدما تناهى عظمها لم يتصدق بشيء؛ لأن هذا تغير حالة لا تحقق زيادة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تسليم المعقود عليه م: (وهو) ش: أي شرط الترك الذي لا يقتضيه العقد م: (شغل ملك الغير أو هو) ش: أي البيع بشرط الترك م: (صفقة في صفقة) ش: وقد ورد النهي عنها وفسرها بقوله: م: (وهو إعارة أو إجارة في بيع) ش: أراد بها إجارة على تقدير أنها بأجرة، وإعارة على تقدير أنها بلا أجرة فيكون إدخال صفقته التي هي للإجارة، أو الإعارة في صفقة وهو البيع.
وقال مالك: وفيه تأمل؛ لأن ذلك إنما يكون صفقة إن جاز إعارة الأشجار أو إجارتها وليس كذلك، نعم هو مستقيم فيما إذا باع الفرس بشرط الترك فإن إعارتها أو إجارتها جائزة فيلزم صفقة في صفقة.
م: (وكذا بيع الزرع بشرط الترك) ش: أي كذا يفسد البيع بشرط أن يقول المشتري: اشتريته على أني أتركه إلى وقت الحصاد م: (لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله: لأنه شرط لا يقتضيه العقد. م: (وكذا) ش: أي وكذا يفسد البيع م: (إذا تناهى عظمها) ش: وشرط فيه الترك م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف لما قلنا) ش: أي؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد م: (واستحسنه محمد) ش: أي استحسن محمد هذا العقد في هذه الصورة، يعني لا يفسد البيع، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (للعادة) ش: أي لتعامل الناس من غير نكير.
م: (بخلاف ما إذا لم يتناه عظمها) ش: حيث يفسد م: (لأنه شرط فيه الجزء المعدوم وهو الذي يزيد بمعنى من الأرض أو الشجر) ش: وهو تأثيرهما في الزيادة م: (ولو اشتراها مطلقا) ش: يعني من غير شرط القطع والترك م: (وتركها بإذن البائع طاب له الفضل) ش: أي الفضل له من غير كراهة م: (وإن تركها بغير إذنه) ش: أي بغير إذن البائع م: (تصدق) ش: أي المشتري م: (بما زاد في ذاته) ش: أي يقوم قبل التناهي وبعده فيتصدق بفضل ما بينهما من قيمته م: (لحصوله) ش: أي لحصول ما زاد في ذاته م: (بجهة محظورة) ش: وهي حصولها بقوة الأرض المغصوبة م: (وإن تركها بعدما تناهى عظمها لم يتصدق بشيء؛ لأن هذا) ش: أي الذي زاد بعد التناهي م: (تغير حالة) ش: من النيئ إلى النضج م: (لا تحقق زيادة) ش: في الكم فإن الثمرة إذا صارت بهذه المثابة لا يزاد فيها من ملك البائع شيء بل الشمس تنضجها، والقمر يلونها، والكواكب تعطيها الطعم.(8/39)
وإن اشتراها مطلقا وتركها على النخيل، وقد استأجر النخيل إلى وقت الإدراك طاب له الفضل؛ لأن الإجارة باطلة لعدم التعارف والحاجة، فبقي الإذن معتبرا بخلاف ما إذا اشترى الزرع واستأجر الأرض إلى أن يدرك وتركه، حيث لا يطيب له الفضل؛ لأن الإجارة فاسدة للجهالة فأورثت خبثا. ولو اشتراها مطلقا فأثمرت ثمرا آخر قبل القبض فسد البيع؛ لأنه لا يمكنه تسليم المبيع لتعذر التمييز، ولو أثمرت بعد القبض يشتركان فيه للاختلاط، والقول قول المشتري في مقداره؛ لأنه في يده،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن اشتراها مطلقا) ش: أي عن القطع والترك م: (وتركها على النخيل وقد استأجر النخيل إلى وقت الإدراك طاب له الفضل؛ لأن الإجارة باطلة) ش: أي؛ لأن إجارة النخيل لا تصح، كمن استأجرها ليجفف عليها الثياب وإنما تبطل الإجارة م: (لعدم التعارف) ش: فإن التعارف لم يجر فيها بين الناس باستئجار الأشجار م: (والحاجة) ش: أي ولعدم الحاجة إلى ذلك؛ لأن الحاجة إلى الترك بالإجارة إنما تخفف إذا لم يكن مخلص سواها، وهاهنا يمكن لمشترٍ أن يشتري الثمار مع أصولها على ما سيأتي، فإذا بطلت الإجارة م: (فبقي الإذن معتبرا) ش: فيطيب له الفضل.
فإن قيل: لا نسلم إبقاء الإذن فإنه يثبت في ضمن الإجارة وفي بطلان المتضمن بطلان المتضمن كالوكالة الثابتة، وفي ضمن الرهن تبطل ببطلان الرهن. أجيب بأن الباطل معدوم؛ لأنه هو الذي لا تحقق له أصلا ولا وصفا ولا شرعا على ما عرف، والمعدوم لا يتضمن شيئا حتى يبطل ببطلانه، بل كان ذلك الكلام ابتداء عبارة عن الإذن فكان معتبرا.
م: (بخلاف ما إذا اشترى الزرع واستأجر الأرض إلى أن يدرك وتركه، حيث لا يطيب له الفضل؛ لأن الإجارة فاسدة للجهالة) ش: أي لجهالة وقت إدراك الزرع، فإن الإدراك قد يتقدم لشدة الحر وقد يتأخر للبرد، والفاسد ما له تحقق من حيث الأصل، فأمكن أن يكون متضمنا لشيء، ويفسد ذلك الشيء بفساد المتضمن، وإذا انتفى الإذن م: (فأورثت) ش: جهالة مدة الإدراك م: (خبثا) ش: وسبيل التصدق م: (ولو اشتراها مطلقا) ش: أي ولو اشترى الثمار مطلقا عن القطع والترك م: فأثمرت ثمرا آخر) ش: أي في مدة الترك م: (قبل القبض) ش: يعني قبل تخلية البائع بين المشتري والثمار م: (فسد البيع؛ لأنه) ش: أي؛ لأن البائع م: (لا يمكنه تسليم المبيع) ش: إلى المشتري م: (لتعذر التمييز) ش: أي بين الثمر الذي خرج بعد البيع وبين ما خرج قبل البيع.
م: (ولو أثمرت) ش: يعني ثمرة أخرى م: (بعد القبض) ش: لم يفسد البيع؛ لأن التسليم قد وجد وحدث ملك البائع واختلط بملك المشتري م: (يشتركان فيه للاختلاط) ش: أي لاختلاط غير المبيع بالمبيع م: (والقول قول المشتري في مقداره؛ لأنه في يده) ش: أي؛ لأن المبيع في يده فكان الظاهر شاهدا له، هذا ظاهر المذهب، وكان شمس الأئمة الحلواني يفتي بجوازه(8/40)
وكذا في الباذنجان والبطيخ، والمخلص أن يشتري الأصول لتحصل الزيادة على ملكه.
قال: ولا يجوز أن يبيع ثمرة ويستثني منها أرطالا معلومة، خلافا لمالك؛ لأن الباقي بعد الاستثناء مجهول، بخلاف ما إذا باع واستثنى نخلا معينا؛ لأن الباقي معلوم بالمشاهدة، قال: قالوا: هذه رواية الحسن، وهو قول الطحاوي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويزعم أنه مروي عن أصحابنا.
وحكي عن الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه كان يفتي بجوازه، ويقول: اجعل الموجود أصلا وما يحدث بعد ذلك تبعا، وبهذا شرط أن يكون الخارج أكثر.
م: (وكذا) ش: أي وكذا لا يجوز البيع م: (في الباذنجان والبطيخ) ش: إذا حدث شيء قبل القبض، وإذا حدث بعده يشتركان م: (والمخلص) ش: أي الحيلة في جوازه قبل القبض، وقال الأترازي: أي المخلص من فساد البيع م: (أن يشتري الأصول) ش: أي أصول الباذنجان وأصول البطيخ م: (لتحصل الزيادة على ملكه) ش: ليملكها.
وفي " الذخيرة " " والمغني ": قال أبو الليث: وفيه طريق آخر، وهو أن يأذن للمشتري في الترك على أنه متى رجع عن الإذن كان مأذونا في الترك بإذن جديد.
[يبيع ثمرة ويستثني منها أرطالا معلومة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يجوز أن يبيع ثمرة ويستثني منها أرطالا معلومة) ش: قال تاج الشريعة: أي على الشجرة، أما إذا كان مجذوذا وباع واستثنى أرطالا معلومة جاز، وفي قوله: أرطالا إشارة إلى أن المستثنى لو كان رطلا واحدا يجوز؛ لأنه استثنى القليل من الكثير، بخلاف الأرطال لجواز أن لا يكون إلا ذلك القدر، فيكون استثنى الكل من الكل.
وفي " شرح الطحاوي " باع الثمر على رد من النخل إلا صاعا منها يجوز؛ لأن المستثنى معلوم، كما إذا كان الثمر مجذوذا موضوعا على الأرض فباع الكل إلا صاعا.
م: (خلافا لمالك) ش: فإنه يجوز كاستثناء شجرة معينة م: (لأن الباقي بعد الاستثناء مجهول) ش: أي وزنا ومشاهدة، وقيل: والاستثناء وإن كان مجهولا وزنا لكنه معلوم مشاهدة، وكان بيع مجازفة وجهالة المجازفة لا يمنع صحة العقد؛ لأنها لا تفضي إلى المنازعة، والجهالة في مسألتنا يفضي فتمنع م: (بخلاف ما إذا باع واستثنى نخلا معينا؛ لأن الباقي معلوم بالمشاهدة) ش: كم هي نخلة فيصح.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (قالوا) ش: المشايخ: م: (هذه) ش: أي قول القدوري: ولا يجوز أن يبيع ثمرة، ويستثني منها أرطالا معلومة م: (رواية الحسن) ش: أي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهو قول الطحاوي) ش: قول الشافعي وأحمد -رحمهما الله-(8/41)
أما على ظاهر الرواية ينبغي أن يجوز؛ لأن الأصل أن ما يجوز إيراد العقد عليه بانفراده يجوز استثناؤه من العقد، وبيع قفيز من صبرة جائز، فكذا استثناؤه بخلاف استثناء الحمل وأطراف الحيوان؛ لأنه لا يجوز بيعه فكذا استثناؤه.
ويجوز بيع الحنطة في سنبلها والباقلاء في قشره، وكذا الأرز والسمسم. وقال الشافعي: لا يجوز بيع الباقلاء الأخضر، وكذا اللوز والفستق، والجوز في قشره الأول عنده، وله في بيع السنبلة قولان، وعندنا يجوز ذلك كله، له أن المعقود عليه مستور بما لا منفعة له فيه، فأشبه تراب الصاغة إذا بيع بجنسه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أيضا م: (أما على ظاهر الرواية ينبغي أن يجوز) ش: يريد به على ظاهر قياس الرواية.
فإن حكم هذه المسألة لم يذكر في ظاهر الرواية صريحا، ولهذا قال: ينبغي أن يجوز م: (لأن الأصل أن ما يجوز إيراد العقد عليه بانفراده يجوز استثناؤه من العقد وبيع قفيز من صبرة جائز، فكذا استثناؤه) ش:.
وينعكس إلى أن ما لا يجوز إيراد العقد عليه بانفراده لا يجوز استثناؤه م: (بخلاف استثناء الحمل وأطراف الحيوان؛ لأنه لا يجوز بيعه فكذا استثناؤه) ش: صورة استثنائه الحمل أن يقول: بعتك هذه الشاة إلا حملها، وصورة استثناء أطراف الحيوان بأن يقول: بعتك هذه الشاة إلا جلدها أو غيره، فإنه لا يجوز لا في حضر ولا في سفر.
وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أحمد: يجوز ذلك في الرأس والأكارع؛ لعدم الإفضاء إلى المنازعة غالبا، وتوقف في استثناء الشحم، وعن مالك أنه يجوز ذلك في السفر دون الحضر للضرورة فيه.
[بيع الحنطة في سنبلها والباقلاء في قشره]
م: (ويحوز بيع الحنطة في سنبلها والباقلاء في قشره، وكذا الأرز والسمسم) ش: يعني يجوز في قشرها، والحاصل أن بيع الشيء في خلافه لا يجوز إلا الحبوب مثل هذه المذكورة.
م: (وقال الشافعي: لا يجوز بيع الباقلاء الأخضر، وكذا اللوز والفستق والجوز في قشره الأول عنده) ش: أي عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (وله) ش: أي وللشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (في بيع السنبلة قولان) ش: في قوله القديم يجوز، وفي قوله الجديد لا يجوز، وله أيضا وجهان في الباقلاء الأخضر، والمنصوص عليه أنه لا يجوز وهو ظاهر مذهبه. وقال الإصطخري وكثير من أصحابه: يجوز كقولنا. وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله- م: (وعندنا يجوز ذلك كله) ش: أي بيع المذكور في الحبوب كله يجوز عندنا م: (له) ش: أي للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (أن المعقود عليه مستور بما لا منفعة له فيه) ش: أي للمشتري في المعقود عليه م: (فأشبه تراب الصاغة إذا بيع بجنسه) ش: يعني لا يجوز لاحتمال الربا.
ولا ينصرف إلى خلاف الجنس تحريا للجواز كما في بيع الدرهم والدينارين بدرهمين(8/42)
ولنا ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه نهى عن بيع النخل حتى يزهى، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة» ولأنه حب منتفع به فيجوز بيعه في سنبله كالشعير، والجامع كونه مالا متقوما بخلاف تراب الصاغة؛ لأنه إنما يجوز بيعه بجنسه لاحتمال الربا، حتى لو باعه بخلاف جنسه جاز، وفي مسألتنا لو باعه بجنسه لا يجوز أيضا، لشبهة الربا؛ لأنه لا يدري قدر ما في السنابل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ودينار؛ لأن التراب ليس بمال يتقوم، وتراب الصاغة هو التراب الذي فيه برادة الذهب والفضة، والصاغة: جمع صائغ، ووجه المشابهة بينهما استتاره بما لا منفعة فيه.
م: (ولنا ما روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن بيع النخل حتى يزهى، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة» ش: هذا الحديث رواه الأئمة الستة غير البخاري، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع النخيل» .... إلى آخره نحوه، ولا آخره نحوه نهى البائع والمشتري، قوله: حتى يزهى أي يحمر أو يصفر.
وقال أبو زيد والكسائي: زهى يزهو وأزهى يزهى بمعنى، أي احمر الثمر أو اصفر، وقال أبو عبيد: أنكر الأصمعي أزهى ونقل الزمخشري في فائقه عن كتاب العبن يزهو خطأ، إنما هو، يزهى، قوله: العاهة أي الآفة.
م: (ولأنه) ش: أي وبمعنى المذكور من الحبوب م: (حب منتفع به) ش: وهذا كأنه جواب عن قوله: إن المعقود عليه مستور بما لا نفع فيه، وتقريره لا نسلم أنه لا منفعة له بل هو حب منتفع به، ومن أكل الفوائت يشهد بذلك، وأن الحبوب المذكورة تدخر في قشرها، قال الله تعالى: {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} [يوسف: 47] وهو الانتفاع لا محالة م: (فيجوز بيعه في سنبله كالشعير) ش: في سنبله، فإنه يجوز بالاتفاق م: (والجامع) ش: يعني في تشبيه بيع الحنطة في قشرها، وبيع الشعير في سنبله م: (كونه) ش: أي كون كل واحد منهما م: (مالا متقوما، بخلاف تراب الصاغة؛ لأنه إنما لا يجوز بيعه بجنسه لاحتمال الربا، حتى لو باعه بخلاف جنسه جاز) ش: لعدم ذلك الاحتمال، وقال محمد في الأصل: فإن كان تراب ذهب بتراب فضة فهو جائز، وكل واحد منهما بالخيار إذا رأى ما فيه.
واعلم أن بيع تراب الصاغة بخلاف الجنس إنما يجوز إذا وجد فيه الذهب أو الفضة وإذا لم يوجد فلا، ألا ترى إلى ما قال في الفتاوي الولوالجي: رجل اشترى تراب الصواغين بعرض فهذا على وجهين: إن وجد فيها ذهبا أو فضة جاز البيع؛ لأنه تبين أنه اشترى الذهب والفضة بالعروض وإن لم يجد فيها ذهبا أو فضة لا يجوز.
م: (وفي مسألتنا) ش: المتنازع فيها م: (لو باعه بجنسه) ش: أي لو باع حب الحنطة في السنبل بالحنطة م: (لا يجوز أيضا لشبهة الربا؛ لأنه لا يدري قدر ما في السنابل) .(8/43)
ومن باع دارا دخل في البيع مفاتيح أغلاقها؛ لأنه يدخل فيه الأغلاق؛ لأنها مركبة فيها للبقاء، والمفتاح يدخل في بيع الغلق من غير تسميته؛ لأنه بمنزلة بعض منه إذ لا ينتفع به بدونه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: فإن قيل: ما الفرق بين مسألتنا وبين ما إذا باع حب قطن بعينه أو نوى تمرٍ في تمر بعينه، وهما شيئان في كون المبيع متلفا، أجيب: بأن الغالب في السنبلة الحنطة يقال: هذه حنطة وهي في سنبلها، ولا يقال: هذا حب وهو في القطن، وإنما يقال: هذا قطن، وكذلك في التمر، إليه أشار أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
فإن قلت: استدل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا فيما ذهب إليه، «فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» وهذا الذي ذكرتم منه لا يدرى قدر الحب في السنابل، واستدل أيضا «بأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن بيع الطعام حتى يفرك» .
قلت: حديث النهي عن بيع الغرر محمول على بيع الطير في الهواء، والسمك في الماء؛ لأن الغرر ما له عاقبة مستورة، كذا ذكره في " الصحاح "، أو يحمل على بيعه قبل أن يشتد، وحديث الفرك رواه ابن حبان في رواية عوضا عن قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وعن بيع الحب حتى يشتد» . أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث حماد بن سلمة.
وقوله: حتى يفرك أي حتى يصير بحال يتأتى فيه الفرك، والحمل عليه أولى توفيقا بينه وبين ما روينا فافهم.
م: (ومن باع دارا دخل في البيع مفاتيح أغلاقها) ش: الأغلاق بفتح الهمزة جمع غلق بفتحتين وهو ما يغلق ويفتح بالمفتاح م: (لأنه يدخل فيه) ش: أي في البيع م: (الأغلاق؛ لأنها مركبة فيها) ش: في الدار م: (للبقاء) ش: لا للانفصال م: (والمفتاح يدخل في بيع الغلق من غير تسميته؛ لأنه) ش: أي؛ لأن المفتاح م: (بمنزلة بعض منه) ش: أي من الغلق م: (إذ لا ينتفع به) ش: أي بالغلق م: (بدونه) ش: أي ما بالغلق بالمفتاح وفي بعض النسخ إذ لا ينتفع به بدونه، أي بدون المفتاح، وفي " الفوائد الظهيرية ": هذا إذا كانت الأغلاق مركبة في حيطان الدار، أما إذا كانت منفصلة فلا تدخل بدون الذكر.
فإن قلت: يرد على هذا التعليل الطريق، حيث لا يدخل في بيع الدار مع أن الدار لا ينتفع إلا بها.
قلت: إنما لا يدخل الطريق؛ لأن المقصود من شراء الدار ربما يكون نفس الملك لا الانتفاع بها بأن يكون مراد المشتري بها أخذ دار يجنبها لسبيل الشفعة، حتى إذا كان المقصود الانتفاع بها يدخل الطريق أيضا، كما في الإجارة والقسمة والصدقة الموقوفة.(8/44)
قال: وأجرة الكيال وناقد الثمن على البائع، أما الكيل فلا بد منه للتسليم وهو على البائع، ومعنى هذا إذا بيع مكايلة، وكذا أجرة الوزان والذراع والعداد، وأما النقد فالمذكور رواية ابن رستم عن محمد؛ لأن النقد يكون بعد التسليم، ألا ترى أنه يكون بعد الوزن والبائع هو المحتاج إليه؛ ليميز ما تعلق به حقه من غيره، أو ليعرف المعيب ليرده. وفي رواية ابن سماعة عنه: على المشتري؛ لأنه يحتاج إلى التسليم الجيد المقدر، والجودة تعرف بالنقد كما يعرف القدر بالوزن فيكون عليه. قال: وأجرة وزان الثمن على المشتري؛ لما بينا أنه هو المحتاج إلى تسليم الثمن وبالوزن يتحقق التسليم. قال: ومن باع سلعة بثمن قيل للمشتري ادفع الثمن أولا؛ لأن حق المشتري تعين في المبيع فيقدم دفع الثمن ليتعين حق البائع بالقبض، لما أنه لا يتعين بالتعيين تحقيقا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وأجرة الكيال وناقد الثمن على البائع، أما الكيل فلا بد منه للتسليم وهو) ش: أي التسليم م: (على البائع، ومعنى هذا إذا بيع مكايلة، وكذا أجرة الوزان والذراع والعداد) ش: قيد به؛ لأنه لو بيع مجازفة لا يجب أجرة هؤلاء على البائع إذا باع بشرط الوزن والذرع والعدد؛ لأن تحقق الإبقاء بذلك م: (وأما النقد) ش: أي وأما أجرة ناقد الثمن م: (فالمذكور) ش: أي في القدوري أنه على البائع.
م: (رواية ابن رستم عن محمد؛ لأن النقد يكون بعد التسليم، ألا ترى أنه) ش: أي التسليم م: (يكون بعد الوزن) ش: أي بعد وزن الثمن م: (والبائع هو المحتاج إليه ليميز ما تعلق به حقه من غيره) ش: أي من غير حقه من الرديء م: (أو ليعرف) ش: أي البائع م: (المعيب) ش: إذا وجده معيبا م: (ليرده) ش: على المشتري.
م: (وفي رواية ابن سماعة عنه) ش: أي عن محمد أجرة النقاد م: (على المشتري؛ لأنه يحتاج إلى التسليم الجيد المقدر) ش: لأن حق البائع في القدر والجودة جميعا م: (والجودة تعرف بالنقد كما يعرف القدر بالوزن فيكون عليه) ش: أي على المشتري، وقال الفقيه أبو الليث "في العيون ": أجرة وزان الثمن والناقد على المشتري؛ لأن عليه أن يوفيه الوزن، وفي " الخلاصة ": والصحيح أنها على المشتري.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وأجرة وزان الثمن على المشتري لما بينا أنه) ش: أي أن المشتري م: (هو المحتاج إلى تسليم الثمن، وبالوزن يتحقق التسليم) ش: فيكون الوزان على المشتري.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن باع سلعة بثمن) ش: أي بالدراهم والدنانير م: (قيل للمشتري: ادفع الثمن أولا؛ لأن حق المشتري تعين في المبيع فيقدم دفع الثمن ليتعين حق البائع بالقبض، لما أنه) ش: أي أن الثمن، قال الشافعي في قول: وبه قال مالك: م: (لا يتعين بالتعيين تحقيقا(8/45)
للمساواة. قال: ومن باع سلعة بسلعة أو ثمنا بثمن قيل لهما سلما معا؛ لاستوائهما في التعيين وعدمه، فلا حاجة إلى تقديم أحدهما في الدفع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للمساواة) ش: أي في المالية، وبقولنا قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الأصح: إنه يجبر البائع على تسليم المبيع أولا، وبه قال أحمد. وعنه في قول يجبرهما الحاكم على التسليم فيأمر كل واحد منهما إحضار ما عليه، فإذا أحضراه يسلم الثمن إلى البائع والمبيع إلى المشتري.
وفي قول: لا يجبرهما ويمنعهما عن التحام، فإذا سلم أحدهما أجبر الآخر، كذا في " شرح الوجيز "، وقال الأترازي: وهذا الذي قلنا من وجوب دفع الثمن أولا على المشتري فيما إذا كان المبيع حاضرا، أما إذا كان غائبا فلم يقص عليه الشيخ أبو الحسن الكرخي في "مختصره".
وقال: فإن كان المبيع غائبا عن حضرتهما فللمشتري أن يمتنع من التسليم حتى يحضر المبيع، ويكون بحيث يمكنه قبضه في مكانه إذا دفع الثمن، ثم البيع في زمان الحبس في ضمان البائع إلى أن يسلمه إلى المشتري، حتى إذا هلك في يد البائع انتقض البيع، ويعود الثمن إلى المشتري.
[باع سلعة بسلعة أو ثمنا بثمن]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن باع سلعة بسلعة أو ثمنا) ش: أي وباع م: (بثمن قيل لهما: سلما معا) ش: هذا بإجماع الأئمة الأربعة. م: (لاستوائهما) ش: أي باستواء البائع والمشتري م: (في التعيين وعدمه فلا حاجة إلى تقديم أحدهما في الدفع) ش: أي في دفع المبيع والثمن. وفي " المجتبى ": لا بد من معرفة كيفية التسليم والتسلم ومكان التسليم، التخلية بين المشتري وبين المبيع من غير مانع من قبضه، وبه يدخل البيع في ضمان المشتري.
قال ابن شجاع: وهذا باتفاق أهل العلم، وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: القبض في الدراهم والدنانير لهما بالتزاحم، وفي الثياب ونحوها بنقله من مكان إلى مكان إلا الطعام مكايلة فبالمكيل وفي العقار والشجر بالتخلية، وفي " الغاية ": المحكم فيه العرف فقبض العقار بالتخلية وقبض المنقول النقل إلى مكان لا يختص بالبائع، وبه قال أحمد، وفي " المجتبى ": أمره البائع بالقبض فلم يقبضه حتى أخذه إنسان فإن أمكنه قبضه من غير قيام صح التسليم وإلا فلا.
وفي " النظم ": أمر البائع المشتري بحلق شعر العبد أو بالحجامة أو يسقيه دواء، أو بتداوي جرحه ففعل لا يصير قابضا، ولو قبض المشتري فوجد فيه عيبا ففعل هذه الأشياء لا يكون رضا ولو أمره بختان الجارية أو العبد أو الفصد أو ربط جرحه أو قطع عرقه، أو كان ثوبا فقطه أو قصره أو غسله، أو فعلا يحذوه، أو طعاما تطبخه، أو جارية فأمره أن يزوجها فزوجها ودخل بها زوجها - يكون قبضا، ولو لم يدخل لا يكون قبضا، ولو فعل المشتري شيئا من هذه الأشياء بعد(8/46)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجدان العيب به يصير راضيا، ولو لم يكن له الرد فيرجع بالنقصان في هذا كله.
وفي " جمع النوازل ": دفع المفتاح في بيع الدار تسليم إذا تهيأ له فتحه من غير كلفة، ولو باع حنطة في بيته ودفع إليه المفتاح ليقبض فإن قال: خليت بينك وبينها فتسلم وإلا فلا تسلم الدار، وهما غائبان عنها، وقال المشتري قبضتها لم يصر قابضا حتى يكون قريبا بحيث يقدر إغلاقها.
وفي " جامع شمس الأئمة ": يصح القبض وإن كان العقار غائبا عند أبي حنيفة خلافا لهما اشترى فرسا في حظيرة، فقال البائع: سلمته إليك ففتح المشتري الباب فذهب فإن أمكنه أخذه بيده بلا عون كان تسليما، وإلا فلا، وكذا الطير.
وفي جامع شمس الأئمة: إن كان لا يقدر بقبضه إلا مع الحبل وليس معه حبل لا يكون قبضا وعلى هذا العون، ولو كان معه حبل وعون فقبض، وكذا لو اشترى رمكة من الرماك في حظيرة، ولو اشترى الرماك كلها، فالتخلية بينه وبين الحظيرة تسليم، حتى لو غلبته وهلكن هلكن من المشتري، ولو كان في البيت متاعه وإن قل أو ذرعه يمنع التسليم.
وعن الوبري: المتاع لغير البائع لا يمنع، فلو أذن له بقبض المتاع والبيت صح وصار المتاع وديعة عنده ولو هلك الثوب وهو في أيديهما بعد التخلية فهو قبض عند محمد خلافا لأبي يوسف. ولو اشترى دهنا ودفع قارورة ليزنه فيها بحضرة المشتري، فهو قبض، وكذلك تعيينه على الأصح وإن كان في بيت البائع، وكذا سائر المكيلات والموزونات إذا وزنها أو كالها في وعاء المشتري بأمره.
ولو غصب شيئا بعينه ثم اشتراه صار قابضا بالشراء، وليس للبائع حبسه بالثمن بخلاف الوديعة والعارية إلا إذا وصل إليه بعد التخلية، ولو اشترى حنطة في السواد يجب تسليمها في السواد، ولو اشترى تمرا على الأشجار فجذها على المشتري وفي " الموازنة " على البائع، وكذا قلع الجزر والشلجم ونحوها على المشتري إلا قدر الأنموذج فهو على البائع بكل حال، ولو اشترى حنطة في سنبله أو شيئا في جوالق أو ثوبا في وعاء فالإخراج على المشتري، ولو اشترى وقر حنطة في المصر فحملها على البائع، ولو اشترى حنطة في سنبله فتخليصها بالكربس والتذرية على البائع والتبن للبائع.(8/47)
باب خيار الشرط خيار الشرط جائز في البيع للبائع والمشتري. ولهما الخيار ثلاثة أيام فما دونها، والأصل فيه ما روي أن حبان بن منقذ بن عمرو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب خيار الشرط]
[تعريف خيار الشرط]
م: (باب خيار الشرط) ش: أي هذا باب في بيان أحكام خيار الشرط، ولما فرغ عن بيان البيع اللازم وهو الذي ليس فيه خيار بعد وجود شرائطه شرع في بيان البيع الغير اللازم، وهو ما فيه الخيار، ولكون اللازم أقوى قدمه على غيره، ثم قدم خيار الشرط؛ لأنه يمنع ابتداء الحكم على خيار الرؤية؛ لأنه يمنع تمام الحكم، ثم خيار العيب؛ لأنه يمنع لزوم الحكم.
والخيار في البيع على أربعة أنواع: خيار الشرط، وخيار الرؤية، وخيار العيب، وخيار التعيين، كما إذا اشترى أحد الثوبين وهو بالخيار على أن يأخذ أيهما شاء، وسيجيء في هذا الباب إن شاء الله تعالى.
قوله: خيار الشرط أي خيار يثبت بالشرط، إذ لولا الشرط لما ثبت الخيار بخلاف خيار الرؤية والعيب، فإنهما يثبتان من غير شرط، وهذه الإضافة من باب إضافة الحكم إلى سببه، كصلاة الظهر، وكان من حقه ألا يدخل في البيع لكونه في معنى القمار، ولكن لما جاءت به السنة لم يكن هذا من العمل به فظهر عمله في منع الحكم دون السبب تقليلا لعمله بقدر الإمكان.
وشرط الخيار جائز بإجماع العلماء والفقهاء، ولكن اختلفوا في المدة، ويجوز للبائع وللمشتري أو لهما معا أو لغيرهما، وفي غيرهما اختلاف يجيء إن شاء الله تعالى.
وقال سفيان الثوري وابن شبرمة: يجوز للمشتري لا للبائع؛ لأنه ثبت بخلاف القياس فيقصر على مورد النص وهو المشتري، قلنا: النص هو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "إذا بايعت" يتناول البيع والشراء فيجوز لهما، وكان بالناس حاجة إليه ليدفع الغبن بالتردي، وفيه يستوي البائع والمشتري م: (خيار الشرط جائز في البيع للبائع والمشتري ولهما الخيار ثلاثة أيام) .
قال الأترازي: وقوله ثلاثة أيام يروى بالنصب على أنه ظرف، أي في ثلاثة أيام، وبالرفع على أنه خبر أو خبر مبتدأ محذوف، أي هو ثلاثة أيام.
قلت: في قوله خبر بعد خبر تأمل لا يخفى، والأولى أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره مدة الخيار ثلاثة أيام م: (فما دونها) ش: أي فما دون ثلاثة أيام؛ لأنه إذا جاز في ثلاثة أيام ففيما دونها بطريق الأولى.
م: (والأصل فيه) ش: أي في جواز شرط الخيار م: (ما روي «أن حبان بن منقذ بن عمرو(8/48)
الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يغبن في البياعات فقال له النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا بايعت فقل: لا خلابة، ولي الخيار ثلاثة أيام»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يغبن في البياعات، فقال له النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "إذا بايعت فقل: لا خلابة ولي الخيار ثلاثة أيام» ") .
ش: هذا الحديث رواه الحاكم في المستدرك من حديث محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان حبان بن منقذ رجلا ضعيفا وكان قد ثقل لسانه، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بع وقل لا خلابة"، فكنت أسمعه يقول: لا خلابة لا خلابة، وكان يشتري الشيء ويجيء به إلى أهله فيقولون له: إن هذا غال، فيقول: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد خيرني في بيعي» وسكت عنه الحاكم.
وكذلك رواه الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أخبرنا سفيان عن محمد بن إسحاق به، ومن طريق الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه البيهقي في " المعرفة "، ورواه البخاري في "تاريخه الأوسط "، وقال: حدثنا العباس بن الوليد حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن ابن إسحاق، «حدثني محمد بن يحيى بن حبان قال: كان جدي منقذ بن عمرو أصابته آفة في رأسه فكسرت لسانه، ونازعت عقله، وكان لا يدع التجارة فلا يزال يغبن، فذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إذا بعت فقل: لا خلابة، وأنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال» .
وعاش مائة وثلاثين سنة، وكان في زمن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يبتاع في السوق، فيصير إلى أهله فيلومونه، فيرده، ويقول: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعلني بالخيار ثلاثا، فيمر الرجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقول صدق، ذكره في ترجمة منقذ.
فإن قلت: دل حديث الحاكم على أن القضية لحبان بن منقذ، وحديث البخاري في تاريخه دل على أنه لمنقذ بن عمرو والد حبان.
قلت: روى الترمذي حدثنا يوسف بن حماد البصري، حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا كان في عقدته ضعف، وكان يبايع، وإن أهله أتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا رسول الله احجر عليه، فدعاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنهاه، فقال يا رسول الله إني لا أصبر عن البيع، فقال: "إذا بايعت فقل هاء وهاء ولا خلابة» ، ثم قال: وحديث أنس حديث حسن صحيح غريب، ورواه بقية أصحاب السنن.
وقال شيخنا في "شرحه للترمذي ": الرجل المبهم في هذا الحديث اختلف فيه هل هو(8/49)
ولا يجوز أكثر منها عند أبي حنيفة، وهو قول زفر والشافعي، وقالا: يجوز إذا سمى مدة معلومة؛ لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أنه أجاز الخيار إلى شهرين» ولأن الخيار إنما شرع للحاجة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حبان بن منقذ، أو والده منقذ بن عمرو، فصحح ابن العربي أنه منقذ بن عمرو، ورجح النووي أنه حبان بن منقذ، قوله: هاء روي بالمد والقصر، ومعناه الأخذ والعطاء، كقوله في حديث الربا: إلا هاء وهاء، والخلابة بكسر الخاء المعجمة وبالباء الموحدة، وهي الخديعة.
وروي لا خلانة بالنون مكان الموحدة، وهو تصحيف، وحبان بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة؛ ابن منقذ بضم الميم وسكون النون وكسر القاف وبالذال المعجمة، ابن عمرو بن مالك شهدا أحدا، ومن ولده يحيى وواسع، وأمه هند بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.
كذا ذكره ابن شاهين في كتاب المعجم، وقال ابن ماكولا: ومنقذ بن عمرو المازني الأنصاري، مدني له صحبة، وهو جد محمد بن يحيى بن حبان م: (ولا يجوز أكثر منها) ش: أي من ثلاثة أيام م: (عند أبي حنيفة، وهو قول زفر والشافعي) ش: وقال مالك: شرط الخيار على حسب ما تدعو إليه الحاجة، وذلك يختلف باختلاف الأموال. فإن كان المبيع مما لا يبقى أكثر من يوم كالفاكهة مثلا لم يجز أن يشترط الخيار فيه أكثر من يوم، وإن كان ضيغة لا يمكن الوقوف عليها في ثلاثة أيام يجوز أن يشترط فيها أكثر من ثلاثة أيام.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد م: (يجوز إذا سمى مدة معلومة) ش: سواء كان شهرا أو سنة أو أكثر، ولو شرط الخيار أبدا لا يجوز بالإجماع وبقولهما قال أحمد م: (لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه أجاز الخيار إلى شهرين) ش: هذا غريب جدا، والعجب من الأكمل أنه قال: ولهما حديث ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز الخيار إلى شهرين» ونفس إسناده إلى ابن عمر لم يصح، فكيف يرفع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال الأترازي: وقد روى أصحابنا في شروح " الجامع الصغير ": أن ابن عمر شرط الخيار شهرين، كذا ذكر فخر الإسلام.
وقال العتابي: إن عبد الله بن عمر باع بشرط الخيار شهرا، وقال في " المختلف " روي عن ابن عمر أنه باع جارية وجعل للمشتري الخيار شهرا، وكل هذا لم يثبت، واستدل الكاكي لهما بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المسلمون عند شروطهم» م: (ولأن الخيار إنما شرع للحاجة(8/50)
إلى التروي ليندفع الغبن، وقد تمس الحاجة إلى الأكثر، فصار كالتأجيل في الثمن، ولأبي حنيفة أن شرط الخيار يخالف مقتضى العقد، وهو اللزوم، وإنما جوزناه بخلاف القياس لما روينا من النص فيقتصر على المدة المذكورة فيه وانتفت الزيادة إلا أنه إذا أجاز في الثلاث جاز عند أبي حنيفة خلافا لزفر، هو يقول: إنه انعقد فاسدا فلا ينقلب جائزا، وله أنه أسقط المفسد قبل تقرره فيعود جائزا كما إذا باع بالرقم وأعلمه في المجلس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى التروي) ش: أي التأمل والتفكر م: (ليندفع الغبن وقد تمس الحاجة إلى الأكثر فصار كالتأجيل في الثمن) ش: لأن التأجيل في الثمن يجوز في قليل المدة وكثيرها إن كان يخالف مقتضى العقد لأجل الحاجة، فكذا هذا م: (ولأبي حنيفة أن شرط الخيار يخالف مقتضى العقد، وهو اللزوم، وإنما جوزناه بخلاف القياس لما روينا من النص) ش: وهو حديث حبان بن المنقذ المذكور م: (فيقتصر على المدة المذكورة فيه) ش: أي في النص م: (وانتفت الزيادة) ش: على ثلاثة أيام م: (إلا أنه إذا أجاز في الثلاث جاز عند أبي حنيفة) ش: استثناء من قوله: ولا يجوز أكثر منها، ومعناه لا يجوز أكثر منها، لكن لو ذكر الأكثر منها وأجاز من له الخيار في الثلاث جاز.
ويجوز أن يكون استثناء من قوله: فيقتصر على المدة المذكورة بالتوجيه المذكور، والأول أولى لقوله: م: (خلافا لزفر) ش: تأمل م: (هو) ش: أي زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يقول: إنه) ش: أي إن العقد م: (انعقد فاسدا فلا ينقلب جائزا) ش: كما إذا باع الدرهم بالدرهمين، ثم أسقط الدرهم الزائد، كما لو نكح امرأة وتحته أربع نسوة ثم طلق الرابعة لا يحكم بصحة نكاح الخامسة، وكما لو اشترى عبدا بألف ورطل من خمر، ثم أسقط رطل الخمر، فإنه لا يعود إلى الجواز؛ لأن البقاء على وقف الثبوت.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنه) ش: أي أن من له الخيار م: (أسقط المفسد) ش: وهو اشتراط اليوم الرابع م: (قبل تقرره) ش: أي لزومه وثبوته بمضي ثلاثة أيام.
م: (فيعود جائزا) ش: اعلم أن مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اختلفوا في حكم هذا العقد في الابتداء على قول أبي حنيفة، فذهب العراقيون إلى أنه ينعقد فاسدا، ثم ينقلب صحيحا، بحذف خيار الشرط قبل اليوم الرابع، وذهب أهل خراسان - وإليه مال شمس الأئمة السرخسي - إلى أنه موقوف.
فإذا مضى جزء من اليوم الرابع فسد، فقول المصنف أنه أسقط المفسد قبل تقرره تعليل على الرواية الأولى، وذكر النظير لهذا بقوله: م: (كما إذا باع بالرقم وأعلمه في المجلس) ش: الرقم في الأصل الكتابة والختم.
وفي " المغرب " التاجر يرقم الثياب أي يعلمها بأن ثمنها كذا وكذا، والمقصود هاهنا أن(8/51)
ولأن الفساد باعتبار اليوم الرابع، فإذا أجاز قبل ذلك لم يتصل المفسد بالعقد، ولهذا قيل: إن العقد يفسد بمضي جزء من اليوم الرابع، وقيل: ينعقد فاسدا ثم يرتفع الفساد بحذف الشرط، وهذا على الوجه الأول. ولو اشترى على أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما جاز، وإلى أربعة أيام لا يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يعلم البائع على الثوب بعلامة كالكتابة يعلم بها الدلال أو غيره ثمن الثوب، ولا يعلم المشتري ذلك.
فإن قال: بعتك هذا الثوب برقمه، وقبل المشتري من غير أن يعلم المقدار انعقد البيع فاسدا، فإن علم المشتري قدر الرقم في المجلس، وقيل: انقلب جائزا بالاتفاق قوله: م: (ولأن الفساد باعتبار اليوم الرابع) ش: تعليل على الرواية الثانية.
وتقريره أن اشتراط الخيار غير مفسد للعقد، وإنما المفسد باعتبار اليوم الرابع بالأيام الثلاثة م: (فإذا أجاز قبل ذلك لم يتصل المفسد بالعقد) ش: فكان صحيحا م: (ولهذا قيل) ش: متصل بقوله، ولأن الفساد وهو الذي قرر على مذهب الخراسانيين وهو م: (إن العقد يفسد بمضي جزء من اليوم الرابع) ش: على ما تقرر آنفا.
م: (وقيل: ينعقد فاسدا) ش: هذا على مذهب العراقيين م: (ثم يرتفع الفساد بحذف الشرط) ش: على ما مر أيضا م: (وهذا) ش: أي القول بانعقاده فاسدا.
ثم ارتفاع الفساد بحذف الشرط إنما يستقيم م: (على الوجه الأول) ش: أي التعليل الأول، وهو قوله: أسقط المفسد إلى آخره، وأما على التعليل الثاني وهو قوله: لأن الفساد، إلى آخره فلا يستقيم؛ لأنه لم ينعقد فاسدا فلا يمكن ارتفاع الفساد بحذف الشرط، والجواب عما قاس عليه زفر من المسائل أن الفساد فيها في صلب العقد، وهو البدل، فلم يمكن دفعه، وفي مسألتنا في شرطه فأمكن م: (ولو اشترى على أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينها جاز) ش: ويسمى هذا خيار النقد، والقياس يأبى جوازه، وبه أخذ زفر والشافعي ومالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد على ما يجيء.
م: (وإلى أربعة أيام) ش: يعني لو قال إن لم ينقد الثمن إلى أربعة أيام فلا بيع بيننا م: (لا يجوز، عند أبي حنيفة وأبي يوسف) ش: قال الأترازي: ذكر المصنف قول أبي يوسف مع أبي حنيفة كما ترى، وكذلك ذكر الشهيد أيضا في شرح " الجامع الصغير "، ولم يذكر محمد خلاف أبي يوسف في أصل " الجامع الصغير ".
وهذا الذي ذكره قول أبي يوسف الأول، وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف أنه رجع عن هذا القول، وقال: يجوز البيع كما هو قول محمد، كذا ذكر الفقيه أبو الليث في " شرح(8/52)
وقال محمد: يجوز إلى أربعة أيام أو أكثر، فإن نقد في الثلاث جاز في قولهم جميعا. والأصل فيه أن هذا في معنى اشتراط الخيار، إذ الحاجة مست إلى الانفساخ عند عدم النقد؛ تحرزا عن المماطلة في الفسخ، فيكون ملحقا به، وقد مر أبو حنيفة على أصله في الملحق به، ونفى الزيادة على الثلاث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجامع الصغير ".
ولهذا المعنى قال صاحب المنظومة:
واضطرب الأوسط فيه فاعقل
م: (وقال محمد: يجوز إلى أربعة أيام أو أكثر) ش: كما يجوز عند شرط الخيار أربعة أيام أو أكثر م: (فإن نقد) ش: أي المشتري الثمن م: (في الثلاث) ش: أي في ثلاثة أيام في المسألة المذكورة م: (جاز في قولهم جميعا) ش: أي في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى-.
م: (والأصل فيه) ش: أي في الشراء لشرط أنه إذا لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما م: (أن هذا) ش: أي الشراء بهذا الشرط م: (في معنى اشتراط الخيار) ش: لأن معنى الخيار نقد الثمن، على تقدير إجازة البيع، وعدم نقده على تقدير فسخ البيع، فكذا هاهنا إن شاء نقد الثمن فتم البيع، وإن شاء لم ينقد فانفسخ البيع.
م: (إذ الحاجة مست إلى الانفساخ عند عدم النقد تحرزا عن المماطلة) ش: أي عن المدافعة م: (في الفسخ) ش: وهذا تعليل لقوله: الحاجة مست إلى الانفساخ عند عدم النقد، كأنه ذكر هذا جوابا لسؤال يرد عليه، بأن يقال: لا نسلم أن الحاجة ماسة إلى الانفساخ؛ لأن الحاجة تندفع بالشراء بشرط الخيار؛ لأنه إذا اشترى بالخيار إن شاء أجاز وإن شاء فسخ، ولا حاجة إلى تصحيح هذا العقد بلا حاجة.
فقال في جوابه هذا: إن الفسخ يكون بالشراء لشرط الخيار، لكن ليس لمن له الخيار أن يفسخ بغير حضرة صاحبه عند أبي حنيفة ومحمد، فتحصل المماطلة حينئذ في الفسخ، فإذا كان كذلك م: (فيكون ملحقا به) ش: أي بخيار الشرط.
م: (وقد مر أبو حنيفة على أصله في الملحق به) ش: وهو خيار الشرط م: (ونفى الزيادة على الثلاث) ش: فكذا في الملحق، وهو خيار النقد، والحاصل أن أبا حنيفة مشى على أصله في شرط الخيار، حيث لا يجوز عنده أكثر من ثلاثة أيام.
فكذا ما هو في معناه إلا إذا نقد الثمن في الثلاث، فكان البيع جائزا لانقطاع المفسدة. م:(8/53)
وكذا محمد في تجويز الزيادة، وأبو يوسف أخذ في الأصل بالأثر، وفي هذا بالقياس وفي هذه المسألة قياس آخر، وإليه مال زفر، وهو أنه بيع شرط فيه إقالة فاسدة لتعلقها بالشرط، واشتراط الصحيح منها فيه مفسد للعقد، فاشتراط الفاسد أولى، ووجه الاستحسان ما بينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وكذا محمد) ش: أي وكذا مر محمد على أصله م: (في تجويز الزيادة) ش: في الأصل والملحق به؛ لأن عنده يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاثة أيام إذا كانت المدة معلومة فكذا ما كان في معناه.
م: (وأبو يوسف أخذ في الأصل بالأثر) ش: أي أخذ في ثلاثة أيام في قوله: إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بيننا بالأثر، أي بما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نقله الفقيه أبو الليث في " شرح الجامع الصغير " عن محمد بن الحسن، عن عبد الله بن المبارك، عن ابن جريج، عن سليمان مولى ابن البرصاء، قال: متى بعت من عبد الله بن عمر جارية على أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بيننا، فأجاز ابن عمر هذا البيع، ولم يرد عن أحد من نظرائه خلافه.
م: (وفي هذا بالقياس) ش: أي أخذ في الزائد على ثلاثة أيام في خيار النقد بالقياس، يعني النص مقيد بالثلاث في خيار النقد. وما ورد النص في خيار النقد في الزيادة، وقال الأترازي: أبو يوسف مر على أصله أيضا على قوله المرجوع إليه، ولكنه فرق، وهو بين هذا وبين شرط الخيار على قوله الأول، حيث جوز الزيادة على الثلاثة في شرط الخيار. ولم يجوز هاهنا؛ لأنه اتبع أثر ابن عمر وهو الذي ذكرناه، ولم يتجاوز حد الأثر، وفيما زاد على ذلك أخذ بالقياس؛ لأن القياس أن لا يصح هذا البيع أصلا كما قال زفر: لأنه بيع شرط فيه إقالة فاسدة، وهي إقالة معلقة بالشرط، والبيع بشرط الإقالة الصحيحة باطل فبشرط الإقالة الفاسدة أولى.
م: (وفي هذه المسألة) ش: المذكورة م: (قياس آخر، وإليه) ش: أي وإلى هذا القياس م: (مال زفر وهو) ش: أي هذا القياس م: (أنه بيع شرط فيه) ش: أي في البيع م: (إقالة فاسدة لتعلقها) ش: أي لتعلق الإقالة م: (بالشرط) ش: وهو عدم النقد م: (واشتراط الصحيح منها) ش: أي من الإقالة بأن قال: بعتك هذا بشرط أن يقبل البيع م: (فيه مفسد للعقد فاشتراط الفاسد) ش: وهو تعليق البيع بالإقالة المعلقة م: (أولى) ش: بأن يفسد البيع.
م: (ووجه الاستحسان ما بينا) ش: يعني أن هذا البيع لا يجوز إلى ثلاثة أيام أيضا قياسا، كما قال زفر ولكنا جوزناه استحسانا، ووجهه ما بينا، وهو أن الحاجة مست إلى الانفساخ عند عدم النقد، كذا قاله الأترازي.
وقال الأكمل: وجه الاستحسان أن هذا في معنى شرط الخيار من حيث الحاجة، إذ الحاجة مست إلى الانفساخ عند عدم النقد؛ تحرزا عن المماطلة في الفسخ، وإذا كان في معناه كان ملحقا به، ورد بأنا لا نسلم أنه في معناه؛ لأن هناك لو سكت حتى مضت المدة تم العقد، وهاهنا لو سكت حتى مضت المدة بطل.(8/54)
قال: وخيار البائع يمنع خروج المبيع عن ملكه؛ لأن تمام هذا السبب بالمراضاة، ولا تتم مع الخيار؛ ولهذا ينفذ عتقه، ولا يملك المشتري التصرف فيه، وإن قبضه بإذن البائع. فلو قبضه المشتري وهلك في يده في مدة الخيار ضمنه بالقيمة؛ لأن البيع ينفسخ بالهلاك؛ لأنه كان موقوفا ولا نفاذ بدون المحل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأجيب بأن النظر في الإلحاق إنما هو إلى المعنى المناط للحكم، وهو الحاجة وهي موجودة فيهما، وأما الزائد على ذلك فلا معتبر به. وقال القاضي الإمام ظهير الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - في فوائده: هاهنا مسألة لا بد من حفظها، وهي أنه إذا لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام يفسد البيع، ولا تنفسخ حتى لو أعتقه المشتري وهو في يده نفذ عتقه، وإن كان في يد البائع لا ينفذ، ثم لو كان هذا الشرط للبائع بأن اشترى رجل عبدا ونقد الثمن على أن البائع إن رد الثمن فلا بيع بينهما جاز البيع بهذا الشرط، ويصير بمنزلة خيار الشرط، حتى إذا قبض المشتري المبيع يكون مضمونا عليه بالقيمة، ولو أعتقه المشتري لا ينفذ عتقه، ولو أعتقه البائع ينفذ.
وفي " المجتبى " لو قال أحدهما في البيع: جعلتك بالخيار ثلاثة أيام صح بالإجماع، ولو زاد أو أطلق فسد البيع عند أبي حنيفة وزفر والشافعي، كالشرط الفاسد الملحق بالبيع الصحيح. وقال أبو يوسف ومحمد وأحمد: يجوز، كما في شرط الخيار، ولو قال البائع: خذه وانظر إليه اليوم فإن رضيته أخذته بعشرة فهو خيار، باع على أنه بالخيار، على أن له أن يغله ويستخدمه جاز وهو على خياره، وعلى أن يأكل من ثمره لا يجوز؛ لأن الثمر له حصة من الثمن.
[خيار البائع يمنع خروج المبيع عن ملكه]
م: (قال: وخيار البائع يمنع خروج المبيع عن ملكه؛ لأن تمام هذا السبب) ش: أي العلة م: (بالمراضاة) ش: لكون الرضاء داخلا في حقيقته الشرعية.
م: (ولا تتم) ش: أي المراضاة م: (مع الخيار) ش: لأن البيع به يصير به علة اسما ومعنى لا حكما، فمنع ابتداء الحكم به، وهو الملك فبقي على ملك صاحبه.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كونه على ملك صاحبه م: (ينفذ عتقه) ش: أي عتق البائع م: (ولا يملك المشتري التصرف فيه، وإن قبضه بإذن البائع) ش: لأجل خيار البائع م: (فلو قبضه المشتري، وهلك في يده في مدة الخيار ضمنه بالقيمة) ش: وبه قال الشافعي في الوجه المشهور، ومالك، وفي وجه ضمنه بالثمن، وهو قياس قول أحمد، وقال ابن أبي ليلى لا يضمنه؛ لأنه قبضه بإذن المالك فيكون أمينا فلا ضمان عليه م: (لأن البيع ينفسخ بالهلاك) ش: والمنفسخ به مضمون بالقيمة، وذلك؛ لأن المعقود عليه بالهلاك صار إلى حاله لا يجوز ابتداء العقد عليه فيها، فلا تلحقها الإجارة، وهو معنى قوله م: (لأنه كان موقوفا) ش: أي في حق الحكم م: (ولا نفاذ بدون المحل) ش: كأنه جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: لم صار موقوفا؟ فأجاب أنه لا نفاذ للحكم بدون المحل؛ لأنه فات بالهلاك، فإذا كان(8/55)
فبقي مقبوضا في يده على سوم الشراء، وفيه القيمة،
ولو هلك في يد البائع انفسخ البيع ولا شيء على المشتري اعتبارا بالصحيح المطلق.
قال: وخيار المشتري لا يمنع خروج المبيع عن ملك البائع؛ لأن البيع في جانب الآخر لازم، وهذا؛ لأن الخيار إنما يمنع خروج البدل عن ملك من له الخيار؛ لأنه شرع نظرا له دون الآخر. قال: إلا أن المشتري لا يملكه عند أبي حنيفة، وقالا: يملكه؛ لأنه لما خرج عن ملك البائع فلو لم يدخل في ملك المشتري يكون زائلا، لا إلى مالك ولا عهد لنا به في الشرع، ولأبي حنيفة أنه لما لم يخرج الثمن عن ملكه، فلو قلنا بأنه يدخل المبيع في ملكه لاجتمع البدلان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كذلك م: (فبقي مقبوضا في يده على سوم الشراء) ش: أي على طلب المشتري، م: (وفيه) ش: وفي المقبوض على سوم المشتري يجب م: (القيمة) ش: لأنه مقبوض بالعقد، هذا إذا لم يكن مثليا وإن كان مثليا يجب المثل، كذا في " شرح الأقطع وغيره".
وقال الكاكي: وفي " اليتيمة " أن المقبوض على سوم المشتري إنما يكون مضمونا إذا كان الثمن مسمى، حتى إنه إذا قال: قد أذهب بهذا الثوب، فإن رضيته اشتريته فذهب فهلك لا يضمن. ولو قال: إن رضيته اشتريته بعشرة فذهب به فهلك ضمن قيمته، وعليه الفتوى.
م: (ولو هلك في يد البائع انفسخ البيع ولا شيء على المشتري اعتبارا بالصحيح) ش: أي البيع الصحيح م: (المطلق) ش: أي المطلق عن الخيار، وهو البيع البات، فإن البيع فيه لو هلك في يد البائع ينفسخ البيع، فكذا هذا. وإنما ذكر الصحيح مع أن الحكم في الفاسد كذلك حملا لحال المسلم على الصلاح؛ إذ الصحيح أليق به دون الفاسد.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وخيار المشتري لا يمنع خروج المبيع عن ملك البائع) ش: وهذا بالاتفاق م: (لأن البيع في جانب الآخر لازم) ش: الآخر هو البائع. ومعنى لازم: ثابت؛ لتمام المرضي منه حتى لا يتمكن البائع من الفسخ م: (وهذا) ش: أي منع خروج المبيع عن ملك البائع عند خيار المشتري م: (لأن الخيار إنما يمنع خروج البدل عن ملك من له الخيار؛ لأنه) ش: أي؛ لأن الخيار إنما يمنع خروج البدل عن ملك من له الخيار؛ لأنه م: (شرع نظرا له دون الآخر) ش: يعنى لم يشرع للآخر الذي ليس له الخيار؛ لأن الخيار مانع للحكم في جانب ثمن الخيار لا في جانب من ليس له الخيار.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (إلا أن المشتري لا يملكه) ش: أي المبيع (عند أبي حنيفة وقالا: يملكه) ش: وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قولٍ، ومالك وأحمد م: (لأنه) ش: أي؛ لأن المبيع م: (لما خرج عن ملك البائع فلو لم يدخل في ملك المشتري يكون زائلا لا إلى مالك ولا عهد لنا به) ش: بعين غير معهود م: (في الشرع) ش: فصار كالسائبة.
م: (ولأبي حنيفة أنه) ش: أي الشأن م: (لما لم يخرج الثمن عن ملكه) ش: أي عن ملك المشتري م: (فلو قلنا بأنه يدخل المبيع في ملكه) ش: أي في ملك المشتري م: (لاجتمع البدلان)(8/56)
في ملك رجل واحد، حكما للمعاوضة، ولا أصل له في الشرع؛ لأن المعاوضة تقتضي المساواة، ولأن الخيار شرع نظرا للمشتري؛ ليتروى فيقف على المصلحة، ولو ثبت الملك ربما يعتق عليه من غير اختياره، بأن يكون قريبه فيفوت النظر. قال: فإن هلك في يده هلك بالثمن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي الثمن والمثمن م: (في ملك رجل واحد حكما للمعاوضة) ش: يعني من حيث حكم المعاوضة، واحترز به عن ضمان غصب المدبر؛ لأن الضمان يجب على الغاصب إذا أبق العبد، ولا يخرج المدبر عن ملك مولاه فيجتمع البدلان؛ لأن ذلك ضمان جناية لا ضمان معاوضة.
فإن قلت: المسلم إليه يملك رأس المال والمسلم فيه في ملكه. قلت: المسلم فيه يملكه رب المسلم في ذمة المسلم إليه؛ لأن له حكم الثمن ولهذا جاز فيه صنوب الأجل وهو كسائر البياعات فإن البائع يملك الثمن في ذمة المشتري فلا يجتمع البدلان فإن قلت: يرد عليكم اجتماع الأجرة والمنافع في ملك المؤجر إذا شرط تعجيل الأجرة. قلت: لا نسلم الاجتماع؛ لأن المنافع معدومة فكيف يكون الاجتماع فإذا حدثت ملكها المستأجر ولا اجتماع إذن.
م: (ولا أصل له في الشرع) ش: أي الأصل لاجتماع البدلين في ملك رجل واحد حكما للمعاوضة م: (لأن المعاوضة تقتضي المساواة) ش: يعني المساواة المكفية، وهي أن يدخل المبيع في ملك المشتري، والثمن في ملك البائع (ولأن الخيار شرع نظرا للمشتري ليتروى) ش: أي ليتأمل ويتفكر م: (فيقف على المصلحة ولو ثبت الملك) ش: أي في ملك المشتري م: (ربما يعتق عليه بغير اختياره) ش: لا له م: (بأن يكون) ش: أي المبيع م: (قريبه) ش: فيعتق عليه من غير اختياره م: (فيفوت النظر) ش: لأن الأمر يتردد على موضوعه بالنقض.
وأما الجواب عن قوله لا نظير له في الشرع، قلنا: يبطل ذلك بما إذا اشترى متولي الكعبة إشارة لها أو عبيدا لسدنتها حيث يزول عن ملك البائع ولا يدخل في ملك المشترى، ويبطل أيضا بالتركة المستغرقة بالدين؛ لأن التركة تزول عن ملك الميت، ولا تدخل في ملك الورثة. فإن قيل: لو لم يثبت الملك للمشتري ينبغي أن لا يكون له حق الشفعة به، كما لا يستحق الشفعة بدار السكنى، وكان له حق الشفعة بالإجماع.
قلنا: إنما تستحق الشفعة؛ لأنه بشرائها صار أحق بها تصرفا؛ لأنه ملكها بمنزلة العبد المأذون إذا بيعت دار بجنبه فإنه يستحق الشفعة بهذا الشراء وإن لم يثبت له الملك، ولهذا لو أعتقه المشتري ينفذ عتقه؛ لأنه صار أحق بالتصرف فيه، وإقدامه على الإعتاق إسقاط الخيار منه، كذا في " المبسوط ". م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإن هلك في يده) ش: أي وإن هلك المبيع في يد المشتري م: (هلك بالثمن) ش: سواء هلك في مدة الخيار أو بعدها فعليه الثمن في الوجهين، كذا قال فخر الإسلام في " شرح الجامع الصغير ".(8/57)
وكذلك إذا دخله عيب، بخلاف ما إذا كان الخيار للبائع، ووجه الفرق أنه إذا دخله عيب يمتنع الرد، والهلاك لا يعرى عن مقدمة عيب فيهلك، والعقد قد انبرم فيلزمه الثمن، بخلاف ما تقدم؛ لأن بدخول العيب لا يمتنع الرد حكما لخيار البائع فيهلك، والعقد موقوف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال زفر والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قول: يهلك بالقيمة كخيار البائع، ونقل الأترازي عن المختلف أن عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجب عليه القيمة إذا هلك في المدة، م: (وكذلك إذا دخله عيب) ش: أي وكذلك يجب الثمن إذا دخل المبيع عيب في مدة الخيار، فتعذر رده يلزمه الثمن لانبرام العقد.
وقال الكرخي في مختصره: وإذا قبض المشتري المبيع فدخله في يده عيب ينقص القيمة من فعل المشتري أو غير فعله تم البيع عليه، ويلزمه الثمن. وفي " الإيضاح " إذا كان الخيار للمشتري فحدث في ملكه عيب يجوز ارتفاعه كالمرض فهو على خياره؛ لأنه إذا زال المرض ارتفع النقص، فصار كأن لم يكن، وليس له أن يفتح إلا أن يرفع في الثلاث، فإذا مضت الثلاث والعيب قائم لزم العقد؛ لتعذر الرد م: (بخلاف ما إذا كان الخيار للبائع) ش: يعني إذا كان الخيار للبائع وهلك المبيع في يد المشتري في مدة الخيار يجب القيمة.
م: (ووجه الفرق) ش: يعني بين ما إذا كان الخيار للمشتري وهلك في يده حيث يجب الثمن، وبين ما إذا كان الخيار للبائع، وهلك في يد المشتري في مدة الخيار حيث يجب القيمة م: (أنه) ش: أي أن المبيع م: (إذا دخله عيب) ش: في يد المشتري والخيار له م: (يمتنع الرد، والهلاك لا يعرى عن مقدمة عيب) ش: لأنه بناء على سبب مفض إليه.
بيانه أن الهلاك لا يعرى عن عيب يسبق الهلاك، وذلك بسبب عيب فيكون المبيع معيبا حين أشرف على الهلاك، فبالعيب امتنع رده م: (فيهلك والعقد قد انبرم) ش: أي والحال أن العقد قد تم ولزم، ولفظ انبرم مطاوع أبرم الأمر إبراما إذا أحكمه، فإذا كان كذلك م: (فيلزمه الثمن) ش: أي فيلزم المشتري الثمن الذي وقع عليه العقد م: (بخلاف ما تقدم) ش: وهو ما إذا كان الخيار للبائع فهلك في يد المشتري.
م: (لأن بدخول العيب) ش: قبل الهلاك م: (لا يمتنع الرد حكما) ش: أي من حيث الحكم م: (لخيار البائع) ش: أي لأجل خياره، فلما لم يمتنع الرد لم يكن العقد منبرما م: (فيهلك والعقد موقوف) ش: حينئذ، فيلزمه القيمة؛ لأنه ليس بأدنى حالا من المقبوض على سوم الشراء ولم يلزمه الثمن لعدم انبرام العقد.
وقال الكاكي: ثم هذا في عيب لا يرتفع في مدة الخيار كقطع اليد، وأما لو كان عيبا يجوز ارتفاعه كالمرض فهو على خيار إذا زال في المدة، فله الفسخ بعد ارتفاعه، ولو لم يرتفع بعد مضي المدة لزم العقد لتعذر الرد، كذا في " الإيضاح ".(8/58)
قال: ومن اشترى امرأته على أنه بالخيار ثلاثة أيام لم يفسد النكاح؛ لأنه لم يملكها لما له من الخيار. وإن وطئها له أن يردها؛ لأن الوطء بحكم النكاح إلا إذا كانت بكرا؛ لأن الوطء ينقصها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن أبي يوسف: يبطل خيار المشتري في كل عيب بأي وجه كان، إلا في خصلة، وهي أن النقصان إذا حصل في يد المشتري بفعل البائع فلا يبطل خياره، إن شاء رده وإن شاء أجاز البيع وأخذ من البائع الأرش، وفي زيادة متصلة متولدة في المبيع، كالحسن والجمال وغيرهما يبطل خياره، ويفسد البيع عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وقال محمد: لا يمنع الرد وهو على خياره، ولو كانت الزيادة متصلة غير متولدة منه، كالصبغ والخياطة وغيرهما لا يمنع الرد بالإجماع، ولو كانت الزيادة منفصلة متولدة منه كالولد، والأرش، والعقر، والتمر، واللبن والصوف يمنع الرد، ويبطل الخيار، وينعقد العقد.
ولو كانت الزيادة منفصلة غير متولدة كالكسب، والغلة، والصدقة، والهبة، لا يمنع الرد، وهو على خياره، إلا أنه إذا اختار للبيع فالزوائد له مع الأصل، وإلا اختار الرد؛ يرد الأصل مع الزوائد عند أبي حنيفة. وعندهما الأصل دون الزوائد.
[اشترى امرأته على أنه بالخيار ثلاثة أيام]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى امرأته على أنه بالخيار ثلاثة أيام لم يفسد النكاح) ش" هذه مسائل تترتب على الأصل المتقدم ذكره، وهو أن الخيار إذا كان للمشتري يخرج المبيع عن ملك البائع، ولا يدخل في ملك المشتري عند أبي حنيفة، وعندهما يدخل، فعلى هذا إذا اشترى امرأته على أنه بالخيار ثلاثة أيام لم يفسد النكاح م: (لأنه لم يملكها) ش: أي؛ لأن الزوج لم يملك امرأته.
م: (لما له من الخيار، وإن وطئها له أن يردها) ش: وقال أبو يوسف ومحمد: يفسد النكاح، فإن وطئها لم يستطع ردها، وتأويل المسألة فيما إذا كانت المرأة ثيبا؛ لأنها إذا كانت بكرا يأتي حكمها عن قريب، وإنما يجوز له ردها عند أبي حنيفة م: (لأن الوطء بحكم النكاح) ش: وليس بحكم ملك اليمين حتى يسقط الخيار.
م: (إلا إذا كانت بكرا) ش: استثناء من قوله - له أن يردها - أي إذا كانت المرأة بكرا ليس له أن يردها م: (لأن الوطء ينقصها) ش: فصار بمنزلة اختيار جزء منها، فإن قيل: رضي بالنقصان؛ لأنه لما زوجها فقد مكنها على الوطء، وإذا ثبت الخيار فقد تمكن من الرد فيكون راضيا بالنقصان؛ لأنه لما زوجها قلنا: لا نسلم أن الرضاء باق بعدما باعها، بل لا يبقى. وللشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حل وطئها وجهان: أحدهما: يجوز، والثاني: لا يجوز، وهو نصه، أما لو كان البيع غير امرأته لم يحل للمشتري وطؤها على الأقوال كلها.(8/59)
وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: يفسد النكاح؛ لأنه ملكها. وإن وطئها لم يردها؛ لأن وطأها بملك اليمين فيمتنع الرد وإن كانت ثيبا، ولهذه المسألة أخوات كلها تبتنى على وقوع الملك للمشتري بشرط الخيار وعدمه، منها: عتق المشترى على المشتري إذا كان قريبا له في مدة الخيار، ومنها عتقه إذا كان المشتري حلف إن ملكت عبدا فهو حر، بخلاف ما إذا قال: إن اشتريت؛ لأنه يصير كالمنشئ للعتق بعد الشراء فيسقط الخيار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أحمد: لا يحل للبائع أيضا م: (وهذا) ش: أي المذكور إلى هنا م: (عند أبي حنيفة، وقالا: يفسد النكاح؛ لأنه ملكها) ش: أي؛ لأن المشتري ملك امرأته م: (وإن وطئها لم يردها؛ لأنه وطأها بملك اليمين فيمتنع الرد وإن كانت ثيبا) ش: لأنه كان مختارا لها، سواء كان الوطء ينقصها أو لم ينقصها؛ لأنه وطئها بملك اليمين والنكاح عندهما قد ارتفع وأجمعوا على أنه لو لم تكن امرأته بوطئها يصير مختارا، سواء نقصها الوطء أو لم ينقصها؛ لأنه يحصل وطؤها بملك اليمين.
م: (ولهذه المسألة أخوات) ش: أي نظائر م: (كلها تبتنى على وقوع الملك للمشتري بشرط الخيار) ش: كما هو مذهبهما م: (وعدمه) ش: أي وتبتنى على وقوع الملك للمشتري كما هو مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (منها) ش: أي من الأخوات م: (عتق المشترى) ش: بفتح الراء م: (على المشتري) ش: بكسر الراء م: (إذا كان) ش: أي المشترى م: (قريبا له) ش: أي للمشتري م: (في مدة الخيار) ش: يعني إذا اشترى ذا رحم محرم منه بشرط الخيار لا يعتق عليه في مدة الخيار؛ لأنه لم يملكه، وخياره كما كان، فإن فسخ البيع عاد إلى ملك البائع، وإن أجازه عتق عليه ولزمه الثمن وعندهما يعتق عليه من زمان الشراء؛ لأنه ملكه ويلزمه الثمن ولا يبقى خياره.
م: (ومنها) ش: أي من الأخوات م: (عتقه) ش: أي عتق المشتري بفتح الراء م: (إذا كان المشتري) بكسر الراء م: (حلف إن ملكت عبدا فهو حر) ش: يعني إذا قال إن ملكت عبدا فهو حر ثم اشترى عبدا بشرط الخيار لا يعتق عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مدة الخيار؛ لأنه لم يملكه خلافا لهما م: (لخلاف ما إذا قال: إن اشتريت) ش: عبدا فهو حر فاشتراه بالخيار يعتق عليه ويبطل خياره ويلزمه الثمن بالإجماع م: (لأنه يصير كالمنشئ) ش: من الإنشاء وهو إثبات أمر لم يكن م: (للعتق بعد الشراء) ش: لأن المعلق بالشرط كالمرسل عنده، ولو أنشأ العتق بعد الشراء بالخيار عتق.
م: (فيسقط الخيار) ش: فكذا هذا، فإن قيل: لو كان كالمنشئ ينبغي أن ينوب عن الكفارة، إذا اشترى المحلوف عليه بعتقه ناويا عن الكفارة، أجيب بأنه إنما جعل كالمنشئ لتصحيح قوله: فهو حر، وليس من ضرورة تحريره وقوعه عن الكفارة بعد استحقاقه الحرية وقت اليمين؛ لأنه(8/60)
ومنها: أن حيض المشتراة في المدة لا يجتزئ به في الاستبراء عنده، وعندهما يجتزئ، ولو ردت بحكم الخيار إلى البائع لا يجب عليه الاستبراء عنده وعندهما يجب إذا ردت بعد القبض، ومنها إذا ولدت المشتراة في المدة بالنكاح لا تصير أم ولد له عنده خلافا لهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كالمدبر في الاستحقاق، وفيه يعمل الإنشاء للعتق لا عن الكفارة فكذلك هذا. م: (ومنها) ش: أي ومن الأخوات م: (أن حيض المشتراة في المدة) ش: أي في مدة الخيار م: (لا يجتزئ به) ش: أي لا يكتفي به يعني إذا اشترى جارية بالخيار ثلاثة أيام، وقبضها فحاضت عنده في مدة الخيار فاختارها، وصارت للمشتري فلا يجتزئ بتلك الحيضة م: (في الاستبراء) ش: وعليه أن يستبرئها بحيضة أخرى م: (عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وعندهما يجتزئ) ش: بها في الاستبراء.
م: (ولو ردت) ش: أي الجارية يعنى إن اختيار المشتري فسخ العقد وعادت الجارية م: (بحكم الخيار إلى البائع لا يجب عليه) ش: أي على البائع م: (الاستبراء عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - سواء كان الفسخ قبل القبض أو بعده؛ لأنه لم يملكها على البائع غيره عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وعندهما يجب) ش: أي الاستبراء م: (إذا ردت بعد القبض) ش: بحكم الفسخ؛ لأن المشتري ملكها، وإن كان الفسخ قبل القبض لا يجب عليه شيء، وإن كان الخيار للبائع ففسخ العقد فلا يجب عليه الاستبراء؛ لأنها لم تخرج من ملكه، فإن أجاز البيع فعلى المشتري أن يستبرئها بعد جواز البيع، والقبض بحيضة مستأنفة في قولهم جميعا، كذا في شرح الأقطع م: (ومنها) ش: أي من الأخوات م: (إذا ولدت المشتراة في المدة بالنكاح لا تصير أم ولد له عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (خلافا لهما) ش: قال صاحب النهاية: لا بد من أحد تأويلين: إما أن يكون معناه اشترى منكوحة وولدت في مدة الخيار قبل قبض المشتري أو يكون اشترى الأمة التي كانت منكوحته وولدت منه ولدا قبل الشراء، ثم اشتراها بشرط الخيار لا تصير أم ولد له في مدة الخيار عنده خلافا لهما، وعلى هذا كان قوله في المدة ظرفا لقوله: لا تصير أم ولد له لا ظرف الولادة.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وتقدير كلامه إذا ولدت المشتراة بالنكاح لا تصير أم ولد له في مدة الخيار، وفيه تعقيد لفظي كما ترى، قال: إنما احتجنا إلى أحد التأويلين؛ لأنه لو أجرينا على ظاهر اللفظ. وقلنا: إنه إذا اشترى منكوحته بشرط الخيار وقبضها، ثم ولدت في مدة الخيار يلزم البيع بالاتفاق ويبطل خيار الشرط؛ لأن الولادة عيب ولا يمكن ردها بعدما تعيبت الجارية في يد المشتري بشرط الخيار.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ظاهر كلام المصنف مشكل؛ لأن المشتراة بشرط الخيار إذا ولدت في مدة الخيار يبطل الخيار ويلزم الثمن لحدوث العيب؛ لأن الولادة عيب في بني آدم لا في(8/61)
ومنها إذا قبض المشتري المبيع بإذن البائع ثم أودعه عند البائع، فهلك في يده في المدة هلك من مال البائع لارتفاع القبض بالرد، لعدم الملك عنده، وعندهما من مال المشتري لصحة الإيداع باعتبار قيام الملك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البهائم إلا أن يوجب نقصانا فينبغي على هذا أن تصير الجارية بالولادة في المدة أم ولد بالاتفاق؛ لأن المبيع إذا تعيب في يد المشتري لا يمكنه أن يرده كما قبض سليما فعلى هذا يقول: إن المشتراة ولدت بالنكاح في مدة الخيار لكن الولادة كانت قبل القبض، فلا تصير أم ولد عنده خلافا لهما، وإنما حملنا على هذا الاحتمال كلامه؛ لأن الولادة إما أن تقع بعد القبض أو قبله.
وللمصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يقول: أردت أحد هذين الوجهين، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: إذا ولدت المشتراة في المدة بالنكاح هذا إذا ولدت قبل القبض فإنه ذكر في " المبسوط " ولو ولدت عند المشتري ينقطع خياره؛ لأنها تعيبت بالولادة وتصير أم ولده بالإجماع، فهذا دليل على أن ما ذكر في المتن إذا كانت الولادة قبل القبض، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تصير أم ولد له على أحد القولين.
وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أيضا هذا إذا كانت الولادة قبل القبض؛ لأنها لو ولدت بعده يسقطه الخيار ويثبت الملك للمشتري بالاتفاق وتصير أم ولد له.
قلت: لو قيل عقيب قوله: لو ولدت المشتراة إلى آخره يعني قبل القبض لحصل المراد واكتفى عن تطويل الكلام.
م: (ومنها) ش: أي ومن الأخوات م: (إذا قبض المشتري المبيع بإذن البائع) ش: يعني اشترى شيئا بعينه على أنه بالخيار ثلاثة أيام فقبضه بإذن البائع م: (ثم أودعه عند البائع) ش: في مدة الخيار م: (فهلك في يده) ش: أي فهلك المبيع في يد البائع م: (في المدة) ش: أي في مدة الخيار أو بعدها م: (هلك من مال البائع لارتفاع القبض بالرد لعدم الملك عنده) ش: لأن الوديعة لم تصح لعدم ملك المودع، وإذا ارتفع القبض كان هلاك المبيع قبل القبض وأنه من مال البائع؛ لأن من مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لم يملكه المشتري.
م: (وعندهما من مال المشتري) ش: أي الهلاك يكون من مال المشتري م: (لصحة الإيداع باعتبار قيام الملك) ش: لأن المشتري يملكه فصار مودعا ملك نفسه، فصار هلاكه في يد المودع كهلاكه في يده؛ لأن يد المودع كيده، ولو كان الخيار للبائع فسلمه إلى المشتري، ثم إن المشتري أودعه البائع في مدة الخيار، ثم هلك في يد البائع قبل جواز البيع أو بعده يبطل البيع في قولهم جميعا، ولو كان البيع باتا فقبضه المشتري بإذن البائع، أو بغير إذنه والثمن منقود أو مؤجل وله فيه خيار الرؤية أو خيار العيب فأودعه البائع فهلك في يد البائع هلك على المشتري ولزمه الثمن(8/62)
ومنها: لو كان المشتري عبدا مأذونا له فأبرأه البائع عن الثمن في المدة بقي خياره عنده؛ لأن الرد امتناع عن التملك، والمأذون له يليه، وعندهما بطل خياره؛ لأنه لما ملكه كان الرد منه تمليكا بغير عوض وهو ليس من أهله. ومنها إذا اشترى ذمي من ذمي خمرا على أنه بالخيار، ثم أسلم بطل الخيار عندهما؛ لأنه ملكها فلا يملك ردها وهو مسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالإجماع؛ لأن خيار الرؤية وخيار العيب لا يمنعان وقوع الملك فصار مودعا ملك نفسه كذا في " شرح الطحاوي ".
م: (ومنها) ش: أي من الأخوات م: (لو كان المشترى عبدا مأذونا له فأبرأه البائع عن الثمن في المدة بقي خياره عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيانه: عبد مأذون له في التجارة اشترى من حر سلعة بدراهم معلومة على أنه بالخيار ثلاثة أيام، ثم إن البائع أبرأه عن الثمن، فالقياس أن لا يصح إبراؤه؛ لأنه لا يملك الثمن.
وفي " الاستحسان ": صح إبراؤه؛ لأنه حصل بعد وجود سبب الملك وهو العقد، فإذا صح إبراؤه ففي قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: خياره على حاله إن شاء اختار السلعة، وتكون له بغير ثمن وإن شاء فسخ وعاد إلى البائع بغير ثمن، وعندهما بطل خياره ولا يملك الفسخ والرد؛ لأن مذهبهما أنه ملكها، وفي الفسخ والرد تمليك منه للبائع بغير بدل وهو ليس من أهل ذلك، وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يملك فيكون في الفسخ والرد امتناع عن التمليك.
م: (لأن) ش: لما ملك م: (الرد) ش: يكون له في الفسخ والرد م: (امتناع عن التملك والمأذون له يليه) ش: أي الامتناع أي له ولاية الامتناع م: (وعندهما بطل خياره؛ لأنه لما ملكه) ش: أي لما ملك البيع م: (كان الرد منه تمليكا بغير عوض) ش: أي بغير ثمن فيكون متبرعا م: (وهو) ش: أي المأذون له م: (ليس من أهله) ش: أي من أهل التمليك، فإذا امتنع الرد بطل الخيار ضرورة، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإن كان الملك للبائع فكما قاله، وإن كان للمشتري فكما قالا.
م: (ومنها) ش: أي ومن الأخوات م: (إذا اشترى ذمي من ذمي خمرا) ش: أو خنزيرا م: (على أنه بالخيار ثم أسلم بطل الخيار عندهما) ش: أي ثم أسلم المشتري بطل الخيار عند أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله-: م: (لأنه ملكها فلا يملك ردها وهو مسلم، وعنده يبطل البيع؛ لأنه لم يملكها) ش: لأن المسلم لا يملك تمليك الخمر م: (فلا يتملكها بإسقاط الخيار وهو مسلم) ش: أي والحال أنه مسلم، وذكر خيار المشتري وإسلامه؛ لأنه إذا كان الخيار للبائع وأسلم البائع يبطل البيع بالإجماع.
وذكر الإمام التمرتاشي: مسائل على هذا الأصل منها: إذا اشترى مسلم عصيرا بالخيار(8/63)
وعنده يبطل البيع؛ لأنه لم يملكها فلا يتملكها بإسقاط الخيار وهو مسلم. قال: ومن شرط له الخيار فله أن يفسخ في مدة الخيار، وله أن يجيز، فإن أجاز بغير حضرة صاحبه جاز، وإن فسخ لم يجز إلا أن يكون الآخر حاضرا عند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله-، وقال أبو يوسف: يجوز، وهو قول الشافعي، والشرط هو العلم، وإنما كنى بالحضرة عنه. له أنه مسلط على الفسخ من جهة صاحبه فلا يتوقف على علمه كالإجازة ولهذا لا يشترط رضاه، وصار كالوكيل بالبيع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فتخمر في المدة فسد البيع عنده وعندهما ثم، ومنها: إذا كان المشترى دارا وهو ساكنها بإجارة أو إعارة فاستدام السكنى بعد الشرط قال الإمام السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يكون اختيارا وابتداء السكنى اختيار؛ لأن الدار لا تمتحن بالسكنى.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ -: استدامة السكنى اختيار عندهما؛ لأنه يملك الثمن، وعنده ليس باختيار؛ لأنه بالإجارة أو الإعارة، ومنها حلال اشترى طيبا بالخيار فقبضه ثم أحرم والطيب في يده ينتقض البيع عنده ويرد إلى البائع وقالا: يلزم المشتري ولو كان الخيار للبائع ينتقض بالإجماع ولو كان الخيار للمشتري فأحرم البائع للمشتري أن يرده.
[من شرط له الخيار له أن يفسخ العقد]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ومن شرط له الخيار) ش: سواء كان بائعا أو مشتريا أو راضيا م: (فله أن يفسخ) ش: أي العقد م: (في مدة الخيار وله أن يجيز، فإن أجاز بغير حضرة صاحبه جاز، وإن فسخ لم يجز إلا أن يكون الآخر حاضرا، عند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله-) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وقال أبو يوسف: يجوز، وهو قول الشافعي) ش: وأحمد ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (والشرط هو العلم) ش: قال القدوري: بغير حضرة صاحبه وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الشرط العلم أي علم صاحبه بالفسخ م: (وإنما كنى بالحضرة عنه) ش: أي عن العلم يعني ذكر السبب فأراد المسبب؛ لأن الحضور سبب العلم وليس المراد منه الكناية الاصطلاحية لأرباب البلاغة لكن المراد به ما استتر به المراد م: (له) ش: أي لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أنه) ش: أي أن من شرط له الخيار م: (مسلط على الفسخ) ش: أي على فسخ العقد م: (من جهة صاحبه) ش: وكل من هو كذلك م: (فلا يتوقف) ش: فعله م: (على علمه كالإجازة) ش: فإن فيها لا يشترط العلم بالإجماع.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل عدم توقف فعله على علم صاحبه م: (لا يشترط رضاه) ش: يعني في الفسخ م: (وصار) ش: أي من له الخيار م: (كالوكيل بالبيع) ش: فإن للوكيل أن يتصرف فيما وكل به، وإن كان الموكل غائبا؛ لأنه مسلط على البيع من جهته فكذا هاهنا.(8/64)
ولهما أنه تصرف في حق الغير، وهو العقد بالرفع، ولا يعرى عن المضرة؛ لأنه عساه يعتمد تمام البيع السابق، فيتصرف فيه، فيلزمه غرامة القيمة بالهلاك، فيما إذا كان الخيار للبائع أو لا يطلب لسلعته مشتريا فيما إذا كان الخيار للمشتري، وهذا نوع ضرر فيتوقف على علمه، وصار كعزل الوكيل، بخلاف الإجازة؛ لأنه لا إلزام فيه ولا نقول إنه مسلط، وكيف يقال ذلك وصاحبه لا يملك الفسخ ولا تسليط في غير ما يملكه المسلط، ولو كان فسخ في حال غيبة صاحبه وبلغه في المدة تم الفسخ لحصول العلم به، ولو بلغه بعد مضي المدة تم العقد بمضي المدة قبل الفسخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله- م: (أنه) ش: أي أن الفسخ م: (تصرف في حق الغير) ش: وهو من ليس له الخيار م: (وهو العقد بالرفع) ش: في حق المتعاقدين م: (ولا يعرى عن المضرة) ش: أي لا يخلو عن المضرة م: (لأنه) ش: أي؛ لأن الذي ليس له الخيار م: (عساه) ش: أي لعله م: (يعتمد تمام البيع السابق فيتصرف فيه) ش: أي في المبيع ثم ليظهر أنه تصرف في مال غيره.
م: (فيلزمه غرامة القيمة بالهلاك) ش: أي بهلاك، ولا خفاء في كونه ضررا، هذا م: (فيما إذا كان الخيار للبائع أو لا يطلب) ش: أي البائع م: (لسلعته مشتريا) ش: أي مشتريا آخر، وهذا نوع ضرر م: (فيما إذا كان الخيار للمشتري) ش: لأنه قد تكون المدة أيام رواج بيع المبيع م: (وهذا نوع ضرر) ش: لفواتها، فإذا كان كذلك م: (فيتوقف) ش: أي القول م: (على علمه وصار كعزل الوكيل) ش: فإنه موقوف على علمه بعزل الموكل كيلا يتضرر بلزوم الثمن فيما إذا كان وكيلا بالشراء، ويبطلان قوله فيما إذا كان وكيلا بالبيع م: (بخلاف الإجازة؛ لأنه لا إلزام فيه) ش: لأنها إتمام للعقد السابق فلم يحتج إلى حضور صاحبه.
م: (ولا نقول إنه) ش: أي إن من له الخيار م: (مسلط) ش: أي على الفسخ، هذا جواب عن قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه مسلط م: (وكيف يقال ذلك وصاحبه) ش: هو الذي لا خيار له م: (لا يملك الفسخ) ش: للزوم العقد من جانبه فكيف تملك تسليط عليه م: (ولا تسليط في غير ما يملكه المسلط) ش: بكسر اللام م: (ولو كان فسخ في حال غيبة صاحبه وبلغه) ش: أي خبر الفسخ م: (في المدة) ش: أي في مدة الخيار م: (تم الفسخ لحصول العلم به، ولو بلغه) ش: أي ولو بلغ صاحبه م: (بعد مضي المدة تم العقد بمضي المدة قبل الفسخ) ش: لأن تمام المدة دلالة لزوم العقد.
واعلم أن مدار دليلها إلزام ضرر زائد غير مرضي به، فإذا فات المجموع أو بعضه في بعض الصور لا يكون نقضا فلا يرد ما قيل: الطلاق والعتاق والعفو عن القصاص يلزم منها في حق غير الفاعل إلزام، وهو مسوغ؛ لأن ذلك من الإسقاطات وما هو كذلك ليس فيه شيء من الإلزام كإسقاط الحمل عن الدابة لا يكون إلزاما عليها إنما اللزوم في جانب من أسقط، وكلامنا في(8/65)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحكم الذي يلزم على الغير ولا ما قيل: الزوج ينفرد بالرجعة وحكمها يلزم المرأة، وإن لم تعلم؛ لأنه ليس فيها إلزام؛ لأن الطلاق الرجعي لا يرفع النكاح حتى تكون الرجعة إلزاما، وإنما هي استدامة ملك النكاح.
ولا ما قيل: اختيار المجيزة ينفذ على زوجها وإن لم يعلم به؛ لأن اختيارها لا يتصور بغير حضور زوجها كذا في " مختصر الأسرار " ولا ما قيل: اختيار الأمة المعتقة الفرقة يلزم الزوج بدون علمه وفيه إلزام؛ لأن الملك ازداد عليها بالحرية حيث لزمها المقام في منزل الزوج فكان لها أن تدفع تلك الزيادة برفع العقد. ولا ما قيل: اختيار الملك دفع عقد الفضولي يلزم العاقدين بلا علم، وفيه إلزام عليهما؛ لأنه امتناع عن العقد لا إلزام منه. ولا ما قيل: الطلاق يلزم العدة على المرأة، وإن لم تعلم؛ لأنه لا ضرر في العدة، ولكونه بإيجاب الشرع نصا دون الطلاق بخلاف الضرر المذكور في خيار الشرط فإنه زائد على موجب خيار الشرط وهو الرد أو الإجازة وهو غير مرضي به من جانب الآخر ولا يلزمه إلا بعلمه.
ثم اعلم أن شرط الخيار إذا كان للبائع فجواز العقد ونفوذه بأحد معان ثلاثة؛ أما بقوله: أجزت البيع في المدة، ولا يشترط حضرة الآخر، وإما بموت البائع في المدة؛ لأن الخيار لا يورث عندنا، وإما بمضي مدة الخيار من غير فسخ، وأما الفسخ فيثبت بالقول والفعل أما القول فبقوله: فسخت البيع.
فإذا قال ولك انفسخ البيع بلا رضا المشتري ولا يحتاج فيه إلى قضاء القاضي، ولكن يشترط حضوره عندهما خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأما الفعل فكما إذا تصرف في المبيع في مدة الخيار تصرف الملاك كالإعتاق والبيع والتقبيل ونحو ذلك، فإن العقد ينفسخ حكما حضر المشتري أو لا بالإجماع.
وأما إذا كان الخيار للمشتري فجواز العقد ونفاذه بالمعاني الثلاثة التي ذكرناها وبمعان أخر سواء نحو أن يصير المشترى في يد البائع فالمشترى بحال لا يملك المشتري الفسخ على تلك الحالة كما إذا ملك المعقود عليه أو انتقص في يد المشتري نقصانا يسيرا أو فاحشا بفعل المشتري أو بفعل البائع أو بآفة سماوية أو بفعل الأجنبي أو بفعل المعقود عليه بطل خياره، ونفذ البيع وهذا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - كذلك إلا فيما إذا حصل النقصان بفعل البائع حيث لا يبطل خيار المشتري إن شاء رده عليه وإن شاء اختاره وأخذ من البائع الأرش.
وفي " المحيط " إذا كان الخيار للبائع ينفذ العقد بإجازته وبموته وبمضي المدة قبل الفسخ وبالإغماء والجنون وإن أفاق في المدة.(8/66)
قال: وإذا مات من له الخيار بطل خياره ولم ينتقل إلى ورثته. وقال الشافعي: يورث عنه؛ لأنه حق لازم ثابت في البيع فيجري فيه الإرث كخيار العيب والتعيين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الإسبيجابي: الأصح أنه على خياره، فلو سكر من الخمر لم يبطل خياره بخلاف السكر من البنج، ولو ارتد فعلى خياره، إجماعا، فلو تصرف بحكم خياره يتوقف عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما، وأما الفسخ إما بالقول أو بالفعل وهو أن يتصرف البائع تصرف الملاك في مدة الخيار كما إذا أعتقه أو دبره أو كاتبه أو علق بهما فوجد الشرط أو باعه من غيره أو وهبه وسلمه أو رهن أو أجر، وإن لم يسلم على الأصح وهذه التصرفات فسخ بغير علم المشتري إجماعا إلا رواية عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقبض الثمن من البائع ليس بإجازة وكذا هبته وارتهانه، إلا إذا استفيد له بغيره كالدراهم والدنانير.
ولو باع جارية بعبد على أنه بالخيار في الجارية فهبته العبد أو عرضه على البيع إجازة، وعرضها على البيع ليس بفسخ على الأصح ولو أبرأه من الثمن أو اشترى منه به شيئا أو ساومه به فهو إجازة، ولو توارى المشتري في مدة الخيار يبعث إليه القاضي من بعد فإن ظهر وإلا أبطله إلا أن يجيء في المدة، ولو كان الخيار للمشتري فنفاذه بما ذكرناه من الأمور في حق البائع وبالتصرف تصرف الملاك فوطؤه إجازة والاستخدام لا والاستخدام ثانيا إجازة إلا إذا كان في نوع آخر، والركوب امتحانا ليس بإجازة، وكذا لو ركبها لحاجة أو سفر أو حمل عليها إلا علفها عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
والركوب للرد والسقي والإعلاف إجازة، وقيل: إن لم يمكن بدون الركوب فلا يكون إجازة كما في خيار العيب ولو أمر الغلام بحمل شيء أو حلق رأسه أو غسله فليس برضا، ولو كان المشتري كتابا ففسخ منه لنفسه أو لغيره لا يبطل خياره، وإن قلبت الأوراق وبالدرس منه يبطل خياره، وقيل: على عكسه وبه أخذ أبو الليث.
[مات من له الخيار]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا مات من له الخيار) ش: وهذا التعبير يتناول البائع والمشتري وغيرهما جميعا، وقيل: بموت من له الخيار؛ لأنه بموت من عليه الخيار لا يبطل بالإجماع م: (بطل خياره ولم ينتقل إلى ورثته، وقال الشافعي: يورث عنه) ش: وبه قال مالك م: (لأنه) ش: أي؛ لأن الخيار م: (حق لازم) ش: حتى إن صاحبه لا يملك إبطاله، وإنما قال حق؛ لأن حق الإنسان ما يتولى إثباته وإسقاطه، ولازم؛ لأن صاحبه لا يتمكن من إبطاله م: (ثابت في البيع فيجري فيه الإرث كخيار العيب) ش: والرؤية م: (والتعيين) ش: أي وكخيار التعيين صورته: رجل اشترى عبدين على أنه بالخيار يأخذ أيهما شاء بألف ويرد الآخر ثم مات المشتري يقوم وارثه مقامه في اختيار أحدهما.(8/67)
ولنا أن الخيار ليس إلا مشيئة وإرادة ولا يتصور انتقاله، والإرث فيما يقبل الانتقال، بخلاف خيار العيب؛ لأن المورث استحق المبيع سليما، فكذا الوارث،
فأما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا أن الخيار ليس إلا مشيئة وإرادة) ش: وكلاهما منصوبان على أنهما بدلان عن خبر ليس أي ليس الخيار شيئا إلا مشيئة وإرادة.
قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لأن الشاري هو الفاعل عن ملك واختيار لا عن أمر وإجبار، ومشيئة الإنسان تنقطع بموته كقدرته؛ لأنها صفته ولا تبقى بعد الموصوف م: (ولا يتصور انتقاله) ش: أي انتقال الخيار؛ لأنه ليس إلا مشيئة وإرادة، وهما عرضان والعرض لا يقبل الانتقال م: (والإرث فيما يقبل الانتقال) ش: لأنه خلافة عن المورث بنقل الأعيان إلى الوارث، هذا معقول لا معارض له من المنقول، فيكون معمولا به.
لا يقال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك مالا أو حقا فلورثته» الخيار حق فيكون لورثته؛ لأن المراد به حق قابل للانتقال له بدليل قوله: "فلورثته" الخيار، ليس كذلك فإن قيل: المالكية صفة تنقل من المورث إليه في الأعيان فهل لا يكون الخيار كذلك؟ وأجيب: بأن المنتقل هو العين، فإن قيل: المالكية ضمني فليكن خيار الشرط كذلك بأن ينتقل المبيع من المورث إلى الوارث ثم الخيار يتبعه ضمنا، وأجيب بأن الخيار ليس من لوازم البيع بل الأصل عدمه، وكم من مبيع لا خيار فيه بخلاف المملوك فإنه يستلزم مالكية مالك، وفيه نظر، فإن الكلام في البيع بشرط الخيار لا في مطلقه والخيار يلزمه والصواب أن يقال: الغرض الأصلي من نقل الأعيان ملكيتها وليس الخيار في البيع بشرط الخيار كذلك فلا يلزم من انتقال ما هو الغرض الأصلي انتقال ما ليس كذلك.
فإن قيل: القصاص ينتقل من المورث إلى الوارث بذاته من غير تعيين العين فليكن الخيار كذلك.
أجيب: بأنه ثبت للوارث ابتداء؛ لأنه شرع للتشفي والخيار يثبت بالعقد والشرط والوارث ليس بعاقد ولا شارط لا يقال: البيع بشرط الخيار غير لازم فتورث كذلك لا بطريق النقل فلا يفيد ما ذكرتم؛ لأن كلامنا مع من يقول بالنقل وما ذكرناه يدل على انتفائه، ولو التزم ملتزم ما ذكره قلنا: البيع بشرط الخيار غير لازم في حق العاقد وفي حق الوارث، والأول مسلم ولا كلام فيه، والثاني عين النزاع، هذا كله لخصه الأكمل من كلام السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغيره فنقلناه مثل ما نقله تكثيرا للفائدة.
م: (بخلاف خيار العيب) ش: جواب عما قاس عليه الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (لأن المورث استحق المبيع سليما، فكذا الوارث) ش: لأنه قائم مقامه فكان ذلك نقلا في الأعيان م: (فأما(8/68)
نفس الخيار لا يورث، وخيار التعيين يثبت للوارث ابتداء لاختلاط ملكه بملك الغير، لا أن يورث الخيار. قال: ومن اشترى شيئا وشرط الخيار لغيره فأيهما أجاز جاز الخيار، وأيهما نقض انتقض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نفس الخيار لا يورث) ش: لأنه لا يتصور انتقاله كما ذكرناه فلا يجري فيه الإرث م: (وخيار التعيين) ش: هذا جواب عما قاسه الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
تقريره أن خيار التعيين م: (يثبت للوارث ابتداء) ش: لا بسبيل الإرث يعني أنه بطل ذلك الخيار الأول، ويجدد للوارث خيار آخر حكما م: (لاختلاط ملكه بملك الغير) ش: لأن ملك أحد العبدين مجهول؛ لأن ملكه أحدهما، وقد اختلف بملك صاحبه فثبت لهما التعيين بعلة مجهولة لملكه، فإما أن يكون ذلك بالإرث فلا م: (لا أن يورث الخيار) ش: كما مر غير مرة.
فإن قلت: المكاتب إذا مات وخلف ولدا ولد في الكتابة ينتقل إليه الكتاب مع الأجل والتنجيم.
قلت: انتقال الكتابة إلى الولد بسبيل السراية لا بسبيل الإرث؛ لأن المكاتب لا يورث ولا يلزم خيار الصفة وهو ما إذا اشترى على أنه له الخيار؛ لأن فيه معنى المال، ولا يلزم الرهن والكفالة والضمان حيث يورث هذه الأشياء؛ لأن فيه وثيقة ومعنى المال وكذلك القصاص يؤول إلى مال.
[اشترى شيئا وشرط الخيار لغيره]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى شيئا وشرط الخيار لغيره) ش: المراد من الغير هاهنا غير العاقدين حتى يأتي خلاف زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فأيهما أجاز) ش: أي من المشتري، ومن الشروط له الخيار م: (جاز الخيار وأيهما) ش: أي الاثنين المذكورين م: (نقض) ش: أي العقد م: (انتقض) ش: أي العقد.
وقال الكاكي: فإن قيل قوله: فأيهما أجاز إلى آخره جملة استفهامية لا تصلح خبرا للمبتدأ وهو قوله: ومن اشترى فيبقى المبتدأ بلا خبر، قلنا: في المبتدأ معنيان أحدهما الابتداء والثاني الشرطية فيقتضي الخبر، والجزاء هنا وقع موقع خبر فيكون الخبر محذوفا وهو قوله أجازه.
ويتحقق هذا المعنى في ضمن الخبر؛ لأنه لما جاز بالإجازة لا بد وأن يكون الاشتراط للغير جائزا كما في قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] (النور: الآية 2) ، وقوله {فَاجْلِدُوا} [النور: 2] لا يصلح خبرا لكونه طلبا، وفي ضمنه خبره وهو وجوب الجلد المستفاد منه تقديره: الزانية والزاني يجب عليهما الحد فاجلدوا.... انتهى.
واعترض عليه بعضهم بقوله: ما جواب هذا العامل زيد من أبوه ونحوه قوله، وقال(8/69)
وأصل هذا أن اشتراط الخيار لغيره جائز استحسانا، وفي القياس لا يجوز، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الخيار من مواجب العقد وأحكامه فلا يجوز اشتراطه لغيره كاشتراط الثمن على غير المشتري. ولنا أن الخيار لغير العاقد قد لا يثبت إلا بطريق النيابة عن العاقد فيقدر الخيار له اقتضاء ثم يجعل هو نائبا عنه تصحيحا لتصرفه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأكمل: ومن اشترى وشرط الخيار لغيره تقدير كلامه من اشترى وشرط الخيار لغيره جاز حذفه لدلالة قوله فأيهما أجاز جاز.
قلت: هذا له وجه وهو أحسن من تطويل الكاكي على أن التقدير في الآية على ما تقتضيه القاعدة الزانية والزاني يقال فيه: فاجلدوا، وكذلك التقدير في قول المعترض بقوله زيد من أبوه؟ زيد يقال فيه: من أبوه؟.
وبقولنا فيه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الأصح ومالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولكن للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه وجهان: أحدهما أنه يصح للغير وحده، والثاني يثبت له مع العاقد وعنه في قول لا يصح وبه قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي فساد البيع وجهان: في وجه يفسد البيع، وفي وجه البيع صحيح والشرط فاسد.
م: (وأصل هذا) ش: أي أصل هذا المذكور من المسألة م: (أن اشتراط الخيار لغيره جائز استحسانا، وفي القياس لا يجوز، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الخيار من مواجب العقد) ش: أي من مقتضياته م: (وأحكامه، فلا يجوز اشتراطه لغيره) ش: لأنه خلاف ما يقتضيه العقد م: (كاشتراط الثمن على غير المشتري) ش: أو اشتراط تسليمه على غيره أو اشتراط الكل لغيره.
م: (ولنا أن الخيار لغير العاقد قد لا يثبت إلا بطريق النيابة عن العاقد) ش: إذ لا وجه لإثباته للغير أصالة م: (فيقدر الخيار له) ش: أي للعاقد م: (اقتضاء) ش: أي من حيث الاقتضاء تصحيحا لعرف العاقد على حسب الإمكان فيجعل كأنه شرط لنفسه.
م: (ثم يجعل هو) ش: أي يجعل من له الخيار م: (نائبا عنه تصحيحا لتصرفه) ش: أي لتصرف العاقد، فكان ثبوت الخيار للعاقد مقتضى صحة ثبوت الخيار للأجنبي وفيه بحث من وجهين: أحدهما: أن شرط الاقتضاء أن يكون المقتضي أو في منزلة من المقتضي ألا ترى أن من قال لعبد له حنث في يمينه كفر عن يمينك بالمال لا يكون ذلك تحريرا اقتضاء؛ لأن التحرير أقوى من تصريف التكفير لكونه أصلا فلا يثبت تبعا لفرعه، ولا خفاء أن العاقد أعلى مرتبة فكيف يثبت الخيار له اقتضاء؟
والثاني: بأن اشتراط الخيار لغيره لو جاز اقتضاء تصحيحا لجاز اشتراط وجوب الثمن(8/70)
وعند ذلك يكون لكل واحد منهما الخيار فأيهما أجاز جاز وأيهما نقض انتقض. ولو أجاز أحدهما وفسخ الآخر يعتبر السابق لوجوده في زمان لا يزاحمه فيه غيره، ولو خرج الكلامان منهما معا يعتبر تصرف العاقد في رواية وتصرف الفاسخ في أخرى. وجه الأول أن تصرف العاقد أقوى؛ لأن النائب يستفيد الولاية منه، وجه الثاني أن الفسخ أقوى؛ لأن المجاز يلحقه الفسخ، والمفسوخ لا تلحقه الإجازة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على الغير بطريق الكفالة بأن يجب الثمن على العاقد أولا ثم على الغير كفالة عنه كذلك.
وأجيب عن الأول: بأن الاعتبار للمقاصد والغير هو المقصود باشتراط الخيار فكان هو الأصل بطل إلى الخيار، والعاقد أصل من حيث التمليك لا من حيث الخيار فلا يلزمه ثبوت الأصل تبعية فرعه، وأما الحرية فإنه الأصل في وجوب الكفارة المالية فلا يثبت تبعا لفرعه.
وعن الثاني: بأن الدين لا يجب على الكفيل في الصحيح بدون التزام المطالبة، والمذكور هنا هو الثمن على الأجنبي وثبوت المقتضى لتصحيح المقتضي، ولو صحت الكفالة بطريق الاقتضاء كان مبطلا للمقتضي وعاد على موضوعه بالنقص فإن قيل: فليكن بطريق المحالة فإن عنها المطالبة بالدين فالجواب: أن المشتري أصل في وجوب الثمن عليه فلا يجوز أن يكون تابعا لفرعه وهو المحال عليه.
م: (وعند ذلك) ش: أي عند ثبوت الخيار لهما م: (يكون لكل واحد منهما الخيار) ش: أي للعاقد ولمن شرط له الخيار م: (فأيهما أجاز) ش: أي العقد م: (جاز وأيهما نقض انتقض، ولو أجاز أحدهما وفسخ الآخر يعتبر السابق لوجوده في زمان لا يزاحمه فيه غيره، ولو خرج الكلامان منهما معا يعتبر تصرف العقد في رواية) ش: وهي رواية كتاب البيوع.
م: (وتصرف الفاسخ في أخرى) ش: أي ويعتبر تصرف الفاسخ وهو الذي فسخ العقد في رواية أخرى وهي رواية كتاب المأذون م: (وجه الأول) ش: أي وجه اعتبار تصرف العاقد م: (أن تصرف العقد أقوى؛ لأن النائب يستفيد الولاية منه، وجه الثاني) ش: أي وجه اعتبار تصرف الفسخ وهي رواية كتاب المأذون م: (أن الفسخ أقوى؛ لأن المجاز) ش: بضم الميم م: (يلحقه الفسخ) ش: كما لو أجاز البيع هلك عند البائع.
م: (والمفسوخ لا تلحقه الإجازة) ش: فإن العقد إذا انفسخ بهلاك المبيع عند البائع لا تلحقه الإجازة ونوقض بما إذا تراضيا على فسخ الفسخ وعلى إعادة العقد بينهما جاز وفسخ الفسخ ليس إلا هو إجازة البيع في المفسوخ.
وأجيب بأن هذا ليس بإجازة للفسخ بل هو بيع ابتداء.(8/71)
ولما ملك كل واحد منهما التصرف رجحنا بحال التصرف، وقيل الأول قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والثاني قول: أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - واستخرج ذلك مما إذا باع الوكيل من رجل والموكل من غيره معا، فمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر فيه تصرف الموكل، وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبرهما.
قال: ومن باع عبدين بألف درهم على أنه بالخيار في أحدهما ثلاثة أيام فالبيع فاسد، فإن باع كل واحد منهما بخمسمائة على أنه بالخيار في أحدهما بعينه جاز المبيع، والمسألة على أربعة أوجه: أحدها: أن لا يفصل الثمن ولا يعين الذي فيه الخيار وهو الوجه الأول في الكتاب، وفساده لجهالة الثمن والمبيع؛ لأن الذي فيه الخيار كالخارج عن العقد؛ إذ العقد مع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولما ملك كل واحد منهما التصرف) ش: هذا كأنه جواب عما يقال: إن كل واحد من الفاسخ والمخير يملك التصرف فأي تصرف من التصرفين يرجح على الآخر فذاك، ولما ملك كل واحد منهما التصرف من الإجازة والفسخ م: (رجحنا بحال التصرف) ش: لأن كل واحد منهما أصل العاقد من حيث التملك والأجنبي من حيث شرط الخيار، فلم يترجح الأمر إلا من حيث التصرف فرجحنا من حيث حال التصرف وهو فوقه والنقض يفسخ الإجازة، والإجازة لا تفسخ النقض، فكان النقض الأولى، لا يقال: النقض والإجازة من توابع الخيار فكان الخيار ترجيح تصرف من له الخيار؛ لأن جهة تملك العاقد عارضة في ذلك.
م: (وقيل الأول) هو أن تصرف العاقد أقوى م: (قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والثاني) هو تصرف الفاسخ م: (قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - واستخرج) ش: على صيغة المجهول م: (ذلك) إشارة إلى الاختلاف بين أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- في ذلك أراد أن المنسوب إليهما ليس بمنقول عنهما وإنما استخرج م: (مما إذا باع الوكيل من رجل والموكل) أي باع الموكل م: (من غيره معا) أي في حالة واحدة م: (فمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر فيه تصرف الموكل، وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبرهما) ش: أي يعتبر تصرفهما ويجعل البيع مشتركا بينهما بالنصف ويخير كل واحد من المشتركين إن شاء أخذ النصف بنصف الثمن وإن شاء نقض البيع.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ومن باع عبدين بألف درهم على أنه بالخيار في أحدهما ثلاثة أيام فالبيع فاسد، فإن باع كل واحد منهما بخمسمائة على أنه بالخيار في أحدهما بعينه جاز المبيع) ش: أي يختار الشرط في أحد العبدين معينا م: (والمسألة على أربعة أوجه: أحدها:) ش: أي أحد الأوجه م: (أن لا يفصل الثمن ولا يعين الذي فيه الخيار وهو الوجه الأول في الكتاب) ش: أي " الجامع الصغير ".
م: (وفساده) ش: أي فساد هذا الوجه م: (لجهالة الثمن والمبيع؛ لأن الذي فيه الخيار كالخارج عن العقد) ش: لأنه يشبه الاستثناء، إما؛ لأن العقد غير لازم في الذي لا خيار فيه م: (إذ العقد مع(8/72)
الخيار لا ينعقد في حق الحكم فبقي الداخل فيه أحدهما وهو غير معلوم. والوجه الثاني: أن يفصل الثمن ويعين الذي فيه الخيار وهو المذكور ثانيا في الكتاب، وإنما جاز؛ لأن المبيع معلوم والثمن معلوم، وقبول العقد في الذي فيه الخيار وإن كان شرطا لانعقاد العقد في الآخر، ولكن هذا غير مفسد للعقد لكونه محلا للبيع كما إذا جمع بين قن ومدبر. والثالث: أن يفصل ولا يعين. والرابع: أن يعين ولا يفصل، والعقد فاسد في الوجهين، إما لجهالة المبيع أو لجهالة الثمن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخيار لا ينعقد في حق الحكم) ش: أي وهو ثبوت الحكم م: (فبقي الداخل فيه أحدهما وهو غير معلوم) ش: وما هو كذلك فثمنه مثله فيفسد البيع كما في البيع بثمن بطريق الحصة ابتداء.
م: (والوجه الثاني:) ش: وهو أن يبيع كل واحد منهما بخمسمائة على أنه بالخيار في أحدهما، وهو معنى قوله م: (أن يفصل الثمن ويعين الذي فيه الخيار، وهو المذكور ثانيا في الكتاب) ش: أي " الجامع الصغير " م: (وإنما جاز) ش: أي البيع هنا م: (لأن المبيع معلوم والثمن معلوم) ش: فجاز لارتفاع الجهالة م: (وقبول العقد) ش: هذا جواب شبهة وهي أن يقال: ينبغي أن يفسد العقد في هذا أيضا لوجود المفسد.
وهو قبول العقد في الذي يدخل في العقد؛ لأن العبد الذي فيه الخيار غير داخل حكما، كما إذا جمع بين حر وقن فإنه لا يجوز العقد في القن وإن فصل الثمن لما أنه جعل قبول العقد في الحر شرطا لصحة العقد في القن، فأجاب بقوله وقبول العقد م: (في الذي فيه الخيار وإن كان شرطا لانعقاد العقد في الآخر) ش: أي في العبد الآخر.
م: (ولكن هذا غير مفسد للعقد لكونه) ش: أي لكون من فيه الخيار م: (محلا للبيع) ش: فكان داخلا في العقد وإن لم يدخل في الحكم فصار م: (كما إذا جمع بين قن ومدبر) ش: في البيع في أن المدبر محل البيع حتى إن القاضي لو قضى بجواز بيعه نقدا فلم يكن شرط قبول العقد فيه مفسدا للعقد في الآخر بخلاف ما إذا جمع بين حر وقن فإن الحر ليس بمحل للبيع أصلا فلم يكن داخلا لا في العقد ولا في الحكم.
فإن قلت: في الجملة هو شرط لا يقتضيه العقد فكان مفسدا. أجيب: بأنه ليس فيه نفع لأحد المتعاقدين ولا للمعقود عليه فلا يكون مفسدا.
م: (والثالث) ش: أي الوجه الثالث م: (أن يفصل) ش: أي الثمن م: (ولا يعين) ش: أي الذي فيه الخيار م: (والرابع) ش: أي الوجه الرابع م: (أن يعين) ش: أي الذي فيه الخيار م: (ولا يفصل) ش: أي الثمن م: (والعقد فاسد في الوجهين، إما لجهالة المبيع أو لجهالة الثمن) ش: وكل منهما مفسد للبيع.(8/73)
قال ومن اشترى ثوبين على أن يأخذ أيهما شاء بعشرة وهو بالخيار ثلاثة أيام فهو جائز، وكذلك الثلاثة، فإن كانت أربعة أثواب فالبيع فاسد، والقياس أن يفسد البيع في الكل لجهالة المبيع، وهو قول زفر والشافعي. وجه الاستحسان أن شرع الخيار للحاجة إلى دفع الغبن ليختار ما هو الأرفق والأوفق، والحاجة إلى هذا النوع من البيع متحققة؛ لأنه يحتاج إلى اختيار من يثق به أو اختيار من يشتريه لأجله، ولا يمكنه البائع من الحمل إليه إلا بالبيع، فكان في معنى ما ورد به الشرع غير أن هذه الحاجة تندفع بالثلاث لوجود الجيد والوسط والرديء فيها والجهالة لا تفضي إلى المنازعة في الثلاث لتعيين من له الخيار، وكذا في الأربع إلا أن الحاجة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى ثوبين على أن يأخذ أيهما شاء بعشرة وهو بالخيار ثلاثة أيام فهو جائز، وكذلك الثلاثة) ش: أي الأثواب الثلاثة م: (فإن كانت أربعة أثواب فالبيع فاسد، والقياس أن يفسد البيع في الكل لجهالة المبيع وهو قول زفر والشافعي. وجه الاستحسان أن شرع الخيار للحاجة إلى دفع الغبن ليختار ما هو الأرفق) ش: أي بالنظر إلى الثمن م: (والأوفق) ش: أي بحاله.
م: (والحاجة إلى هذا النوع من البيع) ش: أراد بهذا النوع أن يشتري أحد الثوبين أو أحد العبدين على أن يأخذ أيهما شاء بثمن معلوم م: (متحققة؛ لأنه) ش: ربما م: (يحتاج إلى اختيار من يثق به) ش: لخبرته م: (أو اختيار من يشتريه لأجله) ش: كامرأته وبنته م: (ولا يمكنه البائع) ش: بتشديد الكاف م: (من الحمل إليه) ش: أي إلى من يثق به أو إلى من يشتريه لأجله م: (إلا بالبيع فكان) ش: باعتبار الحاجة م: (في معنى ما ورد به الشرع) ش: وهو شرط الخيار ثلاثة أيام م: (غير أن هذه الحاجة تندفع بالثلاث) ش: أي بالثياب الثلاث م: (لوجود الجيد والوسط والرديء فيها) ش: أي الحاجة إلى الاختيار بالثلاث لاختلاف الأوصاف في الثياب وهي ثلاثة الجيد والوسط والرديء فيها أي في الثياب.
م: (والجهالة لا تفضي إلى المنازعة) ش: هذا جواب عما قال الإمام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومن الجهالة في وجه القياس تقريره أن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة م: (في الثلاث) ش: أي في الثياب الثلاث م: (لتعيين من له الخيار) ش: لأنه لما شرط الخيار لنفسه استبد بالتعيين فلم يبق له منازع، فكان علة جوازه من الحاجة وعدم كون الجهالة تفضي إلى المنازعة.
فأما عدم المنازعة فإنه ثابت باشتراط الخيار لنفسه سواء كانت الأثواب ثلاثة أو أكثر وأما الحاجة إنما تتحقق في الثلاثة لوجود الجيد والوسط والرديء.
م: (وكذا في الأربع) ش: أي في الثياب الأربع لا يفضي إلى المنازعة م: (إلا أن الحاجة(8/74)
إليها غير متحققة، والرخصة ثبوتها بالحاجة، وكون الجهالة غير مفضية إلى المنازعة فلا تثبت بأحدهما، ثم قيل: يشترط أن يكون في هذا العقد خيار الشرط مع خيار التعيين، وهو المذكور في "الجامع الصغير". وقيل: لا يشترط، وهو المذكور في الجامع الكبير، فيكون ذكره على هذا الاعتبار وفاقا لا شرطا. وإذا لم يذكر خيار الشرط لا بد من توقيت خيار التعيين بالثلاث عنده، وبمدة معلومة أيتها كانت عندهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إليها) ش: أي الأربع م: (غير متحققة) ش: لوجود جميع الأوصاف المذكورة في الثلاث، ولأن في الأربعة قد يتفق ثوبان على صفة واحدة فيحتاج إلى اختيار آخر فتكثر الجهالة.
م: (والرخصة) ش: مبتدأ وقوله م: (ثبوتها) ش: مبتدأ آخر وقوله م: (بالحاجة) ش: خبره والجملة خبر المبتدأ الأول م: (وكون الجهالة غير مفضية إلى المنازعة فلا تثبت بأحدهما) ش: بالجر عطفا على قوله بالحاجة، حاصل المعنى جواز البيع مع الشرط رخصة وثبوتها مع الحاجة وقد انعدمت في الأربع، ولكن الرخصة إنما تكون بالحاجة وعدم الإفضاء إلى الجهالة م: (ثم قيل: يشترط أن يكون في هذا العقد خيار الشرط مع خيار التعيين) ش: أشار بهذا إلى بيان اختلاف المشايخ في اشتراط خيار الشرط مع خيار التعيين منهم من قال: يشترط وإليه مال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهو المذكور في الجامع الصغير، وقيل: لا يشترط، وهو المذكور في الجامع الكبير) ش: فإنه ذكر هذه المسألة ولم يذكر فيها خيار الشرط م: (فيكون ذكره) ش: أي ذكر خيار الشرط م: (على هذا الاعتبار) ش: أي على اعتبار " الجامع الكبير " م: (وفاقا لا شرطا) ش: أي على سبيل الاتفاق لا على سبيل الشرط، وقال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "جامعه ": والصحيح عندنا أنه ليس بشرط وهو قول محمد بن شجاع البلخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وإذا لم يذكر خيار الشرط لا بد من توقيت خيار التعيين بالثلاث) ش: أي بثلاثة أيام م: (عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وبمدة معلومة) ش: أي لا بد من توقيت خيار التعيين بمدة معلومة م: (أيتها كانت) ش: أي المدة كانت زائدة على الثلاث أو غير زائدة بعد أن كانت معلومة م: (عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد كما في خيار الشرط. وقال شمس الأئمة في "جامعة ": وهو الصحيح، وهو قول الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإن مات المشتري في الأيام الثلاثة يبطل خيار الشرط ويبقى خيار التعيين للوارث فلا يردهما الوارث، وله أن يعين أحدهما ويرد الآخر. وكذا في " جامع قاضي خان "، وفي " الذخيرة " هذا إذا كان الخيار للمشتري، فإن كان للبائع بأن قال: بعتك هذين الثوبين على أني بالخيار لأعين المبيع في أحدهما، لم يذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذه المسألة في بيوع الأصل ولا في " الجامع الصغير ".
وذكر الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره ": أنه يجوز استحسانا لا قياسا؛ لأن هذا بيع يجوز مع خيار المشتري فكذا يجوز مع خيار البائع قياسا على خيار الشرط، وذكر في المجرد(8/75)
ثم ذكر في بعض النسخ: اشترى ثوبين، وفي بعضها: اشترى أحد الثوبين، وهو الصحيح؛ لأن المبيع في الحقيقة أحدهما والآخر أمانة، والأول تجوز واستعارة، ولو هلك أحدهما أو تعيب لزم البيع فيه بثمنه وتعين الآخر للأمانة؛ لامتناع الرد بالتعيب، ولو هلكا جميعا معا يلزمه نصف ثمن كل واحد منهما؛ لشيوع البيع والأمانة فيهما، ولو كان فيه خيار الشرط له أنه يردهما جميعا، ولو مات من له الخيار فلوارثه أن يرد أحدهما؛ لأن الباقي خيار التعيين للاختلاط، ولهذا لا يتوقت في حق الوارث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أنه لا يجوز؛ لأن هذا باعتبار الحاجة والبائع لا يحتاج إليها.
م: (ثم ذكر في بعض النسخ) ش: أي في بعض نسخ " الجامع الصغير " م: (اشترى ثوبين) ش: كما هو المذكور أولا م: (وفي بعضها اشترى أحد الثوبين) ش: فحاصله أن الرواية اختلفت في نسخ الجامع الصغير.
قال المصنف: م: (وهو الصحيح) ش: أي قوله: اشترى أحد الثوبين هو الصحيح م: (لأن المبيع في الحقيقة أحدهما والآخر أمانة، والأول) ش: هو قوله ثوبين م: (تجوز) ش: يعني مجاز؛ لأن المشترى أحد الثوبين فكان من قبيل إطلاق الكل على البعض م: (واستعارة، ولو هلك أحدهما) ش: أي أحد الثوبين م: (أو تعيب لزمه البيع فيه) ش: أي في الهالك أو المتعيب م: (بثمنه) ش: الذي وقع عليه العقد م: (وتعين الآخر) ش: أي الثوب الآخر م: (للأمانة) ش: لأنه إنما اشترى أحدهما لا غير وإنما قبض الآخر؛ ليرد على البائع إذا تعين أحدهما لا ليتملكه ولا على سوم الشراء.
وقد تعين أحدهما هنا فيبقى الآخر أمانة؛ لأنه قبضه بإذن البائع لا على حرمة البيع فلم يلزمه شيء بسببه م: (لامتناع الرد بالتعيب) ش: تعليل بقوله أو تعيب م: (ولو هلكا) ش: أي الثوبان م: (جميعا معا يلزمه نصف ثمن كل واحد منهما لشيوع البيع والأمانة فيهما) ش: أي في الثوبين، وقيد بقوله: معا لما أنهما لو هلكا على المتعاقب يتعين الأول للبيع إذا علم السابق، وإذا لم يدر السابق لزمه ثمن نصف كل واحد منهما كما لو هلكا معا.
م: (ولو كان فيه) ش: أي في هذا البيع م: (خيار الشرط له أن يردهما جميعا) ش: لأنه أمين في أحدهما فيرده بحكم الأمانة، وفي الآخر مشتر بشرط الخيار فيتمكن من رده، كذا في " المبسوط " م: (ولو مات من له الخيار فلوارثه أن يرد أحدهما؛ لأن الباقي خيار التعيين) ش: لأن خيار الشرط بطل بموت من له الخيار م: (للاختلاط) ش: أي لأجل اختلاط ملكه بملك الغير م: (ولهذا) ش: ولأجل الباقي خيار التعيين م: (لا يتوقف في حق الوارث) ش: لأنه لم يثبت له بسبيل الإرث بل لاختلاط تملكه بملك الغير، فلو كان الباقي خيار الشرط لردهما الوارث جميعا.(8/76)
فأما خيار الشرط لا يورث، وقد ذكرناه من قبل. ومن اشترى دارا على أنه بالخيار فبيعت دار أخرى إلى جنبها فأخذها بالشفعة فهو رضا؛ لأن طلب الشفعة يدل على اختياره الملك فيها؛ لأنه ما ثبت إلا لدفع ضرر الجوار وذلك بالاستدامة، فيتضمن ذلك سقوط الخيار سابقا عليه، فيثبت الملك من وقت الشراء، فيتبين أن الجوار كان ثابتا، وهذا التقرير يحتاج إليه لمذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خاصة.
قال: وإذا اشترى الرجلان غلاما على أنهما بالخيار فرضي أحدهما فليس للآخر أن يرده، عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: له أن يرده، وعلى هذا الخلاف خيار العيب وخيار الرؤية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فأما خيار الشرط لا يورث، وقد ذكرناه من قبل) ش: يعني عند قوله: وإذا مات من له الخيار بطل خياره م: (ومن اشترى دارا على أنه بالخيار فبيعت دار أخرى إلى جنبها فأخذها بالشفعة فهو رضا) ش: أي الأخذ بالشفعة رضا م: (لأن طلب الشفعة يدل على اختياره الملك فيها) ش: أي في الدار التي اشتراها بالخيار م: (لأنه) ش: أي؛ لأن طلب الشفعة م: (ما ثبت إلا لدفع ضرر الجوار وذلك) ش: أي دفع ضرر الجار م: (بالاستدامة) ش: أعني باستدامة الملك في الدار المشتراة بالخيار.
م: (فيتضمن ذلك) ش: أي اختيار الملك م: (سقوط الخيار سابقا عليه) ش: أي على طلب الشفعة م: (فيثبت الملك من وقت الشراء فيتبين أن الجوار كان ثابتا) ش: عند بيع الدار الثانية وهو يوجب الشفعة م: (وهذا التقرير) ش: الذي ذكره من قوله: لأن طلب الشفعة يدل على اختيار الملك إلى آخره م: (يحتاج إليه لمذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خاصة) ش: إنما قال: خاصة؛ لأن عندهما يدخل المبيع في ملك المشتري فلا يحتاج إلى التقرير الذي يؤدي إلى اختيار المالك.
قال الإمام السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وجوب الشفعة مذهبهما ظاهر، وأما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلأنه صار أحق بالتصرف فيها وذلك يكفيه لاستحقاق الشفعة بها كالمأذون المستغرق بالدين أو المكاتب فإنهما يستحقان الشفعة، وإن لم يملكا رقبة الدار بخلاف ما إذا كان الخيار للبائع فالمشتري هناك لم يصر أحق بالتصرف فيها.
[اشترى الرجلان غلاما على أنهما بالخيار فرضي أحدهما]
م: (قال) ش: محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا اشترى الرجلان غلاما على أنهما بالخيار فرضي أحدهما فليس للآخر أن يرده عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا:) ش: أي أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (له أن يرده، وعلى هذا الخلاف خيار العيب وخيار الرؤية) .
ش: وقال صاحب " الخطر والمختلف " إذا اشتريا غلاما ليس لأحدهما أن يرده بخيار الرؤية أو بخيار العيب بدون صاحبه قبل القبض وبعده على الخلاف المذكور.
وقال الفقيه أبو الليث في شرح " الجامع الصغير ": رجلان اشتريا غلاما على أنهما بالخيار(8/77)
لهما أن إثبات لهما إثباته لكل واحد منهما، فلا يسقط بإسقاط صاحبه؛ لما فيه من إبطال حقه. وله أن المبيع خرج عن ملكه غير معيب بعيب الشركة، فلو رده أحدهما رده معيبا به وفيه إلزام ضرر زائد، وليس من ضرورة إثبات الخيار لهما الرضا برد أحدهما؛ لتصور اجتماعهما على الرد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فرضي أحدهما فليس للآخر أن يرده في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي قولهما له ذلك.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (أن إثبات الخيار لهما) ش: أي للرجلين المذكورين م: (إثباته) ش: أي إثبات الخيار م: (لكل واحد منهما فلا يسقط بإسقاط صاحبه لما فيه من إبطال حقه) ش: في الخيار.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن المبيع خرج عن ملكه) ش: أي عن ملك البائع م: (غير معيب بعيب الشركة) ش: لأن الشركة في الأعيان المجتمعة عيب فإن البائع قبل البيع كان متمكنا من الارتفاع متى شاء، وبعده إذا أراد البعض لا يتمكن إلا مهاباة، والخيار يثبت نظرا لمن هو له على وجه لا يلحق بالضرر لغيره م: (فلو رده أحدهما رده معيبا به وفيه إلزام ضرر زائد) ش: وقيد الضرر بالزائد؛ لأن في امتناع الرد ضررا أيضا زائدا للرد، ولكن لم يكن من الغير، بل لعجزه عن إيجاد شرط الرد كان دون الأول فإن الضرر الحاصل من الغير أقطع -أنجع- من الحاصل من نفسه.
فإن قيل: بيعه منهما رضا منه يعيب التبعيض. أجيب: بأنه إن سلم به فهو رضا به في ملكها لا في ملك نفسه، فإن قيل: حصل العيب في يد البائع بفعله؛ لأن تفرق الملك إنما هو بالعقد قبل القبض.
قلنا: بل حصل بفعل المشتري برد نصفه، والمشتري إذا عيب المعقود عليه في يد البائع ليس له أن يرده بحكم خياره، لكن هذا العيب لعرض الزوال بمساعدة الآخر على الرد، فإذا امتنع ظهر عمله.
م: (وليس من ضرورة إثبات الخيار لهما) ش: جواب لهما وتقريره أن إثبات الخيار لهما ليس من ضرورته م: (الرضا برد أحدهما لتصور اجتماعهما على الرد) ش: أي اجتماع الشريكين يعني يتصور الانفكاك بتصور اجتماعهما على الرد فلا يلزم من إثبات الخيار لهما الرضا برد أحدهما.
وعن أبي حنيفة في غير رواية الأصول: أنه لو رد أحدها يؤمر الآخر برده؛ لأنه لو امتنع عن الرد كان فيه إبطال حق الآخر، وليس له ذلك؛ لأن الخيار بشرط الرد وقد اشترطا. كذا في " جامع الإسبيجابي ".(8/78)
قال: ومن باع عبدا على أنه خباز أو كاتب وكان بخلافه فالمشتري بالخيار، إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء ترك؛ لأن هذا وصف مرغوب فيه فيستحق في العقد بالشرط، ثم فواته يوجب التخيير؛ لأنه ما رضي به دونه، وهذا يرجع إلى اختلاف النوع لقلة التفاوت في الأغراض، فلا يفسد العقد بعدمه بمنزلة وصف الذكورة والأنوثة في الحيوانات، وصار كفوات وصف السلامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باع عبدا على أنه خباز أو كاتب وكان بخلافه]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن باع عبدا على أنه خباز أو كاتب) ش: أي عبد حرفته الخبز أو الكتابة م: (وكان بخلافه) ش: أي ظهر أنه ليس بخباز أو ليس بكاتب م: (فالمشتري بالخيار، إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء ترك) ش:.
وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول م: (لأن هذا وصف مرغوب فيه) ش: وهو ظاهر وهو احتراز عما ليس بمرغوب فيه كما إذا باع على أنه أعور فإذا هو سليم؛ لأنه لا يوجب الخيار م: (فيستحق) ش: أي الوصف المرغوب فيه م: (في العقد بالشرط ثم فواته) ش: أي فوات الوصف المرغوب فيه م: (يوجب التخيير؛ لأنه ما رضي به دونه) ش: أي ما رضي بالمبيع بدون الوصف المرغوب فيه، وينقض بما إذا باع شاة على أنها حامل أو على أنها تحلب كذا فإن البيع فيه فاسد والوصف مرغوب فيه.
وأجيب: بأن ذلك ليس بوصف بل اشتراط مقدر من البيع مجهول وضم المجهول إلى المعلوم يصير الكل مجهولا، ولهذا إذا شرطا أنها حلوب أو لبون لا تفسد لكونه وصفا مرغوبا فيه ذكره الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، سلمناه ولكنه مجهول ليس في وسع البائع تحصيله ولا إلى معرفته سبيل بخلاف ما نحن فيه، فإن له أن يأمره بالخبز والكتابة فيظهر حاله.
م: (وهذا) ش: أي الاختلاف في النوع بكونه خبازا أو غير خباز وبكونه كاتبا أو غير كاتب م: (يرجع إلى اختلاف النوع) ش: يعني بمنزلة الاختلاف في النوع حتى لا يفسد العقد بل يكون للمشتري الخيار م: (لقلة التفاوت في الأغراض فلا يفسد العقد بعدمه بمنزلة وصف الذكورة والأنوثة في الحيوانات) ش: كما إذا اشترى شاة على أنها نعجة فإذا هي حمل وقيد فيه بالحيوان؛ لأن في بني آدم يورث اختلاف الجنس لفحش التفاوت، كما إذا باع عبدا فإذا هي جارية ويفسد به العقد.
م: (وصار كفوات وصف السلامة) ش: أي صار فوات الخبز والكتابة فيما إذا اشترى على أنه خباز أو كاتب فوجده بخلافه كفوات وصف السلامة، فيما إذا اشترى على أنه سليم فوجده معيبا فثمة له ولاية الرد فكذا هاهنا.
والحاصل أن الاختلاف الحاصل بالوصف إن كان مما يوجب التفاوت الفاحش في الأغراض كان راجعا إلى الجنس كما في بيع عبد وظهر جارية فيفسد به العقد، وإن كان مما لا(8/79)
وإذا أخذه أخذه بجميع الثمن؛ لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن لكونها تابعة في العقد على ما عرف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يوجب، كان راجعا إلى النوع كما في شراء نعجة فظهر أنها حمل فلا يفسد العقد لكنه يوجب التخيير لفوات وصف السلامة.
وفي " الذخيرة ": ولو امتنع الرد بسبب من الأسباب رجع المشتري على البائع بحصته من الثمن، فيقوم العبد كاتبا وينظر إلى تفاوت ما بين ذلك، فإن مثل العشر يرجع بعشر الثمن، وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يرجع هاهنا بشيء.
ولكن المذكور في ظاهر الرواية أصح وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأن البائع عجز عن تسليم وصف السلامة كما في المعيب، ولو وقع الاختلاف بين المشتري والبائع في هذه الصور بعد ما مضى حين من وقت البيع، فقال المشتري: لم أجده كاتبا، وقال البائع: إني سلمته إليك كذلك، ولكنه نسي عندك وقد ينسى في تلك المدة فالقول للمشتري؛ لأن الاختلاف وقع في وصف عارض إذ الأصل عدم الكتابة والخبز. قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] (النحل: الآية 78) ، ولو اشترى بقرة على أنها حبلى فولدت عنده وشرب اللبن وأنفق عليها فإنه يردها والولد وما شرب من اللبن؛ لأن البيع وقع فاسدا وكانت في ضمانه والنفقة عليه، ولو اشترى شاة على أنها نعجة فإذا هو معز يجوز البيع وله الخيار؛ لأن حكمها واحد في الصدقات.
وكذا لو اشترى بقرة فإذا هي جاموس، ولو اشترى جارية على أنها مولودة الكوفة فإذا هي مولودة بغداد، أو اشترى غلاما على أنه فحل فإذا هو خصي أو على عكسه، أو على أنها بغلة فإذا هو بغل أو على أنها ناقة فإذا هو فحل، أو على أنه لحم ضأن فوجده لحم ماعز أو على عكسه ففيها كلها له الخيار.
م: (وإذا أخذه) ش: أي وإذا أخذ العبد الذي اشتراه على أنه خباز أو كاتب فظهر بخلافه م: (أخذه بجميع الثمن؛ لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن لكونها تابعة في العقد) ش: تدخل فيه من غير ذكر م: (على ما عرف) ش: فيما تقدم.(8/80)
باب خيار الرؤية قال: ومن اشترى شيئا لم يره فالبيع جائز وله الخيار إذا رآه، إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء رده. وقال: الشافعي: لا يصح العقد أصلا؛ لأن المبيع مجهول. ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من اشترى شيئا لم يره فله الخيار إذا رآه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب خيار الرؤية]
[اشترى شيئا لم يره]
م: (باب خيار الرؤية) ش: أي هذا باب في بيان خيار الرؤية والإضافة فيه من قبيل إضافة المسمى إلى شرطه، وقال تاج الشريعة: من إضافة الحكم إلى سببه.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومن اشترى شيئا لم يره فالبيع جائز) ش: صورته أن يقول الرجل لغيره: بعتك الثوب الذي في كمي هذا وصفته كذا، أو الدرة التي في كمي هذا وصفتها كذا ولم يذكر الصفة أو يقول: بعت منك هذه الجارية المتنقبة، أما إذا قال: بعت ما في كمي أو ما في كمي هذه من شيء هل يجوز البيع؟ لم يذكره في المبسوط قال عامة مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إطلاق الجواب يدل على جوازه عندنا وبعضهم قال: لا يجوز لجهالة المبيع.
وفي " المبسوط " الإشارة إليه وإلى مكانه شرط الجواز حتى لو لم يشر إليه ولا إلى مكانه لا يجوز بالإجماع، وفي " الأسرار " صورته عبدا أو أمة متنقبة مشارا إليها حاضرة، له الخيار إذا كشف ثم خيار الرؤية لا يثبت إلا في أربعة أشياء: في الشراء، والإجارة، والقسمة، والصلح في دعوى المال على شيء بعينه.
م: (وله الخيار إذا رآه، إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء رده، وقال الشافعي: لا يصح العقد أصلا؛ لأن المبيع مجهول) ش: لأنه لم يعرف من المعقود عليه إلا الاسم، وفي " الدراية " وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إن كان جنس المبيع معلوما بأن قال: بعتك ما في هذه الجواليق من الثياب فله قولان، وإن لم يكن معلوما بأن قال: بعت ما في هذه الجواليق. فالمبيع باطل عنده قولا واحدا.
وفي " شرح الوجيز، والحلية ": بيع ما لم يره البائع والمشتري يصح في القديم وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وفي الجديد لا يصح؛ لأن المبيع مجهول، وفي " الحلية " يجوز بيع الغائب في القول المختار، وهو قول عثمان وطلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - واختاره القفال وكثير من أصحابنا.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «من اشترى شيئا لم يره فله الخيار إذا رآه» ش: الحديث روي مرسلا ومسندا، فالمسند أخرجه الدارقطني في سننه، عن داهر(8/81)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بن نوح، حدثنا عمر بن إبراهيم بن خالد الكردي، حدثنا وهب اليشكري، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه» .
قال عمر الكردي: وأخبرني فضيل بن عياض عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله، قال عمر أيضا: وأخبرني القاسم بن الحكم عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن الهيثم عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله.
وأما المرسل فرواه ابن أبي شيبة في مصنفه، والدارقطني -رحمهما الله- ثم البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في سننيهما، حدثنا إسماعيل بن عياش عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن مكحول رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من اشترى.... إلى آخره، وزاد «إن شاء أخذه وإن شاء تركه» . فإن قلت: استدل الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بأحاديث صحاح منها: ما رواه مسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» .
ومنها، ما رواه الأربعة عن حكيم بن حزام قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تبع ما ليس عندك» . وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا حديث حسن.
ومنها: ما رواه الأربعة أيضا عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل سلف وبيع ولا شرط في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك» . وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقالوا: حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي احتججتم به فيه عمر بن إبراهيم الكردي.(8/82)
ولأن الجهالة بعدم الرؤية لا تفضي به إلى المنازعة؛ لأنه لو لم يوافقه يرده فصار كجهالة الوصف في المعاين المشار إليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو يضع الأحاديث، وهذا باطل لا يصح؛ لأنه لم يروه غيره، وإنما يروى عن ابن سيرين - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قوله، وقال ابن القطان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتابه: والراوي عن الكردي داهر بن نوح، وهو لا يعرف، وفي المرسل أبو بكر بن أبي مريم. قال الدارقطني: ضعيف.
قلت: أما حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإن أبا حنيفة ومحمد -رحمهما الله- روياه بإسنادهما ذكره صاحب " المبسوط " وغيره من أصحابنا وهم ثقات، وذكر في " المبسوط ": أيضا أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - والحسن البصري وسلمة بن الحسين رووه مرسلا وهو حجة عندنا، والحديث الذي رواه العلماء الكبار إذا كان في طريق منها لا يترك مع أن الطعن المبهم لا يقبل، وعمل بهذا الحديث كثير من العلماء، مثل مالك وأحمد وغيرهما.
وفي " نوادر الفقهاء " لابن بنت نعيم: أجمع الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - على جواز بيع الغائب المقدور على تسليمه وأن لمشتريه خيار الرؤية إذا رآه، فإن قيل: بيع الآبق متفق على منعه فكذا الغائب. قلنا: لم يمتنع بيع الآبق لغيبته، بل لتعذر تسليمه كالطير في الهواء والسمك في الماء، والجواب عن النهي عن بيع الغرر أنه لا يدري أيكون أم لا؟ وعلى ما لا يقدر على تسليمه كذا قال أهل اللغة.
وقال ابن حزم في " المحلى ": إذا وصف الغائب عن رد دينه وخير ملكه المشتري فأين الغرر ولم يزل المسلمون يتبايعون الضياع في البلاد البعيدة بالصفة، باع عثمان لطلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أرضا بالكوفة لم يرياه، فقضى جبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الخيار لطلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وما نرى للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سلفا في منع بيع الغائب الموصوف، ولا خلاف في اللسان ما في ملك بائع ما هو عنده، وما ليس في ملكه فليس عنده، وإن كان في يده، والجواب عن حديث حكيم بن حزام أن المراد من قوله: "ما ليس عندك" عدم الملك؛ لأن تمام الحديث يدل على ذلك، وتمامه قال: «سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يأتيني الرجل فيسألني من البيع ما ليس عندي أبتاع له من السوق ثم أبيعه منه؟ قال: "لا تبع ما ليس عندك» هكذا رواه الترمذي وغيره، وفي رواية النسائي: أبيعه منه ثم أبتاعه له من السوق؟ فقال «لا تبع ما ليس عندك» .
م: (ولأن الجهالة بعدم الرؤية لا تفضي به إلى المنازعة؛ لأنه لو لم يوافقه يرده) ش: لأنه لو لم يوافقه بعد الرؤية يرده على بائعه بلا نزاع وإنما يفضي إلى المنازعة لو قلنا بانبرام العقد ولم نقل به م: (فصار كجهالة الوصف في المعاين المشار إليه) ش: بأن اشترى ثوبا مشارا إليه غير معلوم عدد(8/83)
وكذا إذا قال: رضيت، ثم رآه، له أن يرده؛ لأن الخيار معلق بالرؤية؛ لما روينا، فلا يثبت قبلها، وحق الفسخ بحكم أنه عقد غير لازم لا بمقتضى الحديث، ولأن الرضا بالشيء قبل العلم بأوصافه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وزعاته يجوز لكونه معلوم العين وإن لم يكن ثمة جهالة لا يفضي إلى النزاع.
م: (وكذا إذا قال: رضيت) ش: وفي بعض النسخ قال: وكذا إذا رضيت ذكر هذا تفريعا على مسألة القدوري، يعني قال المشتري بعد تمام البيع: رضيت بذلك البيع على أي وصف كان م: (ثم رآه، له أن يرده) ش: وهو ظاهر مذهب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وحكي في تتمتهم وجها آخر أنه ينفذ كما إذا اشترى على أن لا خيار م: (لأن الخيار معلق بالرؤية لما روينا) ش: والحديث الذي ذكره م: (فلا يثبت قبلها) ش: أي فلا يثبت الخيار قبل الرؤية على تأويل المذكور؛ لأن المعلق بالشيء لا يثبت قبله؛ لئلا يلزم وجود المشروط بدون الشرط، فإن قيل: المذهب عندنا أن المعلق بالشرط يوجد عند وجوده.
ولا يلزم عدمه عند عدمه لجواز أن يوجد بعلة أخرى فكيف يصح قوله: فلا يثبت قبله؛ لأنه دعوى بلا دليل؟ قلنا: هذه وصية متلقاة من جهة صاحب الشرع فتنتهي إلى ما نهانا إليه، والشرع أثبت الخيار بالرؤية فلا يثبت قبلها، ولو يثبت إنما يثبت بدليل آخر، فمن ادعاه فعليه البيان كذا قيل، فإن قيل: يشكل بخيار العيب فإنه إذا قال رضيت به، قيل: إذا أراده فلا خيار له. قلنا: سبب الخيار هناك العيب وهو موجود قبل العلم فيكون الخيار ثابتا، ولا كذلك هاهنا كما بينا فافترقا.
م: (وحق الفسخ) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر يرد على قوله: لأن الخيار معلق بالرؤية فلا يثبت قبله بأن يقال: لما لم يثبت قبل الرؤية لما كان له حق الفسخ قبل الرؤية؛ لأنه من نتائج ثبوت الخيار له كالقبول فكان معلقا بها فلا يوجد قبلها.
فأجاب بقوله: وحق الفسخ يعني يمكنه من الفسخ م: (بحكم أنه) ش: أي أن العقد بخيار الرؤية م: (عقد غير لازم) ش: لأنه لم يقع منبرما فجاز فسخه لهؤلاء فيه، ألا ترى أن كل واحد من العاقدين في عقد الوديعة والعارية والوكالة يملك الفسخ باعتبار عدم لزوم العقد وإن لم يكن له خيار لا شرطا ولا شرعا.
م: (لا بمقتضى الحديث) ش: أي لا للبناء على الخيار الذي اقتضاه الحديث.
قال الأكمل: وفيه نظر؛ لأن عدم لزوم هذا العقد باعتبار الخيار ملزوم للخيار، والخيار معلق بالرؤية لا يوجد بدونها فكذا ملزومه؛ لأن ما هو شرط اللازم فهو شرط الملزوم م: (ولأن الرضا بشيء) ش: جواب آخر وتحقيقه أن رضا الشخص بالشيء م: (قبل العلم بأوصافه) ش:(8/84)
لا يتحقق فلا يعتبر قوله: رضيت قبل الرؤية، بخلاف قوله: رددت.
قال: ومن باع ما لم يره فلا خيار له، وكان أبو حنيفة يقول أولا له الخيار اعتبارا بخيار العيب وخيار الشرط، وهذا؛ لأن لزوم العقد بتمام الرضا زوالا وثبوتا، ولا يتحقق ذلك إلا بالعلم بأوصاف المبيع وذلك بالرؤية فلم يكن البائع راضيا بالزوال، ووجه القول المرجوع إليه أنه معلق بالشراء لما روينا فلا يثبت دونه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي قبل أن يعلم بأوصاف ذلك الشيء م: (لا يتحقق) ش: لأن الرضا استحسان الشيء واستحسان ما لم يعلم ما يحسنه غير متصور م: (فلا يعتبر قوله: رضيت قبل الرؤية بخلاف قوله: رددت) ش: لأنه فسخ لعدم الرضا وهو لا يحتاج إلى معرفة المحسنات لا يقال عدم الرضاء لاستقباح الشيء، واستقباح ما لم يعلم ما يقبحه غير متصور؛ لأن عدم الرضا قد يكون باعتبار ما بدا له من انتفاء حاجته إلى المبيع أو ضاع ثمنه أو استغلاه فلا يستلزم الاستقباح.
وذكر في " التحفة " أن جواز الفسخ قبل الرؤية لا رواية فيه لكن المشايخ اختلفوا فقال بعضهم: لا يصح قياسا علي الإجارة، وقال بعضهم يصح: دون الإجارة وهو مختار المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[باع ما لم يره]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن باع ما لم يره فلا خيار له) ش: صورته ورث شيئا فباعه قبل الرؤية فلا خيار له وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (وكان أبو حنيفة يقول أولا له الخيار) ش: وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في وجه وقال في وجه: لا ينعقد بيعه قولا واحدا م: (اعتبارا) ش: أي قياسا م: (بخيار العيب وخيار الشرط) ش: أما خيار العيب فإنه لا يختص بجانب المشتري بل إذا وجد البائع الثمن زيفا فهو بالخيار إن شاء جوز وإن شاء رد، كالمشيئة إذا وجد المبيع معيبا، لكن لا ينفسخ رد الثمن وينفسخ برد المبيع؛ لأنه أصل دون الثمن، وأما خيار الشرط فإنه يصح من الجانبين كما تقدم.
م: (وهذا) ش: أي ثبوت الخيار للبائع م: (لأن لزوم العقد بتمام الرضا زوالا) ش: أي من حيث الزوال من جهة المبيع في حق البائع م: (وثبوتا) ش: أي من حيث الثبوت من جهة الشراء في حق المشتري م: (ولا يتحقق ذلك) ش: أي الرضا م: (إلا بالعلم بأوصاف المبيع وذلك) ش: أي العلم بأوصاف المبيع م: (بالرؤية) ش: فإن بالرؤية يحصل الاطلاع على دقائق لا تحصل بالعبارة م: (فلم يكن البائع راضيا بالزوال) ش: أي قبل الرؤية لعدم تمام الرضا.
م: (ووجه القول المرجوع إليه) ش: وهو عدم الخيار م: (أنه) ش: أي أن الخيار م: (معلق بالشراء لما روينا) ش: وهو الحديث المذكور م: (فلا يثبت دونه) ش: أي دون الشراء، ورؤية المشتري، فإن قيل: البائع مثل المشتري في الاحتياج إلى تمام الرضا فيلحق به دلالة. أجيب: بأنهما ليسا سيان فيه؛ لأن الرد من جانب المشتري باعتبار أنه كان يظنه خيرا مما اشترى فيرده(8/85)
وروي أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - باع أرضا بالبصرة من طلحة بن عبيد الله فقيل لطلحة: إنك قد غبنت فقال: لي الخيار؛ لأني اشتريت ما لم أره، وقيل لعثمان: إنك قد غبنت، فقال: لي الخيار؛ لأني بعت ما لم أره، فحكما بينهما جبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقضى بالخيار لطلحة، وكان ذلك بمحضر من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
ثم خيار الرؤية غير مؤقت بل يبقى إلى أن يوجد ما يبطله، وما يبطل خيار الشرط
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لفوات الوصف المرغوب؛ لأن الرد من جانب المشتري باعتبار أن المبيع أزيد مما ظن فصار كما لو باع عبدا بشرط أنه معيب فإذا هو صحيح لم يثبت للبائع خيار، وإذا لم يكن في معناه لم يلحق به فإن قيل: المعلق بالشرط يوجد قبل وجود الشرط لسبب آخر، وهاهنا وجد القياس. أجيب: بأنه ثابت بالنص غير معقول المعنى فلا يجوز فيه القياس سلمناه.
ولكن القياس على مخالفة الإجماع باطل، والإجماع في قضية عثمان وطلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - على ما ذكره بقوله م: (وروي أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: وهو عثمان بن عفان م: (باع أرضا بالبصرة) ش: أي كانت الأرض بالبصرة وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالمدينة م: (من طلحة بن عبيد الله) ش: التميمي أحد العشرة المبشرين بالجنة م: (فقيل لطلحة: إنك قد غبنت) ش: على صيغة المجهول من " الغبن " بالغين المعجمة وسكون الباء يقال: غبنته في البيع أي خدعته م: (فقال: لي الخيار؛ لأني اشتريت ما لم أره، وقيل لعثمان: إنك قد غبنت فقال: لي الخيار؛ لأني بعت ما لم أره فحكما بينهما) ش: بتشديد الكاف من التحكيم م: (جبير بن مطعم) ش: بن عدي الصحابي المشهور م: (فقضى بالخيار لطلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: وهذا أخرجه الطحاوي ثم البيهقي عن علقمة بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن طلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشترى من عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما لم يره فقيل لعثمان: إنك قد غبنت.... الحديث.
م: (وكان ذلك) ش: أي حكم جبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان بين عثمان وطلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - م: (بمحضر من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: ولم ينكر عليه أحد من الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فكان إجماعا بينهم؛ ولهذا رجع أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - حين بلغه الخبر.
[خيار الرؤية غير مؤقت]
م: (ثم خيار الرؤية غير مؤقت) ش: قيل: إنه مؤقت بوقت إمكان الفسخ بعد الرؤية وبه قال بعض أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حتى إذا وقع بصره عليه ولم يفسخه سقط حقه.
والأصح ما قاله المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله: م: (بل يبقى) ش: أي خياره م: (إلى أن يوجد ما يبطله) ش: لأنه ثبت حكما لانعدام الرضا فيبقى إلى أن يوجد ما يبطل عدم الرضا م: (وما يبطل خيار الشرط) ش: كلمة ما موصولة مبتدأ، ويبطل بضم الياء من الإبطال صلة(8/86)
من تعيب أو تصرف يبطل خيار الرؤية، ثم إن كان تصرفا لا يمكن رفعه كالإعتاق والتدبير، أو تصرفا يوجب حقا للغير كالبيع المطلق والرهن والإجارة يبطله قبل الرؤية وبعدها؛ لأنه لما لزم تعذر الفسخ فبطل الخيار. وإن كان تصرفا لا يوجب حقا للغير كالبيع بشرط الخيار، والمساومة، والهبة من غير تسليم لا يبطله إذا كان قبل الرؤية؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الموصول وخيار الشرط بالنصب مفعوله، وكلمة من في قوله م: (من تعيب) ش: للبيان أي من تعيب في البيع الذي اشتراه بخيار الشرط م: (أو تصرف) ش: أي أو تصرف في خيار الشرط، وقوله: م: (يبطل خيار الرؤية) ش: خبر المبتدأ وصورة التعيب في خيار الشرط قد مضت هناك، وأما التصرف في خيار الرؤية فعلى ضربين أشار إلى الأول بقوله: م: (ثم إن كان) ش: أي التصرف م: (تصرفا لا يمكن رفعه) ش: يعني بعد وقوعه م: (كالإعتاق) ش: بأن أعتق عبده الذي اشتراه ولم يره.
م: (والتدبير) ش: بأن دبره قبل رؤيته م: (أو تصرفا) ش: أي أو تصرف تصرفا م: (يوجب حقا للغير) ش: وهذا هو الضرب الثاني م: (كالبيع المطلق) ش: بأن باع الذي اشتراه ولم يره مطلقا يعني بدون شرط الخيار م: (والرهن) ش: بأن رهن الذي اشتراه قبل الرؤية م: (والإجارة) ش: بأن أجره لأحد قبل رؤيته م: (يبطله) ش: جواب قوله: ثم إن كان، وجواب ما عطف عليه وهو الضرب الثاني من الضربين، أي يبطل خياره للرؤية في الضرب الأول.
والضرب الثاني وسواء في البطلان م: (قبل الرؤية وبعدها؛ لأنه لما لزم) ش: أي هذا التصرف إما لعدم إمكان رفعه أو لكونه موجبا حقا للغير م: (تعذر الفسخ فبطل الخيار) ش: ضرورة عدم إمكان العمل بالنص وفي " شرح الأقطع ": لو عاد إلى ملكه بسبب الرد بقضاء أو بفك الرهن، أو فسخ الإجارة لم يرد بخيار الرؤية؛ لأنه يبطل بعقده فلا يعود بسبب ملكه.
فإن قيل: بطلان الخيار قبل الرد مخالف لحكم النص؛ لأنه أثبت الخيار إذا رآه.
قلنا: ذلك فيما إذا أمكن العمل بحكم النص، وهذه التصرفات مبنية على الملك وصحة هذه التصرفات بناء على قيام الملك وبعد صحتها لا يمكن دفعها فيسقط الخيار ضرورة بطلان العقد، وخيار الرؤية بالنص فيما إذا بقي حكم العقد كذا في " الذخيرة ".
م: (وإن كان) ش: أي التصرف م: (تصرفا لا يوجب حقا للغير كالبيع بشرط الخيار) ش: بأن باع ما اشتراه قبل الرؤية بشرط الخيار م: (والمساومة) ش: بأن عرضه على البيع م: (والهبة من غير تسليم) ش: بأن وهبة لشخص ولكن لم يسلمه للموهوب له م: (لا يبطله) ش: جواب قوله: وإن كان تصرفا لا يوجب حقا للغير أي لا يبطل خيار الرؤية لكن ليس على الإطلاق بل إنما لا يبطله م: (إذا كان قبل الرؤية) ش: أي رؤية الشيء الذي اشتراه.(8/87)
لأنه لا يربو على صريح الرضا، ويبطله بعد الرؤية لوجود دلالة الرضا.
قال: ومن نظر إلى وجه الصبرة، أو إلى وجه الجارية، أو إلى ظاهر الثوب مطويا، أو إلى وجه الدابة وكفلها فلا خيار له، والأصل في هذا أن رؤية جميع المبيع غير مشروط لتعذره، فيكتفي برؤية ما يدل على العلم بالمقصود ولو دخل في البيع أشياء، فإن كان لا تتفاوت آحادها، كالمكيل، والموزون، وعلامته أن يعرض بالنموذج يكتفي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأنه) ش: أي؛ لأن هذا التصرف م: (لا يربو) ش: أي لا يزيد م: (على صريح الرضا) ش: وصريح الرضا لا يبطله قبل الرؤية، وبدليل الرضا أولى أن لا يبطل؛ لأنه دونه م: (ويبطله بعد الرؤية لوجود دلالة الرضا) ش: وفي " المجتبى ": لا يطالب المشتري بالثمن قبل الرؤية، ولا يتوقف الفسخ على الفضاء والرضاء، بل ينفسخ بمجرد قوله: رددت، سواء كان قبل المشتري أو بعده، لكنه لا يصح إلا بمحضر من البائع عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
والخلاف فيه كالخلاف في خيار الشرط والإجازة فصح بدونه، وليس في الدراهم والدنانير والديون خيار الرؤية، ولو كان أيضا من النقدين أو تبرا وحلي مصوغ فله الخيار، ولو تبايعا عينا بعين فلهما الخيار، ولو تبايعا عينا بدين فلمشتري العين خياره.
[نظر إلى وجه الصبرة أو إلى وجه الجارية فلا خيار له]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن نظر إلى وجه الصبرة أو إلى وجه الجارية) ش: ذكر الجارية وقع اتفاقا، فإن الحكم في الغلام كذلك في " الإيضاح ": المعتبر في العبد والأمة النظر إلى الوجه؛ لأن سائر الأعضاء في العبيد والجواري تبع للوجه.
ألا ترى أن القيمة تتفاوت بتفاوت الوجه مع التساوي في سائر الأعضاء م: (أو إلى ظاهر الثوب مطويا) ش: أي أو نظر إلى ظاهر الثوب حال كونه مطويا م: (أو إلى وجه الدابة) ش: أي أو نظر إلى وجه الدابة م: (وكفلها) ش: أي وإلى كفلها م: (فلا خيار له) ش: جواب من وما بعدها.
م: (والأصل في هذا) ش: أي في إسقاط خيار الرؤية م: (أن رؤية جميع المبيع غير مشروط لتعذره) ش: أي لتعذر رؤية الجميع على تأويل المذكور، وفي بعض النسخ لتعذرها فلا يحتاج إلى التأويل م: (فيكتفي برؤية ما يدل على العلم بالمقصود) ش: لحصول المقصود م: (ولو دخل في البيع أشياء) ش: يعني متعددة من جنس واحد.
م: (فإن كان لا تتفاوت آحادها كالمكيل والموزون) ش: والعددي المتقارب، وقيد بقوله: لا تتفاوت آحادها؛ لأنه إذا كان المكيل أو الموزون من أنواع مختلفة فخياره باق م: (وعلامته) ش: أي علامة الشيء الواحد الذي لا تتفاوت آحاده م: (أن يعرض بالنموذج) ش: بفتح النون وبيان(8/88)
برؤية واحد منها، إلا إذا كان الباقي أردأ مما رأى فحينئذ يكون له الخيار، وإن كان تتفاوت آحادها كالدواب والثياب لا بد من رؤية كل واحد منها، والجوز والبيض من هذا القبيل، فيما ذكره الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكان ينبغي أن يكون مثل الحنطة والشعير لكونها متقاربة، إذا ثبت هذا فنقول: النظر إلى وجه الصبرة كاف؛ لأنه يعرف وصف البقية؛ لأنه مكيل يعرض بالنموذج، وكذا النظر إلى ظاهر الثوب مما يعلم به البقية إلا إذا كان في طيه ما يكون مقصودا كموضع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأنموذج أيضا بضم الهمزة، وهو تعريب نموذجه كذا في المغرب م: (يكتفي برؤية واحد منها) ش: أي من هذه الأشياء المتعددة.
م: (إلا إذا كان الباقي) ش: من الذي ما رآه م: (أردأ مما رأى فحينئذ يكون له الخيار) ش: أطلق المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الخيار، وفي " الينابيع " يثبت له خيار المعيب لا خيار الرؤية سواء كان في وعاء واحد أو أوعية مختلفة بعد أن يتحد الكيل في الجنس والصفة.
وفي " جامع قاضي خان " قال مشايخ بلخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: برؤية أحد الوعاءين لا يبطل خياره، والصحيح أنه يبطل؛ لأن رؤية البعض تعرف حال الباقي، فإن تغير الباقي له أن يرده.
وفي " الذخيرة " المكيل والموزون يكتفي برؤية البعض إذا كان في وعاء واحد، وإن كانا في وعاءين فرأى ما في أحدهما، اختلف المشايخ فيه قال مشايخ العراق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إذا رضي عما رأى يبطل خياره في الكيل إذا وجد ما في الوعاء الآخر مثل ما رأى أو فوقه، أما إذا وجد دونه فهو على خياره، ولكن إذا أراد الرد يرد الكل.
م: (وإن كان تتفاوت آحادها كالدواب والثياب لا بد من رؤية كل واحد منها) ش: لأن رؤية البعض لا تعرف الباقي لتفاوت في آحاده م: (والجوز والبيض من هذا القبيل) ش: أي من قبيل ما تتفاوت آحاده؛ لأنه يختلف بالصغر والكبر وهو اختيار قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فيما ذكره الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ومال المصنف إلى أنه يكتفي برؤية واحد منها ولهذا قال: م: (وكان ينبغي أن يكون) ش: أي الجوز واللوز م: (مثل الحنطة والشعير لكونها) ش: أي لكون آحادهما أي آحاد الجوز واللوز م: (متقاربة) ش: فيكتفي برؤية البعض عن الباقي، وفي " المجرد " وهو الأصح وبه قال بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (إذا ثبت هذا) ش: أي ما ذكرنا من التفصيل والتقرير م: (فنقول: النظر إلى وجه الصبرة كاف؛ لأنه يعرف وصف البقية؛ لأنه مكيل يعرض بالنموذج) ش: وهو ظاهر مذهب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وحكي عنه أنه لا يكفي رؤية ظاهر الصبرة بل لا بد من تقلبها ليعرف حال باطنها، والمذهب المشهور هو الأول عنده.
م: (وكذا النظر إلى ظاهر الثوب مما يعلم به البقية إلا إذا كان في طيه ما يكون مقصودا كموضع(8/89)
العلم، والوجه هو المقصود في الآدمي، وهو والكفل في الدواب فيعتبر رؤية المقصود، ولا يعتبر رؤية غيره. وشرط بعضهم رؤية القوائم. والأول هو المروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي شاة اللحم لا بد من الجس لأن المقصود وهو اللحم يعرف به، وفي شاة القنية لا بد من رؤية الضرع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العلم) ش: وفي " شرح المجمع " المسألة معروفة في الثوب الذي لا يتفاوت ظاهره وباطنه حتى لو خالف لا بد من رؤية ظاهره وباطنه م: (والوجه هو المقصود في الآدمي) ش: أي العبد والأمة حتى لو نظر إلى غيره لا يبطل خياره، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا بد في العبد من رؤية الوجه والأطراف، ولا يجوز رؤية العورة، وفي باقي البدن ذكره في التهذيب أنه لا بد من رؤية أظهر الوجهين، وفي الأمة له وجوه؛ أحدها: يعتبر رؤية ما يرى من العبد، والثاني: رؤية ما يبدو من الزينة، والثالث: يكفي رؤية الوجه والكفين، وفي رؤية الشعر وجهان، وفي " التهذيب ": أصحهما يشترط، ولا يشترط رؤية اللسان والأسنان في أصح الوجهين كذا في " شرح الوجيز " وفي الغاية: الأولى تحكيم العرف.
م: (وهو) ش: أي الوجه م: (والكفل في الدواب فيعتبر رؤية المقصود ولا يعتبر رؤية غيره) ش: أي غير المقصود حتى لو رأى سائر أعضائه دون الوجه يبقى على خياره، وفي بعض النسخ دون غيرها أي غير الثلاثة، وهي الوجه في الآدمي، والوجه والكفل في الدواب، والأول أصح.
م: (وشرط بعضهم رؤية القوائم) ش: أي شرط بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - رؤية قوائم الدابة م: (والأول) ش: وهو رؤية الوجه والكفل م: (هو المروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: رواها بشر عنه، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر في الدواب عرف التجار وهو رواية المعلى عنه، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكفي رؤية الوجه اعتبارا بالعبد والأمة، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا بد من رؤية الوجه والكفل والقوائم ويجب رفع السرج والإكاف والحبل، وعند بعض أصحابه أنه لا بد من أن يجري الفرس بين يديه ليعرف سيره. كذا في " شرح الوجيز " م: (وفي شاة اللحم) ش: وهي الشاة التي تشترى للذبح لأجل اللحم م: (لا بد من الجس؛ لأن المقصود وهو اللحم يعرف به) ش: أي بالجس ليعرف أنها سمينة أو مهزولة.
م: (وفي شاة القنية) ش: وهي الشاة التي تحبس في البيت لأجل النتاج، وفي " المغرب " قنوت المال حميته قنوا وقنوة وقنية، اتخذته لنفسي قنية أي للنسل لا للتجارة، وقال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قنوت الغنم وغيرها قنوة وقنوه، وقنيت أيضا قنية وقنية إذا اقتنيتها لنفسك لا للتجارة م: (لا بد من رؤية الضرع) ش: وفي " الذخيرة " لا بد من النظر إلى ضرعها وسائر جسدها.(8/90)
وفيما يطعم لا بد من الذوق؛ لأن ذلك هو المعرف للمقصود.
قال: وإن رأى صحن الدار فلا خيار له، وإن لم يشاهد بيوتها، وكذلك إذا رأى خارج الدار، أو رأى أشجار البستان من خارج، وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا بد من دخول داخل البيوت، والأصح أن جواب الكتاب على وفاق عادتهم في الأبنية، فإن دورهم لم تكن متفاوتة يومئذ، فأما اليوم فلا بد من الدخول في داخل الدار للتفاوت، والنظر إلى الظاهر لا يوقع العلم بالداخل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وفيما يطعم لا بد من الذوق؛ لأن ذلك) ش: أي الذوق م: (هو المعرف للمقصود) ش: وفي بعض النسخ؛ لأن ذلك أي الذوق.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن رأى صحن الدار) ش: قال الجوهري: صحن الدار وسطها م: (فلا خيار له وإن لم يشاهد بيوتها، وكذلك) ش: أي لا خيار له م: (إذا رأى خارج الدار أو رأى أشجار البستان من خارج) ش: لأن كل جزء من أجزائها متعذر الرؤية، كما تحت السور وبين الحيطان من الجذوع والأسطوانات، ولا يشترط رؤية المطبخ والمزبلة والعلو إلا أن يكون العلو مقصودا كما في سمرقند.
م: (وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا بد من دخول داخل البيوت) ش: وبه قال ابن أبي ليلى، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا بد مع ذلك من رؤية السقوف والمطبخ والسطوح والجدران خارجا وداخلا، ورؤية المستحم والبالوعة، وبه قال الحسن بن زياد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال في شرح الأقطع: والصحيح ما قاله زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (والأصح أن جواب الكتاب) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (على وفاق عادتهم) ش: أي عادة أهل الكوفة وأهل بغداد في زمن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في الأبنية، فإن دورهم لم تكن متفاوتة يومئذ، فأما اليوم) ش: أي في ديارنا م: (فلا بد من الدخول) ش: كما قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في داخل الدار للتفاوت) ش: لقلة المرافق وكثرتها.
م: (والنظر إلى الظاهر لا يوقع العلم بالداخل) ش: وهو الصحيح اليوم، وفي " المحيط " و" الذخيرة ": بعض مشايخنا قال: في الدار يعتبر ما هو المقصود حتى لو كان في الدار بيتان شتويان وبيتان صيفيان يشترط رؤية صحن الدار، وفي البستان يسقط الخيار برؤية خارجه أو رؤوس الأشجار في ظاهر الرواية، وأنكر بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - هذه الرواية، وقال: بأن المقصود من البستان باطنه فلا يبطل برؤية خارجه كذا في شرح المجمع.
وفي " جامع قاضي خان " - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الكرم لا يكتفي برؤية الخارج ورؤوس الأشجار، وفي " المحيط " هذا عندهم، أما في بلادنا لا بد من رؤية داخل الكرم، وفي عنب الكرم لا بد أن يرى من كل نوع بيتا، وفي النخل كذلك.
وفي الرمان من الحلو والحامض، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في البستان لا بد من رؤية(8/91)
قال: ونظر الوكيل كنظر المشتري حتى لا يرده إلا من عيب ولا يكون نظر الرسول كنظر المشتري، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: هما سواء وله أن يرده. قال: معناه الوكيل بالقبض؛ فأما الوكيل بالشراء فرؤيته تسقط الخيار بالإجماع. لهما أنه توكل بالقبض دون إسقاط الخيار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأشجار والجدران ومسائل الماء لا رؤية أساس البستان وعروق الأشجار ونحوها، وفي رؤية ظهر الدار ومجرى الماء الذي يدور به المرحاض طريقان كذا في " شرح الوجيز " إذا اشترى دهنا في زجاج فنظر إلى الزجاج لا يكفي ذلك حتى يصبه على الكف عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه قال أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يكفي؛ لأن الزجاج لا يخفي صورة الدهن.
[نظر الوكيل كنظر المشتري في خيار الرؤية]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ونظر الوكيل كنظر المشتري) ش: صورة التوكيل أن يقول المشتري لغيره: كن وكيلي في قبض المبيع أي وكلتك بقبضه م: (حتى لا يرده إلا من عيب) ش: إذا ظهر فيه أي من عيب لم يعلمه الوكيل.
فإن كان قد علم يجب أن يبطل خيار المعيب، كذا ذكره الفقيه أبو جعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والصحيح أن لا يملك الوكيل بالقبض إبطال خيار العيب فيكون معناه علم أو لم يعلم، هكذا في " الجامع الصغير " لفخر الإسلام البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولا يكون نظر الرسول كنظر المشتري) ش: صورته أن يقول: كن رسولي بقبضه أو قال: أرسلتك لقبضه أو قال: قل لفلان أن يدفع المبيع إليك، والفرق بين الوكيل والرسول أن الوكيل لا يضيف العقد إلى موكله بل يعقد بالاستبداد، والرسول لا يستغني عن الإضافة إلى المرسل، وقيل: لا فرق بين الرسول والوكيل في فصل الأمر بأن قال: اقبض المبيع ولا يسقط الخيار.
م: (وهذا) ش: أي عدم كون نظر الرسول كنظره م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: هما سواء) ش: أي الوكيل والرسول سواء م: (وله) ش: أي وللمشتري م: (أن يرده) ش: أي المبيع إذا رآه فإن شاء أخذه وإن شاء تركه م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (معناه) ش: أي معنى قوله في " الجامع الصغير " ونظر الوكيل كنظر المشتري م: (الوكيل بالقبض) ش: أي معنى قوله م: (فأما الوكيل بالشراء فرؤيته تسقط الخيار بالإجماع) ش: وليس للموكل إذا رأى أن يرده؛ لأن حقوق العقد راجعة إلى الوكيل بالشراء م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه توكل بالقبض) ش: أي أن الوكيل بالقبض توكل أي قبل الوكالة للقبض م: (دون إسقاط الخيار) ش: فلا يتعدى الحكم من القبض إلى إبطال الخيار.(8/92)
فلا يملك ما لم يتوكل به، كخيار العيب والشرط والإسقاط قصدا. وله أن القبض نوعان: تام وهو أن يقبضه وهو يراه؛ وناقص وهو أن يقبضه مستورا، وهذا؛ لأن تمامه بتمام الصفقة، ولا تتم مع بقاء خيار الرؤية، والموكل يملكه بنوعيه، فكذا الوكيل. ومتى قبض الموكل وهو يراه سقط الخيار، فكذا الوكيل لإطلاق التوكيل، وإذا قبضه مستورا انتهى التوكيل بالناقص منه، فلا يملك إسقاطه قصدا بعد ذلك بخلاف خيار العيب؛ لأنه لا يمنع تمام الصفقة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فلا يملك ما لم يتوكل به) ش: لأن إبطال الخيار ليس من القبض م: (وصار كخيار العيب) ش: أي صار هذا كمن اشترى شيئا ثم وكل بقبضه فقبض الوكيل معيبا رائيا عيبه لم يسقط خيار العيب للموكل م: (والشرط) ش: أي وصار كخيار الشرط كمن اشترى بخيار الشرط ووكل بقبضه لم يسقط خيار الموكل.
م: (والإسقاط قصدا) ش: صورته: أن الوكيل بالقبض إذا قبضه مستورا ثم رآه وأسقط عنه الخيار قصدا لا يسقط الخيار عن الموكل، وقوله: قصدا احترازا عن الإسقاط الضمني فإنه لا يملك بقبض المبيع.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن القبض نوعان: تام وهو أن يقبضه) ش: أي الوكيل م: (وهو يراه، وناقص) ش: أي وقبض ناقص م: (وهو أن يقبضه مستورا) ش: وهو لا يسقط الخيار لعدم الرضا.
م: (وهذا) ش: إشارة إلى تنوعه بالنوعين م: (لأن تمامه) ش: أي تمام القبض م: (بتمام الصفقة، ولا تتم) ش: أي الصفقة م: (مع بقاء خيار الرؤية) ش: لأن تمامها بتناهيها واللزوم بحيث لا يرقد إلا برضا أو قضاء وخيار الرؤية والشرط يمنعان عن ذلك م: (والموكل يملكه) ش: أي يملك القبض م: (بنوعيه) ش: أي بنوعي القبض م: (فكذا الوكيل، ومتى قبض الموكل وهو يراه سقط الخيار فكذا الوكيل) ش: أي فكذا وكيله يملكه بنوعيه م: (لإطلاق التوكيل) ش: عملا بإطلاقه.
م: (وإذا قبضه مستورا) ش: جواب عما يقال: لا نسلم ذلك فإن الوكيل إذا قبضه قبضا ناقصا ثم رآه فأسقط الخيار قصدا لم يسقط، والموكل لو فعل ذلك سقط الخيار فليس الوكيل كالموكل في القبض الناقص لا محالة، فأجاب بقوله: وإذا قبضه أي الوكيل مستورا م: (انتهى التوكيل بالناقص) ش: أي بالقبض الناقص م: (منه) ش: أي من القبض م: (فلا يملك إسقاطه قصدا بعد ذلك) ش: لأنه لم يفوض إليه الإبطال قصدا وإنما يثبت له الإبطال مقتضى تتميمهم القبض، وهنا لما حصل القبض الناقص، انتهى الوكيل به فليس له بعد ذلك إبطال الخيار م: (بخلاف خيار العيب) ش: جواب عن قولهما: فصار كخيار العيب م: (لأنه لا يمنع تمام الصفقة) ش: لأنه لم يشرع تتميما للقبض بل لتسليم الجزء الفائت.(8/93)
فيتم القبض مع بقائه، وخيار الشرط على الخلاف، ولو سلم فالموكل لا يملك التام منه فإنه لا يسقط بقبضه؛ لأن الاختيار وهو المقصود بالخيار يكون بعده، فكذا لا يملكه وكيله، وبخلاف الرسول؛ لأنه لا يملك شيئا وإنما إليه تبليغ الرسالة، ولهذا لا يملك القبض إذا كان رسولا في البيع.
قال: وبيع الأعمى وشراؤه جائز، وله الخيار إذا اشترى؛ لأنه اشترى؛ ما لم يره، وقد قررناه من قبل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فيتم القبض مع بقائه) ش: أي بقاء الخيار م: (وخيار الشرط على الخلاف) ش: وهذا جواب عن قولهما: والشرط، أي: وكخيار الشرط، بيانه أن خيار الشرط لا يصلح مقيسا عليه؛ لأنه على هذا الخلاف ذكر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن من اشترى شيئا على أنه بالخيار يوكل وكيلا بقبضه بعد ما رآه فهو على هذا الخلاف.
وقال الأترازي: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: وخيار الشرط على الخلاف ولا نص عن خيار الشرط عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كذا قالوا في " شرح الجامع الصغير "، فعلى هذا يمنع، ويقال: لا نسلم أن خيار الشرط يصلح أن يكون مقيسا عليه؛ لأنه ليس فيه نص على الاتفاق فيه، بل يجوز أن يكون الحكم فيه أيضا كما في خيار الرؤية.
م: (ولو سلم) ش: أي بقاء الخيار م: (فالموكل لا يملك التام منه) ش: أي لا يملك القبض التام منه أي من القبض؛ لأن تمامه بتمام الصفقة ولا تتم الصفقة مع بقاء خيار الشرط م: (فإنه) ش: أي فإن الخيار م: (لا يسقط بقبضه؛ لأن الاختيار) ش: وهو التردد والتفكر م: (وهو المقصود بالخيار يكون بعده) ش: أي بعد القبض م: (فكذا لا يملكه وكيله، وبخلاف الرسول فإنه لا يملك شيئا) ش: من القبض لا التام ولا الناقص م: (وإنما إليه تبليغ الرسالة) ش: فيملك أداء الرسالة على أكمل الوجوه.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كونه مبلغا للرسالة فقط م: (لا يملك القبض) ش: أي قبض الثمن م: (إذا كان رسولا في البيع) ش: ولا قبض البيع إذا كان رسولا في الشراء، وفي بعض النسخ لا يملك التسليم مكان القبض أي تسليم المبيع أو الثمن باعتبار الحالتين.
[بيع الأعمى وشراؤه]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وبيع الأعمى وشراؤه جائز) ش: وبه قال مالك وأحمد والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في قول، وفي قول لا يجوز وهو اختيار المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهذا الخلاف فيمن هو أعمى وقت العقد ولم يكن بصيرا، أما إذا كان بصيرا فعمي بعد ذلك لا خلاف في جواز بيعه.
م: (وله الخيار إذا اشترى؛ لأنه اشترى ما لم يره، وقد قررناه من قبل) ش: أي في أول الباب أن شراء ما لم يره جائز وأن له الخيار، والأعمى كالبصير الذي يشتري ما لم يره فيجوز شراؤه(8/94)
ثم يسقط خياره بجسه المبيع إذا كان يعرف بالجس، وبشمه إذا كان يعرف بالشم، وبذوقه إذا كان يعرف بالذوق كما في البصير، ولا يسقط خياره في العقار حتى يوصف له؛ لأن الوصف يقام مقام الرؤية كما في السلم، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا وقف في مكان لو كان بصيرا لرآه وقال: قد رضيت يسقط خياره؛ لأن التشبيه يقام مقام الحقيقة في موضع العجز، كتحريك الشفتين يقام مقام القراءة في حق الأخرس في الصلاة، وإجراء الموسى مقام الحلق في حق من لا شعر له في الحج، وقال الحسن: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يوكل وكيلا بقبضه وهو يراه، وهذا أشبه بقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن رؤية الوكيل رؤية الموكل على ما مر آنفا.
قال: ومن رأى أحد الثوبين فاشتراهما، ثم رأى الآخر جاز له أن يردهما؛ لأن رؤية أحدهما لا تكون رؤية الآخر، للتفاوت في الثياب فبقي الخيار فيما لم يره، ثم لا يرده وحده بل يردهما؛ كيلا يكون تفريقا للصفقة قبل التمام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مع ثبوت الخيار له كالبصير م: (ثم يسقط خياره بجسه المبيع إذا كان يعرف بالجس، وبشمه إذا كان يعرف بالشم، وبذوقه إذا كان يعرف بالذوق كما في البصير، ولا يسقط خياره في العقار حتى يوصف له) ش: وفي " الجامع العتابي ": الوصف في العقار أن يقف في مكان لو كان بصيرا لرآه، ثم يذكر له صفة العقار.
م: (لأن الوصف يقام مقام الرؤية) ش: وقيل: يمس الحائط والباب م: (كما في السلم) ش: يعني أن الوصف يقوم مقام المسلم فيه، وإن كان المسلم فيه معدوما للعجز، والعجز في حق الأعمى ألزم؛ لأن رؤية المسلم فيه ممكنة، أما رؤية الأعمى غير ممكنة، فيقوم الوصف مقام الرؤية في حقه بالطريق الأولى.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا وقف في مكان لو كان بصيرا لرآه، وقال: قد رضيت يسقط خياره؛ لأن التشبيه يقام مقام الحقيقة في موضع العجز، كتحريك الشفتين يقام مقام القراءة في حق الأخرس في الصلاة، وإجراء الموسى مقام الحلق في حق من لا شعر له في الحج، وقال الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ابن زياد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يوكل وكيلا بقبضه وهو يراه) ش: فتصير رؤية الوكيل كرؤيته، قال المصنف: م: (وهذا) ش: أي قول الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أشبه بقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن رؤية الوكيل رؤية الموكل على ما مر آنفا) ش: أي في المسألة المتقدمة.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن رأى أحد الثوبين فاشتراهما ثم رأى الآخر جاز له أن يردهما؛ لأن رؤية أحدهما لا تكون رؤية الآخر للتفاوت في الثياب، فبقي الخيار فيما لم يره ثم لا يرده وحده بل يردهما؛ كيلا يكون تفريقا للصفقة قبل التمام) ش: وتفريق الصفقة منهم بالإجماع.(8/95)
وهذا؛ لأن الصفقة لا تتم مع خيار الرؤية قبل القبض وبعده، ولهذا يتمكن من الرد بغير قضاء ولا رضا ويكون فسخا من الأصل.
ومن مات وله خيار الرؤية بطل خياره؛ لأنه لا يجري فيه الإرث عندنا، وقد ذكرناه في خيار الشرط. ومن رأى شيئا ثم اشتراه بعد مدة فإن كان على الصفة التي رآها فلا خيار له؛ لأن العلم بأوصافه حاصل له بالرؤية السابقة، وبفواته يثبت الخيار إلا إذا كان لا يعلم أنه مرئيه لعدم الرضا به، وإن وجده متغيرا فله الخيار؛ لأن تلك الرؤية لم تقع معلمة بأوصافه، فكأنه لم يره، وإن اختلفا في التغير فالقول قول البائع؛ لأن التغير حادث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: توضيح لما قبله م: (لأن الصفقة لا تتم مع خيار الرؤية قبل القبض وبعده) ش: أي بعد القبض يعني فيما إذا قبضه مستورا، قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كذا قيل ولا حاجة إلى هذا؛ لأن خيار الرؤية يبقى إلى أن يوجد ما يبطله م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كون الصفقة غير تامة م: (يتمكن) ش: أي المشتري م: (من الرد بغير قضاء ولا رضا ويكون فسخا من الأصل) ش: أي يكون الرد بخيار الرؤية فسخا من الابتداء ويكون فسخا من الأصل لعدم تحقق الرضا لعدم العلم بصفات المعقود عليه، فلا يحتاج إلى القضاء والرضا بخلاف خيار المعيب بعد القبض، فإنه لا يرد إلا بالرضا والقضاء لتمام البيع، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في خيار البيع بعد القبض كذلك فهو فسخ من الأصل أيضا.
[مات وله خيار الرؤية]
م: (ومن مات وله خيار الرؤية بطل خياره؛ لأنه لا يجري فيه الإرث عندنا) ش: خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقد ذكرناه في خيار الشرط) ش: أي قد ذكرنا بطلان خيار الرؤية بالموت في باب خيار الشرط.
م: (ومن رأى شيئا ثم اشتراه بعد مدة، فإن كان على الصفة التي رآها فلا خيار له؛ لأن العلم بأوصافه حاصل له بالرؤية السابقة، وبفواته) ش: أي بفوات العلم بأوصافه م: (يثبت الخيار إلا إذا كان لا يعلم أنه مرئيه) ش: أي لا يعلم أنه هو الذي رآه، وكلمة الاستثناء من قوله فلا خيار له م: (لعدم الرضا به) ش: أي لا يكون راضيا به.
وفي " الفتاوى الصغرى " صور لهذا بأنه إذا اشترى ثوبا ملفوفا كان رآه من قبل وهو لا يعلم أن المشترى ذلك المرئي ثبت له خيار الرؤية، وصورته في " الخلاصة " رجل رأى جارية عند رجل فساومه بها ولم يشترها ثم رآها بعد ذلك بمدة تتبعها فاشتراها منه منتقبة ولم يعلم أن هي التي رآها فله الخيار لعدم الرضا.
م: (وإن وجد متغيرا) ش: أي وإن وجد ما رآه بعد الشراء متغيرا عما رآه م: (فله الخيار؛ لأن تلك الرؤية لم تقع معلمة بأوصافه، فكأنه لم يره، وإن اختلفا في التغير) ش: بأن قال المشتري قد تغير وقال البائع: لم يتغير م: (فالقول قول البائع؛ لأن التغير حادث) ش: لأنه إنما يكون معيبا إذا(8/96)
وسبب اللزوم ظاهر إلا إذا بعدت المدة على ما قالوا؛ لأن الظاهر شاهد للمشتري، بخلاف ما إذا اختلفا في الرؤية؛ لأنها أمر حادث والمشتري ينكره فيكون القول قوله.
قال: ومن اشترى عدل زطي ولم يره فباع منه ثوبا أو وهبه وسلمه لم يرد شيئا منها إلا من عيب، وكذلك خيار الشرط؛ لأنه تعذر الرد فيما خرج عن ملكه، وفي رد ما بقي تفريق الصفقة قبل التمام؛ لأن خيار الرؤية والشرط يمنعان تمامها، بخلاف خيار العيب؛ لأن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تبدل هيئته، وكل منهما عارض، والمشتري يدعيه والبائع منكر ومتمسك بالأصل.
م: (وسبب اللزوم) ش: أي لزوم العقد وهو الرؤية السابقة أو البيع البات الخالي عن الشروط المفسدة أو رؤية جزء من المعقود عليه م: (ظاهر) ش: فالقول قول من يتمسك بالظاهر، وذكر بعض أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن القول للمشتري م: (إلا إذا بعدت المدة) ش: استثناء من قوله: فالقول قول البائع م: (على ما قالوا) ش: أي المتأخرون، فحينئذ يكون القول قول المشتري م: (لأن الظاهر شاهد للمشتري) ش: لأن الشيء قد يتغير بطول الزمان، ومن شهد له الظاهر فالقول قوله وإليه مال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " المبسوط ": فإن بعدت المدة بأن رأى جارية شابة ثم اشتراها بعد عشرين سنة وزعم البائع أنها لم تتغير فالقول للمشتري وبه كان يفتي الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والإمام ظهير الدين المرغيناني - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (بخلاف ما إذا اختلفا في الرؤية) ش: متصل بقوله فالقول للبائع، يعني إذا اختلف البائع والمشتري في رؤية المشتري فالقول قول المشتري م: (لأنها) ش: أي؛ لأن الرؤية م: (أمر حادث والمشتري ينكره فيكون القول قوله) ش: مع يمينه.
م: (قال) ش: محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى عدل زطي ولم يره) ش: العدل بالكسر المثلي، ومنه عدل المتاع، والزط خيل من الناس، وفي المغرب خيل من الهند ينسب إليهم الثياب الزطية، وقيل: خيل من الناس بسواد العراق، وقوله: ومن اشترى عدل زطي ولم يره، وفي " الكافي ": وقبضه وهو مراد المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا، وقيده بالقبض؛ لأنه لو لم يكن مقبوضا لا يصح تصرف المشتري فيه ببيع أو هبة م: (فباع منه ثوبا أو وهبه وسلمه لم يرد شيئا منها إلا من عيب) ش: ذكر الضمير أولا في قوله منه، وأنثه ثانيا بقوله لم يرد شيئا منها ردا إلى لفظ العدل ومعناه م: (وكذلك خيار الشرط) ش: بأن اشترى عدل زطي بخيار الشرط وقبضه وباع ثوبا منه أو وهب م: (لأنه تعذر الرد فيما خرج عن ملكه، وفي رد ما بقي تفريق الصفقة) ش: على البائع م: (قبل التمام) ش: وتفريق الصفقة قبل التمام لا يجوز، كما في ابتداء الصفقة م: (لأن خيار الرؤية والشرط يمنعان تمامها) ش: أي تمام الصفقة؛ لأن تمامها بالرضا ولا رضا مع وجودهما م: (بخلاف خيار العيب) ش: هذا جواب عن قوله: إلا من خيار عيب م: (لأن(8/97)
الصفقة تتم مع خيار العيب بعد القبض، وإن كانت لا تتم قبله، وفيه وضع المسألة، فلو عاد إليه بسبب هو فسخ فهو على خيار الرؤية، كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي. وعن أبي يوسف أنه لا يعود بعد سقوطه كخيار الشرط، وعليه اعتمد القدوري.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصفقة تتم مع خيار العيب بعد القبض) ش: قيد به؛ لأنه قبل القبض لو وجد عيبا في ثوب منها يردها، وأما بعد القبض فلا يرد إلا المعيب خاصة م: (وإن كانت) ش: واصل بما قبله. أي وإن كانت الصفقة م: (لا تتم قبله) ش: أي قبل القبض في خيار العيب م: (وفيه) ش: أي وفي المقبوض م: (وضع المسألة) ش: أي مسألة الزطي معنى قيد القبض فيها شرط كما ذكرنا؛ لأنه لو كان قبل القبض لما جاز التصرف فيه م: (فلو عاد) ش: أي الثوب م: (إليه) ش: أي إلى المشتري م: (بسبب هو فسخ) ش: كالرد بخيار الرؤية أو الشرط أو العيب بالقضاء أو الرجوع في الهبة م: (فهو) ش: أي المشتري م: (على خيار الرؤية) ش: لارتفاع المانع من الأصل م: (كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي) ش: في مبسوطه م: (وعن أبي يوسف) ش: وهو رواية علي بن الجعد عنه م: (أنه) ش: أي أن خيار الرؤية م: (لا يعود بعد سقوطه) ش: لأن الساقط لا يعود م: (كخيار الشرط) ش: وفي فتاوى قاضي خان: وهو الصحيح م: (وعليه) ش: أي على ما روي م: (اعتمد القدوري) ش:.
فرع: اشترى شيئا مغيبا في الأرض كالجزر والفجل والبصل والثوم وأصول الزعفران وما أشبه ذلك يجوز، وبه قال مالك وأحمد، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز وله الخيار إذا رأى جميعه، ورؤية بعضه لا تبطل الخيار بكل حال عند أبي حنيفة، وقالا: رؤية بعضها كرؤية كلها فافهم.(8/98)
باب خيار العيب وإذا اطلع المشتري على عيب في المبيع فهو بالخيار إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء رده؛ لأن مطلق العقد يقتضي وصف السلامة، فعند فواته يتخير كيلا يتضرر بلزوم ما لا يرضى به، وليس له أن يمسكه ويأخذ النقصان؛ لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن في مجرد العقد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب خيار العيب]
[اطلع المشتري على عيب في المبيع]
م: (باب خيار العيب) ش: أي هذا باب في بيان أحكام خيار العيب وإضافة الخيار إلى العيب من قبيل إضافة الشيء إلى سببه، وقال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: العيب والعيبة والعاب في معنى واحد نقول عاب المباع أي صار ذا عيب وعبته أنا يتعدى ولا يتعدى فهو معيب ومعيوب أيضا على الأصل ويقول: ما به معابة ومعاب أي عيب، وفي " المبسوط ": العيب ما تخلو عنه أصل الفطرة السليمة.
م: (وإذا اطلع المشتري على عيب في المبيع فهو بالخيار إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء رده؛ لأن مطلق العقد يقتضي وصف السلامة) ش: أي سلامة المعقود عليه م: (فعند فواته) ش: أي فوات وصف السلامة م: (يتخير) ش: أي المشتري م: (كيلا يتضرر بلزوم مالا يرضى به) ش: والضرر مدفوع شرعا.
م: (وليس له) ش: أي للمشتري م: (أن يمسكه) ش: أي المبيع الذي اطلع فيه على عيب م: (ويأخذ النقصان) ش: أي نقصان العيب، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: له أحد الأمرين؛ لأنه حقه، ونقصان العيب إما الثمن أو الإرث، وليس له ذلك؛ لأن العائب وصف؛ لأن العيب إما أن يكون بما يوجب فوات جزء من المبيع أو تغيره من حيث الظاهر كالعمى والعور والشلل والزمانة والسن الساقطة.
وإما أن يكون بما يوجب النقصان معنى لا صورة كالسعال القديم وارتفاع الحيض في زمانه، والزنا والدفر، والبخر في الجارية، وفي ذلك كله فوات وصف فلا يصح أن يأخذ النقصان.
م: (لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن) ش: لأن الثمن إما أن يقابل بالوصف، والأصل أو بالأول دون الثاني أو بالعكس لا سبيل إلى الأول، والثاني كيلا يؤدي إلى مزاحمة التبع الأصل فتعين الثالث، وإنما قال: م: (في مجرد العقد) ش: احتراز عما إذا كانت الأوصاف مقصودة بالتناول كما إذا ضربت الدابة فاعورت، أو صارت معيبا، أو قطع البائع يد المبيع قبل القبض فإنه يسقط نصف الثمن؛ لأنه صار مقصودا بالتناول، أو حكما بأن يمتنع الرد بحق البائع بالعيب أو بحق الشرع بالجناية فإن لها قسطا من الثمن حينئذ.(8/99)
ولأنه لم يرض بزواله عن ملكه بأقل من المسمى فيتضرر به، ودفع الضرر عن المشتري ممكن بالرد بدون تضرره، والمراد به عيب كان عند البائع، ولم يره المشتري عند البيع ولا عند القبض؛ لأن ذلك رضا به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن هذا قلنا: إن من اشترى شاة أو بقرة فحلبها وشرب لبنها، ثم علم بعيبها لا يردها بالعيب، ولكن يرجع بنقصان العيب عندنا، وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يردها بالعيب بجميع الثمن، ولكن ذكر في كتبهم أن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في القديم: يثبت له الرد، وقال في الجديد: لا يثبت له الرد.
م: (ولأنه) ش: دليل آخر على عدم جواز إمساكه يأخذ النقصان، أي ولأن البائع م: (لم يرض بزواله عن ملكه بأقل من المسمى) ش: في العقد م: (فيتضرر به) ش: بزوال ملكه بأقل من المسمى م: (ودفع الضرر) ش: جواب عما يقال: إن المشتري أيضا يتضرر حيث يأخذ المبيع المعيب، فأجاب بقوله: ودفع الضرر م: (عن المشتري ممكن بالرد) ش: أي برد المبيع م: (بدون تضرره) ش: أي تضرر البائع، فإن قيل: البائع إذا باع معيبا فإذا هو سليم البائع يتضرر، لما أن الظاهر أنه نقص الثمن على ظن أنه معيب، ولا خيار له، وعلى هذا فالواجب إما شمول الخيار لهما، أو عدمه لهما. أجيب: بأن المبيع كان في يد البائع وتصرفه وممارسته طول زمانه، تراجع فأنزل عالما بصفة ملكه، فلا يكون له الخيار وإن ظهر بخلافه.
وأما المشتري فإنه ما رأى المبيع فلو ألزمنا العقد مع العيب تضرر من غير علم حصل له فيثبت له الخيار م: (والمراد به عيب كان عند البائع) ش: هذا كلام المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يوضح به قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإذا اطلع المشتري على عيب ... إلى آخر هذا من كلام القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والمراد به أي بالعيب الذي ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - عيب كان عند البائع.
م: (ولم يره المشتري عند البيع ولا عند القبض؛ لأن ذلك) ش: أي رؤية العيب عند إحدى الحالتين م: (رضا به) ش: أي بالعيب دلالة، والأصل في هذا الباب ما قاله البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويذكر «عن العداء بن خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كتب لي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هذا ما اشترى محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من العداء بن خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بيع المسلم المسلم لا داء ولا خبثة ولا غائلة» . ثم قال في الصحيح: قال قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الغائلة الزنا والسرقة والإباق، والمشتري هو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ترى.
روى ابن شاهين في معجمه عن أبيه قال: حدثنا عبد العزيز بن معاوية القرشي قال: حدثنا عباد بن ليث قال: حدثنا عبد الحميد بن وهب أبو وهب قال: «قال لي العداء بن خالد بن(8/100)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هوذة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ألا أقرئك كتابا كتبه لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبدا أو أمة؛ لأداء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم المسلم.» والمشتري: هو العداء كما ترى، وأثبت في الفائق كما في المعجم. وفي " المغرب ": الصحيح أن المشتري كان العداء والبائع هو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المشتري رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما ذكره في شروط الخصاف، وشروط الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وتابعهما في ذلك الحاكم السمرقندي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: رواية ابن شاهين - رَحِمَهُ اللَّهُ - تدل على أن المشتري هو العداء.
وكذلك رواه الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بلفظ: «هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى منه» ... الحديث.
وكذلك رواه النسائي وابن ماجه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وكلهم اتفقوا على أن البائع هو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمشتري العداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ووقع عند البخاري بالعكس، فقيل: إن الذي وقع عنده مقلوب وقيل: هو صواب وهو من الرواية بالمعنى؛ لأن اشترى وباع بمعنى واحد، ولزم من ذلك تقديم اسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على اسم العداء: وشرحه ابن المعرافي على ما وقع في الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال فيه: البداءة باسم المفضول في الشروط إذا كان هو المشتري، والعداء بفتح العين وتشديد الدال المهملتين ممدود، وكان إسلامه بعد الفتح وبعد حنين، وبقي إلى زمن يزيد بن المهلب وكان يسكن البادية، وقد استقصينا الكلام فيه في شرحنا للبخاري، وقال الخطابي: الداء ما يكون بالرقيق من الأدواء التي يرد بها، كالجنون والجذام والبرص ونحوها من الآفات، والخبثة ما كان خبيث الأصل، مثل أن يسبى من له عهد، ومعنى " الغائلة ": ما يغتال حقك من حيلة، وما يدلس عليك في المبيع من عيب، وقال الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الفائق: الغائلة الخصلة التي تغول المال، أي تهلكه من إباق أو غيره ... انتهى.
وتفسير " الداء " فيما رواه الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المرض في الجوف والكبد والرئة، فإن المرض ما يكون في سائر البدن، والداء ما يكون في الجوف من الكبد والرئة، وروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: الداء المرض، والغائلة ما يكون من قبل الأفعال كالإباق والسرقة، والخبثة: هي الاستحقاق، وقيل: هي الجنون، كذا في " المبسوط "، والخبثة بكسر الخاء المعجمة، وسكون الباء الموحدة، وفتح الثاء المثلثة.
وقال ابن التين - رَحِمَهُ اللَّهُ - أحد شراح البخاري: ضبطناه في أكثر الكتب بضم الخاء وكذلك سمعناه، وضبط في بعضها بالكسر، وقال الخطابي: خبثة على وزن خبزة، قيل: أراد بها(8/101)
قال: وكلما أوجب نقصان الثمن في عادة التجار فهو عيب؛ لأن التضرر بنقصان المالية وذلك بانتقاص القيمة والمرجع في معرفته عرف أهله،
قال: والإباق والبول في الفراش والسرقة في الصغير عيب ما لم يبلغ، فإذا بلغ فليس ذلك بعيب حتى يعاوده بعد البلوغ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحرام كما عبر عن الحلال بالطيب، وقيل: المراد الأخلاق الخبيثة كالإباق.
ثم وجه الاستدلال بهذا الحديث أن فيه تنصيصا على أن البيع يقتضي سلامة المبيع من العيب.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أراد بهذا بيان معرفة العيوب؛ لأنه قال أولا: إذا اطلع المشتري على عيب إلى آخره يحتاج إلى معرفة العيوب فبين المعيب بهذا الكلي، وهو قوله م: (وكل ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجارة فهو عيب) ش: هذا ضابط كلي يعلم بها العيوب الموجبة للخيار على سبيل الإجمال م: (لأن التضرر بنقصان المالية وذلك بانتقاص القيمة، والمرجع في معرفته عرف أهله) ش: وفي " الذخيرة ": ففي كل شيء يرجع إلى أهل الصفة فيما يعدونه عيبا فهو عيب، وإن لم يوجب نقصانا في العين ولا في منافعها.
[العيب في الصغير]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (والإباق والبول في الفراش والسرقة في الصغير عيب ما لم يبلغ) ش: هذه الأشياء الثلاثة عيب في الصغير الذي لم يبلغ، فإن أبق الصغير الذي يعقل من مولاه ما دون السفر من المصر إلى القرية أو بالعكس فهو عيب؛ لأنه يفوت المنافع على المولى، وإذا بال في الفراش وهو مميز يأكل وحده، ويشرب وحده فكذلك عيب، وإن سرق درهما من مولاه أو من غيره فكذلك لإخلاله بالمقصود؛ لأنه لا يأمنه على ماله، ويشق عليه حفظ ماله على الدوام، ولا فرق بين سرقته من مولاه وغيره إلا في المأكولات للأكل، فإن سرقها من مولاه فليس بعيب، فإذا وجدت هذه الأشياء من الصغير عند البائع والمشتري في صغره فهو عيب يرد به.
م: (فإذا بلغ فليس ذلك بعيب حتى يعاوده بعد البلوغ) ش: أي حتى يعاوده عند البائع بعد البلوغ ثم عاوده عند المشتري، حاصله: إذا وجد من الصغير أحد هذه الأشياء في صغره، ثم بيع فبلغ في يد المشتري، ثم وجد هذه الأشياء في يده لا يعتبر بذلك عيبا لاختلاف الحالة إلا إذا عاوده بعد البلوغ في يد البائع، ثم باعه فوجد ذلك في يد المشتري يكون ذلك عيبا لاتحاد الحالة. وقد نص في " الكافي " و" المحيط " و" شرح الطحاوي ": على اشتراط المعاودة عند البائع، وفي " الكفاية " و" شرح قاضي خان ": المعاودة في يد البائع ليست بشرط للرد فإن هذه الأفعال في عادة الصبيان فإن امتنع عنها بالبلوغ لم يكن ما سبق عيبا، ولا يرد به، فإن عاوده تبين أنه كان يفعله طبعا لا عادة، وذلك عيب فيرد به.(8/102)
ومعناه إذا ظهرت عند البائع في صغره، ثم حدثت عند المشتري في صغره فله أن يرده؛ لأنه عين ذلك، وإن حدثت بعد بلوغه لم يرده؛ لأنه غيره، وهذا؛ لأن سبب هذه الأشياء يختلف بالصغر والكبر، فالبول في الفراش في الصغر لضعف المثانة وبعد الكبر لداء في الباطن، والإباق في الصغر لحب اللعب، والسرقة لقلة المبالاة، وهما بعد الكبر لخبث في الباطن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقد أوضح المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - كلام القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - المذكور بقوله م: (ومعناه) ش: أي ومعنى ما قاله القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قوله: فإذا بلغ إلى آخره م: (إذا ظهرت) ش: أي الأشياء المذكورة م: (عند البائع في صغره ثم حدثت عند المشتري في صغره فله أن يرده؛ لأنه) ش: أي؛ لأن الذي حدث من هذه الأشياء م: (عين ذلك) ش: أي عين ذلك الذي حدث عند البائع.
م: (وإن حدثت بعد بلوغه) ش: يعني عند المشتري م: (لم يرده؛ لأنه غيره) ش: أي غير الذي حدث عند البائع م: (وهذا) ش: إشارة إلى إيضاح بيان الفرق بين الحالتين المذكورتين م: (لأن سبب هذه الأشياء) ش: أي الإباق والبول في الفراش والسرقة م: (يختلف بالصغر والكبر، فالبول في الفراش في الصغر لضعف المثانة، وبعد الكبر لداء في الباطن، والإباق في الصغر لحب اللعب، والسرقة لقلة المبالاة وهما) ش: أي الإباق والسرقة م: (بعد الكبر لخبث في الباطن) ش: وفي المبسوط الإباق في الصغر سببه سوء الأدب، وحب اللعب، وبعد البلوغ سببه التمرد وقله المبالاة بالمولى، والسرقة قبل البلوغ لقلة التأمل في عواقب الأمور وبعد البلوغ سببها التمرد.
ولهذا يجب على البالغ ما لا يجب على الصبي، وفي " الإيضاح " السرقة والبول في الفراش قبل أن يأكل وحده ويشرب وحده ليس بعيب؛ لأنه لا يعقل ما يفعل وبعد ذلك عيب ما دام صغيرا، وكذا الإباق.
وفي " الذخيرة " إن كانت السرقة أقل من عشرة دراهم عيب؛ لأن الإنسان لا يأمن السارق على مال نفسه. وفي ذلك العشرة وما دونها سواء، وقيل: ما دون الدراهم وهو فلس أو فلسان ليس بعيب وإباق ما دون السفر عيب عند المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - كإباق مدة السفر، لكن تكلموا هل يشترط الخروج من المدينة، فقيل: شرط حتى لو أبق من محلة إلى محلة لا يكون عيبا ومن القرية إلى المصر إباق ... وكذا على العكس، والبول في الفراش إنما يكون عيبا إذا كان صغيرا ابن خمس سنين.
وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الأظهر في البول اعتبار الاعتبار إذا كان في غير أوانه، وأما في الصغير فلا، وقدره في " التهذيب " بما دون سبع سنين كذا في " شرح الوجيز "، وهو ظاهر قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندنا الكل عيب عند اتحاد الحالتين في المعاودة سواء(8/103)
والمراد من الصغير من يعقل، فأما الذي لا يعقل فهو ضال لا آبق فلا يتحقق عيبا. قال: والجنون في الصغر عيب أبدا ومعناه إذا جن في الصغر في يد البائع، ثم عاوده في يد المشتري فيه أو في الكبر يرده؛ لأنه عين الأول؛ إذ السبب في الحالين متحد وهو فساد الباطن، وليس معناه أنه لا يشترط المعاودة في يد المشتري؛ لأن الله تعالى قادر على إزالته، وإن كان قلما ما يزول فلا بد من المعاودة للرد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان ذلك قبل البلوغ أو بعده.
م: (والمراد من الصغير من يعقل) ش: أي المراد من قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الصغير عيب الصغير الذي يعقل، وقال في " التحفة " الصغير: الذي لا يعقل وحده ليس فيه عيب من الأشياء المذكورة، ويفهم منه الذي يعقل هو الذي يأكل وحده.
م: (فأما الذي) ش: أي وأما الصغير الذي م: (لا يعقل فهو ضال لا آبق فلا يتحقق عيبا) ش: يعني لا يترتب عليه حكم الآبق؛ لأنه ضال أي تائه م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (والجنون في الصغر عيب أبدا) ش: كذا قاله محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومعناه) ش: أي معنى ما قاله محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إذا جن في الصغر في يد البائع، ثم عاوده في يد المشتري فيه) ش: أي في الصغر م: (أو في الكبر) ش: أي أو عاوده في الكبر م: (يرده؛ لأنه عين الأول) ش: الذي وجد عند البائع.
م: (إذ السبب في الحالين متحد) ش: أي في الحال الذي كان عند المشتري وليس مراده محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن عين الجنون لا تزول بل أراد سببه وهو الفساد المتمكن فيكون عيبا أبدا، ففي أي وقت ظهر فهو بذلك السبب فلم يكن عيبا حادثا، وفي المحيط تكلموا في مقدار الجنون قيل ساعة عيب، وقيل: أكثر من يوم وليلة، وقيل: المطبق دون غيره.
وقال الإسبيجابي في ظاهر الجواب: إنه لا يشترط المعاودة في يد المشتري، وقيل: تشترط بلا خلاف بين المشايخ في عامة الروايات م: (وهو فساد الباطن) ش: في فحل العقل بل معدن العقل، قيل: القلب وشعاعه إلى الدماغ، والجنون انقطاع ذلك الشعاع من الدماغ، والذي قاله المحققون - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - العقل جوهر مضيء خلقه الله تعالى في هذه الدماغ، وجعل نوره في القلب يدرك به الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة م: (وليس معناه أنه لا يشترط المعاودة في يد المشتري؛ لأن الله تعالى قادر على إزالته) ش: ولم يكن من ضرورة وجوده يوما بعاريته أبدا م: (وإن كان قلما يزول، فلا بد من المعاودة للرد) ش: أي لأجل الرد، وقد ذكر آنفا ما قاله المشايخ من الاختلاف فيه، ومال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى قول من يشترط المعاودة كما صرح به.
فإن قلت: قال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل الجنون(8/104)
قال: والبخر والدفر عيب في الجارية؛ لأن المقصود قد يكون الاستفراش وهما يخلان به، وليس بعيب في الغلام؛ لأن المقصود هو الاستخدام، ولا يخلان به إلا أن يكون من داء؛ لأن الداء عيب:
قال: والزنا وولد الزنا عيب في الجارية دون الغلام؛ لأنه يخل بالمقصود في الجارية وهو الاستفراش وطلب الولد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عيب إذا جن مرة واحدة فهو عيب لازم أبدا يدل أيضا على أنه لم يشترط فيه المعاودة في يد المشتري فكيف يقول المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وليس معناه إلى آخره.
قلت: لا يلزم من عدم ذكره اشتراط المعاودة في هذا الموضع أنه لا يشترطها أصلا، فإنه قال: وإن طعن المشتري بإباق أو جنون ولا يعلم القاضي ذلك فإنه لا يستحلف البائع حتى يشهد شاهدان أنه قد أبق عند المشتري، أو جن عنده، وقد اشترط المعاودة في الجنون كما ترى في اشتراطه في الإباق.
[العيوب في الجارية]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره " م: (والبخر) ش: بفتحتين رائحة متغيرة من الفم وكل رائحة ساطعة فهو بخر مأخوذ من بخار القدر أو بخار الدخان وهذا البخور الذي يبخر به من ذلك، كذا في " الجمهرة " م: (والدفر) ش: بالدال المهملة وفتح الفاء نتن ريح الإبط، وفي " الجمهرة ": الدفر النتن، يقال رجل أدفر وامرأة دفراء، ويقال للمرأة يا دافر معدول، وقد سمعت دفر الشيء ودفره بسكون الفاء وفتحها.
وأما الذفر بالذال المعجمة فهو حدة من طيب أو نتن وربما خص به الطيب فقيل مسك أذفر، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: السماع هاهنا بالدال غير المعجمة، وفي " شرح الوجيز " المراد من البخر الذي عيب هو الناشئ عن تغير المدة دون ما يكون بفلج في الأسنان، فإن ذلك يزول بتنظيف م: (عيب في الجارية؛ لأن المقصود قد يكون الاستفراش، وهما) ش: أي البخر والدفر م: (يخلان به) ش: أي بالاستفراش م: (وليس بعيب في الغلام) ش: أي وليس كل واحد من الدفر والبخر بعيب في الغلام م: (لأن المقصود هو الاستخدام ولا يخلان به) ش: أي لا يخل البخر والدفر بالاستخدام. وفي " الغاية " وقيل إذا كان العبد أمرد يكون البخر فيه عيبا، والأصح أن الأمرد وغيره سواء، كذا في " خلاصة الفتاوى ".
م: (إلا أن يكون) ش: كل واحد من البخر والدفر م: (من داء؛ لأن الداء عيب) ش: في نفسه، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - البخر والدفر عيبان في الغلام أيضا.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (والزنا وولد الزنا عيب في الجارية دون الغلام؛ لأنه يخل بالمقصود في الجارية وهو الاستفراش وطلب الولد) ش: يعني كون الجارية ولد(8/105)
ولا يخل بالمقصود في الغلام وهو الاستخدام إلا أن يكون الزنا عادة له على ما قالوا؛ لأن اتباعهن يخل بالخدمة.
قال: والكفر عيب فيهما؛ لأن طبع المسلم ينفر عن صحبته، ولأنه يمتنع صرفه في بعض الكفارات فتختل الرغبة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزنا يخل بمقصود المولى وهو الاستيلاد، فإن ولده يعير بأمه إذا كانت والد الزنا م: (ولا يخل بالمقصود في الغلام وهو الاستخدام) ش:.
م: (إلا أن يكون الزنا عادة له) ش: أي للغلام بأن زنى أكثر من مرتين م: (على ما قالوا) ش: أي المشايخ م: (لأن اتباعهن) ش: من إضافة المصدر إلى المفعول أي؛ لأن اتباع الغلام البنات م: (يخل بالخدمة) ش: أي بخدمة مولاه، وفيه إضمار قبل الذكر، ولكن القرينة وهي ذكر الزنا أدل على النساء؛ لأن الزنا لا يكون إلا بهن.
فإن قلت: إذا وجده سارقا فله الرد لعدم أمانته على ماله، ففي الزنا لم يكن عيبا لعدم أمانته على الجواري والخدم.
قلت: إذا كن مستورات يمكنهن حفظ أنفسهن، وإذا شغله المولى بالعمل وبما لا يتفرغ لذلك الأمر، وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الزنا ليس بعيب في الغلام في معنى المال، وإن كان عيبا في معنى الدين.
وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير ": لو اشترى عبدا فوجده زانيا لا يكون عيبا؛ لأن فيه زيادة قوة وزيادة القوة لا تكون عيبا، ألا ترى أنه لو اشترى عبدا فوجده عنينا فله أن يرده.
وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا اشترى عبدا على أنه خصي فإذا هو فحل لزمه ذلك، أما إذا اشتراه على أنه فحل فإذا هو خصي لم يلزمه، وفي " العيون " قال هشام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سمعت أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: لو أن رجلا اشترى عبدا قد احتلم أو جارية حاضت ولم يختتن العبد، ولم تخفض الجارية قال: إن كان مولدا فهو عيب وإن كان جلبا فليس بعيب.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (والكفر عيب فيهما) ش: أي في الغلام والجارية م: (لأن طبع المسلم ينفر عن صحبته) ش: أي عن صحبة الكافر؛ لأن المسلم قلما يرغب في صحبة الكافر وينفر عنه؛ فكان الكفر سببا لنقصان الثمن لفتور الرغبة، وسواء كان الكافر نصرانيا أو يهوديا أو مجوسيا م: (ولأنه) ش: دليل آخر، أي ولأن الكافر م: (يمتنع صرفه في بعض الكفارات) ش: مثل كفارة اليمين والظهار عند بعض الناس وفي كفارة القتل يمنع بالإجماع فإذا كان كذلك م: (فتختل الرغبة) ش: وهي سبب لنقصان الثمن.(8/106)
فلو اشتراه على أنه كافر فوجده مسلما لا يرده؛ لأنه زوال العيب، وعند الشافعي يرده؛ لأن الكافر يستعمل فيما لا يستعمل فيه المسلم وفوات الشرط بمنزلة العيب.
قال: فلو كانت الجارية بالغة لا تحيض أو هي مستحاضة فهو عيب؛ لأن ارتفاع الدم واستمراره علامة الداء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو أطلق العقد فبان أنه كافر لا خيار له؛ لأن ظاهر الحال لا يدل على الكفر أو الإسلام، كما لو ظن العدل فبان الفسق، وقال أصحابه: هذا إذا كان كفرا يقر عليه، فإذا كانت الجارية مرتدة فله الخيار.
وفي " شرح الوجيز " لو وجد الجارية كتابية أو وجد العبد كافرا أي كفر كان فلا رد إن كان قريبا من بلاد الكفر بحيث لا تقل فيه الرغبات، وإن كان في بلاد الإسلام حيث تقل الرغبات وتنقص قيمته فله الرد.
م: (فلو اشتراه على أنه كافر فوجده مسلما لا يرده؛ لأنه) ش: أي؛ لأن الإسلام م: (زوال العيب، وعند الشافعي يرده؛ لأن الكافر يستعمل فيما لا يستعمل فيه المسلم وفوات الشرط بمنزلة العيب) ش: وفي نسخة شيخنا؛ لأنه زوال العيب فصار كما لو اشتراه معيبا فإذا هو سليم فلا يرده، وبه قال المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يثبت له الخيار؛ لأنه وجده بخلاف شرطه، وله في هذا الشرط غرض فربما قصد أن يستخدمه في المحقرات من الأمور، ولأن الأولى بالمسلم أن يتبعه الكافر. وكان السلف يستعبدون العلوج.
والجواب أن هذا أمر راجع إلى الديانة ولا عبرة به في المعاملات.
م: (قال: فلو كانت الجارية بالغة لا تحيض أو هي مستحاضة فهو عيب) ش: قيد بقوله: بالغة؛ لأن عدم الحيض في الصغيرة ليس بعيب بالإجماع، ولو كانت كبيرة قد بلغت سن الإياس فهو غير عيب بإجماع الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أيضا.
م: (لأن ارتفاع الدم واستمراره علامة الداء) ش: قال شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الحيض مركب في بنات آدم فإذا لم تحض في أوانه فالظاهر أنه إنما لا تحيض لداء فيها والداء عيب، ولو ادعى المشتري الانقطاع في يده لا تسمع منه الخصومة ما لم يدع ارتفاع الحيض بسبب الداء أو الحبل، فإن ادعى لسبب الحبل تراها النساء، فإن قلن: هي حبلى يحلف البائع أن ذلك لم يكن عنده، وإن قلن: ليست بحبلى لا يمين على البائع، وإن ادعى المشتري ارتفاع الحيض بسبب الداء نريها لاثنين من الأطباء المسلمين، فإن ثبت العيب يحلف البائع كما تقدم، وإن لم يثبت لا يحلف.
والمرجع في معرفة الحبل قول النساء، وفي معرفة الداء قول الأطباء، وفي " فتاوى الفضلي ": العيب الذي لا يثبت إلا بقول الأطباء ما لم يتفق عدلان منهم لا يثبت العيب في حق سماع(8/107)
ويعتبر في الارتفاع أقصى غاية البلوغ وهو سبع عشرة سنة فيها، عند أبي حنيفة ويعرف ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخصومة.
وقال الشيخ أبو المعين النسفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الكبير ": وإن كان العيب خفيا لا يطلع عليه إلا الأطباء يثبت بقول واحد عدل منهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] (النحل: الآية 43) ، وهم أهل الذكر في هذا الباب، وكذا إذا كان لا يطلع عليه إلا النساء يثبت بقول واحدة منهن موصوفة بالعدالة، والثنتان أحوط، وقال صاحب " التحفة ": إذا كان العيب باطنا لا يعرفه إلا الخواص من الناس، كالأطباء والنخاسين فإنه يعرف ذلك ممن له بصارة في ذلك الباب.
فإن اجتمع على ذلك العيب رجلان مسلمان أو قال ذلك رجل مسلم عدل فإنه يقبل قوله، ويثبت العيب في حق إثبات الخصومة، ثم بعد هذا يقول القاضي للبائع: هل حدث عندك هذا العيب فإن قال: نعم، قضى عليه بالرد، وإن لم يكن عليه بينة استحلف البائع فإن حلف لم يرد عليه، وإن نكل قضي عليه بالرد إلا أن يدعي الرضا أو الإبراء، وإن كان العيب مما لا يطلع عليه الرجال ويطلع عليه النساء فإنه يرجع إلى قول النساء، فترى امرأة مسلمة عدل والثنتان أحوط، فإذا شهدت على العيب ففي هذه المسألة عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان، وكذا عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان، في رواية فرق أبو يوسف بينهما إذا كان المبيع في يد البائع أو في يد المشتري.
فقال: إن كان في يد البائع رد المبيع بشهادتها فيثبت العيب لقولها، والعيب الموجود عند البائع يفسخ به البيع، وإن كان بعد القبض أقبل قولها في إثبات الخصومة، ولا أقبل في حق الرد على البائع؛ لأن المبيع دخل في ضمان المشتري فلا أنقل الضمان إلى البائع بقول النساء، ولكن أثبت حق الخصومة ليثبت الاستحلاف
وفي رواية قال: إن كان العيب مما لا يحدثه مثله يفسخ بقولها؛ لأن العيب قد يثبت بشهادتهن، وقد علمنا كون العيب عند البائع يتعين فيثبت حق الفسخ، وإن كان عيبا يحدث مثله لم يثبت حق الفسخ بقولهن، وأما عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية قال: لا يفسخ بقولهن وفي رواية يفسخ قبل القبض وبعده بقولهن؛ لأن قولها فيما لا يطلع عليه الرجال كالبينة.
م: (ويعتبر في الارتفاع) ش: أي ارتفاع الحيض م: (أقصى غاية البلوغ وهو سبع عشرة سنة فيها) ش: أي في الجارية م: (عند أبي حنيفة) ش: وعندهما خمس عشرة سنة م: (ويعرف ذلك)(8/108)
بقول الأمة، فترد إذا انضم إليه نكول البائع قبل القبض وبعده، هو الصحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي ارتفاع الحيض م: (بقول الأمة) ش: قال الإمام العتابي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإنما يعرف ذلك عند المنازعة بقول الأمة؛ لأنه لا يقف على ذلك غيرها ويحلف المولى مع ذلك؛ لأنه ما سلمها بحكم المبيع وما بها هذا العيب.
وإن نكل يرد من كونه، هذا إذا كان بعد القبض، وإن كان قبل القبض يحلفه بالله ما بها هذا العيب الذي يدعيه المشتري في الحال، وهذا على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله-: في مسألة البكارة إذا اشترى جارية على أنها بكر، فقال المشتري: ليست ببكر وقال البائع: هي بكر في الحال، فإن القاضي يري النساء، فإن قلن: هي بكر لزم المشتري من غير يمين البائع؛ لأن شهادتهن تأيدت بمؤيد، وهو أن الأصل هو البكارة، وإن قلن: هي ثيب لم يثبت حق الفسخ للمشتري بشهادتهن؛ لأن شهادتهن ضعيفة، وحق الفسخ حق قوي، وبشهادتهن يثبت للمشتري حق الخصومة في توجيه النهي على البائع فيحلف البائع بالله لقد سلمها بحكم المبيع وهي بكر إن كان بعد القبض.
وإن كان قبل القبض يحلف بالله أنها بكر. روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها ترد على البائع بشهادتهن من غير يمين البائع.
م: (فترد) ش: أي الأمة م: (إذا انضم إليه) ش: أي إلى قولها م: (نكول البائع) ش: أي امتناع البائع عن اليمين مع قولها بأنها لا تحيض أو هي مستحاضة م: (قبل القبض وبعده، هو الصحيح) ش: قيد بقوله -الصحيح- احترازا عن قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن عنده يرد بقول الأمة قبل القبض وبشهادة القائلة، وعما روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: إن كانت الخصومة قبل القبض يفسخ العقد بقول النساء. اعلم أن المشتري إذا ادعى انقطاع الحيض فالقاضي يسأله عن مدة الانقطاع فإن ادعاه في مدة قصيرة لا تسمع دعواه وإن ادعاه في مدة مديدة يسمع دعواه.
والمديدة مقدرة بثلاثة أشهر عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأربعة أشهر، وعند أبي حنيفة وزفر بسنتين، فإذا عرفت المدة فما دونها قصيرة ثم بعد ذلك إن كان القاضي مجتهدا يقضي بما أدى إليه اجتهاده، إن لم يكن مجتهدا يأخذ بما اتفق عليه أصحابنا وهو سنتان، وفي " الفوائد الظهيرية ": لو شهد للمشتري شهود لا يقبل شهادتهم على الانقطاع بخلاف الاستحاضة حيث يقبل عليها؛ لأنها مما يمكن الاطلاع عليها وانقطاع الدم على وجه يعد عيبا لا يمكن الاطلاع عليه.
ولو أنكر البائع الانقطاع في الحال هل يستحلف عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أم لا؟ وعندهما يستحلف(8/109)
قال: وإذا حدث عند المشتري عيب واطلع على عيب كان عند البائع فله أن يرجع بالنقصان ولا يرد المبيع؛ لأن في الرد إضرارا بالبائع؛ لأنه خرج عن ملكه سالما ويعود معيبا فامتنع، ولا بد من دفع الضرر عنه فتعين الرجوع بالنقصان إلا أن يرضى البائع أن يأخذه بعيبه؛ لأنه رضي بالضرر.
قال: ومن اشترى ثوبا فقطعه فوجد به عيبا رجع بالعيب؛ لأنه امتنع الرد بالقطع فإنه عيب حادث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[حدث عند المشتري عيب واطلع على عيب كان عند البائع]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا حدث عند المشتري عيب) ش: سواء كان بآفة سماوية أو غيرها م: (واطلع على عيب كان عند البائع فله أن يرجع بالنقصان) ش: أي بنقصان العيب بأن يقوم المبيع سليما عن العيب القديم ومعيباته، فما كان بينهما من عشر أو ثمن أو سدس أو غير ذلك يرجع به على البائع م: (ولا يرد المبيع؛ لأن في الرد إضرارا بالبائع؛ لأنه خرج عن ملكه سالما ويعود معيبا فامتنع) ش: أي الرد م: (ولا بد من دفع الضرر عنه) ش: أي عن المشتري م: (فتعين الرجوع بالنقصان) ش: لأن المشتري لم يرض بالمعقود عليه إلا سليما، فلو لم يكن له حق الرجوع لتضرر حقه بإيجاب نقصان العيب، وبقولنا: قال الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في رواية، وقال مالك وأحمد -رحمهما الله- في رواية، وابن أبي ليلى: رد البيع ورد معه نقصان العيب الحادث.
فإن قيل: أين قولكم الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن؟
أجيب: بأنها إذا صارت مقصودة بالتناول حقيقة أو حكما كان لها حصة من الثمن وهاهنا كذلك م: (إلا أن يرضى البائع أن يأخذه بعيبه؛ لأنه رضي بالضرر) ش: والرضا إسقاط لحقه بخلاف ما إذا كان المبيع عصيرا فتخمر في يدي المشتري، ثم اطلع على عيب في العصير فلا يرد للبائع حيث لا يكون للبائع أخذ الخمر، ويرد الثمن وإن وجد منه الرضا بالاختلاف يمنع؛ لأن الامتناع ثمة حق الشرع لما فيه من تمليك الخمر، وتملكها فلا يرتفع بتراضي المتعاقدين، كما لو تراضيا على الخمر ولكن يأخذ المشتري نقصان العصير ما يقوم الشراء بلا عيب ويقوم مع العيب وينظر إلى التفاوت، فإن كان التفاوت مقدار عشر القيمة يرجع بعشر الثمن، وإن كان أقل أو أكثر فبقدره.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى ثوبا فقطعه فوجد به عيبا رجع بالعيب) ش: وبه قال الشافعي وأحمد -رحمهما الله- في رواية خلافا لمالك وأحمد -رحمهما الله- في رواية، وابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن عندهم يرد المبيع ويرد معه نقصان العيب الحارث.
م: (لأنه) ش: أي؛ لأن الثياب م: (امتنع الرد بالقطع فإنه) ش: أي فإن القطع م: (عيب حادث) ش: لا يقال: البائع يتضرر برده معيبا والمشتري لعدم رده فكان الواجب ترجيح جانب المشتري(8/110)
فإن قال البائع: أنا أقبله كذلك كان له ذلك؛ لأن الامتناع لحقه وقد رضي به، فإن باعه المشتري لم يرجع بشيء؛ لأن الرد غير ممتنع برضا البائع فيصير هو بالبيع حابسا للمبيع فلا يرجع بالنقصان، فإن قطع الثوب وخاطه أو صبغه أحمر، أو لت السويق بسمن، ثم اطلع على عيب رجع بنقصانه؛ لامتناع الرد بسبب الزيادة؛ لأنه لا وجه إلى الفسخ في الأصل بدونها؛ لأنها لا تنفك عنه ولا وجه إليه معها؛ لأن الزيادة ليست بمبيعة، فامتنع أصلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في دفع ضرره؛ لأن البائع غره بتدليس العيب؛ لأنا نقول: المعصية لا تمنع عصمة المال كالغاصب إذا صنع الثوب فكان في شرع الرجوع بالعيب نظر إليهما.
وفي إلزام الرد بالعيب الحادث إضرار للبائع لا لفعل باشره، وفي عدم الرد، وإن كان إضرارا للمشتري، لكن لعجزه لما باشره فاعتبر ما هو الأنظر لهما.
م: (فإن قال البائع أنا أقبله كذلك كان له ذلك؛ لأن الامتناع) ش: أي امتناع الرد كان م: (لحقه) ش: أي لحق البائع م: (وقد رضي به) ش: أي بالثوب المعيب فكان إسقاطا لحقه، فإن قيل: ما الفرق بين هذه المسألة وبين ما إذا اشترى بعيرا فنحره، فلما شق بطنه وجد أمعاءه فاسدة فإنه لا يرجع فيه بنقصان العيب عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟
أجيب بأن النحر إفساد للمالية لصيرورة البعير به عرضة للنتن والفساد، ولهذا لا يقطع يد السارق بسرقته فيختل معنى قيام البيع.
م: (فإن باعه المشتري) ش: يعني بعد القطع م: (لم يرجع بشيء) ش: علم به أو لا، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الأصح م: (لأن الرد غير ممتنع برضا البائع) ش: لأنه جاز أن يقول البائع: كنت أقبله كذلك فلم يكن الرد ممتنعا برضا البائع م: (فيصير هو) ش: أي المشتري م: (بالبيع حابسا للمبيع فلا يرجع بالنقصان) ش: إذ ذاك لإمكان رد البيع وأخذ الثمن لولا البيع م: (فإن قطع الثوب) ش: الذي اشتراه م: (وخاطه أو صبغه أحمر) ش: قيد بالأحمر لتكون الزيادة في المبيع بالاتفاق؛ لأن السواد، نقصان عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما زيادة كالحمرة م: (أو لت السويق بسمن، ثم اطلع على عيب، رجع بنقصانه لامتناع الرد بسبب الزيادة؛ لأنه لا وجه إلى الفسخ في الأصل) ش: أي الثوب أو السويق م: (بدونها) ش: أي بدون الزيادة م: (لأنها لا تنفك عنه) ش: أي؛ لأن الزيادة لا تنفك عن الأصل.
م: (ولا وجه إليه) ش: أي إلى الفسخ م: (معها) ش: أي مع الزيادة م: (لأن الزيادة ليست بمبيعة فامتنع أصلا) ش: أي فامتنع الرد بالكلية، وفي " الفوائد الظهيرية " و" المبسوط " الأصل في جنس هذه المسائل أن في كل موضع يكون البيع قائما على ملك المشتري فعليه الرد برضا البائع، فإذا أخرجه عن ملكه لا يرجع بالنقصان وفي كل موضع يكون المبيع قائما ولا يمكنه الرد، وإن رضي به البائع فإذا أخرجه عن ملكه يرجع بالنقصان لامتناع الرد بالزيادة.(8/111)
وليس للبائع أن يأخذه؛ لأن الامتناع لحق الشرع لا لحقه، فإن باعه المشتري بعد ما رأى العيب رجع بالنقصان؛ لأن الرد ممتنع أصلا قبله، فلا يكون بالبيع حابسا للمبيع، وعن هذا قلنا: إن من اشترى ثوبا فقطعه لباسا لولده الصغير وخاطه، ثم اطلع على عيب لا يرجع بالنقصان، ولو كان الولد كبيرا يرجع؛ لأن التمليك حصل في الأول قبل الخياطة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: يشكل بالزيادة المتصلة المتولدة في البيع كالسمن والجمال فإنها لا تمنع الرد بالعيب في ظاهر الرواية، قلنا: ثم فسخ العقد في الزيادة متمكن؛ لأن الزيادة تبع محض باعتبار التولد والتفرع منه والاتصال به.
وحاصله أن الزيادة نوعان: متصلة ومنفصلة، والمتصلة نوعان: متولدة منه كما ذكرنا وهي لا تمنع الرد، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومتصلة غير متولدة منه: كالصنع والخياطة واللت والغرس والبناء وهي تمنع الرد بالاتفاق، وعند الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لا تمنع كالسمن والجمال.
والمنفصلة نوعان: متولدة منه كاللبن والتمر والأرش والولد والعقر وهي تمنع الرد لتعذر الفسخ عليها؛ لأن العقد لم يرد عليها ولا وجه للفسخ عليها لانقطاع التبعية بالانفصال، ويكون هو بالخيار إن شاء ردهما جميعا، وإن شاء رضي بهما بجميع الثمن قبل القبض وبعده، ورد المبيع خاصة بحصته من الثمن، يقسم الثمن على قيمته يوم العقد وعلى قيمة الزيادة وقت القبض. وغير متولدة منه: كالكسب وهي لا تمنع الرد بل يفسخ العقد في الأصل دون الزيادة، وتسليم الزيادة للمشتري مجانا، وبه قال الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وكذا قالا في المتولدة المنفصلة؛ لإمكان الفسخ على الأصل بدونها والزيادة للمشتري. وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إن كانت الزيادة ولدا رده مع الأصل، وإن كان ثمرة أمسكها ورد الأصل، ولو هلكت الزيادة بآفة سماوية يثبت له الرد كأنها لم تكن، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبل الحكم بالأرش.
م: (وليس للبائع أن يأخذه) ش: أي المبيع مع الزيادة م: (لأن الامتناع لحق الشرع) ش: أي امتناع الرد لحق الشرع بشبهة الربا م: (لا لحقه) ش: أي لا لحق البائع م: (فإن باعه المشتري) ش: أي الثوب المصبوغ أو المخيط م: (بعد ما رأى العيب رجع بالنقصان؛ لأن الرد ممتنع أصلا قبله) ش: أي قبل بيع المشتري للزيادة الحادثة فيه بفعل المشتري.
م: (فلا يكون) ش: أي المشتري م: (بالبيع حابسا للمبيع) ش: فيرجع بالنقصان م: (وعن هذا قلنا) ش: أي عن الوجه الذي قلنا وفي بعض النسخ وعلى هذا قلنا، وهو أن المشتري إذا كان حابسا للمبيع لا يرجع بنقصان العيب م: (إن من اشترى ثوبا فقطعه لباسا لولده الصغير وخاطه، ثم اطلع على عيب لا يرجع بالنقصان، ولو كان الولد كبيرا يرجع) ش: بالنقصان م: (لأن التمليك حصل في الأول قبل الخياطة) ش: لأنه بالقطع للصغير صار واهبا للثوب له مسلما إليه، وصار الأب(8/112)
وفي الثاني بعدها بالتسليم إليه.
قال: ومن اشترى عبدا فأعتقه أو مات عنده ثم اطلع على عيب رجع بنقصانه، أما الموت فلأن الملك ينتهي به والامتناع حكمي لا بفعله، وأما الإعتاق فالقياس فيه أن لا يرجع؛ لأن الامتناع بفعله فصار كالقتل. وفي الاستحسان يرجع؛ لأن العتق إنهاء الملك؛ لأن الآدمي ما خلق في الأصل محلا للملك، وإنما يثبت الملك فيه مؤقتا إلى الإعتاق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قابضا عنه، وحق الرد الذي هو الحق الأصلي صار باطلا بالقطع فبطل البدل وهو الرجوع بالنقصان؛ لأنه صار حابسا للمبيع.
م: (وفي الثاني) ش: وهو صورة كون الولد كبيرا م: (بعدها) ش: أي بعد الخياطة م: (بالتسليم إليه) ش: أي إلى ولده الكبير فيكون له الرجوع بالنقصان؛ لأنه بمجرد القطع لا يكون مسلما إليه؛ لأن الأب لا يصير قابضا عن ولده الكبير فلما خاطه خاطه على ملك نفسه فامتنع الرد بالخياطة رد الشرع لا بالهبة والتسليم فصار وجوه الهبة والتسليم وعدمها سواء فيرجع بالنقصان؛ لأنه لم يكن حابسا للمبيع.
قال شيخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذكر الخياطة وعدم ذكرها في هذا الموضع سواء؛ لأن حق الرد المتبع بوجود القطع قبل الخياطة.
[اشترى عبدا فأعتقه أو مات عنده ثم اطلع على عيب]
م: (قال: ومن اشترى عبدا فأعتقه أو مات عنده ثم اطلع على عيب رجع بنقصانه) ش: هذه مسألة القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - و" الجامع الصغير " أيضا م: (أما الموت فلأن الملك ينتهي به والامتناع حكمي) ش: أي امتناع الرد يثبت حكما للموت م: (لا بفعله) ش: أي لا بفعل المشتري كالبيع والقتل م: (وأما الإعتاق فالقياس فيه أن لا يرجع؛ لأن الامتناع بفعله) ش: أي امتناع الرد بفعل المشتري م: (فصار كالقتل) ش: فإن المشتري إذا قتل العبد الذي اشتراه ثم اطلع فيه على عيب فإنه لا يرجع، وبالقياس قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي " الكافي " وهو قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولكن ذكر في كتبهم أنه يرجع وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما قلنا في الاستحسان، فإن قيل يشكل على هذا إذا صبغه أحمر حيث يرجع بالنقصان، ولا شك أن الصبغ بفعله: أجيب: نعم ذلك بفعله لكن امتناع الرد بسبب وجود الزيادة في البيع بسبب ذلك الفعل فكان الامتناع لحق الشرع، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - ورد بأنه حينئذ يجب أن يقول الامتناع حكمي لا بفعله الذي يوجب الزيادة، والحق أن يقال في الجواب عدم الرد في الصنع بما حصل من فعله من وجود الزيادة لا بفعله.
م: (وفي الاستحسان يرجع؛ لأن العتق إنهاء الملك) ش: أي إتمامه م: (لأن الآدمي ما خلق في الأصل محلا للملك، وإنما يثبت الملك منه مؤقتا إلى الإعتاق) ش: أي إلى وقت الإعتاق، والمؤقت(8/113)
فكان إنهاء فصار كالموت، وهذا؛ لأن الشيء يتقرر بانتهائه فيجعل كأن الملك باق والرد متعذر، والتدبير والاستيلاد بمنزلته؛ لأن تعذر النقل مع بقاء المحل بالأمر الحكمي. وإن أعتقه على مال لم يرجع بشيء؛ لأنه حبس بدله وحبس البدل كحبس المبدل، وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه يرجع؛ لأنه إنهاء للملك، وإن كان بعوض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى وقت ينتهي بانتائهه م: (فكان) ش: أي الإعتاق م: (إنهاء فصار) ش: أي انتهاؤه م: (كالموت) ش: أي كانتهائه بالموت.
م: (وهذا) ش: أي جواز الرجوع بنقصان العيب عند الانتهاء م: (لأن الشيء يتقرر بانتهائه فيجعل كأن الملك باق والرد متعذر) ش: فصار حابسا م: (والتدبير والاستيلاد بمنزلته) ش: أي بمنزلة الإعتاق م: (لأن) ش: أي؛ لأن الشأن م: (تعذر النقل) ش: أي إلى ملك البائع م: (مع بقاء المحل) ش: احتراز عن الموت والإعتاق م: (بالأمر الحكمي) ش: يعني لا بفعل المشتري.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله بالأمر الحكمي احتراز عن القتل، فإن قيل كيف يكون التدبير والاستيلاد كالإعتاق وهو منه دونهما؟
أجيب: أن الإنهاء يحتاج إليه لتقرير الملك يجعل ما لم يكن كائنا وهاهنا الملك متقرر فلا حاجة إليه.
م: (وإن أعتقه على مال) ش: أي فإن أعتق العبد الذي اشتراه على مال ثم وجد به عيبا م: (لم يرجع بشيء؛ لأنه) ش: أي المشتري م: (حبس بدله) ش: أي بدل المبيع وأزال ملكه عنه بعوض م: (وحبس البدل كحبس المبدل) ش: فصار كالمبيع. وفي المبيع لا يرجع فكذا هاهنا م: (وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه يرجع) ش: وهو قول أبي يوسف والشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وفي " شرح الأترازي " بخطه، ونقل الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرحه " للجامع الصغير " عن الأمالي قال: إذا اشترى عبدا فأعتقه على مال أو كاتبه أو قتله ثم وجد به عيبا لا يرجع بشيء في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرجع بنقصان العيب وهذا موضع تأمل.
م: (لأنه) ش: أي؛ لأن الإعتاق م: (إنهاء للملك، وإن كان بعوض) ش: يعين منه للملك سواء كان بعوض أو غير عوض. ولهذا ثبتت الولاية في الوجهين. ولو أبق ثم علم بالعيب لم يرجع بالنقصان عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما دام حيا وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرجع.(8/114)
قال: فإن قتل المشتري العبد، أو كان طعاما فأكله لم يرجع بشيء، عند أبي حنيفة. أما القتل فالمذكور ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يرجع؛ لأن قتل المولى عبده لا يتعلق به حكم دنياوي، فصار كالموت حتف أنفه، فيكون إنهاء. ووجه الظاهر أن القتل لا يوجد إلا مضمونا، وإنما يسقط الضمان هاهنا باعتبار الملك فيصير كالمستفيد به عوضا، بخلاف الإعتاق؛ لأنه لا يوجب الضمان لا محالة، كإعتاق المعسر عبدا مشتركا، وأما الأكل فعلى الخلاف، عندهما يرجع، وعنده لا يرجع استحسانا، وعلى هذا الخلاف إذا لبس الثوب حتى تخرق لهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في وجه لتحقق العجز في الحال.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن قتل المشتري العبد أو كان) ش: أي الذي اشتراه كان م: (طعاما فأكله لم يرجع بشيء عند أبي حنيفة، أما القتل فالمذكور) ش: أي في القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يرجع) ش: ورأي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - معه في رواية التتابع، وبه قال الشافعي وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن قتل المولى عبده لا يتعلق به) ش: أي لا يتعلق بقتل م: (حكم دنياوي) ش: من القصاص والدية م: (فصار كالموت حتف أنفه فيكون إنهاء) ش: للملك؛ لأن المقتول ميت بأجله كذا في " المبسوط ".
م: (ووجه الظاهر) ش: أي وجه ظاهر الرواية م: (أن القتل لا يوجد إلا مضمونا) ش: لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ليس في الإسلام دم مفرح» أي مبطل وهو بالحاء المهملة، وقال ابن الأثير: ويروى بالجيم، ولهذا لو باشره في ملك غيره كان مضمونا.
م: (وإنما يسقط الضمان هاهنا) ش: أي قتل المولى عبده م: (باعتبار الملك فيصير) ش: أي المولى م: (كالمستفيد به) ش: أي ملك العبد م: (عوضا) ش: وهو سلامة نفسه على اعتبار العمد، وسلامة الدية على اعتبار الخطأ فصار كأنه أخذ عوضا بإزالة ملكه بالقتل كما لو باع وأخذ الثمن م: (بخلاف الإعتاق؛ لأنه لا يوجب الضمان لا محالة كإعتاق المعسر عبدا مشتركا) ش: لا ضمان عليه، فعلم أن الإعتاق لا يقتضي الضمان.
م: (وأما الأكل فعلى الخلاف، عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (يرجع) ش: بنقصان العيب م: (وعنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (لا يرجع استحسانا) ش: أي من حيث الاستحسان م: (وعلى هذا الخلاف) ش: المذكور م: إذا لبس الثوب) ش: الذي اشتراه م: حتى تخرق) ش: وتمزق ثم اطلع على عيب عند البائع فعند أبي حنيفة ليس له الرجوع بنقصان العيب خلافا لأبي يوسف ومحمد والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وفي " الخلاصة " و" الفتوى " على قولهما وأجمعوا أنه لو أتلف الطعام أو الثوب بسبب آخر ليس له حق الرجوع كذا في " شرح الطحاوي " م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد -(8/115)
أنه صنع في المبيع ما يقصد بشرائه ويعتاد فعله فيه فأشبه الإعتاق، وله أنه تعذر الرد بفعل مضمون منه في المبيع فأشبه البيع والقتل، ولا معتبر بكونه مقصودا، ألا ترى أن البيع مما يقصد بالشراء ثم هو يمنع الرجوع، فإن أكل بعض الطعام ثم علم بالعيب، فكذا الجواب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الطعام كشيء واحد، فصار كبيع البعض، وعندهما أنه يرجع بنقصان العيب في الكل، وعنهما أنه يرد ما بقي؛ لأنه لا يضره التبعيض. ومن اشترى بيضا أو بطيخا أو قثاء أو خيارا أو جوزا فكسره فوجده فاسدا، فإن لم ينتفع به رجع بالثمن كله؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رحمهما الله- م: (أنه) ش: أي أن المشتري م: (صنع في المبيع ما يقصد بشرائه) ش: وهو الأكل والشرب.
م: (ويعتاد فعله فيه) ش: أي في المبيع، فلا يمنع من الرجوع بنقصان العيب م: (فأشبه الإعتاق) ش: من حيث إنه إنهاء للملك بخلاف الإحراق والاستهلاك.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنه تعذر الرد بفعل مضمون منه في المبيع فأشبه البيع والقتل) ش: أي بيع الشيء الذي اشتراه، وقتل العبد الذي اشتراه م: (ولا معتبر بكونه مقصودا) ش: أي بكون الأكل أو اللبس، وهذا جواب عن قولهما إنه صنع في البيع ما يقصد بشرائه تقريره أنه لا يعتبر بكون الأكل أو اللبس مقصودا م: (ألا ترى أن البيع مما يقصد بالشراء) ش: لأنه تصرف مشروع قد يقصد بالشراء م: (ثم هو يمنع الرجوع) ش: أي بالنقصان.
م: (فإن أكل بعض الطعام ثم علم بالعيب فكذا الجواب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يعني لا يرد ما بقي، ولا يرجع بالنقصان م: (لأن الطعام كشيء واحد) ش: ولهذا رؤية بعضه كرؤية كله م: (فصار كبيع البعض) ش: دون البعض م: (وعندهما أنه يرجع بنقصان العيب في الكل) ش: أي فيما أكل وفيما لم يأكل فأكل الكل لا يمنع الرجوع بالعيب عندهما فأكل البعض أولى.
م: (وعنهما) ش: أي وعن أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (أنه يرد ما بقي؛ لأنه لا يضره التبعيض) ش: فهو قادر على الرد في البعض كما قبضه ويرجع بنقصان العيب فيما أكله، وفي " المجتبى ": أكل بعضه يرجع بنقصان عيبه ويرد ما بقي، وبه يفتى.
ولو أطعم ابنه الصغير أو الكبير أو امرأته أو مكاتبه أو عتيقه لا يرجع بشيء، ولو أطعمه عبده أو مدبره أو أم ولده يرجع؛ لأن ملكه باق اشترى دقيقا وخبز بعضه وظهر أنه مر رد ما بقي ورجع بنقصان ما خبز وهو المختار. ولو كان سمنا ذائبا فأكله ثم أقر البائع أنه كان وقعت فيه فأرة رجع بالنقصان عندهما وبه يفتى.
م: (ومن اشترى بيضا أو بطيخا أو قثاء أو خيارا أو جوزا فكسره فوجده فاسدا فإن لم ينتفع به) ش: أي بالمبيع كالقرع إذا وجده مرا أو البيضة إذا وجدها مذرة م: (رجع بالثمن كله) ش: كذا في(8/116)
لأنه ليس بمال فكان البيع باطلا، ولا يعتبر في الجوز صلاح قشره على ما قيل لأن ماليته باعتبار اللب. وإن كان ينتفع به مع فساده لم يرده؛ لأن الكسر عيب حادث، ولكنه يرجع بنقصان العيب دفعا للضرر بقدر الإمكان، وقال الشافعي: يرده؛ لأن الكسر بتسليطه. قلنا: التسليط على الكسر في ملك المشتري لا في ملكه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" جامع قاضي خان " أيضا.
وفي " المبسوط ": وكذلك الفاكهة إذا وجدها فاسدة بعد الكسر فإن كان لا يساوي شيئا يرجع بكل الثمن؛ لأنه تبين بطلان المبيع م: (لأنه ليس بمال فكان البيع باطلا) ش: لعدم المالية، إذ المال ما ينتفع به في الحال أو في ثاني الحال فإذا كان لا ينتفع به أصلا لا يكون محلا للبيع فبطل البيع وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واختاره المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهذا إذا كسره ولم يعلم بالعيب، أما لو كسره وهو عالم بالعيب صار راضيا به فبطل حقه من كل وجه.
م: (ولا يعتبر في الجوز صلاح قشره على ما قيل) ش: أشار به إلى الجواب عما قال بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إذا كان لقشر الجوز قيمة بأن كان في موضع معتبرا الحطب فيه يرجع بحصة اللب ويصح العقد في قشره بحصة من الثمن.
لأن العقد في القشر صادف محله وقال: يرده أولا بقوله ولا يعتبر إلى آخره ثم علله بقوله م: (لأن ماليته) ش: أي؛ لأن مالية الجوز قبل الكسر م: (باعتبار اللب) ش: دون القشر.
م: (وإن كان ينتفع به مع فساده لم يرده؛ لأن الكسر عيب حادث ولكنه يرجع بنقصان العيب دفعا للضرر بقدر الإمكان) ش: من الجانبين م: (وقال الشافعي يرده) ش: أي إذا كسر مقدار ما لا بد منه للعلم بالعيب، وفي كتبهم فيه قولان في قول لا يرده وهو اختيار المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي قول الرد، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس له الرد ولا الأرش؛ لأنه ليس من البائع تلبيس فإنه لا يعلم باطنه.
قلنا: إن المشتري إنما بذل الثمن في مقابلة التسليم فلا يمكن أن يلزم جميع الثمن في مقابلة العيب؛ لأنه إضرار به، ولو كان كسر زيادة على مقدار ما لا بد منه، للشافعي طريقان: أظهرهما أنه لا يجوز له الرد قولا واحدا وهو قولنا؛ لأن الكسر عيب.
والثاني أنه على القولين، وعلى قول من يقول له الرد: هل يغرم أرش الكسر؟ فيه قولان أحدهما يغرم، والثاني لا يغرم؛ لأنه معذور إذ البائع سلطه عليه.. كذا في " شرح الوجيز " م: (لأن الكسر بتسليطه) ش: أي بتسليط البائع فصار كأنه فعله ورضي به.
م: (قلنا: التسليط على الكسر في ملك المشتري لا في ملكه) ش: أي في ملك البائع؛ لأنه بالبيع(8/117)
فصار كما إذا كان ثوبا فقطعه، ولو وجد البعض فاسدا وهو قليل جاز البيع استحسانا؛ لأنه لا يخلو عن قليل فاسد، والقليل ما لا يخلو عنه الجوز عادة كالواحد والاثنين في المائة، وإن كان الفاسد كثيرا لا يجوز ويرجع بكل الثمن؛ لأنه جمع بين المال وغيره فصار كالجمع بين الحر وعبده.
قال: ومن باع عبدا فباعه المشتري ثم رد عليه بعيب، فإن قبل بقضاء القاضي بإقرار، أو بينة، أو بإباء يمين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يبق ملكه فلم يكن التسليط إلا في ملك المشتري وذلك هدر لعدم ولايته عليه م: (فصار كما إذا كان) ش: المبيع م: (ثوبا فقطعه) ش: ثم وجده معيبا فإنه يرجع بالنقصان بالإجماع، وإن حصل التسليط منه لكونه هدرا، هذا إذا وجد الكل فاسدا م: (ولو وجد البعض فاسدا) ش: والبعض صحيحا م: (وهو قليل) ش: أي الفاسد قليل م: (جاز البيع استحسانا؛ لأنه) ش: أي أن الكثير من الجوز م: (لا يخلو عن قليل فاسد) ش: فهو كالتراب في الحنطة، فلو فسد البيع باعتبار فات بيعه عادة، وفي القياس يجوز؛ لأنه كالخمر والميتة بضم إلى المال.
ثم بين القليل من الكثير بقوله م: (والقليل ما لا يخلو عنه الجوز عادة، كالواحد والاثنين في المائة) ش: وجعل الفقيه أبو الليث في " شرح الجامع الصغير ": في الجوز الخمسة أو الستة أو نحو ذلك في المائة تعفوا، وفي " الذخيرة ": اشترى مائة بيضة فوجد فيها واحدا أو اثنين أو ثلاثة مذرة لا يرجع بشيء وجعل الثلاثة في المائة قليلا، ولو اشترى عشرة جوزا فوجد فيها خمسة خاوية اختلف المشايخ فيه.
قيل: يجوز العقد في الخمسة التي فيها لب بنصف الثمن بالإجماع، وقيل: يفسد في الكل بالإجماع؛ لأن الثمن لم يفصل، وقيل: العقد فاسد في الكل عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه يصير كالجمع بين الحي والميت في البيع وعندهما يصح في الخمسة التي فيها لب بنصف الثمن وهو الأصح؛ لأن هذا بمعنى الثمن المفصل عندهما، فإن الثمن ينقسم على الأجزاء لا على القيمة.
م: (وإن كان الفاسد كثيرا لا يجوز) ش: أي في الكل م: (ويرجع بكل الثمن؛ لأنه جمع بين المال وغيره) ش: وذلك مفسد للعقد م: (فصار كالجمع بين الحر وعبده) ش: حيث يفسد في الكل.
[باع عبدا فباعه المشتري ثم رد عليه بعيب]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ومن باع عبدا فباعه المشتري ثم رد عليه) ش: أي على المشتري م: (بعيب) ش: كان قبله.
م: (فإن قبل) ش: أي الرد م: (بقضاء القاضي بإقرار) ش: منه بالعيب م: (أو بينة) ش: قامت عليه عند القاضي من جهة المشتري الثاني لما أنكر المشتري الأول قبوله بالرد م: (أو بإباء يمين) ش: أي وبامتناعه عن اليمين يعني لما عجز الخصم عن إقامة البنية وتوجه على المشتري الثاني اليمين فأبى عن اليمين وحكم القاضي عليه بالنكول.(8/118)
له أن يرده على بائعه؛ لأنه فسخ من الأصل فجعل البيع كأن لم يكن، غاية الأمر أنه أنكر قيام العيب لكنه صار مكذبا شرعا بالقضاء، ومعنى القضاء بالإقرار أنه أنكر الإقرار فأثبت بالبينة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ففي هذه الصور الثلاثة م: (له) ش: أي للمشتري الأول م: (أن يرده) ش: أي المبيع بالعيب م: (على بائعه؛ لأنه) ش: أي؛ لأن المبيع م: (فسخ من الأصل) ش: أي فسخ من كل وجه؛ لأنه تعذر اعتباره.
م: (فجعل البيع كأن لم يكن) ش: أي فجعل البيع الثاني كالمعدوم، والبيع الأول قائم فله الخصومة والرد بالعيب م: (غاية الأمر) ش: هذا جواب عما يقال من جهة زفر أنه لما أنكر العيب لم يكن له حق الخصومة؛ لأنه متناقض في كلامه، تقرير الجواب أن غاية أمر المشتري م: (أنه أنكر قيام العيب) ش: أي أنكر الإقرار بقيام العيب م: (لكنه صار مكذبا شرعا) ش: أي من حيث الشرع م: (بالقضاء) ش: أي بقضاء القاضي، ولما صار مكذبا بالقضاء ارتفعت المناقضة وصار كمن اشترى شيئا واقتران البائع باع ملك نفسه ثم جاء إنسان واستحقه بالبينة لا يبطل حقه في الرجوع على البائع بالثمن.
م: (ومعنى القضاء بالإقرار) ش: هذا تأويل من المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لمعنى قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير "، فإن قبله بقضاء القاضي بإقرار وهذا في القدوري أيضا ولكن لفظه: فإن قبله بقضاء القاضي فقط، وليس فيه بإقرار، وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - معناه م: (أنه أنكر الإقرار فأثبت بالبينة) ش: وإنما احتاج إلى هذا التأويل؛ لأنه إذا لم ينكر إقراره بعد الإقرار لا يحتاج إلى القضاء بل يرد عليه بإقراره بالعيب وحينئذ ليس له أن يرده على بائعه؛ لأنه أقاله.
وفي " الفوائد " قال بعض مشايخنا: الجواب في فضل البينة، والنكول محمول على ما إذا كان المشتري ساكتا فإن البينة على الساكت مسموعة، والساكت يستحلف أيضا؛ لأنه يترك منكرا.
أما إذا أنكر المشتري الأول أن يكون هذا العيب عنده ثم كان بالبينة أو النكول فعلى قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس له أن يخاصم بائعه لمكان التناقض، وعلى قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - له ذلك لتكذيب القاضي إياه بالبينة وعامتهم قالوا: إن سبق منه جحود نصا بأن قال وما بها هذا العيب وإنما حدث عندك ثم أقر به ذلك وأبى القبول، فالقاضي له جبره على القبول ولم يكن له أن يخاصم بائعه.
وفي " الكافي ": قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يعتبر فسخا في حق البائع الأول حتى لا يرد عليه؛ لأن القاضي مضطر إلى القضاء، وهذا الاضطرار جاء بإقراره أو بنكوله فانتقل فعل(8/119)
وهذا بخلاف الوكيل بالبيع إذا رد عليه بعيب بالبينة حيث يكون ردا على الموكل؛ لأن البيع هناك واحد والموجود هاهنا بيعان، فيفسخ الثاني ولا ينفسخ الأول. وإن قبل بغير قضاء القاضي ليس له أن يرده؛ لأنه بيع جديد في حق ثالث، وإن كان فسخا في حقهما والأول ثالثهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القاضي إليه؛ لأن فعل المكره ينتقل إلى المكره بكسر الراء وإذا انتقل صار كأنه باشر بنفسه.
قلنا: فعل المكره إنما ينتقل إذا صلح آلة للمكره كما في القتل فإنه يمكنه أن يأخذه ويضربه عليه والقاضي لا يصلح آلة له في حق القضاء بالفسخ؛ لأن الفسخ يكون بالكلام، والكلام لا ينتقل إلى المكره؛ لأن التكلم بلسان الغير لا يتصور.
م: (وهذا) ش: إشارة إلى قوله: أن يرده من حيث المعنى إذ تقديره والبيع الأول قائم بنفسه فلم ينفسخ بفسخ بيع الثاني م: (بخلاف الوكيل بالبيع) ش: بان جواب عما يقال: إذا رد المبيع بعيب على الوكيل بالبينة كان ذلك ردا على الموكل، وفيما نحن فيه على المشتري ليس ردا على البائع تقريره أن هذا بخلاف الوكيل بالبيع وكل شخصا ببيع عبده مثلا فإنه م: (إذا رد عليه بعيب بالبينة) ش: أي إذا رد على الوكيل بعيب بالبينة أو بالنكول م: (حيث يكون ردا على الموكل؛ لأن البيع هناك) ش: أي في مسألة الوكيل م: (واحد) ش: أي بيع واحد، فكان القضاء عليه بالرد ردا على الموكل. م: (والموجود هاهنا) ش: أي في مسألة بيع المشتري.
م: (بيعان فيفسخ الثاني) ش: أي فيفسخ البيع الثاني م: (ولا ينفسخ الأول) ش: أي البيع الأول، فلأجل هذا لم يكن الرد على المشتري الأول ردا على بائعه م: (وإن قبل بغير قضاء القاضي) ش: عطف على قوله فإن قبل بقضاء القاضي أي فإن قبل المشتري الأول بغير قضاء القاضي بل قبل برضا م: (ليس له أن يرده) ش: على بائعه م: (لأنه) ش: أي لأن الرد بالتراضي م: (بيع جديد في حق ثالث) ش: وهو إقالته م: (وإن كان فسخا في حقهما والأول) ش: أي البائع الأول م: (ثالثهما) ش: أي ثالث اثنين وهما المشتري الأول الذي هو البائع الثاني والمشتري الثاني.
ولهذا يتحدد الشفيع حق الشفعة؛ لأنه ثالثهما فصار كأن المشتري الأول اشتراه ثانيا ما باع فلا يكون له حق الخصومة، لا في الرد ولا في حق الرجوع بالنقصان. كذا في " الكافي ".
وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يرده كما في الرد بالقضاء، فإن قلت: هذا يشكل بمسألة ذكرها في " المحيط ": وهو من اشترى دينارا بدرهم وقبض الدينار وباعه من ثالث ووجد به عيبا فرده على المشتري الأول بغير قضاء كان له أن يرده على بائعه.
قلت: لا يشبه الصرف العروض؛ لأن الرد في العروض جعل بيعا جديدا في حق الثالث وهو البائع الأول وهاهنا لا يمكن أن يجعل بيعا جديدا؛ لأن النقود لا تتعين في المعقود، فكان(8/120)
وفي "الجامع الصغير": وإن رد عليه بإقراره بغير قضاء بعيب لا يحدث مثله لم يكن له أن يخاصم الذي باعه، وبهذا يتبين أن الجواب فيما يحدث مثله وفيما لا يحدث سواء، وفي بعض روايات البيوع: إن فيما لا يحدث مثله يرجع بالنقصان للتيقن بقيام العيب عند البائع الأول.
قال: ومن اشترى عبدا، فقبضه، فادعى عيبا، لم يجبر على دفع الثمن حتى يحلف البائع، أو يقيم المشتري البينة؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البيع الثاني لم يكن في حقه.
م: (وفي " الجامع الصغير ": وإن رد عليه) ش: أي على المشتري الأول م: (بإقراره بغير قضاء) ش: أي بغير قضاء القاضي بالرد م: (بعيب) ش: أي بسبب عيب م: (لا يحدث مثله) ش: كالأصبع الزائدة أو الناقصة م: (لم يكن له أن يخاصم الذي باعه) ش: صورته في " الجامع الصغير " محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رجل اشترى من رجل عبدا ثم باعه من آخر فوجد به الآخر عيبا لا يحدث مثله فرده على بائعه وقبل منه عبدا بغير قاض قال: ليس له أن يرده على البائع الأول أبدا.
قال المصنف: م: (وبهذا) ش: أي بوضع المسألة في " الجامع الصغير " في العيب الذي لا يحدث مثله م: (يتبين أن الجواب فيما يحدث مثله) ش: كالقروح والأمراض م: (وفيما لا يحدث) ش: كالأصبع الزائدة كما ذكرنا م: (سواء) ش: في الخصومة مع البائع إذا قبله بغير قضاء وذلك؛ لأنه لم يتمكن من الرد فيما لا يحدث مع التيقن بوجوده عند البائع الأول كان أولى أن لا يتمكن من الرد فيما يحدث مثله مع احتمال أنه حدث عند المشتري بهذا هو فائدة وضع الجامع وهو الصحيح.
م: (وفي بعض روايات البيوع) ش: أي بيوع الأصل م: (أن فيما لا يحدث مثله يرجع بالنقصان للتيقن بقيام العيب عند البائع الأول) ش: والصحيح رواية " الجامع الصغير "؛ لأن الرد بغير قضاء إقالة معتمد التراضي فيكون بمنزلة بيع جديد في حق غيرهما وهو البائع الأول فلا يعود الملك المستفاد من جهة البائع الأول لتخاصمه.
[اشترى عبدا فقبضه فادعى عيبا]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجامع الصغير: م: (ومن اشترى عبدا فقبضه فادعى عيبا لم يجبر على دفع الثمن حتى يحلف البائع أو يقيم المشتري البينة) ش: صورة المسألة في " الجامع الصغير " محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رجل اشترى من رجل عبدا بألف درهم وقبض العبد ثم جاء البائع يخاصمه في الثمن فقال: قد كنت دلست لي هذا العيب قال: لا يجبر على دفع الثمن حتى يشهد الشهود أو يستحلفه.
فإن قال: شهودي بالشام قال: يقال له ادفع الثمن وإن شئت أستحلف لك وادفع الثمن.(8/121)
لأنه أنكر وجوب دفع الثمن حيث أنكر تعين حقه بدعوى العيب، ودفع الثمن أولا ليتعين حقه بإزاء تعين المبيع، ولأنه لو قضى بالدفع فلعله يظهر العيب فينتقض القضاء فلا يقضي به صونا لقضائه، فإن قال المشتري: شهودي بالشام استحلف البائع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى هنا لفظ " الجامع " فأخذ المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا ونقله بالعبارة المذكورة ثم علل المسألة بقتله.
م: (لأنه أنكر) ش: أي؛ لأن المشتري أنكر م: (وجوب دفع الثمن) ش: أي وجوب تسليم الثمن على نفسه لما ادعى العيب م: (حيث أنكر) ش: أي المشتري م: (تعين حقه بدعوى العيب) ش: لأن حقه في التسليم لا في العيب.
م: (ودفع الثمن أولا) ش: يعني وجوب دفع الثمن أولا إنما هو م: (ليتعين حقه) ش: أي حق البائع م: (بإزاء تعين المبيع) ش: فحيث أنكر تعين حقه في المبيع؛ لأن حقه في التسليم، فقد أنكر علة وجوب دفع الثمن أولا وفي إنكار العلة إنكار للمعلول، فانتصب خصما ولا بد حينئذ من حجة وهي إما بينة أو يمين البائع، فإن قيل: في هذا التعليل فساد الوضع؛ لأن صفة الإنكار تقتضي إسناد اليمين إليه لا إقامة البينة.
فالجواب: أن الاعتبار بالمعنى لا بالصورة وهو فيه مدعى يدعي ما يوجب دفع وجوبه دفع الثمن أولا كان في الصورة منكرا.
م: (ولأنه) ش: دليل آخر ولأن القاضي م: (لو قضى بالدفع) ش: أي بدفع الثمن م: (فلعله يظهر العيب فينتقض القضاء فلا يقضي) ش: أي بالدفع م: (به صونا لقضائه) ش: أي حفظا لقضائه عن النقض وهاهنا سؤال وهو أن الموجب للجبر موجود وهو البيع مع القبض وما ادعاه المشتري من العيب موهوم، والموهوم لا يعارض المتحقق.
والجواب عنه يفهم من تقرير الدليل الثاني على ما لا يخفى على الفطن، ولكن توضيحه زيادة للبيان وهو وإن كان ما ادعاه المشتري موهوما لكن فيه صيانة القضاء عن النقض؛ لأنه يمكن أن يقيم المشتري البينة بعد الجبر على العيب فيلزم بطلان القضاء في عدم الجبر صون القضاء عن النقض.
وسعي الإنسان في نقض ما تم من جهته مردود، ولهذا لو عجل زكاة ماله قبل الحول إلى الساعي لا يسترد لاحتمال أنه يكون زكاة ببقاء المال في يده، ولأن الموجب للجبر لا نسلم أنه متحقق إذ الموجب للجبر البيع مع قبض الحق، وهاهنا قبض الحق غير متعين لإنكاره.
م: (فإن قال المشتري: شهودي بالشام استحلف البائع) ش: يعني إذا طلب من المشتري إقامة البينة على ما ادعاه فقال: شهودي غيب في الشام استحلف البائع ولا ينتظر حضور الشهود؛ لأنه(8/122)
ودفع الثمن يعني إذا حلف ولا ينتظر حضور الشهود؛ لأن في الانتظار ضررا بالبائع، وليس في الدفع كثير ضرر به؛ لأنه على حجته، أما إذا نكل ألزم العيب؛ لأنه حجة فيه.
قال: ومن اشترى عبدا فادعى إباقا لم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أمر على خطر، أو يكون أم لا يكون فلا يؤخر الواجب بل يحلف البائع.
فإن قال: بالله لقد سلمته إليك بحكم البيع وما به هذا العيب أجبر المشتري على دفع الثمن وهو معنى قوله: م: (ودفع الثمن، يعني إذا حلف ولا ينتظر حضور الشهود؛ لأن في الانتظار ضررا بالبائع) ش: لأن التأخير لا إلى غاية يجري مجرى الإبطال.
م: (وليس في الدفع كثير ضرر به) ش: جواب عما يقال إن في إلزام المشتري دفع الثمن ضررا له، وتقرير الواجب ليس في دفع الثمن إلى المشتري كثير ضرر به بالمشتري م: (لأنه على حجته) ش: يعني بسبيل من إقامة البينة عند حضور شهوده.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيه بحث من وجهين: الأول: ما قيل في بقاء المشتري على حجته بطلان قضاء القاضي.
والثاني: أن الانتظار وإقامة الحجة بعد الدفع مؤقتان بحضور الشهود فكيف كان أحدهما ضررا والآخر دونه.
والجواب: عن الأول أن القاضي هاهنا قد قضى بأداء الثمن إلى حضور الشهود لا مطلقا فلا يلزم البطلان.
وعن الثاني: بأنه في دعوى غيبة الشهود متهم لجواز أن يكون ذلك مماطلة فلا يسمع قوله في حق غيره، م: (أما إذا نكل) ش: أي البائع عن اليمين م: (ألزم العيب؛ لأنه) ش: أي؛ لأن النكول م: (حجة فيه) ش: أي في ثبوت العيب قيل هذا احتراز عن النكول في الحدود والقصاص فإنه ليس بحجة وكذا النكول ليس بحجة في الأشياء الستة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قولهم في بيان هذه المسألة؛ لأن المشتري على حجته دليل أن إقامة البينة بعد حلف المدعى عليه معتبرة.
وفي " خلاصة الفتاوى " لو أقام المدعي البينة بعدما حلف المدعى عليه فقيل وكذلك لو قال المدعي للمدعى عليه: احلف وأنت بريء، أو قال: إذا حلفت فأنت بريء، فحلف ثم أقام هو البينة تقبل، أما إذا قال المدعي: لا بينة لي فحلف المدعى عليه ثم أتى هو بالبينة تقبل في رواية الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها لا تقبل.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجامع الصغير: م: (ومن اشترى عبدا فادعى إباقا لم(8/123)
يحلف البائع حتى يقيم المشتري البينة أنه أبق عنده، والمراد التحليف على أنه لم يأبق عنده؛ لأن القول وإن كان قوله ولكن إنكاره إنما يعتبر بعد قيام العيب به في يد المشتري، ومعرفته بالحجة. فإذا أقامها حلف بالله تعالى لقد باعه وسلمه إليه، وما أبق عنده قط. كذا قال في الكتاب، وإن شاء حلفه بالله ما له حق الرد عليك من الوجه الذي يدعي أو بالله ما أبق عندك قط، أما لا يحلفه بالله لقد باعه وما به هذا العيب، ولا بالله لقد باعه وسلمه، وما به هذا العيب؛ لأن فيه ترك النظر للمشتري، ولأن العيب قد يحدث بعد البيع قبل التسليم وهو موجب للرد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يحلف البائع حتى يقيم المشتري البينة أنه أبق عنده) ش: صورة المسألة فيه محمد عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في رجل باع من رجل عبدا فقال المشتري: بعتني آبقا وكذبه البائع، قال: لا أحلف البائع على الإباق حتى يقيم المشتري البينة أنه أبق عنده، فإذا أقام على ذلك البينة استحلف البائع بالله لقد باعه وقبضه وما أبق قط ... انتهى.
وضع المسألة في الإباق والحكم في جميع العيوب التي لا تشاهد عند الخصومة كذلك نحو السرقة والبول على الفراش والجنون إلا أن المعاودة في يد المشتري شرط في العيوب الثلاثة والحالة واحدة، وهل تشترط المعاودة في الجنون؟ فيه كلام قد مر في أول الباب.
م: (والمراد التحليف على أنه لم يأبق عنده) ش: أي المراد من قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يحلف البائع حتى يقيم المشتري البينة يحلف البائع على أن العبد لم يأبق عند البائع يعني لا يحلف البائع ولا يتوجه عليه الخصومة ما لم يثبت العيب عند المشتري أولا بالحجة م: (لأن القول وإن كان قوله ولكن إنكاره) ش: أي إنكار البائع م: (إنما يعتبر بعد قيام العيب به) ش: أي بالمبيع م: (في يد المشتري) ش: لأن السلامة أصل والعيب عارض.
م: (ومعرفته) ش: أي معرفة قيام العيب م: (بالحجة، فإذا أقامها حلف بالله تعالى لقد باعه وسلمه إليه وما أبق عنده قط. كذا قال في الكتاب) ش: أي في " الجامع الصغير "، وقد مر عن قريب.
وقال المصنف: م: (وإن شاء حلفه بالله ما له حق الرد عليك من الوجه الذي يدعي) ش: أي ليس للمشتري حق الرد عليك أيها البائع بالسبب الذي يدعيه المشتري م: (أو بالله) ش: أو حلفه بالله م: (ما أبق عندك قط) ش: يعني أو حلفه القاضي بهذا الوجه فيقول البائع: بالله ما أبق قط وإنما قال: عندك؛ لأن القاضي يخاطب البائع كذلك فإذا حلف أضاف إلى نفسه.
م: (أما لا يحلفه بالله لقد باعه وما به هذا العيب، ولا بالله لقد باعه وسلمه وما به هذا العيب؛ لأن فيه ترك النظر للمشتري؛ ولأن العيب قد يحدث بعد البيع قبل التسليم وهو موجب للرد والأول(8/124)
والأول ذهول عنه، والثاني يوهم تعلقه بالشرطين فيتأوله في اليمين عند قيامه وقت التسليم دون البيع، ولو لم يجد المشتري بينة على قيام العيب عنده وأراد تحليف البائع بالله ما نعلم أنه أبق عنده يحلف على قولهما. واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة. لهما أن الدعوى معتبرة حتى يترتب عليها البينة، فكذا يترتب التحليف، وله على ما قاله البعض أن الحلف يترتب على دعوى صحيحة وليست تصح إلا من خصم، ولا يصير خصما فيه إلا بعد قيام العيب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذهول عنه) ش: أي التحليف بقوله: بالله لقد باعه وما به هذا العيب غفلة عن حدوث العيب بهذا البيع قبل التسليم، فلأجل هذا لا يحلف بهذا الوجه؛ لأن العيب ربما لا يكون عند البائع ثم يحدث قبل التسليم وهو موجب للرد، فإذا حلف على العيب لم يكن عند البائع يتضرر المشتري؛ لأن البائع صادق في حلفه فلا يحنث.
م: (والثاني) ش: أي التحليف بالله لقد باعه وسلمه وما به هذا العيب م: (يوهم تعلقه) ش: أي تعلق العيب م: (بالشرطين) ش: يعني البيع والتسليم م: (فيتأوله) ش: أي البائع م: (في اليمين) ش: ويقول: لم يكن البيع م: (عند قيامه) ش: أي عند قيام المعيب م: (وقت التسليم دون البيع) ش: يعني لم يكن العيب عند الحالتين بل عند التسليم فحسب. فإذا حلف على هذا الوجه يكون صادقا ولا يحنث إذ بانتفاء الجزء لا ينتفي الكل فيتضرر المشتري، وإنما قال: يوهم إشارة إلى أن تأويل البائع ذلك في يمينه ليس بصحيح ولكنه يوهم لذلك.
م: (ولو لم يجد المشتري بينة على قيام العيب عنده وأراد تحليف البائع بالله ما نعلم أنه أبق عنده) ش: أي عند المشتري م: (يحلف على قولهما) ش: أي قول أبي يوسف ومحمد على العلم؛ لأنه تحليف على فعل الغير فيحلف البائع بالله ما يعلم أن هذا العبد جن عند هذا المشتري ولا أبق ولا سرق ولا بال على فراش. كذا ذكر في الجامع الكبير قولهما. ولم يذكر قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة) ش: فقيل يحلف عنده أيضا، وقيل: لا يحلف وهو الأصح م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن الدعوى معتبرة حتى يترتب عليها البينة.. فكذا يترتب التحليف) ش: أي صحة التحليف تترتب على إقامة البينة من المشتري. فكذا يصح التحليف.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (على ما قاله البعض) ش: أي بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (أن الحلف يترتب على دعوى صحيحة وليست تصح) ش: على الدعوى الصحيحة م: (إلا من خصم ولا يصير) ش: أي المشتري م: (خصما فيه) ش: أي فيما ذكرنا م: (إلا بعد قيام العيب) ش: عند نفسه، وفي هذا إشارة إلى أنه لا يشترط لترتب البينة على الدعوى كونها صحيحة، بل تقوم البينة فيما لا دعوى فيه أصلا كالحدود، وكذا تصح إقامة البينة على أنه وكيل أو وارث فلان بلا دعوى.(8/125)
وإذا نكل عن اليمين عندهما يحلف ثانيا للرد على الوجه الذي قدمناه. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا كان الدعوى في إباق الكبير يحلف ما أبق منذ بلغ مبلغ الرجال؛ لأن الإباق في الصغر لا يوجب رده بعد البلوغ.
قال: ومن اشترى جارية وتقابضا فوجد بها عيبا فقال البائع: بعتك هذه وأخرى معها، وقال المشتري: بعتنيها وحدها فالقول قول المشتري؛ لأن الاختلاف في مقدار المقبوض فيكون القول للقابض، كما في الغصب. وكذا إذا اتفقا على مقدار المبيع واختلفا في المقبوض لما بينا.
قال: ومن اشترى عبدين صفقة واحدة فقبض أحدهما ووجد بالآخر عيبا فإنه يأخذهما أو يدعهما؛ لأن الصفقة تتم بقبضهما فيكون تفريقا قبل التمام، وقد ذكرناه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإذا نكل) ش: أي البائع م: (عن اليمين عندهما يحلف ثانيا للرد) ش: وهذه اليمين تسمى يمين الرد، فإن حلف برئ، وإن نكل يثبت العيب عند البائع فيرد عليه م: (على الوجه الذي قدمناه) ش: أي يحلف على الثبات على ما قدمه من قوله بالله: ما له حق الرد عليك من الوجه الذي يدعي أو بالله ما أبق عندك قط، وفي بعض النسخ يحلف ثانيا للرد إلى آخره.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: هو المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إذا كان الدعوى في إباق الكبير يحلف ما أبق منذ بلغ مبلغ الرجال؛ لأن الإباق في الصغر لا يوجب رده بعد البلوغ) ش: وذلك؛ لأن اتحاد الحالة شرط في العيوب الثلاثة فلا يلزم الرد من وجودها عند المشتري في الكبر إذا كان وجودها عند البائع في الصغر، فإذا حلف البائع مطلقا يكون فيه ترك النظر للبائع؛ لأنه يمنع عن اليمين مطلقا إذا وجدت هذه العيوب عنده في الصغر.
م: (قال: ومن اشترى جارية وتقابضا) ش: أي قبض البائع الثمن والمشتري الجارية م: (فوجد بها عيبا فقال البائع: بعتك هذه وأخرى معها، وقال المشتري: بعتنيها وحدها، فالقول قول المشتري؛ لأن الاختلاف في مقدار المقبوض فيكون القول للقابض) ش: لأنه أعرف بما قبضه م: (كما في الغصب) ش: فإنه إذا اختلف الغاصب والمغصوب منه فقال المغصوب منه: غصبت مني غلامين. وقال الغاصب: غلاما واحدا فالقول للغاصب؛ لأنه القابض م: (وكذا إذا اتفقا) ش: أي المتعاقدان م: (على مقدار المبيع واختلفا في المقبوض) ش: بأن كان المبيع جاريتين فاختلفا فقال البائع: قبضتهما وقال المشتري: ما قبضت إلا إحداهما فالقول قول المشتري م: (لما بينا) ش: أن في الاختلاف في مقدار المقبوض القول قول القابض.
[اشترى عبدين صفقة واحدة فقبض أحدهما ووجد بالآخر عيبا]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى عبدين صفقة واحدة فقبض أحدهما ووجد بالآخر عيبا فإنه يأخذهما أو يدعهما) ش: أي يأخذهما جميعا أو يتركهما جميعا، وليس له أن يأخذ السليم خاصة م: (لأن الصفقة تتم بقبضهما فيكون) ش: أي قبض أحدهما م: (تفريقا قبل التمام) ش: وهو لا يجوز م: (وقد ذكرناه) ش: يعني قبل باب خيار العيب بقوله؛ لأن الصفقة تتم مع خيار العيب بعد القبض وإن كانت لا تتم قبله.(8/126)
وهذا؛ لأن القبض له شبه بالعقد فالتفريق فيه كالتفريق في العقد. ولو وجد بالمقبوض عيبا اختلفوا فيه، ويروى عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يرده خاصة، والأصح أنه يأخذهما أو يردهما؛ لأن تمام الصفقة تعلق بقبض المبيع وهو اسم للكل فصار كجنس المبيع، لما تعلق زواله باستيفاء الثمن لا يزول دون قبض جميعه، ولو قبضهما ثم وجد بأحدهما عيبا يرده خاصة خلافا لزفر وهو يقول فيه تفريق الصفقة، ولا يعرى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أي التفريق في القبض لا يجوز م: (لأن القبض له شبه بالعقد) ش: من حيث إن القبض يثبت ملك التصرف وملك اليد كما أن العقد يثبت ملك رقبة والغرض من ملك الرقبة ملك التصرف وملك اليد م: (فالتفريق فيه) ش: أي في القبض م: (كالتفريق في العقد) ش: ولو قال: بعت منك هذين العبدين فقال: قبلت أحدهما لم يصح فكذا هذا.
م: (ولو وجد بالمقبوض عيبا) ش: أي لو وجد المشتري بالمقبوض عيبا فيما إذا اشترى عبدين فقبض أحدهما ووجد فيه عيبا م: (اختلفوا) ش: أي المشايخ م: (فيه) ش: أي في حكمه، والصحيح أنه لا يرد المقبوض خاصة، يعني إن شاء ردهما جميعا أو أخذهما، كما يجيء الآن.
م: (ويروى عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يرده) ش: المقبوض م: (خاصة) ش: لأن الصفقة تمت فيه م: (والأصح أنه يأخذهما أو يردهما؛ لأن تمام الصفقة تعلق بقبض المبيع وهو اسم للكل) ش: أي لكل ما وقع عليه العقد م: (فصار) ش: أي تمام الصفقة م: (كحبس المبيع لما تعلق زواله) ش: أي زوال حبس المبيع م: (باستيفاء الثمن لا يزول) ش: أي حق الحبس م: (دون قبض جميعه) ش: أي جميع الثمن، وقوله لا يزول جواب لما م: (ولو قبضهما) ش: أي العبدين مثلا م: (ثم وجد بأحدهما عيبا يرده) ش: أي المقبوض م: (خاصة، خلافا لزفر) ش: فإن عنده ليس له إلا أن يردهما.
وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كذا ذكر قولهما في " الإيضاح " وكذا ذكر شمس الأئمة البيهقي قول زفر في الكفاية، وكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الكافي " قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال: على قول زفر يردهما إن شاء.
ولكن قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " كتاب التقريب ": قال أصحابنا: إذا اشترى عبدين صفقة واحدة فوجد بأحدهما عيبا بعد القبض رده خاصة.
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يرد المعيب في الوجهين، وعلل لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأن العقد صح فيهما، والعيب وجد بأحدهما فصار كما بعد القبض، وذكر صاحب " التحفة " و" المنظوم " مثل ما ذكر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيحمل الاختلاف في قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - على اختلاف الرواية عنه م: (وهو يقول) ش: أي زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فيه تفريق الصفقة ولا يعرى) ش: أي(8/127)
عن ضرر؛ لأن العادة جرت بضم الجيد إلى الرديء فأشبه ما قبل القبض، وخيار الرؤية والشرط. ولنا أنه تفريق الصفقة بعد التمام؛ لأن بالقبض تتم الصفقة في خيار العيب، وفي خيار الرؤية والشرط لا تتم به على ما مر، ولهذا لو استحق أحدهما ليس له أن يرد الآخر.
قال: ومن اشترى شيئا مما يكال أو يوزن فوجد ببعضه عيبا رده كله أو أخذه كله، ومراده بعد القبض؛ لأن المكيل إذا كان من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تفريق الصفقة م: (عن ضرر؛ لأن العادة جرت) ش: بين التجار م: (بضم الجيد إلى الرديء) ش: لرواج الرديء، فإذا جاز رد أحدهما دون الآخر يفوت غرض البائع وفيه ضرر م: (فأشبه ما قبل القبض) ش: بجامع دفع الضرر.
م: (وخيار الرؤية) ش: أي وأشبه خيار الرؤية م: (والشرط) ش: أي وخيار الشرط م: (ولنا أنه) ش: أي أن الرد م: (تفريق الصفقة بعد التمام) ش: أي بعد تمام الصفقة م: (لأن بالقبض تتم الصفقة في خيار العيب) ش: لأن العيب لا يمنع تمام الصفقة فيرد المعيب خاصة، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول م: (وفي خيار الرؤية والشرط لا تتم به) ش: أي لا تتم الصفقة بالقبض فيهما م: (على ما مر) ش: أي في باب خيار الرؤية.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل التفريق بعد التمام م: (لو استحق أحدهما ليس له أن يرد الآخر) ش: أي بعد قبضهما، وهذا كله إذا كان المشترى شيئين يمكن الانتفاع بأحدهما دون الآخر كالعبدين والثوبين، أما إذا كان المشترى شيئين لا يمكن الانتفاع بأحدهما دون الآخر كالخفين ومصراعي باب ونعلين فقبضهما ثم وجد بأحدهما أو بهما عيبا ردهما إن شاء أو أخذهما، وليس له أن يرد أحدهما دون صاحبه. كذا قال الكرخي في مختصره.
وفي " الفتاوى الصغرى " إذا اشترى خفين فوجد أحدهما ضيقا إن كان لا يدخله لعلة في الرجل ليس له أن يرده، وإن لم يكن كذلك له أن يرده.
[اشترى شيئا مما يكال أو يوزن فوجد ببعضه عيبا]
م: (قال: ومن اشترى شيئا مما يكال أو يوزن فوجد ببعضه عيبا رده كله أو أخذه كله، ومراده بعد القبض) ش: أي ومراد محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد القبض؛ لأن المسألة من مسائل " الجامع الصغير "، وفي بعض النسخ والمراد به بعد القبض، وإنما قيد به؛ لأنه إذا كان قبل القبض لا يتفاوت الحكم عندنا بين المكيل والموزون وغيرهما في أنه لا يجوز تفريق الصفقة برد المعيب خاصة.
وأما التفريق إذا كان بعد القبض فيجوز تفريق الصفقة فيما عدا المكيل والموزون، وأما فيهما فلا يجوز إذا كانا في وعاء واحد على ما هو اختيار المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وللشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قولان: في الكل قبل القبض وبعده م: (لأن المكيل إذا كان من(8/128)
جنس واحد فهو كشيء واحد، ألا ترى أنه يسمى باسم واحد وهو الكر ونحوه، وقيل هذا إذا كان في وعاء واحد، وإن كان في وعاءين فهو بمنزلة عبدين حتى يرد الوعاء الذي وجد فيه العيب دون الآخر.
ولو استحق بعضه فلا خيار له في رد ما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جنس واحد فهو كشيء واحد) ش: احترز به عما إذا كان المكيل من جنسين كالحنطة والشعير فإن للمشتري أن يرد المعيب خاصة، وللشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قولان فيه: بناء على جواز التفريق وعدمه.
م: (ألا ترى أنه يسمى باسم واحد) ش: أي حكما وتقديرا لا تحقيقا لأن المالية والتقوم في المكيلات والموزونات باعتبار الاجتماع فإن الحبة الواحدة ليست مقومة حتى لا يصح بيعها فكانت القابلة للبيع باعتبار الاجتماع فصار الكل في حق البيع كشيء واحد، والشيء الواحد لا يرد بعضه بالعيب دون البعض م: (وهو الكر) ش: بضم الكاف وتشديد الراء، وهو مكيال لأهل العراق معروف، وجمعه الكرار، وقال الأزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الكر ستون قفيزا والقفيز ثمانية مكاكيك والمكوك صاع ونصف صاع م: (ونحوه) ش: أي ونحو الكر كالوسق والفرق والصبرة.
م: (وقيل: هذا) ش: أي الذي ذكرنا من أخذ الكل أو رد الكل م: (إذا كان في وعاء واحد، وإن كان في وعاءين فهو بمنزلة عبدين حتى يرد الوعاء الذي وجد فيه العيب دون الآخر) ش: إذا كان قبضهما، لأن ذلك لا يوجب عيبا زائدا، وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرحه " للجامع الصغير ": معنى هذا أن العيب إذا كان مختلطا بالذي لا عيب فيه فليس له أن يرد المعيب، لأنه لو رده على البائع كان ذلك إضرارا به، وأما إذا كان المعيب في جوالق والجيد في جوالق له أن يرد المعيب خاصة لأنه بمنزلة شيئين مختلفين.
ثم قال أبو الليث: - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا التأويل يصح على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خاصة، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف، وعلى قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يصح هذا التأويل لأنه روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المجرد " أن رجلا لو اشترى أعدالا من تمر فوجد بعدل منها عيبا، فإن كان التمر كله من جنس واحد فهو بمنزلة شيء واحد فليس له أن يرد بعضه دون بعض، ونقل الناطقي في " الأجناس " عن البيوع في رواية بشر بن الوليد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو اشترى زقين من السمن أو سلتين من زعفران أو حملين من القطن أو الشعير وقد قبض الجميع، له رد المعيب خاصة، إلا أن يكون هذا، والآخر على السواء، فإما أن يرد كله أو يترك كله.
م: (ولو استحق بعضه) ش: أي بعض ما يكال أو يوزن بعد القبض م: (فلا خيار له في رد ما(8/129)
بقي؛ لأنه لا يضره التبعيض، والاستحقاق لا يمنع تمام الصفقة؛ لأن تمامها برضا العاقد لا برضا المالك، وهذا إذا كان بعد القبض، أما لو كان ذلك قبل القبض له أن يرد الباقي لتفرق الصفقة قبل التمام. وإن كان ثوبا فله الخيار لأن التشقيص فيه عيب، وقد كان وقت البيع حيث ظهر الاستحقاق، بخلاف المكيل والموزون.
ومن اشترى جارية فوجد بها قرحا فداواها أو كانت دابة فركبها في حاجته فهو رضاء؛ لأن ذلك دليل قصده الاستيفاء، بخلاف خيار الشرط، لأن الخيار هناك للاختبار، وأنه بالاستعمال فلا يكون الركوب مسقطا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بقي لأنه لا يضره التبعيض) ش: والشركة في المكيلات والموزونات لا تعد عيبا باعتبار أن التبعيض لا يضرهما بعد القبض لتمام الصفقة م: (والاستحقاق) ش: جواب إشكال، وهو أن يقال: ينبغي أن يكون له الخيار في رد ما بقي في صورة الاستحقاق كيلا يلزم تفريق الصفقة قبل التمام وتقرير الجواب أنه لا يلزم ذلك لأنه لو لزم ذلك الملزوم بطريق الاستحقاق والاستحقاق م: (لا يمنع تمام الصفقة، لأن تمامها برضا العاقد لا برضا المالك) ش: لأن العقد حق المعاقد، وتمامه يستدعي تمام رضاه وبالاستحقاق لا ينعدم ذلك، ولهذا قلنا في الصرف والسلم إذا جاء المستحق بعد ما افترقا بقي العقد صحيحا فعلم أن تمام العقد يستدعي تمام رضا العاقد لا المالك.
م: (وهذا) ش: أي كون الاستحقاق لا يوجب خيار الرد م: (إذا كان بعد القبض، أما لو كان ذلك قبل القبض له أن يرد الباقي لتفرق الصفقة قبل التمام) ش: لأن تمام الصفقة يحتاج إلى رضا العاقد، وقبض المبيع وانتفاء أحدهما يوجب عدم تمامها.
م: (وإن كان ثوبا) ش: أي وإن كان المستحق ثوبا م: (فله الخيار؛ لأن التشقيص فيه) ش: أي في الثوب م: (عيب) ش: عرفا م: (وقد كان) ش: أي التشقيص م: (وقت البيع حيث ظهر الاستحقاق) ش: يعني أن عيب الشركة فيه لم يحدث في يد المشتري حتى يمنع الرد الذي كان في يد البائع حيث ظهر الاستحقاق، فلا يكون مانعا م: (بخلاف المكيل والموزون) ش: فإن التشقيص ليس بعيب فيهما حيث لا يضر.
م: (ومن اشترى جارية فوجد بها قرحا فداواها أو كانت دابة فركبها في حاجته فهو رضا؛ لأن ذلك دليل قصده الاستيفاء) ش: وإمساك العين الأصل في هذه المسائل أن تصرف المشتري بشيء يدل على الرضا بعد العلم بالعيب يمنع الرد والأرش نحو العرض على البيع والإجارة واللبس والركوب لحاجته والمداواة والرهن والكتابة والاستخدام مرة ثانية لأنه صار راضيا بالعيب م: (بخلاف خيار الشرط؛ لأن الخيار هناك) ش: أي في خيار الشرط م: (للاختيار، وأنه) ش: أي وأن الاختيار يكون م: (بالاستعمال، فلا يكون الركوب مسقطا) ش: للخيار لكون الركوب في شرط الخيار للامتحان فيكون مقصودا من الخيار.(8/130)
وإن ركبها ليردها على بائعها أو ليسقيها أو ليشتري لها علفا فليس برضا، أما الركوب للرد فلأنه سبب الرد، والجواب في السقي واشتراء العلف محمول على ما إذا كان لا يجد بدا منه إما لصعوبتها، أو لعجزه، أو لكون العلف في عدل واحد، وأما إذا كان يجد بدا منه لانعدام ما ذكرناه يكون رضا.
قال: ومن اشترى عبدا قد سرق ولم يعلم به فقطع عند المشتري، له أن يرده ويأخذ الثمن عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقالا: يرجع بما بين قيمته سارقا إلى غير سارق، وعلى هذا الخلاف إذا قتل بسبب وجد في يد البائع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن ركبها ليردها على بائعها أو ليسقيها) ش: أي أو ركبها ليسقيها م: (أو ليشتري لها علفا فليس برضا) ش: بالعيب م: (أما الركوب للرد فلأنه سبب الرد، والجواب في السقي واشتراء العلف محمول على ما إذا كان لا يجد بدا منه إما لصعوبتها) ش: أي لصعوبة الدابة. م: (أو لعجزه) ش: أي أو لعجز نفسه م: (أو لكون العلف في عدل واحد، وأما إذا كان يجد بدا منه لانعدام ما ذكرناه يكون رضا) ش:.
وفي " خلاصة الفتاوى " فلو حمل علف دابة أخرى وركبها أو لم يركبها فهو رضا، وقال ابن دريد: العدل بالكسر إذا عدل بمثله.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى عبدا قد سرق ولم يعلم به) ش: ولم يعلم المشتري بكون العبد قد سرق لا وقت البيع ولا وقت القبض كذا ذكره التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فقطع عند المشتري) ش: أي قطعت يده عند المشتري لثبوت سرقه م: (له) ش: أي للمشتري م: (أن يرده ويأخذ الثمن عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي جميع الثمن هكذا ذكر في عامة شروح الجامع الصغير، وهكذا في بعض روايات المبسوط في " جامع التمرتاشي "، وبعض روايات " المبسوط " يرجع بنصف الثمن.
وقول من قال: يرجع بكل الثمن ينصرف إلى اختيار رد العبد المقطوع، وقول من قال: بالنصف ينصرف إلى اختيار إمساك.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (يرجع بما بين قيمته سارقا إلى غير سارق) ش: يعني يقوم سارقا وغير سارق فيرجع بفضل ما بينهما من الثمن م: (وعلى هذا الخلاف) ش: المذكور بين أبي حنيفة وصاحبيه م: (إذا قتل) ش: أي العبد م: (بسبب وجد في يد البائع) ش: صورته اشترى عبدا مباح الدم لقود أو ردة أو قطع طريق فقتل عند المشتري يرجع على البائع بكل الثمن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول وهو اختيار المزني وأبي إسحاق المروزي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما يقوم مباح الدم ومعصوم الدم فيرجع بفضل ما بينهما وبه قال الشافعي -(8/131)
والحاصل أنه بمنزلة الاستحقاق عنده، وبمنزلة العيب عندهما. لهما أن الموجود في يد البائع سبب القطع والقتل، وأنه لا ينافي المالية فنفذ العقد فيه، لكنه متعيب فيرجع بنقصانه عند تعذر رده، وصار كما إذا اشترى جارية حاملا فماتت في يده بالولادة فإنه يرجع بفضل ما بين قيمتها حاملا إلى غير حامل. وله أن سبب الوجوب في يد البائع، والوجوب يفضي إلى الوجود، فيكون الوجود مضافا إلى السبب السابق،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: في قول وهو اختيار ابن شريح وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من الصحابة.
وفي صحة بيع العبد الجاني له قولان: أحدهما: أنه يصح واختاره المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ - والثاني: أنه لا يصح وما ذكرنا من القولين في الرجوع بكل الثمن والنقصان على قول صحة البيع كذا في كتبهم.
م: (والحاصل) ش: من هذا الخلاف م: (أنه) ش: أي أن مستحق القطع أو مباح الدم م: (بمنزلة الاستحقاق عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإذا ظهر مستحق يرجع بكل الثمن فكذلك هنا م: (وبمنزلة العيب عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - فإذا ظهر عيب يرجع بنقصان العيب بأن يقوم عبدا قد يوجب عليه القطع وعبدا لم يجب عليه القطع ويرجع بإزاء النقصان من الثمن.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أن الموجود في يد البائع سبب القطع والقتل وأنه) ش: أي وأن سبب القطع والقتل م: (لا ينافي المالية) ش: بدليل صحة البيع ونفاذ تصرفه فيه بالعتق وغيره، ولو كان لحل الدم أثر في انعدام المالية لما صح البيع، كذا في الأسرار م: (فنفذ العقد فيه لكنه متعيب فيرجع بنقصانه عند تعذر رده) ش: أما التعذر في صورة القتل فظاهر، وكذا في صورة قطع اليد فكان بمنزلة عيب حادث عند المشتري والمعيب الحادث عنده يمنع الرد ولكنه يرجع بنقصان عيب السرقة لا بنقصان عيب القطع وبه صرح الزاهد العتابي.
لأن القطع وإن كان مضافا إلى السرقة لأنه يستحق بها لم يكن فوات المالية في ضمنه مضافا إليها لأن السرقة لا تفوت المالية والقطع يستحق من حيث إنه أدب لا من حيث إنه مال فلهذا أوجب الرجوع بنقصان عيب السرقة لا عيب القطع م: (وصار) ش: هذا م: (كما إذا اشترى جارية حاملا) ش: ولم يعلم بالحمل وقت الشراء القبض م: (فماتت في يده) ش: أي في يد المشتري م: (بالولادة فإنه يرجع بفضل ما بين قيمتها حاملا إلى غير حامل) ش: ولا يرجع بكل الثمن.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن سبب الوجوب في يد البائع) ش: أي سبب وجوب القطع أو القتل العمد وهو السرقة أو القتل حده في يد البائع م: (والوجوب) ش: أي سبب الوجوب م: (يفضي إلى الوجود، فيكون الوجود مضافا إلى السبب السابق) ش: فصار كالمستحق،(8/132)
وصار كما إذا قتل المغصوب أو قطع بعد الرد بجناية وجدت في يد الغاصب، وما ذكر من المسألة ممنوعة. ولو سرق في يد البائع ثم في يد المشتري فقطع بهما، عندهما يرجع بالنقصان كما ذكرنا، وعنده لا يرده بدون رضا البائع للعيب الحادث ويرجع بربع الثمن، وإن قبله البائع فبثلاثة الأرباع لأن اليد من الآدمي نصفه وقد تلفت بالجنايتين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والمستحق لا يتناوله العقد فينتقض القبض من الأصل لعدم مصادفة محله م: (وصار) ش: هذا م: (كما إذا قتل المغصوب) ش: أي العبد المغصوب م: (أو قطع بعد الرد) ش: إلى مولاه م: (بجناية) ش: أي بسبب جناية م: (وجدت في يد الغاصب) ش: صورته غصب رجل عبدا فقتل العبد عنده رجلا عمدا فرده على المولى فاقتص منه يده فإن الغاصب يضمن قيمته كما لو قتل في يد الغاصب.
م: (وما ذكر من المسألة ممنوعة) ش: أي مسائل الحمل، وجه المنع أنها على قولهما، وأما على قول أبي حنيفة فالمشتري يرجع على البائع بكل الثمن إذا ماتت من الولادة وقيل: إنها على الاختلاف أيضا، وإن لم يذكر الخلاف في كتاب البيوع ولئن سلمنا فنقول: الموجود في يد البائع الإعلاق، وإنه يوجب انفصال الولد ولا يفضي إلى الهلاك غالبا بل الغالب هو السلامة عند الولادة وهو نظير الزاني إذا جلد بخلاف ما إذا غصب جارية فحملت في يد الغاصب فردها فولدت في يد المالك وماتت يرجع على الغاصب.
أما هاهنا الحبل لا يمنع صحة التسليم إلى المشتري كذا في جامع العتابي " والمبسوط ". وفائدة الخلاف فيما إذا اطلع على سبب القتل والقطع ولم يقتل ولم يقطع هل يجوز رده أم لا؟ فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز رده لأنه بالاستيفاء يكون بمنزلة الاستحقاق. وعندهما يجوز وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لأنه بمنزلة العيب وكونه مستحقا للقطع أو القتل عيب سواء استوفى أم لا، وفي تتمتهم وفائدة الخلاف يظهر في أمر الكفن والدين فعلى طريقة المروزي على البائع وعلى طريقة ابن شريح على المشتري.
م: (ولو سرق) ش: أي العبد المبيع م: (في يد البائع ثم في يد المشتري فقطع بهما) ش: أي بالسرقتين م: (عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يرجع) ش: أي المشتري م: (بالنقصان) ش: أي بنقصان السرقة الموجودة عند البائع م: (كما ذكرنا) ش: يعني عند قوله وإن اشترى عبدا قد سرق ولم يعلم به إلى آخره.
م: (وعنده) ش: أي وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لا يرده بدون رضا البائع للعيب الحادث، ويرجع بربع الثمن وإن قبله البائع فبثلاثة الأرباع) ش: أي يرجع بثلاثة أرباع الثمن م: (لأن اليد من الآدمي نصفه وقد تلفت بالجنايتين) ش: وهما اللتان كانت إحداهما في يد البائع والأخرى في يد(8/133)
وفي إحداهما الرجوع فيتنصف، ولو تداولته الأيدي ثم قطع في يد الأخير رجع الباعة بعضهم على بعض عنده كما في الاستحقاق، وعندهما يرجع الأخير على بائعه ولا يرجع بائعه على بائعه؛ لأنه بمنزلة العيب، وقوله في الكتاب "ولم يعلم المشتري" يفيد على مذهبهما؛ لأن العلم بالعيب رضا به ولا يفيد على قوله في الصحيح؛ لأن العلم بالاستحقاق لا يمنع الرجوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المشتري م: (وفي إحداهما) ش: وفي إحدى الجنايتين م: (الرجوع) ش: أي رجوع المشترى على البائع بنصف الثمن م: (فيتنصف) ش: أي النصف فينقسم عليها نصفين لكون القطع مضافا إلى السرقتين فيسقط نصف النصف عن البائع وهو الربع ويضاف الربع الباقي إلى النصف فيصير ثلاثة أرباع فيرجع بها على البائع.
فإن قيل: إذا حدث عند المشتري عيب ثم اطلع على عيب كان عند البائع فقبله البائع وكذلك رجع المشتري عليه جميع الثمن فلم لم يكن هاهنا؟ كذلك أجيب: بأن هذا على قول أبي حنيفة نظر إلى جريانه مجرى الاستحقاق وما ذكرتم لا يتصور فيه.
فإن قلت: أما تذكرون ما تقدم أن حكم العيب والاستحقاق يستويان قبل القبض وهذه في غير المكيل والموزون، فما الذي أوجب الاختلاف هاهنا بينهما؟ قلنا: بلى، لكن ليس كلامنا الآن فيهما بل فيما يكون بمنزلة الاستحقاق والعيب وما ينزل الشيء لا يلزم أن يساويه في جميع الأحكام.
م: (ولو تداولته الأيدي) ش: يعني بعد وجود السرقة من العبد في يد البائع تداولته الأيدي يعني اتبع من يد إلى يد م: (ثم قطع في يد الأخير رجع الباعة) ش: وهو جمع بائع كالحاكة جمع حائك م: (بعضهم على بعض) ش: بالثمن م: (عنده كما في الاستحقاق) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وبه قال بعض أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: م: (وعندهما) ش: أي وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (يرجع الأخير على بائعه، ولا يرجع بائعه على بائعه؛ لأنه بمنزلة العيب) ش: فلا يرجع فيه وهذا لأن المشتري الأخير لم يصر حابسا حيث لم يبعه ولا كذلك الآخرون فإن البيع يمنع الرجوع بنقصان العيب.
م: (وقوله في الكتاب) ش: أي قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجامع الصغير: م: (ولم يعلم المشتري، يفيد على مذهبهما؛ لأن العلم بالعيب رضا به ولا يفيد على قوله) ش: أي على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في الصحيح؛ لأن العلم بالاستحقاق لا يمنع الرجوع) ش: وقيد بالصحيح احترازا عما روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يرجع لأن حل الدم من وجه كالاستحقاق، ومن وجه كالعيب حتى لا يمنع صحة البيع فالشبهة بالاستحقاق.(8/134)
قال: ومن باع عبدا وشرط البراءة من كل عيب فليس له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلنا: عند الجهل به يرجع بجميع الثمن ولشبهه بالعيب.
قلنا: لا يرجع عند العلم بشيء لأنه إنما جعل هذا كالاستحقاق لدفع الضرر عن المشتري وقد اندفع حين علم به واشتراه وفي " شرح الطحاوي " إذا كان المشتري عالما، وقت العقد وقبل القبض صار راضيا بالعيب فلا يرجع على بائعه بشيء في قولهم جميعا.
وقال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والصحيح أن العلم والجهل سواء لأنه من قبيل الاستحقاق والعلم بالاستحقاق لا يمنع الرجوع، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قيل فيه نظر.
قلت: القائل بالنظر هو الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث قال: لأنا نقول سلمنا أن العلم بالاستحقاق لا يمنع الرجوع، لكن لا نسلم أن العلم بالعيب لا يمنع الرجوع، وهذا عيب لأنه موجب لنقصان الثمن.
ولكنه أجري مجرى الاستحقاق عند أبي حنيفة -رحمة الله عليه - ونزل منزلته لا حقيقة لأن في حقيقة الاستحقاق سواء كان عالما بذلك أو جاهلا قبل القبض أو بعده يبطل البيع ويرجع بجميع الثمن في قولهم جميعا وبه صرح في " شرح الطحاوي " وهنا لا يبطل البيع، ولهذا لو أعتق المشتري قبل القتل أو القطع صح عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا إلا أنه لا يرجع عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بشيء إذا قتل أو قطع بعد الإعتاق بسبب كان عند البائع لأن القتل أو القطع لم يفوت المالية لعدم المالية حينئذ، وعندهما يرجع بالعيب - أعني نقصان عيب السرقة ونقصان كونه حلال الدم - لأن الملك ينتهي ويتقرر بالإعتاق كالموت فلا يبطل الرجوع، هذا آخر كلام الأترازي.
والأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يذكر كلام الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بكماله فأخذ بعضه ثم قال: قيل: فيه نظر ثم قال: والجواب أن كونها أصح أو صحيحا ويجوز أن يكون من حيث صحة النقل وشهرته فلا يرد السؤال ويجوز أن يكون من حيث الدليل.
وقوله في النظر: وهذا عيب ممنوع لأنهم صرحوا بأنه بمنزلة العيب أو أنه عيب من وجه، وإذا كان كذلك فلا يلزم أن يكون حكمه حكم العيب من كل وجه، وقد ترجح جانب الاستحقاق بالدلائل المتقدمة فأجري مجراه، وهذا آخر كلام الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: جوابه لا يخلو عن خدش على ما لا يخفى، وقوله في النظر: وهذا عيب ممنوع غير مسلم؛ لأن تعليله يدل على جواز القول بأنه عيب فليتأمل.
[باع عبدا وشرط البراءة من كل عيب]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومن باع عبدا وشرط البراءة من كل عيب فليس له(8/135)
أن يرده بعيب، وإن لم يسم العيوب بعددها، وقال الشافعي: لا تصح البراءة، بناء على مذهبه أن الإبراء عن الحقوق المجهولة لا يصح، وهو يقول: إن في الإبراء معنى التمليك حتى يرتد بالرد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن يرده بعيب، وإن لم يسم العيوب بعددها) ش: وفي بعض النسخ فليس له أن يرده وإن لم يعدها أي العيوب.
قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو الصحيح قوله ليس له أن يرده بعيب لصحة الشرط والبيع، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: البيع صحيح والشرط فاسد إذا كان مجهولا، وفي " المختلف " البيع باطل وعلى قوله فاسد إذا عد العيوب صحة البراءة أيضا.
م: (وقال الشافعي: لا تصح البراءة بناء على مذهبه أن الإبراء عن الحقوق المجهولة لا يصح) ش: للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه طريقان أشهرهما وبه قال ابن شريح وابن الوكيل والإصطخري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يبرأ وبه قال علماؤنا: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون عند شروطهم» .
ويروى ذلك عن ابن عمر وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وثانيها: أنه لا يبرأ عن عيب وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وعنه يبرأ عما لا يعلمه دون ما يعلمه.
وثالثها: وهو الأصح.
ويروى عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يبرأ في غير الحيوان ويبرأ في الحيوان عما لا يعلمه دون ما يعلمه لما روي أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - باع عبدا من زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بشرط البراءة فوجد زيد به عيبا فأراد رده فلم يقبله ابن عمر، فترافعا إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال عثمان لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: تحلف أنك لم تعلم بهذا العيب؟ فقال: لا فرده عليه، فرق عثمان وزيد بين كون العلم معلوما وغير معلوم، والطريق الثاني وبه قال ابن خيران وأبو إسحاق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - القطع بالقول الثالث ونصه في " المختصر " كذا في " شرح الوجيز ".
وفي " الحلية " لو قلنا: الشرط باطل فهل يبطل البيع؟ فيه وجهان أظهرهما أنه يبطل م: (هو) ش: أي الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (يقول: إن في الإبراء معنى التمليك حتى يرتد بالرد) ش: حتى إن رب الدين لو أبرأ المديون من دينه فرد المديون إبراءه لم يصح الإبراء وكذا لا يصح تعليق الإبراء بالحظر بأن قال: أبرأتك عن العيب أو الدين إن فعلت كذا لما فيه من معنى التمليك.(8/136)
وتمليك المجهول لا يصح، ولنا أن الجهالة في الإسقاط لا تفضي إلى المنازعة، وإن كان في ضمنه التمليك لعدم الحاجة إلى التسليم فلا تكون مفسدة، ويدخل في هذه البراءة العيب الموجود، والحادث قبل القبض في قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وتمليك المجهول لا يصح) ش: كبيع شاة من قطيع غنم م: (ولنا أن الجهالة في الإسقاط لا تفضي إلى المنازعة) ش: والإبراء إسقاط لا تمليك حتى يتم بلا قبول لأنه لا يصح تمليك العين بهذه اللفظة، ويصح الإبراء بأسقطت عنك ديني، والجهالة فيه لا تفضي إلى المنازعة، لأن الجهالة إنما أبطلت التمليكات لفوت التسليم الواجب بالعقد وهو لا يتصور في الإسقاط فلا يكون مبطلا له، ولهذا جاز طلاق نسائه وإعتاق عبيده وهو لا يدري عددهم.
م: (وإن كان في ضمنه التمليك) ش: هذا جواب عن قوله: يرتد بالرد، وتقريره أن ذلك لما فيه من معنى التمليك ضمنا وهو لا يؤثر في فساد ما قلناه لأنا بينا أن محض التمليك لا يبطل بجهالة م: (لعدم الحاجة إلى التسليم) ش: لأن السقط الساقط مثلا م: (فلا تكون مفسدة) ش: كما إذا باع قفيزا من صبرة.
فإن قلت: في " الجامع الصغير " في كتاب الهبة إذا قال من له على آخر ألف درهم: إذا جاء غدا فأنت منها بريء فهو باطل فلا يصح تمليك المجهول.
قلت: إنما لا يصح التعليق فيه لأنه إنما يصح في الإسقاط المحض لا في إسقاط فيه معنى التمليك.
فإن قلت: إذا قال أبرأتك يصح، وإذا قال أبرأت أحدكما لا يصح فظهر الفرق بين المعلوم والمجهول. قلت: أبرأت أحدكما يصح أيضا عند بعض أصحابنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويجيز على التعيين. كذا في " الأسرار "، ولئن سلمنا أنه لا يصح فنقول: إنما لم يصح لأن من له الحق مجهول لا لأن الحق مجهول، ألا ترى إلى من قال: لفلان علي شيء يصح، ولو قال لفلان علي ألف درهم لا يصح ولا يلزم على هذا ما إذا قال: لامرأته إحداكما طالق، لأن الطلاق بعد وقوعه يكون حقا لله تعالى وهو معلوم والدليل على أن الحق لله تعالى أنهما لو تراضيا على إسقاطه لا يصح.
م: (ويدخل في هذه البراءة) ش: إنما قال في هذه البراءة احترازا عن البراءة التي شرطها البائع في قوله بعته على أني بريء من كل عيب به فإنه لا يبرأ عن الحادث بالإجماع كذا في " الإيضاح " وغيره م: (العيب الموجود) ش: فيه وقت العقد م: (والحادث) ش: أي ويدخل العيب الحادث فيه م: (قبل القبض في قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي في ظاهر الرواية عنه وهو قول أبي حنيفة أيضا.(8/137)
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يدخل فيه الحادث، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن البراءة تتناول الثابت، ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الغرض إلزام العقد بإسقاط حقه عن صفة السلامة، وذلك بالبراءة عن الموجود والحادث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يدخل فيه الحادث، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: والحسن والشافعي ومالك وأبي يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية م: (لأن البراءة تتناول الثابت) ش: فتنصرف إلى الموجود عند العقد م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الغرض إلزام العقد) ش: أي أن المقصود من البراءة إلزام العقد م: (بإسقاط حقه) ش: أي حق المشتري م: (عن صفة السلامة) ش: أي سلامة البيع م: (وذلك) ش: أي التزام العقد يكون م: (بالبراءة عن الموجود والحادث) ش: جميعا.
وذكر الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره": فإن قال البائع: أبيعك على أني بريء من كل عيب به لم يدخل في البراءة العيب الحادث في جميع الروايات عن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - ووجهه أنه لما قال به خص الموجود بالبراءة ولم يتجاوز غيره، وروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لو شرط في العقد البراءة من العيوب التي تحدث فسد البيع.
وفي الخلاصة ولو تبرأ البائع من كل عيب يدخل فيه العيوب والأدواء، فإن تبرأ من كل داء فهو على المرض ولا يدخل فيه الكمي ولا الأصبع الزائدة ولا أثر جرح قد برأ، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الداء هو المرض الذي في الجوف من طحال أو كبد أو نحو ذلك.
وفي " الخلاصة " أيضا رجل باع عبدا أو جارية وقال: أنا بريء من كل داء ولم يقل من كل عيب فإنه لا يبرأ عن العيوب لأن الداء يدخل في العيوب، أما العيب لا يدخل في الداء، ولو قال المشتري: الجارية برئت إليك من كل عيب بعينها، فإذا هي عوراء لا تبرأ، وكذا لو قال برئت إليك من كل عيب بيدها وهي مقطوعة اليد؛ لأن البراءة عن عيب اليد والمعين يكون حال قيام اليد والعين لا حال عدمها.
وفي " شرح الطحاوي " ولو اختلفا في العيب في أنه موجود وقت العقد أم لا فقال المشتري: هو حادث فلم يدخل في البراءة، وقال البائع: كان موجودا يدخل في البراءة. فعلى قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا فائدة لهذا الاختلاف لأنه لا يبرأ عنهما جميعا عنده وإنما هو على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فعلى قوله القول قول البائع مع يمينه أنه حادث وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - القول للمشتري.(8/138)
باب البيع الفاسد وإذا كان أحد العوضين أو كلاهما محرما فالبيع فاسد، كالبيع بالميتة
والدم والخمر والخنزير، وكذا إذا كان غير مملوك كالحر. قال العبد الضعيف: هذه فصول جمعها وفيها تفصيل نبينه إن شاء الله تعالى، فنقول: البيع بالميتة والدم باطل، وكذا بالحر؛ لانعدام ركن البيع وهو مبادلة المال بالمال، فإن هذه الأشياء لا تعد مالا عند أحد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب البيع الفاسد]
[تعريف البيع الفاسد]
م: (باب البيع الفاسد) ش: أي هذا الباب في بيان أحكام ولقب الباب بالفاسد، وإن كان مشتملا عليه وعلى الباطل لكثرة وقوعه بتعدد أسبابه، والباطل هو ما لا يكون صحيحا أصلا ووصفا، والفاسد هو ما لا يصح وصفا وكل ما أورث خللا في ركن البيع فهو مبطل، وما أورثه في غيره كالتسليم والتسلم الواجبين به والانتفاع المقصود منه والإطلاق عن شرط لا يقتضيه وغير ذلك فهو مفسد.
وحاصل الكلام الباطل ما لا يكون مشروعا بأصله ووصفه لانتفاء ركنه ومحله يقال: بطل اللحم إذا برد وسوس بحيث لا ينتفع به، والفاسد ما يكون مشروعا بأصله دون وصفه ويثبت به الملك إذا اتصل به القبض، يقال: فسد اللحم إذا صار ذا نتن بحيث يمكن الانتفاع به، والمكروه ما كان مشروعا بأصله ووصفه ولكن جاوزه بشيء آخر منهي عنه على هذا تفصل المسائل المذكورة في الكتاب.
م: (وإذا كان أحد العوضين) ش: المبيع والثمن م: (أو كلاهما) ش: أي أو كان كلاهما م: (محرما فالبيع فاسد كالبيع بالميتة) ش: والميتة في اللغة هو الذي مات حتف أنفه، وإنما قيدنا باللغة لنخرج المحتوفة وأمثالها، فإن ذلك عند من ليس له دين سماوي بمنزلة الذبيحة عندنا. ولهذا إذا باعوا ذلك فيما بينهم جاز، ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في التجنيس، وإن كان ميتة عندنا بخلاف الميتة حتف أنفه، فإن بيعه فيما بينهم لا يجوز، ولأنها ليست بمال عندهم، فعلى هذا يكون قوله فالبيع فاسد بلام الاستغراق على عمومه في بياعات المسلمين وغيرهم.
م: (والدم والخمر والخنزير، وكذا إذا كان غير مملوك كالحر) ش: هذا كله لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مختصره، ولهذا م: (قال العبد الضعيف) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (هذه فصول جمعها) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وفيها تفصيل نبينه إن شاء الله تعالى فنقول: البيع بالميتة والدم باطل، وكذا بالحر) ش: أي وكذا البيع بالحر م: (لانعدام ركن البيع وهو) ش: أي ركن البيع م: (مبادلة المال بالمال، فإن هذه الأشياء) ش: أي الميتة والدم والخنزير والخمر والحر م: (لا تعد مالا عند أحد) ش: فمن له دين سماوي لأن الذي ليس له دين سماوي كالجماد فلا يعتبر.(8/139)