تعليق العتق بالشرط فلا يمتنع به البيع والهبة، كما في سائر التعليقات، وكما في المدبر المقيد ولأن التدبير وصية وهي غير مانعة من ذلك. ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المدبر لا يباع ولا يوهب ولا يورث» وهو حر من الثلث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبعد موته. م: (لأنه) . ش: أي لأن التدبير. م: (تعليق العتق بشرط، فلا يمتنع به البيع والهبة كما في سائر التعليقات) . ش: قبل وجود الشرط، فكذا في هذا التعليق. م: (وكما في المدبر المقيد) . ش: فإنه يجوز بالاتفاق. م: (ولأن التدبير وصية) . ش: يعتق بدليل أنه يعتبر من الثلث. م: (وهي غير مانعة من ذلك) . ش: إذ الوصية غير مانعة من البيع والهبة وغيرهما، لأن الوصايا ليست بلازمة ولهذا يجوز الرجوع عنها صريحة ودلالة، فكذا هذه الوصية.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) . ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: «المدبر لا يباع ولا يوهب ولا يورث وهو حر من الثلث» . ش: هذا الحديث أخرجه الدارقطني بنص: " لا يورث " من رواية عبيدة بن حسان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر من ثلث المال» .
قال الدارقطني: لم يسنده غير عبيدة بن حسان وهو ضعيف، وإنما هو عن ابن عمر من قوله وقال الأترازي: ولنا ما ذكر محمد في الأصل حديث أبي جعفر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «باع خدمة المدبر ولم يبع رقبته» يعني أجر المدبر.
وروى أصحابنا في " المبسوط " وغيره عن ابن عمر «المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر من ثلث المال» . وقال الأترازي أيضاً: وجه قول الشافعي ما روى جابر في صحيح البخاري «أعتق رجل منا عبد له عن دبر فدعى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به فباعه، قال جابر مات الغلام عام أو قال في السنين اشتراه نعيم بن عبد الله بن النجاد بثمانمائة درهم» . وفي بعض الروايات بسبع أو تسعمائة.
وقال في " جامع الترمذي ": كان عبداً قبطياً مات في إمارة ابن الزبير فلو لم يجز بيع المدبر لما باعه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال الأترازي: وما رواه الشافعي يحمل على المدبر المقيد أو على ابتداء(6/88)
ولأنه سبب الحرية، لأن الحرية تثبت بعد الموت، ولا سبب غيره ثم جعله سببا في الحال أولى لوجوده في الحال وعدمه بعد الموت ولأن ما بعد الموت حال بطلان أهلية التصرف، فلا يمكن تأخير السببية إلى زمان بطلان الأهلية، بخلاف سائر التعليقات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإسلام حين كان يباع الحر أو على بيع الخدمة لا الرقبة توفيقاً بين حديثنا وحديثه، وكان من قبل الشافعي قد أجمعوا على عدم جواز بيعه مع أبي حنيفة وسفيان ومالك والأوزاعي ثم لما نشأ الشافعي بعدهم جوزه فصار هذا منه خرقاً للإجماع فلا يجوز، انتهى كلامه.
قلت: في كلامه نظر في موضعين.
الأول: قول توفيقاً بين حديثنا وحديثه، وكيف يوفق بينهما وحديثه صحيح وحديثنا لم يبلغ إلى الصحة.
والثاني: إن قوله فصار هذا منه خرقاً للإجماع غير مسلم، لأن الشافعي لم ينفرد، وهو مذهب جابر وعطاء، ووافقه أحمد وإسحاق وداود.
م: (ولأنه) . ش: أي ولأن التدبير. م: (سبب الحرية، لأن الحرية تثبت بعد الموت) . ش: بالإجماع. م: (ولا سبب غيره، ثم جعله سبباً في الحال أولى لوجوده في الحال وعدمه بعد الموت) . ش: لكون كلامه عرضاً لا يبقى، فتعين أن يكون سبباً في الحال، ولا يقال إنه موجود حكماً بعد موته، وإن كان معدوماً كما جعل كالموجود في بعض الأحكام، لأنا نقول الشيء إنما يصير موجوداً حكما إذا أمكن وجوده حقيقة، ولا إمكان لوجوده حقيقة بعد الموت لاستحالة وجود الفعل من الميت.
وقال الأترازي: وما قاله صاحب " الهداية " قبل باب عتق أحد العبدين بقوله - وفي المدبر ينعقد السبب بعد الموت - فذاك منه تناقض لا محالة. وقال الأكمل: يحمل ما ذكر هنا على غير الأولى، فيندفع التناقض، أو يكون قد اطلع على رواية عن أصحابنا أنه يجوز، وأن يكون سبباً بعد الموت، أو اختيار جوازه بالاجتهاد.
م: (ولأن ما بعد الموت حال بطلان أهلية التصرف، فلا يمكن تأخير السببية إلى زمان بطلان الأهلية) . ش: فلا يتصور انعقاد السبب من غير الأهل. م: (بخلاف سائر التعليقات) . ش: هذا جواب عما يقال في التدبير تعليق شيء من السبب ثابتا في الحال وإنما يكون عند الشرط فما بال التدبير يخالف سائر التعليقات فأجاب بقوله: بخلاف سائر التعليقات قال الكاكي هو متعلق بقوله حال بطلان أهلية التصرف، وأهلية التصرف باقية في سائر التعليقات عند وجود الشرط. أما هاهنا لا تبقى أهلية التصرف بعد موته، فلو لم يجعل سببا في الحال بقي كلامه من كل وجه.
فإن قيل: وجود أهلية المعلق حال وجود الشرط ليس بشرط، لما مر أنه لو علق الطلاق أو العتاق ثم جن ثم وجد الشرط وهو مجنون يقعان، فكان التدبير بمنزلة سائر التعليقات(6/89)
لأن المانع من السببية قائم قبل الشرط لأنه يمين واليمين مانع والمنع هو المقصود، وإنه يضاد وقوع الطلاق والعتاق وأمكن تأخير السببية فيه إلى زمان الشرط لقيام الأهلية عنده فافترقا، ولأنه وصية والوصية خلافة في الحال كالوراثة وإبطال السبب لا يجوز وفي البيع وما يضاهيه ذلك. قال: وللمولى أن يستخدمه ويؤاجره وإن كانت له أمة يحل وطؤها وله أن يزوجها، لأن الملك فيها ثابت له وبه يستفاد ولاية هذه التصرفات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلنا: الأهلية فيما نحن فيه تبطل من كل وجه. وفي المجنون من وجه، فإنه أهل للملك وزواله قد يكون أهلاً لإيقاع الطلاق والعتاق، ألا ترى أن الولي لو زوجه امرأة يصح النكاح، ولو باشر هو بنفسه أسباب حرمة المصاهرة، ولو ارتد ولحق بدار الحرب يثبت الحرمة بينه وبين منكوحته، وفي الموت تبطل الأهلية من كل وجه، ألا ترى أن نفس التعليق يبطل بالموت ولا يبطل بالجنون، فعلى هذا لا يلزم من عدم اشتراط مثل هذه الأهلية. م: (لأن المانع من السببية) . ش: وثم يعني موجود. م: (قبل الشرط) . ش: لأنه انعقد تصرفاً آخر في الحال. م: (لأنه يمين) . ش: يعني لأنه لا يصير يميناً. م: (واليمين مانع) . ش: من مباشرة الشروط والمانع من الشروط مانع من الحكم، والمانع من الحكم لا يكون سبباً للحكم. م: (والمنع هو المقصود) . ش: أي المنع عن تحقيق الشرط هو المقصود. م: (وإنه) . ش: أن وإن المنع. م: (يضاد وقوع الطلاق والعتاق) . ش: أي المانع لوقوعهما يضاد وقوعها، فيكون التعليق سببا في الحال. م: (وأمكن تأخير السببية فيه إلى زمان الشرط) . ش: أي إلى زمان وقوع الشرط. م: (لقيام الأهلية عنده فافترقا) . ش: أي فافترق التدبير المطلق وسائر التعليقات.
م: (ولأنه) . ش: أي ولأن التدبير. م: (وصية) . ش: هذا فرق آخر بين التدبير وسائر التعليقات. م: (والوصية خلافة في الحال) . ش: لأن الموصي يجعل الموصى له خلافاً بعض ماله بعد الموت كالورثة، وإنها ليست بخلافة في الحال. واعترض أن لو كان وصية ليبطل إذا قتل المدبر سيده، لأن الوصية للقاتل لا يجوز وجاز البيع، لأن الوصي يجوز له بيع الموصى به، ويكون رجوعاً عن الوصية، وليس الأمر كذلك، والجواب عنها جميعاً أن ذلك في وصيته ولم يكن على وجه التعليق، لأن الوصية المطلقة والتدبير ليس كذلك. ووجه انتقاص ذلك أن بطلان الوصية بالنقل وجواز البيع وكونه رجوعاً إنما يصح في موصى به يقبل الفسخ والبطلان والتدبير، لكونه إعتاقاً لا يقبل ذلك.
م: (وإبطال السبب) . ش: تتمة الدليل متصل بقوله لأنه بسبب الحرية. م: (وفي البيع وما يضاهيه) . ش: أي وما يشابهه مثل الهبة والصدقة. م: (ذلك) . ش: إشارة إلى إبطال التدبير فلا يجوز.
م: (قال) . ش: أي القدوري. م: (وللمولى أن يستخدمه ويؤاجره) . ش: لأن التدبير المطلق لا يرسل الملك في الحال. م: (وإن كانت له أمة يحل وطؤها وله أن يزوجها لأن الملك فيها ثابت له) . ش: أي للمولى. م: (وبه) . ش: أي وعتق المدبر من ثلث ماله. م: (يستفاد ولاية هذه التصرفات) . ش: إشارة(6/90)
فإذا مات المولى عتق المدبر من ثلث ماله لما روينا، ولأن التدبير وصية، لأنه تبرع مضاف إلى وقت الموت والحكم غير ثابت فينفذ من الثلث حتى لو لم يكن له مال غيره يسعى في ثلثيه، وإن كان على المولى دين يسعى في كل قيمته لتقدم الدين على الوصية، ولا يمكن نقض العتق، فيجب رد قيمته،
وولد المدبرة مدبر، وعلى ذلك نقل إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
وإن علق التدبير بموته على صفة مثل أن يقول: إن مت من مرضي هذا أو سفري هذا أو من مرض كذا فليس بمدبر، ويجوز بيعه، لأن السبب لم ينعقد في الحال لتردده في تلك الصفة بخلاف المدبر المطلق، لأنه تعلق عتقه بمطلق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى الاستخدام والإجارة، والوطء والتزويج. م: (فإذا مات المولى عتق المدبر من ثلث ماله) . ش: وقال ابن مسعود ومسروق ومجاهد وسعيد بن جبير: يعتق من رأس المال، وبه قال زفر والليث بن سعد. م: (لما روينا) . ش: إشارة إلى حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -. م: (لأن التدبير وصية لأنه تبرع يضاف إلى وقت الموت والحكم) . ش: وهو العتق. م: (غير ثابت في الحال فينفذ من الثلث حتى لو لم يكن له مال غيره) . ش: أي غير المدبر. م: (يسعى في ثلثيه وإن كان على المولى دين يسعى في كل قيمته لتقدم الدين على الوصية ولا يمكن نقض العتق) . ش: يعني فسخه،. م: (فيجب رد قيمته) . ش: التي سميت له.
[ولد العبد المدبر]
م: (وولد المدبرة مدبر) . ش: هذا لفظ القدروي في مختصره وعامة النسخ هاهنا بالتأنيث في المضاف إليه وهو الصواب، وفي بعض النسخ بالتذكير قال الأترازي: وليس بصحيح، لأن ولد العبد المدبر لا يخلو إما أن يكون من أمة أو حرة، فإن كان من أمة يكون رقيقاً لمولاه، ولا يكون مدبراً كابنه، وإن كان من حرة يكون حراً بخلاف ما إذا كان ولد من أمة مدبرة، فإنه يكون مدبراً اتباعاً لأمه، لأن الأوصاف القارة في الأمهات تسري إلى الأولاد.
ولهذا شرح في " الشامل " بالتأنيث، وقال: وولد المدبرة بمنزلتها لما روي عن عثمان وزيد بن ثابت وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أن ولد المدبرة مدبر وكذلك في " فتاوى الولوالجي "، حيث قال: وولد المدبرة بمنزلتها كولد الحرة، وهذا مذهبنا، وقال الشافعي: لا يدخل الولد في تدبيرها.
م: (وعلى ذلك) . ش: أي كون ولد المدبرة مدبراً. م: (نقل إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -) . ش: لأنه روي أن خوصم عثمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في أولاد مدبرة فقضى أن ما ولدته قبل التدبير عبد، وما ولدته بعد التدبير مدبر، وقال ذلك بمحضر من الصحابة من غير خلاف.
[علق التدبير بموته على صفة]
م: (وإن علق التدبير بموته على صفة مثل أن يقول: إن مت من مرضي هذا أو سفري هذا أو من مرض كذا فليس بمدبر، ويجوز بيعه، لأن السبب لم ينعقد في الحال لتردده في تلك الصفة) . ش: لأنه ربما يرجع من تلك السفر، ويبرأ من ذلك المرض. م: (بخلاف المدبر المطلق، لأنه تعلق عتقه بمطلق(6/91)
الموت فإن مات المولى على الصفة التي ذكرها عتق كما يعتق المدبر، معناه من الثلث لأنه ثبت حكم التدبير في آخر جزء من أجزاء حياته لتحقق تلك الصفة فيه، فلهذا يعتبر من الثلث، ومن المقيد أن يقول إن مت إلى سنة أو عشر سنين لما ذكرنا بخلاف ما إذا قال إلى مائة سنة ومثله لا يعيش إليه في الغالب؛ لأنه كالكائن لا محالة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الموت) . ش: وهو كائن لا محالة تحقيق هذا أن المعلق به إذا كان على خطر الوجود كان بمعنى اليمين وقد عرفت أن صفة كونه يميناً يمنع من السببية، وأما إذا كان أمراً كائناً لا محالة لم يكن في معنى اليمين، فكان سبباً.
فإن قيل: إذا لم ينعقد السبب في الحال ففي أي وقت ينعقد، فإن انعقد بعد الموت فليس بحال أهلية الإيجاب، وإن انعقد قبله فكيف يجوز معه، فالجواب أنه موقوف.. م: (فإن مات المولى على الصفة التي ذكرها عتق كما يعتق المدبر، معناه) . ش: أي معنى قول القدوري عتق. م: (من الثلث لأنه ثبت حكم التدبير في آخر جزء من أجزاء حياته لتحقق تلك الصفة منه، فلهذا) . ش: إيضاح لثبوت الحكم في آخر جزء من أجزاء حياته. م: (يعتبر من الثلث ومن المقيد) . ش: أي من جملة التدبير المقيد. م: (أن يقول: إن مت إلى سنة أو عشر سنين فأنت حر لما ذكرنا) . ش: أي التردد في الصفة. م: (بخلاف ما إذا قال إلى مائة سنة فأنت حر ومثله لا يعيش إليه) . ش: إلى ذلك الوقت. م: (في الغالب) . ش: يكون مدبراً. م: (لأنه كالكائن لا محالة) . ش: وهذا الذي ذكره رواية الحسن عن أبي حنيفة في " المنتقى "، وبه قال مالك. وذكر الفقيه أبو الليث في " النوازل ": أن رجلاً قال لعبد: أنت حر إن مت إلى مائتي سنة قال أبو يوسف: هذا مدبر مقيد، وله أن يبيعه. وقال الحسن بن زياد: لا يجوز بيعه، لأنه علم أنه لا يعيش إلى تلك المدة، فصار كأنه قال: إذا مت فأنت حر.(6/92)
باب الاستيلاد
إذا ولدت الأمة من مولاها فقد صارت أم ولد له لا يجوز بيعها ولا تمليكها، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أعتقها ولدها»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الاستيلاد] [تعريف الاستيلاد]
م: (باب الاستيلاد) .
ش: أي هذا باب في بيان حكم الاستيلاد، وهو طلب الولد لغة وأم الولد من الأسماء الغالبة على بعض من يقع عليه الاسم كالنجم للثريا. وفي الشرع أم الولد مملوكة يثبت نسب ولدها من مالك لها أو مالك له بعضها، وذلك لأن الاستيلاد اتباع ثابت النسب، فإذا ثبت النسب ثبت الاستيلاد وإلا فلا. ولما فرغ من بيان التدبير شرع في بيان الاستيلاد وعقيبه لمناسبة بينهما من حيث إن كل واحد منهما حق الحرية حقيقتها.
[بيع أم الولد]
م: (إذا ولدت الأمة من مولاها فقد صارت أم ولد لا يجوز بيعها) . ش: خلافاً لبشر بن غياث وداود تابعه من الظاهرية، واحتجوا بما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله أنه قال «بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر، " فلما كان عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - نهانا فانتهينا» وذكر ابن حزم في " المحلى ": أن بيعها مروي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وعلي وابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وزيد بن ثابت، وعن عمر: أنها إن عتقت وأسلمت عتقت، وإن كفرت وفجرت رقت، وروي مثله عن عمر بن عبد العزيز، وأجاب أصحابنا بأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لما نهى عن ذلك أجمعوا عليه.
واحتجوا أيضاً بما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أيما رجل ولدت أمته منه فهي معتقة عن دبر منه» رواه أحمد وابن ماجه، وهو حديث مشهور تلقته الأئمة بالقبول «قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مارية القبطية أم إبراهيم حين قيل له " ألا تعتقها، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " أعتقها ولدها» ، رواه ابن ماجه والدارقطني. وقال الخطابي: وقد ثبت أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» فلو كانت مارية مالاً لبيعت وصار ثمنها صدقة.
م: (ولا تمليكها، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) . ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: «أعتقها ولدها» . ش: هذا(6/93)
أخبر عن إعتاقها فيثبت بعض مواجبه وهو حرمة البيع، ولأن الجزئية قد حصلت بين الواطئ والموطوءة بواسطة الولد، فإن الماءين قد اختلطا بحيث لا يمكن التمييز بينهما على ما عرف في حرمة المصاهرة، إلا أن بعد الانفصال تبقى الجزئية حكما لا حقيقة، فضعف السبب، فأوجب حكما مؤجلا إلى ما بعد الموت، وبقاء الجزئية حكما باعتبار النسب، وهو من جانب الرجل، فكذا الحرية تثبت في حقهم لا في حقهن، حتى إذا ملكت الحرة زوجها وقد ولدت منه لا يعتق بموتها وثبوت عتق مؤجل يثبت حق الحرية في الحال فيمتنع جواز البيع وإخراجها لا إلى الحرية في الحال ويوجب عتقها بعد موته، وكذا إذا كان بعضها مملوكا له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قاله في مارية القبطية، وقد مر الآن. م: (أخبر عن إعتاقها) . ش: أي أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن إعتاق مارية. م: (فيثبت بعض مواجبه وهو) . ش: أي بعض مواجب قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:. م: (حرمة البيع) . ش: أي بيعها، لأن الحديث وإن دل على تنجيز الحرية، لكن عارضه ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وهو المذكور آنفاً، فعملنا بهما جميعاً، ومبنى البيع في الحديث الأول، والتنجيز بالحديث الثاني لا يقال محلية البيع معلومة فيهما بيقين، فلا يرتفع إلا بيقين مثله وخبر الواحد لا يوجبه، لأنا نقول الأحاديث الدالة على عتقها من المشاهير، وقد انضم إليها الإجماع اللاحق، فرجحناها.
م: (ولأن الجزئية قد حصلت بين الواطئ والموطوءة بواسطة الولد، فإن الماءين قد اختلطا بحيث لا يمكن التمييز بينهما) . ش: أي بين المائين. م: (على ما عرف في حرمة المصاهرة) . ش: وهي تمنع بيعها وهبتها، لأن بيع جزء الحر وهبته حرام. م: (إلا بعد الانفصال) . ش: جواب عما يقال لو كانت هذه الجزئية معتبرة لتنجز العتق، لأن الجزئية توجبه ولستم قائلين به، فأجاب بقوله بعد الانفصال. م: (تبقى الجزئية حكماً لا حقيقة فضعف السبب) . ش: أي سبب العتق هو الجزئية بينهما. م: (فأوجب حكماً مؤجلاً إلى ما بعد الموت) . ش: ولم يثبت في الحال ولم يجز بيعها [....] . م: (وبقاء الجزئية حكما) . ش: هذا جواب عما يقال: لو كانت الحرية حكما معتق من ملكه امرأته التي ولدت منه بعد موتها، وليس كذلك فأجاب بقوله - وبقاء الحرية حكما - أي من حيث الحكم. م: (باعتبار النسب وهو) . ش: أي النسب. م: (من جانب الرجال) . ش: أي النسب إلى الآباء لا إلى الأمهات.
م: (فكذا الحرية تثبت في حقهم) . ش: أي في حق الرجال. م: (لا في حقهن) . ش: أي في حق الأمهات. قوله - فكذا الحرية - صحت الرواية بالحاء لا بالجيم، وهذا نتيجة ما تقدم، فلهذا ذكر بالفاء، يعني أن الحرية لما كانت باعتبار النسب أنتج أن الحرية وقعت في حقهم. م: (حتى إذا ملكت الحرة زوجها، وقد ولدت منه لم يعتق) . ش: أي الزوج. م: (بموتها) . ش: أي بموت الحرة. م: (وثبوت عتق مؤجل يثبت حق الحرية في الحال، فيمتنع جواز البيع وإخراجها لا إلى الحرية في الحال، فوجب لولي وكذا إذا كان بعضها مملوكا له) . ش: يعني إذا كانت الجارية مشتركة بين اثنين فاستولدها(6/94)
لأن الاستيلاد لا يتجزأ فإنه فرع النسب فيعتبر بأصله قال وله وطؤها واستخدامها وإجارتها وتزويجها، لأن الملك فيها قائم فأشبهت المدبرة، ولا يثبت نسب ولدها إلا أن يعترف به، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يثبت نسبه منه وإن لم يدع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما يكون كل الجارية أم ولد له.
م: (لأن الاستيلاد لا يتجزأ، فإنه فرع النسب، فيعتبر بأصله) . ش: وهو النسب، فالنسب لا يتجزأ فكذلك فرعه، وهو الاستيلاد فيما يمكن نقل الملك فيه، وهذا بخلاف ما قال في باب العبد نصيبه بقوله والاستيلاد يتجزأ عنده حتى استولد نصيبه من مدبره يقتصر عليه، لأن نصيب شريك انتقل فاقتصر الاستيلاد على نسب المستولد.
قال الأترازي: ومعنى قولنا الاستيلاد لا يتجزأ فيما يمكن نقل الملك عنه، والمدبرة ليس بقابلة للنقل من ملك إلى ملك، فلا يتناقض ما قال هاهنا.
م: (قال) . ش: أي القدوري. م: (وله وطؤها) . ش: أي للمولى وطء أم ولده. م: (واستخدامها وإجارتها وتزويجها، لأن الملك فيها قائم فأشبهت المدبرة) . ش: وله أن يزوجها قبل أن يستبرئها. فإن قيل شغل الرحم بمائه محتمل، واحتمال ذلك يمنع جواز النكاح، كما في المعتدة.
أجيب: بأن محلية جواز النكاح كانت ثابتة قبل الوطء، وقد وقع الشك في زوالها، فلا يرتفع به بخلاف النكاح، فإن المنكوحة خرجت عن محلية الغير، فلا يعود إليها إلا بعد الفراغ حقيقة، وذلك بعد العدة. م: (ولا يثبت نسب ولدها) . ش: أي ولد الأمة. م: (إلا أن يعترف به) . ش: هي إن اعترف به المولى، أي بوطئها، وبه قال الثوري والشعبي، والحسن البصري، وهو مروي عن زيد بن ثابت مع العزل.
م: (وقال الشافعي: يثبت نسبه منه، وإن لم يدع) . ش: وبه قال مالك وأحمد، فإنه يثبت النسب منه إذا أقر بوطئها، وإن عزل عنها إلا أن يدعي أنه استبرأها بعد الوطء بحيضة، وهو ضعيف، لأنهم زعموا أنها بالوطء صارت فراشاً كالنكاح، وفيه يلزم الولد وإن اشتراها. ولو وطئها من دبرها يلزمه الولد عند مالك، ومثله عن أحمد، وهو وجه للشافعية وضعفوه.
وروى الطحاوي بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس: أنه كان يأتي جارية فحملت منه. فقال: ليس مني، إني آتيها إتياناً لا أريد به الولد. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - " أنه كان يعزل عن جارية فجاءت بولد أسود فشق عليه، فقال: ممن هو، فقالت من راعي الإبل، فحمد الله وأثنى عليه، ولم يلزمه ".
وعن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كان يطأ جارية مارشية ويعزل عنها فجاءت بولد فأعتق الولد وجلدها، وعنه أنه قال لها: ممن حملت، قالت: منك، فقال كذبت ما وصل إليك(6/95)
لأنه لما ثبت النسب بالعقد فلأن يثبت بالوطء وأنه أكثر إفضاء أولى. ولنا أن وطء الأمة يقصد قضاء الشهوة دون الولد لوجود المانع عنه، فلا بد من الدعوة بمنزلة ملك اليمين من غير وطء بخلاف العقد، لأن الولد يتعين مقصودا منه، فلا يحتاج إلى الدعوة فإن جاءت بعد ذلك بولد ثبت نسبه بغير إقرار، معناه بعد اعتراف منه بالولد الأول لأنه بدعوى الولد الأول يتعين الولد مقصودا منها، فصارت فراشا كالمعقودة بعد النكاح، إلا أنه إذا نفاه ينتفي بقوله، لأن فراشها ضعيف حتى ملك نقله بالتزويج، بخلاف المنكوحة، حيث لا ينتفي الولد نفيه إلا باللعان لتأكد الفراش حتى لا يملك إبطاله بالتزويج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مما يكون الحمل منه، ولم يلزمه مع اعترافه بوطئها فهو حجة عليهم.
م: (لأنه لما ثبت النسب بالعقد فلأن يثبت بالوطء، وأنه أكثر إفضاء أولى) . ش: أي والحال أنه إن كان الوطء أكثر إفضاء إلى الولد من العقد. م: (ولنا أن وطء الأمة يقصد به قضاء الشهوة دون الولد لوجود المانع عنه) . ش: أي من طلب الولد.
والمانع سقوط التقديم عنها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن أم الولد ليست بمتقومة عنده، ونقصان القيمة عند صاحبها، لأن قيمتها ثلث قيمة القن لبقاء منفعة الوطء وزوال منفعة السعاية والبيع. م: (فلا بد من الدعوة بمنزلة ملك اليمين من غير وطء) . ش: فإنه لا يثبت النسب فيه بغير الدعوة. م: (بخلاف العقد) . ش: أي عقد النكاح. م: (لأن الولد يتعين مقصوداً منه) . ش: أي من العقد، ولأن الولد هو المقصود من العقد في المنكوحة لا يقال: إن النسب باعتبار الحرية أو بما وضع لها، والعقد عدمه لا مدخل له في ذلك لأنا نقول: لو كان ذلك مراده لثبت من الزاني وليس كذلك وإنما النظر إلى الموضوعات الأصلية والعقد موضوع لذلك. م: (فلا يحتاج إلى الدعوة) . ش: ووطء الأمة ليس بموضوع فيحتاج إليها.
م: (وإن جاءت بعد ذلك بولد يثبت نسبه عنه بغير إقرار) . ش: هذا لفظ القدوري. وقال المصنف. م: (معناه) . ش: أي معنى كلام القدوري. م: (بعد اعتراف منه) . ش: أي من المولى. م: (بالولد الأول، لأنه بدعوى الولد الأول تعين الولد مقصوداً منها، فصارت فراشاً كالمعقودة بعد النكاح) . ش: أي كالمنكوحة، فلما صارت فراشا لم يكن حاجة إلى الدعوى في ثبوت النسب. م: (إلا إذا نفاه ينتفي بقوله) . ش: أي ينتفي النسب عنه بمجرد النفي من غير لعان. م: (لأن فراشها) . ش: أي فراش أم الولد. م: (ضعيف حتى يملك نقله) . ش: أي حتى يملك المولى نقل فراشه. م: (بالتزويج) .
م: (بخلاف المنكوحة حيث لا ينتفي الولد بنفيه إلا باللعان لتأكد الفراش حتى لا يملك إبطاله بالتزويج) . ش: الحاصل ثلاثة قوى كفراش الزوجة يثبت نسب ولدها من غير دعوى، ولا ينتفي إلا باللعان ووسط كفراش أم الولد يثبت نسب ولدها من غير دعوى، وينتفي من غير لعان. وضعيف كفراش الأمة لا يثبت نسب ولدها بالدعوى، وينتفي من غير لعان، فأشبه فراش أم(6/96)
وهذا الذي ذكرناه حكم فأما الديانة فإن كان وطئها وحصنها ولم يعزل عنها يلزمه أن يعترف به ويدعي، لأن الظاهر أن الولد منه، وإن عزل عنها أو لم يحصنها جاز له أن ينفيه، لأن هذا الظاهر يقابله ظاهر آخر هكذا روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفيه روايتان أخريان عن أبي يوسف وعن محمد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الولد فراش المنكوحة من وجه من حيث إن نسب ولدها يثبت من غير دعوى، فصار فيه قوة وفراش الأمة من وجه حيث ينتفي نسب ولدها بمجرد النفي فصار فيه ضعف، فكان وسطاً.
م: (وهذا الذي ذكرناه حكم) . ش: من مختصر القدوري في قوله: ولا يثبت نسب ولدها، إلا أن يعترف به بيان الحكم والقضاء يعني لا يثبت نسب ولد الأمة من المولى قبل اعترافه قضاء. م: (فأما الديانة) . ش: وهي الأمر فيما بينه وبين الله تعالى. م: (فإن كان وطئها، وحصنها ولم يعزل عنها يلزمه أن يعترف به ويدعي) . ش: أي الولد. م: (لأن الظاهر أن الولد منه، وإن عزل عنها ولم يحصنها) . ش: المراد من التحصين أن يمنعها من الخارج والبروز عن مظان الريبة والعزل أن يطأها ولا ينزل موضع المجامعة. م: (جاز له أن ينفيه، لأن هذا الظاهر) . ش: وهو أن الولد منه عند التحصين وعدم العزل. م: (يقابله ظاهر آخر) . ش: أي يعارضه ظاهر آخر وهو العزل أو يذكر التحصين فيتعارض الظاهران، فوقع الشك والاحتمال في كون الولد من المولى، فلم يلزمه الدعوة بالشك والاحتمال، فجاز نفيه.
م: (هكذا) . ش: أي لزوم الدعوى في الصورة الأولى وجواز النفي في الصورة الثانية. م: (روي عن أبي حنيفة، وفيه روايتان أخريان عن أبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) . ش: وفي بعض النسخ أخريان، وهو الصحيح، وقال الأترازي: وقال بعضهم في شرحه والأصح آخران.
قلت: أراد به الكاكي، فإنه قال هكذا، ثم قال الأترازي: وذاك ليس بشيء كآخر، وإن ثم أطال الكلام فيه، فلا يحتاج إلى ذكره، لأن من له يد في موضع هذا يعرفه، ومن لا يد له لا يفهمه.
وقال الكاكي أيضاً: قوله عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله - في بعض النسخ بتكرار عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية واحدة، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كذلك وتلك الروايات بلفظ الوجوب. كذا في " المبسوط ".
وقال الأترازي: قال بعض الشارحين، أي عن أبي يوسف رواية واحدة. وعن محمد رواية واحدة، وهو فائدة إعادة " عن ".
قلت: هذا أيضاً كلام الكاكي.
ثم قال الأترازي: ولنا نظر في إعادة - عن - لأنك إذا قلت أخذ درهما عن زيد أو عمرو بلا تكرار - عن لا يفهم الدرهمين أحداً، والدرهمين أخيرين أحداً عن عمرو، بل المفهوم أن(6/97)
ذكرناهما في " كفاية المنتهى "، وإن زوجها فجاءت بولد فهو في حكم أمه، لأن حق الحرية يسري إلى الولد كالتدبير، ألا ترى أن ولد الحرة حر وولد القنة رقيق، والنسب يثبت من الزوج، لأن الفراش له وإن كان النكاح فاسدا، إذ الفاسد ملحق بالصحيح في حق الأحكام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدرهمين بعضهما حصل عن زيد، والبعض الباقي عن عمرو، فكذا فيما نحن فيه بعض الروايتين عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبعضهما عن محمد، فيكون عن كل منهما رواية واحدة فلا حاجة إلى تكرار - عن - يوهم أن الروايتين عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وروايتان أخريان عن محمد، وليس كذلك.
م: (ذكرناهما في " كفاية المنتهى ") . ش: فإنه صنفه قبل " الهداية " وهو عزيز. وذكر الروايتين في " المبسوط "، فقال: وعن أبي يوسف إذا وطئها ولم يسترها بعد ذلك، حتى جاء بولد فعليه أن يدعيه سواء عزل عنها أو لم يعزل.
وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: لا ينبغي أن يدعي النسب إذا لم يعلم أنه منه، ولكن ينبغي أن يعتق الولد وقد يستمتع بها ويعتقها بعد موته، لأن استحقاق نسب ليس منه لا يحل شرعاً فيحتاط من الجانبين، وذلك في أن لا يدعي النسب، ولكن يعتق الولد بعتقها بعد موته لاحتمال أن يكون منه، وذكر في إيضاح تلك الروايتين بلفظ الاستحباب، فقال أبو يوسف: أحب إلي أن يدعيه، وقال محمد: أحب أن يعتق الولد إلى آخره.
م: (فإن زوجها) . ش: المولى من رجل. م: (فجاءت بولد فهو في حكم أمه) . ش: قال الحاكم في " الكافي ": فالولد بمنزلة الأم، يعني إذا مات المولى يعتقان من جميع المال. م: (لأن حق الحرية يسري إلى الولد) . ش: لأن الولد جزء الأم فيحدث إلى وصفها. م: (كالتدبير، ألا ترى أن ولد الحرة حر وولد القنة رقيق، والنسب يثبت من الزوج، لأن الفراش له) . ش: وفراشها من المولى لا يثبت نسبه منه، لأن النسب ليس بمتجزئ، فلا يثبت من المولى بعد أن ثبتت من الزوج، ويعتق ولدها بدعوى المولى وإذا لم يثبت النسب منه لإقراره بالحرية. م: (وإن كان النكاح فاسداً) . ش: وصل بما قبله. م: (إذ الفاسد) . ش: أي النكاح الفاسد. م: (ملحق بالصحيح) . ش: أي بالنكاح الصحيح. م: (في حق الأحكام) . ش: مثل ثبوت النسب ووجوب المهر والعدة، لكن بعد الدخول، لأن النكاح الفاسد لا حكم له قبل الدخول، لكونه واجب الرفع، فإذا دخل بها يكون له شبهة الصحيح، فليحق به في حق الأحكام. وقال الأترازي: قال بعضهم في شرحه، ومن الأحكام ثبوت النسب وعدم جواز البيع والوصية، فلا تعلق له بالنكاح أصلاً بالصحيح ولا بالفاسد، فلا أدري أين كان.
قلت: هذا الشارح وقت الشرح، انتهى.
قلت: أراد بالبعض الأكمل، فإنه قال في " شرحه "، ومن الأحكام ثبوت النسب إلى(6/98)
ولو ادعاه المولى لا يثبت نسبه منه؛ لأنه ثابت النسب من غيره ويعتق الولد وتصير أمه أم ولد له لإقراره، وإذا مات المولى عتقت من جميع المال لحديث سعد بن المسيب «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " أمر بعتق أمهات الأولاد، وأن لا يبعن في دين ولا يجعلن من الثلث» ولأن الحاجة إلى الولد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
آخره، وهذا يدل على أن شرح الأكمل قبل شرح الأترازي، لأنه ذكر في الرابع من شرحه أنه فرغ منه في سنة خمس وثلاثين وسبعمائة، وكان قدوم الأكمل القاهرة في سنة ثلاثين وسبعمائة ثم كان قدوم الأترازي بعد ذلك بمدة.
م: (ولو ادعاه المولى) . ش: أي لو ادعاه المولى ولد أم الولد الذي ولد من الزوج بعد أن تزوجها فولدت. م: (لا يثبت نسبه منه) . ش: أي نسب الولد من المولى. م: (لأنه ثابت النسب من غيره، ويعتق الولد وتصير أمه أم ولد له لإقراره) . ش: أي فيما إذا كانت قنة، أما إذا كانت أم ولد فأمومية الولد ثابتة قبل الدعوى.
فإن قيل: كيف تثبت أمومية الولد مع عدم ثبوت النسب وأمية الولد هاهنا مبنية على ثبوت النسب بدعوى الولد، بخلاف ابتداء الإقرار بالإسناد، فإن ذلك مبني على دعوى الولد. قلنا: مجرد الإقرار بالاستيلاد كان لثبوت الاستيلاد، وإن كان في ضمن شيء آخر لم يثبت ذلك الشيء.
م: (وإذا مات المولى عتقت من جميع المال لحديث سعيد بن المسيب «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بعتق أمهات الأولاد وأن لا يبعن في دين ولا يجعلن من الثلث» . ش: هذا حديث أخرجه الدارقطني في سننه عن عبد الرحمن الإفريقي عن مسلم بن يسار عن سعيد بن المسيب «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أعتق أمهات الأولاد وقال: أعتقهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
وأخرج الدارقطني أيضاً عن يونس بن محمد عن عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن بيع أمهات الأولاد وقال لا يبعن ولا يوهبن ولا يورثن يستمتع بها سيدها ما دام حياً، فإذا مات فهي حرة» .
م: (ولأن الحاجة إلى الولد أصلية) ش: أراد أن الولد من الجوارح الأصلية، لأن المرء يحتاج(6/99)
أصلية فتقدم على حق الورثة والدين كالتكفين بخلاف التدبير، لأنه وصية بما هو من زوائد الحوائج ولا سعاية عليها في دين المولى للغرماء لما روينا، ولأنها ليست بمال متقوم حتى لا تضمن بالغصب عند أبي حنيفة، فلا يتعلق بها حق الغرماء كالقصاص بخلاف المدبر لأنه مال متقوم،
وإذا أسلمت أم ولد النصراني فعليها أن تسعى في قيمتها، وهي بمنزلة المكاتبة لا تعتق حتى تؤدي السعاية. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تعتق في الحال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى بقاء النسل. م: (فتقدم على حق الورثة، والدين كالتكفين) . ش: المدبر على الورثة والدين لأنه وصية لكونه من الزوائد. م: (بخلاف التدبير) . ش: أي الاستيلاد بخلاف التدبير ولهذا لا يقدم ولا سعاية عليها، المدبر على الورثة والدين. م: (لأنه وصية) . ش: لكونه من زوائد التدبير وصية. م: (بما هو من زوائد الحوائج ولا سعاية عليها) . ش: أي على أم الولد. م: (في دين المولى للغرماء لما روينا) . ش: قال الكاكي إشارة إلى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أعتقها ولدها» .
وقال الأترازي: إشارة إلى حديث سعيد بن المسيب وهو «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بعتق أمهات الأولاد أن لا يبعن في دين. وفي بعض نسخ الفقه: وأن لا يبعن في دين» .
م: (ولأنها) . ش: أي ولأن أم ولد. م: (ليست بمال متقوم) . ش: لأنها تحرز إحراز الأموال. م: (حتى لا تضمن بالغصب عند أبي حنيفة) . ش: يعني إذا غصب رجل أم الولد فماتت منه نفسها عند الغاصب لم يضمنها. م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) . ش: خلافاً لهما. وأما المدبر إذا مات عند الغاصب فهو ضامن القيمة بالإعتاق لأن المدبر متقوم بالإجماع، وفي " تحفة الفقهاء ": أم الولد لا تضمن عند أبي حنيفة بالغصب ولا بالقبض في البيع الفاسد ولا بالإعتاق بأن كانت أم ولد بين شريكين فأعتقها أحدهما لم يضمن المعتق لشريكه ولم تسع أيضاً في شيء.
وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - يضمن في ذلك كله. م: (فلا يتعلق بها حق الغرماء كالقصاص) . ش: إذا قال مات وهو مديون ليس لأرباب الديون أن يأخذوا من عليه القصاص بدينهم ويستوفوا منه ديونهم بمقابلة ما وجب عليه في القصاص من ديونهم، لأن القصاص ليس بمال متقوم حتى يأخذوا بمقابلته شيئاً متقوماً وكذا إذا قتل المديون شخصاً لا يقدر الغرماء على منع ولي القصاص من استيفاء القصاص، وكذا إذا قتل رجل مديوناً، والمديون قد عفى لا يقدر الغرماء على المديون عن العفو.. م: (بخلاف المدبر لأنه مال متقوم) . ش: بالإجماع، وقد ذكرناه عن قريب.
[أسلمت أم ولد النصراني]
م: (وإذا أسلمت أم ولد النصراني فعليها أن تسعى في قيمتها، وهي بمنزلة المكاتبة لا تعتق حتى تؤدي السعاية) . ش: قال الجوهري: وسعى المكاتب في عتق رقبته سعاية. م: (وقال زفر: تعتق في الحال) . ش: يعني قبل السعاية وبعدها. وفي بعض النسخ " تعتق في الحال "، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والظاهرية، إلا أنه بغير سعاية عندهما، وعند زفر بالسعاية، وقال الشافعي وأحمد -(6/100)
والسعاية دين عليها، وهذا الخلاف فيما إذا عرض على المولى الإسلام فأبى، فإن أسلم تبقى على حالها، له أن إزالة الذل عنها بعد ما أسلمت واجب، وذلك بالبيع أو الإعتاق، وقد تعذر البيع فتعين الإعتاق ولنا أن النظر من الجانبين في جعلها مكاتبة لأنه يندفع الذل عنها لصيرورتها حرة يدا، والضرر عن الذمي لانبعاثها على الكسب نيلا لشرف الحرية، فيصل الذمي إلى بدل ملكه. أما لو أعتقت وهي مفلسة تتوانى في الكسب، ومالية أم الولد يعتقدها الذمي متقومة، فيترك وما يعتقده، ولأنها إن لم تكن متقومة فهي محترمة، وهذا يكفي لوجوب الضمان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رحمهما الله - في المشهور، ويمنع الذمي من وطئها والاستمتاع بها، ويحال ما بينهما ولا يمكن من الخلوة بها، وأجبر على نفقتها، فإن أسلم حلت له، وإن مات قبل إسلامه أو بعده عتقت بموته. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رواية تستسعى في قيمتها، فإن أدت عتقت. م: (والسعاية دين عليها) . ش: أي على أم الولد المذكور.
م: (وهذا الخلاف) . ش: يعني بيننا وبين زفر. م: (فيما إذا عرض على المولى الإسلام فأبى) . ش: أي امتنع عن الإسلام. م: (فإن أسلم تبقى) . ش: أي أم الولد المذكورة. م: (على حالها له) . ش: أي لزفر. م: (أن إزالة الذل عنها بعد ما أسلمت واجب وذلك بالبيع أو الإعتاق، وقد تعذر البيع) . ش: لأن أم الولد لا يجوز بيعها. م: (فتعين الإعتاق) . ش: لإزالة ذلها. م: (ولنا أن النظر من الجانبين) . ش: أي جانب أم الولد وجانب النصراني. م: (في جعلها مكاتبة، لأنه يندفع الذي عنها لصيرورتها حرة يداً والضرر) . ش: أي ويندفع الضرر. م: (عن الذمي لانبعاثها على الكسب نيلاً لشرف الحية فيصل الذمي إلى بدل ملكه، أما لو أعتقت وهي مفلسة تتوانى) . ش: أي تتكاسل. م: (في الكسب) . ش: حاصل الكلام أنه لا يجوز أن يبطل ملك النصراني مجاناً، لأنه معصوم، فوجب عليها السعاية فلا تعتق ما لم تؤد قيمتها، لأنها إذا عتقت فسعت بعد ذلك كما هو مذهب زفر يؤدي إلى تعطل حق المولى لتوانيها في الكسب حينئذ، لحصول الحرية قبل السعاية. وقلنا: تسعى ثم تعتق نظراً للجانبين، لأنها إذا سعت تصل إلى شرف الحرية. وهي حرة يداً حال السعاية، ويصل المولى إلى بدل ملكه.
م: (ومالية أم الولد) . ش: جواب عما يقال كيف تسعى أم ولد النصراني، والسعاية في القيمة دليل التقوم، وأم الولد ليست بمتقومة عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأجاب بقوله ومالية أم الولد. م: (يعتقدها الذمي متقومة، فيترك وما يعتقده) . ش: أي يترك الذمي مع ما يعتقده، والواو بمعنى مع لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اتركوهم وما يدينون. م: (ولأنها) . ش: أي ولأن مالية أم الولد. م: (إن لم تكن متقومة فهي محترمة، وهذا) . ش: أي كونها محترمة. م: (يكفي لوجوب الضمان) . ش: هذا جواب آخر عن السؤال المذكور، واعترض عليه بأن الأمة أم لو كان كافياً لوجوب الضمان لوجب على غاصب أم الولد. وأجيب بأن مبنى الضمان في الغصب على المماثلة ولا مماثلة بين ماليتها لانتفاء تقومها، وبين ما يضمن به من المال المتقوم.(6/101)
كما في القصاص المشترك إذا عفى أحد الأولياء يجب المال للباقين، ولو مات مولاها عتقت بلا سعاية، لأنها أم ولد له، ولو عجزت في حياته لا ترد قنة لأنها لو ردت قنة أعيدت مكاتبة لقيام الموجب.
ومن استولد أمة غيره بنكاح ثم ملكها صارت أم ولد له، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تصير أم ولد له، ولو استولدها بملك يمين ثم استحقت ثم ملكها تصير أم ولد له عندنا، وله فيها قولان وهو ولد المغرور. له أنها علقت برقيق فلا تكون أم ولد له، كما إذا علقت من الزنا، ثم ملكها الزاني، وهذا لأن أمومية الولد باعتبار علوق الولد حرا، لأنه جزء الأم في تلك الحالة، والجزء لا يخالف الكل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (كما في القصاص المشترك) . ش: يعني إذا كان القصاص مشتركاً بين جماعة. م: (إذا عفى أحد الأولياء يجب المال للباقين) . ش: وإن لم يكن القصاص مالاً متقوماً لكنه حق محترم، فجاز أن يكون موجباً للضمان لاحتباس نصيب الآخرين عنده بعفو أحدهم.. م: (ولو مات مولاها) . ش: أي مولى أم ولد النصراني وهو نصراني. م: (عتقت بلا سعاية لأنها أم ولد له) . ش: وليس عليها سعاية. م: (ولو عجزت في حياته لا ترد قنة، لأنها لو ردت قنة أعيدت مكاتبة لقيام الموجب) . ش: أي الموجب لكتابته. وهو إسلام الولد.
[استولد أمة غيره بنكاح ثم ملكها]
م: (ومن استولد أمة غيره بنكاح ثم ملكها صارت أم ولد له) . ش: أي شرعا لأنها كانت أم ولد حقيقة.. م: (وقال الشافعي لا تصير أم ولد له) . ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد في رواية، وفي رواية كقولنا، وفي " شرح الطحاوي ": فإن استولدها وهي في ملك الغير بنكاح ثم اشتراها مع الولد أو بغير الولد صارت أم ولد له عندنا، خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكذلك لو ثبت ولدها بوطء بشبهة ثم ملكها فهي أم ولد له من حين ملكها، إلا من وقت العلوق عندنا، كذا في " التحفة "، وفائدة كونها أم ولد من وقت الملك أنه لو ملك ولدها منه عتق عليه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من ملك ذا رحم محرم منه فهو حر» ولو تملك ولدها من غيره لم يعتق، لأنه بائن أم ولد له، وله بيعه لأن الاستيلاد ثبت فيها من حيث ملكها، وعند زفر من ولد بعد ثبوت نسب ولدها منه ثم ملكه فهو ابن أم ولد له.. م: (ولو استولدها بملك يمين ثم استحقت ثم ملكها تصير أم ولد له عندنا) . ش: خلافاً للشافعي. م: (وله) . ش: أي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (في قولان) . ش: في قول تصير أم ولد له، وفي قول لا تصير. م: (وهو ولد المغرور) . ش: من يطأ امرأة معتمداً على ملك يمين أو نكاح فتلد منه ثم يستحق ولده حر بالقيمة يوم الخصومة.
م: (له) . ش: أي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (أنها علقت برقيق فلا تكون أم ولد له كما إذا علقت من الزنا ثم ملكها الزاني، وهذا) . ش: إشارة إلى قوله - فلا تكون أم ولد -. م: (لأن أمومية الولد باعتبار علوق الولد حراً) . ش: بأن استولدها في ملكه. م: (لأنه) . ش: أي لأن الولد. م: (جزء الأم في تلك الحالة) . ش: أي في حالة العلوق. م: (والجزء لا يخالف الكل) . ش: وفي صورة النكاح ليس كذلك،(6/102)
ولنا أن السبب هو الجزئية على ما ذكرنا من قبل، والجزئية إنما تثبت بينهما بنسبة الولد الواحد إلى كل واحد منهما كملا، وقد ثبت النسب فتثبت الجزئية بهذه الواسطة بخلاف الزنا، لأنه لا نسب فيه الولد إلى الزاني وإنما يعتق على الزاني إذا ملكه لأنه جزؤه حقيقة بغير واسطة، نظيره من الزنا حيث لا يعتق عليه، لأنه ينسب إليه بواسطة نسبته إلى الولد، وهي غير ثابتة،
وإذا وطئ جارية ابنه فجاءت بولد فادعاه ثبت نسبه منه وصارت أم ولد له، وعليه قيمتها وليس عليه عقرها، ولا قيمة ولدها، وقد ذكرنا المسألة بدلائلها في كتاب النكاح من هذا الكتاب، وإنما لا يضمن قيمة الولد لأنه حر الأصل لإسناد الملك إلى ما قبل الاستيلاد، وإن وطئ أب الأب مع بقاء الأب لم يثبت النسب؛ لأنه لا ولاية للجد حال قيام الأب ولو كان الأب ميتا يثبت من الجد كما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن الأم رقيقة لمولاها في تلك الحالة، فلو انعقد الولد حراً. كان الجزء مخالفاً للكل.
م: (ولنا أن السبب) . ش: أي سبب الاستيلاد. م: (هو الجزئية) . ش: الحاصلة بين الوالدين. م: (على ما ذكرنا من قبل) . ش: إشارة إلى قوله في أول الباب - لأن الجزئية قد حصلت بين الواطئ والموطوءة بواسطة الولد -. م: (والجزئية إنما تثبت بينهما) . ش: أي بين الواطئ والموطوءة. م: (بنسبة الولد إلى كل منهما كملاً، وقد ثبت النسب) . ش: بالنكاح. م: (فثبت الجزئية بهذه الواسطة) . ش: وإذا ثبتت الجزئية ثبتت أمومية الولد. م: (بخلاف الزنا) . ش: جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما إذا علقت بالزنا. م: (لأنه لا نسب فيه) . ش: أي في الزنا. م: (الولد إلى الزاني) . ش: فلا تثبت الحرية المعتبرة في الباب، وهي الجزئية الحكمية من نسبة الولد إلى الزاني كيف يعتق عليه إذا ملكه.
فأجاب بقوله. م: (وإنما يعتق) . ش: أي الولد. م: (على الزاني إذا ملكه، لأنه جزؤه حقيقة بغير واسطة) . ش: بخلاف أمومية الولد بالزنا، مثل من اشترى أخاه من الزنا على ما هي، أشار إليه بقوله. م: (نظيره) . ش: أي نظير أم الولد. م: (من الزنا حيث لا يعتق عليه) . ش: مثل من اشترى أخاه من الزنا لا يعتق عليه. م: (لأنه) . ش: أي لأن الأخ. م: (ينسب إليه بواسطة نسبته إلى الولد، وهي غير ثابتة) . ش: المراد بالأخ الأخ لأب، أما الأخ لأم فإنه يعتق عليه إذا ملكه، وإن كان من الزنا، لأن النسبة بينهما ثابتة.
[وطئ جارية ابنه فجاءت بولد فادعاه]
م: (وإذا وطئ جارية ابنه فجاءت بولد فادعاه ثبت نسبه منه، وصارت أم ولد له وعليه قيمتها، وليس عليه عقرها ولا قيمة ولدها، وقد ذكرنا المسألة بدلائلها في كتاب النكاح) . ش: أي في آخر كتاب نكاح الرقيق، وأراد بالعقر مهر المثل. وفي " المحيط " العقر قدر ما تستأجر هذه المرأة لو كان الاستئجار للزجر حلالاً. م: (وإنما لا يضمن قيمة الولد، لأنه حر الأصل لإسناد الملك إلى ما قبل الاستيلاد) . ش: ولأن الملك انتقل إلى الإيجاب قبيل الوطء.
م: (وإن وطئ أب الأب مع بقاء الأب لم يثبت النسب، لأنه لا ولاية للجد حال قيام الأب ولو كان الأب ميتاً يثبت من الجد كما يثبت نسبه من الأب لظهور ولايته عند فقد الأب) . ش: وكذا إذا كان(6/103)
يثبت نسبه من الأب لظهور ولايته عند فقد الأب؛ وكفر الأب ورقه بمنزلة موته لأنه قاطع الولاية
وإذا كانت الجارية بين شريكين فجاءت بولد فادعاه أحدهما ثبت نسبه منه لأنه ثبت النسب في نصفه لمصادفته ملكه ثبت في الباقي ضرورة أنه لا يتجزأ، لما أن سببه لا يتجزأ وهو العلوق، إذ الولد الواحد لا يتعلق من مائين وصارت أم ولد له؛ لأن الاستيلاد لا يتجزأ عندهما، وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصير نصيبه أم ولد له ثم يتملك نصيب صاحبه إذ هو قابل للملك ويضمن نصف قيمتها؛ لأنه تملك نصيب صاحبه لما استكمل الاستيلاد ويضمن نصف عقرها، لأنه وطئ جارية مشتركة، إذ الملك يثبت حكما للاستيلاد فيتعقبه الملك في نصيب صاحبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأب حياً ولاية مثل أن يكون عبداً أو كافراً أو مجنوناً فالولاية للجد فيصح دعوته، فإذا عادت ولاية الأب بأن أسلم أو أعتق أو فاق قبل الدعوة لم تقبل دعوة الجد على ذلك.
ولو كان الأب مرتداً لم تصح دعوة الجد عندهما، لأن تصرفات المرتد نافذة عندهما وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - موقوفة قال: [إن أسلم الأب لم تصح دعوة....] وإن مات على الردة أو لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه تصح. م: (وكفر الأب ورقه بمنزلة موته، لأنه قاطع الولاية) . ش: أي لأن كل واحد من الكفر والرق قاطع للولاية.
[الجارية بين شريكين فجاءت بولد فادعاه أحدهما]
م: (وإذا كانت الجارية بين شريكين فجاءت بولد فادعاه أحدهما) . ش: سواء ادعى في صحته أو مرضه. م: (ثبت نسبه منه لأنه لما ثبت النسب في نصفه لمصادفته ملكه ثبت في الباقي ضرورة أنه) . ش: أي أن النسب. م: (لا يتجزأ لما أن سببه لا يتجزأ وهو العلوق، إذ الولد الواحد لا يتعلق من مائين، وصارت أم ولد له لأن الاستيلاد لا يتجزأ عندهما. وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصير نصيبه أم ولد له، ثم تملك نصيب صاحبه، إذا هو قابل للملك) . ش: لاستحالة أن يخلق الولد من ماء الرجلين وثبوت ما لا يتجزأ كثبوت كله، ويضمن نصف قيمتها، لأنه يملك نصيب صاحبه لما استكمل الاستيلاد، أي في الجارية المذكورة لعدم التجزؤ، فيضمن نصف القيمة ويعتبر قيمة يوم وطئها، فعلقت، وبه صرح الحاكم.
م: (ويضمن نصف عقرها، لأنه وطئ جارية مشتركة، إذ الملك يثبت حكماً) . ش: أي من حيث الحكم. م: (للاستيلاد فيتعقبه الملك في نصيب صاحبه) . ش: إذ هو قابل للملك. قال الأترازي: الضمير المنسوب راجع إلى الوطء لا إلى الاستيلاد، أي سبب الملك عقيب الوطء، وهذا لأن الملك لا يثبت عقيب الاستيلاد بل يثبت معه من وقت العلوق، والعلوق بعد الوطء، فيكون الملك بعد الوطء، فيكون الوطء مضافاً لنصيب شريكه أيضاً. ثم قال الأترازي: وظن بعض الشارحين أن الضمير يرجع إلى الاستيلاد، فقال وهذا على اختيار بعض المشايخ، وأما الأصح من المذهب فالحكم مع علته يفترقان.
قلت: أراد ببعض الشارحين صاحب " النهاية ". وقال الأترازي: وذلك ليس بشيء، لأن(6/104)
بخلاف الأب إذا استولد جارية ابنه لأن الملك هنالك يثبت شرطا للاستيلاد فيتقدمه فصارا واطئا ملك نفسه، ولا يغرم قيمة ولدها، لأن النسب يثبت مستندا إلى وقت العلوق فلم يتعلق شيء منه على ملك الشريك. فإن ادعياه معا ثبت نسبه منهما، معناه إذا حملت على ملكهما. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يرجع إلى قول القافة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صاحب " النهاية " لم يجز ذلك المذهب بدليل أنه يثبت الملك من زمان الاستيلاد عقيب الاستيلاد ألا ترى أنه قال: ولا يغرم قيمة ولدها، لأن النسب يثبت مستنداً إلى وقت العلوق فلم يبق منه شيء على ملك الشريك، فعلم أن ملك الشريك انتقل إلى صاحب الدعوة من زمان العلوق، وهو زمان الاستيلاد لا بعده. وقال الأكمل: يجوز أن يكون مراده بالتعقيب الذاتي لا الزماني، وحينئذ يكون قادراً على الأصح من المذهب.
م: (بخلاف الأب إذا استولد جارية ابنه) . ش: حيث لا يلزمه العقر. م: (لأن الملك هنالك يثبت شرطاً للاستيلاد) . ش: أي لثبوته. م: (فيتقدمه) . ش: أي فيتقدم ملك الاستيلاد، أي فإن قيل: الملك أثبت صورة الاستيلاد، فيثبت سابقاً على العلوق في حق الاستيلاد لا في حق غيره، لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها. قلنا: الاستيلاد عبارة. م: (فصار واطئاً ملك نفسه) . ش: وهذه التفرقة بين الشريك والد من حيث إن ملك الشريك في النصف قائم، وفيه العلوق وذلك يكفي للاستيلاد، فيجعل تملك نصيب صاحبه حكماً للاستيلاد، فيكون الوطء واقعاً في غير ملكه، وذلك يوجب الحد، لكنه سقط لشبهة الشركة، فيجب العقر. وأما الأب فلم يكن له ملك في الجارية، وقد استولدها فيجعل ملكها شرطاً للاستيلاد في ملكه حملاً لأمره على الصحاح، فيكون الوطء في ملكه، والوطء في ملكه لا يوجب العقر. م: (ولا يغرم) . ش: أي الشريك للمدعي. م: (قيمة ولدها) . ش: أي ولد الجارية المشتركة. م: (لأن النسب يثبت مستنداً إلى وقت العلوق، فلم يتعلق شيء منه على ملك الشريك) . ش: لأنه لما علق العلق حر الأصل، لأن نصفه المعلق على ملكه، وإنه يمنع ثبوت الرق فيه.. م: (فإن ادعياه معاً) . ش: أي فإن ادعى الشريكان الولد مجتمعين. م: (ثبت نسبه منهما) . ش: أي من الشريكين، هذا لفظ القدوري. وقال المصنف:. م: (معناه) . ش: أي معنى قول القدوري. م: (ثبت نسبه منهما إذا حملت على ملكهما) . ش: فإن ولدت لستة أشهر منذ اشتراها فولدت ولداً، كذا فسره العتابي في شرح " الجامع الصغير "، تفسير الحمل على ملكهما، لأنه إذا لم يكن العلوق في ملكهما، بأن ولدت لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء كان دعوى تحرير لا دعوى استيلاد، فيعتق الولد ولا يثبت الاستيلاد، ولأن دعوى الاستيلاد إذا لم يكن العلوق في ملك المدعي وتشهد الحرية فيها إلى وقت العلوق، ودعوى التحرير أن لا يكون العلوق في الملك المدعى تفتقر الحرية فيها إلى وقت الدعوى.
م: (وقال الشافعي: يرجع إلى قول القافة) . ش: بلفظ المبني للمفعول، والقافة بالقاف، والفاء المخففة، جمع القائف، كالحاكة في جمع الحائك، والقائف: هو الذي يعرف الآثار ويتبعها،(6/105)
لأن إثبات النسب من شخصين معا مع علمنا أن الولد لا يتخلق من مائين متعذر، فعملنا بالشبه، وقد سر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقول القائف في أسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولنا كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى شريح في هذه الحادثة: لبسا فلبس عليهما ولو بينا لبين لهما، وهو ابنهما يرثهما ويرثانه، وهو للباقي منهما، وكان ذلك بمحضر من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويعرف شبه الرجل في ولده وأخيه، من قاف أثره يقوفه. مقلوب، يقال: يقفوه، أي تبعه، ثم " القافية " مشهورة في بني مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة بن خزيمة. وقيل: " القافية " في أسد. وبقول الشافعي قال أحمد، وقال مالك: يعمل به في الإماء دون الحرائر. وبقولنا قال الثوري وإسحاق بن راهويه.
م: (لأن إثبات النسب من شخصين معاً مع علمنا أن الولد لا يتخلق من مائين متعذر، فعملنا بالشبه، وقد سر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقول القائف في أسامة بن زيد) . ش: هذا أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن سفيان بن عتبة عن الزهري عن عروة «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم مسروراً، فقال: يا عائشة أتدري أن محرزاً المدلجي دخل علي وعندي أسامة بن زيد وزيداً عليهما قطيفة، وقد غطى إياه رؤوسهما فبدت أقدامهما، فقال: هذه أقدام بعضها من بعض» قال أبو داود: وكان أسامة أسود، وكان زيد أبيض، وسمي محرز محرزاً، لأنه كان إذا أمر أحد حلق لحيته وقيل حرز ناصيته، وقال الشافعي: لو كان العمل بالشبه باطلاً لما سر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لا يسر إلا للحق.
م: (ولنا كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى شريح) . ش: وهو شريح بن الحارث الكوفي، قاضي الكوفة من كبار التابعين، عاش مائة وعشرين سنة، واستقر بها زمان عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - على الكوفة، ولم يزل بعد ذلك قاضياً خمساً وسبعين سنة ولم يتعطل عنها إلا ثلاث سنين؛ امتنع فيها من القضاء في فتنة ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، ومات سنة تسع وسبعين، ويقال: سنة ثمانين. م: (في هذه الحادثة) . ش: وهي التي كانت فيها دعوى الشريكين مع الولد الذي ولدته الجارية المشتركة بينهما. م: (لبسا) . ش: أي الشريكان، من لبس الأمر على فلان تلبساً إذا غماه عليه. م: (فلبس عليهما) . ش: أي النسب بينهما م: (ولو بينا لبين لهما، وهو ابنهما يرثهما ويرثانه، وهو للباقي منهما) ش: أي الولد للباقي من الشريكين، يعني إذا مات الولد بعد موت أحدهما يكون الميراث للأب الحي، ولا شيء لورثة الشريك.
م: (وكان ذلك بمحضر من الصحابة " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ") . ش: أراد به إرادة في سرير المجمع عليه. وقال الأترازي: تحل محل الإجماع، والحديث رواه البيهقي، أخرجه عن مبارك بن فضالة عن الحسن عن عمرو وجابر وطئا جارية في شهر واحد فجاءت بغلام فارتفعا إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فدعى بثلاثة من القافة فاجتمعوا على أن الشبهة بينهما جمعاً، وكان عمر(6/106)
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثل ذلك، ولأنهما استويا في سبب الاستحقاق فيستويان فيه، والنسب وإن كان لا يتجزأ ولكن تتعلق به أحكام متجزئة، فيما يقبل التجزئة يثبت في حقهما على التجزئة، وما لا يقبلها يثبت في حق كل واحد منهما كملا كأن ليس معه غيره، إلا إذا كان أحد الشريكين أبا للآخر، أو كان أحدهما مسلما والآخر ذميا لوجود المرجح في حق المسلم وهو الإسلام، وفي حق الأب وهو ماله من الحق في نصيب الابن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قائفاً يقول، وقال: قد كانت الكلبة تنزو عليها الأسود والأصفر والأغبر، فيؤدي إلى كل كلب شبهه، ولم أكن أرى هذا في الناس حتى رأيت هذا، فجعله عمر لهما يرثهما ويرثانه، وهو الباقي منهما. وقال البيهقي: هذا منقطع ومبارك بن فضالة ليس بحجة.
م: (وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مثل ذلك) . ش: أي مثل لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وأخرجه الطحاوي في " شرح الآثار " عن سماك عن مولى لابن مخزوم قال: وقع رجلان على جارية في طهر واحد، فعلقت الجارية، فلم يدر من إليهما هو فقافيا علياً - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فقال: هو لكما يرثكما وترثانه، وهو الباقي منكما. م: (ولأنهما) . ش: أي الشريكان. م: (استويا في سبب الاستحقاق) . ش: أراد السبب، لأن الاستحقاق يثبت لا بالملك كان ثابتاً من قبل فلو لم تكن الدعوى ما كان يستحق بمجرد الملك انتهى.
قلت: رواه الكاكي، فإنه قال سبب استحقاق الملك. وقال الأكمل: استحقاق الملك وقيل الدعوى. م: (فيستويان فيه) . ش: أي في الاستحقاق.
م: (والنسب وإن كان لا يتجزأ) . ش: جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن إثبات النسب إلى آخره، وتقريره أن النسب وإن كان لا يتجزأ. م: (ولكن تتعلق به أحكام متجزئة) . ش: كالنفقة وميراث الولد وولاية التصرف في ماله. م: (فيما يقبل التجزئة يثبت في حقهما على التجزئة ما لا يقبلها) . ش: أي التجزئة. م: (يثبت) . ش: وولاية الإنكاح. م: (في حق كل واحد منهما كملاً كأن ليس معه غيره) . ش: لعدم قبول التجزئة.
م: (إلا إذا كان أحد الشريكين أباً للآخر) . ش: هذا استثناء من قوله - وما لا يقبلها - أي ما لا يقبل التجزئة كالنسب في حق كل واحد منهما إلا إذا كان أحد الشريكين أباً للآخر فادعيا معاً ولد جارية بينهما يكون الأب أولى لوجود الترجيح، وعلى الأب نصف قيمة الجارية، وعلى كل واحد نصف العقر، فيتقاصان.
م: (أو كان أحدهما مسلماً والآخر ذمياً) . ش: فادعياه معاً، فالمسلم أولى. م: (لوجود المرجح في حق المسلم، وهو الإسلام، وفي حق الأب) . ش: أي وجود المرجح في حق الأب. م: (وهو ما له من الحق في نصيب الابن) . ش: لأن للأب حقيقة الملك في نصيبه وشبهة الملك في نصيب ابنه، وإذا أسلم المدعي ثم ولدت الأمة فادعياه معاً ثبت نسبه منهما لاستواء حالهما، وإذا كانت الدعوى(6/107)
وسرور النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما روي؛ لأن الكفار كانوا يطعنون في نسب أسامة، وكان قول القائف مقطعا لطعنهم فسر به، وكانت الأمة أم ولدهما لصحة دعوة كل واحد منهما في نصيبه في الولد، فيصير نصيبه منها أم ولد تبعا لولدها، وعلى كل واحد منهما نصف العقر قصاصا بما له على الآخر، ويرث الابن من كل واحد منهما ميراث ابن كامل لأنه أقر له بميراثه كله، وهو حجة في حقه، ويرثان منه ميراث أب واحد لاستوائهما في النسب كما إذا أقاما البينة.
وإذا وطئ المولى جارية مكاتبه فجاءت بولد فادعاه، فإن صدقه المكاتب ثبت نسب الولد منه، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يعتبر تصديقه اعتبارا بالأب يدعي ولد جارية ابنه، ووجه الظاهر وهو الفرق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من ذمي ومرتد فالولد للمرتد، لأنه أقرب إلى الإسلام وغرم كل واحد لصاحبه نصف العقر، كذا في " الشامل ".
ثم اعلم أن النسب يثبت من اثنين باتفاق أصحابنا، وفيما فسرت ذلك اختلفوا، فعن أبي حنيفة من اثنين فقط. وقال محمد: من ثلاثة لا غير. م: (وسرور النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . ش: هذا جواب لاحتجاج الخصم بقوله وقد سر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقول يقول " القائف " تقرير أن رسول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: (فيما روي) . ش: يجوز على صيغة المعلوم أي فيما روى الشافعي ويجوز على صيغة المجهول.
م: (لأن الكفار كانوا يطعنون) . ش: بضم العين من باب نصر، يقال طعن عليه في حسبه طعنا وطعانا. م: (في نسب أسامة، وكان قول القائف مقطعها لطعنهم فسر به) . ش: أي فلأجل ذلك فسر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: (وكانت الأمة أم ولدهما) . ش: أي للشريكين. م: (لصحة دعوى كل واحد منهما في نصيبه من الولد، فيصير نسبه منهما أم ولد له تبعاً لولدها وعلى كل واحد منهما نصف العقر قصاصاً بما له على الآخر) . ش: بفتح اللام، أي بالذي له. م: (ويرث الابن من كل واحد منهما ميراث ابن كامل، لأنه أقر له بميراثه كله، وهو حجة في حقه، ويرثان منه ميراث أب واحد لاستوائهما في النسب) . ش: وهو الدعوى. م: (كما إذا أقاما البينة) . ش: أي كل واحد وعلى أب مجهول النسب يكون ذلك بينهما، فكذا هذا.
[وطئ المولى جارية مكاتبه فجاءت بولد فادعاه]
م: (وإذا وطئ المولى جارية مكاتبه فجاءت بولد فادعاه، فإن صدقه المكاتب ثبت نسب الولد منه، وعن أبي يوسف أنه لا يعتبر تصديقه) . ش: أي تصديق المكاتب يعني يثبت النسب بمجرد دعوى المولى. م: (اعتباراً بالأب يدعي ولد جارية ابنه) . ش: وقد حملت في ملك الابن لا يشترط التصديق، بل يثبت النسب بمجرد دعوى الأب فكذا هنا بل أولى لأن دعوة المولى أقوى من دعوى الأب، لأن المولى له حق في مكاتب المكاتب، لأن مال الكتابة موقوف على مولاه، لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
م: (ووجه الظاهر وهو الفرق) . ش: بين استيلاد جارية الابن حيث يثبت فيه النسب بغير(6/108)
أن المولى لا يملك التصرف في اكتساب مكاتبه حتى لا يتملكه والأب يملك تملكه، فلا يعتبر تصديق الابن، وعليه عقرها لأنه لا يتقدمه الملك لأن ماله من الحق كاف لصحة الاستيلاد، لما نذكره، وقيمة ولدها لأنه في معنى المغرور حيث إنه اعتمد دليلا وهو أنه كسب كسبه فلم يرض برقه، فيكون حرا بالقيمة ثابت النسب منه، ولا تصير الجارية أم ولد له لأنه لا ملك له فيها حقيقة كما في ولد المغرور. وإن كذبه المكاتب في النسب لم يثبت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تصديق، وجارية المكاتب حيث يشترط فيها التصديق. م: (أن المولى لا يملك التصرف في اكتساب مكاتبه) . ش: لحجره على نفسه. م: (حتى لا يتملكه) . ش: أي لا يتملك كسب المكاتب عند الحاجة. م: (والأب يملك تملكه) . ش: أي تملك مال ابنه، لأنه لم يحجر على نصيبه. م: (فلا يعتبر تصديق الابن، وعليه عقرها) . ش: أي وعلى المولى عقر جارية المكاتب. م: (لأنه لا يتقدمه الملك) . ش: قال الأكمل: لأن الملك لا يتقدم الأصلي.
قال الأترازي: الضمير المنصوب راجع إلى الوطء الذي دل عليه قوله وطئ. م: (لأن ما له من الحق كاف) . ش: أي لأن ماله من حق الملك كاف. م: (لصحة الاستيلاد لما نذكره) . ش: أي نذكر الحق الذي للمولى على المكاتب، لأنه في مال المكاتب.
قال الأترازي: في قول صاحب " الهداية " نظر، لأنه قال ماله من الحق كاف لصحة الاستيلاد، أي ما ثبت للمولى من الحق كاف لصحة الاستيلاد، والمفهوم منه ثبوت الاستيلاد جارية المكاتب والمنصوص في الكتب عن أصحابنا أن الاستيلاد لا يثبت وهو نفسه يصرح بهذا أيضاً بعد خطين بقوله - ولا تصير الجارية أم ولده - أي للمولى، فإذا لم تصر الجارية أم ولد له من ابن يصح الاستيلاد، انتهى. وقال الأكمل بعد أن نقل كلام الأترازي برمته فقال: قيل في كلام المصنف نظر، ثم قال: والجواب أن دلالة لفظ الاستيلاد على طلب نسب الولد أقوى من دلالته على كونه أم ولد فكأن المراد بقوله - لصحة الاستيلاد - لصحة نسب الولد، لدلالة ما بعده، فإن المصنف أجل قدراً من أن يقع بين كلاميه في سطرين تناقض، وفيه تأمل معطوف على قوله يقرها. قال:. م: (وقيمة ولدها لأنه في معنى المغرور حيث اعتمد دليلاً وهو أنه) . ش: أي أن الولد. م: (كسبه فلم يرض برقه) . ش: فيكون جواباً لقيمته دفعاً للضرر عن المكاتب ثابت النسب، أي ولا تصير الجارية أم ولد له، أي للمولى، لأنه لا تملك له فيها حقيقة كما في ولد المغرور.
قال الأترازي: كان ينبغي أن يقول كما في المغرور بلا ذكر الولد على معنى أن الجارية لا تصير أم ولد للمغرور لعدم الملك فيها، وهذا هو حق الكلام، أما قوله: كما في ولد المغرور متعلق بقوله. م: (فيكون حرا بالقيمة ثابت بالنسب منه) . ش: وحينئذ لا بد من ذكر الولد، وعلى تقديرين أن يكون متعلقاً بقوله. م: (لا تصير الجارية أم ولد له، لأنه لا ملك له فيها حقيقة) . ش: تقديره. م: (كما في ولد المغرور، فإن كذبه المكاتب في النسب لم يثبت) . ش: هذا معطوف على قوله - فإن صدقه المكاتب -(6/109)
لما بينا أنه لا بد من تصديقه، فلو ملكه يوما ثبت نسبه منه لقيام الموجب وزوال حق المكاتب إذ هو المانع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لما بينا أنه لا بد من تصديقه فلو ملكه يوماً) . ش: يعني لو ملك المولى بعد تكذيب المكاتب بمولاه. م: (ثبت نسبه منه لقيام الموجب) . ش: وهو الإقرار بالاستيلاد. م: (وزوال حق المكاتب إذ هو المانع) . ش: وقد زال ذلك بالنقل إلى الموت فيثبت النسب لزوال المانع والله أعلم.
فروع: وفي " التكملة " ولا يحل للمولى وطء مكاتبته. ولو وطئها فعليه عقر. وفي " الإسبيجابي " لو علقت منه كان بالخيار إن شاء عجزت نفسها فصارت أم ولد، وإن شاءت مضت على الكتابة وأخذت عقرها، وفي " التنبيه " يلزمه عقرها، وإن أحلها تصير أم ولد له، فإن أدت الكتابة عتقت وتعتق بموت سيدها أيضا. وفي " المغني ": ووطء المكاتب بغير شرط حرام عند الجمهور والأئمة الأربعة، ولو شرط وطأها فهو باطل أيضاً عند الجمهور. وقال أحمد وابن المسيب: له ذلك عند الشرط، ولا حد عليه عند أهل العلم. وعن الحسن والزهري يحد. ولو وطئ جارية مكاتبه فعليه عقرها، وهو قول الشافعي وأحمد. وقال مالك: لا شيء عليه، لأنها ملكه. وفي " المحيط " يجوز إعتاق أم الولد، وكتابتها لتعجيل الحرية، وكذا تدبيرها، وفي غيرها لا يصح تدبيرها.
وفي " جوامع الفقه ": استولد مدبرة التدبير وتعق عن جميع المال، ولا تسعى في الدين. ولو باع خدمة أم الولد منها جاز، وعتقت كما لو باع رقبة العبد منه هكذا رواه ابن سماعة عن أبي يوسف بيع الخدمة باطل ولا تعتق، بخلاف رقبتها منها حيث تعتق. ولو ولدت جارية منه وقال لمولاها أصلها لي والولد ولدي، وصدقه المولى في الإحلال، وكذبه في الولد ثبت نسبه، وصارت أم ولد له، ولو صدقه في الولد ثبت نسبه وهو عبد لمولاه، والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(6/110)
كتاب الأيمان
قال: الأيمان على ثلاثة أضرب: اليمين الغموس، واليمين المنعقدة، واليمين اللغو.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الأيمان] [تعريف الأيمان وحكمها]
م: (كتاب الأيمان)
ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الأيمان وهو جمع يمين، وهو في اللغة القوة، ومنه قَوْله تَعَالَى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45] (الحاقة الآية 45) ، أي بالقوة. وفي الشريعة عقد قوي عزم الخالق على الفعل أو الترك، وقال: النفي اليمين تقوية أحد طرفي الجزء بالقسم به، وطرفا الجزء الصدق والكذب.
واليمين على ضربين يمين هي قسم وهو اليمين بالله عز وجل، ويمين هي الشرط والجزاء مثل تعليق الطلاق والعتاق ونحو ذلك بشرط، وهو يمين بعرف أهل الشرع، وأسماؤه ستة: قسم ويمين وحلف وعهد وميثاق وإيلاء ولليمين شرط، وهو كون الحالف مكالفاً، وسبب وهو إرادة تحقيق ما قصده، وركن، وهو اللفظ الذي ينعقد به اليمين، وحكم وهو البر، فما تجب البر فيه والكفارة على قرابة، وإنما قيل فيما يجب فيه البر، لأن من الأيمان ما يجب فيه الحنث على ما يجيء إن شاء الله تعالى.
[أنواع الأيمان]
م: (قال) . ش: أي القدوري. م: (الأيمان على ثلاثة أضرب) . ش: أي على ثلاثة أنواع. م: (اليمين الغموس، واليمين المنعقدة، واليمين اللغو) . ش: قال في " المغرب " الصواب أن يقال على ثلاثة أضرب، وإن كانت الرواية محفوظة بالتاء فعلى تأويل الأقسام. قوله - يمين غموس - قال الأترازي: هذا من إضافة الجزء إلى نوعه، كقولهم علم الطب، فخرج منه الجواب عما يقال إن الموصوف لا يضاف إلى صفته وبالعكس.
وقال الكاكي: الأصح من النحاة اليمين الغموس من صفة لليمين، وما قيل أنه من إضافة الجنس إلى نوعه كعلم الطب غير صحيح لأن الطب ليس بصفة، ثم وجه الانحصار بين الثلاثة أن اليمين لا يخلو إما أن يكون فيها مؤاخذة، أو الثاني الأخير، والأولى إن كانت المؤاخذة في الدنيا فهو المنعقدة. وإن كانت المؤاخذة في العقبى فهو الغموس وفي " الإيضاح ": والأقسام الثلاثة إنما ستأتي في اليمين بالله تعالى.
و" اليمين " في وجوب الحفظ أربعة أنواع: ما يجب فيها البر وهو الحلف على فعل طاعة أو ترك معصية، وذلك فرض عليه، وبالحلف يزداد وكادة، وما لا يجوز حفظها وهو الحلف على ترك طاعة أو فعل معصية، وما لا يخير فيه بين الحنث والبر، والحنث خير من البر فيندب فيه الحنث.
قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حلف على يمين ورأى غيرها خير منها فليأت بالذي هو خير» .... "(6/111)
فالغموس: هو الحلف على أمر ماض يتعمد الكذب فيه، فهذه اليمين يأثم فيها صاحبها؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حلف كاذبا أدخله الله النار» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحديث وأدنى الأمر الندب، وما ينوي فيه البر والحنث في الإباحة فنحى بينهما، وحفظهما أولى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] المائدة الآية 89، وحفظ اليمين بعد وجوبها بالبر، ومتى حنث في اليمين المنعقدة فعليه الكفارة بالنص وإجماع الأمة.
" والغموس " على وزن فعول للمبالغة، سميت به لأنها تغمس صاحبها في النار، وقيل لأنها تغمس صاحبها في الإثم لأنه تعمد فيها الكذب.
[اليمين الغموس]
م: (فالغموس: هو الحلف على أمر ماض يتعمد الكذب فيه) . ش: على إثبات شيء أو نفيه، وسواء كان ماضياً أو حالاً، نظير الماضي قول الرجل والله ما فعلت ذلك الأمر، هو عالم بأنه قوله.
ونظير الحال قوله والله إنه زيد مع علمه إنه عمرو، وما أشبهه. وقول المصنف - على أمر ماض - وهو عبارة القدوري، فلذلك اقتصر المصنف عليه، ويشير قوله - على أمر ماض - قيدوا لها الماضي والحال، سواء لأن الغموس لا يتحقق في الحال أيضاً، ولكنه اقتصر على الماضي بناء على الغالب، لأن الماضي شرط، ولهذا صرح صاحب " التحفة " وغيره: أن الغموس يتحقق في الحال أيضا. وفي " شرح الكافي ": اليمين الغموس ليست يمين في الحقيقة، لأن اليمين عقد مشروع، وهذه كبيرة محضة، وهي ضد المشروع، ولكن سمي يميناً مجازاً لارتكاب هذه الكبيرة باستعمال صورة اليمين، وفي البخاري عن عبد الله بن عروة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس» .
م: (فهذه اليمين يأثم فيها صاحبها لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) . ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: «من حلف كاذباً أدخله الله النار» . ش: هذا الحديث غريب بهذا اللفظ، ولكن ورد في صحيح ابن حبان من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقطع بها مال امرء مسلم، حرم الله عليه الجنة، وأدخله النار» وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لقي الله وهو عليه غضبان» ، وفي سنن أبي داود من حديث عمران بن حصين قال: قال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين مصبورة كاذباً فليتبوأ مقعده من النار» ، وقال الأترازي: ألزم بها وحبس عليها وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم، وقيل لها مصبورة وإن كان صاحبها هو المصبور لأنه إنما صبر من أجلها أي حبس ووصف بالصبر وأضيف إليه مجازاً.(6/112)
ولا كفارة فيها إلا التوبة والاستغفار، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيها الكفارة لأنها شرعت لرفع ذنب هتك حرمة اسم الله تعالى، وقد تحقق بالاستشهاد بالله كاذبا فأشبه المعقودة. ولنا أنها كبيرة محضة، والكفارة عبادة حتى تتأدى بالصوم، ويشترط فيها النية، فلا تناط بها، بخلاف المعقودة؛ لأنها مباحة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا كفارة فيها إلا التوبة والاستغفار) . ش: وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - وكذا أهل العلم منهم عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وسعيد بن المسيب والحسن البصري والأوزاعي والثوري والليث وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الحديث وداود الظاهري.
م: (وقال الشافعي: فيها الكفارة) . ش: وهو قول الزهري ومحمد بن مسلم وعطاء بن أبي رباح. م: (لأنها) . ش: أي لأن الكفارة. م: (شرعت لرفع ذنب هتك حرمة اسم الله تعالى) . ش: فيه تتابع الإضافات. م: (وقد تحقق) . ش: أي الهتك. م: (بالاستشهاد بالله) . ش: أي الحلف بالله حال كونه. م: (كاذباً فأشبه المعقودة) . ش: أي اليمين المعقودة.
م: (ولنا أنها) . ش: أي اليمين الغموس. م: (كبيرة محضة) . ش: لما روى البخاري من حديث عبد الله بن عمر قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من الكبائر الإشراك بالله» وقد مضى الآن، ولو كان بها كفارة لذكرها. وقال الكاكي: والجمهور قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خمس من الكبائر لا كفارة فيهن، وعد منها اليمين الفاجرة» ، رواه أبو الفرج.
وقال ابن المنذر: لا نعلم خبراً يدل على ما قال الشافعي من وجوب الكفارة. م: (والكفارة عبادة حتى تتأدى بالصوم، ويشترط فيها النية) . ش: والمشروعات ثلاثة أنواع: عبادة محضة، وسببها مباح، وعقوبة محضة وسببها حرام محض، وكفارات مترددة بين العبادة والعقوبة، ويشترط لها النية كسائر العبادات والنية لا تشترط في العقوبات. م: (فلا تناط بها) . ش: أي فلا تناط الكفارة بالكبيرة يعني أن اليمين الغموس بما كانت كبيرة محضة لم تكن مناطاً لكفارة التي هي عبادة، بدليل أدائها بالصوم.
م: (بخلاف المعقودة) . ش: أي بخلاف اليمين المنعقدة، فإنها ليست بكبيرة. م: (لأنها مباحة) . ش: فجاز أن يناط بها لعبادة. وقال الأكمل: وفيه بحث من وجوه:
الأول: لو كان ما ذكرتم صحيحاً لما وجبت الكفارة على المظاهر لكون الظاهر منكراً من القول وزوراً، وهذا نقص إجمال.
الثاني: ما وجبت بالأدنى وجبت بالأعلى بطريق الأولى.
الثالث: الكبيرة سيئة، والعبادة حسنة وأشباهها إياها مباح بها، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أتبع(6/113)
ولو كان فيها ذنب فهو متأخر متعلق باختيار مبتدأ، وما في الغموس ملازم، فيمتنع الإلحاق بها،
والمنعقدة ما يحلف على أمر في المستقبل أن يفعله أو لا يفعله، وإذا حنث في ذلك لزمته الكفارة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يؤاخذكم الله باللّغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان} [المائدة: 89] (البقرة: الآية 225) ، وهو ما ذكرنا، ويمين اللغو: أن يحلف على أمر ماض، وهو يظن أنه كما قال والأمر بخلافه، فهذه اليمين نرجو أن لا يؤاخذ الله بها صاحبها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السيئة الحسنة تمحها» .
والجواب الأول: أن الكفارة لم تجب بالظهار، بل بالعود الذي هو العزم على الوطء، وهو مباح.
وعن الثاني: بأنه لا يلزم من رفع الأضعف شيء رفع الأقوى به.
وعن الثالث: بأن الحسنة تمحو السيئة المقابلة لها، ومقابلة هذه الحسنة بهذه السيئة ممنوعة، بل المظنون خلاف المقابلة لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خمس من الكبائر لا كفارة فيهن» ... الحديث " ولو كان فيها ذنب هذا جواب عما يقال المباح هو ما لا يكون فيه ذنب، والمنعقدة فيها ذنب فلا تكون متأخرة فلا تناط بها العبادة كما ذكرتم.
م: (ولو كان فيها) . ش: أي في المنعقدة. م: (ذنب فهو متأخر) . ش: عن اليمين بالحنث. م: (متعلق باختيار مبتدأ) . ش: ففيما يفعل اختياري. م: (وما في الغموس ملازم) . ش: إنما في الغموس من الذنب ملازم لا يفارقها لا ابتداء ولا انتهاء، فإذا كان كذلك. م: (فيمتنع الإلحاق بها) . ش: أي بالمنعقد فلا يصلح إلحاق الغموس بالمنعقدة قياساً عليها. وقال الأكمل: وفي هذا الجواب تلويح إلى الجواب عن قوله فأشبه المعقود..
[اليمين المنعقدة]
م: (والمنعقدة) . ش: أي اليمين المنعقدة. م: (ما يحلف) . ش: الحالف. م: (على أمر في المستقبل أن يفعله أو لا يفعله) . ش: مثال الفعل والله لأدخلن دارك مثلاً، ومثال عدم الفعل والله لا أكلم فلاناً مثلاً. م: وإذا حنث في ذلك) . ش: أي في إتيانه باليمين المنعقدة. م: (لزمته الكفارة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] [البقرة الآية: 225] ،. م: (وهو ما ذكرنا) . ش: أي المراد من قَوْله تَعَالَى {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] ما ذكرنا من قولنا، والمنعقدة ما يحلف على أمر في المستقبل أن يفعله أو لا يفعله، يعني حقيقة ما نص في الآية ما ذكرنا.. م: (ويمين اللغو: أن يحلف على أمر ماض، وهو) . ش: أي الحال أنه. م: (يظن أنه كما قال) . ش: يعني ظن أن الأمر كما ذكره لقوله والله لقد دخلت الدار، والله ما كلمت زيداً. م: (والأمر بخلافه) . ش: أي والحال أن الأمر بخلاف ما كان يظنه. م: (فهذه اليمين) ش: أي يمين اللغو هذه حكمها م: (نرجو أن لا يؤخذ الله بها) ش: أي بهذه اليمين اللغو م: (صاحبها) . ش: وذلك لأن يمين اليمين اللغو لا حكم لها أصلاً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] [البقرة الآية: 225] ، أي لا يؤاخذكم الله بلغو اليمين يحلفه أحدكم بالظن، وفي " الشامل " وعن الشافعي(6/114)
ومن اللغو أن يقول والله إنه لزيد وهو يظنه زيدا وإنما هو عمرو. والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {لا يؤاخذكم الله باللّغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم} [المائدة: 89] .... الآية (البقرة: الآية 225) ، إلا أنه علقه بالرجاء للاختلاف في تفسيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اللغو اليمين التي لم يقصدها في الماضي والمستقبل. وهو إحدى الروايتين عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي " التحفة " قال الشافعي فيمين اللغو هي اليمين التي تجري على لسان الحالف من غير قصد، مثل قوله لا والله، بلى والله، أو كان بغير القرآن، فجرى على لسانه اليمين.
وقال الكاكي: وعن محمد يمين اللغو هو قول الرجل لا والله وبلى والله في كلامه، وهو مروي عن عائشة موقوفاً ومرفوعاً. وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رواية قال الشافعي وأحمد ومحمد في رواية. وقال الشافعي في رواية مثلها ذكرها صاحب " التحفة "، وهو قول محمد في رواية. وعن مالك أن اللغو هو اليمين الغموس، كذا نقل عن الشافعية. وقال إبراهيم النخعي: لغو اليمين أن يحلف ناسياً على ماض أو مستقبل. وقال الشعبي ومسروق: لغو اليمين أن يحلف على معصية، ويتركها، فيكون لاغياً ليمينه. وقال سعيد بن جبير: لغو اليمين أن يحرم على نفسه ما أحل الله له من قول أو عمل.
[يمين اللغو]
م: (ومن اللغو) . ش: أي ومن يمين اللغو. م: (أن يقول الرجل والله إنه لزيد، وهو) . ش: أي والحال. م: (يظنه زيداً وإنما هو عمرو) . ش: وكذا إذا رأى طائراً من بعد فظنه غراباً فقال والله إنه غراب فإذا هو حمام. م: (والأصل فيه) . ش: أي في اللغو اليمين (قَوْله تَعَالَى. م: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ} [المائدة: 89] الآية [البقرة الآية: 225] {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وقد مر تفسيره الآن. م: (إلا أنه علقه بالرجاء) . ش: أي غير أن محمداً علقه بالرجاء. قال الكاكي: هذا جواب عن سؤال مقدر، ذكره في " المبسوط ".
فإن قيل ما معنى تعلق محمد بنفي المؤاخذة بالرجاء وعدم المؤاخذة في اللغو منصوص وما عزاه بالنص فهو مقطوع به قلنا نعم، ولكن صورة مالك اليمين مختلف فيها بالرجاء نفي المؤاخذة في اللغو بالصورة التي ذكرها، وذلك غير معلوم بالنص، مع أنه لم يرد بذلك اللفظ التعليق بالرجاء أراد به التعظيم والتبرك بذكر اسم الله تعالى، كما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مر بالمقابر، فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» .
وما ذكر الاستثناء بمعنى المثل فإنه كان يتعين بالموت، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر: 30] الآية، ولكن معنى الاستثناء مما ذكر من الاختلاف في تفسير على ما ذكرناه وعلى ما نذكره إن شاء الله تعالى.(6/115)
قال: والقاصد في اليمين والمكره والناسي سواء، حتى تجب الكفارة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأترازي قوله - الآية - علقه بالرجاء، هذا جواب سؤال مقدر بأن يقال كيف علق القدوري عدم المؤاخذة بالرجاء في قوله فهذه اليمين نرجو أن لا يؤاخذ الله بها صاحبها وعدم المؤاخذة مقطوع بالنص في اللغو، قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] [البقرة الآية 225] .
فأجاب عنه وقال نعم، لكن. م: (للاختلاف في تفسيره) . ش: أي في تفسير اللغو، فأورث شبهة، فلهذا لم يقطع القول بعدم المؤاخذة فيما فسره من اللغو، وقد اقتدى القدوري بمحمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - انتهى. قلت: هذا كما رأيت فاعل قوله علقه لمحمد بن الحسن على ما ذكر الكاكي، وعلى ما ذكره الأترازي والقدوري، فتأمل أيما صواب.
وقال الزجاج في تفسير اللغو: يقال لغوت لغواً ولغوت الغي لغواً، مثل للغي ورحت التكلم بحرث الحو والحي محواً، ويقال لغيت في الكلام ألغي لغواً لغي إذا أتيت بلغو، أو كل ما لا خير فيه مما يريم فيه اللغي ورقة التكلم، أو يكون غير محتاج إليه في الكلام فهو لغو ولغا.
قال الزجاج: وقال الجوهري: لغا يلغو لغواً، أي قال باطلاً، ونباح الكلب لغو أيضاً، ولغي بالكسر لغى والأغية اللغو، وروى الزمخشري عن مجاهد هو الرجل يحلف على الشيء ويرى أنه كذلك، وليس كما ظن، وروي أن الحسن سئل عن لغو اليمين، وعنده الفرزدق قال: يا أبا سعيد دعني أجب عنك، فقال وليت بمأخوذ ويغلو بقوله: [إذا لم تغمد عاقدات العزائم] .
ذكره في تفسير سورة المائدة. وقال أيضاً في سورة البقرة اللغو الساقط الذي لا يعتد به في كلام وغيره، ولذلك قيل لما لا يعتد به في الدية من أولاد الإبل لغو. وقال شمس الأئمة السرخسي في أصوله قال علماؤنا: اللغو ما يكون خالياً عن الفائدة اليمين شرعاً ووصفاً، فإن فائدة اليمين إظهار الصدق من الخبر، فإذا أضيف إلى خبر ليس فيه احتمال الصدق كان خالياً عن فائدة اليمين، وكان لغواً.
[القاصد في اليمين والمكره والناسي سواء]
م: (قال) . ش: أي القدوري. م: (والقاصد في اليمين والمكره والناسي سواء) . ش: الناس هو الذي أراد أن يتكلم بكلام، فجري على لسانه اليمين وهو خاطئ حقيقة، كذا ذكره في التقويم، وقيل الناسي هو الذي يذهل عن التلفظ باليمين ثم يذكر أنه تلفظ باليمين ناسياً.
وفي بعض النسخ ذكر " الخاطئ " مكان الناسي. م: (حتى تجب الكفارة) . ش: بيان نتيجة كون القاصد في اليمين والمكره والناسي سواء يعني لا فرق في وجوب الكفارة على هؤلاء جميعاً. م:(6/116)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق واليمين» . والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا في ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) . ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد، النكاح والطلاق واليمين» . ش: هذا الحديث ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هكذا وبعض الفقهاء يجعل عوض اليمين العتاق، ومنهم صاحب الخلاصة والغزالي في " الوسيط " وغيرهما، وكلاهما غريب، وإنما الحديث النكاح والطلاق، والرجعة. أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبد الرحمن بن حبيب بن أردك عن عطاء بن أبي رباح عن ابن ماهك عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد، النكاح والطلاق والرجعة» انتهى.
وقد غلط النووي الغزالي في " تهذيب الأسماء واللغات "، فقال: وقد وقع هذا الحديث في " الوسيط " النكاح والطلاق والعتاق، وليس بصواب، وإنما الصواب الرجعة.
قلت: فيه نظر، روى الحارث بن أبي أسامة في مسنده حدثنا بشر بن عمر حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن أبي جعفر عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجوز اللعب في ثلاث، الطلاق والنكاح والعتاق» [....
.] وروى الطبراني من حديث فضالة بن عبيد بلفظ: «ثلاثة لا يجوز اللعب فيهن الطلاق والنكاح والعتاق» .
وفيه ابن لهيعة كما مر وما قيل الكلام أن لفظ الحديث هو الذي رواه أبو داود والترمذي كما مر ورواه الترمذي وصححه الحاكم وليس فيه لفظ اليمين، وشراح " الهداية " كلهم سكتوا عن هذا غير أن الأترازي قال في شرحه: لنا ما روى أصحابنا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال ثلاث....
. إلى آخره، ولو سكت مثل غيره لكان أوجه.
م: (والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا في ذلك) . ش: أي فيما ذكر من يمين المكره والناسي فإنه يقول لا ينعقد يمينهما، واحتج بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وأجاب أصحابنا عنه بأنه ليس المراد منه حقيقة الخطأ والنسيان، والإكراه، لأنها ليست بمرفوعة حقيقة بدليل وقوعها حساً، وإنما المراد منه الحكم وهو إما حكم الدنيا أو حكم الآخرة، والأول بدليل وجوب الكفارة والدية في القتل الخطأ، وهو من أحكام الزنا. وكذا يجب الغسل مما إذا جامع المكره على الزنا يفسد حجه وصومه، وذلك من أحكام الدنيا فتعين الثاني هو رفع الإثم.
فإن قلت: لا يثبت الكفر مع الإكراه فينبغي أن لا ينعقد اليمين به كالنوم والجنون، وأن لا(6/117)
وسنبين ذلك في الإكراه إن شاء الله تعالى،
ومن فعل المحلوف عليه مكرها أو ناسيا فهو سواء؛ لأن الفعل الحقيقي لا ينعدم بالإكراه وهو الشرط. وكذا إذا فعله وهو مغمى عليه أو مجنون لتحقق الشرط حقيقة. ولو كانت الحكمة رفع الذنب، فالحكم يدار على دليله وهو الحنث لا على حقيقة الذنب، والله تعالى أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يسلم صحة القياس لعدم المماثلة بين [المكره] والمغمى عليه، لأن النوم والجنون نافيان التكليف بخلاف الإكراه ولهذا أباح الخمر للمكره، ويحرم عليه قتل النفس والزنا، وذلك آية الخطاب.. م: (وسنبين ذلك في الإكراه إن شاء الله تعالى) . ش: إن أراد به ما ذكره في كتاب الإكراه بقوله - وكذا اليمين والظهار لا يعمل فيهما لعدم احتمالهما الفسخ.
م: (ومن فعل المحلوف عليه مكرهاً أو ناسياً فهو سواء) . ش: يعني إذا حلف لا يفعل شيئاً وكان طائعاً في الحلف ثم فعله وهو مكره أو ناس يحنث وبه قال مالك والشافعي في قول وأحمد في رواية. وقال الشافعي في الأصح وأحمد في رواية: لا يحنث للحديث المذكور، وهو أنه قد مر. وكذا عندنا على ما يجيء إذا فعل المحلوف عليه وهو مغمى عليه أو مجنون لتحقق الشرط حقيقة، وقد وجد وهو الفعل الحق لأنه لا ينعدم بالإكراه.
فإن قلت: اليمين يقوى بها الحالف على الفعل أو الترك، وهو من الأفعال الاختيارية، فكيف يكون الناسي فيه كالقاصد.
قلت: ذلك هو القياس، وقد ترك بالنص لا يقال النص معارض بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» .... " الحديث [
... ]
م: (لأن الفعل الحقيقي) . ش: الذي يوجد حسا. م: (لا ينعدم بالإكراه وهو الشرط) . ش: أي وجود الفعل الحقيقي، وهو الشرط وقد وجد. م: (وكذا إذا فعله وهو مغمى عليه أو مجنون) . ش: هذا ذكره المصنف تفريعاً لعله القدوري، لأنه قوله ومن فعل المحلوف عليه مكرهاً أو ناسياً فهو سواء للفظ القدوري، يعني إذا حلف وهو صحيح العقل ثم فعل المحلوف عليه في حال الإغماء أو الجنون يجب عليه الكفارة. م: (لتحقق الشرط حقيقة) . ش: الشرط هو الحنث وقد تحقق حقيقة الشروط.. م: (ولو كانت الحكمة رفع الذنب) . ش: هذا جواب عما يقال الحكم في شرع الكفارة رفع الذنب، لأنها ستارة كاسمها، ولا ذنب للمجنون والمغمى عليه فعلاً لعدم الفهم فينبغي أن لا يحنث ولا يجب عليهما الكفارة.
فأجاب بقوله - ولو كانت الحكمة - أي مشروعية الكفارة رفع الذنب على تقدير التسليم. م: (فالحكم) . ش: أي حكم الكفارة. م: (يدار على دليله) . ش: أي دليل الذنب. م: (وهو الحنث في اليمين لا على حقيقة الذنب) . ش: كما في الاستبراء، فإنه يجب على المشتري لوجود دليل الشغل، وإن لم يوجد حقيقة الشغل.(6/118)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الأكمل: ولقائل أن يقول إقامة الدليل مقام المدلول لدوران الحكم عليه إنما يكون إذا كان المدلول أمراً خفياً عن الأصل فيدور عليه.
وإن لم يتصور المدلول في بعض الصور كما ذكرت من شغل الرحم، والمدلول وهو الذنب في هذه الصورة عند الحنث محقق الظاهر، فلا يصح إقامة الدليل مقام المدلول.(6/119)
باب ما يكون يمينا وما لا يكون يمينا قال: واليمين بالله تعالى أو باسم آخر من أسماء الله تعالى كالرحمن والرحيم أو بصفة من صفاته التي يحلف بها عرفا كعزة الله وجلاله وكبريائه، لأن الحلف بها متعارف،
ومعنى اليمين وهو القوة حاصل، لأنه يعتقد تعظيم الله وصفاته، فصلح ذكره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب ما يكون يمينا وما لا يكون يمينا] [اليمين بالله أو باسم آخر من أسماء الله عز وجل]
م: (باب ما يكون يميناً وما لا يكون يميناً)
ش: أي هذا باب في بيان ما يكون يميناً من الألفاظ وما لا يكون يميناً
م: (قال) . ش: أي القدوري. م: (واليمين بالله) . ش: أي بلفظ الله لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» رواه مالك في الموطأ. م: (أو باسم آخر) . ش: أي اليمين باسم آخر. م: (من أسماء الله - عز وجل - كالرحمن والرحيم) . ش: قال الكاكي ثم جميع أسماء الله تعالى في ذلك سواء يفارق الناس الحلف به أولاً، وهو الظاهر من مذهب أصحابنا وهو الصحيح، وبه قال مالك وأحمد والشافعي وقوله للحديث المذكور.
والحلف بجميع أسمائه حلف بالله. وذكر شمس الأئمة البيهقي في " الشامل "، ثم اليمين اسم آخر من أسماء الله تعالى إذا كان اسماً لا يشارك فيه غيره يكون يميناً، لأنه لا يحتمل غير اليمين.
ولو حلف باسم يشارك فيه غيره كالحكم والعزيز إن نوى به يكون يميناً، وإلا فلا لأنه يحتمل وسوى في " التحفة " بين أن يكون اسماً خاصاً لله تعالى، أو اسماً يشارك فيه غيره. وقال الأترازي: فيه نظر لأنه بالإجمال لا يتعين اسم الله مراداً.
م: (أو بصفة) . ش: أي اليمين بصفة. م: من صفاته التي يحلف بها عرفاً كعزة الله وجلاله وكبريائه، لأن الحلف بها متعارف) . ش: أي الحلف بصفة من صفاته متعارف المراد بالصفة هي الحقيقة وهي المعنى القائم بالذات اسماً لعزة ونحوها لا لصفة ألحق به كقولك مررت برجل قائم، قال الأترازي: ثم صفاته تعالى إن كان من صفات الذات يجوز اليمين بها، وإن كانت من صفات الفعل، فلا يجوز اليمين بها. والفصل بينهما أن كل ما لا يجوز أن يوصف الله بضده فهي من صفات الذات كعزة الله تعالى وجلاله وكبريائه وقدرته إلا العلم فإن اليمين به لا يجوز لجواز إرادة المعلوم كما قال الله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] [البقرة الآية: 255] ، أي من معلوماته، كذا قال الزمخشري. وكل ما يجوز أن يوصف الله عز وجل بضده، فهي من صفات الفعل كالرحمة والغضب والسخط عليها على ما يجيء الآن.
[الحلف بصفات الذات كالقدرة والعظمة]
م: (ومعنى اليمين وهو القوة حاصل) . ش: أي في صفاته التي علق بها عرفاً. م: (لأنه) . ش: أي لأن الحالف. م: (يعتقد بعظمة الله وصفاته فصلح ذكره) . ش: أي ذكر الحالف اسم الله تعالى وصفاته(6/120)
حاملا ومانعا.
قال: إلا قوله وعلم الله، فإنه لا يكون يمينا لأنه غير متعارف، ولأنه يذكر ويراد به المعلوم، يقال: اللهم اغفر علمك فينا، أي معلوماتك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صلح. م: (حاملاً) . ش: على اليمين. م: (ومانعاً) . ش: حاصل الكلام أن يقال إن مبنى الأيمان على العرف فما تعارف الناس الحلف به يكون يميناً وإلا فلا وهو اختيار مشايخ ما وراء النهر لأن اليمين إنما يعتقد للحمل أو المنع.
وذا إنما يكون بما يعتقد الحالف تعظيمه، وكل مؤمن يعتقد بعظمة الله وصفاته، إذ هو معظم بجميع أسمائه وصفاته، فصارت حرمة ذاته وصفاته حاملاً أو مانعاً على ما قصد الحالف نفياً وإثباتاً.
وفي " المبسوط " قال مشايخنا العراقيون الحلف بصفات الذات كالقدرة والعظمة والعزة والجلال والكبرياء غير، والحلف بصفات الفعل كالرحمة والسخط والغضب، ولا يكون يميناً، وقالوا ذكر صفات الذات لذكر الذات وذكر صفات الفعل ليس لذكر الذات، والحلف بالله مشروع دون غيره.
وعلى هذا ينبغي أن يكون وعلم الله، يميناً، لأنه من صفات الذات ولكنهم تركوا هذا القياس، لأن العلم يذكر ويراد به المعلوم بجميع.
[قال وعلم الله أو قدرة الله تعالى ونوى به اليمين أو أطلق]
م: (قال إلا قوله وعلم الله) . ش: وفي بعض النسخ قال، أي القدوري إلا قوله وعلم الله، وهذا مستثنى منقطع من قوله - أو بصفة من صفاته - التي يحلف بها عرفاً. م: (فإنه) . ش: أي فإن الحلف بعلم الله. م: (لا يكون يميناً، لأنه غير متعارف) . ش: لأن اليمين إذا لم يكن متعارفاً كان استثناء عن العرف منقطعاً.
وقال الشيخ أبو نصر: هذا الذي ذكره القدوري استحساناً، والقياس أن يكون يميناً، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قلت: قال الشافعي: إذا قال وعلم الله أو قدرة الله تعالى، ونوى به اليمين أو أطلق فهو يمين، ولو قال أردت المعلوم أو المقدور لم يكن يميناً، وكذا في خلق الله وزرق الله لم يكن يميناً بلا نية وقال مالك: لا ينعقد اليمين بصفات الفعل، وبه قال أحمد في رواية لأنه مشترك، ومع الاشتراك حرمة له فلا ينعقد اليمين به، وعن أحمد في القدرة مثل قولنا.
م: (ولأنه) . ش: أي ولأن العلم. م: (يذكر ويراد به المعلوم، يقال اللهم اغفر علمك فينا أي معلوماتك) .
ش: فإن قلت: على هذه القدرة فإنها تصح بها اليمين مع صحة إرادة المقدور، وبهذا يقال انظر إلى قدرة الله تعالى.
قلت: لا نسلم لأن المقدور بالموجود خرج أن يكون مقدوراً، لأن التحصيل محل، فلم(6/121)
ولو قال وغضب الله وسخطه لم يكن حالفا، وكذا ورحمة الله، لأن الحلف بهما غير متعارف، ولأن الرحمة قد يراد بها أثرها وهو المطر أو الجنة والغضب والسخط يراد بهما العقوبة.
ومن حلف بغير الله لم يكن حالفا كالنبي والكعبة؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من كان منكم حالفا فليحلف بالله أو ليذر» . وكذا إذا حلف بالقرآن لأنه غير متعارف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يحتمل إرادة بالحلف وقيل الموجود معدوم ولا تعارف في الحلف بالمعدوم، فكان المراد بالحلف بالقدرة هي الصفة القائمة بذات الله تعالى، بخلاف العلم إذا أريد به المعلوم، حيث لا يخرج المعلوم عن أن يكون معلوماً بالموجود، فظهر الفرق بين العلم والقدرة.
[قال وغضب الله وسخطه]
م: (ولو قال وغضب الله وسخطه لم يكن حالفاً) . ش: وكذا إذا قال وعذاب الله أو ثوابه أو رضاه، وبه صرح الحاكم في " الكافي " م: (وكذا) . ش: أي وكذا ليس يمين إذا قال. م: (ورحمة الله لأن الحلف بهما) . ش: أي بغضب الله وبرحمته. م: (غير متعارف) . ش: لأن الأصل أن كل ما يتعارفه العرف يميناً ولم يرد به النهي في الشريعة كان يميناً وكل ما لا يتعارفه العرف يميناً لا يكون يميناً. م: (ولأن الرحمة قد) . ش: يذكر. م: (يراد بها أثرها وهو المطر) . ش: قيل هذا منقوض، بقدرة الله تعالى فإنه يقال انظر إلى قدرة الله تعالى، والمراد أثره، [....
... ] ، ومع ذلك يحلف بها. م: (أو الجنة) . ش: أي يذكر الرحمة ويرد بها الجنة، قال الله عز وجل {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107] .
م: (والغضب) . ش: مبتدأ. م: (والسخط) . ش: عطف عليه وقوله. م: (يراد بهما العقوبة) . ش: خبر المبتدأ، ولو قال وأمانة الله يكون يميناً، لأن معناه والله اليمين، وأنه من صفات ذاته، كذا في " الشامل " وهذا الخلاف ما ذكره صاحب " التحفة " عن الطحاوي أنه لا يكون يميناً، وإن نوى بخلاف ما روي عن أبي يوسف أنه لا يكون يميناً، وهو الأصح لما روي عن زيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف بالأمانة فليس منا» ، وهو الأصح.
[حلف بالنبي وبالكعبة]
م: (ومن حلف بغير الله لم يكن حالفاً كالنبي والكعبة) . ش: أي قال والنبي لا أفعل هذا والكعبة كذلك. م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) . ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: «من كان منكم حالفاً فليحف بالله أو ليذر» . ش: هذا الحديث أخرجه الجماعة إلا النسائي عن نافع «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: " أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدركه في ركب وهو يحلف بأبيه، فقال إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليسكت " ولفظ الصحيحين: " أو ليصمت» وقال مخرج الأحاديث. عجب من الشيخ زكي الدين كيف عزاه للنسائي وترك الترمذي والنسائي لم يذكر، وذكره برمته.
م: (وكذا إذا حلف بالقرآن) . ش: لا يكون يميناً. م: (لأنه غير متعارف) . ش: لأنه يراد به المقدور هو غير الله تعالى. وقال الشافعي ظني ليس ينبغي أن يحلف رجل بتوريته من كتاب الله تعالى ولا بالقرآن ولا بالكعبة، ولا بالصلاة ولا بالصيام ولا شيء من طاعات الله عز وجل.
قال الأترازي: أنه لو حلف فقال والصلاة لا أفعل، كذا كان قد حلف بغير الله. وقال أبو(6/122)
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: معناه أن يقول: والنبي والقرآن، أما لو قال: أنا بريء منهما يكون يمينا، لأن التبري منهما كفر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يوسف: إن قال والرحمن لا أفعل كذا، وعنى به سورة الرحمن لا حنث عليه كذا ذكره الناطفي في " الأجناس ". وكذلك لو قال والرسول والنبي والمسجد الحرام وبيت الله لا يكون يميناً، كذا في " شرح الطحاوي "، وقال في " الكافي " وما اعتاده الناس من الحلف مجاز [تووسرتوا] .
فإن اعتقد أنه حلف وأن البر به واجب يكفر كذا في " محاسن الشرائع "، وفي " التتمة " قال علي الرازي: أخاف على من قال بحياتي وحياتي، وما أشبه ذلك أنه يكفر، ولولا أن العامة يقولون ولا يعلمونه، لعله أنه شرك، لأنه لا يمين إلا بالله، فإذا حلف بغير الله فكأنه أشرك معه غيره.
وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغير الله صادقاً، ثم الحلف بالكعبة والنبي والقرآن والعرش والكرسي وما أشبه ذلك لا ينعقد عند الجمهور. وعن أحمد ينعقد اليمين بالحلف بالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في رواية وعن ابن عمر أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «من حلف بغير الله فقد أشرك» رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
فإن قيل: إن الله تعالى أقسم بغير ذاته وصفاته لقوله والشمس والليل، والضحى ونحو ذلك كثر في القرآن قلنا. الله تعالى ولاية الإيجاد والأمر والنهي والتعظيم والتحقير، وله أن يثبت الحرمة لمن شاء، وليس للعبد ذلك بل عليه أن ينتهي عما نهاه الله تعالى عنه. وقد نهى الله تعالى أن يحلف بغيره.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - معناه) . ش: أي قال المصنف معنى قول الحالف بالقرآن أو بالنبي. م: (أن يقول والنبي والقرآن) . ش: لا أفعل كذا. م: (أما لو قال أنا بريء من النبي أو من القرآن يكون يميناً لأن التبري منهما) . ش: أي من النبي والقرآن. م: (كفر) . ش: وكذا إذا قال هو بريء من الصلاة والصوم يكون يميناً عندنا، خلافاً للشافعي.
وكذا إذا قال هو بريء من الإسلام إن فعل كذا، خلافاً للشافعي، وعليه نص في " شرح الطحاوي ". وقال في " النوازل ": إن قال والكتب الأربعة فليس هذا يمين، وإن قال هو أنا بريء من الكتب الأربعة فعليه كفارة يمين واحدة وإن قال أنا بريء من التوراة وبريء من الإنجيل وبريء من الزبور، وبريء من القرآن وجبت عليه أربع كفارات. وقال في " خلاصة الفتاوى " ولو(6/123)
قال: والحلف بحروف القسم، وحروف القسم الواو كقوله والله. والباء كقوله بالله، والتاء كقوله تالله، لأن كل ذلك معهود في الأيمان ومذكور في القرآن
وقد يضمر الحرف، فيكون حالفا كقوله: الله لا أفعل كذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال بحرمته شهد الله ولا إله إلا الله لا يكون يميناً.
وقال في فتاوى " الولوالجي ": رجل رفع كتاباً من كتب الفقه أو دفتر حساب فيها مكتوب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وقال أنا بريء مما فيه إن دخلت، فدخل تلزمه الكفارة لأنه يمين بالله تعالى. ولو قال أنا بريء من المصحف لا يكون يميناً، لأن المصحف جلد وأوراق.
ولو قال أنا بريء مما في المصحف يكون يميناً لأن ما في المصحف قرآن، ولو قال أنا بريء من الحجة التي حججت أو من الصلاة التي صليت فليس بيمين، بخلاف ما لو قال أنا بريء من القرآن الذي تعلمته فإنه يمين، ولو قال أنا بريء من شهر رمضان وأراد به البراءة من فرضيته فهو يمين، ولو أراد به البراءة عن آخرها لا يكون يميناً، وإن لم يكن له نية لا يكون يميناً.
[الحلف بحروف القسم]
م: (قال) . ش: أي القدوري. م: (والحلف بحروف القسم) . ش: أي الحلف يكون بحروف القسم. م: (وحروف القسم) . ش: ثلاثة، أحدها. م: (الواو، كقوله والله، والباء) . ش: أي الثاني حرف الباء. م: (كقوله بالله والتاء) . ش: الثالث حرف التاء. م: (كقوله تالله) . ش: الأصل فيها الباء الموحدة، لأنها للإلصاق، وهي تضيف الحلف إلى المحلوف به في قولك أحلف بالله، ثم يحذف الفعل تخفيفاً، ويكتفي بحرف القسم ويبدل منها الواو، لمناسبة بينهما لأن وضعها للجمع وفي الجمع معنى الإلصاق. ثم يبدل من الواو التاء لمناسبة بينهما، لأنهما من حروف الزوائد كما في تراث أصله وارث وحجة أصلها وحمه، وبما كانت الباء أصلاً دخلت في اسم الله وغيره في المظهر لما كانت بدلاً، والمضمر والواو معاً البدل انحطت بدرجة حيث لم يدخل في المظهر والمضمر جميعاً انحطت بدرجة حيث دخلت في المظهر دون المضمر، والتاء لما كانت بدلاً على اسم الله تعالى وحده. وقال عبد القادر حكاه أبو الحسن من قولهم ترى فشاذ لا يؤخذ به.
م: (لأن كل ذلك) . ش: أي المذكور من الحروف. م: (معهود في الأيمان) . ش: التي تستعمل بين الناس. م: (ومذكور في القرآن) . ش: كقوله تعالى: {بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] [لقمان الآية: 13] ، وكقوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] [الأنعام الآية 23] ، وكقوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] [الأنبياء الآية 57] .
[إضمار حروف القسم في اليمين]
م: (وقد تضمر حروف القسم، فيكون حالفاً كقوله الله لا أفعل كذا) . ش: فإن حرف القسم أضمر في قوله الله لا أفعل كذا، فإن أصله والله لا أفعل كذا، أو أراد بقوله فيكون حالفاً أن إضمار حرف القسم وإظهاره سواء في تحقيق اليمين، ثم أشار إلى وجه الإضمار بقوله. م: (لأن(6/124)
لأن حذف الحرف من عادة العرب إيجازاً. ثم قيل ينصب لانتزاع حرف خافض. وقيل: يخفض فتكون الكسرة دالة على المحذوف. وكذا إذا قال: لله في المختار، لأن الباء تبدل بها، قال الله تعالى: {آمنتم له} [طه: 71] (طه: الآية 71) ، أي آمنتم به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حذف الحرف من عادة العرب إيجازاً) . ش: أي لإيجاز، أي الاختصار، لأنه مطلوب في كلامهم، ثم إن المصنف ذكر لفظ الإضمار في الرواية وذكر لفظ الحذف في التعليل بطريق المسامحة لما أن بين الإضمار والحذف فرقاً، فإن في الضمير ما يبقى أثره نحو قوله: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 171] [النساء الآية 171] ، أي يكون الانتهاء خيراً لكم، والمحذوف ما لا يبقى أثره نحو قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] [يوسف الآية: 82] .
م: (ثم قيل ينصب لانتزاع حرف خافض) . ش: أراد بهذا إلى بيان الخلاف في وجه النصب والخفض في لفظ القسم به بعد حرف القسم، فقيل ينصب، وهو قول البصريين، وعلل وجه النصب بقوله الانتزاع حرف خافض، وهو حرف القسم، لأن الأصل الله لا أفعل، كذا والله لا أفعل كذا.
فلما حذفت الواو وانتصب بنزع الخافض. م: (وقيل يخفض) . ش: وهو قول الكوفيين، هذا ذكره في " المبسوط " م: (فتكون الكسرة دالة على المحذوف) . ش: أي الكسرة التي على المحلوف به والمحذوف هو حرف القسم قال الكاكي: تعليله النصب بانتزاع الخافض والجر بدلالة الكسرة عليه غير مستقيم عند أهل النحو، لما أن انتصابه على أنه عند حذف حرف لاتصال فعل أحلف بالمحلوف به، إلا أن تأويل قوله الانتزاع الخافض، أي بسبب انتزاع الخافض يصل أحلف بالمحلوف به، وكذا الجر لإضمار حرف الجر، والعامل يعمل عمله عند الإضمار، بخلاف الحذف كما ذكرنا، إلا أن يؤول ويقول المراد بالمحذوف المضمر تسامحاً.
وقال الأكمل: هذه وظيفة نحوية في الأصل والأصول يبحث عنها من حيث البساط المزيل الفقيه بها والواصل إلى حد الاشتغال بكتاب " الهداية " لا يدون، وأن يكون قد وقف على ذلك ورآه.
م: (وكذا إذا قال: لله) . ش: يعني وكذا يكون يميناً إذا قال لله علي أن لا أكلم فلاناً. م: (في المختار) . ش: إنما قال في المختار احترازا عما روي عن أبي حنيفة أنه قال: لو قال لله علي أن لا أكلم فلاناً أنها ليست بيمين إلا أن ينوي، لأن الصيغة النظر، ويحتمل معنى اليمين ذكره الولوالجي في فتاواه. م: (لأن الباء تبدل بها) . ش: أي باللام. م: (قال الله تعالى: {آمَنْتُمْ لَهُ} [طه: 71] (طه: الآية 71) أي آمنتم به) . ش: فإنهما يتعاقبان. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج به.
وفي " فتاوى قاضي خان " قال بالله لأفعلن كذا وسكن الهاء أو رفعها أو نصبها يكون يميناً،(6/125)
وقال أبو حنيفة: - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا قال وحق الله فليس بحالف، وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإحدى الروايتين عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعنه رواية أخرى أنه يكون يمينا، لأن الحق من صفات الله تعالى، وهو حقيته فصار كأنه قال والله الحق والحلف به متعارف. ولهما أنه يراد به طاعة الله تعالى، إذ الطاعات حقوقه، فيكون حلفا بغير الله. قالوا: ولو قال والحق يكون يمينا. ولو قال حقا لا يكون يمينا؛ لأن الحق المعرف من أسماء الله تعالى، والمنكر يراد به تحقيق الوعد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن ذكر اسم الله عز وجل والخطأ في الإعراب لا يمنع صحة القسم لا في عرف الاستعمال ولا عرف الشرع، لما روي في الحديث وكأنه والله ما أردت بالرفع وروي بالجر وعليه الجمهور.
وعن بعض من أصحاب الشافعي وأحمد في رواية: أنه لو قال بالرفع لا يكون يميناً إلا بالنية، لأنه لم يأت بالموضوع ولا قصده، ويحتمل ابتداء الفعال والكلام، ويحتمل اليمين، فلا يكون يميناً إلا بالنية، وعليه جمع من أصحاب الشافعي. وفي " المحيط " إذا قال بالله لا يكون يميناً إلا إذا نوى. يعني إذا قال بكسر اللام ويكون إليها.
[قال وحق الله هل يكون يمينا]
م: (وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا قال وحق الله فليس بحالف) . ش: يعني لا يكون يميناً. م: (وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإحدى الروايتين عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعنه) . ش: أي وعن أبي يوسف. م: (في رواية أخرى أنه يكون يميناً) . ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد. م: (لأن الحق من صفات الله وهو حقيته) . ش: أي كونه حقاً. م: (فصار) . ش: الحالف. م: (كأنه قال والله الحق والحلف به متعارف) . ش: لأن الحق من أسماء الله تعالى، ولهذا ذكر في عدد أسماء الله. وقال الله تعالى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25] [النور الآية: 25] .
م: (ولهما) . ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد. م: (أنه يراد به) . ش: أي الحق. م: (طاعة الله تعالى، إذ الطاعات حقوقه، فيكون حلفاً بغير الله) . ش: والحالف بالعبادات لا يجوز. م: (قالوا) . ش: أي أصحابنا كلهم قالوا. م: (ولو قال والحق) . ش: معرف حيث. م: (يكون يميناً) . ش: بالإجماع. م: (ولو قال حقاً لا يكون يميناً) . ش: ذكره بسبيل التفريع لما قبله. م: (لأن الحق المعرف من أسماء الله تعالى والمنكر يراد به تحقيق الوعد) . ش: يريد به الفرق بين الحق وحقاً بأن الفرق اسم من أسماء الله تعالى قال الله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} [المؤمنون: 71] [المؤمنون الآية: 71] ، والحلف به متعارف، فيكون يميناً. وأما المنكر فهو مصدر منصوب بفعل مقدر، فكأنه قال افعل هذا الفعل لا محالة، وليس فيه معنى الحلف فضلاً عن اليمين.
وقال الفقيه أبو الليث في " النوازل " قال أبو نصر البلخي: بحق الله يكون يميناً، لأن الناس يحلفون به. ولو قال حقاً لا يكون يميناً، وهو بمنزلة قوله صدقاً، وهو قول محمد بن سلمة.(6/126)
ولو قال: أقسم أو أقسم بالله أو أحلف أو أحلف بالله، أو أشهد أو أشهد بالله فهو حالف، لأن هذه الألفاظ مستعملة في الحلف، وهذه الصيغة للحال حقيقة، وتستعمل للاستقبال بقرينة فجعل حالفا في الحال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الحسين بن أبي مطيع حق يمين لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} [المؤمنون: 71] [المؤمنون الآية: 71] ، فالحق هو الله تعالى، فصار كأنه قال والله لا أفعل كذا. وقال أبو نصير: لو قال والحق لا أفعل كذا إن نوى به اسم الله تعالى فهو يمين، وإن لم يرد به اسم الله لا يكون يميناً.
وقال الأترازي: لنا نظر في قوله - بحق الله يكون يميناً - لأن الإضافة تقتضي المغايرة بين المضاف والمضاف إليه، فيكون الحق إذن لغير الله تعالى انتهى.
أراد به قول أبي نصر البلخي المذكور، قلت: الإضافة التي تقتضي المغايرة بين المضاف والمضاف إليه إذا كانت الإضافة بمعنى اللام، كما في غلام زيد، وهنا يحتمل أن تكون الإضافة بمعنى من كما في خاتم فضة، وهذا لا يخفى على المتأمل. .
[قال أقسم أو أقسم بالله هل يكون يمينا]
م: (ولو قال أقسم أو أقسم بالله، أو أحلف أو أحلف بالله، أو أشهد أو أشهد بالله، فهو حالف) . ش: وكذا لو قال أعزم أو أعزم بالله. وقال زفر إذا لم يقل بالله في هذا القول لا يكون يميناً، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نوى أو لم ينو. وقال مالك: إذا نوى اليمين بقوله أقسم بالله إلى آخره يكون يميناً، وإذا أطلق فلا. وعن أحمد إذا لم يقل بالله فهو يمين أيضاً في رواية. وفي رواية كمذهبنا، سواء نوى اليمين أو لا. وفي رواية لا بد من ذكر الله.
م: (لأن هذه الألفاظ) . ش: أي أقسم وأخواته. م: (مستعملة في الحلف) . ش: أما الأول فلقوله عز وجل: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] (القلم الآية: 17) ، وأما الثاني فلقوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 62] (النساء الآية: 62) ، وأما الثالث: فلقوله تعالى: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] (المنافقون الآية 1) ، ثم قال بعد ذلك: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2] ثم قولهم {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] يميناً وهم لم يقولوا نشهد، والعزم عبارة عن قصد التبليغ الذي ينتهي إليه قصد العازم، فكان يميناً، لأنه تصريح لمعناه. م: (وهذه الصيغة) . ش: أي صيغة أقسم. م: (للحال حقيقة) . ش: بمنزلة اخترت، وكذا قول الموحد أشهد وقول الشاهد عند القاضي أشهد للحال.
م: (وتستعمل للاستقبال بقرينة) . ش: سوف والسين. م: (فجعل حالفاً) . ش: حقيقة عند الفقهاء، كذا في الشرع في جعل قول المرأة: أختار نفسي عند التخيير. م: (في الحال) . ش: عند ذكر لفظ من الألفاظ المذكورة.
فإن قيل: اليمين ما كان حاملاً ومانعاً على فعل أو ترك، وعند الترك البر موجباً للكفارة، فقوله أقسم لا يكون من البر موجباً مجرداً، لأنه لم ينعقد على فعل شيء أو تركه، وكيف يكون يميناً.(6/127)
والشهادة يمين، قال الله تعالى: {قالوا نشهد إنّك لرسول الله} [المنافقون: 1] ثم قال: {اتّخذوا أيمانهم جنّة} [المنافقون: 2] (المنافقون) ،
والحلف بالله هو المعهود المشروع وبغيره محظور، فصرف إليه، ولهذا قيل لا يحتاج إلى النية، وقيل لا بد منها لاحتمال العدة
واليمين بغير الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولأن الكفارة ساترة لذنب هتك حرمة اسم الله، وليس في أقسم مجرد هتك حرمة اسم الله فكيف يكون موجباً للكفارة، لأن صيغة فعل المضارع كما يكون للحال يكون للاستقبال، فلا تجب الكفارة بالشك خصوصاً في حق الكفارة فإنها تلحقه بالحدود، ولهذا تداخلت.
قلنا. قوله أقسم للحال حقيقة كما قال المصنف، فكان بمنزلة قوله على يمين أو يمين الله، والإقرار باليمين يمين موجباً للكفارة ذكره في " الذخيرة " والبيهقي.
[هل الشهادة يمين]
م: (والشهادة يمين) . ش: يعني إذا قال أشهد فإنه يمين، واستدل عليه بقوله. م: (قال الله تعالى {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] . ش: هذا إخبار عن قول المنافقين إذ جاءوا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا نشهد إنك لرسول الله، فهذا يمين منهم يدل عليه ما حكى الله عنهم بقوله {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2] فأخبر الله تعالى أن قولهم نشهد إنك لرسول الله يمين منهم، وأشار إليه المصنف بقوله م: (ثم قال) ش: أي ثم قال الله م: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2] . ش: (المنافقون) . ش: قصدوا الجنة الوقاية.
وفي تفسير الشهادة تجري مجرى اليمين فيما يراد به من التوكيد، يقول الرجل أشهد في موضع أقسم، وبه شهد أبو حنيفة على أن أشهد يمين.
م: (والحلف بالله هو المعهود المشروع) . ش: قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا جواب من يقول إن قوله - أحلف - ينبغي أن لا يكون يميناً، لجواز أن يكون حالفاً بغير الله تعالى الحلف بالله هو المعهود المشروع، أي المعهود من الناس والمنصوص عليه في الشريعة، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من كان منكم حالفاً فليحلف بالله أو ليذر» . م: (وبغيره محظور) . ش: أي حلف بغير الله حرام ممنوع. م: (فصرت إليه) . ش: إلى قوله - أحلف - ينصرف إلى الحلف بالله، لأن الظاهر من حال المسلم الإتيان بالمشروع دون غيره.
م: (ولهذا) . ش: أي ولأجل أن الحلف بالله هو المعهود المشروع، وبغيره محظور. م: (قيل لا يحتاج إلى النية) . ش: في قوله - أحلف - أو أشهد - أو - أقسم - يكون يميناً صرف إلى ما هو المعهود في الشرع، وعليه صاحب " التحفة " م: (وقيل لا بد منها) . ش: أي من النية. م: (لاحتمال العدة) . ش: أي الوعد، لأن اللفظ يحتمله، والعدة أصله الوعد، فلما حذفت الواو تبعاً لفعله عوض عنهما التاء.
م: (واليمين بغير الله) . ش: بجر اليمين عطفاً على العدة، ولاحتمال اليمين بغير الله، فلا يتعين اليمين بالله إلا بالنية، وإليه ذهب أبو نصر الأقطع.(6/128)
ولو قال بالفارسية سوكند ميخورم بخداي، يكون يمينا، لأنه للحال. ولو قال: سوكند خورم - قيل لا يكون يمينا. ولو قال بالفارسية - سوكند خورم بطلاق زنم - لا يكون يمينا لعدم التعارف. قال: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكذا قوله لعمر الله وايم الله لأن عمر الله بقاء الله، وايم الله معناه ايمن الله، وهو جمع يمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[القسم بغير العربية]
م: (ولو قال بالفارسية - سوكند ميخورم بخداي - يكون يمينًا لأنه) ش: أي لأن هذا اللفظ م: (للحال) ش: فيصح اليمين، لأن معناه بالعربي الحلف بالله، وصيغة أحلف للحالف ينعقد اليمين و - سوكند - بفتح السين وسكون الواو وفتح الكاف الصماء وسكون النون وبالدال المهملة، ومعناه اليمين و - ميخورم - بكسر الميم وسكون الياء وضم الخاء المعجمة، وفتح الراء المهملة وسكون الميم، ومعناه أحلف، و - بخد - بفتح الباء الموحدة وضم الخاء المعجمة وفتح الدال المهملة المقصورة، ومعناه بالله. م: (ولو قال - سوكند خورم - قيل لا يكون يمينًا) ش: لأنه بغير لفظ - مي - قيل لفظ - خورم - يكون للاستقبال، فلا يكون يمينًا، وقيل لا فرق بين اللفظين في أنه يكون يمينًا ولو قال - سوكند خورده - إن كان صادقًا يكون يمينًا.
وإن كان كاذبًا فلا شيء عليه م: (ولو قال بالفارسية - سوكند خورم بطلاق زنم - لا يكون يمينًا لعدم التعارف) ش: بينهم في كونه يمينًا، والباقي - بطلاق مفتوحة مضاف إلى - زنم - بفتح الزاي والنون وسكون الميم ومعناه أحلف بطلاق امرأتي لا أفعل كذا لا يكون يمينًا لأنه ليس بمتعارف عندهم. ومعنى - زنم - امرأتي. وإن - اسم المرأة، وزيد فيه الميم الساكنة ليدل على معنى امرأتي، والميم بمعنى ياء المتكلم، ولم أجد من الشراح من تكلم في هذا الموضوع ولا ذكر ما ذكره المصنف، مع أنهم أهل اللسان، غير أن الكاكي ذكر مثل ما ذكره المصنف ولم يضبط شيئًا من ذلك ولا تسر النظامة، بالعربي والعبد الضعيف، تكلم فيه كما ينبغي مع كوني دخيلًا في هذا اللسان.
م: (قال) ش: أي المصنف م: (وكذا قوله لعمر الله، وأيم الله) ش: هذا عطف على أصل المسألة، وهو قوله أقسم إلى آخره، أي وكذا يكون يمينًا هذان اللفظان، أما قوله - لعمر الله - فقوله تعالى م: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] م: (الحجر: 72) ، والعمر بفتح العين وضمها البقاء، إلا أن الضم لم يستعمل في القسم.
وأشار المصنف إلى معناه أن البقاء بقوله م: (لأن عمر الله بقاء الله) ش: والبقاء من صفات الذات فجاز الحلف به مكان قال والله الباقي وأيم الله، فقد جاء في لفظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: في حديث رواه البخاري عن ابن عمر قال «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث..... الحديث وفيه واسم الله إنه كان عليهم أمامة بن زيد للإمارة» الحديث.
م: (وأيم الله معناه أيمن الله، وهو جمع يمين) ش: هو مذهب أهل الكوفة، فكان التقدير(6/129)
وقيل: معناه والله وايم صلة كالواو،
والحلف باللفظين متعارف، وكذا قوله وعهد الله وميثاقه، لأن العهد يمين، قال الله تعالى: {وأوفوا بعهد الله} [النحل: 91] (النحل: الآية 91) . والميثاق عبارة عن العهد، وكذا إذا قال علي نذر، أو نذر الله؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من نذر نذرا ولم يسم فعليه كفارة يمين» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وايمن الله فيمن، كأنه قال حلفت بالله فيكون يمينًا، وبه قال أحمد والشافعي في وجه لا يكون يمينًا بدون النية.
م: (وقيل معناه والله، وأيم صلة) ش: أي من صلات القسم من الله م: (كالواو) ش: أي في وأيم الله، وهذا عند البصريين، قال الأكمل معناه والله، وكلمة أيم صلة أي كلمة مستقلة كالواو وفيه تأمل. وقال الزمخشري: حذف نون أيم وحذف همزته عند الدرج في التحقق في القسم.
[الحلف باللفظين عمر الله وأيم الله]
م: والحلف باللفظين) ش: وهما عمر الله وأيم الله م: (متعارف) ش: عند العرب استعملتهما في القسم والحلف باللفظين وهما عمر الله وأيم الله متعارف، يعني أن العرب استعملتهما في القسم ولم يرد النهي عنه، وهما مشهوران لغة وعرفًا وشرعًا م: (وكذا قوله وعهد الله وميثاقه) ش: أي وكذا يمين قول الحلف بعهد الله وميثاقه وبه قال مالك وأحمد والشافعي لا يكون يمينًا بغير النية م: (لأن العهد يمين، قال الله تعالى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} [النحل: 91] النحل الآية: 91) ش: {إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] وقد جعل الله عهد الله في القرآن يمينًا كما ترى م: (والميثاق عبارة عن العهد) ش: يعني في معناه. فإذا حلف بميثاق الله يكون يمينًا كما في عهد الله وكذا إذا حلف بذمة الله لا يكون يمينًا، كذا في الأصل، والذمة: العهد كذا في " الفائق "، فعلى هذا يكون ذمة الله يمينًا لعهد الله لأنه في معناه.
م: (وكذا) ش: أي وكذا يكون يمينًا م: (إذا قال علي نذر أو نذر الله لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «من نذر نذرًا ولم يسم فعليه كفارة يمين» ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: " من نذر " الحديث، وروى الترمذي عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين» وقال الحاكم في " كافيه " وإن حلف بالنذر فإن نوى شيئًا من حج أو عمرة فعليه ما نوى وإن لم يكن له نية فعليه كفارة يمين.
وهاهنا أربع مسائل:
الأولى: إن نذر نذرًا مطلقًا فهو يمين كما ذكره في الكتب.(6/130)
وإن قال: إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني أو كافر يكون يمينا، لأنه لما جعل الشرط علما على الكفر فقد اعتقده واجب الامتناع، وقد أمكن القول بوجوبه بغيره بجعله يمينا كما نقول في تحريم الحلال، ولو قال: ذلك لشيء قد فعله فهو الغموس. ولا يكفر اعتبارا بالمستقبل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثانية: أن يقول لله علي نذر صوم كذا، فعليه الوفاء بما نذر.
الثالثة: أن يعلق نذرًا بشرط كما إذا قال إذا جاء فلان، وإذا شفى الله مريضي فعلي صوم يوم كذا فعليه الوفاء بما سمى.
الرابعة: أن يقول علي نذر أن لا أفعل كذا، فهو ينعقد يمينًا ويوجبه موجب اليمين.
وللشافعي ثلاثة أقوال في هذه المسألة: في قول يمين، وفي قول يتخير بين الوفاء بالنذر والكفارة، وبه قال أحمد، وفي قوله يجب الوفاء بما سمى.
[قال إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني أو كافر]
م: (وإن قال إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني أو كافر يكون يمينًا، لأنه) ش: أي لأن هذا القائل م: (لما جعل الشرط علمًا على الكفر) ش: أي بما جعل ذلك الشيء الذي حلف عليه علمًا، أي علامة على الكفر يعني شرطًا له م: (فقد اعتقده واجب الامتناع) ش: أي فقد اعتقد المحلوف عليه واجب الامتناع هتك حرمة اسم الله، فصار يمينًا، فكأنه قال حرمت على نفسي ما حلفت عليه. م: (وقد أمكن القول بوجوبه بغيره بجعله يمينًا) ش: أي بوجوب الامتناع بغير الشرط، وهو اليمين، وقال تاج الشريعة: قوله بوجوبه بغير الله، وهو مباشرة الفعل الذي يحصل به النصرانية أو اليهودية يعني أنه اعتقد فعل كذا يصير نصرانيًا فيجب الامتناع من ذلك الفعل.
م: (كما نقول في تحريم الحلال) ش: بأن قال كل حل علي حرام، فإنه يكون يمينًا.
فإن قلت: يشكل إذا قال إن فعلت كذا فعلي غضب الله حيث لا يجعل يمينًا، وإن جعل علمًا على غضب الله الذي هو أحب الامتناع.
قلت: الغضب قد يتحقق بارتكاب محظور فهو من فروع اليمين، وبه لا يصير حالفًا، لأنه حرمة تلك الأشياء مما يحتمل الفسخ والتبديل، فلا يكون في معنى حرمة اسم الله، بخلاف حرمة الكفر، لأنه لا يحتمل الفسخ، والتبديل.
م: (ولو قال ذلك) ش: أي قوله إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني أو كافر م: لشيء قد فعله) ش: في الماضي كاذبًا قصدًا م: (فهو الغموس) ش: أي اليمين الغموس لا كفارة فيها عندنا، ولكن هل يكفر أم لا فيه اختلاف المشايخ.
م: (ولا يكفر) ش: وروي ذلك عن أبي عبد الله البلخي، فإنه قال لا يكفر، وكذا روي عن أبي يوسف م: (اعتبارًا بالمستقبل) ش: أي اعتبار الماضي بالمستقبل، لأن الكفر بالاعتقاد وهو لم يقصد الكفر، وإنما قصد أن يصدق في مقابلته.(6/131)
وقيل يكفر، لأنه تنجيز معنى فصار كما إذا قال هو يهودي، والصحيح أنه لا يكفر فيهما إن كان يعلم أنه يمين، فإن كان عنده أنه يكفر بالحلف يكفر فيهما، لأنه رضي بالكفر حيث أقدم على الفعل.
ولو قال: إن فعلت كذا فعلي غضب الله أو سخط الله فليس بحالف، لأنه دعاء على نفسه ولا يتعلق ذلك بالشروط، ولأنه غير متعارف، وكذا إذا قال إن فعلت كذا فأنا زان أو سارق أو شارب خمر أو آكل ربا، لأن حرمة هذه الأشياء تحتمل النسخ والتبديل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل يكفر) ش: قال محمد بن مقاتل الرازي كذا في " شرح الطحاوي) م: (لأنه) ش: أي لأن ذلك القول في الماضي م: (تنجيز معنى) ش: وإن كان تعليقًا صورة، لأن عينه بما هو موجود وتعليق بشيء كائن يتنجز، فكأنه قال هو كافر لأن كلامه خرج مخرج التحقيق فيكفر به.
م: (فصار كما إذا قال هو يهودي) ش: لأنه صريح بالكفر م: (والصحيح أنه لا يكفر فيهما) ش: أي في الماضي والمستقبل م: (إن كان يعلم أنه يمين، فإن كان عنده أن يكفر بالحلف يكفر فيهما) ش: أي في الماضي والمستقبل م: (لأنه رضي بالكفر، حيث أقدم على الفعل) ش: لأنه بالإقدام صار مختار الكفر، واختيار الكفر كفر. وفي " المحيط " لو قال إن فعلت كذا فاشهدوا علي بالنصرانية فهو يمين.
[قال إن فعلت كذا فعلي غضب الله أو سخط الله]
م: (ولو قال إن فعلت كذا فعلي غضب الله أو سخط الله فليس بحالف، لأنه دعاء على نفسه، ولا يتعلق ذلك بالشرط) ش: لأن الشرط ما له أثر من وجود الجزاء عند وجوده لتعلقه به، ولا أثر لوجود الشرط مع وجود المعصية في وجود الغضب، ولا يقدم الشرط مع وجود المعصية في وجود الغضب، ولا يقدم الشرط مع وجود المعصية في عدم الغضب، فعلم أن الغضب من سيئات المعصية لا من سيئات التعليق.
وكذا لا أثر في وجود هذه الأفعال، لأن وجودها بأسباب أخر م: (ولأنه غير متعارف) ش: أي ولأن قوله إن فعلت فعلي غضب الله أو سخطه غير متعارف باليمين، وقال الحاكم لو دعا على نفسه باللعنة أو الموت أو عذاب النار لا يكون يمينًا.
وكذا إذا قال هو يأكل الميتة أو يستحل الدم أو لحم الخنزير أو يترك الصلاة أو الزكاة إن فعل كذا لا يكون يمينًا، لأن ذلك وعد لا إلزام شيء.
م: (وكذا إذا قال إن فعلت كذا فأنا زان أو سارق أو شارب خمر أو آكل ربا) ش: يعني لا يكون يمينًا بهذه الألفاظ م: (لأن حرمة هذه الأشياء) ش: أي حرمة الزنا والسرقة، وشرب الخمر وأكل الربا م: (تحتمل النسخ والتبديل) ش: أما الزنا والسرقة فلا يحتملان النسخ.
ولكن ذلك الفعل المقصود بالزنا، وذلك العين المقصود بالسرقة بعينه جاز أن يكون حلالًا بوجه النكاح وملك اليمين، فسمي احتمالًا نقلًا بهما من الحرمة إلى الحل بالسبب الزنا نسخًا(6/132)
فلم تكن في معنى حرمة الاسم، ولأنه ليس بمتعارف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وتبديلًا، إذ المراد بالنسخ الرفع، وبالتبديل التعبير، وأما الخمر والربا فيحتملان النسخ، وهذا كان الخمس حلالًا ثم نسخ، والربا يحتمل النسخ من نفسها، وإن لم يرد النسخ في حقه.
ولهذا كان صباحًا في دار الحرب، ولأنه لا يكون زانيًا أو سارقًا أو شارب خمر أو آكل ربا بمجرد قوله - أو زان أو سارق - فيما بينه وبين الله تعالى بدون اتصال الفعل بالحالف، بخلاف قوله أنا يهودي أو نصراني.
م: (فلم تكن في معنى حرمة الاسم) ش: أي فلم يكن في معنى حرمة هتك اسم الله تعالى، لأن حرمة اسم الله تعالى لا يحتمل النسخ أصلًا لقيام دليل حد الزانية وهو حد العالم وليس كذلك الأشياء المذكورة لما ذكرنا م: (ولأنه ليس بمتعارف) ش: أي لأن الحلف بهذه الأشياء ليس بمتعارف، وهذا هو الأصح في التعليل، ولا خلاف للأئمة الأربعة في هذه المسائل.
فروع: أو قال إني عبدك أشهدك وأشهد ملائكتك أني لا أدخل دار فلان فليس بيمين. ولو قال إن فعلت كذا فأنا بريء من الكتب الأربعة فهي يمين واحدة، ولو قال أنا بريء من الإنجيل، وبريء من التوراة، وبريء من الزبور، وبريء من الفرقان، فهذه أربعة أيمان.
وكذا ولو قال بريء من الله، وبريء من رسول الله، والله ورسوله بريئان منه فهو أربعة أيمان.
لو قال بريء من الله ورسوله فيمين واحدة، ولو قال والله والرحمن يكون يمينين إلا أن يذكر الأول. وروى الحسن عن أبي حنيفة وبه قال زفر يكون يمينًا واحدة وإن دخل بينهما حرف العطف، ولو قال والله فهو يمين، ولو قال والله ووالله يكون يمينا واحدًا استحسانًا.
وفي " المنتقى ": لو قال والله ووالله، أو قال والله ثم والله لا أفعل كذا، وإن فعلت كذا فهو يمين واحدة، استحسانًا، وفي القياس يمينان وبه نأخذ، وعن أبي يوسف إذا قال والله لا أكلمك فيهما يمينان.
وروى الحسن إن نوى بالثاني الخبر عن الأول يصدق ديانة. ولو قال والله لا أكلمك ولو قال والله لا أكلم فلانًا يوما والله لا أكلمه شهرًا، والله لا أكلمه سنة، إن كلمه بعد ساعة فعليه ثلاث أيمان، وإن كلمه بعد يوم فعليه يمينان، وإن كلمه بعد شهر فعليه يمين واحدة، وإن كلمه بعد سنة فلا شيء عليه.(6/133)
فصل في الكفارة قال: كفارة اليمين عتق رقبة يجزئ فيها ما يجزئ في الظهار، وإن شاء كسا عشرة مساكين كل واحدة ثوبا فما زاد وأدناه ما يجوز فيه الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الكفارة] [كفارة اليمين]
م: (فصل في الكفارة) ش: أي هذا فصل في بيان الكفارة، ولما فرغ من بيان الموجب بكسر الجيم وهو الحنث شرع في بيان الموجب بالفتح، وهو الكفارة، لأنها موجبة عند الحنث، فإن اليمين سبب الكفارة بطريق الانقلاب.
وقال بعض أصحاب الشافعي: اليمين سبب عند الحنث كملك النصاب عند تمام الحول. وقال عامة أصحابه السبب اليمين، والحنث جميعًا لأنه لو كان مجرد اليمين سبب لوجبت الكفارة. وإن لم يوجد الحنث، لكن يلزم عليهم أن لا يجوز الكفارة، قبل الحنث لعدم السبب قبله، ولهذا اختار صاحب " الوجيز " الأول.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وكفارة اليمين عتق رقبة يجزئ فيها ما يجزئ في الظهار) ش: بعين الرقبة المسلمة والكافرة، والذكر والأنثى والصغير والكبير، إن الله عز وجل أطلق الرقبة في الموضعين ولم يقيد فجاز هنا ما جاز ثمة ولا تجزئ العمياء ولا المقطوعة اليدين أو الرجلين والمقطوع يده ورجله من جانب الواحد، بخلاف العوراء، ومقطوعة إحدى اليدين وأحد الرجلين، وفي الأصم اختلاف المشايخ والأصح الجواز إذا صح [......] .
م: (وإن شاء كسا عشرة مساكين كل واحد ثوبًا) ش: علم أن الواجب على الغني أحد الأشياء الثلاثة وهي عتق رقبة وكسوة عشرة مساكين وطعام عشرة منهم، ويتعين ذلك باختيار العبد، لأن كلمة أو في الآية للتخيير وهو مذهب عامة الفقهاء والمتكلمين.
وقال بعضهم: أحدها واجب عينا عند الله تعالى، وإن كان مجهولا عند العباد والله تعالى يعلم أن العبد يختار ما هو الواجب عنده عز وجل.
وقالت المعتزلة: الواجب الكل على البدل على معنى أنه لا يجب تحصيل الكل، ولا يجوز ترك الكل، وإذا أتى بواحد كفى، ثم إن الكسوة إذا اختار الكسوة غير عشرة مساكين لكل مسكين ثوبًا وإزارًا ورداء وقميصا أو كيسًا أو جبة أو ملحفة، لأن لابس هذه الأشياء يسمى مكتسبًا فيجزئ كل واحد.
م: (فما زاد) ش: أي فما زاد على الثوب م: (وأدناه) ش: أي أدنى الثوب م: (ما يجوز فيه الصلاة) ش: لأن لبس ما لا يجوز فيه الصلاة لا يسمى لابسًا.(6/134)
وإن شاء أطعم عشرة مساكين كالإطعام في كفارة الظهار، والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {فكفّارته إطعام عشرة مساكين} [المائدة: 89] (المائدة: الآية 89) ، وكلمة أو للتخيير فكان الواجب أحد الأشياء الثلاثة.
فإن لم يقدر على أحد هذه الأشياء الثلاثة صام ثلاثة أيام متتابعات، وقال: الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخير لإطلاق النص. ولنا قراءة ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فصيام ثلاثة أيام متتابعات - وهي كالخبر المشهور.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن شاء أطعم عشرة مساكين كالإطعام في كفارة الظهار) ش: يعني لكل واحد من عشرة مساكين صاعًا من تمر أو شعير أو نصف صاع من حنطة أو دقيق أو سويق.
فإن دعا عشرة مساكين فغداهم وعشاهم أجزأه، ولذلك إن أطعم خبزًا ليس معه إدام، وإن غداهم وعشاهم وفيهم صبي فيظلم أو فوق ذلك شيئًا لم يجزئه وعليه إطعام مسكين واحد، كذا ذكر الحاكم وغيره.
م: (والأصل فيه) ش: أي في وجوب الكفارة م: (قَوْله تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] ..... الآية المائدة: الآية 89) ش: أي أقر الآية، أو الآية فيهما، فعلى الأول النصب على المفعول به، وعلى الثاني الرفع على الابتداء بحذف الخبر م: (وكلمة أو للتخيير فكان الواجب فيه) ش: أي في التكفير م: (أحد الأشياء الثلاثة) ش: لأن هذا يقتضي التخيير.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (فإن لم يقدر على أحد هذه الأشياء الثلاثة) ش: لأن المعسر لا يقدر على شيء من ذلك م: (صام ثلاثة أيام متتابعات) ش: فإن صامها متفرقة لم يجزئه م: (وقال الشافعي: يخير) ش: يعني إن شاء فرق، وإن شاء تابع م: (لإطلاق النص) ش: أي القرآن، وبه قال مالك وأحمد في رواية. وظاهر مذهب أحمد كقولنا، وهو قول الشافعي.
فإن قيل: الشافعي يحمل المطلق على المقيد في حادثة أو حادثتين فكيف لم يحمل فيهما مع ورود القرابة مطلقًا ومقيدًا.
قلنا: إنه يقول لعارض هنا أصلان متعارضان أحدهما مقيد بالتفريق، وهو صوم المتعة في الحج. والثاني مقيد بالتابع، وهو صوم كفارة الظهار والقتل، فلا يمكن إلحاقه بأحدهما إذ إلحاقه بأحدهما يوجب ترك العمل لنص الآخرون.
م: (ولنا قراءة ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فصام ثلاثة أيام متتابعات وهي) ش: أي قراءة ابن مسعود هنا م: (كالخبر المشهور) ش: قال الأترازي: وقراءته كانت مشهورة في زمن أبي حنيفة، ويجوز الزيادة على النص بالمشهور.
وقال تاج الشريعة: لأنها نقلت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد اشتهرت في السلف [.....] والزيادة بالخبر المشهور صحيحة.(6/135)
ثم المذكور في الكتاب في بيان أدنى الكسوة مروي عن محمد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الكاكي: كالخبر المشهور، لأنه يقرأ سماعًا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يثبت قراءته لعدم التواتر، فصار كالرواية المشهورة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصح التقييد بها، وعندنا لا يحمل المطلق على المقيد كما في صدقة الفطر لإمكان العلم بهما، وها هنا غير ممكن، لأنهما في حكم واحد في حادثة واحدة، وهو الصوم، لأنه لا يقبل وصفين قضاء دين في وجوده.
فإذا ثبت تقييده بالتتابع في تلك القراءة لم يبق مطلقًا ضرورة، بخلاف صدقة الفطر، فإنهما وردا في السبب، ولا منافاة بين الشيئين، وأما صوم المتعة لم يجز قبل أيام النحر، لأنه لم يشرع قبلها لا لأن التفريق واجب.
م: (ثم المذكور في الكتاب) ش: قال الكاكي: أي في المشهور، وقال الأترازي: أي في " مختصر القدوري "، وأراد بالمذكور في قوله في أول الفصل، وأدناه ما يجوز فيه الصلاة م: (في بيان أدنى الكسوة مروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: مروي خبر المبتدأ، أعني قوله المذكور، والمذكور هو أدنى ما يجوز فيه الصلاة وهو السراويل، وبه قال أحمد وفي السراويل: اختلاف الرواية.
وقال في " نوادر هشام ": لا يجوز، في " نوادر " ابن سماعة يجوز، كذا في " الأجناس ". وقال الكرخي في " مختصره ": لا يجزئ في ذلك العمامة ولا القلنسوة ولا السراويل، روى ذلك ابن سماعة وبشر وعلي بن الجعل عن أبي يوسف، ورواه أبو عمر، ومحمد الكتابي في إملاء محمد عنه كذلك. لأن لابسه يسمى عريانًا، فلا يتناوله اسم الكسوة.
وفي " الخلاصة ": عن محمد: إن أعطى المرأة لا يجوز، وإن أعطى الرجل يجوز لجواز صلاته فيه كالقميص، وذكر ابن شجاع في كتاب " الكفارات " من وصفه قال أبو حنيفة: إن كانت العمامة قدرها قدر الإزار الشائع أو ما يقطع قميصًا يجزئ وإلا لم يجزه.
وهذا كله إذا كسى رجلًا، فأما إذا كسى امرأة، قال الطحاوي: يزيد فيه الخمار؛ لأن رأسها عورة لا يجوز الصلاة إذا كانت مكشوفة، وقال الحاكم الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الكافي ": فإن أعطى كل مسكين نصف ثوب لم يجزه من الكسوة، ولكنه يجزئ من الطعام إذا كان نصف ثوب يساوي نصف صاع من حنطة.
ولو أعطى عشرة مساكين ثوبًا بينهم، وهو ثوب كثير القيمة يصيب كل إنسان منه أكثر من درع وخمار.
وقال الشافعي: يعتبر ما يطلق على اسم الكسوة حتى يجوز قميص أو سراويل أو عمامة أو جبة أو قميصًا أو مقنعة أو إزارًا أو رداء أو طرًا، لأن الاسم يقع على جميع ذلك، وله في الفدرة والخف وجهان، وعندنا ومالك وأحمد: لا يجوز القلنسوة والخف.(6/136)
وعن أبي يوسف وأبي حنيفة - رحمهما الله - إن أدناه ما يستر عامة بدنه، حتى لا يجوز السراويل وهو الصحيح، لأن لابسه يسمى عريانا في العرف، لكن ما لا يجزئه عن الكسوة يجزئه عن الطعام باعتبار القيمة، وإن قدم الكفارة على الحنث لم يجزئه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجزيه بالمال، لأنه أداها بعد السبب، وهو اليمين فأشبه التكفير بعد الجرح،
ولنا أن الكفارة لستر الجناية. ولا جناية ها هنا، واليمين ليست بسبب؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا يجوز أقل من ثلاثة أثواب: قميص وسدر ورداء وعن أبي موسى الأشعري: أنه يجزئ ثوبان، ثم اعتبار الفقر والغنى عند إرادة التكفير عندنا. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عند الحنث، حتى لو كان موسرًا عند الحنث ثم أعسر جاز الصوم عندنا، ولكن لا، وعنده على القلب.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن أدناه) ش: أي أدنى ما يجزئ أن يكفر به م: (ما يستر عامة بدنه حتى لا يجوز السراويل) ش: لأنه لا تستر عامة البدن وهو الصحيح، أي هذا المروي عن أبي حنيفة م: (وهو الصحيح، لأن لابسه) ش: أي لابس السراويل م: (يسمى عريانًا في العرف، لكن ما لا يجزئه عن الكسوة يجزئه عن الطعام باعتبار القيمة) ش: يعني لو أعطاه ثوبًا لا يجزئه عن الكسوة، مثل سراويل أو خف أو نصف ثوب يجزئه عن الإطعام إذا بلغت فيه نصف صاع من بر.
وبه قال مالك وأحمد، ثم في ظاهر الرواية يجزئه عن الطعام بغير نية، وعن أبي يوسف: إذا نوى يكون بدلًا عن الطعام، ويجزئه عنه وإلا لا. وقال زفر: لا يجزئه عن الطعام نوى أو لم ينو. وعند الشافعي: لا يجوز اعتبار القيمة في الكفارة كما في الزكاة.
م: (وإن قدم الكفارة على الحنث لم يجزئه، وقال الشافعي: يجزئه بالمال) ش: أي يجزئ التكفير بالمال قبل الحنث، وبه قال مالك وأحمد، وقيد بالمال لأن ظاهر مذهبه أن الصوم لا يجوز، لأن العبادات البدنية لا تقوم على وقت الأداء، وفي وجه يجوز، وهو قوله القديم، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - م: (لأنه أداها بعد السبب، وهو اليمين فأشبه التكفير بعد الجرح) ش: قبل الوقت، وكذا كفارة الظهار، فإنها تجوز بعد الظهار وقبل العود كالزكاة، فإنها تجوز قبل الحلول.
[التكفير قبل الحنث]
م: (ولنا أن الكفارة تستر الجناية) ش: لأنها تكفر الخطيئة، أي تستر بها ولا يتصور سترها قبل وجودها، وهو معنى قوله م: (ولا جناية ها هنا) ش: ولا يصح التكفير قبل الحنث، لأنه يلزم تقديم السبب على المسبب فهو فاجر كما لو كفر قبل الإفطار م: (واليمين ليست بسبب) ش: هذا جواب عن قوله لأنه أداها بعد السبب، تقديره لا نسلم أن اليمين سبب لوجوب الكفارة، لأن أدنى درجات السبب أن يكون مفضيًا إلى الحكم وطريقًا له، واليمين مانعة الحنث، وهو معنى قوله م: ((6/137)
لأنه مانع غير مفض، بخلاف الجرح، لأنه مفض ثم لا يسترد من المسكين لوقوعه صدقة.
قال: ومن حلف على معصية مثل أن لا يصلي أو لا يكلم أباه أو ليقتلن فلانا ينبغي أن يحنث نفسه ويكفر عن يمينه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأنه مانع غير مفض) ش: وتذكير الضمير باعتبار المذكور أو باعتبار ظاهر اللفظ مفض إلى الحكم والسبب ما يكون مفضيًا كما ذكرنا.
م: (بخلاف الجرح) ش: جواب عن قياس المنازع فيه على الجرح قبل الموت م: (لأنه) ش: أي لأن الجرح م: (مفض) ش: إلى زهوق الروح، بخلاف الظهار، لأن نفس الظهار جناية، ويجوز الزكاة قبل الحول، لأنها شكر لنعمة المال، وهو موجود، ومفضي الحول تأجيل فيه، وإضافة الكفارة إلى اليمين مجاز، لأنها على عوض أن يصير سبب على تقدير الحنث.
فإن قلت: احتج الشافعي بظاهر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الرحمن بن سمرة: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها، فكفر يمينك وآت الذي هو خير» متفق عليه، وفي لفظ أبي داود: " ثم آت الذي هو خير ".
قلت: أصحابنا احتجوا بحديث عبد الرحمن بن سمرة، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «لا تسأل الإمارة» الحديث، وفي آخره: «وإذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك» .... الحديث في الصحيح، ولا يقال: الواو للجمع ثم للترتيب، فيدل على الجمع لا على التأخير والتقديم، بخلاف ثم للترتيب، لأنه جاء في رواية أخرى، ثم ليكفر يحتمل ما رواه الشافعي على أنه بمعنى الواو، لأن ثم يجيء بمعنى الواو، قال الله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} [يونس: 46] (يونس: الآية 46) فيكون ما روينا محكمًا في التأخير، وما رواه محتمل فحمل عليها ما ذكرنا إعمالًا للضرر، لأنه أمر بالتكفير مطلقًا، ومطلق التكفير لا يجوز قبل الحنث، لأنه لا يجوز بالصوم إجماعًا.
م: (ثم لا يسترد من المسكين) ش: عطف على قولهم: لم يجزه يعني لا يسترد المال عن المسكين، وإن كان لا يقع عن الكفارة م: (لوقوعه صدقة) ش: لأنه قصد شيء حصول الصواب ورفع الذنب ولم يرفع الذنب لعدمه فيحصل الصواب لإمكانه فيكون صدقة، ولا رجوع فيها.
[حلف على معصية]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ومن حلف على معصية مثل أن لا يصلي أو لا يكلم أباه أو ليقتلن فلانًا ينبغي أن يحنث نفسه ويكفر عن يمينه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «من حلف على يمين ورأى غيرها خيرًا منها فليأت بالذي هو خير، ثم ليكفر عن يمينه» ش: هذا الحديث مر معنا الآن ومضى الكلام فيه، ومعنى قوله على يمين، أي على مقسم عليه في فعل أو على ترك، لأن(6/138)
ولأن فيما قلناه تقوية البر إلى جابر، وهو الكفارة ولا جابر للمعصية في ضده وإذا حلف الكافر ثم حنث في حال كفره أو بعد إسلامه فلا حنث عليه، لأنه ليس بأهل لليمين، لأنها تنعقد لتعظيم الله تعالى، ومع الكفر لا يكون معظما. ولا هو أهل للكفارة لأنها عبادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اليمين مركبة من مقسم به، وهو بالله ومقسم عليه، وهو قوله لأفعلن أو لأفعل فكان من باب ذكر الكل وإرادة البعض. وقال الأكمل: في وجه الاستدلال به نظر، لأنه قال ورأى غيرها خيرًا منها فالمدعي مطلق والدليل مشروط برؤية خير، والجواب أن حال المسلم يقتضي أن يرى ترك المعصية خيرًا منها فيجعل الشرط موجودًا نظرًا إلى حاله.
م: (ولأن فيما قلناه) ش: يعني إذ الكفارة بعد الحنث م: (تقوية البر إلى جابر، وهو الكفارة ولا جابر) ش: وهو الكفارة لما أن الجابر يقتضي سبق ذلك المحمود وهو حل اليمين بالحنث فيما قلنا، فتصبح الكفارة جائزة ولا جائزة م: (للمعصية في ضده) ش: أي في ضد ما قلناه وأراد بالضد التي في اليمين، أي لا جائزة لمعصية الحنث، فيما قال الشافعي، لأن الحنث لما يتأخر عن الكفارة لم تصبح الكفارة السابقة جائزة لذلك الحنث، لأن الجائز لا يتقدم، كذا في " النهاية ".
وقال الأكمل: وقال في بعض الشروح، ولأن فيما قلنا أي في الحنث النفس والتكفير بعد ذلك لتفويت البر إلى جابر، والجابر هو الكفارة والفوات إلى جابر كلا فوات، فتكون المعصية الحصالة بتفويت البر كلا معصية لوجود الجابر.
أما إذا أتى بالبر وهو ترك الصلاة وقطع الكلام عن الأب، وقتل فلان بغير حق تحصيل المعصية بلا جابر لها فتكون المعصية قائمة لا محالة، فلهذا قلنا يحنث نفسه ويكفر عن يمينه، وكلا الوجهين صحيح، والثاني أيسر. قلت: أراد بالقائل بقوله وقال في بعض شروح الأترازي لأنه قال في شرحه هكذا ويرده الأكمل برمته.
م: (وإذا حلف الكافر ثم حنث في حال الكفر أو بعد الإسلام، فلا حنث عليه) ش: أي فلا كفارة عليه، وبه قال مالك، وقال الشافعي وأحمد تلزم الكفارة بالمال، دون الصوم م: (لأنه) ش: أي لأن الكافر م: (ليس بأهل لليمين، لأنها تنعقد لتعظيم الله تعالى، ومع الكفر لا يكون معظمًا) ش: لأنه هاتك حرمة الله تعالى، بإصراره على الكفر.
والتعظيم مع الهتك لا يجتمعان، والبر لا يتحقق إلا من معظم، ولا يلزم استخلافه في المظالم أو المنصوبات أو هو مشروع في حقه، لأنه من أهل مقصود الاستخلاف وهو النكول والإقرار.
وكذا هو من أهل اليمين بالطلاق والعتاق، لأنه من أهل حكمنا م: (ولا هو أهل للكفارة) ش: أي ولا الكافر أهل للكفارة م: (لأنها عبادة) ش: لكونها ساترة للذنب.(6/139)
ومن حرم على نفسه شيئا مما يملكه لم يصر محرما، وعليه إن استباحه كفارة يمين، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا كفارة عليه لأن تحريم الحلال قلب المشروع، فلا ينعقد به تصرف مشروع وهو اليمين. ولنا أن اللفظ ينبئ عن إثبات الحرمة، وقد أمكن إعماله بثبوت الحرمة لغيره بإثبات موجب اليمين، فيصار إليه، ثم إذا فعل مما حرمه قليلا أو كثيرا حنث ووجبت الكفارة، وهو المعني من الاستباحة المذكورة، لأن التحريم إذا ثبت تناول كل جزء منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[تحريم بعض ما يملك]
م: (ومن حرم على نفسه شيئًا مما يملكه) ش: سواء كان ثوبًا أو طعامًا أو أمة أو غيرها، بأن قال حرام علي ثوبي هذا أو طعامي هذا أو أمتي هذه ونحو ذلك م: (لم يصر محرمًا) ش: أي بعينه، بل صار محرمًا بالنص.
فلهذا قال عقبه م: (وعليه إن استباحه) ش: أي يعامل به معاملة المباح، فإن أكل الطعام أو لبس الثوب أو وطئ الأمة فعليه م: (كفارة يمين وقال الشافعي لا كفارة عليه لأنه ليس يمين إلا في النساء والجواري وبه قال أحمد، وقال مالك من حرم على نفسه شيئًا غير امرأته لا يلزمه شيء وليس يمين م: (لأن تحريم الحلال قلب المشروع فلا ينعقد به، تصرف مشروع وهو اليمين) ش: كعكسه، وهو تحليل الحرام.
م: (ولنا أن اللفظ ينبئ عن إثبات الحرمة، وقد أمكن إعماله) ش: أي إعمال اللفظ م: (بثبوت الحرمة لغيره) ش: أي بغير اللفظ م: (بإثبات موجب اليمين) ش: وهو الكفارة، وأصله ليس في وسعه إثبات الحرمة لذاته وعينه قلبت الحرمة لغيره، وهو جناية حرمة اليمين، وهو الكفارة على تقديم الحنث م: (فيصار إليه) ش: أي إلى ثبوت الحرمة لغيره.
م: (ثم إذا فعل مما حرمه قليلًا كان أو كثيرًا) ش: انتصاب قليلا على أنه مفعول لقوله فعل م: (حنث، ووجبت الكفارة) ش: لأن التحريم ثبت بتناول كل جزء م: (وهو المعني) ش: بكسر النون وتشديد الياء، أي المعصوم م: (من الاستباحة المذكورة) ش: أي فعل ما حرمته هو المراد من الاستباحة التي ذكرها م: (لأن التحريم إذا ثبت) ش: يعني تحريم العين، وهو دليل قوله إذا فعل مما حرمه قليلا أو كثيرا حنث، وذلك لأن تحريم المعني إذا ثبت تبين م: (تناول كل جزء منه) ش: أي مما حرمه فيحنث بالقليل والكثير.
وقال الأكمل: وعورض بأن اليمين إما أن يذكر مقسم به، وهو عند ذكر اسم من أسمائه أو صفة من صفاته كما تقدم أو بأن يذكر شرطه وجزاءه، وليس شيء منهما بموجود فكيف صار يمينًا واجب بسقوطهما بقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] (التحريم الآية 2) ، بعد قوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] في تحريم العدل أو تحريم ما به أطلق الأيمان على تحريم إطلاق، وفرض تحلة الأيمان والرأي لا يعارض النصوص السمعية.(6/140)
ولو قال: كل حل علي حرام فهو على الطعام والشراب إلا أن ينوي غير ذلك، والقياس أن يحنث كما فرغ، لأنه باشر فعلا مباحا وهو التنفس ونحوه، وهذا قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وجه الاستحسان أن المقصود هو البر لا يتحصل مع اعتبار العموم، وإذا سقط اعتباره ينصرف يمينه إلى الطعام والشراب للعرف، فإنه يستعمل فيما يتناول عادة، ولا يتناول المرأة إلا بالنية لإسقاط اعتبار العموم، وإذا نواها كان إيلاء ولا تصرف اليمين عن المأكول والمشروب، وهذا كله جواب ظاهر الرواية. ومشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قالوا: يقع به الطلاق من غير نية لغلبة الاستعمال، وعليه الفتوى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[تحريم الحلال]
م: (ولو قال كل حل علي حرام فهو على الطعام والشراب، إلا أن ينوي غير ذلك) ش: هذا ظاهر الرواية قال الحاكم الشهيد في " الكافي ": وإذا قاله لرجل هو علي حرام سئل عن نيته، فإن نوى يمينًا فهو يمين وكفرها، ولأنه حل امرأته في ذلك أن ينويها، فإن نواها دخلت فيه. فإذا أكل أو شرب أو قرب امرأته حنث وسقط عنه الإيلاء، فإن نوى فيه الطلاق، فالقول فيه كالقول في الحرام، أي يصح ما نوى، وإن نوى الكذب فهو كذب م: (والقياس أنه يحنث كما فرغ) ش: من اليمين م: (لأنه باشر فعلًا مباحًا وهو التنفس ونحوه) ش: بفتح العينين وفتح الشفتين أو ضمهما م: (وهذا قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن عنده كما يفرغ من اليمين يحنث. م: (وجه الاستحسان أن المقصود وهو البر لا يتحصل مع اعتبار العموم) ش: لأن صيغة العموم إذا لم تكن أجراها على عمومها يراد بها أخص الخصوص للتعيين، وهنا لا يمكن ذلك، لأن الإنسان لا يمكنه مع نفسه عن النفس وفتح العين وذلك له حلال، فحمل على الحلال الأعم وهو ما يعيش به من المطعوم والمشروب.
وهو معنى قوله م: (وإذا سقط اعتباره) ش: أي اعتبار العموم م: (ينصرف يمينه إلى الطعام والشراب للعرف) ش: بين الناس م: (فإنه يستعمل فيما يتناول عادة) ش: هذا القليل لقوله للعرف معنى إنما انصرف قوله كل حل علي حرام إلى الطعام والشراب، لأنه في عرف الناس يستعمل في ذلك م: (ولا يتناول المرأة إلا بالنية لإسقاط اعتبار العموم) ش: لأنه لا يمكن إجراء اللفظ على العموم لما قلنا. م: (وإذا نواها) ش: أي إذا نوى المرأة م: (كان إيلاء) ش: لأن اليمين في الزوجات إيلاء وإن جامعها في المدة كفر عن يمينه، وإن لم يقربها حتى مضت مدة الإيلاء، بانت بالإيلاء م: (لا تصرف اليمين عن المأكول والمشروب) ش: حتى إذا أكل أو شرب حنث م: (وهذا كله) ش: أي هذا المذكور كله م: (جواب ظاهر الرواية) ش: وهو رواية المبسوط م: (ومشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: قالوا أراد بهم مشايخ بلخ كأبي بكر الإسكاف، وأبي بكر بن أبي سعيد، والفقيه أبي جعفر حيث م: (قالوا يقع به الطلاق من غير نية لغلبة الاستعمال) ش: فيما بين الناس في هذا الزمان أنهم يرون بهذا اللفظ الطلاق م: (وعليه الفتوى) ش: قال أبو الليث: وبه نأخذ.(6/141)
وكذا ينبغي في قوله حلال يروى حرام للعرف،
واختلفوا في قوله - هرجه بدست راست كيرم يروى حرام - أنه هل تشترط النية، والأظهر أنه يجعل طلاقا من غير نية للعرف.
ومن نذر نذرا مطلقا فعليه الوفاء به، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " فتاوى النسفي " حلال المسلمين علي حرام ينصرف الطلاق بلا نية للعرف، وإن لم يكن له امرأة يجب عليه كفارة، وإن كانت له امرأتان يقع الطلاق على واحدة، وإليه البيان في الأظهر لقوله امرأتي طالق، [....] .
وكذا لو قال حلال الله علي حرام، أو حلال هذا، أي أو حلال [.....] ويروى حرام وله امرأة تنصرف إليها من غير نية للعرف، فإن مراد العامة من هذا اللفظ الطلاق.
م: (وكذا ينبغي في قوله - حلال يروى حرام -) ش: أي وكذا ينبغي أن يقع الطلاق بلا نية في قوله - حلال يروى - يعني حلال علي حرام م: (للعرف) ش: أي لأجل عرف الناس بذلك في الطلاق.
م: (واختلفوا في قوله) ش: أي اختلف المشايخ في قول الرجل م: (هرجه بدست راست كيرم يروى حرام - أنه هل يشترط النية) ش: أي لا يشترط م: (والأظهر أنه يجعل طلاقًا، من غير نية للعرف) ش: قوله - هرجه - بفتح الهاء وسكون الراء وكسر الجيم الفارسية، وسكون الهاء، ومعناه كل شيء. قوله - بدست - بفتح الباء الموحدة والدال المهملة وسكون السين المهملة وبالتاء المثناة من قوله ومعناه بيدي.
قوله - راست - بفتح الراء وسكون السين المهملة بعد الألف وبالتاء المثناة من فوق، ومعناه اليمين يعني بيدي اليمين. قوله - كيرم - بكسر الكاف وسكون الياء آخر الحروف، معناه علي. وفي " خلاصة الفتاوى " هرجه بدست كيرم هر من حرام - لا يصدق أنه لم ينو.
ولو قال: هرجه بدست راست كرفته أم - فهو بمنزلة قوله - كيرم - ولو قال - هرجه بدست حيب كيرم - في " مجمع النوازل " لا يكون طلاقًا وإن نوى. ولو قال - هرجه بدست راست كرفتم - لا يكون طلاقًا أن المعرف في قوله - كيرم - ولا عرف في قوله - كرفتم -، ولو قال هرجه بدست راست كيرم - ولم يقل - راست أوجب - فهو بمنزلة قوله - هرجه بدست راست كيرم.
م:
[قال لله علي صوم سنة بدون التعليق بشيء]
(ومن نذر نذرًا مطلقًا) ش: أي مطلقًا عن ذكر الشرط بأن قال لله علي صوم سنة بدون التعليق بشيء م: (فعليه الوفاء به) ش: أي بما سمى م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى» ش: هذا الحديث غريب.
وفي جواب الوفاء بالنذر أحاديث صحاح مما أخرجه البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن(6/142)
وإن علق النذر بشرط فوجد الشرط فعليه الوفاء بنفس النذر لإطلاق الحديث، ولأن المعلق بشرط كالمنجز عنده. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه رجع عنه. وقال: إذا قال: إن فعلت كذا فعلي حجة أو صوم سنة أو صدقة مال ملكه أجزأه من ذلك كفارة يمين، وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويخرج عن العهدة بالوفاء بما سمى أيضا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رجلًا قال يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج وإنها ماتت قبل أن تحج فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لو كان عليها دين أكنت قاضيه، قال نعم، قال فاقض دين الله فهو أحق بالقضاء» .
وفي رواية: أن أختي، وفيها ما أخرجه البخاري ومسلم «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال فأوف بنذرك» ، وزاد البخاري: فاعتكف ليلة. ومنها ما رواه أبو داود في سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، قال أوف بنذرك ... » الحديث.
[تعليق النذر بشرط]
م: (وإن علق النذر بشرط) ش: بأن قال إن شفى الله مريضي أو رد الله غائبي أو مات عدوي فعلي صوم شهر أو سنة م: (فوجد الشرط فعليه الوفاء) ش: بتعيين م: (بنفس النذر) ش: ولا يخرج عنه بالكفارة م: (لإطلاق الحديث) ش: المذكور، فإنه لم يفصل بين كون النذر مطلقًا أو معلقًا بشرط م: (ولأن المعلق بالشرط كالمنجز عنده) ش: أي عند وجوده ولو نجز النذر عند وجود الشرط لم تجزئه الكفارة، فكذا هنا، وبه قال مالك: في المشهور عنه. وقيل إن كان النذر في مباح يتخير، وفي الطاعة يلزمه الوفاء مطلقًا.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه رجع عنه) ش: أي عن نفس الوفاء بالنذر إلى التخيير بين الكفارة والوفاء. وعن عبد العزيز بن خالد الترمذي قال: خرجت حاجًا، فلما دخلت الكوفة قرأت كتاب القدوري والكفارة على أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما انتهيت إلى هذه المسألة، قال: فإن من رأيي أن يراجع فرجعت عن الحج، أو قد توفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فأخبرني الوليد بن أبان أنه رجع قبل موته بسبعة أيام، وبه يفتي إسماعيل الزاهد وشمس الأئمة السرخسي لكثرة البلوى به في هذا الزمان، وهذا لأن كلامه نذر فظاهره يمين بمعناه.
م: (وقال: إذا قال) ش: أي وقال أبو حنيفة: إذا قال الرجل م: إن فعلت كذا فعلي حجة أو صوم سنة أو صدقة) ش: أي أو قال فعلي صدقة م: (مال ملكه أجزأه من ذلك كفارة يمين، وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال الشافعي في الجديد وأحمد ومالك في رواية.
وفي القديم: يتعين الكفارة ويكون هذا نظرًا للحاج م: (ويخرج عن العهدة) ش: أي عن عهدة اليمين م: (بالوفاء بما سمى أيضًا) ش: حتى لو كان معسرًا كان مخيرًا بين أن يصوم ثلاثة أيام(6/143)
وهذا إذا كان شرطا لا يريد كونه؛ لأن فيه معنى اليمين وهو المنع وهو بظاهره نذر، فيتخير ويميل إلى أي الجهتين شاء، بخلاف ما إذا كان شرطا يريد كونه كقوله: إن شفى الله مريضي لانعدام معنى اليمين فيه، وهو المنع، وهذا التفصيل هو الصحيح.
قال: ومن حلف على يمين وقال: إن شاء الله متصلا بيمينه فلا حنث عليه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من حلف على يمين وقال إن شاء الله فقد بر في يمينه» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأن يصوم شهرًا، وهذا مروي عن أبي حنيفة في " النوادر ". ووجه ما روي في السنن مسندًا إلى عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كفارة النذر كفارة اليمين» .
م: (وهذا) ش: أي هذا المذكور م: (إذا كان شرطًا) ش: أي إذا كان النذر معلقًا بشرط م: (لا يريد كونه) ش: مثل إن شربت الخمر فعلي صوم سنة م: (لأن فيه معنى اليمين وهو المنع) ش: عن اتخاذ الشرط م: (وهو بظاهره نذر) ش: وهو ظاهر م: (فيتخير ويميل إلى أي الجهتين شاء) ش: أي التكفير أو النذر م: (بخلاف ما إذا كان شرطًا) ش: أي بخلاف ما إذا علق بشرط م: (يريد كونه) ش: أي كون الشرط م: (كقوله إن شفى الله مريضي لانعدام معنى اليمين فيه وهو المنع) ش: لأن قصده الرغبة فيما حوله شرطًا م: (وهذا التفصيل) ش: أي الذي ذكرنا بين شرط لا يريد كونه وبين شرط يريد كونه م: (وهو الصحيح) .
ش: وقال الأكمل: وفيه نظر، لأنه إن أراد حصر الصحة فيه من حيث الرواية فليس بصحيح، لأنه غير ظاهر الرواية، وإن أراد حصرها فيه من حيث الدراية لدفع التعارض فالدفع ممكن من حيث حمل أحدهما على المرسل والآخر على المعلق من غير تفرقة بين ما يريد كونه وما لا يريد، على أن فيه إيماء إلى القصور في الذهاب إلى ظاهر الرواية.
[تعليق الحلف بالمشيئة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن حلف على شيء) ش: وفي بعض النسخ على يمين، وعلى هذا قال الأترازي: ومعنى قوله على يمين، أي على مقسم عليه م: (وقال: إن شاء الله تعالى متصلًا بيمينه فلا حنث عليه) ش: وفي " المبسوط " حلف على يمين أو نذر وقال: إن شاء الله متصلًا لا حنث عليه، وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال مالك: يلزمه حكم اليمين والنذر م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «من حلف على يمين وقال إن شاء الله فقد بر في يمينه» ش: هذا الحديث بهذا اللفظ غريب، وبمعناه أحاديث منها ما أخرجها أصحاب السنن الأربعة عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال «من حلف فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك غير حنث» . انتهى بلفظ النسائي.(6/144)
إلا أنه لا بد من الاتصال لأنه بعد الفراغ رجوع، ولا رجوع في اليمين، والله تعالى أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي لفظ له: «فهو بالخيار إن شاء مضى وإن شاء ترك» ، ولفظ ابن ماجه نحوه، ولفظ أبي داود «من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد ... » ولفظ الترمذي: «فقال إن شاء الله فلا حنث عليه» وقال: حديث حسن. ومنها ما رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث» .
م: (إلا أنه) ش: استثنى من قوله فلا حنث عليه، يعني إنما لم يحنث إذا كان الاستثناء متصلًا بيمينه وهو معنى قوله م: (لا بد من الاتصال) ش: بأن يقطع قوله إن شاء الله بكلام أو سكوت، والفصل انقطاع النفس لا يعتبر لتعذر الاحتراز عنه، أما إذا كان الاستثناء منفصلًا فلا عدة به، فعليه الحنث م: (لأنه بعد الفراغ رجوع) ش: عن اليمين م: (ولا رجوع في اليمين) ش:.
فإن قلت: هذا تعليل في مقابلة النص فإن الحديث بإطلاقه لا يفصل بين المتصل والمنفصل.
قلت: الدلائل الدالة من النصوص وغيرها على اللزوم المقهور هي التي توجب الاتصال. فإن جواز الاستثناء منفصلًا يقضي إلى إخراج المقهور كلها من البيوع والأنكحة وغيرها من أن تكون تلزمه، وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى وهذا التعليل يوافق تلك الأدلة، فيحمل حديث الاستثناء على الاتصال توفيقًا بين الأدلة، والله أعلم بالصواب.(6/145)
باب اليمين في الدخول والسكنى ومن حلف لا يدخل بيتا فدخل الكعبة أو المسجد أو البيعة أو الكنيسة لم يحنث، لأن البيت ما أعد للبيتوتة، وهذه البقاع ما بنيت لها. وكذا إذا دخل دهليزا أو ظلة باب الدار لما ذكرنا، والظلة ما تكون على السكة. وقيل: إذا كان الدهليز بحيث لو أغلق الباب يبقى داخلا وهو مسقف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب اليمين في الدخول والسكنى] [حلف لا يدخل بيتا فدخل الكعبة]
م: (باب اليمين في الدخول والسكنى) ش: أي هذا باب في بيان أحكام اليمين المتعلق بدخول البيت وحكم السكنى فيه والدخول والانفصال من الظاهر الداخل إلى الباطن والخروج على الكنس والسكنى عبارة عن كون السكون في مكان على سبيل الاستقرار والدوام، فإن من جلس في مسجد أو بات فيه لا يعد ساكنًا فيه، ولما كان انعقاد اليمين على فعل شيء أو تركه شرع بذكر الأفعال التي ينعقد عليها اليمين بابًا. إلا أنه قدم هذا الباب على غيره لأنه أهم، لأن الإنسان يحتاج إلى مسكن يدخل فيه ويستقر، ثم يترتب على ذلك سائر الأفعال من الأكل والشرب.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ومن حلف لا يدخل بيتًا فدخل الكعبة أو المسجد أو البيعة) ش: بكسر الباء متعبد النصارى م: (أو الكنيسة) ش: وهو متعبد اليهود م: (لم يحنث، لأن البيت ما أعد للبيتوتة، وهذه البقاع ما بنيت لها) ش: أي للبيتوتة، والمعتبر في الأيمان العادة والعرف، والألفاظ المستعملة في الأيمان مبنية على العرف عندنا.
وقال أحمد: بني الأيمان على النية، سواء نوى ظاهر اللفظ أو مجازه خاصًا أو عامًا، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لكل امرئ ما نوى.» قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مبنية على الحقيقة، لأنها مراد وعند مالك على معاني علم القراءات، لأنه على أصح اللغات وأفصح.
م: (وكذا) ش: أي وكذا لم يحنث م: (إذا دخل دهليزا أو ظلة باب الدار) ش: والظلة ما أظل فوق الباب خارج الدار لما ذكرنا، أشار إلى قوله لأن البيت ما أعد للبيتوتة. وفي " التحفة " ولو دخل دهليز الدار يحنث، لأنه في الداخل والظلة تكون على السكة م: (لما ذكرنا، والظلة ما تكون على السكة) ش: ما أظل فوق الباب خارج الدار، وهو يصلح أن يكون تفسيرًا لما ذكره المصنف.
وأوضح ذلك " صاحب العصير "، فقال: الظلة هي التي أحد طرفي جذعها على هذه الدار وطرفها الآخر على حائط الجار المقابل. وفي " الذخيرة ": أراد بالظلة الساباط الذي يكون على باب الدار. قال صاحب " المغرب ": قول الفقهاء ظلة الدار يريدون بها السدة التي فوق الباب، والكل في الحقيقة معنى واحد.
م: (وقيل: إذا كان الدهليز بحيث لو أغلق الباب يبقى داخلا وهو مسقف يحنث، لأنه يبات فيه عادة) ش: قيد بقوله وهو مسقف يبقى أن لا يحنث، ولكن الأصح أن كل موضع إذا أغلق الباب لا يمكنه الخروج يكون من الدار، فعلى هذا يحنث بدخوله الدهليز مطلقًا كما ذكره أولًا، وعلله(6/146)
يحنث، لأنه يبات فيه عادة، وإن دخل صفة حنث لأنه يبنى للبيتوتة فيها في بعض الأوقات، فصار كالشتوي والصيفي. وقيل: هذا إذا كانت الصفة ذات حوائط أربعة وهكذا كانت صفافهم وقيل: الجواب يجري على إطلاقه وهو الصحيح.
ومن حلف لا يدخل دارا فدخل دارا خربة لم يحنث، ولو حلف لا يدخل هذه الدار فدخلها بعد ما انهدمت وصارت صحراء حنث، لأن الدار اسم للعرصة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بقوله لأنه في الداخل.
م: (وإن دخل صفة حنث) ش: أي في يمينه لا يدخل بيتًا م: (لأنه يبنى للبيتوتة فيه في بعض الأوقات، فصار كالشتوي والصيفي) ش: الشتوي هو الذي يبنى لأن يبات فيه في الشتاء، والصيفي الذي يبنى، لأن يبات فيه في الصيف، فاستوى له جدران أربعة في واحد منها باب، والصيفي له ثلاث جدران ليس إلا هو وهو الصفة.
وفيه قول بعض المشايخ بخلاف هذا أشار إليه بقوله م: (وقيل هذا) ش: أي حنث بدخول الصفة في المبتدأ لا يدخل بيتا م: (إذا كانت الصفة ذات حوائط أربعة، وهكذا كانت صفافهم) ش: أي صفاف أهل الكوفة، فحينئذ لا يكون فرق بين البيت والصفة، فيحنث. لأنه بيان فيها. وفي " المبسوط ": وفي عرفنا الصفة ذات حوائط ثلاثة قد تكون على هيئة البيت، فلا يكون بيتًا فلا يحنث، وبه قال الشافعي.
وقال الفقيه أبو الليث في شرح الجامع الصغير: ذكر عن أبي حاتم [....] أمشي بغداد، قال: هذه ليلة كانت مشتملة حتى انتهيت إلى الكوفة فرأيت صفافهم مبسوطة، فعلمت أن الأيمان وضعها على تعارفهم.
قال أبو بكر الرازي في شرح " مختصر الطحاوي ": قال أصحابنا: ذلك على حسب عاداتهم كانت بالكوفة يسمون بيتًا في جوف بيت آخر صفة، فأما اسم الصفة في بغداد لا يتناول البيت ولا اسم يتناول الصفة.
م: (وقيل الجواب يجري على إطلاقه) ش: يعني يحنث أي صفة دخلها بصحة البيتوتة، وإليه ذهب المصنف ونبه عليه بقولهم م: (وهو الصحيح) ش: وقال الكاكي: وهو الصحيح احتراز تقيد الصفة بعرفهم، يعني الصحيح الإطلاق لوجود البيتوتة في الصفة.
[حلف لا يدخل دارا فدخل دارا خربة]
م: (ومن حلف لا يدخل دارًا فدخل دارا خربة لم يحنث ولو حلف لا يدخل هذه الدار فدخلها بعد ما انهدمت وصارت صحراء حنث) ش: وقال الشافعي: لا يحنث في الوجهين، وأشار المصنف إلى العرف بين الوجهين بقوله م: (لأن الدار اسم للعرصة) ش: قال ابن الأثير: العرصة كل موضع واسع لا ينافيه. وقال الجوهري: العرصة كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها شيء من بناء،(6/147)
عند العرب والعجم، يقال دار عامرة ودار غامرة، وقد شهدت أشعار العرب بذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والجمع العرصات والعراص.
قلت: ومنه عرصات يوم القيامة، وهي شديدة، وهي في لغة العجم كذلك، فلذلك قال المصنف: م: (عند العرب والعجم) ش: وهي بسكون الراء، تفتح في الجمع م: (يقال دار عامرة ودار غامرة) ش: أي دار عامرة بالعين المهملة، ودار غامرة بالغين المعجمة.
قال الجوهري: الغامرة يعني بالغين المعجمة من الأرض خلاف العامرة، يعني بالمهملة. وفي حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل على كل جريب عامر أو غامر أو رهمًا ومصرًا. قال ابن الأثير: الغامر يعني بالغين المعجمة ما لم يزرع مما يحتمل الزراعة من الأرض والجواب من الأرض ستون ذراعًا في ستين.
م: (وقد شهدت أشعار العرب بذلك) ش: أي بأن الدار اسم للعرصة، وجاء ذلك في أشعار كثيرة، منها ما قال شعير العامري:
عقب الديار محلها فمقامها ... بمنى تأبد غواها فرجا بها
قوله عقب ديار الأحباب العرب ما كان منها للحلول دون الإقامة وما كان منها للإقامة وعفى يعفو لازم ويتعدى وهنا لازم، يعني اندرست. قوله بمنى بالتنوين وهو موضع يجمع ضربه هي الحرم. قوله تأبد أقفر وخلا من الوحوش. قوله غواها بفتح الغين المعجمة والرجاء بكسر الراء وبالجيم، وهما جبلان معروفان. وقيل موضعان.
ومنها ما قال السنابقة:
يا دار مية بالعلياء والسند أقوت ... وطال عليها سالف الأبد
فيها أصيلا لا أسائلها ... أعقر جوابًا وما بالربع من أحد
يخاطب السنابقة دار مية اسم امرأة. والعلياء موضع مرتفع، وكذلك السند بفتحتين موضع مرتفع من ارتفاع الوادي أو الجيد، ثم أخبر عنها بقوله أقدت أي أقفرت وخلت عن أهلها وذهبوا وطال عليهم ما مضى من مرور الزمان، ثم يقول وقفت عليها عشية أسائلها عن أهلها أين مضوا فلم تقدر على الجواب، ولم يكن فيها أحد يكنى، والأصيلان لا أصله أصلان مصغر أصلان جمع أصيلًا، فأبدلوا من النون لامًا. والأصيل الوقت بعد المغرب، ومنها ما قال حسان بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
تلك دار الألوف أصحت حلا ... بعد ما يحلها في نشاط
والنشاط شره من الصبي. هذه الأبيات كما ترى دالة على أن الدار سمي دارًا بعد ارتحال(6/148)
فالبناء وصف فيها غير أن الوصف في الحاضر لغو، وفي الغائب معتبر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أهلها عنها وآثارها ودرس رسومها وأطلالها. وقال الأترازي: وقد أورد الفقيه أبو الليث في شرح " الجامع الصغير " والإمام الأسبيجابي في " شرح الطحاوي " ها هنا يصلح بضبط الفقهاء، وهي الدار وإن زالت حوائطها. والبيت ليس ببيت بعد أن ينهدم، ثم قال ولكن لا يصلح للاحتجاج به، فإن قائله ليس بمعلوم وإن شاء مثله لكل أحد غير عسير، انتهى. وذكر الكاكي هذا البيت في معرض الاحتجاج فلا بأس به؛ لأنه وإن لم يعرف قائله يصلح للاحتجاج ألا ترى أن النحاة كثيرًا احتجوا بإثبات، لأنه لا يعرف قائلها، غير أنهم إذا عرفوا أن قائلها من السفر المحدثين لم يحتجوا فيها إلا للاستشهاد.
م: (فالبناء وصف فيها) ش: أي في الدار م: (غير أن الوصف في الحاضر لغو، وفي الغائب معتبر) ش: أي هذا إذا كانت الصفة لم تكن داعية إلى اليمين نفعه كون الدار معينة. وفي الغائب إلى المنكر معتبرة، لأن الغائب يعرف بالوصف، فتعلقت اليمين والدار موصوفة بصفة فلا يحنث بعد زوال تلك الصفة وفي المعين لغو لأنه إشارة إلى تعريف فأغنت عن الوصف الذي وضع للتوضيح، فاستوى وجودها وعدمها. وهنا اعتراضان:
الأول: نقض إجمالي، وهو أن يقال هذا. بل بما قال محمد: في كتاب الوكالة لو وكله بشراء دار فاشترى دارًا خربة يلزم الموكل، وينبغي أن لا يقع للموكل، لأن الصفة في الغائب معتبرة. والجواب أن الصفة في النكرة من كل وجه معتبرة، والدار في اليمين منكرة من كل وجه. وفي الوكالة تفرقت من وجه، لأن التوكيل بشرائها إنما يصح عند بيان الثمن أو محله وليست في اليمين كذلك، فلا يلزم من صحته اتفاقًا، والوكالة صحة انعقاد اليمين بلا تحفة الاعتراض.
الثاني: بطريق المعارضة وهو أن يقال إن البناء لا يخلو إما أن يكون داخلًا في المسمى أو لم يكن، فإن كان داخلًا وجب أن لا يختلف الحال بالغيبة والحضور في الدخول كالعرصة، وإن لم يكن داخلًا وجب أن لا يختلف الحال أيضًا في عدم الدخول، كما إذا حلف لا يكلم رجلًا ينعقد يمينه برجل قاعد عالم، أي غير ذلك من الصفات الخارجة عنه. والجواب أن البناء صفة متعينة للدار.
فجاز أن يكون مرادا بحكم العرف المتعين. وفي الرجل التراجم في الصفات ثابت من العلم والفعل والقدرة والصناعة والحسن والجمال، وهذه الصفات بأثرها يمنع إرادتها عادة، وليس البعض أولى من البعض في الإرادة، فتمتنع الإرادة أصلًا كذا ذكره في " النهاية " محالًا عن " الفوائد الظهيرية ".
وقال الأكمل: ورد بأن البناء ضده الخراب ومحل الدار محل نوادرها، فكيف صار البناء صفة متعينة فهو في حيز النزاع. وأقول في جواب المعارضة المذكور من التقسيم غير حاضر أو أن(6/149)
ولو حلف لا يدخل هذه الدار فخربت ثم بنيت أخرى فدخلها يحنث لما ذكرنا أن الاسم باق بعد الانهدام، وإن جعلت مسجدا أو حماما أو بستانا أو بيتا فدخله لم يحنث، لأنها لم تبق دارا لاعتراض اسم آخر عليها، وكذا إذا دخله بعد انهدام الحمام وأشباهه لأنه لا يعود اسم الدارية. وإن حلف لا يدخل هذا البيت فدخله بعد ما انهدم وصار صحراء لم يحنث لزوال اسم البيت، لأنه لا يبات فيه حتى لو بقيت الحيطان وسقط السقف يحنث لأنه يبات فيه والسقف وصف فيه، وكذا إذا بنى بيتا آخر فدخله لم يحنث، لأن الاسم لم يبق بعد الانهدام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يكون داخلًا في المنكر لاحتياجه إلى التعريف غير داخل في المعروف لاستغنائه عنه.
[حلف لا يدخل هذه الدار فخربت ثم بنيت دارا أخرى فدخلها]
م: (ولو حلف لا يدخل هذه الدار فخربت ثم بنيت دارًا أخرى فدخلها يحنث لما ذكرنا أن الاسم باق بعد الانهدام) ش: لم تبدل باعتبار أصله، وإنما يبدل الوصف، وذلك لا يعتبر في الحاضر. وللشافعي فيه وجهان م: (وإن جعلت مسجدًا) ش: أي وإن جعلت الدار مسجدًا م: (أو حمامًا أو بستانًا أو بيتًا فدخله لم يحنث لأنها لم تبق دارًا لاعتراض اسم آخر عليها) ش: لأنها لم تبدل اسمها كان ذلك بمنزلة متبدل العين.
م: (وإن حلف لا يدخل هذا البيت فدخله بعد ما انهدم وصار صحراء لم يحنث لزوال اسم البيت، فإنه لا يبات فيه، حتى لو بقيت الحيطان وسقط السقف يحنث، لأن يبات فيه) ش: أي في البيت الذي زال سقفه وجدرانه باقية م: (والسقف وصف فيه) ش: أي في البيت، إذ البيتوتة تحصل بدونه، والسقف صفة الكمال في البيت ولم يضر زوال الوصف.
م: (وكذا إذا بنى) ش: أي ذلك البيت م: (بيتًا آخر فدخله لم يحنث، لأن الاسم لم يبق بعد الانهدام) ش: لأن الثاني صار غير الأول، لأنه بصفة جديدة، وفي " خلاصة الفتاوى " عن الأصل لو حلف لا يسكن بيتًا ولا نية له فسكن بيتًا من شعر أو فسطاطًا أو خيمة لا يحنث إن كان الحالف من أهل المصر. وإن كان من أهل البادية يحنث. وذكر بعضهم في شرحه منقولًا عن " الفوائد الظهيرية " أنه إذا حلف لا يهدم بيتًا فهدم بيت العنكبوت يحنث [....] ، لأنه مخالف للأصل وللرواية، فإن الشيخ أبا نصر قال: وإن حلف لا يخرب بيتا فخرب بيت العنكبوت لم يحنث وإن سماه الله بيتًا، ذكره في مسألة لا يأكل لحمًا فأكل السمك لم يحنث.(6/150)
قال: ومن حلف لا يدخل هذه الدار فوقف على سطحها حنث، لأن السطح من الدار، ألا ترى أن المعتكف لا يفسد اعتكافه بالخروج إلى سطح المسجد. وقيل في عرفنا لا يحنث وهو اختيار الفقيه أبي الليث.
قال: وإذا دخل دهليزها يحنث ويجب أن يكون على التفصيل الذي تقدم. وإن وقف في طاق الباب بحيث إذا أغلق الباب كان خارجا لم يحنث، لأن الباب لإحراز الدار وما فيها، فلم يكن الخارج من الدار.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي قال القدوري: م: (ومن حلف لا يدخل هذه الدار فوقف على سطحها حنث لأن السطح من الدار، ألا ترى أن المعتكف لا يفسد اعتكافه بالخروج إلى سطح المسجد) ش: وكذا يصلح اقتداء الذي على سطح المسجد بمن فيه، وذكر في " الشامل " حلف لا يدخل دار فلان، فقام على حائطه أو سطحه حنث. وقال في " شرح الأقطع ": قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحنث. وقال بعض أصحابه: يحنث.
م: (وقيل في عرفنا لا يحنث) ش: أي بالوقوف على سطح الدار. قال الفقيه أبو الليث: في " النوازل " إن كان الحالف من بلاد العجم فإنه لا يحنث في هذا كله ما لم يدخل الدار، لأن الناس لا يعرفون ذلك دخولًا في الدار. وفي " جامع قاضي خان " هذا في عرفهم، وفي عرفنا الصعود على السطح والحائط لا يسمى دخولًا فلا يحنث. ثم قال والصحيح جواب الكتاب إنه يحنث.
وفي " الفتاوى " قال: هذا إذا كان اليمين بالعربية، فإن كان بالفارسية وصعد السطح أو نحوه أو شجرة فيها أو حائطًا فيها لا يحنث. وفي " الكافي " المجاز في بلاد العجم أنه لا يحنث. وفي " الدهليز ": يحنث. وفي " الإيضاح ": ولو كان فوق المسجد سكن لم يحنث؛ لأن ذلك ليس بمسجد، وفي " شرح الوجيز " ولو كانت في الدار شجرة منشرة الأغصان يتعلق ببعضها.
فإن حصل في مجازات البيان حنث. وإن حصل في مجازات لأسترة السطح ففيه وجهان وإن أعلا من ذلك يحنث وعند أصحاب أبي حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أنه لو كان بحيث لو سقط يسقط في الدار يحنث.
[حلف لا يدخل بيت فلان ولا نية له ثم دخل في صحن داره]
م: (قال) ش: أي قال القدوري: م: (وإذا دخل دهليزها يحنث ويجب أن يكون على التفصيل الذي تقدم) ش: يعني إذا أغلق الباب ويبقى داخلًا وهو ضيق، وإنما قال: هذا لأن القدوري أطلقه م: (وإن وقف في طاق الباب بحيث إذا أغلق الباب كان خارجًا لم يحنث، لأن الباب لإحراز الدار وما فيها، فلم يكن الخارج من الدار) ش: أي خارج الباب من الدار لعدم الحرز به، وفي " المحيط " وكذا لو قام على أسكفة الباب والباب بينه وبين الدار لا يحنث. ولو دخل رأسه أو إحدى رجليه أو حلف أن لا يخرج فخرج إحدى رجليه أو رأسه لم يحنث، وبه قال الشافعي(6/151)
قال: ومن حلف لا يدخل هذه الدار وهو فيها لم يحنث بالقعود حتى يخرج ثم يدخل استحسانا والقياس أن يحنث لأن الدوام له حكم الابتداء. وجه الاستحسان أن الدخول لا دوام له، لأنه انفصال من الخارج إلى الداخل. ولو حلف لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه فنزعه في الحال لم يحنث، وكذا إذا حلف لا يركب هذه الدابة وهو راكبها فنزل من ساعته لم يحنث وكذا لو حلف لا يسكن هذه الدار وهو ساكنها فأخذ في النقلة من ساعته. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحنث لوجود الشرط وإن قل. ولنا أن اليمين تعقد البر فيستثنى منه زمان تحققه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك وأحمد رحمهما الله في رواية لو حلف لا يدخل بيت فلان ولا نية له، ثم دخل في صحن داره لم يحنث حتى يدخل البيت.
هذا في عرفهم وفي عرفنا الدار والبيت واحد فيحنث إن دخل صحن الدار، وعليه الفتوى وبه قال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه واحد. حلف لا يدخل دار فلان فمات صاحبها فدخل لم يحنث، سواء كان على الميت دين أم لا. ولو باعها فلان ثم دخلها إن عينها بأن قال: هذه. لا يحنث عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد وزفر والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ومالك وأحمد يحنث.
ولو دخل دارًا مشتركة بينه وبين غيره، فإن كان المحلوف عليه يسكنها يحنث. ولو دخل دارًا يسكنها فلان بالإجارة أو بالإعارة يحنث وبه قال مالك وأحمد.
[حلف لا يدخل هذه الدار وهو فيها]
م: (قال) ش: أي قال القدوري: م: (ومن حلف لا يدخل هذه الدار وهو فيها لم يحنث بالقعود حتى يخرج ثم يدخل استحسانًا. والقياس أن يحنث) ش: وبه قال زفر والشافعي رحمهما الله في وجه م: (لأن الدوام له حكم الابتداء) ش: أي لأن الدوام على الفعل له حكم ابتداء الفعل كما إذا حلف لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه، أو لا يركب هذه الدابة وهو راكبها، فدام على ذلك يحنث.
م: (وجه الاستحسان أن الدخول لا دوام له، لأنه انفصال من الخارج إلى الداخل) ش: وليس دوام م: (ولو حلف لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه فنزعه في الحال لم يحنث. وكذا إذا حلف لا يركب هذه الدابة وهو راكبها فنزل من ساعته لم يحنث أو حلف لا يسكن هذه الدار وهو ساكنها فأخذ في النقلة من ساعته. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحنث) ش: أي قياسًا م: (لوجود الشرط وإن قل) ش: أي شرط الحنث وشرط الحنث يستوي فيه القليل والكثير. م: (ولنا أن اليمين تعقد البر فيستثنى منه زمان تحققه) ش: إن تحقق البر.
فإن قلت: لا نسلم أن اليمين تعقد للبر، ألا ترى أن الحلف على البناء ينعقد، والبر لا يتصور.(6/152)
فإن لبث على حاله ساعة حنث، لأن هذه الأفاعيل لها دوام بحدوث أمثالها، ألا ترى أنه يضرب لها مدة يقال ركبت يوما ولبثت يوما، بخلاف الدخول لأنه لا يقال دخلت يوما يعني المدة والتوقيت،
ولو نوى الابتداء الخالص يصدق، لأنه محتمل كلامه. قال: ومن حلف لا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: اليمين ثمة منعقدة للبر أيضًا للإمكان، لكن لعجز الظاهر انتقل الحكم إلى الحلف، وهو الكفارة م: (فإن لبث على حاله ساعة حنث، لأن هذه الأفاعيل) ش: وهو اللبس والركوب والسكنى م: (لها دوام بحدوث أمثالها) ش: أي يتحدد أمثالها بدليل صحة ضرب المدة، وهو معنى قوله م: (ألا ترى أنه يضرب لها مدة يقال لبثت يومًا وركبت يومًا) ش: فكان للدوام حكم الابتداء فيحنث الآن يعني الابتداء الخالص، فحينئذ لا يحنث باللبس.
م: (بخلاف الدخول، لأنه لا يقال دخلت يومًا يعني المدة والتوقيت) ش: إنما قيد بمعنى المدة والتوقيت احترازًا عما يقال في مجاري كلامهم دخلت عليه يومًا، قال إلى كذا وكذا خرجت عنه يومًا قال: إلى كذا، وإقرار الدخول باليوم، لكن يراد به مطلق الوقت، ولا يراد به مضي المدة والتوقيت.
واعلم أن الأفعال على ضربين، ضرب يقبل الابتداء وضرب لا يقبله، والفاصل بينهما قبول التوقيت وعدمه، قيل التوقيت قبل الامتداد وما لا فلا، والاستدامة على الممتد بمنزلة الإنشاء. قال الله تعالى: {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] (الأنعام: الآية 68) ، أي: فلا تمكث قاعدًا، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعظ الناس قاعدًا، وعلى هذا قالوا: إذا قال لها: كلما ركبت فأنت طالق فمكث ساعة يمكنها النزول فيها طلقت، وإن مكثت مثلها طلقت أخرى، لأن للدوام حكم الابتداء وكلمة كلما تعم الأفعال تفكر الجزاء بتكسر الشرط، ولو نص بما قال: كلما ركبت دابة فعلي أن أتصدق بدرهم فركب دابة فعليه درهم وإن طال مكثه في الركوب. وإن كان ما ذكرتم صحيحًا لزمه أكثر من ذلك.
وأجيب بأن الاستدامة فيما يمتد بمنزلة الإنشاء إذا لم يكن الإنشاء الخالص مرادًا ولهذا قلنا في هذا الفصل إذا كان راكبًا وقت اليمين لزمه في كل وقت يمكنه النزول والركوب درهم لكون الإنشاء الخالص غير مراد.
[حلف لا يسكن هذه الدارفخرج بنفسه ومتاعه وأهله فيها]
م: (ولو نوى الابتداء الخالص) ش: أي لا بقوله: ألبس بعد النزع ولا أركب بعد النزول م: (يصدق) ش: فلا يحنث م: (لأنه محتمل كلامه) ش: سماه محتمل، وإن كان قوله: لا يركب حقيقة في الابتداء، لأنه حقيقة فيه إذا لم يكن راكبًا، أما إذا كان راكبًا في الابتداء من محتملاته. وقال تاج الشريعة: لا يحنث لأنه قد يكون من حيث الابتداء، وقد يكون من حيث الدوام.
وقد يكون كلما بلفظ اللبس، فيكون ناويًا بتخصيص ما في لفظه، فصحت النية. م: (قال) ش: أي قال القدوري: م: (ومن حلف لا يسكن هذه الدار) ش: وهو متأهل بدليل قوله.(6/153)
يسكن هذه الدار فخرج بنفسه ومتاعه وأهله فيها ولم يرد الرجوع إليها حنث، لأنه يعد ساكنا ببقاء أهله ومتاعه فيها عرفا، فإن السوقي عامة نهاره في السوق ويقول أسكن سكة كذا، والبيت والمحلة بمنزلة الدار،
ولو كان اليمين على المصر لا يتوقف البر على نقل المتاع والأهل فيما روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا يعد ساكنا في الذي انتقل عنه عرفا بخلاف الأول، والقرية بمنزلة المصر في الصحيح من الجواب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فخرج بنفسه ومتاعه وأهله فيها) ش: ومتاعه مرفوع بالابتداء وأهله عطف عليه وقوله فيها خبر المبتدأ، أي في الدار، والواو فيه للحال م: (ولم يرد الرجوع إليها حنث) ش: وبه قال أحمد ومالك، وعن مالك لو أقام يومًا وليلة حنث. وفي الأقل لم يحنث. وعند زفر يحنث عقيب اليمين. وقال الشيخ أبو نصر: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحنث.
وقال الكاكي: عند الشافعي لا يحنث إذا خرج بنية التحويل، وهذا الخلاف مبني على أصل بيننا وبين الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو أن عنده العبرة بحقيقة اللفظ أو العادة بخلافها لا تعتبر، وعندنا العبرة للعادة، لأنها صارت على الحقيقة، والحالف يريد ذلك، فيحمل كلامه عليه، ألا ترى أن المديون يقول لصاحب الدين لأجرتك يحمل ذلك على شدة المطل.
م: (لأنه) ش: أي لأن الحلف م: (يعد ساكنًا ببقاء أهله ومتاعه فيها عرفًا) ش: أي من حيث العرف والعادة، ثم أوضح ذلك بقوله م: (فإن السوقي عامة نهاره) ش: أي في أكثر نهاره م: (في السوق) ش: مشغولًا لما يعانيه من الحرفة أو البيع أو الشراء م: (ويقول أسكن سكة كذا) ش: بذكر سكة من سكن المدينة، فهذا يدل على أنه يعد ساكنًا من أهله ومتاعه فيها م: (والبيت والمحلة بمنزلة الدار) ش: أراد أن اليمين يقول لا أسكن هذا البيت، ولا أسكن هذه المحلة مثل اليمين بقوله لا أسكن هذه الدار. وفي " الخلاصة " السكة والمحلة بمنزلة الدار.
[حلف لا يسكن في هذا المصر فخرج وترك أهله ومتاعه]
م: (ولو كان اليمين على المصر) ش: بأن حلف لا يسكن في هذا المصر أو في هذا البلد م: (لا يتوقف البر على نقل المتاع والأهل) ش: بمعنى إذا انتقل إلى مصر آخر بنفسه ولم ينقل الأهل والمتاع لا يحنث في يمينه م: (فيما روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: كذا نقل أبو الليث في شرح " الجامع الصغير " في " الأمالي " عن أبي يوسف م: (لأنه لا يعد ساكنًا في الذي انتقل عنه عرفًا) ش: وإن لم ينقل الأهل والمتاع قال من يكون ببصرة لا يقال هو ساكن ببغداد وإن كان أهله ونقله ببغداد م: (بخلاف الأول) ش: وهو قوله لا أسكن هذه الدار ولا أسكن هذه السكة أو المحلة كما ذكر، وعند الشافعي المصر كالدار يعني لما ذكر أنه يعتبر حقيقة اللفظ لا العادة.
م: (والقرية بمنزلة المصر) ش: وفي بعض الشروح والقرية كالمصر، يعني إذا قال: لا أسكن هذه القرية فحكمه حكم من قال لا أسكن هذا المصر.
م: (في الصحيح من الجواب) ش: احترز به عن قول بعض مشايخنا أن القرية كالدار، وهو(6/154)
ثم قال أبو حنيفة: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا بد من نقل كل المتاع حتى لو بقي فيه، وقد يحنث لأن السكنى قد ثبت بالكل فيبقى ما بقي شيء منه وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر نقل الأكثر لأن نقل الكل قد يتعذر وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر نقل ما يقوم به كدخذائيته لأن ما رواء ذلك ليس من السكنى قالوا هذا أحسن وأرفق بالناس
وينبغي أن ينتقل إلى منزل آخر بلا تأخير حتى يبر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضًا، والأصح أنها كالمصر، وهو اختيار الشيخ الإمام الأجل برهان الدين والصدر الشهيد وقد عرفت أن جملة هذه المسائل على ثلاثة أوجه، أما إن كانت المسألة في المصر أو القرية أو الدار، وقد عرفت حكم كل واحد منهم.
م: (ثم قال أبو حنيفة: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا بد من نقل كل المتاع حتى لو بقي فيه، وقد يحنث) ش: في يمينه م: (لأن السكنى قد ثبت بالكل فيبقى) ش: أي المسكن م: (ما بقي شيء منه) ش: أي من المتاع. ونقل صاحب " الأجناس " عن " نوادر " أبي يوسف رواية علي بن الجعد: وإن ترك فيها إبرة أو مسلة حنث، وبه قال أحمد.
وفي " المحيط " و " المبسوط " قال: مشايخنا إنما يشترط عند أبي حنيفة نقل الكل بما يقصد به السكنى كالوتد والمكنسة وقطعة حصير بر في يمينه. واعترض على قول أبي حنيفة بأن سكناه كان بجميع ما كان معه من الأهل والمتاع. فإذا خرج بعضه انتفى سكناه، لا بأن الكل ينتفي بانتقال البعض. وأجيب: بأن الكل ينتفي بانتفاء جزء حقيقي لا اعتباري وما ذكرتم ليس كذلك، وينبغي أن ينقل إلى ترك آخر حتى يبر.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر نقل الأكثر) ش: أي أكثر المتاع م: (لأن نقل الكل قد يتعذر) ش: ويبقى الأقل لا يعد ساكنًا، وعليه الفتوى، كذا في " الكافي " وفي " المحيط " م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر نقل ما يقوم به كدخذائيته) ش: هذه نسبة إلى كدخذا أي بفتح الكاف وسكون الدال وضم الخاء المعجمة وبالذال المعجمة، وفي آخره ياء آخر الحروف بعده ألف ساكنة وكدخذائي باللغة الفارسية اسم له من البيت الذي له عيال وخدم. وكذا يسمى كرمى حاره الذي له كلام في أهلها كداخذ م: (لأن ما رواء ذلك) ش: أي لأن ما رواء الكدخذائية م: (ليس من السكنى) ش: بعد لا يعد من السكنى.
م: (قالوا) ش: أي قال المشايخ في شرح " الجامع الصغير " م: (هذا أحسن وأرفق بالناس) ش: وفي شرح الجميع واستحسنه المشايخ، وعليه الفتوى وكذا استحسنه صاحب " المحيط ". وعن مالك بغير نقل عياله دون متاعه.
م: (وينبغي أن ينتقل إلى منزل آخر بلا تأخير حتى يبر) ش: أراد به إذا نقل على منزل آخر بلا تأخير لا يحنث. قال العتابي في شرح " الجامع الصغير ": فإن لم يكن انتقل من ساعته، فإن كان(6/155)
فإن انتقل إلى السكة أو إلى المسجد قالوا لا يبر، دليله في الزيادات أن من خرج بعياله من مصره، فما لم يتخذ وطنا آخر يبقى وطنه الأول في حق الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ليلًا لم يحنث، لأنه قدم ما لا يمكنه الامتناع عنه شيء عن اليمين. وفي " خلاصة الفتاوى " لو تحقق العذر باللص وغيره، وهو معذور.
ونقل في " الأجناس " عن الهارونيات: أنه إذا أخذ في الأهبة فنقله عن المنقلة بطلب الدابة أو من يحمل متاعه لا يحنث.
وقال في " فتاوى الولوالجي ": ولو خرج في طلب منزل من ساعته وخلف متاعه لم يحنث، لأن الطلب من عمل النقل. ولو أخذ في النقلة شيئًا فيه، فإن كانت النقلات لم تغير لم يحنث، لأنه في النقل، فإن كان يمكنه أن يتأخر من ينقل متاعه في يوم، فليس ذلك، ولا يلزمه النقل بأسرع الوجوه، بل يعذر ما سمي ناقلًا في العرف.
وفي " الشامل ": إن لم يمكنه النقل من ساعته بعذر الليل أو بمنع ذي سلطان أو عدم موضع آخر ينقل إليه لم يحنث، لأن حالة الضرورة مستثناة، خلافًا لزفر. وكذا لو سد عليه الباب فلم يقدر على النقل أو كان شريفًا أو وضيعًا لا يقدر على النقل إلا منعته بنفسه ولم يجد أحدًا ينقلها لم يحنث حتى يجد من ينقلها، ويلحق الموجود بالمعدوم للعذر.
ونوقض بما ذكر الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل أن من قال: إن لم أخرج من هذا المنزل اليوم فامرأته طالق فقيد ومنع من الخروج يحنث، وكذا لو قال لامرأته وهي في منزل والدها إن لم تحضري الليلة منزلي فأنت طالق فمنعها الوالد عن الحضور يحنث. وأجيب بأن في مسألة الكتب شرط الحنث المسكني، وإنه فعل وجودي لا يحصل بدون الاختيار، ولا يحصل الاختيار مع وجود الموانع المذكورة. وأما في صورة النقض فشرط الحنث عدم الخروج، والعدم لا يحتاج إلى الاختيار.
م: (فإن انتقل إلى السكة أو إلى المسجد لا يبر) ش: وفي جامع " قاضي خان " اختلفوا فيه قال بعضهم: لا يحنث، لأنه لم يبق ساكنًا فيها. وقال بعضهم: يحنث، لأن سكناه لا ينقضي إلا بسكنى أخرى لا استدلالًا بمسألة الزيادات، أشار إليه المصنف بقوله.
م: (دليله في الزيادات) ش: أي دليل ما قالوا في كتب الزيادات، ولفظ دليل مرفوع بالابتداء وخبره قوله في الزيادات، وقوله م: (أن من خرج بعياله) ش: بدل منه، أي بأن خرج رجله م: (من مصره) ش: ومعه عياله م: (فما لم يتخذ وطنًا آخر يبقى وطنه الأول في حق الصلاة) ش: يعني لا يقصر.
قال تاج الشريعة: صورته رجل بخاري متوطن بها، خرج منها بعياله إلى سمرقند، فلما(6/156)
كذا هذا، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وصل إلى الكوفة مثلًا رجع وأراد الذهاب إلى خراسان، فدخل بخارى فإنه يتم الصلاة، لأنه ما انتقض منها في حق الصلاة، فكذا في غيرها، انتهى.
قلت: هذا الذي ذكره صورة ما ذكر المصنف. وأما الصورة المذكورة في الزيادات في كوفي انتقل بأهله ومتاعه إلى مكة ليس وطنها فلما وصلها بدا له أن يعود إلى خراسان فعاد ومر بالكوفة قال: يصلي بها ركعتين، لأن وطنه بها انقطع، وإن بدا له قبل أن يدخلها فإنه إذا مر بالكوفة قال: يصلي بها ركعتين صلى بها أربعًا، لأنه لم يتخذ وطنًا بقي وطنه بالكوفة.
م: (كذا هذا) ش: يعني كذا حكم هذا الرجل الذي حلف لا يسكن هذه الدار أنه إذا انتقل إلى السكنة أو إلى المسجد لا يبر في يمينه، لأنه لما لم يتخذ وطنًا آخر وطنه الأول فافهم، فإنه موضع دقيق.(6/157)
باب اليمين في الخروج والإتيان والركوب وغير ذلك قال: ومن حلف لا يخرج من المسجد فأمر إنسانا فحمله فأخرجه حنث، لأن فعل المأمور مضاف إلى الآمر، فصار كما إذا ركب دابة فخرجت، ولو أخرجه مكرها لم يحنث، لأن الفعل لم ينتقل إليه لعدم الآمر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب اليمين في الخروج والإتيان والركوب وغير ذلك] [حلف لا يخرج من المسجد فأمر إنسانا فحمله فأخرجه]
م: (باب اليمين في الخروج والإتيان والركوب وغير ذلك) ش: أي هذا الباب في بيان حكم اليمين في الخروج، وهو انفصال من الداخل إلى الخارج، وذكر باب الخروج بعد باب الدخول تحقيقًا للمقابلة، وذكر الإتيان لأنهما يتواردان بعد الخروج، ذكرهما عند ذكره، وأراد بقوله - وغير ذلك - نحو قوله لا تخرج امرأته إلا بإذنه. وقوله لرجل اجلس فقعد عندي. وقوله لا تركب دابة فلان.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن حلف لا يخرج من المسجد) ش: قيد المسجد اتفاقًا، لأن الحكم في البيت والدار كذلك، أو نسب عدم الخروج إلى المسجد بناء على غالب حال المسلم، لأنه في الغالب يكون ملازمًا ولا يخرج منه، كذلك قالوا.
قلت: المسألة في " الجامع الصغير " كذا وقعت، وأوردها كما هي من غير تعبير لفظها م: (فأمر إنسانًا فحمله فأخرجه حنث، لأن فعل المأمور مضاف إلى الآمر فصار كما إذا ركب دابة فخرجت به) ش: لأن خروجه ينسب إليه والدابة آلته.
م: (ولو أخرجه مكرهًا) ش: أي ولو أخرج هذا الحالف إنسانًا حال كونه مكروهًا م: (لم يحنث) ش: وبه قال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح وأحمد في رواية م: (لأن الفعل) ش: أي الخروج م: (لم ينتقل إليه) ش: أي إلى الحالف م: (لعدم الآمر) ش: حاصله أنه أخرج ولم يخرج فلم يوجد شرط الحنث.
وقال مالك: إن استصعب على الحاصل لم يحنث، وإن راضى عليه يحنث، يعني إذا كان قادرا على الامتناع وسكن عنده، ويحنث، لأن سكونه في هذه الحالة بمثابة الإذن، وبه قال بعض أصحاب الشافعي. وصورة المسألة في الإخراج فيما إذا حمله الإنسان وأخرجه مكرهًا، لأنه لم يوجد منه فعل حمل، أما إذا حدده وجنح بنفسه خوفًا منه حنث لوجود الفعل منه، وبه قال مالك.
وقال الأترازي: أما إذا حمل فرضي به بقلبه ولم يأمره، فجوابه لم يذكر في " الجامع الصغير " قال في " شرح الطحاوي ": اختلف المشايخ فيه، قال: بعضهم يحنث كما إذا خرج طائعا، لأنه لما كان ممكنًا من الامتناع فلم يمتنع صار كأمر الإخرج. وقال بعضهم: لا يحنث، لأنه لم يوجد منه فعل ينسب إليه، ولهذا كان يقول الفقيه أبو جعفر.(6/158)
ولو حمله برضاه لا بأمره لا يحنث في الصحيح، لأن الانتقال بالأمر لا بمجرد الرضاء.
قال: ولو حلف لا يخرج من داره إلا إلى جنازة فخرج ثم أتى حاجة أخرى لم يحنث، لأن الموجود خروج مستثنى والمضي بعد ذلك ليس بخروج. ولو حلف لا يخرج إلى مكة فخرج يريدها، ثم رجع حنث لوجود الخروج على قصد مكة وهو الشرط، إذ الخروج هو الانفصال من الداخل إلى الخارج. ولو حلف لا يأتيها لم يحنث حتى يدخلها، لأنه عبارة عن الوصول. قال الله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] (الشعراء: الآية 16) ، ولو حلف لا يذهب إليها قيل هو كالإتيان، وقيل: هو كالخروج.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهكذا روي عن أبي يوسف في " الأمالي "، ثم في صورة الحمل مكرهًا لا يحنث بالاتفاق، ولكن هل ينحل اليمين أم لا؟ فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: ينحل، وعليه السيد أبو شجاع، فقال: سئل شيخنا شمس الأئمة الحلواني عن هذا ينحل اليمين. وقال بعضهم: لا ينحل، وهو الصحيح، كذا قال التمرتاشي وغيره.
م: (ولو حمله برضاه لا بأمره لا يحنث في الصحيح) ش: أي القول الصحيح احترازًا عن قول بعض المشايخ، وقد مر ذكره م: (لأن الانتقال بالأمر لا بمجرد الرضاء) ش: أي لأن انتقال الفعل إليه يكون بأمره، ولا يكون بمجرد رضاه، ففيه دليل أن من أمر إنسانًا بإتلاف ماله فأتلفه لم يضمن، وإن أتلفه بغير أمره وصاحب المال ساكت لا ينهاه ضمن، لأن فعله لم ينتقل إلى صاحب المال.
[حلف لا يخرج من داره إلا إلى جنازة فخرج إليها ثم أتى إلى حاجة أخرى]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ولو حلف لا يخرج من داره إلا إلى جنازة فخرج إليها ثم أتى إلى حاجة أخرى لم يحنث، لأن الموجود خروج مستثنى، والمضي بعد ذلك) ش: أي بعد الخروج المستثنى م: (ليس بخروج) ش: لأن الخروج انفصال من الباطن إلى الخارج ولم يوجد، والوجود الإتيان إلى حاجة ليس بخروج لأنه عبارة عن الدخول والخروج عبارة عن الانفصال، ولا دوائم للخروج بالإجماع.
م: (ولو حلف لا يخرج إلى مكة فخرج يريدها) ش: أي يريد مكة م: (ثم رجع حنث لوجود الخروج على قصد مكة، وهو الشرط إذ الخروج هو الانفصال من الداخل إلى الخارج) ش: والانفصال لا يمتد م: (ولو حلف لا يأتيها لم يحنث حتى يدخلها لأنه) ش: أي لأن الإتيان م: (عبارة عن الوصول، قال تعالى {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] (الشعراء: الآية 16) ش: لأن القول لا يكون إلا بعد الوصول إليه.
م: (ولو حلف لا يذهب إليها) ش: أي إلى مكة م: (قيل هو كالإتيان) ش: أي حكمه حكمه حكم ما لو قال لا يأتيها، وهو قول نصر بن يحيى م: (وقيل هو كالخروج) ش: أي حكمه حكم ما لو قال لا يخرج إلى مكة، وهو قول محمد بن سلمة. حاصل هذا أنه ثلاث مسائل، الخروج والإتيان والذهاب، ففي مسألة الخروج يحنث، وفي مسألة الإتيان لا يحنث، وأما مسألة الذهاب فلم(6/159)
وهو الأصح، لأنه عبارة عن الزوال قال: وإن حلف ليأتين البصرة فلم يأتها حتى مات حنث في آخر جزء من أجزاء حياته، لأن البر قبل ذلك مرجو،
ولو حلف ليأتينه غدا إن استطاع، فهذا على استطاعة الصحة دون القدرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يذكر جوابها في " الجامع الصغير " واختلف فيه المشايخ كما ذكرنا م: (وهو الأصح) ش: أي الأصح قول من قال إن الذهاب كالخروج، وهو قول محمد بن سلمة م: (لأنه) ش: أي لأن الذهاب م: (عبارة عن الزوال) ش: وقد استعمل الذهاب في الأمرين جميعًا بمعنى الإتيان كما قال الله تعالى {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} [طه: 43] والمراد به الإتيان والإذهاب الإزالة، فيكون الذهاب زوالًا فلا يشترط فيه الوصول. وفي بعض النسخ بعد قوله ومعنى الإزالة كما في قَوْله تَعَالَى {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] (الأحزاب: الآية 33) ، أي ليزيل عبارة عن الزوال، وليس هذا الموجود في كثير من النسخ.
م: (قال) ش: أي القدوري في " مختصره ": م: (وإن حلف ليأتين البصرة فلم يأتها حتى مات حنث في آخر جزء من أجزاء حياته، لأن البر قبل ذلك) ش: أي قبل الموت م: (مرجو) ش: إلا أن الحالف ما دام حيًا مرجي وجود البر، وهو الإتيان فلا يحنث، فإن مات فقد تعذر شرط البر، وتحقق شرط الحنث، وهو ترك الإتيان فيحنث في آخر جزء من أجزاء حياته، لأن هذه اليمين مطلقة عن الوقت.
بخلاف اليمين المؤقتة، مثل أن يقول إن لم أدخل هذه الدار اليوم فعبدي حر، فإن اليمين معلق بآخر الوقت ولم يدخل الدار يحنث، أما إذا فات الوقت قبل دخوله وهو حي يحنث ويعتق العبد.
[حلف رجل ليأتين زيدا في غد إن استطاع على ذلك]
م: (ولو حلف ليأتينه غدًا إن استطاع) ش: أي لو حلف رجل ليأتين زيدًا في غد إن استطاع على ذلك م: (فهذا على استطاعة الصحة) ش: أي صحة الأسباب والآلات، لأن الاستطاعة تطلق على معنيين، أحدهما هذا، قال الله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] (البقرة: الآية 196) وفسره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالزاد والراحلة، والثاني القدرة الحقيقية.
وهو معنى قوله م: (دون القدرة) ش: أي لا يحمل على القدرة الحقيقية التي يترتب عليها الفعل عند إرادة جازمة يخلق الله تعالى عند الفعل لا قبله عندنا، خلافًا للمعتزلة، فعندهم سابقة على الفعل، وبه قال الكرامية، وتسمى هذه الاستطاعة القضاة على ما يجيء.
وقال الأترازي: وقول القدرة فهذا على استطاعة الصحة دون القدرة، وقد أراد بالأول استطاعة الحال، وبالثاني استطاعة الفعل لنا فيه نظر، لأن المفهوم من قوله دون القدرة دون استطاعة القدرة، فكأنه قال دون قدرة القدرة لأن للاستطاعة والقدرة من الألفاظ المترادفة، وهي عبارة ركيكة.(6/160)
وفسره في " الجامع الصغير " وقال: إذا لم يمرض ولم يمنعه السلطان ولم يجئ أمر لا يقدر على إتيانه، فلم يأت حنث، وإن عنى استطاعة القضاء دين فيما بينه وبين الله تعالى، وهذا لأن حقيقة الاستطاعة فيما يقارن الفعل، ويطلق الاسم على سلامة الآلات وصحة الأسباب في المتعارف فعند الإطلاق ينصرف إليه، وتصح نية الأول ديانة، لأنه نوى حقيقة كلامه ثم قيل تصح قضاء أيضا لما بينا وقيل لا تصح لأنه خلاف الظاهر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو قال دون الفعل فكان دون القدرة كان أولى، فلعله سهو من الكتاب صحف القدرة بالنجاة وكتب القدرة مكانه. م: (وفسره في " الجامع الصغير ") ش: أي محمد فسر حكم هذه المسألة في " الجامع الصغير " م: (فقال إذا لم يمرض ولم يمنعه السلطان ولم يجئ أمر لا يقدر معه على إتيانه، فلم يأت حنث) ش: وإذا امتنع من الإتيان لعذر مرض أو منع سلطان ونحو ذلك لا يحنث، لأنه ليس بمستطيع، وإذا امتنع بلا عذر يحنث، لأنه مستطيع.
م: (وإن عنى استطاعة القضاء دين فيما بينه وبين الله تعالى) ش: أي استطاعة القضاء والقدر التي يقارن الفعل عند أهل السنة، وسمي استطاعة القضاء لأن الفعل يوجد بإيجاد الله تعالى وقضائه وقدرته.
فإذا قضى بوجود الفعل أوجد قدرة العبد مع ذلك الفعل ولم يوجد ذلك الفعل لم يوجد القدرة، لأنها خلقت لأجل ذلك الفعل انقضى عليه بالوجود فتمت استطاعة القضاء، فلا يحنث ديانة أبدًا. لأنه في أي حال لم يفعل هو غير مستطيع حقيقة، لأنها تسبق الفعل، ذكره البزدوي في " مبسوطه " و " جامعه ". م: (وهذا) ش: أشار به إلى قوله ما قبله م: (لأن حقيقة الاستطاعة فيما يقارن الفعل) ش: يعني لا تسبق الفعل وهي عرض يخلفه الله تعالى مع الفعل معًا وهي عليه للفعل عندنا وزعمت المعتزلة أنها سابقة على الفعل وموضع هذا علم الكلام م: (ويطلق اسم الاستطاعة على سلامة الآلات وصحة الأسباب في المتعارف) ش: لأن الغالب في كلام الناس هذه الاستطاعة لا استطاعة الفعل يحمل المطلق على المتعارف. وهو معنى قوله م: (فعند الإطلاق ينصرف إليه) ش: أي إلى المتعارف م: (وتصح نية الأول) ش: وهو استطاعة الفعل م: (ديانة) ش: يعني من حيث الديانة، يعني فيما بينه وبين الله تعالى م: (لأنه نوى حقيقة كلامه) ش: لأنها مما يطلق على اسم الاستطاعة بالنصوص حتى امتنع عن الإتيان بعذر أو بغير عذر لا يحنث، أراد في يمينه، لأن الاستطاعة لم توجد أنها لا تسبق الفعل، ولكن هل يصدق قضاء فيه اختلاف الرواية أشار إليه بقوله.
م: (ثم قيل تصح) ش: أي تصح نية الاستطاعة قضاء. قال الشيخ أبو نصر: قال الطحاوي: يصدق م: (قضاء أيضًا لما بينا) ش: أراد قوله لأنه نوى حقيقة كلامه م: (وقيل لا تصح) ش: وهو قول أبي بكر الرازي: م: (لأنه خلاف الظاهر) ش: فيه تحقق له.(6/161)
قال: ومن حلف لا تخرج امرأته إلا بإذنه فأذن لها مرة، فخرجت ثم خرجت مرة أخرى بغير إذنه حنث، ولا بد من الإذن في كل خروج، لأن المستثنى خروج مقرون بالإذن، وما وراءه داخل في الحظر العام. ولو نوى الإذن مرة يصدق ديانة لا قضاء، لأنه محتمل كلامه، لكنه خلاف الظاهر. ولو قال: إلا أن آذن لك فأذن لها مرة واحدة فخرجت ثم خرجت بعدها بغير إذنه لم يحنث، لأن هذه كلمة غاية فتنتهي اليمين به، كما إذا قال: حتى آذن لك. ولو أرادت المرأة الخروج فقال إن خرجت فأنت طالق فجلست ثم خرجت لم يحنث، وكذلك إن أراد رجل ضرب عبده فقال له آخر إن ضربته فعبدي حر فتركه ثم ضربه، وهذه تسمى يمين الفور.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الحلف على شيء يتكرر بتكرر المحلوف عليه أم لا]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن حلف لا تخرج امرأته إلا بإذنه فأذن لها مرة فخرجت ثم خرجت مرة أخرى بغير إذنه حنث، ولا بد من الإذن في كل خروج، لأن المستثنى خروج مقرون بالإذن) ش: لأن تقديره والله لا تخرجي إلا خروجًا ملصقًا بإذني، لأن الباء للإلصاق يقتضي ملصقًا وملصقًا به م: (وما وراءه) ش: أي وما وراءه المستثنى م: (داخل في الحظر العام) ش: لأن اليمين باقية، لأنه نهاها عن الخروج عامًا بوقوع النكرة في موضع النفي.
م: (ولو نوى الإذن مرة يصدق ديانة لا قضاء لأنه محتمل كلامه، لكنه خلاف الظاهر) ش: لكونه مخالفًا لمقتضى الباء م: (ولو قال: إلا أن آذن لك فأذن لها مرة واحدة فخرجت ثم خرجت بعدها بغير إذنه لم يحنث) ش: لوقوع الكفاية بإذن واحد، واعترض عليه بقوله تعالى {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53] (الأحزاب: الآية 53) ، وكان مراد الإذن لازما وأجيب بأن ذلك بدليل خارجي، وهو قَوْله تَعَالَى {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب: 53] .
م: (لأن هذه) ش: أي قوله إلا أن آذن لك م: (كلمة غاية) ش: يعني تفيد معنى الغاية، لأن الإذن موضوع لها، بل الاستثناء تعذر حمله عليه، لأن صدر الكلام ليس من جنس الإذن، حتى يستثنى الإذن منه، فجعل مجازًا عن حق المناسبة بينهما، وهو أن حكم ما قبل الغاية يخالف ما بعدها كما إن حكم ما قبل الاستثناء يخالف حكم ما بعده م: (فينتهي اليمين به) ش: أي بإذنه م: (كما إذا قال: حتى آذن لك) ش: حيث ترتفع اليمين بالإذن، لأنه يصير غاية فترتفع به اليمين.
م: (ولو أرادت المرأة الخروج) ش: أي لو أرادت المرأة الخروج م: (فقال إن خرجت فأنت طالق فجلست ساعة ثم خرجت لم يحنث، وكذلك إذا أراد رجل ضرب عبده، فقال له آخر إن ضربته فعبدي حر، فتركه ثم ضربه) ش: لم يعتق، وكذلك الرجل يقول لآخر اجلس فقعد فيقول إن تغديت فعبدي حر، ثم أتى أهله في ذلك فتغدى عندهم لم يحنث، إنما اليمين في ذلك على الفور.
م: (وهذه تسمى يمين الفور) ش: أي يمين الحال، وهي كل يمين خرجت جوابًا بالكلام أو بناء على أمر يتقيد بذلك، بدلالة الحال، ولا يحنث في يمينه استحسانًا، خلافًا لزفر، والفور مصدر فارت القدر إذا غليت فاستعير للسرعة، ثم سميت الحالة التي ليس فيها به فصل، جاء فلان(6/162)
وتفرد أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإظهاره. ووجهه أن مراد المتكلم الرد عن تلك الضربة والخرجة عرفا، ومبنى الأيمان عليه..
ولو قال له رجل اجلس فتغد عندي، فقال: إن تغديت فعبدي حر فخرج فرجع إلى منزله وتغدى لم يحنث، لأن كلامه خرج مخرج الجواب، فينطبق على السؤال، فينصرف إلى الغداء المدعو إليه. بخلاف ما إذا قال: إن تغديت اليوم، لأنه زاد على حرف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فخرج من فوره، أي من ساعته، وفي " الفوائد الظهيرية ": سميت بهذا الاسم باعتبار ثوران الغضب.
م: (وتفرد أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإظهاره) ش: أي لم يبينه أحد فيه، وكانوا يقولون اليمين على نوعين مطلقة ومقيدة بوقت فاستنبط أبو حنيفة فيها قسمًا ثالثًا وهي مطلقة لفظًا ومؤقتة معنى وإنما أخذها من حديث جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وابن جبير دعيا إلى نصرة إنسان فحلفا أن لا ينصراه ثم نصراه بعد ذلك لم يحنثا وأقر في ذلك العرف ومبنى الأيمان على العرف.
م: (ووجهه) ش: أي ووجه هذا الكلام م: (أن مراد المتكلم الرد عن تلك الضربة) ش: في قوله إذا أراد رجل ضرب عبده م: (والخرجة) ش: في قوله إن خرجت فأنت طالق م: (عرفًا) ش: يعني من حيث العرف م: (ومبنى الأيمان عليه) ش: أي على العرف وحاصل الكلام أن قصد الزوج في مسألة الخروج منعها من الخروج الذي شبهت قوله فصار كأنه قال: إن خرجت هذه الخرجة فقصدت اليمين بتلك الخرجة، وكذلك قصده أن يمنع مولى العبد عن الضرب الذي تهيأ له، فكأنه قال: إن ضربت هذه الضربة التي تهيأت لها فتعينت اليمين بتلك الضربة بدلالة الحالة عرفًا.
م: (ولو قال له رجل اجلس فتغد عندي، فقال إن تغديت فعبدي حر فخرج فرجع إلى منزله) ش: وفي بعض النسخ فخرج إلى منزله م: (وتغدى لم يحنث) ش: أي في الاستحسان، والقياس أن يحنث، وهو قول زفر والشافعي -رحمهما الله لأنه عقد يمينه على مطلق الغد يتناول كل غد، كما لو قال ابتداء والله لا أتغدى.
ووجه الاستحسان وهو قوله م: (لأن كلامه خرج مخرج الجواب) ش: بكلامه م: (فينطبق على السؤال، فينصرف إلى الغداء المدعو إليه) ش: فصار كأنه قال إن تغديت الغداء الذي دعوتني إليه فانصرف يمينه إلى ذلك الغد دلالة الحال.
م: (بخلاف ما إذا قال إن تغديت اليوم، لأنه زاد على حرف الجواب) ش: لأنه ينصرف كلامه إلى الغداء المدعو إليه فلا يتقيد يمينه بذلك، فلا يجعل في كلامه بانيًا على سؤال الرجل م: (فيجعل مبتدئًا) ش: في الكلام محترزًا عن إلغاء الزيادة التي تكلم فيها.
فإن قيل: ليس كذلك بأن الله تعالى قال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى} [طه: 17] {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى} [طه: 18] .... (طه: الآية 18) ، فقد زاد على قدر الجواب، ومع ذلك جعل مجيبًا لا سيدًا. قلنا كلمة ما مستعمل للسؤال على الذات والسؤال عن الصفات، ولما استعمل(6/163)
الجواب فيجعل مبتدئا،
ومن حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة عبد مأذون له مديون أو غير مديون لم يحنث عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إلا أنه إذا كان عليه دين مستغرق لا يحنث، وإن نوى لأنه لا ملك للمولى فيه عنده، وإن كان الدين غير مستغرق أو لم يكن عليه دين لا يحنث ما لم ينوه، لأن الملك فيه للمولى، لكنه يضاف إلى العبد عرفا، وكذا شرعا. قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من باع عبدا وله مال فهو للبائع» .... " الحديث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في حيز السؤال أثبته على موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن السؤال وقع عن الذات والصفة فجمع بينهما ليكون مجيبًا على كل حال.
[حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة عبد مأذون له مديون أو غير مديون]
م: (ومن حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة عبد مأذون له مديون أو غير مديون لم يحنث عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يعني إذا لم ينو، ولا بد من تقدير هذا لأجل الاستثناء الذي يأتي الدابة ما يدب على الأرض لغة، ولكن المراد من دابة فلان فرسه وحماره وبغله، حتى لو ركب بعيره أو بغلته لم يحنث والقياس أن يحنث لأن اسم الدابة يتناولهما حقيقة. وفي الاستحسان لا يحنث لعلمنا أنه يردا لضمهم في كل ما يدب على الأرض.
وقد عقد يمينه على فعل الركوب، فيتناول ما يركب من الدواب في الغالب وهو الخيل، والضهم في البغال والحمير مؤيدة قَوْله تَعَالَى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] ش: (النحل: الآية 8) ، فمر بالركوب فيها وفي الأنعام بالأكل بقوله {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} [النحل: 5] ....
. الآية. والفيل والبقر، وإن كان يركب في بعض الأوقات فذلك لا يدل على أن اليمين يتناوله أن البقر والجاموس يركب أيضًا في بعض المواضع ثم لا يفهم أحد من قول القائل لا تركب دابة فلان البقرة إلا أن ينوي جميع ذلك فيقع عليه ما نوى حقيقة كلامه وفيه تشديد عليه، ولو نوى الخيل وحدها لا يصدق لا قضاء ولا ديانة، لأن في لفظه الركوب لا المركب وبنيته يصح في اللفظ لا فيما لفظه التخصيص.
م: (إلا أنه) ش: أشار من يقدر غير ملفوظ، وهو الذي قدرناه بعد قوله لم يحنث، يعني إذا لم ينو يعني لا يحنث بركوب دابة العبد المأذون، سواء كان عليه دين أو لم يكن إذا لم ينو، إلا أنه م: (إذا كان عليه دين مستغرق) ش: بكسر الراء م: (لا يحنث وإن نوى) ش: واصل بما قبله، أي وإن نوى ركوب العبد م: (لأنه لا ملك للمولى فيه) ش: أي في العبد الذي استغرق دين كسبه م: (عنده) ش: أي عند أبي حنيفة.
م: (وإن كان الدين غير مستغرق أو لم يكن عليه دين لا يحنث ما لم ينوه) ش: فإذا نواه حنث م: (لأن الملك فيه للمولى، لكنه مضاف إلى العبد عرفًا) ش: أي من حيث العرف، حيث يقال دابة عبد فلان م: (وكذا) ش: أي وكذا يضاف إلى العبد م: (شرعًا) ش: أي من حيث الشرع، استدل عليه بقوله م: (قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «من باع عبدًا وله مال فهو للبائع»(6/164)
فتختل الإضافة إلى المولى فلا بد من النية. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في الوجوه كلها يحنث إذا نواه لاختلال الإضافة. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحنث وإن لم ينو لاعتبار حقيقة الملك، إذ الدين لا يمنع وقوعه للسيد عندهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحديث) ش: قال الأترازي: كذا ذكر فخر الإسلام في " الجامع الصغير ". وقال الكاكي: وتمامه فما له لمولاه. وفي بعض الروايات فهو لبائعه.
قلت: الحديث أخرجه الأئمة الستة كلهم عن الزهري عن سالم عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من باع عبدًا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع ومن باع نخلًا فثمره للبائع إلا أن يشترط المبتاع» م: (فتختل الإضافة إلى المولى) ش: لأنه يضاف إلى المولى م: (فلا بد من النية) ش: ويضاف إلى العبد أيضًا ولا يدخل تحت مطلق الإضافة إلا بالنية.
م: (وقال أبو يوسف في الوجوه كلها) ش: أي فيما إذا لم يكن عليه دين أو كان عليه دين مستغرق أو غير مستغرق م: (يحنث إذا نواه لاختلال الإضافة) ش: أي إضافة الدابة تارة إلى المولى وتارة إلى العبد كما ذكرنا.
م: (وقال محمد: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحنث) ش: أي في الوجوه كلها سواء كان عليه دين أو لا، وسواء كان الدين مستغرقًا أو لم يكن، وسواء نوى أو لم ينو، لأن دابة مملوك له، فوجب أن يحنث، لأن العبد وما في يده لمولاه م: (وإن لم ينو) ش: واصل بما قبله م: (لاعتبار حقيقة الملك) ش: يعني للمولى م: (إذ الدين لا يمنع وقوعه) ش: أي وقوع الملك م: (للسيد عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد، ويقول قال: مالك والشافعي - رحمهما الله وأحمد، ولو ركب دابة مكاتبه لا يحنث في قولهم جميعًا. ولو قال: أعتقت عبدي وله عبد فهو على هذا الخلاف.(6/165)
باب اليمين في الأكل والشرب قال: ومن حلف لا يأكل من هذه النخلة فهو على ثمرها؛ لأنه أضاف اليمين إلى ما لا يؤكل فينصرف إلى ما يخرج منه، وهو الثمر، لأنه سبب له فيصلح مجازا عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب اليمين في الأكل والشرب] [حلف لا يأكل شيئا فابتلع ما فيه]
م: (باب اليمين في الأكل والشرب) ش: أي هذا باب في بيان حكم ما إذا حلف لا يأكل أو لا يشرب لما ذكر أول حاجة الإنسان، وهو المسكن ذكر بعده ما يحتاج إليه في البقاء وهو الأكل والشرب، والأصل أن الأكل إيصال شيء إلى جوفه مما يتأتى فيه المضغ والهشم مهشومًا ممضوغا أو غير ممضوغ.
والشرب إيصال شيء إلى جوفه مما لا يتأتى فيه الهشم والمضغ، والذوق عبارة عن معرفة الشيء من غير إحالة عينه أن الحقيقة تترك بدلالة حالة المتكلم كما في يمين الفور، وبدلالة محل الكلام، وبدلالة اللفظ في نفسه، وبدلالة العادة.
وذكر الزندوسي: الأكل والشرب عبارة عن عمل الشفاه والحلق، والذوق عبارة عن عمل الشفاه دون الحلق. والابتلاع عبارة عن عمل الحلق دون الشفاه والمص عبارة عن عمل اللهاة خاصة.
فعلى هذا لو حلف لا يأكل شيئًا فابتلع ما فيه لا يحنث لكن ذكر في " فتاوى أبي الليث " مسألة تدل على الحنث، ولو حلف لا يأكل عنبًا أو رمانًا فجعل يمضغ ويرمي تفله ويبلع ماء لم يحنث، لأن هذا يسمى مصًا لا أكلا ولا شربًا.
والحاصل أن الذي يصل إلى جوف الإنسان أربعة أوجه مأكول ومشروب وممضوغ وملعوق فذكرت الثلاثة الأول وبقي اللعوق، وهو ما يتناوله باللحس بالأصبع والشفاه، ولو حلف لا يأكل هذا اللبن فشربه لم يحنث إذا ثرد فيه.
ولو حلف لا يثرد فيه فأكله لا يحنث، قالوا: هذا إذا كان اليمين بالعربية، أما إذا كان بالفارسية فأكل أو شرب يحنث، وعليه الفتوى، كذا في " الوجيز " و " فتاوى قاضي خان ".
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن حلف لا يأكل من هذه النخلة فهو على ثمرها) ش: أي اليمين على ثمرها بالثاء المثلثة، حتى لو كانت لا ثمرة لها يقع على ثمنها، ذكر في " الفوائد الحميدية " في " فتاوى الولوالجي " إذا أكل عين النخلة لا يحنث وإن نوى م: (لأنه أضاف اليمين إلى ما لا يؤكل فينصرف إلى ما يخرج منه وهوالثمر، لأنه سبب له) ش: الضمير في منه وفي لأنه يرجع إلى ما في قوله إلى ما يؤكل وهو عبارة عن النخلة، لأن النخلة لما كانت سببًا لا يخرج منها م: (فيصلح مجازًا عنه) ش: الضمير في عنه يرجع إليها فيما يخرج، وكونه مجازًا بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب.(6/166)
لكن الشرط أن لا يتعين بصيغة جديدة حتى لا يحنث بالنبيذ والخل والدبس المطبوخ
وإن حلف لا يأكل من هذا البسر فصار رطبا فأكله لم يحنث، لكن الشرط أن لا يتعين بصيغة جديدة حتى لا يحنث بالنبيذ والخل والدبس المطبوخ وإن حلف لا يأكل من هذا البسر
وكذا إذا حلف لا يأكل من هذا الرطب أو من هذا اللبن فصار الرطب تمرا أو صار اللبن شيرازا لم يحنث، لأن صفة البسورة والرطوبة داعية إلى اليمين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لكن الشرط أن لا يتعين) ش: أي ثمر النخلة م: (بصيغة جديدة، حتى لا يحنث بالنبيذ) ش: أي بالنبيذ الذي يعمل من ثمرها م: (والخل) ش: أي وكذا لا يحنث بالخل الذي يفعل منه م: (والدبس المطبوخ) ش: أي وكذا لا يحنث بالدبس المطبوخ منه، لأن ما صنع من ذلك الثمر من الأشياء المذكورة ليس بثمر.
كما إذا حلف لا يأكل من هذا العنب فأكل من الزبيب أو عصيره لا يحنث، وإنما قيد الدبس بالمطبوخ احترازًا عما إذا أطلق الدبس على ما يصير من الرطب وغيره، ذكره في " الذخيرة "، وفي " المجمل ": الدبس عصارة الرطب.
[حلف لا يأكل من هذا البسر فصار رطبًا فأكله]
م: (وإن حلف لا يأكل من هذا البسر) ش: فهو على ما يخرج منه، وهو حصرمه وعنبه وزبيبه ودبسه، أي عصيره. ولو أكل من خل من ذلك لم يذكر محمد في " الجامع الكبير ".
وقال البستاني في " شرح الجامع الكبير ": ينبغي أن لا يحنث، لأنه لا يخرج من النخل والكرم كذلك، وذكر الفقيه أبو الليث أنه لا يحنث. وإن حلف لا يأكل من هذا البسر، قال الجوهري: البسر أوله طلع ثم حلال ثم بلح ثم بسر ثم رطب ثم تمر والواحدة بسرة م: (فصار رطبًا فأكله لم يحنث) ش: لأن اليمين إذا تعلق باسم يبقى ببقاء ذلك الاسم، وتزول بزواله عليها ما يبقى.
م:
(وكذا) ش: أي وكذا لم يحنث م: (إذا حلف لا يأكل من هذا الرطب أو من هذا اللبن فصار الرطب تمرًا واللبن شيرازًا لم يحنث) ش: أي أو صار اللبن شيرازًا بكسر الشين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وبالراء بعدها الألف في آخره راء، وهو اللبن الرائب، أي الخاثر إذا استخرج تاءه قاله الأترازي.
وقال الكاكي مثله، إلا أنه قال بعده حتى صار [ ... ] كالفالوذج الخاثر، ولم يذكره الجوهري، ويفهم من كلام صاحب " المغرب " أنه فارسي وليس بعربي، وهذا التغيير الذي ذكر يقال له في لغة البلوين قيرس وهو الجبن، يجعل في خرقة ويعقد رأسها ويعلق عليه وتد ويتقاطر منه الماء الذي فيه جميعه ويصير كالفالوذج.
م: (لأن صفة البسورة والرطوبة) ش: وهي كونها بسرًا، أو الرطوبة وهي كونها رطبًا م: (داعية إلى اليمين) ش: فلا ينصرف إلى ما يتخذ منه، والقاعدة في هذا أن اليمين إذا انعقدت على يمين كان موصوفًا ندع ذلك الوصف إلى اليمين فتنعقد اليمين تبعًا لذلك الوصف فيتنزل منزلة الاسم(6/167)
وكذا كونه لبنا فيتقيد به، ولأن اللبن مأكول فلا ينصرف اليمين إلى ما يتخذ منه، بخلاف ما إذا حلف لا يكلم هذا الصبي أو هذا الشاب فكلمه بعدما شاخ، لأن هجران المسلم بمنع الكلام منهي عنه، فلا يعتبر الداعي داعيا في الشرع. ولو حلف لا يأكل لحم هذا الحمل فأكل بعدما صار كبشا حنث، لأن صفة الصغر في هذا ليست بداعية إلى اليمين، فإن الممتنع عينه أكثر امتناعا عن لحم الكبش.
قال: ومن حلف لا يأكل بسرا فأكل رطبا لم يحنث، لأنه ليس ببسر. ومن حلف لا يأكل رطبا أو بسرا أو حلف لا يأكل رطبا أو بسرا فأكل مذنبا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فلذلك لا يحنث في الصورة المذكورة.
م: (وكذا كونه لبنًا) ش: داع إلى اليمين م: (فيتقيد به) ش: أي باللبن حتى لا يحنث بأكل شرازه وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحنث وتوقف فيه بعض أصحابه م: (ولأن اللبن مأكول فلا ينصرف اليمين إلى ما يتخذ منه) ش: أي من اللبن مثل زبده وشرازه؛ لأن ما عقد عليه اليمين عنه توكل فلم ينصرف إلى ما يتخذ منه، أي من اللبن م: (بخلاف ما إذا حلف) .
ش: جواب عما يقال فعلى ما ذكرتم إذا حلف م: لا يكلم هذا الصبي أو هذا الشاب، فكلمه بعدما شاخ) ش: ينبغي أن لا يحنث، لأن الصبا مظنة الشفقة والشباب شعبة من الجنون، فكانا وصفين داعيين إلى اليمين، وقد زالا عند الشيخوخة، فكان الواجب أن لا يحنث. فأجاب بقوله بخلاف ما إذا حلف أي الحالف لا يكلم هذا الصبي أو هذا الشاب فكلمه أي فكلم الصبي أو الشاب بعدما صار شيخًا حنث.
م: (لأن هجران المسلم بمنع الكلام منهي عنه) ش: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا» وترك الرحمة بالصغير وترك التوقير للكبير من أعظم الهجران م: (فلا يعتبر الداعي) ش: يعني إلى هذا اليمين م: (داعيًا في الشرع) ش: لأن المهجور شرعًا كالمهجور عادة فانعقدت اليمين على الذات وهي موجودة حالة الشيخوخة، فيحنث في يمينه. واعترض على دليل الكتب بأن سلمنا أن هجران المسلم حرام، لكن الحرام يقع محلوفًا عليه كما لو قال: والله ليشربن الخمر خمرًا. وأجيب: بأن الكلام في الحقيقة يجوز أن يترك هجران الشرع فيما إذا كان الكلام محتملًا للمجاز حلالًا من المسلم على الصلاح. وأما أن ينعقد اليمين على الحرام المحض فلا كلام فيه. م: (ولو حلف لا يأكل لحم هذا الحمل) ش: بفتح الحاء المهملة والميم، وهو ولد الضأنية في السنة الأولى، والجمع حملان م: (فأكل بعدما صار كبشًا حنث، لأن صفة الصغر في هذا ليست بداعية إلى اليمين، فإن الممتنع عينه) ش: أي عين الحمل م: (أكثر امتناعًا عن لحم الكبش) ش: فلم يقيد اليمين بلحم الحمل.
[حلف لا يأكل بسرا فأكل رطبا]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ومن حلف لا يأكل بسرًا فأكل رطبًا لم يحنث، لأنه ليس ببسر ومن حلف لا يأكل رطبًا أو بسرًا أو حلف لا يأكل رطبًا أو بسرًا فأكل مذنبًا) ش: بكسر النون، وهو ما(6/168)
حنث عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: لا يحنث في الرطب يعني بالبسر المذنب ولا في البسر بالرطب المذنب، لأن الرطب المذنب يسمى رطبا، والبسر المذنب يسمى بسرا، فصار كما إذا كان اليمين على الشراء، وله أن الرطب المذنب ما يكون في ذنبه قليل بسر، والبسر المذنب على عكسه، فيكون أكله أكل البسر والرطب، وكل واحد مقصود في الأكل بخلاف الشراء، لأنه يصادف الجملة فيتبع القليل فيه الكثير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يبدأ الإرطاب من قبل ذنبه، وتفسيره البسر المذنب هو الذي عامته بسر وفيه شيء من الرطب من قبل ذنبه م: (حنث عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: ذكر المصنف أبا حنيفة وحده. وذكر في " الإيضاح " و " المبسوط " و " الأسرار " و " شروح الجامعين " قول محمد مع أبي حنيفة في أنه يحنث. وفي " النهاية " والله أعلم بصحته. وفي " الكافي ": هكذا ذكر في " الهداية " والنسخ المعتبرة تشهد بأنه مع أبي حنيفة، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد.
م: (وقالا) ش: أبو يوسف ومحمد: وبه قال الإصطخري وأبو علي من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لا يحنث في الرطب، يعني بالبسر المذنب، ولا في البسر بالرطب المذنب) ش: أي ولا يحنث في قوله لا يأكل بسرًا فأكل رطبًا مذنبًا م: (لأن الرطب المذنب يسمى رطبًا، والبسر المذنب يسمى بسرًا، فصار كما إذا كان اليمين على الشراء) ش: يعني لو حلف لا يشتري رطبًا فاشترى بسرًا مذنبًا لا يحنث.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن الرطب المذنب ما يكون في ذنبه قليل بسر، والبسر المذنب على عكسه) ش: وهو ما يكون في ذنبه قليل رطب م: (فيكون أكله) ش: أي أكل كل واحد من الرطب المذنب والبسر المذنب م: (أكل البسر والرطب) ش: فيحنث في الصورتين، وإن كان أحدهما غالبًا والآخر مغلوب. ألا ترى أنه لو ميزه فأكله حنث بالاتفاق، وعلل المصنف بقوله م: (وكل واحد مقصود في الأكل) ش: لأن الأكل فعل حسن، وهو المضغ والابتلاع، وكل جزء مقصود بالأكل، لأنه إنما يأكل شيئًا فشيئًا فتحقق أكل البسر والرطب من الحالف فيحنث م: (بخلاف الشراء) ش: لأن كل جزء غير مقصود بالشراء م: (لأنه) ش: أي لأن اليمين م: (يصادف الجملة) ش: يعني يضاف إلى الجملة م: (فيتبع القليل فيه الكثير) ش: لأن المغلوب يكون تبعًا للغالب.
فإن قلت: يشكل إذا حلف لا يشرب هذا اللبن فصب فيه ماء غلب اللبن لا يحنث ولا شرب المحلوف عليه وزيادة.
قلت: إن اللبن بانصباب الماء فيه يتسع في جميع أجزاء الماء فيصير مشتبهًا ولهذا لا ترى مكانه بخلاف ما نحن فيه لأنه يرى مكانه وكان قائمًا زمان التناول.
فإن قلت: بلى، ولكن الحنث لا يحنث إلا بالمضغ والابتلاع، وعند ذلك يصير مستهلكًا،(6/169)
ولو حلف لا يشتري رطبا، فاشترى كباسة بسر فيها رطب لا يحنث؛ لأن الشراء يصادف الجملة والمغلوب تابع. ولو كانت اليمين على الأكل يحنث؛ لأن الأكل يصادفه شيئا فشيئا، فكان كل منهما مقصودا، وصار كما إذا حلف لا يشتري شعيرا أو لا يأكله فاشترى حنطة فيها حبات شعير وأكلها يحنث في الأكل دون الشراء لما قلنا
قال: ولو حلف لا يأكل لحما فأكل لحم السمك لا يحنث، والقياس أن يحنث لأنه يسمى لحما في القرآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وصار هذا بمنزلة ما لو حلف لا يأكل حنطة فأكل شعيرًا فيه حبات حنطة إن أكل حبة يحنث، وإن جمع بين الحبات من النوعين في الأكل لا يحنث، لأنها إذ ذاك تصير مستهلكة.
قلت: يعني الاستهلاك فيما ذكرت من النظير أظهر وأبين لأنه إذ ذاك لا يحنث من طعم الحنطة شيئًا في حلقه، بخلاف ما إذا كان مذنبًا أو رطبا مذنبا، لأنه يجد في حلقه شيئًا من خوصة البسر وحلاوة الرطب.
قال: أي محمد: وليس في كثير من النسخ لفظة قال:
[حلف لا يشتري رطبا فاشترى كباسة]
م: (ولو حلف لا يشتري رطبًا فاشترى كباسة بسر) ش: بكسر الكاف وهو الفتو والفتا أيضًا. وقال لعود القذف وهو عومة الكباسة العرجون والأهان، كذا ذكر أبو عبيد في غريب المصنف م: (فيها) ش: أي في الكباسة م: (رطب لا يحنث، لأن الشراء يصادف الجملة، والمغلوب تابع) ش: للغالب، وهذه المسألة كالبيان للمسألة المتقدمة، وهو ظاهر.
م: (ولو كانت اليمين على الأكل يحنث) ش: بأن حلف لا يأكل رطبًا فأكله من كباسة بر فيها رطب يحنث م: (لأن الأكل يصادفه) ش: أي يصادف الرطب م: (شيئًا فشيئًا، فكان كل واحد منهما) ش: أي من الرطب والبسر م: (مقصودًا، فصار حكمه كما إذا حلف لا يشتري شعيرًا أو لا يأكله) ش: أي لو حلف لا يأكل شعيرًا م: (فاشترى حنطة فيها حبات شعير فأكلها يحنث في الأكل دون الشراء) ش: أي لا يحنث في الشراء م: (لما قلنا) ش: وهو أن الشراء يصادف الجملة، والأكل يصادفه شيئًا فشيئًا.
ولو عقد اليمين على البر يحنث في الوجوه كلها، لأن الحقيقة تركب في الأمر للعرف، ولا عرف للبر، فتعتبر الحقيقة، بخلاف القطن والكتان، بأنه لو حلف لا يمس قطنًا أو كتانًا فمس ثوبًا اتخذ من قطن أو كتان لا يحنث فيهما.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م:
[حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا]
(ولو حلف لا يأكل لحمًا فأكل لحم السمك لا يحنث) ش: وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد م: (والقياس أن يحنث) ش: وهو قول مالك وأحمد في رواية بعض أصحاب الشافعي م: (لأنه يسمى لحمًا في القرآن) ش: قال الله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12] (فاطر: الآية 12) ، والمراد منه لحم السمك بالفعل. وقال في " شرح الطحاوي " وروي عن أبي يوسف أنه قال: يحنث.(6/170)
وجه الاستحسان في التسمية مجازية، لأن اللحم منشأه من الدم. ولا دم فيه لسكونه في الماء،
وإن أكل لحم خنزير أو لحم إنسان يحنث، لأنه لحم حقيقي، إلا أنه حرام، واليمين قد يعقد للمنع من الحرام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وجه الاستحسان أن التسمية) ش: أي تسمية لحم السمك م: (مجازية) ش: أي بطريق المجاز م: (لأن اللحم منشأه من الدم) ش: ولحم السمك لا ينشأ من الدم، إذ الدموي لا يسكن الماء ولا يباح عن مطلقه بدلالة الألفاظ، ومبنى الأيمان على العرف لا على ألفاظ القرآن، ولهذا لو حلف لا يركب دابة فركب كافرًا لا يحنث بالإجماع، وإن سماه في القرآن، دابة، والعرف معنا، لأنه لا يسمى بائعه لحمًا ولا مستعمل استعمال اللحوم في المباحات، إلا أن ينوي فحينئذ يعتبر، لأنه لحم من وجه فيه تشديد عليه.
ولو حلف لا يجلس على الوتد فجلس على الجبل لا يحنث، وإن كان قال الله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ: 7] (النبأ: الآية 7) ، لأن اللحم منشأه من الدم م: (ولا دم فيه لسكونه في الماء) ش: لأن بين الدم والماء منافاة في طبعهما.
فإن قلت: الدم موجود في السمك.
قلت: دم ضعيف، لأن الدم إذا شمس اسود، ودم السمك ليس كذلك.
[حلف ألا يأكل لحما فأكل لحما حراما]
م: (وإن أكل لحم خنزير أو إنسان) ش: أي أو لحم إنسان م: (يحنث) ش: وبه قال مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول م: (لأنه لحم حقيقي، إلا أنه حرام، واليمين قد ينعقد للمنع من الحرام) ش: والحرام لا يمنع انعقاد اليمين، ألا ترى أنه لو حلف لا يشرب شرابًا فشرب الخمر يحنث.
واعترض بأن الكفارة فيها معنى العبادة فلا يناط وجوبها بما هو حرام محض وأكل لحم الخنزير والإنسان حرام محض، فكيف يتعلق وجوبه.
وأجيب: بأن هذه مغالطة، لأن الكفارة تجب بعد يمين نقضت بالحنث وقد وجدت، وكون الحنث بأمر مباح أو حرام لا مدخل له في ذلك، هذا الذي ذكره الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الأترازي: فإن قلت: قد ثبت قبل هذا أن مبنى الأيمان على العرف ولا سبق أوهام الناس من لفظ اللحم أنه لحم الخنزير والإنسان، فينبغي أن لا يحنث.
قلت: إن الناظر لو ينظر إلى لحم الخنزير أو الإنسان سماه لحمًا على الإطلاق، بخلاف لحم السمك، فإنه لا يسمى لحمًا على الإطلاق، فظهر الفرق. وقال الكاكي: ولا يقال الكفارة فيها معنى العبادة، فكيف يجب بالحرام المحض، لأنا نقول الحل والحرمة يراعى في السبب لا في الشرط، وسبب وجوب الكفارة اليمين لا الحنث، وإنما لا يجوز به التكفير قبل الحنث ليكون(6/171)
وكذا إذا أكل كبدا أو كرشا؛ لأنه لحم حقيقة فإن نموه من الدم ويستعمل استعمال اللحم، وقيل في عرفنا لا يحنث، لأنه لا يعد لحما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اليمين موصوفًا بالإباحة والحظر.
وأصل اليمين مباح، والحنث حرام، كذا قيل. وقال الشافعي في وجه لا يحنث، وبه قال أشهب المالكي، لأن اليمين يقع على العادة، وهذا قاله الزاهد العتابي من أصحابنا، فلا يحنث وعليه الفتوى، ذكره في " الكافي ".
وقال الأترازي: قال الإمام السغناقي في شرح الجامع الصغير: في لحم الخنزير والآدمي، قيل الحالف إذا كان مسلمًا ينبغي أن لا يحنث لأن أكله ليس بمتعارف، ومبنى الأيمان على العرف ثم قال: وهو الصحيح.
[حلف ألا يأكل لحما فأكل كبدا أو كرشا]
م: (وكذا) ش: أي وكذا يحنث م: إذا أكل كبدًا أو كرشًا) ش: فيما إذا حلف لا يأكل لحمًا م: (لأنه لحم حقيقة) ش: أي لأن كل واحد من الكبد والكرش لحم حقيقة، وفيه نظر لا يخفى م: (فإن نموه) ش: بضم النون والميم وتشديد الواو المفتوحة، وهو مصدر نما ينمو نماه الله، إنما قال الجوهري: نما المال وغيره ينما نما وربما قالوا ينمو نموًا. وقال الكسائي: لم أسمعه بالواو، وحكى أبو عبيدة من ينمو وسمى م: (من الدم ويستعمل استعمال اللحم) ش: وفيه نظر أيضًا.
م: (وقيل في عرفنا لا يحنث، لأنه لا يعد لحمًا) ش: ينبغي أن يكون هذا صحيحًا. قال: في " خلاصة الفتاوى " ولو أكل شيئًا من البطون كالكبد والطحال يحنث، هذا في عرف أهل الكوفة وفي عرفنا لا يحنث.
وكذا قال صاحب " المحيط ": في عرفنا لا يحنث، لأنه لا يعد لحمًا ولا يستعمل استعمال اللحوم.
قلت: هذا ظاهر، فلا يقال لبياع الكبود لحمًا ولا لبياع الكروش لحمًا ولا يستعملان في الطباخ موضع اللحم، وفي " المحيط " لو أكل اللحم التي قيل يحنث، وبه قال الشافعي وأحمد وقيل لا يحنث، وبه قال مالك.
ولو أكل الرأس والأكارع يحنث، وبه قال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح وأحمد في رواية، ويأكل القلب يحنث عندنا، وبه قال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن في الجسد مضغة» والمضغة القطعة من اللحم.
وقال الشافعي: في الأصح لا يحنث وبأكل الشحم والإلية لا يحنث إلا إذا نوى في اليمين باللحم، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح وأحمد وبأكل شحم الظهر يحنث، وبه قال الشافعي في الأصح ومالك في وجه لا يحنث، وبه قال أحمد لأنه يعرف باسم آخر، قال الله(6/172)
قال: ولو حلف لا يأكل أو لا يشتري شحما لم يحنث إلا في شحم البطن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يحنث في شحم الظهر أيضا وهو اللحم السمين لوجود خاصية الشحم فيه، وهو الذوب بالنار. وله أنه لحم حقيقة، ألا ترى أنه ينشأ من الدم، ويستعمل استعماله ويحصل به قوته. ولهذا يحنث بأكله في اليمين على أكل اللحم، ولا يحنث ببيعه في اليمين على بيع الشحم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعالى {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146] (الأنعام: الآية 146) .
[حلف لا يأكل أو لا يشتري شحما]
م: (قال) ش: أي محمد في الجامع الصغير: م: (ولو حلف لا يأكل أو لا يشتري شحمًا لم يحنث إلا في شحم البطن عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: حتى لو أكل كل شحم وهو الذي خالطه لحم لم يحنث عنده، وهو الصحيح.
وقال الطحاوي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول محمد مثل قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبقول أبي حنيفة قال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح ومالك.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد م: (يحنث في شحم الظهر أيضًا، وهو اللحم السمين) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه واحد في رواية م: (لوجود خاصية الشحم فيه، وهو الذوب بالنار) ش: ويصلح لما يصلح له شحم البطن، وكان كشحم البطن، ألا ترى أنه تعالى استثنى شحم الظهر بقوله {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146] والأصل أن المستثنى أن يكون من خبر المستثنى عنه.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنه) ش: أي شحم الظهر م: (لحم حقيقة، ألا ترى أنه ينشأ من الدم ويستعمل استعماله) ش: استعمال اللحم في الحافية اتخاذًا تصلها العلايا م: (ويحصل به قوته) ش: أي ويحصل بشحم الظهر قوة اللحم ومرقه يسمى مرقة اللحم فلم يكن شحمًا مطلقًا، فلا يحنث آكله م: (ولهذا يحنث بأكله) ش: أي بأكل شحم الظهر م: (في اليمين على أكل اللحم ولا يحنث ببيعه في اليمين على بيع الشحم) ش: قال تاج الشريعة: متى عقد يمينه على الشراء ذكر شمس الأئمة السرخسي لأنه لا يحنث بشراء شحم الظهر بالاتفاق، والخلاف فيما إذا لم ينو.
وفي " الذخيرة ": والصحيح قول أبي حنيفة. وفي " الكافي ": فصارت الشحوم أربعة، شحم الظهر، وشحم مختلط بالعظم، وشحم على ظلة الأمعاء، وشحم البطن. وفي شحم البطن يحنث بالاتفاق، والثلاثة على الاختلاف. ولو كانت يمينه على الشراء لم يحنث بالاتفاق. وقيل هو على الخلاف أيضًا.
وفي " جامع قاضي خان ": اختلف المشايخ في محل الخلاف، قيل محل الخلاف في اللحم السمين على الظهر. وقيل في الشحم المتصل من داخل، فإن كان الخلاف في اللحم السمين فكلام أبي حنيفة أظهر، وإن كان الخلاف في اللحم المتصل بالظهر فكل منهما أظهر. وقال(6/173)
وقيل هذا بالعربية، فأما اسم - بيه - بالفارسية لا يقع على شحم الظهر بحال.
ولو حلف لا يشتري أو لا يأكل لحما، أو شحما فاشترى إلية أو أكلها لم يحنث، لأنه نوع ثالث حتى لا يستعمل استعمال اللحوم والشحوم. ومن حلف لا يأكل من هذه الحنطة لم يحنث حتى يقضمها ولو أكل من خبزها لم يحنث عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا إن أكل من خبزها حنث أيضا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإمام أبو حنيفة أظهر، وإن كان الخلاف في اللحم المتصل بالظهر، فكلاهما أظهر.
وقال الإمام السرخسي: لا يحنث بشحم الظهر في قولهم جميعًا، أما الاستثناء فمنقطع بدليل استثناء الحوايا بقوله {أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] .
ولو قيل: المراد ما حملته الحوايا.
قلنا: ذاك إخبار وهو خلاف الأصل، والانقطاع في الاستثناء، وإن كان خلاف الأصل لكنه ثبت بالدليل، وهو قوله {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] لأن أحدًا لم يقل بأن مخ العظم شحم، كذا في " جامع السرخسي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وقيل هذا بالعربية) ش: أي هذا الاختلاف إذا قاله بالعربية. وقال في " المحيط " هذا الاختلاف في عرفهم م: (فأما اسم - بيه -) ش: بكسر الباء الفارسية وسكون الياء آخر الحروف والهاء م: (بالفارسية) ش: أي باللغة الفارسية م: (لا يقع على شحم الظهر بحال) ش: يعني أصلًا لعدم العرف، وإذا حلف لا يأكل أكلًا ينبغي أن يقع على شحم الظهر والبطن والإلية جميعًا. وفي بعض النسخ جعل هذا من المنفي وليس بصحيح.
[حلف لا يشتري أو لا يأكل لحما أو شحما فاشترى إلية وأكلها]
م: (ولو حلف لا يشتري أو لا يأكل لحمًا أو شحمًا فاشترى إلية وأكلها لم يحنث لأنه) ش: أي لأن الإلية دبر والضمير على تأويل المذكور م: (نوع ثالث حتى لا يستعمل استعمال اللحوم والشحوم) ش: وبه قال بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال بعض أصحابه: وهو شحم فيحنث بيمين الشحم لا اللحم، وبه قال أحمد، ولو حلف لا يأكل لحم شاة. فأكل لحم غيره يحنث.
وذكر أبو الليث أنه لا يحنث، سواء كان الحالف مصريًا أو قرويًا، وعليه الفتوى. حلف لا يأكل لحم بقرة فأكل لحم جاموس لم يحنث.
م: (ومن حلف لا يأكل من هذه الحنطة لم يحنث حتى يقضمها) ش: القضم الأكل بأطراف الأسنان. وفي " الكافي " ولا نية له فأكل من خبزها وسويقها لم يحنث عند أبي حنيفة، وكذا من دقيقها حتى يقضمها، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك م: (ولو أكل من خبزها) ش: أي من خبز هذه الحنطة التي حلف عليها م: (لم يحنث، وهذا) ش: أي عدم الحنث م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: م: (وقالا) ش: أي أبي يوسف ومحمد م: (إن أكل من خبزها حنث(6/174)
لأنه مفهوم منه عرفًا، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن له حقيقة مستعملة فإنها تغلى وتقلى وتؤكل قضمًا، وهي قاضية على المجاز المتعارف على ما هو الأصل عنده، ولو قضمها يحنث عندهما وهو الصحيح لعموم المجاز، كما إذا حلف لا يضع قدمه في دار فلان، وإليه الإشارة بقوله في الخبز حنث أيضًا. قال ولو حلف لا يأكل من هذا الدقيق فأكل من خبزه حنث، لأن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أيضًا) ش: وبه قال أحمد ومالك في رواية م: (لأنه مفهوم منه عرفًا) ش: أي لأن أكل الخبز مفهوم منه في العرف ويأكل سويقها يحنث عند محمد، ولا يحنث عند أبي حنيفة. ولو قضمها يحنث عند الكل إلا عند أحمد، وإنما وضع المسألة في الحنطة المعينة، لأنه لو عقد يمينه على حنطة غير معينة ينبغي أن يكون جوابه كجوابهما، ذكره شيخ الإسلام في أيمان الأصل. ثم هذا الخلاف فيما إذا لم يكن له نية، فأما إذا نوى قيمته على ما نوى بالاتفاق، ذكره في " المبسوط " و " الذخيرة ".
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن له) ش: أي لقوله لا يأكل من هذه الحنطة م: (حقيقة مستعملة) ش: بين الناس، وأوضحها بقوله م: (فإنها) ش: أي فإن الحنطة م: (تغلى) ش: بالغين المعجمة على صيغة المجهول من الغليان، يقال غليت القدر تغلي غليانًا، ولا يقال غليت وغلا في الأمر يغلو غلوًا، أي جاوز فيه الحد، وعليه الشعر غلا.
م: (وتقلى وتؤكل قضمًا) ش: على صيغة المجهول أيضًا بالعارف من القلي، يقال قليت السويق واللحم فهو مقلي، وقلوت فهو لغة، والرجل قلا بالتشديد والمد م: (وهي قاضية) ش: أي الحقيقة المستعملة حاكمة م: (على المجاز المتعارف) ش: بين الناس م: (على ما هو الأصل عنده) ش: أي عند أبي حنيفة. والأصل في المسألة أن الكلام إذا كان له حقيقة مستعملة لمجاز متعارف فعند أبي حنيفة العمل بالحقيقة المستعملة أولى، وعندهما العمل بعدم المجاز.
م: (ولو قضمها يحنث عندهما، وهو الصحيح) ش: احترز به عن رواية أخرى عنهما، وهي أنه إذا أكل عين الحنطة لا يحنث، والأصح أنه يحنث عندهما. وفي رواية " الجامع " ورجحها شمس الأئمة في " مبسوطه " وقاضي خان في " جامعه ".
ورجح في الذخيرة " و " الفوائد الضهيرية " عدم الحنث. وفي " الذخيرة " حلف لا يأكل من هذه الحنطة فزرعها وأكل ما خرج منها لا يحنث م: (لعموم المجاز) ش: وقد مر أن العمل به أولى عندهما: م: (كما إذا حلف لا يضع قدمه في دار فلان) ش: يحنث إذا دخلها حافيًا أو راكبًا م: (وإليه الإشارة) ش: أي وإلى عموم المجاز الإشارة م: (بقوله في الخبز حنث أيضًا) ش: لأنه مفهوم منه عرفًا.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولو حلف لا يأكل من هذا الدقيق فأكل من خبزه حنث، لأن(6/175)
عينه غير مأكول فانصرف إلى ما يتخذ منه، ولو استفه كما هو لا يحنث هو الصحيح لتعين المجاز مرادا.
ولو حلف لا يأكل خبزا فيمينه على ما يعتاد أهل المصر أكله خبزا، وذلك خبز الحنطة والشعير، لأنه هو المعتاد في غالب البلدان، ولو أكل من خبز القطائف لا يحنث، لأنه لا يسمى خبزا مطلقا، إلا إذا نواه، لأنه محتمل كلامه. وكذا إذا أكل خبز الأرز بالعراق لم يحنث، لأنه غير معتاد عندهم، حتى لو كان بطبرستان أو في بلدة طعامهم ذلك يحنث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عينه) ش: أي عين الدقيق م: (غير مأكول فانصرف إلى ما يتخذ منه) ش: وهو الخبز، وكذا إذا أكل عصيرًا، وبه قال مالك وأحمد في " شرح الأقطع ".
قال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن أكل من خبزه لم يحنث، وإن استفه حنث م: (ولو استفه كما هو) ش: من سفه الدواء سفه واستفا إسفافًا إذا قحمه. قال الأترازي: وقال الكاكي: سفا السفوف بفتح السين، وهو كل دواء يؤخذ غير معجون.
وقيل: السفوف دواء يوضع على الكف ويؤكل من غير مضغ م: (لا يحنث) ش: وبه قال أحمد: م: (وهو الصحيح) ش: احترازًا عن قول بعض مشايخنا أنه يحنث، وبه قال الشافعي.
ولو نوى الدقيق بعينه لم يحنث بأكل الخبز بالإجماع، لأنه نوى حقيقة كلامه. والأصح أنه لا يحنث بعين الدقيق بغير نيته، لأن هذه حقيقة م: (لتعين المجاز مرادًا) ش: من حيث المراد.
[حلف لا يأكل خبزا]
م: (ولو حلف لا يأكل خبزًا فيمينه على ما يعتاد أهل المصر أكله خبزًا، وذلك خبز الحنطة والشعير، لأنه هو المعتاد في غالب البلدان) ش: وقال الشافعي: يحنث بأي خبز كان، ولم يفرق بين جنس وجنس، وبه قال مالك لاعتبار الحقيقة. وفي " شرح الوجيز " هو المذهب.
وقال الكاكي: وما ذكر في " الوجيز " ولم يحنث بخبز الأرز إلا بطوشاق يخالف ذلك [.....] فيه إمام الحرمين - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولو أكل من خبز القطائف لا يحنث، لأنه لا يسمى خبزًا مطلقًا إلا إذا نواه، لأنه محتمل كلامه) ش: فيحنث حينئذ قال بعد أن قال القطيفة دثار مخمل، والجمع قطائف، ومنه القطائف التي تؤكل.
م: (وكذا) ش: أي وكذلك الحكم م: (إذا أكل خبز الأرز بالعراق لم يحنث، لأنه غير معتاد عندهم) ش: أي عند أهل العراق، والعراق على صفي دجلة مثل بلاد مصر على صفي النيل ودورهما نحو مسافة شهرين م: (حتى لو كان) ش: أي الحالف م: (بطبرستان أو في بلدة) ش: أي ببلدة من بلاد طبرستان م: (طعامهم ذلك) ش: أي خبز الأرز م: (يحنث) ش: وقال الأترازي: طبرستان اسم أيد وأعمالها معرب من طبرستان، لأن أهلها يحاربون بالفاس، ثم قال هكذا قال بعضهم. ولنا فيه نظر.(6/176)
ولو حلف لا يأكل الشواء فهو على اللحم دون الباذنجان والجزر؛ لأنه يراد به اللحم المشوي عند الإطلاق، إلا أن ينوي ما يشوى من بيض أو غيره لمكان الحقيقة، وإن حلف لا يأكل الطبيخ فهو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال النسفي في كتاب " أدب الكاتب " في باب ما يغير من أسماء البلاد، وأن طبرستان بالفارسية معناه أخذه بالفاس، كأنه لم يوصل إليه حتى قطع شجرة. وقال الكاكي: وطبرستان أيد وبلادها سرسان، لأن أهلها كانوا يحاربون بها معنى الناس معرب. وقيل طبرستان والنسبة إليها طبري.
وقال الأكمل: وهي أهل دهاء، وأصلها طبرستان لأن أهلها كانوا يحاربون بالتبر، وهو الفاس، فعربوه إلى طبرستان.
قلت: طبرستان لأن أصلها اسم إقليم من الأقاليم العراقية، وهي شرقي كملان، وسميت ذلك لأن طبر بالفارسية الفاس، واستان الفاجة، ومن كثرة اشتباك أشجارها لا يذهب فيها الجيش إلا بعد أن يقطع الأشجار من بين أيديهم بالطبر، فسميت بذلك طبرستان، أي فاجتة الطبر، وقد ذكرنا بلادها في " التاريخ الكبير "، وإنما يقال في النسبة إليها الطبري، ليكون الفرق بينهما وبين النسبة إلى طبرية الشام، فإن النسبة إليها طبراني.
وفي " الذخيرة " حلف لا يأكل خبزًا ولا نية له فأكل كلية أو جوزبيخا أو نوالة بزيدة. قال محمد بن سلمة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحنث في الوجوه كلها، لأنها لا تسمى خبزًا مطلقًا. وقال أبو الليث: لو أكل كلية أو النوالة المقطوعة يحنث، لأنها الكلية حقيقة وعرفًا، واختصاصها باسم آخر للزيادة لا للنقصان، فلا يمنع دخولها تحت مطلق الاسم.
وأما النوالة فخبز، لأن ليها لا يجعله شيئًا آخر ولا يحنث بأكل الجزر، لأنه لا يسمى خبزًا بل يسمى قطائف، فيسمى خبزًا مقيدًا، يقال خبز الجوزبيخ، كما يقال بالفارسية، لأنه لو حلف لا يأكل هذا الخبز فجففه ودقه ثم شربه لم يحنث وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه ليس بأكل، بل هو شرب، وهو الحيلة فيما لو قال: إن أكلت هذه الخبزة فامرأته طالق، فينبغي أن يدقها ويلقيها في عصيدة ثم يأكلها ويطبخ حتى يصير الخبز هالكًا فيأكل العصيدة ولا يحنث. وفي " المحيط ": لو أكله مبلولًا حنث.
[حلف لا يأكل الشواء]
م: (ولو حلف لا يأكل الشواء فهو على اللحم دون الباذنجان والجزر) ش: أي المشويان، وكذلك البيض المشوي م: (لأنه يراد به اللحم المشوي عند الإطلاق) ش: يعني ذكر اللحم مطلقًا م: (إلا أن ينوي ما يشوى من بيض أو غيره) ش: كاللفت أو الباذنجان وهو القياس وبه أخذ الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك، فيحنث عندهما بكل مشوي بلا نية، وبقولنا قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لمكان الحقيقة) ش: أي لمكان حقيقة كلامه، وفيه تشديد على نفسه م: (وإن حلف لا يأكل الطبيخ فهو على(6/177)
على ما يطبخ من اللحم وهذا استحسان اعتبارا للعرف، وهذا لأن التعميم متعذر، فيصرف إلى خاص هو متعارف، وهو اللحم المطبوخ بالماء، إلا إذا نوى غير ذلك لأن فيه تشديد، وإن أكل من مرقه يحنث لما فيه من أجزاء اللحم، ولأنه يسمى طبيخا، ومن حلف لا يأكل الرءوس فيمينه على ما يكبس في التنانير، ويباع في المصر ويقال يكنس، وفي الجامع الصغير ولو حلف لا يأكل رأسا فهو على رءوس البقر والغنم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: وعلى الغنم خاصة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما يطبخ من اللحم) ش: هذا لفظ القدوري في " مختصره ".
وقال صاحب " الهداية ": م: (فهذا استحسان اعتبارًا للعرف) ش: وفي " المبسوط ": القياس أن يحنث في اللحم وغيره مما يطبخ والأخذ بالقياس ها هنا تفجش، فإن المسهل من الدواء مطبوخ، ونحن نعلم أنه لم يرد به ذلك، فحملنا على أخص الخصوص، وهو اللحم، ولا يقال لمن أكل الباقلاء المطبوخ أكل الطبيخ، وإن كان طبخًا في الحقيقة، فلما كان كذلك حمل على المطبوخ باللحم الذي هو خاص متعارف.
م: (وهذا) ش: توضيح لما قبله م: (لأن التعميم متعذر) ش: لأنه لا يمكن إجراءه على العموم م: (فيصرف إلى خاص متعارف، وهو اللحم المطبوخ بالماء) ش: احترز به عن تقلية اليابسة، لأنها لا تسمى مطبوخة م: (إلا إذا نوى غير ذلك) ش: فيصدق م: (لأنه فيه تشديد) ش: على نفسه، وقد نوى حقيقة كلامه.
[حلف لا يأكل الرءوس]
م: (وإن أكل من مرقه) ش: أي من مرق اللحم المطبوخ بالماء م: (يحنث لما فيه من أجزاء اللحم) ش: وهي ما يذوب منه م: (ولأنه) ش: أي ولأن مرق اللحم المطبوخ ولو طبخ م: (يسمى طبيخًا) ش: عرفًا. وقال الكاكي: ولو طبخ أرزًا وعدسًا بودك فهو طبيخ [....] .
م: (ومن حلف لا يأكل الرءوس فيمينه على ما يكبس في التنانير) ش: أي يدخل فيها من قولهم كبس الرجل رأسه في جب قميصه إذا أدخله، كذا في " المغرب " ومادته كاف وباء موحدة وسين مهملة، ويقال كنس بالنون بدل الباء على صيغة المبني للفاعل من كنس الطير في مكناس إذا دخل فيه، والأول هو الصحيح م: (ويباع في المصر ويقال يكنس) ش: في الأسواق.
م: (وفي " الجامع الصغير " ولو حلف لا يأكل رأسًا فهو على رءوس البقر والغنم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) .
م: (وقالا) ش: أي وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد: م: (يقع على الغنم خاصة) ش: وقال فخر الإسلام: والقياس أن يقع على كل رأس حتى رأس السمك لعمومه. وفي الاستحسان يقع على المتعارف.(6/178)
وهذا اختلاف عصر وزمان كان العرف في زمنه فيهما وفي زمنهما في الغنم خاصة وفي زماننا يفتى على حسب العادة كما هو المذكور في المختصر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أي هذا الاختلاف بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وصاحبيه م: (اختلاف عصر وزمان) ش: لا اختلاف حجة وبرهان م: (كان العرف في زمنه فيهما) ش: أي في زمن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في البقر والغنم، فأفتى بوقوع اليمين على رءوسهما.
م: (وفي زمنهما) ش: أي وفي زمن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد كان م: (في الغنم خاصة) ش: فأفتيا بوقوع اليمين عليها لا غير وقال صاحب " المختلف ": أجمعوا على أنه لا يقع على رأس الجزور لعدم العرف إلا رواية عن أبي حنيفة. ولا على رءوس الطير إلا أن ينويها.
وقال المصنف: م: (وفي زماننا يفتى على حسب العادة) ش: أي على اعتبار العرف والعادة م: (كما هو المذكور في " المختصر ") ش: أي " مختصر القدوري "، وعليه الفتوى، إذ العرف الظاهر أصل من مسائل الأيمان. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يمينه على ما يباع منفردًا، وهي رءوس الإبل والبقر والغنم. فإن كان في بلد يباع فيه رءوس الصيد منفردًا حنث بأكلها، وإن كان في بلد لا يباع فيه فقد قيل: لا يحنث.
وقيل: يحنث وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - تقع يمينه على رأس كل حيوان من الغنم والصيد والطير والحيتان، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لعموم الاسم فيه حقيقة وعرفًا. وعند أشهب المالكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحنث إلا برءوس الأنعام الأربعة للعرف الغالب، هذا إذا لم ينو نوعًا، فإن نوى قيمته على ما نوى بالإجماع، وعلى هذا الخلاف الشراء. وعن ابن أبي هريرة - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحنث إلا برأس الغنم.
فإن قيل: لحم الإشتار والخنزير لا يباع في الأسواق، ومع ذلك يحنث بالأكل إذا حلف لا يأكل لحمًا. أجيب: لما حاصله في الفرق بأن الرأس غير مأكول بجميع أجزائه، لأن منها العظم، فكانت الحقيقة متعذرة، فصار إلى المجاز المتعارف هي ما يكبس في التنانير ويباع في الأسواق. وأما اللحم فيؤكل بجميع أجزائه، فكانت الحقيقة ممكنة فلا تترك فيحنث بأكل لحم الإنسان والخنزير.
فإن قلت: الحقيقة إن لم تكن متعذرة فهي مهجورة شرعًا، والمهجور شرعًا كالمهجور عادة. في المهجور شرعًا يصار إلى المجاز، كما في المهجور عادة.
قلت: المهجور شرعًا هو الذي لا يكون بشيء من أفراده معمولًا بها كالحلف على ترك كلام الصبي، وها هنا ليس كذلك.
فإن قيل: سلمنا ذلك، ولكن لا يطرد في الشراء، فإن الرأس يشترى بجميع أجزائه، فلم(6/179)
قال: ومن حلف لا يأكل فاكهة فأكل عنبا أو رمانا أو رطبا أو قثاء أو خيارا لم يحنث، وإن أكل تفاحا أو بطيخا أو مشمشا حنث، وهذا عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - حنث في العنب والرطب والرمان أيضا، والأصل أن الفاكهة اسم لما يتفكه به قبل الطعام وبعده: أي يتنعم به زيادة على المعتاد، والرطب واليابس فيه سواء بعد أن يكون التفكه به معتادا، حتى لا يحنث بيابس البطيخ، وهذا المعنى موجود في التفاح وأخواته فيحنث بها، وغير موجود
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تكن الحقيقة متعذرة.
وأجيب: بأن من الرءوس ما لا يجوز إضافة الشراء إليه كرأس النمل والذباب والآدمي، فكانت متعذرة.
[حلف ألا يأكل فاكهة فأكل عنبا أو غيره]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (وإن حلف لا يأكل فاكهة فأكل عنبًا أو رمانًا أو رطبًا أو قثاء أو خيارًا لم يحنث، وإن أكل تفاحًا أو بطيخًا أو مشمشمًا حنث وهذا) ش: أي الحنث وعدم الحنث في الأشياء المذكورة م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: حنث في العنب والرطب والرمان أيضًا) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك وأحمد. وإذا أكل تينًا أو خوخًا أو سفرجلًا أو إجاصًا أو كمثرى أو تفاحًا أو جوزًا أو أرزًا أو فستقًا أو عنبًا يحنث بالإجماع سواء كان رطبًا أو يابسًا.
ولو أكل خيارًا أو قثاء أو جزرًا لا يحنث، لأنها من البقول. ولهذا يؤدم معها والبطيخ من الفاكهة، كذا ذكره القدوري ويابس البطيخ لا يعد فاكهة، كذا ذكر فخر الإسلام في شرح " الجامع الصغير ".
وقال في " خلاصة الفتاوى ": ذكر شمس الأئمة الحلواني أن البطيخ ليس من الفواكه. وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه وجهان، أصحهما أنه من الفواكه.
قلت: الأيمان مبنية على العرف، ولا أحد يتفكه بالبطيخ، وإنما يؤكل بالخبز غالبًا، فيكون من الإدام، نعم إن كان في بلاد لا يكون عندهم إلا نادرًا، ويرويه مثل الفاكهة لندرته وقلته.
م: (والأصل) ش: في هذا الباب م: (أن الفاكهة اسم لما يتفكه به قبل الطعام وبعده، أي يتنعم به زيادة على المعتاد) ش: أي على الغذاء الأصلي، ولهذا سمى النار فاكهة الشتاء، والزواج فاكهة لزيادة التنعم فيها م: (والرطب واليابس فيه) ش: أي في التفكه بهذه الأشياء م: (سواء بعد أن يكون التفكه معتادًا، حتى لا يحنث بيابس البطيخ) ش: فإنه لا يعتاد بأنه فاكهة في عامة البلاد م: (وهذا المعنى) ش: أي التفكه م: (موجود في التفاح وأخواته) ش: وهي التي ذكرناها عند قولنا، وإذا أكل تينًا أو خوخًا ... إلى آخره.
م: (فيحنث بها) ش: أي بالتفاح وأخواتها م: (وغير موجود) ش: أي وهذا المعنى غير(6/180)
في القثاء والخيار؛ لأنهما من البقول بيعا وأكلا فلا يحنث بهما.
وأما العنب والرطب والرمان فهما يقولان: إن معنى التفكه موجود فيها، فإنها أعز الفواكه والتنعم بها يفوق التنعم بغيرها. وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول إن هذه الأشياء مما يتغذى بها ويتداوى بها فأوجب قصورا في معنى التفكه للاستعمال في حاجة البقاء، ولهذا كان اليابس منها من التوابل أو من الأقوات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
موجود م: (في القثاء والخيار، لأنهما من البقول بيعًا) ش: يعني من حيث الطبع، فإنهما يباعان مع البقول م: (وأكلًا) ش: أي من حيث الأكل، فإنهما يوضعان على المائدة مع البقول، هكذا شرحه الكاكي.
وقال الأكمل: وأما الكل فإنهما على الموائد، حيث يوضع النعناع والبصل م: (فلا يحنث بهما) ش: أي بالقثاء والخيار بما إذا حلف لا يأكل فاكهة.
قلت: هذا لا يخلو عن خدش، لأن القثاء والخيار قط لا يوضعان مع موائد الطعام نعم يؤكلان مع الخبز والخبز في بعض الأوقات، ولا البصل أيضًا لا يوضع مع موائد الطعام. نعم يوضع البصل مع اللحم المسلوق البارد وحده، وهو الذي يسمى لحي، والأحسن في هذا ما قاله صاحب " المحيط " العبرة للعرف وما يؤكل عادة على سبيل التفكه يعد فاكهة في العرف ويدخل في اليمين، وإلا فلا.
م: (وأما العنب والرطب والرمان فهما) ش: أي فأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يقولان: إن معنى التفكه موجود فيها فإنها أعز الفواكه، والتنعم بها يفوق التنعم بغيرها) ش: فيحنث بأكلها م: (وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: إن هذه الأشياء) ش: أي العنب والرطب والرمان) ش: مما يتغذى بها ويتداوى بها) ش: أما التغذي بالرطب والعنب فظاهر. وأما التداوي بالرطب فإنه نافع للمعدة الباردة ويزيد في المني ولين الطبع.
وأما التداوي بالعنب فإنه يسمى بسرعة تأثيره دمًا جيدًا، وينفع الصدر والبطن وأما الرمان فإنه دواء صالح خصوصًا للكبد.
م: (فأوجب قصورًا في معنى التفكه للاستعمال في حاجة البقاء) ش: يعني في بقاء الإنسان وقوامه م: (ولهذا) ش: أي ولأجل الاستعمال في بقاء الإنسان م: (كان اليابس منها) ش: مثل الزبيب والتمر وحب الرمان يعد م: (من التوابل أو من الأقوات) ش: فكان ناقصًا في معنى التفكه للاستعمال في بقاء الإنسان فلا ينتظم الاسم بإطلاقه كالمكاتب حيث لا يتناول اسم المملوك في قوله كل مملوك لي حر للنقصان في مملوكيته، والتوابل جمع تابل بالتاء المثناة من الفوقانية وبالألف بعدها الباء الموحدة المفتوحة والمكسورة وباللام في آخره.
قال الأترازي: التابل الإبزار.(6/181)
قال: ولو حلف لا يأتدم فكل شيء يصطبغ به إدام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا تعريف الشيء بما هو أخفى منه.
وقال الجوهري: الإبزاري والأبازير: التوابل. ثم قال في باب اللام: التابل والتابل وأخفى توابل القدر، يقال منه: توبلت القدر، حكاه أبو عبيد في " مصنفه "، وهذا أيضًا غير مقنع، ولكن يعلم من قوله: توبلت القدر أن المراد من التوابل هي الحوائج التي ترمى في القدر مع اللحم. قوله: من التوابل كما في الرمان أو من الأقوات كما في يابس العنب والرطب، ويؤيد قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْله تَعَالَى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عبس: 27] إلى قوله {وَأَبًّا} [عبس: 31] (عبس: الآية 27) .
وقَوْله تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] (الرحمن: الآية 68) ، فإن الله عطف الفاكهة على العنب والنخل في الآية الأولى، وعطف النخل والرمان على الفاكهة في الآية الأخرى، والعطف يقتضي المغايرة.
وقال الأترازي: فإن قلت: لا نسلم أن العطف يقتضي المغايرة، ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ} [الأحزاب: 7] (الأحزاب: الآية 7) ، فلو كان العطف يقتضي المغايرة لم يكن المعطوفون من الأنبياء، قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] وإنما العطف في الآيتين لبيان فضيلة المعطوف لا للمغايرة.
قلت: تفضيل الأنبياء والملائكة بعضهم على بعض إنما يعرف بالخبر، فاحتاج إلى المخصص بالذكر، بخلاف ما نحن فيه، فإن قصد هذه الأشياء على سائر الفواكه عرف بالحس والمشاهدة فلا حاجة إلى الخبر، إذ ليس الخبر كالمعاينة، فتعين فائدة العطف للمغايرة، انتهى.
قلت: أجاب تاج الشريعة عن هذا بأحسن منه، فقال: الشيء قد يعطف على جنسه للتخصيص والتفضيل، كما ذكر من النظير، كما ذكر من النظير، ولا يجوز ذلك فيما نحن بصدده، لأنه موضع تعدد النعم، فلا يستقيم الشيء على جنسه، لأن الحكيم في موضع التعداد لا يذكر نعمة واحدة مرتين، لأن فيه قصور النعم.
[حلف لا يتأدم]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ولو حلف لا يأتدم) ش: يعني لو حلف لا يأكل إدامًا م: (فكل شيء يصطبغ فيه) ش: وفي بعض النسخ اصطبغ به، قال الكاكي: اصطبغ بالطاء على بناء المفعول، هكذا المنقول. والاصطباغ - فإن خورش كوفيين -[.....] وبعد الطاء بالباء.
وفي " المغرب ": الصبغ ما يصبغ به، ومنه الصبغ منه الإدام، لأن الخبز يغمس فيه،(6/182)
والشواء ليس بإدام والملح إدام وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كل ما يؤكل مع الخبز غالبا فهو إدام، وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الإدام من الموادمة، وهي الموافقة وكل ما يؤكل مع الخبز فهو موافق له كاللحم والبيض ونحوه. ولهما أن الإدام ما يؤكل تبعا، والتبعية في الاختلاط حقيقة، ليكون قائما به، بحقيقة في أن لا يؤكل على الانفراد حكما وتمام الموافقة في الامتزاج أيضا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويكون كالخل والزبيب، ويقال اصطبغ بالخل وفي الخل لا يقال اصطبغ الخمر بالخل م: (إدام) ش: كالخل والزيت والعسل والزبد واللبن والملح والمرق م: (والشواء ليس بإدام) ش: لأنه يؤكل وحده م: (والملح إدام) ش: لأنه يؤكل مع الخبز م: (وهذا) ش: أي المذكور م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: في ظاهر الرواية.
م: (وقال محمد: كل ما يؤكل مع الخبز غالبًا فهو إدام، وهو رواية) ش: أي قال محمد رواية م: (عن أبي يوسف) ش: وبه قال الشافعي وأحمد: م: (لأن الإدام من المؤادمة) ش: أي مشتق منها م: (وهي) ش: أي المؤادمة م: (الموافقة معنى، وكل ما يؤكل مع الخبز فهو موافق له كاللحم والبيض ونحوه) ش: مثل الخبز. وفي " النهاية " وحاصل ذلك على ثلاثة أوجه، فالخل والزيت واللبن والعسل والزبد وأمثالها ما يستطيع به فهو إدام بالإجماع والبطيخ والعنب والتمر وأمثالها مما يؤكل وحدها غالبًا ليس بإدام بالاتفاق.
واختلفوا في الخبز والبيض واللحم، فجعلها محمدًا إدامًا باعتبار أن هذه الأشياء لا تؤكل وحدها غالبًا، فكانت تبعًا للخبز، وموافقًا له - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بعد الإدام في الدنيا والآخرة اللحم وكتب ملك الروم إلى معاوية أن ابعث إلى بشر إدام على يد بشر رجل، فبعث إليه جبنًا على يد رجل يسكن في بيوت أصمارها فلو لم يكن الجبن إدامًا لما بعث إليه، لأنه من أرباب الشأن.
ويقول محمد: أخذ أبو الليث بالعرف. وفي التمر للشافعي وأحمد رحمهما الله - وجهان في وجه إدام لما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وضع التمر على الكسرة، فقال هذا إدام» . هذه رواية أبي داود. والثاني ليس بإدام، لأنه فاكهة فأشبه الزبيب.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أن الإدام ما يؤكل تبعًا، والتبعية في الاختلاط حقيقة) ش: أي من حيث الحقيقة، بأن يصير مع الخبز كشيء واحد، فيتبعه ويقدم به، وهو معنى قوله م: (ليكون قائمًا به بحقيقة في أن لا يؤكل على الانفراد حكمًا) ش: أي من حيث الحكم حاصل هذا أن التبعية على نوعين حقيقة، وذلك في الاختلاط ليكون قائمًا به. وحكمه هو أن لا يؤكل على الانفراد، واللحم ما يخلط، فيكون تبعًا حقيقة ويؤكل منفردًا، فلا يكون تبعًا حكمًا، فلا يكون إدامًا. م: (وتمام الموافقة في الامتزاج أيضًا) ش: جواب عن قوله لأن الإدام(6/183)
والخل وغيره من المائعات لا تؤكل وحدها، بل تشرب والملح لا يؤكل بانفراده عادة، ولأنه يذوب فيكون تبعا، بخلاف اللحم وما يضاهيه، لأنه يؤكل وحده إلا أن ينويه لما فيه من التشديد والعنب والبطيخ ليسا بإدام هو الصحيح. وإذا حلف لا يتغدى فالغداء الأكل من طلوع الفجر إلى الظهر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من المؤادمة يعني سلمناه.
ولكن الإدامة الشاملة الكاملة في الامتزاج يعني حقيقة الموافقة بأن يكون كشيء واحد بالامتزاج والإشراق إلا أن يكون مجاوزًا له، فإذا ثبتت الحقيقة بطل المجاز.
وأما الحديث فلا حجة له فيه، لأن يقال الخليفة سيد العرب والعجم، وإن لم يكن من العجم قاله الكاكي وفيه تأمل. وقال تاج الشريعة: وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو الحديث المذكور فإنه من أسماء الشرع. والأيمان لا تتعلق بها.
م: (والخل وغيره من المائعات لا تؤكل وحدها بل تشرب) ش: فلا يكون إداما م: (والملح لا يؤكل بانفراده عادة) ش: فلا يكون إدامًا م: (ولأنه يذوب فيكون تبعًا) ش: فيكون إدامًا م: (بخلاف اللحم وما يضاهيه) ش: أي وما يشابهه مثل الخبز والبيض، فإنها ليست بإدام م: (لأنه) ش: لأن اللحم وما يضاهيه م: (يؤكل وحده، إلا أن ينويه) ش: لأنه يحتمل كلامه م: (لما فيه من التشديد) ش: على نفسه.
م: (والعنب والبطيخ ليسا بإدام هو الصحيح) ش: احترز به عما قيل: إن العنب والبطيخ على الخلاف. وذكر الإمام السرخسي أنهما ليسا بإدام بالإجماع، وهو الصحيح، لأنهما يؤكلان غالبًا وحدهما.
وفي " المحيط " قال محمد: التمر والجوز ليسا بإدام، وكذا العنب والبطيخ، وكذلك سائر الفاكهة، حتى لو كان في موضع يؤكل تعبًا للخبز يكون إدامًا عنده، أما البقل ليس بإدام بالاتفاق لأن آكله لا يسمى مأدمًا. وعند الشافعي والبقول والبصل والفجل والثمار إدام، لأنه يؤتدم به عادة، ذكره في " شرح الوجيز ".
قال أي القدوري: م: (وإذا حلف لا يتغدى فالغداء الأكل من طلوع الفجر إلى الظهر) ش: القدوري يتمايج في اللفظ؛ لأن الغداء عبارة عن طعام يؤكل في الغداة لا اسم أكله، وكذلك أيضًا بالفتح والمد اسم لطعام العشي، ولكن معناه أكل الغداء، وأكل العشاء على حذف المضاف قال الأترازي: ويجوز أن يقال: أراد بالغداء الغداة وبالعشاء العشي مجازًا بإطلاق اسم السبب على المسبب. وإذا حلف أحد أنه لا يتغدى، فإذا تغدى ما بين طلوع الفجر إلى وقت الظهر في(6/184)
والعشاء من صلاة الظهر إلى نصف الليل؛ لأن ما بين الزوال يسمى عشيا ولهذا يسمى الظهر أحد صلاتي العشاء في الحديث. والسحور من نصف الليل إلى طلوع الفجر لأنه مأخوذ من السحر، ويطلق على ما يقرب منه، ثم الغداء والعشاء، ما يقصد به الشبع عادة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي ساعة كانت من ذلك يحنث وعليه الكفارة.
م: (والعشاء من صلاة الظهر إلى نصف الليل، لأن ما بعد الزوال يسمى عشيًا) ش: بفتح العين وكسر الشين وتشديد الياء. قال في " المغرب ": العشي ما بين زوال الشمس إلى غروبها، والمشهور أنه آخر النهار.
وعن الأزهري: صلاة العشاء والظهر والعصر.
وقال الأترازي: لأن ما بعد الزوال يسمى عشاء بكسر العين الزوال، لما كان عشاء كان الطعام الذي يؤكل في ذلك الوقت عشاء، فإذا فتح العين في موضعين يلزم الفساد، وهذا حاصل كلامه لكن هذا على كون لفظ النسخة عشيًا. وأكثر لفظ النسخ عشاء كما ضبطناه.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون ما بعد الزوال عشيًا م: (يسمى الظهر أحد صلاتي العشاء في الحديث) ش: قال الأترازي: كذا ركعتين في السنن، وسكت. وقال الكاكي: ورد في الحديث أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صلى إحدى صلاتي العشاء يريد الظهر أو العصر» . وقال الأكمل: ذكر في " الإيضاح " في باب الحلف على العشاء، فقال: ورد في الحديث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صلى إحدى صلاتي العشاء ركعتين، يريد به الراوي الظهر أو العصر» .
قلت: هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم «عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إحدى صلاتي العشاء إما الظهر وإما العصر، فسلم في ركعتين ... » الحديث "، فيا للعجب من هؤلاء في تقصيرهم فما يتعلق بالأحاديث، وهم في ديار الحديث. قال الأترازي: يقول في السنن والحديث في الصحيحين، والأكمل وشيخه الكاكي اكتفيا بما ذكر في " الإيضاح " من غير بيان.
م: (والسحور) ش: بفتح السين ما يتسحر به من المأكول والمشروب، وبضم السين مصدر م: (من نصف الليل إلى طلوع الفجر، لأن السحور مأخوذ منه) ش: أي مشتق من السحر بفتحتين، وهذا الثلث الأخير من الليل إلى طلوع الفجر م: (ويطلق) ش: أي يطلق السحور م: (على ما يقرب منه) ش: أي من السحر، لأنه قرب من الثلث الأخير م: (ثم الغداء والعشاء) ش: بالفتح والمد فيهما م: (ما يقصد به الشبع) ش: بكسر الشين وفتح الباء الموحدة م: (عادة) ش: في عادات الناس، لأن التغدي عبارة عن أكل مترادف أكثر من نصفه شبعة، لأنه لا يقال: إنه تغدى إذا(6/185)
وتعتبر عادة أهل كل بلدة في حقهم ويشترط أن يكون أكثر من نصف الشبع
ومن قال: إن لبست أو أكلت أو شربت فعبدي حر، وقال: عنيت شيئا دون شيء لم يدين في القضاء وغيره، لأنه النية إنما تصح في الملفوظ والثوب وما يضاهيه غير مذكور تنصيصا، والمقتضى لا عموم له. فلغت نية التخصيص فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أكل لقمة أو لقمتين، وبه قال الشافعي م: (ويعتبر عادة أهل كل بلدة في حقهم) ش: يعني إن كان كانت خبزا فخبز وإن كانت لحما فلحم وإن كانت لبنا فلبن.
وفي " المحيط " حتى لو كان الحالف مصريا يقع على الخبر، فلو تغدى بغيره من الأرز والتمر واللبن لم يحنث، وإن كان بدويا فيتغدى بالتمر، فإن العبرة مما يتعدى به على عادة أهل ذلك الموضع، حتى لغير الأرز بطبرستان، واللبن لأهل البوادي، والتمر ببغداد، واللبن يحنث. وحاصل الكلام العبرة من حلف لا يدخل بيتا فهو على المدر للبلدي، وعلى بيت الشعر للبدوي، وكذلك الحكم في التعشي.
م: (ويشترط أن يكون أكثر من نصف شبع) ش: قال الإمام الأسبيجابي: في " شرح الطحاوي " ومن حلف لا يتغدى فإنه يقع على الغداء المعروف، فإن كان الرجل كوفيا يقع على مد الحنطة والشعير، ولا يقع على اللبن والسويق، وإن كان الرجل بدويا يقع على اللبن والسويق، وإن كان حجازيا يقع على السويق، وأما في بلادنا فيقع على خبز الحنطة ويشترط أن يكون، أي الغداء أو العشاء أو السحور أكثر من نصف الشبع، لأن للأكثر حكم الكل رواه المعلى عن أبي يوسف، وهو الصحيح، لأن من أكل لقمة أو لقمتين يصح أن يقول ما تغديت وما تعشيت.
[قال إن لبست أو أكلت أو شربت فعبدي حر وقال عنيت شيئا دون شيء]
م: (ومن قال: إن لبست أو أكلت أو شربت فعبدي حر، وقال عنيت) ش: أي قصدت م: (شيئا دون شيء) ش: يعني قصدت ثوبا دون ثوب، أو طعام دون طعام، أو شرابا دون شراب م: (لم يدين في القضاء وغيره) ش: يعني لا يصدق لا قضاء ولا ديانة. وقال الشافعي: يصدق ديانة، لأنه للمقتضى عموما عنده، وكذا في رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبه أخذ الخصاف، والمذهب أنه لا تصح نيته م: (لأن النية إنما تصح في الملفوظ) ش: حتى يعين ما يحتمل اللفظ م: (والثوب وما يضاهيه) ش: أي وما يشابهه، مثل الطعام والشراب م: (غير مذكور تنصيصا) ش: أي غير ملفوظ صريحا، فإنما هو مقدر اقتضاء، أي بطريق الاقتضاء.
م: (والمقتضى) ش: بفتح الضاد م: (لا عموم له فلغت نية التخصص فيه) ش: أي في قوله إن لبست، أو إن أكلت أو إن شربت. قوله والمقتضى الحاجزة جواب عما يقال: هب أنه غير ملفوظ تنصيصا ليس أنه ثابت تقضى، والمقتضى كالملفوظ، فأجاب بقوله - والمقتضى..... إلى آخره.(6/186)
وإن قال: إن لبست ثوبا، أو أكلت طعاما، أو شربت شرابا لم يدين في القضاء خاصة، لأنه نكرة في محل الشرط فتعم فعملت نية التخصيص فيه إلا أنه خلاف الظاهر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: المقتضى أمر شرعي واقتضاء الأكمل إلى الطعام ليس كذلك، لأنه يعرفه من له تعرف بالشرع.
قلت: يجوز أن يكون المصنف اختار ما اختاره بعض المحققين من أن التقضي هو الذي لا يدل عليه اللفظ، ولا يكون سقوطا به، لكن يكون من ضرورة اللفظ أعم من أن يكون شرعيا أو عقليا.
فإن قيل: سلمنا ذلك، لكن ما الفرق بين هذا وبينهما إذا قال: إن خرجت فعبدي حر، ونوى السفر، فإنه يصدق ديانة، مع أن السفر أو الخروج غير مذكور لفظا، وبينه وبينهما إذا حلف لا يساكن فلانا ونوى أن لا يساكنه في واحد، فإن النية صحيحة مع أن المسكن غير مذكور لفظا، حتى لو ساكن معه في الدار لا يحنث.
أجيب: بأن الأول ممنوعة منعها القضاة الأربعة أبو هيثم وأبو حازم وأبو طاهر الدباس والقاضي القمر - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وليس يعلم من قوله: إن خرجت [.....] لغة، وقد وقع الثاني في صريح النفي، والأول في معناه فيتناولان بعمومها عنده من الخروج والسفر، فجاز تخصيصهما إلا أنه خلاف الظاهر، فلا يريد في القضاء، كذا لخصه الأكمل، وبيانه كما ينبغي هذا وإن سلمنا فالفرق أن الخروج إلى مديد وقصير، وهما مختلفان اسما وحكما، فإن المؤيد يسمى سفرا، وأحكامه خلاف أحكام الخروج. فإذا نوى أحد النوعين صحت نيته، كما لو حلف لا يتزوج ونوى حبشية أو رومية يصدق، ولو نوى امرأة بعينها لا يصدق، لأن الأول نوع.
والثاني في مسألتنا: حتى لو نوى الخروج إلى مكان بعينه كبغداد لا يصدق، وكذا في المسألة الثانية نوى نوعان من المساكنة، لأن المساكنة أنواع ما يكون في بلد واحد، وما يكون في دار واحدة وهو العرف، وما يكون في بيت واحد وهو أتم ما يكون من المساكنة، كذا ذكره السرخسي وغيره.
[قال إن لبست ثوبا أو أكلت طعاما أو شربت شرابا]
م: (وإن قال: إن لبست ثوبا، أو أكلت طعاما، أو شربت شرابا لم يدين في القضاء خاصة) ش: يعني لم يصدق في القضاء خاصة، ويصدق ديانة م: (لأنه نكرة) ش: أي لأن ثوبا من إن لبست وطعاما من إن أكلت وشرابا من إن شربت نكرة وقعت م: (في محل الشرط) ش: وهو قوله: إن فعلت كذا م: (فتعم) ش: لأن الشرط في معنى النفي، والنكرة في موضع النفي تعم، والعموم يحتمل الخصوص م: (فعلمت نية التخصيص فيه، إلا أنه خلاف الظاهر) ش: إذ الظاهر العموم.(6/187)
فلا يدين في القضاء
قال: ومن حلف لا يشرب من دجلة فشرب منها بإناء لم يحنث حتى يكرع منها كرعا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: إذا شرب منها بإناء يحنث؛ لأنه المتعارف المفهوم، وله أن كلمة " من " للتبعيض وحقيقته في الكرع، وهي مستعملة. ولهذا يحنث بالكرع إجماعا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فلا يدين في القضاء) ش: أي فلا يصدق في الحكم، لأن في المتصدق فيه تخفيف له، فلا يصدق، بخلاف ما إذا قيل له: إنك تريد أن تغتسل الليلة في هذه الدار عن الجنابة، فقال: إن اغتسلت فعبدي حر، فهو عن الجنابة، لأنه جواب متقيد بالسؤال.
ولو قال: إن اغتسلت الليلة في هذه الدار ولم يقل في هذا الدار فهو على كل اغتسال قضاء لأنه زاد على حرف الجواب، فيكون مبتدأ ولكن مع هذا يصدق ديانة، لأنه يحتمل أنه أراد به الجواب.
[حلف لا يشرب من دجلة فشرب منها بإناء]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن حلف لا يشرب من دجلة) ش: وهو نهر بغداد م: (فشرب منها بإناء لم يحنث حتى يكرع منها كرعًا) ش: والكرع يتناول الماء بالفم من موضعه من غير أن يأخذ بيده، يقال كرع الرجل في الماء إذا مد عنقه نحو يشرب منه، ومنه كره عكرمة الكرع من النهر، لأنه فعل البهيمة تدخل فيها أكارعها، والكراع مستدق الساق م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد م: (إذا شرب منها بإناء يحنث، لأنه المتعارف المفهوم) ش: بين الناس من الشرب من دجلة وهو الشرب من ماء مجرى دجلة، وهو المجاز، فيعمل لعموم المجاز. فيحنث كيفما شرب، كما إذا حلف لا يضع قدمه في دار فلان يحنث في يمينه إذا دخلها راكبًا أو ماشيًا أو حافيًا أو مستعملًا، لعموم المجاز، وهو الدخول، فكذا هنا، فصار كما إذا حلف لا يشرب من هذه البئر فشرب من مائها بإناء يحنث.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن كلمة " من ") ش: في قوله من دجلة - م: (للتبعيض) ش: اعلم أن " من " تأتي لمعان كثيرة، فإن كان المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يريد به أنه وضع لبعض وحده، فهذا لم يقل به أحد من أئمة اللغة، وإن كان يريد أنه قد يستعمل للتبعيض، فمن أين أنه يلزم أنه هنا للتبعيض، قاله الأترازي مع تطويل الكلام فيه.
قلت: دلت القرينة اللفظية والحالة هنا أن " من " هنا للتبعيض، وهذا ظاهر لا يخفى م: (وحقيقته) ش: أي وحقيقة الشرب م: (في الكرع) ش: لأن الحقيقة ابتداء أن يكون ابتداء الشرب متصلة بدجلة، وذلك بالشرب منها كرعًا: (وهي) ش: الحقيقة م: (مستعملة) ش: مهجورة.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل هذا أن الحقيقة مستعملة م: (يحنث بالكرع إجماعًا) ش: دعوى الإجماع فيها نظر، لأنه اختلف المشايخ في الكرع عندهما. قال الإمام العتابي في " شرح(6/188)
فمنعت المصير إلى المجاز وإن كان متعارفا وإن حلف لا يشرب من ماء دجلة فشرب منها بإناء حنث، لأنه بعد الاغتراف بقي منسوبا إليه وهو الشرط، فصار كما إذا شرب من ماء نهر يأخذ من دجلة
ومن قال: إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز اليوم فامرأته طالق، وليس في الكوز ماء لم يحنث، فإن كان فيه ماء فأهريق قبل الليل لم يحنث، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجامع ": قال بعضهم: لا يحنث بالكرع عندهما لئلا يكون جمعًا بين الحقيقة والمجاز. وقال بعضهم: يحنث وهو الصحيح لعموم المجاز، وليس هو يجمع بين الحقيقة والمجاز فمنعوا، أي الحقيقة المستعملة م: (فمنعت المصير إلى المجاز وإن كان متعارفًا) ش: هذا إذا لم يكن له نية، فإن نوى الكرع فعندنا لا يحنث بالمجاز ديانة وقضاء، لأنه نوى حقيقة كلامه، وإن نوى العرف فعنده صدق ديانة، لأنه يحتمل ولا يصدق قضاء، لأنه خلاف الحقيقة.
ولو حلف لا يشرب من هذا الجب فإن ملآنًا انصرف إلى الكرع عنده لتصير الحقيقة إن لم يكن ملآنًا انصرف إلى المجاز، لامتناع الحقيقة، كذا نقل الشيخ أبو المعين النسفي في " شرح الجامع " عن الشيخ أبي القاسم الصفار، ولو عنى بقوله: لا يشرب ماء دجلة هل يصح أم لا؟ حتى لا يشرب من نهر يأخذ من دجلة هل يحنث أم لا؟ قال الشيخ أبو المعين: من مشايخنا من قال تصح نيته، لأنه نوى إضمار الماء، وإليه ذهب الشيخ أبو بكر الأعمش. ومنهم من قال: لا تصح نيته، لأن الماء نيته مقتضاة، فلا يظهر في حق قبول النية.
م: (وإن حلف لا يشرب من ماء دجلة فشرب منها بإناء حنث) ش: هذا لفظ القدوري م: (لأنه) ش: أي لأن الماء م: (بعد الاغتراف بقي منسوبًا إليه) ش: أي إلى دجلة م: (وهو الشرط) ش: أي شرط الحنث في الشرب كون الماء منسوبًا، والماء في الإناء منسوب إليها، فكان الشرط قائمًا م: (فصار كما إذا شرب من نهر يأخذ من دجلة) ش: لأن الشرط كون الماء من دجلة.
وفي " الكافي " لو قال لا أشرب من الفرات فشرب من نهر آخر منه لم يحنث إجماعًا، أما عنده فلأن يمينه على الكرع، وأما عندهما فلأن النية إلى الفرات انقطعت فخرج عن عموم المجاز أما لو قال: لا أشرب فشرب من نهر آخر من الفرات حنث، لأن يمينه على ماء منسوب إلى الفرات، والنسبة لا تنقطع بالأنهار الصغار. ولو قال: لا أشرب ماء فراتًا يحنث لكل ما أعذب في أي موضع كان، وبه قال الشافعي؛ لأنه جعله وصفًا للماء، قال الله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27] (المرسلات: الآية 27) ، أي عذبًا.
[قال إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز اليوم فامرأته طالق وليس في الكوز ماء]
م: (ومن قال: إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز اليوم فامرأته طالق، وليس في الكوز ماء لم يحنث) ش: سواء علم بأن فيه ماء أو لم يعلم م: (فإن كان فيه ماء فأهريق) ش: أي فأريق، والهاء فيه زائدة م: (قبل الليل لم يحنث، وهذا) ش: أي عدم الحنث م: (عند أبي حنيفة ومحمد(6/189)
رحمهما الله - وقال أبو يوسف: حنث في ذلك كله، يعني إذا مضى اليوم، وعلى هذا الخلاف إذا كان اليمين بالله تعالى وأصله أن من شرط انعقاد اليمين وبقائه التصور عندهما خلافًا لأبي يوسف لأن اليمين إنما ينعقد للبر، فلا بد من تصور البر ليمكن إيجابه وله أنه أمكن القول بانعقاده موجبًا للبر على وجه يظهر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رحمهما الله -) ش: وبه قال الشافعي: في وجه ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وقال أبو يوسف: حنث في ذلك كله) ش: أي فيما كان فيه الماء وفيما لم يكن م: (يعني إذا مضى اليوم) ش: أشار به إلى أن اليمين إذا كانت مؤقتة باليوم م: (وعلى هذا الخلاف) ش: المذكور بين الثلاثة م: (إذا كان اليمين بالله) ش: بأن قال: والله لأشربن الماء الذي في هذا الكوز اليوم، وليس في الكوز ماء، أو كان فيه ماء فأهريق قبل الليل لم يحنث عندهما، خلافًا لأبي يوسف.
م: (وأصله) ش: أي أصل هذا الخلاف م: (أن من شرط انعقاد اليمين وبقائه التصور عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (خلافًا لأبي يوسف) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه، وتحقيق هذا أن تصور شرط لإبقاء اليمين المطلقة عن الوقت، وبقاء اليمين العدة بالوقت عندهما، وعند أبي يوسف لا يشترط تصور البر في انقياد اليمين المطلقة، ولا لبقائه في اليمين المقيدة، ويتفرع على هذا الخلاف ما لو حلف لا يشربن ماء الكوز اليوم فصب قبل مضي اليوم. فعندهما لا يبقى يميننه ولا يحنث أبدًا. وعند أبي يوسف يحنث في آخر جزء من أجزاء الوقت، حتى تجب عليه الكفارة إذا مضى اليوم، وعلى هذا: لو قال: إن لم أشرب هذا الماء الذي في هذا الكوز وعنده تبقى ويحنث، مضى اليوم فأمن أنه كذا، فأهريق قبل الليل لم تبق اليمين عندهما، وعنده تبقى ويحنث. وعلى هذا لو قال: لأقتلن فلانًا اليوم فمات فلان قبل مضي الليل لا يبقى اليمين عندههما. وكذا لو قال: لتقتلنه وهو جاهل بموته، وإنما شرط جهله لموته، لأنه لو علم بموته ينعقد اليمين بالإجماع ويحنث في الحال. وكذا لو حلف إن أكل هذا الرغيف فأكل قبل الليل أو قال: لأقضين دينه وفلان قد مات ولا أعلم به لم ينعقد يمينه عندهما، وعنده ينعقد ويحنث في الحال، وكذا لو قال لأقضين فلانًا دينه فأبرأه فلان.
وكذا لو قال لزيد: إن رأيت عمرًا فلم أعلمك فامرأتي طالق ثم رآه مع زيد فسكت ولم يقل شيئًا، أو قال هو عمرو لا يطلق عندهما لفوات الإعلام، فلم يبق اليمين، وعنده يطلق لبقاء اليمين وفوات المعقود عليه.
م: (لأن اليمين إنما ينعقد للبر، فلا بد من تصور البر ليمكن إيجابه) ش: أي إيجاب اليمين م: (وله) ش: أي ولأبي يوسف م: (أنه أمكن القول بانعقاده) ش: حال كونه م: (موجبًا للبر على وجه(6/190)
في حق الخلف وهو الكفارة. قلنا: لا بد من تصور الأصل لينعقد في حق الخلف، ولهذا لم تنعقد الغموس موجبة الكفارة
ولو كانت اليمين مطلقة ففي الوجه الأول لا يحنث عندهما، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحنث في الحال، وفي الوجه الثاني يحنث في قولهم جميعًا، فأبو يوسف فرق بين المطلق والمؤقت. ووجه الفرق في التأقيت للتوسعة، فلا يجب الفعل إلا في آخر الوقت، فلا يحنث قبله. وفي المطلق يجب البر كما فرغ، وقد عجز فيحنث في الحال، وهما فرقا بينهما. ووجه الفرق أن في المطلق يجب البر كما فرغ، فإذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يظهر في حق الخلف وهو الكفارة) ش: لأن عقد يمينه على فعل في المستقبل، فينعقد. وإن عجز عن تحقيق ما أخبر يظهر في الخلف، لقوله: والله لأمسن السماء م: (قلنا: لا بد من تصور الأصل) ش: أي أصل اليمين م: (لينعقد في حق الخلف) ش: فإذا لم يتصور الأصل لا ينعقد في حق الخلف م: (ولهذا) ش: أي ولأجل تصور الأصل لانعقاده في حق الحلف، وهو الكفارة م: (لم تنعقد الغموس) ش: حال كونها م: (موجبة الكفارة) ش: لأنه لما لم يتصور الأصل لا يظهر في حق الحلف وهو الكفارة.
فإن قلت: البر يتصور في صورة الإراقة، لأن من الجائز أن يعبد الله عز وجل تلك القطرات المهراقة في ذلك الكوز.
قلت: إن البر إنما يجب في هذه الصورة في آخر جزء من أجزاء اليوم يجب أن لا يسع فيه غيره، فلا يمكن القول فيه بإعادة الماء في الكوز، وشربه في ذلك الزمان.
م: ولو كانت اليمين مطلقة) ش: أي عن ذكر الوقت م: (ففي الوجه الأول) ش: يعني إذا لم يكن في الكوز ماء م: (لا يحنث عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (وعند أبي يوسف يحنث في الحال، وفي الوجه الثاني) ش: وهو أن يكون فيه ماء أهريق م: (يحنث في قولهم جميعًا) ش: أي قول الثلاثة م: (فأبو يوسف فرق بين المطلق والمؤقت) ش: أي بين اليمين المطلق عن ذكر المؤقت، وبين اليمين المؤقت بالوقت.
م: (ووجه الفرق) ش: أي وجه فرق أبي يوسف م: (أن التأقيت للتوسعة) ش: على نفسه، حتى يختار الفعل في أي وقت شاء م: (فلا يجب الفعل إلا في آخر الوقت) ش: المقدر فما لم يخص ذلك الوقت لا يتحقق ترك الفعل، لأن الفعل لا يتعين عليه في آخر أجزاء الوقت م: (فلا يحنث قبله) ش: فإذا فات الجزء الآخر فلم يفعل يحنث حينئذ م: (وفي المطلق) ش: عن الوقت م: (يجب البر كما فرغ وقد عجز فيحنث في الحال، وهما) ش: أي أبو حنيفة ومحمد م: (فرقا بينهما) ش: أي بين المطلق والمؤقت.
م: (ووجه الفرق في المطلق يجب البر كما فرغ) ش: لأنه لم يرد التوسعة على نفسه م: (فإذا(6/191)
فات البر بفوات ما عقد عليه اليمين يحنث في يمينه، كما إذا مات الحالف والماء باق، أما في المؤقت يجب البر في الجزء الأخير من الوقت وعند ذلك لم يبق محلية البر لعدم التصور، فلا يجب البر فيه فتبطل اليمين كما إذا عقده ابتداء في هذه الحالة.
قال: ومن حلف ليصعدن السماء أو ليقلبن هذا الحجر ذهبا بتحويل الله عز وجل انعقدت يمينه وحنث عقيبها. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تنعقد لأنه مستحيل عادة، فأشبه المستحيل حقيقة، فلا ينعقد. ولنا أن البر متصور حقيقة. لأن الصعود إلى السماء ممكن حقيقة، ألا ترى أن الملائكة يصعدون السماء، وكذا تحول الحجر ذهبا بتحويل الله تعالى. وإذا كان متصورا ينعقد اليمين موجبا لخلفه، ثم يحنث بحكم العجز الثابت عادة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فات البر بفوات ما عقد عليه اليمين يحنث في يمينه، كما إذا مات الحالف والماء باق) ش: أشار بقوله كما إذا مات الحالف إلا أن بقاء المحل شرط للبر لبقاء الحالف م: (أما في المؤقت يجب البر في الجزء الأخير من الوقت وعند ذلك) ش: أي وعند الجزء الأخير م: (لم يبق محلية البر لعدم التصور، فلا يجب البر فيه) ش: للعجز م: (ويبطل اليمين، كما إذا عقده ابتداء) ش: كما عقد اليمين حال كونه مبتدأ م: (في هذه الحالة) ش: وأشار بهذا على أن وجود المحل كما هو شرط لانعقاد اليمين ذلك شرط لبقائها.
[حلف ليصعدن السماء أو ليقلبن هذا الحجر ذهبا]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن حلف ليصعدن السماء أو ليقلبن هذا الحجر ذهبًا انعقدت يمينه وحنث عقيبها) ش: فتجب الكفارة وبه قال الشافعي في الأظهر، وفي وجه هو مع زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا ينعقد لأنه مستحيل) ش: أي لأن صعود السماء أو قلب الحجر ذهبًا محال م: (عادة فأشبه المستحيل حقيقة) ش: كما في الحلف على شرب ماء كوز ليس فيه ماء م: (فلا ينعقد) ش: أي اليمين فلا يجب شيء.
م: (ولنا أن البر متصور حقيقة، لأن الصعود إلى السماء ممكن حقيقة) ش: بطريق الكرامة م: (ألا ترى أن الملائكة يصعدون السماء) ش: وكذلك الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - صعدوا م: (وكذا) ش: أي وكذا يتصور م: (تحول الحجر ذهبًا بتحويل الله عز وجل) ش: بأن يقع ذلك كرامة لبعض الأولياء، وكرامة الأولياء بخلاف العادة حق عندنا.
م: (وإذا كان متصورًا ينعقد اليمين) ش: حال كونها م: (موجبًا لخلفه) ش: وهو الكفارة، وذكر الضمير في حلفه على تأويل الحلف بالحاء المهملة م: (ثم يحنث بحكم العجز الثابت عادة) ش: وإنما وجب الحنث في الحال لأن البر ليس له زمان ينتظر، بخلاف ما قاس عليه زفر فإن شرب كوز ما ليس فيه ماء لا يتصور يظهر الفرق.(6/192)
كما إذا مات الحالف فإنه يحنث مع احتمال إعادة الحياة، بخلاف مسألة الكوز، لأن شرب الماء الذي في الكوز وقت الحلف، ولا ماء فيه لا يتصور فلا ينعقد اليمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (كما إذا مات الحالف فإنه يحنث مع احتمال إعادة الحياة) ش: وهو متصور، فينعقد اليمين م: (بخلاف مسألة الكوز، لأن شرب الماء الذي في الكوز وقت الحلف، ولا ماء فيه) ش: أي والحال أنه لا ماء فيه م: (لا يتصور) ش: هو خبر إن في قوله، لأن شرب الماء الذي في الكوز، فإذا كان غير متصور م: (فلا ينعقد اليمين) ش:.
فإن قلت: يتصور أن يخلق الله فيه الماء، وقدرته أعظم من ذلك.
قلت: لو حلف بالله تعالى وفيه الماء، لا يكون هذا الماء هو الذي انعقد عليه اليمين، والله أعلم.(6/193)
باب اليمين في الكلام قال: ومن حلف لا يكلم فلانا فكلمه وهو بحيث يسمع، إلا أنه نائم حنث، لأنه قد كلمه ووصل إلى سمعه، لكنه لم يفهم لنومه، فصار كما إذا ناداه، وهو بحيث يسمع لكنه لم يفهم لتغافله. وفي بعض روايات " المبسوط " شرط أن يوقظه، وعليه مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأنه إذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب اليمين في الكلام] [حلف لا يكلم فلانا فكلمه وهو بحيث يسمع إلا أنه نائم]
م: (باب اليمين في الكلام) ش: هذا باب في بيان أحكام اليمين في الكلام. قال قوم: الكلام عذر وفعله كلم محذوف الزوائد نحو سليم سلامًا، وأعطى وإعطاء، والدليل على ذلك أنه يعمل كسائر المصادر نحو عجب من كلامك زيدًا، حيث نصب زيدًا، ولو كان اسمًا لم يجز إعماله. وقال الأكثرون: إنه اسم المصدر، والمصدر الحقيقي المتكلم. وقال الله تعالى {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] (النساء: الآية 164) ، وقال تعالى {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] (الأحزاب: الآية 56) .
فالكلام والسلام اسمان للمصدر والكلام في اللغة عبارة عن الكلم وهو الجرح ويجمع على كلام بالكسر، وفي اصطلاح النحاة: الكلام ما تضمن كلمتين بالإسناد. وفي " اصطلاح الفقهاء " الكلام الذي يخفى، كلم عبارة عن إسماع كلامه لغيره. وعبارة أيضًا عن إسماع نعته. وفي " المحيط ": الكلام حقيقة اسم لما ينافي السكوت والخرس ولكن في العرف اسم لحروف منطوقة مفهومة مقطعة مسموعة.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن حلف لا يكلم فلانًا فكلمه وهو بحيث يسمع إلا أنه) ش: أي إلا أن فلانًا م: (نائم حنث) ش: وبه قال الشافعي وأحمد ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
م: (لأنه قد كلمه ووصل إلى سمعه، لكنه لم يفهم لنومه، فصار كما إذا ناداه، وهو بحيث يسمع لكنه لم يفهم لتغافله) ش: إذ التكلم عبارة عن إسماع الكلام كما في تكلم نفسه فإنه عبارة عن إسماع نفسه، إلا أن سماع الغير أمر يبطن لا يوقف عليه، فأقيم السبب المؤدي به مقامه، ويسقط اعتبار حقيقة السماع، كذا ذكره شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وفي بعض روايات " المبسوط " شرط أن يوقظه) ش: أي شرط إيقاظ فلان الذي حلف أنه لا يكلمه، فإنه قاله فناداه وأيقظه حنث شرط الإيقاظ وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية وذكر في بعض الروايات فناداه وأيقظه فهذا يدل على أنه متى ناداه يحنث وإن لم يوقظه، كذا في " المبسوطين ".
ثم ذكر السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مبسوطه ": والأظهر أنه لا يحنث إذا لم يوقظه، لأن النائم كالغائب م: (وعليه) ش: أي على شرط الإيقاظ م: (مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأنه إذا لم ينتبه كان كما إذا ناداه من بعيد وهو بحيث لا يسمع صوته)(6/194)
وكل ذلك لا يتحقق إلا بالسماع. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحنث، لأن الإذن هو الإطلاق وإنه يتم بالإذن كالرضاء، قلنا الرضاء من أعمال القلب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[حلف لا يكلمه إلا بإذنه فإذن له ولم يعلم بإذنه حتى كلمه]
م: (ولو حلف لا يكلمه إلا بإذنه فإذن له ولم يعلم بإذنه حتى كلمه حنث) ش: وبه قال مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه. وفي " شرح الأقطع ": هذا هو المشهور من قولهم، أي من قول أصحابنا، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يحنث، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (لأن الإذن مشتق من الأذان الذي هو الإعلام) ش: ومنه قوله تعلى {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] (التوبة: الآية 3) أي إعلام م: (أو من الوقوع في الإذن) ش: أي أوان الإذن مشتق من الوقوع في الإذن لتسميته م: (وكل ذلك) ش: أي الإذن من الأذان ومن الوقوع في الإذن م: (لا يتحقق إلا بالسماع) ش: واعترض بأنه لو كان كذلك لما صار العبد مأذونًا إذا أذن له مولاه، وهو لا يعلم لكنه يكون مأذونًا، فلم يكن الإذن محتاجًا إلى الوقوع في الإذن.
وأجيب: بأن الإذن هذا فك الحجر في حق العقد ينصرف بأهلية نفسه ومالكيه، فيثبت بمجرد الإذن، وأما في اليمين وقد حرمه كلامه إلا بإذنه، فصار الإذن مستثنى لإباحة الكلام، فلا بد من الإعلام لذلك.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحنث، لأن الإذن هو الإطلاق، وإنه يتم بالإذن) ش: على وزن الفاعل م: (كالرضاء) ش: يعني إذا حلف لا يكلمه إلا برضاه، فرضي المحلوف عليه بالاستثناء ولم يعلم الحالف فكلمه لا يحنث، لما أن الرضى يتم بالراضي، وكذلك الإذن يتم بالآذن م: (قلنا الرضاء من أعمال القلب) ش: فيتم بالراضي م: (ولا كذلك الإذن على ما مر) ش: أنه إما من الأذان الذي هو الإعلام أو من الوقوع في الإذن، وذلك مقتضى السماع ولم يوجد، ونقل في " تتمة الفتاوى " و " الفتاوى الصغرى " عن أيمان النوازل حلف لا تخرج امرأته إلا بإذنه فأذن لها من حيث لا يسمع لا يكون إذنًا في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا إذن. وقال نصير بن يحيى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كتبت إلى البلخي رسالة بما يختار في هذه المسألة، فكتب إلي أن لا اختلاف في هذه المسألة وهو إذن إجماعًا، إنما الاختلاف فيمن يقول لا تخرجي إلا بأمري، لأن الإذن يكون إذنًا بدون السماع، وأما الأمر فلا يكون إذنًا بدون السماع. قال نصير إلا أن أبا سليمان ذكر الاختلاف في الإذن وهكذا القدوري أعانه.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإن حلف لا يكلمه(6/195)
ولا كذلك الإذن على ما مر. قال: وإن حلف لا يكلمه شهرا فهو من حين حلف، لأنه لو لم يذكر الشهر لتأبد اليمين، وذكر الشهر لإخراج ما وراءه فبقي الذي يلي يمينه داخلا عملا بدلالة حاله، بخلاف ما إذا قال والله لأصومن شهرا، لأنه لو لم يكن الشهر لا يتأبد اليمين، فكان ذكره لتقدير الصوم به وإنه منكر فالتعيين إليه، وإن حلف لا يتكلم فقرأ القرآن في صلاته لا يحنث وإن قرأ في غير صلاته حنث. وعلى هذا التسبيح والتهليل والتكبير وفي القياس يحنث فيهما، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه كلام حقيقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شهرًا فهو من حين حلف) ش: أي اعتبار الشهر من زمان الحلف م: (لأنه) ش: أي لأن الحالف م: (لو لم يذكر الشهر لتأبد اليمين) ش: لأن النكرة تعم في موضع النفي م: (فذكر الشهر لإخراج ما وراءه) ش: أي ما وراء الشهر.
م: (فبقي الذي يلي يمينه داخلًا) ش: أي ففي الشهر الذي يلي يمينه داخلًا في الإيجاب م: (عملًا بدلالة حاله) ش: أي حال الحالف، لأنه الحامل على هذا اليمين الغليظ الذي لحقه في الحال، فكان مراده أن لا يكلمه في هذه الحالة.
م: (بخلاف ما إذا قال والله لأصومن شهرًا، لأنه لو لم يكن الشهر لا يتأبد اليمين، فكان ذكره) ش: أي ذكر الشهر م: (لتقدير الصوم به) ش: أي بالشهر، وأنه م: (وإن الشهر منكر فالتعيين إليه) ش: أي إلى الحالف فله أن يعين أي شهر شاء مطلقًا متتابعًا أو متبوعًا، هذا في الصوم، أما في الاعتكاف فإنه يعين أي شهر شاء. ويلزمه التتابع، لأن التتابع فيه أصل ليلًا ونهارًا، إلا أنه إذا قال الشهر دون الليالي، فحينئذ له أن يفرق، بخلاف الصوم فإن التفريق فيه أصل، لأنه لم يوجد إلا في الشهر خاصة، إلا إذا قال متتابعًا، فيلزمه التتابع، ونظير المسألة الأولى أما إذا أجر داره شهرًا كان المراد منه الشهر الذي يلي العقد، لأنه لو لم يذكر الشهر ينصرف العقد إلى الأكثر لكنه يكون فاسدًا، فكان ذكر الشهر لإخراج ما وراءه، فبقي الشهر متصلًا بالإيجاب بحكم أصل الإيجاب. م: (ولو حلف لا يتكلم فقرأ القرآن في صلاته لم يحنث، وإن قرأ في غير صلاته حنث، وعلى هذا) ش: أي وعلى هذا التفصيل م: (التسبيح والتهليل والتكبير) ش: يعني إذا حلف لا يتكلم فقال: سبحان الله، أو قال: لا إله إلا الله، أو قال: الله أكبر، فإن كان في الصلاة لا يحنث، وإن كان خارج الصلاة يحنث. م: (وفي القياس يحنث فيهما) ش: أي في الصلاة وخارجها بالتسبيح وأحسنه م: (وهو قول الشافعي) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنه كلام حقيقة) ش: لأن الكلام اسم لحروف منطوقة تحتها، يقال: فمفهومه يكون قارئ القرآن أو المسبح أو المهلل أو المكبر متكلمًا لا محالة.
م: (ولنا أنه) ش: (أي أن كل واحد من هذه م: (في الصلاة ليس بكلام عرفًا ولا شرعًا) ش: أما عرفًا فلأن الإنسان لا يحلف على ترك الكلام كي يترك الصلاة، فعلم أن الموجود في الصلاة لا(6/196)
ولنا أنه في الصلاة ليس بكلام عرفا ولا شرعا، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» . وقيل: في عرفنا لا يحنث في غير الصلاة، لأنه لا يسمى متكلما بل قارئا ومسبحا.
ولو قال يوم أكلم فلانا فامرأته طالق فهو على الليل والنهار؛ لأن اسم اليوم إذا قرن بفعل لا يمتد يراد به مطلق الوقت. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] (الأنفال الآية: 16) والكلام لا يمتد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يسمى كلامًا حرفًا، ولأن الكلام حرام في الصلاة، وهذا مباح.
وأما شرعًا فقد أشار إليه بقوله: م: (قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» ش: هذا الحديث قد مضى في كتاب الصلاة في باب ما يفسد الصلاة، وأخرجه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو حديث طويل، وفيه «أن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» .
م: (وقيل: في عرفنا لا يحنث في غير الصلاة، لأن لا يسمى متكلمًا بل قارئًا ومسبحًا) ش: قال شيخ الإسلام: خارج الصلاة إذا سبح أو هلل أو كبر، لانصراف يمينه إلى كلام الناس، وعليه الفتوى، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ": هذا في عادة أهل العراق، وأما في بلادنا إذا حلف الرجل أن لا يتكلم فقرأ القرآن لا ينبغي أن يحنث، سواء قرأ في الصلاة أو في غير الصلاة، وإليه ذهب الصدر الشهيد والعتابي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[قال يوم أكلم فلانا فامرأته طالق]
م: (ولو قال: يوم أكلم فلانًا فامرأته طالق، فهو على الليل والنهار؛ لأن اسم اليوم إذا قرن بفعل لا يمتد يراد به مطلق الوقت، قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] م: (الأنفال: الآية 16) ش: أراد به مطلق الوقت.
م: (والكلام لا يمتد) ش: لأنه عرض كما يوجد بقاء الشيء، ولا يقبل الامتداد لذاته بل يتخذ الأمثال كالضرب والجلوس والركوب وغير ذلك، لأن الثاني مثل الأول صورة ومعنى، فجعل كالغير الممتدة.
أما الكلام الثاني بعد معنى غير ما يفيد الأول، فلم يقم فيه القول بتجدد الأمثال، فيكون المراد من اليوم مطلق الوقت ليلًا كان أو نهارًا، فيحنث في يمينه إذا وجد الكلام مطلقًا.
م: (وإن عني النهار خاصة) ش: أي وإن قصدت باليوم والنهار وهو زمان ممتد من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس م: (دين في القضاء) ش: يعني صدق في الحكم، لأنه مستعمل فيه أيضًا م: (لأن اليوم مستعمل في النهار أيضًا) ش: لأنه نوى حقيقة كلامه.(6/197)
وإن عني النهار خاصة دين القضاء، لأن اليوم مستعمل في النهار أيضا، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يصدق في القضاء، لأنه خلاف المتعارف ولو قال ليلة أكلم فلانا فهو على الليل خاصة، لأنه حقيقة في سواد الليل كالنهار للبياض خاصة، وما جاء استعماله في مطلق الوقت
ولو قال: إن كلمت فلانا إلا أن يقدم فلان، أو قال: حتى يقدم فلان أو قال: إلا أن يأذن فلان، أو حتى يأذن فلان فامرأته طالق، فكلمه قبل القدوم أو الإذن حنث. ولو كلمه بعد القدوم والإذن لم يحنث، لأنه غاية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يصدق في القضاء، لأنه خلاف المتعارف) ش: أي لأن كون النهار مرادا من يوم قرن بفعل لا يمتد، خلاف القرون في العرف م: (ولو قال ليلة أكلم فلانًا) ش: فامرأته طالق.
م: (فهو على الليل خاصة، لأنه حقيقة في سواد الليل كالنهار للبياض خاصة، وما جاء استعماله) ش: أي استعمال الليل م: (في مطلق الوقت) ش: وفي " المبسوط " الليل ضد النهار، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} [الفرقان: 62] (النحل: الآية 62) ، كما أن النهار مختص بزمان الضياء فكذا الليل يختص بزمان الظلمة والسواد.
فإن قلت: الليل مستعمل لمطلق الوقت أيضًا، قال الشاعر:
وكنا جئنا كل بيضاء شحمة ... ليالي لاقينا جذام وحمير
والمراد مطلق الوقت لا الملاقاة للمحاربة وهي تقع ليلًا ونهارًا، والظاهر كونها في النهار، وبعده.
سقيناهم كأس سقينا بمثلها ... ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
قلت: الشاعر ذكر الليل بلفظ الجمع وأحد العددين إذ ذكر بلفظ الجمع يقتضي دخول ما بإزائه من العدد. قال الله عز وجل {ثَلَاثَ لَيَالٍ} [مريم: 10] وقال {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41] (آل عمران: الآية 41) ، والقصة واحدة، وكلامنا في المفرد.
م: (ولو قال إن كلمت فلانًا إلا أن يقدم فلانًا، أو قال حتى يقدم فلان، أو قال إلا أن يأذن فلان، أو حتى يأذن فلان فامرأته طالق، فكلمه قبل القدوم) ش: أي قبل قدوم فلان م: (أو الإذن حنث) ش: أي أو كلمه قبل الإذن حنث م: (ولو كلمه بعد القدوم والإذن لم يحنث، لأنه غاية) ش: أي لأن كل واحد من القدوم والإذن غاية، وكلمة " حتى " للغاية، قال تعالى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] (القدر: الآية 5) . وأما كلمة " إلا " ها هنا بمعنى الغاية، لأن حقيقة الاستثناء غير مرادة لتعذر استثناء الإذن والقدوم في الكلام، لأنهما ليسا من جنسه، فجعل مجازًا عن الغاية لما بين الاستثناء والغاية من المشابهة من حيث إن الحكم بعد كل واحد منهما يخالف الحكم قبله.(6/198)
واليمين باقية قبل الغاية ومنتهية بعدها، فلا يحنث بالكلام بعد انتهاء اليمين، وإن مات فلان سقطت اليمين، خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الممنوع عنه كلام ينتهي بالإذن والقدوم، ولم يبق بعد الموت متصور الوجود. فسقطت اليمين، وعنده التصور ليس بشرط، فعند سقوط الغاية يتأبد اليمين.
ومن حلف لا يكلم عبد فلان ولم ينو عبدا بعينه أو امرأة فلان أو صديق فلان فباع فلان عبده أو بانت منه امرأته أو عادى صديقه فكلمهم لم يحنث، لأنه عقد يمينه على فعل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (واليمين باقية قبل الغاية ومنتهية بعدها) ش: أي بعد الغاية م: (فلا يحنث بالكلام بعد انتهاء اليمين) ش: بيانه أنه إذا كلمه بعد القدوم والإذن لم يحنث، لأنه كلمه بعد انتهاء اليمين، وإذا كلمه قبل القدوم والإذن يحنث، لأن شرط الحنث وجد حال بقاء اليمين. م: (وإن مات فلان) ش: يعني الذي أسند إليه القدوم أو الإذن م: (سقطت اليمين) ش: لانتفاء قصور البر م: (خلافًا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإنه قال تبقى اليمين مؤيدة بعد سقوط الغاية م: (لأن الممنوع عنه) ش: أي عن الحالف م: (كلام ينتهي بالإذن والقدوم، ولم يبق بعد الموت متصور الوجود، فسقطت اليمين) .
ش: فإن قلت: إعادة الحياة ممكنة، فكان الواجب أن لا يبطل اليمين وانعقدت على القدوم أو الإذن في حياة القائمة لا العادة بعد موته.
ولهذا قلنا: إذا قال: لأقتلن فلانًا وفلان ميت، ولم يعلم الحالف بموته لا يحنث.
ولهذا قلنا إذا قال لأقتلن فلانًا وفلان ميت ينعقد اليمين، لأنها وقت القائمة.
فإن قلت: إعادة عين الروح ممكن.
قلنا: الحياة غير الروح، لأن الله تعالى حي وليس له روح، كذا نقل عن العلامة مولانا حميد الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
م: (وعنده) ش: أي عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (التصور ليس بشرط، فعند سقوط الغاية) ش: وهو الإذن والقدوم م: (يتأبد اليمين) ش: وهذا الكلام في بيان هذا الأصل بينهم.
[حلف لا يكلم عبد فلان ولم ينو عبدا بعينه فباع فلان عبده فكلمه]
م: (ومن حلف لا يكلم عبد فلان ولم ينو عبدًا بعينه أو امرأة فلان أو صديق فلان) ش: أي أو حلف لا يكلم صديق فلان م: (فباع فلان عبده أو بانت منه امرأته أو عادى صديقه فكلمهم) ش: أي فكلم العبد في المسألة الأولى أو المرأة في المسألة الثانية أو صديق فلان في المسألة الثالثة م: (لم يحنث لأنه عقد يمينه على فعل واقع في محل مضاف إلى فلان، إما إضافة ملك) ش: كما في المسألة الأولى.
م: (أو إضافة النسبة) ش: كما في المسألتين الأخريين م: (ولم يوجد) ش: واحد منهما م: (فلا يحنث) ش: الأصل في جنس هذه المسائل أنه متى عقد يمينه على فعل في محل منسوب إلى الغير(6/199)
واقع في محل مضاف إلى فلان، أما إضافة ملك أو إضافة نسبة ولم يوجد فلا يحنث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مراعى للحنث.
ووجود النسبة وقت وجود المحلوف عليه، ولا يعتبر بالنسبة وقت اليمين إذا لم يوجد وقت وجود الفعل المحلوف عليه، وإن كان منسوبًا إلى الغير لا بالملك يراعى وجود النسبة وقت اليمين ولا تعتبر كالنسبة وقت وجود الفعل المحلوف عليه.
مثال الأول: وهو قوله لا يكلم عبد فلان، وكذا لا يدخل دار فلان أو لا يركب دابته أو لا يأكل طعامه أو لا يلبس ثوبه وإذا زال الملك ووجد الكلام أو الدخول أو الركوب أو أكل الطعام أو لبس الثوب لا يحنث.
ومثال الثاني: هو قوله لا يكلم امرأة فلان أو صديق فلان فأبانها فلان، أو عادى صديقه فكلمهم يحنث. ووجه القرآن في الفعل الأول الحامل على اليمين يعني في الملك، لأن هذه الأشياء لا تعادي عادة. وفي الفعل الثاني بمعنى في هؤلاء مكان هؤلاء هجر، ويعادي عادة بمعنى فيهم، لأن الأذى متصور منهم.
فإن قيل: يشكل هذا بعبد فلان، فإن الأذى متصور منه، كما في هؤلاء.
قلنا: ذكر ابن سماعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " نوادره " أن في العبد يحنث عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لهذا وجد ظاهر الرواية أن العبد مملوك ساقط الاعتبار عند الإحراز ملحق بالجمادات ولهذا تباع في الأسواق كالبهائم، والظاهر أنه إذا كان الأذى منه لا يقصد هجرانه اليمين، بل يقصد سيده، كذا في " المبسوط " " والذخيرة ".
فإن قلت: لم يكن له زوجة ولا صديق ثم اتحد الصديق والزوجة، ثم كلم ما يكون حكمه.
قلت: لم يذكر هذا في " الجامع الصغير "، قالوا على قياس قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحنث. وأما محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقد قال: في الزيادات لا يحنث.
وقال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير " يحتمل أن يكون قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل ما قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإن وجدت الإشارة مع ذلك بأن قال: لا أكلم صديق فلان هذه وزوجة فلان هذه ثم زالت الزوجية والصداقة ثم كلم حنث في قولهم، لأن ذكر النسبة للتعريف كالإشارة، فكانت الإشارة أولى.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (هذا) ش: أي عدم الحنث م: (في إضافة الملك بالاتفاق) ش: بين الثلاثة م: (وفي إضافة النسبة عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحنث كالمرأة والصديق) ش: بيانه أن عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر وجود النسبة وقت الحلف، فعلى هذا إذا طلق امرأته أو(6/200)
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هذا في إضافة الملك بالاتفاق، وفي إضافة النسبة عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحنث كالمرأة والصديق. قال في الزيادات: لأن هذه الإضافة للتعريف، لأن المرأة والصديق مقصودان بالهجران فلا يشترط دوامها فيتعلق الحكم بعينه، كما في الإشارة. ووجه ما ذكرها هنا وهي رواية الجامع الصغير أنه يحتمل أن يكون غرضه هجرانه لأجل المضاف إليه، ولهذا لم يعينه، فلا يحنث بعد زوال الإضافة بالشك
وإن كانت يمينه على عبد بعينه بأن قال: عبد فلان هذا أو امرأة فلان بعينها أو صديق فلان بعينه لم يحنث في العبد وحنث في المرأة والصديق وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحنث في العبد أيضا، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن حلف لا يدخل دار فلان هذه فباعها ثم دخلها فهو على هذا الاختلاف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عادى صديقه يحنث عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (قال في الزيادات) ش: وأشار إلى بيانه وجه هذا بقوله م: (لأن هذه الإضافة للتعريف، لأن المرأة والصديق مقصودان بالهجران فلا يشترط دوامها) ش: أي دوام إضافة المرأة إلى الزوج. وإضافة الصديق إلى فلان، لأن ما كان للتعريف لا يشترط دوامه للاستيفاء عنه بعد التعريف م: (فيتعلق الحكم بعينه) ش: أي يتعلق حكم الحنث يعني المقصود، وهو المرأة أو الصديق م: (كما في الإشارة) ش: بأن قال لا أكلم صديق فلان هذا أو زوجة فلان هذه. م: (ووجه ما ذكرها هنا) ش: وهو عدم الحنث بعد زوال الملك والنسبة وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهي رواية " الجامع الصغير " أنه يحتمل أن يكون غرضه هجرانه) ش: أي غرضه، والحالف هجران المضاف م: (لأجل المضاف إليه، ولهذا) ش: أي ولأجل أن غرض الحالف هجران المضاف لأجل المضاف إليه م: (لم يعينه) ش: أي لم يعين المضاف حيث لم يقل صديق فلان هذا، أو امرأة فلان هذه م: (فلا يحنث بعد زوال الإضافة بالشك) ش: لاحتمال أن يكون هجرانه لأجل المضاف إليه.
[حلف لا يدخل دار فلان هذه فباعها ثم دخلها]
م: (وإن كانت يمينه على عبد بعينه بأن قال: عبد فلان هذا أو امرأة فلان بعينها) ش: بأن قال امرأة فلان هذه م: (أو صديق فلان بعينه) ش: أي أو قال صديق فلان بعينه م: (لم يحنث في العبد وحنث في المرأة والصديق وهذا) ش: أي عدم الحنث م: (قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال محمد: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحنث في العبد أيضًا، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وإن حلف لا يدخل دار فلان هذه فباعها ثم دخلها فهو على هذا الاختلاف) ش: أي عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحنث في الدار المشار إليها إذا بيعت ثم وجد الدخول كما في العبد المشار إليه إذا بيع ثم كلمه، وعندهما لا يحنث، لأن العبد والدار لا يصلحان للمعاداة، أما الدار فظاهرة، وأما العبد فلأنه يعادى لذاته وسقوط منزلته، وإنما يهجران لمعنى في صاحبها.(6/201)
وجه قول محمد وزفر - رحمهما الله - أن الإضافة للتعريف والإشارة أبلغ منها لكونها قاطعة للشركة، بخلاف الإضافة فاعتبرت الإشارة، ولغت الإضافة وصار كالصديق والمرأة. ولهما أن الداعي إلى اليمين معنى في المضاف إليه، لأن هذه الأعيان لا تهجر ولا تعادى لذواتها، وكذا العبد لسقوط منزلته، بل لمعنى في ملاكها فتقيد اليمين بحال قيام الملك بخلاف ما إذا كانت الإضافة إضافة نسبة كالصديق والمرأة لأنه يعادي لذاته فكانت الإضافة للتعريف والداعي لمعنى في المضاف إليه غير ظاهر لعدم التعيين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإذا زال الملك ثم وجد الفعل لا يحنث بخلاف المرأة والصديق، فإنهما يصلحان للمعاداة فكيف وقد أشار إليهما فيحنث بعد زوال الزوجية والعدامة.
م: (وجه قول محمد وزفر - رحمهما الله - أن الإضافة للتعريف والإشارة أبلغ منها) ش: أي من الإضافة التي للتعريف م: (لكونها) ش: أي لكون الإشارة م: (قاطعة للشركة) ش: لكونها بمنزلة وضع اليد عليه م: (بخلاف الإضافة) ش: لجواز أن يكون لفلان عبيدًا، فإذا كان كذلك م: (فاعتبرت الإشارة، ولغت الإضافة وصار كالمرأة والصديق) ش: أي وصار العبد المشار إليه كالصديق والمرأة، أشار إليهما عند محمد وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكذا عند الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن الداعي إلى اليمين معنى في المضاف إليه) ش: يعني لا نسلم أن الإضافة للتعريف، بل لبيان الداعي إلى اليمين معنى في المضاف إليه م: (لأن هذه الأعيان) ش: أي الدابة، أي حيوان كان، والدار والثوب م: (لا تعادى ولا تهجر لذواتها، وكذا العبد) ش: لا يهجر لذاته، بل م: (لسقوط منزلته) ش: فإن قيل: يحتمل أن تعادى لذاتها على قول، وجاء الخبر أن «الشؤم في ثلاث في الدار والمرأة والفرس» قلنا ذاك احتمال لم يعرف به العرف والعادة، فإن في العادة لا يعادى لذاتها، بل لسبب آخر وهو غير معلوم، وفيما نحن فيه معادي بسبب أربابها عرفًا، وهو معنى قوله م: (بل لمعنى في ملاكها) ش: أي يعادي بهجر هذه الأشياء لأجل معنى في ملاكها بضم الميم وتشديد اللام، فإذا كان كذلك م: (فتقيد اليمين بحال قيام الملك) ش: بقيام المعنى الداعي إذ ذاك.
م: (بخلاف ما إذا كانت الإضافة إضافة نسبة كالصديق والمرأة لأنه) ش: أي لأن كل واحد منهما م: (يعادي لذاته) ش: وهو ظاهر م: (فكانت الإضافة للتعريف والداعي لمعنى في المضاف إليه غير ظاهر لعدم التعيين) ش: يعني الداعي إلى المعنى الذي في المضاف إليه غير متعين الهجران، لأن مهجر لذاته لما ذكر أن الحر يهجر عادة بعينه، وقد يهجر بغيره، فإذا جمع بين الإضافة والإشارة تعين الهجران بعينه، ولأن في اعتبار الهجران لغير لغة الإشارة م: (بخلاف ما تقدم) ش: وهي مسألة العبد لما ذكرنا من تعيين الهجران وجهة الإضافة.
[حلف لا يكلم صاحب هذا الطيلسان فباعه ثم كلمه]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإن حلف لا يكلم(6/202)
بخلاف ما تقدم.
قال وإن حلف لا يكلم صاحب هذا الطيلسان فباعه ثم كلمه حنث، لأن هذه الإضافة لا تحتمل إلا التعريف، لأن الإنسان يعادي لمعنى في الطيلسان، فصار كما إذا أشار إليه. ومن حلف لا يكلم هذا الشاب فكلمه وقد صار شيخًا حنث؛ لأن الحكم تعلق بالمشار إليه إذ الصفة في الحاضر لغو. وهذه الصفة ليست بداعية إلى اليمين على ما مر من قبل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صاحب هذا الطيلسان) ش: وهو تقريب طيلسان، وجمعه طيالسة، والهاء في الجمع للعجمة، لأنه فارسي يعرب، وهو من لباس العجم مدورًا، وفي جمع التعاريف الطيالسة لحمتها وسداها صوف.
وفي " المغرب " الطيلسان تقريب اللسان، وهو لباس العجم، ومنه قولهم في الشتم يا ابن الطيلسان، يراد بك عجمية [ ... ] .
م: (فباعه) ش: أي فباع صاحب الطيلسان طيلسانه، م: (ثم كلمه حنث، لأن هذه الإضافة لا تحتمل إلا التعريف، لأن الإنسان لا يعادي لمعنى في الطيلسان فصار كما إذا أشار إليه) ش: أي إلى صاحب الطيلسان، فتعلقت اليمين به، وإن كلم المشتري لا يحنث.
م: (ومن حلف لا يكلم هذا الشاب فكلمه وقد صار شيخًا) ش: أي والحال أنه قد صار شيخًا، قد علم أن الجملة الفعلية الماضية إذا وقعت حالًا لا بد فيها من ذكر قد، وقد يحذف م: (حنث، لأن الحكم تعلق بالمشار إليه، إذ الصفة في الحاضر لغو) ش: وفي الغائب معتبرة، إلا إذا كانت الصفة داعية إلى اليمين، فحينئذ يعتبر.
وتنعقد اليمين بتلك الصفة، كما إذا حلف لا يأكل بسرًا فأكل بعد ما صار رطبًا، أو حلف لا يأكل رطبًا فأكل بعد ما صار تمرًا لا يحنث لتقيد اليمين بصفة البسورة أو الرطوبة، لأن تلك الصفة داعية إلى اليمين وهنا صفة الشأن لم تعتبر داعية، لأن هجران الصغير مهجور شرعًا، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا» فلو اعتبرت الصفة داعية يلزم هجران المهجور شرعًا، فلا يجوز ذلك.
م: (وهذه الصفة ليست بداعية إلى اليمين) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر يرد على ما قبله وقد اندرج بيانه فيما ذكرناه الآن م: (على ما مر من قبل) ش: أي في أول باب اليمين في الأكل والشرب في مسألة ما لا يأكل لحم هذا الجمل.(6/203)
فصل قال: ومن حلف لا يكلم حينا أو زمانا أو الحين أو الزمان فهو على ستة أشهر؛ لأن الحين قد يراد به الزمان القليل، وقد يراد به أربعون سنة، قال الله تعالى {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] الإنسان الآية: 1، وقد يراد به ستة أشهر، قال الله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] (إبراهيم: الآية 35) ، وهذا هو الوسط، فينصرف إلى يمينه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل اليمين المتعلق بالزمان] [حلف لا يكلم حينا أو زمنا]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل في بيان مسائل متعلقة بالباب المذكور، وإنما ذكر لفظ فصل، ولم يذكر لفظ باب، لأن مسائله داخلة في الباب المذكور بالتبعية. قال الكاكي: ومسائل هذا الفصل في الكلام أيضًا، إلا أنها تتعلق بالزمان وما قبلها متعلق بالأعيان، فالأعيان أصل والأزمان تابع له، انتهى. وفي قوله تابع له نظر لا يخفى، والترجيح بلا دليل لا يجوز.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن حلف لا يكلم حينًا أو زمنًا) ش: أي أو قال: لا يكلمه زمانًا أو الحين، أي أو قال: لا يكلمه م: (الحين) ش: بالألف واللام م: (أو الزمان) ش: أي أو قال: لا يكلمه الزمان معرفًا م: (فهو) ش: أي محلف واقع م: (على ستة أشهر) ش: وبه قال أحمد. وقال الشافعي: أدنى مدة، وهو ساعة، لأنه ثابت بتعين. وفي " شرح الأقطع " قال الشافعي: إذا حلف على نفي قيمته على ساعة واحدة. وإن حلف على الإثبات ففعل ذلك في آخر عمره جاز.
وقال مالك: يحمل على ستة. قال الله تعالى {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] (إبراهيم: الآية 25) والمراد بها لستة أشهر، ولأنه الوسط من المدة.
قلنا: المراد من قوله كل حين ستة أشهر، كذا قاله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، لأن من حين يخرج الطلع إلى أن يدرك التمر ستة التمر، فكان هو الوسط، فعند الإطلاق يحمل على الوسط، فخير الأمور أوساطها.
م: (لأن الحين قد يراد به الزمان القليل) ش: قال الله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] (الروم: الآية 17) ، والمراد به وقت الصلاة م: (وقد يراد به) ش: أربعون سنة م: (قال الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] م: (الإنسان: الآية 1) ش:، قال: أهل التفسير المراد به أربعون سنة م: (وقد يراد به ستة أشهر، قال الله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] م: (إبراهيم: الآية 25) ش: وقد ذكرنا الآن عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه ستة أشهر م: (وهذا هو الوسط) ش: أي الحين الذي بمعنى ستة أشهر هو الوسط، وقد مر الآن، فإذا كان كذلك م: (فينصرف إلى يمينه) ش: أي إلى قدر ستة أشهر إذا لم يكن له نية.(6/204)
وهذا لأن اليسير لا يقصد بالمنع لوجود الامتناع فيه عادة، والمؤبد لا يقصد به غالبا، لأنه بمنزلة الأبد ولو سكت عنه، يتأبد فتعين ما ذكرنا،
وكذا الزمان يستعمل استعمال الحين يقال ما رأيتك منذ حين ومنذ زمان بمعنى، وهذا إذا لم تكن له نية، أما إذا نوى شيئا فهو على ما نوى، لأنه نوى حقيقة كلامه، وكذلك الدهر عندهما، وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الدهر لا أدري ما هو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أي الحمل على ستة أشهر لماذا؟ م: (لأن اليسير لا يقصد بالمنع) ش: لعدم الحاجة إلى اليمين في الامتناع عن الكلام في ساعة واحدة م: (لوجود الامتناع فيه عادة) ش: أي قدر الساعة من حيث العادة م: (والمديد) ش: أي الزمان المديد م: (لا يقصد غالبًا، لأنه بمنزلة الأبد) ش: لأن من أراد ذلك يقول أبدًا في العرف، فلو كان مراده ذلك لم يذكر الحين م: (ولو سكت عنه) ش: أي عن المديد م: (يتأبد) ش: أي اليمين م: (فتعين ما ذكرنا) ش: وهو الوسط. اعلم أن الحين هو الزمان قليله وكثيره، كذا في " المجمل " وغيره، وقال الزجاج في تفسيره: جميع ما شاهدنا من أهل اللغة يذهب إلى أن الحين اسم زمان كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أو قصرت، ثم قال: والدليل على أن الحين بمنزلة الوقت قول النابغة أنشد الأصمعي في صفة الحية والملدوغ.
وما قبله فنبت كما ساورتني ضئيلة ... الراقشي في أنيابها السم ناقع
قوله: تناذرها - أي أنذر بعضهم بعضًا قولهم تطلقه بتشديد اللام معناه أن السم سحق لا وقتًا، ويعود وقتًا. ومعنى ساورتني وأثنى من ساور إليه الأسد أي وثب، والضئيلة بفتح الضاد المعجمة وكسر الهمزة وباللام هي الحية التي تنقبض وينضم بعضها إلى بعض والرقش بضم الراء وسكون القاف وبالسين المعجمة جمع رقشاء، وهي الحية التي في ظهرها خطوط ونقط، وناقع بالنون والقاف، أي ثابت.
[قال لا أكلمه دهرا أو الدهر]
م: (وكذا الزمان يستعمل استعمال الحين يقال ما رأيتك منذ حين ومنذ زمان بمعنى) ش: واحد م: (وهذا) ش: أي الحمل على ستة أشهر في قوله لا يكلمه حينًا أو زمانًا أو قالهما بالتعريف م: (إذا لم يكن له نية، فأما إذا نوى شيئًا) ش: من معاني الحين أو الزمان م: (فهو على ما نوى، لأنه نوى حقيقة كلامه) ش: فيعمل به، م: (وكذلك الدهر) ش: يعني يحمل على ستة أشهر إذا قال لا أكلمه دهرًا أو الدهر م: (عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وقال أبو حنيفة: الدهر لا أدري ما هو) ش: أي لا أدري كيف هو في حكم التقدير، قال أبو بكر الرازي: في شرح " مختصر الطحاوي " المشهور من قولهما أن الدهر بالألف واللام على الأبد قد ذكره محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير "، ولم يذكر فيه خلافًا.
وكان أبو الحسن يقول: إن قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الدهر وهو دهرًا واحدًا، وإنه لم يجيب عنه بشيء، والغالب في كلام الناس أن الدهر على الأبد يقال: فلان يصوم الدهر(6/205)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يعنون الأبد.
وقال الكاكي: قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أدري ما الدهر، لأن الناس يستعملونه بمعنى الحين والزمان، وبمعنى الأبد، ألا ترى أن معرفته على الأبد بخلاف الحين والزمان، لأن معرفتهما ومنكرهما سواء يقال فلان دهري بضم الدال إذا كان معمرًا، ودهري بالفتح إذا قال بالدهر وأنكر الصانع، قال تعالى: حكاية عنهم {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] (الجاثية: الآية 24) ، فكان مجملًا، فلم يقف على مراد المتكلم، والترجيح بلا دليل لا يجوز، فكان قوله لا أدري من كمال علمه وورعه.
وروي أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سئل عن شيء، فقال: لا أدري ثم قال: بعد ذلك طوبى لابن عمر سئل عن شيء لا يدري فقال: لا أدري. ثم قيل إنما قال لا أدري ثم قال بعد ذلك حفظًا للسانه عن الكلام في معنى الدهر، فقد جاء في الحديث أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر» ، معناه أنه خالق الدهر.
وقد جاء في حديث آخر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حكاية عن الله عز وجل: «استقرضت من عبدي وأبى أن يقرضني وهو يسبني ولا يدري سب الدهر ويقول إنما أنا الدهر» وكما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سئل عن خير البقاع فقال: لا أدري حتى أسأل ربي فصعد ثم نزل، فقال: سألت الله عز وجل خير البقاع مساجدها، وخير أهلها من يكون أول الناس دخولًا وآخرهم خروجًا» ، فعرفنا أن الوقت في مثل هذا من الكمال لا من النقصان، كذا في " المبسوط " و " جامع فخر الإسلام " و " قاضي خان ".
وقيل: وجه قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أن الدهر لا نص عليه عنه عن أحد من أهل اللغة، ودلالة متعارضة فيجب التوقف فيه. ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] (الجاثية: الآية 24) ، وإلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر» . ولهذا قال صاحب الحمرة: الدهر معروف. ثم قال: وقال يوم الدهر مدة الدنيا من ابتدائها إلى انقضائها وقال آخرون بل دهر كل قوم هو زمانهم.
وقال ثعلب في " التتمة ": الدهر الزمان الليل والنهار لا خير لك. ثم أنشد:
أهل الدهر إلا ليلة ونهارها ... إلى طلوع الشمس ثم غبارها
فلما لم يثبت العرف فيه لم يصح إلحاق الدهر والحين قياسًا، لأن درك اللعان بالقياس لا يستقيم. ولهذا إذا ذكر الدهر معرفًا يقع على الأبد اتفاقًا على ظاهر الرواية بخلاف الحين والزمان، ولو قال: لا أكلم حينًا فهو على ثمانين سنة عندنا، وعند أحمد، وعند مالك -(6/206)
وهذا الاختلاف في المنكر هو الصحيح، أما المعرف بالألف واللام يراد به الأبد عرفا، لهما أن دهرا يستعمل استعمال الحين والزمان يقال ما رأيتك منذ دهر ومنذ حين بمعنى، وأبو حنيفة توقف في تقديره، لأن اللغات لا تدرك قياسا، والعرف لم يعرف استمراره لاختلاف في الاستعمال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رحمهما الله - على أربعين سنة. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جميع العمر م: (وهذا الاختلاف في المنكر) ش: الاختلاف المذكور في قوله لا أكلمه دهرًا بدون الألف واللام.
م: (هو الصحيح) ش: احترز به عن رواية بشر عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: لا أفرق على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين قوله دهرًا وبين قوله الدهر.
وإذا كان الاختلاف في المنكر فالمعرف يكون متفقًا عليه، فإما أن يكون ستة أشهر كما قالوا، وإما أن يكون على الأبد بلا خلاف بينهم، وهو الذي أشار إليه المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله: م: (أما المعرف بالألف واللام يراد به الأبد عرفًا) .
ش: فإن قيل: ذكرت في " الجامع الكبير " وأجمعوا فيمن قال إن كلمتك دهورًا أو شهورًا أو سنينًا أو جمعًا أو أيامًا يقع على ثلاثة من هذه المذكورات، لأنها أوفى الجمع المتفق عليه. فكيف قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا أدري الدهر. وقد حكم في دهور أن أدناه ثلاثة دهور فكل دهر ستة أشهر كما هو قولهما، ومن لا يدري معنى الفرد لا يدري معنى الجمع، إذ الجمع عبارة عن ثلاثة أفراد.
قلنا: هذا تفريع بمسألة الدهر على قول من يعرف الدهر، كما فرع مسائل المزارعة على قول من يرى جوازها، ولذلك قال بالمعرفة إذا كانت يمينه بالدهور على صيغة الجمع محلى بالألف واللام كما هو أصله في السنين والشهور، وإليه أشار بالعشرة التمرتاشي. وقيل: إن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: أوفى الجمع من هذه المذكورات ثلاثة، ولكن لا يلزم من هذا معرفة المراد من الدهر المنكر، يعني لو عرف المراد منه يكون المراد من الدهور ثلاث سنين، ومما يليق ذكره هنا ما قاله بعضهم من قال: لا أدري لما لم يدره، فقد اقتدى في النفقة بالنعمات في الدهر والخنثى كذلك جوابه. ومحل أطفال ووقت ختان.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن دهرًا يستعمل استعمال الحين والزمان، يقال ما رأيتك منذ دهر ومنذ حين بمعنى واحد، وأبو حنيفة توقف في تقديره، لأن اللغات لا تدرك قياسًا، والعرف لم يعرف استمراره لاختلاف في الاستعمال) ش: إذ هو باق بمعنى الزمان وبمعنى الأبد.
وقولهم دهرًا داهر ودهار برأي شديد. ويقال ماذا بدهري، أي عاد يوم وما دهري بكذا، أي همني ويراد به العمر، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صام الدهر» مستعملًا في معان مختلفة، توقف أبو(6/207)
ولو حلف لا يكلمه أياما فهو على ثلاثة أيام، لأنه اسم جمع ذكر منكرا، فيتناول أقل الجمع وهو الثلاث، ولو حلف لا يكلمه الأيام فهو على عشرة أيام عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا على أيام الأسبوع. ولو حلف لا يكلمه الشهور فهو على عشرة أشهر عنده، وعندهما على اثني عشر شهرا، لأن اللام للمعهود، وهو ما ذكرنا، لأنه يدور عليها، وله أنه جمع معرف، فينصرف إلى أقصى ما يذكر بلفظ الجمع وذلك عشرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حنيفة في تقديره كما ذكرناه.
[حلف لا يكلمه أياما]
م: (ولو حلف لا يكلمه أيامًا فهو على ثلاثة أيام، لأنه اسم جمع ذكر منكرًا فيتناول أقل الجمع، وهو الثالث) ش: هذا لفظ القدوري، وهو رواية الجامع الكبير، وذكر فيه أنه بالاتفاق وذكر في كتاب الأيمان أنه على عشرة أيام عنده، أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما في العرف.
وقال الإمام الأسبيجابي في " شرح الطحاوي " والمذكور في " الجامع " أصح، وذلك لأن ذكر الأيام بالتنكير ولا دلالة فيه على الجنس والعهد، فيقع على أقل الجمع، وهو الثلاثة.
م: (ولو حلف لا يكلمه الأيام فهو على عشرة أيام عند أبي حنيفة. وقالا: على أيام الأسبوع. ولو حلف لا يكلمه الشهور فهو على عشرة أشهر عنده) ش: عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وعندهما على اثني عشر شهرًا، لأن اللام للمعهود) ش: لأن في الأيام المعهودة في عرف الناس أيام الأسبوع فكانت الجمعة هي المرادة، وفي الشهور المعهودة شهور السنة، فكانت السنة هي المرادة م: (وهو ما ذكرنا) ش: أن اللام للعهد م: (لأنه) ش: أي لأن الشهر م: (يدور عليها) ش: أي على اثني عشر. قال الأترازي: وكان القياس أن يقول لأنها تدور عليه، لكن أقول المذكور في الأول، وفي الإفراد في الثاني، فافهم. ونقل الأكمل هذا برمته بقوله وقيل، أي لأن الشهر يدور على اثني عشر وكان القياس إلى آخره، ثم سكت عنه، فالظاهر أنه لم يكن عنده معنى غير هذا حتى سكت ولم يقل شيئًا.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنه) ش: أي لفظ الشهور م: (جمع معرف بالألف واللام ينصرف إلى أقصى ما يذكر بلفظ الجمع، وذلك عشرة) ش: أي عشرة. والأصل هنا أن حرف التعريف إذا دخلت في اسم الجمع ينصرف إلى أقصى ما يطلق عليه اسم الجمع عند أبي حنيفة، وهو العشرة، لأن الناس يقولون في العرف ثلاثة أيام وأربعة أيام إلى عشرة أيام، ثم بعد ذلك يقولون أحد عشر يومًا ومائة يوم وألف يوم.
فإن كان العشرة أقصى ما ينتهي إليه لفظ الجمع كانت هي المرادة، لأن اللام للجنس، بخلاف ما إذا حلف بقوله: إن تزوجت النساء، حيث تقع اليمين على الواحدة لتعذر صوته إلى الجمع.(6/208)
وكذا الجواب عنده في الجمع والسنين، وعندهما ينصرف إلى العمر لأنه لا معهود دونه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن عنى الجمع قيل لا يصدق، لأنه خلاف الظاهر. وقيل يصدق لأنه نوى حقيقة كلامه. وقال أبو حنيفة: يقال: أي اللام للعهد، والعشرة معهودة في الجمع المعرف، فإنه أقصى ما يذكر بلفظ الجمع، فإنه يقال: ثلاثة أيام إلى العشرة، ثم يقال أحد عشر يومًا، فكان تعريفًا لهذا المعهود.
فإن قلت: هذا لا يستقيم في الشهور، فإنه لا يقال: ثلاثة شهور بل يقال: ثلاثة أشهر.
قلت: بل يقال ثلاثة شهور أيضًا، كما يقال: ثلاثة فرد.
فإن قلت: هذا هكذا عند اقتران العدد، لا عند تجرده عنه. وقد قيل في قَوْله تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا} [آل عمران: 140] (آل عمران: الآية 140) ، أي أيام الدنيا.
قلت: اسم الجمع للعشرة وما دونها حقيقة في حالتي الإبهام والتعيين، ويقع على ما وراء العشرة في حالة الإبهام دون التعيين، فكان الصرف إلى ما صرف في الحالين أولى.
فإن قلت: يشكل هذا بقوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا} [الأعراف: 160] (الأعراف: الآية 160) وما قال سبطًا.
قلت: لا يرد هذا السؤال، لأن لفظ الأسباط ليس بتمييز، وإنما التمييز محذوف، تقديره وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة أسباطًا، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه.
م: (وكذا الجواب عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في الجمع) ش: جمع جمعة، يعني إذا حلف لا يكلم الجمع يقع على عشر جمع م: (والسنين) ش: يعني وكذا الجواب في السنين، يعني إذا حلف لا يكلم السنين يقع على عشر سنين. وفي " المحيط " قال: لا أكلمه الأيام والشهور أو السنين أو الجمع أو الدهر أو الأزمنة فهو على العشرة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما الأيام على الأسبوع، يعني سبعة أيام والشهور على السبعة وغيرها على العمر.
م: (وعندها ينصرف إلى العمر، لأنه لا معهود دونه) ش: أي دون العمر، لأن الأصل عندهما أن ينظر إن كان ثمة معهود ينصرف إليه، ولا ينصرف إلى جميع العمر. وفي الأيام إلى المعهود في عرف الناس أيام الأسبوع، فكانت الجمعة هي المرادة.
وفي الشهور المعهودة شهور السنة، فكانت السنة هي المرادة ولا معهود في الجمع والسنين، فانصرف يمينه إلى جميع العمر. ولو قال جمعًا أو قال: سنين بالتنكير يقع على ثلاثة من ذلك بالاتفاق.
وفي " الكافي " وقيل: تنصرف الأيام على سبعة اتفاقًا، وعند الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تنصرف إلى الثلاثة في المنكر، لأنه أقل الجمع في المنكر في الأيام، العرف ينصرف(6/209)
ومن قال لعبده: إن خدمتني أياما كثيرة فأنت حر، فالأيام الكثيرة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عشرة أيام، لأنه أكثر ما يتناوله اسم الأيام، وقالا: سبعة أيام، لأن ما زاد عليها تكرار، وقيل لو كان اليمين بالفارسية ينصرف إلى سبعة أيام، لأنه يذكر فيها بلفظ الفرد دون الجمع والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عند مالك إلى الأبد.
وقال بعض أصحابه: ينصرف إلى الأسبوع، ويحمل الشهور على اثني عشر، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وفي قوله عن مالك ينصرف إلى الأبد والسنين، والجمع ينصرف إلى الأبد لقولهم وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[قال لعبده إن خدمتني أياما كثيرة فأنت حر]
م: (ومن قال: لعبده إن خدمتني أيامًا كثيرة فأنت حر، فالأيام الكثيرة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عشرة أيام، لأنه أكثر ما يشار له اسم الأيام) ش: لأن أكثر عدد يضاف إلى الأيام عشرة، فبعد ذلك لا يسمى أيامًا يقال: ثلاثة أيام إلى عشرة أيام، ثم يترك ذكر الأيام فيقال أحد عشر يومًا مائة يوم وألف يوم.
م: (وقالا: سبعة أيام، لأن ما زاد عليها تكرار) ش: فتكون الأيام الكثيرة سبعة. وقيل: هذا بالاتفاق كما ذكرنا عن قريب م: (وقيل لو كان اليمين بالفارسية) ش: بأن قال: لعبده أكثر خدمتها ردزها، أي سئل نوازًا أو يخدم سبعة أيام فيعتق، وهو معنى قوله م: (ينصرف إلى سبعة أيام، لأنه يذكر فيها بلفظ المفرد دون الجمع) ش:.
وقال الأترازي: في هذا التعليل نظر، لأن لفظ المفرد بالفارسي لا يخلو من أحد الأمرين. إما أن يفهم منه معنى الجمع أم لا، فإن فهم فينبغي أن يكون العربي والفارسي سواء، وإن لم يفهم ينبغي أن لا يكون الأسبوع مرادًا أيضًا. انتهى.
وقال الأكمل: يمكن أن يجاب عنه بأن يفهم منه معنى الجمع. قوله: ينبغي أن يكون العربي والفارسي سواء.
قلنا: ممنوع لأنه لفظ الفارسي، وإن المراد معنى الجمع لكن ينتهي إلى العشرة وتخصيص أيام الأسبوع لكونه المعهود أو لعدم القائل بالفصل.(6/210)
باب اليمين في العتق والطلاق ومن قال: لامرأته إذا ولدت ولدا فأنت طالق فولدت ولدا ميتا طلقت، وكذلك إذا قال لأمته إذا ولدت ولدا فأنت حرة، لأن الموجود مولود، فيكون ولدا حقيقة، ويسمى به في العرف ويعتبر ولدا في الشرع حتى تنقضي به العدة والدم بعده نفاس وأمه أم ولد له فيتحقق الشرط، وهو ولادة الولد. ولو قال: إذا ولدت ولدا فهو حر فولدت ولدا ميتا ثم آخر حيا عتق الحي وحده عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يعتق واحد منهما، لأن الشرط قد تحقق بولادة الميت على ما بينا فينحل اليمين لا إلى جزاء، لأن الميت ليس بمحل للحرية، وهي الجزاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب اليمين في العتق والطلاق] [قال لامرأته إذا ولدت ولدا فأنت طالق فولدت ولدا ميتا]
م: (باب اليمين في العتق والطلاق) ش: أي هذا باب في بيان أحكام اليمين في العتق والطلاق، وقدم هذا الباب على غيره، لأن الحلف بهما أكثر وقوعًا، فكانت معرفة كأنه من غيره.
م: (ومن قال لامرأته: إذا ولدت ولدًا فأنت طالق فولدت ولدًا ميتًا طلقت، وكذلك إذا قال لأمته: إذا ولدت ولدًا فأنت حرة) ش: فولدت ولدًا ميتًا عتقت م: (لأن الموجود مولود فيكون ولدًا حقيقة) ش: يعني يكون ولدًا باعتبار الحقيقة وعرفًا وشرعًا.
أما حقيقة فظاهر، وأما عرفًا فكذلك، أشار إليه بقوله م: (ويسمى به) ش: أي بالولد م: (في العرف) ش: وأما شرعًا فهو قوله: م: (ويعتبر ولدًا في الشرع حتى تنقضي به العدة والدم بعده) ش: أي بعد الولد.
م: (نفاس وأمه أم ولد له فيتحقق الشرط، وهو ولادة الولد) ش: فتطلق الحرة وتعتق الأمة وفيما ذكره الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في التعليل أنه يجيء في الآخرة ويرجى شفاعته بدليل ما روى أبو عبيدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في «السقط يظل محبنطئا على باب الجنة» والمحبنطئ يروى لغيرهم، فعلى الأول معنى المتغضب المستبطئ للشيء، وعلى الثاني معناه العظيم البطن المنتفخ، يعني مغضب وينفتح بطنه حتى يدخل أبواه الجنة. م: (ولو قال: إذا ولدت ولدًا فهو حر فولدت ولدًا ميتًا ثم آخر) ش: أي ولدت ولدًا آخر م: (حيًا عتق الحي وحده عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: لا يعتق واحد منهما، لأن الشرط قد تحقق بولادة الميت) ش: لأن شرط الحرية ولادة الولد، وقد تحققت ولادة الميت م: (على ما بينا) ش: أشار به إلى قوله لأن الموجود مولود.
فإذا كان كذلك م: (فينحل اليمين لا إلى جزاء) ش: كما إذا قال لعبده إذا دخلت الدار فأنت حر فباعه فدخل الدار ينحل اليمين لا إلى جزاء، حتى إذا اشتراه فدخل الدار لا يعتق. وكذا إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق فأبانها وانقضت عدتها ثم دخلت الدار ينحل اليمين لا إلى جزاء، حتى إذا تزوجها ثم دخلت الدار لا تطلق م: (لأن الميت ليس بمحل للحرية، وهي الجزاء)(6/211)
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن مطلق اسم الولد مقيد بوصف الحياة لأنه قصد إثبات الحرية جزاء وهي قوة حكمية تظهر في دفع تسلط الغير، ولا تثبت في الميت فيتقيد بوصف الحياة فصار كما إذا قال إذا ولدت ولدا حيا بخلاف جزاء الطلاق وحرية الأم لأنه لا يصلح مقيدا،
وإذا قال أول عبد أشتريه فهو حر فاشترى عبدا عتق لأن الأول اسم لفرد سابق. فإن اشترى عبدين معا ثم آخر لم يعتق واحد منهم لانعدام التفرد في الأولين، والسبق في الثالث فانعدمت الأولية، وإن قال أول عبد أشتريه وحده، فهو حر عتق الثالث؛ لأنه يراد به التفرد في حالة الشراء، لأن وحده للحال لغة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: لأن الحرية عبارة عن قدرة حكمية تثبت في المحل يحنث بدفع تسلط الغير عليه والميت ليس بأهل للقوة الحكمية المذكورة.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن مطلق اسم الولد مقيد بوصف الحياة) ش: تصحيح الكلام العاقل، ولو لم يقيد بوصف الحياة صار لغوًا م: (لأنه قصد إثبات الحرية جزاء) ش: يعني من حيث الجزاء.
م: (وهي) ش: أي الحرية م: (قوة حكمية تظهر في دفع تسلط الغير عليه ولا تثبت) ش: أي القوة الحكمية م: (في الميت) ش: لأنه ليس بأهل لذلك م: (فيتقيد) ش: أي الولد م: (بوصف الحياة فصار كما إذا قال إذا ولدت ولدًا حيًا) ش: فولدت ولدًا حيًا ولم يوجد.
م: (بخلاف جزاء الطلاق) ش: في قوله لامرأته: إن ولدت ولدًا فأنت طالق فولدت ولدًا يقع الطلاق م: (وحرية الأم) ش: في قوله لأمته إذا ولدت ولدًا فأنت حرة فولدت ولدًا ميتًا يقع العتق م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من جزاء الطلاق وحرية الأم م: (لا يصلح مقيدًا) ش: للحياة لاستغنائهما عن حياة الولد.
ولهذا إذا وضعت الولد بالموت صريحًا، وعلق الطلاق وحرية الأم، وبه قال إذا ولدت ولدًا ميتًا فأنت طالق، أو قال فأنت حرة، كان صحيحًا.
[قال أول عبد أشتريه فهو حر فاشترى عبدا]
م: (وإذا قال أول عبد أشتريه فهو حر فاشترى عبدًا عتق، لأن الأول اسم لفرد سابق) ش: لا يشاركه غيره فيه، فالذي اشتراه فرد سابق فيعتق م: (فإن اشترى عبدين معًا) ش: يعني بصفة واحدة م: (ثم آخر) ش: يعني ثم اشترى عبدًا آخر م: (لم يعتق واحد منهم، لانعدام التفرد في الأولين) ش: أي في العبدين الأولين م: (والسبق) ش: أي ولانعدام السبق م: (في الثالث) ش: أي في العبد الثالث م: (فانعدمت الأولية) ش: يعني لم توجد.
م: (وإن قال: أول عبد أشتريه وحده فهو حر عتق الثالث لأنه يراد به التفرد في حالة الشراء، لأنه وحده للحال لغة) ش: أي حال كونه وحده، وفي قوله: لغة نظر، لأن وحده حال من جهة(6/212)
والثالث سابق في هذا الوصف،
وإن قال آخر عبد اشتريته فهو حر فاشترى عبدا ومات لم يعتق لأن الآخر فرد لاحق ولا سابق له، فلا يكون لاحقا، ولو اشترى عبدا ثم عبدا ثم مات عتق الآخر لأنه فرد لاحق فاتصف بالآخرية، ويعتق يوم اشتراه وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - حتى يعتبر من جميع المال، وقال يعتق يوم مات حتى يعتبر من الثلث، لأن الآخرية لا تثبت إلا بعدم شراء غيره بعده وذلك يتحقق بالموت، فكان الشرط متحققا عند الموت، فيقتصر عليه. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الموت معرف، فأما اتصافه بالآخرية من وقت الشراء فيثبت مستندا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإعراب لا من جهة اللغة.
م: (والثالث) ش: أي العبد الثالث م: (سابق في هذا الوصف) ش: لأنه هو التوحد في الشراء بخلاف قوله أول عبد أشتريه واحدًا فاشترى عبدين ثم آخر لا يعتق واحد منهم لانعدام الأولية.
لأن العبدين ليسا بفرد سابق، والفرق بين قوله وحده، وبين قوله واحدًا أن الواحد يقتضي الانفراد في الذات، ووحده يقتضي الانفراد في الفعل المقرون به، ألا ترى أنه لو قال في الدار رجل واحد كان صادقًا إذا كان معه صبي أو امرأة بخلاف ما إذا قال في الدار رجل وحده [كان] كاذبًا إذا كان معه صبي أو امرأة.
[قال آخر عبد اشتريته فهو حر فاشترى عبدا ثم مات]
م: (وإن قال: آخر عبد اشتريته فهو حر فاشترى عبدًا ثم مات) ش: أي المولى م: (لم يعتق، لأن الآخر فرد لاحق ولا سابق له، فلا يكون لاحقًا) ش: فلا يعتق لعدم الشرط، ولأنه أول فلا يكون آخرًا، لأنه ليس من صفات المخلوقين أن يكون الواحد أولًا وآخرًا، وإنما هو من صفات الباري عز وجل.
م: (ولو اشترى عبدًا ثم عبدًا) ش: أي ثم اشترى عبدًا آخر م: (ثم مات عتق الآخر، لأنه فرد لاحق، فاتصف بالآخرية ويعتق يوم اشتراه. وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - حتى يعتبر من جميع المال) ش: إذا كان الشراء في وقت الصحة م: (وقالا: يعتق يوم مات حتى يعتبر من الثلث، لأن الآخرية لا تثبت إلا بعدم شراء غيره بعده وذلك) ش: أي عدم شراء غيره م: (يتحقق بالموت) ش: أي بموت الولي م: (فكان الشرط متحققًا عند الموت، فيقتصر عليه) ش: أي فيقتصر العتق على زمان الموت، فيعتق قبيل الموت بلا فصل.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الموت معرف) ش: أي غير شرط له يعرف أن العبد الثاني هو آخر عبد اشتراه م: (فأما اتصافه بالآخرية من وقت الشراء) ش: يعني هذه الصفة حصلت له من وقت الشراء، إلا أن هذه الصفة تعرض للزوال بأن يشتري غيره بعده.
فإذا مات ولم يشتر لم يوجد ما يبطلها م: (فيثبت) ش: أي العتق م: (مستندًا) ش: إلى وقت كان آخرًا من وقت الشراء.(6/213)
وعلى هذا الخلاف تعليق الطلقات الثلاث به، وفائدته تظهر في حرمان الإرث وعدمه. ومن قال: كل عبد بشرني بولادة فلانة فهو حر فبشره ثلاثة متفرقين عتق الأول لأن البشارة اسم لخبر يغير بشرة الوجه، ويشترط كونه سارا بالعرف، وهذا إنما يتحقق من الأول، وإن بشروه معا عتقوا؛ لأنها تحققت من الكل،
ولو قال: إن اشتريت فلانا فهو حر فاشتراه ينوي به كفارة يمينه لم يجزئه، لأن الشرط قران النية بعلة العتق وهي اليمين، فأما الشراء فشرطه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعلى هذا الخلاف) ش: المذكور م: (تعليق الطلقات الثلاثة به) ش: أي بوصف الآخرية أو بلفظ الآخر بأن قال آخر امرأة تزوجها فهي طالق ثلاثًا فتزوج امرأة ثم امرأة ثم مات تطلق الثانية من حين تزوجها ولا ترث، وعندهما تطلق في آخر حياة الزوج، ويصير الزوج فارًا فترث المرأة وأشار إليه بقوله م: (وفائدته) ش: أي فائدة الخلاف المذكور م: (تظهر في حرمان الإرث) ش: أي من الزوج م: (وعدمه) ش: أي وعدم الحرمان، وقد مر بيانه.
م: (ومن قال: كل عبد بشرني بولادة فلانة فهو حر، فبشره ثلاثة) ش: أي ثلاثة عبيد حال كونهم م: (متفرقين عتق الأول) ش: أي العبد الأول م: (لأن البشارة اسم لخبر يغير بشرة الوجه) ش: من السرور. فالحاصل أن البشارة اسم لخبر غائب عن المخبر علمه، وقد يكون بالشر، وقد يكون بالخير، لأنه في العرف مستعمل فيما بينه وبين الخبرية، ويتحقق من واحد وأكثر بأن أخبروه في هذه المسألة مجتمعين عتقوا، لأن البشارة حصلت منهم، وإن أخبروه متفرقين عتق الأول خاصة م: (ويشترط كونه سارًا) ش: أي كون هذا الخبر سارًا م: (في العرف) ش: لما ذكرنا أنه يستعمل في الخير والشر.
م: (وهذا) ش: أي كون هذا الخبر سارًا يغير به بشرة الوجه م: (إنما يتحقق من الأول) ش: أي العبد الأول، لأن الثاني أخره لما كان معلومًا عنده، فلا تتغير به عندهما م: (ولو بشروه معًا) ش: يعني مجتمعين م: (عتقوا) ش: جميعًا م: (لأنها) ش: أي لأن البشارة على الوجه المذكور م: (تحققت من الكل) ش: فيعتق الكل وقد ذكرناه.
[قال إن اشتريت فلانا فهو حر فاشتراه ينوي به كفارة يمينه]
م: (ولو قال: إن اشتريت فلانًا فهو حر فاشتراه ينوي به كفارة يمينه لم يجزئه) ش: أي عن الكفارة م: (لأن الشرط) ش: أي شرط الخروج عن عهدة التكفير م: (قران النية) ش: أي نية التكفير م: (بعلة العتق وهو اليمين) ش: سمي جزاء اليمين، وهو قوله أنت حر يمينًا، لأن الجزاء معظم اليمين، إذ اليمين تختلف الأجزية، يقال يمين الطلاق ويمين العتاق.
وإنما ذكر الضمير في قوله وهو اليمين باعتبار المذكور والأصل وهو اليمين، وكذا هو في بعض النسخ، وهي اليمين ولم يوجد منه التكفير وقت يمينه، لأن الكلام فيه م: (وأما الشراء فشرطه) ش: أي شرط العتق، ولا أثر للشرط في العتق، فيكون معتقًا بيمينه ولم يقرن نية الكفارة بها، حتى لو اقترنت جاز، كذا في " المبسوط ".(6/214)
وإن اشترى أباه ينوي عن كفارة يمينه أجزأه عندنا، خلافًا لزفر والشافعي - رحمهما الله. لهما أن الشراء شرط العتق، فأما العلة فهي القرابة، وهذا لأن الشراء إثبات الملك والإعتاق إزالته، وبينهما منافاة، ولنا أن شراء القريب إعتاق لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه» جعل نفس الشراء إعتاقًا، لأنه لا يشترط غيره، فصار نظير قوله سقاه فأرواه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حاصله أن نية الكفارة لم تقترن بعلة العتق، بل اقترنت بشرط العتق، وليس للشرط أثر في إيجاب العتق، لأن العتق يثبت بقول سابق، وهو قوله فهو حر نصًا، كأنه قال: عبدي حر ثم نوى عن كفارة يمينه لا يجوز، فكذا هو.
[اشترى أباه نوى عن كفارة يمينه]
م: (وإن اشترى أباه ينوى عن كفارة يمينه أجزأه عندنا، خلافًا لزفر والشافعي - رحمهما الله) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولًا.
م: (ولهما) ش: أي زفر والشافعي - رحمهما الله - م: (أن الشراء شرط الإعتاق، وأما العلة فهي القرابة) ش: المتقدمة، فصار كعتقه يمين متقدمة، وإنما اقترنت النية بالشراء الذي هو الشرط لا بالعلة. والدليل على أن استحقاق العتق بالقرابة أن أحد الشريكين إذا ادعى نسبة فضمن شريكه نصيبه كما لو أعتقه م: (وهذا) ش: أي كون الشراء شرطًا لا علة م: (لأن الشرط إثبات الملك) ش: وهو ظاهر م: (والإعتاق إزالته) ش: لأنه ليس بإثبات للملك م: (وبينهما منافاة) ش: فلا يكون الشراء إعتاقًا.
م: (ولنا أن شراء القريب إعتاقه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه» ش: هذا الحديث أخرجه الجماعة غير البخاري كلهم عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا يجزي ولد....» الحديث.
م: (جعل نفس الشراء إعتاقًا) ش: أي الحديث أو الشارع بعين الشراء إنما قالا: محال م: (لأنه لا يشترط) ش: أي في الحديث م: (غيره) ش: أي غير الشراء بالإجماع، فلا يحتاج إلى إعانة آخر ومثله وارد في كلام العرب، أشار إليه بقوله: م: (وصار نظير قوله: سقاه فأرواه) ش: أي بالنفي نفسه، وكذا يقال ضربه فأوجعه، أي نفس الضرب. وقال الأكمل: قوله سقاه فأرواه، جواب عما يقال عطف الإعتاق على الشراء بألف، وهو يقتضي الذي بزمان، وإن عطف فلا يكون نفسه.
ووجهه أن الفعل إذا عطف على فعل آخر بألف كان الثاني ثابتًا بالأول في كلام العرب،(6/215)
ولو اشترى أم ولده لم يجزئه، ومعنى هذه المسألة أن يقول لأمة قد استولدها بالنكاح إن اشتريتك فأنت حرة عن كفارة يمين، ثم اشتراها فإنها تعتق لوجود الشرط، ولا يجزئه عن الكفارة، لأن حريتها مستحقة بالاستيلاد، فلا تضاف إلى اليمين من كل وجه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يقال ضربه فأوجعه وأطعمه فأشبعه، وسقاه فأرواه أي بذلك الفعل لا بغيره، وفيه بحسب وهو أن شراء القريب هل يثبت الملك للمشتري القريب أو لا؟، فإن أثبته لا يزيله، لأن المثبت بعينه لا يكون مزيدًا.
وإن لم يثبت لا يعتق عليه، لأنه لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم لا يقال شراء القريب يثبت الملك، لأن ثبوت الملك في القريب إعتاق بواسطة موجبة، وهو ثبوت الملك، لأنه أسند استحالته لأنه يلزم أن يكون مثلث الشيء، ونفي ثبوته إزالة له.
والجواب أن قولهم: ثبوت الملك في القريب إعتاق معناه أن الشرع أخرج القريب عن محلية الملك بقاء، كما أنه أخرج الحر عن محليته ابتداء وبقاء، وهذا لأن العتق لا يقع إلا في الملك. فلو لم يقل بثبوت الملك ابتداء لم يتصور زواله.
ثم إن المصنف قال: ومن اشترى أباه، وكذا الحكم إذا اشترى أخاه، وكذلك على الخلاف المذكور إذا وهب له أبوه أو تصدق به عليه أو أوصى له به، وهو نوى عن كفارته كذا ذكر شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الكافي ".
ولو ورث أباه ينوي به الكفارة لا يجزئه هذا الميراث يدخل في ملك الوارث بدون صنعه واختياره. والتكفير يتأدى بالتجويز الذي هو صفة. وفي الهبة والصدقة والوصية تحصيل صنعه وهو القبول.
[يقول لأمة قد استولدها بالنكاح إن اشتريتك فأنت حرة عن كفارة يميني فاشتراها]
م: (ولو اشترى أم ولده ولم يجزئه) ش: عن الكفارة م: (ومعنى هذه المسألة) ش: وهي من مسائل " الجامع الصغير " م: (أن يقول لأمة قد استولدها بالنكاح: إن اشتريتك فأنت حرة عن كفارة يميني فاشتراها فإنها تعتق لوجود الشرط) ش: وهو الشراء م: (ولا يجزئه عن الكفارة، لأن حريتها مستحقة بالاستيلاد، فلا تضاف إلى اليمين من كل وجه) ش: لأن الموجب باليمين ما يستحق حريتها من كل وجه، وهو معنى قوله فلا تضاف أي الحرية إلى اليمين من كل وجه. ولقائل أن يقول القريب مستحق للعتق بالشراء كما أن أم الولد مستحقة له بالاستيلاد، فما بالها لم تعتق إذا اشتراها بنية الكفارة بعد التعليق كما عتق القريب. والجواب أن الاستيلاد فعل اختياري من جهة المستولد، فكانت الحرية من جهتين، جهة الاستيلاد والشراء، فلم يقع عن الكفارة من كل وجه، بخلاف القرابة فإنها ليست كذلك، فلم يكن من جهة القريب في حريته سوى الشراء، فإذا اشتراه ناويًا بالكفارة كانت الحرية عن الكفارة من كل وجه.(6/216)
بخلاف ما إذا قال لأمة إن اشتريتك فأنت حرة عن كفارة يميني حيث يجزيه عنها إذا اشتراها، لأن حريتها غير مستحقة بجهة أخرى فلم تختل الإضافة إلى اليمين وقد قارنته النية، ومن قال: إن تسريت جارية فهي حرة فتسرى جارية كانت في ملكه عتقت، لأن اليمين انعقدت في حقها لمصادقتها الملك، وهذا لأن الجارية منكرة في هذا الشرط، فيتناول كل جارية على الانفراد،
وإن اشترى جارية فتسرى بها لم تعتق بهذه اليمين، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يقول التسري لا يصح إلا في الملك، فكان ذكره ذكر الملك، فصار كما إذا قال لأجنبية إن طلقتك فعبدي حر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بخلاف ما إذا قال لأمة) ش: وفي بعض النسخ لقنة م: (إن اشتريتك فأنت حرة عن كفارة يمين حيث يجزئه عنها) ش: أي عن كفارة يمين م: (إذا اشتراها، لأن حريتها غير مستحقة بجهة أخرى) ش: وإنما هي بالشراء م: (فلم تختل الإضافة إلى اليمين) ش: أي إضافة الحرية إلى اليمين لم تنحل لعدم استحقاقه القنية الحرية م: (وقد قارنته النية) ش: أي والحال أن نية الكفارة قارنت الشراء.
م: (ومن قال: إن تسريت جارية فهي حرة فتسرى جارية كانت في ملكه عتقت، لأن اليمين انعقدت في حقها لمصادقتها الملك) ش: وكل من انعقد في حقه اليمين إذا وجد الشرط فيه يترتب على الجزاء. واعلم أن معنى تسريت اتخذت سرية وهي فعلية منسوبة إلى السر، وهو الجماع أو الخفاء إلى الدهر دهري بالضم، وإلى الأرض السهلة سهيلي، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تسرى معنى لغوي وشرعي أما في اللغة فالتسري مأخوذ من السرية واحدة السرايا، وهي الأمة التي يبوء لها بيت وكان الأخفش يقول: إنها مشتقة من السرور، لأنه لوثها، يقال تمر تسرت وتسريت أيضًا كما يقال بطست وبطن قلبت أحد النونين ياء. وقيل السرية مأخوذة من السرى وهو السيد، لأنه إذا اتخذها سرية فقد جعلها سيدة الجواري.
وأما في الشرع فالتسري عبارة عن التحصين من الوطء، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه. وقال في وجه الوطء مع الإنزال والتحصين. وقال في وجه: يكفي الوطء، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يشترط مع الوطء طلب الولد، حتى لو وطئها وعزل عنها لا تكون بسرية عنده، وعندهما السري عبارة عن أن يبوئها بيتًا ويحصنها وإن لم يطلب ولدها.
م: (وهذا) ش: توضيح لانعقاد اليمين في حقها م: (لأن الجارية منكرة في هذا الشرط، فيتناول كل جارية على الانفراد) ش: لأن النكرة وقعت في موضع النفي فعمت.
[اشترى جارية فتسرى بها]
م: (وإن اشترى جارية فتسرى بها لم تعتق، خلافًا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فعنده تعتق في الحالين م: (فإنه) ش: أي فإن زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يقول: التسري لا يصلح إلا في الملك، فكان ذكره ذكر الملك لا يصح إلا به، وصار كما إذا قال لأجنبية: إن طلقتك فعبدي حر، يصير(6/217)
يصير التزوج مذكورا. ولنا أن الملك يصير مذكورا ضرورة صحة التسري، وهو شرط فيتقدر بقدره، فلا يظهر في حق صحة الجزاء، وهو الحرية، وفي مسألة الطلاق إنما يظهر في حق الشرط دون الجزاء، حتى لو قال لها إن طلقتك فأنت طالق ثلاثا فتزوجها وطلقها واحدة لا تطلق ثلاثا فهذه وزان مسألتنا.
ومن قال: كل مملوك لي حر تعتق أمهات أولاده ومدبروه وعبيده لوجود الإضافة المطلقة في هؤلاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التزوج مذكورًا) ش: دلالة، لأن الطلاق يصرف فلا يصح بدون متابعة النكاح، فكأنه قال: إن نكحتك وطلقتك فعبدي حر.
فإن قيل: هذا قول بالاقتضاء، وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقول باقتضاء يحتاج فيه إلى التكفير بخلاف الدالة، فإن الثابت بها يفهم، ولهذا عند فلان سرية يفهم منه في أول الوهلة أن عنده جارية موطوءة، فلا يرد عليه السؤال.
م: (ولنا أن الملك يصير مذكورًا ضرورة صحة التسري، وهو شرط) ش: أي التسري شرط م: (فيتقدر بقدره) ش: أي يتقدر الملك بقدر الضرورة، وكذا الضمير الراجع إلى الضرورة بالذكر على تأويل الاضطرار م: (فلا يظهر في حق صحة الجزاء، وهو الحرية) ش: فلم يصح اليمين في حق الأمة المشتراة م: (وفي مسألة الطلاق) ش: جواب عن قوله كما إذا قال لأجنبية، تقريره أن في مسألة الطلاق، وهي إذا قال لأجنبية: إن طلقتك فعبدي حر م: (إنما يظهر) ش: أي إنما يظهر ملك النكاح.
م: (في حق الشرط) ش: يعني في حق الطلاق الذي هو شرط م: (دون الجزاء) ش: يعني لا يظهر في حق الجزاء م: (حتى لو قال لها) ش: أي لأجنبية م: (إن طلقتك فأنت طالق ثلاثًا فتزوجها وطلقها) ش: يعني واحدة م: (لا تطلق ثلاثة) ش: لأن ملك النكاح ثبت اقتضاء ضرورة صحة الشرط. فلم يظهر في حق صحة الجزاء.
م: (فهذه وزان مسألتنا) ش: أي هذه المسألة وهي قوله إن طلقتك فأنت طالق فتزوجها وطلقها لا تطلق ثلاثًا نظير مسألتنا، وهي قوله: إن سريت جارية فهي حرة، لأن في كل منهما لم يظهر الملك الثابت ضرورة في حق صحة الجزاء، ونظير مسألة زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهي قوله لأجنبية: إن طلقتك فعبدي حر، أي إذا قال: لا تسريت جارية فعبدي حر فتسراها فشراها يعتق العبد، كما إذا تزوجها فطلقها يعتق العبد، لأن الملك قائم في العبد في الحال في الصورتين جميعًا.
فالحاصل أن الملك وقع شرطًا للشرط الذي هو الطلاق والسرى، فلا يكون بشرط الشرط شرطًا للجزاء.
[قال كل مملوك لي حر]
م: (ومن قال كل مملوك لي حر يعتق أمهات أولاده ومدبروه وعبيده لوجود الإضافة المطلقة في هؤلاء) ش: يعني أن كل واحد من هؤلاء بالإضافة إلى نفسه بقوله لي كامل.(6/218)
إذ الملك ثابت فيهم رقبة ويدا ولا يعتق مكاتبوه إلا أن ينويهم، لأن الملك غير ثابت يدا، ولهذا لا يملك اكتسابه ولا يحل له وطء المكاتبة، بخلاف أم الولد والمدبرة، فاختلت الإضافة فلا بد من النية. ومن قال لنسوة له هذه طالق أو هذه وهذه طلقت الأخيرة، وله الخيار في الأوليين لأن كلمة أو لإثبات أحد المذكورين، وقد أدخلها بين الأوليين، ثم عطف الثالثة على المطلقة، لأن العطف للمشاركة في الحكم، فيختص بمحل، فصار كما إذا قال إحداكما طالق وهذه، وكذا إذا قال لعبد له هذا حر أو هذا وهذا عتق الأخير، وله الخيار في الأولين لما بينا، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إذ الملك ثابت فيهم رقبة ويدًا) ش: فإذا كان كذلك دخلوا بحيث كل فيعتقون م: (ولا يعتق مكاتبوه إلا أن ينويهم، لأن الملك غير ثابت يدًا، ولهذا لا يملك اكتسابه) ش: أي اكتساب المكاتب م: (ولا يحل له وطء المكاتبة) ش: فكان المكاتب مملوكًا من وجه دون وجه م: (بخلاف أم الولد والمدبرة فاختلت الإضافة) ش: أي إضافة الملك إلى المكاتب. م: (فلا بد من النية) ش: فإذا نوى عملت بنيته وكذا معتق البعض لا يعتق إلا بالنية.
وفي " المبسوط " ولو نوى بقوله كل مملوك لي الرجال دون النساء يصدق ديانة لا قضاء، لأنه نوى التخصيص بوصف ليس في لفظه، ولا عموم لا لفظ له، فلا يعمل بنيته، بخلاف الرجال، لأن لفظ المملوك للرجال حقيقة دون النساء، ويقال: للأنثى مملوكة، وليس عند الاختلاط مستعمل لهما المملوكة عادة ولو نوى الذكر فقد نوى حقيقة كلامه ولكنه خلاف الظاهر، فلا يصدق قضاء ويصدق ديانة. ولهذا لو نوى النساء وحدها لا يصدق ديانة ولا قضاء. ولو قال لم أنو المدبر لم يصدق قضاء وديانة. وفي رواية يصدق ديانة.
م: (ومن قال لنسوة له: هذه طالق أو هذه وهذه طلقت الأخيرة، وله الخيار في الأوليين) ش: أي في تعيين إحداهما م: (لأن أو لإثبات أحد المذكورين) ش: أي لإحدى الأوليين م: (وقد أدخلها بين الأوليين ثم عطف الثالثة على المطلقة لأن العطف للمشاركة في الحكم، فيختص بمحله) ش: أي يختص العطف محل الحكم، ومحل الحكم المطلقة من إحدى الأوليين، فكانت الثالثة طالقًا، لأن الواو تقتضي الاشتراك في الحكم، والحكم هذا هو الطلاق م: (فصار كما إذا قال: إحداكما طالق وهذه، وكذا إن قال لعبد له هذا حر أو هذا وهذا عتق الأخير، وله الخيار في الأوليين) ش: أي في تعيين أحد العبدين الأولين. وأما الآخر فيعتق بلا شك.
فإن قلت: لم لا يكون الشك في المرأة الثالثة أيضًا، لأن الواو للجمع، وقد جمع الثالثة مع الثانية، وفي الثانية شك فينبغي أن يقع الشك في الثالثة، ولهذا قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: [ ... ] ، ويخير بين أن يوقع على الأولى أو على الأخريين، كما إذا قال: هذه طالق أو هاتان، ذكر قولهما في " جامع السغناقي ".(6/219)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: نعم إنها للجميع لكنه ذكر الثالثة بعد وقوع الطلاق على أحد الأوليين غير عين فاقتضت الجمع بين طلاق الثالثة وبين طلاق إحدى الأوليين، فصارت الثالثة مرادة بإيجاب الطلاق.
وكذا العبد الثالث، فكأنه قال: إحداكما طالق. وقال الحاكم الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الكافي " إذا قال: أنت طالق وفلانة فالأولى طالق، والخيار في الأخريين.
فإن قلت: العطف كما يصح على من وقع عليه الحكم يصح أيضًا على من لم يقع عليه الحكم، والأصل عدم الحكم، فيعطف على من يقع عليه الحكم، كما في قوله والله لا أكلم فلانًا أو فلانًا، فإنه إن كلم الأول حنث، وإن كلم أحد الآخرين لم يحنث حتى كلمهما، ويكون الثالث معطوفًا على الثاني الذي لم يقع عليه الحكم منفردًا. وهذا لأن الجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع، فصار كأنه قال: هذه طالق أو هاتان، فحينئذ كان هو مخيرًا في الطلاق والعتاق إن شاء أوقع على الأولى، وإن شاء أوقع على الأخريين.
قلت: أجيب بأن هذا الذي ذكرته هو رواية ابن سماعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فأما الذي ذكره في الكتب فهو ظاهر الرواية والعرف بين ظاهر الرواية في الطلاق والعتاق، وبين قوله: والله لا أكلم فلانًا أو فلانًا وفلانًا في أن الثالث معطوف على الثاني الذي لم يقع عليه الحكم، وهو مسألة الجامع هو أن كلمة " أو " إذا دخلت بين شيئين يتناول أحدهما، فإذا عطف الثالث على إحداهما صار كأنه قال أحدكما طالق وهذه، ولو عطف على هذا كان الحكم ما قلنا.
أما في مسائل الجامع فالموضع موضع الشيء لا يعم، كما في قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] (الإنسان: الآية 24) .، فصار كأنه قال والله لا أكلم فلانًا ولا فلانًا، فلما ذكر الثالث بحرف الواو صار كأنه قال ولا هذين. ولو قضى على هذا كان الحكم هكذا فكذا هذا.(6/220)
باب اليمين في البيع والشراء والتزوج وغير ذلك ومن حلف لا يبيع أو لا يشتري أو لا يؤاجر فوكل من فعل ذلك لم يحنث لأن العقد وجد من العاقد، حتى كانت الحقوق عليه، ولهذا لو كان العاقد هو الحالف يحنث في يمينه، فلم يوجد ما هو الشرط وهو العقد من الآمر، وإنما الثابت له حكم العقد، إلا أن ينوي ذلك، لأن فيه تشديدا أو يكون الحالف ذا سلطان لا يتولى العقد بنفسه، لأنه يمنع نفسه عما يعتاده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب اليمين في البيع والشراء والتزوج وغيره] [حلف لا يبيع ولا يشتري أو لا يؤاجر فوكل من فعل ذلك]
م: (باب اليمين في البيع والشراء والتزوج وغير ذلك)
ش: أي هذا باب في بيان أحكام اليمين إلى آخره. قوله: وغير ذلك. أي في الطلاق والعتاق والضرب، كما إذا قال: لا يطلق ولا يعتق ولا يضرب فأمر غيره بذلك، وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
ولما كانت التصرفات في الأيمان في هذه الأشياء أكثر وقوعًا بالنسبة إلى اليمين في الحج والصلاة والصوم، قدم هذا الباب على باب اليمين في الحج.
م: (ومن حلف لا يبيع ولا يشتري أو لا يؤاجر فوكل من فعل ذلك لم يحنث) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأظهر. وقال مالك وأحمد - رحمهما الله: يحنث، لأن الفعل يطلق على الموكل بالأمر يصير كأنه فعله بنفسه، كما لو حلف لا يحلق رأسه فأمر غيره بحلقه يحنث م: (لأن العقد وجد من العاقد حتى كانت الحقوق عليه) ش: أي على الوكيل والحقوق مثل تسليم المبيع، فإذا كان بائعًا قبضه إذا كان مشتريًا، وقبض الثمن إذا كان بائعا والرجوع على البائع عند ظهور الاستحقاق والخصومة في العيب.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون عدم الحنث عند وجود العقد من غير الحالف م: (لو كان العاقد هو الحالف يحنث في يمينه) ش: لوجود الشرط الذي هو العقد منه، وقوله م: (فلم يوجد ما هو الشرط وهو العقد من الآمر) ش: من تتمة تعليل قوله لم يحنث، لأن شرط الحنث وهو عقد الحالف على هذه الأشياء لم يوجد منه، وإنما وجد من المأمور م: (وإنما الثابت له حكم العقد) ش: هذا جواب عما قال الخصم إن هذا العقد ثابت له لا للآمر، وتقريره أن الثابت للآمر حكم العقد وهو الملك.
م: (إلا أن ينوي ذلك) ش: قوله: لم يحنث، أي إلا إن نوى الحالف أن لا يأمر غيره أيضًا، فحينئذ يحنث م: (لأن فيه تشديدًا) ش: أو تغليظًا عليه م: (أو يكون الحالف ذا سلطان) ش: أي ذا شوكة م: (لا يتولى العقد بنفسه، لأنه يمنع نفسه عما يعتاده) ش: أي لأن ذا سلطان كالقاضي ونحوه إذا منع نفسه عن الفعل يمنعها بما هو عادة له في ذلك الفعل، فإذا حلف لا يبيع ولا يشتري فكأنه قال لا آمر بالبيع ولا آمر بالشراء، بدلالة الحال فيحنث في يمينه بفعل المأمور.
واعلم: أن الضابط في هذه التصرفات لأصحابنا فيما يحنث بفعل المأمور، وفيما لا يحنث(6/221)
ومن حلف لا يتزوج أو لا يطلق أو لا يعتق فوكل بذلك حنث؛ لأن الوكيل في هذا سفير ومعبر، ولهذا لا يضيفه إلى نفسه بل إلى الآمر وحقوق العقد ترجع إلى الآمر لا إليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شيئان، أحدهما أن كل فعل يرجع الحقوق فيه إلى المباشرة، فالحالف لا يحنث لمباشرة المأمور، وهو الذي ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله: ومن حلف لا يبيع ... إلى آخره. وذكر ثلاثة أشياء البيع والشراء والإجارة.
وفي هذا الباب التزويج والاستجارة والصلح عن مال القسمة والخصومة وضرب الولد. والثاني هو الذي لا يتعلق الحقوق بالمباشرة، بل بالآمر، ولم يكن له حقوق، فحينئذ يكون فعل المأمور كفعل الآمر، وهو الذي أشار إليه بقوله:
[حلف لا يتزوج أو لا يطلق أو لا يعتق فوكل بذلك]
م: (ومن حلف لا يتزوج أو لا يطلق أو لا يعتق) ش: وذكر ثلاثة أشياء في هذا القسم، ومن هذا الباب المكاتبة والصلح عن دم العمد والهبة والصدقة والقرض والاستقراض وضرب الولد والريح والبناء والخياطة والإبداع والاستبداع والإعارة والاستعارة وقضاء الدين والقبض والكسوة والحمل وأحد الثلاثة التي ذكرها التزويج، فإنه إذا حلف لا يتزوج م: (فوكل بذلك حنث) ش: وقال في " نوادر هشام " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا زوجه غيره امرأة بغير إذن الحالف ثم إن الحالف أجازه.
قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحنث. وفي " مسائل أهل البصرة " فيما كتبوا إلى محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا حلف لا أتزوج فوكل وكيلًا بالنكاح لا يحنث، وهو خلاف الأصل، كذا ذكر الناطفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأجناس "، فوكل بذلك، أي بكل واحد من التزوج والطلاق والعتاق يحنث.
وبه قال مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه، ذكره في " تتمتهم ". وقال في " الوجيز " و " التنبيه " وأكثر كتبهم: لا يحنث لعدم الفعل منه، ولهذا يصدق ما نكح فلان، وإنما قيل له الوكيل في النكاح كما في البيع ونحوه، وقلنا تحرم بالحنث.
م: (لأن الوكيل في هذا سفير) ش: قال في " المغرب ": السفير الرسول المصلح بين القوم، ومنه الوكيل سفيرًا م: (ومعبر) ش: من التعبير، وهو الذي يعبر، أي بغير الوكيل، كما يقع بينه وبين الموكل من الآمر الذي وكله فيه.
م: (ولهذا) ش: أي ولكونه سفيرًا معبرًا م: (لا يضيفه) ش: أي لا يضيف الموكل إلى ما وكل فيه م: (إلى نفسه، بل إلى الآمر) ش: أي بل يضيفه إلى الآمر وهو الموكل، فصار كأن الموكل فعله بنفسه م: (وحقوق العقد) ش: أي في الأشياء الثلاثة المذكورة م: (ترجع إلى الآمر) ش: وهو الموكل م: (لا إليه) ش: أي لا ترجع الحقوق إلى الأمور، وهو الوكيل والحقوق ظاهرة، وهي وجوب(6/222)
ولو قال: عنيت أن لا أتكلم به لم يدين في القضاء خاصة، وسنشير إلى المعنى في الفرق إن شاء الله تعالى. ولو حلف لا يضرب عبده أو لا يذبح شاته فأمر غيره ففعل يحنث في يمينه؛ لأن المالك له ولاية ضرب عبده وذبح شاته فيملك تولية غيره، ثم منفعته راجعة إلى الآمر، فيجعل هو مباشرا إذ لا حقوق له يرجع إلى المأمور، ولو قال: عنيت أن لا أتولى ذلك بنفسي دين في القضاء، بخلاف ما تقدم من الطلاق وغيره. ووجه الفرق أن الطلاق ليس إلا تكلم بكلام يفضي إلى وقوع الطلاق عليها، والآمر بذلك مثل التكلم به، واللفظ ينتظمهما فإذا نوى التكلم به فقد نوى الخصوص في العام فيدين ديانة لا قضاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المهر في التزوج ووقوع الطلاق ووقوع العتاق.
[حلف لا يضرب عبده أو لا يذبح شاته فأمر غيره ففعل]
م: (ولو قال: عنيت أن لا أتكلم به) ش: أي بلفظ التزوج والتطليق والإعتاق م: (لم يدن) ش: أي لم يصدق م: (في القضاء) ش: لأنه خلاف الظاهر، وقيد بقوله م: (خاصة) ش: لأنه يصدق ديانة، لأنه نوى شيئًا يحتمله لفظه، فصحت النية والله يعلم الباطن. م: (وسنشير إلى المعنى في الفرق إن شاء الله تعالى) ش: أراد به قوله في المتن، ووجه الفرق كأن الطلاق ليس تكلم إلا بكلام يفضي إلى وقوع الطلاق عليها إلى آخر ما قال.
م: (ولو حلف لا يضرب عبده أو لا يذبح شاته فأمر غيره ففعل يحنث في يمينه) ش: وبه قال مالك وأحمد وعند الشافعي لا يحنث م: (لأن المالك له ولاية ضرب عبده وذبح شاته فيملك تولية غيره، ثم منفعته راجعة إلى الآمر فيجعل هو مباشرًا، إذ لا حقوق له يرجع إلى المأمور) ش: توضيحه أن الفعل ينبت إلى الآمر ليس فيه حقوق لا تتعلق بالمأمور ومنفعته تعود إلى الآمر، لأن العبد يكون مؤتمرًا سفيرًا بأمر الموالي، فكان فعل المأمور كفعل الآمر.
م: (ولو قال) ش: أي الحالف المذكور م: (عنيت أن لا أتولى ذلك بنفسي) ش: أي قصدت أن لا أتولى ضرب العبد أو ذبح الشاة بنفسي م: (دين في القضاء) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: صدق قضاء وديانة م: (بخلاف ما تقدم من الطلاق وغيره) ش: مثل النكاح والعتاق.
ثم أشار إلى الفرق بين الصورتين بقوله م: (ووجه الفرق) ش: وهذا هو الفرق الذي ذكر قبل هذا، وبيان وجهه م: (أن الطلاق ليس إلا تكلم بكلام يفضي إلى وقوع الطلاق عليها، والآمر بذلك) ش: أي بالطلاق والعتاق والنكاح م: (مثل التكلم به، واللفظ ينتظمهما) ش: أي ينتظم التكلم بذلك والآمر بذلك، لأن المأمور كالرسول، ولسان الرسول كلسان المرسل بالإجماع، فيكون التطليق بلسانه كالتطليق بنفسه.
فيكون ما سماه خلاف الظاهر، وهو متهم فيه، فلا يصدق قضاء، وهو معنى قوله م: (فإذا نوى التكلم به فقد نوى الخصوص في العام فيدين ديانة) ش: أي يصدق فيما بينه وبين الله تعالى م: (لا قضاء) ش: أي لا يصدق في القضاء، لأنه خلاف الظاهر كما ذكره.(6/223)
أما الذبح والضرب ففعل حسي يعرف بأثره، وبالنسبة إلى الآمر بالتسبيب مجازا فإذا نوى الفعل بنفسه فقد نوى الحقيقة فيصدق ديانة وقضاء، ومن حلف لا يضرب ولده فأمر إنسانا فضربه لم يحنث في يمينه؛ لأن منفعة ضرب الولد عائدة إليه وهو التأدب والتثقف فلم ينسب فعله إلى الآمر بخلاف الأمر بضرب العبد، لأن منفعة الائتمار بأمره عائدة إلى الآمر، فيضاف الفعل إليه.
ومن قال لغيره: إن بعت لك هذا الثوب فامرأته طالق فلبس المحلوف عليه ثوبه في ثياب الحالف فباعه ولم يعلم لم يحنث، لأن حرف اللام دخل على البيع فيقتضي اختصاصه به، وذلك بأن يفعله بأمره إذ البيع يجري فيه النيابة ولم يوجد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وأما الضرب) ش: أي ضرب العبد م: (والذبح) ش: أي ذبح الشاة م: (ففعل حسي يعرف بأثره) ش: ولا يحتاج فيه إلى الآمر، حتى يكون ضربًا أو ذبحًا م: (والنسبة إلى الآمر) ش: أي نسبة الفعل إلى الآمر م: (بالتسبيب) ش: أي سبيل التسبيب م: (مجازًا، فإذا نوى الفعل بنفسه فقد نوى الحقيقة، فيصدق، ديانة وقضاء) ش: وإن كان في ذلك تخفيف له. وقيل ذكر القضاء في مسألة الضرب رواية في الطلاق، لأنه في الموضعين إذا نوى المباشرة فقد نوى حقيقة كلامه فيصدق قضاء في الفصلين. و [به] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ومن حلف لا يضرب ولده فأمر إنسانًا فضربه، لم يحنث في يمينه، لأن منفعة ضرب الولد عائدة إليه) ش: أي إلى الولد م: (وهي) ش: أي المنفعة المذكورة م: (التأدب والتثقف) ش: يقال ثقفت الرمح فتثقف، أي سويته فاستوى.
حاصله أن يتأدب ويسلك الطرائق الحميدة، ويختار السير الصالحة ويتجنب الأفعال المستقبحة ويترك البزى والشهوة، فذلك منفعة خالصة للولد، وإن كان فيه منفعة للوالد أيضًا هاهنا فلم يجعل ضرب المأمور كضرب الآمر م: (فلم ينسب فعله إلى الآمر. بخلاف الآمر بضرب العبد لأن منفعة الائتمار) ش: أي الانقياد بأوامره والإطاعة للمولى عائدة إلى الآمر م: (بأمره فيضاف الفعل إليه) ش: أي إلى الآمر، أي لأن ضرب المأمور كضرب المولى فيحنث بضرب المأمور.
م: (ومن قال لغيره: إن بعت لك هذا الثوب فامرأته طالق، فلبس المحلوف عليه ثوبه) ش: أي أخفاه م: (في ثياب الحالف فباعه) ش: أي الحالف والحالف أنه لم يدر م: (ولم يعلم لم يحنث، لأن حرف اللام دخل على البيع فيقتضي اختصاصه به) ش: أي يقتضي اختصاص الفعل بالمحلوف عليه م: (وذلك بأن يفعله بأمره) ش: سواء كان العين مالكية أو لا م: (إذ البيع يجري فيه النيابة ولم يوجد) ش: أي الآمر، فلا يحنث، لأن تقدير الكلام إن بعت ثوبًا يومًا بوكالتك أو بأمرك ولم يوجد.
والأصل في معرفة ذلك أن يعرف أن اللام قد تكون للتمليك نحو المال لزيد، وقد تكون للتعليل نحو فعلت هذا لمرضاتك، أي لأجل ابتغاء مرضاتك، فلا يصرف لأحدهما إلا بوجود المرجح أو لتعذر صرفه إلى الآخر.(6/224)
بخلاف ما إذا قال: إن بعت ثوبا لك حيث يحنث إذا باع ثوبا مملوكا له، سواء كان بأمره أو بغير أمره علم بذلك أو لم يعلم، لأن حرف اللام دخل على العين لأنه أقرب إليه فيقتضي اختصاص العين به، وذلك بأن يكون مملوكا له. ونظيره الصياغة والخياطة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهنا أصلان آخران:
أحدهما: أن تصحيح الكلام مع مراعاة النظم أولى من تصحيحه مع تغير نظامه.
والآخر: أن كل فعل يجري فيه الوكالة قد يفعله الفاعل تارة لنفسه وتارة لغيره، وما يجوز فيه الوكالة لا يعمل لغيره فتتعين اللام فيه للملك، ففي المسألة المذكورة لم يحنث، لأن المعنى بعت لأجلك ولم يوجد البيع لأجل المحلوف عليه لعدم أمره.
[قال إن بعت ثوبا لك فباعه بأمره أو بغير أمره]
م: (بخلاف ما إذا قال: إن بعت ثوبًا لك حيث يحنث إذا باع ثوبًا مملوكًا له، سواء كان بأمره أو بغير أمره علم بذلك أو لم يعلم، لأن حرف اللام دخل على العين) ش: أي تعلق به م: (لأنه أقرب إليه فيقتضي اختصاص العين به) ش: أي بالمحلوف عليه، يعني لما كانت اللام مقرونة بالبيع، والبيع من الأفعال التي تملك بالعقد اقتضت أن يكون البيع مختصًا بالمحلوف عليه بأن يقع فعل البيع للمحلوف عليه ووقوعه لزمان يتبعه بأمر المحلوف عليه ولم يوجد البيع بأمره، فلا يحنث.
بخلاف ما إذا قال ثوبًا لك حيث يحنث إذا باعه بأمره أو بغير أمره، ولا يشترط العلم بذلك، لأن اللام لما قرنت بالعين وكانت أقرب إلى العين من الفعل اقتضت اختصاص العين بالمحلوف عليه، والاختصاص بأن يكون العين ملك للمحلوف عليه.
م: (وذلك بأن يكون مملوكًا له) ش: أي الاختصاص بالمحلوف عليه، بأن الثوب مملوكًا له، لأن اللام في هذه الصورة صارت العين، فأوجب ملك العين لا ملك الفعل تقدير يمينه إن بعت ثوبًا هو مملوك، فلو باع ثوبًا مملوكًا يحنث، سواء علم به أو لا.
وفي الدخول ونحوه يقع اليمين على تلك العين، سواء قدم اللام بأن قال: إن أكلت لك طعامًا أو شربت لك شرابًا، أو آخر بأن قال: طعامًا لك أو شرابًا لك، لأن هذا الفعل مما لا يملك بالعقد فوجب صرف اللام إلى مالك الفصل بالعقد، وهو العين، بخلاف الفصل الأول، فإن كل واحد منها مما يملك بالعقد فرجحنا بالقرب، فإن نوى غيره صدق قضاء فيما قيد تغليظًا عليه لا فيما فيه تحقيق.
فإن نوى من قوله: بعت لك: بعت ثوبًا لك، وعلى العكس يصدق ديانة فيهما، لأنه نوى ما يحتمله كلامه بتأخير اللام وتقديمه، إذ اللام تحتملهما ولا يصدق قضاء فيما فيه تخفيف عليه.
م: (ونظيره) ش: أي نظير البيع م: (الصياغة والخياطة) ش: ونحوهما، ذكرناه عن قريب م:(6/225)
وكل ما يجري فيه النيابة، بخلاف الأكل والشرب وضرب الغلام؛ لأنه لا يحتمل النيابة فلا يفترق الحكم فيه في الوجهين. ومن قال: هذا العبد حر إن بعته فباعه على أنه بالخيار عتق لوجود الشرط، وهو البيع والملك فيه قائم فينزل الجزاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[حلف أن يضرب عبده فأمر غيره بضربه]
(وكل ما يجري فيه النيابة) ش: عطف على ما قبله وما يجري فيه النيابة نحو الكتابة والهبة والصدقة، وقد ذكرنا هذا القسم عن قريب عند ذكر التزوج والطلاق والعتاق.
م: (بخلاف الأكل والشرب وضرب الغلام) ش: صرح قاضي خان في " جامعه " بأن المراد بالغلام العبد، لأن الضرب مما لا يملك بالعقد. وقال المرغيناني: المراد بالغلام الولد، وسمي الولد غلامًا، وقال الله تعالى: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 7] (مريم: الآية 7) ، لأن ضرب العبد يحتمل الوكالة والنيابة، وهذا هو الصواب؛ لأن ضرب العبد يحتمل النيابة كما ذكرنا، ولهذا لو حلف أن يضرب عبده فأمر غيره بضربه حنث، لأن المنفعة تعود إليه، وقد ذكره المصنف قبل هذا.
وقال الأكمل: ومن الشارحين من وجه الأول. وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قال الإمام الأستاذ ناقلًا عن أستاذه: أن المراد من الغلام العبد، قال: وذكر بعد الشارحين صريحًا انتهى. وقال الأكمل: أجاب عن المسألة المذكورة، أي أجاب الشارح الذي قال المراد من الغلام العبد بأن محمدًا لم يذكرها، وهو مخالف لما ذكره المصنف وتخطية فإنه لا حقوق له ترجع إلى المأمور، ومع ذلك جعل مما يحتمل النيابة.
م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من هذه الأشياء الثلاثة م: (لا يحتمل النيابة، فلا يفترق الحكم فيه في الوجهين) ش: أي لا يفترق حكم الحنث فيما لا يجزئ فيه النيابة كالأكل والشرب وضرب الغلام في الوجهين، يعني إذا قدم اللام أو أخر.
فإن قلت: ضرب الغلام يجري فيه النيابة كما سبق أن من حلف لا يضرب عبده يحنث بضرب مأموره.
قلت: المراد من جريان النيابة بأنه تعلق بها حقوق يرجع الوكيل بما لحقه من العهدة على الموكل، وهنا ليس لضرب العبد حقوق تلحق الوكيل يرجع بها على الموكل، فافهم.
م: (ومن قال: هذا العبد حر إن بعته فباعه على أنه بالخيار عتق لوجود الشرط وهو البيع، والملك فيه قائم) ش: لأن خياره يمنع خروج البيع عن ملكه باتفاق م: (فينزل الجزاء) ش: وهو الحرية، وبه قال مالك والشافعي: رحمهما الله - في وجه.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يعتق، لأن خيار البائع يخرج البيع عن ملكه عنده. وقيد بقوله: باعه بالخيار، لأنه لو باعه بيعًا بأن لا يعتق بالإجماع لخروج البيع عن ملكه، فلم يبق محلًا للجزاء، فلا يترك الجزاء في غير الملك ولهذا يعرف أن العلة مع المعلول يفترقان في الوجود(6/226)
وكذلك لو قال المشتري إن اشتريته فهو حر فاشتراه على أنه بالخيار يعتق أيضا؛ لأن الشرط قد تحقق، وهو الشراء، والملك قائم فيه، وهذا على أصلهما ظاهر، وكذا على أصله لأن هذا العتق بتعليقه والمعلق كالمنجز، ولو نجز العتق يثبت الملك سابقا عليه، فكذا هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أما الشرط والمشروط غير مفترقين.
فإن قيل: لو كان البيع من غير إفادة الحكم كافيًا لوقوع ما علق به لكان النكاح كذلك، فإذا علق العتق بالنكاح ووجد النكاح فاسدًا وجب أن يقول: الجزاء ليس كذلك.
أجيب: بأن جواب البيع ليس مع المنافي، وجواز النكاح مع المنافي، لأنه رق وإلا تنافيه، فإذا كان النكاح فاسدًا اعتقد فساده بما يخالف الدليل، فيترجح جانب العدم، فصار كأن لم يكن بخلاف البيع، لأنه موافق للدليل فكان موجودًا، فالإيجاب والقبول في المحل وإن لم يفد الحكم.
[قال المشتري إن اشتريته فهو حر فاشتراه على أنه بالخيار]
م: (وكذلك لو قال المشتري: إن اشتريته فهو حر، فاشتراه على أنه بالخيار عتق أيضًا، لأن الشرط قد تحقق، وهو الشراء والملك قائم فيه) ش: أي في العبد فيترك الجزاء، هذا في قولهم جميعًا م: (وهذا على أصلهما) ش: أي على أصل أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (ظاهر) ش: لأن خيار المشتري لا يمنع ثبوت ملك المشتري عندهما، فثبت الملك سابقًا على العتق، فيترك العتق في الملك، وبه قال أحمد والشافعي - رحمهما الله - في وجه.
وقال مالك والشافعي - رحمهما الله: في وجه لا يعتق، لأن انتقال الملك سقوط الخيار، فقيل: سقوطه وجد الشرط وينحل اليمين فلا يعتق لعدم الملك م: (وكذا على أصله) ش: أي أصل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعني يعتق.
وإن كان حلف المشتري يمنع دخول المبيع في ملكه م: (لأن هذا العتق بتعليقه) ش: أي بتعليق المشتري لا بالملك م: (والمعلق كالمنجز) ش: يعني المعلق بالشرط كالمنجز، فكأنه قال بعد الشراء عقب هذا العقد.
م: (ولو نجز) ش: أي المشتري م: (العتق) ش: في هذه الصورة م: (يثبت الملك سابقًا عليه) ش: أي على التخيير م: (فكذا هذا) ش: أي فكذا في تعلق العتق بالشراء إذا وجد الشراء يكون كأنه يوجز العتق حالة الشراء بخلاف قوله إن ملكتك فأنت حر فاشتراه على أنه بالخيار لا يعتق، لأن شرط الحنث وهو الملك لم يوجد، لأن المشتري بالخيار لم يملكه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يترك الجزاء.
وبخلاف ما إذا اشترى ذا رحم محرم بالخيار، حيث لا يعتق على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لعدم الملك، لأن الخيار من المشتري مانع لتملكه.(6/227)
ومن قال: إن لم أبع هذا العبد أو هذه الأمة فامرأته طالق فأعتق أو دبر طلقت امرأته لأن الشرط قد تحقق، وهو عدم البيع لفوات محلية البيع.
وإذا قالت المرأة لزوجها تزوجت علي، فقال: كل امرأة لي طالق ثلاثا طلقت هذه التي حلفته في القضاء، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها لا تطلق لأنه أخرجه جوابا فينطبق عليه، ولأن غرضه إرضاؤه، وهو بطلان غيرها، فيتقيد به. ووجه الظاهر عموم الكلام، وقد زاد على حرف الجواب فيجعل مبتدئا، وقد يكون غرضه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[تعليق الطلاق على البيع]
م: (ومن قال: إن لم أبع هذا العبد أو هذه الأمة فامرأته طالق فأعتق أو دبر طلقت امرأته، لأن الشرط قد تحقق، وهو عدم البيع لفوات محلية البيع) ش: أي بالإعتاق والتدبير، فطلق كما لو مات الحالف أو العبد، ولا خلاف.
فإن قيل: لم يقع البأس عن البيع بالتحرير والتدبير لجواز أن ترتد الجارية فتسعى بعد اللحاق فملكها هذا الرجل ويبيعها بالتدبير، لجواز أن يقضي القاضي بجواز البيع.
وأجيب: بأن ذاك موهوم، فلا يعتبر. وقيل الحالف عقد يمينه على الملك القائم لا على الملك الذي سيوجد.
م: (وإذا قالت المرأة لزوجها: تزوجت علي، فقال: كل امرأة لي طالق ثلاثًا طلقت هذه الذي حلفته في القضاء. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها) ش: أي أن التي حلفته عليه م: (لا تطلق) ش: ومال أكثرهم إلى هذا القول م: (لأنه) ش: أي لأن الزوج م: (أخرجه) ش: أي أخرج الكلام م: (جوابًا) ش: لكلام المرأة م: (فينطبق عليه) ش: أي فينطبق الجواب على السؤال، فكأنه قال: كل امرأة لي غيرك تزوجتها طالق ثلاثًا، والاستثناء قد يكون دلالة كما يكون إفصاحًا، فتكون المحلفة مستثناة من عموم اللفظ دلالة، فينصرف الطلاق إلى غيرها.
م: (ولأن غرضه) ش: أي غرض الزوج م: (إرضاؤها، وهو بطلاق غيرها) ش: لا بطلاق نفسها م: (فيتقيد به) ش: أي بالكلام السابق، والكلام الثاني في تزويج غيرها.
فإن قيل: قد زاد على قدر الجواب.
قلنا: الزيادة على قدر المحتاج إليه للجواب إنما يخرج الكلام على الجواب إذا لغت الزيادة. ومتى جعل جوابًا ولا تلغو الزيادة هنا إن جعل جوابًا، لأنه قصد تطييب قلبها وتسكين نفسها، وإذا تطيب تغيرها على العموم، لجواز أن يقع في قلبها، أراد بما قال غير التي طلقت.
م: (ووجه الظاهر عموم الكلام) ش: أي وجه ظاهر الرواية أن العمل بعموم الكلام واجب ما أمكن، وقد أمكن هنا، وهو قوله م: (وقد زاد على حرف الجواب) ش: لأن جوابه أن يقول: إن فعلت فهي طالق ثلاثًا م: (فيجعل مبتدئًا) ش: أي يعتبر مبتدئًا لا يحنث، م: (وقد يكون غرضه)(6/228)
إيحاشها حين اعترضت عليه فيما أحله الشرع، ومع التردد لا يصلح مقيدا، وإن نوى غيرها يصدق ديانة لا قضاء، لأنه تخصيص العام، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: جواب عن قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأن غرضه إرضاؤها، أي وقد يكون غرض الزوج م: (إيحاشها) ش: أي إيحاش المرأة، أي إنكاؤها م: (حين اعترضت عليه) ش: أي على الزوج م: (فيما أحله الشرع، ومع التردد) ش: يعني بين أن يكون غرضه إرضاؤها، وبين أن يكون إيحاشها م: (لا يصلح مقيدًا) ش: بكسر الياء أي مقيدًا لإرضائها بطلاق غيرها، وقيل أي بعموم اللفظ لأجل الاحتمال المذكور.
م: (ولو نوى غيرها) ش: أي غير المحلفة م: (يصدق ديانة) ش: لأنه يحتمل كلامه، لأن العام يحتمل الخصوص م: (لا قضاء) ش: أي لا يصدق قضاء م: (لأنه تخصيص العام) ش:، لأنه خلاف الظاهر.(6/229)
باب اليمين في الحج والصلاة والصوم قال: ومن قال وهو في الكعبة أو في غيرها: علي المشي إلى بيت الله أو إلى الكعبة فعليه حجة أو عمرة ماشيا وإن شاء ركب وأهراق دما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب اليمين في الحج والصلاة والصوم] [قال علي المشي إلى بيت الله]
م: (باب اليمين في الحج والصلاة والصوم) ش: أي هذا باب في بيان أحكام اليمين في الحج وأحكام اليمين في الصلاة. وأحكام اليمين في الصوم. وقدم هذا الباب على باب اللبس لفضيلة العبادة وأخرها عن الباب المتقدم لقلة وقوع اليمين في الحج والصلاة والصوم.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ومن قال وهو في الكعبة أو في غيرها) ش: أو عليه عمرة حال كونه ماشيًا.
قال الكاكي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي لفظه: وهو في الكعبة إشارة إلى أن وجوب الحج أو العمرة بقوله م: (علي: المشي إلى بيت الله) ش: بطريق المجاز، لا من حيث الحقيقة، إذ المشي إلى بيت الله، وهو في الكعبة، محال، كذا نقل عن العلامة مولانا حافظ الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الأترازي: وإنما قيد بقوله في الكعبة لأن إيجاب الحج أو العمرة لما ثبت بقوله علي: المشي إلى بيت الله. م: (أو إلى الكعبة) ش: مجازًا بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب صار كونه في الكعبة.
وفي تنقية أخرى سواء ذلك، لأن المشي إلى بيت الله سبب للوصول إلى الحج أو العمرة في الجملة، فيصير كأنه قال: م: (فعليه حجة أو عمرة) ش: فإذا قال ذلك لزمه، فكذا إذا قال: علي المشي إلى بيت الله، ثم إذا أراد الحج يحرم من الحرم ويخرج على عرفات م: (ماشيًا) ش: فإن ركب يلزمه شاة.
وإذا أراد العمرة يخرج إلى التنعيم ونحوه، ويحرم بالعمرة من ثمة، لأن إحرام المكي للعمرة خارج الحرم، ولم يذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يخرج إلى التنعيم ماشيًا أو راكبًا. وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: جاز له أن يركب وقت الرواح إلى التنعيم فيه لأن الرواح إليه ليس بمشي إلى بيت الله، وإنما المشي إليه وقت الرجوع. وقال بعضهم: يمشي وقت الرواح أيضًا لأن الرواح إليه للإحرام، فكان مشيًا إلى بيت الله.
م: (وإن شاء ركب وأهراق دمًا) ش: عطف على ما قبله، يعني المشي واجب عليه، فإن ركب أهرق، أي أراق دمًا والهاء فيه زائدة. واعلم أن هنا ثمانية ألفاظ في ثلاثة يلزمه بلا خلاف وهي أن يقول: على المشي إلى بيت الله أو إلى الكعبة أو إلى مكة.
وفي رواية " النوادر " أو إلى مكة، وبه قال أحمد والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول. وفي(6/230)
وفي القياس لا يلزمه شيء، لأنه التزم ما ليس بقربة واجبة ولا مقصودة في الأصل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأصح لا يلزمه شيء بقوله: على المشي إلى بيت الله، إلا أن ينويه، لأن جميع المساجد بيت الله وفي ثلاثة لا يلزمه شيء باتفاق أصحابنا وهي إذا نذر الذهاب إلى مكة أو السفر أو الركوب إليها أو المسير أو المضي.
وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول قاله ابن القائم عنه. وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله: وهو رواية أشهب عن مالك يلزمه الحج أو العمرة، كما في قوله على المشي إلى مكة.
وفي لفظين خلاف بين أصحابنا. وهو ما إذا نذر المشي إلى الحرم أو المسجد الحرام، فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا شيء عليه، وعندهما عليه حجة وعمرة، وبه قالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
ولو نذر المشي إلى الصفا والمروة أو بقعة من الحرم يلزمه المشي إليها بحج أو عمرة عند الشافعي وأحمد - رحمهما الله - وأصبغ من المالكية.
وعندنا لا يلزمه شيء، وبه قال مالك، ولو نذر المشي إلى مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو إلى المسجد الأقصى لا شيء عليه، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول في الأم. وفي قوله تنعقد نذر هو به.
قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» . وقد نص بالإتيان وشد الرحال إلى هذه المساجد. ورجح العراقيون وأكثر أصحابه القول الأول، لما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلًا قال: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله لك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صل هنا، فأعاد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صل هنا» . ومعلوم أن هذا القدر متعين بالإنسان، وإن بيت المقدس لا يعقد بالشد، فأشبه سائر المساجد، والمقصود من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تشد الرحال» إلى آخره تخصيص القربة وفضلها في المساجد.
م: (وفي القياس لا يلزمه شيء) ش: يعني في إيجاب الحجة أو العمرة بلفظ المشي إلى البيت أو الكعبة، لأن المشي أمر مباح فالقياس أن يبطل القدر به م: (لأنه التزم ما ليس بقربة واجبة) ش: أي لعبة م: (ولا مقصودة في الأصل) ش: بل هو وسيلة لما هو قربة كالوضوء.
فإن قيل: الاعتكاف وهو اللبث ليس بقربة مقصودة لما شرع لانتظار الصوم، وقد صح النظر به.(6/231)
ومذهبنا مأثور عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلنا: الاعتكاف لا يصح إلا بالصوم، والصواب من جنس القربة المقصودة.
فإن قيل: الاعتكاف يصح في الليل، وإن كان الصوم لا يصح فيه.
قلنا: صحة الاعتكاف في الليل تبع لصحة الاعتكاف في اليوم، ولهذا لو نذر الاعتكاف في الليل منفردًا عن اليوم لا يصح.
[حلف على نفسه الحج ماشيا]
م: (ومذهبنا مأثور عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: قال الأترازي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل: بلغنا عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: من حلف على نفسه الحج ماشيًا حج وركب وذبح شاة لركوبه.
قال مخرج الأحاديث: هذا غريب، ثم قال: وروى البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المعرفة " عن طريق الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن ابن عيينة عن سعيد بن عروة عن قتادة عن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رجل يحلف على حجة المشي؟ قال: يمشي، فإن عجز ركب وأهدى بدنة.
وروى عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه " أخبرنا عبد الله بن سعيد عن الحكم عن إبراهيم عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيمن نذر أن يمشي إلى البيت. قال: يمشي، فإذا أعيى ركب ويهدي جزورًا.
وقال الأكمل: بعد أن نقل ما قاله محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل إلى آخره، كذا في بعض الشروح، وليس مطابقًا لما نحن فيه لجواز أن يكون ذلك ممن جعل على نفسه الحج ماشيًا بغير هذا اللفظ، وليس هذا في بعض الشروح وشرح البزدوي، فإنه ذكر فيه هكذا ثم ادعى أنه غير مطابق لما نحن فيه، وعلل بقوله الكلام فيه.
وقال آخرون: روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أجاب في هذه المسألة بأن عليه حجة أو عمرة، وهذا مطابق، وقد روى شيخي في شرحه «أن أخت عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نذرت أن تمشي إلى بيت الله فأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تحرم بحجة أو عمرة» انتهى.
قلت: أراد بقوله في بعض الشروح شرح البزدوي، فإنه ذكر فيه هكذا ثم ادعى أنه غير مطابق لما نحن فيه. وعلل بقوله لجواز ... إلى آخره.
وفيه نظر، بل كاد أن يرد، لأنه لم يذكر وجه قوله، لجواز أن يكون إلى آخره، لأن فيه إثبات الخبر بالاحتمال، وهذا ليس بطريقة العلماء، ولم يبين أيضًا وجه قول الآخرين، هل ثبت ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أو لا؟ ثم قال: وقد روى شيخي أراد به قوام الدين الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإنه ذكره في " شرحه "، وقصد هو وشيخه أيضًا، حيث لم يبيناه إلى مخرجه من أئمة الحديث.(6/232)
ولأن الناس تعارفوا إيجاب الحج والعمرة بهذا اللفظ، فصار كما إذا قال علي زيارة البيت ماشيا فيلزمه ماشيا، وإن شاء ركب وأهراق دما وقد ذكرناه في المناسك.
ولو قال علي الخروج أو الذهاب إلى بيت الله تعالى فلا شيء عليه، لأن الحج والعمرة بهذا اللفظ غير متعارف، ولو قال علي المشي إلى الحرم أو إلى الصفا والمروة فلا شيء عليه، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - في قوله علي المشي إلى الحرم حجة أو عمرة. ولو قال إلى المسجد الحرام فهو على هذا الاختلاف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا رواه أبو يعلى الموصلي في " مسنده ": حدثنا زهير حدثنا أحمد بن عبد الوارث حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن أخت عقبة ابن عامر نذرت أن تحج ماشية، فسئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إن الله عز وجل غني عن نذر أختك لتركب ولتهدي بدنة» ، انتهى. وهذا كما رأيت ما ذكر الحديث كما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا نسبه إلى أحد من الصحابة، وما ذاك إلا تقصير جدًا وتقليد محض.
م: (ولأن الناس تعارفوا إيجاب الحج والعمرة بهذا اللفظ) ش: أي بقوله علي المشي إلى بيت الله أو إلى الكعبة م: (فصار) ش: أي فصار حكم هذا على الوجوب م: (كما إذا قال على زيارة البيت ماشيًا فيلزمه ماشيًا، وإن شاء ركب وأراق دمًا، وقد ذكرناه في المناسك) ش: أي قبل كتاب النكاح.
فإن قيل: لما كان هذا اللفظ كناية عن الإحرام بالحج أو العمرة كان لفظ الشيء غير منظور إليه ينبغي أن لا يلزم عليه المشي، كما لو نذر أن يضرب بثوبه حطيم الكعبة، حيث لا يلزمه ضرب الثوب، بل يلزمه إهداء الثوب إلى مكة.
قلنا: نعم كذلك، إلا أن الحج ماشيًا أفضل، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حج ماشيًا فله بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم، قيل وما حسنات الحرم، قال: واحد بسبعمائة» فأعير لفظه لإحراز تلك الفضيلة أو الظاهر إلزام القربة بصفة الكمال.
[قال علي الخروج أو الذهاب إلى بيت الله]
م: (ولو قال: علي الخروج أو الذهاب إلى بيت الله، فلا شيء عليه لأن إلزام الحج والعمرة بهذا اللفظ غير متعارف) ش: ولم يرد النص فوجب العمل بالقياس لما مر أن في القياس لا يلزمه شيء وفيه خلاف الشافعي ومالك - رحمهما الله - وقد ذكرناه عن قريب.
م: (ولو قال: علي المشي إلى الحرم أو إلى الصفا والمروة فلا شيء عليه، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: في قوله علي المشي إلى الحرم أو إلى الصفا، والمروة حجة أو عمرة) ش: وقد مر ذكر هذا أيضًا بما فيه من خلاف الأئمة م: (ولو قال إلى المسجد الحرام، فهو على هذا الاختلاف) ش: أي الاختلاف المذكور بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وصاحبيه - رحمهما الله.(6/233)
لهما أن الحرم شامل على البيت بالاتصال، وكذا المسجد الحرام شامل على البيت فصار ذكره كذكره، بخلاف الصفا والمروة لأنهما منفصلان عنه. وله أن التزام الإحرام بهذه العبارة غير متعارف، ولا يمكن إيجابه باعتبار حقيقة اللفظ، فامتنع أصلا.
ومن قال: عبدي حر إن لم أحج العام، فقال حججت وشهد شاهدان على أنه ضحى العام بالكوفة لم يعتق عبده. وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتق، لأن هذه شهادة قامت على أمر معلوم، وهو التضحية، ومن ضرورته انتفاء الحج، فيتحقق الشرط. ولهما أنها قامت على النفي، لأن المقصود منها نفي الحج لا إثبات التضحية، لأنه لا مطالب لها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أن الحرم شامل على البيت) ش: بالاتصال، وكذا المسجد الحرام شامل على البيت م: (فصار ذكره كذكره) ش: أي صار ذكر كل واحد من الحرم أو المسجد الحرام البيت م: (بخلاف الصفا والمروة، لأنهما منفصلان عنه) ش: أي عن البيت، يعني أنهما ليسا شاملين على البيت، بل هما منفصلان، عنه، فلم يكن ذكرهما كذكره.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن التزام الإحرام بهذه العبارة غير متعارف) ش: فيعمل بالقياس وعدم الوجوب م: (ولا يمكن إيجابه) ش: أي لا يمكن إلزام إيجاب الإحرام م: (باعتبار حقيقة اللفظ) ش: أي لفظ المشي، لأن اللفظ لم يوضع عليه، والعرف أيضًا منتف، ولما انتفت الدلالة على الإيجاب حقيقة وعرفًا م: (فامتنع) ش: الإيجاب م: (أصلًا) ش: فلا يلزم شيء.
م: (ومن قال: عبدي حر إن لم أحج العام، فقال: حججت وشهد شاهدان أنه ضحى العام بالكوفة لم يعتق عبده، وهذا) ش: أي عدم العتق م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله) ش: ولم يذكر صاحب " المختلف ". قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير ".
م: (وقال محمد: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتق لأن هذه) ش: أي لأن شهادة هذين الشاهدين م: (شهادة قامت على أمر معلوم، وهو التضحية، ومن ضرورته) ش: أي ومن ضرورة هذا الأمر المعلوم م: (انتفاء الحج، فيتحقق الشرط) ش: وهو حجة هذا العام.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - م: (أنها) ش: أي أن هذه الشهادة م: (قامت على النفي) ش: فلا تقبل م: (لأن المقصود منها نفي الحج لا إثبات التضحية، لأنه لا مطالب لها) ش: من جهة العباد، فلا تدخل تحت القضاء، لأنها إن كانت طوعًا فظاهر، وإن كانت واجبة فالقاضي لا يجبر عليها، فيثبت عدم المطالبة، فلما انتفت الشهادة على المطالبة(6/234)
فصار كما إذا شهدوا أنه لم يحج العام، غاية الأمر أن هذا النفي مما يحيط علم الشاهد به، ولكنه لا يميز بين نفي ونفي تيسيرا.
ومن حلف لا يصوم فنوى الصوم وصام ساعة ثم أفطر من يومه حنث لوجود الشرط، إذ الصوم هو الإمساك عن المفطرات على قصد التقرب. ولو حلف لا يصوم يوما أو صوما فصام ساعة ثم أفطر لا يحنث، لأنه يراد به الصوم التام المعتبر شرعا، وذلك بإتمامه إلى اليوم، واليوم صريح في تقدير المدة به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالتضحية ثبت أنها قامت على نفي الحج لا تقبل م: (فصار كما إذا شهدوا أنه في هذا العام) ش: أي فصار حكم هذه الشهادة كما إذا شهدوا أنه لم يحج في هذا العام، فإن هذه الشهادة لا تقبل فكذا تلك الشهادة غاية الأمر جواب عن سؤال، وهو أن يقال: إنما لا تقبل الشهادة على النفي إذا لم يكن الشاهد عالمًا بالنفي، أما إذا كان عالمًا والشيء مما يعلم ويحاط، تقبل الشهادة على النفي، وفيما نحن كذلك فإنه ذكر في " السير الكبير ": شاهدان شهدا على رجل أنا سمعناه يقول المسيح ابن الله ولم يقل قول النصارى، فبانت منه امرأته، والرجل يقول إنما قصدت به قول النصارى يعني قلت المسيح ابن الله قول النصارى، قال: إن الشهادة مقبولة، لأن ذلك مما يحاط به ويعلم. وتقرير الجواب: أن يقال: م: (غاية الأمر أن هذا النفي) ش: وهو قول الشهرة أنه لم يحج العام م: (مما يحيط علم الشاهد به، ولكنه لا يميز بين نفي ونفي) ش: أي لا يفرق بين نفي ونفي بأن يقال يقبل فيما إذا كان النفي مما يعلم ويحاط، ولا يقبل فيما لا يعلم ويحاط، بل لا تقبل في كل النفي م: (تيسيرًا) ش: ودفعًا للحرج عن الناس، وهذا إذا ادعى رجل على رجل أنه عضه أو جرحه يوم كذا، فشهد شاهدان أن هذا الرجل في ذلك اليوم كان في مكان كذا وكذا لا يقبل شهادتهما، لأن مقصوده أنه لم يجرح ولم يعض. وقال تاج الشريعة: بعد أن قام فإن قلت: الشهادة على النفي مقبولة بدليل ما ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " السير الكبير "، وهو ما ذكرناه الآن. فإن قلت: إنه صدق الشهود فيما شهدوا عليه، من بنوة المسيح، وهذا القدر منه كان لثبوت البنوة، ثم بعد ذلك بنفي البنوة بقوله: قد قلت. وقال النصارى، فلا يصدق في حقها، كمن قال لفلان على ألف درهم من ثمن خمر أو خنزير لزمه الألف، ولا يقبل تفسيره، انتهى، مسألة السير قامت الشهادة فيها على أمر ثابت معين، وهو السكوت عقيب قوله المسيح ابن الله فلا يرد علينا نقضًا.
[حلف لا يصوم فنوى الصوم فصام ساعة ثم أفطر من يومه]
م: (ومن حلف لا يصوم فنوى الصوم فصام ساعة ثم أفطر من يومه حنث لوجود الشرط، إذ الصوم هو الإمساك عن المفطرات) ش: وهو الأكل والشرب والجماع م: (على قصد التقرب) ش: وبهذا القدر يصير فاعلًا فعل الصوم وهو الإمساك كما قلنا وما زاد تكرار الشرط ليس بشرط م: (ومن حلف لا يصوم صومًا أو يومًا) ش: بأن قال لا يصوم صومًا م: (فصام ساعة ثم أفطر لا يحنث، لأنه يراد به الصوم التام المعتبر شرعًا، وذلك بإتمامه إلى اليوم، واليوم صريح في تقدير المدة به) ش: فلا(6/235)
ولو حلف لا يصلي فقام وقرأ أو ركع لم يحنث، وإن سجد مع ذلك ثم قطع حنث، والقياس أن يحنث بالافتتاح اعتبارًا بالشروع في الصوم. وجه الاستحسان أن الصلاة عبارة عن الأركان المختلفة، فما لم يأت بجميعها لا يسمى صلاة، بخلاف الصوم، لأنه ركن واحد، وهو الإمساك ويتكرر في الجزء الثاني. ولو حلف لا يصلي صلاة لا يحنث ما لم يصل ركعتين، لأنه يراد به الصلاة المعتبرة شرعًا، وأقلها ركعتان للنهي عن البتيراء، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بد من اليوم الكامل.
فإن قيل: المقصود في قوله لا يصوم مذكور لغة؟
قلنا: بل لغة لا شرعًا، وعند ذكر الصوم صريحًا منصرف إلى الكامل، وهو الصوم لغة وشرعًا.
فإن قيل: يشكل هذا بما لو قال: والله لأصوم من هذا اليوم، وكان ذلك بعد ما أكل أو شرب أو بعد الزوال صح يمينه بالاتفاق، والصوم مقرون باليوم، ومع ذلك لم يرد به الصوم الشرعي، فإن الصوم الشرعي بعد الأكل أو بعد الزوال غير متصور.
والجواب: أن الدلالة قامت على أن المراد به ليس الصوم الشرعي، وهو كون اليمين بعد الزوال أو بعد الأكل، فانصرف إلى الصوم اللغوي، وانعقدت يمينه عليه، بخلاف ما نحن فيه، فإنه ليس فيه ما يمنعه عن الصوم الشرعي، فيصرف إليه.
[حلف لا يصلي فقام وقرأ أو ركع]
م: (ولو حلف لا يصلي فقام وقرأ أو ركع لم يحنث، وإن سجد مع ذلك ثم قطع حنث، والقياس أن يحنث بالافتتاح اعتبارًا بالشروع في الصوم) ش: فإن في الصوم يحنث بمجرد الشروع، فكان ينبغي أن يكون هذا كذلك. ألا ترى أن الناظر إليه يسميه مصليًا حين افتتح الصلاة م: (وجه الاستحسان أن الصلاة عبارة عن الأركان المختلفة) ش: من التكبير من القيام والقراءة والركوع والسجود م: (فما لم يأت بجميعها لا يسمى صلاة) ش: فلا يحنث م: (بخلاف الصوم، لأنه ركن واحد، وهو الإمساك، ويتكرر في الجزء الثاني) ش: من حين ما مضى.
وفي " المبسوط " تكرر، ولا يشترط لأنها نصف القيام الموجود في أول الافتتاح، والتكرار ليس بشرط.
م: (ولو حلف لا يصلي صلاة لا يحنث ما لم يصل ركعتين، لأنه يراد به الصلاة المعتبرة شرعًا، وأقلها ركعتان) ش: وقال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية يحنث بركعة، لأن الركعة الواحدة صلاة عندهما، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية يحنث بالشروع، لأنه يسمى مصليًا، وفي وجه يحنث بالتمام على وجه الصحة م: (للنهي عن البتيراء) ش: قد ذكر المصنف حديث البتيراء في كتاب الصلاة في(6/236)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
باب صلاة الوتر وأخرجه ابن عبد البر في كتاب التمهيد عن عثمان بن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ابن أبي ربيعة عن عبد الرحمن حدثنا عبد العزيز الدراوردي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البتيراء أن يصلي الرجل واحدة يوتر بها» ومضى الكلام فيه هناك. وقال صاحب " المغرب ": البتيراء تصغير البتراء تأنيت، ألا وهو في الأصل مقطوع الذنب ثم جعل عبارة عن الناقص.(6/237)
باب اليمين في لبس الثياب والحلي وغير ذلك ومن قال: لامرأته إن لبست من غير ذلك فهو هدي فاشترى قطنا فغزلته ونسجته فلبسه فهو هدي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: ليس عليه أن يهدي حتى تغزل من قطن ملكه يوم حلف، ومعنى الهدي التصدق به مكة لأنه اسم لما يهدى إليها. لهما أن النذر إنما يصح في الملك أو مضافا إلى سبب الملك، ولم يوجد لأن اللبس وغزل الثوب من أسباب الملك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب اليمين في لبس الثياب والحلي وغير ذلك] [قال لامرأته إن لبست من غير ذلك فهو هدي فاشترى قطنا فغزلته ونسجته فلبسه]
م: (باب اليمين في لبس الثياب والحلي وغير ذلك) ش: أي هذا باب في بيان أحكام اليمين في لبس الثياب والحلي بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء جمع حلي بفتح الحاء وسكون اللام، بمعنى الحلي وجمع الحلية حلي بالكسر والقصر، وقد جاء ضم الحاء في قليل الاستعمال، كما جاء في لحي جمع لحية، وجاء ضم أيضًا.
و" الحلي ": في اللغة ما لبس من ذهب أو فضة أو جوهر، كذا في " الجمهرة ".
وقال ابن الأثير: الحلي اسم لكل ما يزيد من مصاغ الذهب والفضة، وقوله: غير ذلك مثل الحلف على أن لا يجلس على الأرض، ولا يجلس على سرير.
م: (ومن قال لامرأته: إن لبست من غير ذلك فهو هدي) ش: أي صدقة تصدق به على فقراء مكة م: (فاشترى قطنًا فغزلته ونسجته فلبسه فهو هدي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: الهدي اسم لما يهدى إلى مكة، أي يستعمل إليها للتصدق، ثم إذا نذر أن يهدي ثوبًا جاز له أن يتصدق به على مساكين مكة وغيرها. ولو نذر أن يهدي لحمًا لا يجوز أن لا يذبح بمكة ويتصدق.
ولو تصدق به حيًا لا يجوز، ولا يكون هديًا حتى يذبح. ثم إذا سرق لا شيء عليه.
كذا ذكره صاحب " الأجناس "، وذلك لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] (الحج: الآية 33) ، وإذا نذر بما لا ينقل يكون نذرًا بالقيمة لتعذر نقل العين.
م: (وقالا: ليس عليه أن يهدي حتى تغزله) ش: أي امرأته م: (من قطن ملكه يوم حلف، ومعنى الهدي التصدق به) ش: أي بالثوب م: (بمكة، لأنه اسم لما يهدى إليها) ش: وقد بسطنا الكلام آنفًا م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أن النذر إنما يصح في الملك أو مضافًا إلى سبب الملك) ش: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر فيما لا يملك ابن آدم» .
م: (ولم يوجد) ش: أي واحد منهما م: (لأن اللبس وغزل الثوب من أسباب الملك) ش: فلا يصح اليمين في حق القطن المشترى بهذا يحلف، وهذا هو القياس.(6/238)
وله أن غزل المرأة عادة يكون من قطن الزوج، والمعتاد هو المراد، وذلك سبب الملك، ولهذا يحنث إذا غزلت من قطن مملوك له وقت النذر، لأن القطن لم يصر مذكورا.
ومن حلف لا يلبس حليا فلبس خاتم فضة لم يحنث، لأنه ليس بحلي عرفا ولا شرعا، حتى أبيح استعماله للرجال والتختم به لقصد الختم، وإن كان من ذهب حنث، لأنه حلي ولهذا لا يحل استعماله للرجال. ولو لبس عقد لؤلؤ غير مرصع لا يحنث عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: يحنث لأنه حلي حقيقة، حتى سمي به في القرآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن غزل المرأة عادة يكون من قطن الزوج) ش: إلا نادرًا، ومبنى الأيمان على العرف والعادة، فيكون اليمين مقيدة بالعادة م: (والمعتاد هو المراد، وذلك سبب الملك) ش: أي لملك الزوج، فكأنه قال: إن لبست من غزلك من قطن أملكه، فلو قال هكذا يتناول القطن الحادث، فكذلك هذا.
م: (ولهذا يحنث) ش: إيضاح لقوله، وذلك سبب لملكه م: (إذا غزلت من قطن مملوك له وقت النذر، لأن القطن لم يصر مذكورًا) ش: حاصل المعنى أن يحنث بلبس القطن المغزول المملوك يوم النذر، مع أن القطن المملوك له يوم النذر ليس بمذكور وقت اليمين، لكنه أريد بذلك بدلالة العادة، فكذا في المشترى، فكانت الإضافة إلى غزلها إلى ملكه عادة.
[حلف لا يلبس حليا فلبس خاتم فضة]
م: (ومن حلف لا يلبس حليًا) ش: بفتح الحاء وسكون اللام م: (فلبس خاتم فضة لم يحنث، لأنه ليس بحلي عرفًا ولا شرعًا، حتى أبيح استعماله للرجال) ش: وعند الأئمة الثلاثة يحنث. وقال فخر الإسلام البزدوي في شرح " الجامع الصغير ": فإن كان الخاتم مما يلبسه النساء ينبغي أن يحنث. وفي " جامع قاضي خان " قال مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: هذا إذا كان خاتم الفضة مصنوعًا على هيئة خاتم إذا لم يكن فيه فص، فإن كان فيه فص حنث، ويحنث بلبس السوار والخلخال والقلادة والقرط والدملوج، سواء كان من فضة أو ذهب بالإجماع.
م: (والتختم به لقصد الختم) ش: أي أبيح التختم بخاتم الفضة لأجل الختم بفتح الخاء وسكون التاء، يعني لا لأجل الزينة.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإنما حل التختم لإقامة السنة لا للتزين، فلم يكن حليًا كاملًا، فلا يدخل تحت مطلق اسم الحلي.
م: (وإن كان) ش: أي الخاتم م: (من ذهب حنث، لأنه حلي، ولهذا لا يحل استعماله) ش: أي استعمال الذهب م: (للرجال) ش: سواء كان فيه فص أو لم يكن م: (ولو لبس عقد لؤلؤ) ش: بكسر العين وهو القلادة م: (غير مرصع) ش: أي غير مركب بذهب وفضة من الترصيع وهو التركيب م: (لم يحنث عند أبي حنيفة. وقالا: يحنث) ش: وبه قال الثلاثة: م: (لأنه حلي حقيقة حتى سمي به) ش: أي بالحلي م: (في القرآن) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14](6/239)
وله أنه لا يتحلى به عرفا إلا مرصعا، ومبنى الأيمان على العرف. وقيل هذا اختلاف عصر وزمان ويفتى بقولهما،
ومن حلف لا ينام على فراش فنام عليه وفوقه قرام حنث، لأنه تبع للفراش فيعد نائما عليه، وإن جعل فوقه فراشا آخر فنام عليه لا يحنث، لأن مثل الشيء لا يكون تبعا له، فتنقطع النسبة عن الأول. ولو حلف لا يجلس على
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(النحل: الآية 14) ، والمستخرج من الجوهر اللؤلؤ غير مرصع، وعلى هذا الخلاف عقد زبرجد أو زمرد غير مرصع.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (أنه) ش: أي اللؤلؤ م: (لا يتحلى به عرفًا إلا مرصعًا، ومبنى الأيمان على العرف) ش: وقال التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والرعياني: ومن مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - من قال على قياس قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا بأس بلبس المرأة والرجال اللؤلؤ.
م: (وقيل هذا اختلاف عصر وزمان) ش: لا حجة وبرهان، لأنه لا يتحلى به وحده في زمانه وفي زمانهما كان يتحلى به وحده. قال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كل واحد منهم قال على عادة زمانه.
وقال صاحب الهداية - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ويفتى بقولهما) ش: لأن قولهما أقرب إلى عرف ديارنا.
قلت: هكذا العرف في سائر الديار، خصوصًا في الديار المصرية.
[حلف لا ينام على فراش فنام عليه وفوقه قرام]
م: (ومن حلف لا ينام على فراش) ش: أي فراش معنى، بدليل قوله وإن جعل فوقه فراش آخر م: (فنام عليه) ش: لا يحنث، فلو كان المراد منكرًا حنث، لأنه نام على فراش فنام عليه م: (وفوقه قرام) ش: بكسر القاف وتخفيف الراء وهو الرقيق، كذا في " الجمهرة " م: (حنث لأنه) ش: أي لأن القوم م: (تبع للفراش، فيعد نائمًا عليه) ش: الأصل في هذا أن الشيء، إذا كان فوق شيء، فإن كان الأعلى يصلح أن يكون أصلًا بنفسه يضاف الجلوس والنوم إليه لا إلى الذي تحته، وإن كان الأعلى تبعًا يضاف إلى ما تحته، فاعتبر ذلك في الذي مضى، وفي الذي يأتي وهو قوله.
م: (وإن جعل فوقه فراشًا آخر فنام عليه لا يحنث، لأن مثل الشيء لا يكون تبعًا له، فقطع النسب عن الأول) ش: أي عن الفراش الأول فلا يحنث، لأن يمينه على الأول، ولم يتم على الأول، وهو ظاهر الرواية عن أصحابنا، وهي رواية " الجامع الكبير ".
وقال صاحب " المختلف ": قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأمالي ": يحنث، لأنه نام عليهما جميعًا ويقال في العرف أيضًا نام على الفراشين.
م: (ولو حلف لا يجلس على الأرض فجلس على بساط أو حصير لم يحنث، لأنه لا يسمى(6/240)
الأرض فجلس على بساط أو حصير لم يحنث، لأنه لا يسمى جالسًا على الأرض، بخلاف ما إذا حال بينه وبين الأرض لباسه، لأنه تبع له، فلا يعتبر حائلًا. وإن حلف لا يجلس على سرير فجلس على سرير فوقه بساط أو حصير حنث، لأنه يعد جالسًا عليه، والجلوس على السرير في العادة كذلك، بخلاف ما إذا جعل فوقه سريرًا آخر، لأنه مثل الأول، فتقطع النسبة عنه، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جالسًا على الأرض، بخلاف ما إذا حال بينه وبين الأرض لباسه) ش: أي صار لباس الحالف حائلًا، أي حاجزًا بين الحالف وبين الأرض م: (لأنه) ش: أي لأن لباس الحالف م: (تبع له) ش: أي للحالف م: (فلا يعتبر حائلًا) ش: فيحنث.
م: (ولو حلف لا يجلس فجلس على سرير فوقه بساط أو حصير حنث، لأنه يعد جالسًا عليه) ش: أي على السرير م: (والجلوس على السرير في العادة كذلك) ش: ألا ترى أنهم يقولون جلس الأمير على السرير، وإن كان فوق السرير بساطًا فيعدونه تبعًا للسرير م: (بخلاف ما إذا جعل فوقه سريرًا آخر، لأنه مثل الأول، فتقطع النسبة عنه) ش: وقال الحاكم الشهيد في " الكافي ": وإن حلف لا يمشي على الأرض فمشى عليها بنعل أو خف حنث، وإن حلف على بساط لم يحنث، وإن مشى على ظهر أحجار حنث، لأنها من الأرض.(6/241)
باب اليمين في القتل والضرب وغيره ومن قال لآخر: إن ضربتك فعبدي حر، فهو على الحياة؛ لأن الضرب اسم لفعل مؤلم يتصل بالبدن والإيلام لا يتحقق في الميت، ومن يعذب في القبر يوضع فيه الحياة في قول العامة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب اليمين في القتل والضرب وغيره] [قال إن ضربتك فعبدي حر فمات فضربه]
م: (باب اليمين في القتل والضرب وغيره) ش: أي هذا باب في بيان حكم اليمين في الضرب والخنق والعض وحكم اليمين في القتل قوله - وغيره - أي وغير المذكور من الضرب والقتل مثل القتل والخنق والعض.
م: ومن قال إن ضربتك فعبدي حر) ش: فمات فضربه م: (فهو على الحياة) ش: أي حلف على كل كونه المخاطب حيًا م: (لأن الضرب اسم لفعل مؤلم) ش: أي موجع م: (يتصل بالبدن والإيلام لا يتحقق في الميت) ش: ونوقض بقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] (ص: الآية 44) ، وصف النبي أيوب - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في يمينه بالضرب بهذا الذي ذكر ولم يوجد الإيلام لما أن الضغث عبارة عن الحزمة الصغيرة من ريحان أو حشيش، فلم يكن لمجموعه إيلام، فكيف الجزاء.
وأجيب: بأنه جاز أن يكون هذا حكمًا ثابتًا بالنص في حق أيوب - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خاصة، إكرامًا له في حق امرأته تخفيفًا عليها، لعدم جنايتها على خلاف القياس، ولا يلحق به غيره.
وقيل ذلك ثبت رخصة في حقه خاصة، حيث حلل الله يمينه بأهون شيء أراه عن امرأته وحسن خدمتها إياه، وكلامها في الغريمة فلا يقاس على ما ثبت رخصة، بخلاف القياس وغيره.
وفي " شرح الطحاوي " ومن حلف ليضربن فلانًا مائة سوط فضرب بها مرة واحدة إن وصل إليه كل سوط بحاله، بر في يمينه، والإيلام شرط فيه، لأن المقصود من الضرب الإيلام، وبه قال المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الشافعي: يبر بمجرد الضرب بدون الإيلام. وقال مالك وأحمد - رحمهما الله: يحنث. وفي وصول الألم شرط عندهما.
م: (ومن يعذب في القبر يوضع فيه الحياة) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر، بأن يقال: إن قولكم الإيلام لا يتحقق في الميت، لكن يعذب الميت في القبر، فأجاب بقوله ومن يوضع.... إلى آخره م: (في قول العامة) ش: احترز به عن قول الكرامية والصالحية، وهم قوم ينسبون إلى أبي الحسين الصالحي، فإنهم لا يشترطون الحياة شرطًا لتعذيب المسبب، وعذاب القبر ثابت عند أهل السنة وإن اختلفوا في كيفيته.
فقال بعضهم: يؤمن بأهل العذاب ويسكت عن الكيفية، لأن الواجب علينا تصديق ما جاء في السنة المشهورة، وهو التعذيب بعد الموت. وعند العامة يوضع فيه الحياة، لأن الإيلام(6/242)
وكذلك الكسوة، لأنه يراد به التمليك عند الإطلاق، ومنه الكسوة في الكفارة، وهو من الميت لا يتحقق إلا أن ينوي به الستر. وقيل بالفارسية ينصرف إلى اللبس، وكذا الكلام والدخول، لأن المقصود من الكلام الإفهام، والموت ينافيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا يكون بلا حياة ولا علم. ثم اختلفوا فقيل يوضع فيه الحياة بقدر ما يتألم لا الحياة المطلقة. وقيل يوضع فيه الحياة من كل وجه.
م: (وكذلك الكسوة) ش: يعني إن قال إن كسوتك فعبدي حر، فكساه بعد الموت لا يحنث م: (لأنه يراد به) ش: أي بالكسوة على تأويل الاكتساء م: (التمليك) ش: أي تمليك الثوب م: (ومنه الكسوة في الكفارة) ش: أي في كفارة اليمين، قال الله عز وجل: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] فلو أنه أكسى عشرة أموات عن كفارة يمينه لم يجزه، لعدم التمليك، يؤيده أن الرجل لو قال كسوتك هذا الثوب يصير هبة.
قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيه نظر لا يخفى م: (وهو) ش: أي التمليك م: (من الميت لا يتحقق) ش: ولهذا لو تبرع عليه أحد بالكفن ثم أكله السبع يعود الكفن إلى المتبرع لا إلى وارث الميت، ذكره التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إلا أن ينوي به) ش: أي بالكسوة على تأويل الاكتساء م: (الستر) ش: فحينئذ يحنث، لأن فيه تشديدًا عليه، والميت يستر كالحي.
فإن قيل: الميت مما يكسى الكفن.
قلنا: لا، ولكن يلبس الكفن، والإلباس غير الاكتساء، فإنه لا يبنى على التمليك، والاكتساء يبنى على التمليك، يقال كسا الأمير فلانًا، أي ملكه كسوة، والإلباس عبارة عن الستر والتغطية، والميت محل لذلك، ألا ترى أنه لو حلف لا يلبس فلانًا ثوبًا فهو على الحياة والوفاة جميعًا كذا كره قاضي خان والمحبوبي - رحمهما الله.
م: (وقيل بالفارسية) ش: قائله أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن اليمين المذكور إذا كانت باللغة الفارسية م: (ينصرف إلى اللبس) ش: يعني يراد به اللبس، ولا يراد به التمليك م: (وكذا الكلام) ش: وإن حلف لا يكلم فلانًا فكلمه بعد موته لا يحنث م: (والدخول) ش: بأن حلف لا يدخل على فلان فدخل عليه بعد ما مات لا يحنث في يمينه م: (لأن المقصود من الكلام الإفهام) ش: أي إفهامه فلانًا م: (والموت ينافيه) ش: أي ينافي الكلام، لأن المراد من الكلام الإسماع، والميت ليس بأهل الإسماع. ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم: 52] (الروم: الآية 52) ، وإلى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] (فاطر: الآية 22) .
فإن قيل: قد روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلم أصحاب القليب يوم بدر حيث سماهم بأسمائهم " فقال هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا، فقد وجدت ما وعدني ربي حقًا» » .(6/243)
والمراد من الدخول عليه زيارته، وبعد الموت يزار قبره لا هو.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: أجاب الأكمل: بأن ذلك كان معجزة له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنهم لما قالوا يا رسول الله إنهم لا يسمعون، فقال: إنهم يسمعون كما تسمعون، وإنما أراد بهم - وإنهم يعلمون أن الذي قلت لهم حقًا.
قال الكاكي: فإن قيل: قد روي «أن قتلى بدر لما ألقوا في القليب قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رأس القليب، وقال هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا، فقال عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتكلم الميت يا رسول الله؟! فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما أنتم بأسمع من هؤلاء» .
قلنا: هو غير ثابت، فإنه لما بلغ هذا الحديث عائشة، قالت: كذبتم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه تعالى قال: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] (الروم: الآية 52) ، {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] (فاطر: الآية 22) ، على أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان مخصوصًا به معجزة له.
وقيل: المقصود به وعظ الأحياء لا إفهام الموتى كما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أنه إذا أتى المقابر قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " سلام عليكم ديار قوم مؤمنين أما نساؤكم فقد نكحت، وأما أموالكم فقد قسمت، وأما دوركم فقد سكنت، فهذا خبركم عندنا، فما خبرنا عندكم "، وكان يقول: " سبيل للأرض من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك، فإن لم تجبك جوابًا بإجابتك اعتبارًا "، كان ذلك على سبيل الوعظ للأحياء لا للخطاب للموتى.
[قال لامرأته إن وطئتك أو قبلتك فعبده حر]
م: (والمراد من الدخول عليه) ش: أي على فلان م: (زيارته، وبعد الموت يزار قبره لا هو) ش: أي لا يزار الميت، لأن المراد من الدخول عليه إكرامه بتعظيمه أو إهانته بتحقيره أو زيارته فلا يتحقق الكل بعد الموت. ولأن الميت كالغائب في حق الأخيار، ومن طاف بباب رجل لا يعد زائرًا له.
ولو دخل عليه وهو نائم لا يعد زائرًا أولى، وقال في " شرح الطحاوي ": الأصل في هذا أن في كل بلد [....
] يقع على الحياة دون الممات كالضرب والجماع والشتم والكسوة والدخول عليه.
وفي " الكافي ": الأصل في هذا أن ما يشارك الميت فيه الحي فاليمين، وقال على الحالين، وأما ما اختص به الحي فيتقيد بالحياة. فلو قال: إن ضربتك أو كسوتك أو كلمتك أو دخلت عليك أو قال لامرأته إن وطئتك أو قبلتك فعبده حر يتقيد بالحياة، حتى لو فعل هذه الأشياء بعد الموت لا يحنث، والغرض في الوطء والتقبيل لا يتحقق بعد الموت.
فإن قيل: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل عثمان بن مظعون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد ما أدرج في الكفن» وقبل أبو بكر بين عيني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ما أدرج في الكفن.(6/244)
ولو قال: إن غسلتك فعبدي حر، فغسله بعدما مات يحنث، لأن الغسل هو الإسالة، ومعناه التطهير، ويتحقق ذلك في الميت،
ومن حلف لا يضرب امرأته فمد شعرها أو خنقها أو عضها حنث، لأنه اسم لفعل مؤلم، وقد تحقق الإيلام، وقيل: لا يحنث في حال الملاعبة، لأنه يسمى ممازحة لا ضربا. ومن قال: إن لم أقتل فلانا فامرأته طالق، وفلان ميت وهو عالم به حنث؛ لأنه عقد يمينه على حياة يحدثها الله تعالى فيه، وهو متصور فينعقد ثم يحنث للعجز العادي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلنا: هذا ضرب الشفقة أو التعظيم والموت لا ينافيه، وتقبيل النساء لإقضاء الشهوة، فيقيد بالحياة حتى لو كان للشفقة أو التعظيم كما في الولد أو الوالد والعالم. قيل لا يقيد بالحياة.
وقيل يتقيد أيضًا، لأن الأوهام لا تنصرف إلى تقبيل الميت بخلاف. وإن غسلتك أو حملتك [......] ، فلأنها لا تقيد بالحياة، لأن الغسل يراد به التنظيم والتطهير، وهذا يتحقق في الميت أشار إليه بقوله: م: (ولو قال: إن غسلتك فعبدي حر، فغسله بعد ما مات يحنث، لأن الغسل هو الإسالة، ومعناه التطهير، ويتحقق ذلك في الميت) ش: ألا ترى أنه يجب غسل الميت بتطهير كيف ينافيه، ولو صلى على ميت قبل الغسل لم يجز، وبعده يجوز.
[حلف لا يضرب امرأته فشد شعرها أو عضها أو خنقها]
م: (ومن حلف لا يضرب امرأته فمد شعرها أو عضها أو خنقها حنث، لأنه) ش: أي لأن الضرب م: (اسم لفعل مؤلم، وقد تحقق الإيلام) ش: بهذا الفعل، وكذلك إذا قرصها أو وجأها، ذكره في الأصل، وبه قال أحمد ومالك - رحمهما الله - فمالك يعتبر وصول الألم إلى جسمها أو قلبها من سب أو شتم أو غيره ليتحقق الإيلام بها، وهو المقصود، وبعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل قوله، وعند الشافعي العض والخنق والقرص ونتف الشعر فليس بضرب، ولا يشترط فيه الإيلام.
م: (وقيل لا يحنث في حال الملاعبة، لأنه يسمى ممازحة لا ضربًا) ش: قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا يدل على أنه لو ضربه حال الممازحة لا يحنث.
وقال فخر الإسلام البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير ": هذا إذا كان في الغضب، أما إذا كان يلاعبها فضربها برأسه خطأ منه فأصاب أنفها فأدماه وآلمها لم يحنث، لأن هذا لا يعد ضربًا.
ونقل في " الخلاصة " عن " المنتقى ": إذا حلف لا يضرب فلانًا فنعص ثوبه فأصاب وجهه، أو رماه بحجر أو نشابة فأصابه لا يحنث.
م: (ومن قال: إن لم أقتل فلانًا فامرأته طالق، وفلان ميت، وهو عالم به حنث، لأنه عقد يمينه على حياة يحدثها الله تعالى فيه، وهو متصور) ش: يعني يمكن بالنظر إلى قدرة الله م: (فينعقد) ش: يمينه عليه م: (ثم يحنث للعجز العادي) ش: أي لعجزه عادة عن قتله.(6/245)
وإن لم يعلم به لا يحنث. لأنه عقد يمينه على حياة كانت فيه. ولا يتصور فيصير قياس مسألة الكوز على الاختلاف. وليس في تلك المسألة تفصيل العلم هو الصحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن لم يعلم به لا يحنث، لأنه عقد يمينه على حياة كانت فيه، ولا يتصور) ش: البر، فلما لم يتصور البر لم يتصور الحنث م: (فيصير) ش: أي حكم هذه المسألة م: (قياس مسألة الكوز) ش: إذا حلف إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز اليوم، فامرأته طالق م: (على الاختلاف) ش: المذكور فيها، وهو أن عندهما لا يحنث.
وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحنث، كما قال في مسألة الكوز، لأن تصور البر ليس بشرط عنده، وقد مر تقريره في باب اليمين في الأكل والشرب.
م: (وليس في تلك المسألة) ش: أي في مسألة الكوز م: (تفصيل العلم) ش: يعني أنه لا يقال فيها أنه علم أو لم يعلم، يعني سواء علم عدم الماء في الكوز أو لم يعلم بخلاف قتل فلان، فإنه إذا علم بموته يحنث، وإذا لم يعلم بموته لا يحنث م: (هو الصحيح) ش: احترز به عن قول المشايخ في العراق، فإنهم قالوا في مسألة الكوز، هذا إذا لم يعلم، يعني عدم الحنث عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - إذا لم يعلم بعدم الماء في الكوز، فأما إذا علم فيحنث أي يصح يمينه، فيحنث نقل قولهم فخر الإسلام البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير ".(6/246)
باب اليمين في تقاضي الدراهم قال: ومن حلف ليقضين دينه إلى قريب، فهو على ما دون الشهر، وإن قال إلى بعيد، فهو أكثر من الشهر، لأن ما دونه يعد قريبا، والشهر وما زاد عليه يعد بعيدا، ولهذا يقال عند بعد العهد ما لقيتك منذ شهر. ومن حلف ليقضين فلانا دينه اليوم، فقضاه ثم وجد فلان بعضها زيوفا أو بنهرجة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب اليمين في تقاضي الدراهم] [حلف ليقضين دينه إلى قريب]
م: (باب اليمين في تقاضي الدراهم) ش: أي هذا باب في بيان اليمين بتقاضي الدين، وإنما خص الدراهم بالذكر دون الدنانير، لأنها أكثر استعمالًا حتى قدر أقل المهر ونصاب السرقة بها دون الدنانير، ونقب الباب بتقاضي الدين، يعني استيفائه وهو الطلب بقضائه، وذكر مسائله بلفظ القضاء، وهو الأداء. والقضاء يجيء بمعنى الأداء قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} [الجمعة: 10] (الجمعة: الآية 10) ، أي إذا أديت.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن حلف ليقضين دينه إلى قريب، فهو على ما دون الشهر، وإن قال بعيد فهو أكثر من الشهر، لأن ما دونه يعد قريبًا، والشهر وما زاد عليه يعد بعيدًا) ش: وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا حد لذلك كما قاله في " شرح الأقطع "، وبيان مذهبه أن مدة القريب والبعيد لا تنفذ بشيء.
وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لوقوعهما على القليل والكثير فمتى قضاه بر، وإنما يحنث إذا مات قبل أن يقضيه مع التمكن م: (ولهذا) ش: أي ولأجل أن ما زاد على الشهر يعده بعيدًا م: (يقال عند بعد العهد ما لقيتك منذ شهر) ش: وهذا فيما إذا لم ينو، أما إذا نوى. فهو على ما نوى بدليل ما ذكره في " الأجناس ".
وقال: لو حلف والله لا أكلمك قريبًا، فهو على أقل من شهر بيوم، ثم قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن نوى أكثر من شهر يدين في القضاء وفي " فتاوى الولوالجي ": لو قال: لأعطين حقك عاجلًا، وهو ينوي وقتًا، فهو على ما نوى، وإن نوى ستة، لأن الدنى كلها قريب عاجل.
فإن قيل: ما من زمان إلا وهو قريب، بالإضافة إلى ما هو فوقه، وبعيد بالإضافة إلى ما هو دونه، فلم يدل دليل على إرادة البعض دون البعض.
وأجيب: بأنا لا نسلم عدم الدلالة، وكيف لا يدل والعرف دليل يمينه، ومبنى الأيمان على العرف.
م: (ومن حلف ليقضين فلانًا دينه اليوم فقضاه، ثم وجد فلانًا بعضها) ش: أي بعض دراهم الدين م: (زيوفًا) ش: جمع زيف، وهو ما زيفه بيت المال، ولكن يروج فيما بين التجار، وهو من زافت عليه دراهم، أي صارت مردودة عليه م: (أو بنهرجة) ش: قال الأترازي: البنهرج ما(6/247)
أو مستحقة لم يحنث الحالف، لأن الزيافة عيب، والعيب لا يعدم الجنس. ولهذا لو تجوز به، صار مستوفيا فوجد شرط البر،
وقبض المستحقة صحيح. ولا يرتفع برده البر المتحقق وإن وجدها رصاصا أو ستوقة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يهرجه التجار لغش فيه وهو أردى من الزيف.
وقال الكاكي: قيل البهرجة لفظة أعجمية معربة، وأصلها بنهرجة، وهو الخط، يعني خط هذه الدراهم من الفضة أقل ومن الغير أكثر مما يوجد في دار الضرب.
وفي " المبسوط ": البنهرجة ما يهرجه التجار والتسامح منهم تجويزه. والمستفضي منهم لا يجوز به لغش فيه م: (أو مستحقة) ش: أي أو وجدها فلان مستحقة استحقها شخص ينيب م: (لم يحنث الحالف) ش: وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقولنا.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حنث. قال اللخمي - من أصحابه - هذا مراعاة اللفظ، أما بالنظر إلى القامة لا يحنث م: (لأن الزيافة عيب) ش: وفي " المغرب ": قياس مصدره الزيوف، وأما الزيافة لغة الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (والعيب لا يعدم الجنس) ش: يعني اسم الدراهم لا يزول بهذه الأوصاف لأنها غير العيب لا يعدم الجنس.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل عدم زوال اسم الدراهم بهذه الأوصاف م: (لو تجوز به) ش: أي لو تسامح القابض بالدراهم الزيوف والبنهرجة م: (صار مستوفيًا) ش: حقه.
وكذا لا تجوز بها في رأس مال المسلم وبدل الصوم فيجوز ولو فات بذلك اسم الدراهم لكان يفسد ألا وهو حرام فيهما م: (فوجد شرط البر) ش: فلا يحنث.
[أدى المكاتب بدل الكتابة وحكم بعتقه ثم وجد البدل ستوقة]
م: (وقبض المستحقة صحيح) ش: حتى لو أجازت المستحق جاز وعند عدم الإجازة ينفسخ القبض.
وكذا لو أجازه المستحق في الصرف والسلم بعد الافتراق جاز فيوجد شرط البر فيه.
م: (ولا يرتفع برده) ش: أي برد ما قضى من الزيوف والبهرجة أو المستحقة م: (البر المتحقق) ش: لأن شرطه البر، لا يحتمل الإنقاض لأن اليمين لما انحلت بوجود الشرط لم يقل الفسخ، والإنقاض كالكتابة فإن مولى المكاتب إذا رأى البدل لكونه زيوفًا أو بهرجة أو استرد بالاستحقاق لا ينقض العتق، بخلاف قضاء الدين، فإنه ينقض برد القيود بعيب، أو الاستحقاق لأن بناء القامة وقد زالت.
م: (وإن وجدها رصاصًا أو ستوقة) ش: بفتح السين فارسية معربة ومعناها ثلاث طاقات، لأنها صفر مموه من الجانبين بالفضة، وقيل، والمستوقة أردى من البنهرجة.(6/248)
حنث، لأنهما ليسا من جنس الدراهم، حتى لا يجوز التجوز بهما في الصرف والسلم، وإن باعه بها عبدا وقبضه بر في يمينه، لأن قضاء الدين طريقه المقاصة وقد تحققت بمجرد البيع فكأنه شرط القبض ليتقرر به، وإن وهبها له يعني الدين، لم يبر لعدم المقاصة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن " الكرخي ": المستوقة عندهم ما كان الصفر أو النحاس غالبًا م: (حنث) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنهما) ش: أي لأن الرصاص الستوقة م: (ليسا من جنس الدراهم حتى لا يجوز التجوز بهما في الصرف والسلم) ش: أي حتى لا يجوز التسامح بهما في ثمن الصرف، وكذا في السلم لأنها ليست من جنس الدراهم.
ولهذا لو وجد مولى المكاتب بدل الكتابة رصاصًا أو ستوقة، لا يعتق المكاتب. وكذا قال الشيخ أبو المعين النسفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكر التمرتاشي لو أدى المكاتب بدل الكتابة وحكم بعتقه ثم وجد البدل ستوقة لم يعتق، ولو وجد زيوفًا أو بنهرجة أو مستحقة لم يبطل العتق.
م: (وإن باعه بها عبدًا) ش: أي وإن باع الحالف المديون رب الدين بالدراهم التي لرب الدين عبدًا م: (وقبضه) ش: أي قبض العبدين رب الدين م: (بر في يمينه) ش: أي بر الحالف في يمينه لأنه قضى دينه، لأن قضاء الدين طريقه المقاصة م: (لأن قضاء الدين طريقه المقاصة، وقد تحققت بمجرد البيع) ش: فيحتمل القضاء في يمينه بيانه أن حق رب الدين في الدين لا في العين، والقضاء لا يتحقق في نفس الدين لأنه وصف ثابت في الذمة، ولكن ما يقتضيه رب الدين من العين يصير مضمونًا عليه، لأنه قبض على جهة التملك، فكان دينًا عليه للمديون، ولرب الدين على المديون مثله، فاكتفى الإتيان قصاصًا.
وهذا معنى قول أصحابنا: المديون يقضي بأمثالها لا بأعيانها فلا يحقق انفساخه بمجرد البيع قبض الدين العبد أو لم يقبض، ولكن قيد القبض وقع في رواية " جامع الصغير "، أشار إليه المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله: م: (فكأنه) ش: أي فكأن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (شرط القبض) ش: في رواية " الجامع " م: (ليتقرر به) ش: أي ليتأكد البيع بالقبض، لأن المبيع إذا هلك قبل القبض ينفسخ البيع، لكن لا يرتفع البر لأنه لا يقبل الانتقاض، هذا الذي ينافي البيع الصحيح. أما في البيع الفاسد إذا قبض العبد.
فإن كان في قيمته وفاء بالحق بر والإ حنث مضمون بالقسمة م: (وإن وهبها) ش: أي وإن وهب المداين دراهم الدين م: (له) ش: للمديون، وفسره بقوله م: (يعني الدين لم يبر) ش: لأنه شرط البر القضاء ولم يوجد م: (لعدم المقاصة) ش: قال الكاكي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله لم يبر قولهم أنه يحنث، بل معناه لم يبر ولم يحنث أيضًا عندهما خلافًا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لفوات المحلوف عليه وهو الدين كما في مسألة الكوز، لأن قوله لم يبر أعم من قوله يحنث، ومن قوله تبطل اليمين فحمل على الثاني تصحيحًا لكلامه.(6/249)
لأن القضاء فعله، والهبة إسقاط من صاحب الدين.
ومن حلف لا يقبض دينه درهما دون درهم فقبض بعضه لم يحنث حتى يقبض جميعه متفرقا، لأن الشرط قبض الكل، لكنه بوصف التفرق ألا ترى أنه أضاف القبض إلى دين معرف مضاف إليه، فينصرف إلى كله، فلا يحنث إلا به، فإن قبض دينه في وزنين ولم يتشاغل بينهما إلا بعمل الوزن لم يحنث، وليس ذلك بتفريق. لأنه قد يتعذر قبض الكل دفعة واحدة عادة، فيصير هذا القدر مستثنى عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فيه نظر، لأنه حينئذ يلزم منه ارتفاع النقيضين، وهو فاسد لأن البر نقيض الحنث، فمن وجود أحدهما يلزم ارتفاع الآخر، ومن ارتفاع أحدهما يلزم وجود الآخر فلا يجوز أن يرتفعا جميعًا.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - ردًا عليه: ليسا بنقيضين على اصطلاح أهل المعقول وغير الحالف لا يتصف بأحدهما وشأن النقيضين ليس كذلك، فإذا بطل اليمين بفوات تصور البر صار كغير الحالف من الناس، فيجوز أن يتصف بواحد منهما.
وقيل: ذكر اليوم في وضع المسألة وقع سهوًا من الكاتب. وذكر البزدوي والسرخسي وأبو المعين هذه المسألة مطلقة غير مؤقتة باليوم.
وفي " المحيط " ولو أبراه أو وهبه لم يحنث، وكذا لو حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفي الدين، فوهبه وأبراه لم يحنث عندهما، خلافًا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه قال الشافعي وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (لأن القضاء فعله) ش: أي ولأن القضاء فعل المديون بالإبراء أو الهبة م: (والهبة إسقاط من صاحب الدين) ش: يعني الهبة فعل الدين بالإبراء، وهو إسقاط منه، فلا يكون فعل أحدهما فعلا للآخر، فلا يبر المديون بفعل الدائن.
[حلف لا يقبض دينه درهما دون درهم فقبض بعضه]
م: (ومن حلف لا يقبض دينه درهمًا دون درهم فقبض بعضه لم يحنث حتى يقبض جميعه متفرقًا لأن الشرط قبض الكل) ش: أي لأن شرط الحنث قبض كل الدين متفرقًا، وهو معنى قوله م: (لكنه بوصف التفرق ألا ترى أنه أضاف القبض إلى دين معرف) ش: حيث قال: لا يقبض دينه م: (مضاف إليه) ش: أي إلى الدين م: (فينصرف إلى كله فلا يحنث إلا به) ش: أي بالشرط المذكور وهو قبض الكل متفرقا ولو قبض في أول الشهر بعضه وفي آخره بعضه حنث لوجود الشرط بخلاف التفريق الضروري أشار إليه بقوله: م: (فإن قبض دينه في وزنين ولم يتشاغل بينهما إلا بعمل الوزن لم يحنث وذلك ليس بتفريق، لأنه قد يتعذر قبض الكل دفعة واحدة عادة فيصير هذا القدر مستثنى عنه) ش: هذا الذي ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - استحسانًا والقياس أن يحنث.
كذا ذكر أبو المعين النسفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الكبير "، وبالقياس قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن شرط الحنث قبض الكل متفرقًا، وقد حصل ذلك لما وزن خمسين فدفعها إليه،(6/250)
ومن قال: إن كان لي إلا مائة درهم فامرأته طالق، فلم يملك إلا خمسين درهما لم يحنث، لأن المقصود منه عرفا نفي ما زاد على المائة، ولأن استثناء المائة استثناؤها بجميع أجزائها. وكذلك لو قال غير مائة أو سوى مائة؛ لأن كل ذلك أداة الاستثناء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم وزن خمسين أخرى فدفعها إليه لأنه حصل قبض الكل بصفة التفريق.
وجه الاستحسان أن الناس يعدون هذا قبض الجملة دفعة واحدة، فيقولون قبض فلان حقه دفعة واحدة، والحال إذا كثر لا يمكن قبضه إلا بهذه الطريق، فصار هذا القدر من التفرق مما لا يمكن الامتناع منه فيجعل مستثنى عن اليمين لا بدلالة الحال، وهو نظير لا أسكن هذه الدار وهو ساكنها.
م: (ومن قال إن كان لي إلا مائة درهم فامرأته طالق، فلم يملك إلا خمسين درهمًا لم يحنث، لأن المقصود منه عرفًا، نفي ما زاد على المائة) ش: وشرط الحنث ما زاد على المائة، فلم يوجد الشرط فيما دون المائة فلم يحنث م: (ولأن استثناء المائة استثناؤها بجميع أجزائها) .
ش: وكذا لأن مستثنى المائة يكون مستثناه للخمسين ضرورة، لأن الاستثناء لا يكون إلا بجميع أجزائها، والخمسون من أجزائها.
م: (وكذلك لو قال: غير مائة أو سوى مائة، لأن كل ذلك أداة الاستثناء) ش: لأن حكم لفظ غير ولفظ سوى حكم الأدنى وفي " الجامع الكبير ": لو قال: عبدي حر إن كنت لا أملك إلا خمسين درهمًا، فلم يملك إلا عشرة لم يحنث لأنها بعض المستثنى، ولو ملك زيادة على خمسين أو كان من جنس مال الزكاة، وحلف ما لي مال، يحنث بمال الزكاة.
وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحنث بكل مال وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - المال هو الذهب والفضة.(6/251)
مسائل متفرقة
وإذا حلف لا يفعل كذا تركه أبدا، لأنه نفى الفعل مطلقا فعم الامتناع ضرورة عموم النفي وإن حلف ليفعلن كذا ففعله مرة واحدة بر في يمينه، لأن الملتزم فعل واحد غير عين إذ المقام مقام الإثبات، فيبر بأي فعل فعله، وإنما يحنث لوقوع اليأس عنه وذلك بموته أو بفوت محل الفعل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[مسائل متفرقة في الأيمان] [حلف لا يفعل كذا]
م: (مسائل متفرقة) ش: أي هذه مسائل متفرقة، وارتفاع مسائل على أنه خبر مبتدأ محذوف إلى هذه مسائل، ومتفرقة صفتها ومعناها من مواضع شتى، وقد جرت عادة المصنفين - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بأن يذكروا ما شذ من المسائل في كل كتاب في آخر أبوابه استدراكًا له.
م: (وإذا حلف لا يفعل كذا تركه أبدًا لأنه نفى الفعل مطلقًا فعم الامتناع) ش: أي الامتناع في الفعل أبدًا م: (ضرورة عموم النفي) ش: لأن قوله لا يفعل بمقتضى مصدره أنكره، فدلالته على المصدر ظاهرًا، لأنه لا ينفك عنه. وأما كونه نكرة، فهو الأصل، لأن المعرفة تعارض النكرة وإذا وقعت في موضع النفي تعم، فإذا فعل بوجه من الوجوه من الأوقات حنث.
م: (وإذا حلف ليفعلن كذا ففعله) ش: أي فعل ذلك الفعل م: (مرة واحدة بر في يمينه، لأن الملتزم) ش: بفتح الزاي أي الذي التزمه الحالف م: (فعل واحد غير عين) ش: أي غير معين، نحو قوله ليصلين أو ليصومن أو ليحجن أو ليتصدقن، فإنه إذا فعل ذلك الشيء من هذه الأشياء مرة واحدة بر في يمينه م: (إذ المقام مقام الإثبات) ش: لأن النكرة في موضع الإثبات لا تعم فتجزئ بأدنى ما يطلق عليه اسم المحلوف عليه، سواء فعله مختارًا أو مكرهًا أو ناسيًا بطريق الوكالة وهو معنى قوله م: (فيبر بأي فعل فعله وإنما يحنث لوقوع اليأس عنه) ش: أي عن ذلك الفعل. م: (وذلك) ش: أي اليأس منه م: (بموته) ش: أي بموت الحالف م: (أو بفوات محل الفعل) ش: وهو المحلوف عليه، كما إذا حلف لآكلن هذا الرغيف، أو لأبصرن البصرة، فإن مات هذا حنث. قال صاحب " التحفة " ويجب عليه الكفارة ويرضى بها إذا كان الهالك هو الحالف.
قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا الذي ذكره فيما إذا عقد يمينه مطلقًا، أما إذا عقده مؤقتًا، فلا يحنث قبل مضي ذلك الوقت، وإن وقع اليأس بموته يفوت المحل، لما أن الوقت مانع من الانحلال، إذ لو انحل قبل مضي الوقت، لم يكن للوقت فائدة كذا في " الإيضاح ".
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ومعنى قوله لا يفعل كذا تركه أبدًا فيما إذا كانت اليمين مطلقة. أما إذا كانت مؤقتة بزمان، كاليوم والشهر، فيتوقت يمينه بذكر الزمان، فبعد ذلك تنحل يمينه، ولا يلزم ترك الفعل بعد ذلك الزمان.(6/252)
وإذا استحلف الوالي رجلا ليعلمنه بكل داعر دخل البلد. فهو على حال ولايته خاصة لأن المقصود منه دفع شره أو شر غيره بزجره. فلا يفيد فائدته بعد زوال سلطنته، والزوال بالموت وكذا بالعزل في ظاهر الرواية،
ومن حلف أن يهب عبده لفلان، فوهبه ولم يقبل فقد بر في يمينه خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما التوقيت في الإثبات كقوله: والله لآكلن هذا الرغيف اليوم، فإنه لا يحنث ما دام الحالف والمحلوف عليه قائمين. واليوم باق، أما إذا قضي اليوم يحنث، وإن كان قائمين بفوات البر لفوات الوقت المعين. وأما إذا هلك الحالف قبل مضي اليوم لا يحنث بالاتفاق، وإن هلك المحلوف عليه وهو الرغيف قبل مضي اليوم، أجمعوا أنه لا يحنث في الحال، فإذا مضى اليوم اختلفوا. قال أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله: لا يحنث في يمينه. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحنث، وتجب الكفارة، لأن تصور البر ليس بشرط عنده خلافًا لهما.
م: (وإذا استحلف الوالي) ش: بتشديد اللام من التحليف م: (رجلًا ليعلمنه) ش: من الإعلام م: (بكل داعر دخل البلد) ش: وفي بعض النسخ مكان كل داعر، " والداعر " وبالدال والعين المهملتين، على وزن فاعل وهو الخبيث المفسد من الناس، وجمعه دعار من الدعر، وهو الفساد.
يقال دعر العود تدعر دعرًا من باب علم يعلم إذا فسد م: (فهو على حال ولايته خاصة) ش: أي يفيد اليمين على حال ولايته، وبه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في قول، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
م: (لأن المقصود منه) ش: أي لأن غرض المستحلف من هذا م: (دفع شره أو شر غيره) ش: أي دفع الداعر أو دفع غيره أي غير الداعر م: (بزجره) ش: أي بزجر الداعر، يعني لو زجر الداعر ينزجر غيره من الرعاة م: (فلا يفيد فائدته) ش: أي فائدة الزجر م: (بعد زوال سلطنته) ش: أي سلطنة هذا الوالي، أي شوكته وقدرته على ما بطلت منه م: (والزوال بالموت) ش: أي بموت هذا الوالي م: (وكذا بالعزل) ش: أي بعزله.
م: (في ظاهر الرواية) ش: عن أصحابنا وهي رواية الزيادة، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجب الرفع إليه بعد العزل. وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية لأنه يفيد في الجملة لاحتمال أن يولى ثانيًا، فيؤدي الداعر عينه يبطل الدفع بقوله لا بموته. وكذا السلطان إذا حلف رجلًا أن لا يخرج من الكورة إلا بإذنه، فهو على ولايته كذا في " الزيادات ".
[حلف أن يهب عبده لفلان فوهبه ولم يقبل الموهوب له]
م: ومن حلف أن يهب عبده لفلان، فوهبه ولم يقبل) ش: أي الموهوب له م: (فقد بر في يمينه) ش: أي لم يحنث م: (خلافًا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإنه يحنث عنده.(6/253)
فإنه يعتبره بالبيع، لأنه تمليك مثله، ولنا أنه عقد تبرع فيتم بالمتبرع، ولهذا يقال وهب. ولم يقبل ولأن المقصود إظهار السماحة، وذلك يتم به. وأما البيع فمعاوضة، فاقتضى الفعل من الجانبين،
ومن حلف لا يشم ريحانا فشم وردا أو ياسمينا لا يحنث، لأنه اسم لما لا ساق له ولهما ساق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الكافي ": حلف ليهب عبده لفلان فوهبه له ولم يقبل، وإن كان الموهوب له غائبًا لم يحنث إجماعًا، وإن كان حاضرًا حنث استحسانًا، وبه قال أحمد والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحنث. وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في قول بدون القبول.
وفي قول لم يقبل ويقبض وعلى هذا الخلاف الإعارة والصدقة والإقرار والوصية ذكره في " جامع البكري " وفي الكفارة.
وكذا القرض في رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - قبول المستقرض شرط، لأن الغرض في حكم المعارضة م: (فإنه) ش: أي فإن زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يعتبره) ش: أي يعتبر عقد الهبة م: (بالبيع لأنه تمليك مثله) ش: فلا يتم إلا بالقبول.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن الهبة باعتبار الوهب م: (عقد تبرع فيتم بالمتبرع ولهذا يقال وهب ولم يقبل) ش: ولا يقال باع ولم يقبل، يعني لا يسمى تبعًا ما لم يوجد القبول م: (ولأن المقصود) ش: من الهبة م: (إظهار السماحة) ش: أي الكرم م: (وذلك) ش: أي إظهار السماحة م: (يتم به) ش: أي بالحالف الواهب.
م: (وأما البيع) ش: جواب عن قول زفر، يعني أما البيع فليس كذلك، لأن مبادلة المال بالمال، وهي معنى قوله م: (فمعاوضة فاقتضى الفعل من الجانبين) ش: أي من جانب البائع وجانب المشتري.
[حلف لا يشم ريحانا فشم وردا أو ياسمينا]
م: (ومن حلف لا يشم ريحانًا فشم وردًا أو ياسمينًا لا يحنث لأنه) ش: أي لأن للريحان م: (اسم لما لا ساق له ولهما) ش: أي وللورد والياسمين م: (ساق) ش: الريحان في اللغة كل ما طلب ريحه من النبات وهذا يتناول الورد والياسمين كما هو مذهب أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولكن عند الفقهاء الريحان ما بساقه رائحة طيبة كالورسة وكالآس والورد ما لورقه رائحة طيبة فحسنة كالياسمين. كذا ذكره صاحب " المغرب ".
وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في شرح " الجامع الصغير ": روى هشام عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: كل ما حضر فهو ريحان مثل الآس والشاهفرم ونحو ذلك وما سوى ذلك ليس بريحان.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وعلل فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرك " الجامع(6/254)
ولو حلف لا يشتري بنفسجا ولا نية له، فهو على دهنه اعتبارا للعرف، ولهذا يسمى بائعه بائع البنفسج، والشراء يبتني عليه، وقيل في عرفنا يقع على الورق وإن حلف على الورد فاليمين على الورق لأنه حقيقة فيه، والعرف مقرر له، وفي البنفسج قاض عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصغير " بقوله: لأن الريحان اسم لما يقوم على ساق من البقول مما له رائحة طيبة، وهو موضوع ذلك لغة، وقلده الصدر الشهيد وصاحب " الهداية "، ثم قال: والياسمين والورد لهما ساق.
ثم قال الأترازي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولنا فيه نظر، لأنه لا يثبت في قوانين اللغة الريحان بهذا التفسير أصلًا، ولئن صح ما قالوا كان ينبغي أن لا يحنث بالأمر، لأنه له ساق وليس من البقول أيضًا، وقد نص الحاكم - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أنه يحنث انتهى.
قلت: نظره وارد في هذا؛ لأن في البلاد المصرية ينبت ريحان وله ساق قدر نصف ذراع، وأيضًا الأيمان بنيته على العرف لا على اللغة ينبغي أن يحنث إذا شم وردًا أو ياسمينًا، ونظرنا إلى اللغة لأن جماعة من أهل اللغة قالوا: كل ما طاب ريحه من النبات فهو ريحان، فعلى هذا يطلق على الورد والياسمين والريحان.
[حلف لا يشتري بنفسجا ولا نية له]
م: (ومن حلف لا يشتري بنفسجًا ولا نية له فهو على دهنه اعتبارًا للعرف) ش: لأن الأيمان محمولة على معاني كلام الناس.
وفي عرفهم إذا ذكر بنفسج يراد به دهنه لا ورقه م: (ولهذا) ش: أي ولأجل اعتبار العرف م: (يسمى بائعه بائع البنفسج والشراء يبتنى عليه، وقيل في عرفنا يقع على الورق) ش: وفيه نظر لا يخفى ويؤيده قوله: وقيل في عرفنا يقع على الورق، وقال الفقيه أبو الليث: هذا عند أهل العراق، فأما في بلادنا، فلا يقع على الدهن إلا أن ينوي. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحنث بشراء دهنه اعتبارًا بحقيقة اللفظ، ولو اشترى ورق البنفسج لم يحنث، خلافًا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وذكر الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يحنث أيضًا.
م: (وإن حلف على الورد فاليمين على الورق لأنه حقيقة فيه) ش: أي لأن الورد حقيقة في العرف م: (والعرف مقرر له) ش: أي العرف أيضًا يقرر لوقوع الحقيقة أو لكون الحقيقة، مرادة له.
م: (وفي البنفسج قاض عنه) ش: أي غالب عليه على وقوع الحقيقة، فلا يقع على ورقه، لأن مبنى الأيمان على العرف لا على الحقيقة.
وقال مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: والبنفسج والورد يقعان على الورق عرفًا، قاله الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الصواب والأوجه والله أعلم.(6/255)
كتاب الحدود قال: الحد لغة هو المنع، ومنه الحداد للبواب، وفي الشريعة: هو العقوبة المقدرة حقا لله تعالى حتى لا يسمى القصاص حدا لأنه حق العبد ولا التعزير حدا لعدم التقدير، والمقصد الأصلي من شرعه الانزجار عما يتضرر به العباد. والطهارة ليست أصلية فيه، بدليل شرعيته في حق الكافر.
قال: الزنا يثبت بالبينة والإقرار، والمراد ثبوته عند الإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الحدود] [تعريف الحدود]
م: (كتاب الحدود) ش: أي هذا الكتاب في بيان أحكام الحدود. وجه المناسبة بين البابين من حيث إن في الأيمان الكفارة التي هي دائرة بين العبادة والعقوبة، والحدود من العقوبات المحضة والحدود جمع حد.
م: (قال) ش: أي المصنف: م: (الحد لغة) ش: أي معنى الحد في اللغة م: (هو المنع) ش: يقال: حد عن كذا وكذا، أي منع عنه وبه سمي السجان حدًا ولمنعه المحبوسين عن الخروج م: (ومنه الحداد للبواب) ش: أي ومن هذا المعنى.
قيل للبواب حدًا ولمنعه الناس عن الدخول في الدار التي هو باب فيها وسمي المعرف للشيء حد، لأنه يمنع الخارج عن الحدود عن الدخول.
م: (وفي الشريع هو) ش: أي الحد م: (العقوبة المقدرة حقًا لله تعالى) ش: ينوي بها حق الله تعالى م: (حتى لا يسمى القصاص حدًا لأنه حق العبد) ش: بدلالة جواز العفو والاعتياض م: (ولا التعزير حدًا) ش: أي ولا يسمى التعزير حدًا أيضًا م: (لعدم التقدير فيه) ش: أي ليس يقدر هذا على ما عليه عامة أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال صدر الإسلام البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مبسوطه ": والقصاص سمي حدًا أيضًا، وحدود الشرع موانع قبل الوقوع وزواجر بعده، أعني عن القصد المنهي عنه م: (والمقصد الأصلي من شرعه) ش: أي القصد الكلي من مشروعية الحد م: (الانزجار عما يتضرر به العباد) ش: في النفس والعرض والمال، ففي حد الزنا صيانة النفس، وفي حد القذف صيانة العرض، وفي حد الربا صيانة المال.
م: (والطهارة ليست بأصلية فيه) ش: أي في الحد م: (بدليل شرعيته) ش: أي مشروعيته م: (في حق الكافر) ش: وهذا يوجب الحد على الذي زنا، ويطهر عن الذنب بإجراء الحد عليه، فعلم أن المقصود من الحد الانزجار لا الطهر.
[الزنا يثبت بالبينة والإقرار]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (الزنا يثبت بالبينة والإقرار) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ".
قال صاحب " الهداية " - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والمراد ثبوته عند الإمام) ش: أي الحاكم، إنما(6/256)
لأن البينة دليل ظاهر، وكذا الإقرار لأن الصدق فيه مرجح، لا سيما فيما يتعلق بثبوته مضرة ومعرة، والوصول إلى العلم القطعي متعذر، فيكتفى بالظاهر
قال: فالبينة أن يشهد أربعة من الشهود على رجل وامرأة بالزنا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] (النساء: الآية 15) وقال الله تعالى:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال ذلك لأن ثبوت الزنا في نفس الأمر لا يقف على وجود البينة أو الإقرار، لأنه أمر حسي يوجد، وإن لم يوجد أو قد يوجدان ولا يوجد الزنا لاحتمال الكذب فيهما، فحصل الانفكاك بين الزنا وبينهما وجودا وعدما. فالقاضي مأمور بالحكم [بما] ثبت عنده من الظاهر، فلأجل هذا يشترط ثبوته عند الإمام بالبينة والإقرار. م: (لأن البينة دليل ظاهر) ش: لأن الله تعالى قال: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] (النساء: الآية 15) .
م: (وكذا الإقرار) ش: دليل ظاهر. م: (لأن الصدق فيه مرجح) ش: على الكذب. م: (لا سيما) ش: أي خصوصا. م: (فيما يتعلق) ش: أي في الشيء الذي يتعلق. م: (بثبوته مضرة) ش: أي ضرر ظاهر متصل ببدن المقر من [ ... ] الحد عليه. م: (ومعرة) ش: أي عار تلحقه بانتسابه إلى الزنا والعار أشد من النار. وفي " ديوان الأدب " المعرة المساءة والأذى مفعلة من العر وهو الحرب، وفي " الصحاح " المعرة الاسم واعلم أن الزنا بمد وقصر، فالقصر لأهل الحجاز، والمد لأهل نجد. قال [
.] وهو من يهجو بشعره أبا حاضر:
من يزن يعرف زناه ومن ... يشرب الخرطوم يصبح سكرانا
بفتح الكاف من التسكير، وهو المخمور، والخرطوم اسم من أسماء الخمر، والنسبة إلى المقصور زنوي وإلى الممدود زناوي. وربما يظهر أن معنى الزنا في اللغة: البغي، وفي الشرع: الزنا قضاء المكلف شهوته في قبل امرأة خالية عن الملكين، وشبهتهما وشبهة الاشتباه، ويمكن المرأة من ذلك، واختير لفظ القضاء إشارة إلى أن مجرد الإيلاج زنا ولهذا يجب فيه الغسل هديا للمكلف ليخرج الصبي والمجنون. والمراد بالملكين ملك النكاح وملك اليمين، وشبهة النكاح وهي ما إذا وطئ امرأة تزوجها بغير شهود أو بغير إذن مولاها وما أشبه، أو شبهة ملك اليمين ما إذا وطئ جارية ابنه أو مكاتبه أو عبده المأذون، وشبهة الاشتباه، فإذا وطئ الابن جارية أبيه على ظن أنها تحل له.
م: (والوصول إلى العلم القطعي) ش: بغير الوصول إلى ثبوته إلى العلم القطعي. م: (متعذر) ش: لأنه أمر مبناه على الإخفاء والستر: (فيكتفى بالظاهر) ش: البينة والإقرار.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (فالبينة أن يشهد أربعة من الشهود على رجل وامرأة بالزنا. لقوله {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] (النساء: الآية 15) . وقال الله تعالى(6/257)
{ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] (النور: الآية 4) ، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للذي قذف امرأته: ائت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك، ولأن في اشتراط الأربعة يتحقق معنى الستر وهو مندوب إليه والإشاعة ضده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
{ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] (النور: الآية 4) ، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:) ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:. م: (للذي قذف امرأته «ائت بأربعة شهداء يشهدون على صدق مقالتك» ش: هذا الحديث بهذا اللفظ غريب.
وبمعناه ما رواه أبو يعلى الموصلي في " مسنده " من حديث ابن سيرين عن أنس بن مالك قال: «أول لعان كان في الإسلام أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته فرفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أربعة شهداء يشهدون وإلا فحد في ظهرك، قال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن الله تعالى يعلم أني لصادق ولينزلن الله عليك ما يبرئ ظهري من الحد، فأنزل الله تعالى آية اللعان ولاعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفرق بينهما» . وأخرجه البخاري في " اللعان " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " البينة وإلا فحد في ظهرك ".»
م: (ولأن في اشتراط الأربعة) ش: هذا احتراز عن قوله البعض، فإنهم يقولون إنما اشترط الأربع للزنا لا يتم إلا بآيتهن، وفعل كل واحد لا يثبت إلا بشهادة شاهدين. قال المصنف: ليس كذلك بل هي في اشتراط الأربع. م: (تحقيق معنى الستر وهو) ش: أي الستر. م: (مندوب إليه) ش: لما روى الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة» .
والشرط في الأربع من الرجال: أن يكونوا أحرارا، عدولا، بالغين، فلا تقبل شهادة الرجال مع النساء، ولا يقبل فيه كتاب القاضي ولا الشهادة على الشهادة. م: (والإشاعة) ش: أي إظهار الزنا. م: (ضده) ش: أي ضد الستر. فلما كان الستر مندوبا، كانت الإشاعة مكروهة، كيف وأنه تعالى قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور: 19] (النور: الآية 19) ، لا يذم المستعير، ولهذا لو أخذ شيء من شرائط الشهادة بأن أشهد الأصيل من أربعة شهدوا بالزنا متفرقين في مجالس مختلفة واحدا بعد واحد، فإنهم يحدون حد القذف عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي " المبسوط " أشار عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن اشتراط الأربع لأجل الستر حتى شهد أبو بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وسهل بن معبد ونافع بن الأزرق على المغيرة بن شعبة بالزنا، فقال: الزياد وهو الرابع، ثم يتشهد قال: رأيت أقداما بادية، وأنفاسا عالية وأمرا منكرا.(6/258)
وإذا شهدوا يسألهم الإمام عن الزنا ما هو وكيف هو وأين زنى ومتى زنى وبمن زنى؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - استفسر ماعزا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الكيفية، وعن المزنية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي رواية قال: رأيتهما تحت لحاف واحد، يخفضان ويرفعان ويضطربان اضطراب الخبزان، وفي رواية: رأيت رجلا أفعى وامرأة صرعى ورجلين محضونتين واسته تجيء وتذهب ولم أر ما سوى ذلك. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الله أكبر، الحمد لله الذي لم يفضح واحدا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (فإذا شهدوا) ش: أي شهد بالزنا الشهود. م: (يسألهم الإمام عن الزنا ما هو) ش: أي حقيقة الزنا وماهيته [....] ، لأن من الناس من يعتقد كل وطء حرام أنه زنا، كوطء الحائض، والنفساء، والأمة المجوسية، والأمة المشتركة، والأمة التي هي أخته من الرضاع. فإن كل ذلك حرام وليس بزنا، ولأن الشرع سمى فعل الحرام فيما دون الفرج زنا مجازا، بقوله: العينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والفرج يصدق ذلك أو يكذب.
والحد لا يجب إلا بالجماع في الفرج، ألا ترى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استفسر ماعزا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أن ذكر الكاف والنون أراد به قوله أنكتها، لأن ذلك صريح في الوطء، والباقي كناية عنه، وأيضا يمكن أن يسمي الشهود مقدمات الزنا زنا ويجب الاحتراز عن مثل ذلك.
م: (وكيف هو) ش: أي يسألهم أيضا عن كيفية الزنا للاحتراز عن مثل ذلك عاس الفرجين من غير إيلاج. ألا ترى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استفسر ماعزا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن كيفية الزنا، فقال كالميل في المكحلة، والرشاد في البئر، وقيل للاحتراز عن صورة الإكراه، لأن وطء المكره لا يوجب الحد. م: (وأين زنى) ش: أي يسألهم عن المكان بقوله: أين زنا فإنه احتراز عن الزنا في دار الحرب، لأن المسلم إذا زنا في دار الحرب ثم خرج إلينا لا يحد لأنه لم يمكن الإمام على بدنه عند وجوب الحد.. م: (ومتى زنى) ش: أي يسألهم عن الزمان فقوله متى زنى كأنه احترز عن زنا متقادم والشهود إذا شهدوا بذلك لا يقبل، واحترز أيضا عن وطء الصبي والمجنون لأن فعلهما لا يوصف بالحرمة. م: (وبمن زنى) ش: أي يسألهم بمن زنى، يعني المزنية من هي.
فإنه احتراز عن الوطء الواقع في محل يكون الوطء فيه بشبهة لا يعرفها الواطئ، ولا الشهود: كجارية الابن، ويجوز أن تكون الموطوءة امرأة الواطئ، أو جاريته ولا يعلمها المشهود.
م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استفسر ماعزا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الكيفية وعن المزنية) ش: هذا أخرج أبو داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن يزيد بن نعيم عن أبيه نعيم بن هزال، قال: «كان ماعز بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يتيما في حجر أبي، فأصاب جارية من الحي فقال له أبي: ائت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك قال: فأتاه فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إني زنيت، فأقم علي كتاب الله فأعرض(6/259)
ولأن الاحتياط في ذلك واجب، لأنه عساه غير الفعل في الفرج عناه، أو زنى في دار الحرب، أو في المتقادم من الزمان، أو كانت له شبهة لا يعرفها هو ولا الشهود، كوطء جارية الابن. فيستقصى في ذلك احتيالا للدرء، فإذا بينوا ذلك، وقالوا: رأيناه وطئها في فرجها كالميل في المكحلة. وسأل القاضي عنهم. فعدلوا في السر والعلانية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه، فعاد حتى قالها أربع مرات، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنك قد قلتها أربع مرات فبمن؟ قال: بفلانة، قال: هل ضاجعتها؟ قال: نعم، قال: هل باشرتها؟ قال: نعم، قال: هل جامعتها؟ قال: نعم، فأمر به أن يرجم» الحديث.
م: (ولأن الاحتياط في ذلك واجب) ش: أي في الاستفسار: (لأنه) ش: أي لأن المشهود عليه بالزنا. م: (عساه غير الفعل في الفرج عناه) ش: أي قصده، ولا يكون ماهية الزنا، ولا كيفية موجودة في دار الحرب.
م: (أو زنى في دار الحرب) ش: أي أو يكون المشهود عليه زنا في دار الحرب. م: (أو في المتقادم من الزمان) ش: أي أو يكون زنا في الزمن المتقادم. م: (أو كانت له شبهة لا يعرفها هو) ش: أي المشهود عليه.
م: (ولا الشهود) ش: أي ولا يعرفها الشهود. م: (كوطء جارية الابن فيستقصي) ش: أي الإمام وضبطه الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على صيغة المجهول. م: (في ذلك) ش: أي فيما ذكر من الأشياء وقد ذكرناها جميعا.
م: (احتيالا للدرء) ش: أي لأجل الحيلة لدرء الحد، لما روى الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرءوا الحدود ما استطعتم» م: (فإذا بينوا ذلك) ش: أي فإذا بين الشهود الزنا بما ذكروا من الأمور.
م: (وقالوا رأيناه وطئها في فرجها كالميل في المكحلة) ش: بضمتين وعاء الكحل. م: (وسأل القاضي عنهم) ش: أي عن الشهود. م: (فعدلوا) ش: عن صيغة المجهول. م: (في السر والعلانية) ش: صورة التعديل في السر أن يبعث القاضي بأسماء أول الشهود إلى العدل، بكتاب فيه أسماؤهم وأنسابهم [ ... ] ومحالهم وسوقهم، حتى يعرف العدل ذلك، فيكتب تحت اسم من كان عدلا: عدل جائز الشهادة، ومن لم يكن عدلا فلا يكتب تحت اسمه شيئا، أو يكتب الله يعلم، وصورة التعديل في العلانية، أن يجمع بين العدل والشاهد، فيقول العدل هذا هو الذي عدلته، وسيجيء في كتاب الشهادات بعض منه إن شاء الله تعالى.(6/260)
حكم بشهادتهم ولم يكتف بظاهر العدالة في الحدود، احتيالا للدرء، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ادرءوا الحدود ما استطعتم» . بخلاف سائر الحقوق عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وتعديل السر والعلانية نبينه في الشهادات إن شاء الله تعالى، قال في الأصل: يحبسه حتى يسأل عن الشهود، للاتهام بالجناية وقد «حبس رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رجلا بالتهمة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (حكم بشهادتهم) ش: جواب قوله فإذا بينوا بالرجم إن كان الرجم موجب الزنا وبالجلد إن كان موجبه الجلد هنا، أو لم يعرف القاضي عدالة الشهود، أما إذا عرفها فحكم بلا تعديل. م: (ولم يكتف) ش: على صيغة المعلوم أي لم يكتف القاضي، وقال الكاكي: أبو حنيفة لم يكتف بسوق الكلام إليه. م: (بظاهر العدالة في الحدود احتيالا للدرء) ش: أي الدفع. م: (قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرءوا الحدود ما استطعتم» ش: وقد ذكرنا الحديث عن قريب. م: (بخلاف سائر الحقوق عند أبي حنيفة) ش: حيث يكتفي فيها بظاهر العدالة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المسلمون عدول بعضهم على بعض» ، إلا إذا طعن الخصم فحينئذ يسأل القاضي عن الشهود عنده أيضا.. م: (وتعديل السر والعلانية نبينه في الشهادات إن شاء الله تعالى) ش: أي بيان صورتها بذكره في باب الشهادات وقد ذكرناه آنفا.
م: (قال: في الأصل) ش: أي قال محمد في " المبسوط " م: (يحبسه) ش: أي يحبس القاضي الشهود عليه بالزنا، بعد وصف الشهود الأشياء المذكورة. م: (حتى يسأل عن الشهود للاتهام بالجناية) ش: أي لأجل كون الشهود عليه متهما بالجناية فلذلك يحبسه خوفا من خروجه، فلا يظهر بعد ذلك، ولا يأخذ الكفيل منه، لأن في أخذه نوع احتياط، فلا يكون مشروعا، بما يدرأ بالشبهات.
فإن قيل: الاحتياط في المجلس أظهر.
قلنا: حبسه للتعزير لأنه صار متهما بارتكاب الفاحشة وأشار إليه المصنف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بقوله للاتهام.. م: (وقد حبس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا بالتهمة) ش: هذا روي عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن معاوية بن حيدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - والترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والنسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حبس رجلا في تهمة» ، وزاد الترمذي والنسائي: " ثم خل عنه ". وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حديث حسن. ورواه الحاكم في " المستدرك " وصححه، وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الحاكم في مستدركه "، والبزار وأبو نعيم - رحمهما الله - في " مسنديهما ": «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حبس رجلا في تهمة يوما وليلة استظهارا واحتياطا» ، وفي سنده إبراهيم بن خثيم.(6/261)
بخلاف الديون حيث لا يحبس فيها قبل ظهور العدالة، وسيأتيك الفرق إن شاء الله
قال: والإقرار أن يقر البالغ العاقل على نفسه بالزنا أربع مرات في أربعة مجالس مختلفة من مجالس المقر، كلما أقر رده القاضي، فاشتراط البلوغ والعقل؛ لأن قول الصبي والمجنون غير معتبر، أو هو غير موجب للحد، واشتراط الأربع مذهبنا، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكتفي بالإقرار مرة واحدة اعتبارا بسائر الحقوق وهذا لأنه مظهر، وتكرار الإقرار لا يفيد زيادة الظهور بخلاف زيادة العدد في الشهادة، ولنا حديث ماعز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه ابن عدي والعقيلي - رحمهما الله - في كتابيهما «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حبس رجلا في تهمة» ، وفي سنده إبراهيم بن زكريا الواسطي قال العقيلي: مجهول وحديثه خطأ. وقال ابن عدي: وهذا باطل، وعن نبيشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني في الأوسط " أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حبس في تهمة» .
م: (بخلاف الديون حيث لا يحبس فيها قبل ظهور العدالة) ش: لأن أخذ الكفيل فيها مشروع، فلا يتلف الحق فلا حاجة إلى الحبس قبل عدالة الشهود. م: (وسيأتيك الفرق إن شاء الله تعالى) ش: أي الفرق بينه وبين المديون، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذه حوالة غير رائجة ونحن بيناه.
قلت: أراد به ما ذكره الآن لأن أخذ الكفيل فيها مشروع إلى آخره.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (والإقرار أن يقر العاقل على نفسه بالزنا أربع مرات في أربعة مجالس مختلفة من مجالس المقر، كلما أقر رده القاضي) ش: هذا كله كلام القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - نقله المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم شرحه. م: (واشتراط البلوغ والعقل لأن قول الصبي والمجنون غير معتبر أو هو غير موجب للحد واشتراط الأربع) ش: يعني في الإقرار. م: (مذهبنا) ش: وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكتفى بالإقرار مرة واحدة) ش: وبه قال الإمام مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (اعتبارا بسائر الحقوق) ش: يعني في سائر الحقوق القرب يعتبر في الشهادة دون الإقرار فكذلك هنا.. م: (وهذا) ش: أي الاعتبار بسائر الحقوق. م: (لأنه) ش: أي لأن الإقرار م: (يظهر) ش: حقيقة الأمر حجة بنفسه، فلا يشترط التكرار، كما في سائر الحقوق.. م: (وتكرار الإقرار لا يفيد زيادة الظهور بخلاف زيادة العدد في الشهادة) ش: لأن الشاهد الثاني، يفيد طمأنينة القلب زيادة على ما أفاده الأول.
م: (ولنا حديث ماعز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: حديث ماعز بن مالك مشهور رواه البخاري ومسلم - رحمهما الله - عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «إن رجلا من المسلمين جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إني زنيت فأعرض عنه فتنحى تلقاء وجهه، فقال: يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه، حتى ثنى ذلك أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات،(6/262)
فإنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخر الإقامة إلى أن تم الإقرار منه أربع مرات في أربعة مجالس فلو ظهر دونها لما أخرها لثبوت الوجوب. ولأن الشهادة فيه اختصت بزيادة العدد. فكذا الإقرار إعظاما لأمر الزنا وتحقيقا لمعنى الستر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دعاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أبك جنون؟، قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اذهبوا به فارجموه، فرجمناه بالمصلى فلما أذلقته الحجارة هرب، فأدركناه بالحرة فرجمناه» .
وروى حديث ماعز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا مسلم عن جابر بن سمرة ورواه أيضا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعن بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا في الكل الإقرار بأربع مرات.
م: (فإنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخر الإقامة) ش: أي إقامة الحد: (إلى أن تم الإقرار منه) ش: أي من ماعز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. م: (أربع مرات في أربعة مجالس فلو ظهر دونها) ش: أي فلو ظهر إقراره موجبا للحد دون الأربع، أي أربع مرات. م: (لما أخرها) ش: أي لما أخر إقامة الحد. م: (لثبوت الوجوب) ش: حاصل المعنى: لو كان الإقرار مرة واحدة كان لم يؤخر، لأن إقامة الحد عند [تلك] الصورة واجب، وتأخير الواجب لا يظن برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فإن قال قائل: إذا لم يثبت الحد بإقراره مرة واحدة، فقد اعترف بالوطء لا يوجب الحد، ويوجب المهر وإذا وجب المهر، لا يجب الحد مما بعد، لأن المهر والحد لا يجتمعان في وطء واحد.
أجيب: بأن الإقرار أربع مرات، ولما اعتبر حجة لإثبات الزنا لم يتعلق بوجوب المهر بالإقرار مرة واحدة فقد اعترف بوطء لا يوجب، وإنما الحكم موقوف بأن تمت الحجة، ووجب الحد، وإن لم يتم، وجب المهر.
فإن قيل: إنما أعرض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه اتهمه أي في عقله، فقد جاء أشعث أغبر مغير اللون، إلا أنه لما أصر على الإقرار [....] قبله، بعد ذلك، ثم لزوال الشبهة بالسؤال.
فقال: أبك جنون؟، أما تغير الحال بدليل التوبة والخوف من الله عز وجل، لا دليل الجنون وإنما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبك جنون؟، تلقينا لما يدرأ بالحد، كما يقال، لعلك وطئتها لترجع عن الزنا إلى الوطء بشبهة فيسقط الحد عنه، وكما قال للسارق أسرقت، ما أخاله سرق، ولأن الشهادة فيه دليل معقول، فظن جواب عن اعتبار الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بسائر الحقوق وتقريره.
م: (ولأن الشهادة فيه) ش: أي في الزنا. م: (اختصت بزيادة العدد) ش: لأجل التغليظ ولم يختص سائر الحقوق بذلك. م: (فكذا الإقرار) ش: اشترط أربع مرات، لأن إحدى الحجتين لما اختصت بزيادة ليست في سائر الحقوق، فكذلك في الحجة الأخرى. م: (إعظاما لأمر الزنا وتحقيقا لمعنى الستر) ش: أي لأجل تعظيم أمر الزنا وتحقيق معنى الستر، لأن الستر مندوب منه كما ذكرنا.(6/263)
ولا بد من اختلاف المجالس لما روينا. ولأن لاتحاد المجلس أثرا في جمع المتفرقات فعنده يتحقق شبهة الاتحاد في الإقرار والإقرار قائم بالمقر فيعتبر اختلاف مجلسه دون مجلس القاضي. فالاختلاف بأن يرده القاضي كلما أقر فيذهب حيث لا يراه ثم يجيء فيقر، هو المروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - طرد ماعزا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في كل مرة حتى توارى بحيطان المدينة. قال: فإذا تم إقراره أربع مرات سأله عن الزنا، ما هو وكيف هو وأين زنى وبمن زنى، فإذا بين ذلك لزمه الحد، لتمام الحجة، ومعنى السؤال عن هذه الأشياء بيناه في الشهادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا بد من اختلاف المجالس) ش: أي في الإقرار خلافا لأحمد وابن أبي ليلى - رحمهما الله -. م: (لما روينا) ش: أشار إلى قوله لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أخر الإقامة إلى أن تم الإقرار منه أربع مرات في أربعة مجالس. م: (ولأن لاتحاد المجلس أثرا في جمع المتفرقات) ش: كما في [....] . م: (فعند ذلك) ش: أي عند اتحاد المجلس. م: (تحقيق شبهة الاتحاد في الإقرار) ش: ألا ترى إلى ما قال في حديث ماعز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، من إقراره خمس مرات فكان منها مرتبا في جهة واحدة.
فلم يعتبر ذلك، ولم يذهب إليه أحد من المجتهدين - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. م: (والإقرار قائم بالمقر فيعتبر اختلاف مجلسه) ش: أي مجلس المقر في وجوب الحد. م: (دون مجلس القاضي) ش: وفي بعض النسخ فيصير اتحاد مجلسه أي يعتبر اتحاد المجلس المقر في عدم وجوب الحد، لا مجلس القاضي.
م: (والاختلاف) ش: أي اختلاف مجلس بأن يرده القاضي في كل مرة بأن يقول إنك مجنون ولعلك قبلتها أو لمستها فقال بعضهم، يعتبر اختلاف مجلس القاضي، والصحيح الأول.
كذا في " شرح الطحاوي "، وفي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الاختلاف بقوله:
م: (بأن يرده القاضي كلما أقر فيذهب حيث لا يراه ثم يجيء فيقر، هو المروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طرد ماعزا في كل مرة حتى توارى) ش: أي استتر. م: (بحيطان المدينة) ش: هذا الحديث، بهذا اللفظ غريب ومعناه، ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء ماعز بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ألا تعذرني فقال له: تلك، ما يدريك من الزنا، فأمر به فطرد وأخرج، ثم أتاه الثانية فقال مثل ذلك فأمر به فطرد ثم أتاه الثالثة فقال له ذلك، فأمر به فطرد وأخرج ثم أتاه الرابعة فقال له: مثل ذلك، [قال] أدخلت وأخرجت قال نعم فأمر به أن يرجم.....» الحديث.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره " م: (فإذا تم إقراره أربع مرات سأله عن الزنا ما هو وكيف هو وأين زنى وبمن زنى، فإذا بين ذلك لزمه الحد) ش: هذا كله لفظ القدوري وقال المصنف عقبه. م: (لتمام الحجة) ش: أي لتمام الدليل الموجب لإقامة الحد. م: (ومعنى السؤال عن هذه الأشياء) ش: أي عن الزنا، وكيفيته ومكانه من المزني بها. م: (بيناه في الشهادة) ش: على(6/264)
ولم يذكر السؤال فيه عن الزمان وذكره في الشهادة، لأن تقادم العهد، يمنع الشهادة دون الإقرار، وقيل: لو سأله جاز لجواز أنه زنى في صباه، فإن رجع المقر عن إقراره قبل إقامة الحد أو في وسطه، قبل رجوعه وخلى سبيله، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو قول ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ -، يقيم عليه الحد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزنا، وهو تحقيق ما يوجب بها الحد. م: (ولم يذكر السؤال) ش: أي القدوري. م: (فيه) ش: أي في الإقرار. م: (عن الزمان) ش: أي عن سؤال الزمان. م: (وذكره) ش: أي والحال أنه ذكره، أي ذكر السؤال عن الزمان.
م: (في الشهادة) ش: على الزنا أن يقول متى زنيت. م: (لأن تقادم العهد) ش: أي الزمان. م: (تمنع قبول الشهادة) ش: لتهمة ألحقه، والمرء لا يتهم على نفسه، فيقل إقراره وإن تقادم العهد، وهو معنى قوله. م: (دون الإقرار وقيل لو سأله جاز) ش: أي لو سأله الزمان جاز، قالوا في الفتاوى: ويجوز أن يسأل الزمان في الإقرار أيضا.
م: (لجواز أنه زنى في صباه) ش: أي في حالة الصغر. م: (فإن رجع المقر) ش: أي المقر بالزنا إذا رجع. م: (عن إقراره قبل إقامة الحد أو في وسطه قبل رجوعه وخلى سبيله، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو قول ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقيم الحد عليه) ش: يعني لا يقبل رجوعه بعد الإقرار، ويلزمه الحد.
واسم ابن أبي ليلى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - قاضي الكوفة، واسم أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يسار خلاف اليمين وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كذا وقع في نسخ أصحابنا يعني ذكر خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هنا، ولكن خرج في كتب أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لو أقر على نفسه بالزنا، ثم رجع، يسقط عنه الحد.
وكذا لو رجع بعدما أقيم الحد، يترك الباقي، قبل قولنا.
وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل قولنا، وعن الإمام مالك في قول الرجوع روايتان، وقال الكاكي أيضا: ثم اختلاف المجلس في الشهادة يمنع قبول الشهادة في الزنا وبه قال مالك وأحمد والأوزاعي والحسن بن صالح، إذا شهدوا بالزنا متفرقين يحدون حد القذف.
قال الشافعي: وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -[ ... ] لا يحدون حد القذف، إذا كان الزنا واحدا، فلا يشترط اتحاد المجلس، وحد اتحاده، ما دام الحاكم جالسا لأن النص شرط الأربع مطلقا، فلا يفيد باتحاد المجلس كسائر الشهادات ولنا قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لو جاءوا مثل ربيعة ومضر كل فرادى لجلدتهم.
ولو كان الزوج أحدهم يقبل عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو يقول فيه تهمة(6/265)
لأنه وجب الحد بإقراره. فلا يبطل برجوعه وإنكاره. كما إذا وجب بالشهادة وصار كالقصاص وحد القذف. ولنا أن الرجوع خبر محتمل للصدق كالإقرار. وليس أحد يكذبه فيه، فيتحقق الشبهة في الإقرار. بخلاف ما فيه حق العبد وهو القصاص. وحد القذف لوجود من يكذبه. ولا كذلك ما هو خالص حق الشرع.
ويستحب للإمام أن يلقن المقر الرجوع فيقول له: لعلك لمست أو قبلت. «لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لماعز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لعلك لمستها أو قبلتها» وقال في الأصل: وينبغي أن يقول له الإمام لعلك تزوجتها أو وطئتها بشبهة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ونحن نقول إنه يعير بزنا امرأته فكان أبعد عن التهمة كشهادة الوالد على الولد.
م: (لأنه وجب الحد بإقراره فلا يبطل برجوعه وإنكاره، كما إذا وجب) ش: أي الحد. م: (بالشهادة وصار كالقصاص وحد القذف) ش: أي صار حكم هذا كحكم من يرجع في القصاص عن حد القذف إذا ثبت أن الإقرار حيث لا تقبل الرجوع. م: (ولنا أن الرجوع خبر يحتمل الصدق كالإقرار وليس أحد يكذبه فيه) ش: أي في الرجوع. م: (فيتحقق الشبهة في الإقرار) ش: فتعارض الرجوع مع الإقرار يسقط الحد، لأن الحدود تندرئ بالشبهات.
م: (بخلاف ما فيه حق العبد وهو القصاص وحد القذف لوجود من يكذبه) ش: هو الخصم. م: (ولا كذلك ما هو خالص حق الشرع) ش: فإن أحدا يكذبه فصح الرجوع فيه، لكن إذا اغتر بالسرقة ثم رجع صح رجوعه، في حق القطع، ولا يصح في حق المال، كذا في " شرح الطحاوي ".
م: (ويستحب للإمام أن يلقن المقر الرجوع ويقول له لعلك لمست أو قبلت لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: (لماعز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لعلك قبلتها أو فمسستها» ش: هذا كلام القدوري في " مختصره " يروي هذا الحديث بهذا اللفظ الحاكم في المستدرك عن حفص بن عمر العدني، حدثنا الحاكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن ماعزا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتى إلى رجل من المسلمين فقال: إني أصبت فاحشة فما تأمرني فقال له: اذهب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليستغفر لك، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره، فقال له: لعلك قبلتها، قال: لا، قال: لمستها، قال: لا، قال: ففعلت بها كذا أو لم يكن، قال: نعم، قال: اذهبوا به فارجموه» وسكت الحاكم عنه. وتعقبه الذهبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره " فقال: وحفص بن عمر العدني ضعفوه، والحديث عند البخاري بلفظ «لعلك قبلت أو لمست أو نظرت، قال: لا، قال: أفنكتها؟ قال: نعم، فعند ذلك أمر برجمه» وعند أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده «لعلك قبلت أو لمست أو نظرت» . م: (وقال في الأصل) ش: أي في " المبسوط " م: (وينبغي أن يقول له الإمام لعلك تزوجتها أو وطئتها بشبهة) ش: قال في " المبسوط ": يرد الإمام المعترف بالزنا في المرة الأولى والثانية والثالثة،(6/266)
وهذا قريب من الأول في المعنى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن عاد الرابعة فأقر عنده لما سأله عن الزنا ما هو وكيف هو، فإذا صنعه وأثبته قال له لعلك تزوجتها أو وطئتها بشبهة.
م: (وهذا) ش: أي المذكور في الأصل. م: (قريب من الأول في المعنى) ش: أي قريب بما قاله القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأن في كل منهما تلقين الرجوع للمقر، حتى لو قال المقر نعم سقط الحد.(6/267)
فصل في كيفية الحد وإقامته وإذا وجب الحد وكان الزاني محصنا رجمه بالحجارة حتى يموت؛ «لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رجم ماعزا» وقد أحصن. وقال في الحديث المعروف وزنا بعد إحصان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في كيفية الحد وإقامته] [وجب الحد وكان الزاني محصنا]
م: (فصل في كيفية الحد وإقامته) ش: أي هذا فصل في بيان كيفية الحد. والكيفية ما يقال به للشيء كيف هذا، وكيف كلمة موضوعة للسؤال عن الحال. قوله وإقامته، أي وفي بيان كيفية إقامة الحد، وذكر هذا الفصل بعد وجوب الحد، لما أن إقامته وكيفيته مرتبة على نفس الحد في الوجود.
م: (وإذا وجب الحد وكان الزاني) ش: أي والحال أنه قد كان الزاني. م: (محصنا رجمه بالحجارة حتى يموت) ش: أي الإمام أو القاضي والمحصن من أحصن الرجل فهو محصن بفتح الصاد.
وهذا أحد ما جاء على أفعل، فهو مفعل، وامرأة محصنة أي متزوجة، وليس في كلامهم أفعل، فهو مفعل إلا ثلاثة أحرف، أحدها هذا، ويقال أسهب من لذع الحية، أي ذهب عقله وهو سهب. قال المراجم: ويقال ألقح الرجل فهو يلقح إذا وقف حاله.
م: (لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: (رجم ماعزا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد أحصن) ش: على صيغة المجهول، أي والحال أنه كان محصنا وقد مضى الحديث من رواية البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال له: أحصنت قال: نعم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اذهبوا به فارجموه.»
م: (قال: وفي الحديث المعروف وزنا بعد إحصان) ش: هذا مروي من حديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن أسعد بن سهل عن أبي أمامة الأنصاري «عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أنه أشرف عليهم يوم الدار، فقال: أنشدكم الله، أتعلمون أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان، وارتداد بعد إسلام، وقتل نفس بغير حق، قالوا: اللهم نعم، قال: فعلام تقتلوني» الحديث.
قال الترمذي: حديث حسن، وروي من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجه أبو داود في " سننه " عنها قالت: " قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم ورجل خرج محاربا لله ولرسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض، ورجل قتل نفسا فإنه يقتل بها» .(6/268)
وعلى هذا إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
قال: ويخرجه إلى أرض فضاء ويبتدئ الشهود برجمه ثم الإمام ثم الناس، كذا روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأن الشاهد قد يتجاسر على الأداء ثم يستعظم المباشرة فيرجع فكان في بدايته احتيال للدرء له. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تشترط بدايته اعتبارا بالجلد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعلى هذا إجماع الصحابة) ش: أي على وجوب رجم المحصن إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين.
وروى الترمذي بإسناده عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجم أبو بكر، ورجمت ولولا أني ذكرته أن أزيد في كتاب الله لكتبته في المصحف، فإني قد خشيت أن يجيء أقوام فلا يجدونه في كتاب الله، فيكفرون به» وحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مذكور في الموطأ أيضا.
قلت: قد كان رجم أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بحضرة الصحابة، ولم ينكرها أحد فحل محل الإجماع. وفي " شرح الأقطع ": ولا خلاف في ذلك بين الأمة، إلا ما روي عن الخوارج أن الحد كله الجلد، ولا رجم، وإنما قالوا ذلك لأنهم لا يقبلون أخبار الآحاد، وقولهم لا يلتفت إليه، لأنه خرق الإجماع، والأحاديث فيه كادت أن تكون متواترة.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويخرجه إلى أرض فضاء، ويبتدئ الشهود برجمه، ثم الإمام، ثم الناس، كذا روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: قوله كذا روي عن علي في المصنف. روى ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا عبد الله بن إدريس عن زيد عن عبد الله ابن أبي ليلى أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان إذا شهد عنده الشهود على الزنا أمر الشهود أن يرجموا ثم رجم الناس وإذا كان بإقرار بدأ هو فرجم ثم رجم الناس.
م: (ولأن الشاهد قد يتجاسر على الأداء) ش: أي يجترئ على أداء الشهادة كاذبا. م: (ثم يستعظم المباشرة فيرجع فكان في بدايته احتيال للدرء له) ش: أي فكان في ابتداء الشهود بالرجم حيلة لدفع الحد، لأنا أمرنا به.
م: (وقال الشافعي: لا يشترط بدايته) ش: أي بداية الشاهد، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، في رواية م: (اعتبارا بالجلد) ش: حيث لا يشترط فيه بدايتهم، وقالت الشافعية - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ولكن يستحب حضورهم وبدايتهم بالرمي.
وكذا لو ثبت الزنا بإقرار لا يشترط حضور الإمام ولا نائبه عندهم، ولكن يستحب حضورهم وبدايتهم بالرمي، وكذا لو ثبت الزنا بالإقرار لا يشترط حضور الإمام.(6/269)
قلنا: كل أحد لا يحسن الجلد، فربما يقع مهلكا والإهلاك غير مستحق، ولا كذلك الرجم لأنه إتلاف. قال: فإن امتنع الشهود من الابتداء سقط الحد؛ لأنه دلالة الرجوع، وكذا إذا ماتوا أو غابوا، في ظاهر الرواية. لفوات الشرط.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قلنا: كل أحد لا يحسن الجلد فربما يقع مهلكا والإهلاك غير مستحق) ش: أي في الجلد. م: (ولا كذلك الرجم لأنه إتلاف) ش: لأن فيه مستحق للنقل بخلاف الجلد لأنه للتأديب وللزجر.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن امتنع الشهود من الابتداء سقط الحد لأنه) ش: أي لأن امتناعهم عن الابتداء م: (دلالة الرجوع) ش: وكذا إذا امتنع بعضهم م: (وكذلك) ش: أي سقط الرجم م: (إذا ماتوا) ش: أي الشهود م: (أو غابوا) ش: لأن الشرط بدل لهم وقد تقدم ذلك بالموت والغيبة.
وكذا زعموا أو خرسوا أو جبنوا أو فسقوا أو ارتدوا وقذفوا فحدوا سواء اعترض ذلك قبل القضاء، أو بعد القضاء، قبل الإمضاء؛ لأن الإمضاء من القضاء في باب الحدود، فإذا لم يحصل الإمضاء فكأنه لم يحصل القضاء وقيل بقوله.
م: (في ظاهر الرواية لفوات الشرط) ش: احترازا عما روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الطحاوي " أنه قال: لا يبطل الرجم بموت الشهود، ولا يفهم هذا، إذا كان الشهود عليه محصنا. أما إذا كان غير محصن فقد قال الحاكم الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الكافي " أقيم عليه الحد في الموت والغيبة، ويبطل فيما سواها، وكذلك ما سوى الحدود من حقوق الناس.
وفي " الذخيرة ": ولو كان الشهود أو بعضهم مقطوع اليدين، أو مرضى لا يستطيعون الرمي وحضروا رمي القاضي، ولو قطعت بعد الشهادة، امتنعت الإقامة، ولو غاب واحد منهم، أو يرجع حتى يحضر كلهم.
وفي " المبسوط ": إذا امتنع الشهود، سقط الرجم. ولكن لا يقام الحد على الشهود، لأنهم ثابتون على الشهادة، لأن الإنسان يمتنع عن القتل بحق ويستحب للإمام أن يأمر طائفة، أي جماعة من المسلمين أن يحضروا لإقامة الحد.
وقد اختلف في عدد الطائفة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال عطاء وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اثنتان، وقال الزهري: ثلاثة، وقال الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ - عشرة، وقال مالك والشافعي - رحمهما الله - أربعة وفي " الإيضاح " لا بأس بكل من رمى أن يعيد قتله، لأنه المقصود من الرجم، إلا إذا كان الرجم محرما من المرجوم فإنه لا يستحب أن يتعمد قتله.
وقد روي «عن حنظلة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه استأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قتل أبيه وكان(6/270)
وإن كان مقرا ابتدأ الإمام ثم الناس، كذا روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «ورمى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغامدية بحصاة مثل الحمصة وكانت قد اعترفت بالزنا»
ويغسل ويكفن ويصلى عليه؛ «لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ماعز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اصنعوا به كما تصنعون بموتاكم» ولأنه قتل بحق، فلا يسقط الغسل كالمقتول قصاصا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كافرا فمنعه من ذلك، وقال: دعه يكفيك عراؤه» .
م: (وإن كان) ش: أي وإن كان الزاني المحصن م: (مقرا) ش: بالزنا م: (ابتدأ الإمام ثم الناس، كذا روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: وقد ذكرناه عن قريب م: (ورمى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغامدية بحصاة مثل الحمصة وكانت قد اعترفت بالزنا) ش: وهذا رواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - في سننه، من حديث أبي بكرة عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم امرأة فحفر لها إلى الثندوة» .
قال أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حديث عن عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا زكريا بن سليم أبو عمران بإسناده نحوه. وزاد: «ثم رماها بحصاة مثل الحمصة، قال: ارموا واتقوا الوجه فلما طفئت أخرجها، فصلى عليها» انتهى.
وهذه المرأة هي الغامدية [....
......] .
م: (ويغسل) ش: أي المرجوم م: (ويكفن ويصلى عليه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (لماعز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «اصنعوا به كما تصنعون بموتاكم» ش: هذا رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، حدثنا أبو معاوية عن أبي حنيفة عن علقمة [بن] مرثد عن ابن بريدة عن أبيه بريدة قال: «لما رجم ماعز قالوا يا رسول الله ما نصنع به؟ قال: اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم من الغسل والكفن والحنوط والصلاة عليه» .
وروي «اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم من أهل الحجاز [ ... ] ، وقد رأيته ينغمس في أنهار الجنة» . وعن مالك: لا يصلى على المرجوم، كذا ذكره، ولكن ذكر في " الجواهر " من كتب المالكية غسل وصلي عليه.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن المرجوم م: (قتل بحق، فلا يسقط الغسل كالمقتول قصاصا) ش: فإنه يغسل ويصلى عليه م: (وصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الغامدية بعدما رجمت) ش: وقد روى الجماعة إلا البخاري عن ابن حصين " أن «امرأة من جهينة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي حبلى من الزنا، فقالت يا نبي الله أصبت حدا فأقمه علي» .... الحديث، وفيه «ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها»
الحديث.(6/271)
«وصلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على الغامدية بعدما رجمت»
وإن لم يكن محصنا وكان حرا فحده مائة جلدة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] (النور: الآية 2) ، إلا أنه انتسخ في حق المحصن، فبقي في حق غيره معمولا به. قال: يأمر الإمام بضربه بسوط لا ثمرة له ضربا متوسطا؛ لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما أراد أن يقيم الحد كسر ثمرته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وصح في السنن أيضا «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على الغامدية ودفنت» وفي حديثها: «لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له» وصاحب المكس: هو العشار منها، والمكس ما يأخذه.
[وجب الحد وكان الزاني غير محصن]
م: (وإن لم يكن) ش: أي وإن لم يكن الزاني المقر م: (محصنا وكان حرا فحده مائة جلدة، لقوله عز وجل {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ش: قوله الزانية مبتدأ، والزاني عطف عليه، والخبر محذوف تقديره فيما فرض عليكم، الزانية والزاني، أي حكمهما وهو الجلد ويجوز أن يكون الخبر قوله فاجلدوا، وهو مذهب المبرد، والأول مذهب الخليل وسيبويه. ودخول الباء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط، لأن الألف واللام فيه بمعنى الذي أي التي زنت والذي زنى فاجلدوهما، كقولك من زنى فاجلدوا، كذا قرره الأترازي وفيه تأمل.
م: (إلا أنه انتسخ في حق المحصن فبقي في حق غيره معمولا به) ش: في حق المحصن بآية أخرى غيره، بيانه أن قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] (النور: الآية 2) ، والآية عامة في المحصن وغيره، وإلا أنه انتسخ في حق آية أخرى، فنسخت تلاوتها وبقي حكمها، والآية الأخرى هي قوله - الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله، والله عزيز حكيم - رواها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في خطبته بحضرة الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - من غير نكير.
وقال: إن مما يتلى في كتاب الله: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله، والله عزيز حكيم، ولا يتمه في روايته إلا أن الله تعالى صرفها من قلوب العباد لحكمة لم يكتبها عمر في المصحف، وقال: لو كان يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها.
م: (يأمر الإمام بضربه) ش: أي بضرب الزاني غير المحصن م: (بسوط لا ثمرة له) ش: ثمرة السوط عقد أطرافه، ذكره في " الصحاح ". وقيل المراد بالثمرة ذنبه وطرفه، لأنه إذا كان ذلك يصير الضربة ضربتين.
وهذا أصح، لما روي أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلد الوليد بسوط له طرفان، وفي رواية له ذنبان أربعين جلدة، فكانت الضربة ضربتين، والأول هو المشهود م: (ضربا متوسطا) ش: أي بين القوي والضعيف، والآن يفسره المصنف، لما روي م: لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما أراد أن يقيم الحد كسر ثمرته) ش: هذا غريب.
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا عيسى بن يونس عن حنظلة العدوي، قال: سمعت(6/272)
والمتوسط بين المبرح وغير المؤلم لإفضاء الأول إلى الهلاك وخلو الثاني عن المقصود، وهو الانزجار، وينزع عنه ثيابه معناه دون الإزار؛ لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يأمر بالتجريد في الحدود، ولأن التجريد أبلغ في إيصال الألم إليه،
وهذا الحد مبناه على الشدة في الضرب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول كان يؤمر بالسوط فيقطع ثمرته، ثم يدق بين حجرين، حتى يلين ثم يضرب به.
قلنا لأنس: في زمان من كان، قال: في زمان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وروى عبد الرزاق في مسنده عن معمر «عن يحيى بن أبي كثير أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدا فأقمه علي، فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسوط، فأتي بسوط جديد عليه ثمرته فقال: لا، سوط دون هذا، فأتي بسوط مكسور العجز فقال: لا، سوط فوق هذا، فأتي بسوط بين السوطين فأمر به فجلد.»
م: (والمتوسط بين المبرح وغير المؤلم) ش: والمبرح غير [المؤلم] بكسر الراء من برح في هذا الأمر غلط على، واشتد ومن برحاء الحمى، وغيرها شدة الأذى، والمؤلم بكسر اللام أي الموجع من الإيلام م: (لإفضاء الأول إلى الهلاك) ش: المبرح م: (وخلو الثاني) ش: وهو المؤلم م: (عن المقصود وهو الانزجار) ش: وفي " فتاوى الولوالجي " إذا كان رجل وجب عليه الحد وهو ضعيف الجلد فخيف عليه الهلاك إذا ضرب، يجلد جلدا خفيفا مقدار ما يتحمله.
م: (وينزع عنه ثيابه) ش: هذا لفظ القدوري، وقال المصنف م: (معناه دون الإزار) ش: يعني معنى كلام القدوري ينزع ثياب الزاني غير المحصن دون الإزار م: (لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يأمر بالتجريد في الحدود) ش: وهذا غريب وقد روي عنه خلاف رواية عبد الرزاق في " مصنفه "، أخبرنا الثوري عن جابر عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي برجل في حد وعليه كساء قسطلاني فضربه قاعدا.
م: (ولأن التجريد أبلغ في إيصال الألم إليه) ش: أي إلى المضروب، وبخلافه [ما] رواه عبد الرزاق في " مصنفه " عن ابن عيينة عن مطرف عن الشعبي قال: سألت المغيرة بن شعبة عن القاذف، أتنزع عنه ثيابه؟ قال: لا تنزع عنه، إلا أن يكون فروا أو محشوا.
وقال أخبرنا الثوري عن جويبر عن الضحاك بن مزاحم عن ابن مسعود قال: لا يحل في هذه الأمة التجريد ولا أمد، ولا غل، ولا صفد.
م: (وهذا الحد) ش: أي حد الزنا م: (مبناه على الشدة في الضرب) ش: احترز به عن حد القذف، فإن القاذف يضرب وعليه ثيابه ولكن ينزع عنه الفرو، والحشو.(6/273)
وفي نزع الإزار كشف العورة فليتوقاه، ويفرق الضرب على أعضائه لأن الجمع في عضو واحد، قد يفضي إلى التلف. والحد زاجر لا متلف، قال إلا رأسه ووجهه وفرجه، «لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للذي أمره بضرب الحد: اتق الوجه والمذاكير» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال الشافعي وأحمد: لا ينزع بل يترك عليه قميص أو قميصان م: (وفي نزع الإزار كشف العورة فليتوقاه) ش: يعني يحترز منه ولا ينتزع م: (ويفرق الضرب على أعضائه) ش: أعضاء المحدود على الكتفين والذراعين والعضدين والساقين والقدمين.
م: (لأن الجمع) ش: أي جمع الضرب م: (في عضو واحد قد يفضي إلى التلف) ش: وذلك غير مستحق عليه م: (والحد زاجر لا متلف) ش: يعني الحد شرع للزجر لا للإتلاف م: (قال) ش: أي القدوري م: (إلا رأسه ووجهه وفرجه) ش: هذا استثني من قوله ويعرف الضرب على أعضائه. وقال الحاكم الشهيد في " الكافي ": ويعطى كل عضو حظه من الضرب، ما خلا الوجه والرأس والفرج، وفي قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضرب الرأس أيضا. وكان قوله والأقوال مثل قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الطحاوي " وروي عن أبي يوسف أنه قال: يضرب على الرأس ضربة واحدة.
وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضرب كله على الظهر، وكذا ذكر عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الكافي "، و " المنظومة "، وهذا خلاف ما ذكر في كتبه المشهورة، ولهذا قال في " شرح المجمع ": يتركب ذكر الخلاف، وعن مالك يخص الضرب على الظهر وما يليه.
وروى ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يضرب الظهر في التعزير، وفي الحدود يضرب الأعضاء، وقال الحسن بن صالح: يضرب في التعزير أيضا الأعضاء كلها إلا الوجه والمذاكير.
ولا خلاف في اتقاء الوجه والفرج م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي أمره بضرب الحد، «اتق الوجه والمذاكير» ش: هذا الحديث غريب مرفوعا [....] ، وروي موقوفا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه "، حدثنا حفص بن عمر عن ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عدي بن ثابت عن عكرمة بن خالد عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " قال: أتى عليا رجل في حد فقال: اضرب وأعط كل عضو حقه، واتق الوجه والمذاكير " ورواه عبد الرزاق أيضا في " مصنفه "، والمذاكير: جمع الذكر، على خلاف القياس، كأنهم فرقوا بذلك الجمع بين المذكور الذي هو الفحل، وبين الذكر الذي هو العضو.
والنهي عن ضرب الوجه في الصحيحين عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال قال رسول(6/274)
ولأن الفرج مقتل والرأس مجمع الحواس، وكذا الوجه وهو مجمع المحاسن أيضا، فلا يؤمن فوات شيء منها بالضرب وذلك إهلاك معنى، فلا يشرع حدا، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضرب الرأس أيضا رجع إليه، وإنما يضرب سوطا لقول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اضربوا الرأس فإن فيه شيطانا، قلنا تأويله، أنه قال ذلك فيمن أبيح قتله، ذلك ورد في مشرك من أهل الحرب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه» وأخرج مسلم عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الضرب في الوجهين وعن الوشم في الوجه.»
م: (ولأن الفرج مقتل) ش: أي موضع قتل يؤدي إلى الهلاك م: (والرأس مجمع الحواس) ش: فيخاف منها على غاية عقله وعامة حواسه م: (وكذا الوجه وهو مجمع المحاسن أيضا) ش: هو جمع حسن على خلاف القياس م: (فلا يؤمن فوات شيء منها) ش: أي من الحواس والمحاسن م: (بالضرب وذلك إهلاك معنى) ش: لأنه يضرب مثله وهي منهية فإذا كان كذلك م: (فلا يشرع حدا) ش: أي فلا يشرع شيء من ذلك من حيث الحد.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضرب الرأس أيضا رجع إليه) ش: أي إلى ضرب الرأس كان يقول أولا لا يضرب الرأس ثم رجع وقال م: (وإنما يضرب سوطا) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أظهر الوجهين وفي " الإيضاح ": ولا يضرب الرأس عادة، لأن ضربه سوطا وسوطين يخشى منه؛ يجيء منه الفساد.
روى صاحب " الأجناس " من كتاب الحدود، أملاه رواية أبي سليمان، قال أبو يوسف: يتقي الوجه والفرج والبطن والصدر، ويضرب الرأس، وقال في " الكامل " ومن نص مشايخنا لا يضرب الصدر والبطن لأنه يقتل كالرأس.
م: (لقول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اضربوا الرأس فإن فيه شيطانا) ش: هذا رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه ": حدثنا وكيع عن المسعودي عن القاسم أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتي برجل انتفى من أبيه، فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس، والمسعودي ضعيف.
م: (قلنا تأويله) ش: أي تأويل قول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (أنه قال ذلك) ش: أي اضربوا الرأس م: (فيمن أبيح قتله) ش: قال الأترازي: وأمر أبي بكر ليس حجة لأبي يوسف م: (ذلك ورد في مشرك من أهل الحرب) ش: محلوق الرأس وضرب رأسه وجب، والهلاك مستحق، كذا أجاب عنه فخر الإسلام وغيره، في شرح " الجامع الصغير "، انتهى.
قلت: فيه نظر من وجوه:(6/275)
كان من دعاة الكفرة، والإهلاك فيه مستحق، ويضرب في الحدود كلها قائما. غير ممدود؛ لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يضرب الرجال في الحدود قياما والنساء قعودا، ولأن مبنى إقامة الحد على التشهير، والقيام أبلغ فيه ثم قوله غير ممدود فقد قيل: المد أن يلقى على الأرض ويمد، كما يفعل في زماننا، وقيل أن يمد السوط فيرفعه الضارب فوق رأسه، وقيل أن يمده بعد الضرب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأول: أن أمر أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ورد في رجل ابتغى من أبيه ولم يذكر فيه، من مشرك من أهل الحرب.
الثاني: إن المشرك من أهل الحرب إذا دخل دار الإسلام بأمان لا يقتل، والظاهر أن أحدا منهم لا يدخل إلا بأمان فلا يقتل.
الثالث: لو سلمنا أن هذا المشرك إذا استحق القتل يقتل بلا ضرب على رأسه، لأن الشارع أمر بإحسان القتل، وهذا كله على تقدير أن يكون أمر أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صحيحا، وهو ضعيف.
كذا ذكرنا فلا يحتاج إلى تطويل الكلام فيه، ونقل أنه - أي أن أمر أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ورد في حربي م: (كان من دعاة الكفر عنه) ش: أي يدعو الناس إليهم، وقد مر الكلام فيه م: (والإهلاك فيه) ش: أي هذا الحربي الذي هو من دعاة الكفرة م: (مستحق) ش: والتعذيب بضرب الرأس قبل القتل غير مستحق لما ذكرنا م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ويضرب في الحدود كلها قائما) ش: أي حال كونه قائما م: (غير ممدود لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يضرب الرجال في الحدود قياما والنساء قعودا) ش: هذا أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه ".
أخبرني الحسن بن أبي عمارة عن الحكم عن يحيى بن الجزار عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يضرب الرجل قائما والمرأة قاعدة في الحد، قوله قياما أي قائمين وقعودا أي قاعدات، كذا قيل.
قلت: القعود جمع قاعدين، وجمع النساء قواعد جمع قاعدة.
م: (ولأن مبنى إقامة الحد على التشهير، والقيام أبلغ فيه) ش: أي في الرجل م: (ثم قوله) ش: أي قول محمد م: (غير ممدود) ش: أي حال كونه غير ممدود، واختلفوا فيه م: (فقد قيل المد أن يلقى على الأرض ويمد كما يفعل في زماننا) ش: بعد أن ينعقد رجل على رأسه والآخر على رجله.
م: (وقيل أن يمد السوط فيرفعه الضارب فوق رأسه وقيل أن يمده بعد الضرب) ش: قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعني بعدما أوقع السوط على البدن لا يمده لأنه زيادة مبالغة لم يرد به الأثر، ولا روي فيه الخبر، وقال بعضهم: لا يمد المحدود بين العقابين كما يفعل بين يدي الظلمة(6/276)
وذلك كله لا يفعل، لأنه زيادة على المستحق.
وإن كان عبدا، جلده خمسين جلدة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] (النساء: الآية 25) ، نزلت في الإماء، ولأن الرق منقص للنعمة، فيكون منقصا للعقوبة، لأن الجناية عند توافر النعم أفحش، فيكون أدنى التغليظ والرجل والمرأة في ذلك سواء، لأن النصوص تشملهما غير أن المرأة لا ينزع من ثيابها إلا الفرو والحشو، لأن في تجريدها كشف العورة، والفرو والحشو يمنعان وصول الألم إلى المضروب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأنه بدعة، والعقابان عودان ينصبان بقودين في الأرض، يمد بينهما المضروب أو المصلوب.
م: (وذلك كله لا يفعل) ش: ذلك إشارة إلى ما ذكر من الإقرار م: (لأنه زيادة على المستحق) ش: لأنه يكون ظلما، والمستحق قدر الحد، قالوا في الحدود كلها لا يمسك ولا يربط، ولا يبطح، بل يترك قائما إلا أن يعجزهم، فلا بأس أن يشدوه على أسطوانة ونحوها، وعند مالك: يضرب جالسا ولكن غير ممدود.
[حد العبد]
م: (وإن كان) ش: أي الزاني م: (عبدا جلده) ش: أي جلده القاضي م: (خمسين جلدة لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] (النساء: الآية 25) نزلت م: (في الإماء) ش: وقبلها {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ} [النساء: 25] أي الإماء إذا أحصن، أي تزوجن، فإن أتين بفاحشة أي زنين {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25] أي الحرائر من العذاب، أي الحد، أي عليهن نصف الحد، والحد مائة جلدة، على الحر أو الحرة، إذا لم يكونا محصنين، نصف ذلك خمسون، فيكون ذلك حد الأمة.
فإذا كان ذلك حد الأمة، فيكون حد العبد أيضا، لأن المؤثر للنقصان فيهما واحد م: (ولأن الرق منقص للنعمة) ش: ألا ترى أن العبد لا يتزوج إلا اثنين، والأمة من القسم نصف ما للحرة، [و] أن الرق منقص للنعمة م: (فيكون منقصا للعقوبة، لأن الجناية عند توافر النعم) ش: أي عند تكاثر النعم - بكسر النون جمع نعمة - م: (أفحش) ش: يؤيده قَوْله تَعَالَى {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] (الأحزاب: الآية 30) ثم قال {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] (الأحزاب: الآية 32) .
ثم أيد بالعذاب في الأمة الجلد لا الرجم، بدلالة السياق، لأن الرجم قتل، والقتل ينتصف قائما، وإنما عليهن نصف الشيء الذي له النصف، وهو الجلد.
م: (فيكون أدعى إلى التغليظ) ش: أي فيكون الجناية عند توافر النعم أدعى إلى التغليظ فيما يستحق عليه م: (والرجل والمرأة في ذلك) ش: أي في الحد م: (سواء، لأن النصوص تشملهما غير أن المرأة لا ينزع من ثيابها إلا الفرو والحشو، لأن في تجريدها كشف العورة والفرو والحشو) ش: هو الثوب المحشو بالقطن ونحوه م: (يمنعان وصول الألم إلى المضروب) ش: لكنها فيهما.(6/277)
والستر حاصل بدونهما فينزعان، وتضرب جالسة لما روينا، ولأنه أستر لها، قال: وإن حفر لها في الرجم جاز، «لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حفر للغامدية إلى ثندوتها» وحفر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لشراحة الهمدانية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والستر) ش: أي ستر المضروب م: (حاصل بدونهما) ش: أي بدون الفرو والحشو م: (فينزعان) ش: ليصل الألم إلى بدنها م: (وتضرب) ش: أي المرأة م: (جالسة لما روينا) ش: من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو قوله يضرب الرجال في الحدود قياما والنساء قعودا.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الضرب وهي جالسة م: (أستر لها) ش: لأنها تنضم وتتجمع م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإن حفر لها في الرجم جاز، لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (حفر للغامدية إلى ثندوتها) ش: هذا الحديث رواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه " حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع بن الجراح عن زكريا بن سليم أبي عمران، قال سمعت شيخا يحدث عن ابن أبي بكرة عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم امرأة فحفر لها إلى الثندوة» وفيه مجهول، وحديثها في مسلم من رواية بريدة وفيه «ثم أمر بها، فحفر لها إلى صدرها، ثم أمر الناس فرجموها» ويوجد في بعض نسخ " الهداية " حفر لها إلى ثديها، والثدي يذكر ويؤنث.
قال الجوهري: الثدي للرجل والمرأة، وقال ابن فارس: الثدي للمرأة، ويقال للرجل ثندوة، وهذا مشعر بتخصيص الثندوة بالرجل، قال: ولم أجد أحدا من أهل اللغة ذكر استعمال الثندوة في المرأة.
قلت: حديث أبي داود فيه استعماله للمرأة، ودعوى تخصيص الثندوة بالرجل ما قد وقع في " الصحيح " أن رجلا وضع ذباب سيفه بين ثدييه.
وذكر في " المغرب "، أن الثندوة بفتح الدال والواو، وبالضم والهمزة، فوضع الواو والدال في الحالين مضمومة ثدي الرجل، أو لحم الثديين، وقال في " المجمل " ثندوة الرجل كثدي المرأة وهو مشهور، إذا ضم أوله فإذا فتح لم يهمز.
ويقال هو ضرب الثدي، فعلى هذا يكون، المراد من الحديث طرف الثدي، وهو قوله م: (وحفر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لشراحة الهمدانية) ش: هذا أخرجه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده " عن يحيى بن سعيد عن مجالد عن الشعبي، قال: كان لشراحة زوج غائب بالشام، وأنها حملت، فجاء بها مولاها إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: إن هذه زنت، فاعترفت فجلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، وحفر لها إلى السرة وأنا شاهد، الحديث، وقوله م: (الهمدانية) ش: نسبة إلى همدان بفتح الهاء وسكون الميم حي من العرب، كذا نقل الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن " ديوان الأدب ".(6/278)
وإن ترك الحفر لا يضره، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يأمر بذلك، وهي مستورة بثيابها، والحفر أحسن، لأنه أستر، ويحفر إلى الصدر لما روينا، ولا يحفر للرجل لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ما حفر لماعز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأن مبنى الإقامة على التشهير في الرجال، والربط والإمساك غير مشروع،
ولا يقيم المولى الحد على عبده، إلا بإذن الإمام، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - له أن يقيمه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: اسم همدان أوسلة بن مالك بن زيد بن ربيعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - شعب عظيم ينسب إليه خلق كثير من الشعراء والعلماء، والفرسان، وأما همذان بفتح الهاء وفتح الميم والذال المعجمة مدينة من أشهر مدن الجبال [....] .
م: (وإن ترك الحفر لا يضره، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يأمر بذلك) ش: وهذا ذهول من المصنف وتناقض، فإنه يقدم في كلامه أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، حفر للغامدية وهو في مسلم م: (وهي مستورة بثيابها والحفر أحسن، لأنه أستر، ويحفر إلى الصدر لما روينا) ش: أي من حديث الغامدية حيث حفر لها إلى الثدوة.
م: (ولا يحفر للرجل لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (ما حفر لماعز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «إنما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجم ماعز بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرجمنا به البقيع فوالله ما أوثقناه، ولا حفرنا له ولكنه قام» ... الحديث ودفع في حديث مسلم أيضا.
لأنه حفر له من رواية بريدة وقتيبة، فلما كانت الرابعة حفرت له حفرة، وأمر به، فرجم، وفي مسند أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا من حديث أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حفر له، والتوفيق بين الروايتين، أن الأخذ برواية المثبت، أولى من رواية النافي، لا قال أنه ما يذكره ولا يلزم منه عدم الوقوع.
م: (ولأن مبنى الإقامة) ش: أي إقامة الحد م: (على التشهير في الرجال) ش: وترك الحفر أبلغ في ذلك، قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا هو ظاهر الرواية، وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن شاءوا حفروا له وإن شاءوا لم يحفروا له م: (والربط والإمساك غير مشروع) ش: يعني في الرجم وذلك لأن ماعزا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يربط ولم يمسك، وقد ذكرنا أنه إذا تصعب يربط.
م: (ولا يقيم المولى الحد على عبده إلا بإذن الإمام، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - له أن يقيمه) ش: أي للمولى أن يقيم الحد على مملوكه، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله، وعن مالك لا يجوز أن يتولى المولى إقامة الحد في الأمة المتزوجة، وفي العبد يتولى بكل حال، ولأصحاب الشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في الأول وجهان:
أحدهما: السيد أولى لفرض استصلاح ملكه، وأظهرهما أن الإمام أولى لولايته العامة، وليخرج عن الخلاف وهذا فيما إذا عاين سيده من العبد، أو أقر العبد [به] عنده، أما لو ثبت(6/279)
لأن له ولاية مطلقة عليه، كالإمام، بل أولى لأنه يملك من التصرف فيه، ما لا يملكه الإمام، فصار كالتعزير، ولنا «قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أربع إلى الولاة، وذكر منها الحدود»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالبينة فله فيه قولان، وفي حد القذف والقصاص له وجهان.
م: (لأن له) ش: أي للمولى م: (ولاية مطلقة عليه) ش: أي على عبده م: (كالإمام بل أولى، لأنه يملك من التصرف فيه، ما لا يملكه الإمام فصار كالتعزير) ش: حيث يجوز للمولى أن يعزر عبده بدون إذن الإمام.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «أربع إلى الولاة» وذكر منها الحدود) ش: هذا غريب، وروى ابن أبي شيبة في مصنفه، حدثنا عبدة بن عاصم عن الحسن قال: أربعة إلى السلطان الصلاة والزكاة والحدود والقصاص.
حدثنا ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن جبلة بن عطية عن عبد الله بن جرير قال: الجمعة والحدود والزكاة والفيء إلى السلطان.
حدثنا عمر بن أيوب عن مغيرة بن زياد عن عطاء الخراساني قال: إلى السلطان الزكاة والجمعة والحدود، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولنا ما روى أصحابنا في كتبهم عن ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - موقوفا ومرفوعا أربع إلى الولاة، الحدود والصدقات والجماعات والفيء.
وكذا قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نحوه، غير أنه قال مرفوعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أربع إلى الولاة» إلى آخره وكذا قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - فانظر إلى هذا التقصير من هؤلاء، كيف سكتوا عن تحرير الحديث الذي ذكره المصنف من غير أصل، والخصم الذي يحتج لمذهبه بالأحاديث الصحيحة هل يرضى بهذا الحديث الذي ليس له أصل.
وأما ما احتج به الخصم فيما ذهب إليه ما رواه الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإسناده إلى أبي عبد الرحمن السلمي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال «خطب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: يا أيها الناس أقيموا الحدود على أرقائكم من أحسن منهم ومن لم يحسن، وأن أمة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زنت فأمرني أن أجلدها فأتيتها، فإذا هي حديث عهد بنفاس فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، أو قال: تموت، فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له، فقال: أحسنت» هذا حديث صحيح.
وروى الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا زنت أمة أحدكم، فليجلدها ثلاثا بكتاب الله تعالى، فإن عادت فليبعها، ولو بحبل من شعر» وفي رواية أبي داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المذكور، «وأقيموا(6/280)
ولأن الحد، حق الله تعالى، لأن المقصود منه، إخلاء العالم عن الفساد، لهذا لا يسقط بإسقاط العبد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحدود على ما ملكت أيمانكم» .
وأجاب الأترازي عن هذا: بأن ذلك محمول على السبب بأن يكون المولى سبب في حد عبده، بالمرافعة إلى الإمام وإنما قلنا ذلك، لأن ظاهره متروك بالإجماع، لأنه يقتضي الوجوب ولا يجب على المولى إقامة الحد على عبده بالإجماع، أما على مذهبنا فظاهر.
وكذا على مذهبه أي مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأنه يجوز أن يقيم الحد على عبده، ولا يجب عليه، فلما كان الحديث متروك الظاهر حملناه على ما قلناه.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفائدة تخصيص المماليك أنه لا يحملهم المشقة على ملكهم على الامتناع على إقامة الحد عليهم.
م: (ولأن الحد، حق الله تعالى) ش: فلا يجوز للمولى أن يستوفيه، لأنه أجنبي في حقه، فلا يجوز للأجنبي أن يتصرف في حق غيره م: (ولأن المقصود منه إخلاء العالم عن الفساد) ش: بتحقق الحكومة إلى يوم التناد م: (ولهذا لا يسقط بإسقاط العبد) ش: فتكون الولاية مستحقة بالنيابة والسلطان نائبه، أما المولى فولايته بالملك فلا يصلح نائبا عنه وقد استدل هذا الكلام بقوله الحق، ولما قلتم أن الحد حق الله تعالى ونحن لا نسلم ذلك ولئن سلمنا، لكن لا نسلم أن كونه حق الله تعالى ينافي كونه حقا للعبد، ولما [لا] يجوز أن يكون حقا للمولى أيضا.
ثم تكلم بكلام طويل يذهل ذهن الناظر فيه، ونحن نقول ما قاله تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ملخصا، وهو أن الحق مستعمل غير مضاف ومعناه وجود الثبوت ويذكر في مقابلة الباطل يقال هذا حق وهذا باطل ويستعمل مضافا، وهو استحق به الغير أو يطلب منه رعاية جانب الغير على وجه يليق به.
فإن حق الله تعالى ما طلبه منه رعاية جانبه وعلى وجه يليق به وهو تعظيمه، وامتثال أمره، وحق الإنسان ما طلب منه رعاية جانب منه على وجه يليق به، وهو كونه نافعا في حقه، دافعا للضرر عنه، وإنما قلنا حق الله لأن الجناية وردت على حقه، لأن حرمة الزنا وشرب الخمر لحق الله تعالى، ولهذا لا يعمل فيه رضى الغير ولا يسقط بإسقاطه.
والواجب بالجناية على حق الغير، يكون منها حقا لذلك الغير، وكذا يستحب للإمام الاختيار فيه للدرء، ولا يستحب له ذلك في حق العبد، ولا يتمكن من استيفاء كل حق إلا لصاحبه أو نائبه.
كما في غيره من الحقوق وقياسه على التقرير لا يصح لأنه حق العبد إذ المقصود منه التأديب(6/281)
فيستوفيه من هو نائب عن الشرع، وهو الإمام أو نائبه، بخلاف التعزير؛ لأنه حق العبد ولهذا يعزر الصبي، وحق الشرع موضوع عنه. قال: وإحصان الرجم أن يكون حرا عاقلا بالغا مسلما قد تزوج امرأة نكاحا صحيحا، ودخل بها وهما على صفة الإحصان. فالعقل، والبلوغ، شرط لأهلية العقوبة، إذ لا خطاب دونهما، وما وراءهما يشترط لتكامل الجناية بواسطة تكامل النعمة إذ كفران النعمة يتغلظ عند تكثرها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهذا العذر من لا يخاطب لحقوق الله تعالى، كالصبي، ولهذا أي ولأجل كون الحد حق الله تعالى قَوْله تَعَالَى يسقط بإسقاط العبد.
م: (فيستوفيه من هو نائب عن الشرع وهو الإمام) ش: أي الخليفة م: (أو نائبه) ش: كالقاضي ونحوه م: (بخلاف التعزير) ش: جواب عن قول الشافعي، فصار كالتعزير، بيانه أن التعزير مفارق الحد م: (لأنه حق العبد ولهذا) ش: إيضاح لقوله حق العبد م: (يعزر الصبي، وحق الشرع) ش: أي والحال أن حق الشرع م: (موضوع عنه) ش: لأنه غير مخاطب م: (وإحصان الرجم) ش: قيد به احترازا عن إحصان القذف، فإنه غير هذا على ما يجيء.
و" الإحصان " و " التحصين " في اللغة: المنع، قال الله تعالى {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] (الأنبياء: الآية 80) وقال: {فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} [الحشر: 14] وقيل: الأصل الدخول في الحصن، وورد الشرع بمعنى الإحصان، وبمعنى العقل وبمعنى الحرية وبمعنى الترويح، وبمعنى الإصابة في النكاح، ويقال: أحصنت المرأة أي عفت، وأحصنها زوجها، وأحصن الرجل بزوج.
م: (أن يكون حرا عاقلا بالغا مسلما، قد تزوج امرأة نكاحا صحيحا ودخل بها، وهما على صفة الإحصان) ش: هذا على صفة الإحصان، هذا لفظ القدوري في " مختصره "، وشرح المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لبيان هذا والشروط بقوله م: (فالعقل والبلوغ شرط لأهلية العقوبة، إذ لا خطاب دونهما) ش: أي دون العقل والبلوغ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل» ، ولأن الرجم عقوبة، وهما ليسا أهل العقوبة.
م: (وما وراءهما) ش: أي ما وراء العقل والبلوغ من الشرائط م: (يشترط لتكامل الجناية بواسطة تكامل النعمة) ش: وذلك لأن الرجم، نهاية في العقوبة فيكون سببه نهاية في الجناية أيضا، لأن السبب أبدا، يثبت بحد ثبوت السير حسا وشرعا، وتناهي الجناية إنما يكون إذا وجدت هذه الشرائط في الزاني، إذ عند وجودها يتوافر النعم والجناية، عند توافر النعم أغلظ، وأفحش، أشار إليه بقوله: م: (إذ كفران النعم يتغلظ عند تكثرها) ش: أي عند تكثر النعمة، والنعمة ما أنعم الله على عباده من مال أو رزق، كذا في " الجمهرة " وفي " الاصطلاح ": يعني بها النفع الواصل من جهة الغير من غير سابقة الاستحقاق، على ذلك الغير.(6/282)
وهذه الأشياء من جلائل النعم، وقد شرع الرجم بالزنا عند استجماعها، فيناط به بخلاف الشرف والعلم، لأن الشرع ما ورد باعتبارهما، ونصب الشرع بالرأي متعذر، ولأن الحرية ممكنة من النكاح الصحيح، والنكاح الصحيح ممكن من الوطء الحلال، والإصابة شبع بالحلال. والإسلام يمكنه من نكاح المسلمة ويؤكد اعتقاد الحرمة فيكون الكل مزجرة عن الزنا، والجناية بعد توافر الزواجر أغلظ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[شروط الإحصان]
م: (وهذه الأشياء) ش: أي الحرية والعقل والبلوغ والإسلام والدخول بها في نكاح صحيح وهما على صفة الإحصان م: (من جلائل النعم) ش: أي من عظائمها م: (وقد شرع الرجم بالزنا عند استجماعها) ش: أي عند استجماع هذه الأشياء م: (فيناط به) ش: أي تعلق الرجم باستجماع هذه الأشياء، فإذا وجد الزنا عند استجماعها يجب الرجم وإلا فلا.
م: (بخلاف الشرف والعلم) ش: جواب عما يقول لما كانت الأشياء المذكورة من جلائل النعم كانت شرائط الإحصان، والشرف والعلم أيضا من أجل النعم، فينبغي أن يكونا من شرائط الإحصان، فأجاب عليه بقوله بخلاف العلم والشرف.
م: (لأن الشرع ما ورد باعتبارهما) ش: هاهنا لأنهما لا يضبطان لأنه ليس لهما حد معلوم، والشرف علو الحسب، وحسب الرجل مآثر آبائه.
م: (ونصب الشرع بالرأي متعذر) ش: إذ لا دخل للرأي في نصب الشرع لأنه صفة وصفة الشارع.
م: (ولأن الحرية) ش: دليل على الاقتصار على تلك الشرائط فيتضمن بأنه لها حد خلا في الاستغناء عن الزنا، دون غيرها من العلم والشرف، يعني لأن الحرية م: (ممكنة) ش: من التمكين م: (من النكاح الصحيح، والنكاح الصحيح ممكن) ش: من التمكين أيضا م: (من الوطء الحلال، والإصابة) ش: أي الدخول بالنكاح الحلال م: (شبع بالحلال) ش: أي شبع للزوج من الزنا، بكسر الشين، وفتح الباء يعني يحصل بالنكاح الصحيح، تمكنه في الوطء الحلال، وبالدخول يحصل الشبع.
م: (والإسلام يمكنه) ش: من التمكين أيضا م: (من نكاح المسلمة) ش: يعني الإسلام يحصل المكنة من نكاح المسلمة م: (ويؤكد) ش: أي الإسلام م: (اعتقاد الحرمة) ش: كل واحد منهما نعمة يشترط في إحصان الرجم، ليكون وجوب الرجم المتناهي في العقوبة، بعد كامل النعمة م: (فيكون الكل مزجرة عن الزنا) ش: قال الأترازي: أي سبب الزجر.
قلت: الأصح بمعنى الزجر.
م: (والجناية بعد توافر الزواجر) ش: عن أنها تكون الجناية م: (أغلظ) ش: يعني أشد وهو(6/283)
والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا في اشتراط الإسلام، وكذا أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية. لهما ما روي «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رجم يهوديين قد زنيا» . قلنا كان ذلك بحكم التوراة ثم نسخ، يؤيده قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «من أشرك بالله فليس بمحصن» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرجم، والزواجر جمع زاجرة، وأراد بها قوله، ولأن الحرية إلى هنا، فافهم، ولقائل أن يقول في العلم بأحوال الآخرة، وما يترتب على الزنا من الفساد عاجلا، والعقوبة آجلا من الزواجر لا محالة.
والجمال في المنكوحة مقنع يعني للزوج عن النظر إلى غيرها، والشرف يردع عن طوف لحوق معرة الزنا ونمائه، فكان الواجب أن يكون من شرائطه، والجواب أن المسلم الناسي قلما يخلو عن العلم بما ذكرت، والجمال والشرف ليس لهما حد معلوم يضبطان به، فلا يكون معتبرا.
م: (والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا في اشتراط الإسلام) ش: حيث يقول الإسلام ليس بشرط في الإحصان، وبه قال أحمد وأبو يوسف - رحمهما الله - في رواية، ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لقولنا أنه شرط م: (وكذا أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي وكذا يخالف أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا في اشتراط الإسلام م: (في رواية) ش: وهي غير ظاهر الرواية وثمرة الخلاف، أن الذي في البيت الحر إذا زنا عندنا يجلد ولا يرجم.
وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومن قال يقول يرجم، م: (لهما) ش: أي للشافعي وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم يهوديين قد زنيا» ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مختصرا، ومطولا، وفيه «قام بهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرجما» .
م: (قلنا كان ذلك) ش: أي يرجم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهوديين م: (بحكم التوراة) ش: يعني في ابتداء الإسلام ولهذا سألهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن حد الزنا في التوراة، لما تقرر الإسلام فنسخ ذلك م: (ثم نسخ يؤيده) ش: أي يؤيد النسخ م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «من أشرك بالله فليس بمحصن» ش: هذا الحديث رواه إسحاق بن راهويه: أخبرنا عبد العزيز بن محمد: حدثنا عبد الله: عن نافع: عن ابن عمر: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «من أشرك فليس بمحصن» وقال إسحاق: رفعه مرة فقال عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووقفه مرة. ورواه الدارقطني من طريق إسحاق.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولنا ما روى أصحابنا في كتبهم عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم ذكر الحديث، وكأنه لم يطلع على شيء غير ذلك، فلذلك قال: ولنا ما روى أصحابنا(6/284)
والمعتبر في الدخول الإيلاج في القبل على وجه يوجب الغسل، وشرط صفة الإحصان فيهما عند الدخول. حتى لو دخل بالمنكوحة الكافرة أو المملوكة أو المجنونة أو الصبية لا يكون محصنا، وكذا إذا كان الزوج موصوفا بإحدى هذه الصفات، وهي حرة مسلمة عاقلة بالغة، لأن النعمة بذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولم يذكر شيئا غير ذلك.
م: (والمعتبر في الدخول) ش: يعني في قوله نكاحا صحيحا ودخل بها م: (الإيلاج) ش: أي الدخول وأصله الإولاج قلبت الواو ياء بسكونها، وانكسار ما قبلها، لأنه من ولج ولوجا، أي دخل وأولج إيلاجا أي أدخل م: (في القبل) ش: أي الزوج م: (على وجه يوجب الغسل) ش: يعني بالتقاء الختانين.
قال: إلا كله فيه نظر، لأنه ينافي ما تقدم من قوله، الأصالة تنبع بالحلال، فإن الشبع إنما يكون الإنزال، دون الإيلاج، وعرف ذلك من حديث رفاعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا حتى تذوق عسيلته» انتهى.
قلت: ولا وجه لنظره لأنه ذهل عما قال الأصحاب، إن الشرط الدخول في التحليل، والشرط الإيلاج، دون الإنزال، لأنه كمال، والشرط أن يكون موجبا للغسل وهو التقاء الختانين، والعسيلة كانت عن لذة الجماع دون الإنزال، وشذ الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله العسيلة الإنزال.
م: (وشرط صفة الإحصان فيهما عند الدخول) ش: أي في الزوج والزوجة يعني شرطت في قول القدوري، ودخل بها وهما على صفة الإحصان، وفائدته ما أشار إليه بقوله م: (حتى لو دخل بالمنكوحة الكافرة أو المملوكة أو المجنونة أو الصبية لا يكون محصنا) .
ش: وقال الحاكم الشهيد في " الكافي ": قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكون محصنا بجماع الكافرة هذا هو ظاهر الرواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وروى الطحاوي والكرخي في ظاهر الرواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن النصارى يحصن بعضهم بعضا، وأن المسلم يحصن النصرانية وهي لا تحصن المسلم.
م: (وكذا إذا كان الزوج) ش: هو أيضا من فائدة شرط الإحصان فيهما، عند الدخول، أي وكذا لا يكون الزوج محصنا إذا كان م: (موصوفا بإحدى هذه الصفات) ش: (وهي الكفر والصبية والمجنون والصبي.
م: (وهي) ش: أي والحال أن المرأة م: (حرة مسلمة عاقلة بالغة لأن النعمة بذلك) ش: أي بما ذكر من الحرية والعقل والبلوغ والإسلام م: (لا تتكامل إذ الطبع ينفر من صحبة المجنونة وقلما(6/285)
لا تتكامل، إذ الطبع ينفر من صحبة المجنونة، وقلما يرغب في الصبية لقلة رغبتها وفي المنكوحة المملوكة حذرا عن رق الولد ولا ائتلاف مع الاختلاف في الدين. وأبو يوسف يخالفنا في الكافرة والحجة عليه ما ذكرناه. وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تحصن المسلم اليهودية ولا النصرانية ولا الحر الأمة ولا الحرة العبد» .
قال: ولا يجمع في المحصن بين الجلد والرجم، لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يرغب في الصبية لقلة رغبتها) ش: أي رغبة الزوجين فيه أي في الصبي.
م: (وفي المنكوحة المملوكة حذرا عن رق الولد، ولا ائتلاف مع الاختلاف في الدين) ش: فلا تتكامل النعمة ما لم تنتف هذه العوارض.
فإن قلت: كيف يتصور أن يكون الزوج كافرا، والمرأة مسلمة، يتصور فيما إذا كانا كافرين فأسلمت المرأة ثم دخل بها الزوج، فإنهما يعدان زوجان ما لم يفرق القاضي بالإباء عند عرض الإسلام.
م: (وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا في الكافرة) ش: حيث يقول المرأة الكافرة لا تمنع إحصان الرجل، وقد مر الكلام فيه آنفا م: (والحجة عليه) ش: أي على أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ما ذكرناه وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تحصن المسلم اليهودية ولا النصرانية ولا الحر الأمة ولا الحرة العبد» ش: وقال الأترازي: هذا الحديث مذكور مرسلا هكذا في باب الإحصان من " مبسوط " شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولكن محمدا قال في الأصل: لا يحصن الرجل المسلم إلا المرأة المحصنة، إذا دخل بها ثم قال: بلغنا ذلك عن عامر وإبراهيم النخعي، وقال الأكمل: ذكر هذا شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مرسلا في " مبسوطه ".
قلت: هذا الحديث غريب ليس له أصل وروى ابن أبي شيبة في مصنفه ومن طريقة الطبراني في " معجمه " والدارقطني في " سننه " وابن عدي في " الكامل " من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن علي بن أبي طلحة «عن كعب بن مالك، أنه أراد أن يتزوج يهودية فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تتزوجها فإنها لا تحصنك» .
قال الدارقطني: وأبو بكر بن أبي مريم ضعيف وعلي بن أبي طلحة لم يدرك كعبا، وقال ابن عدي: أبو بكر بن أبي مريم الغساني ممن لا يحتج بحديثه، ويكتب أحاديثه فإنها صالحة، قال ابن القطان: هذا حديث ضعيف ومنقطع.
[الجمع بين الجلد والرجم]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ولا يجمع في المحصن بين الجلد والرجم) ش: هذا لفظ القدوري، وقال المصنف م: (لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (لم يجمع) ش: أي بينهما، لأن في حديث ماعز الرجم فقط، وليس فيه الجلد، حتى(6/286)
لم يجمع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن الأصوليين استدلوا على تخصيص الكتاب بالسنة، فإنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رجم ماعزا ولم يجلده، لأن آية الجلد شاملة للتحصين وغيره، وهو قول مالك والشافعي والزهري والأوزاعي والنخعي والثوري وأبي ثور وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
وعن أحمد في رواية وداود ويجلد مائة ويرجم، واختار ابن المنذر من أصحاب الشافعي ما روى مسلم عن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خذوا «عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» .
وروى أحمد ثم البيهقي من رواية الشعبي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه جلد شراحة يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله عز وجل ورجمتها بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أجيب عن حديث عبادة بأنه منسوخ، لأن أول آية نزلت في هذا الباب قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] إلى قوله {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] (النساء: الآية 15) ثم نسخ بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا» ... الحديث، ولم يكن بين الحديث وبين الآية، حكم آخر.
ثم حديث ماعز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يكون متأخرا عن حديث عبادة لا محالة الحكم المتأخر ينسخ المتقدم، لا محالة إذا كان بين الحكمين مخالفة.
فإن قلت: كيف يصح دعوى النسخ وحديث علي يرد هذا.
قلت: قد ثبت إجماع الصحابة قبل ذلك بخلافه في خلافة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإجماعهم أولى من تفرده بحكم بعد الإجماع المصون، وذلك عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في خلافته رجم ولم يجلد بحضرة أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يخالفه أحد، فحل محل الإجماع.
وجواب آخر يحتمل أن يكون علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلدها، لأنه لم يثبت عنده إحصانا ثم لما ثبت إحصانها رجمها وقال: جلدتها بكتاب الله تعالى، وهو قوله {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] (النور: الآية 2) ورجمتها بالسنة حتى ثبت الإحصان، وقال الخارجي في " كتابه ": وروى حديث ماعز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جماعة كسهل بن سعيد وابن عباس، ويعرف آخر(6/287)
ولأن الجلد يعرى عن المقصود مع الرجم لأن زجر غيره يحصل بالرجم، إذ هو في العقوبة أقصاها وزجره لا يحصل بعد هلاكه.
قال: ولا يجمع في البكر بين الجلد والنفي، والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجمع بينهما حدا لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» ولأن فيه حسم باب الزنا، لقلة المعارف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إسلامهم، وحديث عبادة كان في أول الأمر، وبين الزمانين مدة.
م: (ولأن الجلد يعرى عن المقصود مع الرجم) ش: يعني إذا حصل الرجم يحصل المقصود، وهو العقوبة المتناهية، وهو الرجم، فلا حاجة إلى ما دونه وهو الجلد م: (لأن زجر غيره) ش: أي غير الزاني م: (يحصل بالرجم، إذ هو) ش: أي المرجوم م: (في العقوبة أقصاها) ش: لأنه لا عقوبة فوقها م: (وزجره) ش: أي وزجر الزاني م: (لا يحصل بعد هلاكه) ش: يعني إذا كان الزجر للزاني يزجره بعد هلاكه بالرجم لا يكون ولا يجمع بينهما.
[الجمع بين الجلد والنفي]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا يجمع في البكر بين الجلد والنفي) ش: وقال المصنف م: (والشافعي يجمع بينهما) ش: أي بين الجلد والنفي م: (حدا) ش: أي من حيث الحد يشير به إلى أن النفي أبر به عندنا يجوز بطريق التعزير [ ... ] م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» ش: هو حديث رواه مسلم عن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد ذكر عن قريب. وروى البخاري عن زيد بن خالد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه أمر فيمن زنى ولم يحصن بجلد مائة وتغريب عام.»
والبكر بكسر الباء خلاف الثيب، ويقعان على الرجل والمرأة، ومعنى البكر بالبكر [ ... ] أو زنى البكر بالبكر حده، كذا يقول الشافعي.
قال أحمد: وهو قول الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح وعبد الله بن المبارك وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قالوا: يجلد وينفى سنة إن كان البكر حرا، وفي العبد ثلاثة أقوال عن الشافعي في قول: يغرب ستة أشهر، وفي قول: سنة، وفي قول: لا يغرب أصلا بل يجلد خمسين.
وقال مالك: يجمع بينهما الرجل دون المرأة والعبد.
وعن الشافعي في قول تغريب المرأة محرم، وأجرته عليها في قول وعلى بيت المال في قول [......] ، قيل يجبره السلطان على الخروج معها، وقيل لا.
وإذا كانت الطريق آمنة ففي تغريبها بغير محرم يحرم وجهان، ولا ينتقض في مسافة الغربة عن رحلتين، وله الخيار في جهة السفر، فإن رجع الغريب إلى بلده لم يتغير عزله، وإذا عاد الغريب يخرج ثانيا، ولا يجب المدة الماضية، ومن نفي يجيء في الموضع الذي ينفى إليه.
م: (ولأن فيه) ش: أي في النفي م: (حسم باب الزنا) ش: أي قطعه م: (لقلة المعارف) ش:(6/288)
ولنا قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوا} [النور: 2] جعل الجلد كل الموجب رجوعا إلى حرف الفاء أو إلى كونه كل المذكور. ولأن في التغريب فتح باب الزنا لانعدام الاستحياء من العشيرة، ثم فيه قطع مواد البقاء فربما تتخذ زناها مكسبة وهو من أقبح وجوه الزنا، وهذه الجهة مرجحة لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن الزنا إنما يكون بالمصاحبة والمحادثة مع الأحباب عند فراغ القلب، والغربة تفوت هذه الأشياء وتمنع عنها.
م: (ولنا قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوا} [النور: 2] جعل الجلد كل الموجب رجوعا إلى حرف الفاء) ش: بيانه أن الله تعالى جعل جزاء كل واحدة من الزانية والزاني الجلد لا غير، وهذا لأن الفاء للخبر، والجزاء عبارة عن الكافي المنافي، فينبغي وجوب غيره، كما إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة.
فإذا وجد الشرط يقع طلقة واحدة لا غير، لأنها هي الجزاء، فلا يجب النفي إذا م: (أو إلى كونه كل المذكور) ش: أي أو رجوعا إلى كونه الجلد كل المذكور في الآية، لأن المذكور فيها هو الجلد لا غير، فإذا كان كل المذكور يكون كل الواجب، لأنه لو كان يجب شيء آخر لبينه، لأن الموضع موضع يحتاج إليه في البيان، وترك البيان في مثل هذا الموضع لا يجوز للزوم الإخلال.
م: (ولأن في التغريب فتح باب الزنا لانعدام الاستحياء من العشيرة) ش: هذا جواب عن قول الخصم، ولأن فيه باب الزنا، إلى آخره بيانه أن الإنسان يمنع من الزنا في بلدته استحياء من أقاربه وعشائره بها وبعض معارفه، ففي الغربة يرتفع الحياء، فيقع في الفاحشة ويفتح له باب الزنا لعدم من يستحي منه، وإن كان النفي إلى المرأة يحتاج إلى النفقة لا محالة، وهي عاجزة عن الكسب فتتخذ الزنا مكسبا، فتقعد فخير قبحة، وذلك من أقبح وجوه الزنا وأفحشها. وأشار إلى قولنا وإن كان النفي للمرأة ... إلى آخره بقوله م: (ثم فيه) ش: أي في النفي م: (قطع مواد البقاء) ش: وهو الكسب لما يحتاج إليه من المأكول والمشروب.
م: (فربما تتخذ) ش: أي المرأة تتخذ م: (زناها مكسبة) ش: لأنها لما تباعدت عن الأقارب والأوطان ونزلت في الرباط أو الجنان أخرجها انقطاع مواد المعاش على اتخاذ الزنا مكسبة لانقطاع [ ... ] والمواقع من المعاش م: (وهو من أقبح وجوه الزنا) ش: يعني هذا أقوى مما قاله الخصم. م: (وهذه الجهة مرجحة لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) يجوز بكسر الجيم وفتحها، قال الكاكي: معنى رجحها قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - للتعليل.
وقال الأكمل: مرجحة نقل بفتح الجيم وضمها، فوجد الفتح أن هذه الجملة من العلة أقوى من علة الخصم بشهادة قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، واللام للتعليل. وقال الأكمل: مرجحة نقل بفتح الجيم وكسرها، فوجه الفتح أن هذه الجملة من العلة أقوى من علة الخصم لشهادة قول(6/289)
كفى بالنفي فتنة، والحديث منسوخ كشطره وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الثيب بالثيب جلد مائة والرجم بالحجارة» وقد عرف طريقه في موضعه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بصحة ما قلنا ووجه الكسر أن الخصم ينكر صحة نقل قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال المصنف: هذه الجملة من جهات العلل، يريد صحة قول علي، فكانت اللام للصلة داخلة على المفعول، كما في قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] (المؤمنون: الآية 4) وفي الوجه الأول كانت للتعليل.
ثم قال ملخصا من كلام السغناقي كان قال في الأصل: أن ما يصلح مرجحا، وهذه الجهة علة، فكيف صحت علة.
أجيب: بأن هذه الجهة ليست مباينة للحد، بل هي باقية، مع أن النفي ليس بحكم، وأجيب: في الحد فيصلح للتزويج، ففي مثل هذا الموضع يذكر التعليل موضحا بعضها بعضا، وما أرى إخبار المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لفظ الجهة على لفظ العلة لهذا.
م: (وكفى بالنفي فتنة) ش: هذا رواه عبد الرزاق ومحمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتابه " الآثار " قال أخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال: قال عبد الله بن مسعود: في البكر يزني بالبكر، قال: يجلدان مائة وينفيان سنة. قال: وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حبسهما من فعل الفتنة أن ينفيان، وروى محمد بن الحسن الشيباني أخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال: كفى بالنفي فتنة.
م: (والحديث منسوخ كشطره) ش: أراد بالحديث قوله: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» وهو منسوخ بشطره، أي شطر الحديث م: (وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الثيب بالثيب جلد مائة والرجم بالحجارة» ش: والعجب من الخصم أنه يحكم في الحديث الواحد بأن نصفه منسوخ ونصفه محكم م: (وقد عرف طريقه) ش: أي طريق نسخ قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» م: (في موضعه) ش: يعني في طريق الخلاف، قال الأترازي. وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في موضعه من التفاسير وكتاب " الناسخ والمنسوخ " فإن قيل، هذا إثبات النسخ بالقياس.
أجيب: بأنه بيان لكون الحديث منسوخا بناسخ، ولم يبين أن الناسخ ما هو، والناسخ حديث ماعز، أو قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] (النور: الآية 4) ، لا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا» [ ... ] ولو كانت هذه الآية نزلت من قبل استثناء من قوله ولا يجمع في البكر بين اثنين، والجلد يعني إذا رأى الإمام مصلحة يقال خذوا(6/290)
إلا أن يرى الإمام في ذلك مصلحة، فيغربه على قدر ما يرى، وذلك تعزير وسياسة، لأنه قد يفيد في بعض الأحوال، فيكون الرأي فيه إلى الإمام، وعليه يحمل النفي المروي عن بعض الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عني القرآن، فدل على أن الآية متأخرة ناسخة لحديث التغريب.
م: (إلا أن يرى الإمام في ذلك مصلحة) ش: استثناء من قوله ولا يجمع في البكر بين اثنين والجلد، يعني إذا رأى الإمام مصلحة للنفي م: (فيغربه على قدر ما يرى، وذلك تعزير وسياسة) ش: لا على أنه حد م: (لأنه قد يفيد في بعض الأحوال، فيكون الرأي فيه للإمام) ش: وهذا لا يختص بالزنا، بل يجوز بذلك في كل جناية، ألا ترى أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نفى " هبة " المخنث من المدينة، ونفى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " نضر بن الحجاج " من المدينة حين سمع قائلة تقول:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نضر بن حجاج
إلى فتى ماجد الأعراق تقبيل ... تضيء صورته في الحالك الداج
وذلك لا يوجب النفي، ولكن فعل ذلك لمصلحة، فقال: ما ذنبي يا أمير المؤمنين، فقال: لا ذنب لك، وإنما الذنب حيث لا أظهر دار الهجرة عنك.
قلت: قائلة هذا الشعر هي الفريعة بنت همام أم الحجاج بن يوسف، كانت تحت المغيرة، ونضر بن الحجاج كان من بني سليم، وكان جميلا راعيا، ولما سمع عمر ذلك سير نضرا إلى البصرة، وكان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سمع قائلا أيضا بالمدينة يقول:
أعوذ برب الناس من شر معقل ... إذا معقل راح البقيع مرجلا
يعني معقل بن سنان الأشجعي، وكان جميلا، قدم المدينة فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الحق بباديتك، فقال رجل شعره. جعدة بالجيم إذا رجله بالجيم إذا جعلا.
م: (وعليه) ش: أي على ما ذكر من التعزير والسياسة م: (يحمل النفي المروي عن بعض الصحابة) ش: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وروى الترمذي حدثنا أبو كريب ويحيى بن أكثم قالا أنبأنا. وروى القدوري حديث أبي كريب ويحيى بن أكثم قال: حدثنا عبد الله بن إدريس عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضرب وغرب، دار أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب وغرب، دار عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب وغرب» وقال: حديث غريب.(6/291)
وإذا زنى المريض وحده الرجم رجم، لأن الإتلاف مستحق، فلا يمتنع بسبب المرض، وإن كان حده الجلد لم يجلد حتى يبرأ، كيلا يفضي إلى الهلاك، ولهذا لا يقام القطع عند شدة الحر والبرد
وإذا زنت الحامل لم تحد حتى تضع حملها، كيلا يؤدي إلى هلاك الولد وهو نفس محترمة، وإن كان حدها الجلد لم تجلد حتى تتعالى من نفاسها - أي يرتفع - يريد به الخروج منه. لأن النفاس نوع مرض. فيؤخر إلى زمان البرء. بخلاف الرجم. لأن التأخير لأجل الولد وقد انفصل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا جرير عن مغيرة عن ابن يسار مولى لعثمان، قال: جلد عثمان امرأة في زنا، ثم أرسل بها مولى له، يقال له المهدي، إلى خيبر نفاها إليها.
[زنى المريض وحده الرجم]
م: (وإذا زنى المريض وحده الرجم رجم) ش:، أي والحال أن حده الذي استحق بالرجم في الحال م: (لأن الإتلاف مستحق، فلا يمتنع بسبب المرض) ش: وهذا اتفاق الأئمة الأربعة. وعند بعض أصحابنا الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه إن ثبت زناه بالإقرار يؤخر إلى أن يبرأ، لأنه يسأل الرجوع، وربما رجع، ولكن المشهور عنهم أن الرجم لا يؤخر.
م: (وإن كان حده الجلد لم يجلد حتى يبرأ، كيلا يفضي إلى الهلاك) ش: وهذا في مرض يرجى زواله. وعن ابن القطان من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يؤخر، ويضرب في المرض بحيث ما يحتمله، وبه قال أحمد.
وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يؤخر كقول العامة، وإن كان مرض لا يرجى زواله كالسل ومخدوج الخلقة، أي ضعيف الخلقة لا يحتمل السياط، فعندنا والشافعي وأحمد يضرب بعشكال فيه مائة شمراخ، فيضرب دفعة واحدة أو يضرب مائة سوط مجتمعة ضربة واحدة، وذكره في " المحيط "، وفيه م: (ولهذا لا يقام القطع عند شدة الحر الشديد والبرد) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، بل يؤخر إلى زمان اعتدال الهواء.
وقال مالك: يضرب المريض مائة سوط متفرقا، بحيث ما يحتمله وإن لم يكن أخر، (ولهذا) أي ولأجل الإفضاء إلى الهلاك لا يقطع أي يد السارق عند شدة الحر والبرد، لخوف التلف.
[زنت الحامل وحدها الرجم أو الجلد]
م: (وإذا زنت الحامل لم تحد حتى تضع حملها) ش: وإن كان حدها جلدا أو رجما م: (كيلا يؤدي إلى هلاك الولد، وهو نفس محترمة) ش: والحد شرع زاجرا لا متلفا م: (وإن كان حدها الجلد لم تجلد حتى تتعالى من نفاسها) ش: أي فلا تحد حتى تخرج من نفاسها.
وقوله م: (تتعالى) ش: لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فكذلك فسره بقوله م: (أي يرتفع. يريد به الخروج منه) ش: أي يريد العذر، أي بقوله الخروج به، أي من النفاس، م: (لأن النفاس نوع مرض، فيؤخر إلى زمان البرء، بخلاف الرجم، لأن التأخير لأجل الولد وقد انفصل) ش: وهذا(6/292)
وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يؤخر إلى أن يستغني ولدها عنها، إذا لم يكن أحد يقوم بتربيته؛ لأن في التأخير صيانة الولد عن الضياع. وقد روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال للغامدية بعدما وضعت: ارجعي حتى يستغني ولدك» . ثم الحبلى تحبس إلى أن تلد إن كان الحد ثابتا بالبينة كيلا تهرب. بخلاف الإقرار. لأن الرجوع عنه عامد. فلا يفيد الحبس، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ظاهر الرواية.
م: (وعن أبي حنيفة أنه يؤخر) ش: أي الرجم: (إلى أن يستغني ولدها عنها إذا لم يكن أحد يقوم بتربيته) ش: أي بتربية الولد، وبه قال الثلاثة، ولو ادعت أنها حبلى لا يقبل قولها، لكن القاضي يريها النساء، فإن قلن: حبلى خلا حبسها إلى حولين.
فإن لم تلد رجمها للتيقن يلزمهن، ولو وجدت امرأة لا زوج لها حبلى، فلا يجب عليها الحد م: (لأن في التأخير) ش: أي في تأخير الرجم م: (صيانة الولد عن الضياع، وقد روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (قال للغامدية بعدما وضعت: «ارجعي حتى يستغني ولدك» ش: وكذلك أورد بهذا اللفظ الغريب، في مسلم عن بشير بن المهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة، قال: «جاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله إني زنيت فطهرني وأنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزا، فوالله إني لحبلى، فقال لها: فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدت أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا رسول الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها ".»
م: (ثم الحبلى تحبس إلى أن تلد إن كان الحد ثابتا بالبينة كيلا تهرب، بخلاف الإقرار، لأن الرجوع عنه عامل. فلا يفيد الحبس والله أعلم) ش: وقال الحاكم الشهيد في " الكافي ": فإن ادعت أنها حبلى أداها القاضي النساء، فإن قلن هي حبلى حبسها إلى سنتين ثم يرجمها، وإذا شهدوا عليها بالزنا فادعت أنها عذراء أو رتقاء فنظر إليها النساء قلن هي كذلك درئ عنها الحد، ولا حد على مشهود أيضا، وكذلك المجنون، ولا حد على قاذفه ويقبل في الرتقاء والعذراء والأشياء التي يعمل فيها بقول النساء قول امرأة واحدة، وفي " فتاوى الولوالجي ": والمعنى أحوط.(6/293)
باب الوطء الذي يوجب الحد والذي لا يوجبه قال: الوطء الموجب للحد هو الزنا، وإنه في عرف الشرع واللسان: وطء الرجل المرأة في القبل في غير الملك، وشبهة الملك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الوطء الذي يوجب الحد والذي لا يوجبه] [الوطء الذي يوجب الحد]
م: (باب الوطء الذي يوجب الحد والذي لا يوجبه) ش: أي هذا باب في بيان حكم الوطء الذي يوجب الحد، وبيان حكم الوطء الذي لا يوجب الحد.
م: (قال) ش: أي المصنف قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اعلم أولا أن وضع كتاب " الهداية " على بيان مسائل " الجامع الصغير " والقدوري، ففي كل موضع يذكر لفظ، قال: يريد به محمدا أو القدوري، وهنا ذكر لفظ قال ولم يرد به أحدا منهما، فكان على وضعه، وكان ينبغي أن يقول: قال العبد الضعيف بإسناد الفعل إلى نفسه، أو يقول اعلم أن م: (الوطء الموجب للحد هو الزنا) ش: حتى يرتفع الالتباس انتهى.
قلت: هذا كلام عجيب منه صادر من غير تأمل، لأن المصنف لم يذكر لفظ قال قط بقول محمد، وقال القدوري: بل يقول: قال [ ... ] لأنه يعلم فاعل. قال محمد: أو القدوري: من المسألة المتوجة به بأن كانت المسألة من مسائل القدوري يعلم أن فاعل م: (قال) ش: هو القدوري فإن كانت من مسائل " الجامع الصغير " يعلم أن فاعله هو محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإن لم يكن منها يعلم أن فاعله هو المصنف، فلا يحصل له الالتباس، لأن التمييز يحصل في مسائل، والذي ليس له أهلية في ذلك لا يعرف السهو من [الصوب] ، ولا ينبغي له أن يتعلق بالهداية، لأنه لا يهتدي بالهداية.
(الوطء الموجب للحد هو الزنا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] (النور: الآية 4) .
م: (وإنه) ش: أي وإن الزنا م: (في عرف الشرع) ش: أي في اصطلاح الشرع م: (واللسان) ش: أي وفي عرف اللسان وهو اللغة م: (وطء الرجل المرأة في القبل) ش: قيد بهذا، لأن العرب لا يسمون ما يجري بين الذكرين من الوطء وطئا بل يسمونه لواطا، لأن كل فعل له اسم خاص، فمن أتى بالقبل يقال: إنه زنى ومن أتى بالدبر قيل إنه لاط م: (في غير الملك وشبهة الملك) ش: حتى يكون حراما على الإطلاق، وينبغي أن يكون كل واحد منهما مشتهى، لأن وطء الميتة والبهيمة لا يسمى زنا لعدم كونها مشتهاة.
وكذلك وطء الصبي والمجنون، وينبغي أن يكون عازبا عن الحل، لأن وطء الأمة المشتركة وإن كان حراما لوقوع التصرف في ملك الغير، بدون الإذن، ولكن لا يكون زنا، لأنه يعرى عن(6/294)
لأنه فعل محظور، والحرمة على الإطلاق عند التعري عن الملك، وشبهته، يؤيد ذلك قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ادرءوا الحدود بالشبهات» .
ثم الشبهة نوعان: شبهة في الفعل، وتسمى شبهة اشتباه، وشبهة في المحل، وتسمى شبهة حكمية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شبهة الحل لكون بعض التصرف في ملك الواطئ.
فإن قلت: شأن الحد أن ينظر وينعكس، وهذا غير منعكس، لأن الزنا يصدق في فعل المرأة هذا الفعل والتعريف ليس بصادق عليه.
قلت: هذا التعريف إنما هو بالنسبة إلى الأصل، والمرأة تدخل فيه بتغاير التمكين طوعا.
م: (لأنه فعل محظور) ش: أي لأن الزنا فعل حرام.
فإن قلت: هذا تعليل واقع في غير محله، لأنه في التصورات.
قلت: التعليل لا لإثبات التعريف، وإنما هو لبيان اعتبارهم انتفاء لشبهة الشهوة في تحقق الزنا. وتقرير كلام المصنف إنما اعتبروا أن يكون في غير شبهة الملك، لأنه فعل محظور موجب الحد، ويعتبر فيه الكمال، لأن الناقص ثابت من وجه دون وجه، فلا يوجب عقوبة.
م: (والحرمة على الإطلاق عند التعري عن الملك وشبهته، يؤيد ذلك قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «ادرءوا الحدود بالشبهات» ش:، هذا الحديث بهذا اللفظ غريب، وذكر أنه في " الخلافيات " للبيهقي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وفي " مسند أبي حنيفة " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وأخرج ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا هشيم عن منصور عن الحارث عن إبراهيم قال: قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات. حدثنا عبد السلام عن إسحاق بن أبي فروة عن عمرو بن شعيب عن أبيه أن معاذا وعبد الله بن مسعود وعقبة بن عامر، قالوا: إذا اشتبه عليك الحد، فادرأه. وأخرج عن الزهري قال: ادفعوا الحدود بكل شبهة، والعجب من الكاكي حيث قال: هذا الحديث - يعني الذي ذكره المصنف متفق عليه تلقته الأمة بالقبول.
م: (ثم الشبهة نوعان: شبهة في الفعل، وتسمى شبهة اشتباه) ش: وهي أن يشتبه عليه الحال بأن يظن أنها تحل له م: (وشبهة في المحل) ش: وهي أن تكون الشبهة التي في المحل شبهة ملك الرقبة أو ملك البضع م: (وتسمى) ش: أي هذه الشبهة م: (شبهة حكمية) ش: باعتبار أن المحل أعطى له حكم الملك في إسقاط الحد، وإن لم يكن الملك ثابتا حقيقة وذكر التمرتاشي والمرغيناني والشبهة(6/295)
فالأولى: تتحقق في حق من اشتبه عليه، لأن معناه أن يظن غير الدليل دليلا، ولا بد من الظن ليتحقق الاشتباه، والثانية: تتحقق بقيام الدليل النافي للحرمة في ذاته، ولا تتوقف على ظن الجاني واعتقاده، والحد يسقط بالنوعين لإطلاق الحديث،
والنسب يثبت في الثانية إذا ادعى الولد ولا يثبت في الأولى وإن ادعاه، لأن الفعل تمحض زنا في الأولى، وإنما يسقط الحد لأمر راجع إليه، وهو اشتباه الأمر عليه، ولم يتمحض في الثانية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحكمية تسمى أيضا شبهة الملك.
وهي عبارة عن قيام العلة بلا عمل لمانع اتصل بها، وهي مانعة الحد على التقادير كلها.
وفي " المحيط ": الشبهة ثلاثة، شبهة في الفعل، وشبهة في المحل، وشبهة في العقد.
م: (فالأولى) ش: أي الشبهة الأولى م: (تتحقق في حق من اشتبه عليه، لأن معناه أن يظن به غير الدليل دليلا) ش: كما يظن أن جارية امرأته تحل له، بناء على أن الوطء نوع استخدام، والاستخدام محل، فكذا الوطء م: (ولا بد من الظن لتحقق الاشتباه) ش: فيكون تحققا بالنسبة إلى الظان.
م: (الثانية) ش: أي الشبهة الثانية م: (تتحقق بقيام الدليل النافي للحرمة في ذاته) ش: مثل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنت ومالك لأبيك» م: (ولا تتوقف على ظن الجاني واعتقاده، والحد يسقط بالنوعين لإطلاق الحديث) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرءوا الحدود بالشبهات» م:
[ثبوت النسب بالوطء]
(والنسب يثبت في الثاني) ش: أي في المذكور الثاني، وهو شبهة المحل م: (إذا ادعى الولد) ش: لأن الفعل لما لم يكن زنا بشبهة في المحل ثبت نسب الولد بالمدعوة، لأن النسب مما يحتاط في إثباته.
م: (ولا يثبت في الأولى وإن ادعاه) ش: أي لا يثبت النسب في شبهة الفعل وإن ادعى الولد، لأنه لاحق له في المحل، فوقع الفعل زنا، إلا أنه سقط الحد بدعوى الاشتباه، وإن لم يدع الظن وجب الحد.
وفي " فتاوى الولوالجي ": ولو ادعى أحدهما الظن ولم يدع الآخر فلا حد عليهما، لأن الشبهة في أحد الجانبين يتعدى إلى الآخر، وقال الكاكي: قيل هذا ليس يحوى على العموم، قال: في المطلقة الثلاث يثبت النسب لأن هذا الوطء في شبهة العقد، فيكفي ذلك لإثبات النسب، ذكره التمرتاشي. وفي " المعراج ": المطلقة بعوض والمختلعة ينبغي أن يكون كالمطلقة ثلاثا.
م: (لأن الفعل تمحض) ش: أي خلص، من المحض، وهو اللبن الخالص الذي لا يخالطه شيء. ش: م: (زنا في الأولى، وإن سقط الحد لأمر راجع إليه) ش: أي إلى الواطئ م: (وهو اشتباه الأمر عليه، ولم يتمحض في الثانية) ش: وهي الشبهة في المحل لوجود الدليل الشرعي على حل الوطء(6/296)
فشبهة الفعل في ثمانية مواضع، جارية أبيه وأمه وزوجته، والمطلقة ثلاثا وهي في العدة، وبائنا بالطلاق على مال وهي في العدة، وأم الولد أعتقها مولاها، وهي في العدة وجارية المولى في حق العبد، والجارية المرهونة في حق المرتهن في رواية كتاب الحدود
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن لم يثبت الحل فكذلك حكمه في الظن وعدمه في سقوط الحد، لما أن الملك إذا يثبت بوجه لم يبق معه اسم الزنا من كل وجه.
وما قيل في " المحيط " وفي " الكافي " وشبهة في الفعل راجع إلى شبهة الدليل، وهي شبهة في المحل، ولهذا قيل سمي شبهة الملك.
م: (فشبهة الفعل في ثمانية مواضع، جارية أبيه) ش: أي وكذا جارية جدته، وإن علا م: (وأمه) ش: أي وجارية أمه، وكذا جارية جدته [....] م: (وزوجته والمطلقة ثلاثا) ش: أي وجارية مطلقة ثلاثا م: (وهي في العدة) ش: أي والحال أنها في العدة.
فإن قيل: ما وجه الاشتباه في المطلقة ثلاثا، حتى لا يحد إذا قال ظننت أنها تحل لي.
أجيب: بأن وجهه بقاء بعض الأحكام بعض المطلقات الثلاث من النفقة والسكنى وحرمة نكاح الأخت وثبوت النسب، حتى لو جاءت بالولد يثبت النسب إلى سنتين.
فإن قيل: بين الناس اختلاف فيمن طلق امرأته ثلاثا، هل يقع أو لا؟ فينبغي أن يصير ذلك شبهة في إسقاط الحد.
أجيب: أنه خلاف غير معتد، حتى لو قضى به القاضي لم ينفذ قضاؤه.
قلت: من مذهب الزيدية من الروافض أن إرسال الثلاث جملة لا يوجب الحرمة الغليظة، والفرق بين الخلاف والاختلاف، أن الاختلاف مستعمل في قول بني على دليل، والخلاف فيما لا دليل عليه.
م: (وبائنا) ش: أي والمطلقة طلاقا بائنا م: (بالطلاق على مال، وهي في العدة) ش: أي والحال أنها في العدة وإنما قيل بالطلاق البائن بالمال لأنه إذا لم يكن على مال فوطئها في العدة فلا حد عليه. وإن قال: علمت أنها علي حرام ما يجيء م: (وأم الولد أعتقها مولاها وهي في العدة) ش: لأن أثر الفراش، وهي العدة باق لمولاها، فكان الوطء في موضع الاشتباه، كما في المطلقة ثلاثا.
م: (وجارية المولى في حق العبد) ش: وشبهة العبد في جارية مولاه انبساط العبد في مال مولاه م: (والجارية المرهونة) ش: فجاز أن يظن حل الانبساط فيها بالوطء، والجارية الموطوءة م: (في حق المرتهن في رواية كتاب الحدود) ش: والبيوع، يعني إذا قال المرتهن ظننت أنها تحل لي لا يحد، وهو الأصح، لأن عقد الرهن يثبت ملك اليد حقا للمرتهن، وبه يثبت شبهة الاشتباه كما(6/297)
ففي هذه المواضع لا حد إذا قال ظننت أنها تحل لي، ولو قال: علمت أنها علي حرام وجب الحد والشبهة في المحل في ستة مواضع، جارية ابنه، والمطلقة طلاقا بائنا بالكنايات، والجارية المبيعة في حق البائع قبل التسليم، والممهورة في حق الزوج قبل القبض، والمشتركة بينه وبين غيره، والمرهونة في حق المرتهن في رواية كتاب الرهن، ففي هذه المواضع لا يجب الحد. وإن قال: علمت أنها علي حرام.
ثم الشبهة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - تثبت بالعقد. وإن كان متفقا على تحريمه وهو عالم به، وعند الباقين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في العدة في خلع، وبه قال الشافعي في قول، وفي قول لا يسقط الحد، وبه قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والعبرة للرهن في هذا بمنزلة المرتهن م: (ففي هذه المواضع) ش: وهي ثمانية مواضع المذكورة م: (لا حد إذا قال: ظننت أنها تحل لي) ش: لوجود الشبهة في الفعل.
م: (ولو قال: علمت أنها علي حرام يجب أن يحد) ش: لانتفاء الشبهة م: (والشبهة في المحل في ستة مواضع، جارية ابنه) ش: لقيام مقتضى الملك، وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أنت ومالك لأبيك» ، وفي " فتاوى الولوالجي ": وكذا لو وطئها الجد وإن علا من قبل الأب، لأن اسم الأب يطلق عليه م: (والمطلقة طلاقا بائنا بالكنايات) ش: لاختلاف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في كونها رجعية أو بائنا م: (والجارية المبيعة في حق البائع قبل التسليم) ش: لأن التي كان بها متسلطا على الوطء باقية بعد، فصارت شبهة في المحل.
م: (والممهورة في حق الزوج قبل القبض) ش: لقيام تلك اليد م: (والمشتركة) ش: أي الجارية المشتركة م: (بينه وبين غيره) ش: لقيام الملك في النصف م: (والمرهونة في حق المرتهن في رواية كتاب الرهن) ش: يعني إذا قال المرتهن ظننت أنها تحل لي، لا يحد في رواية كتاب الرهن، سواء ادعى ظن المحل أو لا، كما في الجارية المشتركة.
وهكذا ذكر أيضا في " شرح الجامع " و " الذخيرة "، وذكر في " الإيضاح ": في المرهونة إذا قال ظننت أنها تحل لي فقد ذكر في كتاب الرهن لا يحد. وذكر في الحدود أنه يحد ولا يعتبر ظنه م: (ففي هذه المواضع) ش: وهي ستة مواضع م: (لا يجب الحد) .
م: (وإن قال علمت أنها علي حرام) ش: كلمة إن واصلة بما قبله، والحاصل أن شبهة المحل هو أن يكون الحل قائما في الحقيقة، إلا أن الحل يحلف عنه، وشبهة الفعل هي أن لا يكون دليل الحل قائما، ولكنه يظنه [ ... ] الحلال في شيء لا دلالة على الحل.
م: (ثم الشبهة عند أبي حنيفة تثبت بالعقد) ش: هذه شبهة أخرى غير الشبهتين المذكورتين وهي شبهة العقد، فإنها تثبت بالعقد مطلقا، وهي معنى قوله م: (وإن كان متفقا على تحريمه) ش: يعني سواء كان العقد حلالا أو حراما متفقا عليه أو مختلفا فيه، سواء كان الواطئ عالما بالحرمة أو جاهلا بها، وهو معنى قوله م: (وهو عالم به) ش: أي والحال أنه عالم بالتحريم م: (وعند الباقين)(6/298)
لا تثبت إذا علم بتحريمه، ويظهر ذلك في نكاح المحارم على ما يأتيك إن شاء الله تعالى. إذا عرفنا هذا، ومن طلق امرأته ثلاثا ثم وطئها في العدة وقال: علمت أنها علي حرام حد لزوال الملك المحلل من كل وجه، فتكون الشبهة معه منتفية وقد نطق الكتاب بانتفاء الحل، وعلى ذلك الإجماع، ولا يعتبر قول المخالف فيه، لأنه خلاف لا اختلاف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي وعند العلماء الباقين م: (لا تثبت) ش: أي لا تثبت الشبهة بالعقد م: (إذا علم بتحريمه) ش: أي بتحريم العقد م: (ويظهر ذلك في نكاح المحارم على ما يأتيك إن شاء الله تعالى) ش: وذلك عند قوله: ومن تزوج امرأة لا تحل له نكاحها فوطئها لا يحد عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (إذا عرفنا هذا) ش: أي هذا الذي ذكرناه من بيان نوعي الشبهة نذكر ما يتعلق بهما من المسائل، فنقول: م: (ومن طلق امرأته ثلاثا ثم وطئها في العدة، وقال: علمت أنها علي حرام حد لزوال الملك المحلل من كل وجه، فتكون الشبهة معه منتفية) ش: لأن الملك أصلا وشبهة الانتفاء أيضا منتفية، لأن الواطئ يقول علمت بأنها علي حرام.
وأما إذا قال: ظننت أنها تحل لي لا حد عليه، ولا على قاذفهنص عليه الحاكم في " الكافي ". وإنما قال: لزوال الحل من كل وجه يدل عليه القرآن، وهو معنى قوله: م: (وقد نطق الكتاب بانتفاء المحل) ش: وهو قوله {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] (البقرة: الآية 230) ، م: (وعلى ذلك الإجماع) ش: أي وعلى انتفاء الحل انعقد الإجماع، فلا يعتبر قول المخالف فيه، هذا جواب سؤال، وهو أن يقال اختلف الناس في وقوع الثلاث جملة، فعند الزيدية من الروافض يقع واحدة، وعند الإمامية منهم لا يقع شيء، ويدعون أنه قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فينبغي أن يصير ذلك شبهة في المحل، فقال في جوابه.
م: (ولا يعتبر قول المخالف فيه، لأنه غير معتبر، لأنه خلاف لا الاختلاف) ش: وقد ذكرنا الكلام فيه عن قريب. وقال الإمام حميد الدين الضرير - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح الفرق بين الخلاف والاختلاف، أن الاختلاف أن يكون الطريق مختلفا، والمقصود واحد. والخلاف أن يكون كلامهما مختلفا.
وقال فخر الإسلام البزدوي في شرح " الجامع الصغير ": لا اختلاف من آثار الرحمة. والاختلاف من آثار البدعة، وأراد به الفرق المذكور. قال الأترازي: وكذا إرادة صاحب " الهداية " ولي فيه نظر، لأنه لم يثبت في قوانين اللغة ما قالوا.
ويقال اختلف القوم اختلافا وخالفوا بخلافه وخلافا إذا لم يوافق بعضهم بعضا، انتهى.
قلت: فيه نظر من جهة عدم دلالة اللغة عليها على ما قالوا، ولكنه لم يوصف الكلام حقه.
فأقول: الخلاف من باب المفاعلة وأصله للمشاركة بين آيتين أو أكثر، والاختلاف من باب الافتعال، وأصله للاتحاد، والكسر يجيء بمعنى التفاعل نحو اختصموا.(6/299)
ولو قال: ظننت أنها تحل لي لا يحد، لأن الظن في موضعه، لأن أثر الملك قائم في حق النسب والحبس والنفقة، فاعتبر ظنه في إسقاط الحد، وأم الولد إذا أعتقها مولاها، والمختلعة والمطلقة على مال بمنزلة المطلقة الثلاث، لثبوت الحرمة بالإجماع، وقيام بعض الآثار في العدة. ولو قال لها: أنت خلية أو برية، أو أمرك بيدك فاختارت نفسها ثم وطئها في العدة، وقال: علمت أنها علي حرام لم يحد؛ لاختلاف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فيه، فمن مذهب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنها تطليقة رجعية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو قال: ظننت أنها تحل لي، لا يحد، لأن الظن في موضعه لأن أثر الملك قائم في حق النسب) ش: أي ثابت في حق ثبوت [....] النسب ولدت باعتبار العلوق السابق على الطلاق لا النسب في هذا الوطء، فإنه لا يثبت م: (والحبس) ش: أي المنع من الخروج م: (والنفقة) ش: أي وجوب النفقة. وهذا كله دليل لكون الظن في موضعه م: (واعتبر ظنه في إسقاط الحد وأم الولد) ش: بالرفع على الابتداء م: (إذا أعتقها مولاها) ش: يعني يجزئ عتقها م: (والمختلعة) ش: بالرفع أيضا عطف على أم الولد.
م: (والمطلقة على مال) ش: عطف أيضا على ما قبله، وقوله: م: (بمنزلة المطلقة الثلاث) ش: خبر المبتدأ، وما عطف عليه توضيح معناه أنه إذا وطئ كل واحدة منهن في العدة، وقال علمت أنها علي حرام حد م: (لثبوت الحرمة بالإجماع) ش: لزوال الحل من كل وجه م: (وقيام بعض الآثار في العدة) ش: أي بعض آثار الملك مثل وجوب النفقة ومنعها من الخروج، وإن قال ظننت أنها تحل لي في هذه الصورة لا يحد للشبهة، لأن قيام أثر الملك من العدة ونحوها أورث شبهة.
م: (ولو قال لها: أنت خلية أو برية أو أمرك بيدك، فاختارت نفسها ثم وطئها في العدة وقال: علمت أنها علي حرام لم يحد لاختلاف الصحابة فيه) ش: أي في حكم هذا الفصل، والصحابة الذين روي عنهم في هذا الباب على الاختلاف: عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر، وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
أما المروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأشار إليه بقوله: م: (فمن مذهب عمر أنها مطلقة رجعية) ش: وأخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " الثوري عن حماد بن إبراهيم قال: قال عمر بن الخطاب، وابن مسعود: إن اختار نفسها فهي واحد، إن اختارت زوجها فلا شيء ورواه أيضا عن الشعبي قال: قال عمر، وابن مسعود: إن اختارت زوجها فلا بأس، وإن اختارت نفسها فهي واحدة، وله عليها الرجعة. وأما المروي عن زيد بن ثابت فأخرجه عبد الرزاق أيضا أخبرنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن القاسم بن محمد عن زيد بن ثابت أنه قال في رجل جعل [أمر] امرأته بيدها فطلقت نفسها(6/300)
وكذا الجواب في سائر الكنايات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثلاثا، قال: هي واحدة.
وأما المروي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرواه عبد الرزاق أيضا، أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول في الرجل يخير امرأته، فاختارت نفسها، قال: هي واحدة. وروى فرواه الشافعي في " مسنده " أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال في الخلية والبرية: إن كل واحد منهما ثلاث تطليقات، ورواه مالك في " الموطأ ".
وأما المروي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرواه الدارقطني في " سننه " عن عطاء بن السائب عن الحسن عن علي قال في الخلية والبرية والبتة والبائن والحرام: ثلاث، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. وأما المروي عن ابن عباس فرواه عبد الرزاق أخبرنا ابن التيمي عن أبيه عن الحسن بن مسلم، عمن سمع ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقول في الرجل يقول لامرأته: أنت برية: إنها واحدة.
وأما المروي عن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرواه ابن أبي شيبة عنه وعن ابن عباس وابن عمر إذا ملك الرجل امرأته أمرها بيدها فالقضاء ما قضت، إلا أن ينكر الرجل، فيقول لم أرد إلا واحدة، ويحلف على ذلك فيكون أملك بها ما كانت في عدتها، وأخرجه عبد الرزاق أيضا نحوه.
م: (وكذا الجواب في سائر الكنايات) ش: قال الحاكم الشهيد وفي " الكافي ": إن أبانها بشيء من الكنايات ثم جامعها وهو يقول علمت أنها علي حرام فلا حد عليه.
وقال الفقيه أبو الليث في " شرح الجامع الصغير ": فإن طلقها طلقة بائنة ثم وطئها في العدة لا حد عليه، سواء ادعى الشبهة أو لم يدع فيها الشبهة شبهتان، شبهة حكم، وشبهة اشتباه، فهاهنا شبهة حكم، لأن الصحابة اختلفوا فيه، قال بعضهم: الكنايات كلها بوائن.
وقال بعضهم: رجعية وجعلها بعضهم ثلاثا، فأورث اختلاف الصحابة شبهة في المحل، لأن في الواحدة للرجعية يبقى الحل، فينبغي على هذا أن يثبت النسب بالدعوى على ما أشار إليه الصدر الشهيد بقوله: ولا يثبت إذا لم يدع، وذلك لأن الفعل لم يقع وفاء لبقاء الحل باعتبار الشبهة في المحل.
ولكن قال فخر الإسلام البزدوي في " شرحه للجامع الصغير ": ولا يثبت نسب الولد في ذلك كله، لأنه زنا، وإنما يسقط الحد بالشبهة لأنه عقوبة، ولا يثبت النسب بالزنا بحال.
وقال الأترازي: كأنه جعل هذه الشبهة شبهة الاشتباه وليس ذلك بصحيح عندي، لأن الرواية منصوصة في " الجامع الصغير ". وفي " الكافي " للحاكم: أنه لا يجب عليه الحد. وإن(6/301)
وكذا إذا نوى ثلاثا لقيام الاختلاف مع ذلك.
ولا حد على من وطئ جارية ولده وولد ولده. وإن قال علمت أنها علي حرام، لأن الشبهة حكمية لأنها نشأت عن دليل وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنت ومالك لأبيك»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: علمت أنها علي حرام.
فلو كان الأمر كما قال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - لوجب الحد، لزوال الاشتباه بقوله علمت أنها علي حرام، فلما لم يجب علم أنه من قبيل شبهة المحل. وفي شبهة المحل لا يقع الفعل زنا، فيثبت بالدعوى.
م: (وكذا إذا نوى ثلاثا) ش: أي وكذا الحكم إذا نوى ثلاثا من ألفاظ الكنايات ثم وطئها في العدة، يعني لا يحد، وإن قال علمت أنها علي حرام م: (لقيام الاختلاف) ش: أي اختلاف الصحابة م: (مع ذلك) ش: أي مع نية الثلاث، لأن اختلاف الثلاثة لا يرتفع بنية الثلاث، فكانت الشبهة قائمة، فلا يجب الحد.
[وطئ جارية ولده وولد ولده]
م: (ولا حد على من وطئ جارية ولده وولد ولده وإن قال علمت أنها علي حرام، لأن الشبهة حكمية، لأنها نشأت عن دليل) ش: وسواء ادعى الأب الشبهة أو لم يدع. وأما الجد إذا وطئ جارية ولد ولده لا يجب الحد، ولا يثبت النسب أيضا إذا كان الأب حيا، لأنه محجوب بالأب وسقوط الحد لغوا منه الولادة، وذكر البزدوي إذا وطئ جارية حافدة والأب في الحياة لا يجب الحد.
م: (وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي الدليل هو قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «أنت ومالك لأبيك» ش: هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة: فعن عمر بن الخطاب أخرج حديثه البزار في " مسنده " عن سعيد بن المسيب عنه. وعن جابر أخرج حديثه الطبراني في " الصغير " والبيهقي في " دلائل النبوة " مطولا عن محمد بن المنكدر عن أبيه عنه، وفيه «أنت ومالك لأبيك» .
وعن سمرة بن جندب أخرج حديثه البزار في " مسنده " والطبراني في " معجمه " عن الحسن عنه نحوه. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني في " معجمه " عن علقمة بن قيس عنه نحوه.
وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه أبو يعلى في " مسنده " عن أبي إسحاق عنه(6/302)
والأبوة قائمة في حق الجد، قال: ويثبت النسب منه وعليه قيمة الجارية، وقد ذكرناه. وإذا وطئ جارية أبيه أو أمه أو زوجته، وقال: ظننت أنها تحل لي فلا حد عليه، ولا على قاذفه، وإن قال: علمت أنها علي حرام حد، وكذا العبد إذا وطئ جارية مولاه، لأن بين هؤلاء انبساطا في الانتفاع، فظنه في الاستمتاع محتمل، فكان شبهة اشتباه، إلا أنه زنا حقيقة، فلا يحد قاذفه، وكذا إذا قالت الجارية ظننت أنه يحل لي، والفحل لم يدع في الظاهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نحوه، وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرج حديثها ابن حبان في " صحيحه " عن عطاء عنها نحوه.
م: (والأبوة قائمة في حق الجد) ش: يشير بذلك إلى أن حكم الجد مثل حكم الأب في عدم وجوب الحد، وإن كان الأب حيا، ولكن لا يثبت النسب وقد ذكرناه الآن م: (ويثبت النسب منه) ش: أي من الأب م: (وعليه قيمة الجارية) ش: لأنه يملكها عند ثبوت النسب، ولا عقد عليه، لأنه لما ملكها يجمع سقط العقد، لأنه ضمان الجزاء م: (وقد ذكرناه) ش: أي في باب نكاح الرقيق.
م: (وإذا وطئ جارية أبيه أو أمه أو زوجته وقال: ظننت أنها تحل لي فلا حد عليه، ولا على قاذفه. وإن قال علمت أنها علي حرام حد، وكذا العبد إذا وطئ جارية مولاه) ش: أي وكذا حكم العبد بالتفصيل المذكور م: (لأن بين هؤلاء انبساطا في الانتفاع) ش: لأن الابن يتناول مال أبويه وينتفع به للأكل والصرف، وكذا الزوج في مال الزوجة.
وكذا العبد في مال مولاه، فلما جرى الانبساط بينهم اشتبهه الوطء، فإذا ادعى الاشتباه سقط الحد للشبهة، لكن لا يثبت النسب، لأن الفعل زنا في الواقع، وإذا قال: علمت أنها علي حرام حد لزوال الاشتباه، ولا يحد قاذف الابن والزوج والعبد بعد الحرية. لأن الفعل وقع زنا إلا أن الحد سقط الشبهة. وقاذف الزاني لا يحد. وقال في " الأجناس " قال في أمالي الحسن قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا زنى بجارية امرأته وقال: ظننت أنها لي حلال عليه العقوبة ولا حد عليه. ولا يثبت نسب الولد إن جاءت به صدقته المرأة أو لم تصدقه. ولو قال علمت أنها علي حرام لا عقر عليه، وعليه الحد، ولا يثبت النسب.
م: (وظنه في الاستمتاع محتمل) ش: أي وظن الواطئ الانبساط في الانتفاع أكلا واستعمالا في حل الاستمتاع بالجارية فيه م: (فكان) ش: أي ظنه هذا م: (شبهة اشتباه، إلا أنه زنا حقيقة، ولا يحد قاذفه، وكذا إذا قالت الجارية ظننت أنه يحل لي) ش: معطوف على قوله وقال ظننت أنها تحل لي فلا حد عليه أي والحال م: (والفحل لم يدع في الظاهر) ش: متصل بقوله، وكذا، أي لا حد على(6/303)
لأن الفعل واحد، وإن وطئ جارية أخيه أو عمه وقال: ظننت أنها تحل لي حد، لأنه لا انبساط في المال فيما بينهما، وكذا سائر المحارم سوى الولاد لما بينا.
ومن زفت إليه غير امرأته وقالت النساء: أنها زوجتك فوطئها لا حد عليه، وعليه المهر، قضى بذلك علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبالعدة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العبد في ظاهر الرواية م: (لأن الفعل واحد) ش: أي لأن فعلهما واحد، فإذا سقط عنهما سقط عنه الحد.
وروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الجارية إن ادعت الحل ولم يدع الفحل حد، لأن المرأة تابعة في فعل الزنا، فالشبهة المتمكنة في جانب البائع لا تعتبر في جانب الأصل، بخلاف ما إذا ادعى الرجل الظن، لأنه أصل في الفعل، فيتورث شبهة في التابع. وقلنا: لما كان الفعل واحدا ووردت الشبهة في أحد الجانبين يكتفي لإسقاط الحد على الآخر.
فإن قيل: يشكل بما إذا زنى البالغ بصبية، حيث يجب الحد على البالغ دون الصبية، مع أن الفعل واحد.
قلنا: سقوط الحد عن الصبية باعتبار عدم الأهلية لعقوبته، لا باعتبار الشبهة في الفعل، وفيما نحن فيه باعتبار الفعل، فيؤثر في الجانب الآخر لا محالة.
م: (وإن وطئ جارية أخيه أو عمه وقال ظننت أنها تحل لي حد، لأنه لا انبساط في المال فيما بينهما) ش: فلا يعتبر دعوى الظن.
م: (وكذا سائر المحارم) ش: أي وكذا الحكم، وهو وجوب الحد م: (سوى الولاد) ش: أي سوى قرابة فيما به الولاد، كالخال، والخالة وغيرها هذا المعنى م: (لما بينا) ش: أي قوله لأنه لا انبساط في المال فيما بينهما، بخلاف ما لو سرق من بيت هؤلاء حيث لا يقطع، لأن الحرز لم يتحقق في حق لدخوله في بيت هؤلاء فلا استئذان، وحيث هو القطع دائر مع هتك الحرز.
[زفت إليه غير امرأته وقال النساء أنها زوجتك فوطئها]
م: (ومن زفت إليه غير امرأته، وقال النساء أنها زوجتك فوطئها لا حد عليه، وعليه المهر قضى بذلك علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: هذا غريب جدا. قوله " زفت " على صيغة من المجهول أي بعث من باب نصر ينصر.
قوله م: (وقال: النساء) ش: بتذكير الفعل، لأن تأنيث الجمع ليس بحقيقي، قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} [الممتحنة: 12] (الممتحنة: الآية 12) ، وفي بعض النسخ م: (وقلن النساء) ش:. قال الأترازي: لا يجوز إلا على ضعيف.
قلت: حكى سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذلك فمن غير قيد نصف، كقولهم أكلوني البراغيث م: (وبالعدة) ش: أي وقضى وجوب العدة.(6/304)
ولأنه اعتمد دليلا وهو الإخبار في موضع الاشتباه إذ الإنسان لا يميز بين امرأته وبين غيرها في أول الوهلة، فصار كالمغرور، ولا يحد قاذفه إلا في رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الملك منعدم حقيقة.
ومن وجد امرأة على فراشه فوطئها فعليه الحد، لأنه لا اشتباه بعد طول الصحبة، فلم يكن الظن مستندا إلى دليل. وهذا لأنه قد ينام على فراشها غيرها من المحارم التي في بيتها، وكذا إذا كان أعمى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأنه) ش: أي ولأن المزفوف م: (اعتمد دليلا وهو الإخبار في موضع الاشتباه، إذ الإنسان لا يميز بين امرأته وبين غيرها في أول الوهلة) ش: بفتح الواو وسكون الهاء يقال لقيته أول وهلة، أي أول كل شيء يعني لا يميز في أول الوهلة إلا بالإخبار، وخبر الواحد مقبول في أمور الدين والمعاملات، ولهذا إذا جاءت الجارية وقالت: بعثني إليك مولاي هدية يحل وطؤها اعتمادا عليها، ذكره الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وأما وجوب المهر فلأن البضع لا يخلو عليها من أحد الوجهين إبانة لخطر المحل.
أما الحد وأما المهر فلم يجب الحد للشبهة فيجب المهر. وقال الأترازي: وهو مؤيد بقضاء علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
روى أصحابنا في كتبهم أنه قضى كذلك، ويثبت نسب الولد إن جاءت به وليست كالتي فجر محرمها، وقال حسبتها امرأتي حيث لا يثبت نسب ولدها ويجب عليه الحد، وبه صرح الحاكم في " الكافي ": م: (فصار كالمغرور) ش: أي صار الذي زفت إليه غير امرأته فوطئها كالمغرور، وهو الذي زف إلى امرأة معتمدا على ملك يمين أو نكاح ثم استحقت [ ... ] فلا يجب عليه الحد للاشتباه، فكذا الذي زفت إليه غير امرأته لهذا المعنى.
م: (ولا يحد قاذفه) ش: أي لا يحد قاذف الذي زفت إليه غير امرأته فوطئها في ظاهر الرواية م: (إلا في رواية عن أبي يوسف) ش: حيث قال إنه يحد م: (لأن الملك منعدم حقيقة) ش: هذا دليل ظاهر الرواية، أراد به أن لا ملك له فيه، إلا في الأخسية يسقط إحسانه لوقوع الفعل زنا فلا يحد قاذفه.
م: (ومن وجد امرأة على فراشه فوطئها فعليه الحد؛ لأنه لا اشتباه بعد طول الصحبة فلم يكن الظن مستندا إلى دليل) ش: وقال زفر والشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا حد عليه، أي ظن أنها امرأته قياسا على ليلة الزفاف وعلى من شرب شرابا على ظن أنه ليس بخمر فإنه لا يحد م: (وهذا) ش: إشارة إلى قوله: لأنه اشتباه م: (لأنه قد ينام على فراشها غيرها من المحارم التي في بيتها) ش: فلا يكون مجرد النوم دليل على أن النائمة هي زوجته.
م: (وكذا إذا كان أعمى) ش: أي إذا وجد الأعمى في بيته أو فراش زوجته امرأة فوطئها على(6/305)
لأنه يمكنه التمييز بالسؤال وغيره، إلا إن كان دعاها فأجابته أجنبية، وقالت: أنا زوجتك فواقعها لأن الإخبار دليل.
ومن تزوج امرأة لا يحل له نكاحها فوطئها لا يجب عليه الحد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لكنه يوجع عقوبة إذا كان علم بذلك، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عليه الحد إذا كان عالما بذلك، لأنه عقد لم يصادف محله، فيلغو كما إذا أضيف إلى الذكور، وهذا لأن محل التصرف ما يكون محلا لحكمه، وحكمه الحل وهي من المحرمات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ظن أنها امرأته يجب عليه الحد م: (لأنه يمكنه التمييز بالسؤال) ش: أي يمكنه تمييز امرأته بالسؤال عنها م: (وغيره) ش: أي وغير السؤال من العلامات م: (إلا إذا دعا فأجابته أجنبية وقالت أنا زوجتك فواقعها) ش: أي فجامعها لا يجب الحد م: (لأن الإخبار دليل) ش: فاستند إليه.
[تزوج امرأة لا يحل له نكاحها]
م: (ومن تزوج امرأة لا يحل له نكاحها) ش: مثل نكاح المحارم، والمطلقة الثلاث، ومنكوحة الغير، ومعتدة الغير، ونكاح الحاملة، وأخت المرأة في عدتها، والمجوسية، والأمة على الحرة ونكاح العبد والأمة بلا إذن المولى، والنكاح بغير شهود م: (فوطئها لم يجب عليه الحد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: في جميع ذلك.
وإن قال علمت أنها علي حرام م: (ولكنه يوجع عقوبة إذا كان علم بذلك) ش: يعني يضرب طريق التقرير ضربا مؤلما عقوبة عليه لا بطريق الحد.
م: (وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: عليه الحد إذا كان عالما بذلك) ش: وإلا فلا، ولكن أبا يوسف ومحمد - رحمهما الله - قال: فيما ليس بحرام على التأبيد لا يجب الحد بالنكاح بغير شهود م: (لأنه عقد لم يصادف محله فيلغو، كما إذا أضيف إلى الذكور، وهذا لأن محل التصرف ما يكون محلا لحكمه) ش:
وهذا المحل ليس محلا لحكمه م: (وحكمه الحل، وهي من المحرمات) ش: على التأبيد، فلا يكون محلا للحل، فلا ينعقد أصلا كالبيع الوارد على الميتة والدم، وفي " المغني " لابن قدامة الحنبلي: فأما الأنكحة المجمع على ما يطلق بها النكاح الخامسة والعقدة والزوجة للغير، ومطلقة ثلاثا وذوات محارم من نسب أو رضاع لا يمنع وجوب الحد، كما روي عن عمر أنه قال: حين رفع إليه امرأة تزوجت في عدة قضاء له بغيره علمتما فقالا: لا، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لو علمت لرجمتكما.
وفي وطء محارمه بالعقد وبغيره روايتان، في رواية يجب الحد لعموم الآية. والثانية يقبل بكل حال لما روي «عن البراء قال: " لقيت عمي وفي يده الراية، فقلت إلى أين تريد، قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى رجل نكح امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه وآخذ ماله» . قال الترمذي: هذا(6/306)
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العقد صادف محله، لأن محل التصرف ما يقبل مقصوده. والأنثى من بنات بني آدم قابلة للتوالد وهو المقصود، فكان ينبغي أن ينعقد في حق جميع الأحكام، إلا أنه تقاعد عن إفادة حقيقة الحل، فيورث الشبهة، لأن الشبهة ما يشبه الثابت لا نفس الثابت، إلا أنه ارتكب جريمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حديث حسن.
وروى ابن ماجه بإسناده أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ومن وقع على ذات محرم فاقتلوه» انتهى كلامه، قال العلامة: هذا حديث شاذ مخالف لظاهر الكتاب والأحاديث المشهورة، فيؤول ذلك في حق من يستحله أو أمر بذلك بسياسة وتعزير الحد.
م: (ولأبي حنيفة أن العقد صادف محله) ش: لأن الوطء حصل عقيب النكاح المصادف إلى محل قابل لمقاصد النكاح، والنكاح بصيغة زوجت وتزوجت وما يجري ذلك المجرى من الألفاظ فصادف محله م: (لأن محل التصرف ما يقبل مقصوده) ش: أي مقصود المتصرف، وهو المطلوب من النكاح، وهو قضاء الشهوة والولد والسكنى م: (والأنثى من بني آدم قابلة للتوالد، وهو المقصود) ش: ولا شك أن المحل بهذه الصفة م: (فكان ينبغي أن ينعقد في حق جميع الأحكام) ش: وأن يثبت العقد حقيقة الحل، لكن لم يثبتها إلا قضاء المنصوص، بخلاف ذلك، وهو معنى قوله.
م: (إلا أنه) ش: أي إلا أن هذا العقد م: (تقاعد عن إفادة حقيقة الحل، فيورث الشبهة) ش: أي شبهة الحل م: (لأن الشبهة ما يشبه الثابت لا نفس الثابت) ش:
فإن قلنا: من أين يرث شبهة المحل، وقد ثبت الحرية بالنص من كل وجه، فانتفى الحل من كل وجه.
قلت: سلمنا أن الحل ينتفي من كل وجه، فنحن لا ندعي المحل من وجه حتى يرد السؤال، بل ندعي شبهة الحل لصورة العقد، وهي حاصلة. وقد علل المصنف ذلك بقوله لأن الشبهة إلى آخره.
فإن قلت: لو كانت الشبهة ثابتة لوجبت العدة، وثبت النسب.
قلت: منع بعض أصحابنا عدم وجوب العدة وعدم ثبوت النسب. وعلى تقدير التسليم نقول مبنى وجوب العدة وثبوت النسب على وجود الحل من وجه أو من كل وجه، وهنا لم يوجد الحل أصلا، ويعني بالحل أن يكون الفاعل على حالة الإيلام عليها. وهاهنا إيلام الواطئ ويعذر عقوبة عليه.
م: (إلا أنه ارتكب جريمة) ش: استثناء من قوله فيورث الشبهة أي يورث العقد الشبهة، فلا(6/307)
وليس فيها حد مقدر فيعزر.
ومن وطئ أجنبية فيما دون الفرج يعزر، لأنه منكر ليس فيه شيء مقدر، ومن أتى امرأة في الموضع المكروه أو عمل عمل قوم لوط فلا حد عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويعزر. وزاد في " الجامع الصغير ": ويودع في السجن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يجب الحد إلا إن ارتكب جريمة، أي ذنبا م: (وليس فيها) ش: أي في هذه الجريمة م: (حد مقدر) ش: فإذا لم يكن حد مقدر م: (فيعزر) ش: عقوبة عليه.
[الوطء فيما دون الفرج]
م: (ومن وطئ أجنبية) ش: أي امرأة أجنبية م: (فيما دون الفرج) ش: كالتبطين والتفخيذ ونحوهما، وليس المراد منه الإتيان في الدبر، لأن بيانه يجيء عقيب هذا م: (يعزر) ش: قالوا أشد التعزير م: (لأنه) ش: أي لأن الوطء فيما دون الفرج م: (منكر) ش: لأنه شيء قبيح م: (ليس فيه شيء مقدر) ش: في الشرع وبه قال الشافعي ومالك وأحمد في رواية، وفي رواية: يقتل.
م: (ومن أتى امرأة في الموضع المكروه) ش: أي في الدبر م: (أو عمل عمل قوم لوط) ش: أي أو أتى في دبر الذكر م: (فلا حد عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويعزر) ش: هذا لفظ القدوري م: (وقال) ش: أي محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: م: (في " الجامع الصغير ": ويودع في السجن) ش: وصورته في " الجامع الصغير ": محمد بن يعقوب عن أبي حنيفة: في الدبر يعمل عمل قوم لوط قال لا يبلغ حد الزنا، لكنه يحبس ويعزر، وذكر علاء الدين في طريقة الخلاف يعزر ويحبس إلى أن يتوب أو يموت. وفي " روضة السندوسي ": الخلاف في الغلام، أما لو أتى امرأة في الموضع المكروه يحد بلا خلاف. ولو فعل هذا بعبده أو أمته أو منكوحته لا يحد بلا خلاف، وكذا في " الفتاوى الظهيرية ".
وفي " الكافي ": في الأصح أن العبد يحد، وفي الأمة والمنكوحة عدم الحد الكل على الخلاف، نص عليه في الزيادات. وقد انعقد الإجماع على تحريم إتيان المرأة في الدبر، وإن كان فيه خلاف قديم فقد انقطع. وكل من روي عنه إباحته فقد روي عنه إنكاره. فأما القائلون بتحريمه من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فعلي بن أبي طالب وابن عباس وأبو هريرة وأبو الدرداء وابن مسعود.
ولم يختلف عليه أحد من الصحابة إلا ابن عمر، ومن التابعين إلا نافع. فأما ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فروى النسائي في سننه والطبري من طريق مالك قال: أشهد على ربيعة يحدثني عن سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر عن ذلك فقال: لا بأس به، وقد صح عنه أنه أنكر ذلك فيما روى النسائي من رواية الحارث بن يعقوب عن سعيد بن يسار قال: قلت لابن عمر: إنا نشتري الجواري فيمحض لهن، قال: وما التمحيض؟ قال إتيانهن في أدبارهن، فقال ابن عمر: أويفعل هذا مسلم؟
وروى النسائي أيضا من رواية كعب بن علقمة عن ابن [....] أخبره أنه قال لنا في مولى(6/308)
وقالا: هو كالزنا فيحد، وهو أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال في قول: يقتلان بكل حال؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اقتلوا الفاعل والمفعول» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن عمر قد أكثروا عليك القول، إنك تقول عن ابن عمر أنه أفتى عمن يأتي النساء في أدبارهن، فقال نافع: لقد كذبوا علي.
وقال ابن حزم في " المحلى ": وما روينا إباحة ذلك عن أحد إلا عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - باختلاف عنه. وعن نافع باختلاف عنه، وعن مالك باختلاف عنه، وروى الثعلبي في تفسيره عن رواية عطاف بن موسى - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عبد الله بن الحسن عن أبيه أنه حكى عن مالك إباحة ذلك، وأنكره أصحابه.
م: (وقالا) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (هو) ش: أي اللواطة م: (كالزنا فيحد) ش: فإن كان محصنا يرجم، وإلا فيجلد م: (وهو أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال في قول: يقتلان بكل حال) ش: يعني سواء كان محصنا أو غير محصن، وله فيه وجوه، يقتلان بالسيف وفي وجه يرجمان بكرا كان أو ثيبا، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - تغليظا. وفي وجه يهدم عليه جدار. وفي وجه يرمى من شاهق حتى يموت.
وفي " شرح الوجيز ": وأصح القولين يجلد إن كان من بكر ويعزر، وإن كان محصنا يرجم م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «اقتلوا الفاعل والمفعول) » ش: هذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « [من] وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل، والمفعول» م: (ويروى «فارجموا الأعلى والأسفل» ش: روى هذا ابن ماجه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذي يعمل عمل قوم لوط فارجموا الأعلى والأسفل» .
م: (ولهما) ش: أي ولأبي يوسف ومحمد م: (أنه) ش: إن فعل اللواطة، وفي بعض النسخ ولهما أنهما أي الإتيان في الموضع المكروه من المرأة وعمل قوم لوط م: (في معنى الزنا، لأنه قضاء الشهوة في محل مشتهى على سبيل الكمال) ش: وقال الكاكي: قوله في معنى الزنا، أي في المعنى الذي تعلق به الحد من كل وجه، حتى إن من لا يعرف الشرع لا يفصل بينهما.
قوله - لأنه - أي لأن إتيان الدبر قضاء الشهوة في محل مشتهى، إذ المحل إنما يصير مشتهى باللين والحرارة، وذلك لا يخلو من القبل والدبر، بل الاشتهاء والرغبة في الدبر أبلغ، لأنه لا يتوهم حدوث الولد، بخلاف القبل.(6/309)
ويروى: فارجموا الأعلى والأسفل، ولهما أنه في معنى الزنا، لأنه قضاء الشهوة في محل مشتهى على سبيل الكمال على وجه تمحض حراما لقصد سفح الماء. وله أنه ليس زنا لاختلاف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في موجبه من الإحراق بالنار، وهدم الجدار والتنكيس من مكان مرتفع بإتباع الأحجار وغير ذلك، ولا هو في معنى الزنا، لأنه ليس فيه إضاعة الولد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأترازي: وقيد الكمال احترازا عن الشبهة، لأن فرجها ينفر عنه الطباع السليمة، فلم تكن تشتهى على سبيل الكمال م: (على وجه) ش: يتعلق بقوله لأنه قضى الشهوة ... إلى آخره م: (تمحض حراما) ش: عن قوله م: (لقصد سفح الماء) ش: قال الأكمل: هو مناط الحد في الزنا فيلحق به اللواطة بالدلالة، لا بالقياس، لأن القياس لا يدخل فيما يدور بالشبهات.
وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - معنى سفح الماء هنا أبلغ، لأن المحل لا يصلح للنسل والحرث، فيكون أشد تضييعا للماء، لأنه بذر، وبذر الحب في محل لا ينبت يكون أشد تضييعا.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه) ش: أي الإتيان في الدبر م: (ليس بزنا لاختلاف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في موجبه) ش: أي موجب الإتيان في الدبر م: (من الإحراق بالنار) ش:.
روى الواقدي في كتاب " الردة " في آخر ردة بني سليم فقال: حدثني يحيى بن عبد الله بن أبي فروة عن عبد الله بن أبي بكر بن حزام قال: كتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر الصديق أخبرني أني أتيت برجل قامت عندي البينة أنه يوطأ في دبره كما توطأ المرأة، فدعا أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستشارهم فيه، فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أحرقه بالنار، فإن العرب يأنف أنفا لا يأنفه أحد غيرهم. وقال غيره اجلدوه، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن أحرقه بالنار، فحرقه خالد.
م: (وهدم الجدار عليهما) ش: وقال الأترازي: اختلف الصحابة في حده فقال بعضهم: يهدم عليهما الجدار.
قلت: ولم أجد من أخرج هذا عن أحد من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (والتنكيس من مكان مرتفع بإتباع الأحجار) ش: يعني ينكسان من أعلى المواضع، ثم يتبعان بالحجارة.
وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا غسان بن مضر عن سعيد بن زيد عن أبي نضرة قال: سئل ابن عباس ما حد اللواطي؟ قال: ننظر أعلى بناء في القرية ويرمى منه منكسا، ثم يتبع بالحجارة م: (وغير ذلك) ش: أي وغير ما ذكر من الأشياء المذكورة، وهو قول بعضهم يحبسان في أنتن المواضع حتى يموتا.
م: (ولا هو) ش: أي الإتيان في الدبر م: (في معنى الزنا، لأنه ليس فيه إضاعة الولد) ش: بيانه(6/310)
واشتباه الأنساب، وكذا هو أندر وقوعا لانعدام الداعي في أحد الجانبين والداعي إلى الزنا من الجانبين، وما رواه محمول على السياسة أو على المستحيل، إلا أنه يعزر عنده لما بيناه،
ومن وطئ بهيمة فلا حد عليه؛ لأنه ليس في معنى الزنا في كونه جناية، وفي وجود الداعي، لأن الطبع السليم ينفر عنه. والحامل عليه نهاية السفه أو فرط الشبق، ولهذا لا يجب ستره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن الوطء في القبل سبب لحصول الولد ظاهرا غالبا، ثم إذا حصل الولد لا يقوم بحضانته وتربيته لا الزاني ولا الزوج، لعدم الوثوق بكون الولد منه والأم عاجزة عن الإنفاق عليه، فيضيع الولد وليس هذا في الإتيان في الدبر.
م: (واشتباه الأنساب) ش: أي وليس فيه أيضا اشتباه الأنساب، لأن اشتباه الأنساب مبني على الدعوى، وهذا المعنى مقصود في اللواطة.
م: (وكذا هو أندر وقوعا) ش: أي كذا فعل اللواطة، وقد روي [ ... ] م: (لانعدام الداعي من أحد الجانبين) ش: وهو جانب المفعول م: (والداعي إلى الزنا من الجانبين) ش: وجانب الفاعل وجانب المفعول، فلم يكن اللواطة في معنى الزنا، فلا يثبت حكمه فيهما قياسا.
م: (وما رواه) ش: أي الشافعي وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اقتلوا الفاعل والمفعول به» م: (محمول على السياسة، أو على المستحيل، إلا أنه يعزر عنده) ش: أي عند أبي حنيفة يعزر اللواطي، وإن كان لا يحد، وهذا استثناء من قوله ليس بزنا، ولا هو في معنى الزنا: (لما بيناه) ش: إشارة إلى قوله لأنه منكر ليس فيه شيء مقدر
[وطء البهيمة]
م: ومن وطئ بهيمة فلا حد عليه) ش: وبه قال زفر ومالك وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مثله، وبه قال الشافعي في قول وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وفي قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحد كالزنا، وبه قال في رواية. وفي قول يقتل رجما، بكرا كان أو ثيبا، كما روي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة» .
م: (لأنه) ش: أي لأن وطء البهيمة م: (ليس في معنى الزنا في كونه جناية) ش: لأنه ناقص م: (وفي وجود الداعي) ش: أي ولا في وجود الداعي م: (لأن الطبع السليم ينفر عنه) ش: أي عن وطء البهيمة م: (والحامل عليه) ش: أي على وطء البهيمة م: (نهاية السفه) ش: لأن العاقل لا يفعل هذا الفعل [ ... ] .
م: (أو فرط الشبق) ش: بفتح الشين المعجمة، والباء الموحدة وهو شدة الغلة م: (ولهذا) ش: أي ولأجل نفرة الطبع السليم م: (ولهذا لا يجب ستره) ش: أي ستر فرج البهيمة، وإنما أضمر عليه وإن لم يسبق ذكره ذكر البهيمة ملزمة، كذا قاله الأكمل.(6/311)
إلا أنه يعزر لما بيناه. والذي يروى أنه تذبح البهيمة وتحرق، فذلك لقطع التحدث به، وليس بواجب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: دعوى الاستلزام غير موجه، نعم يفهم ذلك عند ذكر البهيمة، ولو كان الطبع داعيا عليه لوجب ستر ذلك الموضع، كما في القبل والدبر، والإيلاج فيه كالإيلاج في الكوز، ولهذا لا يجب الغسل، ولا ينقض الطهارة بنفس الإيلاج بدون الإنزال، فلا يكون في معنى الزنا م: (إلا أنه يعزر لما بينا) ش: يعني قوله ارتكب جريمة، وليس فيها حد.
م: (والذي يروى) ش: أي والحديث الذي يروى م: (أنه تذبح البهيمة وتحرق) ش: بهذا اللفظ الغريب، نعم روى الأربعة من حديث عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها» م: (فذلك لقطع التحدث به) ش: أراد به أن الأمة تقبله، وقتل البهيمة لأجل قطع حديث الناس به، لأن الناس إذا رأوا البهيمة ربما يقولون هذه هي البهيمة التي فعل بها، فلا يتقرب به فلان ويتضرر، ويقعون أيضا في الغيبة، فلأجل ذلك تقتل البهيمة، ليكف تحدث الناس، على أنا نقول إن الحديث شاذ ضعيف، ضعفه البخاري ويحيى بن معين وأبو داود مع أنه روي عن ابن عباس أنه قال: لا حد على من أتى بهيمة.
وكذلك روى الثقات عن ابن عباس، وإن ثبت تأوله في حق المستحل لتأويل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من أتى امرأته الحائض أو امرأته في غير ما أتاها، فقد كفر بما أنزل على محمد» .
وقيل: إنما قال ذلك في فاعل اعتاد وبذلك قتل سياسة عندنا، ألا ترى أنه أمر بالقتل المطلق، ولم يفرق بين المحض وغيره، ولو كان بمنزلة النساء يفرق بينه وبين المحض وغيره.
م: (وليس بواجب) ش: أي الآخر وليس بواجب. وقال شمس الأئمة السرخسي: الإحراق جائز وليس بواجب، فإن كانت الدابة مما يؤكل لحمها تذبح، ويؤكل لا يحرق بالنار على قول أبي يوسف.
وقال أبو يوسف: يحرق بالنار ويضمن الفاعل القيمة إن كانت لغيره، ولأنها قتلت لأجله كي يعتبر، وقال الطحاوي: وإن أتى بهيمة وجب التعزير، ولا يحد الحد. وإن كانت البهيمة ذبحت ولا تؤكل.
قال الإمام الأسبيجابي في " شرح الطحاوي " [لم يرو] هذا من أصحابنا في كتبهم، فأما محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - روى عن عمر أنه لم يحد واطئ البهيمة، وأمر بالبهيمة حتى أحرقت بالنار. وقال بعض أصحاب الشافعي: تقتل ولا تحرق، ويضمن الفاعل إن كانت لغيره.
وقال بعض أصحابه: لا تقتل، وفرق بعض أصحابنا فقال: إن كانت مما [لا] يؤكل لا(6/312)
ومن زنى في دار الحرب أو في دار البغي ثم خرج إلينا فلا يقام عليه الحد، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحد لأنه التزم بإسلامه أحكامه أينما كان مقامه. ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لا تقام الحدود في دار الحرب، ولأن المقصود هو الانزجار، وولاية الإمام منقطعة فيهما، فيعرى الوجوب عن الفائدة، ولا تقام بعدما خرج، لأنها لم تنعقد موجبة، فلا تنقلب موجبة، ولو غزا من له ولاية الإقامة بنفسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يذبح، وإن كانت مما يؤكل يذبح. وفي أكلها وجهان، أحدهما لا يجز ويضمن لغيره.
[من زنى في دار الحرب]
م: (ومن زنى في دار الحرب أو في دار البغي، ثم خرج إلينا، فلا يقام عليه الحد) ش: يعني إذا خرج وأقر عند القاضي م: (وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحد) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنه التزم بإسلامه أحكامه) ش: أي أحكام الإسلام م: (أينما كان مقامه) ش: بضم الميمين، أي ثبت موضع إقامته الضمير يرجع إلى من " في " ومن زنى.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا تقام الحدود في دار الحرب» ش: هذا الحديث غريب، وأخرج البيهقي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: قال أبو يوسف: حدثنا بعض أشياخنا عن مكحول عن «زيد بن ثابت قال: لا يقام الحدود في دار الحرب مخافة أن يلحق أهلها بالعدو» والمراسيل عندنا حجة كالمسند.
وقال الكاكي: في شرح الصاعدي روى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في السير الكبير عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من زنى أو سرق في دار الحرب وأصاب بها حدا ثم هرب وخرج إلينا فإنه لا يقام عليه الحد» ثم قال: وجه التمسك بحديث الكتاب أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقق عدم الإقامة لانقطاع ولاية الإمام عنها، فكان المراد من عدم الإقامة عدم وجوب الحد.
فإن قيل: الحديث يعارض بقوله تعالى: {فَاجْلِدُوا} [النور: 2] .
قلنا: خص منه مواضع الشبهة بالإجماع، فيجوز تخصيصه بخبر الواحد.
م: (ولأن المقصود) ش: أي من إقامة الحد م: (هو الانزجار) ش: وذا لا يحصل بنفس الوجوب، بل الاستيفاء.
ولا يمكن استيفاؤه ثمة لعدم ولاية الإمام، فامتنع الوجوب لعدم فائدته، وهو الاستيفاء، أشار إليه المصنف بقوله: م: (وولاية الإمام منقطعة فيهما) ش: أي في دار الحرب، ودار البغي كذلك م: (فيعرى الوجوب عن الفائدة) ش: وهو الاستيفاء م: (ولا تقام بعدما خرج لأنها لم تنعقد موجبة) ش: أي لأن هذه الفعلة أو الزانية لم تنعقد حال كونها موجبة للحد م: (فلا تنقلب موجبة) ش: بعد الخروج إلينا، فلا يحد.
م: (ولو غزا من له ولاية الإقامة) ش: أي إقامة الحدود م: (بنفسه) ش: أي باختصاصه بذلك م:(6/313)
كالخليفة وأمير المصر يقيم الحد على من زنى في معسكره، لأنه تحت يده، بخلاف أمير العسكر والسرية لأنه لم يفوض إليهما الإقامة.
وإذا دخل الحربي في دارنا بأمان فزنى بذمية أو زنى ذمي بحربية يحد الذمي والذمية عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا يحد الحربي والحربية، وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الذمي يعني إذا زنى بحربية، فأما إذا زنى الحربي بذمية لا يحدان عند محمد، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول أبي يوسف أولا. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحدون كلهم، وهو قوله الآخر. لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المستأمن التزم أحكامنا مدة عمره في دارنا في المعاملات كما أن الذمي التزمها مدة إقامته، ولهذا يحد حد القذف ويقتل قصاصا، بخلاف حد الشرب، لأنه يعتقد إباحته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(كالخليفة وأمير المصر يقيم الحد على من زنى في معسكره، لأنه تحت يده) ش: أي لأن من زنى في معسكر من له الولاية يختاره م: (بخلاف أمير العسكر) ش: لأنه لم يفرض له ولاية إقامة الحدود م: (والسرية) ش: أي بخلاف أمير السرية وهم الذين يسرون بالليل ويخفون بالنهار، ومنه " خبر السرايا أربعمائة " م: (لأنه لم يفوض إليهما الإقامة) ش: أي لم يفرض إلى أمير العسكر وأمير السرية إقامة الحدود.
م: (وإذا دخل الحربي في دارنا بأمان فزنى بذمية أو ذمي بحربية يحد الذمي والذمية عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا يحد الحربي والحربية) ش: وبقول أبي حنيفة قال الشافعي وأحمد.
وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - يحد الحربي والذمية. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحدان ولا يحد الحربي والحربية.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحدان م: (وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الذمي يعني إذا زنى بحربية، فأما إذا زنى الحربي بذمية لا يحدان عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولا. وقال أبو يوسف) ش: آخرا م: (يحدون كلهم) ش: وبه قال الشافعي وزفر م: (وهو قوله الآخر. لأبي يوسف أن المستأمن التزم أحكامنا مدة إقامته في دارنا في المعاملات، كما أن الذمي التزمها مدة عمره، ولهذا) ش: أي ولأجل التزامه أحكامنا مدة إقامته م: (يحد حد القذف) ش: إذا قذف مسلما.
م: (ويقتل قصاصا) ش: إذا قتل ويمنع من الزبور وشراء العهد للسلم والمصحف، ويجبر على بيعهم بعد الشراء كما يجبر الذمي، بخلاف حد الشرب جواب عما يقال لو كان كذلك لا يقيم عليه حد الشرب، لأنه من أحكامنا، أجاب بقوله.
م: (بخلاف حد الشرب) ش: يعني حد الشرب ليس كذلك م: (لأنه يعتقد إباحته) ش:
فإن قلت: فهو يعتقد إباحة قتل المسلم وقذفه، فينبغي أن لا يقتص منه، ولا يحد لقذفه.(6/314)
ولهما أنه ما دخل دارنا للقرار بل لحاجة كالتجارة ونحوها، فلم يصر من أهل دارنا، ولهذا يمكن من الرجوع إلى دار الحرب، ولا يقتل المسلم ولا الذمي به. فإنما التزم من الحكم ما يرجع إلى تحصيل مقصوده، وهو حقوق العباد، لأنه لما طمع في الإنصاف يلتزم الإنصاف والقصاص، وحد القذف من حقوقهم. أما حد الزنا محض حق الشرع، ولمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الفرق أن الأصل في باب الزنا فعل الرجل، والمرأة تابعة له على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فامتناع الحد في حق الأصل يوجب امتناعه في حق التبع، أما الامتناع في حق التبع لا يوجب الامتناع في حق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: المعنى باعتقاد الإباحة وهو أن يكون قتل النفس والقذف حرام عندهم في دينهم، فأما حقهم ذلك ليس بدين، وإنما هو هوى وتعصب.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (أنه) ش: أي المستأمن م: (ما دخل دارنا للقرار بل لحاجة كالتجارة ونحوها) ش: مثل زيارة أقربائه أو لأجل الطيب أو لأجل [ ... ] هو منه، فإذا كان كذلك م: (فلم يصر من أهل دارنا، ولهذا) ش: أي ولأجل عدم كونه من أهل دارنا م: (تمكن) ش: أي الحربي المستأمن م: (من الرجوع إلى دار الحرب) ش: إذا عزم على الخروج من دار الإسلام على الدخول في دار الحرب.
م: (ولا يقتل المسلم ولا الذمي به) ش: أي بسببه إذا قتل مسلم أو ذمي، والذمي إذا قتله مسلم يقتص به عندنا، فعلم أن الحربي لم يكن كالذمي.
م: (فإنما التزم من الحكم ما يرجع إلى تحصيل مقصوده، وهو حقوق العباد، لأنه) ش: أي لأن الحربي المستأمن م: (لما طمع في الإنصاف) ش: المسلمين، أي طمع في العدل لأجله على غيره م: (يلتزم الإنصاف) ش: أي قبل العدل لغيره عليه، يقال انتصف الرجل إنصافا إذا أعطي الحق، وتناصف القوم إذا تعاطوا الحق بينهم م: (والقصاص، وحد القذف من حقوقهم) ش: أي من حقوق العباد. م: (أما حد الزنا محض حق الشرع) ش: فلم يلتزمه فلا يلزمه، ولما فرغ عن الجواب عن قول أبي يوسف من جهة أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - شرع في بيان إثبات ما لكل منهما فيم ذهب إليه فقال م: (ولمحمد) ش: يعني في الفرق بين المسلم أو الذمي إذا زنى بحربية مستأمنة حيث يجب الحد عنده على الفاعل، وبين المسلمة أو الذمية إذا زنت بحربي حيث لا يجب عنده عليهما.
بيانه ما قال بقوله: م: (وهو الفرق أن الأصل في باب الزنا فعل الرجل، والمرأة تابعة له) ش: لكونها محلا م: (على ما نذكره إن شاء الله تعالى) ش: أي في مسألة زنى صحيح بمجنونة أو صغيرة م: (فامتناع الحد في حق الأصل يوجب امتناعه في حق التبع) ش: لأن الحد إنما يجب عليهما بالتمكين من فعل موجب للحد فيما مكنت من فعل موجب للحد، فلا تحد.
م: (أما الامتناع في حق التبع لا يوجب الامتناع في حق الأصل) ش: وإلا ما كان مستتبعا فكان(6/315)
الأصل، ونظيره إذا زنى البالغ بصبية أو مجنونة وتمكين البالغة من الصبي والمجنون. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه أن فعل الحربي المستأمن زنا، لأنه مخاطب بالحرمات على ما هو الصحيح وإن لم يكن مخاطبا بالشرائع على أصلنا، والتمكين من فعل هو زنا موجب للحد عليها، بخلاف الصبي والمجنون، لأنهما لا يخاطبان، ونظير هذا الاختلاف إذا زنى المكره بالمطاوعة تحد المطاوعة عنده، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تحد. قالوا: إذا زنى الصبي أو المجنون بامرأة طاوعته، فلا حد عليه ولا عليها. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجب الحد عليها، وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أصلا، والغرض أنه تبع، وذلك خلاف باطل م: (نظيره) ش: أي نظير هذا م: (إذا زنى البالغ بصبية أو مجنونة) ش: فإنه يحد البالغ دونها، لأن الامتناع في حق التبع لا يستلزمه في حق الأصل م: (وتمكين البالغة) ش: أي ونظيره أيضا تمكين البالغة نفسها م: (من الصبي والمجنون) ش: فإنه لا يجب الحد عليها، لأن الامتناع في حق الأصل يستلزمه في حق التبع.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه أن فعل الحربي المستأمن زنا، لأنه مخاطب بالحرمات) ش: كحرمة الكفر والزنا وإن لم يكن مخاطبا، فإذا ما يحتمل السقوط من العبادات م: (على ما هو الصحيح) ش: احترز به عن قول بعض مشايخنا العراقيين، فإنهم قالوا بوجوب الأداء م: (وإن لم يكن مخاطبا بالشرائع على أصلنا) ش: إشارة إلى قول مشايخ ديارنا، أي ديار المصنف. م: (والتمكين) ش: أي تمكين المرأة نفسها منه م: (من فعل هو زنا موجب للحد عليها) ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] (النور: الآية 2) ، فيجب الحد عليها لوجوب المقتضى وانتفاء المانع.
م: (بخلاف الصبي والمجنون، لأنهما لا يخاطبان) ش: هذا جواب عن شبهة محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أن سقوط الحد من الأصل يوجب السقوط من التبع. ووجه ذلك أن هذا ليس بنظير ما نحن فيه، لأن الصبي والمجنون لا يخاطبان، فلا يكون فعلهما، والتمكين من غير الزنا ليس بزنا فلا يوجب الحد والحربي مخاطب بفعل الزنا، والتمكين من الزنا زنا يوجب الحد.
م: (ونظير هذا) ش: أي نظير هذا م: (الاختلاف) ش: الواقع بين أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله - م: (إذا زنى المكره بالمطاوعة تحد المطاوعة عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تحد) ش:.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (وإذا زنى الصبي أو المجنون بامرأة طاوعته) ش: أي طاوعت الصبي أو المجنون م: (فلا حد عليه ولا عليها. قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي: يجب الحد عليها) ش: أي على المرأة المطاوعة م: (وهو) ش: أي قول زفر والشافعي - رحمهما الله - م: (رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال مالك وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنها زانية حقيقة.(6/316)
وإن زنى صحيح بمجنونة أو صغيرة تجامع مثلها حد الرجل خاصة، وهذا بالإجماع، ولهما أن العذر من جانبها لا يوجب سقوط الحد من جانبه، فكذا العذر من جانبه، وهذا لأن كلا منهما مؤاخذ بفعله. ولنا أن فعل الزنا يتحقق منه، وإنما هي محل الفعل، ولهذا يسمى هو واطئا وزانيا والمرأة موطوءة ومزنيا بها إلا أنها سميت زانية مجازا تسمية للمفعول باسم الفاعل كالراضية في معنى المرضية، أو لكونها مسببة بالتمكين، فيتعلق الحد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[زنى صحيح بمجنونة أو صغيرة تجامع مثلها]
م: (وإن زنى صحيح بمجنونة أو صغيرة تجامع مثلها حد الرجل خاصة، وهذا بالإجماع) ش: إنما قيد بقوله: تجامع مثلها، لأنها إذا لم تكن تجامع مثلها فوطئها لا يجب عليه الحد، لأنه كإتيان البهيمة، لأن الطباع السليمة لا ترغب في مثلها، ألا ترى إلى ما قال صاحب " الأجناس " في كتاب الصوم. ولو وطئ الرجل جارية لها خمس سنين وأفضاها ولا تحتمل الوطء لصغرها لا كفارة عليه، ولا يفطره إذا لم [ ... ] ، وهو كإيلاج البهيمة، ونقل أيضا صاحب " الأجناس " عن " نوادر ابن رستم ". قال أبو حنيفة إذا جامع ابنة امرأته وهي صغيرة لا يجامع مثلها فأفضاها وأفسد بها لا يحرم عليه ابنها، لأن هذه ممن لا تجامع. وقال أبو يوسف: أكره له البنت والأم. وقال محمد: النثرة أحب إلي، ولكن لا أفرق بينه وبين أمها.
م: (لهما) ش: أي لزفر والشافعي م: (أن العذر من جانبها) ش: كما في صورة الإجماع بأن كانت مجنونة أو صبية أو نائمة أو مكرهة، م: (لا يوجب سقوط الحد من جانبه) ش: أي من جانب الرجل بالاتفاق م: (فكذا العذر من جانبه) ش: بأن كان صبيا أو مجنونا، والجامع كون كل واحد منهما مؤاخذ لفعله، وهو معنى قوله م: (وهذا لأن كلا منهما) ش: أي من الرجل والمرأة أو من الذكر والأنثى م: (مؤاخذ بفعله) ش: أي لا بفعل صاحبه.
م: (ولنا أن فعل الزنا يتحقق منه) ش: أي من الرجل لوجوده منه حقيقة م: (وإنما هي) ش: أي المرأة م: (محل الفعل) ش: أي فعل الزنا م: (ولهذا) ش: توضيح لكون الفعل حقيقة من الرجل، أي ولأجل ذلك م: (يسمى هو واطئا وزانيا) ش: على صورة اسم الفاعل م: (والمرأة) ش: شر، ويسمى المرأة. وأوجب على الزانية الحد.
وتقرير الجواب بصورة اسم الفاعل، وأوجب على الزانية الحد، وتقرير الجواب أن الله تعالى [ ... ] منهما المرأة سماها م: (موطوءة ومزنيا بها، إلا أنها سميت زانية مجازا تسمية للمفعول باسم الفاعل كالراضية في معنى المرضية) ش: في قَوْله تَعَالَى {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] (الحاقة: الآية: 21) ، باسم المرضية، وهذا أحد التأويلين والتأويل الآخر بمعنى ذات رضى، وكما في قَوْله تَعَالَى [
] ، بمعنى فرق.
م: (أو لكونها) ش: عطف على قوله تسمية للمفعول باسم الفاعل، أي ولكون المرأة م: (مسببة) ش: أي صاحبة سبب م: (بالتمكين) ش: أي بسبب التمكين م: (فيتعلق الحد) ش: مبتدأ م:(6/317)
في حقها بالتمكين من قبيح الزنا، وهو فعل من هو مخاطب بالكف عنه، ومؤثم على مباشرته. وفعل الصبي ليس بهذه الصفة، فلا يناط به الحد.
قال: ومن أكرهه السلطان حتى زنا فلا حد عليه، وكان أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول أولا يحد، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الزنا من الرجل لا يكون إلا بعد انتشار الآلة، وذلك دليل الطواعية، ثم رجع عنه فقال: لا حد عليه لأن سببه الملجئ، قائم ظاهرا، والانتشار دليل متردد، لأنه قد يكون من غير قصد، لأن الانتشار قد يكون طبعا لا طوعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(في حقها) ش: في حق المرأة م: (بالتمكين) ش: أي سبب التمكين م: (من قبيح الزنا) ش: خبر المبتدأ، والإضافة فيه مثل الإضافة في حرف تصنيفه م: (وهو) ش: أي الزنا م: (فعل من هو مخاطب بالكف عنه) ش: أي عن الزنا م: (ومؤثم) ش: بكسر الثاء المثلثة من التأثيم أي الزنا م: (على مباشرته) ش: أي بفعله م: (وفعل الصبي ليس بهذه الصفة) ش: لأن الصبي ليس مخاطبا بالكف عن الزنا، وليس بمؤثم أيضا إذا باشر وطء الأجنبية، لأن القلم مرفوع عنه، وكذا فعل المخمور، فإذا كان كذلك م: (فلا يناط به) ش: فلا يتعلق به م: (الحد) ش:.
إن قيل: لما لم يجب الحد على الصبي والمجنون بالزنا بمطاوعته ينبغي أن يجب عليهما العقر، لأن الوطء في غير الملك لا يخلو عن أحد الأمرين، إما العقر، وإما الحد، والعقر هو مهر المثل. ولهذا لو زنا الصبي بصبية أو مكرهة يجب عليه المهر، وهاهنا لم يجب ذكره في " الذخيرة "، فما الفرق؟.
قلنا: لا فائدة في إيجاب المهر عليه، لأن لو أجبنا عليه كان لولي الصبي الرجوع عليها في الحال بمثل ذلك، لأنها لما طاوعت صارت امرأة لها بالزنا معها، وقد لحقه بذلك عزم، وصح الأمر من المرأة، لأن لها ولاية على نفسها، فلا يفيد الإيجاب، بخلاف ما إذا كانت مكرهة أو صبية، فإن المكرهة ليست بامرأة، والصبية لا يصح أمرها لعدم ولايتها على نفسها، فكانت بمنزلة المكرهة.
[أكرهه السلطان حتى زنا]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن أكرهه السلطان حتى زنا فلا حد عليه، وكان أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول أولا يحد، وهو قول زفر) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول وأحمد م: (لأن الزنا من الرجل لا يكون إلا بعد انتشار الآلة، وذلك دليل الطواعية) ش: أي علانيتها، وعلانية الاختيار أيضا فافترق بالإكراه ما ينافيه، فانتفى الإكراه يقال طاع يطوع طوعا وطواعية مثل أطاع يطيع إطاعة، إلا أنهم يقولون طاع له. ولا يقولون طاعته كما يقولون إطاعة، وفلان طوع يدك أي منقاد لك م: (ثم رجع عنه، وقال لا حد عليه، لأن سببه الملجئ قائم ظاهرا، والانتشار دليل متردد، لأنه قد يكون من غير قصد) ش: أي انتشار الآلة م: (لأن الانتشار قد يكون طبعا) ش: أي من حيث طبع الرجل م: (لا طوعا) ش: أي من حيث الطوع م:(6/318)
كما في النائم فأورث شبهة. وإن أكرهه غير السلطان حد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: لا يحد، لأن الإكراه عندهما قد يتحقق من غير السلطان، لأن المؤثر خوف الهلاك، وأنه يتحقق من غيره. وله أن الإكراه من غيره لا يدوم إلا نادرا لتمكنه من الاستعانة بالسلطان أو بجماعة المسلمين وتمكنه دفعه بنفسه بالسلاح والنادر لا حكم له، فلا يسقط به الحد، بخلاف السلطان، لأنه يمكنه الاستعانة بغيره، ولا الخروج بالسلاح عليه فافترقا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(كما في النائم) ش: فإن النائم قد تنتشر آلته لفرط فحولته وإن لم يكن قصده واختاره م: (فأورث شبهة) ش: فاندرأ لحد وبه قال زفر والشافعي - رحمهما الله - في قول، ولكنه يعزر وهو قولهما.
م: (وإن أكرهه غير السلطان حد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال زفر والشافعي - رحمهما الله - في قول وأحمد م: (وقالا) ش: أي وقال أبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (لا يحد) ش: وغير السلطان مثل السلطان عندهما. يعني لا يحد سواء أكرهه السلطان أو غيره م: (لأن الإكراه عندهما قد يتحقق من غير السلطان، لأن المؤثر) ش: أي في الحكم م: (خوف الهلاك، فيتحقق من غيره) ش: أي من غير السلطان، وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله.
م: (وله أن الإكراه من غيره) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإكراه من غير السلطان م: (لا يدوم إلا نادرا لتمكنه) ش: أي لتمكن المكره م: (من الاستعانة بالسلطان أو بجماعة المسلمين وتمكنه دفعه) ش: وتمكنه بالجر عطفا على قوله لتمكنه بقوله، وقوله دفعه بالنصب مفعول المصدر أي دفع غير السلطان. وحاصله أن المكره يتمكن من دفع الإكراه إذا وقع من غير السلطان بالسلطان أو لجماعة المسلمين أو بنفسه باستعمال السلاح.
قلت: فيه نظر فإنه لا يتمكن بشيء من ذلك في هذا الزمان. أما السلطان فإنه لا يصل إليه كل واحد، لا سيما إذا كان المكره بالمكره بكسر من ظلمة السلطان، وأما جماعة المسلمين فإنهم ليس لهم غيرة الإسلام في هذا الزمان كما ينبغي. وأما دفع المكره الإكراه م: (بنفسه بالسلاح) ش: أو بغيره، فيعد حدا، ولا سيما إذا كان الإكراه من ولاة الشرطة أو من العمال الكمال الظلمة الخونة. ولأجل هذا ذكر في " الكافي ": أن هذا اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان، فالسلطان كان في زمنه قوة وغلبة بحيث لا يتجاسر أحد على إكراه غيره، وفي زماننا ظهرت القوة لكل متغلب، فيتحقق الإكراه من غير السلطان فما أفتى كل منهما بما عاين، وفي زماننا ظهرت القوة لكل متغلب لا يفتى بقولهما.
م: (والنادر لا حكم له فلا يسقط به الحد، بخلاف السلطان، لأنه لا يمكنه الاستعانة بغيره) ش: أي بغير السلطان م: (ولا الخروج) ش: أي ولا يمكنه الخروج م: (بالسلاح عليه فافترقا)(6/319)
ومن أقر أربع مرات في مجالس مختلفة أنه زنى بفلانة. وقالت هي: تزوجني أو أقرت بالزنا، وقال الرجل: تزوجتها فلا حد عليه وعليه المهر في ذلك. لأن دعوى النكاح يحتمل الصدق، وهو يقوم بالطرفين فأورث شبهة، وإذا سقط الحد وجب المهر تعظيما لخطر البضع.
ومن زنى بجارية فقتلها فإنه يحد وعليه القيمة، معناه قتلها بفعل الزنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[أقر أربع مرات في أربعة مجالس مختلفة أنه زنى بفلانة وقالت هي تزوجني أو أقرت]
قال محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن أقر أربع مرات في أربعة مجالس مختلفة أنه زنى بفلانة، وقالت: هي تزوجني أو أقرت) ش: أي المرأة م: (بالزنا وقال الرجل تزوجتها فلا حد عليه) ش: ولا عليها، كذا في " الكافي ".
وفي بعض النسخ عليهما كذا ضبطه الأترازي، وفي نسخة شيخنا علاء الدين السيرافي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وكتب في الحاشية ولا عليها، وإنما قيد بقوله أربع مرات في مجالس مختلفة، لأنه إذا أقر أربع مرات في مجلس واحد يعتبر ذلك مرة واحدة.
م: (وعليه المهر في ذلك) ش: لأنه لما سقط الحد وجب المهر بأنه لخطر المحل، لكن هذا فيما إذا كان دعوى النكاح قبل فيه أن يحد المقر، فإذا كانت الدعوى بعد الحد فلا مهر لها، لأن الحد لا ينقض بعد الإقامة.
فإن قلت: كيف يجب المهر إذا أقرت بالزنا وادعى الرجل النكاح وهي بإقرار طالبته نافية المهر.
قلت: نعم إن الأمر كذلك، لكن الحد سقط عنهما بشبهة ثابتة، شبهة من دعوى النكاح، فبعد سقوط الحد لم يلتفت إلى إقراره بالزنا فوجب العقر، وهو مهر المثل إبانة لخطر المحل.
م: (لأن دعوى النكاح يحتمل الصدق، وهو يقوم بالطرفين) ش: أي النكاح يقوم بطرفي الرجل والمرأة م: (فأورث شبهة) ش: أي قولها تزوجني أو قوله تزوجتها أورث شبهة في سقوط الحد عن المدعي م: (فإذا سقط الحد وجب المهر تعظيما لخطر البضع) ش: وهو المحل، لأن المهر يجب حقا لله تعالى في النكاح.
ولهذا يجب في المفوضة، وهنا لما سقط الحد عنها يثبت في حقها بشبهة النكاح فلا ينفي المهر بانتفائها كما في حقيقة النكاح.
[زنى بجارية فقتلها]
م: (ومن زنى بجارية فقتلها، فإنه يحد ويجب عليه القيمة) ش: إنما وضع المسألة في الجارية، وإن كان الحكم وهو وجوب الحد مع الضمان لا يتفاوت بين المرأة والأمة، فإنه لو فعل هذا مع الحرة يجب الحد والدية، لما أن الشبهة في عدم وجوب الحد إنما ترد في حق الأمة، لأن في حق الحرة لا تصير ملكا للزاني عند أداء الدية، والأمة تصير ملكا كيلا يجتمع البدل والمبدل في ملك رجل والحد م: (معناه) ش: أي معنى قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فقتلها بفعل الزنا) ش: إنما(6/320)
لأنه جنى جنايتين فيوفر على كل واحد منهما حكمه. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحد، لأن تقرر ضمان القيمة سبب الملك لأمة، فصار كما إذا اشتراها بعدما زنى بها، وهو على هذا الاختلاف واعتراض سبب الملك قبل إقامة الحد يوجب سقوطه، كما إذا ملك المسروق قبل القطع. ولهما أنه ضمان قتل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن المسألة من مسائل " الجامع الصغير ". قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولم يذكر فيه خلاف، ولكن ذكر أبو الليث في شرحه للجامع الصغير: ذكر أبو يوسف في " الأمالي " أن هذا قول أبي حنيفة خاصة.
وفي قول أبي يوسف: له حد عليه، ولو كانت حرة فعليها الحد بالاتفاق، وكذا ذكر الخلاف في المنظومة بين أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا قول فيه لمحمد م: (لأنه جنى جنايتين) ش: وهما الزنا والقتل م: (فيوفر على كل واحدة منهما) ش: أي من الجانبين م: (حكمه) ش: أي حكم الجارية، يعني تؤاخذ بموجب كل واحدة منهما فيحد للزنا ويضمن القيمة بالجناية على النفس، ولا منافاة بينهما فيجتمعان، فلا يكون ضمان القيمة مانعا عن وجوب الحد، لأنه ضمان الدم.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يحد، لأن تقرر ضمان القيمة سبب لملك الأمة) ش: فلا يملكها قبيل إقامة الحد سقط الحد م: (فصار) ش: أي حكم هذا م: (كما إذا اشتراها) ش: أي الأمة م: (بعدما زنى بها) ش: قبل إقامة الحد.
م: (وهو على هذا الخلاف) ش: أي شراء الجارية بعد الزنا قبل إقامة الحد على هذا الخلاف عند أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف، وكأنه رد المختلف إلى المختلف، لكن الخلاف في المشتراة بعد الزنا مذكور في ظاهر الرواية، بخلاف ما نحن فيه.
م: (واعتراض سبب الملك قبل إقامة الحد يوجب سقوطه) ش: أي سقوط الحد م: (كما إذا ملك المسروق قبل القطع) ش: أي كما إذا ملك المسروق منه قبل قطع يد السارق سقط القطع.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد م: (أنه ضمان قتل) ش: أي أن هذا الضمان ضمان قتل، ولهذا يجب على العاقلة في ثلاث سنين م: (فلا يوجب الملك، لأنه ضمان دم) ش: والدم مما لا يمكنه ويمكن أن يقرر هكذا، لأنه ضمان دم وضمان الدم يجب بعد الموت والملك والميت ليس بمحل للملك م: (ولو كان يوجبه) ش: أي ولو كان ضمان القتل يوجب الملك م: (فإنما يوجبه) ش: في إنما هو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن المسألة من مسائل " الجامع الصغير ".
قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولم يذكر فيه خلاف، ولكن ذكر أبو الليث في شرحه للجامع الصغير: ذكر أبو يوسف في " الأمالي " أن هذا قول أبي حنيفة خاصة.(6/321)
لأنه جنى جنايتين فيوفر، على كل واحد منهما حكمه. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحد، لأن تقرر ضمان القيمة سبب لملك الأمة، فصار كما إذا اشتراها بعدما زنى بها، وهو على هذا الاختلاف واعتراض سبب الملك قبل إقامة الحد يوجب سقوطه، كما إذا ملك المسروق قبل القطع. ولهما أنه ضمان قتل فلا يوجب الملك، لأنه ضمان دم. ولو كان يوجبه فإنما يوجبه في العين كما في هبة المسروق لا في منافع البضع، لأنها استوفيت والملك يثبت مستندا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي قول أبي يوسف: له حد عليه، ولو كانت حرة فعليها الحد بالاتفاق، وكذا ذكر الخلاف في المنظومة بين أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا قول فيه لمحمد م: (لأنه جنى جنايتين) وهما الزنا والقتل م: (فيوفر على كل واحدة منهما) أي من الجانبين م: (حكمه) أي حكم الجارية، يعني تؤاخذ بموجب كل واحدة منهما فيحد للزنا ويضمن القيمة بالجناية على النفس، ولا منافاة بينهما فيجتمعان، فلا يكون ضمان القيمة مانعا عن وجوب الحد، لأنه ضمان الدم.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يحد، لأن تقرر ضمان القيمة سبب لملك الأمة) فلا يملكها قبيل إقامة الحد سقط الحد م: (فصار) أي حكم هذا م: (كما إذا اشتراها) أي الأمة م: (بعدما زنى بها) قبل إقامة الحد.
م: (وهو على هذا الخلاف) أي شراء الجارية بعد الزنا قبل إقامة الحد على هذا الخلاف عند أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف، وكأنه رد المختلف إلى المختلف، لكن الخلاف في المشتراة بعد الزنا مذكور في ظاهر الرواية، بخلاف ما نحن فيه.
م: (واعتراض سبب الملك قبل إقامة الحد يوجب سقوطه) أي سقوط الحد م: (كما إذا ملك المسروق قبل القطع) أي كما إذا ملك المسروق منه قبل قطع يد السارق سقط القطع.
م: (ولهما) أي ولأبي حنيفة ومحمد م: (أنه ضمان قتل) أي أن هذا الضمان ضمان قتل، ولهذا يجب على العاقلة في ثلاث سنين م: (فلا يوجب الملك، لأنه ضمان دم) والدم مما لا يمكنه ويمكن أن يقرر هكذا، لأنه ضمان دم وضمان الدم يجب بعد الموت والملك والميت ليس بمحل للملك م: (ولو كان يوجبه) أي ولو كان ضمان القتل يوجب الملك م: (فإنما يوجبه في العين كما في هبة المسروق لا في منافع البضع، لأنها استوفيت) تقريره لو كان هذا الضمان يوجب الملك لا يوجب في العين التي هي موجودة لا في منافع البضع التي هي أعراض استوفيت فانعدمت وتلاشت.
م: (والملك يثبت مستندا) ش: إلا أن الملك الثابت في بيان العدوان يثبت بطريق الاستناد، والاستناد يظهر في القائم لا في الغائب، وهو معنى قوله م: (فلا يظهر في المستوفى) ش: بفتح الفاء م: (لكونها) ش: قال الأترازي: والضمير راجع إلى المستوفي على تأويل منفعة البضع، أي لا يظهر الملك في منافع المستوفاة لأنها انعدمت والأوجه أن يكون أربع م: (معدومة) ش: فإذن لم يثبت شبهة الملك في منافع البضع المستوفاة، فلم يسقط الحد.(6/322)
فلا يظهر في المستوفى لكونها معدومة، وهذا بخلاف ما إذا زنى بها فأذهب عينها حيث يجب عليه قيمتها ويسقط الحد، لأن الملك هنالك يثبت في الجثة العمياء وهي عين، فأورث شبهة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أي هذا الذي قلنا م: (بخلاف ما إذا زنى بها) ش: أي بالجارية م: (فأذهب عينها) ش: حيث م: (حيث يجب عليه قيمتها) ش: أي قيمة العين، وهو نصف قيمة الجارية م: (ويسقط الحد، لأن الملك هنالك يثبت في الجثة العمياء وهي عين) ش: لا عوض، فجاز أن يثبت الملك فيها بطريق الإسناد م: (فأورث شبهة) ش: في سقوط الحد. وفي صورة المتنازع فيه لم يثبت الملك في الجارية أصلا، لأن ذلك الضمان ضمان دم، ولم يثبت في المنافع أيضا، لأنها معدومة يسقط الحد لفقدان الشبهة.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (وكل شيء صنعه الإمام) ش: فإن قذف إنسانا أو زنى أو شرب الخمر، والمراد من الإمام الخليفة، قاله أبو الليث، وفسره بقوله: م: (الذي ليس فوقه إمام) ش: ولا شك أن الخليفة ليس فوقه إمام م: (فلا حد عليه إلا القصاص، فإنه يؤخذ به) ش: أي ويؤخذ أيضا م: (وبالأموال، لأن الحدود حق الله، وإقامتها) ش: أي إقامة الحدود م: (إليه) ش: أي إلى الإمام م: (لا إلى غيره) ش: أي ليس لغير الإمام إقامة الحدود.(6/323)
قال: وكل شيء صنعه الإمام الذي ليس فوقه إمام فلا حد عليه إلا القصاص، فإنه يؤخذ به وبالأموال، لأن الحدود حق الله تعالى، وإقامتها إليه لا إلى غيره، ولا يمكنه أن يقيم على نفسه لأنه لا يفيد بخلاف حقوق العباد، لأنه يستوفيه ولي الحق إما بتمكينه أو بالاستعانة بمنعة المسلمين والقصاص والأموال منها. وأما حد القذف قالوا: المغلب فيه حق الشرع فحكمه كحكم سائر الحدود التي هي حق الله تعالى.
باب الشهادة على الزنا والرجوع عنها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا يمكنه) ش: أي ولا يمكن الإمام م: (أن يقيم) ش: أي يقيم حق الله تعالى م: (على نفسه، لأنه لا يفيد) ش: الوجوب الموجوب فائدته، لأنه لا يقع مؤلما، فلا يقع زاجرا. والمقصود من الزاجر الحد، فلا بد أن يكون الزاجر غير المزجور، ولا يقدر القاضي أن يقضي عليه، لأنه هو الذي ولاه القضاء يسقط حق الله تعالى في الدنيا.
م: (بخلاف حقوق العباد، لأنه يستوفيه) ش: أي يستوفي الحق م: (ولي الحق) ش: أي صاحب الحق، واختار لفظ الولي ليتناول الوصي والوكيل م: (إما بتمكينه) ش: أي بتمكين الإمام إياه في أخذ حقه م: (أو بالاستعانة بمنعة المسلمين) ش: أي بقوتهم، يقال فلان في عز ومنعة يمنعه، أي تمنع على من قصده من الأعداء.
م: (والقصاص والأموال منها) ش: أي من حقوق العباد، فالإمام وغيره فيها سواء، لأنه يمكن استيفاء القصاص والمال بمنعة المسلمين، كذا قالوا وفيه تأمل.
م: (وأما حد القذف قالوا) ش: أي قال علماؤنا م: (المغلب فيه حق الشرع) ش: على ما يجيء في بابه إن شاء الله م: (فحكمه) ش: أي فحكم حد القذف م: (كحكم سائر الحدود التي هي حق الله تعالى) ش: يعني لا يؤاخذ به الإمام وتقابل أن يقول لو كان المغلب فيه حق الشرع لوجب أن يحد المستأمن إذا قذف، كما لو زنى وقد تقدم أنه يحد، لأنه حق العبد.
والجواب أن قذف القاذف يشتمل على الحقين لا محالة، فيستعمل بكل منهما بحسب ما يليق به، وما يليق بالحربي أن يكون حق العبد لإمكان الانتفاء وما يليق بالإمام أن يكون حق الله تعالى، لأنه ليس فوقه إمام يستوفيه منه والله أعلم.
[باب الشهادة على الزنا والرجوع عنها]
[شهد الشهود بحد متقادم]
م: (باب الشهادة على الزنا والرجوع عنها) ش: أي هذا باب في بيان أحكام الشهادة على الزنا، وسيأتي حكم الرجوع عن الشهادة قد مر أن ثبوت الزنا عند الإمام إنما يكون بأحد شيئين لا غير، وهما الإقرار والشهادة، وأخر(6/324)
قال: وإذا شهد الشهود بحد متقادم لم يمنعهم عن إقامته بعدهم عن الإمام لم تقبل شهادتهم إلا في حد القذف خاصة. وفى " الجامع الصغير ": وإذا شهد عليه الشهود بسرقة أو بشرب خمر أو بزنا بعد حين لم يؤخذ به، وضمن السرقة. والأصل فيه أن الحدود الخالصة حقا لله تعالى تبطل بالتقادم، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو يعتبرها بحقوق العباد وبالإقرار الذي هو أحد الحجتين. ولنا أن الشاهد مخير بين الحسبتين
من أداء الشهادة والستر، فالتأخير إن كان لاختيار الستر فالإقدام على الأداء بعد ذلك لضغينة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشهادة هاهنا عن الإقرار لقلة ثبوت الزنا بالشهادة وندر، حتى لم ينقل عن السلف ثبوت الزنا عند الإمام بالشهادة إذ رؤيته أربع رجال عدول على الوصف المذكور كالميل في المكحلة، كما في الكلاب في غير غاية القدرة.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا شهد الشهود بحد متقادم لم يمنعهم عن إقامته بعدهم عن الإمام لم تقبل شهادتهم إلا في حد القذف خاصة) ش: هذا لفظ القدوري في " مختصره "، ثم ذكر المصنف لفظ " الجامع الصغير " بقوله: م: (وفي " الجامع الصغير ": وإذا شهد عليه الشهود بسرقة أو بشرب خمر أو بزنا بعد حين لم يؤخذ به، وضمن السرقة) ش: لاشتماله على زيادة إيضاح على تعديد ما يوجب الحد صريحا من السرقة وشرب الخمر والزنا، وزيادة لفظ الحين الذي استفاد منه بعض المشايخ وقدر ستة أشهر في التقادم وزيادة إثبات الضمان في السرقة.
م: (والأصل) ش: يحل في هذا الباب م: (أن الحدود الخالصة حقا) ش: أي خلوصا حقا كائنا م: (لله تعالى) ش: السرقة وحد الزنا وحد شرب الخمر م: (تبطل بالتقادم، خلافا للشافعي) ش: حيث يقول لا تبطل الشهادة والإقرار بالتقادم، وبه قال مالك وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعن أحمد مثل قولنا. وقال ابن أبي ليلى: الشهادة والإقرار لا يقبلان بعد التقادم. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف الإقرار لا يبطل بالتقادم إلا الإقرار بشرب الخمر، فإنه يبطل بالتقادم. وقال زفر: التقادم يمنع الإقرار بالحدود اعتبارا لحجة البينة.
م: (وهو) ش: أي الشافعي م: (يعتبرها) ش: أي يعتبر الشهادة م: (بحقوق العباد) ش: حيث لا يمنع التقادم في حقوق العباد م: (وبالإقرار) ش: أي ويعتبرها بالإقرار م: (الذي هو أحد الحجتين) ش: وهما البينة والإقرار.
م: (ولنا أن الشاهد مخير بين الحسبتين) ش: تثنية حسبة بكسر الحاء وسكون السين المهملتين وقال في " المجمل ": الحسبة احتسابك الأجر عند الله تعالى. وقال الكاكي: بين حسبتين، أي أجرين مطلوبين، يقال أحسب بكذا أجرا، والاسم الحسبة، والجمع الحسب، إذ الشهادة والستر وقال الأترازي: كلاهما بالجر على أنهما بدلان من حسبتين.(6/325)
هيجته، أو لعداوة حركته، فيتهم فيها، وإن كان التأخير فيها لا للستر يصير فاسقا آثما، فتيقنا بالمانع، بخلاف الإقرار، لأن الإنسان لا يعادي نفسه، فحد الزنا وشرب الخمر والسرقة خالص حق الله تعالى، حتى يصح الرجوع عنها بعد الإقرار، فيكون التقادم فيه مانعا، وحد القذف فيه حق العبد، لما فيه من دفع العار عنه، ولهذا لا يصح رجوعه بعد الإقرار، والتقادم غير مانع في حقوق العباد، لأن الدعوى فيه شرط، فيحتمل تأخيرهم على انعدام الدعوى، فلا يوجب تفسيقهم، بخلاف حد السرقة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الرفع فيهما أحسن على أن كل واحد منهما خبر لمبتدأ محذوف تقديره أحدهما م: (من أداء الشهادة) ش: والآخر م: (والستر) ش: أما الشهادة فلقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] (الطلاق: الآية2) ، وأما الستر فلما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة» ، ثم إن الشاهد إذا لم يشهد في أول الأمر يحمل أمره على الصلاح، بأن يقول إنه اختار الستر المندوب ولا الحد، ثم بعد ذلك.
م: (فالتأخير) ش: أي تأخير الشهادة م: (إن كان لاختيار الستر فالإقدام) ش: أي إقدامه م: (على الأداء بعد ذلك لضغينة) ش: بالمعجمتين، وهو الحقد م: (هيجته) ش: أي بعينه من هيجت ما هيجت الناقة فانبعث م: (أو لعداوة حركته فيتهم فيها) ش: أي في الشهادة، فلم يقبل م: (وإن كان التأخير فيها) ش: أي في الشهادة م: (لا للستر) ش: أي لأجل الستر عليه م: (يصير فاسقا آثما) ش: لأن تأخير الحد، فإذا كان كذلك م: (فتيقنا بالمانع) ش: من القبول، فلا تقبل، ألا ترى لو طلب المدعي الشهادة في حقوق العباد فأخر الشاهد بلا عذر ثم ادعى لا يقبل لترك الأداء مع الإمكان.
م: (بخلاف الإقرار) ش: حيث لا يبطل بالتقادم م: (لأن الإنسان لا يعادي نفسه) ش: فتنعدم التهمة م: (فحد الزنا وشرب الخمر والسرقة خالص حق الله تعالى، حتى يصح الرجوع عنها بعد الإقرار، فيكون التقادم فيه مانعا، وحد القذف فيه حق العبد، لما فيه من دفع العار عنه، ولهذا) ش: أي ولأجل كونه حد القذف فيه حق العبد م: (لا يصح الرجوع بعد الإقرار والتقادم غير مانع في حقوق العباد، لأن الدعوى فيه) ش: أي في حق العبد م: (شرط فيحتمل تأخيرهم) ش: أي تأخير الشهود والشهادة م: (على انعدام الدعوى، فلا يوجب) ش: أي بأجرتها وتم [ ... ] ، أي تأخير شرائهم م: (تفسيقهم) ش: لعدم الموجب.
م: (بخلاف حد السرقة) ش: جواب عما يقال الدعوى شرط في السرقة كما في حقوق العباد ومع ذلك تمنع التقادم، فيعلم أن القبول بعد التقادم في حقوق العباد لم يكن إلا بشرط الدعوى، فأجاب أولا بالمنع بقوله م: (لأن الدعوى فيه) ش: أي في حد السرقة م: (ليست بشرط للحد) ش: أي لإقامة الحد م: (لأنه خالص حق الله تعالى على ما مر) ش: من قوله فحد الزنا وشرب الخمر(6/326)
لأن الدعوى ليست بشرط للحد، لأنه خالص حق الله تعالى على ما مر، وإنما شرطت للمال، ولأن الحكم يدار على كون الحد حقا لله، فلا يعتبر وجود التهمة في كل فرد، ولأن السرقة تقام على الاستسرار على غرة عن المالك، فيجب على الشاهد إعلامه، وبالكتمان يصير فاسقا آثما، ثم التقادم، كما يمنع قبول الشهادة في الابتداء يمنع الإقامة بعد القضاء عندنا، خلافا لزفر رحمه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والسرقة خالص حق الله تعالى.
م: (وإنما شرطت) ش: أي الدعوى وتذكير الفعل على تأويل الادعاء م: (للمال) ش: أي لأجل المال، فلما لم تكن الدعوى شرطا للحد كان تأخير الشهادة مانعا ًيقومها، لأنه وقع بلا عذر م: (ولأن الحكم) ش: جواب آخر م: (يدار على كون الحد حقا لله تعالى) ش: تقديره أن المعنى المبطل للشهادة في التقادم في الحدود الخالصة حقا لله تعالى ثمة هو الصفة والعداوة، وذلك أمر باطن لا يطلع عليه، فيدار مدار الحكم على كون الحد حقا لله تعالى، سواء وجد ذلك المعنى في كل فرد أو لا.
كما أدير الرخصة على السفر من غير توقف على وجود المشقة في كل فرد من أفراده م: (فلا يعتبر وجود التهمة في كل فرد) ش: من أفراد الحد. حاصله صورة التقادم قائمة مقام التهمة، سواء، وجدت التهمة أو لا، كما في السفر، وقد ذكرناه.
م: (ولأن السرقة) ش: جواب آخر، وتقديره أن السرقة م: (تقام على الاستسرار) ش: لأنها توجد في ظلمة الليالي غالبا م: (وعلى غرة) ش: أي غفلة م: (عن المالك) ش: فلا يكون المسروق منه عارفا بالشهادة حتى يستشهد بالشاهد م: (فيجب على الشاهد إعلامه) ش: بشهادته م: (وبالكتمان يصير فاسقا آثما) ش: فرد شهادته، بخلاف حد القذف، فإن القذف يكون في النهار الشهادة غالبا، فيعرف المقذوف الشاهد ويراه، فإذا لم يعلمه لا يصير فاسقا.
م: (ثم التقادم كما يمنع قبول الشهادة في الابتداء) ش: أي في ابتداء الأمر لا خلاف م: (يمنع الإقامة) ش: أي إقامة الحد م: (بعد القضاء عندنا، خلافا لزفر) ش: فقيده لا يمنع وأوضح ذلك بقوله م: (حتى لو هرب) ش: أي الزاني م: (بعدما ضرب بعض الحد، ثم أخذ بعدما تقادم الزمان لا يقام عليه الحد، لأن الإمضاء) ش: أي الاستيفاء م: (من القضاء في باب الحدود) ش: كان الإمضاء تتمة للقضاء، ولهذا كان تفويضا إلى الإمام.
وهذا لأن القضاء إما أن يكون الإعلام من له الحق بحقه أو لتمكينه من الاستيفاء، وذلك لا يتصور في حقوق الله تعالى فيكون المعتبر في حقوق الله تعالى النيابية بحقيقة الاستيفاء، فكان التقادم قبل الاستيفاء بعد القضاء كالتقادم قبل القضاء.
[حد التقادم في الشهادة بالزنا]
م: (واختلفوا) ش: أي العلماء، م: (في حد التقادم، وأشار) ش: أي محمد م: (في " الجامع(6/327)
الله - حتى لو هرب بعدما ضرب بعض الحد، ثم أخذ بعدما تقادم الزمان لا يقام عليه الحد، لأن الإمضاء من القضاء في باب الحدود.
واختلفوا في حد التقادم، وأشار في " الجامع الصغير " إلى ستة أشهر، فإنه قال: بعد حين، وهكذا أشار الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يقدر في ذلك وفوضه إلى رأي القاضي في كل عصر. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قدره بشهر، لأن ما دونه عاجل، وهو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصغير " إلى ستة أشهر. فإنه قال بعد حين) ش: والحين ستة أشهر. وقال فخر الإسلام: لم يرد به الأمر اللازم م: (وهكذا أشار الطحاوي) ش: أي إلى ستة أشهر، لأن اسم الحين عند الإطلاق ينصرف إلى ستة أشهر، كما في مسألة لا أكلمه حينا.
م: (وأبو حنيفة لم يقدر في ذلك) ش: أي في حد التقادم لم يقدر شيئا. لأن نصب التقادير بالرأي متعذر، لأن العقل لا اهتداء له في ذلك م: (وفوضه) ش: أي فوض أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - حد التقادم م: (إلى رأي القاضي في كل عصر) ش: لما أن التقادم يختلف بالأحوال والأعصار فيفوض إلى رأي القاضي كل عصر.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قدره) ش: أي التقادم م: (بشهر، لأن ما دونه) ش: أي ما دون الشهر م: (عاجل) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه أدنى العجال شرعا، بدليل أن من حلف ليقضي حق فلان عاجلا يقع عليه ذلك ما دون الشهر.
وقال الكاكي: وما وجدت هذه الرواية في كتب أصحابنا المشهورة م: (وهو) ش: أن تقدير التقادم بشهر م: (رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو الأصح) ش: أي تقدير التقادم بشهر هو الأصح.
ونقل الناطفي في " الأجناس ": عن " نوادر المعلى " قال أبو يوسف: جهدنا على أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يوقت في ذلك شيئا فأبى.
وقد ذكر في " المجرد " وقال أبو حنيفة: لو سأل القاضي الشهود متى زنى بها، فقالوا أقل من شهر أقيم الحد، وإن قالوا: شهرا أو أكثر [ ... ] .
وروي عنه الحد، قال أبو العباس الناطفي: وقد قدره على هذه الرواية بشهر، وهو قول أبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وهذا) ش: أي هذا الذي قلنا من تقدير التقادم بشهر م: (إذا لم يكن بينهم) ش: أي بين الشهود م: (وبين القاضي مسيرة شهر، أما إذا كان) ش: بينهم وبين القاضي مسافة شهر (تقبل شهادتهم، لأن المانع بعدهم عن الإمام، فلا تتحقق التهمة) ش: لأنهم معذورون م: (والتقادم في حد الشرب كذلك) ش: أي حد التقادم في حد الشرب كذلك بشهر م: (عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -(6/328)
رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله وهو الأصح وهذا إذا لم يكن بين القاضي وبينهم مسيرة شهر، أما إذا كان تقبل شهادتهم؛ لأن المانع بعدهم عن الإمام فلا تتحقق التهمة، والتقادم في حد الشرب كذلك عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما يقدر بزوال الرائحة على ما يأتي في بابه إن شاء الله تعالى
وإذا شهدوا على رجل أنه زنى بفلانة وفلانة غائبة فإنه يحد، وإن شهدوا أنه سرق من فلان وهو غائب لم يقطع، والفرق أن بالغيبة تنعدم الدعوى وهي شرط في السرقة دون الزنا وبالحضور يتوهم دعوى الشبهة ولا معتبر بالموهوم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعندهما يقدر بزوال الرائحة على ما يأتي في بابه إن شاء الله تعالى) ش: أي في باب حد الشرب.
[شهدوا على رجل أنه زنى بفلانة وفلانة غائبة]
م: (وإن شهدوا على رجل أنه زنى بفلانة وفلانة غائبة، فإنه يحد) ش: وبه قالت الأئمة الثلاثة على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولا لا يحد، وهو القياس، كذا ذكره أبو الليث في شرحه " للجامع الصغير "، لأنهما إذا حضرت ربما جاءت الشبهة دارئة للحد، والحدود تندرئ بالشبهات، وعلى قول الآخر، وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله - يحد الرجل، والآن يأتي الكلام وإن شهد فيه.
م: (وإن شهدوا أنه سرق من فلان وهو غائب لم يقطع والفرق) ش: أي من المسألتين م: (أن بالغيبة) ش: أي بغيبة المرأة التي قالوا إن فلانا زنى بفلانة م: (تنعدم الدعوى وهي) ش: أي الدعوى م: (شرط في السرقة دون الزنا) ش: يعني لاشتراط الدعوى في الزنا، ألا ترى أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رجم ماعزا بالإقرار بالزنا لغائبة م: (وبالحضور) ش: أي وبحضور المرأة الغائبة م: (يتوهم دعوى الشبهة) ش: بأن قالت تزوجني، أو كنت أمته، ولا يعتبر الموهوم جواب سؤال، وهو أن يقال ينبغي أن لا يحد الرجل، لأنها لو حضرت ربما يدعي النكاح، فيصير شبهة، فأجاب بقوله.
م: (ولا معتبر بالموهوم) ش: لأنه يحتمل أن يدعي، ويحتمل أن لا يدعي، فعلى تقدير الدعوى تصير شبهة، وإذا كانت غائبة كان المكاتب الثابت عند غيبتها وجود شبهة الشبهة، وهو المعنى الموهوم، والمعتبر الشبهة دون شبهة الشبهة، لئلا يسد باب إقامة الحد.
فإن قيل: إذا كانت بين الشريكين وأحدهما غائب لا يستوفى القصاص لإجمال العفو عن الغائب.
الجواب: أنه إذا حضر، ففي سقوط القصاص بحقيقة العفو لا بشبه العفو، فإذا كان غائبا يكون احتمال العفو شبهة، فاعتبرت الشبهة فيما نحن فيه إذا حضرت المرأة وادعت النكاح كان شبهة، فإذا غابت واحتمل الشبهة وذلك شبهة الشبهة، فلا يعتبر، لأنه وهم.
م: (وإن شهدوا أنه زنى بامرأة لا يعرفونها لم يحد لاحتمال أنها امرأته أو أمته، بل هو الظاهر) ش: أي بل كون المرأة امرأته هو الظاهر، لأن ظاهر حال المسلم أن لا يزني والشهود لا(6/329)
وإن شهدوا أنه زنى بامرأة لا يعرفونها لم يحد؛ لاحتمال أنها امرأته أو أمته، بل هو الظاهر، وإن أقر بذلك حد، لأنه لا يخفى عليه أمته أو امرأته، وإن شهد اثنان أنه زنى بفلانة فاستكرهها وآخران أنها طاوعته درئ الحد عنهما جميعا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يحد الرجل خاصة لاتفاقهما على الموجب: وتفرد أحدهما بزيادة جناية، وهو الإكراه بخلاف جانبها، لأن طواعيتها شرط تحقق الموجب في حقها، ولم يثبت لاختلافهما وله أنه اختلف المشهود عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يفصلون بين زوجته وأمته وبين غيرهما إلا بالمعرفة، فلم يعرفوها، فلم يمكن إقامة الحد بشهادتهم. فلو قال المشهود عليه أن الذي رأوها معي ليست بامرأتي ولا أمتي لم يحد أيضا، لأن الشهادة قد بطلت، ثم هذه اللفظة ليست بإقرار منه بالزنا، فلا يحد، ولو كان الإقرار إقرارا فحد الزنا لا يقام بالإقرار مرة.
م: (وإن أقر بذلك حد) ش: أي وإن أقر بالزنا بامرأة لا يعرفها حد م: (لأنه لا يخفى عليه امرأته أو أمته) ش: أي لا يخفى عليه امرأته أو أمته عن غيرها، وليس بمتهم في إقراره على نفسه، فيحد م: (وإن شهد اثنان أنه زنى بفلانة فاستكرهها) ش: باشرها، أي زنى بها وهي مكرهة م: (وآخران) ش: أي شهد آخران م: (أنها) ش: أي أن المرأة م: (طاوعته درئ الحد عنهما جميعا) ش: ومعنى درئ دفع، وهو على صيغة المجهول من الدرء، وهو الدفع. قال الله تعالى {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} [آل عمران: 168] (آل عمران: الآية 168) ، أي ادفعوا م: (عند أبي حنيفة، وهو قول زفر) ش: وبه قالت الثلاثة.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (الحد على الرجل خاصة لاتفاقهما على الموجب) ش: بكسر الجيم، أي لاتفاق الفريقين، أعني شاهدي الطواعة وشاهد الإكراه على موجب الحد في حقه، أي في حق الرجل، وموجب الحد هو الزنا عن طوع م: (وتفرد أحدهما) ش: بجر الدال عطفا على قوله لاتفاقهما، أي لتعداد تفرد أحد الفريقين، أراد بأحد الفريقين شاهدي الإكراه م: (بزيادة جناية، وهو الإكراه) ش: والضمير راجع إلى الزيادة والتذكير بالنظر إلى الخبر م: (بخلاف جانبها) ش: أي جانب المرأة م: (لأن طواعيتها شرط تحقق الموجب في حقها ولم يثبت) ش: أي شرط تحقق الموجب في حقها وهو طوعها م: (لاختلافهما) ش: أي لاختلاف الفريقين، وفي بعض النسخ لاختلافهم.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه اختلف المشهود عليه) ش: قال الكاكي: أي المشهود به. وقد صرح به في " الكافي ".
وفي " الفوائد الجنازية ": أراد بالمشهود عليه المشهود به، وعلى بمعنى الباء، كما في قَوْله تَعَالَى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 105] (الأعراف: الآية 105) ، أي جدير بأن أقول(6/330)
لأن الزنا فعل واحد يقوم بهما، ولأن شاهدي الطواعية صارا قاذفين لهما، وإنما يسقط الحد عنهما بشهادة شاهدي الإكراه، لأن زناها مكرهة يسقط إحصانها، فصارا خصمين في ذلك.
وإن شهد اثنان أنه زنى بامرأة بالكوفة وآخران أنه زنى بها بالبصرة درئ الحد عنهما جميعا، لأن المشهود به فعل الزنا، وقد اختلف باختلاف المكان، ولم يتم على كل واحد منهما نصاب الشهادة ولا يحد الشهود خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لشبهة الاتحاد نظرا إلى اتحاد الصورة والمرأة.
وإن اختلفوا في بيت واحد حد الرجل والمرأة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على الله، ذكره في " التفسير ".
وقال الكاكي: يمكن أن يجري على حقيقته، لأن المشهود عليه في القتل القدير اثنان. وإن كان واحدا إذ الطائعة غير المكرهة، ولكن تعليل قوله م: (لأن الزنا فعل واحد) ش: حقيقة بأن عنه ظاهرا، لأن الزنا فعل واحد: (يقوم بهما) ش: أي بالرجل والمرأة، وهو فعل حقيقة. وإن كان اثنان حكما، وقد اختلف في جانبها فيكون مختلفا في جانبه ضرورة.
م: (ولأن شاهدي الطواعية) ش: دليل آخر، وتقريره لأن شاهدي الطواعية م: (صارا قاذفين لهما) ش: لعدم نصاب الشهادة، والقاذف خصم، ولا شهادة للخصم. وكان ينبغي إقامة الحد على شاهدي الطواعية م: (وإنما يسقط الحد عنهما بشهادة شاهدي الإكراه، لأن زناها مكرهة يسقط إحصانها) ش: لوجود حقيقة الزنا، لكن لا يأثم بسبب الإكراه م: (فصارا خصمين في ذلك) ش: أي صار شاهدي الطواعية بسبب قذفيهما خصمين في شهادتهما.
[شهد اثنان أنه زنى بامرأة بالكوفة وآخران بالبصرة]
م: (وإن شهد اثنان أنه زنى بامرأة بالكوفة وآخران) ش: أي وشهد اثنان آخران م: (أنه زنى بها بالبصرة درئ الحد عنهما) ش: جميعا م: (لأن المشهود به فعل الزنا، وقد اختلف باختلاف المكان ولم يتم على كل واحد منهما نصاب الشهادة، ولا يحد الشهود خلافا لزفر) ش: فإن عنده يحد الشهود حد القذف.
وبه قال الشافعي في قول الشهيد الاتحاد هذا دليل لنا لا لزفر، يريد شبهة اتحاد المشهود به، تقديره أن الشهادة دائرة به في الحدود بالحديث، وقد وجدت، لأنهم شهدوا، ولهم أهلية كاملة، ولهم عذر كامل على زنا واحد صورة في زعمهم نظرا إلى اتحاد صورة النسبة الحاصلة منهم واتحاد المرأة، وإنما جاء الاختلاف بذكر المكان فثبت م: (لشبهة الاتحاد) ش: في المشهور به، فيندرئ الحد م: (نظرا إلى اتحاد الصورة والمرأة) ش: أي اتحاد صورة نسبة الزنا واتحاد المرأة. قال في " المختلف ": وعلى هذا الخلاف إذا شهد القاذف الفاسق بذلك.
م: (وإن اختلفوا) ش: أي الشهود م: (في بيت واحد حد الرجل والمرأة) ش: هذا إذا كان البيت صغيرا، فاختلفوا وقال اثنان: إنه زنى في هذه الزاوية من البيت، وقال آخرون: إنه زنى في(6/331)
معناه أن يشهد كل اثنين على الزنا في زاوية. وهذا استحسان. والقياس أن لا يحد لاختلاف المكان حقيقة. وجه الاستحسان أن التوفيق ممكن بأن يكون ابتداء الفعل في زاوية، والانتهاء في زاوية أخرى بالاضطراب، أو لأن الواقع في وسط البيت فيحسبه من في المقدم في المقدم، ومن في المؤخر في المؤخر، فيشهد بحسب ما عنده.
وإن شهد أربعة أنه زنى بامرأة بالنخيلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزاوية الأخرى فيه، وهو معنى قوله م: (معناه أن يشهد كل اثنين على الزنا في رواية، وهذا استحسان) ش: أي حد الرجل والمرأة فيما إذا اختلف الشهود في البيت الصغير م: (والقياس أن لا يحد) ش: أي أحدهما، وهو قول زفر والشافعي ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (لاختلاف المكان حقيقة) ش: فاختلف المشهود به، وهو الزنا كما في الدارين.
م: (وجه الاستحسان أن التوفيق ممكن بأن يكون ابتداء الفعل في زاوية والانتهاء) ش: أي انتهاء الفعل م: (في زاوية أخرى بالاضطراب) ش: ينتقلان إلى الزاوية الأخرى، بخلاف ما إذا كان البيت كبيرا لا يحتمل التوفيق، حيث لا يقبل شهادتهم، إذا لم يقبل شهادة الشهود لا يحدون حد القذف للشبهة، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أو لأن الواقع في وسط البيت فيحسبه) ش: أي يظن الواقع م: (من في المقدم) ش: أي من كان في مقدم البيت يظنه م: (في المقدم، ومن كان في مؤخر البيت) ش: يظنه م: (في المؤخر، فيشهد كل بحسب ما عنده) ش: أي بحسب ما ثبت عنده.
فإن قيل: في التوفيق احتيال للإقامة، وقد أمرنا بالاختيار للدرء.
قلنا: هذا احتيال بقول الشهادة والتوفيق في الحدود مشروع، والشهادة حجة مجرى تصحيحا بحسب صحتها مهما أمكن، ثم إذا قبلت كان من ضرورة قبولها وجوب الحد.
فإن قيل: الاختلاف في هذه المسألة مسكوت عنه، والاختلاف في المكان في الزاوية منصوص عليه فكيف يقاس ذلك عليه.
قلنا: التوفيق مشروع فيما إذا كان الاختلاف منصوصا عليه بأن شهد اثنان بأنه زنى بامرأة بيضاء، وآخر بامرأة سوداء، أو شهد اثنان بأن عليها ثوبا أحمر، أو آخران بأن عليها ثوبا أصفر. وكذلك لو اختلفوا في الطول والقصر، أو في السمن والهزل، ولكن هذا يشكل على قول أبي حنيفة في مسألة الإكراه والطواعية، لما أن التوفيق يمكن بأن يكون لابتداء الفعل بالإكراه وانتهائه بالطوع. كذا في قاضي خان وغيره. أجيب بأن الإكراه أسقط، سواء كان أول الفعل أو آخره، لأنه بالنظر إلى الابتداء لا يجب، وبالنظر إلى الانتهاء يجب، فلا يجب بالشك.
[شهد أربعة أنه زنى بامرأة واختلفوا في المكان والزمان]
م: (وإن شهد أربعة أنه زنى بامرأة بالنخيلة) ش: بضم النون وفتح الخاء المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وباللام والهاء اسم موضع قريب من الكوفة. ومن قال بفتح الباء الموحدة وكسر الجيم فقد صحف، لأن نخيلة على وزن فعيلة اسم مكان، حي من اليمن سمي بنخيلة امرأة من(6/332)
عند طلوع الشمس، وأربعة أنه زنى بها عند طلوع الشمس بدير هند درئ الحد عنهم جميعا، أما عنهما فلأنا تيقنا بكذب أحد الفريقين من غير عين، وأما عن الشهود فلاحتمال صدق كل فريق، وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا، وهي بكر درئ الحد عنهما، وعنهم؛ لأن الزنا لا يتحقق مع بقاء البكارة، ومعنى المسألة أن النساء نظرن إليها، فقلن: إنها بكر، وشهادتهن حجة في إسقاط الحد، وليس بحجة في إيجابه، فلهذا سقط الحد عنهما، ولا يجب عليهم. وإن شهد أربعة على رجل بالزنا وهم عميان أو محدودون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولد عمرو بن الغوث أخي الأزد بن الغوث م: (عند طلوع الشمس وأربعة) ش: أي وشهد أربعة أخرى م: (أنه زنى بها عند طلوع الشمس بدير هند درئ الحد عنهم جميعا أما عنهما) ش: أي عن الرجل والمرأة.
م: (فلأنا تيقنا بكذب أحد الفريقين) ش: أو من هذا الفريق من غير تعيين أحد الفريقين بعين م: (من غير عين) ش: أي أحد الفريقين، لأنه يحتمل أن يكون الكذب من هذا الفريق من غير تعيين أحدهما، وأحدهما لا محالة كاذب، لأنه لا يتصور الزنا في ساعة واحدة من شخص واحد في مكانين متباعدين لكنه لم يتميز الكاذب من الصادق لما ذكرنا، فلهذا درئ الحد عنهما م: (وأما عن الشهود) ش: أي وأما درئ الحد عن الشهود م: (فلاحتمال صدق كل فريق) ش: أي لاحتمال كل واحد من الفريقين أن يكونوا هم الصادقون، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يسقط حد القذف عن الشهود.
م: (وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وهي بكر) ش: أي والحال أنها بكر م: (درئ الحد عنهما وعنهم) ش: أي دفع الحد عن الرجل والمرأة، وبه قال الشافعي وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعند مالك يجب الحد عليها، لأنه لا يعتبر قول النساء في الحدود عنهما، أي درئ الشهود أيضا، وبه قال الشافعي وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن الزنا لا يتحقق مع بقاء البكارة) ش:
م: (ومعنى المسألة أن النساء نظرن إليها فقلن: إنها بكر وشهادتهن حجة في إسقاط الحد وليس بحجة في إيجابه) ش: أي في إيجاب الحد م: (فلهذا) ش: أي فلأجل هذا المعنى وهو أن شهادتهن حجة في إسقاط الحد، وليس بحجة في إيجابه م: (سقط الحد عنهما) ش: أي عن الرجل والمرأة م: (ولا يجب) ش: أي حد القذف م: (عليهم) ش: أي على الشهود وفي " الكافي " للحاكم الشهيد. وكذا إذا خرجت المرأة رتقاء، وتقبل في الرتقاء والعذراء أو الأشياء التي يعمل فيها بقول النساء قول امرأة واحدة. وفي " الفوائد الظهيرية " وعلى هذا لو شهد بزنا رجل، وهو محجوب لا يحد هؤلاء الشهود أيضا، لأن الحد إنما يجب على القاذف لنفي العار والشان عن المقذوف، وإنه منفي ينتفي عنه لمكان الجب.
م: (وإن شهد أربعة على رجل بالزنا وهم عميان) ش: أي والحال أنهم عميان م: (أو محدودون)(6/333)
في قذف أو أحدهم عبد أو محدود في قذف، فإنهم يحدون ولا يحد المشهود عليه. لأنه لا يثبت بشهادتهم المال، فكيف يثبت الحد وهم ليسوا
من أهل الشهادة، والعبد ليس بأهل للتحمل والأداء، فلم تثبت شبهة الزنا، لأن الزنا يثبت بالأداء، وإن شهدوا بذلك وهم فساق أو ظهر أنهم فساق لم يحدوا؛ ولأن الفاسق من أهل الأداء والتحمل، وإن كان في أدائه نوع قصور لتهمة الفسق، ولهذا لو قضى القاضي بشهادة فاسق ينفذ عندنا ويثبت بشهادتهم شبهة الزنا، وباعتبار قصور في الأداء لتهمة الفسق يثبت شبهة عدم الزنا فلهذا امتنع الحدان، وسيأتي فيه خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بناء على أصله أن الفاسق ليس من أهل الشهادة، فهو كالعبد عنده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي والحال أنهم محدودون م: (في قذف أو أحدهم) ش: أي أحد الشهود م: (عبد أو محدود في قذف فإنهم) ش: أي فإن الشهود م: (يحدون، ولا يحد المشهود عليه. لأنه لا يثبت بشهادتهم) ش: أي بشهادة هؤلاء م: (المال، فكيف يثبت الحد) ش: أي فكيف يثبت الحد الذي يندرئ بالشبهة م: (وهم ليسوا) ش: أي والحال أنهم ليسوا م:
[أهلية الشهادة]
(من أهل الشهادة، والعبد ليس بأهل للتحمل) ش: أي تحمل الشهادة م: (والأداء) ش: أي ولا من أهل أداء الشهادة م: (فلم تثبت شبهة الزنا، لأن الزنا يثبت بالأداء) ش: أي يثبت عند القاضي بأداء الشهادة عند عدم الإقرار.
م: (وإن شهدوا بذلك وهم فساق) ش: بضم الفاء وتشديد السين جمع فاسق م: (أو ظهر أنهم فساق) ش: يعني شهدوا، فبعد الشهادة ظهر أنهم فساق م: (لم يحدوا؛ لأن الفاسق من أهل التحمل والأداء، وإن كان في أدائه نوع قصور لتهمة الفسق، ولهذا) ش: أي ويكون من أهل التحمل والأداء وإن كان في أدائه نوع قصور لتهمة الفسق.
ولهذا لو قضى القاضي بشهادته ينفذ عندنا، والدليل على أنه من أهل الأداء قَوْله تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وفائدة الثبت أي تثبتوا، فلو لم يكن للفاسق شهادة، يقال فلا تقبلوا ولم يقل ذلك، بل قال فتبينوا، وفائدة التثبيت القبول عند ظهور الصدق لرجحانه عند القاضي بالتأمل في الدان، مثل هذا الفاسق هل يكذب في العادة أم لا؟
وقال الفقيه أبو الليث في " شرح الجامع الصغير " م: (ولو قضى القاضي بشهادة الفاسق جاز) ش: يعني م: (عندنا فيثبت بشهادتهم شبهة الزنا، وباعتبار قصور في الأداء لتهمة الفسق يثبت بشبهة عدم الزنا) ش: الفسق جاز، يعني عندنا الزنا م: (فلهذا) ش: أي فلأجل ذلك م: (يمنع الحدان) ش: أي حد الزنا على المشهود عليه وحد القذف على المشهود.
م: (وسيأتي فيه) ش: أي في حكم هذه المسألة. م: (خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، بناء على أصله أن الفاسق ليس من أهل الشهادة فهو كالعبد عنده) ش: أي الفاسق في شهادته كالعبد عند الشافعي، ويحد الشهود حد القذف عندنا، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في روايته ومالك.(6/334)
وإن نقص عدد الشهود عن أربعة حدوا؛ لأنهم قذفة، إذ لا حسبة عند نقصان العدد وخروج الشهادة عن القذف باعتبارها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[نقص عدد الشهود عن أربعة]
م: (وإن نقص عدد الشهود عن أربعة حدوا) ش: هذا لفظ القدوري في " مختصره "، وهو أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي القول الآخر لا حد عليهم.
وقال الكاكي: حدوا، أي عند طلب المشهود عليه الحد ذكره البزدوي لاختلاف الأئمة فيه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] م: (لأنهم قذفة) ش: أي لأن الذين نقصوا عن الأربعة قذفة جمعه قاذف، كسرقة جمع سارق م: (إذ لا حسبة) ش: لإقامة الحد م: (عند نقصان العدد وخروج الشهادة عن القذف باعتبارها) ش:. ش: أي باعتبار الحسبة، لأن الشاهد مخير بين حسبتين على ما مر في أول الباب.
وهنا لم يوجد حسبة الستر، فذاك ظاهر، ولم يوجد حسبة، إذ الشهادة أيضا فتعين القذف، فلزم الحد، ولأن الله تعالى جعل نصاب الشهادة في الزنا أربعة، فإذا نقص العدد عنها صاروا قذفة فيحدون حد القذف، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] (النور: الآية 4) .
واعلم أن في قول المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يتهم " قذفه " أثرا أخرجه الحاكم في " المستدرك " في (فضائل المغيرة بن شعبة) عن أبي عتاب سهل بن حماد عن أبي كعب عن عبد العزيز بن أبي بكرة. قال: كنا جلوسا عند باب الصغير الذي في المسجد، أبو بكرة وأخوه نافع وشبل بن معبد فجاء المغيرة بن شعبة يمشي في ظلال المسجد، والمسجد يومئذ من قصب، والمغيرة يومئذ أمير البصرة أمره عليها عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فانتهى إلى أبي بكرة يسلم عليه، فقال له أبو بكرة: أيها الأمير ليس لك ذلك، اجلس في بيتك وابعث إلي من شئت، فتحدث معه، قال يا أبا بكرة: ولا بأس ثم دخل المغيرة من باب الأصغر حتى تقدم إلى باب أم جميل امرأة من قيس فدخل عليها فقال أبو بكرة: والله لا أصبر على هذا، ثم بعث غلاما له فقال أبو بكرة له: ارق الغرفة وانظر من الكوة، فذهب فنظر فلم يلبث أن رجع، فقال: وجدتهما في لحاف واحد، فقال أبو بكرة للقوم قوموا معي، فقاموا، فبدأ أبو بكرة فنظر ثم استرجع. ثم قال لأخيه: انظر فنظر فقال له: ما رأيت؟ قال الزنا محصنا، ثم قال لهما انظرا، فنظرا، فقالا مثل ذلك، فقال: أشهد الله عليكم؟ قالوا: نعم. ثم كتب أبو بكرة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بما رأى فبعث عمر أبا موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أميرا على البصرة وأمره أن يرسل إليه المغيرة ومعه، أبو بكرة وشهوده. فلما قدم أبو موسى أرسل بالمغيرة وأبي بكرة وشهوده: وقال للمغيرة: ويل لك إن كان مصدوقا عليك وطوبى لك إن كان مكذوبا عليك، فلما قدموا على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال لأبي بكرة: هات ما عندك، قال:(6/335)
وإن شهد أربعة على رجل بالزنا فضرب بشهادتهم، ثم وجد أحدهم عبدا أو محدودا في قذف، فإنهم يحدون، لأنهم قذفة إذ الشهود ثلاثة، وليس عليهم ولا على بيت المال أرش الضرب، وإن رجم فديته على بيت المال، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: أرش الضرب أيضا على بيت المال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أشهد أني رأيت الزنا محصنا، ثم تقدم أخوه نافع، فقال نحو ذلك، ثم تقدم شبل بن سعد البجلي، فقال نحو ذلك، ثم تقدم زياد فقال له: ما رأيت؟ قال: رأيتهما في لحاف وسمعت نفسا عاليا، ولا أدري ما وراء ذلك، فكبر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفرح إذ نجا المغيرة وضرب القوم الحد إلا زيادا، انتهى وسكت عنه.
وروى عبد الرزاق عن الثوري عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي قال شهد أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة: أنهم نظروا إليه كما ينظرون إلى المرود في المكحلة، فجاء زياد فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جاء رجل لا يشهد إلا بالحق، فقال رأيت مجلسا فسحا وانتهارا: فجلدهم عمر الحد.
قال أبو نعيم: هؤلاء الذين شهدوا أخوة لأم اسمها سمية وزياد بن [ ... ] كان سمي زياد ابن أهيلة، انتهى، الانتهار: من النهر وهو النفس العالي.
م:
[الشهادة على الشهادة]
(وإن شهد أربعة على رجل بالزنا فضرب بشهادتهم) ش: يعني جلد وكان غير محصن، فجرحته السياط م: (ثم وجد أحدهم) ش: أي أحد الشهود م: (عبدا أو محدودا في قذف، فإنهم يحدون، لأنهم قذفة إذ الشهود ثلاثة) ش: لأن الشهود في الزنا إذا كانوا أقل من أربعة يجب عليهم حد القذف لقصور عدم الشهادة.
ويجب الحد على العبد والمحدود، وكذلك إذا وجد أحد الشهود أعمى م: (وليس عليهم) ش: أي على الشهود: (ولا على بيت المال أرش الضرب) ش: ومعرفة الأرش أن يقوم المحدود عبدا سليما من هذا الأمر ويقوم وبه هذا الأثر، فينظر أما ينقص بما ينقص به القيمة، فينقص من الدية مثله.
م: (وإن رجم) ش: بأن كان محصنا، ثم ظهر أحد الشهود؛ عبدا أو محدودا في قذف م: (فديته على بيت المال) ش: هذا بالاتفاق، لأن القاضي أخطأ في قضائه للعامة من حيث الضمان في مالهم م: (وهذا) ش: أي المذكور من الفصلين م: (عند أبي حنيفة، وقالا: أرش الضرب أيضا على بيت المال) ش: والحربي إذا قذف مسلما يجب عليه بالاتفاق، وحد الخمر لا يجب عليه بالاتفاق، وحد الزنا والسرقة يجب عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا يجب عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -، والذمي يجب عليه جميع الحدود، إلا حد الخمر، وقد مر في باب الوطء الذي يوجب الحد.(6/336)
قال العبد الضعيف عصمه الله: معناه إن كان جرحه، وعلى هذا الخلاف إذا مات من الضرب، وعلى هذا إذا رجع الشهود لا يضمنون عنده، وعندهما يضمنون. لهما أن الواجب بشهادتهم مطلق الضرب إذ الاحتراز عن الجرح خارج عن الوسع فينتظم الجارح وغيره، فيضاف إلى شهادتهم فيضمنون بالرجوع، وعند عدم الرجوع تجب على بيت المال، لأنه ينتقل فعل الجلاد إلى القاضي، وهو عامل للمسلمين، فتجب الغرامة في مالهم، فصار كالرجم والقصاص. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الواجب هو الجلد وهو ضرب مؤلم غير جارح، ولا مهلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (معناه) ش: أي معنى كلام محمد في " الجامع الصغير " أرش الضرب أيضا على بيت المال م: (إن كان جرحه) ش: أي الضرب لأنه إذا لم يخرج لا يجب شيء على أحد.
كذا ذكر السغناقي م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور م: (إذا مات) ش: أي المجلود م: (من الضرب) ش: يجب دية النفس في بيت المال عندهما إذا ظهر بعض الشهود، عبدا أو محدودا في قذف أو أعمى. وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجب شيء.
م: (وعلى هذا) ش: أي وعلى هذا الخلاف المذكور م: (إذا رجع الشهود) ش: بعد الجرح بالجلد أو الموت والجلد م: (لا يضمنون عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أصلا لا ضمان النفس ولا ضمان الأرش م: (وعندهما يضمنون) ش: أرش الجراحة إن لم يمت المجلود والدية إن مات.
م (ولهما) . ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أن الواجب بشهادتهم مطلق الضرب) ش: يعني بغير قيد السلامة م: (إذ الاحتراز عن الجرح خارج عن الوسع) ش: أي عن وسع الضارب م: (فينتظم الجارح وغيره) ش: أي يشمل الضرب الجارح وغير الجارح م: (فيضاف) ش: أي الجرح أو الهلاك م: (إلى شهادتهم) ش: أثبتوا الجلد م: (فيضمنون بالرجوع) ش: لأنه ظهر كذبهم في شهادتهم م: (وعند عدم الرجوع يجب) ش: أي الضمان م: (على بيت المال، لأنه ينتقل فعل الجلاد إلى القاضي) ش: لأنه أخطأ في قضائه. ولا يرجع إلى الشهود لأنهم ما رجعوا، والقاضي إذا أخطأ في قضائه يجب الضمان على من وقعت منفعته القضاء لأجله، وقد وقعت المنفعة العامة، لأن منفعة الحد وهي خلاف العالم عن الفساد يقع للعامة م: (وهو) ش: أي القاضي م: (عامل للمسلمين فتجب الغرامة في مالهم) ش: ومالهم بيت مال المسلمين م: (فصار كالرجم والقصاص) ش: أي قصاص الجرح أو الهلاك بالحد على تقدير عدم رجوع الشهود بأن نظر بعضهم عبدا أو محدودا كالرجم والقصاص، يعني في الرجم والقصاص يجب الغرامة في بيت المال، وكذا في الجرح أو الموت بالجلد.
م: (ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الواجب هو الجلد، وهو ضرب مؤلم غير جارح ولا مهلك)(6/337)
فلا يقع جارحا ظاهرا إلا لمعنى في الضارب، وهو قلة هدايته فاقتصر عليه، إلا أنه لا يجب عليه الضمان في الصحيح كيلا يمتنع الناس عن الإقامة مخافة الغرامة.
وإن شهد أربعة على شهادة أربعة على رجل بالزنا لم يحد؛ لما فيها من زيادة الشبهة ولا ضرورة إلى تحملها، فإن جاء الأولون فشهدوا على المعاينة في ذلك المكان لم يحد أيضا، معناه شهدوا على ذلك الزنا بعينه؛ لأن شهادتهم قد ردت من وجه برد شهادة الفروع في عين هذه الحادثة إذ هم قائمون مقامهم في الأمر والتحميل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: ألا ترى أن الجلد لا يقام في الحر أوالبرد الشديد ولا على المريض حتى يبرأ كيلا يقع متعلقا ولا بسوط له ثمرة كيلا يقع جارحا
م: (ولا يقع) ش: أي الضرب حال كونه م: (جارحا ظاهرا إلا لمعنى في الضارب، وهو قلة هدايته) ش: في عمله، أي المعنى في الضارب قلة هدايته في عمله وترك احتياطه م: (فاقتصر عليه) ش: أي فاقتصر الجرح أو الهلاك على الضارب من غير أن يضاف إلى الشهود أو القاضي، إلا أنه استثني من قوله فاقتصر عليه.
وهذا جواب عما يقال لما اقتصر عليه كان ينبغي أن يجب الضمان عليه، وهو القياس. فأجاب عنه بقوله م: (إلا أنه لا يجب عليه الضمان في الصحيح) ش: وهو الاستحسان م: (كيلا يمتنع الناس عن الإقامة) ش: أي عن إقامة الحدود م: (مخافة الغرامة) ش: أي لأجل الخوف عن الغرامة، وقيد الصحيح احترازا عما روي في " مبسوط " فخر الإسلام:
ولو قال قائل: يجب الضمان على الجلاد فله وجه، لأنه ليس بمأمور بهذا الوجه، لأنه أمر بضرب مؤلم لا جارح ولا كاسر ولا قابل، فإذا وجد الضرب على هذه الوجوه فقد وقع فعله متعديا فيجب عليه الضمان، والله أعلم.
م: (وإن شهد أربعة على شهادة أربعة على رجل بالزنا لم يحد) ش: أي الرجل م: (لما فيها) ش: أي في شهادة الفروع م: (من زيادة الشبهة) ش: يعني لما فيها من شبهة زاده على الأصل لم يكن فيه، فإن الكلام إذا تداولته الآلة يمكن فيها زيادة ونقصان م: (ولا ضرورة إلى تحملها) ش: أي على تحمل زيادة الشبهة، لأن الحدود لدرئها لا لإثباتها.
وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول محمد ومالك وأحمد. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح يقبل إذا كان بشرائط كشهادة الأصول.
م: (فإن جاء الأولون) ش: أي الأصول بعدما شهد الفروع م: (فشهدوا على المعاينة في ذلك المكان) ش: يريد به ذلك الزنا بعينه م: (لم يحد أيضا معناه) ش: أي معنى قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك المكان م: (شهدوا على ذلك الزنا بعينه، لأن شهادتهم) ش: أي شهادة الأصول م: (قد ردت من وجه برد شهادة الفروع في عين هذه الحادثة؛ إذ هم قائمون مقامهم بالأمر والتحميل) ش: أي الفروع(6/338)
ولا يحد الشهود، لأن عددهم متكامل، وامتناع الحد عن المشهود عليه لنوع شبهة، وهي كافية لدرء الحد لا لإيجابه.
وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فرجم، فكلما رجع واحد حد الراجع وحده وغرم ربع الدية، أما الغرامة فلأنه بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق، فيكون الفائت بشهادة الراجع ربع الحق. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب القتل دون المال، بناء على أصله في شهود القصاص، وسنبينه في الديات إن شاء الله تعالى. وأما الحد فمذهب علمائنا الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحد لأنه إن كان الراجع قاذف حي فقد بطل بالموت، وإن كان قاذف ميت فهو مرجوم بحكم القاضي، فيورث ذلك شبهة. ولنا أن الشهادة إنما تنقلب قذفا بالرجوع، لأن به تفسخ شهادته، فجعل للحال قذفا للميت، وقد انفسخت الحجة فينفسخ ما يبتنى عليه، وهو القضاء في حقه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قائمون مقام الأصول.
وهذا التعليل تعليل لرد شهادة الأصول ليست لرد شهادة الفروع، فإن هذا في الحقوق المالية، فإن ثمة يقبل شهادة الأصول بعد رد شهادة الفروع.
والجواب أن المال يثبت بالشبهة، بخلاف المحدود م: (ولا يحد الشهود) ش: أي الأصول والفروع لا يحدون م: (لأن عددهم متكامل) ش: والأهلية أيضا موجودة م: (وامتناع الحد عن المشهود عليه لنوع شبهة) ش: وهي شبهة البدلية الزمان والمكان، لاحتمال الزيادة والنقصان في الفروع وشبهة الرد في الأصول م: (وهي كافية لدرء الحد لا لإيجابه) ش: أي شبهة كافية لإسقاط الحد، لا لإيجاب الحد، يعني أن الشبهة ليست لموجبة الحد، ولكنها مسقطة له.
[شهد أربعة على رجل بالزنا فرجم ثم رجعوا عن الشهادة]
م: (وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فرجم) ش: أي الرجل م: (فكلما رجع واحد منهم حد الراجع وحده وغرم ربع الدية، أما الغرامة فلأنه بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق، فيكون الفائت بشهادة الراجع ربع الحق، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب القتل) ش: أي قتل الراجع م: (دون المال بناء على أصله) ش: أي أصل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في شهود القصاص) ش: يعني إذا رجعوا بعد القصاص، فيقتلون عنده، فكذا هنا إذا رجعوا بعد الرجم يقتلون، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن أبي ليلى وهو قول الحسن البصري أيضا. م: (وسنبينه في الديات إن شاء الله تعالى) ش: قال الأترازي: هذه حوالة ليس لها رواج إن شاء ذكر ذلك العام. م: (وأما الحد فمذهب علمائنا الثلاثة. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - 0 لا يحد، لأنه إن كان الراجع قاذف حي، فقد بطل بالموت، وإن كان قاذف ميت فهو مرجوم بحكم القاضي فيورث ذلك شبهة) ش: إشارة إلى كون الميت مرجوما بحكم القاضي.
م: (ولنا أن الشهادة إنما تنقلب قذفا بالرجوع، لأن به) ش: أي بالرجوع م: (تفسخ شهادته فجعل للحال) ش: أي في الحال م: (قذفا للميت، وقد انفسخت الحجة) ش: وهي الشهادة م: (فينفسخ ما يبتنى عليه، وهو القضاء في حقه) ش: والضمير في عليه يرجع إلى الحجة على تأويل الكلام قاله(6/339)
فلا يورث الشبهة، بخلاف ما إذا قذفه غيره، لأنه غير محصن في حق غيره، لقيام القضاء في حقه، فإن لم يحد المشهود عليه حتى رجع واحد منهم حدوا جميعا وسقط الحد عن المشهود عليه. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - حد الراجع خاصة، لأن الشهادة تأكدت بالقضاء، فلا تنفسخ إلا في حق الراجع، كما إذا رجع بعد الإمضاء، ولهما أن الإمضاء من القضاء، فصار كما إذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال أيضا: وقوله وهو راجع إلى ما هو عبارة عن القضاء، والضمير في حقه راجع إلى المراجع، يعني أن القضاء تفسخ في حق الراجع، لأن القضاء مبني على الشهادة، وقد انفسخت شهادة الراجع بالرجوع م: (فلا يورث الشبهة) ش: أي كونه وجوبا بانقضاء القاضي لا يورث الشبهة وفي سقوط حق القذف عن الراجع، لأن القضاء انفسخ في حقه.
م: (بخلاف ما إذا قذف الميت غير الراجع، لأنه) ش: أي لأنه الرجوع م: (غير محصن في حق غيره) ش: أي غير الراجع م: (لقيام القضاء في حقه) ش: أي في حق الراجع، فصار لقيام القضاء بشبهة في حقه، فلم يحد، فظهر الفرق م: (فإن لم يحد المشهود عليه حتى رجع واحد منهم حدوا جميعا) ش: يعني حد الشهود كلهم.
واعلم أن رجوع الشهود لا يخلو، إما أن يكون بعد القضاء والإمضاء أو بعد القضاء قبل الإمضاء أو قبل القضاء والإمضاء.
فهذه فصول ثلاثة، وقد ذكر الفصل الأول وشرع هنا في الفصل الثاني، وهو ما إذا رجع بعد القضاء والإمضاء، وهو قوله فإن لم يحد المشهود عليه، وهو ما إذا رجع بعد القضاء قبل الإمضاء يحدون كلهم م: (وسقط الحد عن المشهود عليه) ش: في قول أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله: في القول الأخر.
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - حد الراجع خاصة، لأن الشهادة تأكدت بالقضاء، فلا تنفسخ إلا في حق الراجع) ش: لا في حق غيره م: (كما إذا رجع بعد الإمضاء) ش: وبه قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولا، وهو قول زفر. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أحد قوليه لا يحد الراجع.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله م: (أن الإمضاء من القضاء) ش: أي أن إمضاء الحد بمنزلة القضاء بدليل أن الإمضاء لا يجوز إلا بمحضر من القاضي، ولهذا تجعل لإثبات الحادثة في الشهود كالارتداد والفسق والجنون و [....] والموت والغيبة، وهذا بعد القضاء قبل الإمضاء، كالحادثة قبل القضاء.
فإذا كان الإمضاء في القضاء كالرجوع قبل القضاء فيحدون جميعا.
وهو معنى قوله م: (فصار كما إذا رجع واحد منهم قبل القضاء، ولهذا) ش: أي ولأجل أن(6/340)
رجع واحد منهم قبل القضاء، ولهذا سقط الحد عن المشهود عليه.
ولو رجع واحد منهم قبل القضاء حدوا جميعا. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحد الراجع خاصة، لأنه لا يصدق على غيره. ولنا أن كلامهم قذف في الأصل، وإنما يصير شهادة باتصال القضاء به، فإذا لم يتصل به بقي قذفا، فيحدون، فإن كانوا خمسة فرجع أحدهم فلا شيء عليهم، لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق، وهو شهادة الأربعة، فإن رجع آخر حد وغرما ربع الدية. أما الحد فلما ذكرنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإمضاء من القضاء في باب الحدود م: (يسقط الحد عن المشهود عليه) ش: إذا رجع واحد قبل القضاء وقبل الإمضاء كما يسقط إذا رجع قبل القضاء.
[رجع شاهد واحد من الشهود الأربعة قبل القضاء والإمضاء]
م: (ولو رجع واحد منهم) ش: هذا هو الفصل الثالث، وهو ما إذا رجع م: (قبل القضاء والإمضاء) ش: أي لو رجع شاهد واحد من الشهود الأربعة قبل القضاء والإمضاء م: (حدوا جميعا) ش: أي يحدون كلهم.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحد الراجع خاصة، لأنه) ش: أي لأن الراجع م: (لا يصدق على غيره) ش: يعني أن رجوعه حجة على نفسه لا غيره باتصال.
م: (ولنا أن كلامهم قذف في الأصل) ش: يعني لكونه صريحا فيه م: (وإنما يصير شهادة باتصال القضاء به) ش: أي بكلامه م: (فإذا لم يتصل به) ش: أي فإذا لم يتصل القضاء بكلامهم م: (بقي قذفا فيحدون) ش: لقصور عددهم م: (وإن كانوا خمسة) ش: هذا عطف على أصل المسألة، وهو قوله وإذا شهد أربعة بالزنا م: (فرجع أحدهم) ش: يعني بعد الرجم، لأنه وضع المسألة في ذلك م: (فلا شيء عليهم) ش: أي لا الحد ولا الدية، لا على الشهود ولا على الراجع، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح ومالك وأحمد - رحمهما الله.
وعن مالك لا يجب الدية بالرجوع أصلا. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه يجب خمس الدية م: (لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق، وهو شهادة الأربعة، فإن رجع آخر) ش: أي من الأربعة م: (حد) ش: أي الراجع الأول وهو الخامس والراجع الثاني من الأربعة م: (وغرما ربع الدية) ش: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن قالا تعمدنا الكذب وجب عليهما القود. وإن قال: لا أخطأنا وجب عليهما فسقطهما في الدية وغرما ربع الدية.
م: (أما الحد فلما ذكرنا) ش: إشارة إلى قوله ولنا أن الشهادة إنما تقلب قذفا بالرجوع. وقال الأترازي: فإن قلت: حين رجع الواحد من الخمسة لا شيء عليه أصلا، فعند ذلك كيف يجب عليه الحد والغرامة برجوع الآخر؟.
قلت: إنما لم يجب عليه شيء وقت رجوعه لمانع مع وجود السبب، والمانع بقاء الحجة الكاملة. فلما رجع آخر زال المانع، فعمل السبب عمله.(6/341)
وأما الغرامة فلأنه بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق، والمعتبر بقاء من بقي لا رجوع من رجع على ما عرف.
وإن شهد أربعة على رجل بالزنا فزكوا فرجم فإذا الشهود مجوس أو عبيد فالدية على المزكين عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - معناه: إذا رجعوا عن التزكية، وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله هو على بيت المال. وقيل هذا إذا قالوا:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وأما الغرامة فلأنه بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق، والمعتبر بقاء من بقي، لا رجوع من رجع على ما عرف) ش: أي في كتاب الشهادات.
[تبين عدم أهلية الشهادة بعد إقامة الحد]
م: (وإن شهد أربعة على رجل بالزنا فزكوا) ش: على صيغة المجهول من التزكية من زكى نفسه إذا مدحه وتزكية الشهود الوصف بكونهم أزكياء م: (فرجم) ش: أي الرجل م: (فإذا الشهود عبيد أو مجوس، فالدية على المزكين عند أبي حنيفة) ش: وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (معناه إذا رجعوا) ش: أي المزكون م: (عن التزكية) ش:.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قال صاحب " الهداية " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: معناه إذا رجعوا عن التزكية، أي معنى قوله فالدية على المزكين، قال ويدل على صحة تأويله ما نص عليه الحاكم في " الكافي " إذا شهد الشهود على رجل بالزنا والإحصان، فزكاهم يعني زعموا أنهم أحرار ورجم ثم وجدوهم عبيدا قال: لا حد على الشهود، فإن رجع المزكون عن شهادتهم ضمنوا.
قلت: فإن لم يقولوا إنهم أحرار، وقالوا هم عدول ثم وجدوا عبيدا قال: لا ضمان على المدعين، وهذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله فإن لم يقولوا إنهم أحرار وقالوا هم عدول ثم وجدوا عبيدا، قالا: لا ضمان على المزكين، وإلى هاهنا لفظ الحاكم - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: معناه إذا رجعوا عن التزكية بأن قالوا قلنا هم أحرار مسلمون مع علمنا بحالهم أنهم عبيد، وكذا في نسخ الشروح، فعلى هذا ينبغي أن لا يذكر في الكتب قوله. وقيل هذا إذا قالوا تعمدنا من غير أن يقال، وقيل لأن قوله وقيل يقضي أن يكون معنى الرجوع عن التزكية التي توجب الضمان عنده في قول آخر سوى التعمد وليس كذلك.
فإن المزكي إذا قال أخطأت في التزكية لا يضمن بالإجماع، وإنما الخلاف فيما إذا [قال] : تعمدت ذلك مع علمي بحالهم، وذكره في " جامع قاضي خان "، وإليه أشار في " المبسوط ". وقال تاج الشريعة: معناه إذا رجعوا عن التزكية بأن قالوا تعمدنا التزكية مع علمنا أنهم مجوس، حتى لو قالوا أخطأنا لا يضمنون.
م: (وقالا) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله م: (هو على بيت المال) ش: أي الضمان على بيت المال م: (وقيل هذا) ش: عند أبي حنيفة، أي وجوب الضمان م: (إذا قالوا) ش:(6/342)
تعمدنا التزكية مع علمنا بحالهم. لهما أنهم أثنوا على الشهود خيرا، فصار كما إذا أثنوا على المشهود عليه خيرا بأن شهدوا بإحصانه، وله أن الشهادة إنما تصير حجة عاملة بالتزكية، فكانت التزكية في معنى علة العلة، فيضاف الحكم إليها، بخلاف شهود الإحصان لأنه محض الشرط، ولا فرق بينهما إذا شهدوا بلفظة الشهادة أو أخبروا، وهذا إذا أخبروا بالحرية والإسلام، أما إذا قالوا: هم عدول وظهروا عبيدا لا يضمنون، لأن العبد قد يكون عدلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي المزكون م: (تعمدنا التزكية مع علمنا بحالهم) ش: أما إذا قالوا أخطأنا فلا يجب عليهم الضمان. قال الإمام السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في شرحه " للجامع الصغير " إذا قالوا علمنا أنهم مجوس ومع هذا زكيناهم. أما إذا قالوا أخطأنا، فلا يجب عليهم الضمان، لأنهم يأتون على القاضي والقاضي [....] لا ضمان عليه، فكذا هاهنا، وإنما وجب الضمان عليهم إذا تعمدوا لأنهم أظهروا علة التلف.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف [ومحمد]- رحمهما الله م: (أنهم) ش: أي أن المزكين م: (أثنوا على الشهود خيرا) ش: قيل حيث أثبتوا بذلك شرط الحجة، وهي العدالة م: (فصار كما لو أثنوا على المشهود عليه خيرا بأن شهدوا بإحصانه) ش: فلا يضمنون شيئا، وبه قال الثلاثة، فإذا لم يضمنوا شيئا وجب الضمان على بيت المال، وله أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - م: (وله أن الشهادة إنما تصير حجة وعاملة بالتزكية) ش: إذ الشهادة في الحدود لا توجب شيئا بلا تزكية م: (فكانت التزكية في معنى علة العلة) ش: لأن التزكية بعمله للعلة، والعمل للعلة علة العلة، والحكم يضاف إلى علة العلة، كما يضاف إلى العلة.
ألا ترى أن حفر البئر لما كان هو الذي لعلة يجعل فقد علة المار للوقوع في البئر، فيضاف الحكم إليه عند تعذر إضافته إلى الفعل م: (فيضاف الحكم إليها) ش: أي إلى علة العلة، فصار المزكون كالشهود إذا رجعوا م: (بخلاف شهود الإحصان، لأنه محض الشرط) ش: حاصله أن الشهادة على الإحصان شرط محض، وعلامة معرفة الحكم الزنا الصادر بعده وجود الإحصان.
ولا حاجة لثبوت الزنا إلى شهود الإحصان، لأن الزنا ثبت بشهود الزنا قبل الإحصان، ولكن لا يثبت الزنا بشهود الإحصان ما لم يزكوا، فظهر الفرق بين التزكية وشهادة الإحصان.
م: (ولا فرق بينهما إذا شهدوا بلفظة) ش: أي المزكون بلفظ م: (الشهادة أو أخبروا) ش: بأن قالوا نشهد بأنهم أحرار أو قالوا هم أحرار م: (وهذا) ش: أي وجوب الضمان على المزكين على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إذا أخبروا بالحرية والإسلام) ش: أي فيما إذا أخبروا بحرية الشهود وإسلامهم، ثم ظهر الشهود مجوسا أو عبيدا.
م: (أما إذا قالوا هم عدول وظهروا عبيدا لا يضمنون، لأن العبد قد يكون عدلا) ش: أيضا بتركه محظور دينه. واعلم أن زكاة المزكي شرط عند أبي حنيفة، خلافا لهما، ذكره في " المختلف "،(6/343)
ولا ضمان على الشهود؛ لأنه لم يقع كلامهم شهادة، ولا يحدون حد القذف؛ لأنهم قذفوا حيا وقد مات فلا يورث عنه، وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فأمر القاضي برجمه، فضرب رجل عنقه ثم وجد الشهود عبيدا فعلى القاتل الدية. وفي القياس يجب القصاص؛ لأنه قتل نفسا معصومة بغير حق. وجه الاستحسان أن القضاء صحيح ظاهرا وقت القتل، فأورث شبهة، بخلاف ما إذا قتله قبل القضاء؛ لأن الشهادة لم تصر حجة بعد، ولأنه ظنه مباح الدم معتمدا على دليل مبيح، فصار كما إذا ظنه حربيا، وعليه علامتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولا يشترط العدد في المزكي عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله، خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويشترط الإتيان في سائر الحقوق والأربعة في الزنا، ويجوز شهادة رجل وامرأتين على الإحصان.
كذا قال الحاكم م: (ولا ضمان على الشهود) ش: لأنه يقع كلامهم بشهادة فيه، نظرا لما تقدم أن كلام كل منهم يصير شهادة باتصال القضاء، وقد اتصل به القضاء، فما وجه قوله م: (لأنه لم يقع كلامهم شهادة) ش: والجواب إذ القضاء لما أظهر خطأه بيقين، صار كأن لم يكن، فلا يتصل القضاء بكلامهم، فلا يصير شهادة. م: (ولا يحدون) ش: أي الشهود م: (حد القذف؛ لأنهم قذفوا حيا، وقد مات فلا يورث عنه) ش: أي لا يورث حد القذف عن الميت، لا يقال لم يجعل قذفا للميت للرجال بطريق الانقلاب كما في صورة الرجوع عن الشهادة؛ لأنا نقول عليه الانقلاب للرجوع عن الشهادة. فالجواب فلم يوجد.
فإن قيل: لم لا يكون ظهورهم عبيدا أو مجوسا للانقلاب كالرجوع إن انقلاب صيرورة الشهادة قذفا وكلامهم لم يقع شهادة.
م: (وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فأمر القاضي برجمه فضرب رجل عنقه ثم وجد الشهود عبيدا فعلى القاتل الدية) ش: في ماله م: (وفي القياس يجب القصاص؛ لأنه قتل نفسا معصومة بغير حق. وجه الاستحسان أن القضاء صحيح ظاهرا وقت القتل، فأورث شبهة) ش: كنكاح الفاسد يكون شبهة أسواط الحد.
م: (بخلاف ما إذا قتله قبل القضاء) ش: حيث يجب القضاء لعدم الشبهة لأن القضاء هو المورث للشبهة لم يوجد، أشار إليه بقوله م: (لأن الشهادة لم تصر حجة بعد، ولأنه ظنه) ش: عطف على قوله أن القضاء صحيح ظاهر وقت القتل، أي ظن الذي قتله م: (مباح الدم معتمدا على دليل مبيح، فصار كما إذا ظنه حربيا وعليه علامتهم) ش: أي كما إذا ظن المسلم والغازي أو الشخص حربيا، وعليه علامتهم، أي علامة أهل الحرب. فقتله عمدا، ثم ظهر أن المقتول ليس بحربي لا يجب القصاص بشبهة ظنه مباح الدم.(6/344)
ويجب الدية في ماله لأنه عمد، والعواقل لا تعقل العمد، ويجب ذلك في ثلاث سنين؛ لأنه وجب بنفس القتل، وإن رجم ثم وجدوا عبيدا فالدية على بيت المال؛ لأنه امتثل أمر الإمام فنقل فعله إليه، ولو باشره بنفسه يجب الدية في بيت المال لما ذكرنا، وكذا هذا بخلاف ما إذا ضرب عنقه؛ لأنه لم يأتمر بأمره. وإذا شهدوا على رجل بالزنا، وقالوا: تعمدنا النظر قبلت شهادتهم؛ لأنه يباح النظر لهم ضرورة تحمل الشهادة فأشبه الطبيب والقابلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ويجب الدية في ماله لأنه عمد والعواقل) ش: الجمع جمع عاقلة م: (لا تعقل العمد، ويجب ذلك في ثلاث سنين؛ لأنه وجب بنفس القتل) ش: لا بالإقرار، وكل شيء يجب بنفس القتل تكون الدية في ثلاث سنين.
م: (وإن رجم) ش: على بناء الفاعل معطوف على قوله فضرب عنقه، أي وإن رجم ذلك الرجل المذكور المشهود عليه بالزنا بعد قضاء القاضي بالرجم وفي لفظ " المبسوط " الرجم بالحجارة. ولفظ صاحب " الوجيز ": وإن كان هذا الرجل قتله رجما م: (ثم وجدوا) ش: أي الشهود م: (عبيدا فالدية على بيت المال؛ لأنه امتثل أمر الإمام فينقل فعله إليه) ش: أي نقل فعل هذا الذي رجعه إلى الإمام م: (ولو باشره) ش: الإمام الرجم م: (بنفسه يجب الدية في بيت المال لما ذكرنا) ش: عند قوله فيما مضى قبل، وزفه بقوله لأنه انتقل فعل الجلاد القاضي وهو عامل للمسلمين، فيجب الغرامة في مالهم.
م: (وكذا هذا) ش: أي كذا حكم هذا، وأشار به إلى فعل الرجم م: (بخلاف ما إذا ضرب عنقه؛ لأنه لم يأتمر بأمره) ش: أي أمر الإمام؛ لأنه أمر بالرجم دون القتل، فلم ينتقل فعله إليه. م: (وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا وقالوا تعمدنا النظر) ش: أي إلى فرج الزاني والزانية م: (قبلت شهادتهم) ش: وبه قال الشافعي في المنصوص ومالك وأحمد - رحمهما الله، ولو قالوا تعمدنا النظر للتلذذ لا يقبل إجماعا.
وفي " جامع السرخسي " قال بعض العلماء: لا تقبل شهادتهم، وبه قال الإصطخري من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لإقرارهم [....] على أنفسهم، إذ النظر إلى عورة الغير فسق م: (لأنه يباح النظر لهم ضرورة تحمل الشهادة) ش: لأنهم كلفوا على إقامة الشهادة على أنهم رأوه كالميل في المكحلة، والرشاء في البئر، والقلم في المحبرة.
م: (فأشبه الطبيب والقابلة) ش: أي أشبه نظر شهود الزنا إلى فرج الزانية لضرورة في ذلك، كما ينظر الطبيب والقابلة إلى الفرج، وهذا لأن الطبيب يجوز أن ينظر موضع العورة لضرورة المداواة، وقال في " خلاصة الفتاوى ": لا يجوز النظر إلى العورة إلا عند الضرورة. وهي الاحتقان والحيان والمداواة والولادة والبكارة في البالغة والرد بالعيب، والمرأة في حق المرأة أولى، وإن لم يوجد ستر ما وراء موضع الضرورة.(6/345)
وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فأنكر الإحصان وله امرأة قد ولدت منه فإنه يرجم، معناه أن ينكر الدخول بعد وجود سائر الشرائط؛ لأن الحكم بثبات النسب منه حكم بالدخول عليه، ولهذا لو طلقها يعقب الرجعة والإحصان يثبت بمثله. فإن لم تكن ولدت منه وشهد عليه بالإحصان رجل وامرأتان رجم، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فالشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مر على أصله أن شهادتهن غير مقبولة في غير الأموال، وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: إنه شرط في معنى العلة؛ لأن الجناية تتغلظ عنده، فيضاف الحكم إليه، فأشبه حقيقة العلة، فلا تقبل شهادة النساء فيه احتيالا للدرء، فصار كما إذا شهد ذميان على ذمي زنى عبده المسلم أنه أعتقه قبل الزنا، فلا تقبل لما ذكرنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[شهد أربعة على رجل بالزنا فأنكر الإحصان وله امرأة قد ولدت منه]
م: (وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فأنكر الإحصان وله امرأة قد ولدت منه فإنه يرجم. معناه أن ينكر الدخول بعد وجود سائر الشرائط) ش: أي شرائط الإحصان م: (لأن الحكم بثبات النسب منه حكم بالدخول عليه) ش: أي على الرجل م: (ولهذا) ش: أي ولأجل الحكم بالدخول عليه م: (لو طلقها يعقب الرجعة) ش: أي الطلاق تعقب الرجعة له أن يراجعها بعد الطلاق، والطلاق قبل الدخول لا يعقب الرجعة م: (والإحصان يثبت بمثله) ش: أي بمثل هذا الدليل الذي دل ظاهرا، وفيه شبهة.
م: (فإن لم يكن ولدت منه وشهد عليه بالإحصان رجل وامرأتان رجم، خلافا لزفر والشافعي) ش: ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى م: (فالشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مر على أصله أن شهادتهن غير مقبولة في غير الأموال، وزفر يقول إنه) ش: أي الإحصان م: (شرط في معنى العلة) ش: فلا تقبل شهادة النساء فيه؛ لأن شهادة النساء لا مدخل لها في باب الحدود م: (لأن الجناية تتغلظ عنده) ش: بيانه أن علة حد الزنا هو الزنا، لكنه يتغلظ عند وجود الإحصان. ولهذا يجب الرجل الذمي هو أقطع العقوبات فكان الإحصان شرطا في معنى العلة، فلا تقبل شهادتهن على علة الحكم، فلا تقبل أيضا على شرطه وهو الإحصان؛ لأنه في معناها لتغلظ الجناية عنده، وهو معنى قوله لأن الجناية تتغلظ عنده، أي عند زفر أيضا م: (فيضاف الحكم إليه) ش: أي إلى الإحصان م: (فأشبه حقيقة العلة) ش: قال الأكمل: ترتب على ذلك أمران:
أحدهما: ما ذكره في الكتاب، وهو قوله: م: (فلا تقبل شهادة النساء فيه) ش: حفيا لا للدرء أي لدفع الحد.
والثاني: أن شهود الإحصان إذا رجعوا بعد الرجم يضمنون عنده؛ لأن شهود العلة يضمنون بالرجوع بالاتفاق.
م: (فصار كما إذا شهد ذميان على ذمي زنى عبده المسلم أنه أعتقه قبل الزنا فلا تقبل) ش: يعني أن الزاني لو كان مملوكا لذمي، وهو مسلم فشهد شاهدان ذميان أنه، أي أن مولاه الذي أعتقه قبل الزنا لم يرجم م: (لما ذكرنا) ش: أي لأن الإحصان شرط في معنى بعلة.(6/346)
ولنا أن الإحصان عبارة عن الخصال الحميدة، وأنها مانعة من الزنا على ما ذكرنا، فلا يكون في معنى العلة، وصار كما إذا شهدوا به في غير هذه الحالة، بخلاف ما ذكر؛ لأن العتق يثبت بشهادتهما، وإنما لا يثبت بسبق التاريخ؛ لأنه ينكره المسلم أو يتضرر به المسلم، فإن رجع شهود الإحصان لا يضمنون عندنا، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو فرع ما تقدم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا أن الإحصان عبارة عن الخصال الحميدة) ش: بعضها ليس في موضع كالحرية والعقل وبعضها فرض عليه كالإسلام، وبعضها مندوب إليه كالنكاح الصحيح والدخول بالمنكوحة م: (وإنها) ش: أي وإن الخصال الحميدة م: (مانعة من الزنا، فلا تكون في معنى العلة، وهذا كما إذا شهدوا به) ش: أي بالإحصان م: (في غير هذه الحالة) ش: أراد بهذه الحالة ما بعد الزنا. قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعني لو شهد رجل وامرأتان أن فلانا تزوج هذه المرأة ودخل بها قبلت شهادتهم، فكذلك هاهنا.
م: (بخلاف ما ذكر) ش: أي بخلاف ما ذكر زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - بشهادة الذمية على ذمي أنه أعتق عبده قبل الزنا م: (لأن العتق يثبت بشهادتهما) ش: أي بشهادة الذميين م: (وإنما لا يثبت بسبق التاريخ) ش: يعني يثبت العتق، لكن لا يثبت سابقا على الزنا م: (لأنه ينكره المسلم) ش: أي لأن سبق التاريخ ينكر المسلم لا يثبت شهادة الكافر بل الذمية، ولأن المسلم يتصور سبق التاريخ من حيث تغليظ العقوبة عليه، فلا يجوز أن يتضرر المسلم بشهادة الكفار. كذا في " المبسوط " وهو معنى قوله م: (أو يتضرر به المسلم) ش: أما شهادة النساء في غير الحدود مقبولة وإن تضرر به المسلم.
م: (فإن رجع شهود الإحصان لا يضمنون عندنا، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ضمان شهود الإحصان ثلاثة أوجه:
أحدها: لا ضمان عليهم، وهو قولنا.
والثاني: يحنث [....] وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
والثالث: إذا رجعوا مع الشهود على الزنا إن شهدوا بالإحصان قبل ثبوت الزنا لم يضمنوا، وإن شهدوا بعد ثبوت الزنا ضمنوا. وفي قدر ما يضمنون من الدية وجهان. وجه: يضمنون بضمان الدية، الثاني: ثلث الدية، كذا في " الحلية ".
م: (وهو فرع ما تقدم) ش: أي عدم الضمان عليه شهود الإحصان عندنا إذا رجعوا ووجوب الضمان عند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيان على ما قلنا إنه في معنى العلة عنده، وشرط محصن عندنا لا يتعلق به الوجود، بل هو علامة معرفة حكم الزنا الصادر بعد.
فروع: وفي الإحصان يكفي الشهود أن يقولوا أدخل بها زوجها. وقال محمد -رحمه(6/347)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله لا بد أن يقولوا جامعها أو باضعها، كذا في التأمل.
وكذا لو أنكر الإحصان بعد ثبوت الزنا فشهد أنه تزوج بامرأة ودخل بها ثبت إحصانه حتى يرجم، كما لو قال وطئها أو جامعها عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله، وبه قالت الثلاثة. وقال محمد: لا يثبت إحصانه فلا يرجم، كما لو شهد أنه أقر بها أو أتاها.
ولو شهد أربعة أنه زنى بامرأة وأربعة أخرى مرة أخرى فرجم ورجع الفريقان ضمنوا ديته بالإجماع وحدوا للقذف عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وبه قال أحمد: وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحدون، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ولو شهدوا على الزنا وأقره مرة به حد عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبه قالت الأئمة الثلاثة؛ لأن البينة وقعت معتبرة، فلا تبطل بالإقرار، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله لا يحد، وهو الأصح.
وإذا أقر أربع مرات لا يحد عندنا، خلافا للشافعي ومالك وأحمد - رحمهما الله، فإن عندهم يحد القاضي إذا أمر بالرجم أو بالجلد هل يسعى مع ممن لم يعاين الشهادة أو سبب وجوب الرجم أو الجلد، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله يسعى، وعند محمد لا يسعى لمن لم يشاءها، وأفتى فقهاؤنا وراءهم بقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لعلة الفساد على القضاء، فلا يؤمنون على الخصوص في الحدود التي تندرئ بالشبهات، وقد فصل بعض المشايخ في ذلك، فقال القضاة أربعة:
عالم عادل، وهذا واجب الطاعة، فيجب الائتمار.
وعادل: وهذا يسأل عن كيفية ثبوت ما ثبت عنده، فإذا أخبر بما يوافق الشرع قبل قوله وعمل به.
وظالم عالم، وظالم جاهل. وهذان لا يقبل قولهما، ولا يلتفت إليهما.
وقيل يسأل الثالث عن ثبوت الحكم عنده، فإن وافق مقتضى عمله عمل به، وإن ظهر فيه أنه ظلمه ترك.(6/348)
باب حد الشرب ومن شرب الخمر فأخذ وريحها موجودة أو جاءوا به سكران، فشهد الشهود عليه بذلك، فعليه الحد، وكذلك إذا أقر وريحها موجودة؛ لأن جناية الشرب قد ظهرت ولم يتقادم العهد. والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ومن شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب حد الشرب] [حكم حد الشرب]
(حد الشرب) ش: أي هذا باب في بيان حكم حد الشرب. قدم حد الزنا على الشرب لما أن دعاء الطبع إلى الزنا أكثر عند فرط الشبق، ولهذا ضربه أشد من ضرب الشرب. وفي الزنا قتل النفس، وفي شرب الخمر فوات العقل. وكأن العقل كالتابع للنفس، وأخرج القذف عن حد الشرب لأن الجريمة في الشارب دون القاذف، لأنه يحتمل أنه صدق في القذف بأن كان المقذوف زانيا، ولهذا كان حد القذف أحق من الجميع، وتأخير حد السرقة لما أنه شرع لصيانة الأموال، والمال تبع.
م: (ومن شرب الخمر فأخذ وريحها موجودة) ش: أي والحال أن ريح الخمر موجودة في فيه م: (أو جاءوا به سكران) ش: أي جاءوا به إلى مجلس القاضي حال كونه سكران م: (فشهد الشهود عليه بذلك) ش: أي بشرب الخمر م: (فعليه الحد، وكذا إذا أقر) ش: أن يشرب الخمر م: (وريحها موجودة) ش: أي والحال أن ريحها موجودة في فيه، ذكره حين الريح بالتأنيث. لأن الريح من الأسماء المذكرة السماعية م: (لأن جناية الشرب قد ظهرت ولم يتقادم العهد) ش: أي والحال أن العهد لم يتقادم في الحدود إلا في حد القذف مانع عن قبول الشهادة بالاتفاق على ما يأتي الآن.
م: (والأصل فيه) ش: أي في هذا الباب م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «ومن شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه» هذا الحديث رواه جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أخرج حديثه أصحاب السنن إلا الترمذي عن أبي سلمة عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه ثم إن سكر فاجلدوه فإن عاد الرابعة فاقتلوه» ، ورواه ابن حبان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " صحيحه "، وقال معناه إذا استحل ولم يقبل التحريم، ورواه الحاكم في " المستدرك " وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وعن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجوه إلا النسائي عن أبي صالح عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شرب الخمر فاجلدوه» . الحديث. وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرج حديثه أبو داود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه، وقال في الخامسة «إن شربها فاقتلوه» ،(6/349)
فإن أقر بعد ذهاب رائحتها لم يحد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحد، وكذلك إذا شهدوا عليه بعدما ذهب ريحها عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحد، فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق، غير أنه مقدر بزمان عنده اعتبارا بحد الزنا، وهذا لأن التأخير يتحقق بمضي الزمان، والرائحة قد تكون من غيره كما قيل شعر:
يقولون لي إنكه شربت مدامة ... فقلت لهم لا, بل أكلت السفرجلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن قبيصة ابن ذؤيب أخرج حديثه أبو داواد عنه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه، فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ورفع القتل، وكانت رخصة» وفي صحبة قبيصة خلاف.
وعن جابر أخرج حديثه النسائي مرفوعا: «من شرب الخمر فاجلدوه» . إلى آخره وعن عبد الله بن عمر وأخرج حديثه الحاكم في المستدرك مرفوعا نحوه. وعن جرير أخرج حديثه الحاكم أيضا مرفوعا نحوه. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني في " معجمه ".
[أقر بعد ذهاب رائحة الخمرهل يحد]
م: (فإن أقر بعد ذهاب رائحتها لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحد) ش: وبه قالت الثلاثة م: (وكذلك إذا شهدوا عليه بعدما ذهب ريحها عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحد، فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق، غير أنه مقدر بالزمان عنده) ش: أي عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (اعتبارا بحد الزنا) ش: فقدر بشهر؛ لأن ما دونه قريب. م: (وهذا) ش: بمعنى تقدير الزمان م: (لأن التأخير يتحقق بمضي الزمان) ش: ولا بد من تقدير زمان، أما إن ذلك بستة أشهر أو شهر واحد، فعلم في موضع آخر.
م: (والرائحة قد تكون من غيره) ش: أي من غير شرب الخمر؛ م: كما قيل شعر:
يقولون لي إنكه شربت مدامة ... فقلت لهم لا, بل أكلت السفرجلا(6/350)
وعندهما يقدر بزوال الرائحة، لقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: يروى الثبت بكلمة قد شربت، وهي رواية المطرزي في " المغرب "، وبدونها وهي رواية الفقهاء، فعلى الأول تسقط همزة الوصل من إنكه في اللفظ، وعن الثاني تحرك بالكسر بضرورة الشعر، ولا تسقط. ويجوز تحريك همزة الوصل في الجود والإنصاب.
قوله إنكه بكسر الهمزة وسكون النون وفتح الكاف وسكون الهاء، هو أمر من نكه ينكه بأمره بأن ينكه ليعلم أنه شارب هو أو غير شارب، وأصله من النكهة، وهي ريح الفم، ونكهته إذا قسمت شممت يحد.
قال الجوهري: واستنكه الرجل نكهة في وجهين نكه ينكه نكها إذا أمره أن ينكه ليعلم أنه شارب أو غير شارب، وكلامه يدل على أنه يأتي من باب منع يمنع، ومن باب ضرب، وهو يتعدى ولا يتعدى، والمدامة اسم من أسماء الخمر. وقال الأترازي: والمدامة بمعنى المدام، وهو الخمر.
قلت: لا يحتاج أن يقال بمعنى الخمر؛ لأن كليهما من أسماء الخمر.
م: (وعندهما) ش: أي وعند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله م: (يقدر) ش: أي التقادم م: (بزوال الرائحة لقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه، فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه) ش: هذا عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غريب بهذا اللفظ.
وروى عبد الرزاق في " مصنفه " ففعلوا ثم عاد به من الغد ودعا بسوط ثم أمر بثمرته فدقت بين حجرين حتى صارت درة، ثم قال: للجلاد اجلد وارفع يدك وأعط كل عضو حقه.
وعن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتى بسكران قال: ترتروه واستنكهوه ومزمزوه، ففعلوا ثم عاد به من العدو ودعا بسوط ثم أمر بخرقة فدقت بين حجرين حتى صارت درة، ثم قال للجلاد: اجلد وارفع يدك وأعط كل عضو حقه.
قوله: ترتروه أمر من الترترة بتاءين مثناتين من فوق، وهي التحريك، وكذلك مزمزوه أمر من المزمزة بزاءين معجمتين، قال: صاحب " المغرب " الترترة التثلثة، والمزمزة التحريك الشديد. قوله استنكهوه، أمر من الاستنكاه، وهو طلب النكهة، وهي رائحة الفم، وقد مر الكلام فيه آنفا.
وقال أبو عبيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنكر بعض أهل العلم هذا الحديث؛ لأن الأصل في الحدود إذا جاء صاحبها مقرا بها الرد والإعراض، وعدم التقصي احتمال للدرء كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(6/351)
ولأن قيام الأثر من أقوى دلالة على القرب، وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتباره، والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل، وإنما يشتبه على الجهال، وأما الإقرار فالتقادم لا يبطله عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما في حد الزنا على ما مر تقريره، وعندهما لا يقام الحد إلا عند قيام الرائحة؛ لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا إجماع إلا برأي ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد شرط قيام الرائحة على ما روينا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حتى أقر ماعز، فكيف يأمر ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالتثلثة والترترة والاستنكاه، حتى يظهر سكره، فلو صح فتأويله أنه جاء رجل مولع بالشرب مدمن، فاستجازه كذلك، انتهى.
قلت: ليس في حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي به وهو مقر حتى يضعف هذا بذاك، وإنما أتى به وهو سكران، فقال: ترتروه إلى آخره ليعلم أنه سكران أم لا؟.
م: (ولأن قيام الأثر) ش: أي أثر الخمر م: (من أقوى دلالة على القرب) ش: أي على قرب العهد م: (وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتباره) ش: أي اعتبار الأثر م: (والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل) ش: هذا جواب عن قوله والرائحة قد تكون من غيره م: (وإنما يشتبه) ش: أي الأثر م: (على الجهال) ش: بضم الجيم وتشديد الهاء جمع جاهل، وأراد بالجهال الذين لا يميزون الروائح م: (وأما الإقرار فالتقادم لا يبطله عند محمد كما في حد الزنا على ما مر تقريره) ش: أن الإنسان لا يكون متهما بالنسبة إلى نفسه.
م: (وعندهما) ش: أي عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله م: (لا يقام الحد إلا عند قيام الرائحة؛ لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة، ولا إجماع إلا برأي ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو وقد شرط) ش: أي ابن مسعود م: (قيام الرائحة على ما روينا) ش: بمعنى قوله فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه. وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فيه نظر؛ لأن الإجماع عقد على ثبوت حد الشرب باتفاق ابن مسعود. ولكن لا دليل على أن الشرط الذي شرطه ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو قيام الرائحة أجمع عليه الباقون.
وأيضا كلام ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شرطية، والشرطية الوجود تقيد الوجود عند الوجود لا غير.
وجواب الإمام فخر الإسلام: بأن العدم عند العدم ليس من مفهوم الشرط، بل انتفاء الجمع عليه مدفوع بما ذكرنا أولا. وأيضا ذكر في أول الباب أنه ثابت بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من شرب الخمر فاجلدوه، انتهى كلامه.
قلت: قوله ولا كذلك لا دليل على مجرد النفي، وهو لا ينافي الضمان الدليل قوله يقيد الوجوب عند الوجود لا غير، يعني لا يوجب العدم عند عدمه، فلهذا يجب الحد عند وجود(6/352)
فإن أخذها الشهود وريحها يوجد منه أو هو سكران، فذهبوا به من مصر إلى مصر فيه الإمام فانقطع ذلك قبل أن ينتهوا به حد في قولهم جميعا؛ لأن هذا عذر كبعد المسافة في حد الزنا والشاهد لا يتهم به في مثله.
ومن سكر من النبيذ حد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرائحة، ولا ينعدم عند عدمها.
قلت: عدم الحكم عند عدم الرائحة، باعتبار أن عدم الشرط أوجب عدم الحكم، بل لعدم الإجماع على الحد على ذلك التقدير؛ لأن إجماعهم لا يصح بدون رأي ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو لم ير الحد عند انقطاع الرائحة.
فإن قلت: إن لم يوجد الإجماع فقد وجد النص، وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «من شرب الخمر فاجلدوه» وليس فيه اشتراط الرائحة.
قلت: قد خص منه الشرب اضطرارا أو إكراها، فتمكنت الشبهة، فلا يصح إيجاب الحرية قوله وهما متنافيين.
قلت: الحديث من قبل الآحاد، ولمثله لا يثبت الحد، والإجماع حجة قطعية، فيثبت به.
م: (فإن أخذه الشهود وريحها يوجد منه، أو هو سكران فذهبوا به من مصر إلى مصر فيه الإمام، فانقطع ذلك قبل أن ينتهوا به) ش: بهذا السكران، أي انقطع ريح الخمر قبل أن يشهد بهذا السكران إلى الإمام م: (حد في قولهم) ش: أي قول أئمتنا الثلاثة م: (جميعا) ش: يعني بلا خلاف بينهم؛ لأن زوال الرائحة بالعذر لا يضر، وفي " المحيط " كما لو زالت الرائحة بالمعالجة، والأصل فيه قوما شهدوا عند عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على عقبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بشرب الخمر وهو كان بالكوفة، فحمله عثمان إلى المدينة وأقام عليه الحد: م: (لأن هذا عذر كبعد المسافة في حد الزنا، والشاهد لا يتهم به في مثله) ش: يعني في صورة زوال الرائحة بالعذر.
[من سكر من النبيذ]
م: (ومن سكر من النبيذ حد) ش: النبيذ على وزن فعيل بمعنى مفعول، وهو الذي يعمل من الأشربة من التمر والنبيذ والعسل والحنطة والشعير والذرة والأرز، ونحو ذلك من نبذت التمر إذا ألقيت على غلبته الماء لتخرج على حلاوته البتة.
وسواء كان مسكرا أو غير مسكر، فإنه يقال له نبيذ، ويقال للمعتصر من العنب نبيذ الماء، يقال للنبيذ خمر وما يتخذ من الزبيب شيئان نقيع ونبيذ، فالنقيع أن ينقع الزبيب في الماء ويترك أياما لتخرج حلاوته إلى الماء، ثم يطبخ أدنى طبخة، فما دام حلوا يحل شربه، وإذا غلا واشتد وقذف بالزبد يحرم.
وأما النبيذ فهي التي من ماء الزبيب إذا طبخ أدنى طبخة يحل به مادام حلوا، وإذا غلا واشتد وقذف الزبد عليه على قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله الآخر يحل شربه ما(6/353)
لما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقام الحد على أعرابي سكر من النبيذ، وسنبين الكلام في حد السكر ومقدار حده المستحق عليه إن شاء الله تعالى،
ولا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها؛ لأن الرائحة محتملة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دون السكر.
وعند محمد والشافعي - رحمهما الله لا يحل وما يتخذ من التمر ثلاثة السكر والنضيخ والنبيذ، فالنبيذ هو ماء التمر إذا طبخ أدنى طبخة يحل شربه في قولهم ما دام حلوا وإذا غلا واشتد وقذف بالزبد، عن أبي حنيفة وأبي يوسف يحل شربه للتداوي والتقوي إلا المعدي السكر. وقال محمد والشافعي - رحمهما الله لا يحل. وإنما قال: ومن سكر من النبيذ قيد بالسكر فيه؛ لأنه شرط بخلاف الخمر.
فإنه يجب بشرب قطرة منها بدون السكر بالإجماع، والحد في غير الخمر لا يجب إلا بالسكر، وبه قال النخعي وأبو وائل.
وقال مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي والحسن وقتادة وعمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يحل في قليله وكثيره كالخمر والسكر ليس بشرب إذا كان هو المسكر.
م: (لما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقام الحد على أعرابي سكر من النبيذ) ش: هذا أخرجه الدارقطني في " سننه " عن سعيد بن ذي لعوة أن أعرابيا شرب من إداوة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نبيذا فسكر فضربه عمر الحد، قال الدارقطني: هذا لا يثبت، ورواه العقيلي في كتابه وزاد فيه: فقال الأعرابي: إنما شربته من إداوتك، فقال عمر: إنما جلدناك على السكر، وأعله بسعيد بن ذي لعوة وهو مجهول.
قال: وأسند تضعيفه عن البخاري، وقال في " التنقيح ": سعيد هذا مجهول.
فإن قلت: قوله حد غير معلوم ما هو من حيث الكمية.
قلت: وعد بيانه بقوله م: (وسنبين الكلام في حد السكر ومقدار حده المستحق عليه إن شاء الله تعالى) ش: ويأتي بيانه في هذا الباب عن قريب.
[من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها]
م: (ولا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها) ش: أي تقيأ الخمر م: (لأن الرائحة) ش: قال الأترازي: يرد عليه تعليله هذا إشكال؛ لأنه قال قبل هذا والتمييز بين الروائح ممكن للمستدلة قطع الإجماع أن الاحتمال هنا سكر. ثم قال: وتكلف بعضهم في توجيه ذلك، فقال الاحتمال في نفس الروائح قبل الاستدلال والاحتمال، كمن لم يعاينه والتمييز بعد الاستدلال على وجه الاستقصار.(6/354)
وكذا الشرب قد يقع عن إكراه واضطرار. فلا يحد السكران حتى يعلم أنه سكر من النبيذ وشربه طوعا؛ لأن السكر من المباح لا يوجب الحد كالبنج ولبن الرماك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أيضا: والتمييز ممكن لمن عاين الشرب والإكمال لمن لم يعاينه، وفيه نظر؛ لأن من عاين الشرب بنى الأمر على عيان وتعين لا على استدلال ويجيء.
وتخمين صاحب " الهداية " ثبت التمييز في صورة الاستدلال لا صورة العيان، فقد وقع. إذ كلام هذا الشارح عن [....] ، انتهى.
قلت: أراد بقوله وتكلف بعضهم فإنه كذا ذكره في شرحه والأكمل أيضا أخذ كلامه هذا، وذكره في شرحه وذكر الجوابين واستحسن الجواب الثاني. وقال في وجه حسنه لاشتماله على تغير تفسير المستدل.
فإنه يدل على أن المستدل هو من معه دليل، وهو معاينة الشرب، والجاهل هو من ليس معه ذلك، ثم قال: ويجوز أن يكون قوله لأن الرائحة م: (محتملة) ش: على مذهب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وكذا الشرب قد يقع عن إكراه واضطرار) ش: على قولهما، فلا يلزم بشيء، وحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حجة أيضا، فإنه لم يحده بوجود الرائحة، ولا يثبت بمثله الحد كالبنج ولبن الرماك، وبه قالت الثلاثة.
وفي " النهاية " وهو مخالف لما ذكر الإمام المحبوبي في " جامعه "، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن من زال عقله بالبنج إن علم أنه بنج فحينئذ لا يقع طلاقه وعتاقه، وإن لم يعلم يقع، ثم قال: والسكر من هذه الأشربة، وأشار إلى الأشربة المتخذة من الحبوب كالحنطة والشعير والذرة والشهد والعسل والفرصاد وغيرهما حرام بالإجماع؛ لأن السكر من البنج حرام لأنه مأكول غير مشروب، فمن المشروب أول بعض المشايخ، قالوا في زماننا الفتوى على ما إذا سكر من البنج يقع طلاقه ويحد [....] لغو هذا الفصل فيما بين الناس.
م: (فلا يحد السكران حتى يعلم أنه سكر من النبيذ وشربه طوعا؛ لأن السكر من المباح لا يوجب الحد كالبنج ولبن الرماك) ش: هذا مخالف لما ذكره المحبوب من قوله؛ لأن السكر من البنج حرام مع أنه مأكول غير مشروب، وقد ذكرناه الآن بما فيه الكفاية.
وقال الأكمل: هذا ليس بصحيح؛ لأن رواية المحبوبي تدل على أن السكر الحاصل من البنج حرام لا على أن البنج حرام. وكلام المصنف يدل على أن البنج مباح، ولا يأتي بينهما، انتهى.
قلت: فيما قاله تقوية لمن يولع بالبنج، وفيه من الفساد مالا يخفى. وقال في أشربته(6/355)
وكذا شرب المكره لا يوجب الحد ولا يحد حتى يزول عنه السكر تحصيلا لمقصود الانزجار،
وحد الخمر والسكر في الحر ثمانون سوطا لإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يفرق على بدنه، كما في حد الزنا على ما مر، ثم يجرد في المشهور من الرواية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخاصة وشرب البنج للتدواي، ولا بأس به فإن ذهبت بعقله لم يحل، وإن سكر منه لم يحد عندهما، خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: ينبغي اليوم أن يفتى بقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قطعا لمادة الفساد.
م:
[الإكراه يدرأ الحد]
(وكذا شرب المكره شرب المكره لا يوجب الحد) ش: لعدم اختياره م: (ولا يحد حتى يزول عنه السكر تحصيلا لمقصود الانزجار) . ش: لأنه إذا حد في حال السكر لا يجيء بألم الحد، حتى يؤيده ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه جلس سكران إلى حين يصح، فلما صح حده وبه قالت الأئمة الثلاثة.
م: (وحد الخمر والسكر في الحر ثمانون سوطا) ش: أي حد الخمر كيف ما شربها قليلا كان أو كثيرا بعد أن كان عن طوع سكر أو لم ينكر بسكر، ولو شرب قطرة وحد السكر بضم السين، وفي غير الخمر ثمانون سوطا، والحد في الخمر غير موقوف على السكر بالإجماع، وفي غيرها من السكران موقوف على السكر عندنا، خلافا للأئمة الثلاثة على ما يجيء في الأشربة إن شاء الله تعالى م: (لإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أي على الثمانين.
وروى البخاري في " صحيحه " من حديث السائب بن يزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: كنا نؤتي بالشارب على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإمرة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصدرا من خلافة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فجلد أربعين، حتى إذ عتو وسقوا جلد ثمانين ولا ينكر أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلد ثمانين بحضرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم ينكر عليه أحد منهم فحمل الإجماع.
به قال مالك وأحمد - رحمهما الله في رواية واختارهم ابن المنذر - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله في رواية أربعون، فلو ضرب قريبا من ذلك بأطراف الثياب والنعال. كفى على أصح الوجهين عنه ولو رأى الإمام أن يجلده ثمانين جاز على الظهر.
م: (يفرق على بدنه) ش: أي يفرق الثمانون على بدنه م: (كما في حد الزنا على ما مر) ش: في فصل كيفية الحد م: (ثم يجرد في المشهور من الرواية) ش: أي ثم يجرد المحدود عن ثيابه في جميع الحدود والتعزير إلا الإزار احترازا عن كشف العورة إلا حد القذف، فإنه يضرب، وعليه ثيابه إلا الحشو والفرو، فإن ذلك ينزع، وسيجيء بيانه في بابه إن شاء الله تعالى.(6/356)
وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجرد إظهارا للتخفيف؛ لأنه لم يرد به نص، ووجه المشهور أنا أظهرنا التخفيف مرة، فلا يعتبر ثانيا،
وإن كان عبدا فحده أربعون سوطا؛ لأن الرق منصف على ما عرف ومن أقر بشرب الخمر والسكر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجرد إظهارا للتخفيف؛ لأنه لم يرد به نص) ش: أي لعدم ورود النص بذلك. وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقال بعضهم في شرحه، أي نص قاطع فيه نظر؛ لأنه لا حاجة إلى التقييد بالقطع؛ لأنه لم يرد بالتحرير نص أصلا في كتب الحديث.
قلت: أراد بقوله قال بعضهم الكاكي فإنه قال: لم يثبت بالنص؛ لأنه لم يرد به النص القاطع، كذا قيل، وهو أيضا به إلى غيره، وأما الأكمل فإنه قال: يرد به نص، أي بالحد نص قاطع أو بالتجريد نص، وبقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قالت الثلاثة.
م: (وجه المشهور) ش: أي من الرواية م: (أنا أظهرنا التخفيف مرة) ش: يعني من حيث العد، حيث لم يجعله مائة كما في الزنا م: (فلا يعتبر ثانيا) ش: من حيث الصفة بترك التجريد. وقال الأكمل فيه بحث من وجهين الأول أنه ليس لأحد المجتهدين التصرف في المقدرات الشرعية، والثاني أن الثمانين تغليظ لا تخفيف؛ لأنه روي أنهم ضربوا في زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأكمام وبالأيدي وغير ذلك، ثم جلد أربعين، فالتقدير بعد ذلك تغليظ لا تخفيف.
والجواب أن قوله إنا أظهرنا للتخفيف، هذا كلام عن السلف المجتمعين، والتخفيف إنما هو باعتبار أن الله تعالى جاز له أن يقدر حد الشرب مائة كحد الزنا، إذ هو الفاعل المختار، وحيث لم ينص على مقدار معين كان تخفيفا منه، ولما جعله الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بحد من أظهر التخفيف، فلم يقدروا، انتهى.
وأما من أظهر التخفيف الذي كان ثانيا بترك التنصيص، وإليه أشار بقوله درءا لطائفة.
[حد العبد]
م: (وإن كان) ش: أي المحدود م: (عبدا فحده أربعون سوطا؛ لأن الرق) ش: أظهرنا التخفيف [ ... ] درءا لطائفة، وإن كان م: (أي المحدود التخفيف) ش: عبد يحده أربعون؛ لأن الرق م: (منصف على ما عرف) ش: في فصل كيفية الحد وإقامته. وقال الأترازي: على ما عرف، أي في أصول الفقه م: (ومن أقر بشرب الخمر والسكر) ش: بفتحتين هو بنقع التمر إذا غلا ولم يطبخ، كذا فسره الناطفي في " الأجناس " وقال في الخمر السكر كل شراب أسكر. وقال في " ديوان الأدب ": السكر خمر النبيذ. وقال في " المجمل " السكر شراب. وقال في " المغرب " السكر عصير الرطب، والمراد هنا ما ذكر الناطفي، وإنما خصه بالذكر مع أن الحكم سائر الأشربة كذلك، حيث يصح رجوعه؛ لأن السكر كان الغالب في بلادهم. قال الأترازي: ولا يروى السكر بضم السين؛ لأن شرب الخمر محال، اللهم إلا إذا قيل إنه معطوف على الشرب لا على الخمر، على أن معنى أقر بشرب الخمر أو أقر بالسكر فذلك صحيح من حيث العربية، لكن إلا(6/357)
ثم رجع لم يحد؛ لأنه خالص حق الله تعالى، ويثبت الشرب بشهادة شاهدين، ويثبت بالإقرار مرة واحدة. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يشترط الإقرار مرتين، وهو نظير الاختلاف في السرقة، وسنبينها هناك إن شاء الله تعالى.
م: ولا يقبل فيه شهادة النساء مع الرجال؛ لأن فيها شبهة البدلية وتهمة الضلال والنسيان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السماع لم يقع إلا على الأول ولكن الإقرار بالسكر لا يخلو إما أن يكون بعد زوال السكر، أو حال السكر، فالأول لا يجوز للتقادم. والثاني أيضا لا يجوز؛ لأن السكر لا يحل يحد بإقرار وهي مسألة آخر الكتاب. ورأيت في نسخة العلامة البرهاني - رَحِمَهُ اللَّهُ - بفتحتين. وكتب نسخة بخط شيخي وكتب على الحاشية، والرواية الصحيحة في الكتب السكر بفتح السين. ويروى بضم السين، ثم قال هكذا أفادني شيخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ثم رجع لا يحد؛ لأنه خالص حق الله تعالى) ش: لأنه لا يكذب له في الرجوع، وهو خالص حق الله تعالى، فصار كالرجوع في الإقرار بالزنا م: (ويثبت الشرب بشهادة شاهدين، ويثبت بالإقرار مرة واحدة) ش: وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وعامة أهل العلم.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه يشترط الإقرار مرتين) ش: في مجلسين اعتبارا لعدم الإقرار بعد المشهود م: (وهو نظير الاختلاف في السرقة، وسنبينها هناك إن شاء الله تعالى) ش: أي سنبين هذه المسألة في السرقة إن شاء الله تعالى
[شهادة النساء في حد الشرب]
(ولا يقبل فيه) ش: أي في حد الشرب م: (شهادة النساء مع الرجال) ش: ولا نعلم فيه خلافا.
م: (لأن فيها) ش: أي في شهادة النساء مع الرجال م: (شبهة البدلية وتهمة الضلال والنسيان) ش: ذكر هذه الأشياء الثلاثة إشارة إلى ما في قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] (البقرة الآية 282) إلى قوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] ، من رجالكم أي من أهل ملتكم.
أما شبهة البدلية، فلأن الله تعالى أثبت شهادتين مع الرجال عند عدم محض الرجال وما يكون عند عدم شيء آخر يكون كالبدل عنه، كما في التيمم والوضوء والماء.
قال: شبهة البدلية دون حقيقة البدلية؛ لأن شهادة النساء في المواضع التي جازت شهادتين يجوز من غير ضرورة العجز عن إشهاد الرجال، بخلاف سائر الأبدال. وأما تهمة الضلال فلأن الله تعالى قال: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] (البقرة الآية 282) أي: أن لا تصدق إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، أن لا تهتدي إحداهما للشهادة، ومن ضل الطريق إذا لم يهتد إليه، فتذكر الأخرى. وأما النسيان فيؤخذ من تذكير إحداهما الأخرى.
وفي التفسير: " الضلال ": النسيان، فالمعنى على هذا من أضل، أي تضل إحداهما الشهادة، أي تنسى فتذكرها الأخرى، فعلى هذا يكون قوله: والنسيان بالعطف على الضلال عطف تفسير، كذا قاله شيخي العلامة.(6/358)
والسكران الذي يحد هو الذي لا يعقل منطقا لا قليلا ولا كثيرا، ولا يعقل الرجل من المرأة، وقال العبد الضعيف: وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: هو الذي يهذي ويختلط كلامه؛ لأنه هو السكران في العرف، وإليه مال أكثر المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإذا كان كذلك صارت البدلية والنسيان شبهة، فلم يسمع شهادتين في باب الحدود؛ لأنها تندرئ بالشبهات كالشهادة لا تسمع في باب الحدود، يؤيده ما روي عن الزهري أنه قال: مضت السنة من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخليفتين من بعده أن لا شهادة للنساء في باب الحدود والقصاص.
[صفة السكران الذي يحد]
م: (والسكران الذي يحد هو الذي لا يعقل منطقا) ش: قال الجوهري: المنطق الكلام، وقد نطق منطقا وأنطقه غيره م: (لا قليلا ولا كثيرا) ش: أي: لا منطقا قليلا ولا منطقا كثيرا م: (ولا يعقل الرجل من المرأة) ش: وفي الفوائد الظهيرية: ولا يعرف الأرض من السماء.
م: (وقال العبد الضعيف) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهذا) ش: أي المذكور في حد السكران م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: إنما بين الخلاف بقوله لأن المذكور أولا من مسائل " الجامع الصغير " ولم يذكر فيه الخلاف.
م: (وقالا) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (هو) ش: أي السكران م: (الذي يهذي) ش: بفتح الياء وسكون الهاء وكسر الذال المعجمة. قال الجوهري: هذا في منطقه يهذي ويهذو هذوا وهذيا. قلت: الهذيان كلام محيط مختلط من غير أن يفيد شيئا م: (ويخلط كلامه) ش: يصلح أن يكون تفسيرا مميزا لقوله: يهذي م: (لأنه) ش: أي لأن الهذي يهذي ويخلط كلامه م: (هو السكران في العرف) ش: أي في عرف الناس وعادتهم، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك وأبو ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وإن كان نصف كلامه هذيانا، ونصفه مستقيما فليس بسكران م: (وإليه) ش: أي إلى قولهما م: (مال أكثر المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: كذا في " المبسوط " واختاره للفتوى.
وعن بشر بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سألت أبا يوسف: من السكران الذي عليه الحد؟ قال: يستقرأ أن يقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ولا يقدر عليه.
فقلت له: غير هذه السورة، وربما أخطأ فيه الصاحي، قال: لأن الله تعالى بين الذي عجز عن قراءة هذه السورة سكران؛ لأن واحد من الصحابة صلى بالناس قبل تحريم الخمر وكان سكران، وقرأ هذه السورة، بخلاف ما أنزلت، فنزل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] (النساء: الآية 43) ، فثبت أنه إذا عجز عن قراءة هذه السورة عرف أنه سكران.
كذا ذكره الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -، يدل عليه ما حدثه الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " جامعه " بإسناده إلى [أبي سلمة بن] عبد الرحمن السلمي «عن علي بن أبي طالب رضي الله(6/359)
وله أنه يؤخذ في أسباب الحدود بأقصاها درءا للحد، ونهاية السكر أن يغلب السرور على العقل فيسلبه التمييز بين شيء وشيء وما دون ذلك لا يعرى عن شبهة الصحو، والمعتبر في القدح المسكر في حق الحرمة ما قالاه بالإجماع أخذا بالاحتياط.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه - قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طعاما، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 2] ونحن نعبد ما تعبدون. قال فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] » (النساء: الآية43) .
وقال الكاكي: وحكي أن أئمة بلخ اتفقوا على استقراء هذه السورة، ثم إن بعض الشرطة أتى بسكران إلى أمير بلخ، فأمر الأمير أن يقرأ هذه السورة، فقال السكران له: اقرأ أنت سورة الفاتحة، فلما قال الأمير: الحمد لله، قال السكران: قف أخطأت من وجهين.
أحدهما: أنك تركت التعوذ عند افتتاح القراءة.
والثاني: تركت التسمية وهي آية من أول الفاتحة عند بعض الأئمة والقراء، فخجل الأمير وجعل يضرب الشرطي ويقول له: أمرتك أن تأتيني بسكران فأتيتني بمقرئ بلخ.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنه يؤخذ في أسباب الحدود بأقصاها درءا للحد) ش: أي دفعا له، ألا ترى أن في الزنا يعتبر المخالطة كالميل في المكحلة، وفي السرقة يعتبر الأخذ من الحرز التام فكذا هنا اعتبر أقصى غايات السكر، وهو أن يبلغ مبلغا لا يعرف الأرض من السماء والرجل من المرأة.
وإذا لم يبلغ هذا المبلغ في غير الخمر من سائر الأشربة المحرمة لا يحد؛ لأن السكر تناقص في النقصان شبهة العدم، بخلاف الخمر حيث لم يشترط فيها السكر أصلا؛ لأن حرمتها غليظة قطعية؛ لأنها اجتهادية.
م: (ونهاية السكر أن يغلب السرور على العقل، فيسلبه التمييز بين شيء وشيء وما دون ذلك لا يعرى عن شبهة الصحو) ش: يعني إذا كان يميز بين الأشياء، عرفنا أنه مستعمل لعقله مع غاية من السرور، فلا يكون ذلك نهاية في السرور وفي النقصان شبهة العدم، والحدود تندرئ بالشبهات بالزمان.
م: (والمعتبر في القدح المسكر) ش: يعني في الأشربة المحرمة غير الخمر المعتبر في القدح الذي يحصل به السكر م: (في حق الحرمة ما قالاه) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - هو الذي يهذي ويخلط كلامه.
حاصل الكلام المبلغ في السكر هو الذي قالاه، وأشار بقوله م: (بالإجماع أخذا) ش: أي أن(6/360)
والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر ظهور أثره في مشيته وحركاته وأطرافه وهذا مما يتفاوت، فلا معنى لاعتباره، ولا يحد السكران بإقراره على نفسه لزيادة احتمال الكذب في إقراره، فيحتال لدرئه؛ لأنه خالص حق الله تعالى، بخلاف حد القذف؛ لأن فيه حق العبد، والسكران فيه كالصاحي عقوبة عليه، كما في سائر تصرفاته، ولو ارتد السكران لا تبين منه امرأته؛ لأن الكفر من باب الاعتقاد فلا يتحقق مع السكر، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله وفي ظاهر الرواية تكون ردة، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبا حنيفة درأ الحد م: (بالاحتياط) ش: فاعتبر في إيجاب الحد النهاية، إذ الاحتياط في الدرء واعتبر في حق الشرب ما قالاه؛ لأن الاحتياط فيه م: (والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر) ش: يعني السكر م: (ظهور أثره) ش: أي أثر المسكر م: (في مشيته) ش: بكسر الميم م: (وحركته وأطرافه) ش: أي في يديه ورجليه. وقال الأترازي وصاحب " الهداية " في هذا الكلام فخر الإسلام البزدوي قال في شرح " الجامع الصغير " إذا ظهر أثره في مشيته وأطرافه وحركاته فهو السكران. ولنا فيه نظر؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يوجب الحد في شرب النبيذ المسكر به جنسه، وإن قيل: وهو المذكور في كتبهم، ولا يعتبر السكر أصلا.
م: (وهذا) ش: أي الذي قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (مما يتفاوت) ش: لأن كم من صاح يتمايل ويلزق في مشيته، وكم من سكران ثابت في مشيته ولا يتمايل م: (فلا معنى لاعتباره) ش: أي لاعتبار ما قاله؛ لأنه لا يكون دليلا م: (ولا يحد السكران بإقراره على نفسه) ش: يعني بالحدود الخالصة حقا له تعالى، نحو حد الزنا والشرب والسرقة م: (لزيادة احتمال الكذب في إقراره) ش: لأن الإقرار خبر محتمل الكذب. فإذا صدر من سكران فهذا زيادة احتمال كذبه، فإذا كان كذلك م: (فيحتال لدرئه) ش: لأن الحدود يحتال لدرئها لا لإثباتها م: (لأنه خالص حق الله تعالى) ش: إلا أنه يضمن المروق؛ لأنه حق العبد.
م: (بخلاف حد القذف؛ لأن فيه حق العبد) ش: إلا أنه يحد حد القذف إذا صح م: (والسكران فيه) ش: أي في حق العبد م: (كالصاحي عقوبة عليه، كما في سائر تصرفاته) ش: كالقصاص أقر على نفسه أو بطلاق أو بعتاق صح إقراره.
م: (ولو ارتد السكران لا تبين منه امرأته) ش: في الاستحسان وفي القياس تبين كذا في " المبسوط " م: (لأن الكفر من باب الاعتقاد فلا يتحقق) ش: الاعتقاد م: (مع السكر، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله، وفي ظاهر الرواية: تكون ردة) ش: لأن كلامه هذا هذيان لا إقرار له والله أعلم بالصواب.(6/361)
باب حد القذف وإذا قذف الرجل رجلا محصنا أو امرأة محصنة بصريح الزنا وطالب المقذوف بالحد حده الحاكم ثمانين سوطا إن كان حرا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] إلى أن قال: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] (النور: الآية 4) ، والمراد الرمي بالزنا بالإجماع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب حد القذف] [قذف الرجل رجلا محصنا أو امرأة]
م: (باب حد القذف) ش: أي هذا باب في بيان حكم حد القذف، وهو في اللغة: الرمي، وفي اصطلاح الفقهاء: نسبة من أحصن إلى الزنا صريحا أو دلالة، فكأن القاذف وضع حجر القذف في مقدمة لسانه ورمى إلى المقذوف، والقذف من الكبائر بإجماع الأئمة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجتنبوا الموبقات، قيل: ما هن يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرمها الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» متفق عليه.
م: (وإذا قذف الرجل رجلا محصنا أو امرأة) ش: أي أو قذف امرأة م: (محصنة بصريح الزنا) ش: بأن قال المحصن: يا زاني، والمحصنة: يا زانية، أو قال: يا ولد الزنا، أو يا ابن الزنا، أو لست لأبيك وأمه حرة مسلمة م: (وطالب المقذوف بالحد) ش: أي طالب المقذوف القاذف عند الحاكم م: (حده الحاكم ثمانين سوطا إن كان حرا) ش: هذا مشتمل على قيود:
الأول: وجود الحد بالقدف، سواء كان القاذف رجلا أو امرأة.
الثاني: أن يكون القاذف من أهل العقوبة، وإلا فلا حد عليه كالصبي والمجنون.
الثالث: التقييد بصريح الزنا؛ لأن حد القذف لا يجب بالكتابة، حتى لو قال رجل لرجل: يا زاني، فقال رجل آخر: صدقت لم يحد المصدق، لأنه ما صرح بنسبته إلى الزنا بتصديقه إياه.
الرابع: أن يطالب المقذوف والأقذف ترك حقه، فلا يستوي الحد حينئذ.
الخامس: قيد بالحر؛ لأن القاذف إذا كان عبدا فحده أربعون على ما يأتي.
السادس: قيد الرجل ثمانين في الحر؛ لأن ذلك منصوص في الآية.
السابع: الشرط كون المقذوف محصنا على ما يأتي.
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] إلى أن قال: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] (النور: الآية 4) (والمراد الرمي بالزنا بالإجماع) ش: أي بإجماع العلماء. قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - ملخصا من كلام صاحب " النهاية " واعترض أن التقييد بصريح الزنا غير مقيد لمتحققه بدونه، بأن قال: لست لأبيك، وكان القياس أن لا يجب المطالبة؛ لأن حق الله فيه غالب، والمغلوب في مقابلته كالمستهلك وحيث فليست مطالبة المقذوف بلازمة، فإن ابنه إذا طالبه حد.(6/362)
وفي النص إشارة إليه وهو اشتراط أربعة من الشهداء، إذ هو مختص بالزنا، ويشترط مطالبة المقذوف لأن فيه حقه من حيث دفع العار وإحصان المقذوف لما تلونا. قال:
ويفرق على أعضائه لما مر في حد الزنا، ولا يجرد من ثيابه؛ لأن سببه غير مقطوع به، فلا يقام على الشدة بخلاف حد الزنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والجواب: أنه إذا قذفه بصريح ووجد الشروط وجب الحد لا محالة، فتلك قضية صادقة، وأما إذا قذفه بنفي النسب لا يجب فليس لأن التقييد لإخراج ما كان فيه بطريق الكناية. مثل أن يقول: يا زاني، فقال الآخر: صدقت، لا لآخر لما ذكرت وحق العبد، وإن كان مغلوبا لكن يصلح اشتراط مطالبته احتيالا للدرء، وابن المقذوف وإنما يقدر على المطالبة لقيامه مقام المقذوف، ولهذا لم يكن له حق المطالبة إلا إذا كان المقذوف ميتا ليتحقق قيامه مقامه من كل وجه.
م: (وفي النص إشارة إليه) ش: أي إلى الرمي بالزنا م: (وهو اشتراط أربعة من الشهداء) ش: حيث قال: فإن لم يأتوا بالشهداء م: (إذ هو مختص بالزنا) ش: الضمير في إذ هو يرجع إلى اشتراط الأربعة، معناه أن الزنا هو المختص بأربعة شهداء.
م: (ويشترط مطالبة المقذوف؛ لأن فيه حقه من حيث دفع العار) ش: صورة المطالبة أن يقول: هذا قذفني وأن لي عليه حد القذف فأنه أطالبه بذلك. وسأل تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأن الغلبة فيه لحق أبيه، فلا يشترط الطلب.
قلت: الجواب قد مر آنفا من كلام صاحب " النهابة " و " الهداية " م: (وإحصان المقذوف) ش: أي يشترط إحصان المقذوف م: (لما تلونا) ش: إشارة إلى قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] (النور: الآية 4) .
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره " م:
[حد العبد القاذف]
(ويفرق على أعضائه) ش: أي يفرق الضرب على أعضاء القاذف م: (لما مر في حد الزنا) ش: أن الجمع في عضو واحد قد يفضي إلى التلف وإنما يفرق على الأعضاء ما خلا الوجه والرأس والفرج م: (ولا يجرد من ثيابه) ش: هذا أيضا لفظ القدوري م: (لأن نسبه) ش: أي سبب الحد وهو القذف م: (غير مقطوع به) ش: لاحتمال كون القاذف صادقا في القذف في الواقع، وإن كان عاجزا عن إقامة البينة على ما قذف، لاشتراط أمور في الشهادة على زنا المقذوف.
فلما يتهيأ للشهود تحقيق ذلك عند القاضي، فلما جرى في القذف احتمال الصدق لم يجرد من ثيابه طلبا للخفة في إقامة الحد، وهو معنى م: (فلا يقام على الشدة، بخلاف حد الزنا) ش: سببه مقطوع به لثبوته بالبينة أو بالإقرار، فيجرد الذي يقام عليه الحد، إلا الإزار توقيا عن كشف العورة، فيقام على الشدة، إلا شارب الخمر فإنه لا يجرد وقد مر.(6/363)
غير أنه ينزع عنه الفرو، والحشو؛ لأن ذلك يمنع إيصال الألم به، وإن كان القاذف عبدا جلد أربعين سوطا لمكان الرق. والإحصان أن يكون المقذوف حرا عاقلا بالغا مسلما عفيفا عن فعل الزنا أما الحرية فلأنه ينطلق عليه اسم الإحصان، قال الله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] (النساء: الآية 25) أي الحرائر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (غير أنه ينزع عنه الفرو والحشو؛ لأن ذلك) ش: أي الفرو والحشو م: (يمنع إيصال الألم به) ش: أي بالمحدود م: (وإن كان القاذف عبدا جلد أربعين سوطا لمكان الرق) ش: وقد مر أي الرق منصف م: (والإحصان) ش: شرع في بيان شروط الإحصان، وهي خمسة: فبينها بقوله: م: (أن يكون المقذوف حرا عاقلا بالغا مسلما عفيفا عن فعل الزنا) ش: هذا باتفاق العلماء إلا ما روي عن داود الظاهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه أوجب الحد على قاذف العبد.
وعن ابن المسيب وابن أبي ليلى -رحمهما الله - يجب أن يحد بقذف الذمية التي لها ولد مسلم. وعن أحمد في رواية: لا يشترط البلوغ، بل يشترط بحيث أن يكون بجامع، وفي الأصح: يشترط كالعلامة.
قوله: والإحصان إلى قوله: عن فعل الزنا لفظ القدوري في " مختصره "
وشرع المصنف في تبيين كل ذلك بدلائله فقال: م: (وأما الحرية فلأنه ينطلق عليه اسم الإحصان قال الله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] (النساء: الآية 25) أي الحرائر) ش: يعني إن شاء الله تعالى، أراد بقوله: فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، الحرائر لا الإماء، فدل على أن الرقيق ليس بمحصن.
وقال تاج الشريعة: فإن قلت: قال الله عز وجل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25] والمراد منه الإماء.
قلت: الإحصان يذكر ويراد منه الحرائر فشرطنا الحرية احتيالا للدرء.
وقال الكاكي: فإن قيل: المحصنات جاءت في القرآن بأربع معان:
أحدهما: بمعنى العفائف.
والثاني: بمعنى الحرائر.
والثالث: بمعنى الزوجات {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]
والرابع: بمعنى الإسلام، قال تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25] قال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إحصانها إسلامها، فيمكن أن يكون العبد محصنا بجهة، وغير محصن بجهة، فكيف يلزم أن يكون الحرية شرط الإحصان في القذف، قلنا: لما لم يكن العبد محصنا من وجه لم يدخل تحت الآية لقصوره فيه، وعليه أجمع الفقهاء.(6/364)
والعقل والبلوغ؛ لأن العار لا يلحق بالصبي والمجنون لعدم تحقق فعل الزنا منهما. والإسلام لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: من أشرك بالله فليس بمحصن. والعفة؛ لأن غير العفيف لا يلحقه العار، وكذا القاذف صادق فيه.
ومن نفى نسب غيره وقال: لست لأبيك فإنه يحد، وهذا إذا كانت أمه حرة مسلمة لأنه في الحقيقة قذف لأمه؛ لأن النسب إنما ينفى عن الزاني لا عن غيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[شروط الإحصان]
م: (والعقل والبلوغ؛ لأن العار لا يلحق بالصبي، والمجنون لعدم تحقق فعل الزنا منهما) ش: أي من الصبي والمجنون، وبقولنا قال الشافعي وأحمد ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، إلا أن مالكا قال في المحصنة التي يجامع مثلها تحد [ ... ] وإن لم تكن محصنة.
فإن قيل: لو لم يتحقق قبل الزنا منهما، فينبغي أن يجب الحد، على قاذف المجنون زنى حالة جنونه ولا يحد، وإن قذفه بعد قاذفه.
أجيب: بأن معنى قوله لعدم تحقق فعل الزنا منهما الزنا الذي يأثم صاحبه ولم يتحقق الزنا الموجب للإثم لعدم الخطاب.
وأما الوطء الذي هو غير مملوك قد يتحقق منهما، وبالنظر إلى هذا كان القاذف صادقا قذفه، فلا يجب الحد على القاذف، ولا على المقذوف كمن قذف رجلا وطئ الشبهة أو وطئ جاريته المشتركة بينه وبين غيره.
م: (والإسلام) ش: وأما شرط الإسلام م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أشرك بالله فليس بمحصن» هذا الحديث قد تقدم في حد الزنا، رواه إسحاق بن راهويه بإسناده عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومر الكلام فيه هناك.
م: (والعفة) ش: أي وأما اشترط العفة عن فعل الزنا م: (لأن غير العفيف لا يلحقه العار) ش: بالنسبة إلى الزنا: (وكذا القاذف الصادق فيه) ش: فلا يحد.
[نفى نسب غيره وقال لست لأبيك]
م: (ومن نفى نسب غيره، وقال: لست لأبيك فإنه يحد) ش: لأن معناه: أمك زانية، أو زنت فولدتك من الزنا، فلما كان هذا في الحقيقة قذفا للأم يشترط أن الأم محصنة حتى يحد القاذف، وإلا فلا، وهذا معنى قوله.
م: (وهذا) ش: أي وجود الحد م: (إذا كانت أمه حرة مسلمة؛ لأنه في الحقيقة) ش: أي في نفس الأمر هذا م: (قذف لأمه؛ لأن النسب إنما ينفى عن الزاني لا عن غيره) ش: تقريره أن فرض المسألة فيما إذا كان أبوه وأمه معروفين، ونسبه من الأم ثابت بيقين، وخفاه عن الأب المعروف، فكان دليلا بأنه زنى بأمه، وفي ذلك قذف لأمه لا محالة.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفي قوله: هذا قذف لأمه بالزنا فكأنه قال: أمك زانية؛ لأنه متى لم يكن من غير أبيه ضرورة، ولا نكاح لغير أبيه، فكان في نفس من أمه إلى الزنا ضرورة.(6/365)
ومن قال لغيره في غضب: لست بابن فلان لأبيه الذي يدعى له يحد، ولو قال في غير غضب: لا يحد؛ لأن عند الغضب يراد به حقيقة سبا له، وفي غيره يراد به المعاتبة بنفي مشابهته إياه في أسباب المروءة. ولو قال: لست بابن فلان يعني جده لم يحد؛ لأنه صادق في كلامه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: جاز أن لا يكون ثابت النسب من أبيه، ولا يكون ثابت وأمه زانية بأن كانت موطوءة بشبهة.
قلنا: إذا وطئت بشبهة كان الولد ثابت النسب من إنسان، وإنما لا يكون ثابت النسب من الأب إذا كانت هي زانية فعرف أنه بهذا اللفظ قاذف لأمه، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، إلا أن مالكا لا يشترط كون أمه وأبيه مسلمين حرين، بل يشترط نفي الإحصان، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في روايته، وفي " المبسوط ": وجوب الحد هاهنا بطريق الاستحسان لا القياس، وفي القياس: لا يجب إذا تركنا كالقيام بأثر ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا يحد في قذف محصنة أو نفي رجل عن أبيه.
فإن قلت: هذا كله إذا قال: لست لأبيك، فإذا قال: لست لأمك ما حكمه.
قلت: لا يحد، وبه صرح في " التحفة " لأنه صدق لأن النسب إلى الآباء لا إلى الأمهات. وقال الأترازي: يشترط في قوله ليست أن يكون على سبيل الغضب الباب، وإن كان في غير غضب فلا حد بدليل المسألة التي تلي هذه.
م: (من قال لغيره في غضب لست بابن فلان لأبيه الذي يدعى له) ش: وفي بعض النسخ يدعى إليه م: (يحد، ولو قال في غير غضب لا يحد؛ لأن عند الغضب يراد به حقيقة سبا له) ش: أي شتما له فيحد؛ لأنه يصير قاذفا لأمه م: (وفي غيره) ش: أي في غير غضب م: (يراد به المعاتبة بنفي مشابهته إياه) ش: وفي بعض النسخ أباه بالباء الموحدة م: (في أسباب المروءة) ش: منها الأخلاق الجميلة، وعن المعاشرة مع الأصحاب وإظهار الكرم.
فإن قيل: ما الفرق بين هذه وبين قوله في حالة الغضب أو غيرهما لست بابن فلان ولا ابن فلانة، وهي أمه التي يدعى لها حيث لا يكون قذفا، مع أن القذف يراد بهذا اللفظ.
أجيب: بأن قوله ولا ابن فلانة، يعني أن أمه وإنما ينتفي منها بانتفاء الولادة، وكان نفيا للولاة ونفي الولادة نفي للوطء، ونفي الوطء نفي الزنا، بخلاف ما إذا لم يصل لك بمعنى، ولا ابن فلانة نفي من الوالد وولادة الولد ثابتة من أمه، فصار كأنه قال أنت ولد الزنا، كذا في " الذخيرة ".
م: (ولو قال لست بابن فلان يعني جده) ش: يعني أراد به جده لا أباه م: (لم يحد؛ لأنه صادق في كلامه) ش: لأنه في الحقيقة ابن أبيه لا جده.(6/366)
ولو نسبه إلى جده لا يحد أيضا؛ لأنه قد ينسب إليه مجازا.
ولو قال له: يا ابن الزانية وأمه ميتة محصنة، فطالب الابن بحده حد القاذف؛ لأنه قذف محصنة بعد موتها، ولا يطالب بحد القذف للميت إلا من يقع القدح في نسبه بقذفه، وهو الوالد والولد؛ لأن العار يلتحق به لمكان الجزئية، فيكون القذف متناولا له معنى. وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يثبت حق المطالبة لكل وارث؛ لأن حد القذف يورث عنده على ما نبين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو نسبه إلى جده لا يحد أيضا؛ لأنه قد ينسب إليه مجازا) ش: قال الله تعالى {يابني آدم} [الأعراف: 26] ولمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الحدود روايتان، إلا أن يتهم جده بأمه أو أراد المسألة ويجب الحد رواية واحدة.
[قذف محصنة بعد موتها]
م: (ولو قال له يا ابن الزانية وأمه) ش: أي والحال أن أمه م: (ميتة محصنة، فطالب الابن بحده حد القاذف؛ لأنه قذف محصنة بعد موتها) ش: والموت لا يزيد الإحصان بل يؤكده، وإنما قيد بكون الأم محصنة؛ لأن الحد لا يجب على قاذف غير محصن؛ لأن الله تعالى شرط الإحصان بالأبد، ثم الإحصان يثبت بإقرار القاذف أو بالبينة على المقذوف، والبينة رجلان أو رجل وامرأتان عندنا خلافا لزفر.
فإنه يشترط رجلين، فإن أنكر القاذف عن البينة لا يستحق القاذف، فالقول قوله؛ لأن الظاهر يصلح للدفع لا للاستحقاق، فلا يثبت إحصانها بالظاهر، وإنما كانت المطالبة بالحد إلى الابن؛ لأن القذف بعد الموت ألحق الشتم بالابن، فكان حق المطالبة له لدفع العار عن نفسه.
م: (ولا يطالب بحد القذف للميت إلا من يقع القدح) ش: أي الطعن م: (في نسبه بقذفه، وهو الوالد والولد) ش: وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعني الوالد والجد وإن علا، وولد الولد وإن سفل؛ لأن الجد يسمى أبا وولد الولد يسمى ابنا، وليس للأخ والأخت والعم بأن يأخذوا بالحد م: (لأن العار يلتحق به) ش: أي بكل واحد من الوالد والولد م: (لمكان الجزئية فيكون القذف متناولا له معنى) ش: أي من حيث المعنى ورد بأن التعليل بالحرية غير صحيح لتخلف الحكم عنها وإذا كان المقذوف حيا غائبا.
فإنه ليس لأحد أن يأخذ بحده إذ ذاك. وأجيب بأن الأصل في الباب هو القذف لا محالة وغيره ممن بينه وبين حريته يقوم مقامه. وإنما يقوم الشيء مقام غيره إذا وقع اليأس عن الأصل، وإنما يقع اليأس بموته فلا يقوم غير مقامه قبل موته.
م: (وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يثبت حق المطالبة لكل وارث؛ لأن حد القذف يورث عنده) ش: أي عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يثبت حق المطالبة م: (على ما نبين) ش: أي عند قوله ومن قذف غيره ومات المقذوف بطل الحد.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يبطل، وبه قال مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -(6/367)
وعندنا ولاية المطالبة ليس بطريق الإرث بل لما ذكرناه، ولهذا يثبت عندنا للمحروم عن الميراث بالقتل، ويثبت لولد البنت كما يثبت لولد الابن خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ ويثبت لولد الولد حال قيام الولد، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وإذا كان المقذوف محصنا جاز لابنه الكافر والعبد أن يطالب بالحد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فمن يرثه؟ ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يريد جمع الورثة، والثاني: غير من ترث بالزوجية، والثالث: يرثه العصبات دون غيرهم.
م: (وعندنا ولاية المطالبة ليس بطريق الإرث، بل لما ذكرناه) ش: وهو بحق العلة م: (ولهذا) ش: أي ولأجل ولاية المطالبة للخوف من العار م: (ثبتت) ش: أي المطالبة م: (عندنا للمحروم عن الميراث بالقتل، ويثبت لولد البنت كما يثبت لولد الابن خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإنه روي عنه أن حق المطالبة لا يثبت لولد الميت؛ لأنه منسوب إلى أبيه لا إلى أمه، فلا يلحقه الشين بزنا أمه.
ألا ترى أنه لا يدخل ابن الميت البنت في الوقف على أولاده وأولاد أولاده. وفي الواقعات والفتوى على قول محمد.
وفي ظاهر الرواية الميت النسب يثبت منه، ويصير الولد به كريم الطرفين، فكان المقذوف ميتا دلالة، أما الوقف فهو ممنوع على رواية الحصان - رَحِمَهُ اللَّهُ - وليس مسلم، فالوقف في معنى الوصية التي هي أخت الميراث والولد فيه يثبت إلى الأب دون الأم.
ألا ترى أنه لا يحجب عن النصف والزوجة عن الربع ويحجبهما ولد الابن، فكذلك الحكم في الوقف.
م: (ويثبت) ش: أي المطالبة م: (لولد الولد حال قيام الولد خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإنه يقول ليس لولد الولد حال قيام الولد أن يخاصم؛ لأن الشين الذي يلحق الولد فوق ما يلحق ولد الولد، واعتبر هذا بطلب الكفارة.
فإنه لا خصومة فيه للأبعد مع بقاء الأقرب، ونحن نقول حق الخصومة باعتبار ما لحقه من الشين نسبة إليه، وذلك موجود في حق ولد الولد كوجوده في ابنه فإن خاصم يقام الحد لخصومته بخلاف القذف.
فإن حق الخصومة باعتبار تناول القاذف من عرضه مقصودا، وذلك لا يوجد في حق ولده وبخلاف الكفارة فإن طلبها إنما يثبت للإقرار لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الإنكاح إلى العصبات» وفي الحكم المركب على العصوبة يتقدم الأقرب على الأبعد.
م: (وإذا كان المقذوف محصنا جاز لابنه الكافر والعبد أن يطالب بالحد) ش: هذا لفظ القدوري في " مختصره "، وهذا إذا كان المقذوف ميتا؛ لأنه إذا كان حيا ليس للابن أن يطالب بالحد وإن(6/368)
خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو يقول القذف يتناوله معنى لرجوع العار إليه وليس طريقه الإرث عندنا، فصار كما إذا كان متناولا له صورة ومعنى. ولنا أنه عيره بقذف محصن، فيأخذه بالحد، وهذا لأن الإحصان في الذي ينسب إلى الزنا شرط ليقع تعييرا على الكمال، ثم يرجع هذا التعيير الكامل إلى ولده، والكفر لا ينافي أهلية الاستحقاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان المقذوف غائبا.
وإنما لم يعده القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالميت؛ لأنه ساق كلامه في قذف الميت قبل ذكر هذا، حيث ذكر ولا يطالب بحد القذف للميت إلا من يقع القدح في نسبه.
م: (خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإنه يقول ليس له أن يطالب بالحد م: (وهو) ش: أي زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يقول القذف يتناوله) ش: أي الابن م: (معنى) ش: أي من حيث المعنى لا من حيث الصورة م: (لرجوع العار إليه، وليس طريقه الإرث عندنا) ش: لأن حد القذف لا يورث م: (فصار كما إذا كان متناولا له) ش: أي للابن أو العبد م: (صورة ومعنى) ش: في رجوع العار إليه بأن قذفه إنسان بالزنا ابتداء لا يجب الحد، لعدم الإحصان لكفره أو رقه.
فكذا هذا، حاصله لو كان متناولا له صورة ومعنى فإن قذفه إنسان كما ذكرنا لم يجب عليه الحد لعدم الإحصان المقذوف.
فكذا هذا إذا تناوله معنى قبل قوله وليس طريقه الإرث غير مقيد له في هذا المقام؛ لأنه لو كان طريقه الإرث أيضا لم يكن له أن يخاصم؛ لأن المانع عن الإرث موجود، وهو الكفر أو الرق، وقيل تحريم كلامه أن الحد إما أن يجب في هذه الصورة على الغائب لقذفه أمه أو المقذوف نفس هذا الابن لا الكفر لا يجوز أن يكون لأجل أمه؛ لأن الحد لا يورث، ولا أن يكون لأجل نفسه؛ لأنه ليس بمحصن.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن القاذف م: (عيره) ش: بالعين المهملة، أي رماه بالعار، يعني القاذف عير الابن الكافر أو العبد م: (بقذف محصن) ش: وهذا ظاهر؛ لأن فرض المسألة فيه م: (فيأخذه بالحد) ش: لأن كل من عير بقذف محصن جاء أن يؤخذ بحده.
م: (وهذا) ش: إيضاح لما قبله م: (لأن الإحصان في الذي ينسب إلى الزنا شرط ليقع تعييرا على الكمال، ثم يرجع هذا التعيير الكامل إلى ولده) ش: فجاز له أن يأخذ بالحد.
م: (والكفر لا ينافي أهلية الاستحقاق) ش: قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولهذا تستحق الحقوق الراجعة إلى المعاملات كالديون ونحوها.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن قيل جاز أن يكون المانع موجودا، فلا يثبت الحكم على المقتضى، فأجاب بقوله والكفر لا ينافي أهل الاستحقاق استحقاق أهلية الخصومة. لأن(6/369)
بخلاف ما إذا تناول القذف نفسه؛ لأنه لم يوجد التعيير على الكمال بفقد الإحصان في المنسوب إلى الزنا،
وليس للعبد أن يطالب مولاه بقذف أمه الحرة، ولا للابن أن يطالب أباه بقذف أمه الحرة المسلمة؛ لأن المولى لا يعاقب بسبب عبده، وكذا الأب بسبب ابنه، ولهذا لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
استحقاقها باعتبار لحوق الشين، وذلك موجود في الولد الكافر والمملوك؛ لأن النسبة لا تنقطع بالرق والكفر.
م: (بخلاف ما إذا تناول القذف نفسه؛ لأنه لم يوجد التعيير على الكمال بفقد الإحصان في المنسوب إلى الزنا) ش: لأن شرط وجوب الحد الإحصان ولم يوجد
[ليس للعبد أن يطالب مولاه بقذف أمه الحرة]
م: (وليس للعبد أن يطالب مولاه بقذف أمه الحرة) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - صفة صورة قذف عبده وللعبد أم نسبة محصنة.
م: (ولا للابن) ش: أي وليس للابن أيضا م: (أن يطالب أباه بقذف أمه الحرة المسلمة) ش: وفي " الإيضاح " ولا حد وإن علا، ولا ابنه ولا أم أمه وإن يحلف، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
وقال مالك في المشهور: للابن أن يطالب أباه بقذف أمه به، قاله أبو ثور - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن المنذر م: (لأن المولى لا يعاقب بسبب عبده) ش: أي سائر الحقوق، ولهذا إذا قتله لا يقتل به فكذا لا يحد بعبده م: (وكذا الأب) ش: أي وكذا لا يعاقب الأب م: (بسبب ابنه) ش: لأن الولد مأمور بتعظيم الأبوين وممنوع عن إضرابهما، ولهذا نهى عن التأقيت والضرر في الحد أكثر من ضرر التأقيت، فيمتنع عنه كما يمنع من التأقيت.
م: (ولهذا) ش: أي وبعدم جواز معاقبة الوالد لأجل ولده م: (لا يقاد الوالد بولده) ش: أي إذا قتله لا يقتص لأجله، وهذا لفظ الحديث قدر روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يقاد والد بولده.
م: (ولا السيد بعبده) » ش: رواه الترمذي وابن ماجه -رحمهما الله عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولفظه: «لا يقاد الوالد بالولد» انتهى. وأخرج الحاكم في " المستدرك " عنه في حديث طويل، ولفظه: لو لم يسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يقاد مملوك عن مالك، ولا ولد عن والده لا حد فيها اقذفها» .. الحديث في قصة جارية مع سيدها، ولا السيد، أي ولا يقاد سيد بعبده إذا قتله ليس في الحديث، ولا سيد بعبده، قد بيناه.(6/370)
ولو كان لها ابن من غيره له أن يطالب بالحد لتحقق السبب وانعدام المانع.
ومن قذف غيره فمات المقذوف بطل الحد. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يبطل، ولو مات بعد ما أقيم بعض الحد بطل الباقي عندنا، خلافا له بناء على أنه يورث عنده، وعندنا لا يورث، ولا خلاف أن فيه حق الشرع وحق العبد، فإنه شرع لدفع العار عن المقذوف، وهو الذي ينتفع به على الخصوص، فمن هذا الوجه حق العبد، ثم إنه شرع زاجرا، ومنه سمي حدا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو كان لها ابن من غيره) ش: أي من غير القاذف، صورة ما قال الحاكم في " الكافي " رجل قال لابنه يا ابن الزانية وأمه ميتة، ولها ابن من غيره فجاء يطلب الحد م: (له أن يطالب بالحد لتحقق السبب) ش: أي سبب وجوب الحد وهو القذف م: (وانعدام المانع) ش: أي ولأجل انعدام المانع؛ لأن المانع عن إقامة الحد في حق الابن ولم يوجد في حق أخيه، وهو الأبوة يجب الحد إذا طالبه.
[قذف غيره فمات المقذوف هل يحد القاذف أم لا]
م: (ومن قذف غيره فمات المقذوف بطل الحد. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يبطل) ش: الحد بموت المقذوف م: (ولو مات) ش: أي المقذوف م: (بعد ما أقيم بعض الحد بطل الباقي عندنا خلافا له) ش: أي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (بناء على أنه يورث عنده) ش: أي بني هذا الخلاف بناء على أن حد القذف يورث عند الشافعي م: (وعندنا لا يورث، ولا خلاف أن فيه) ش: أي في حد القذف م: (حق الشرع وحق العبد) ش: وهذا لا خلاف فيه.
أما كونه حق الشرع فمن حيث إن نفعه يقع عاما بإخلاء العالم عن الفساد؛ لأنه ليس ثمة آدمي مختص به. وأما كونه حق العبد فلأن فيه صيانة العرض ودفع العار عن المقذوف ثم حق الله تعالى لا يجري فيه الإرث ولا يجري فيه التداخل ولا يسقط بإسقاط العبد.
وحق العبد يجري فيه الإرث، ولا يجري فيه التداخل، وأسقط بإسقاطه، وقد أشار المصنف إلى هذا بقوله م: (فإنه) ش: أي فإن حد القذف م: (شرع لدفع العار عن المقذوف، وهو الذي ينتفع به على الخصوص، فمن هذا الوجه) ش: قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي من هذين الوجهين وهو قوله: فإنه شرع لدفع العار عن المقذوف، وقوله: الذي ينتفع به على الخصوص مقدم الوجهين وجها، وذكر في " الجامع الصغير " الوجهين في م: (حق العبد) ش: لأن هذا يرجع إليه لا إلى الشرع.
م: (ثم إنه) ش: أي أن حد القذف م: (شرع) ش: حال كونه م: (زاجرا) ش: لأنه يزجر المقذوف م: (ومنه) ش: أي ومن كونه شرع زاجرا م: (سمي حدا) ش: وقد مضى الكلام في معنى الحد في أول كتاب الحدود.
وقال تاج الشريعة: حدا يدل على أنه حق الله؛ لأن ما يجب لله تعالى يسمى حدا كما في حد السرقة، وحد الزنا وحد الشرب وما يجب للعبد لا يسمى حدا، بل سمي قصاصا وتعزيرا.(6/371)
والمقصود من شرع الزاجر: إخلاء العالم عن الفساد، وهذه آية حق الشرع، وبكل ذلك تشهد الأحكام. وإذا تعارضت الجهتان فالشافعي مال إلى تغليب حق العبد تقديما لحق العبد باعتبار حاجته وغناء الشرع، ونحن صرنا إلى تغليب حق الشرع؛ لأن ما للعبد من الحق يتولاه مولاه، فيصير حق العبد مرعيا به، ولا كذلك عكسه؛ لأن لا ولاية للعبد في استيفاء حقوق الشرع إلا نيابة عنه، وهذا هو الأصل المشهور الذي يتخرج عليه الفروع المختلف فيها، منها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والمقصود) ش: أي القصد م: (من شرع الزاجر إخلاء العالم عن الفساد) ش: إذ لولا الزواجر لفسدت أحوال الناس م: (وهذه آية حق الشرع) ش: أي وهذا المذكور علامة حق الشرع م: (وبكل ذلك) ش: أي وبكل ما ذكر من حق الشرع وحق العبد م: (تشهد الأحكام) ش: أما الأحكام التي تشهد على أن حد القذف حق العبد، فاشتراط الدعوى في عدم بطلانه بالتقادم.
وإنه يجب على المستأمن ولا يعمل فيه الرجوع عن الإقرار ويقيمها القاضي بعلم نفسه، ولا يخلف القاذف، وأما الأحكام التي تشهد على أنه حق الله تعالى أن الإقامة للإمام والتنصيف بالرق وأنه لا ينقلب ما لا عنده سقوط. م: (وإذا تعارضت الجهتان) ش: أي جهة حق الشرع، وجهة حق العبد م: (فالشافعي مال إلى تغليب حق العبد) ش: قال ابن دريد: يقال غالب الرجل على فلان إذا حكم له بالغلب م: (تقديما لحق العبد) ش: أي لأجل تقديم حق العبد م: (باعتبار حاجته) ش: حرم: (وغناء الشرع) ش: مرعيا به حق العبد أولى بدفع حاجته وبه قال مالك وأحمد م: (ونحن صرنا إلى تغليب حق الشرع لله تعالى؛ لأن ما للعبد من الحق يتولاه مولاه) ش: يعني لو صرنا إلى تغليب حق الشرع يكون بعضهم حق لله تعالى مع كون حق العبد مرعيا؛ لأن مولى العبد له أن يستوفي ما للعبد على الناس دون العكس. وإنما يرجح حق العبد في مواضع يلزم من اعتبار حق الله تعالى إهدار حق العبد لانتهاء وفاء لحق الله تعالى؛ لأن الله غني والعبد محتاج، وهاهنا إن ترك الرعاية في حق الوارث من وجه لكن فيه رعاية حق القاذف من حيث السقوط بموت المقذوف، فإذا ثبت هذا الأصل، فنقول إنه لا يورث؛ لأن الإرث لا يجري فيما هو من حقوق الله تعالى؛ لأنه من خلافه الوارث المورث بعد موته، والله تعالى يتعالى عن ذلك.
فإن قلت: حق الله تعالى أيضا لا يسقط بموت المقذوف. قلت: نحن لا نقول بالسقوط، ولكن تعذر استيفائه لانعدام شرطه، فالشرط خصومة المقذوف، ولا يتحقق فيه الخصومة بعد الموت.
م: (فيصير حق العبد مرعيا به) ش: أي بحق الشرع كما قررناه الآن م: (ولا كذلك عكسه) ش: وهو أن يكون ما للمولى من الحق يتولاه عبده م: (لأنه لا ولاية للعبد في استيفاء حقوق الشرع إلا نيابة) ش: ولا نيابة هاهنا.
م: (وهذا) ش: أي كون حق العبد غالبا عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حق الله تعالى عندنا م: (هو الأصل المشهور الذي يتخرج عليه الفروع المختلف فيها منها) ش: أي من الفروع المختلف(6/372)
الإرث إذ الإرث يجري في حقوق العباد لا في حقوق الشرع، ومنها العفو، فإنه لا يصح عفو المقذوف عندنا ويصح عنده، ومنها أنه لا يجوز الاعتياض عنه، ويجري في التدخل وعنده لا يجري. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في العفو مثل قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومن أصحابنا من قال: إن الغالب حق العبد وخرج الأحكام، والأول أظهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيها م: (الإرث) ش: أي في حق القذف فعند الشافعي يجري فيه الإرث، وعندنا لا يورث م: (إذ الإرث يجري في حقوق العباد لا في حقوق الشرع، ومنها العفو، فإنه لا يصح عفو المقذوف عندنا ويصح عنده) ش:.
م: (ومنها أنه لا يجوز الاعتياض عنه) ش: أي أخذ المعوض عن حد القذف، وبه قال مالك م: (ويجري في التداخل عندنا وعنده) ش: أي وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لا يجري) ش: التداخل بقذف الجماعة بكلمة واحدة أو يقذف واحدا مرارا.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في العفو مثل قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عفو المقذوف مثل قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أنه يصح، وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله.
م: (ومن أصحابنا من قال أن الغالب حق العبد) ش: أراد من أصحابنا صدر الإسلام البزدوي فإنه ذكر في ((مبسوطه)) : أن الغالب حق العبد كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وخرج الأحكام) ش: عطفا على قول من قال، أي أجاب عن الأحكام التي تدل على أنه حق الله تعالى جواب يوافق المذهب، يقال في تفويض الإمام إن كل واحد لا يهتدي إلى إقامة الحد، وقال في عدم الإرث أي عدمه لا يستوجب كونه حق الله تعالى كالشفعة وخيار الشرط؛ لأن الإرث لا يجزئ في الأعيان.
وأجاب عن كون القصاص يورث بأنه في معنى مالك الغير؛ لأنه يملك إتلاف العين وملك الإتلاف ملك العين عند الناس، فإن الإنسان لا يملك شراء الطعام إلا الإتلاف، وهو الأصل، فصار كمن عليه القصاص كالمملوك لمن له القصاص، وهو باق، فيملك الوارث في حق استيفاء القصاص م: (والأول أظهر) ش: أي كون حق الله مغلبا أظهر، من كون حق العبد مغلبا، وعلى الأول عامة المشايخ.
وقال أبو بكر الرازي في شرحه ((لمختصر الطحاوي)) : أطلق محمد في بعض المواضع، أي حد القذف من حقوق الناس، وأطلق في بعضها أنه من حقوق الله تعالى، والعبارتان صحيحتان أما قوله إنه من حقوق الناس قائما أراد أن المطالبة من حقه لما خالفه عقد من الشيئين بقذفه، وتناوله في عرضه، ولو لم يطالب لم يحد. وقوله أنه من حقوق الله تعالى أراد به نفس الحد لا المطالبة لأنه ليس يمتنع أن يكون الحق لواحد، والمطالبة لواحد كالوكيل بالبيع يطالب، وملك(6/373)
قال: ومن أقر بالقذف ثم رجع لم يقبل رجوعه؛ لأن للمقذوف فيه حقا فيكذبه في الرجوع، بخلاف ما هو خالص حق الله تعالى؛ لأنه لا مكذب له فيه.
ومن قال للعربي: يا نبطي لم يحد لأنه يراد به التشبيه في الأخلاق أو عدم الفصاحة، وكذا إذا قال: لست بعربي لما قلنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثمن للآمر، وكذلك المشتري إذا كان وكيلا فإن قبض العبد إليه والملك للآمر.
[أقر بالقذف ثم رجع]
م: (ومن أقر بالقذف ثم رجع لم يقبل رجوعه؛ لأن للمقذوف فيه حقا، فيكذبه في الرجوع) ش: لأنه من الأحكام التي تشهد بكونه حق العبد، ولا يصح الرجوع فيه بعد الإقرار لوجود المكذوب، وهو العبد م: (بخلاف ما هو خالص حق الله تعالى) ش: منه حد الزنا والشرب والسرقة م: (لأنه لا مكذب له فيه) ش: فيقبل رجوعه، إلا أن في السرقة يسقط القطع، ويجب المال.
م: (ومن قال للعربي: يا نبطي لم يحد) ش: النبطي نسبة إلى نبط بفتحتين، وهم قوم ينزلون سواد العراق، قال الفرزدق في هجو طيء:
من أهل حرمران تصيفهم ... ومن أهل التمر كانت سطورها
وقال الفقيه أبو الليث: " النبطي ": رجل من غير العرب، وذكر عبد الله بن أحمد المالقي في تفسير المالقة الثالثة من كتاب ويسقور يدروس وبلاد الجرامقة هي بلاد النبط وهي الري والموصل والجزيرة فيما وصفه بعض الغرر حين م: (لأنه يراد به التشبيه في الأخلاق) ش: من حيث الخساسة والبخل م: (أو عدم الفصاحة) ش: أي أو يراد به عدم الفصاحة، فكأنه قال في عدم الفصاحة مثل النبطي، وكذا أي وكذا لا يحد إذا قال العربي ليس بعربي م: (لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله يراد به النسبة إلى آخره.
م: (وكذا إذا قال: لست بعربي) ش: من قبيلة فلان التي هو فيها لا يحد لما روي. وقال مالك وابن أبي ليلى: حد في رواية، والشافعي في قول: إذا نوى الشتم يحد لما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كان يقول: لا ولي برجل بقوله إلى كتابه ليست من قريش إلا جلدته، ولأنه لما نهاه، وعن قبيلته صار كفتقه عن الجد الأعلى.
وقلنا والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول وأحمد في أصح الرواية عنه لا يجب؛ لأنه قد يراد به التشبيه في الأخلاق والتشبيه في الجهل والكهنة، يعني عدم الفصاحة لا ولد بين التي عن الأب عادة كمن قال المصري بإقراري.
وفي " المبسوط ": ألا ترى أنه لو قال: أنت شامي أو كوفي ولا يريد بشيء من ذلك القذف ولا يحد وقدمنا إنه مروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه سئل عن رجل وقال القرشي: يا نبطي، فقال: لا حد عليه.
وأما الحديث فشاذ، ويمكن أن يكون قال ذلك بطريق التعزير؛ لأنه قال إلا جلدته، وما قال(6/374)
ومن قال لرجل: يا ابن ماء السماء فليس بقاذف؛ لأنه يراد به التشبيه في الجود والسماحة والصفاء؛ لأن ماء السماء لقب به لصفائه وسخائه وإن نسبه إلى عمه أو خاله أو إلى زوج أمه فليس بقاذف؛ لأن كل واحد من هؤلاء يسمى أبا، أما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا حد، وعن مالك إذا قال لعربي: يا رومي، أو يقال لفارسي: يا رومي أو لرومي يا فارسي، أو يقول: يا ابن الخياط لم يكن في بابه من بهذه الصفة ففي جميع ذلك يحد لدفع العار.
[ألفاظ لا تعد قذفا]
م: (ومن قال لرجل: يا ابن ماء السماء فليس بقاذف) ش: هذا لفظ القدوري في مختصره، وعلل المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله م: (لأنه يراد به التشبيه في الجود والسماحة) ش: لأن ماء السماء لا ينحل، بل يصب في ماء السهل والجبل، وسمي النعمان بن المنذر به وكانت أم المنذر يقال لها ماء السماء لحسنها، واشتهر المنذر بأمه فقيل له المنذر ابن ماء السماء، ثم سمي به النعمان لجوده وسخائه.
م: (والصفاء؛ لأن ماء السماء لقب به لصفائه وسخائه) ش: أي لقب بهذا اللفظ لأجل صفائه وسخائه، ولم يذكر من هو الملقب به، وقد ذكرنا أن النعمان بن المنذر لقب به، ولقب به أيضا المأتيسا، وهو لقب عمرو بن عامر قاله الأكمل.
قلت: عمرو بن عامر بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد وماء السماء لقب، [....
....] ، ومن [
..] لقب عمر ولقب به لأنه كان يلبس كل يوم حلقتين ثم يمر فيهما؛ لأنه كان يكره أن يعود فيهما، ويكره أن يلبسهما غيره.
و" مريقيا ": بضم الميم وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف القاف بعدها ياء أخرى مخففة ممدودة، وإنما سمي أبوه عامر بماء السماء لأنه في القحط أقام ماله مقام القطر، وكان غياثا لقومه مثل ماء السماء للأرض. وكانت أم المنذر بنت امرئ القيس أيضا فسمي بماء السماء لجمالها وحسنها، وأبوها عرف بن خيم بن مريقيا هو الذي ذكره حسان في قوله: أولاد حض حول قراءة اسم أبيهم قير بن مارية الكريم الفضل يسقون من ورد البريض النير عليهم, يرد ما بصفق بالرحيق السلاحسنة هو تقليد العنقاء، وسمي العنقاء لطول عنقه، ومارية ابنة ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية ثور عن أبيه وهي التي يضرب بها المثل، ويقال: خذها ولو بقرطي مارية، وكان يقوم ظاها بأربعين ألف دينار. وقيل: كان في موطء مارية درمان كبيض الحمام لم ير مثلها، ويقال: أول عربية تفوطت، والبريض بفتح الباء الموحدة موضع بدمشق، ويروى بالفتحات نهر بدمشق. قوله: بضيق، أي بمزج، والسلسل القذف السهل الدخول في الحلق.
م: (وإن نسبه إلى عمه) ش: أي وإن سب رجل رجلا إلى عمه، يعني قال أنت ابن فلان وإن أراد عمه م: (أو خاله) ش: أو نسبه إلى خاله م: (أو إلى زوج أمه) ش: أي أو نسبه إلى زوج أمه م: (فليس بقاذف) ش: أي لا يجب عليه بشيء م: (لأن كل واحد من هؤلاء يسمى أبا، أما(6/375)
الأول فلقوله تعالى: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] (البقرة: الآية133) ، وإسماعيل كان عما له، والثاني لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الخال أب، والثالث للتربية.
ومن قال لغيره: زنأت في الجبل وقال عنيت صعود الجبل حد، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحد لأن المهموز منه للصعود حقيقة قالت امرأة من العرب قالت امرأة من العرب: وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأول) ش: وهو ما إذا نسبه إلى عمه م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] (البقرة: الآية 133) ، وإسماعيل كان عما له، والثاني) ش: وهو ما إذا نسبه إلى خاله م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (الخال أب) ش: هذا حديث غريب وفي " الفردوس " لأبي شجاع الديلمي: عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا: «الخال والد من لا والد له» .
م: (والثالث) ش: وهو نسبته إلى زوج أمه م: (للتربية) ش: أي لأجل تربية أباه سماه أبا؛ لأن زوج الأم بقوله عليه على قيام الآباء فيجوز أن يسمى أبا مجازا، فلما صح إطلاق اسم الأب على كل واحد منهم لم يجب الحد بالنسبة إليهم. وقال ابن القاسم المالكي في النسبة إلى هؤلاء الحد، وعند أشهب المالكي: لا حد عليه لا في حال المشاعة.
[قال لغيره زنأت في الجبل هل يحد أم لا]
م: (ومن قال لغيره: زنأت في الجبل) ش: يعني بالهمزة موضع الباء م: (وقال عنيت) ش: أي قصدت بهذا اللفظ م: (صعود الجبل حد، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله) ش: وبه قال أحمد والشافعي في قول إذا لم ينو م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحد) ش: وبه قال الشافعي في قول م: (لأن المهموز منه) ش: أي من هذا اللفظ وهو الذقوم مستعمل م: (للصعود حقيقة) ش: وقد أراد حقيقة كلامه فيصدق، ولا يحد.
وقال وفي " الجمهرة " وغيره: زنأ في الجبل بالهمزة يزنأ زنأ أي صعد، وجاء زنأ نواز بمعنى صعد أيضا.
واستشهد المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لذلك بقوله م: (قالت امرأة من العرب) ش: وقال ابن السكيت: قالت امرأة من العرب ترقص ابنا لها وتقول: أشبه أبا أمك, أو أشبه عملي, ولا تكونن كهلوف, وكل يصبح في مضجعه قد انجدل م:
(وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل)
ش: وقال في كتاب " الزيول في شرح الإصلاح ": الأبيات ما هي لامرأة، وإنما هي لرجل رأى ابنا له ترقصه أمه، فأخذه من يدها وقال: أشبه أبا أمك يخاطب ابنه، وكان أبو أمه شريفا سيدا يقول: أشبه أبا أمك. أو أشبه عملي أي كن مثل أبي أمك أو مثلي، ولا تجاوزنا في النسبة إلى غيرنا وحذف بالإضافة عن عمل للضرورة.
وهذا الرجل هو قيس بن عاصم المنقري وأم ذلك الصبي منفوسة بنت زيد الفوارس بن(6/376)
وذكر الجبل يقرره مرادا، ولهما أنه يستعمل في الفاحشة مهموزا أيضا؛ لأن من العرب من يهمز الملين كما يلين المهموز، وحالة الغضب والسباب تعين الفاحشة مرادا، بمنزلة ما إذا قال: يا زانئ، أو قال: زنأت وذكر الجبل إنما يعين الصعود مرادا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صرار الصبي فأخذته أمه بعد ذلك فجعلت ترقصه وتقول
أشبه أخي أو أشبهن أباك, ... أما أبي فلن تنال ذاك
عن مثاله بذاك قوله أو أشبه عما قد ذكرنا أن أصله عملي الإضافة. وقال الكاكي: أو أشبه الحمل، ثم قال الحمل اسم رجل من العرب وهو حمل بن سعد بالحاء المهملة وفتح الميم.
وقال ابن ماكولا: الحمل بن سعد بن حارثة بن معقل بن كعب بن حكم بن جناب وفد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قوله كهلوف: بكسر الهاء وتشديد اللام الشيخ الهرم، ويقال الثقيل الجافي الذي لا خير فيه. قوله وكل بفتحتين هو الذي ينكل على غيره فيما يحتاج إليه.
وقال الكاكي: والكل العيال وليس كذلك؛ لأنه ظن أن الواو في وكل واو العطف، وفسر الكل بالعيال، بل الواو أصلية، وهو الكل بفتحتين وقد فسرناه، قوله قد انجدل أي قدامته، يراد أنه لا يستيقظ حتى يصح.
م: (وذكر الجبل يقرره مرادا) ش: أي تقرر الصعود مرادا منه. وقوله زنأت في الجبل يعني تأكيد أن يكون المهموز للصعود حقيقة.
م: (ولهما أنه) ش: أي أن لفظ زنأت م: (يستعمل في الفاحشة) ش: حال كونه م: (مهموزا أيضا) ش: يشير بهذا إلى أن المهموز مشترك بين الفاحشة والصعود م: (لأن من العرب من يهمز الملين كما يلين المهموز) ش: فمنهم العجاج، فإنه كان يهمز العالم والكايم، وقال
فحندق هامة هذا العالم
بهمزة اللين أيضا من جد في الهر العرب من التقاء الساكنين، فيقال دابة وشابة، وفي غير التقاء الساكنين كما همزة العجاج، وكما همزة الشاعر في قوله
[....
....
....
....
.....]
والدكالك جمع، وكذلك وهو الرجل المتراكم، والبرق بضم الباء الموحدة جمع برقة، وهي أرض غليظة فيها حجارة ورمل، والاستشهاد في لفظ المشتاق بالهمزة المفتوحة، فإنه في الأصل المشتاق بالألف الساكنة.
وهذا باب في التصريف يقال له باب الإبدال، وهو جعل حرف مكان غيره، ويعرف ذلك بأمره كما ذكر في موضعه، وحروف الإبدال أربعة عشر حرفا، منها الهمزة تبدل من حرف اللين للمضطر أو غير المضطر، لازم وجائز، فالبيان اللذان فيهما الإبدال من غير المضطر، فإن أرادت تفضيل هذا حقيقة فعليك بشرح [....
] ينشأ وحواشيه للعبد الضعيف.
م: (وحالة الغضب والسباب تعين الفاحشة مرادا) ش: يعني لما كان لفظ زنأت بالهمزة يعني(6/377)
إذا كان مقرونا بكلمة على، إذ هو المستعمل فيه. ولو قال زنأت على الجبل، قيل لا يحد لما قلنا وقيل يحد للمعنى الذي ذكرناه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
زنيت على لغة بعض العرب باعتبار التليين فيه، علم من ذلك أن القائل به أراد الزناء حقيقة، لأن يقبل هذا إلا في الغضب والمشاتمة، وصار هذا م: (بمنزلة ما إذا قال يا زانئ) ش: بالهمزة في آخره م: (أو قال: زنأت) ش: الخطاب وبالهمزة فقط، ففي هذين اللفظين يجب الحد، فكذلك في قوله زنأت في الجبل.
وقوله: وحالة الغضب كلام إضافي مرفوع بالابتداء وخبره. وقوله تعين الفاحشة من التعيين، أي الزنا، ومراد نصب على الحال، وإنما ذكره باعتبار أن المراد من الفاحشة الزنا.
م: (وذكر الجبل) ش: جواب لما قاله محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله وتقرره مرادا، بيانه أن ذكر الجبل م: (إنما يعين الصعود مرادا إذا كان) ش: أي لفظ زنأت م: (مقرونا بكلمة على) ش: لا بكلمة في م: (إذ هو المستعمل فيه) ش: يعني أن المستعمل في معنى الصعود أن يقال زنأ عليه لا زنأ فيه.
فإن قيل إن في تجيء بمعنى على، قال الله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] (طه: الآية 71) ، أي عليها. قلنا ذكر الزمخشري أنها على حقيقتها.
قاله الكاكي، ولكن عبارة الزمخشري شبه، لكن هكذا المصلوب في الجوع يتمكن الشيء المرعي في دعائه، فكذلك قال في جذوع النخل، انتهى.
قلت: هذا لا يساعد الكاكي في جوابه على ما لا يخفى.
فإن قيل: قال فخر الإسلام البزدوي في " شرح الجامع الصغير " قوله في الجبل لا يحتمل الصعود لا يقال زنأ فيه، يقال: زنأ عليه، كما قال الشاعر:
لاهم أن الحارث بن جميلة ... زنأ على أبيه ثم قتله
وأجاب عنه الأترازي بقوله: لا نسلم أنه لا يقال زنأ فيه، بل ما قال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - عكس اللغة، فلا يسمع؛ لأن الزنأ بالهمزة لم يسمع في قوانين اللغة إلا بلفظ في على لا بلفظ على، كما في قوله زنأ في الجبل، أما قوله زنأ على أبيه فليس مما نحن فيه المهموز من الثلاثي في وما احتج به ليس بمهموز من مزيد الثلاثي من باب التفعيل، فمعنى زنأ على أبيه، أي ضيق عليه.
م: (ولو قال زنأت على الجبل) ش: اختلف المشايخ فيه م: (قيل لا يحد لما قلنا) ش: إشارة إلى قوله إذا كان مقرونا بكلمة على م: (وقيل: يحد للمعنى الذي ذكرناه) ش: إشارة إلى قوله وحالة الغضب والسباب تعين الفاحشة مرادا.(6/378)
ومن قال لآخر: يا زاني، فقال: لا بل أنت فإنهما يحدان؛ لأن معناه لا بل أنت زان، إذ هي كلمة عطف يستدرك بها الغلط، فيصير الخبر المذكور في الأول مذكورا في الثاني. ومن قال لامرأته: يا زانية فقالت: لا بل أنت، حدت المرأة ولا لعان لأنهما قاذفان، وقذفه يوجب اللعان وقذفها الحد، وفي البداية بالحد إبطال اللعان؛ لأن المحدود في القذف ليس بأهل له، ولا إبطال في عكسه أصلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[مواضع يحد فيها القاذف والمقذوف]
م: (ومن قال لآخر: يا زاني فقال لا بل أنت) ش: أي بل أنت زاني م: (فإنهما يحدان) ش: يعني كلاهما يحدان م: (لأن معناه بل أنت زان إذ هي) ش: أي إذ هما كلمة بل م: (كلمة عطف يستدرك بها الغلط) ش: يعني بل من الحروف العاطفة موضوعة للإضراب عن الأول، والإتيان للثاني م: (فيصير الخبر المذكور في الأول) ش: وهو قوله يا زاني م: (مذكورا في الثاني) ش: أي في قوله بل أنت كما إذا قلت: جاءني زيد بل عمرو، معناه بل جاءني عمرو، فكذا هذا فيكون كل واحد منهما قاذفا، فيجب عليه الحد.
وقال الأترازي: في قوله فيصير الخبر المذكور في الأول فيه نظر؛ لأن المذكور فيه في مقام النداء لا يسمى خبرا.
ولو قال فيصير المذكور في الأول خبرا فيه كان أولى. وأجيب عنه: بأن المراد بالخبر الجزاء وحينئذ يستقيم الكلام؛ لأن أخبر خبرا خص، فيجوز أن يتعار الأعم.
فإن قيل: التصريح بالزنا شرط في إيجاب الحد ولم يوجد من الثاني، فكيف يجب عليه الحد.
قلت: أجيب بمنع نفي وجود الصريح إذ يفهم الزنا في أول ما قال، بل أنت في جواب قوله يا زان؛ لأن الجواب يتضمن إعادة ما في السؤال فيصير مثل التصريح، سواء كان قيل إذا كان كل واحد منهما قاذفا لصاحبه، فينبغي أن يكون قصاصا، فلا يجب الحد.
أجيب: بأن القذف فيه حق الله، وهو الأغلب في الفصاحة يلزم إسقاط حق الله تعالى، فلا يجوز ذلك، ولهذا لم يجز عفو المقذوف.
م: (ومن قال لامرأته: يا زانية، فقالت: لا بل أنت حدت المرأة، ولا لعان؛ لأنهما قاذفان، وقذفه يوجب اللعان، وقذفها الحد) ش: أي يوجب الحد.
م: (وفي البداية بالحد) ش: أي يحد المرأة م: (إبطال اللعان) ش: لأن اللعان شهادة وقد بطلت شهادة المرأة بحدها، وهو معنى قوله م: (لأن المحدود في القذف ليس بأهل له) ش: أي اللعان.
م: (ولا إبطال في عكسه أصلا) ش: يعني إذا قذف اللعان لا يبطل حد القذف عن المرأة م:(6/379)
فيحتال للدرء، إذ اللعان في معنى الحد.
ولو قالت: زنيت بك فلا حد ولا لعان، ومعناه قالت بعد ما قال لها يا زانية لوقوع الشك في كل واحد منهما؛ لأنه يحتمل أنها أرادت الزنا قبل النكاح فيجب الحد دون اللعان لتصديقها إياه، وانعدامه منه ويحتمل أنها أرادت زنائي ما كان إلا معك بعد النكاح؛ لأني ما مكنت أحدا غيرك، وهو المراد في مثل هذه الحالة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(فيحتال للدرء) ش: أي لدرء اللعان تحد المرأة بتقديمه م: (إذ اللعان في معنى الحد) ش: يعني قائم مقام حد القذف في حق الرجل ومقام حد الزنا في حق المرأة.
[قالت المرأة زنيت بك في جواب قول الرجل يا زانية]
م: (ولو قالت زنيت بك) ش: أي لو قالت المرأة زنيت بك في جواب قول الرجل يا زانية م: (فلا حد ولا لعان، ومعناه قالت بعدما قال لها يا زانية) ش: أي معنى قولها زنيت بك أنها قالت ذلك بعدما قال الزوج لها يا زانية كما قررناه، وفيه قياس واستحسان لم يذكرهما المصنف، وإنما لم يجب الحد ولا اللعان.
وبه قال أحمد استحسانا، وبه قال [ ... ] والقياس أن يلاعنها؛ لأن هذا ليس بتصديق منها له؛ لأن المرأة لا تزني بزوجها، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال أشهب: إلا أن يقول ذلك محابة ولم أرد قذفا ولا إقرارا فلا حد عليها. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حلفت أنها لم ترد الإقرار بالزنا ولم ترد قذفه بالزنا ويكتفي بين واحدة في وجه، وعليه الحدود وبها لأن هذا ليس بإقرار صحيح بالزنا.
وجه الاستحسان هو قوله: م: (لوقوع الشك في كل واحد منهما) ش: أي لوقوع الشك في كل واحد من الحد واللعان فلا يجب بالشك م: (لأنه يحتمل) ش: أي المرأة م: (أنها أرادت الزنا قبل النكاح، فيجب الحد دون اللعان) ش: أي لا يجب اللعان م: (لتصديقها إياه) ش: أي لتصديق المرأة زوجها.
م: (وانعدامه منه) ش: أي ولانعدام التصريف من الزوج م: (ويحتمل أنها أرادت زنائي ما كان إلا معك) ش: الخطاب للزوج، أي زنائي هو الذي وجد معك، يعني إذا كان الزنا موجود مني، فذاك الفعل الذي وجد مني معك م: (بعد النكاح) ش: وإلا فلا، وهو معنى قوله بعد النكاح م: (لأني ما مكنت أحدا غيرك، وهو المراد في مثل هذه الحالة) ش: أي في حالة سب الرجل امرأته بالزنا.
وفي " الفوائد الظهرية ": ولا معنى لما قال في الكتاب لا يحتمل بعد النكاح؛ لأن الوطء بعد النكاح لا يكون زنا، ومطلق القذف بالزنا محمول على الزنا حقيقة. وأجيب عليه بأن الزوج بقوله لها زانية أعصابها وهي ترد بقولها زنيت بك أعصب وأذنه ممسكة بقوله عز وجل: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] (النور: الآيه3) ، وسميت الوطء بعد النكاح زنا مجازا(6/380)
على هذا الاعتبار يجب اللعان دون الحد على المرأة لوجود القذف منه وعدمه منها، فجاء ما قلنا.
ومن أقر بولد ثم نفاه، فإنه يلاعن؛ لأن النسب لزمه بإقراره، وبالنفي بعده صار قاذفا فيلاعن، وإن نفاه ثم أقر به حد؛ لأنه لما أكذب نفسه بطل اللعان؛ لأنه حد ضروري صير إليه ضرورة التكاذب، والأصل فيه حد القذف، فإذا بطل التكاذب يصار إلى الأصل، وفيه خلاف ذكرناه في اللعان، والولد ولده في الوجهين لإقراره به سابقا أو لاحقا، واللعان يصح بدون قطع النسب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بطريق المشاكلة، كما في قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: الآية194) {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} [الشورى: 40] (الشورى: الآية40) .
م: (وعلى هذا الاعتبار) ش: أي على الاعتبار الاحتمالين المذكورين م: (يجب اللعان دون الحد على المرأة لوجود القذف منه) ش: أي من الزوج م: (وعدمه منها) ش: أي وعدم القذف من المرأة تقدير هذا على هذا الاعتبار لا يكون المرأة مصدقة لزوجها، فيجب اللعان على الزوج، ولا يجب الحد على المرأة، ففي حال لا يوجب الحد عليها، ويجب اللعان على الزوج، وفي حال يجب الحد عليها، ولا يجب اللعان فوقع الشك فيما قلنا إنه لا حد ولا لعان م: (فجاء ما قلنا) .
[رجل له امرأة جاء بولده فقال ليس هو مني]
م: (ومن أقر بولد ثم نفاه فإنه) ش: عن صورة رجل له امرأة جاء بولده فقال ليس هو مني م: (يلاعن؛ لأن النسب لزمه بإقراره) ش: يعني صار الولد ولده م: (وبالنفي بعده) ش: أي بقوله بعد الإقرار ليس هو مني م: (صار قاذفا فيلاعن) ش: لأن معناه أن أمه زمن فولدته عن الزنا، وكل قذف يوجب الحد إلا حد يوجب اللعان في قذف الزوج.
م: (وإن نفاه ثم أقر به حد) ش: أي وإن نفى ولده بأن قال ليس هو مني ثم أقر به بأن قال هو ابني بطل اللعان فوجب عليه حد القذف؛ لأن الأصل في قذف المحصنات هو الحد م: (لأنه لما أكذب نفسه بطل اللعان؛ لأنه حد ضروري صير إليه ضرورة التكاذب) ش: أي تكاذب الزوجين؛ لأن كل واحد منهما كاذب في زعم صاحبه؛ لأن زعم الزوج أنها كاذبة في التكاذب الزنا، وإن زعمت الزوجة أنه كاذب في القذف بالزنا، ولهذا لو أقرت المرأة بالزنا لا يجب اللعان لعدم التكاذب، وكذا إذا كذب الزوج نفسه بعدم التكاذب.
م: (والأصل فيه) ش: أي في القذف بالزنا م: (حد القذف، فإذا بطل التكاذب يصار إلى الأصل) ش: وهو الحد، وفيه خلاف ما ذكرناه في اللعان هذا ليس موجود في أكثر النسخ أي وفي نفي الحمل خلاف ذكره في باب اللعان، وهو أن الزوج إذا قال لامرأته ليس حملك مني لا لعان عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما م: (والولد ولده في الوجهين) ش: أي فيما إذا أقر أولا ثم نفاه أو نفاه أولا ثم أقر م: (لإقراره به) ش: أي لإقرار الزوج بالولد م: (سابقا) ش: على النفي فيما إذا أقر بالولد ثم نفاه م: (أو لاحقا) ش: بالنفي فيما إذا نفاه ثم أقر به م: (واللعان يصح بدون قطع النسب كما يصح بدون الولد) ش: هذا جواب عما يقال إن سبب اللعان كان نفي الولد،(6/381)
كما يصح بدون الولد. وإن قال: ليس بابني ولا بابنك فلا حد، ولا لعان لأنه أنكر الولادة، وبه لا يصير قاذفا.
ومن قذف امرأة ومعها أولاد لا يعرف لهم أب أو قذف الملاعنة بولد والولد حي أو قذفها بعد موت الولد، فلا حد عليه لقيام أمارة الزنا منها، وهي ولادة ولد لا أب له، ففاتت العفة نظرا إليها، وهي شرط الإحصان. ولو قذف امرأة لاعنت بغير ولد فعليه الحد لانعدام أمارة الزنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فلما لم ينتف الولد وجب أن لا يجري بينهما اللعان، فأجاب بقوله واللعان يصح ... إلى آخره. تقريره أنه ليس من ضرورة اللعان قطع النسب إليه؛ لأنه ينفك عنه وجودا وعدما، فاللعان شرع بلا ولد، ألا ترى أنه إذا تطاولت المدة من حين الولادة ثم نفى يلاعن بينهما ولا ينقطع النسب ولو نفى نسب ولد امرأته الأمة ينتفي النسب، ولا يجري اللعان إليه إشارة البزدوي.
م: (وإن قال: ليس بابني ولا بابنك فلا حد ولا لعان؛ لأنه أنكر الولادة، وبه لا يصير قاذفا) ش: أي بإنكار الولادة لا يصير قاذفا أمه؛ لأنه أنكر الولادة أصل، وذلك بعدم الزنا؛ لأنه إذا لم يكن فيها كيف يتصور أن يتولد بزناها، فإذا انتفى القذف فلا يجب الحد ولا اللعان بعد القذف.
م: (ومن قذف امرأة ومعها أولاد لا يعرف لهم أب أو قذف الملاعنة بولد) ش: بفتح العين، أي التي لوعنت بولد، هكذا قال في " النهاية "، ويجوز كسر العين، معناه التي لاعنت بولدها وقد صرح بهذا في " الكافي ".
م: (والولد حي) ش: يتصل بالملاعنة م: (أو قذفها بعد موت الولد، فلا حد عليه لقيام أمارة الزنا منها) ش: أي لقيام علامة الزنا منها، أي من المرأة وهي.
أي قيام إمارة الزنا منها م: (وهي ولادة ولد لا أب له ففاتت العفة نظرا إليها) ش: أي إلى الإمارة م: (وهي) ش: أي العفة م: (شرط الإحصان) ش: أي شرط وجوب حد القذف، وهي ثابتة فلا يجب الحد.
م: (ولو قذف امرأة لاعنت بغير ولد) ش: ذكره التمرتاشي وكذا الملاعنة بولد ثم أكذب الزوج نفسه ولزم الولد ثم قذفها قاذف م: (فعليه الحد لانعدام أمارة الزنا) ش: وأمارة الزنا قيام ولد لا أب له ولا ولد هاهنا، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد، وجمهور العلماء - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، ولا نعلم فيه خلافا.
فإن قيل: اللعان قائم مقام حد الزنا في حقها، فيكون أمارة الزنا ظاهرة، فينبغي أن لا يحد قاذفها، أجيب: بأن اللعان في جانبها قائم مقام حد الزنا بالنسبة إلى الزوج لا بالنسبة إلى غيره، فكانت محصنة في حق الغير. ألا ترى أن اللعان قائم مقام حد القذف في حقه بالنسبة إليها لا بالنسبة إلى غيرها حتى قبلت شهادته. وقال الأترازي: قال بعضهم في شرحه في جواب السؤال المذكور اللعان قائم مقام حد القذف في حقه، فبالنظر إلى هذا الوجه تكون المرأة محصنة،(6/382)
قال: ومن وطئ وطئا حراما في غير ملكه لم يحد قاذفه لفوات العفة وهي شرط الإحصان، ولأن القاذف صادق، والأصل فيه أن من وطئ وطئا حراما لعينه لا يجب الحد بقذفه؛ لأن الزنا هو الوطء المحرم لعينه. وإن كان محرما لغيره يحد؛ لأنه ليس بزنا، فالوطء في غير الملك من كل وجه أو من وجه حرام لعينه، وكذا الوطء في الملك والحرمة مؤبدة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فتعارض الوجهان فتساقطا.
فبقي القذف سالما عن المعارض، فوجب الحد على القاذف، انتهى.
قلت: أراد به صاحب " النهاية " ثم رد عليه بما لا يجري، ثم قال: وقال بعضهم أيضا وهو صاحب " النهاية " أيضا بخط شيخي، يعني الحافظ الكبير البخاري في جواب هذه الشبهة أن اللعان في جانبها قائم مقام حد الزنا، لكن بالنسبة إلى الزوج لا إلى غيره إلى آخر ما ذكرنا في جواب السؤال المذكور، ثم رد عليه بما لا يجري.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ومن وطئ وطئا حراما في غير ملكه لم يحد قاذفه) ش: لعدم شرط الموجب للحد، وهو إحصان المقذوف، أشار إليه بقوله م: (لفوات العفة وهي شرط الإحصان) ش: والإحصان معدوم لانعدام العفة عن الزنا م: (ولأن القاذف صادق) ش: في قذفه؛ لأن المقذوف وطئ ما لا يحل له فلا يحل القذف على الصدق، وإنما يحد على الكذب.
م: (والأصل فيه) ش: أي في حد القذف وعدم الحد م: (أن من وطئ وطئا حراما لعينه) ش: كالوطء في غير الملك من كل وجه، وهو ظاهر، ومن وجه كالوطء في الجارية المشتركة بينه وبين غيره. وهذا الوطء حرام بعينه لوقوعه زنا؛ لأن الوطء حصل في غير ملكه، إلا أنه لا يجب حد الزنا على وطء الجارية المشتركة للشبهة م: (لا يجب الحد بقذفه) ش: أي بقذف هذا الوطء الحرام لعينه من كل وجه أو من كل وجه كما بينا م: (لأن الزنا هو الوطء المحرم لعينه) ش: سواء كان من كل وجه أو من وجه.
م: (وإن كان) ش: أي إن كان الوطء م: (محرما لغيره) ش: أي لغيره كوطء امرأته الحائض أو النفساء أو جاريته المجوسية أو أمته المزوجة أو المكاتبة أو الحرة التي ظاهر منها، أو وطئ امرأته الصائمة ففي هذه الصورة م: (يحد) ش: قاذفه م: (لأنه ليس بزنا) ش: لعدم صدق حد الزنا عليه م: (فالوطء في غير الملك من كل وجه أو من وجه حرام لعينه) ش: وقد بينا الوجهين الآن.
م: (وكذا) ش: أي وكذا حرام بعينه م: (الوطء في الملك والحرمة مؤبدة) ش: أي والحال أن الحرمة على التأبيد، كما إذا وطئ جاريته التي وطئها أبوه بعد ملك اليمين أو الشراء، وهذا وطء محرم على التأبيد، فصار كالزنا فلم يحد القاذف.
فإنه كالحرمة المؤقتة مثل وطء محرم على التأبيد مثل وطء الحائض أو أمثالها التي ذكرناها(6/383)
فإن كانت الحرمة مؤقتة فالحرمة لغيره. وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يشترط أن تكون الحرمة المؤبدة ثابتة بالإجماع أو بالحديث المشهور لتكون ثابتة من غير تردد، بيانه أن من قذف رجلا وطئ جارية مشتركة بينه وبين آخر فلا حد عليه لانعدام الملك من وجه، وكذا إذا قذف امرأة زنت في نصرانيتها لتحقق الزنا منها شرعا لانعدام الملك، ولهذا وجب عليها الحد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الآن م: (فإن كانت الحرمة مؤقتة فالحرمة لغيره) ش: لا بعينه.
م: (وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يشترط أن تكون الحرمة المؤبدة ثابتة بالإجماع) ش: كموطوءة أبيه بالنكاح أو بملك اليمين، ثم اشتراها الابن فوطئها فلا يحد قاذفه لسقوط إحصان الواطئ بالوطء على التأبيد بالإجماع.
وكذلك إذا تزوج أختين أو تزوج امرأة وعمتها أو خالتها أو تزوج أمة على حرة أو جمعهما في العقدة فوطئها فلا حد على قاذفه لما قلنا م: (أو بالحديث المشهور) ش: أو تكون الحرمة المؤبدة ثابتة بالحديث المشهور، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بشهود» ، وكل الشراح ذكروا أن الحديث المشهور الذي ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا نكاح إلا بشهود» ، وقد ذكرنا في أول النكاح أن الحديث غريب بهذا اللفظ.
واستيفاء الكلام فيه هناك م: (لتكون ثابتة من غير تردد) ش: أي ليكون ثابتا من غير تردد ويكون الحد ثابتا من غير تردد.
م: (بيانه) ش: أي بيان الأصل المذكور في المسائل يذكرها بعد م: (أن من قذف رجلا وطئ جارية مشتركة بينه وبين آخر فلا حد عليه) ش: أي على قاذفه م: (لانعدام الملك من وجه) ش: لأنه في نصيب الشريك زان، فيصير القاذف صادقا في كلامه من وجه. والقذف سقط بالشبهة والإحصان كما يزول بالزنا من وجه، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحد.
(وكذلك إذا قذف امرأة) ش: أي وكذلك لا حد على القاذف إذا قذف امرأة م: (زنت في نصرانيتها) ش: ثم أسلمت وقذفها إنسان م: (لتحقق الزنا منها) ش: لأن الزنا حرام في الأديان كلها، والكفار مخاطبون بالعقوبات م: (شرعا) ش: أي من حيث الشرع م: (لانعدام الملك) ش: وهو ظاهر. وفي " المبسوط " وقذف مسلما زنى في حال كفره في دار الحرب أو في دارنا لم يحد قاذفه؛ لأن الزنا يتحقق من الكافر وإن لم يقم عليه الحد فيكون القاذف صادقا، فكان التقيد بالنصرانية اتفاقيا.
وعند مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في وجه يحد؛ لأنه قذفه في حال كونه مسلما محصنا لعموم الآية. قلنا قاذفه صادق لما قلنا، وإنما ترتفع بالإسلام الاسم دون حقيقة الزنا م: (ولهذا) ش: أي ولأجل تحقق الزنا من الكفار م: (وجب عليها الحد) ش: أي حد الزنا.(6/384)
ولو قذف رجلا أتى أمته وهي مجوسية أو امرأته وهي حائض أو مكاتبة له فعليه الحد؛ لأن الحرمة مع قيام الملك، وهي مؤقتة، فكانت الحرمة لغيره فلم يكن زنا، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن وطء المكاتبة يسقط الإحصان، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الملك زائل في حق الوطء، ولهذا يلزمه العقر بالوطء، ونحن نقول ملك الذات باق، والحرمة لغيره إذ هي مؤقتة. ولو قذف رجلا وطئ أمته وهي أخته من الرضاعة لا يحد؛ لأن الحرمة مؤبدة، وهذا هو الصحيح.
ولو قذف مكاتبا ومات وترك وفاء لا حد عليه؛ لتمكن الشبهة في الحرية لمكان اختلاف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[قذف رجلا أتى أمته وهي مجوسية]
م: (ولو قذف رجلا أتى أمته وهي مجوسية) ش: أي والحال أن هذه مجوسية م: (أو امرأته) ش: أي امرأته وجامعها م: (وهي حائض) ش: أي والحال أنها حائض م: (أو مكاتبة له) ش: أي أو وطئ مكاتبة له أي للواطئ م: (فعليه الحد؛ لأن الحرمة مع قيام الملك، وهي مؤقتة) ش: أي والحرمة مؤقتة [ ... ] والعار على شرف الزوال م: (فكانت الحرمة لغيره فلم يكن زنا) ش: لأن الزنا وطء لم يلاق مالك.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن وطء المكاتبة يسقط الإحصان، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الملك زائل في حق الوطء، ولهذا) ش: أي ولأجل زوال الملك في حق الوطء م: (يلزمه العقر) ش: أي مهر المثل م: (بالوطء، ونحن نقول ملك الذات) ش: أي ذات المكاتبة م: (باق، والحرمة لغيره) ش: لا بعينه م: (إذ هي مؤقتة) ش: غير مؤبدة، فإن الحرمة تزول بعجزها عن المكاتبة وردوها إلى الرقبة.
م: (ولو قذف رجلا وطئ أمته وهي أخته) ش: أي الحال أنها أخته م: (من الرضاعة لا يحد) ش: أي القاذف م: (لأن الحرمة مؤبدة، وهذا هو الصحيح) ش: قيد به لأنه ظاهر الرواية، واحترز به عن رواية الكرخي أنه لا يسقط الحد عن القاذف؛ لأنه وطء في ملك مقارنة التحريم فيه لا يسقط الإحصان كوطء المرأة الحائض والمحرمة والأمة المجوسية والمزوجة والتي ظاهر منها.
ولنا أن الحرمة مؤبدة في المقيس، ومؤقتة في المقيس عليه، ولا شك أن المقيس عليه أدنى حالا من المقيس فلا يصح القيام لعدم المماثلة، فجاز أن يسقط الإحصان في الحرمة الأعلى دون الأدنى.
م: (ولو قذف مكاتبا ومات وترك وفاء لا حد عليه) ش: صورته في " الجامع الصغير " لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الكافر يموت ويترك فيؤدى وفاء كتابته ويقيم ما بقي بين ورثته الأحرار ثم يقذفه إنسان قال: لا حد على قاذفه أبدا م: (لتمكن الشبهة في الحرية لمكان اختلاف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: فإنهم اختلفوا في حر أو عبد فقال بعضهم مات حرا وهو مذهب علي وعبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال بعضهم مات عبدا،(6/385)
ولو قذف مجوسيا تزوج بأمه ثم أسلم يحد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا حد عليه، وهذا بناء على أن تزوج المجوسي بالمحارم له حكم الصحة فيما بينهم عنده، خلافا لهما، وقد مر في النكاح. وإذا دخل الحربي دارنا بأمان فقذف مسلما حد؛ لأن فيه حق العبد وقد التزم إيفاء حقوق العباد، ولأنه طمع في أن لا يؤذى فيكون ملتزما أن لا يؤذي. وموجب أذاه الحد. وإذا حد المسلم في قذف سقطت شهادته وإن تاب، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تقبل إذا تاب، وهي تعرف في الشهادات. وإذا حد الكافر في قذف لم تجز شهادته على أهل الذمة؛ لأن له الشهادة على جنسه، فترد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو مذهب زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فاختلافهم أورث شبهة في حد القاذف فقط.
[قذف مجوسيا تزوج بأمه ثم أسلم]
م: (ولو قذف مجوسيا تزوج بأمه ثم أسلم يحد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: لا حد عليه) ش: أي على قاذفه.
م: (وهذا) ش: أي وهذا الخلاف م: (بناء) ش: أي مبني م: (على أن تزوج المجوسي بالمحارم له حكم الصحة فيما بينهم عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (خلافا لهم) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله م: (وقد مر في النكاح) ش: أي في باب نكاح أهل الشرك، وبقولهما قالت الثلاثة.
م: (وإذا دخل الحربي دارنا بأمان فقذف مسلما حد) ش: بإجماع الأئمة الأربعة م: (لأن فيه) ش: أي في حد القاذف م: (حق العبد، وقد التزم) ش: أي الحربي المستأمن م: (إيفاء حقوق العباد) ش: وكان أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولا يقول لا يحد المغلب فيه حق الله تعالى، فكان بمنزلة حد الزنا ثم رجع.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الحربي م: (طمع في أن لا يؤذى) ش: بفتح الذال على صيغة المجهول م: (فيكون ملتزما أن لا يؤذي) ش: بكسر الذال على صيغة المعلوم م: (وموجب) ش: بفتح الجيم م: (أذاه) ش: إذا أراه الحد وهو حد القذف.
م: (وإذا حد المسلم في قذف سقطت شهادته وإن تاب. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تقبل إذا تاب) ش: وبه قال مالك والليث وعثمان - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، والمحدود في الزنا والشرب أو السرقة تقبل شهادته بالاتفاق إلا عند الحسن بن حي والأوزاعي -رحمهما الله.
فإن كان عندهما لا تقبل شهادته من حد في الإسلام في قذف أو غيره أبدا، كذا ذكره أبو بكر الرازي في " شرح الطحاوي " م: (وهي تعرف الشهادات) ش: أي هذه المسألة الخلافية تعرف في كتاب الشهادات.
م: (وإذا حد الكافر في قذف لم تقبل شهادته على أهل الذمة؛ لأن له الشهادة على جنسه فترد تتمة(6/386)
تتمة لحده، فإن أسلم قبلت شهادته عليهم وعلى المسلمين؛ لأن هذه شهادة استفادها بعد الإسلام فلم تدخل تحت الرد، بخلاف العبد إذا حد حد القذف، ثم أعتق حيث لا تقبل شهادته؛ لأنه لا شهادة له أصلا في حال الرق، فكان رد شهادته بعد العتق من تمام حده، فإن ضرب سوطا في قذف ثم أسلم ثم ضرب ما بقي جازت شهادته؛ لأن رد الشهادة متمم للحد، فيكون صفة له. والمقام بعد الإسلام بعض الحد، فلا يكون رد الشهادة صفة له. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه ترد شهادته إذ الأقل تابع للأكثر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لحده، فإن أسلم قبلت شهادته عليهم) ش: أي على أهل الذمة م: (وعلى المسلمين؛ لأن هذه شهادة استفادها بعد الإسلام، فلم تدخل تحت الرد) ش: يعني هذه الشهادة غير تلك الشهادة الموجودة، إذ بالإسلام حصل له عدالة الإسلام، فلما كانت هذه غيرها ولم يلحقها قبلت على أهل الإسلام، ثم على أهل الذمة تبعا لهم.
م: (بخلاف العبد) ش: جواب عما يقال العبد إذا قذف فضرب الحد ثم أعتق لا تقبل شهادته، فكيف قبلت شهادة الكفر إذا أسلم فأجاب بقوله بخلاف العبد م: (إذا حد حد القذف ثم أعتق حيث لا تقبل شهادته؛ لأنه) ش: أي لأن العبد م: (لا شهادة له أصلا في حال الرق، فكان رد شهادته بعد العتق من تمام حده) ش: بيانه أن العبد لا شهادة له أصلا في حال رقه، فلا بد في حد القذف رد الشهادة، وإنما يحصل شهادة العبد بعد العتق فيرد؛ لأنه تتمة الحد. أما الكفر فله شهادة على جنسه فرد بالحد ثم بعد الإسلام حدثت شهادة أخرى لم يلحقها رد فقبلت.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (وإن ضرب سوطا) ش: أي وإن ضرب القاذف الكافر سوطا م: (في قذف ثم أسلم ثم ضرب ما بقي جازت شهادته؛ لأن رد الشهادة متمم للحد، فيكون صفة له) ش: أي للحد م: (والمقام) ش: بضم الميم، أي الذي يقام م: (بعد الإسلام بعض الحد، فلا يكون رد الشهادة صفة له) ش: أي للحد واعترض بأن المقام بعد الإسلام إن كان بعض الحد، فالمقام قبل الإسلام كذلك. فكان لا يكون رد الشهادة صفة لما أقيم بعد الإسلام كذلك لا يصح أن يكون صفة لما أقيم بعد الإسلام بل جعل صفة لما أقيم بعد الإسلام أولى، لما أن العلة إذا كانت ذات وصفين، فاعتبار وصف الأخير على ما عرف في موضعه.
والجواب: أما لم يجعل الرد صفة لا للقيام قبل الإسلام ولا للمقام للقيام بعده. وإنما قلنا إن الرد صفة للحد، والحد ثمانون، فلم يوجد، فلم يترتب القيمة. وقيل في الجواب: النص ورد بالأمر بالحد والنهي عن قبول الشهادة، وكل واحد منهما غير مرتب على الآخر نصا فيتعلق كل واحد منهما لما يكن، والممكن زمان التي رد شهادة قائمة للحال فيتقيد به م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه ترد شهادته إذ الأقل تابع للأكثر) ش: الأقل هو المبسوط الموجود قبل الإسلام،(6/387)
والأول أصح.
قال: ومن قذف أو زنى أو شرب غير مرة فحد، فهو لذلك كله،
أما الآخران
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والأكثر هو الموجود في الإسلام أعني تسعة وسبعين سوطا، فصار كأن الثمانين وجد بعد الإسلام وهذه رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير " روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا ثلاث روايات روي عنه إذا ضرب سوطا في الإسلام لا تقبل شهادته، وعنه إذا ضرب الأكثر في الإسلام بطلت شهادته، وعنه ما لم يضرب كل في الإسلام لا تبطل شهادته، وهو المعروف وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وكذا إذا ضرب المسلم بعض الحد ثم يضرب فيه ثلاث روايات في ظاهر الروايات ما لم يضرب جميع الحد لا تبطل شهادته. وفي رواية يبطل بضرب سوط. وفي رواية لا يبطل ما لم يضرب الأكثر م: (والأول أصح) ش: أي جواز الشهادة.
[الحد على من شرب أو زنى أو قذف غير مرة]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ومن شرب أو زنى أو قذف غير مرة) ش: أي غير مرة أو زنى غير مرة أو قذف غير مرة قوله غير مرة ليس بقيد لقوله أو قذف وحده بل للكل م: (فحد فهو لذلك كله) ش: أي فهذا الحد يقع للجميع كله، وبه قال مالك والثوري وابن أبي ليلى والشعبي والزهري والنخعي وقتادة وحماد وطاووس وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول.
وفي " المبسوط ": ولو قذف الجماعة بكلمة واحدة بأن قال إنها الزنات أو كلمات متفرقة بأن قال: يا زيد أنت زان، ويا عمرو أنت زان، ويا خالد أنت زان لا يقام عليه إلا حد واحد عندنا. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن قذفهم بكلام واحد فكذلك الجواب. ولو قذفهم بكلمات أو لواحد مرات يجب لكل قذف حد عنده، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية. أما الأولان قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أما الأولان أي حد الشرب وحد الزنا قال الأترازي: الأخريان، وهذه نفي النسخة الصحيحة تحقيقا وسماعا. وفي بعض النسخ قال: أما الأول فذاك ليس بشيء أما التفصيل لأنه ذكر أولا ثلاثة أشياء: القذف، والزنا، والشرب على الترتيب، ثم قال الأخريان، وأراد بهما الزنا والشرب، انتهى.
قلت: ما حمله على هذا الكلام إلا أن نسخة كانت هكذا ومن قذف أو زنى أو شرب فكذلك مع أن يقال أما الأولان بل الصحيح أما الأولان النسخة الصحيحة ومن شرب أو زنى أو قذف مسلما ذكرنا، وكذا كانت نسخة شيخنا علاء الدين كان آية تحقيق " الهداية "، وكذلك كلام الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يشير إلى هذا. ومع هذا قال الأترازي: لو قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أما الآخران) ش: بلفظ بالبدل التذكير سور الخاء كان أولى لأن الزنا والشرب مذكور، فيصح اللفظ، بل تأويل يعني ما قال يحتاج إلى التأويل بأن يقال العلتان الأخريان أو الخصلتان، انتهى.(6/388)
فلأن المقصد من إقامة الحد حقا لله تعالى الانزجار واحتمال حصوله بالأول قائم فيتمكن شبهة فوات المقصود في الثاني، وهذا بخلاف ما إذا زنى وقذف وسرق وشرب؛ لأن المقصود من كل جنس غير المقصود من الآخر، فلا يتداخل. وأما القذف فالمغلب فيه عندنا حق الله فيكون ملحقا بهما. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن اختلف المقذوف به وهو الزنا لا يتداخل؛ لأن المغلب فيه حق العبد عنده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لو كانت نسخة مثلها ذكرنا لما احتاج إلى هذه التكلفات م: (فلأن المقصد من إقامة الحد حقا لله تعالى الانزجار) ش: أي فلأن القصد الكلي من إقامة الحد حال كونه حقا لله تعالى أو لأجل حق الله تعالى يحصل الانزجار للمقذوف حتى لا يباشره في المستقيد ويرتدع أيضا.
م: (واحتمال حصوله) ش: أي حصول المقصد، وهو الانزجار م: (بالأول) ش: أي بالحد الأول م: (قائم فيتمكن شبهة فوات المقصود في الثاني) ش: أي في الحد الثاني، حاصله أن الثاني يتعطل عما هو المقصود، وهو الانزجار والحدود تندرئ بالشبهات، بخلاف ما إذا زنى فحد، ثم زنى يجب حد آخر للنفس المتيقن بعد الانزجار م: (وهذا بخلاف ما إذا زنى وقذف وسرق وشرب؛ لأن المقصود من كل جنس) ش: من هذه الأشياء م: (غير المقصود من الآخر) ش: فحد الزنا لصيانة الإنسان، وحد القذف لصيانة الأعراض وحد السرقة لصيانة الأموال وحد الشرب لصيانة العقول. وإذا كان الأمر كذلك م: (فلا يتداخل) ش: بل يقام لكل واحد منهما ما يقتضي حده.
م: (وأما القذف فالمغلب فيه حق الله تعالى عندنا، فيكون ملحقا بهما) ش: أي بحد الزنا والشرب، قاله الأترازي. وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ملحقا بهما، أي بحد الزنا والسرقة. قلت: المذكور بغير لفظ قذف ثلاثة، فكيف يرجع ضمير التثنية إلى الثلاثة، والظاهر أن قوله بهما يرجع إلى السرقة والشرب؛ لأنهما أقرب المذكور.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن اختلف المقذوف) ش: كزيد وعمرو م: (والمقذوف به) ش: أي واختلف المقذوف كقذف زيد بزناه من مختلفين. قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعني زنيت بفلانة ثم قال: زنيت بفلانة الأخرى م: (وهو الزنا) ش: أي المقذوف به هو الزنا م: (لا يتداخل لأن المغلب فيه) ش: أي في الزنا م: (حق العبد عنده) ش: أي عند الشافعي وقد مر الكلام فيه.
فروع: لو قال فجرت بفلانة أو قال جامعتها حراما لا حد عليه لم يقذفها بالزنا؛ لأن الجماع يكون نكاح فاسد. ولو قال لامرأة زنيت بحمار أو بعير أو ثور لا يحد؛ لأن معناه أولج فيك حمار. ولو صرح لا يحد. لو قال: زنيت بناقة أو بدراهم أو شرب يحد؛ لأن معناه زنيت وأخذ هذا. ولو قال: هذا الرجل لا يحد كل هذه من المسائل.(6/389)
فصل في التعزير
ومن قذف عبدا أو أمة أو أم ولد أو كافرا بالزنا عزر؛ لأنه جناية قذف وقد امتنع وجوب الحد لفقد الإحصان، فوجب التعزير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في التعزير] [التعزيرتعريفه ومشروعيته]
م: (فصل في التعزير)
ش: أي هذا فصل في بيان حكم التعزير، والتعزير تأديب، وهو الحد من أعزر وهو الردع، ويجيء التعزير بمعنى التعظيم، والضمير كما في قَوْله تَعَالَى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] (النساء: الآية 34) ، أمر بضرب الزوجات تأديبا وتهذيبا، وبالنية قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ترفع عصاك عن أهلك» . «وروي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عزر رجلا قال لغيره: يا مخنث» وعنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «من علق سوطه حيث يراه أهله» ، وبإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وبالمعنى وهو أن الزجر عن الجنايات وهو الأفعال واجب تعليلا لها والتقدير صالح الزجر فيكون شروعا.
وذكر التمرتاشي عن الوصي وليس فيه شيء مقدر بل يفوض إلى رأي القاضي لأن المقصود منه الزجر، وأحوال الناس مختلفة فيه. فمنهم من يزجر بالنصيحة ومنهم من يحتاج إلى اللطمة وإلى الضرب. ومنهم من يحتاج إلى الحبس، وبه قالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التعزير على مرات التعزير أشراف الأشراف، وهما العلماء والعلوم وبالإعلام، وهو أن يقول له القاضي، بلغني أنك تفعل كذا، فلا يفعل فيسير جوابه، وتعزير الأشراف وهم الأمراء، والدنيا بالإعلام والجذب إلى باب القاضي والخصومة في ذلك.
وتعزير الأوساد وهم السوقة بالأعلام والحر والحبس وتعزير الأحياء بهذا كله، وبالضرب عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز تعزير السلطان بأخذ المال عندنا والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك وأحمد رحمهما الله لا يجوز بأخذ المال. وعن التمرتاشي يجوز إقامة التعزير الذي يجب حقا لله تعالى، فكل أحد فعليه النيابة.
وسئل الهمداني - رَحِمَهُ اللَّهُ - عمن وجد رجلا مع امرأة أيحل له قتله؟ قال: إن كان يعلم أنه ينزجر عن الزنا بالصياح والضرب بما دون السلاح. وإن علم أنه لا ينزجر إلا بالقتل حل له قتله، وإن طاوعته المرأة يحل قتلها أيضا.
وقال التمرتاشي: وهذا تنصيص على أن التعزير يملكه الإنسان، وإن لم يكن مما صرح في " المنتقى " بذلك، بهذا يجوز للمولى أن يعزر عبده أو أمته.
[حيث فقد الحد وجب التغزير]
م: (ومن قذف عبدا أو أمة أو أم ولد أو كافرا بالزنا عزر) ش: هذه مسألة القدوري. وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنه جناية قذف، وقد امتنع وجوب الحد لفقد الإحصان، فوجب التعزير) ش: بإجماع الأئمة الأربعة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وأكثر العلماء.(6/390)
وكذا إذا قذف مسلما بغير الزنا فقال: يا فاسق أو يا كافر أو خبيث أو يا سارق؛ لأنه أذاه وألحق الشين به، ولا مدخل للقياس في الحدود، فوجب التعزير، إلا أنه يبلغ بالتعزير غايته في الجناية الأولى؛ لأنه من جنس ما يجب به الحد. وفي الوجه الثاني الرأي إلى الإمام. ولو قال: يا حمار أو يا خنزير لم يعزر؛ لأنه ما ألحق الشين به للتيقن بنفيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن داود يجب الحد على قاذف العبد. وعن ابن المسيب وابن أبي ليلى: يحد قاذف ذمية لها ولد مسلم.
م: (وكذا) ش: أي وكذا يجب التعزير م: (إذا قذف مسلما بغير الزنا فقال يا فاسق أو يا كافر أو خبيث أو يا سارق؛ لأنه أذاه وألحق الشين به) ش: وكذا لو قال: يا نصراني أو يا ابن النصراني أو يا لوطي، أو يا من يعمل عمل قوم لوط، أو يا من يلعب بالصبيان، يا آكل الربا، يا شارب الخمر، يا ديوث، يا فاجر، يا منافق، يا مخنث، يا خائن، يا ابن القحبة، يا زنديق، يا فوطان، يا مأوى الزواني أو اللصوص عزر في ذلك كله.
وفي يا لوطي سئل عن نيته، إن أراد به أنه من قوم لوط فلا شيء عليه، وإن أراد أنه يعمل عمل قوم لوط إما فاعلا أو مفعولا به فعليه الحد عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد وأحمد ومالك والشافعي والحسن والنخعي والزهري وأبي ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لأنه قذف بما يوجب الحد، كما لو قذفه بالزنا.
وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا حد عليه ويعزر، وبه قال قتادة وعطاء. والصحيح أنه إذا كان عفيفا يعذر. وفي " فتاوى الولوالجي " ولو قال: يا فاجر أو يا ابن الفاجرة الفاسقة عليه التعزير فقط.
م: (ولا مدخل للقياس في الحدود، فوجب التعزير) ش: أراد أنه لم يأت نص بالحد في الأشياء المذكورة. وفي القياس ليس له دخل في الحدود؛ لأنها من المقدمات الشرعية، فإذا كان كذلك وجب التعزير لأجل الردع كما ذكرناه عن قريب.
م: (إلا أنه) ش: أي عين أن الشأن م: (يبلغ) ش: من التبليغ فيتبعه المجهول م: (بالتعزير غايته في الجناية الأولى) ش: أي فيما إذا قذف غير المحصن بالزنا م: (لأنه) ش: أي لأن القذف بالزنا م: (من جنس ما يجب به الحد) ش: أي في المحصن.
م: (وفي الوجه الثاني) ش: أي فيما قذف المحصن، يعني الزنا كالفسق والكفر م: (الرأي إلى الإمام) ش: يرى فيه بما يقتضيه حال القاذف وحال القذف.
م: (ولو قال يا حمار أو يا خنزير لم يعزر؛ لأنه ما ألحق الشين به للتيقن بنفيه) ش: فإنه يعلم أنه آدمي، وليس بحمار، وإن القاذف كاذب، وكذا لو قال يا معز، أو يا بقر، أو يا خنزير، أو يا(6/391)
وقيل في عرفنا يعزر؛ لأنه يعد سبا. وقيل: إن كان المسبوب من الأشراف كالفقهاء والعلوية يعزر؛ لأنه يلحقهم الوحشة بذلك، وإن كان من العامة لا يعزر، وهذا حسن.
والتعزير أكثره تسعة وثلاثون سوطا، وأقله ثلاث جلدات. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يبلغ التعزير خمسا وسبعين سوطا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دب، أو يا حجام، أو يا مؤاجر، أو يا عيار، أو يا ماكر، أو يا سكوين، أو يا سخرة، أو يا ضحكة، أو يا بمجال، أو يا ولد الحرام، أو يا أبله، لم يعزر، وقيل يعزر وبه قالت الثلاثة.
وقال في " الأجناس ": لو قال يا ابن القرطبان عليه التعزير؛ لأنه هو الذي يعم رجلا بامرأته رجاء أن يصيب منه مالا. قال: قوله بقرطبان الذي يرجو أن يدخل الرجال على نسائه. وقال القرطبان والكحان لم أرهما في كلام العرب ومعناهما عند العامة مثل الديوث أو قريبا منه والديوث الذي يدخل الرجل على امرأته، ولهذا قال أحمد في الكحان: يعزر، وبه قال أصحابنا. ولو قال يا بليد، يا قذر يعزر. ولو قال: يا سفيه يعزر، ولو قال يا ابن الأسود وأبوه ليس كذلك، أو قال: أنت حجام أو أنت مفسد، أو قال: قول الهند " أوان لأنه بعديا ".
م: (وقيل: في عرفنا يعزر؛ لأنه يعد سبا) ش: أي لأن قوله يا حمار أو يا خنزير يعد سبا، أي شتما م: (وقيل إن كان المسبوب من الأشراف كالفقهاء والعلوية يعزر؛ لأنه يلحقهم الوحشة بذلك، وإن كان) ش: أي المسبوب م: (من العامة لا يعزر، وهذا) ش: أي وهذا القول م: (حسن) ش: وهو قول المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[أقل التعزير وأكثره]
م: (والتعزير أكثره تسعة وثلاثون سوطا، وأقله ثلاث جلدات) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في آخره. وقال: في العبد تسعة عشر سوطا. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا حد لأكثره فيجوز للإمام أن يزيد التعزير على الحد إذا رأى المصلحة في ذلك، لما روي أن معن بن زائدة عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال، ثم جاء به لصاحب بيت المال فأخذ منه مالا فبلغ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فضربه مائة وحبسه وكلم فيه فضربه مائة أخرى، فكلم فيه من بعد فضربه مائة أخرى ونفاه. وروى أحمد بإسناده أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتى بالنجاشي قد شرب خمرا في رمضان فجلده ثمانين للشرب، وعشرين سوطا لفطره في رمضان، ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من بلغ حدا في حد غيره حد، فهو من المعتدين» ويجيء الآن. وحديث معن يحتمل أنه كانت له ذنوب كثيرة فأدب على حيضها أو تكرر منه، أو كان ذنبه مهملا على باب أحدهما تزوير والثاني أخذ المال من بيت المال بغير حقه. والثالث فتحه باب هذه الحيلة لغيره، وغير هذا. وأما حديث النجاشي فأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضربه الحد لشربه ثم عزره عشرين.
م: (وقال) ش: أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يبلغ التعزير خمسا وسبعين سوطا) ش: وهذا ظاهر الرواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ألا ترى ما نقل صاحب " الأجناس " عن الحدود(6/392)
والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأصل: لا في التعزير ويضرب المضروب قائما، وأقله ثلاثة وأكثره تسعة وثلاثون لا يبلغ أربعين سوطا في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يبلغ عنه خمسة وسبعين سوطا، ثم قال في " نوادر " هشام عن أبي يوسف رحمهما الله: تسعة وسبعين سوطا، لكن هذا في تعزير الحر. وأما في تعزير العبد قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينقص خمسة عن أربعين، كذا ذكره صاحب " التحفة ".
وقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ظاهر الرواية مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي رواية قوله مع أبي يوسف كذا ذكره في " المختلف " وقول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " النوادر ". وذكر في " شرح الأقطع " زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (والأصل فيه) ش: أي في هذا الباب م: (قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من بلع حدا في غير حد فهو من المعتدين» هذا الحديث أخرجه البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النعمان بن بشير. وقال في " المحصول " مرسل، ورواه محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب الآثار " مرسلا.
وقال في " التنقيح " رواه ابن ماجه في " سننه " حدثنا محمد بن حصين الأصبحي ثنا عمرو بن علي المقدمي حدثنا معمر عن خالد بن الوليد عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بلغ...... الحديث. قوله. من بلغ قال صاحب " النهاية ": بلغ بالتخفيف هو السماع، وهكذا ذكر في " الفوائد الظهيرية "، فإنه قال بلغ بالتخفيف، أي كما في بلغ المكان، أي إياه، فصار تقدير الحديث من أتى حدا في موطن لا يجب الحد فهو من المعتدين. وهكذا نقل عن العلامة شمس الأئمة الكردي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، هكذا ذكر في " الكافي ". وفي " المغرب ": التنقيل إن صح على حذف المفعول الأول كما في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فليبلغ الشاهد الغائب» . وقَوْله تَعَالَى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] (المائدة: الآية67) ، على حذف المفعول الثاني. والتعزير من بلغ التعزير حدا وإنما حسن الحذف لدلالة قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في غير حد ولهذا قالوا لا يجوز تبلغ غير الحد. وقيل التخفيف أولى لعدم الحاجة إلى الإضمار. وفي " الفوائد المختارية " بالتشديد معناه أن لا يبلغ الحد غير الحد، وهذا غير مستقيم، وفيه تأمل؛ لأن هذا على تقدير حذف المفعول الثاني. فأما على تقدير حذف المفعول الأول كما ذكر في " المغرب " مستقيم.(6/393)
وإذا تعذر تبليغه حدا، فأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله نظرا إلى أدنى الحد، وهو حد العبد في القذف، فصرفاه إليه وذلك أربعون، فنقصا منه سوطا. وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبر أقل الحد في الأحرار، إذ الأصل هو الحرية، ثم نقص سوطا في رواية عنه، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو القياس. وفي هذه الرواية نقص خمسة، وهو مأثور عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقلده ثم قدر الأدنى في الكتاب بثلاث جلدات؛ لأن ما دونها لا يقع به الزجر. وذكر مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أن أدناه على ما يراه الإمام يقدر بقدر ما يعلم أنه ينزجر؛ لأنه يختلف باختلاف الناس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإذا تعذر تبليغه حدا) ش: أي تبليغ التعزير، حدا هو منصوب على أنه مفعول المصدر المضاف إلى فاعله م: (فأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله نظرا إلى أدنى الحد، وهو حد العبد في القذف، فصرفاه إليه) ش: أي صرف أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله التعزير إلى حد العبد م: (وذلك) ش: أي حد العبد في القذف م: (أربعون، فنقصا منه) ش: أي من الأربعين م: (سوطا) .
م: (وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبر أقل الحد في الأحرار، إذ الأصل هو الحرية، ثم نقص سوطا في رواية عنه) ش: أي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي نقص السوط الذي هو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهو القياس) ش: لأن الحاجة ماسة إلى إظهار التعارف بين الحد والتعزير، وبنقص الواحد يقع التعارف.
م: (وفي هذه الرواية) ش: أي رواية القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهي رواية " الجامع الصغير " أيضاَ م: (نقص خمسة، وهو مأثور) ش: أي مروي م: (عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي ابن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهذا غريب.
وذكره البغوي في " شرح السنة " عن ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولم يتعرض أحد من الشراح إلى بيان أصل هذا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (فقلده) ش: أي فقلد أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (ثم قدر الأدنى في الكتاب) ش: أي قدر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أدنى التعزير في " مختصره " م: (بثلاث جلدات؛ لأن ما دونها لا يقع به الزجر) ش:.
م: (وذكر مشايخنا) ش: في شروح الجامع الصغير م: (أن أدناه) ش: أي أدنى التعزير م: (على ما يراه الإمام يقدر) ش: يجتهد في ذلك، وتقديره م: (بقدر ما يعلم أنه ينزجر؛ لأنه) ش: أي لأن التعزير م: (يختلف باختلاف الناس) ش: لأن الناس يتعاونون، فواحد ينزجر بأدنى ضربات ويعتبر به، ولا ينزجر بأحيان ذلك الآخر. وروي مثل ذلك عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولهذا قال في " الأجناس " قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في التعزير إن رأى القاضي أن يحبسه ولا يضربه فعل ذلك، وهو إلى الولي يعمل فيه برأيه، وعلى الوالي أن يجتهد في ذلك.(6/394)
وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه على قدر عظم الجرم وصغره، وعنه أنه يقرب كل نوع من بابه فيقرب اللمس والقبلة من حد الزنا والقذف بغير الزنا من حد القذف.
قال: وإن رأى الإمام أن يضم إلى الضرب في التعزير الحبس فعل؛ لأنه صلح تعزيرا، وقد ورد الشرع به في الجملة، حتى جاز أن يكتفى به، فجاز أن يضم إليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه) ش: أي روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن التعزير م: (على قدر عظم الجرم وصغره) ش: هذه رواية أبي سليمان بإملائه، ذكره الناطفي في كتاب " الأجناس ". قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - التعزير على قدر عظم الجرم وصغره، وعلى قدر ما يرى الحاكم في ذلك، وعلى قدر احتمال المضروب، لضعف بدنه يتحرى في ذلك.
وقال في " نوادر ابن رستم " عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الرجل شتم الناس إن كان له مروءة وعظ، وإن كان دون ذلك حبس، وإن كان ساما ضرب وحبس. قال: والمروءة عندي في الدين والصلاح. قال في " خلاصة الفتاوى ": سمعته من ثقة أن التعزير بأخذ المال إن رأى القاضي أو الوالي جاز، ومن جملة ذلك رجل لا يحضر الجماعة يجوز تعزيره بأخذ المال، إلى هنا لفظ " الخلاصة ".
م: (وعنه) ش: أي وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه يقرب كل نوع من بابه) ش: أي يقرب كل نوع من باب الجرم في باب التعزير، ويوضح ذلك بقوله م: (فيقرب اللمس والقبلة من حد الزنا) ش: يعني يعزر في اللمس الحرام والقبلة الحرام أكثر جلدات التعزير م: (والقذف بغير الزنا) ش: أي يقرب القذف بغير الزنا، لقوله يا كافر، ويا خبيث م: (من حد القذف) ش: فيضرب أقل جلدات التعزير.
وفي " شرح الأقطع ": لو شهدوا عند الإمام على أحد أنه قبل أجنبية أو لها رومي، أي شجاع عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه على قدر ما يراه الإمام في كل نوع فانقذف بغير الزنا يقرب من حد القذف أو شرب الخمر من شرب الخمر والوطء فيما دون الفرج يقرب من حد الزنا يعتبر كل شيء بموجده.
[التعزير يخضع لاجتهاد الإمام]
م: (وإذا رأى الإمام أن يضم إلى الضرب في التعزير الحبس فعل؛ لأنه) ش: أي الحبس م: (صلح تعزيرا، وقد ورد الشرع به في الجملة) ش: أي الحبس. وروى الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حدثنا علي بن سعيد الكندي وقال حدثنا ابن المبارك عن معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حبس رجلا في تهمة ثم خلى عنه» م: (حتى جاز أن يكتفى به) ش: أي الحبس م: (فجاز أن يضم إليه) ش: أي يضم الحبس إلى الضرب.(6/395)
ولهذا لم يشرع في التعزير بالتهمة قبل ثبوته، كما شرع في الحد؛ لأنه من التعزير.
قال: وأشد الضرب التعزير؛ لأنه جرى التخفيف فيه من حيث العدد فلا يخفف من حيث الوصف، كيلا يؤدي إلى فوات المقصود، ولهذا لم يخفف من حيث التفريق على الأعضاء. قال: ثم حد الزنا لأنه ثابت بالكتاب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهذا) ش: الإيضاح أن الحبس يصلح للتعزير فيما يجب فيه التعزير م: (لم يشرع) ش: أي الحبس م: (في التعزير بالتهمة) ش: أي بسبب التهمة م: (قبل ثبوته) ش: بأن شهد شاهدان مستوران على أنه قذف محصنا، فقال: يا فاسق أو يا كافر فلا يحسب التهم قبل تعزير الشهود م: (كما شرع) ش: أي الحبس م: (في الحد) ش: بسبب التهمة؛ لأن في باب الحد شيئا آخر فوق الحبس، وهو إقامة الحد عند وجود موجبه، فيجوز أن يحبس في تهمة لتناسب إقامة العقوبة الأدنى بمقابلة الذنب الأدنى. وفي باب الأموال والتعزير لا يحبس بالتهمة لأن الأقصى فيها عقوبة الحبس، فلو حبست بالتهمة فيهما لكان إقامة التوبة الأعلى مقابلة الذنب الأدنى، وهو مما يأباه الشرع م: (لأنه) ش: أي لأن الحبس م: (من التعزير) ش: والتعزير لم يشرع بالتهمة لما ذكرنا.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وأشد الضرب التعزير؛ لأنه جرى التخفيف فيه من حيث العدد، فلا يخفف من حيث الوصف كيلا يؤدي إلى فوات المقصود) ش: هو الزجر. واختلف المشايخ في شدته، قال في " شرح الطحاوي ": وقال بعضهم وهو المجمع في عضو لجمع الأسواط في عضو واحد، ولا يفرق على الأعضاء بخلاف سير الحد.
وقال بعضهم: لا بل شدته في الضرب لا في الجمع. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أشد الضرب ضرب الزاني، ثم حد القذف ثم التعزير. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - كلها سواء. وقال الحاكم - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في " الكافي " وضرب التعزير أشد من ضرب الزنا، وضرب الزاني أشد من ضرب الشارب، وضرب الشارب أشد من ضرب القاذف، وضرب القاذف أحق من جميع ذلك، ويجوز في سائره، إلا أن في حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون التخفيف في التعزير من حيث العدد دون الوصف م: (لم يخفف من حيث التفريق على الأعضاء، قال) ش: لأنه جرى النقصان من حيث العدد، فلو جرى التخفيف من حيث التفريق لفات المقصود، وهو الزجر. وذكر في " المبسوط ": ولهذا يجرد ويعزر في إزار واحد. وعند الأئمة الثلاثة حكم ضرب التعزير حكم ضرب الزنا، وذكر في " المحيط " أن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر في حدود الأصل أن التعزير يفرق على الأعضاء، ولا يضرب العضو الذي لا يضرب في الزنا. وذكر في أشربة الأصل يضرب التعزير في موضع واحد.
م: (ثم حد الزنا) ش: أي أشد من ضرب الشارب م: (لأنه ثابت بالكتاب) ش: والسنة، وسببه وهو الزنا من أعظم الذنوب، ولهذا شرع فيه أعظم العقوبات، وهو الرجم.(6/396)
وحد الشرب ثبت بقول الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولأنه أعظم جناية حتى شرع فيه الرجم، ثم حد الشرب؛ لأن سببه متيقن به، ثم حد القذف لأن سببه محتمل لاحتمال كونه صادقا، ولأنه جرى فيه التغليظ من حيث رد الشهادة فلا يغلظ من حيث الوصف.
ومن حده الإمام أو عزره فمات فدمه هدر. لأنه فعل ما فعل بأمر الشرع، وفعل المأمور لا يتقيد بشرط السلامة كالفصاد والبزاغ، بخلاف الزوج إذا عزر زوجته؛ لأنه مطلق فيه والإطلاقات تتقيد بشرط السلامة كالمرور في الطريق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وحد الشرب ثبت بقول الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: فلذلك كان ضرب دون ضرب الزنا فوق ضرب القذف م: (ولأنه) ش: أي ولأن الزنا م: (أعظم جناية، حتى شرع فيه الرجم ثم حد الشرب؛ لأن سببه) ش: وهو شرب الخمر م: (متيقن به) ش: لأنه ثابت يقينا بالبينة م: (ثم حد القذف؛ لأن سببه محتمل لاحتمال كونه) ش: أي كون القاذف م: (صادقا) ش: في قذفه ولا يقدر على إثبات زنا المقذوف؛ لأنه قل ما يحصل من يشهد على فعل المقذوف كالميل في المكحلة.
م: (ولأنه جرى فيه) ش: أي في حد القذف م: (التغليظ من حيث رد الشهادة، فلا يغلظ من حيث الوصف) ش: فلا يغلظ بشدة الضرب وحد القذف أحق في الجمع؛ لأن شارب الخمر قل ما يخلو عن القذف، فيصير كل شارب جامعا بين الشرب والقذف، فيتحقق منه جنايتان ومن القاذف جناية واحدة، فلهذا كان ضربه أحق من ضرب الشارب وإن كان منصوصا عليه.
[من مات بسبب التعزير]
م: (ومن حده الإمام أو عزره فمات فدمه هدر) ش: يعني لا يجب شيء على الإمام على بيت المال، وبه قال أحمد ومالك رحمهما الله، إلا أن مالكا قال: إذا ضربه تعزيرا مثله لا يضمن. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمن. وفي محل الضمان قولان، أحدهما في بيت المال، والثاني على عاقلة الإمام هكذا ذكره الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافه وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أما هدر الدم في الحد فبالإجماع.
وأما في التعزير فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمن في ماله وفي قوله: في بيت المال م: (لأنه) ش: أي لأن الإمام: (فعل ما فعل بأمر الشرع وفعل المأمور لا يتقيد بشرط السلامة كالفصاد) ش: الذي يقصد م: (والبزاغ) ش: بفتح الباء الموحدة وتشديد الزاي، وفي آخره غين معجمة من بزغ البيطار الدابة من باب منع، أي أسال دمها من قوائمها واسم الحديدة التي يفعل بها ذلك " المبزغ " بكسر الميم، وهو كمشرط الحجامة، وهذا إذا لم يتجاوز الموضع المعتاد فمات أو المبزوغ المقصود لا يلزم الضمان، كذا هنا.
م: (بخلاف الزوج إذا عزر زوجته) ش: فماتت يجب عليه ضمان الدية م: (لأنه مطلق فيه) ش: أي مباح فعله م: (والإطلاقات تتقيد بشرط السلامة) ش: فإذا فاتت السلامة يلزم الضمان م: (كالمرور في الطريق) ش: والاصطياد إذا أتلف من ذلك الوجه شيء يلزم الضمان بكونه مقيدا(6/397)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تجب الدية في بيت المال؛ لأن الإتلاف خطأ فيه إذ التعزير للتأديب، غير أنه تجب الدية في بيت المال؛ لأن نفع عمله يرجع إلى عامة المسلمين، فيكون الغرم في مالهم قلنا لما استوفى حق الله بأمره صار كأن الله أماته من غير واسطة، فلا يجب الضمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بشرط السلامة.
بخلاف ما لو جامع امرأته فماتت أو أفضاها حيث لا يضمن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في " المحيط " مع أنه مباح، فينبغي أن يتقيد بشرط السلامة؛ لأنه ضمن المهر للجماع، فلو وجبت الدية يجب ضمانان بمقابلة فعل واحد ذكر الحاكم - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يضرب امرأته على ترك الصلاة، ويضرب ابنه على تركها.
والمعلم إذا أدب الصبي فمات منه يضمن عندنا، وقال مالك وأحمد رحمهما الله لا يضمن الزوج ولا المعلم في التعزير ولا الأب في التأديب والحد والوطء إذا ضربه ضربا معتادا. ولو ضربه ضرباَ شديدا لا ضرب مثله في التأديب يضمن بإجماع الفقهاء - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تجب الدية في بيت المال) ش: يعني في مسألة الإمام إذا حد وعزره فمات، وقد مر الكلام فيه م: (لأن الإتلاف خطأ فيه، إذ التعزير للتأديب، غير أنه تجب الدية في بيت المال؛ لأن نفع عمله) ش: أي عمل الإمام م: (يرجع إلى عامة المسلمين، فيكون الغرم) ش: أي غرامة الضمان م: (في مالهم) ش: أي في مال المسلمين.
م: (قلنا لما استوفى) ش: أي الإمام م: (حق الله تعالى بأمره صار كأن الله أماته من غير واسطة) ش: جلد الجلاد، وإذا كان الأمر كذلك م: (فلا يجب الضمان) ش:.
فروع: يصح في التعزير الشهادة على الشهادة، وشهادة النساء مع الرجال [....
.] ؛ لأنه من حقوق العباد والله تعالى أعلم.
تم المجلد السادس من تجزئة المحقق
يليه المجلد السابع أوله كتاب السرقة(6/398)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كتاب السرقة
والسرقة في اللغة عبارة عن أخذ الشيء من الغير على سبيل الخفية والاستسرار، ومنه استراق السمع، قال تعالى: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} [الحجر: 18] (الحجر: الآية 18) ش: وقد زيدت عليه أوصاف في الشريعة على ما يأتيك بيانه إن شاء الله تعالى. والمعنى اللغوي مراعى فيها ابتداء وانتهاء، أو ابتداء لا غير، كما إذا نقب الجدار على الاستسرار وأخذ المال من المالك مكابرة على الجهار، وفي الكبرى وهو قطع الطريق مسارقة عن الإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب السرقة] [نصاب السرقة]
م: (كتاب السرقة)
ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام السرقة. ولما فرغ من ذكر المزاجر المتعلقة بصيانة التعزير شرع في ذكر المزاجر المتعلقة بصيانة الأموال، وصيانة النفس أقدم من صيانة المال، فلذلك أخر كتاب السرقة.
م: (والسرقة في اللغة عبارة عن أخذ الشيء من الغير على سبيل الخفية والاستسرار) ش: والسرقة على وزن فعلة، بفتح الفاء وكسر العين، من سرق من باب ضرب يضرب، ولها معنى لغوي، ومعنى شرعي، ومعناها اللغوي هو ما قاله المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله: السرقة في اللغة إلى آخره م: (ومنه) ش: أي: ومن المعنى اللغوي م: (استراق السمع) ش: وهو السماع حقيقة م: (قال الله تعالى: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} [الحجر: 18] (الحجر: الآية 18) ش: معناه: يستمع مستخفياً، ويقال: معناه رام اختلاسه سراً، واسترقت الشياطين من الملائكة كلاماً م: (وقد زيدت عليه) ش: أي: على المعنى اللغوي: م: (أوصاف في الشريعة) ش: أي قيود في المعنى الشرعي م: (على ما يأتيك بيانه إن شاء الله تعالى) ش: أي بيان تلك الأوصاف التي هي القيود.
م: (والمعنى اللغوي مراعى فيها) ش: أي أخذ الشيء من الغير على الحقيقة مراعى في السرقة م: (ابتداء وانتهاء) ش: وهي أن توجد الحقيقة ابتداء وانتهاء م: (أو ابتداء لا غير) ش: أي على وجه الحقيقة م: (كما إذا نقب الجدار على الاستسرار) ش: يعني ليلاً على الجدار يعني خفية ثم استيقظ صاحب المال م: (وأخذ المال من المالك مكابرة) ش: يعني مقابلة بالسلاح ومدافعة م: (على الجهار) ش: يعني أخذ المال في الانتهاء.
م: (وفي الكبرى) ش: أي في السرقة الكبرى م: (وهو قطع الطريق) ش: هذا جواب عما يقال يرد على ما قلت: قطع الطريق؛ لأنه لم يراع فيه الحقيقة.
وقد قلت: المعنى اللغوي في السرقة مراعى. فأجاب بقوله وفي الكبرى؛ أعني: قطع الطريق م: (مسارقة عن الإمام) ش: لأن قاطع الطريق يأخذ المال عن المارة حقيقة عن عين الإمام(7/3)
لأنه هو المتصدي لحفظ الطريق بأعوانه. وفي الصغرى مسارقة عين المالك أو من يقوم مقامه. قال: وإذا سرق العاقل البالغ عشرة دراهم أو ما يبلغ قيمته عشرة دراهم مضروبة من حرز لا شبهة فيه وجب عليه القطع.
والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] الآية (المائدة: الآية 38) ، ولا بد من اعتبار العقل والبلوغ، لأن الجناية لا تتحقق دونهما، والقطع جزاء الجناية ولا بد من التقدير بالمال الخطير؛ لأن الرغبات تفتر في الحقير، وكذا إذ أخذه لا يخفى فلا يتحقق ركنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذي يحفظ الطريق م: (لأنه هو المتصدي لحفظ الطريق بأعوانه) ش: وهو جمع عون، وهو الظهير والمرء بأعوانه رجاله الذين في خدمته وصدهم لحفظ الطريق.
م: (وفي الصغرى) ش: أي وفي السرقة الصغرى م: (مسارقة عين المالك) ش: الذي هو الحافظ م: (أو من يقوم مقامه) ش: أي أو مسارقة عين من يقوم مقام المالك، سواء كان صاحب أمانة أو ضمان لمستعير المستأجر والمودع والمرتهن والمضارب والفاجر.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا سرق العاقل البالغ عشرة دراهم أو ما يبلغ قيمته ش: أي: أو سرق ما يبلغ قيمته م: (عشرة دراهم مضروبة من حرز لا شبهة فيه وجب عليه القطع) ش: إلى هنا لفظ القدوري.
م: (والأصل فيه) ش: أي في وجوب القطع م: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] الآية (المائدة: الآية 38) ش: أي الذي يسرق والتي تسرق فاقطعوا أيديهما باتفاق العلماء، وهو جعل لتناول المال غير المحروز الشيء التافه الذي لا قيمة له.
والحديث وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يقطع السارق إلا في المحرز» على ما يجيء بيان الحديث م: (ولا بد من اعتبار العقل والبلوغ؛ لأن الجناية لا تتحقق دونهما) ش: أي دون العقل والبلوغ، وإنما خص المجنون والصبي؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل» م: (والقطع جزاء الجناية) ش: فلا تثبت الجناية على المجنون والصبي - والقطع عقوبة - وهما ليسا من أهل العقوبة.
م: (ولا بد من التقدير بالمال الخطير) ش: أي الذي له قيمة، وضد الخطير الحقير م: (لأن الرغبات تفتر في الحقير) ش: الرغبات جمع رغبة، وهو مصدر رغب عن الشيء رغباً ورغبة، وإذا أراده ورغب عنه لم يرده، والفتور الضعف والانكسار، المعنى أن الراغب في الشيء لا يرغب في الشيء الحقير.
م: (وكذا إذ أخذه لا يخفى) ش: أي وكذا أخذ الشيء الحقير لا يخفى، والذي يأخذه لا يخفيه عن الناس لخفائه، وإذا كان كذلك م: (فلا يتحقق ركنه) ش: أي ركن السرقة، وهو الأخذ(7/4)
ولا حكمة الزجر؛ لأنها فيما يغلب. والتقدير بعشرة دراهم مذهبنا. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - التقدير بربع دينار، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - بثلاثة دراهم. لهما أن القطع على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان إلا في ثمن المجن. وأقل ما نقل في تقديره ثلاثة دراهم، والأخذ بالأقل - وهو المتيقن به - أولى غير أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: كانت قيمة الدينار على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثني عشر درهما ثلاثة ربعها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن الخفية وتذكير الضمير على تأويل السرقة؛ لأنهما بمعنى م: (ولا حكمة الزجر) ش: أي ولا تتحقق أيضاً حكمة الزجر في أخذ الشيء الحقير م: (لأنها) ش: أي لأن حكمة الزجر م: (فيما يغلب) ش: أي وقوعها، وكذلك في المال الخطير.
م: (والتقدير) ش: أي تقدير الشيء الذي يقطع به يد السارق م: (بعشرة دراهم مذهبنا) ش: وفيه مذاهب الناس. وقال الحسن وداود والخوارج وابن بنت الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقطع، والقليل والكثير؛ لعموم الآية؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ويسرق البيضة فتقطع يده» متفق عليه. وقال ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقطع في أقل من خمسة دراهم.
وقال مالك وأحمد - رحمهما الله - يقطع في ربع دينار، أو قدر تلك دراهم. وروي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - خمسة دراهم. وهو المروي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، كذا في " جامع الترمذي ".
وروي عنهما أنه لا يقطع في أقل من أربعين درهماً. وهو غير صحيح.
م: (وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - التقدير بربع دينار، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - بثلاثة دراهم. لهما) ش: أي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن القطع على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان إلا في ثمن المجن) ش: بكسر الميم وهو الترس [....] به اشتراه صاحبه من جنة الليل وأجنه، أي ستره.
واختلفوا في ثمن الذي قطع به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقيل: كان عشرة دراهم، وقيل: ثلاثة دراهم، وقيل: خمسة دراهم، فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وأقل ما نقل في تقديره ثلاثة دراهم، والأخذ بالأقل - وهو المتيقن به - أولى غير أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: كانت قيمة الدينار على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثني عشر درهماً ثلاثة ربعها) ش: واحتج بما روى الترمذي عن عمرة، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - موقوفاً ومرفوعاً «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقطع في ربع» . واحتج مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - بما روي عن نافع، عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أن(7/5)
ولنا أن الأخذ بالأكثر في هذا الباب أولى احتيالا لدرء الحد، وهذا لأن في الأقل شبهة عدم الجناية، وهي دارئة للحد،
وقد تأيد ذلك بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع سارقاً في مجن قيمته ثلاثة دراهم» م: (ولنا أن الأخذ بالأكثر في هذا الباب أولى احتيالاً لدرء الحد) ش: لأن الحدود تندرئ بالشبهات م: (وهذا) ش: أي الأخذ بالأكثر م: (لأن في الأقل) ش: أي في عشرة دراهم م: (شبهة عدم الجناية، وهي) ش: أي الشبهة م: (دارئة للحد) ش: الشبهة، بيان ذلك أن في العشرة يجب القطع بالإجماع، وفيما دونها خلافاً. والأخذ بالمجمع عليه أولى من الأخذ بما فيه خلاف، لأن أدنى درجات الخلاف إيراث الشبهة، والحدود تندرئ بالشبهات.
م: (وقد تأيد ذلك) ش: أي ما ذكرنا م: (بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: (لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم) ش: هذا الحديث رواه الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني حدثنا [.....] عن منصور عن عطاء، عن ابن أم عزم، عن أم أيمن قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقطع السارق إلا في مجن» وقومت يومئذ على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ديناراً أو عشرة دراهم.
وأخرجه البيهقي في " الخلافيات ". وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضاً: حدثنا ابن أبي داود وعبد الرحمن بن عمرو الدمشقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: حدثنا ابن خالد الذهبي قال: حدثنا محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: «كان قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم» . رواه أبو داود.
وأخرجه الحاكم في مستدركه، وقال صحيح على شرط مسلم وشاهد حديث أيمن.
فإن قلت: أيمن هذا عده جماعة من الصحابة وقالوا: إنه قتل يوم حنين ولم يدرك عطاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فحينئذ فالحديث منقطع.
قلت: إن كان أيمن من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعطاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يدركه لكن يؤيده حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وإن كان تأخرت عن وفاته إلى ما بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما زعم الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكون الحديث منفصلاً، وإن كان من التابعين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -(7/6)
واسم الدراهم ينطلق على المضروبة عرفا، وهذا يبين لك اشتراط المضروب كما قال في الكتاب، وهو ظاهر الرواية، وهو الأصح رعاية لكمال الجناية، حتى لو سرق عشرة تبرا قيمتها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على ما زعمه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكون وغيره أيضاً متصلاً محالة، وعد جماعة أيمن من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - منهم ابن إسحاق، وابن سعيد، وأبو القاسم البغوي، وأبو نعيم، وابن المنذر، وابن نافع، وابن عبد البر. ومما يؤيد مذهبنا ما رواه النسائي من حديث عبد الله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: «كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشرة دراهم» .
ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا عبد الأعلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن محمد بن إسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجن» . قال عبد الله: كان ثمن المجن عشرة دراهم.
وأخرج أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مسنده عن الحجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب به مرفوعاً: «لا تقطع يد السارق في أقل من عشرة دراهم» ، ورواه إسحاق بن راهويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مسنده.
وروى ابن أبي شيبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مصنفه حدثنا المثنى بن الصباح، عن عمرو ابن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن رجل من مزينة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما بلغ ثمن المجن قطعت يد صاحبه» ، وكان ثمن المجن عشرة دراهم.
وروى الطبراني في " الأوسط " حدثنا محمد بن نوح بن حرب، حدثنا خالد بن مهران، حدثنا أبو قطيح البلخي، عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه، عن عبد الله ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا قطع إلا في عشرة دراهم» . وروى عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مصنفه أخبرنا الثوري، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم.
م: (واسم الدراهم ينطلق على المضروبة عرفاً) ش: أي ينطلق على المكسورة في عرف الناس، غير المكسورة لا يسمى دراهم في العرف، وتكلم العلماء في الدراهم، هل يشترط عشرة دراهم مضروبة أم لا. ونقل المصنف لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - بلفظ المضروبة كما ذكر عن قريب.
م: (وهذا) ش: أشار به إلى قوله: واسم الدراهم ينطلق على المضروبة عرفاً م: (يبين لك اشتراط المضروب، كما قال في الكتاب) ش: كما قال القدوري في مختصره م: (وهو) ش: أي الذي ذكره في الكتاب م: (ظاهر الرواية، وهو الأصح رعاية لكمال الجناية، حتى لو سرق عشرة تبرا قيمتها.(7/7)
أنقص من عشرة مضروبة لا يجب القطع، والمعتبر وزن سبعة مثاقيل؛ لأنه المتعارف في عامة البلاد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أنقص من عشرة مضروبة لا يجب القطع) ش: أي ظاهر الرواية هو الأصح، احترز به عن رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المضروب وغير المضروب سواء، ذكره في " المحيط ".
وقال الأترازي: في نقل المصنف عن القدوري نظر؛ لأن الشيخ أبا نصر ذكر ذلك في الشرح الكبير، وهو تلميذ القدوري رواية المختصر، ولم يقيد المضروبة، بل أثبت الرواية بقوله: مضروبة أو غير مضروبة ثم قال: أما قول صاحب الكتاب عشرة دراهم مضروبة أو غير مضروبة فهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ثم قال: وروى بشر عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن سرق عشرة دراهم تبرا لا يقطع.
وقال في " التحفة " ذكر أبو الحسن الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعتبر عشرة دراهم مضروبة، وكذا روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يقطع في عشرة دراهم تبرا لم تكن مضروبة.
وروى الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا سرق عشرة مما تروج بين الناس قطع، فهذا يدل على أن التبر إذا كان رائجاً يقطع فيه. إلى هنا لفظ التحفة، يعني اشتراط المضروبة في العشرة لأجل رعاية الكمال في الجناية.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا دليل الأصح يعني في شروط العقوبات يراعى وجودها على صفة الكمال، وبالتبر أنقص من المضروب قيمته، ولهذا شرطنا الجودة، حتى لو سرق زيوفاً أو بنهرجة أو نستوقة لا يجب القطع.
ذكره في شرح الطحاوي؛ لأن نقصان الوصف يوجب نقصان المالية كنقصان القدر فأدرك شبهته، حتى لو سرق عشرة تبرا قيمتها أنقص من عشرة مضروبة لا يجب القطع، هذا نتيجة ما قبله، وهو ظاهر.
والتبر هو القطع المأخوذ من المعدن.
م: (والمعتبر) ش: يعني في عشرة دراهم سبعة مثاقيل من الذهب م: (وزن سبعة مثاقيل؛ لأنه المتعارف في عامة البلاد) ش: وزن الدراهم أربعة قراريط، ووزن الدينار عشرون قيراطاً مائتا درهم وزن مائة وأربعين مثقالاً، وزن كل مثقال درهم وثلاثة أسباع درهم.
وقد مر في كتاب الزكاة من هذا؛ لأنه هو المتعارف في عامة البلاد، وعلى هذا استقر الأمر في ديوان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فتعلق الأحكام بهذه الدراهم كنصاب الزكاة وتقادير الديات. وقال في شرح الطحاوي يعتبر قيمة السرقة وقت السرقة وعند القطع عند الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(7/8)
وقوله: أو ما يبلغ قيمته عشرة دراهم، إشارة إلى أن غير الدراهم يعتبر قيمته بها وإن كان ذهبا،
ولا بد من حرز لا شبهة فيه، لأن الشبهة دارئة، وسنبينه من بعد إن شاء الله تعالى. قال والعبد والحر في القطع سواء؛ لأن النص لم يفصل، ولأن التنصيف متعذر، فيتكامل صيانة لأموال الناس، ويجب القطع بإقراره مرة واحدة، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقطع إلا بإقراره مرتين، ويروى عنه أنهما في مجلسين مختلفين؛ لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقوله) ش: أي وقول القدوري: م: (أو ما يبلغ قيمته عشرة دراهم، إشارة إلى أن غير الدراهم يعتبر قيمته بها) ش: أي بالدراهم م: (وإن كان ذهباً) ش: واصلاً بما قبله، وإن كان ما يبلغ قيمته عشرة دراهم ذهباً. وفي " المحيط " لو سرق ديناراً قيمته أقل من عشرة دراهم يقطع، وما روي عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم أو بالدينار» ، قال أو بالدينار المقوم بقيمة الشرع عشرة دراهم إلا الدينار المقوم بقيمة الوقت؛ لأن القيمة باعتبار العرف مختلفة، قد يكون عشرة، وقد يكون عشرين، وقد يصير ثمانية دراهم. قلت: قيمة الدينار في زماننا هذا ثلاثمائة وثلاثون درهماً، وقد كان في الأول بعشرين درهماً، فلم يزل تبراً إلى أن بلغ هذا المبلغ.
م: (ولا بد من حرز لا شبهة فيه؛ لأن الشبهة دارئة، وسنبينه) ش: أي رافعة للحد، والحرز المكان الحرية، وهو الذي يحرز فيه الشيء، أي يحفظ، والمراد بالمحرز ما لا يعد صاحبه مضيعاً م: (من بعد إن شاء الله تعالى) ش: سنبين الحرز في فصل الحرز إن شاء الله تعالى.
م: (قال: والعبد والحر في القطع سواء؛ لأن النص لم يفصل) ش:، قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] الآية، فبعمومه يتناول الحر والعبد م: (ولأن التصنيف متعذر) ش: أي ينصف القطع الذي هو الحد مشهور م: (فيتكامل صيانة لأموال الناس) ش: أي فيتكامل الحد الذي هو القطع؛ لأجل حفظ أموال الناس، لأن في تركه لأجل تعذر التنصيف فساداً لا يخفى كما في القصاص م: (ويجب القطع) ش: أي قطع يد السارق م: بإقراره مرة واحدة) ش: هذا لفظ القدوري.
م: (وهذا) ش: أي لإقراره مرة واحدة م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال أكثر العلماء.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقطع إلا بإقراره مرتين) ش: وبه قال ابن أبي ليلى وأحمد وزفر وابن شبرمة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وكذا الخلاف في شرب الخمر م: (ويروى عنه) ش: أي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنهما) ش: أي الإقرارين ينبغي أن يكونا م: (في مجلسين مختلفين) ش: كذا ذكر الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير ".
وذكر بشر - رَحِمَهُ اللَّهُ - رجوع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى قولهما م: (لأنه ش: أي لأن(7/9)
إحدى الجهتين، فيعتبر بالأخرى، وهي البينة كذلك اعتبرنا في الزنا. ولهما أن السرقة قد ظهرت بالإقرار مرة، فيكتفى به، كما في القصاص وحد القذف، ولا اعتبار بالشهادة؛ لأن الزيادة تفيد فيها تقليل تهمة الكذب، ولا تفيد في الإقرار شيئا؛ لأنه لا تهمة، وباب الرجوع في حق الحد لا ينسد بالتكرار والرجوع في حق المال في السرقة لا يصح أصلا؛ لأن صاحب المال يكذبه، واشتراط الزيادة في الزنا، بخلاف القياس، فيقتصر على مورد الشرع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإقرار م: (إحدى الجهتين) ش: وهما البينة والإقرار م: (فيعتبر) ش: أي الإقرار م: (بالأخرى) ش: أي بالحجة الأخرى م: (وهي البينة) ش: فإن البينتان تثبتان م: (كذلك اعتبرنا في الزنا) ش: كما اعتبرنا الإقرار هاهنا بالبينة كذا بسنده في الزنا حيث شرطنا الإقرار فيه أربع مرات كما أن البينة فيه أربع؛ ولأنه روى أبو داود عن أبي أمية المخزومي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أتي بلص قد اعترف فقال له: «ما أخالك سرقت "، قال: بلى، فأعاده عليه مرتين أو ثلاثاً فقطع.» فعلم بهذا أن الإقرار مرة واحدة لا يوجب القطع، ويؤيد ما روى الطحاوي في " شرح الآثار " بإسناده إلى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلاً أقر عنده بسرقة مرتين، فقال: قد شهدت على نفسك شهادتين، فأمر به فقطع وعلقها في عنقه.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (أن السرقة قد ظهرت بالإقرار مرة فيكتفى به) ش: أي بالإقرار مرة واحدة م: (كما في القصاص وحد القذف) ش: وغيرهما، فإن الإقرار فيها يكفي بمرة واحدة. م: (ولا اعتبار بالشهادة) ش: هذا جواب عن قياس أحد الحجتين بالأخرى، وبيان العارف بيانه هو قوله م: (لأن الزيادة تفيد فيها) ش: أي في الشهادة م: (تقليل تهمة الكذب، ولا تفيد في الإقرار شيئاً؛ لأنه لا تهمة) ش: أي في الإقرار؛ لأن الإقرار إن وقع صادقاً، فلا يرد أو صدقاً بالثاني.
وإن وقع كذباً فلا يتغلب صدقاً بالتكرار وبالرجوع جواب عما يقال إنما يشترط التكرار؛ لقطع احتمال الرجوع عن إقراره واحتمال أن يثبت عليه فيؤكد على قبوله بالتكرار، فأجاب، بقوله م: (وباب الرجوع) ش: أي عن الإقرار م: (في حق الحد لا ينسد بالتكرار) ش: لأنه لو أقر مراراً كثيرة ثم رجع صح رجوعه في حق الحد؛ لأنه يكذب له.
م: (والرجوع في حق المال في السرقة لا يصح أصلاً؛ لأن صاحب المال يكذبه) ش: فلا يصح، فظهر الفرق بهذا أن لا فائدة في تكرار الإقرار في حق القطع؛ ولأنه في حق إسقاط ضمان المال بالإقرار. م: (واشتراط الزيادة في الزنا) ش: جواب عن قوله: كذلك اعتبرنا في الزنا معنى اشتراط الزيادة في الزنا م: (بخلاف القياس) ش: وفي " المحيط " وفي " المبسوط " والقياس في الزنا أن يكتفى بالإقرار مرة واحدة فيه، فاشتراط التكرار فيه على خلاف القياس بالنص م: (فيقتصر على مورد الشرع) ش: أي على مورد النص، والنص الوارد في الزنا لا يكون وارداً في باب السرقة؛ لأن في السرقة ورد نص آخر، وهو أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قطع سارقاً بالإقرار مرة واحدة» . وأما(7/10)
قال: ويجب بشهادة شاهدين لتحقق الظهور كما في سائر الحقوق، وينبغي أن يسألهم الإمام عن كيفية السرقة وماهيتها وزمانها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حديث المخزومي فلا يدل على اشتراط مرتين، بل دل أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - احتاط في درئه وعلى حثه على الرجوع، وهو مستحب، أو على جواز تلقين الرجوع. وكذا حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بدليل قوله: شهدت على نفسك مرتين. وكذا قال الكاكي: - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال الأترازي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - والذي روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من التكرار أمر اتفاقي لا قصدي، وفيه تأمل.
[شروط القطع]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويجب) ش: أي القطع م: (بشهادة شاهدين لتحقق الظهور) ش: أي ظهور السرقة بالشهادة م: (كما في سائر الحقوق) ش: ولا خلاف فيه لأهل العلم كما في القصاص م: (وينبغي أن يسألهم الإمام عن كيفية السرقة) ش: بأن يقال: كيف سرق، فالاحتمال أنه نقب البيت فأدخل يده أو أخذ المتاع فذهب حيث لا ينقطع على ظاهر الرواية، خلافاً بما روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأمالي ".
وكذا إذا قال صاحباً له على الباب لا يقطع واحد منهما؛ لأنه في الأول مختلس لا هاتك الحرز؛ لأن هتك الحرز في البيت لا يكون إلا بالدخول، بخلاف صندوق الصيرفي، وفي الثانية لم يوجد الفعل الموجب للقطع على التمام من كل واحد منهما، بخلاف ما إذا رمى الثوب من البيت إلى الطريق، ثم أخذ فخرج فأخذ حيث يقطع؛ لأن الفعل الموجب للقطع، ثم به وجدة.
م: (وماهيتها) ش: أي يسأل عن ماهية السرقة بأن يعود ما هي؟ لاحتمال أن المسروق شيء نافذ، أو ما يتسارع إليه الفساد، أو مال ذي رحم محرم منه، أو مال فيه شركة للسارق، أو مال أحد الزوجين، أو دراهم المديون أخذهما السرقة بقدر حقه، أو أقل من قدر النصاب. ويحتمل أن الشاهدين نسباه إلى السرقة لاستراق الكلام، كما قال الله تعالى {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} [الحجر: 18] (الحجر: الآية 18) ، أو لأنه لا يعتمد في الركوع والسجود. وقد ورد في الحديث أن «أسوأ الناس من سرق من صلاته» فلا بد إذن من السؤال عنها.
م: (وزمانها) ش: أي ويسأل عن زمان السرقة بأن يقال: متى سرق لاحتمال التقادم، لأن التقادم في الحدود الخالصة حق لله تعالى يبطل الشهادة للتهمة، بخلاف الإقرار؛ لعدم التهمة. وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا إذا ثبتت السرقة بالبينة، أما إذا ظهرت السرقة بالإقرار لا يحتاج الإمام إلى السؤال عن الزمان؛ لأن تقادم العهد لا يمنع صحة الإقرار ذكره في " المبسوط " و " المحيط.
فإن قيل ينبغي أن يكون التقادم غير مانع هاهنا، لما أن الشاهد في التأخير غير متهم، إذ لا يقبل شهادة بدون دعوى المالك، كما في حد القذف لشرطية الدعوى. قلنا: قد تقدم جوابه في(7/11)
ومكانها لزيادة الاحتياط كما مر في الحدود. ويحبسه إلى أن يسأل عن الشهود للتهمة.
قال: وإذا اشترك جماعة في سرقة فأصاب كل واحد منهم عشرة دراهم قطع، وإن أصابه أقل لا يقطع؛ لأن الموجب للقطع سرقة النصاب ويجب على كل واحد بجنايته، فيعتبر كمال النصاب في حقه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
باب الزنا، ذكره في " الإيضاح ".
م: (ومكانها) ش: أي ويسأل عن مكان السرقة لاحتمال أنه سرق في دار الحرب، أو سرق من مستأمن في دارنا لا قطع فيه استحساناً؛ لأن حرمة ماله مؤقتة لا مؤبدة.
أو سرق من غير الحرز، أو من بيت أذن له بالدخول فيه، ومن حمار أو نهار أو بالليل يقطع؛ لأنه لا يؤذن بالدخول في الليل، ذكره في شرح الطحاوي.
م: (لزيادة الاحتياط) ش: في السؤال عن مكان السرقة م: (كما مر في الحدود، ويحبسه) ش: أي كما مر، مثل هذه الإشارة في كتاب الحدود، وتجب بالنصب عطفاً على قوله: أن يسألهما أو يحبس ليحيي الإمام السارق م: (إلى أن يسأل عن الشهود للتهمة) ش: أي لأجل تهمة السارق؛ لأنه صار حياً منهما بالسرقة فيحبسه تعزيراً عليه، وقد حبس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلام رجلاً بالتهمة.
وقد مر ذلك في كتاب الحدود، وإنما يحبسه إلى أن يسأل عن عدالة الشهود؛ لأن التوثق بالكفالة ليس بمشروع فيما مبناه على الدرء والقطع قبل التعديل لا يجوز؛ لعدم التلاقي إذا وقع الغلط، فتعين الحبس لئلا يفوت الحق بالهرب.
[اشترك جماعة في سرقة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا اشترك جماعة في سرقة فأصاب كل واحد منهم عشرة دراهم قطع، وإن أصابه أقل) ش: أي أقل من نصاب السرقة م: (لا يقطع) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والثوري وابن الماجشون المالكي.
ونقل عن ابن الماجشون - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقطعون بكل حال. وقال مالك وأحمد وأبو ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يقطع الكل، لأن سرقة النصاب فعل يوجب القطع فيه، الواحد والجماعة كالقصاص. قلنا: كل واحد يقطع بجنايته والجناية الموجبة للقطع سرقة النصاب ولم يوجد، بخلاف القصاص. فإن فعل كل واحد جناية موجبة القصاص؛ لأن خروج كل واحد صالح لخروج الروح.
م: (لأن الموجب للقطع سرقة النصاب ويجب على كل واحد بجنايته، فيعتبر كمال النصاب في حقه) ش: أي في حق كل واحد منهم، وهذا الذي ذكره فيما إذا لم يكن بين الجماعة صبي أو مجنون أو أخرس أو ذو رحم محرم من صاحب المال. وإذا كان واحد منهم في الجماعة لا قطع.
وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن ولي الصبي أو المجنون إخراج المطاع، فلا يقطع، وإذا ولي غيرهما قطع؛ لقول الوالي، والله أعلم.(7/12)
باب ما يقطع فيه وما لا يقطع ولا يقطع فيما يوجد تافها مباحا في دار الإسلام كالخشب والقصب والحشيش والسمك والطير والصيد والزرنيخ والمغرة والنورة. والأصل فيه حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشيء التافه» أي: الحقير، وما يوجد جنسه مباحا في الأصل بصورته غير مرغوب فيه حقير تقل الرغبات فيه، والطباع لا تضن به فقلما يوجد آخذه على كره من المالك فلا حاجة إلى شرع الزاجر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب في بيان ما يقطع فيه السارق وفي بيان ما لا يقطع فيه] [سرقة ما دون النصاب]
م: (باب ما يقطع فيه وما لا يقطع)
ش: أي هذا باب في بيان ما يقطع فيه السارق، وفي بيان ما لا يقطع فيه. ولما ذكر تفسير السرقة وشروطها، شرع في تعداد الشروع الذي يوجب القطع، والذي لا يوجب.
م: (ولا يقطع فيما يوجد) ش: بأنها بالتاء المثناة من فوق وبالفاء - أي خصيرا سيروا - م: (تافهاً مباحاً) ش: وهو ما يخير فيه العاقل بين التحصيل والترك في دار الإسلام، قيد به؛ لأن الأموال كلها على الإباحة م: (في دار الإسلام كالخشب والقصب والحشيش والسمك والطير والصيد والزرنيخ والمغرة والنورة) ش: بالفتحات وهو الطين الأحمر، ويجوز تسكين عينها، والعامة يقولون بضم الميم وسكون العين والنون والواو لا بالهمزة، وهي معروفة.
م: (والأصل فيه) ش: أي في عدم القطع في التافه وما يوجد مباحاً في دار الإسلام م: (حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «قالت: كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشيء التافه» ش: هذا الحديث رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ومسنده، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «قالت: لم تكن يد السارق تقطع على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشيء التافه» .
وزاد في مسنده ولم يقطع في أي من ثمن مجن أو ترس، انتهى. ورواه مرسلاً أيضاً. م: (أي الحقير) ش: تفسير من المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وليس من الحديث م: (وما يوجد جنسه) ش: أي الذي يوجد جنسه، وهو في محل الرفع على الابتداء، وخبره قوله: حقيراً، أي ما يوجد جنسه حال كونه م: (مباحاً في الأصل بصورته) ش: احترز به عن الأبواب والأواني المتخذة من الجث والحصر البغدادية، فإن فيها القطع لتغيرها بتباعد الصورة الأصلية بالصفة المتفق عليها م: (غير مرغوب فيه) ش: غير منصوب على أنه صفة لقوله مباحاً، واحترز به عن الذهب والفضة لوجود الرغبة فيهما، فانتفت الحقارة عنهما، وكذلك اللؤلؤ وسائر الجواهر.
م: (حقير) ش: قد ذكرنا أنه خبر المبتدأ م: (تقل الرغبات فيه) ش: جملة استئنافية ولا تضن به، أي لا تبخل به، والضنانة بالشيء البخل به، ويجوز فتح الضاد وكسرها فيه فقل ما يوجد أخذه على كره من المالك وكتابه، فلما وطالما موصولة نقله الطرزي عن ابن الحر، ولكن(7/13)
ولهذا لم يجب القطع بسرقة ما دون النصاب، ولأن الحرز فيها ناقص. ألا ترى أن الخشب يلقى على الأبواب، وإنما يدخل في الدار للعمارة لا للإحراز.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن درستويه لم يجز أن يوصل شيء من الأفعال بما سوى نعم وبئس، هذا إذا كانت كافة، وإذا كانت مصدرية فليس إلا الفصل.
قوله: على كره بالفتح والضم لغتان، يعني كالمخطف والمضعف. وحاصل المعنى أي قليل الخاف المستقنة بالمالك إذا أخذ ما يؤخذ أخذ جنسه مباحاً في الأصل لصورته غير مرغوب فيه؛ لأن الظن النصة بالأشياء الحقيرة من غاية دناء الهمة وخسة النفس، كما إذا كان كذلك فلا حاجة إلى الشرع أخبر فأخذها حقيقة لوجود الرضى من المالك غالباً.
فإن قيل: ما فائدة هذه التأكيدات ويكتفى بقوله: غير مرغوب فيها.
أجيب بأن: مثل هذه التأكيدات جاءت في كتاب الله تعالى.
مع أنه متعال عن الشهرة والغلط، كما في قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222] (البقرة: الآية 222) ، فأولى أن يجيء في كلام الزاهدي هو مظنة السهو، ولإزاحة ما يوهم السامع من وقوع السهو، كذا في " النهاية ". وقال الكاكي: ويمكن أن يقال في هذه التأكيدات إشارة إلى نفي أوصاف يوجب عدم القطع في الذهب والفضة، فإن كل وصف من هذه الأوصاف يوجب عدم القطع، فصارت كلها منفية في الذهب والفضة.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل عدم الحاجة إلى الزاجر في سرقة ما يوجب جنسه مباحاً في الأصل م: (لم يجب القطع بسرقة ما دون النصاب) ش: لاشتراكهما في المعنى الموجب لنفي القطع م: (ولأن الحرز فيها) ش: أي في الأشياء المذكورة وهي الخشب والقصب إلى آخر ما ذكره م: (ناقص) ش: وأوضح نقصان الحرز فيها بقوله م: (ألا ترى) ش: بقوله م: (أن الخشب يلقى على الأبواب، وإنما يدخل في الدار للعمارة لا للإحراز) ش: أما الساج والأبنوس فإنه يقطع فيهما؛ لأن العادة جارية بإحرازهما، وكذلك يقطع في الخشب المعمول؛ لأنه وجدت فيه صفة هي نزلى قيمة على قيمة الأصل.
وعن أبي يوسف في " نوادر هشام " أنه قال: أنا أقطع على كل شيء سرق إلا في الشراب والسرقين. قال في شرح الأقطع، وهو قول الشافعي. وزعم أصحابه أي في الماء والتراب وجهين.
وروي عن أبي يوسف في الهارونيات قال أقطع من كل شيء إلا في الخشب. في الإملاء قال أبو يوسف: أقطع في كل شيء إلا في الماء والتراب والطين والجص والعارف والنبيذ، ومن جملة الأشياء التي ذكرها المصنف التي لا قطع فيها الزرنيخ. قال الأترازي: ينبغي أن يجب(7/14)
والطير يطير، والصيد يفر، وكذلك الشركة العامة التي كانت فيه، وهو على تلك الصفة تورث الشبهة، والحدود تندرئ بها. ويدخل في السمك المالح والطري، وفي الطير الدجاج والبط والحمام لما ذكرنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القطع في الزرنيخ؛ لأنه يحرز ويصان في دكاكين العطارين كسائر الأموال. قلت: على ما ذكره ينبغي أن يقطع في المعدة؛ لأنها تحرز عند العطارين وتباع بالأرطال. وقال الشافعي ومالك وأحمد وأبو ثور: يتعلق القطع بسرقة كل مال يبلغ قيمته نصاباً إلا التراب والسرقين.
وروى هشام عن محمد: إذا سرق الذهب أو الفضة أو اللؤلؤ والجوهر على الصورة التي يوجد مباحة، وهو المختلط بالحجر والتراب لا يقطع في ظاهر المذهب، لا يقطع لأنه ليس سرقة حقاً. وكل من يتمكن من أخذه لا يتركه ويتم إحرازه عادة.
م: (والطير يطير والصيد يفر) ش: وهو معطوف على قوله: الخشب تلقى على الأبواب. وأراد به الطير المذكور في أول الباب وكذلك الصيد، فإذا كان الأمر فيهما كما ذكر تقل الرغبة فيهما، فلا يشرع الزاجر في مثلها. م: (وكذلك الشركة العامة التي كانت فيه) ش: أي في الصيد، يعني مباحاً للعامة، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الصيد لمن أخذ» فكان كمال بيت المال والمغانة والحشو والخبث فلا قطع فيها.
كذا أقره الكاكي وقال: إلا الشركة العامة التي كانت فيه أي فيما يوجد جنسه مباحاً م: (وهو على تلك الصفة) ش: أي والحال أنه على تلك الصفة التي كان عليها، وهي مشتركة يحترز فيها على الأبواب والأواني المتخذة والخشب كما ذكره م: (تورث الشبهة) ش: خبر قوله: وهو على تلك الصفة، أي تورث شبهة الإباحة م: (والحدود تندرئ بها) ش: أي بالشبهة.
م: (ويدخل في السمك المالح والطري) ش: أي يدخل في إطلاق القدوري لفظ سمك طرية ويابسة وهو المالح والمقدر نص على ذلك الكرخي، وقال ابن زاهر: يقال سمك ملح وملح، ولا تلتفتن إلى قوله - الزاجر يطعم المالح والطري - فإنه مولد لا يؤخذ بقوله.
م: (وفي الطير الدجاج) ش: أي ويدخل في إطلاق القدوري لفظ الطير والدجاج م: (والبط والحمام لما ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله والطير يطير، والصيد يفر، يعني الطيران والفرار دليل على نقصان الحرز، فلم يقطع لهذا. قال في " الجامع الصغير ": رجل سرق طيراً يساوي عشرة دراهم لا يقطع، وقال الفقيه أبو الليث في شرح " الجامع الصغير ": اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: أراد به الطائر الذي يكون طيراً سوى الدجاج والبط، فيجب فيهما القطع، لأنه بمعنى الأهلي، وقال بعضهم: لا يجب(7/15)
ولإطلاق قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا قطع في الطير» . وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجب القطع في كل شيء إلا الطين والتراب والسرقين، وهو قول الشافعي، والحجة عليهما ما ذكرناه. قال ولا قطع فيما يتسارع إليه الفساد كاللبن واللحم والفواكه الرطبة؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لا قطع في ثمر ولا كثر»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القطع في جميع الطيور، وهذا القول أصح.
وذكر في كتاب: ولو سرق شيئاً من الدجاج أو البط أو الحمام لا يجب القطع.
م: (ولإطلاق قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا قطع في الطير» ش: هذا غريب مرفوعاً. ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه وعبد الرزاق موقوفاً على عثمان، فإنه قال: «لا قطع في الطير» . وأخرج البيهقي عن أبي ذر أنها المرسلة، قال: ليس على سارق الحمام قطع.
قال البريقي: أراد الحمام في غير حرز، وقال الشيخ علاء الدين التركماني ظنه الحمام بالتخفيف وإنما هو الحمام بالتشديد، ويعرب عليه ابن أبي شيبة في مصنفه باب الرجل يدخل الحمام فيسرق، حدثنا يزيد بن الخباب أخبرني معاوية بن صالح حدثني أبو زياد عن علي عن جرين عن أبي الدرداء أنه سئل عن سارق الحمام، فقال: لا قطع عليه. م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجب القطع في كل شيء إلا الطين والتراب والسرقين، وهو قول الشافعي، والحجة عليهما ما ذكرناه) ش: أي على أبي يوسف والشافعي ما ذكرناه من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا قطع فيما يتسارع إليه الفساد كاللبن واللحم والفواكه الرطبة) ش: وعن أبي يوسف أن عليه القطع، وبه قالت الأئمة الثلاثة، والفواكه الرطبة كالبطيخ والفواكه على الشجر، والزرع الذي لم يحصد.
واحتجوا بما روي في " شرح الآثار «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدث عن التمر المعلق، فقال: لا قطع فيه إلا ما أواه الجرين وبلغ ثمن المجن ففيها القطع، وما يبلغ ثمن المجن نفسه غرامة مثله وجلدات تكال.» وحجة أبي حنيفة ومحمد ما ذكره بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - م: (لا قطع في تمر ولا كثر) ش: هذا أخرجه الترمذي عن الليث بن سعد والنسائي وابن ماجه عن ابن عيينة كلاهما عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حسان عن محمد بن واسع بن حبان «أن غلاماً سرق وولى من حائط فرفع إلى مراون فأمر بقطعه فقال رافع بن خديج قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لا قطع في ثمر ولا كثر»(7/16)
والكثر: الجمار، وقيل الودي. وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا قطع في الطعام» والمراد به والله أعلم ما يتسارع إليه الفساد كالمهيأ للأكل منه وما في معناه كاللحم والتمر لأنه يقطع في الحنطة والسكر إجماعا. وقال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقطع فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه ابن حبان في صحيحه.
قوله: ولا كثر بفتح الكاف والثاء المثلثة، قال أبو عبيدة: الكثر جار النحل في كلام الأنصار وهو الجذب أيضاً.
وقال ابن داير: أهل العراق يسمون الجمار الجذب. وأشار المصنف إلى تفسير أبي عبيد بقوله: م: (والكثر: الجمار) ش: بضم الجيم وتشديد الميم، وفي آخره راء.
وقال الجوهري: الجمار شحم النحل م: (وقيل الودي) ش: بفتح الواو وكسر الدال المهملة وتشديد الياء وهو السيل، وهو صغار النحل.
وقال الأترازي: تفسير الجمار بالودي لم يثبت في قوانين اللغة م: (وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا قطع في الطعام» ش: هذا غريب بهذا اللفظ. وأخرج أبو داود في المراسيل عن جرير بن حازم عن الحسن البصري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا قطع في الطعام» . وروى ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا حفص عن أشعث بن عبد الملك وعمر عن الحسن «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي برجل سرق طعاماً فلم يقطعه» ورواه عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا سفيان الثوري عن رجل عن الحسن، فذكره وزاد قال سفيان: هو الطعام الذي يفسد من نهاره كالثريد واللحم.
م: (والمراد به - والله أعلم - ما يتسارع إليه الفساد كالمهيأ للأكل منه) ش: أي المراد من الطعام المذكور في الحديث المذكور المهيأ، أي المجهز للأكل كالخبز واللحم ذكره في الإيضاح م: (وما في معناه) ش: أي عبر ما بمعنى ما يهيأ للأكل م: (كاللحم والتمر) ش: لف ونشر، لأن قوله كاللحم نظير قوله كالمهيأ للأكل.
وقوله والتمر نظير ما في معناه م: (لأنه) ش: أي لأن السارق م: (يقطع في الحنطة والسكر إجماعاً) ش: لأنهما لا يسارع إليهما الفساد.
هذا إذا لم يكن العام عام مجاعة وتحطاماً إذا كان فلا قطع، سواء كان مما يسارع إليه الفساد أو لا، وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا قطع في عام سنة، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا قطع في مجاعة مضطر» .
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقطع فيها) ش: أي فيما ذكر من اللبن واللحم والفواكه(7/17)
لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لا قطع في ثمر ولا كثر، فإذا أواه الجرين أو الجران قطع.» قلنا: أخرجه على وفاق العادة والذي يؤويه الجرين في عادتهم هو اليابس من الثمر وفيه القطع.
قال: ولا قطع في الفاكهة على الشجر والزرع الذي لم يحصد؛ لعدم الإحراز، ولا قطع في الأشربة المطربة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرطبة والطعام م: (لقوله: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لا قطع في ثمر ولا كثر فإذا أواه الجرين أو الجران قطع» ش: هذا الحديث غريب بهذا اللفظ.
وروى مالك في " الموطأ " قال أبو مصعب: أخبرنا مالك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل، فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن» . قوله حريسة جبل، قال ابن الأثير: ليس فيما بالجبل إذا سرق قطع؛ لأنه يحرز، والحريسة فعيلة به بمعنى مفعولة، أي أن لها من يحرسها ويحفظها.
والمراح - بضم الميم - الذي فيه براح النعم. والجرين - بفتح الجيم - هو الذي تسميه أهل العراق النذر، وأهل الشام الأنذر، وأهل البصرة الخرجان. وقد يقال له أيضاً بالحجاز: المريد.
وقال في " المغرب ": الجرين المريد، وهو الموضع الذي يلقى فيه الرطب ليجف، وجمعه جرن وجران البعير يقدم عنقه من مذبحه إلى منحره، والجمع جرن، فجاز أن يسمى به الجران متخذ منه.
م: (قلنا أخرجه) ش: أي أخرجه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: (على وفاق العادة) ش: لأنهم كانوا لا يصنعون في الجرين إلا اليابس، فيصرف اللفظ إلى اليابس، وهو معنى قوله: م: (والذي يؤويه الجرين في عادتهم هو اليابس من الثمر، وفيه القطع) ش: أي وفي اليابس من الثمر في الرواية المشهورة.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ولا قطع في الفاكهة على الشجر والزرع الذي لم يحصد، لعدم الإحراز) ش: لأن شرط القطع هتك الحرز، ولم يوجد الحرز م: (ولا قطع في الأشربة المطربة) ش: أي المسكرة بلا خلاف، أما عند الأئمة الثلاثة، فلأنه كالخمر عندهم، وعندنا إن كان الشرب حلواً فهو مما يتسارع إليه الفساد.
وإن كان مراً فإن كان خمراً فلا قيمة لها. وإن كان غيرها فللعلماء في تقومها خلاف فلم يكن فيما ورد به النص، لأن ذا مال متقوم بالإجماع، لأن لكل أحد تأويل أخذه للإراقة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وصرح الطرب في " الإيضاح " والتمرتاشي المرأة بالمطربة المسكرة. وفي " الصحاح " الطرب(7/18)
لأن السارق يتأول في تناولها الإراقة، لأن بعضها ليس بمال، وفي مالية بعضها اختلاف، فتحقق شبهة عدم المالية.
ولا في الطنبور؛ لأنه من المعازف، ولا في سرقة المصحف وإن كان عليه حلية. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقطع؛ لأنه مال متقوم لأنه يباع ويشترى. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثله. وعنه أيضا أنه يقطع إذا بلغت الحلية نصابا؛ لأنها ليست من المصحف، فيعتبر بانفرادها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خفة تصيب الإنسان لشدة حرارته. وقال في " الأصول " السكر بغلبة سرور فالتصافي معنى السرور، فاستعير ما للإطراب للإسكار، وقيد الأشربة بالمسكرة؛ لأنه يقطع في المحل، لأنه لا يتسارع إليه الفساد، وذكره في الإيضاح.
م: (لأن السارق يتأول في تناولها الإراقة؛ لأن بعضها ليس بمال) ش: كالخمر م: (وفي مالية بعضها اختلاف) ش: كالمنصف والبازق، وأما الذرة والشعير فإن كل مسكر حرام عند الشافعي كالخمر، ولا مالية له م: (فتحقق شبهة عدم المالية) ش: لأن الاختلاف في إباحته يورث شبهة في عدم المالية.
وقال فخر الإسلام البزدوي في شرح " الجامع الصغير " في باب الأشربة: ما يتخذ من الحنطة والشعير والعدس والذرة حلال في قول أبي حنيفة، حتى إن الحد لا يجب فيه وإن سكر في قوله. وروي عن محمد أن ذلك حرام يجب الحد بالمسكر. وقال في سرقة الأصل لا يقطع في الخل؛ لأن الخل قد صار خمراً قوة. وفي نوادر أبي يوسف برواية علي بن الجعد لا قطع في الأشربة والجلاب.
[سرقة المصحف وآلات اللهو وآنية الخمر]
م: (ولا في الطنبور) ش: أي ولا قطع في الطنبور وما أشبهه من الملاهي بلا خلاف للأئمة م: (لأنه من المعازف) ش: أي؛ لأن الطنبور من المعازف، وهو جمع معزف، وهو آلة اللهو.
وفي " الجمهرة ": المعازف الملاهي. وقال قوم من أهل اللغة: هو اسم يجمع العود والطنبور وأشباههما.
وقال آخرون: بل المعازف التي استخرجها أهل اليمن م: (ولا في سرقة المصحف) ش: أي ولا قطع أيضاً في سرقة المصحف م: (وإن كان عليه حلية) ش: كلمة إن واصلة بما قبله.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقطع لأنه) ش: أي لأن المصحف م: (مال متقوم لأنه يباع ويشترى) ش: وهو معنى قوله حتى يجوز بيعه م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثله) ش: أي وروي عن أبي يوسف مثل قول الشافعي م: (وعنه أيضاً) ش: أي وروي عن أبي يوسف أيضاً م: (أنه يقطع إذا بلغت الحلية نصاباً) ش: أي عشرة دراهم م: (لأنها) ش: أي لأن الحلية م: (ليست من المصحف، فيعتبر بانفرادها) ش: أي وحدها بدون المصحف.(7/19)
وجه الظاهر أن الآخذ يتأول في أخذه القراءة والنظر فيه. ولأنه لا مالية له على اعتبار المكتوب وإحرازه لأجله لا للجلد والأوراق والحلية، وإنما هي توابع، ولا معتبر بالتوابع كمن سرق آنية فيها خمر، وقيمة الآنية تربو على النصاب
ولا قطع في أبواب المسجد لعدم الإحراز، فصار كباب الدار بل هو أولى، لأنه يحرز بباب الدار ما فيها، ولا يحرز بباب المسجد ما فيه، حتى لا يجب القطع بسرقة متاعه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وجه الظاهر) ش: الرواية وهو عدم القطع م: (أن الآخذ) ش: أي أخذ المصحف م: (يتأول في أخذه القراءة والنظر فيه) ش: وبه قال أحمد في رواية: أن أخذه بتأويل القراءة والنظر فيه لإزاحة إشكال وقع والقطع لا يجب بالشبهة.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن المصحف م: (لا مالية له على اعتبار المكتوب) ش: لأن معنى المالية فيه تبع لا مقصود م: (وإحرازه) ش: أي إحراز المصحف م: (لأجله) ش: أي ولأجل المكتوب م: (لا للجلد والأوراق) ش: إذ ليس إحرازه لأجل الجلد والأوراق.
م: (والحلية) ش: أي ولا الحلية م: (وإنما هي) ش: أي الجلد والأوراق والحلية م: (توابع) ش: للمكتوب.
م: (ولا معتبر بالتوابع كمن سرق آنية فيها خمر، وقيمة الآنية تربو) ش: أي تزيد م: (على النصاب) ش: أي على عشرة دراهم؛ لأن المقصود ما فيها الآنية، وبه قال بعض أصحاب الشافعي، وهو رواة المختلف على المختلف، وكذا لو سرق ثوباً خلقاً لا يساوي نصاب السرقة، فوجد فيه عشرة دراهم، ولم يعلم السارق بها لا قطع عليه، لأن ما هو المقصود بنصاب وإن علم قطع. وعن أبي يوسف يقطع في الحالين.
فإن قلت: يجب القطع في الأوراق قبل الكتابة، فبعدها أولى؛ لأنها زادت بها. قلت: الفرق بين الحالين ظاهر؛ لأن الأوراق هو المقصود قبل الكتابة، وبعدها صارت تابعة لما فيها، وما فيها ليس بمال كالقلادة يجب فيها القطع، فإذا سرق كلباً عليه القلادة لا يقطع؛ لأنها صارت تبعاً للكلب.
[سرقة باب المسجد والصليب من الذهب]
م: (ولا يقطع في أبواب المسجد؛ لعدم الإحراز، فصار كباب الدار) ش: أي فصار حكم سارق باب المسجد في عدم القطع كحكم سارق باب الدار، بل أولى أي م: (بل هو أولى) ش: من سارق باب المسجد م: (لأنه يحرز بباب الدار ما فيها) ش: أي ما في الدار م: (ولا يحرز بباب المسجد ما فيه) ش: أي ما في المسجد م: (حتى لا يجب القطع بسرقة متاعه) ش: أي متاع المسجد.
وقال الكاكي: قوله فصار كباب الدار والمختلف على المختلف بل الأوجه تعليل الثاني، وهو أنه لا ملك له في باب المسجد. والتعليل العام عندنا أن الأبواب لا تكون محرزة عادة؛ لأنه(7/20)
قال: ولا الصليب من الذهب ولا الشطرنج ولا النرد؛ لأنه يتأول من أخذها الكسر نهيا عن المنكر، بخلاف الدرهم الذي عليه التمثال، لأنه ما أعد للعبادة فلا تثبت شبهة إباحة الكسر. وعن أبي يوسف: أنه إن كان الصليب في المصلى لا يقطع لعدم الحرز، وإن كان في بيت آخر يقطع لكمال المالية والحرز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يحرز به، فلا يكون هو محرزاً عادة.
وقال الشافعي وابن القاسم المالكي وأبو ثور وابن المنذر: يقطع سارق باب المسجد؛ لأنه سرق نصاباً محرزاً بحرز مثله، وكذا سارق باب الدار، وبه قال أحمد في رواية، وفي رواية كقولنا لعدم الإحراز.
وقال فخر الإسلام في شرح " الجامع الصغير " فإن أعاد هذا الفعل، أي سرقة أبواب المسجد حد، فيجب أن يعزر ويبالغ فيه ويحبس حتى يتوب، ولا يقطع في أستار الكعبة، وبه قال أحمد.
وعند الشافعي وأحمد هو الأصح؛ لأنه لا يقطع؛ لأنه ليس له ملك معين، فأشبه مال بيت المال، كذا في شرح " الوجيز ".
[سرقة الصليب من الفضة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا الصليب) ش: أي ولا يقطع في سرقة الصليب م: (من الذهب) ش: وكذا من الفضة، والصليب عود مثلث معبدة النصارى، ويعمل من فضة وذهب وسائر المعدنيات.
م: (ولا الشطرنج) ش: أي ولا يقطع أيضاً في سرقة الشطرنج بكسر الشين على وزن لوطنت م: (ولا النرد) ش: أي ولا يقطع أيضاً في سرقة النرد - بفتح النون والراء وبالدال المهملة - وهو اسم أعجمي معرف بين الغامرين، ولا قطع فيه عندنا. ولو كان من ذهب، وبه قال أحمد والشافعي يقطع، وبه قال أبو الخطاب من أصحاب أحمد.
م: (لأنه) ش: أي لأن السارق م: (يتأول من أخذها) ش: أي من أخذ هذه الأشياء م: (الكسر) ش: يعني يقول أخذتها لأكسر م: (نهياً عن المنكر) ش: أي لأجل النهي عن المنكر م: (بخلاف الدرهم الذي عليه التمثال) ش: أي الصورة م: (لأنه) ش: أي لأن مثل هذا م: (ما أعد للعبادة) ش: ولا للهو فيجب القطع م: (فلا تثبت شهبة إباحة الكسر) ش: يعني التأويل فيه بأنه أخذه للكسر لا يقيد، ولا يرد القطع.
م: (وعن أبي يوسف أنه) ش: أي إن كان السارق م: (إن كان الصليب في المصلى) ش: أي في مصلاهم، أي في موضع صلاة النصارى، وبه صرح في " المحيط " م: (لا يقطع لعدم الحرز) ش: لأنه يثبت مأذون في دخوله م: (وإن كان في بيت آخر يقطع لكمال المالية والحرز) ش: وقال(7/21)
ولا قطع على سارق الصبي الحر وإن كان عليه حلي، لأن الحر ليس بمال، وما عليه من الحلي تبع له؛ ولأنه يتأول في أخذ الصبي إسكاته لو حمله إلى موضعه. وقال أبو يوسف: فيقطع إذا كان عليه حلي هو نصاب؛ لأنه يجب القطع بسرقته وحده، فكذا مع غيره. وعلى هذا إذا سرق إناء من فضة أو ذهب فيه نبيذ أو ثريد والخلاف في صبي لا يمشي ولا يتكلم كيلا يكون في يد نفسه، ولا قطع في سرقة العبد الكبير، لأنه غصب أو خداع، ويقطع في سرقة العبد الصغير لتحققها بحدها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأترازي: وإن كان في يد رجل منهم محرزاً عنده قطع له.
م: (ولا قطع على سارق الصبي الحر وإن كان عليه حلي) ش: أي ثياب نفيسة م: (لأن الحر ليس بمال وما عليه من الحلي تبع له) ش: وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور والثوري وابن المنذر وقال الحسن ومالك والشعبي يقطع بسرقة الحر الصغير؛ لأنه غير مميز، فأشبه العبد، وهو قول أبي يوسف إذا كان عليه حلي قدر نصاب على ما يأتي م: (ولأنه) ش: ولأن السارق م: (يتأول في أخذ الصبي إسكاته) ش: بأن رآه وهو سكنى م: (لو حمله إلى موضعه) ش: ليلاً يضيع.
م: (وقال أبو يوسف يقطع إذا كان عليه حلي هو نصاب؛ لأنه يجب القطع بسرقته وحده) ش: أي بسرقة الحلي الذي هو نصاب، والحلي بفتح الحاء وكسر اللام على وزن ظبي، وهو كل ما ليس من ذهب أو فضة أو جوهر رجعه حلي بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء. ويجوز كسر الحاء أيضاً، وجمع الحلية عليه بكسر الحاء وبالقصر، وروي ضم الحاء أيضاً وليس بقياس م: (فكذا مع غيره) ش: أي فكذا يقطع إذا كان الحلي مع غيره وهو الصبي.
م: (وعلى هذا) ش: أي وعلى هذا الخلاف م: (إذا سرق إناء من فضة أو ذهب فيه نبيذ) ش: أو خمر م: (أو ثريد) ش: بالثاء المثلثة، فعند أبي يوسف يقطع إذا بلغ نصاباً، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد. وعند أبي حنيفة ومحمد لا يقطع؛ لأن الإناء تبع المظروف وهو المقصود بالأخذ، فإذا لم يجب القطع فيما هو الأصل أحل الأقل، فكيف يجب فيما هو التبع م: (والخلاف) ش: المذكور م: (في صبي لا يمشي ولا يتكلم كيلا يكون) ش: أي الصبي م: (في يد نفسه) ش: حتى لو كان يتكلم ويمشي ويعبر لا يقطع سارقه إجماعاً؛ لأنه في يد نفسه، ويكون يداً على نفسه وعلى ما هو تابع له فكان أخذه خداعاً، كذا في " المحيط ". م: (ولا قطع في سرقة العبد الكبير؛ لأنه غصب أو خداع) ش: أي بطريق المخادعة بأن قال له: أعمل معك كذا وكذا فانخدع كذلك م: (ويقطع في سرقة العبد الصغير لتحققها) ش: أي لتحقق السرقة م: (بحدها) ش: أي بحد السرقة. وقال ابن المنذر: أجمع على هذا أهل العلم إذا لم يعبر عن نفسه ولا يميز لا قطع فيها بالإجماع إلا أن يكون نائماً أو مجنوناً أو أعجمياً لا يميز بين سيده وبين غيره في الطاعة، فحينئذ قطع.(7/22)
إلا إذا كان يعبر عن نفسه؛ لأنه هو والبالغ فيه سواء في اعتبار يده. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يقطع وإن كان صغيرا لا يعقل ولا يتكلم استحسانا، لأنه آدمي من وجه ومال من وجه. ولهما أنه مال مطلق لكونه منتفعا به أو بعوض يصير منتفعا به، إلا أنه انضم إليه معنى الآدمية، لكن انضم إليه
ولا قطع في الدفاتر كلها؛ لأن المقصود ما فيها، وذلك ما ليس بمال، إلا في دفاتر الحساب، لأن ما فيها لا يقصد بالأخذ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وللشافعي في أم الولد النائمة وجهان، وعنده لا قطع في الآدمي الذي يفعل، سواء كان نائماً أو مجنوناً أو أعجمياً وإن كان يقظان، ولا يأخذه إلا متعالياً أو مخادعاً، وذا ليس بسرقة م: (إلا إذا كان) ش: أي الصغير م: (يعبر عن نفسه؛ لأنه هو والبالغ فيه سواء في اعتبار يده) ش: على دافعه.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يقطع إذا كان صغيراً لا يعقل ولا يتكلم استحساناً؛ لأنه آدمي من وجه ومال من وجه) ش: فكونه آدمياً ظاهراً، وكونه مال من وجه من حيث إنه يباع ويشترى ويوهب فأورث شبهة دارئة للحد.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد م: (أنه) ش: أي أن العبد الصغير م: (مال مطلق) ش: من حيث إنه لا يقظان فيه م: (لكونه منتفعاً به) ش: في الحال م: (أو بعوض يصير منتفعاً به) ش: في المستقبل إن كان لا يتكلم ولا يمشي في الحال.
والعرض بمعنى العارض، يقال: عرض له عرض أي أصابه عارض من مرض أو نحو ذلك م: (إلا أنه انضم إليه معنى الآدمية) ش: أي غير أنه، أي أن العبد الصغير مال م: (لكن انضم إليه) ش: أي إلى كونه مالاً معنى الآدمية، فلم يوجب ذلك نقصاً في المالية، فلم يورث شبهة
[سرقة الدفاتر والصحائف والكلب والدف والفصوص الخضر]
م: (ولا قطع في الدفاتر كلها) ش: أراد بالدفاتر الصحائف، وهو جمع دفتر، قاله الأترازي. وقال الأكمل: يعني سواء كان فيها علم الشريعة أو الأدب أو الشعر.
م: (لأن المقصود فيها، وذلك ما ليس بمال) ش: أما كتب الفقه والحديث والتفسير فكالمصحف وقد بينا وجهه.
وأما كتب الشعر والأدب فاختلف المشايخ فيها فقيل ألحقه بدفاتر الحساب.
وقيل: يلحقه بالفقه والتفسير والحديث؛ لأن معرفتها قد تتوقف على اللغة والحاجة.
وإن قلت: كيف لا ترد الشبهة الإباحة، كذا في مبسوط شيخ الإسلام، وعند الشافعي ومالك وأحمد يقطع في الدفاتر كلها سواء كان فيها علوم الشريعة أو غيرها.
م: (إلا في دفاتر الحساب) ش: وهي دفاتر أهل الديوان حيث يقطع فيها إذا بلغ نصاباً م: (لأن ما فيها) ش: أي في دفاتر الحساب م: (لا يقصد بالأخذ) ش: إذ لا يتعلق به إلا مصلحة شخص(7/23)
فكان المقصود هو الكواغد.
قال: ولا في سرقة كلب ولا فهد، لأن من جنسهما ما يوجد مباح الأصل غير مرغوب فيه؛ ولأن الاختلاف بين العلماء ظاهر في مالية الكلب فأورث شبهة ولا قطع في دف ولا طبل ولا بربط ولا مزمار، لأن عندهما لا قيمة لهما. وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخذها يتأول الكسر فيها.
ويقطع في الساج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
معين م: (فكان المقصود هو الكواغد) ش: وهي الأوراق، فيجب القطع لأنها مال.
م: (قال) ش: أي القدوري: في مختصره م: (ولا في سرقة كلب ولا فهد) ش: أي ولا قطع في سرقتهما ولا خلاف فيه إلا لأشهب المالكي، فإنه قال ذلك في المنهي عن اتخاذه، فأما المأذون في اتخاذه فكلب الصيد والماشية فيقطع سارقه م: (لأن من جنسهما) ش: كان ينبغي أن يقال من جنسها بضمير التثنية وهو الأصح.
م: (ما يوجد مباح الأصل) ش: أراد أن حبس ذلك يؤخذ مباحاً ما فيها دار الإسلام، ولا قطع في التافه م: (غير مرغوب فيه) ش: منصب على الحال. والدليل على أنه غير مرغوب فيه أن من يجده يتركه وإن كان قادراً على أخذه. قلت: هذا يمشي في الكلب غير المعلم، أما في الكلب المعلم والفهد فلا يمشي فلينظر فيه.
م: (ولأن الاختلاف بين العلماء ظاهر في مالية الكلب) ش: فعند الشافعي وأحمد ومالك في رواية وداود لا مالية في الكلب.
ولهذا حرموا ثمنه، لأن معه باطل، وعند عطاء وإبراهيم النخعي وأبي حنيفة وصاحبيه يجوز بيع الكلاب التي ينتفع بها ويباح أثمانها فهذا يدل على أن فيها المالية، فإذا كان كذلك م: (فأورث) ش: اختلاف العلماء م: (شبهة) ش: وهي دارئة.
م: (ولا قطع في دف) ش: بفتح الدال، وضمها كذا قال ابن دريد وهو نوعان، مربع ومدور م: (ولا طبل) ش: في طبل الغزاة اختلاف المشايخ، والأصح أنه لا يقطع.
م: (ولا بربط) ش: بباءين مفتوحتين وبينهما راء شبيه العود فارسي معرب، وأصله - بربت - لأن الضارب به يضعه على صدره واسم الصدر - بر - قاله ابن الأثير م: (ولا مزمار) ش: بكسر الميم وهو الآلة التي يزمر بفمها أي يغني.
قال ابن الأثير والقصبة التي يزمر بها زمارة وهي والزمار والمزمور سواء، وهذا بالاختلاف بين أصحابنا م: (لأن عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد م: (لا قيمة لهما) ش: أي لهذه الأشياء المذكورة، فلا يكون فيها القطع.
م: (وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخذها يتأول الكسر فيها) ش: فلا يقطع، ولكن يجب الضمان عنده لغير اللهو
م: (ويقطع في الساج) ش: بسين مهملة وجيم في آخره، وهو نوع من(7/24)
والقنا والأبنوس والصندل؛ لأنها أموال محرزة لكونها عزيزة عند الناس ولا توجد بصورتها مباحة في دار الإسلام. قال: ويقطع في الفصوص الخضر والياقوت والزبرجد؛ لأن هذه الأشياء من أحسن الأموال وأنفسها، ولا توجد مباحة الأصل بصورتها في دار الإسلام غير مرغوب فيها، فصارت كالذهب والفضة. وإذا اتخذ من الخشب أواني وأبواب قطع فيها؛ لأنه بالصنعة التحق بالأموال النفيسة، ألا ترى أنها تحرز بخلاف الحصير؛ لأن الصنعة فيه لم تغلب على الجنس حتى يبسط في غير الحرز وفي الحصر البغدادية. قالوا: يجب القطع في سرقتها لغلبة الصنعة على
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشجر معروف يعظم جداً، وأصله سَوَج بفتحتين، يقال: ساج سوجة، أي مخروطة متجوفة الجوانب الأربعة تحمل من بلاد الهند إلى سائر البلاد؛ ولأنه لا ينبت إلا بها م: (والقنا) ش: جمع قناة وهي خشبة الرمح لأنها متعلقة من الواو م: (والأبنوس) ش: بفتح الباء معرب، وهو معروف.
وعن محمد إذا عمل بالأبنوس شيئاً قطع به، ولا قطع في الساج إلا إذا عمل به شيئاً م: (والصندل) ش: وهو خشب آجر وأصفر طيب الرائحة.
م: (لأنها) ش: أي؛ لأن هذه الأشياء الأربعة م: (أموال محرزة لكونها عزيزة عند الناس، ولا توجد بصورتها مباحة في دار الإسلام) ش: ولا تؤخذ مباحة إلا في دار الحرب، فلا يكون ذلك شبهة في سقوط القطع.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ويقطع في الفصوص الخضر) ش: وهي تعمل من الفيروز والزمرد م: (والياقوت) ش: وهو من أعز الأحجار، وهو أحمر وأصفر وأخضر وأعزها الأحمر م: (والزبرجد) ش: قال الجوهري: الزبرجد جوهر معروف، وليس فيه معرفة.
قلت: هو حجر أخضر تفاق الياقوت الأخضر وليس لقوته ولا فعله، وليس منه منفعة الأحسن منظر م: (لأن هذه الأشياء من أحسن الأموال وأنفسها، ولا توجد مباحة الأصل بصورتها في دار الإسلام غير مرغوب فيها، فصارت كالذهب والفضة) ش:.
م: (وإذا اتخذ من الخشب) ش: أي من الخشب الذي لا قطع فيه م: (أواني) ش: جمع آنية م: (وأبواب) ش: بالرفع أي فاتخذ أبواب م: (قطع فيها، لأنه بالصنعة التحق بالأموال النفيسة) ش: لأن الصنعة الغالبة خرجته من حكم أصله، فصار لمال المعينين.
م: (ألا ترى أنها تحرز بخلاف الحصير) ش: والتواري م: (لأن الصنعة فيه لم تغلب على الجنس) ش: أي على أصله م: (حتى يبسط في غير الحرز) ش: فلا يخرج من كونها تافهاً.
م: (وفي الحصر البغدادية قالوا) ش: أي المشايخ م: (يجب القطع في سرقتها لغلبة الصنعة على(7/25)
الأصل، وإنما يجب القطع في غير المركب، وإنما يجب إذا كان خفيفا لا يثقل على الواحد حمله؛ لأن الثقيل منه لا يرغب في سرقته ولا قطع على خائن ولا خائنة لقصور في الحرز ولا منتهب ولا مختلس؛ لأنه يجاهر بفعله، كيف يجب وقد قال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا قطع على مختلس ولا منتهب ولا خائن»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأصل) ش: وكذلك الحصر المصرية، والحصر العباد كذلك.
وعند الثلاثة يقطع في المعمولة وغير المعمولة م: (وإنما يجب القطع في غير المركب) ش: يعني في الأبواب؛ لأنها تحرز.
وأما المركب على الجدار لا قطع فيه عندنا. وفي " المبسوط " سرق باب دار أو مسجد لا يقطع؛ لأنه ظاهر غير محرز. وعند الثلاثة يقطع في باب الدار م: (وإنما يجب) ش: أي القطع في باب الغير المركب.
م: (إذا كان خفيفاً لا يثقل على الواحد حمله؛ لأن الثقيل منه لا يرغب في سرقته) ش: وقال الأترازي: في هذا نظر؛ لأن عدم الرغبة في سرقته بواسطة الثقل لا يورث نقصاناً في المالية ولا في الحرز، فإذا حصلت سرقة مال يتيم من حرز كامل فيجب القطع.
ولهذا يفرق الحاكم بين الثقيل والخفيف، بل أطلق الرواية، ولذلك أطلقوا الرواية في شرح " الجامع الصغير " وشروحه، وكذا القدوري أطلق في مختصره وفي شرحه لمختصر الكرخي وكذا أطلق في " الشامل " في قسم المبسوط.
م: (ولا قطع على خائن ولا خائنة) ش: قال الإمام بدر الدين الكردي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الخائن من يخون فيما في يده من الأمانة كالمودع والخائنة للمؤنث م: (لقصور في الحرز) ش: فكان شبهة في سقوط القطع م: (ولا منتهب) ش: أي ولا قطع أيضاً على منتهب، وهو اسم فاعل من الانتهاب، وهو أن يأخذ على وجه العلانية، فهذا من بلدة أي قرية.
م: (ولا مختلس) ش: أي ولا قطع أيضاً على مختلس، وهو اسم فاعل من الاختلاس، وهو الاختلاف وهو أن يأخذ وهو قريب الشيء بسرعة الأكم الخلسة.
وقال الأكمل: الاختلاس أن يأخذ من البيت بسرعة وجهراً وهو قريب من قول المصنف م: (لأنه يجاهر بفعله) ش: ولا قطع في هذه الأشياء بإجماع العلماء وفقهاء الأمصار؛ لعدم صدق السرقة عليها.
م: (كيف يجب وقد قال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا قطع على مختلس ولا منتهب ولا خائن» ش: هذا الحديث رواه أصحاب السنن الأربعة عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع» . وقال الترمذي: حديث حسن صحيح(7/26)
ولا قطع على النباش وهذا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف والشافعي - رحمهما الله -: عليه القطع؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من نبش قطعناه؛» ولأنه مال متقوم محرز بحرز مثله فيقطع فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه الطبراني في " الأوسط " من حديث الزهري عن ابن أبي مالك نحوه مرفوعاً.
[قطع النباش ومن سرق درة من إصطبل]
م: (ولا قطع على النباش) ش: هو الذي ينبش القبور ويأخذ كفن الميت م: (وهذا) ش: أي عدم القطع على النباش م: (عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله-) ش: وبه قال الثوري والأوزاعي والزهري ومكحول، وهو مذهب ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -.
م: (وقال أبو يوسف والشافعي - رحمهما الله - عليه القطع) ش: وبه قال مالك وأحمد وأبو ثور، وهو مذهب الحسن، والشعبي، والنخعي، وداود، وحماد، وعمر بن عبد العزيز.
وفي " المبسوط " وهو مذهب عمر، وعائشة، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وقال مالك في " الموطأ ": وإذا بلغ ما أخرج من القبر ما يجب فيه القطع قطع.
وقال أحمد: إذا أخرج من القبر كفنا قيمته ثلاثة دراهم قطع.
وقال الكاكي: ثم الكفن الذي يقطع به ما كان مشروعاً، فإن كان أكثر من كفن السنة أو ترك في تابوت فسرق التابوت أو ترك معه طيب مجموع أو ذهب أو فضة أو جوهر لم يقطع بأخذ شيء من ذلك؛ لأنه ليس بكفن مشروع فالترك فيه تضييع وسفه، فلا يكون محرزاً فلا يقطع سارقه.
وفي " الوجيز ": لا قطع على نباش في تربة ضابعة، ويقطع إذا سرق من قبر محرز محروس، وفي مقابل البلاد وجهان. وفي الزيادة على العدد الشرعي الكفن للوارث فهو الخضير في السرقة.
وإن كفنه أجنبي فالطلب للأجنبي، وبه قال أحمد في وجه. وقال في وجه لا يفتقر إلى الطلب.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «من نبش قطعناه» ش: هذا رواه البيهقي في كتاب المعرفة بإسناد فيه من يجهل حاله عن البراء بن عازب مرفوعاً.
وقال الكاكي: أول الحديث «من غرق غرقناه، ومن حرق حرقناه، ومن نبش قطعناه» م: (ولأنه مال متقوم) ش: لأن الكفن ثوب متقوم وبإلباس الميت لا تحصل صنعة المالية فيه م: (محرز) ش: مثله، كما أن الإصطبل للدواب، لأنه يعتبر حرز كل شيء م: (بحرز مثل) ش: وهو يحفظ فيه عادة، فيكون القبر حرز الكفن م: (فيقطع فيه) ش: لأنه حرزه.(7/27)
ولهما قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا قطع على المختفي» وهو النباش بلغة أهل المدينة؛ ولأن الشبهة تمكنت في الملك؛ لأنه لا ملك للميت حقيقة ولا للوارث لتقدم حاجة الميت وقد تمكن الخلل في المقصود وهو الانزجار؛ لأن الجناية في نفسها نادرة الوجود، وما رواه غير مرفوع أو هو محمول على السياسة، وإن كان القبر في بيت مقفل، فهو على هذا الخلاف في الصحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ألا ترى أن الصندوق حرز للدرة حتى لو سرق درة من إصطبل لا يقطع وحرز الدابة الإصطبل، وحرز الشاة الحظيرة حتى لو سرق من الحظيرة الثياب النفيسة لا يقطع.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد قال: في م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا قطع على المختفي» ش: هذا حديث غريب لا أصل له. وعن ابن عباس: ليس على النباش قطع، رواه ابن أبي شيبة م: (وهو النباش بلغة أهل المدينة) ش: قال في ديوان الأدب اختفاه، أي أخرجه.
وقال في المجمل: والنباش مختف؛ لأنه مستخرج للأكفان.
م: (ولأن الشبهة تمكنت في الملك) ش: يعني في كون الكفن ملكاً م: (لأنه لا ملك للميت حقيقة) ش: وهو ظاهر م: (ولا للوارث؛ لتقدم حاجة الميت وقد تمكن الخلل في المقصود، وهو الانزجار؛ لأن الجناية في نفسها نادرة الوجود) ش: لأن الطباع السلمية تنفر عنه، والكفن شيء بهيز لا تميل إليه الطبائع المستقيمة.
م: (وما رواه) ش: أي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (غير مرفوع) ش: إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد ذكرنا أن الحديث الذي استدل به أبو حنيفة ومحمد غريب ليس له أصل. وما استدل به أبو يوسف والشافعي أقرب م: (أو هو محمول على السياسة) ش: هذا جواب بطريق التسليم، والإمام ذلك إذا أعاد به عليه أول الحديث: «من غرق غرقناه، ومن حرق حرقناه» والمراد منه السياسة؛ لأنه أضافه إلى نفسه.
ولو كان بطريق القصاص لما أضافه إلى نفسه، بل أضافه إلى الولي.
م: (وإن كان القبر في بيت مقفل) ش: قال الكاكي: بسكون القاف، يقال: أقفل الباب، وقفل الأبواب مثل أغلق وغلق، ذكره في " الصحاح ".
حاصله أنه يقال: أقفل الباب من الإقفال إذا ذكر مفرداً وقفل الأبواب بتشديد القاف من التفضيل إذا ذكر الأبواب كما يقال أغلقت الباب، وغلقت الأبواب م: (فهو على هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور، يعني لا يقطع عندهما خلافاً لأبي يوسف م: (في الصحيح) ش: احترز به عما يقوله بعض المشايخ إنه يقطع، وقال السرخسي: في مبسوطه والأصح عندي أنه لا يقطع.(7/28)
وكذا إذا سرق من تابوت في القافلة وفيه الميت لما بينا
ولا يقطع السارق من بيت المال؛ لأنه مال العامة. وهو منهم. ولا من مال للسارق فيه شركة لما قلنا. ومن له على آخر دراهم فسرق منه مثلها لم يقطع، لأنه استيفاء لحقه، والحال والمؤجل فيه سواء استحسانا، لتأخير المطالبة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذا) ش: أي من الخلاف المذكور م: (إذا سرق من تابوت في القافلة وفيه الميت) ش: لا يقطع عندهما بلا خلاف لأبي يوسف م: (لما بينا) ش: أي لما بينا من الحديث، وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا قطع على المختفي» ، ومن الدليل المعقول وهو قوله؛ لأنه لا ملك للميت حقيقة ولا للوارث.
[السرقة من بيت المال وحكم من سرق زيادة على حقه]
م: (ولا يقطع السارق من بيت المال) ش: وبه قال الشافعي، وأحمد، والنخعي، والشعبي، والحكم، وقال مالك، وحماد، وابن المنذر عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن عبداً من رقيق الخمس سرق من الخمس، فأتي به إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يقطعه، وقال فماذا سرق» وقيل: يقطع لظاهر الكتاب؛ ولأنه سرق مالاً محرزاً، ولا حق له فيه قبل الحاجة. ولنا ما رواه عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أن عبداً من رقيق الخمس سرق، فرفع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يقطعه، وقال: " مال الله سرق بعضه بعضاً ".» وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيمن سرق من بيت المال قال أرسله من أحد الأدلة في هذا المال حق وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله.
وتعليل المصنف يؤخذ منه حيث قال م: (لأنه) ش: أي لأن مال بيت المال م: (مال العامة) ش: أي عامة الناس م: (وهم منهم) ش: أي الذي سرق من العامة، فيكون له فيه حق فيسقط القطع للشبهة م: (ولا من مال) ش: ولا يقطع من سرق من مال م: (للسارق فيه شركة) ش: لأن الملك من أقوى الشبه؛ ولهذا لا يجب حد الزنا بوطء الأمة المشتركة م: (لما قلنا) ش: أن للسارق فيه حق.
قال الكاكي: صورته لو سرق أحد الشريكين من حرز الآخر مالاً مشتركاً بينهما لا يقطع عندنا، وبه قال الشافعي في الأصح وأحمد. وقال في قول إذا سرق من بيت الشريك قدر النصاب، يعني زيادة على حقه ففيه القطع، وبه قال مالك.
م: (ومن له على آخر دراهم فسرق منه مثلها) ش: أي مثل دراهمه م: (لم يقطع؛ لأنه استيفاء لحقه) ش: وبهذا ليس لصاحب المال أن يرد أمر ذلك م: (والحال والمؤجل فيه) ش: أي في عدم القطع م: (سواء استحساناً) ش: لوجود المسح للأخذ، ويقطع قياساً لانعدام الإطلاق في الأخذ م: (لتأخير المطالبة) ش: في الحال.(7/29)
وكذا إذا سرق زيادة على حقه؛ لأنه لمقدار حقه يصير شريكا فيه. وإن سرق منه عروضا قطع؛ لأنه ليس له ولاية الاستيفاء منه إلا بيعا بالتراضي. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يقطع؛ لأن له أن يأخذه عند بعض العلماء قضاء من حقه أو رهنا بحقه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعند الشافعي: إن لم يكن الغريم مماطلاً قطع، وإن كان مماطلاً لا يقطع، وبه قال مالك وأحمد في رواية.
وقال الشافعي في وجه: إذا بلغت الزيادة على حقه نصاباً يقطع، وبه قال مالك وأحمد في رواية والشافعي في اختلاف جنسه وجهان، في وجه يقطع، وبه قال مالك وأحمد. والأظهر أنه لا يقطع. ولم يذكر القدوري هذه المسألة في مختصره، وذكرها في شرحه. وذكر القياس والاستحسان.
والمصنف لم يذكر وجه القياس. وذكر وجه الاستحسان بقوله: لأن التأجيل لتأخير المطالبة، أي لأن التأجيل في الدين لتأخير المطالبة إلى حلول الأجل وهو لا نصر ملك الدين.
م: (وكذا إذا سرق زيادة على حقه) ش: أي وكذا لا يقطع عندنا إذا سرق من جنس حقه زيادة على حقه م: (لأنه لمقدار حقه يصير شريكاً فيه) ش: فتتمكن الشبهة.
م: (وإن سرق منه عروضاً قطع) ش: يعني إذا أخذ عروضاً مكان الدراهم يقطع م: (لأنه ليس له ولاية الاستيفاء منه) ش: أي من الديون الاستيفاء منه م: (إلا بيعاً بالتراضي) ش: أي إلا من حيث البيع بالتراضي، والبيع مبادلة المال بالمال على وجه التراضي.
والفرق بين أخذ جنس حقه وبين أخذ جنسه ظاهر، وهو جنس التفاوت؛ ولهذا إذا سلم إليه المديون له أن يمتنع من ذلك، بخلاف تسليم الدراهم حيث يجزئ.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يقطع؛ لأن له أن يأخذه) ش: أي لأن السارق له أن يأخذ غير جنس حقه م: (عند بعض العلماء) ش: وهو ابن أبي ليلى، فإن عنده له أن يأخذ خلاف جنس حقه بعضا لوجود المجانسة من جنس المالية، وبه قال الشافعي أيضاً.
وإن لم يدع الأخذ لحقه، فيصير اختلاف العلماء شبهة للسقوط م: (قضاء من حقه) ش: أي من حيث القضاء من حقه م: (أو رهناً بحقه) ش: أي أو يأخذه من حيث إنه الرهن بحقه.
وقال في كتاب " السرقة " فإن قال لما أردت أن آخذ العروض رهناً بحقي أو قبضاً بحقي درئ عنه القطع للمحاشمة، وإن كان حقه دراهم فوق دنانير تقطع، كذا ذكر القدوري في شرحه، وقيل: تبع للمجانسة بينهما من حيث التسمية على ما يجيء الآن.
وكذا القطع إذا سرق حلياً من فضة وحقه دراهم؛ لأنه لا يصير قصاص حقه، بل يصير بيعاً مبتدأ. ولو سرق المكاتب أو العبد من غريم المولى قطع، إلا أن يكون المولى وكيلهما بالقبض(7/30)
قلنا هذا قول لا يستند إلى دليل ظاهر، فلا يعتبر بدون اتصال الدعوى به، حتى لو ادعى ذلك درئ الحد عنه؛ لأنه ظن في موضع الخلاف. ولو كان حقه دراهم فسرق منه دنانير قيل: يقطع؛ لأنه ليس له حق الأخذ. وقيل: لا يقطع؛ لأن النقود جنس واحد.
ومن سرق عينا تقطع فيها فردها في موضع ثم عاد فسرقها وهي بحالها لم يقطع، والقياس أن يقطع، وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فإن عاد فاقطعوه» من غير فصل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فحينئذ لا يجب القطع.
ولو سرق من غريم أبيه أو غريم ولده الكبير أو غريم مكاتبه أو غريم عبده المأذون المديون قطع؛ لأن حق الأخذ لغيره وهو سرق من غريم أبيه الصغير لا يقطع، والمسائل مذكورة في فتاوى الولوالجي وغيره.
م: (قلنا هذا قول) ش: أراد به قول ابن أبي ليلى م: (لا يستند إلى دليل ظاهر) ش: إذ القياس أن لا يأخذ جنس حقه في الدين الحال؛ لأن حقه في الوصف، وهذا عين، لكن تركناه لعلة التفاوت بينهما، ولا كذلك خلاف الجنس بفتحتين التفاوت، فلا يترك القياس م: (فلا يعتبر) ش: أي قوله م: (بدون اتصال الدعوى به) ش: أي بقوله م: (حتى لو ادعى ذلك) ش: أي أنه أخذه قضاء لحقه أو رهناً به م: (درئ الحد عنه؛ لأنه ظن) ش: أي؛ لأن فعله ظن م: (في موضع الخلاف) ش: فلا ينفك بنقل شبهة، وإذا كان هو مخطئاً في ذلك التأويل.
وعندنا م: (ولو كان حقه دراهم فسرق منه دنانير قيل يقطع) ش: كذا ذكر القدوري؛ لأنها لا تصير قصاصاً بحقه، فليس له أن يأخذها، وهو معنى قوله م: (لأنه ليس له حق الأخذ. وقيل: لا يقطع؛ لأن النقود جنس واحد) ش: من حيث المشمة.
[سرق عيناً فقطع فيها فردها]
م: (ومن سرق عيناً فقطع فيها فردها) ش: أي فرد العين المسروقة إلى مالكها لم يتغير م: (في موضع ثم عاد فسرقها وهي) ش: أي والحال أن العين المسروقة م: (بحالها لم يقطع) ش: أي ثانياً م: (والقياس أن يقطع، وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وقول أحمد: م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «فإن عاد فاقطعوه» ش: هذا رواه الدارقطني في سننه عن الواقدي عن ابن أبي ذئب عن خالد بن سلمة أراد عن أبي سلمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا سرق السارق فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله، فإن عاد فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله» م: (من غير فصل) ش: يعني قاله مطلقاً من غير فصل بين تبدل العين وعدمه.(7/31)
ولأن الثانية متكاملة كالأولى بل أقبح لتقدم الزاجر. وصار كما إذا باعه المالك من السارق ثم اشتراه منه ثم كانت السرقة. ولنا أن القطع أوجب سقوط عصمة المحل على ما يعرف من بعد إن شاء الله. وبالرد إلى المالك إن عادت حقيقة العصمة بقيت شبهة السقوط نظرا إلى اتحاد الملك والمحل، وقيام الموجب وهو القطع فيه، بخلاف ما ذكر؛ لأن الملك قد اختلف باختلاف سببه؛ ولأن تكرار الجناية منه نادر لتحمله مشقة الزاجر، فتعرى الإقامة عن المقصود، وهو تقليل الجناية وصار كما إذا قذف المحدود في القذف المقذوف الأول.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن الثانية) ش: أي السرقة الثانية م: (متكاملة كالأولى) ش: أي كالسرقة الأولى م: (بل أقبح) ش: من الأولى وأفحش م: (لتقدم الزاجر) ش: فإن الإقدام عليها مع سبق الزاجر أشد قبحاً فكان أحق بإيجاب القطع.
م: (وصار) ش: أي هذا م: (كما إذا باعه المالك) ش: أي كما إذا باع المسروق م: (من السارق ثم اشتراه منه، ثم كانت السرقة) ش: أي ثم وجدت السرقة وكانت تامة.
م: (ولنا أن القطع أوجب سقوط عصمة المحل) ش: في حق السارق م: (على ما يعرف من بعد إن شاء الله تعالى) ش: أشار به إلى قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لا غرم على السارق بعدما قطعت يمينه قبل باب ما يحدث السارق في السرقة قريباً من صفحة.
وبالرد إلى المالك، هذا جواب عما يقال: العصمة وإن سقطت بالقطع لكنها عادت بالرد إلى المالك، فأجاب بقوله م: (وبالرد) ش: أي وبرد المعنى المسروقة المؤيدة م: (إلى المالك إن عادت حقيقة العصمة بقيت شبهة السقوط) ش: أي سقوط العصمة م: (نظراً إلى اتحاد الملك) ش: احترازاً عما إذا لو تبدل الملك في ذلك، وهو جواب عن قوله: كما إذا باعه السارق من المالك إلى آخره م: (والمحل) ش: احترازاً عما إذا تبدل المحل كما في صورة الفرد كما يجيء عن قريب م: (وقيام الموجب) ش: أي موجب سقوط العصمة م: (وهو القطع فيه) ش: وهو احتراز عما كان قبل القطع.
م: (بخلاف ما ذكر) ش: يعني بخلاف ما ذكر أبو يوسف من صورة البيع م: (لأن الملك قد اختلف باختلاف سببه) ش: وذلك لأن اختلاف الأسباب بمنزلة اختلاف الأعيان. وأصله «حديث بريرة حيث قال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لك صدقة ولنا هدية» م: (ولأن تكرار الجناية) ش: عطف على قوله: ولنا أن القطع، وهو دليل آخر تقرير تكرار الجناية م: (منه) ش: بالعود إلى سرقة ما قطع فيه م: (نادر) ش: جداً م: (لتحمله مشقة الزاجر، فتعرى الإقامة عن المقصود، وهو تقليل الجناية) ش: فلا يحتاج إليها.
م: (وصار) ش: أي هذا صار م: (كما إذا قذف المحدود في القذف المقذوف الأول) ش: بالزنا(7/32)
قال: فإن تغيرت عن حالها مثل أن يكون غزلا فسرقه وقطع فرده ثم نسج فعاد فسرقه قطع؛ لأن العين قد تبدلت فتبدلها عن حالها؛ ولهذا يملكه الغاصب به، وهذا هو علامة التبدل في كل محل. وإذا تبدل انتفت الشبهة الناشئة عن اتحاد المحل والقطع فيه، فوجب القطع ثانيا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأول: فإنه لا يحد نظرا إلى عراية عن مقصود الإقامة وذكر الإمام [....
] هذا إذا قذفه يعني ذكر الزنا أما لو نسب إلى غير ذلك الزنا يحد ثانيا.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن تغيرت عن حالها مثل أن يكون غزلاً فسرقه وقطع فرده ثم نسج فعاد فسرقه قطع؛ لأن العين قد تبدلت، فتبدلها عن حالها) ش: صارت في حكم عين أخرى، فلو سرق أخرى يقطع ثانياً فقطع فيها ثم سرق عيناً أخرى فقطع ثانياً.
فكذا هنا م: (ولهذا يملكه الغاصب به) ش: أي بالنسج ويقطعه حق المغصوب منه عن المغصوب م: (وهو علامة التبدل) ش: أي ثبوت ملك الغاصب بالنسج دليل تبدل العين، وإلا لما انقطع حق المالك م: (في كل محل) ش: في الثبوت وغيره.
م: (وإذا تبدل انتفت الشبهة الناشئة عن اتحاد المحل والقطع فيه) ش: بالجر عطفاً على قوله من اتحاد المحل. يعني لما تبدل المحل بأن كان ثوباً بعد أن كان غزلاً انتفت شبهة سقوط العصمة التي نشأت من اتحاد المحل ووجود القطع في ذلك المحل، فصار في حكم غير أخرى، فإذا كان كذلك م: (فوجب القطع ثانياً) .(7/33)
فصل في الحرز والأخذ منه قال ومن سرق من أبويه أو ولده أو ذي رحم محرم منه لم يقطع. فالأول وهو الولاد للبسوطة في المال، وفي الدخول في الحرز.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الحرز والأخذ منه] [سرق من أبويه أو ولده أو ذي رحم]
م: (فصل في الحرز والأخذ منه)
ش: أي هذا فصل في بيان الحرز. والحرز في اللغة: الموضع الحريز، وهو الموضع الذي يحرز فيه الشيء أي يحفظ. وفي الشرع: ما يحفظ فيه المال عادة كالدار والحانوت والخيمة والشخص بنفسه، والمراد من الحرز ما لا يعد صاحبه مضيعاً.
قوله: والأخذ منه أي من الحرز ولما احتاجت السرقة إلى وجود المالية، وإلى الحرز عند العامة شرع من الحرز شرط القطع عند عامة أهل العلم.
وحكي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - والحسن والنخعي: فمن جمع المال ولم يخرج به من الحرز عليه القطع.
وعن الحسن مثل قول الجماعة. وحكى داود أنه يعتبر الحرز لإطلاق الآية، وهذه أقوال شاذة غير ثابتة.
وقال ابن المنذر: وليس فيه خبر ثابت ولا مقال لأهل العلم إلا ما ذكرناه فهو كالإجماع، والأخبار التي وردت في القطع تخصص الآية.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن سرق من أبويه أو ولده أو ذي رحم محرم منه لم يقطع) ش: أما السرقة من أبويه فلا قطع فيها بالإجماع قال الأترازي: وكيف يقول بالإجماع وقد قال الكاكي: وقال مالك، وأبو ثور، وابن المنذر، والمزني من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقطع السارق من أبويه لظاهر النص.
وكذلك السرقة من الجد وإن علا، وكذا إذا سرق الأب من ولده. وأما السرقة من ذي رحم محرم منه كالأخ والأخت والعم والخال فذلك عندنا لا يقطع، وقالت الثلاثة يقطع.
م: (فالأول وهو الولاد) ش: أي قرابة الولاد م: (للبسوطة في المال) ش: أي للبسط وهو السعة في اللغة: النشر م: (وفي الدخول في الحرز) ش: والحاصل أن المانع من القطع في سرقة الولد من والديه والعكس أيضاً أمران، أحدهما: الانبساط بينهم في المال، والآخر: الأول بالدخول في الحرز، وهو معنى قوله.
وفي الدخول في الحرز، ولهذا يمنع الولاد قبول شهادة أحدهما للآخر ويستحق النفقة في مال أبويه إذا كان فقيراً. ولو سرق الأب أو الجد وإن علا، والأم والجدة وإن علت من مال(7/34)
والثاني للمعنى الثاني. ولهذا أباح الشرع النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة منها، بخلاف الصديقين؛ لأنه عاداه بالسرقة. وفي الثاني خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه ألحقها بالقرابة البعيدة، وقد بيناه في العتاق.
وأقرب من ذلك الأخت من الرضاعة، وهذا لأن الرضاعة قلما يشتهر فلا بسوطة تحرزا عن موقف التهمة، بخلاف النسب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الولد، وإن سفل لا يقطع خلافاً لأبي ثور وابن المنذر.
والثاني: للمعنى م: (والثاني) ش: أي عدم القطع في السرقة من ذي الرحم المحرم م: (للمعنى الثاني) ش: وهو كونه يدخل في الحرز بدون الإذن م: (ولهذا) ش: أي ولأجل المعنى الثاني م: (أباح الشرع النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة منها) ش: أي من المحارم وبعض النسخ فيها وموضع الزينة اليد؛ لأنها موضع السوار والشعر؛ لأنه موضع العربول والعضد موضع اليد ملوح، والصدر موضع القلادة والسارق موضع الخلخال.
م: (بخلاف الصديقين) ش: متصل بقوله لم يقطع، وهو جواب عن سؤال بأن يقال الإذن بالدخول كما وجد في سائر المحارم، وجد في الصديقين أيضاً، ومع هذا إذا سرق أحدهما من الآخر فقطع فأجاب بقوله بخلاف الصديقين م: (لأنه) ش: أي لأن الذي سرق من صديقه م: (عاداه بالسرقة) ش: لأنه لما سرق ظهر أنه عدو وعلى هذا تنتفي الصداقة فيقطع.
م: (وفي الثاني) ش: يعني في السارق من ذي رحم محرم م: (خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه ألحقها) ش: أي؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ألحق قرابة ذي رحم محرم كالأخ والعم والخال م: (بالقرابة البعيدة) ش: كابن العم، ولا معنى لإلحاقها بها مع وجود السارق؛ لأن القرابة البعيدة يجوز فيها المناكحة.
وبخلاف قرابة ذي رحم محرم م: (وقد بيناه في العتاق) ش: أي بينا الخلاف في مسألة ملك ذي رحم محرم منه عتق.
بل يقطع وإن كانت المحرمية موجودة، وكذلك إذا ثبتت المحرمية بالتقبيل عن شهوة.
[السرقة من بيت الأخت من الرضاع]
م: (وأقرب من ذلك) ش: أي من الحرمة الثابتة بالزنا م: (الأخت من الرضاعة) ش: يعني أن الأم من الرضاعة أشبه إلى الأخت من الرضاعة في إثبات الحرمة من الحرمة الثابتة بالزنا، ثم السرقة من بيت الأخت من الرضاع موجبة للقطع بالإجماع، فيجب أن يكون من بيت أمه من الرضاع كذلك.
وجه الأقربية، أي إلحاق الرضاع أقرب من إلحاقه بالزنا م: (وهذا) ش: أي القطع مع الدخول عليه من غير استئذان وحشمة م: (لأن الرضاع قلما يشتهر فلا بسوطة) ش: أي بلا انبساط كما ذكرنا م: (تحرزاً) ش: أي احترازاً م: (عن موقف التهمة بخلاف النسب) ش: أي الأم ونحوها.(7/35)
وإذا سرق أحد الزوجين من الآخر أو العبد من سيده، أو من امرأة سيده، أو زوج سيدته لم يقطع؛ لوجود الإذن بالدخول عادة. وإن سرق أحد الزوجين من حرز الآخر خاصة لا يسكنان فيه فكذلك الجواب عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومن سرق من بيت ذي رحم محرم متاع غيره ينبغي أن لا يقطع.
ولو سرق ماله من بيت غيره يقطع؛ اعتبارا للحرز وعدمه، ومن سرق من أمه من الرضاعة قطع، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يقطع؛ لأنه يدخل عليها من غير استئذان وحشمة، بخلاف الأخت من الرضاع لانعدام هذا المعنى فيها عادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأترازي: وكأن هذا وقع جواباً عن قول أبي يوسف أنه يدخل على الأم من الرضاع بلا استئذان وحشمة، يعني بينهما انبساط في دخول المنزل فلا يقطع فقال: الرضاع قليلاً شهادة عادة فلا انبساط بينهما حينئذ؛ لعدم اشتهار الرضاع احترازاً عن الوقوع في موقف التهمة، بخلاف الأم من النسب؛ ولأن النسب أمر مشتهر فالانبساط متحقق.
[سرقة أحد الزوجين من الآخر أو العبد من سيده ومن سرق من أمه من الرضاعة]
م: (وإذا سرق أحد الزوجين من الآخر أو العبد) ش: أي لو سرق العبد م: (من سيده أو من امرأة سيده أو زوج سيدته) ش: أي أو سرق العبد من زوج سيدته م: (لم يقطع لوجود الإذن بالدخول عادة) ش: لأن العبد يدخل في بيوت هؤلاء ولا يمنع فلا يقطع.
م: (وإن سرق أحد الزوجين من حرز الآخر خاصة لا يسكنان فيه) ش: أي الزوجان لا يسكنان في ذلك الحرز م: (فكذلك الجواب) ش: أي لا يقطع م: (عندنا خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش:.
م: (ومن سرق من بيت ذي رحم محرم متاع غيره ينبغي أن لا يقطع، ولو سرق ماله من بيت غيره يقطع) ش: أي مال ذي رحم محرم ثم علقهما بقوله م: (اعتباراً للحرز) ش: أي في المسألة الثانية م: (وعدمه) ش: أي وعدم الحرز في المسألة الأولى.
م: (ومن سرق من أمه من الرضاعة قطع) ش: ذكرها أيضاً تعريفاً بمسألة القدوري، قال في شرح الطحاوي: ولو سرق من أمه من الرضاعة أو من أبيه من الرضاع وجب القطع، وهذا هو ظاهر الرواية عن أصحابنا.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يقطع لأنه يدخل عليها) ش: أي على أمه من الرضاع م: (من غير استئذان وحشمة) ش: أي ومن غير حشمة.
وفي " المغرب ": الانقباض من أخيك في المطفح وطلب الحاجة، والحشمة اسم من الاحتشام، يقال: أحشمه واحتشم منه إذا انقبض منه واستحى، وقيل: هي عامية، لأن الحشمة عند العرب الغضب لا غير. وقال ابن الأمير: الحشمة الاستحياء، يقال: احتشم أي انقبض.
م: (بخلاف الأخت من الرضاع) ش: حيث يقطع إذا سرق منها م: (لانعدام هذا المعنى) ش: وهو الدخول بلا استئذان وحشمة م: (فيها) ش: أي في أخته من الرضاع م: (عادة) ش: أي من(7/36)
وجه الظاهر أنه لا قرابة والمحرمية بدونها لا تحترم كما إذا ثبتت بالزنا والتقبيل عن شهوة، لبسوطة بينهما في الأموال عادة ودلالة، وهو نظير الخلاف في الشهادة.
ولو سرق المولى من مكاتبه لا يقطع؛ لأن له في اكتسابه حقا وكذلك السارق من المغنم؛ لأن له فيه نصيبا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حيث العادة؛ لأنه لا يدخل عليها إلا بالإذن.
م: (وجه الظاهر) ش: أي ظاهر الرواية م: (أنه لا قرابة والمحرمية بدونها) ش: أي بدون القرابة م: (لا تحترم) ش: أي لا يحصل حرمتها حرمة عادة م: (كما إذا ثبتت) ش: يعني المحرمية م: (بالزنا والتقبيل عن شهوة) ش: فإنه إذا سرق من بيت المال التي زنا بها لا تعد شبهة في قطع اليد، فإنه له فيه ثلاثة أقوال في قول يقطع، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله.
والثاني: لا يقطع كقولنا وقول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية. والثالث: يقطع الزوج بسرقة مال زوجته ولا تقطع الزوجة بسرقة مال الزوج؛ لأن لها النفقة في ماله فكان لها حق في ماله ولا حق له في مالها.
م: (لبسوطة بينهما) ش: أي بين الزوجين م: (في الأموال عادة ودلالة) ش: وهي أنها بما بدلت نفسها وهي أنفس من الأموال، فلأن تبدل المال أولى بطريق الدلالة؛ ولأن بينهما سبب يوجب الميراث من غير حجب كالوالدين والولدين والولد م: (وهو نظير الخلاف في الشهادة) ش: أي الخلاف في القطع نظير الاختلاف بيننا وبين الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قبول الشهادة، حيث لا يقبل شهادة أحدهما في حق الآخر لاتصال المنافع بينهما عادة وعنده يقبل في أحد قوليه.
[سرقة المولى من مكاتبه والسرقة من المغنم]
م: (ولو سرق المولى من مكاتبه لا يقطع) ش: وفي بعض النسخ لم يقطع م: (لأن له) ش: أي للمولى م: (في اكتسابه) ش: أي اكتساب المكاتب م: (حقاً) ش: لأن رقبته مملوكة للمولى، فلا تتحقق السرقة، وكذلك لا قطع على المكاتب أو المدبر إذا سرق من المولى؛ لأن المكاتب عبد ولو بقي عليه درهم.
وكذا المدبر عبد ما لم يمت المولي، ولا قطع على العبد في مال سيده لما بينا. وقال مالك وأبو ثور وابن المنذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: يقطع بسرقة مال سيدته، أو من زوجة سيده، أو من زوج سيدتها. وقال داود: يقطع بمال السيد أيضاً.
م: (وكذلك السارق من المغنم) ش: يعني لا يقطع م: (لأن له فيه نصيباً) ش: أي لأن للسارق في المغنم نصيباً، والمغنم الغنيمة، أطلق الرواية في القدوري.
وكذا في شرح الطحاوي قال الأترازي: وينبغي أن يكون المراد من السارق من الغنيمة من له نصيب في الغنيمة في الأربعة إلا في الخمس كالغانمين أو اليتامى أو المساكين وابن السبيل، أما(7/37)
وهو مأثور عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - درءا وتعليلا.
قال: والحرز على ضربين حرز لمعنى فيه كالدور والبيوت، وحرز بالحافظ. قال الحرز لا بد منه؛ لأن الاستسرار لا يتحقق دونه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غيرهم فلا نصيب له في الغنيمة، فينبغي أن يقطع، لأنه سرق مالاً سيما لا حق له فيه من حرز لا شبهة فيه فيقطع بخلاف السارق من بيت المال، فإنه قيد بمصالح المسلمين وهو منهم فصار كمال فيه شركة للسارق فلا يقطع. وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كقولنا في السارق من الغنيمة. وقال مالك وابن المنذر يقطع.
م: (وهو) ش: أي عدم القطع في السارق من المغنم م: (مأثور عن علي) ش: ابن أبي طالب م: (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش:، رواه عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا الثوري عن سماك بن حرب عن ابن عبيد بن الأبرص - وهو يزيد بن دثار - قال: أتي علي برجل سرق من المغنم فقال: له فيه نصيب وهو خائن فلم يقطعه.
وكان قد سرق مقصراً، ورواه الدارقطني في كتاب " المؤتلف والمختلف " في ترجمة عبيد بن الأبرص عن الثوري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - به مستنداً ومساو في الباب حديث مرفوع رواه ابن ماجه بسنده عن جبارة بن المغلس، عن حجاج بن تميم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: «أن عبداً من رقيق الخمس سرق من الخمس فرفع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يقطعه، وقال: مال الله سرق بعضه بعضا» ، قال ابن القطان في كتابه: إسناده ضعيف، وقد رواه مرسلاً.
م: (درءاً وتعليلاً) ش: أي دفعاً للقطع وتعليلاً له، فالدرء عن قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الأثر المذكور فلم يقطعه، والتعليل من قوله له فيه نصيب، وانتصابهما عليه أنهما حالين ومن عليه صلى على تقدير حال كون دارئاً ومعللاً، وكلاهما مصدران بمعنى اسم الفاعل كما في قولك رجل عدل أي عادل.
ولم يوضح أحد من الشراح هذا كما ينبغي.
[أنواع الحرز]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (والحرز على ضربين) ش: وفي نسخة شيخي الأترازي أيضاً على نوعين، أحدهما م: (حرز لمعنى فيه) ش: وهو إنما يكون بالمكان المعد لحفظ الأمتعة والأموال، ويختلف في ذلك باختلاف الأول م: (كالدور والبيوت) ش: والصندوق والحانوت والحظيرة للغنم والبقر والخيمة والجر والحركات م: (وحرز بالحافظ) ش: هذا النوع الثاني كمن جلس في الطريق أو في المسجد وعنده متاعه، فإنه يحرز به.
م: (قال) ش: أي المصنف: م: (الحرز لا بد منه) ش: لأنه شرط وجوب القطع والإجماع انعقد على شرطه، وعلل المصنف بقوله م: (لأن الاستسرار لا يتحقق دونه) ش: أي دون الحرز؛(7/38)
ثم هو قد يكون بالمكان، وهو المكان المعد لإحراز الأمتعة كالدور والبيوت والصندوق والحانوت، وقد يكون بالحافظ كمن جلس في الطريق أو في المسجد وعنده متاعه فهو يحرز به، وقد «قطع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من سرق رداء صفوان من تحت رأسه وهو نائم في المسجد» وفي المحرز بالمكان لا يعتبر الإحراز بالحافظ وهو الصحيح؛ لأنه محرز بدونه وهو البيت وإن لم يكن له باب أو كان له باب وهو مفتوح، حتى يقطع السارق منه، لأن البناء للإحراز إلا أنه لا يجب القطع إلا بالإخراج منه، لقيام يده قبله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن معنى السرقة وهو الأخذ على سبيل الاستسرار لا يوجد إذا لم يوجد الحرز، ولما قال القدوري: الحرز على نوعين شرع المصنف توضيحه بقوله م: (ثم هو) ش: أي الحرز م: (قد يكون بالمكان، وهو المكان المعد لإحراز الأمتعة) ش: وحفظها م: (كالدور والبيوت والصندوق والحانوت وقد يكون) ش: أي الحرز م: (بالحافظ) ش: أي لحفظ جانب المتاع متاعه.
م: (كمن جلس في الطريق أو في المسجد) ش: أي أو جلس في المسجد م: (وعنده متاعه فهو) ش: أي متاعه م: (يحرز به) ش: أي بالجالس المذكور، وقد استدل على ذلك بقوله م: (وقد «قطع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من سرق رداء صفوان من تحت رأسه وهو نائم في المسجد» ش: بيان هذا ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث الزهري «عن عبد الله بن صفوان عن أبيه " أنه طاف بالبيت فصلى ثم لف رداءه من برد فوضعه تحت رأسه فنام، فأتاه لص فأرسله من تحت رأسه، وأخذه، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن هذا سرق ردائي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أسرقت رداء هذا، قال: نعم، قال اذهبا به فاقطعا يده، فقال صفوان: ما كنت أريد أن يقطع يده في ردائي، قال: فلولا كان قبل أن تأتيني به» . وزاد النسائي فقطعه انتهى، فعلم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتبر الحرز بالحافظ.
م: (وفي محرز بالمكان لا يعتبر الإحراز بالحافظ) ش: لأن الأول أقوى؛ لأن المكان يمنع وصول اليد إلى المال، ويكون المال مختفياً به، والاختفاء لا يوجد في الحافظ، فكان ذلك أصلاً م: (وهو الصحيح) ش: احترز به عما ذكر في العيون على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقطع السارق من الحمام في وقت الإذن إذا كان ثمة حافظ. وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله-: لا يقطع، وبه أخذ الليث والصدر الشهيد وفي " الكافي " وعليه الفتوى، وهو ظاهر المذهب.
م: (له لأنه يحرز بدونه) ش: أي لأن المحرز بالمكان محرز بدون الحافظ م (وهو) ش: أي المحرز بالمكان م: (البيت وإن لم يكن له باب) ش: واصل بما قبله م: (أو كان) ش: أي أو كان م: (باب وهو مفتوح) ش: أي والحال أنه مفتوح م: (حتى يقطع السارق منه؛ لأن البناء للإحراز، إلا أنه لا يجب القطع إلا بالإخراج منه) ش: أي بإخراج المتاع من البيت م: (لقيام يده قبله) ش: أي لقيام(7/39)
بخلاف المحرز بالحافظ حيث يجب القطع فيه كما أخذ لزوال يد المالك بمجرد الأخذ فتتم السرقة ولا فرق بين أن يكون الحافظ مستيقظا أو نائما والمتاع تحته أو عنده هو الصحيح؛ لأنه يعد النائم عند متاعه حافظا له في العادة، وعلى هذا لا يضمن المودع والمستعير بمثله؛ لأنه ليس بتضييع بخلاف ما اختاره في الفتاوى.
قال: ومن سرق شيئا من حرز أو من غير حرز وصاحبه عنده يحفظه قطع؛ لأنه سرق مالا محرزا بأحد الحرزين. قال ولا قطع على من سرق مالا من حمام أو من بيت أذن للناس في دخوله فيه لوجود الإذن عادة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يد المالك قبل الإخراج، لأن هتك الحرز لا يكون إلا بالإخراج.
م: (بخلاف المحرز بالحافظ، حيث يجب القطع فيه كما أخذ) ش: أي السارق م: (لزوال يد المالك بمجرد الأخذ، فتتم السرقة) ش: فيقطع م: (ولا فرق بين أن يكون الحافظ مستيقظاً أو نائماً والمتاع تحته أو عنده) ش: أي أو تحته قريباً منه م: (هو الصحيح) ش: احترز عن قول بعض أصحابنا حيث شرط أن يكون المتاع م: (لأنه يعد النائم عند متاعه حافظاً له في العادة، وعلى هذا) ش: أي على التعليل الذي ذكره م: (لا يضمن المودع) ش: بفتح الدال، يعني إذا نام وعنده الوديعة.
وفي " الفتاوى الظهيرية " إنما لا يجب الضمان على المودع فيما إذا وضع الوديعة بين يديه فيما إذا نام قاعداً، أما إذا نام مضطجعاً فعليه الضمان. وقال: وهذا إذا كان في الحضر، أما إذا كان في السفر لا ضمان عليه نام قاعداً أو مضطجعاً.
م: (والمستعير مثله) ش: أي مثل المودع م: (لأنه ليس بتضييع، بخلاف ما اختاره في الفتاوى) ش: أي هذا الذي قلنا من عدم الضمان على المودع، أو المستعير كيفما نام عند المتاع خلاف ما اختاره في الفتاوى أي: هذا الذي قلنا من عدم الضمان على المودع؛ لأن فيها أوجب الضمان إذا نام مضطجعاً، وقد ذكرناه الآن.
[سرق شيئاً من حرز أو من غير حرز وصاحبه عنده يحفظه]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن سرق شيئاً من حرز أو من غير حرز وصاحبه عنده يحفظه قطع) ش: هذا تفريع وبيان لما قال أولاً بقوله الحرز على نوعين: حرز لمعنى فيه، وحرز بالحافظ، يعني أن من سرق شيئاً من حرز بمعنى فيه كالدور قطع، وكذلك إذا سرق من غير حرز، لكن صاحبه عنده يحفظه قطع م: (لأنه سرق مالاً محرزاً بأحد الحرزين) ش: في الأول بالمكان. وفي الثاني بالحافظ.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا قطع على من سرق مالاً من حمام أو من بيت أذن للناس في دخوله) ش: وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا سرق من الحمام وكان عند الثياب حافظ فعليه القطع، كذا قال الشيخ أبو نصر البغدادي ولا يقطع عندنا م: (فيه لوجود الإذن عادة) ش: يعني(7/40)
أو حقيقة في الدخول، فاختل الحرز، ويدخل في ذلك حوانيت التجار والخانات إلا إذا سرق منها ليلا لأنها بنيت لإحراز الأموال، وإنما الإذن يختص بالنهار.
ومن سرق من المسجد متاعا وصاحبه عنده قطع؛ لأنه محرز بالحافظ؛ لأن المسجد ما بني لإحراز الأموال، فلم يكن المال محرزا بالمكان بخلاف الحمام والبيت الذي أذن للناس في دخوله حيث لا يقطع؛ لأنه بني للإحراز فكان المكان حرزا، فلا يعتبر الإحراز بالحافظ ولا قطع على الضيف إذا سرق ممن أضافه، لأن البيت لم يبق حرزا في حقه لكونه مأذونا في دخوله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في الحمام.
م: (أو حقيقة) ش: أي أو لوجود الإذن حقيقة في بيت أذن في دخوله، وقوله م: (في الدخول) ش: يرجع إلى اثنين، فإذا كان كذلك م: (فاختل الحرز) ش: فلا يقطع م: (ويدخل في ذلك) ش: أي في حكم بيت أذن للناس في دخوله م: (حوانيت التجار والخانات) ش: وذلك لأن التاجر يفتح باب حانوته في السوق ويأذن للناس بالدخول عليه يشترون منه، فإذا سرق رجل منهم ثوباً لم يقطع، وبه صرح الحاكم في " الكافي ".
م: (إلا إذا سرق منها) ش: أي من الحمام والحوانيت والخانات، وهذا استثناء من قوله: ولا يقطع إلى آخره، وقوله م: (ليلاً) ش: قيد للكل م: (لأنها) ش: أي لأن الأماكن المذكورة م: (بنيت لإحراز الأموال، وإنما الإذن يختص بالنهار) ش: دون الليل.
وفي " مختصر الفتاوى " جماعة نزلوا بيتاً أو خاناً فسرق بعضهم من بعض متاعاً وصاحب المتاع يحفظه أو تحت رأسه لا يقطع، ولو كان مسجد جماعة قطع. ولو سرق من بيت واحد قبل الخروج لم يقطع.
[سرق من المسجد متاعاً وصاحبه عنده والضيف إذا سرق ممن أضافه]
م: (ومن سرق من المسجد متاعاً وصاحبه عنده قطع؛ لأنه محرز بالحافظ؛ لأن المسجد ما بني لإحراز الأموال، فلم يكن المال محرزاً بالمكان) ش: وإنما هو محرز بالحافظ. وإذا كان الحافظ عنده يقظان أو نائماً عنده متاعه فقد حصل هتك الحرز، فيقطع. وإن لم يكن عنده فلا يقطع؛ لعدم الحرز.
م: (بخلاف الحمام والبيت الذي أذن للناس في دخوله، حيث لا يقطع؛ لأنه بني للإحراز، فكان المكان حرزاً، فلا يعتبر الإحراز بالحافظ) ش: وعدم القطع سبب الإذن في الدخول. وقال الشافعي: الموضوع في الشارع والمسجد محرز بالحافظ بشرط أن لا ينام أو لا يوليه ظهره، فيقول إذا نام عند متاعه لا يعد مضيعاً عادة، فلا يحتاج الحرز فيجب القطع.
م: (ولا قطع على الضيف إذا سرق ممن أضافه، لأن البيت لم يبق حرزاً في حقه؛ لكونه مأذوناً في دخوله) ش: وبه قال الشافعي ومالك - رحمهما الله - وأحمد في رواية أن من سرق من الموضع(7/41)
ولأنه بمنزلة أهل الدار، فيكون فعله خيانة لا سرقة.
ومن سرق سرقة فلم يخرجها من الدار لم يقطع؛ لأن الدار كلها حرز واحد، فلا بد من الإخراج منها؛ ولأن الدار وما فيها في يد صاحبها معنى فتتمكن شبهة عدم الأخذ، فإن كانت دار فيها مقاصير فأخرجها من مقصورة إلى صحن الدار قطع؛ لأن كل مقصورة باعتبار ساكنها حرز على حدة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذي أنزل فيه أو موضع لم يحرز عنه لا يقطع، وإن كان موضع يحرز عنه قطع.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الضيف م: (بمنزلة أهل الدار) ش: يعني صار كأنه واحد من أهل البيت حيث أكرموه وأضافوه م: (فيكون فعله) ش: أي فعل الضيف م: (خيانة لا سرقة) ش: ولا قطع على الخائن، لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على الخائن قطع» ، وكذلك إذا سرق من بعض بيوت الدار الذي أذن له في دخولها، وهو مقفل أو من صندوق مقفل، كذا ذكره القدوري في شرحه وما روي أن أسود بات عند أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فسرق حلياً فقطعه أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فتأويله عند أصحابنا أنه سرق من دار النساء لا من دار الرجال، وفي الدارين المختلفين لا يكون الإذن في أحدهما إذناً في الأخرى.
م: (ومن سرق سرقة) ش: أراد بالسرقة المسروق مجازاً، كما قال محمد أيضاً إذا كانت السرقة مصحفاً، كذا قال الأترازي.
وقال الكاكي: سرق سرقة مجازاً فلم يخرجها من الدار لم يقطع؛ لأن الدار كلها حرز واحد فلا بد من الإخراج منها) ش: فلما لم يوجد الإخراج لا يوجد الهتك، فلا يجب القطع.
م: (ولأن الدار وما فيها في يد صاحبها معنى) ش: أي من حيث المعنى م: (فتتمكن شبهة عدم الأخذ) ش: والشبهة دارئة م: (وإن كانت دار) ش: وإن كانت الدار المذكورة داراً م: (فيها مقاصير) ش: أي الحجرات البيوت، وهو جمع مقصورة، والمقصورة الحجرة بلسان أهل الكوفة م: (فأخرجها من مقصورة إلى صحن الدار قطع؛ لأن كل مقصورة باعتبار ساكنها حرز على حدة) ش: لأن الإخراج إلى صحن الدار كالإخراج إلى السكة، فلو أخرج من السكة يقطع، فكذا هذا.
ثم في الفصل الأول قال بعض أصحابنا: لا ضمان عليه إذا تلف في يد المسروق، كما لا قطع عليه قبل الإخراج من الدار، والصحيح أنه يضمن بوجود التلف على وجه التعدي، بخلاف القطع، فإن شرطه هتك الحرز ولم يوجد.(7/42)
وإن أغار إنسان من أهل المقاصير على مقصورة فسرق منها قطع لما بينا. قال: وإذا نقب اللص البيت فدخل وأخذ المال وناوله آخر خارج البيت فلا قطع عليهما؛ لأن الأول لم يوجد منه الإخراج لاعتراض يد معتبرة على المال قبل خروجه. والثاني لم يوجد منه هتك الحرز، فلم تتم السرقة من كل واحد. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن أخرج الداخل يده فناولها الخارج، فالقطع على الداخل، وإن أدخل الخارج يده فتناولها من يد الداخل فعليهما القطع وهي بناء على مسألة تأتي بعد هذا. وإن ألقاه في الطريق ثم خرج فأخذه قطع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[نقب اللص البيت وناوله آخر خارج البيت أو ألقى المتاع في الطريق ثم خرج فأخذه]
م: (وإن أغار إنسان) ش: قال صاحب المغرب: -أغار - لفظ شمس الأئمة الحلواني، والضمير في أغار إلى العدو، وأما لفظ محمد وإن أعان يعني بالعين المهملة والنون، وهو الأوجه؛ لأن الإغارة تدل على الجهر والمكابرة والسرقة والحقيقة. وقال الكاكي: وإن أغار، أي أخذ سرعة على غيره، يقال: أغار الفرس والثعلب إذا أسرع، كذا في " المغرب ".
قوله فسرق فيها تفسير قوله أغار. وقال الأترازي: لفظ أغار له وجه بأن يدخل اللص مكابرة بالليل جهراً ويخرج المال فإنه يقطع لوجود الخفية عن عين سائر الناس، انتهى.
قلت: فيه ما فيه؛ لأن السرقة أخذ مال في خفية وحيلة، فكذلك سمي السارق به؛ لأنه يسارق عين المسروق منه، والإغارة أخذ في المجاهرة مكابرة ومبادرة. وإذا حملنا معنى أغار على ما نقله الكاكي من المغرب لا يتوجه شيء، ويحصل المقصود م: (من أهل المقاصير على مقصورة فسرق منها قطع؛ لما بينا) ش: أشار به إلى قوله: لأن كل مقصورة ... إلى آخره.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا نقب اللص البيت فدخل وأخذ المال وناوله آخر خارج البيت فلا قطع عليهما) ش: إلى هنا لفظ القدوري، أي على الداخل والخارج. وقال مالك: إن كانا متعاونين قطعا، وإن أقر كل واحد بفعل لم يقطعا.
وقال الشافعي: إن انفرد الخارج بالأخذ يقطع وبه قال أحمد. وقال المصنف: م: (لأن الأول لم يوجد منه الإخراج لاعتراض يد معتبرة على المال قبل خروجه. والثاني لم يوجد منه هتك الحرز، فلم تتم السرقة من كل واحد. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن أخرج الداخل يده فناولها الخارج، فالقطع على الداخل، وإن أدخل الخارج يده فتناولها من يد الداخل فعليهما القطع وهي بناء) ش: أي مسألة نقب البيت وإدخال اليد فيه بينته م: (على مسألة تأتي بعد هذا) ش: هي مسألة إلقائه في الطريق.
كذلك قال شيخي العلاء. قوله م: (وإن ألقاه) ش: متصل بما قبله، أي وإن ألقى المتاع م: (في الطريق ثم خرج فأخذه قطع) .(7/43)
وقال زفر: لا يقطع لأن الإلقاء غير موجب للقطع. كما لو خرج ولم يأخذ، وكذا الأخذ من السكة، كما لو أخذه غيره، ولنا أن الرمي حيلة يعتادها السراق لتعذر الخروج مع المتاع، أو ليتفرغ لقتال صاحب الدار أو الفرار، ولم تعترض عليه يد معتبرة، فاعتبر الكل فعلا واحدا، وإذا خرج ولم يأخذه فهو مضيع لا سارق.
وكذلك إذا حمله على حمار فساقه وأخرجه؛ لأن سيره مضاف إليه لسوقه، وإذا دخل الحرز جماعة فتولى الأخذ بعضهم قطعوا جميعا. قال هذا استحسان، والقياس أن يقطع الحامل وحده، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الإخراج وجد منه فتمت السرقة به. ولنا أن الإخراج من الكل معنى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال زفر: لا يقطع؛ لأن الإلقاء غير موجب للقطع، كما لو خرج ولم يأخذ، وكذا الأخذ من السكة) ش: أي وكذا أخذه من السكة أي أخذ سارق المال من السكة حيث لا يقطع عند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (كما لو أخذه غيره) ش: أي من السكة عليه القطع.
م: (ولنا أن الرمي حيلة يعتادها السراق لتعذر الخروج مع المتاع أو ليتفرغ لقتال صاحب الدار أو الفرار ولم تعترض عليه يد معتبرة) ش: لأنه خرج ويده ثابتة عليه، وهذا جواب عن قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما لو أخذه غيره، فإن هناك اعتراضا، عليه يد معتبرة، فأوجب سقوط يد الحاكمة للسارق.
وحاصله أن هذا السارق ثبت عليه بالأخذ كما مثله أن يد السارق بغيره ثبت عليه بالأخذ ثم بالرمي إلى الطريق ولم تدل يده حكماً؛ لعدم اعتراض الأخرى على يده م: (فاعتبر الكل) ش: أي إلقاءه في الطريق ثم أخذه م: (فعلاً واحداً) ش: كما إذا أخذ المال وخرج معه من الحرز فإنه فعل واحد، كذلك هنا.
م: (وإذا خرج) ش: أي السارق من الدار م: (ولم يأخذه فهو مضيع لا سارق) ش: فلا قطع عليه م: (وكذلك إذا حمله على حمار فساقه وأخرجه) ش: أي يقطع، به قالت الأئمة الثلاثة م: (لأن سيره) أي سير الحمار م: (مضاف إليه لسوقه) ش: وقال في خلاصة الفتاوى: ولو ذهب السارق إلى منزله فخرج الحمار بعد ذلك حتى جاء به إلى منزله.
وقال أيضاً: رجل دخل الدار وجمع المتاع في الليل وطرح في نهر كان فيها وخرج وأخذه وإن كان للماء قعرة أخرجه بنفسه لا يقطع، وعند الثلاثة يقطع. وفي " مبسوط شيخ الإسلام ": وهو وإن لم يكن للماء قعرة إخراج المتاع، لكنه أخرجه بتحريك يقطع. وفي مبسوط أبي البر: ولو علقه على عنق كلب فزجره يقطع. ولو خرج من غير زجر لا يقطع، وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - في وجه.
[دخل الحرز جماعة فتولى الأخذ بعضهم]
(وإذا دخل الحرز جماعة فتولى الأخذ بعضهم قطعواً جميعاً) ش: هذا لفظ القدوري م: (قال) ش: أي المصنف: - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (هذا استحسان، والقياس أن يقطع الحامل وحده، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قالت الأئمة الثلاثة م: (لأن الإخراج وجد منه) ش: أي من الحامل م: (فتمت السرقة به) ش: أي الحامل م: (ولنا أن الإخراج من الكل معنى) ش: أي من حيث المعنى(7/44)
للمعاونة كما في السرقة الكبرى، وهذا لأن المعتاد فيما بينهم أن يحمل البعض المتاع ويتشمر الباقون للدفع، فإذا امتنع القطع أدى إلى سد باب الحد. قال: ومن نقب البيت وأدخل يده فيه وأخذ شيئا لم يقطع. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الإملاء أنه يقطع، لأنه أخرج المال من الحرز، وهو المقصود، فلا يشترط الدخول فيه. كما إذا أدخل يده في صندوق الصيرفي فأخرج الغطريفي. ولنا أن هتك الحرز يشترط فيه الكمال تحرزا عن شهبة العدم والكمال في الدخول، وقد أمكن اعتباره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لكونهم ردوا للحامل م: (للمعاونة) ش: أي لأجل معاونتهم للحامل؛ لأن عادتهم بأن يحمل بعضهم ويترصد الباقون كي يدفعوا صاحب المال إذا انتبه فيكون الإخراج من الجميع لما ذكرنا م: (كما في السرقة الكبرى) ش: وهي قطع الطريق إذا باشر بعضهم القطع وأخذ المال والباقون وقوف يجب حد قطع الطريق على جميعهم لكونهم دالة، فكذا هنا.
م: (وهذا) ش: إشارة إلى أن الإخراج من الكل معنى م: (لأن المعتاد فيما بينهم) ش: أي فيما بين السراق م: (أن يحمل البعض المتاع ويتشمر الباقون للدفع) ش: أي دفع من يعترض لهم صاحب البيت أو غيره م: (فإذا امتنع القطع أدى إلى سد باب الحد) ش: أي فإذا امتنع القطع في هذه الصورة باعتبار الشبهة أدى إلى سد باب الحدود. قالوا: هذا إن كان الحامل من أهل القطع عند الانفراد.
أما إذا كان صبياً أو مجنوناً لا قطع عليهم بالإجماع، وإن كان الحامل بالغاً، ولكن فيهم صبي أو مجنون لم يجب القطع عليهم أيضاً عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - لتمكن الشبهة في فعل واحد منهم فلا يجب على الباقين، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب القطع على الحامل وغير الصبي والمجنون، كذا في " الذخيرة ". م: (ومن نقب البيت وأدخل يده فيه، وأخذ شيئاً لم يقطع) ش: الصبي والمجنون، وهذا ظاهر الرواية عن أصحابنا م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الإملاء " أنه يقطع؛ لأنه أخرج المال من الحرز وهو المقصود) ش: أي المقصود إخراج المال من الحرز م: (فلا يشترط الدخول فيه، كما إذا أدخل يده في صندوق الصيرفي فأخرج الغطريفي) ش: وفي بعض النسخ وأخرج الغطريفي وهو الدرهم المنسوب إلى غطريف بن عطاء الكندي أمير خراسان أيام الرشيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الدراهم الغطريفية كانت من أعز النقود ببخارى، وبقول أبي يوسف قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولنا أن هتك الحرز يشترط فيه الكمال) ش: لوجود القطع م: (تحرزاً عن شبهة العدم) ش: أي عدم هتك الحرز م: (والكمال في الدخول) ش: أي الكمال في هتك الحرز الدخول، أي في البيت م: (وقد أمكن اعتباره) ش: أي اعتبار الدخول في البيت.(7/45)
والدخول وهو المعتاد، بخلاف الصندوق لأن الممكن فيه إدخال اليد دون الدخول، وبخلاف ما تقدم من حمل البعض المتاع؛ لأن ذلك هو المعتاد وإن طر صرة خارجة من الكم لم يقطع، وإن أدخل يده في الكم قطع؛ لأن في الوجه الأول الرباط من خارج فبالطر يتحقق الأخذ من الظاهر، فلم يوجد هتك الحرز، وفي الثاني الرباط من داخل، فبالطر يتحقق الأخذ من الحرز وهو الكم،
ولو كان مكان الطر حل الرباط ثم الأخذ في الوجهين ينعكس الجواب لانعكاس العلة. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقطع على كل حال، لأنه محرزا إما بالكم أو بصاحبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والدخول) ش: أي في البيت م: (وهو المعتاد) ش: في هتك الحرز م: (بخلاف الصندوق) ش: جواب عن قوله كما إذا أدخل يده في صندوق الصيرفي م: (لأن الممكن فيه) ش: أي في الصندوق م: (إدخال اليد دون الدخول) ش: فإنه غير ممكن فيتم هتك الحرز بإدخال اليد والإخراج منه.
م: (وبخلاف ما تقدم من حمل البعض المتاع) ش: أي بعض القوم دون البعض، وهذا أيضاً جواب عما يقال لو كان الكمال في هتك الحرز شرطاً تحرزاً عن شبهة القطع لما وجب القطع فيما تقدم من حمل البعض المتاع دون بعض؛ لأن فيه شبهة العدم، فأجاب بقوله م: (لأن ذلك هو المعتاد) ش: بين السراق إذا كانوا جماعة م: (وإن طر صرة) ش: الطر ومنه الطرار والصرة الهيمان والجراد من الصرة هنا الكم المشدودة في الدراهم.
وقال الأكمل: الطرار هو الذي يطر الهيمان أي يشفها ويقطعها، والصرة وعاء الدراهم، يقال: طررت الصرة، أي شددتها م: (خارجة من الكم لم يقطع وإن أدخل يده في الكم قطع؛ لأن في الوجه الأول الرباط من خارج، فبالطر يتحقق الأخذ من الظاهر، فلم يوجد هتك الحرز) ش: فلا قطع.
م: (وفي الثاني) ش: أي في الوجه الثاني م: (الرباط من داخل، فبالطر يتحقق الأخذ من الحرز وهو الكم) ش: فيقطع، وفي هذا التفصيل المذكور في الكتاب دليل على أن المذكور في أصول الفقه بأن الطرار يقطع ليس بمجرى على عمومه، بل هو محمول على الصورة الثانية، وهي إذا أدخل يده في الكم فنظرها.
م: (ولو كان مكان الطر حل الرباط، ثم الأخذ في الوجهين) ش: أي من الخارج والداخل م: (ينعكس الجواب) ش: يعني فيما إذا كان الرباط خارج الكم يقطع؛ لأنه يأخذ الدراهم من داخل الكم لوقوعها في الكم.
ولو كان الرباط داخل الكم لا يقطع؛ لأنه لما حل الرباط من داخل الكم فكان أخذها من خارج الكم فلا يقطع؛ لأنه لم يهتك الحرز، ولم يأخذ منه شيئاً، وهذا معنى قوله م: (لانعكاس العلة وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقطع على كل حال؛ لأنه محرز) ش: أي؛ لأن المال محرز م: (إما بالكم أو بصاحبه) ش: أي في الكم، ففي صورة طرها(7/46)
قلنا الحرز هو الكم؛ لأنه يعتمده، وإنما قصده قطع المسافة والاستراحة فأشبه الجوالق،
وإن سرق من القطار بعيرا أو جملا لم يقطع؛ لأنه ليس بمحرز مقصودا، فتتمكن شبهة العدم، وهذا لأن السائق والقائد والراكب يقصدون قطع المسافة، ونقل الأمتعة دون الحفظ، حتى لو كان مع الأحمال من يتبعها للحفظ قالوا يقطع. وإن شق الحمل وأخذ منه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خارج الكم، وأما بصاحبه ففي صورة طرها دخل الكم. م: (قلنا: الحرز هو الكم لأنه) ش: أي لأن صاحب المال م: (يعتمده) ش: أي يعتمد الكم في حفظ المال لا قيام نفسه عند المال م: (وإنما قصده) ش: أي قصد صاحب المال م: (قطع المسافة) ش: في المشي م: (والاستراحة) ش: في القعود م: (فأشبه الجوالق) ش: أي فأشبه الكم الجوالق - بضم الجيم - وهو اسم للواحد، وجمعه الجوالق بفتح الجيم كالسرادق، كذا أخبرنا الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الكاكي في قوله الجوالق؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون صاحب المال في حالة المشي أو في غير حالة المشي، فإذا كان الأول فمقصوده قطع المسافة لا حفظ المال، وإن كان الثاني فمقصوده الاستراحة لا حفظ المال والمقصود وهو المعتبر في هذا الباب.
ألا ترى أن من سرق الجوالق الذي على إبل يسير فأخذ المال منه يقطع؛ لأن صاحب المال اعتمد الجوالق فكان السارق منه هاتكا للحرز فيقطع، ولو أخذ الجوالق بما فيه لا يقطع، وكذا لو سرق الغنم من المرعى ومعها الراعي لا يقطع؛ لإذن الراعي، لا يقصد بالرعي الحفظ، وإنما يقصد به الرعي والحفظ، بخلاف ما لو كانت الغنم في حظيرة بنيت لها وعليها باب مغلق، فأخرجها منه يقطع؛ لأنها بنيت لأجل حفظ الغنم. كذا في " المحيط ".
وعند الأئمة الثلاثة إذا كان الراعي بحيث يراها تكون محرزة فيقطع، وما كان غائباً من نظره، فإن كان نائماًَ أو مشغولاً فليست بمحرزة، وعندهم لو أخذ الجوالق بما فيه من الجمال المقررة.
[سرق من القطار بعيراً أو جملاً]
م: (وإن سرق من القطار بعيراً أو جملاً لم يقطع، لأنه ليس بمحرز مقصوداً، فتتمكن شبهة العدم) ش: أي عدم الحرز، وعند الأئمة الثلاثة لو سرق واحداً من الجمال أو واحداً من الأجمال أو شق وأخذ شيئاً يقطع في الكل؛ لأن الكل محرز بالحافظ، وهو القائد أو السائق أو الراكب إذا لم يكن نائماً عليه له يقطع، فإن كان نائماً عليها لم يقطع.
م: (وهذا) ش: أي عدم القطع م: (لأن السائق والقائد والراكب يقصدون قطع المسافة ونقل الأمتعة دون الحفظ، حتى لو كان مع الأحمال من يتبعها للحفظ، قالوا: يقطع وإن شق الحمل وأخذ منه(7/47)
قطع، لأن الجوالق في مثل هذا حرز؛ لأنه يقصد بوضع الأمتعة فيه صيانتها كالكم فوجد الأخذ من الحرز فيقطع، وإن سرق جولقا فيه متاع وصاحبه عنده يحفظه، أو نائم قطع، معناه إذا كانت الجوالق في موضع ليس بحرز كالطريق ونحوه، حتى يكون محرزا بصاحبه؛ لكونه مترصدا لحفظه، وهذا لأن المعتبر هو الحفظ المعتاد والجلوس عنده، والنوم عليه يعد حفظا عادة، وكذا النوم يقرب منه على ما اخترناه من قبل. وذكر في بعض النسخ وصاحبه نائم عليه، أو حيث يكون حافظا له، وهذا يؤكد ما قدمناه من القول المختار.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قطع؛ لأن الجوالق في مثل هذا حرز، لأنه يقصد بوضع الأمتعة فيه صيانتها كالكم فوجد الأخذ من الحرز فيقطع) .
[سرق جولقاً فيه متاع وصاحبه عنده يحفظه أو نائم]
م: (وإن سرق جولقاً فيه متاع وصاحبه عنده يحفظه أو نائم قطع. معناه) ش: أي معنى قول محمد؛ لأنه مسألة من مسائل " الجامع الصغير " م: (إذا كانت الجوالق في موضع ليس بحرز كالطريق ونحوه) ش: كالمغادر م: (حتى يكون محرزاً بصاحبه؛ لكونه مترصداً لحفظه، وهذا لأن المعتبر هو الحفظ المعتاد والجلوس عنده، والنوم عليه يعد حفظاً عادة، وكذا النوم يقرب منه على ما اخترناه من قبل) ش: أي من قبل ورقة وهو قوله: لأنه يعد النائم عند متاعه حافظاً.
م: (وذكر في بعض النسخ) ش: أي ذكر في بعض نسخ " الجامع الصغير " وأراد به فخر الإسلام م: (وصاحبه نائم عليه أو حيث يكون حافظاً له) ش: يعني لم يقتصر على قوله وصاحبه نائم عليه، بل قال: أو حيث يكون حافظاً له.
م: (وهذا) ش: أي هذا الذي ذكره في بعض النسخ بقوله حيث يكون حافظاً له م: (يؤكد ما قدمناه من القول المختار) ش: بعد ما تقدم من كون المتاع عنده أو تحته، وهو قوله: ولا فرق بين أن يكون الحافظ مستيقظاً إلى قوله: والصحيح.(7/48)
فصل في كيفية القطع وإثباته قال: وتقطع يمين السارق من الزند ويحسم، فالقطع لما تلوناه من قبل واليمين بقراءة عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن الزند؛ لأن الاسم يتناول اليد إلى الإبط، وهذا المفصل متيقن به. كيف وقد صح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقطع يد السارق من الزند، والحسم؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في كيفية القطع وإثباته] [قطع يمين السارق من الزند]
م: (فصل في كيفية القطع وإثباته)
ش: أي هذا فصل في بيان كيفية قطع يد السارق، وفي بيان إثبات القطع.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وتقطع يمين السارق من الزند) ش: وقالت الخوارج: من المنكب لظاهر النص، إذ اليد من المنكب رؤوس الأصابع. وقال بعض الناس: بقطع الأصابع فقط، لأنها آلة البطش ومحل الجناية.
قلنا: هذا مخالف بالنص والمنصوص قطع اليد لا الأصابع والزند موصل طرف الذراع من الكف. وقال تاج الشريعة: الزند عظم الساعد.
وفي " الصحاح " الزند موصل طرف الذراع، وهما زندان الكوع والكرسوع، والكوع: طرف الزند الذي يلي الإبهام، والكرسع: طرف الزند الذي يلي الخنصر.
م: (ويحسم) ش: على صيغة المجهول من الحسم، وهو الكي لينقطع الدم يقال: حسم العرق إذا كواه بحديدة محماة. وفي الطلبة والمغرب والمغني لابن قدامة الحنبلي وهو أن يغمس في الدهن الذي أغلي.
م: (فالقطع لما تلوناه من قبل) ش: يعني قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] ..... الآية (المائدة: الآية 38) ، م: (واليمين) ش: أي قطع يراد اليمين م: (بقراءة عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: فاقطعوا أيمانهما، وهي قراءة مشهورة جاءت الزيادة بها على الكتاب م: (ومن الزند) ش أي يقطع من الزند م: (لأن الاسم يتناول اليد إلى الإبط) ش: حاصله أن اليد قد تكون من المنكب.
وقد تكون من المرفق، وقد تكون من الرسغ، فإذا أطلق إلى الإبط باستعمال العرب واللغة والشرع، ولكن زال هذا ببيان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعمله وعمل الصحابة وإجماعهم على أن هذا القدر، وهو متيقن به، أشار إليه المصنف بقوله م: (وهذا المفصل) ش: الرسغ م: (متيقن به) ش: أي في كونه موضع القطع لإرادة الرسغ على تقدير إرادة أي المفصل كان من مفاصل اليد.
م: (كيف) ش: أي كيف لا يكون هذا المفصل متيقناً به م: (وقد صح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقطع يد السارق من الزند) ش: وروى ابن عدي في " الكامل " بإسناده عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو(7/49)
«فاقطعوه واحسموه» ؛ ولأنه لو لم يحسم يفضي إلى التلف والحد زاجر لا متلف،
" ولو سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثا لم يقطع، ويخلد في السجن حتى يتوب، وهذا استحسان ويعزر أيضا ذكره المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: «قطع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سارقاً من المفصل» . وروى الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كان صفوان بن أمية بن خلف نائماً في المسجد وثيابه تحت رأسه، فجاء سارق فأخذها فأتى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... الحديث ". وفي آخره: " ثم أمر بقطعه» .
م: (والحسم) ش: عطف على قوله: فالقطع م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «فاقطعوه واحسموه» ش: هذا أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق سرق شملة، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ما أخاله سرق، قال السارق: بلى يا رسول الله، قال: فاذهبوا به واقطعوه ثم احسموه ... الحديث» . وقال الكاكي: صحيح على شرط مسلم.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن السارق م: (لو لم يحسم) ش: بعد القطع م: (يفضي إلى التلف والحد زاجر لا متلف) ش: ألا ترى أنه لا يقطع في الحر الشديد والبرد الشديد، وعند شدة المرض توقياً عن الهلاك، وثمن الدهن على السارق عندنا، وبه قال مالك والشافعي في وجه، وقال في وجه بيت المال.
[سرق ثانياً بعد قطع يده اليمنى]
م: (ولو سرق ثانياً) ش: يعني بعد قطع يده اليمنى م: (قطعت رجله اليسرى) ش: من الكعب عند أكثر أهل العلم وفعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كذلك. وقال أبو ثور والرافضة: يقطع من نصف القدم من معقد الشراك م: (فإن سرق ثالثاً لم يقطع ويخلد في السجن حتى يتوب) .
ش: قال صاحب النافع: حتى يتوب أو يظهر عليه سيما رجل صالح م: (وهذا) ش: أي عدم القطع في المرة الثالثة م: (استحسان ويعزر أيضاً، ذكره المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: أي ذكروا التعزير، وقد روى ابن رستم عن محمد أن التعزير مع الحبس، وقد روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه ضرب وحبس في المرة الثالثة.(7/50)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في الثالثة يقطع يده اليسرى، وفي الرابعة: يقطع رجله اليمنى؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من سرق فاقطعوه فإن عاد فاقطعوه فإن عاد فاقطعوه» ويروى مفسرا كما هو مذهبه، ولأن الثالثة مثل الأولى في كونها جناية، بل فوقها، فتكون أدعى إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الثالثة) ش: أي في السرقة الثالثة م: (يقطع يده اليسرى، وفي الرابعة: يقطع رجله اليمنى؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «من سرق فاقطعوه، فإن عاد فاقطعوه» ش: هذا الحديث رواه أبو داود عن مصعب بن ثابت عن محمد بن المنكدر عن جابر قيل: «جيء بسارق إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: اقتلوه، قالوا: يا رسول الله إنما سرق، فقال: اقطعوه، فقطع، ثم جيء به الثالثة فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله إنما سرق قال: اقطعوه فقطع، ثم جيء به الرابعة فقال: اقتلوه، قالوا: يا رسول الله إنما سرق مالا، قال: اقطعوه فقطع، ثم جيء به في الخامسة فقال: اقتلوه، قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه ثم اجتررناه فألقيناه في البئر ورمينا عليه الحجارة» وقال النسائي: حديث منكر، ومصعب بن ثابت ليس بالقوي في الحديث.
م: (ويروى مفسراً كما هو مذهبه) ش: أي يروى هذا الحديث مفسراً كما هو مذهب الشافعي، قال الأكمل في حديث أبي هريرة: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المرة الأولى: تقطع يده اليمنى، وفي الثانية الرجل اليسرى، وفي الثالثة اليد اليسرى، وفي الرابعة الرجل اليمنى» انتهى.
قلت: حديث أبي هريرة هذا رواه الدارقطني بغير هذا اللفظ، فإنه أخرجه عن الواقدي عن أبي ذئب عن خالد بن سلمة رواه عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سرق السارق فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله، فإن عاد فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله» ، والواقدي فيه مقال.
ويقول الشافعي قال مالك، وفي المرة الخامسة عندهما يحبس ويعزر. وحكي عن عطاء، وعمر بن عبد العزيز، وعمرو بن العاص، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنه يقطع في المرة الثالثة يده اليسرى. وفي الرابعة الرجل اليمنى ويقتل في الخامسة في حديث جابر الذي مضى عن قريب.
م: (ولأن الثالثة) ش: أي ولأن الثالثة م: (مثل الأولى) ش: أي مثل السرقة الأولى م: (في كونها جناية بل فوقها) ش: أي بل فوق الأولى، لأنها لعدم تقدم الزواجر م: (فتكون أدعى إلى(7/51)
شرع الزاجر. ولنا قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه: إني لأستحي من الله أن لا أدع له يدا يأكل بها ويستنجي بها، ورجلا يمشي عليها، وبهذا حاج بقية الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فحجهم فانعقد إجماعا، ولأنه إهلاك معنى لما فيه من تفويت جنس المنفعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شرح الزاجر) ش: أي فتكون الثالثة أدعى إلى مشروعية الزاجر؛ لأنها بعد تكرار الزاجر.
م: (ولنا قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه) ش: أي قول علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قطع الثالثة م: (إني لأستحي من الله أن لا أدع له يداً يأكل بها ويستنجي بها، ورجلاً يمشي عليها) ش: هذا رواه محمد بن الحسن في كتاب " الآثار ". وأخبرنا أبو حنيفة الإمام عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا سرق السارق قطعت يده اليمنى، فإن عاد قطعت رجله اليسرى، فإن عاد ضمن السجن حتى يحدث خيراً، إني لأستحي من الله أن أدعه ليس له يد يأكل بها ويستنجي بها، ورجل يمشي عليها، ومن طريق محمد بن الحسن رواه الدارقطني في سننه.
م: (وبهذا) ش: أي بقوله هذا م: (حاج بقية الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أي حاجج معهم في هذا، رواه سعيد بن منصور، حدثنا أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه قال: حضرت علي بن أبي طالب أتي برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق، فقال لأصحابه: ما ترون في هذا؟ قالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين، قال: قتلته إذاً وما عليه القتل، بأي شيء يأكل الطعام؟ بأي شيء يتوضأ للصلاة؟ بأي شيء يغتسل من الجنابة؟ بأي شيء يقوم على حاجته؟ فرده إلى السجن أياماً ثم أخرجه فاستشار أصحابه فقالوا مثل قولهم الأول، فقال لهم مثل ما قال في الأول فجلده جلداً شديداً ثم أرسله م: (فحجهم) ش: أي تعليم لهذا فلم يرد عليه أحد منهم بعد هذا. م: (فانعقد إجماعاً) ش: لأنه يحتج عليهم بالنص في الباب، قال: إنه لا يغني فيه، إذ لو ثبت التعليم؛ لأنه يبنى على الشهود ولو بلغهم لاحتجوا به.
فإن قيل: ليس اليد اليسرى محله لظاهر الكتاب والإجماع على خوف الكتاب.
قلنا: لما قيدنا المطلق بالقراءة المشهورة خرجت اليسرى عن كونها من الحد، كمن قال لآخر أعتق عبداً من عبيدي ثم قال: عنيت سالماً فيخرج غيره، ولأن الأمر بالفعل لا يقتضي التكرار.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن قطع غير اليد اليمنى والرجل اليسرى م: (إهلاك معنى) ش: أي من حيث المعنى م: (لما فيه من تفويت جنس المنفعة) ش: وفي " المبسوط " يقطع ببقاء منافعه؛ ولهذا تعلق مطلق لليد في العبد قيمة النفس.
ولا يجوز إعتاق مقطوع اليدين في الكفارة، فعرفنا أنه استهلاك حكماً، وفيه شبهة(7/52)
والحد زاجر، ولأنه نادر الوجود، والزجر فيما يغلب بخلاف القصاص؛ لأنه حق العبد فيستوفي ما أمكن جبرا لحقه، والحديث طعن فيه الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أو نحمله على السياسة.
وإذا كان السارق أشل اليد اليسرى أو أقطع أو مقطوع الرجل اليمنى لم يقطع؛ لأن فيه تفويت جنس المنفعة بطشا أو مشيا، وكذا إذا كانت رجله اليمنى شلاء؛ لما قلنا، وكذا إن كانت إبهامه اليسرى مقطوعة أو شلاء أو الأصبعان منها سوى الإبهام، لأن قوام البطش بالإبهام،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإتلاف، والشبهة كالحقيقة فيما يندرئ بالشبهات م: (والحد زاجر) ش: أي لا متلف.
م: (ولأنه نادر) ش: أي ولأن وجود الزجر متكرر نادر م: (الوجود) ش: لأنه فقد الزاجران م: (والزجر فيما يغلب) ش: وجوده م: (بخلاف القصاص) ش: جواب سؤال مقدر تقديره لو قطع رجل أربعة أطراف قصر منه الإجماع، وجميع ما ذكرتم من المحظورات هناك موجود؛ لأنه لا يبقى له يد يأكل بها ويستنجي بها، ورجل يمشي عليها، وفيه تفويت جنس المنفعة ونادر الوجود وأجاب بخلاف القصاص، يعني حكم القصاص بخلاف حكم هذا م: (لأنه) ش: أي لأن القصاص م: (حق العبد فيستوفي) ش: حقه م: (ما أمكن) ش: لأن في حق العبد تراعى المماثلة بالنص م: (جبراً لحقه) ش: أي لأجل جبر حقه بالاستيفاء مثل حقه.
م: (والحديث) ش: أي الحديث الذي احتج به الشافعي م: (طعن فيه الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فقال: تتبعنا هذه فلم نجد لشيء منها أصلاً، وطعن فيه النسائي أيضاً وغيره من الثقات م: (أو نحمله) ش: أي نحمل الحديث المشهور المذكور م: (على السياسة) ش: وهذا جواب بطريق التسليم.
[السارق إذا كان أشل اليد اليسرى أو أقطع]
م: (وإذا كان السارق أشل اليد اليسرى أو أقطع) ش: أي أو كان أقطع م: (أو مقطوع الرجل اليمنى لم يقطع) ش: وبه قال أحمد في رواية. وقال الشافعي ومالك وأحمد في رواية تقطع يمينه، ولا يمنع ذلك النقصان من قطع يمينه م: (لأن فيه تفويت جنس المنفعة بطشاً) ش: يعني من حيث البطش، وهو لأخذ القوى باليد إن كانت يده اليسرى مقطوعة م: (أو مشياً) ش: يعني من حيث المشي إن كانت رجله اليمنى كذلك.
م: (وكذا إذا كانت رجله اليمنى شلاء لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله: لأن فيه تفويت جنس المنفعة م: (وكذا إذا كانت إبهامه اليسرى مقطوعة أو شلاء) ش: أي أو كانت شلاء يقطع م: (أو الأصبعان منها سوى الإبهام) ش: أو كانت الأصبعان من اليد اليسرى سوى الإبهام مقطوعين لم يقطع أيضاً؛ لأن الأصبعين ينزلان منزلة الإبهام، وقوله م: (لأن قوام البطش بالإبهام) ش: أي لبطش بالإبهام تعليل لقوله، وكذلك إذا كان إبهامه اليسرى مقطوعة أو شلاء.(7/53)
فإن كانت أصبع واحدة سوى الإبهام مقطوعة أو شلاء قطع؛ لأن فوت الواحدة لا يوجب خللا ظاهرا في البطش، بخلاف فوات الأصبعين لأنهما ينزلان منزلة الإبهام في نقصان البطش.
وإذا قال الحاكم للحداد اقطع يمين هذا في سرقة سرقها فقطع يساره عمدا أو خطأ، فلا شيء عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا شيء عليه في الخطأ ويضمن في العمد. وقال زفر: يضمن في الخطأ أيضا، وهو القياس. والمراد بالخطأ هو الخطأ في الاجتهاد، وأما الخطأ في معرفة اليمين أو اليسار فلا يجعل عذرا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن كانت أصبع واحدة) ش: يعني من اليد اليسرى م: (سوى الإبهام مقطوعة أو شلاء قطع؛ لأن فوت الواحدة) ش: أي الأصبع الواحدة م: (لا يوجب خللاً ظاهراً في البطش، بخلاف فوات الأصبعين، لأنهما ينزلان منزلة الإبهام في نقصان البطش) ش: وقال تاج الشريعة: فإن كان أصبع واحدة إلى العشرة فرق بين هذا وبين الكفارة، فإن العبد إذا كان مقطوع أحد اليدين أو الرجلين أو الإبهام أو الأصبعين فأعتقه عن الكفارة يجزئه؛ لأن قطع الإبهام إهلاك من وجه، فأقيم الإهلاك في حقه مقام الإهلاك من كل وجه احتيالاً لدرء القطع، أما الكفارة فلا يحتال فيها فلا يقام الإهلاك من وجه مقام الإهلاك من كل وجه
[قال الحاكم للحداد اقطع يد هذا فقطع الحداد يساره]
م: (وإذا قال الحاكم للحداد) ش: أي الذي يقيم الحد كالجلاد الذي يقيم الجلد، كذا في المغرب م: (اقطع يمين هذا في سرقة سرقها) ش: قيد بقوله: يمين هذا؛ لأنه لو قال: اقطع يد هذا فقطع الحداد يساره لا ضمان عليه بالاتفاق م: (فقطع يساره عمداً أو خطأ فلا شيء عليه) ش: أي على الحداد م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: سواء قطعه عمداً أو خطأ، ولكن يثوب الحداد، وبه قال أحمد.
م: (وقالا) ش: أي وقال أبو يوسف ومحمد: م: (لا شيء عليه) ش: أي على الحداد إذا كان م: (في الخطأ ويضمن في العمد) ش: أرش اليسار م: (وقال زفر: يضمن في الخطأ أيضاً) ش: يعني يضمن الأرش، وعند الشافعي في العمد يجب القصاص عليه، وبه قال مالك؛ لأنه قطع بغير حق فوجب عليه القود. ولو قال: أخطأت وظننت أنه اليسار فعليه الدية؛ لأن الخطأ غير مرفوع في حق العباد، ولو بادر رجل فقطع اليمين بغير إذن الإمام، فلا شيء عليه بالإجماع، ولكن يؤدبه الإمام على ذلك؛ لأنه أساء الأدب حيث قطع بغير إذن الإمام كذا في " المبسوط " م: (هو القياس) ش: أي قول زفر، وهو القياس م: (والمراد بالخطأ) ش: أي المراد من الخطأ الذي لا شيء عليه م: (هو الخطأ في الاجتهاد) ش: يعني في قَوْله تَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] حيث زعم أن الكتاب مطلق عن قيد اليمين.
م: (وأما الخطأ في معرفة اليمين أو اليسار فلا يجعل عذراً) ش: لأن الجهل في موضع الاشتهار ليس بعذر، وهذا موضع الاشتهار؛ لأن كل واحد يميز بين اليمين واليسار، وإليه(7/54)
وقيل يجعل عذرا أيضا. له أنه قطع يدا معصومة، والخطأ في حق العباد غير موضوع فيضمنها، قلنا: إنه أخطأ في اجتهاده، إذ ليس في النص تعيين اليمين، والخطأ في الاجتهاد موضوع، ولهما أنه قطع طرفا معصوما بغير حق ولا تأويل له؛ لأنه تعمد الظلم فلا يعفى، وإن كان في المجتهدات، وكان ينبغي أن يجب القصاص إلا أنه امتنع للشبهة. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه أتلف وأخلف من جنسه ما هو خير منه، فلا يعد إتلافا، كمن شهد على غيره ببيع ماله بمثل قيمته ثم رجع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذهب فخر الإسلام م: (وقيل يجعل عذراً أيضاً) ش: فلا يضمن؛ لأنه بنى أمره على دليل شرعي. كذا في " الكافي ".
وقيل: اجتهد في جواز قطع اليسرى نظراً إلى إطلاق النص هكذا رأيت بخط شيخي العلاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (له) ش: أي لزفر م: (أنه) ش: أي أن الحداد م: (قطع يداً معصومة) ش: ولهذا لو قطع غير الحداد يضمن كما لو رمى صيداً فأصاب إنساناً يضمن م: (والخطأ في حق العباد غير موضوع فيضمنها) ش: أي الدية م: (قلنا: إنه أخطأ في اجتهاده إذ ليس في النص تعيين اليمين) ش: لأن النص مطلق م: (والخطأ في الاجتهاد موضوع) ش: أي شرعاً. م: (ولهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أنه) ش: أي أن الحداد م: (قطع طرفاً معصوماً بغير حق) ش: لأن الحق في اليمين وهو أيضاً لم يقطع يسار أحد؛ ليكون حق قطع اليسار قصاصاً م: (ولا تأويل له) ش: أي للحداد فيما فعله م: (لأنه تعمد الظلم فلا يعفى وإن كان في المجتهدات) ش: واصل بما قبله، إذ المجتهد لا يقدر في الظلم عمداً كالباغي إذا أتلف مال العادل م: (وكان ينبغي أن يجب القصاص) ش: لأنه قطع ما ليس بمحل م: (إلا أنه امتنع) ش: أي إلا أن القصاص امتنع م: (للشبهة) ش: أي لأجل الشبهة الثابتة من إطلاق النص، وإن كانت اليمين ثبتت بقراءة ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولكن تبقى شبهة اليسار الداخل تحت اسم اليد، فالشبهة تكفي لدرء القصاص، بخلاف ضمان الأموال.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه أتلف) ش: حيث قطع اليسار م: (وأخلف من جنسه) ش: أي من جنس المقطوع م: (ما هو خير منه) ش: وهو اليمين؛ لأن منفعة اليمين صارت على شرف الزوال فيكون كالغائب من حيث الاعتبار م: (فلا يعد إتلافاً كمن شهد على غيره ببيع ماله بمثل قيمته ثم رجع) ش: حيث لا يضمن، وبقولنا قال الشافعي - في الأصح - وأحمد. وقال مالك والشافعي في قول: يقطع؛ لأنه وجب قطعها فلا يسقط بالجناية على غيرها.
فإن قيل: اليمين لم يحصل له سبب القطع، بل كان حاصلاً له قبل ذلك والإتلاف بخلف إنما لا يوجب الضمان إذا حصل الخلف بسبب حصل به الإتلاف كما في مسألة الشهادة ونقصان(7/55)
وعلى هذا لو قطعه غير الحداد فلا يضمن أيضا، هو الصحيح،
ولو أخرج السارق يساره، وقال: هذه يميني فقطعها لا يضمن بالاتفاق؛ لأنه قطعه بأمره ثم في العمد عنده عليه، أي السارق ضمان المال؛ لأنه لم يقع حدا وفي الخطأ كذلك على هذه الطريقة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الولادة، أما إذا حصل الخلف بسبب آخر يضمن.
قلنا: اليمين من حيث الاعتبار، ولا يلزم ما إذا جدع أنفه؛ لأنه ما أخلف عما أتلف أو عيناه لم تقطع.
فإن قيل: لو قطع رجله اليمنى يضمن، وقد أتلف وأخلف عوضاً وهو اليمين لا يقطع حينئذ.
قلنا: لا رواية فيه فيمنع، ولئن سلمنا فالتالف ليس من جنس الباقي.
م: (وعلى هذا) ش: أي وعلى تعليل أبي حنيفة وهو أنه أتلف والخلف من جنسه خير منه م: (لو قطعه) ش: أي لو قطع يد السارق م: (غير الحداد فلا يضمن أيضاً) ش: لأنه أتلف وأخلف خيراً منه، لأن يمناه لا تقطع بعد ذلك سواء قطع يساره أو غيره بعد القضاء ذكره فخر الإسلام في جامعه م: (هو الصحيح) ش: احترز به عما ذكر في شرح الطحاوي فقال فيه: ولو قطع غيره يده اليسرى. فإن في العمد القصاص، وفي الخطأ الدية. وسقط القطع عنه في اليمين؛ لأنه لو قطع إلى الاستهلاك، ويرد السرقة إن كان قائماً وعليه ضمانه في الهالك.
[أخرج السارق يساره وقال هذه يميني فقطعها الحداد]
م: (ولو أخرج السارق يساره، وقال: هذه يميني فقطعها لا يضمن بالاتفاق، لأنه) ش: أي لأن الحداد م: (قطعه بأمره) ش: أي قطع يساره بأمر السارق فلا يضمن، كما لو قطع يد غيره بأمره من غير أن يكون يده مستحقاً للقطع بالسرقة فهذا أولى م: (ثم في العمد عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (عليه) ش: أي على السارق م: (ضمان المال) ش: أي مال المسروق منه.
م: (لأنه) ش: أي لأن قطع يساره م: (لم يقع حداً) ش: وإنما خص أبا حنيفة بالذكر، وإن كان الضمان على السارق بالاتفاق دفعاً لمن عسى أن يتوهم أن قطع السارق وقع حداً عنده حيث لم يوجب الضمان على الحداد فأزال ذلك ببيان وجوب الضمان إيقاناً بأن القطع لم يقع حداً إذ القطع حدا والضمان لا يجتمعان، وعدم الضمان على الحداد باعتبار أنه أخلف خبراً لا باعتبار أن القطع وقع حداً، وأما على مذهبهما فظاهر لا حاجة إلى ذكره لأنهما يضمنان الحداد في العمد فلا يقع القطع حداً لا تحل له فيضمن السارق؛ لعدم لزوم الجمع بين الضمان والقطع حداً.
م: (وفي الخطأ كذلك على هذه الطريقة) ش: أي على طريقة أن القطع لم يقطع؛ لأنه إذا لم يقع حداً لا يوجد ما بينا في الضمان والمقتضى، وهو الإتلاف موجود فيجب الضمان البتة م:(7/56)
وعلى طريقة الاجتهاد لا يضمن. ولا يقطع السارق إلا أن يحضر المسروق منه فيطالب بالسرقة؛ لأن الخصومة شرط لظهورها.
ولا فرق بين الشهادة والإقرار عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الإقرار لأن الجناية في مال الغير لا تظهر إلا بخصومة صاحب المال، وكذا إذا غاب عند القطع لا يقطع عندنا، لأن الاستيفاء من القضاء في باب الحدود. وللمستودع والغاصب وصاحب الربا أن يقطعوا السارق منهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وعلى طريقة الاجتهاد) ش: أي قلنا: في طريقة أبي يوسف ومحمد اليد على الحداد بطل بطريق الاجتهاد م: (لا يضمن) ش: أي السارق لا يضمن المال؛ لوقوع القطع موقع الحد بالاجتهاد والضمان والقطع لا يجتمعان.
م: (ولا يقطع السارق إلا أن يحضر المسروق منه فيطالب بالسرقة؛ لأن الخصومة شرط لظهورها) ش: أي لظهور السرقة، وبه قال الشافعي وأحمد. وقال مالك، وأبو ثور، وابن المنذر، وابن أبي ليلى، وأبو بكر الحنبلي: لا تشترط المطالبة لظهورها لعموم الآية، كما في حد الزنا.
قلنا: السرقة جناية على مالك بغير إذنه ولم تثبت الجناية إلا بمطالبة ذلك، إذ بالمطالبة يظهر عدم الإباحة إذ لو لم يحضر عليه تمكن فيه شبهة الإباحة، إما بإباحة الملك أو وقفه على المسلمين أو على طائفة السارق منهم أو أذن له في دخول حرزه فاعتبرت المطالبة دفعاً لهذه الشبهة.
أما الزنا لا يباح بالإباحة فلا تتمكن فيه الشبهة، وعلى هذا الخلاف إذا غاب المالك عند القطع لم يقطع حتى يحضر، وبه قال الشافعي وأحمد خلافاً لهم، لأن الإمضاء من باب القضاء في الحدود.
[الشهادة والإقرار في السرقة ومن له يد حافظة سوى المالك إذا سرق منه]
م: (ولا فرق بين الشهادة والإقرار عندنا خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الإقرار) ش: وهذا وجه في قوله، والأصح عنده أن الإقرار كالبينة م: (لأن الجناية في مال الغير لا تظهر إلا بخصومة صاحب المال) ش: قيل: إن معنى قوله إن الجناية على مال الغير لا تظهر إلا بخصومة هو معنى قوله لأن الخصومة شرط لظهورها، فيكون فيه توهم التكرار. ورد بأن الأول تعليل لاشتراط الحضور، والثاني لعدم التفرقة بين الإقرار والشهادة وإن كانا بمعنى واحد فافهم.
م: (وكذا إذا غاب عند القطع) ش: أي المسروق منه عند القطع م: (لا يقطع عندنا، لأن الاستيفاء) ش: أي استيفاء القطع م: (من القضاء في باب الحدود) ش: فإذا قطع قبل حضوره يكون باستيفاء الحد مع قيام الشبهة وهو لا يجوز م: (وللمستودع) ش: بفتح الدال، أي الذي عنده الوديعة م: (والغاصب وصاحب الربا) ش: صورته رجل باع عشرة دراهم بعشرين درهماً وقبضه فسرق منه يقطع بخصومته. وكذا المستودع والغاصب، وهو معنى قوله م: (أن يقطعوا السارق منهم) ش: أي من هؤلاء الثلاثة، فيقطع بخصومتهم عند علمائنا الثلاثة، وقال الأكمل: ولم يذكر العاقد الآخر من عاقدي الربا، فكأنه بالتسليم لم يبق له ملك ولاية، فلا(7/57)
وكذا الوديعة يقطعه أيضا، وكذا المغصوب منه. وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: لا يقطع بخصومة الغاصب والمستودع. وعلى هذا الخلاف المستعير والمستأجر والمضارب والمستبضع والقابض على سوم الشراء والمرتهن وكل من له يد حافظة سوى المالك،
ويقطع بخصومة المالك في السرقة من هؤلاء المذكورين، إلا أن الراهن إنما يقطع بخصومته حال قيام الرهن قبل قضاء الدين؛ أو بعده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يكون له ولاية الخصومة بخلاف رب الوديعة والمنسوب منه؛ لأن الملك لهما باق.
م: (وكذا الوديعة يقطعه أيضاً، وكذا المغصوب منه) ش: لأن الملك لهما باق م: (وقال زفر والشافعي - رحمهما الله: لا يقطع بخصومة الغاصب والمستودع) ش: لأن شبهة الإذن بالأخذ والتملك قائمة من المالك، فالقطع لا يجب بالشبهة م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور بيننا وبين زفر والشافعي م: (المستعير والمستأجر والمضارب والمستبضع) ش: بفتح الضاد مستعمل، وإن كان الصواب كسر الضاد م: (والقابض على سوم الشراء والمرتهن وكل من له يد حافظة سوى المالك) ش: كمتولي الوقف والأب والصبي فيقطع السراق منهم، لأن هذا سرقة ظهرت بحجة كاملة بخصومة معتبرة لثبوت حق هؤلاء في الانتفاع واليد كالمالك.
[السرقة من المرتهن]
م: (ويقطع بخصومة المالك في السرقة من هؤلاء المذكورين) ش: يعني لو سرق سارق من أحد من هؤلاء وخاصم المالك يقطع لقيام ملكه م: (إلا أن الراهن) ش: استثناء منقطع، وقد اختلف نسخ الهداية فيه، ففي بعضها إلا أن الرهن م: (إنما يقطع بخصومته حال قيام الرهن) ش: أي المرهون في يد السارق م: (قبل قضاء الدين أو بعده) ش: وفي بعض النسخ حال قيام الرهن بعد قضاء الدين.
قال الكاكي: والصحيح من النسخ بعد قضاء الدين بدونه قيل: لما أنه ذكره في " المحيط ".
وفي " الإيضاح " لو سرق من المرتهن له أن يقطعه لا للراهن؛ لأنه لا سبيل للراهن على أخذ الرهن.
ثم قال: وإن قضى الدين فله أن يقطعه؛ لأن له أن يأخذ الرهن حينئذ، وقد نقل عن ابن المصنف أنه قال: كان في نسخة المصنف بعد القضاء. وقال تاج الشريعة: قوله قبل قضاء الدين أو بعده.
قيل: فيه نظر؛ لأنه ذكر في " الإيضاح " وليس للراهن أن يقطع السارق؛ لأن حق القطع القبض من المرتهن. ولو قال الراهن للمرتهن ائت بالرهن لأقضي الدين، فحينئذ له دلالة القطع بحق منه قبل القضاء، هكذا رأيت في بعض المواضع، فلو كان الحكم هكذا يخرج من النظر.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد أن ذكر في بعض النسخ بعد القضاء الشارحون نقلاً(7/58)
لأنه لا حق له في المطالبة بالعين بدونه، والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بناه على أصله إلا أنه خص منه لهؤلاء في الاسترداد عنده. وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: ولاية الخصومة في حق الاسترداد ضرورة الحفظ، فلا تظهر في حق القطع؛ لأن فيه تفويت الصيانة.
ولنا أن السرقة موجبة للقطع من نفسها، وقد ظهرت عند القاضي بحجة شرعية وهي شهادة رجلين عقيب خصومة معتبرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعقلاً، أما نقلاً فإنه موافق رواية الإيضاح وذكرناه، وأما عقلاً فلأن السارق إنما يقطع بخصومة من له ولاية الاسترداد، وليس للراهن ذلك قبل قضاء الدين، انتهى.
قلت: فإنه ما قاله تاج الشريعة.
م: (لأنه لا حق له في المطالبة بالعين دونه) ش: أي لأن الراهن ليس له طلب العين المرهونة بدون قضاء الدين، هذا ذكره شيخي. وقال الأكمل: والضمير في بدونه راجع إلى قضاء الدين، وعلى النسخة الأولى إلى قيام الرهن، فكان شرط جواز القطع بخصومة الراهن أمرين، أحدهما قيام المرهون، حتى لو هلك ولا سبيل للراهن عليه لبطلان دينه عنه، والآخر قضاء الدين لحصول ولاية الاسترداد حينئذ.
م: (والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بناه على أصله) ش: أشار بهذا إلى أن الشافعي وزفر بعد أن اتفقا في الحكم المذكور كما مر قد اختلفا في ترجيح المناطة، فالشافعي بناه على أصله م: (إلا أنه خص منه لهؤلاء) ش: أي المذكورين المستودع والمستعير إلى آخر ما ذكر م: (في الاسترداد عنده) ش: إذا جحد من في يده المال ما لم يحضر المالك، وإذا لم يكن الاسترداد لا يلتفت إلى خصومتهم.
ولكن قال في " الوجيز " يقطع بالسرقة من يد المودع والوكيل والمرتهن، وبهذا قال في " شرح المجمع " وتركت الخلاف المذكور في المنظومة في أنه لا يقطع بالسرقة من يد المودع. وقال مالك: قطع من يد المودع والوكيل والمرتهن والمستعير.
م: (وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: ولاية الخصومة في حق الاسترداد ضرورة الحفظ) ش: يعني ولا يتهم لأجل الحفظ فيظهر في حق الحفظ م: (فلا تظهر في حق القطع، لأن فيه) ش: أي لأن في ظهور حق القطع م: (تفويت الصيانة) ش: لأن المال مضمون على السارق، فلو استوى القطع سقط الضمان، فيكون فيه تضييع لا صيانة، وهو مأذون بالحفظ والصيانة.
[السرقة موجبة للقطع من نفسها]
م: (ولنا أن السرقة موجبة للقطع من نفسها وقد ظهرت) ش: أي السرقة م: (عند القاضي بحجة شرعية وهي شهادة رجلين عقيب خصومة) ش: لأن خصومتهم م: (معتبرة) ش: لحاجتهم إلى الاسترداد، لأن اعتبار خصومة الملك إلى إظهار السارق لإعادته إلى المحل لتحصيل أغراض متعلقة باليد.(7/59)
مطلقا، إذ الاعتبار لحاجتهم إلى الاسترداد فيستوفي القطع، والمقصود من الخصوم إحياء حقه وسقوط العصمة ضرورة استيفاء القطع، فلم يعتبر،
ولا معتبر بشبهة موهومة الاعتراض كما إذا حضر المالك وغاب المؤتمن، فإنه يقطع بخصومته في ظاهر الرواية وإن كانت شبهة الإذن في دخول الحرز ثابتة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو المعنى الموجود في حق هؤلاء، أما المستأجر، والمستعير فلاحتياجهما إلى الانتفاع بالمحل والمرتهن والمودع؛ لأجل الحفظ الملتزم والمتمكن من رده إلى المالك يخرجا عن عهدة الضمان م: (مطلقاً) ش: قاله لنفي قول زفر، فإن خصومة هؤلاء عنده في حق الاسترداد دون القطع م: (إذ الاعتبار لحاجتهم إلى الاسترداد) ش: لإعادة اليد؛ لأن اليد مقصودة في ذلك وهم في ذلك كالمالك، فإذا كان كذلك م: (فيستوفي القطع) ش: لأن الخصومة مطلقة لا لضرورة فقط كما قال زفر.
م: (والمقصود من الخصومة) ش: أي مقصود صاحب اليد من الخصومة م: (إحياء حقه) ش: أي حق المالك م: (وسقوط العصمة) ش: جواب عن قول زفر؛ لأن فيه تفويت الصيانة، تقريره أن سقوط العصمة م: (ضرورة استيفاء القطع) ش: يعني أن الإمام استوفى القطع حقاً لله تعالى، فسقط الضمان ضرورة، فلا يصير المودع مسقطاً للضمان، فإذا كان سقوط الضمان من ضرورة القطع كان ضمناً م: (فلم يعتبر) ش: لأن الضمنيات لا تعتبر.
[استيفاء القطع بحضرة المالك]
م: (ولا معتبر بشبهة موهومة الاعتراض) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: ينبغي أن لا يقطع السارق بدون حضرة المالك كما مر قبل هذا الاحتمال أنه لو حضر وأقر السارق بالمسروق فأجاب بقوله: ولا معتبر أي الاعتبار شبهة موهومة الاعتراض، أي لتوهم اعتراض إقرار من المالك إذا حضر أن المؤثر شبهة يوهم وجودها في الحال ما لا يتوهم اعتراضها في المال.
م: (كما إذا حضر المالك وغاب المؤتمن) ش: وهو المودع بفتح الدال، فإن فيه شبهة موهومة أيضاً، وهو أن يحضر المؤتمن م: (فإنه يقطع بخصومته) ش: أي بخصومة المالك م: (في ظاهر الرواية) ش: احترز به عن رواية ابن سماعة ومحمد أن المالك ليس له أن يقطع حال غيبة المودع؛ لأن السارق لم يسرق من المالك، وإنما سرق من الذي كان عنده فلم يجز أن يطالب بذلك غيره م: (وإن كانت شبهة الإذن في دخول الحرز ثابتة) ش: كلمة إن واصلة بما قبله، أي يقطع وإن كانت شبهة الإذن من المؤتمن في دخول الحرز ثابتة.
فإن قيل: القطع عقوبة يسقط بالشبهة، فلا يثبت بخصومة المودع كالقصاص.
قلنا: القطع عقوبة يجب حقاً لله تعالى إجماعاً، وإنما شرطت الخصومة، بخلاف البيان إذ كما ليس للسارق، لكن يعزه، والمودع يملك هذه الخصومة بخلاف القصاص، فإنه حق العبد.(7/60)
وإن قطع سارق بسرقة فسرقت منه، لم يكن له أن يقطع السارق الثاني؛ لأن المال غير متقوم في حق السارق الأول، حتى لا يجب عليه الضمان بالهلاك، فلم تنعقد موجبة في نفسها، وللأول ولاية الخصومة في الاسترداد في رواية، إذ الرد واجب عليه. ولو سرق الثاني قبل أن يقطع الأول أو بعدما درئ الحد بشبهة يقطع بخصومة الأول، لأن سقوط التقوم ضرورة القطع ولم يوجد، فصار كالغاصب. لو سرقت سرقة فردها على المالك قبل الارتفاع إلى الحاكم لم يقطع. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقطع اعتبارا بما إذا رده بعد المرافقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[قطع بسرقة فسرقت منه أو رد المسروق قبل بلوغ الحاكم]
م: (وإن قطع سارق بسرقة فسرقت منه) ش: أي من السارق م: (لم يكن له) ش: أي للسارق م: (ولا لرب السرقة أن يقطع السارق الثاني) ش: وبه قال أحمد والشافعي في قول. وقال الشافعي ومالك في قول: يقطع بدعوى المالك؛ لأنه سرق نصاباً من حرز لا شبهة فيه سواء قطع السارق الأول أو لا. وذكر أصحاب الشافعي الخصم في قطع هذا السارق المالك لا السارق والغاصب.
قال صاحب " الحلية ": وعندي أن كل واحد من المالك والسارق والغاصب خصم م: (لأن المال غير متقوم في حق السارق الأول، حتى لا يجب عليه الضمان بالهلاك فلم تنعقد موجبة في نفسها) ش: أي فلم تنعقد السرقة موجبة للقطع في نفسها، وأيضاً أن يده لم تبق من الأيدي التي ذكرناها من ملك وديعة وخصومة، ومن هذه في صفة لا تعتبر في القطع. م: (وللأول) ش: أي وللسارق الأول م: (ولاية الخصومة في الاسترداد في رواية إذ الرد واجب عليه) ش: وليس له ذلك في رواية أخرى؛ لأن يده ليست بصحيحة؛ لكون اليد الصحيحة عبارة من أن يكون يد ملك أو ضمان أو أمانة ولم يوجد.
م: (ولو سرق الثاني قبل أن يقطع الأول) ش: أي السارق الأول م: (أو بعد ما درئ الأول) ش: أي أو سرق الثاني بعدما درئ القطع بشبهة م: (يقطع بخصومة الأول) ش: أي بسارق الأول م: (لأن سقوط التقوم ضرورة القطع ولم يوجد، فصار كالغاصب) ش: والدرء هنا بالشبهة كعدم القطع، ولا فرق عند أحمد بين القطع وعدمه، لأن يد السارق على المال لا يد أمانة ولا يد ملك، فأشبه ما لو وجد ضائعاً.
م: (ولو سرقت) ش: أي مسروقة، في نسخة ومن سرق م: سرقة فردها على المالك قبل الارتفاع إلى الحاكم لم يقطع) ش: في ظاهر الرواية.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقطع اعتباراً بما إذا رده بعد المرافقة) ش: بجامع أن القطع حق الله تعالى فلا يحتاج فيه إلى الخصومة شرط الظهور، فكذا ما بعد الارتفاع وقبله سواء.(7/61)
وجه الظاهر أن الخصومة شرط لظهور السرقة؛ لأن البينة إنما جعلت حجة ضرورة قطع الخصومة، وقد انقطعت الخصومة، بخلاف ما بعد المرافقة لانتهاء الخصومة لحصول مقصودها فتبقى تقديرا.
وإذا قضي على رجل بالقطع في سرقة فوهبت له لم يقطع، معناه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وجه الظاهر) ش: أي وجه ظاهر الرواية م: (أن الخصومة شرط لظهور السرقة؛ لأن البينة) ش: وفي " النهاية " في بعض النسخ بالواو، أي ولأن البينة.
وقال الكاكي: ولكن نسخة شيخي بلا واو، وقال هو الأصح. قلت: وكذا نسخة شيخي بلا واو.
وقال: هو الأصح. ثم كتب بخطه على حاشية الكتاب؛ لأن البينة م: (إنما جعلت حجة) ش: مع قيام احتمال الكذب م: (ضرورة قطع الخصومة) ش: فخصومة المالك شرط لإقامة البينة م: (وقد انقطعت الخصومة) ش: لزوال الملك قبل الارتفاع إلى الحاكم، فلا تبقى البينة حجة بعد ذلك لانعدام الشرط، وهذا الذي كتب إيضاحاً لما قاله المصنف، لأن البينة إنما جعلت حجة ضرورة قطع المنازعة وقد انقطعت الخصومة فلا تبقى حجة.
م: (بخلاف ما بعد المرافقة) ش: يعني لو ردها بعد سماع البينة والقضاء يقطع، وبعد السماع قبل القضاء يقطع استحساناً لظهور السرقة عند القاضي بالشهادة بعد خصومة معتبرة م: (لانتهاء الخصومة لحصول مقصودها) ش: قال الأترازي: لحصول مقصودها، الضمير راجع إلى الخصومة، أي لحصول المقصود من الخصومة؛ لأن المقصود بالخصومة استرداد المال إلى المالك، والشيء يتقرر بانتهائه لا أنه يبطل كالنكاح ينفرد بالموت، لا أنه يبطل لكن الخصومة تبطل. فأما تقدير الاستيفاء القطع، وهو معنى قوله م: (فتبقى تقديراً) ش: باعتبار قيام يده على المال ولو رده على ولده أو ذي رحم لم يكن في عيال المالك يقطع؛ لعدم الوصول إليه حقيقة وحكماً.
ولهذا يضمن المودع والمستعير بالدفع إليه. وإن كان في عياله لا يقطع؛ لأن يد من في عياله كيده حكماً، ولهذا لا يضمن المودع المستعير بالدفع إليه.
وكذا لو رده على امرأته أو عبده أو أجيره مشاهرة أو مسانهة، ولو دفع إلى والده أو جده أو والدته وليسوا في عياله لا يقطع؛ لأن بهؤلاء شبهة المالك في ماله بالنص، فتثبت شبهة الرد.
ولو دفع إلى عيالها لا يقطع لأنه شبهة، وهي معتبرة. ولو دفع إلى مكاتبه لا يقطع، لأن عبده لو سرق من المكاتب ورده إلى سيده لا يقطع، ولو سرق من العيال ورده إلى من بعولتهم لا يقطع، لأن يده عليهم فوق أيديهم في ماله.
[قضي على رجل بالقطع في سرقة فوهبت له]
م: (وإذا قضي على رجل بالقطع في سرقة فوهبت له لم يقطع) ش: هذه المسألة ذكرت في " الجامع الصغير " بهذه العبارة، وفسرها المصنف بقوله: م: (معناه) ش: أي معنى ما ذكره محمد(7/62)
إذا سلمت إليه. وكذلك إذا باعها المالك إياه. وقال زفر والشافعي - رحمهما الله - يقطع، وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن السرقة قد تمت انعقادا وظهورا، وبهذا العارض لم يتبين قيام الملك وقت السرقة فلا شبهة فيقطع. ولنا أن الإمضاء من القضاء في هذا الباب لوقوع الاستغناء عنه بالاستيفاء، إذ القضاء للإظهار،
والقطع، حق الله تعالى وهو ظاهر عنده. وإذا كان كذلك يشترط قيام الخصومة عند الاستيفاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيها فوهبت له م: (إذا سلمت إليه) ش: يعني إذا سلمت السرقة إلى العين المسروقة، لأن الهبة إذا لم تتصل بالتسليم والقبض لا يثبت الملك.
م: (وكذلك إذا باعها المالك إياه) ش: أي إذا باع العين المسروقة مالك إياه، أي السارق م: (وقال زفر والشافعي - رحمهما الله - يقطع) ش: وبه قال مالك وأحمد م: (وهو رواية) ش: أي ما قاله زفر والشافعي رواية م: (عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن السرقة قد تمت انعقاداً) ش: باحتمال الغير على وجه الحقيقة من حرز لا شبهة فيه، إذ وضع المسألة في ذلك م: (وظهوراً) ش: أي من حيث الظهور، لأن الفرض أنه قضي عليه بالقطع، ولا يكون ذلك إلا بعد ظهورها.
م: (وبهذا العارض) ش: وهو ثبوت الملك بالهبة والشراء لا قيام الملك وقت السرقة؛ لأن الهبة والشراء يوجب ملكاً حادثاً فلا يمنع به الاستيفاء، وبهذا احترز به عما أقر به المالك أن المسروق للسارق.
فإن الإقرار يظهر ما كان ثابتاً للمقر له م: (لم يتبين قيام الملك وقت السرقة) ش: لم ينته ثبوت الملك للسارق وقت وجود السرقة، فإذا كان الأمر كذلك م: (فلا شبهة فيقطع) .
م: (ولنا أن الإمضاء من القضاء) ش: يعني أن استيفاء الحد من تتمة قول القاضي حكمت أو قضيت بالقطع أو بالرجم أو بالجلد م: (في هذا الباب) ش: أي في باب الحدود م: (لوقوع الاستغناء عنه) ش: أي عن القضاء م: (بالاستيفاء) ش: يعني أن القضاء في هذا الباب لا يغني عنه إلا بالاستيفاء م: (إذ القضاء) ش: أي لأن القضاء م: (للإظهار) ش: ولا إظهار هاهنا؛ لأن القطع حق الله تعالى.
وهو معنى قوله
[الفسق في الشهود على السرقة ورد المسروق بعد الواقعة قبل الاستيفاء]
م: (والقطع حق الله تعالى، وهو ظاهر عنده) ش: أي عند الله تعالى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فلا حاجة إلى الإظهار.
م: (وإذا كان كذلك) ش: أي إذا كان الإمضاء من القضاء م: (يشترط قيام الخصومة عند الاستيفاء) ش: كما يشترط وقت ابتداء القضاء وقد انتهى ذلك بالبيع والهبة، لأن ما يكون شرطاً لوجوب القضاء يراعى وجوده إلى وقت الاستيفاء، لأن المعترض قبل الاستيفاء كالمقترن بأصل السبب، بدليل العمى والخرس والردة والفسق في الشهود، فإن الحدود لا تستوفى إذا كان(7/63)
وصار كما إذا ملكها منه قبل القضاء. وكذلك إذا نقصت قيمتها من النصاب يعني قبل الاستيفاء بعد القضاء، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقطع، وهو قول الشافعي وزفر - رحمهما الله - اعتبارا بالنقصان في العين. ولنا أن كمال النصاب لما كان شرطا يشترط قيامه عند الإمضاء لما ذكرنا. بخلاف النقصان في العين؛ لأنه مضمون عليه فكمل النصاب عينا ودينا، كما إذا استهلك كله، أما نقصان السعر غير مضمون فافترقا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشهود على هذه الأوصاف وقت الاستيفاء بالإجماع، وذكره في " الأسرار ".
م: (وصار) ش: أي الملك الحادث م: (كما إذا ملكها منه قبل القضاء) ش: لأنه بما لم يمض فكأنه لم يقض، ولقائل أن يقول: جعلتم الخصومة باقية تقديراً في صورة رد المسروق بعد الواقعة قبل الاستيفاء لم يكن الاستيفاء من القضاء حتى أوجبتم القطع، وهنا جعلتم الاستيفاء من القضاء وجعلتم البيع والهبة دافعاً لوجود الحد، وما ذلك إلا تناقض.
والجواب: الاستيفاء من القضاء في باب الحدود مطلقاً، لكن في صورة الرد لم يحصل بالرد سوى الواجب عليه بالأخذ، وهاهنا حديث بينهما تصرف موضوع لإفادة الملك، فكان شبهة م: (وكذلك إذا نقصت قيمتها من النصاب يعني قبل الاستيفاء بعد القضاء) ش: أي نقصت من حيث السعر، فإنه ذكر في " المحيط ": لو كان نقصان القيمة لنقصان في المعنى وإن كان لنقصان السعر لا يقطع في ظاهر الرواية.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقطع، وهو قول الشافعي وزفر - رحمهما الله-) ش: وقول مالك وأحمد: م: (اعتباراً بالنقصان في العين) ش: يعني بأن هلك درهم من العشرة، أو استهلكه، وهذا بناء على أن المعتبر في قيمة المسروق أن تكون السرقة الموجبة للقطع عشرة دراهم، فإن نقص عن ذلك قبل القطع في العين لم يمنع من الاستيفاء منه بالاتفاق فيهما.
وإن كان النقصان لتراجع السعر فكذلك عن محمد في غير ظاهر الرواية اعتباراً بالأول بجامع وجود سرقة نصاب فيها إن كان النصاب لما كان شرطاً في الابتداء.
م: (ولنا) ش: وهو وجه ظاهر الرواية م: (أن كمال النصاب لما كان شرطاً) ش: في الابتداء م: (يشترط قيامه عند الإمضاء لما ذكرنا) ش: أراد به قوله: إن الإمضاء من القضاء.
م: (بخلاف النقصان في العين؛ لأنه مضمون عليه) ش: أي على السارق والضمان قائم مقام المضمون م: (فكمل النصاب عيناً) ش: أي من حيث العين وقت الأخذ فيما إذا كان المسروق من ذوات الأمثال م: (وديناً) ش: أي من حيث الدين وقت الاستيفاء فيما إذا كان المسروق من ذوات القيم م: (كما إذا استهلكه كله) ش: أي كما إذا استهلك السارق كل العين م: (أما نقصان السعر غير مضمون) ش: فكان النصاب مناقضاً عند القطع فصار شبهة م: (فافترقا) ش: أي افترق نصاب(7/64)
وإذا ادعى السارق أن العين المسروقة ملكه سقط القطع عنه وإن لم يقم بينة، معناه بعدما شهد الشاهدان بالسرقة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يسقط بمجرد الدعوى؛ لأنه لا يعجز عنه سارق فيؤدي إلى سد باب الحد. ولنا أن الشبهة دارئة وتتحقق بمجرد الدعوى للاحتمال ولا معتبر بما قال، بدليل صحة الرجوع بعد الإقرار. وإذا أقر رجلان بسرقة ثم قال أحدهما: هو مالي لم يقطعا؛ لأن الرجوع عامل في حق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السعر ونقصان العين حيث وجب القطع في الثاني دون الأول.
[أقر رجلان بسرقة ثم قال أحدهما هو مالي]
م: (وإذا ادعى السارق أن العين المسروقة ملكه سقط القطع عنه) ش: أي عن السارق م: (وإن لم يقم بينة) ش: واصلة بما قبله، وهو رد لقول الشافعي على ما نذكره، وهو لفظ القدوري وفسره المصنف بقوله م: (معناه) ش: أي معنى كلام القدوري م: (بعدما شهد الشاهدان بالسرقة) ش: إنما فسره بذلك احترازاً عما إذا فعل ذلك بعد الإقرار بالسرقة، فإنه يسقط القطع بالاتفاق.
م: (وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يسقط بمجرد الدعوى) ش: وفي المغني لابن قدامة في كتب أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحلف المسروق منه، فإن نكل لا قطع عليه بالإجماع. وإن حلف لا يقطع أيضاً وهو نص الشافعي.
وقال بعض أصحابه: فيه وجهان قيل: لا يقطع، وبه قال أحمد في رواية؛ لأن سقوط القطع بمجرد دعواه يؤدي إلى سد باب القطع، إذ كل سارق لا يعجز عن هذا.
وعن أحمد في رواية أخرى أنه إن كان السارق معروفاً بالسرقة قطع؛ لأنه يعلم كذبه بدلالة الحال وأولى الروايات أنه لا يقطع بكل حال؛ لأن الحد يندرئ بالشبهات، وهي احتمال صدقه م: (لأنه لا يعجز عنه سارق) ش: أي عن قول أنها ملكه م: (فيؤدي إلى سد باب الحد) ش: وسمى الشافعي هذا السارق ظريفا لأن أكثر السراق لا يعلمون هذا.
م: (ولنا أن الشبهة دارئة) ش: للحد م: (وتتحقق) ش: أي الشبهة م: (بمجرد الدعوى للاحتمال) ش: أي لاحتمال دعواه الصدق م: (ولا معتبر بما قال) ش: أي الشافعي أنه لا يعجز عنه سارق م: (بدليل صحة الرجوع بعد الإقرار) ش: أي بالسرقة مع أنه لا يعجز عنه سارق وما من مقر إلا وتمكن من الرجوع، وكان ذلك معتبراًَ في إيراث الشبهة.
فكذا هذا وفيه نظر؛ لأن إقراره حجة قاصرة، والبينة حجة كاملة لما عرف، ولا يلزم أن يكون مورث الشبهة في الحجة القاصرة موروثاً لما في الكاملة. والجواب أن الكمال المقصود بالنسبة إلى التعدي إلى الغير وعدمه، وليس كلامنا فيه، وأما بالنسبة إلى المقر فيهما سواء.
م: (وإذا أقر رجلان بسرقة ثم قال أحدهما هو مالي لم يقطعا) ش: سواء ادعى قبل القضاء أو بعده قبل الإمضاء. وعند الأئمة الثلاثة لم يعتبر دعواه بعد القضاء م: (لأن الرجوع عامل في حق(7/65)
الراجع ومورث للشبهة في حق الآخر؛ لأن السرقة تثبت بإقرارهما على الشركة، فإن سرقا ثم غاب أحدهما وشهد الشاهدان على سرقتهما قطع الآخر في قول أبي حنيفة لا في قولهما والآخر وهو قولهما، وكان يقول أولا لا يقطع؛ لأنه لو حضر ربما يدعي الشبهة. وجه قوله الآخر أن الغيبة تمنع ثبوت السرقة على الغائب، فيبقى معدوما، والمعدوم لا يورث الشبهة ولا يعتبر توهم حدوث الشبهة على ما مر،
وإذا أقر العبد المحجور عليه بسرقة عشرة دراهم بعينها فإنه يقطع وترد السرقة إلى المسروق منه، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقطع والعشرة للمولى. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يقطع، والعشرة للمولى إذا كذبه المولى. ولو أقر بسرقة مال مستهلك قطعت يده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الراجع ومورث للشبهة في حق الآخر؛ لأن السرقة تثبت بإقرارهما على الشركة) ش: فيكون فعلاً واحداً م: (فإن سرقا ثم غاب أحدهما وشهد الشاهدان على سرقتهما قطع الآخر في قول أبي حنيفة لا في قولهما والآخر وهو قولهما، وكان) ش: أي أبو حنيفة م: (يقول أولاً: لا يقطع، لأنه) ش: أي لأن الغائب م: (لو حضر ربما يدعي الشبهة) ش: وهي دارئة للحد عن نفسه، وعن الآخر حد، فلو قطعنا الحاضر قطعناه مع الشبهة، وهو لا يجوز.
م: (وجه قوله الآخر) ش: أي وجه قول أبي حنيفة الآخر م: (أن الغيبة تمنع ثبوت السرقة على الغائب) ش: لأن القضاء على الغائب لا يجوز م: (فيبقى معدوماً) ش: أي يبقى فعل السرقة معدوماً م: (والمعدوم لا يورث الشبهة) ش: في حق الموجود، وهذا لأن الشبهة هي المحققة الموجودة لا الموهومة م: (ولا يعتبر توهم حدوث الشبهة) ش: لأنه لو اعتبر يلزم اعتبار شبهة الشبهة، وهي محطة عن حيز الاعتبار م: (على ما مر) ش: إشارة إلى قوله: ولا معتبر بشبهة موهومة الاعتراض.
[أقر العبد المحجور عليه بسرقة عشرة دراهم بعينها أوأقر بالسرقة ثم رجع]
م: (وإذا أقر العبد المحجور عليه بسرقة عشرة دراهم بعينها) ش: يعني كائنة بعينها م: (فإنه يقطع وترد السرقة إلى المسروق منه، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقطع والعشرة للمولى) ش: وبه قال الشافعي في الأصح ومالك وأحمد.
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يقطع، والعشرة للمولى) ش: وحكي عن الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: سمعت أستاذي ابن أبي عمران يقول الأقاويل الثلاثة كلها عن أبي حنيفة فقوله الأول أخذ به محمد ثم رجع، وقال كما قال أبو يوسف فأخذ به أبو يوسف ثم رجع إلى القول الثالث واستقر عليه معنا م: (إذا كذبه المولى) ش: أي معنى قول محمد والعشرة للمولى إذا كذبه المولى بأن قال: المال مالي فالعشرة له ولا يقطع العبد.
م: (ولو أقر) ش: أي العبد المحجور م: (بسرقة مال مستهلك قطعت يده) ش: اتفاقاً بين(7/66)
ولو كان العبد مأذونا له يقطع في الوجهين. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقطع في الوجوه كلها؛ لأن الأصل عنده أن إقرار العبد على نفسه بالحدود والقصاص لا يصح؛ لأنه يرد على نفسه وطرفه وكل ذلك مال للمولى والإقرار على الغير غير مقبول، إلا أن المأذون له يؤاخذ بالضمان والمال لصحة إقراره به لكونه مسلطا عليه من جهته، والمحجور عليه لا يصح إقراره بالمال أيضا ونحن نقول: يصح إقراره من حيث إنه آدمي ثم يتعدى إلى المالية فيصح من حيث إنه مال؛ ولأنه لا تهمة في هذا الإقرار لما يشتمل عليه من الأضرار ومثله مقبول على الغير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
علمائنا الثلاثة.
قال تاج الشريعة: لأن الإقرار بسرقة مال مستهلك إقرار بحد مفرد، والإقرار بحد مفرد صحيح من العبد المحجور عند علمائنا الثلاثة، كما لو اقر بالزنا أو بشرب الخمر م: (ولو كان العبد مأذوناً له يقطع في الوجهين) ش: أي فيما إذا كان المال قائماً أو مستهلكاً.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يقطع في الوجوه كلها) ش: أي فيما إذا كان العبد محجوزاًَ أو مأذوناً والحال قائم أو هالك م: (لأن الأصل عنده) ش: أي عند زفر م: (أن إقرار العبد على نفسه) ش: مأذوناً كان أو محجوراً م: (بالحدود والقصاص لا يصح، لأنه) ش: أي لأن الإقرار م: (يرد على نفسه) ش: يعني في القصاص.
م: (وطرفه) ش: يعني في الحدود م: (وكل ذلك) ش: أي طرفه ونفسه م: (مال للمولى والإقرار على الغير غير مقبول) ش: ألا ترى أنه لو أقر برقبة الغير كان إقراره باطلاً م: (إلا أن المأذون له يؤاخذ بالضمان) ش: إن كان مستهلكاً.
م: (والمال لصحة إقراره به) ش: أي يؤاخذ بالمال إن كان قائماً بصحة إقراره به م: (لكونه) ش: أي لكون المأذون له م: (مسلطاً عليه من جهته) ش: أي لكونه مسلطاً على إقراره من جهة المولى م: (والمحجور عليه لا يصح إقراره بالمال أيضاً) ش: أي كما لا يصح في النفس أيضاً.
م: (ونحن نقول يصح إقراره من حيث إنه آدمي) ش: مخاطب لا من حيث إنه مال م: (ثم يتعدى إلى المالية فيصح من حيث إنه مال) ش: يعني لما صح إقراره من حيث إنه آدمي صح من حيث أنه مال أيضاً لسراية إليها، لأن آدميته لا تنفك عنه ماليته، فالسراية من حيث إنه مال تبعاً وقد يثبت الشيء تبعاً ولا يثبت قصداً.
م: (ولأنه لا تهمة في هذا الإقرار لما يشتمل عليه من الأضرار) ش: أي على العبد؛ لأن ما يلحقه من الضرر باستيفاء العقوبة منه فوق ما يلحقه المولى م: (ومثله) ش: أي ومثل ما كان ضرراً لإقرار فيه أدى إلى السفر وإلى الغير م: (مقبول على الغير) ش: أي بطريق التبعية لانعدام تهمة الكذب في ذلك الإقرار إذا شهد الواحد عند الإمام برؤية هلال رمضان وفي السماء علة يقبل(7/67)
لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المحجور عليه أن إقراره بالمال باطل؛ ولهذا لا يصح منه الإقرار بالغصب فيبقى مال المولى. ولا قطع على عبد في سرقة مال المولى، يؤيده أن المال أصل فيها، والقطع تابع حتى تسمع الخصومة فيه بدون القطع، ويثبت المال دونه. وفي عكسه لا تسمع ولا يثبت. وإذا بطل فيما هو الأصل يبطل في التبع بخلاف المأذون، لأن إقراره بالمال الذي في يده صحيح فيصح في حق القطع تبعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإمام شهادته.
وإن لم يقبلها في سائر المواضع لعدم التهمة، حيث يلزم الصوم كما يلزم غيره، وكذلك الحر المديون إذا أقر بالقتل العمد فإنه يقتص منه بالإجماع وإن كان فيه إبطال ديون الغرماء.
م: (لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المحجور عليه أن إقراره بالمال باطل، ولهذا) ش: أي ولأجل بطلان إقرار المحجور عليه بالمال م: (لا يصح منه الإقرار بالغصب) ش: فكذا لا يصح إقراره بالسرقة، فإذا لم يصح إقراره بالمالية في حق المالية م: (فيبقى مال المولى) ش: على ملكه م: (ولا قطع على عبد في سرقة مال المولى) ش: أي في سرقة مال حكم به لسيده، لأن كون المال مملوكاً لغير السارق وغير مولاه شرط وجوب القطع م: (يؤيده) ش: أي يؤيده ما ذكره محمد.
وهذا إشارة إلى أن لكل واحد من أصحابنا الثلاثة أصلاً، فأبو حنيفة يقول: القطع أصل والمال تابع بدليل أنه يبطل بالتقادم، وبدليل أنه لو قال: أبقي المال ولا أبقي القطع لم يسقط القطع.
وأبو يوسف يقول: كل منهما أصل، أما أصالة القطع فيما قالوا في الحر إذا أقر وقال: سرقت هذا المال من زيد وهو في يد عمرو وكذبه عمرو يصح إقراره في حق القطع دون المالية. وأما أصالة المال فلأنه إذا سرق ما دون العشرة لا يقطع، والخصومة شرط، ولولا أن المال أصل يوجب القطع بدونها؛ لأنه محض حق الله تعالى، وهو مستوفى بلا طالب.
ومحمد يقول: المال أصل والقطع تبع، وهو معنى قول المصنف م: (أن المال أصل فيها) ش: أي في السرقة م: (والقطع تابع حتى تسمع الخصومة فيه) ش: أي في المال م: (بدون القطع) ش: مثل أن يقول: أطلب المال منه دون القطع م: (ويثبت المال دونه) ش: أي دون القطع، كما إذا شهد رجل وامرأتان أو أقر بالسرقة ثم رجع فإنه يضمن المال ولا يقطع م: (وفي عكسه) ش: بأن قال: أطلب القطع دون المال م: (لا تسمع) ش: أي الخصومة.
م: (ولا يثبت) ش: أي المال م: (وإذا بطل) ش: أي الإقرار م: (فيما هو الأصل) ش: أي المال م: (يبطل في التبع) ش: وهو القطع م: (بخلاف المأذون؛ لأن إقراره بالمال الذي في يده صحيح فيصح في حق القطع تبعاً) ش: لصحة الإقرار به.(7/68)
ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه أقر بشيئين بالقطع وهو على نفسه فيصح على ما ذكرناه، وبالمال وهو على المولى فلا يصح في حقه فيه والقطع يستحق بدونه. كما إذا قال الحر الثوب الذي في يد زيد سرقته من عمرو، وزيد يقول هو ثوبي تقطع يد المقر، وإن كان لا يصدق في تعيين الثوب حتى لا يؤخذ من زيد ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإقرار بالقطع قد صح منه لما بينا فيصح بالمال بناء عليه، لأن الإقرار ينافي حالة البقاء، والمال في حالة البقاء تابع للقطع حتى تسقط عصمة المال باعتباره، ويستوفي القطع بعد استهلاكه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه) ش: أي العبد م: (أقر بشيئين بالقطع وهو) ش: أي القطع م: (على نفسه) ش: صحيح م: (فيصح ما ذكرناه) ش: أي إقراره في حق القطع م: (وبالمال) ش: أي وإقراره بالمال م: (وهو) ش: أي الإقرار بالمال م: (على المولى فلا يصح في حقه فيه) ش: أي فلا يصح إقرار العبد في حق المولى في المال م: (والقطع يستحق بدون) ش: أي بدون المال م: (كما إذا قال الحر: الثوب في يد زيد سرقته من عمرو، وزيد يقول: هو ثوبي تقطع يد المقر) ش: لصحة إقراره.
م: (وإن كان) ش: واصل بما قبله، أي وإن كان العبد م: (لا يصدق في تعيين الثوب حتى لا يؤخذ من زيد) ش:.
وفي " المبسوط ": وكما لو أقر بسرقة مال مستهلك وهذا؛ لأنه لم يقبل إقراره في تعيين هذا المال بقي المسروق مستهلكاً.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإقرار بالقطع قد صح منه) ش: أي من العبد م: (لما بينا) ش: إشارة إلى قوله: ونحن نقول يصح إقراره من حيث إنه آدمي م: (فيصح) ش: أي إقراره م: (بالمال بناء عليه) ش: أي على صحة الإقرار بالقطع لما شهدنا من أصله فيما مضى م: (لأن الإقرار ينافي حالة البقاء) ش: أي بقاء السرقة؛ لأن الإقرار بالشيء إظهار أمر قد كان فلا بد من وجود المخبر به قبل الإقرار، ألا ترى أن إقرار أحد الزوجين بالنكاح صحيح من غير شهادة م: (والمال في حالة البقاء تابع للقطع، حتى تسقط) ش: بالرفع؛ لأن حتى بمعنى الفاء م: (عصمة المال باعتباره) ش: أي باعتبار القطع م: (ويستوفي القطع بعد استهلاكه) .
ش: أي استهلاك المال، فلو أبطلنا إقراره في حق القطع باعتبار المال لجعلنا المال في البقاء أصلاً، وهذا باطل، كذا في جامع البرهاني.
وفي بعض الشروح وقوله باعتباره، أي باعتبار القطع لما يجيء من أصلنا أن القطع لا يجتمع من الضمان، ثم سقوط العصمة والتقوم في حق السارق يدل على أن المال تابع به؛ لأنه لو كان أصلاً لما تغير حاله من التقوم إلى غيره؛ لأنه مقصود منه إنما يكون بالتقوم، وكذلك استيفاء(7/69)
بخلاف مسألة الحر؛ لأن القطع إنما يجب بالسرقة من المودع، أما لا يجب بسرقة العبد مال المولى فافترقا. ولو صدقه المولى يقطع في الفصول كلها لزوال المانع.
وإذا قطع السارق والعين قائمة في يده ردت على صاحبها لبقائها على ملكه، وإن كانت مستهلكة لم يضمن، وهذا الإطلاق يشمل الهلاك والاستهلاك، وهو رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو المشهور. وروى الحسن عنه أنه يضمن بالاستهلاك. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمن فيهما لأنهما حقان قد اختلف سبباهما فلا يمتنعان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القطع بعد استهلاك المال، فيدل على ذلك إذ لا وجود للتابع مع عدم وجود الأصل.
م: (بخلاف مسألة الحر) ش: جواب عما أشهد به أبو يوسف بقوله كما إذا قال الحر: الثوب الذي في يد زيد إلى آخره، بيانه أن هذه المسألة له ليست نظير تلك المسألة؛ لأنه ليس من ضرورة كونه مسروقاً عن شخص كونه مالكاً، لجواز أن يكون مودعاً فيقطع م: (لأن القطع إنما يجب بالسرقة من المودع) ش: بخصومته وإن لم يرد إليه المال، وأما هاهنا. فلو لم يرد المال إلى المسروق منه لزم أن يكون ذلك المال مال المولى، فحينئذ لا يجب القطع، لأن العبد إذا سرق مال المولى لا تقطع يده، وهو معنى قوله م: (أما لا يجب) ش: أي القطع م: (بسرقة العبد مال المولى فافترقا) ش: أي الحكمان المذكوران.
م: (ولو صدقه المولى) ش: أي ولو صدق المولى عبده م: (يقطع في الفصول كلها) ش: وهي أن يكون العبد مأذوناً أو محجوراً عليه، والمال قائم بنفسه أو مستهلك، والمولى يكذبه أو يصدقه، فإذا صدقه المولى يقطع في هذه الفصول كلها م: (لزوال المانع) ش: أي من القطع ووجود المقتضى له.
[قطع السارق والعين قائمة في يده]
م: (وإذا قطع السارق والعين قائمة في يده) ش: أي والحال أن العين موجودة م: (ردت على صاحبها لبقائها) ش: أي لبقاء العين م: (على ملكه) ش: أي على ملك المسروق منه.
م: (وإن كانت) ش: أي العين م: (مستهلكة لم يضمن، وهذا الإطلاق) ش: أراد به إطلاق القدوري في مختصره بقوله: إن كانت هالكة، يعني قوله: إن كانت هالكة م: (يشمل الهلاك والاستهلاك) ش: لأنه لما لم يجد الضمان في الاستهلاك، ففي الهلاك أولى م: (وهو رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة) ش: يعني شمول الإطلاق الهلاك والاستهلاك، رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة.
م: (وروى الحسن عنه أنه) ش: أي أن الضمان يجب بالاستهلاك دون الهلاك م: (وقال الشافعي يضمن فيهما) ش: أي في الهلاك والاستهلاك م: (لأنهما حقان) ش: أي القطع والضمان حقان م: (قد اختلف سبباهما فلا يمتنعان) ش: أي لا يمتنع أحدهما بالآخر، وبين(7/70)
فالقطع حق الشرع، وسببه ترك الانتهاء عما نهى عنه، والضمان حق العبد وسببه أخذ المال. فصار كاستهلاك صيد مملوك في الحرم، أو شرب خمرا مملوكا لذمي، ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا غرم على السارق بعدما قطعت يمينه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اختلاف السببين بقوله م: (فالقطع حق الشرع، وسببه ترك الانتهاء عما نهى عنه، والضمان حق العبد، وسببه أخذ المال) ش: لا خلاف لأهل العلم أن المال إذا كان قائماً يرد على مالكه، وكذا لو باعه السارق أو وهبه يأخذه من المشتري والموهوب له، ويبطل البيع والهبة.
واختلفوا في الثالثة، فقال الشافعي وأحمد وأبو ثور: يجب على السارق رد قيمتهما، أو مثلياً إن كان مثلياً، وهو قول إبراهيم النخعي، وحماد، والحسن البصري، وإسحاق، والليث بن سعد. وقال علماؤنا والثوري: لا يجتمع الضمان مع القطع، فلو ضمنه المالك قبل القطع سقط القطع، وإن قطعه سقط الضمان، وهو قول عطاء، ومحمد بن سيرين، وابن شبرمة، وعامر الشعبي، ومكحول. وقال مالك إن كان السارق معسراً فلا ضمان عليه، وإن كان موسراً يضمن لنظر الجانبين.
م: (فصار) ش: أي حكم هذا على الوجه المذكور م: (كاستهلاك صيد مملوك في الحرم) ش: يعني من حيث إنه يجب قيمته للمالك، وقيمة أخرى لجزاء ارتكاب المحظور لله تعالى م: (أو شرب خمراً مملوكاً لذمي) ش: يعني على أصلكم، فإن ضمان الخمر بالاستهلاك لا يجب عند الشافعي وإن كان لذمي، وعندنا يجب قيمته ويحد.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا غرم على السارق بعدما قطعت يمينه» ش: هذا الحدث غريب بهذا اللفظ، ومعناه ما أخرجه النسائي في سننه، عن حسان بن عبد الله، عن المفضل بن فضالة، عن يونس بن يزيد، عن سعيد بن إبراهيم، عن المسعود بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يغرم صاحب سرقة إذا أقيم عليه الحد» ، انتهى.
قال النسائي: هذا مرسل وليس بثابت. وأخرجه الدارقطني في سننه بلفظ: «لا غرم على السارق بعد قطع يمينه» ، وقال المسور بن إبراهيم: لم يدرك عبد الرحمن بن عوف، فإن صح إسناده فهو مرسل، وسعيد بن إبراهيم مجهول. ورواه البزار في مسنده بلفظ: «لا يضمن السارق سرقة بعد إقامة الحد» . قال المسور بن إبراهيم: لم يلق عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ورواه الطبراني في " الأوسط ". وقال لا يروى عن عبد الرحمن بن عوف إلا بهذا الإسناد، وهو غير متصل؛ لأن المسور لم يسمع من جده عبد الرحمن بن عوف. وقال ابن أبي حاتم في كتاب " العلل " سألت أبي عن هذا الحديث، فقال هذا حديث منكر، ومسور لم يلحق عبد الرحمن، وقد طول الأكمل(7/71)
ولأن وجوب الضمان ينافي القطع؛ لأنه يتملكه بأداء الضمان مستندا إلى وقت الأخذ، فتبين أنه ورد على ملكه فينتفي القطع للشبهة وما يؤدي إلى انتفائه فهو المنتفي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هنا كلاماً ولم يتعرض لبيان حال الحديث.
وقال الكاكي وذكر ابن قدامة في " المغني ": قال ابن المنذر: سعيد بن إبراهيم مجهول، وقال ابن عبد البر: الحديث ليس بقوي.
قلنا: ليس كذلك، فإن الزهري يروي عن سعيد بن إبراهيم هذا الحديث، نقله عبد الباقي. وقال عبد الباقي هذا صحيح، وقول ابن قدامة ليس أجود القاطع عليه.
قلنا: إطلاق الغرم على أجرة القاطع خلاف الظاهر، مع أنه نكرة في موضع النفي، انتهى.
قلت: رواه ابن جرير الطبري، هذا الحديث في " تهذيب الآثار " موصولاً، فقال حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي، قال: حدثنا سعيد بن كثير بن عفير، عن الفضل بن فضالة، عن يونس بن يزيد، وسعد بن إبراهيم، حدثني أخو المسور بن إبراهيم، عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أقيم الحد على السارق فلا غرم عليه» .
وأخرجه أبو عمر عبد الله عن طريق ابن جرير، وهذا المسور وأبوه على شرط البخاري، وأبوه ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، ثم قال ابن جرير ما ملخصه فيه البيان من صحة قول من لم يضمن السارق بعد الحد وفساد قول من ضمنه، ثم حكي عدم التضمين عن ابن سيرين، والنخعي، والشعبي، وعطاء، والحسن، وقتادة.
وقال: وعلتهم مع الأثر القياس على إجماعهم على أن أهل العدل إذا ظهروا على الخوارج لم يغرموا ما استهلكوه، وكذا قطاع الطريق. ولو كان السارق في التضمين كالغاصب للتعدية لوجب الضمان على هؤلاء لتعديهم وظلمهم، قال: وهذا هو الصواب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] (المائدة: الآية 38) ، فلم يأمر بالتغريم، ولو كان لازماً لعرفهم كما عرفهم بالقطع.
[الضمان في المسروق]
م: (ولأن وجوب الضمان ينافي القطع، أنه يتملكه) ش: أي لأن السارق يتملك المسروق م: (بأداء الضمان) ش: حال كونه م: (مستنداً إلى وقت الأخذ) ش: أي أخذ السرقة م: (فتبين أنه) ش: أي أن الأخذ م: (ورد على ملكه فينتفي القطع للشبهة وما يؤدي) ش: أي والشيء الذي يؤدي م: (إلى انتفائه) ش: أي انتفاء القطع المشروع م: (فهو المنتفي) ش: لأن انتفاء اللازم يدل على انتفاء(7/72)
ولأن المحل لا يبقى معصوما حقا للعبد إذ لو بقي لكان مباحا في نفسه فينتفي القطع للشبهة فيصير محرما حقا للشرع كالميتة، ولا ضمان فيه، إلا أن العصمة لا يظهر سقوطها في حق الاستهلاك؛ لأنه فعل آخر غير السرقة ولا ضرورة في حقه، وكذا الشبهة تعتبر فيما هو السبب دون غيره. ووجه المشهور أن الاستهلاك إتمام المقصود فتعتبر الشبهة فيه، وكذا يظهر سقوط العصمة في حق الضمان، لأنه من ضرورات سقوطها في حق الهلاك لانتفاء المماثلة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن المحل) ش: أي المال م: (لا يبقى معصوماً) ش: قبل القطع حال كونه م: (حقاً للعبد، إذ لو بقي) ش: معصوماً حقاً للعبد م: (لكان مباحاً في نفسه) ش: لأنه عرف بالاستقراء ما هو حرام حقاً للعبد فهو مباح في نفسه، فكان المال للسارق حراماً من وجه دون وجه م: (فينتفي القطع للشبهة) ش: أي لشبهة كونه مباحاً في نفسه، حاصله: أن الشبهة هو أن تكون الحرمة ثابتة من وجه دون وجه، فحينئذ يندرئ الحد.
فإذا لم يبق معصوماً حقاً للعبد م: (فيصير محرماً حقاً للشرع كالميتة ولا ضمان فيه) ش: أي في المحرم حقاً للشرع، لأن العصمة جواب سؤال تقديره العصمة لما انتقلت إلى الله تعالى، فصار المال المسروق كالميتة والخمر وجب أن لا يجب الضمان عند الاستهلاك. وقد روى الحسن عن أبي حنيفة وجوب الضمان فيه كما مر عن قريب.
وتقدير الجواب أن يقال م: (إلا أن العصمة لا يظهر سقوطها في حق الاستهلاك؛ لأنه) ش: أي لأن الاستهلاك م: (فعل آخر غير السرقة ولا ضرورة في حقه) ش: أي في حق فعل آخر م: (وكذا الشبهة) ش: وهي كونه مباحاً في نفسه م: (تعتبر فيما هو السبب) ش: وهو السرقة م: (دون غيره) ش: وهو الاستهلاك.
م: (ووجه المشهور) ش: وهو عدم وجوب الضمان في الاستهلاك كما في الهلاك م: (أن الاستهلاك إتمام المقصود) ش: بالسرقة، لأنه إنما سرق ليصير إلى بعض حوائجه، فكانت تتمة السبب، لأنه فعل آخر م: (فتعتبر الشبهة فيه) ش: لإسقاط الضمان كاعتبارها في نفس السرقة.
م: (لأنه) ش: أي لأن سقوط العصمة م: (من ضرورات سقوطها في حق الهلاك لانتفاء المماثلة) ش: بين المال المسروق وبين الضمان؛ لأن الضمان مال معصوم حقاً للعبد في حالتي الهلاك والاستهلاك والمال المسروق معصوم حقاً في حال الاستهلاك فقط، فإذا انتفت المماثلة انتهى الضمان، لأن ضمان المقدور شرط بالمماثلة بالنص، ولهذا لا يجب الضمان عندنا بمقابلة استهلاك المنافع بالغصب لانتفاء المماثلة.(7/73)
ومن سرق سرقات فقطع في إحداها فهو جميعها ولا يضمن شيئا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: يضمن كلها إلا التي قطع لها، ومعنى المسألة إذا حضر أحدهم فإن حضروا جميعا وقطعت يده بخصومتهم لا يضمن شيئا بالاتفاق في السرقات كلها لهما أن الحاضر ليس بنائب عن الغائب، ولا بد من الخصومة لتظهر السرقة فلم تظهر السرقة من الغائبين فلم يقع القطع لها فبقيت أموالهم معصومة. وله أن الواجب بالكل قطع واحد حقا لله تعالى؛ لأن مبنى الحدود على التداخل والخصومة شرط ظهور عند القاضي. أما الوجوب بالجناية فإذا استوفى فالمستوفى كل الواجب، ألا ترى أنه يرجع نفعه إلى الكل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[سرق سرقات فقطع في إحداها]
م: (ومن سرق سرقات فقطع في إحداها) ش: أي في إحدى السرقات يعني لأجل واحد منها م: (فهو) ش: أي القطع واقع م: (بجميعها) ش: بالاتفاق؛ لأن القطع يتداخل بالإجماع، وبه قالت الثلاثة م: (ولا يضمن شيئاً) ش: أي لأرباب المسروقات م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: يضمن كلها) ش: أي كل السرقات م: (إلا التي) ش: أي إلا السرقة التي م: (قطع لها، ومعنى المسألة إذا حضر أحدهم) ش: أي أحد أرباب السرقات وادعى السرقة م: (فإن حضروا جميعاً وقطعت يده بخصومتهم لا يضمن شيئاً بالاتفاق في السرقات كلها. لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن الحاضر ليس بنائب عن الغائب) ش: حتى يجعل خصومته لخصومتهم م: (ولا بد من الخصومة لتظهر السرقة فلم تظهر السرقة من الغائبين فلم يقع القطع لها) ش: أي للسرقات كلها، وإذا لم يقع القطع لها م: (فبقيت أموالهم معصومة) ش: والمال المعصوم مضمون لا محالة.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن الواجب بالكل) ش: أي بكل السرقات م: (قطع واحد حقاً لله تعالى) ش: وكل ما كان كذلك يتدخل م: (لأن مبنى الحدود على التداخل والخصومة شرط ظهور عند القاضي) ش: قد وجد ذلك أيضاً بالنسبة إلى الجمع.
قال تاج الشريعة: والشروط تراعى وجودها قصداً، ولهذا يصح الاعتكاف بصوم رمضان، والصلاة بالوضوء لدخول المسجد.
م: (أما الوجوب) ش: أي وجوب القطع م: (بالجناية) ش: جزاء لها م: (فإذا استوفى) ش: يعني ذلك القطع الواحد م: (فالمستوفى كل الواجب، ألا ترى أنه يرجع نفعه) ش: وهو الانزجار م: (إلى الكل) ش: فيقطع عن الكل.
فإن قيل: الحكم الثابت هاهنا لا يرد على الثابت والقطع يتضمن البراءة عن ضمان المسروق، ولو أبرأه الواحد عن ضمان الكل نصاً لم يبرأ، فكيف يبرأ إذا ثبت ضمناً؟. أجيب: بأنه كم من شيء ثبت ضمناً ولا يثبت قصداً كبيع الشرب ووقف النقول، ثم هاهنا لما وقع القطع في حق الكل بالإجماع تبعه ما هو ثابت في ضمنه وهو سقوط الضمان.(7/74)
وعلى هذا الخلاف إذا كانت النصب كلها لواحد فخاصم في البعض.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: الخصومة شرط ليصير الخصم باذلاً للمال، إذ لا يصح البدل من واحد عن الكل. قلنا: بذل المال لسقوط عصمته أمر شرعي يثبت بناء على استيفاء القطع لا باختيار العبد، ألا ترى أنه مستوفى بخصومة من يملك البذل، ومن لا يملك، كالأب والوصي.
م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور بين أبي حنيفة وصاحبيه م: (إذا كانت النصب) ش: بضم النون والصاد جمع نصاب م: (كلها لواحد فخاصم في البعض) ش: أي في بعض النصب، يعني لو سرق السارق النصب من شخص واحد مراراً فخاصم في البعض فقطع لأجل ذلك، فعند أبي حنيفة لا يضمن النصب الباقي. وعند أبي يوسف ومحمد يضمن فافهم.(7/75)
باب ما يحدث السارق في السرقة ومن سرق ثوبا فشقه في الدار نصفين ثم أخرجه وهو يساوي عشرة دراهم قطع. وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقطع، لأن له فيه سبب الملك وهو الخرق الفاحش، فإنه يوجب القيمة وتملك المضمون، فصار كالمشتري إذا سرق مبيعا فيه خيار للبائع. ولهما أن الأخذ وضع سببا للضمان لا للملك، وإنما الملك يثبت ضرورة أداء الضمان كيلا يجتمع البدلان في ملك واحد، ومثله لا يورث الشبهة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب ما يحدث السارق في السرقة]
م: (باب ما يحدث السارق في السرقة)
ش: أي هذا باب في بيان حكم ما يحدثه السارق في العين التي يسرقها، ويحدث بضم الياء من الإحداث.
م: (ومن سرق ثوباً فشقه في الدار نصفين ثم أخرجه وهو يساوي عشرة دراهم قطع) ش: قيد بقوله في الدار، لأنه لو شقه خارج الدار يقطع بالإجماع، سواء بلغت قيمته نصاباً أو لا. ولا خلاف فيه للأئمة الثلاثة. وكذا لو بلغت قيمته نصاباً بعد الشق في البيت. وقيد بقوله وهو يساوي، أي الثوب يساوي عشرة بعد الشق؛ لأنه لو لم يساوي عشرة بعد الشق لا يجب القطع بالاتفاق.
م: (وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقطع، لأنه له فيه سبب الملك وهو الخرق الفاحش) ش: وهذا الخرق طولاً فإنه خرق فاحش م: (فإنه) ش: أي فإن الخرق الفاحش م: (يوجب القيمة وتملك المضمون) .
ش: ولهذا قلنا: المالك بعد الشق بالخيار إن شاء ملك الثوب بالضمان لانعقاد سبب الملك؛ لأنه لو لم ينعقد لما وجب التمليك بكسر من السارق م: (فصار) ش: أي حكم هذا م: (كالمشتري) ش: بكسر الراء م: (إذا سرق مبيعاً فيه خيار للبائع) ش: ثم فسخ البائع فإنه لا يقطع هناك فكذلك هنا. والجامع بينهما أن السرقة فيه تمت على عين غير مملوكة للسارق، ولكن ورد عليه سبب الملك.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد م: (أن الأخذ) ش: أي هذا الأخذ م: (وضع سبباً للضمان لا للملك) ش: يعني لا نسلم أن له فيه سبب الملك؛ لأن الأخذ المعروف ليس بموضع له، وإنما هو موضوع سبباً للضمان، فكان له سبب الضمان، لا أنه سبب الملك م: (وإنما الملك يثبت ضرورة أداء الضمان كيلا يجتمع البدلان في ملك واحد) ش: وهما البدل والمبدل.
م: (ومثله) ش: أي ومثل هذا الأخذ الذي هو سبب للضمان م: (لا يورث الشبهة) ش: لأنه(7/76)
كنفس الأخذ، وكما إذا سرق البائع معيبا باعه، بخلاف ما ذكر، لأن البيع موضوع لإفادة الملك، وهذا الخلاف فيما إذا اختار تضمين النقصان وأخذ الثوب. فإن اختار تضمين القيمة وترك الثوب عليه لا يقطع بالاتفاق، لأنه ملكه مستندا إلى وقت الأخذ، فصار كما إذا ملكه بالهبة فأورث شبهة، وهذا كله إذا كان النقصان فاحشا، فإن كان يسيرا يقطع بالاتفاق لانعدام سبب الملك، إذ ليس له اختيار تضمين كل القيمة، وإن سرق شاة فذبحها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ليس بموضوع للملك م: (كنفس الأخذ) ش: فإنه يحتمل أن يصير سبباً بعد الضمان، ومع هذا فلم يعتبر شبهة.
م: (وكما إذا سرق البائع معيباً باعه) ش: ولم يعلم المشتري بالعيب، فإنه يقطع وأن العقد سبب الرد وهو العيب، فكذلك هاهنا يقطع وأن القطع سبب الضمان وهو الشق م: (بخلاف ما ذكر) ش: أبو يوسف، وهو قوله كالمشتري إذا سرق بيعاً فيه الخيار للبائع؛ لأن سبب الملك فيه موجود م: (لأن البيع موضوع لإفادة الملك، وهذا الخلاف) ش: أي الذي بين أبي يوسف وصاحبيه م: (فيما إذا اختار) ش: أي الملك م: (تضمين النقصان وأخذ الثوب) ش: لا يقال الأصل عندكم أن القطع والنقصان لا يجتمعان.
فإذا اختار تضمن النقصان كيف يمكن من القطع، لأن القول بضمان النقصان يكون بجناية آخر قبل الاحتياج، وهي ما فات من العين، والقطع بإخراج الباقي كما لو أخذ ثوبين فأحرق أحدهما في البيت وأخرج الأخرى، قيمة أحدهما نصاب. وأورده على هذا الجواب الاستهلاك على ظاهر الرواية، فإنه فعل غير السرقة مع أنه لا يجب الضمان.
ومن هذا ذهب بعضهم إلى أنه إن اختار القطع لا يضمن النقصان. والجواب أن القطع الباقي بعد الحرق وليس فيه ضمان بخلاف المستهلك، فإن القطع كان لأجله لا شيء آخر. م: (فإن اختار تضمين القيمة وترك الثوب عليه لا يقطع بالاتفاق؛ لأنه ملكه مستنداً إلى وقت الأخذ، فصار كما إذا ملكه بالهبة) ش: فإنه إذا وهب له بعد تمام السرقة يسقط القطع، فلأن لا يجب إذا ملكه قبل تمام السرقة أولى م: (فأورث شبهة) ش: وهي دارئة الحد م: (وهذا كله) ش: أي هذا الخلاف مع هذه التفصيلات م: (إذا كان النقصان فاحشاً) ش: والفاحش ما يفوت به بعض العين وبعض المنفعة وهو الصحيح. وقال التمرتاشي: روي في حد الإتلاف فإنه لا يكون النقصان أكثر من نصف القيمة، وقبل النقصان الفاحش أن ينقص بالخرق ربع القيمة فصاعداً وما دونه يسير. وقيل ما لا يصح الباقي للثوب فهو فاحش والصلح يسير.
م: (فإن كان) ش: أي النقصان م: (يسيراً يقطع بالاتفاق؛ لانعدام سبب الملك إذ ليس له اختيار تضمين كل القيمة) ش: بل له تضمين قيمة النقصان. م: (وإن سرق شاة فذبحها) ش: في الحرز(7/77)
ثم أخرجها لم يقطع؛ لأن السرقة تمت على اللحم، ولا قطع فيه.
ومن سرق ذهبا أو فضة يجب فيه القطع فصنعه دراهم أو دنانير قطع فيه، ويرد الدراهم والدنانير إلى المسروق منه، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا سبيل إلى المسروق منه عليهما، وأصله في الغصب، فهذه صنعة متقومة عندهما خلافا له، ثم وجوب الحد لا يشكل على قوله؛ لأنه لم يملكه، وقيل على قولهما لا يجب، لأنه ملكه قبل القطع، ولأنه صار بالصنعة شيئا آخر فلم يملك عينه،
فإن سرق ثوبا فصبغه أحمر قطع ولم يؤخذ منه الثوب ولم يضمن، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله-. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يؤخذ منه الثوب ويعطى ما زاد الصبغ فيه اعتبارا بالغصب، والجامع بينهما كون الثوب أصلا قائما وكون الصبغ تابعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ثم أخرجها لم يقطع) ش: وإن كانت قيمة المذبوحة عشرة دراهم م: (لأن السرقة تمت على اللحم، ولا قطع فيه) ش: أي في اللحم.
[سرق ذهباً أو فضة فصنعه دراهم ودنانير]
م: (ومن سرق ذهباً أو فضة يجب فيه القطع) ش: وهو صفة للذهب والفضة؛ لأنها جملة فعلية وقعت صفة للنكرة. وجواب المسألة هو قوله: قطع فيه، أي ما بلغ قيمة عشرة دراهم م: (فصنعه دراهم أو دنانير قطع فيه، ويرد الدراهم والدنانير إلى المسروق منه، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي القطع عنده، وبه قالت الأئمة الثلاثة.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد م: (لا سبيل إلى المسروق منه عليهما) ش: أي على الدراهم والدنانير، وفي نسخة شيخي عليها وهو الأحسن م: (وأصله) ش: أي أصل الخلاف م: (في الغصب) ش: أي هذه الصفة لا ينقطع بها حق المالك عنده في الغصب خلافاً لهما، فكذا في السرقة م: (فهذه صنعة متقومة عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد م: (خلافاً له) ش: أي لأبي حنيفة م: (ثم وجوب الحد لا يشكل على قوله؛ لأنه) ش: لأن السارق م: (لم يملكه) ش: أي المسروق م: (وقيل: على قولهما لا يجب، لأنه ملكه قبل القطع، ولأنه صار بالصنعة شيئاً آخر فلم يملك عينه) ش: أي عين المسروق.
وفي بعض النسخ عينهما، أي عين الذهب والفضة، وإنما ملك شيئاً غيرهما، فإن الأعين تتبدل بالصفات، أصله حديث.
[قطع ولم يؤخذ منه الثوب ولم يضمن]
م: (وإن سرق ثوباً فصبغه أحمر قطع ولم يؤخذ منه الثوب ولم يضمن) ش: أي قيمة الثوب.
م: (وهذا) ش: أي عدم أخذ الثوب وعدم الضمان م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله-. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يؤخذ منه الثوب ويعطى) ش: أي السارق م: (ما زاد الصبغ فيه) ش: أي في الثوب م: (اعتباراً بالغصب) ش: أي قياساً عليه م: (والجامع بينهما) ش: المقيس والمقيس عليه م: (كون الثوب أصلاً قائماً وكون الصبغ تابعاً) ش: وبه قالت الثلاثة.(7/78)
ولهما أن الصبغ قائم صورة ومعنى، حتى لو أراد أخذه مصبوغا يضمن ما زاد الصبغ فيه، وحق المالك في الثوب قائم صورة لا معنى؛ لأنه غير مضمون على السارق بالهلاك والاستهلاك، فرجحنا جانب السارق، بخلاف الغصب؛ لأن حق كل واحد قائم صورة ومعنى فاستويا من هذا الوجه، فرجحنا جانب المالك لما ذكرنا، ولو صبغه أسود أخذ منه في المذهبين، يعني عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله-. وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا والأول سواء، لأن السواد زيادة عنده كالحمرة. وعند محمد زيادة أيضا كالحمرة ولكنه لا يقطع حق المالك لما مر، وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - السواد نقصان فلا يوجد انقطاع حق المالك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أن الصبغ قائم صورة ومعنى) ش: أما صورة فظاهر.
وأما معنى فمن حيث القيمة م: (حتى لو أراد) ش: أي المالك م: (أخذه) ش: أي أخذ الثوب حال كونه م: (مصبوغاً يضمن ما زاد الصبغ فيه، وحق المالك في الثوب قائم صورة لا معنى؛ لأنه غير مضمون على السارق بالهلاك والاستهلاك، فرجحنا جانب السارق) ش: لأن مراعاة ما هو قائم صورة ومعنى أولى من مراعاة ما هو قائم صورة لا معنى، فرجحنا قول السارق أولاً بالوجود، كالموهوب له إذا صبغ الثوب أحمر القطع حق الواهب.
م: (بخلاف الغصب؛ لأن حق كل واحد) ش: من المالك والغاصب م: (قائم صورة ومعنى فاستويا) ش: أي فاستويا المالك والغاصب م: (من هذا الوجه) ش: أي من حيث إن حق كل منهما قائم صورة ومعنى فلم يكن الترجيح بالوجود، فرجحنا بالبقاء وهو أن الثوب أصل قائم والصبغ تابع وهو معنى قوله: فلم يكن الترجيح بالوجود م: (فرجحنا جانب المالك لما ذكرنا) ش: إشارة إلى قوله والجامع كون الثوب أصلاً قائماً، وكون الصبغ تابعاً.
م: (ولو صبغه أسود) ش: أي ولو صبغ السارق الثوب صبغاً أسود فقطع م: (أخذ) ش: أي الثوب م: (منه) ش: أي من السارق م: (في المذهبين، يعني عند أبي حنيفة، ومحمد - رحمهما الله-، وعند أبي يوسف هذا والأول سواء) ش: أي أن الحكم في الصبغ الأسود والأحمر سواء عنده م: (لأن السواد زيادة عنده كالحمرة) ش: فلا يؤخذ هذا الثوب من السارق م: (وعند محمد زيادة أيضاً كالحمرة، ولكنه لا يقطع حق المالك لما مر) ش: أن الصبغ تابع م: (وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - السواد نقصان فلا يوجب انقطاع حق المالك) ش: فلم يكن حق السارق فيه قائماً معنى فاستويا، فرجح جانب المالك كما قلنا. قال في المختلف: وهذا اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان، فإن الناس ما كانوا يلبسون السواد في زمنه ويلبسون في زمنهما.(7/79)
باب قطع الطريق وإذا خرج جماعة ممتنعين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب قطع الطريق]
م: (باب قطع الطريق)
ش: أي هذا باب في بيان حكم قطع الطريق وقدم السرقة الصغرى على الكبرى؛ لأن السرقة تكون من الأصغر إلى الأكبر؛ ولأن الصغرى أكثر نوعاً من الأكبر يكون قطع سرقة، فلأن قطع الطريق بأخذ المال خفية من عين الإمام الذي على حفظ الطريق والمارة بشركته ومنعه، وأما كونه الكبرى فلأن ضرره يعم عامة المسلمين من حيث يقطع عليهم الطريق بزوال الأمن، ولأن موجبه أغلظ من حيث اليد والرجل من خلاف، ومن حيث القتل والصلب.
وأعلم أن لقطع الطريق شرائط:
الأول: أن يكون لهم شوكة وقوة بحيث لا يمكن للمارة المقاومة معهم وقطعوا الطريق، سواء كانت بالسلاح أو بالعصا الكبيرة أو الحجر وغيرها.
الثاني: أن يكون خارج المصر بعيداً عنه، وفي " شرح الطحاوي ": أن يكون بينهم وبين المصر مسيرة سفر. وعن أبي يوسف: لو كان أقل من سفر فحكمه حكم مسيرة سفر، أما في المصر أو في قرية أو بين قريتين لا يكون قطع الطريق خلافاً لأبي يوسف والشافعي ومالك. وأحمد توقف في ذلك. وفي " الحلة " عن مالك في المصر روايتان.
والثالث: أن يكون في دار الإسلام.
والرابع: أن يكون المأخوذ قدر النصاب، وبه قال الشافعي وأحمد. وقال مالك وأبو ثور وابن المنذر: لا يعتبر النصاب لعموم الآية. ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا قطع في أقل من عشرة دراهم أو ربع دينا» ولم يفصل.
والخامس: أن يكون القطاع كلهم أجانب في حق أصحاب الأموال حتى إذا كان فيهم ذو رحم محرم أو صبي أو مجنون لا يجب عليهم القطع خلافاً لأبي يوسف. والثالثة إذا كانت فيهم امرأة ففيه روايتان في رواية يقطع، وبه قالت الثلاثة والأصح أنها لا قطع.
والسادس: من إذا أخذوا قبل التوبة، حتى إذا أخذوا بعد التوبة ورد المال سقط عنهم الحد لا خلاف فيه، ولكن يسقط القصاص وضمان المال القائم والهالك.
م: (وإذا خرج جماعة) ش: هذا لفظ القدوري إلى قوله: قتلهم حداً، وأطلق اسم الجماعة لتناول المسلم والذمي والحر والعبد، وقوله م: (ممتنعين) ش: نصب على الحال من الجماعة، والمعنى خرجوا عن طاعة الإمام حال كونهم ممتنعين، والمراد من الامتناع أن يكون لا بحيث يمكن(7/80)
أو خرج واحد يقدر على الامتناع فقصدوا قطع الطريق فأخذوا قبل أن يأخذوا مالا ويقتلوا نفسا حبسهم الإمام حتى يحدثوا توبة. وإن أخذوا مال مسلم أو ذمي والمأخوذ إذا قسم على جماعتهم أصاب كل واحد منهم عشرة دراهم فصاعدا أو ما تبلغ قيمة ذلك قطع الإمام أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن قتلوا ولم يأخذوا مالا قتلهم الإمام حدا،
والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {إنّما جزاء الّذين يحاربون الله ورسوله} [المائدة: 33] (المائدة: الآية 33) ، والمراد منه والله أعلم التوزيع على الأحوال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لهم أن يدفعوا عن أنفسهم بقوتهم وشجاعتهم تعرض العين م: (أو خرج واحد يقدر على الامتناع) ش: بنفسه وقوله م: (فقصدوا قطع الطريق) ش: على المارة والمسافرين م: (فأخذوا) ش: على صيغة المجهول، يعني أخذهم الإمام م: (قبل أن يأخذوا) ش: أي قطاع الطريق م: (مالاً ويقتلوا نفساً) ش: أي وقبل أن يقتلوا نفساً من المارة م: (حبسهم الإمام) ش: جواب قوله: وإذا خرج، وهذه حالتهم الأولى، فإن فيها حبسهم الإمام م: (حتى يحدثوا توبة) ش: وهو المراد بالنفي المذكور في قوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] (المائدة: الآية 33) ، وهو قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] ... الآية، على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى.
م: (وإن أخذوا مال مسلم) ش: هذه حالتهم الثانية م: (أو ذمي) ش: أي أو مال ذمي م: (والمأخوذ إذا قسم على جماعتهم أصاب كل واحد منهم عشرة دراهم فصاعداً) ش: أي أكثر من عشرة، وانتصابه على الحال فيهم من لم يدل على الإعراب م: (أو ما تبلغ قيمة ذلك) ش: أي أو أخذوا شيئاً من المتاع يبلغ قيمته عشرة دراهم.
وقال الحسن بن زياد: عشرون؛ لأنه يقطع من قاطع الطريق طرفان فيشترط النصاب بأن م: (قطع الإمام) ش: جواب قوله: وإن أخذوا مال مسلم م: (أيديهم وأرجلهم من خلاف) ش: يقطع اليمين من الأيدي واليسار من الأرجل.
م: (وإن قتلوا) ش: هذه حالتهم الثالثة م: (ولم يأخذوا مالاً قتلهم الإمام حداً) ش: أي قتلهم الإمام من حيث الحد لا قصاصاً، حتى لو عفى الأولياء عنهم لم يلتفت إلى عفوهم، وذلك؛ لأن الحد حق الله تعالى.
ولو آثر العفو العبد في حقه تعالى وليس للإمام أيضاً أن يعفو بما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تعافوا الحدود فيما بينكم. فإذا رفعت إلى الإمام فلا عفى الله عنه إن عفى» . ذكر الأترازي هذا الحديث ولم ينسبه إلى أحد من الصحابة ولا إلى مخرج معتبر.
[قطع ولم يؤخذ منه الثوب ولم يضمن]
م: (والأصل فيه) ش: أي في قطع ولم يؤخذ منه الثوب ولم يضمن (قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية (المائدة: الآية 33) ش: أي إلى آخر الآية م: (والمراد منه - والله أعلم - التوزيع) ش: أي من قول الله تعالى لهذا التوزيع م: (على الأحوال) ش: أي التقسيم على أحوال(7/81)
وهي أربعة هذه الثلاثة المذكورة، والرابعة نذكرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المحاربين.
وأشار هذا إلى أن كلمة أو في الأئمة للتفصيل أو للتقسيم على اختلاف الجناية لا للتخيير كما قال مالك، فإنه قال الإمام: إذا رأى القاطع جلد إذا رأى قطعه، وإن كان جلد إذا رأى له قطعه، والأكثر على أن أو للتوزيع، وبه قال الشافعي والليث وإسحاق وحماد وقتادة وأبو مجلز لاحق بن حميد وأصحاب أحمد، ومثل هذا روي عن ابن عباس.
وقال سعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن البصري والضحاك وإبراهيم النخعي وأبو ثور وداود: الإمام مخير فيه لظاهر النص.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ما كان في القرآن أو فصاحبه بالخيار، وقوله: يحاربون الله، والمراد من محاربة الله محاربة أوليائه وهم المؤمنين على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أو لما كانوا مخالفين أمر الله تعالى ساعين في الأرض بالفساد وكأنهم محاربين الله تعالى، فأطلق اسم المحاربة لله تعالى اتباعاً، وقد ذكرنا أن هذه الآية نزلت في قطاع الطريق. وقيل نزلت في العرنيين ولم يصح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمل أعينهم وليس في هؤلاء ذلك.
وقيل: في المرتدين فلم يصح أيضاً، لأن الآية ناطقة بالقتل عند المحاربة والسعي في الأرض بالفساد، وليس شرط ذلك في المرتد، ولأن القتل سقط عنهم بالنص بالتوبة قبل القدرة عليهم، ويسقط عن المرتد بالتوبة مطلقاً.
[أحوال الحرابة]
م: (وهي) ش: أي الأحوال م: (أربعة هذه الثلاثة المذكورة) ش: وعلمت من قبل م: (والرابعة) ش: أي حالة رابعة م: (نذكرها) ش: أي عن أبي يوسف، وهو قوله والرابعة إذا قتلوا ... إلى آخره. والأحوال أربعة والأجزية كذلك. وكذا هذا في " الكافي ". وذكر التمرتاشي والأحوال خمس تخويف لا غير، وهنا عن رد أدنى التقرير وحبسوا حتى يتوبوا.
والثانية: أخذ المال فهنا إذا تابوا قبل الأخذ سقط الحد وضمن المال قائماً هالكاً. ولو أخذوا قبل التوبة قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وردوا المال قائما ولم يضمن الهالك عندنا، خلافاً للثلاثة.
والثالث: خرجوا لا غير، وفيه القصاص فيما يجرى فيه القصاص، والأمر شيء فيما لا يجري. والاستيفاء إلى صاحب الحق.
والرابعة: أخذوا المال وخرجوا بقطع من خلاف وبطل حكم الجراحات عندنا خلافاً للأئمة الثلاثة.
والخامسة: أخذوا المال وقتلوا أو قتل أحد منهم رجلاً بسلاح أو غيره، والإمام مخير على(7/82)
ولأن الجنايات تتفاوت على الأحوال، فاللائق تغلظ الحكم بتغلظها، أما الحبس في الأولى فلأنه هو المراد بالنفي المذكور؛ لأنه نفي عن وجه الأرض بدفع شرهم عن أهلها ويعزرون أيضا لمباشرتهم منكر لإخافة، وشرط القدرة على الامتناع، لأن المحاربة لا تتحقق إلا بالمنعة.
والحالة الثانية كما بيناها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما ذكره في المتن. م: (ولأن الجنايات تتفاوت على الأحوال) ش: أي على حسب الأحوال الواقعة في قطع الطريق م: (فاللائق تغلظ الحكم) ش: أي الجزاء م: (بتغلظها) ش: أي بتغلظ الجناية لا بالتخيير؛ لأنه مستلزم مقابلة الجناية الغليظة جزاء خفيف أو بالعكس، وهو خلاف مقتضى الحكمة.
م: (أما الحبس في الأولى) ش: أي في الحالة الأولى م: (فلأنه) ش: أي فلأن الحبس م: (هو المراد بالنفي المذكور؛ لأنه) ش: أي لأن الحبس م: (نفي عن وجه الأرض بدفع شرهم عن أهلها) ش: وعند الشافعي ينفى من بلد إلى بلد لا يزال يطلب، وهو هارب فزعاً. وقال النخعي وقتادة وعطاء وأحمد: النفي تشريدهم عن الأمصار؛ لأن النفي مستعمل في الطرد والإبعاد.
ويروى نحو هذا عن الحسن والزهري. وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه ينفى من بلده إلى بلد غيره، وبه قالت طائفة من أهل العلم، وما قلناه أولى، لأن تشريدهم بدون الحبس إخراج لهم إلى مكان يقطعون الطريق ويؤذون الناس.
وظاهر الآية تدل على أن النفي من وجه الأرض، ولا يمكن أن ينفى من جميع وجه الأرض؛ لأن ذا لا يتحقق ما دام حياً.
والمراد عن بعضها وهو بلده، وبه لا يحصل المقصود، وهو رفع أذاه عن الناس وإن كان في دار الإسلام إلى دار الحرب ففيه تعريضه على الردة وصيرورته حربياً، فعلم أن المراد نفيه عن جميع وجه الأرض لدفع شره، ولا يمكن هذا إلا بالحبس، لأن المحبوس يسمى خارجاً من الدنيا.
وقال صالح بن عبد القدوس:
خرجنا عن الدنيا ونحن من أهلنا ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا دخل السجان يوماً لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
م: (ويعزرون أيضاً لمباشرتهم منكر الإخافة) ش: الإخافة مصدر من أخاف يخيف إخافة، وقال أبو بكر لا حد فيه، فيجب في مثله الحبس والتعزير.
م: (وشرط القدرة على الامتناع) ش: أي شرط القدوري قدرة قطاع الطريق على كونهم ممتنعين م: (لأن المحاربة لا تتحقق إلا بالمنعة) ش: لأنه إذا لم يكن لهم منفعة وقوة على قطع الطريق لا يسمون قطاع الطريق، بل لهم لصوص دائرون يترقبون الغفلة عن الناس ليأخذوا أشياء.
م: (والحالة الثانية كما بيناها) ش: أي كما بينا حكماً من قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف م:(7/83)
لما تلوناه، وشرط أن يكون المأخوذ مال مسلم أو ذمي لتكون العصمة مؤبدة، ولهذا لو قطع الطريق على المستأمن لا يجب القطع، وشرط كمال النصاب في حق كل واحد كيلا يستباح طرقه إلا بتناوله ما له خطر، والمراد قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى كيلا يؤدي إلى تفويت جنس المنفعة. والحالة الثالثة كما بيناها لما تلوناه، ويقتلون حدا، حتى لو عفى الأولياء عنهم لا يلتفت إلى عفوهم؛ لأنه حق الشرع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(لما تلوناه) ش: وهي الآية المذكورة م: (وشرط) ش: أي القدوري م: (أن يكون المأخوذ مال مسلم أو ذمي لتكون العصمة مؤبدة) ش: وليس تأبيد العصمة إلا في مال المسلم أو الذمي.
م: (ولهذا) ش: أي ويكون الشرط في المال المأخوذ أن يكون من المسلم أو الذمي م: (لو قطع الطريق على المستأمن لا يجب القطع) ش: لأن ماله غير معصوم على وجه التأبيد م: (وشرط) ش: أي القدوري م: (كمال النصاب في حق كل واحد) ش: وبه قال الشافعي وأحمد.
وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يشترط النصاب كما لا يشترط الحرز، وبه قال ابن المنذر وأبو ثور. وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول كقول مالك. وفي " شرح الوجيز " والمذهب هو الأول م: (كيلا يستباح طرقه) ش: أي طرق قاطع الطريق م: (إلا بتناوله ماله خطر) ش: أي قدروا قيمته.
م: (والمراد) ش: أي من قَوْله تَعَالَى: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} [المائدة: 33] (المائدة: الآية 33) م: (قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى) ش: ولا خلاف لأهل العلم فيه، ولأن هذه الجناية لفاحشتها صارت كالسرقتين، والحكم في السرقتين هكذا.
فإن قيل ينبغي أن يكون نصاب كل واحد عشرين، لأنه كالسرقتين. قلنا تغليظ هذا الحد باعتبار تغلظ فعلهم محاربة الله ورسوله لا بكثرة المال.
م: (كيلا يؤدي إلى تفويت جنس المنفعة) ش: ولهذا إذا كانت يده اليمنى شلاء أو مقطوعة لا تقطع يده اليسرى؛ لأن فيه تفويت جنس المنفعة، وبه قال أحمد في رواية. وقال الشافعي في اليد الشل في قطعها روايتان كما في السارق، ولو كانت يده اليمنى مقطوعة قطعت رجله اليسرى، ولو كانت يداه صحيحتين ورجله اليسرى مقطوعة قطعت يده اليمنى فقط، ولا خلاف فيه.
م: (والحالة الثالثة كما بيناها) ش: بقوله وإن قتلوا ولم يأخذوا مالاً م: (لما تلوناه) ش: من الآية الكريمة م: (ويقتلون حداً) ش: العين في هذه الحالة يقتل قطاع الطريق من حيث الحد م: (حتى لو عفى الأولياء عنهم لا يلتفت إلى عفوهم؛ لأنه حق الشرع) ش: أي لأن الحد حق الشرع فلا يدخل عفو، وعليه جميع أهل العلم.(7/84)
والرابعة إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام بالخيار إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وقتلهم وصلبهم وإن شاء قتلهم وإن شاء صلبهم، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقتل ويصلب ولا يقطع، لأنه جناية واحدة فلا توجب حدين، ولأن ما دون النفس يدخل في النفس في باب الحد كحد السرقة والرجم. ولهما أن هذه عقوبة واحدة تغلظت لتغلظ سببها، وهو تفويت الأمن على التناهي بالقتل وأخذ المال، ولهذا كان قطع اليد والرجل معا في الكبرى حدا واحدا، وإن كانا في الصغرى حدين، والتداخل في الحدود لا في حد واحد.
ثم ذكر في الكتاب التخيير بين الصلب وتركه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والرابعة) ش: أي الحالة الرابعة م: (إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام بالخيار إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم وإن شاء قتلهم) ش: يعني من غير قطع، وإن شاء صلبهم. وفي " جامع البزدوي " إن شاء صلبهم وإن شاء قتلهم من غير قطع م: (وإن شاء صلبهم) ش: وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وبه قال أحمد في رواية، وهو قول زفر. وقال أبو يوسف: لا بد من الصلب.
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقتل أو يصلب ولا يقطع، لأنه) ش: أي لأن قطع الطريق م: (جناية واحدة) ش: وهي قطع الطريق م: (فلا توجب حدين، ولأن ما دون النفس يدخل في النفس في باب الحد كحد السرقة والرجم) ش: فإن السارق إذا زنى وهو محصن فإنه يرجم لا غير، لأن القتل يأتي على ذلك كله، وفي عامة الرواية من المباسط وشروح الجامع أبو يوسف مع محمد.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة، وأبي يوسف م: (أن هذه عقوبة واحدة) ش: من حيث إنها قطع الطريق لكنها م: (تغلظت لتغلظ سببها وهو تفويت الأمن على التناهي) ش: أي على النهاية م: (بالقتل، وأخذ المال، ولهذا) ش: أي لكونها عقوبة واحدة م: (كان قطع اليد والرجل معاً في الكبرى) ش: أي في السرقة الكبرى، وهي قطع الطريق م: (حداً واحداً وإن كانا في الصغرى حدين، والتداخل في الحدود) ش: إنما يكون في الحدود م: (لا في حد واحد) ش: وهو القطع والقتل حد واحد فلا يتداخلان.
فإن قلت: لو كانا حداً واحداً لم يجز للقاضي أن يقتصر على القتل.
قلت: إنما جاز ذلك لأن الترتيب ليس بواجب على ما بين القطع والقتل، فإذا ابتدأ بالقتل سقط القطع لعدم فائدته كالزاني إذا ضرب خمسين جلدة فمات ترك ما بقي، لأنه لا فائدة في إتمامه.
[التخيير بين الصلب وتركه في الحرابة]
م: (ثم ذكر) ش: أي القدوري م: (في الكتاب) ش: أي في مختصره م: (التخيير بين الصلب وتركه) ش: وهو قوله: وإن شاء قتلهم، وإن شاء صلبهم وهو ظاهر الرواية.(7/85)
وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يتركه؛ لأنه منصوص عليه، والمقصود التشهير ليعتبر به غيره. ونحن نقول: أصل التشهير بالقتل والمبالغة في الصلب فيتخير فيه، ثم قال: ويصلب حيا ويبعج بطنه ويطعن حتى يموت، ومثله عن الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعن الطحاوي، - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقتل ثم يصلب توقيا عن المثلة. وجه الأول وهو الأصح أن الصلب على هذا الوجه أبلغ في الردع وهو المقصود به. ولا يصلب أكثر من ثلاثة أيام، لأنه يتغير بعدها فيتأذى الناس به، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يترك على خشبة حتى يتقطع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه) ش: أي الإمام م: (لا يتركه) ش: أي لا يترك الصلب م: (لأنه) ش: أي لأن الصلب م: (منصوص عليه) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] (المائدة: الآية 33) م: (والمقصود التشهير ليعتبر به غيره) ش: وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله.
م: (ونحن نقول أصل التشهير بالقتل) ش: أي يحصل بالقتل م: (والمبالغة في الصلب فيتخير فيه) ش: أي فيتخير الإمام في الصلب م: (ثم قال) ش: أي القدوري م: (ويصلب حياً) ش: أي يصلب قاطع الطريق حال كونه حياً م: (ويبعج بطنه) ش: أي تشق من باب فعل يفعل بالفتح فيهما، يقال بعج الأرض شقها، ومنها قول القدوري.
حكى السرخسي عن أبي يوسف: وروي عن أبي يوسف أنه قال يصلبه وهو حي م: (ويطعن) ش: في لبته م: (حتى يموت) ش: ومرة قال تحت ثديه الأيسر ويخضخض حتى يموت.
كذا ذكره أبو الليث في " شرح الجامع الصغير " برمح متعلق بقوله: ويبعج وتلازم المجمع إلى أن يموت م: (ومثله عن الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي ومثل ما روي عن أبي يوسف وروي عن الشيخ أبي الحسن الكرخي.
م: (وعن الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقتل ثم يصلب توقياً عن المثلة) ش: أي احترازاً عنها، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن المثلة» وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله-.
م: (وجه الأول) ش: أراد به يصلب حياً م: (وهو الأصح) ش: أي الأول هو الأصح م: (أن الصلب على هذا الوجه أبلغ في الردع) ش: أي الزجر به م: (وهو المقصود به) ش: أي بالصلب م: (ولا يصلب أكثر من ثلاثة أيام، لأنه يتغير بعدها) ش: أي بعد ثلاثة أيام م: (فيتأذى الناس به) ش: وبه قال الشافعي في الأصح.
وعن أحمد أنه لم يوقت في الصلب، وقال أصحابه: الصحيح أنه يوقت بما يحصل به التشهير، والتوقيت بثلاثة أيام بغير دليل ذكره ابن قدامة في المغنى وليس كذلك، فإن التشهير لا يحصل بالزمان القليل عادة، فمرة بالثلاث كما في مدة الخيار ومهلة المزبة وغيرهما.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه) ش: أي أن المصلوب م: (يترك على خشبة حتى يتقطع(7/86)
ويسقط ليعتبر به غيره. قلنا حصل الاعتبار بما ذكرناه، والنهاية غير مطلوبة. قال وإذا قتل القاطع فلا ضمان عليه في مال أخذه اعتبارا بالسرقة الصغرى، وقد بيناه. فإن باشر القتل أحدهم أجرى الحد عليهم بأجمعهم؛ لأنه جزاء المحاربة، وهي تتحقق بأن يكون البعض ردءا للبعض، حتى إذا زلت أقدامهم انحازوا إليهم، وإنما الشرط القتل من واحد منهم
والقتل إن كان بعصا أو بحجر أو بسيف فهو سواء، لأنه يقطع قطعا للطريق بقتل المارة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويسقط ليعتبر به غيره) ش: وبه قال الشافعي في وجه م: (قلنا حصل الاعتبار بما ذكرناه) ش: أي بالصلب ثلاثة أيام م: (والنهاية غير مطلوبة) ش: لأن المقصود نفي الزجر م: (قال: وإذا قتل القاطع فلا ضمان عليه في مال أخذه اعتباراً بالسرقة الصغرى) ش: لأن الحد لما أقيم سقط عصمة المال كما في السرقة م: (وقد بيناه) ش: أي الضمان مع الخلاف في السرقة الصغرى.
م: (فإن باشر القتل أحدهم) ش: أي أحد قطاع الطريق م: (أجرى الحد عليهم بأجمعهم) ش: وبه قال مالك وأحمد. وقال الشافعي: يحد المباشر لا الردء، ولأنه جرى الفصل كحد الزنا فلا يجب على غير المباشر.
قلنا: يجب على الكل م: (لأنه جزاء المحاربة، وهي تتحقق بأن يكون البعض ردءاً) ش: أي عوناً م: (للبعض، حتى إذا زلت أقدامهم انحازوا إليهم) ش: أي انضموا إليهم، ولم ترد الشراح هنا شيئاً على قولهم انضموا إليهم.
فقوله: إذا زلت أقدامهم كناية عن أقدامهم، والضمير فيه وفي قوله إليهم راجع إلى المحاربين الذين يباشرون القتال، يدل عليه قوله جزاء المحاربة. والضمير في قوله انحازوا يرجع إلى الردء، لأن الردء يستوي فيه الواحد والجمع.
وحاصل المعنى إذ إن أمر المحاربين إلى - الإنزام سمار الردء إليهم معسونهم وسفرونهم؟ - فكذلك يشركون مع الغانمين في الغنيمة.
م: (وإنما الشرط القتل من واحد منهم) ش: لأن تمكنه من القتل حصل بالكل فيقتلون جميعاً، ولفظ الأصل ومن باشر ولم يباشر في الحكم سواء، وذلك لأن تمكين القتل حصل باليد، والقتل حد قطاع الطريق إذا وجد منهم القتل وقد وجد فيقتلون جميعاً، وهذه لأن قوله وجب حداً عليهم لا قصاصاً فلم يعتبر المساواة، فصار من قتل ومن لم يقتل سواء.
[قتل قطاع الطريق]
م: (والقتل) ش: أي قتل قطاع الطريق م: (إن كان بعصا أو بحجر أو بسيف فهو سواء، لأنه يقع قطعاً للطريق بقتل المارة) ش: يعني بأي شيء قتل قاطع الطريق، قيل: لأنه حد لا قصاص فلا يقتضي المساواة، ولهذا يقتل غير المباشر.(7/87)
وإن لم يقتل القاطع ولم يأخذ مالا وقد جرح اقتص منه فيما فيه القصاص وأخذ الأرش منه مما فيه الأرش، وذلك إلى الأولياء؛ لأنه لا حد في هذه الجناية، فظهر حق العبد وهو ما ذكرناه فيستوفيه الولي وإن أخذ مالا ثم جرح قطعت يده ورجله من خلاف وبطلت الجراحات، لأنه لما وجب الحد حقا لله تعالى سقطت عصمة النفس حقا للعبد، كما يسقط عصمة المال، وإن أخذ بعدما تاب وقد قتل فإن شاء الأولياء قتلوه، وإن شاءوا عفوا عنه، لأن الحد في هذه الجناية لا يقام بعد التوبة للاستثناء المذكور في النص، ولأن التوبة تتوقف على رد المال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن لم يقتل القاطع) ش: أي قاطع الطريق م: (ولم يأخذ مالاً وقد جرح اقتص منه فيما فيه القصاص وأخذ الأرش منه مما فيه الأرش، وذلك) ش: أي استيفاء القصاص وأخذ الأرش م: (إلى الأولياء لأنه لا حد في هذه الجناية فظهر حق العبد) ش: أي في النفس والمال م: (وهو ما ذكرناه) ش: أي حق العبد القصاص والأرش م: (فيستوفيه الولي) ش: أي يستوفي القصاص الولي فيما مستطاع منه القصاص.
وبه قالت الأئمة الثلاثة، كما إذا قطعوا اليسار أو الذكر لا قصاص فيه في الظاهر يؤخذ الأرش، خلافاً لأبي حنيفة فيما إذا قطع من الأصل وفي الحقيقة والحشفة قصاص اتفاقاً، لأن موضع القطع معلوم إلا إذا قطع بعض الحشفة حيث لا قصاص، وكذا إذا ضربوا العين وقلعوها لا قصاص فيه ويؤخذ الأرش، إلا إذا كانت العين قائمة فذهب بصرها ففيه القصاص لا بمكان المماثلة، كذلك لا قصاص في عظم إلا في السن إلا إذا اسودت أو احمرت أو اخضرت فحينئذ يجب الأرش. م: (وإن أخذ مالاً ثم جرح قطعت يده ورجله من خلاف وبطلت الجراحات) ش: لأن الحد والضمان لا يجتمعان عندنا م: (لأنه لما وجب الحد حقاً لله تعالى سقطت عصمة النفس حقاً للعبد، كما يسقط عصمة المال) ش: وعند الأئمة الثلاثة لا يبطل عصمة النفس والمال، لأن القطع مع الضمان يجتمعان عندهم. م: (وإن أخذ) ش: أي قاطع الطريق م: (بعدما تاب وقد قتل) ش: أي والحال أنه قد قتل عمداً بحديدة م: (فإن شاء الأولياء قتلوه، وإن شاءوا عفوا عنه، لأن الحد في هذه الجناية لا يقام بعد التوبة للاستثناء المذكور في النص) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 33] (المائدة: الآية 34) ، فلما بطل الحد بالتوبة ظهر حق العبد فيه بلا خلاف.
واعترض بأن قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: 34] هاهنا نظيره في قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: 34] ، فكيف يكون سياق قوله: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] إذ كل منهما جملتان كاملتان عطفتا على جملتين كاملتين. وأجيب: بأن قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] لا يصلح، بخلاف قوله: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] .
م: (ولأن التوبة تتوقف على رد المال) ش: يعني مما إذا أخذ المال، لأن الظالم إذا غصب مال(7/88)
ولا قطع في مثله فظهر حق العبد في النفس والمال، حتى يستوفي الولي القصاص أو يعفو ويجب الضمان إذا هلك في يده أو استهلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحد لا يكون ثابتاً وإن تاب ألف مرة بلسانه ما لم يرد المال، لأن تلك العصبة لا ترتفع إلا برد المال.
فلما رد المال قبل الأخذ بطل عنه الحد كالسارق إذا أدى المال قبل الترافع م: (ولا قطع في مثله) ش: لانقطاع الخصومة وهي شرط فيه م: (فظهر حق العبد في النفس والمال، حتى يستوفي الولي القصاص أو يعفو ويجب الضمان إذا هلك في يده أو استهلك) ش: وفي " المبسوط " و " المحيط " رد المال من تمام توبتهم لينقطع به خصومة صاحب المال، إذ لا يقام الحد إلا بخصومة صاحب المال وقد انقطعت خصومته برد المال إليه قبل ظهور الجريمة عند الإمام، فيسقط الحد.
أما إذا تابوا ولم يردوا المال لم يذكره في الكتب نصاً، فقد اختلف المتأخرون فيه: قيل: لا يسقط الحد، فإنه على سائر الحدود، فإنها لا تسقط بنفس التوبة. وقيل: يسقط وإليه أشار محمد في الأصل أن الحد يسقط في السرقة الكبرى، الاستثناء في النص والاستثناء في غيره وسائر الحدود، والقذف لا يسقط بالتوبة عندنا ومالك وأحمد في رواية وللشافعي في قول.
وقال أحمد في رواية والشافعي في قول يسقط لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16] (النساء: الآية 16) .
وقال في حد السرقة: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] (التوبة: الآية 39) ، ولأنه حق الله فيسقط بالتوبة كحد المحارب.
قلنا قوله: {فَاجْلِدُوا} [النور: 2] {فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] عام في الثابت وغيره، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم ماعزاً والغامدية وقطع الذي أتى بالسرقة وقد صاروا ما يطلبون النظير وعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توبتهم فأتاه الحد، ولأن الحد لغارة فلم يسقط بالتوبة ككفارة اليمين والقتل، لأنه يقدر عليه كل أحد بعد باب الحد.
وأما الآية فمنسوخة، هو كان في بدء الإسلام، والآية الثانية تدل على أن الحد لم يصر مستحقاً للمعتوه، وأما حد القطاع فيسقط بالنص ولم يجئ نص في غيره.
وقال الأترازي فإن قلت: اليسر رفض قول صاحب الهداية لا بالتوبة تتوقف على رد المال مع قوله ويجب الضمان إذا هلك في يده أو استهلك، لأنه إذا رد المال كيف يهلك في يده.
قلت: يمكن أن يهلك البعض معزور البعض، ورد البعض علامة صحة ثبوته، فإذا هلك الباقي قبل التمكن منه، أو استهلكه بعد وجود علامة صحة ثبوته يكون ذلك شبهة في سقوط الحد، فيجب المال.(7/89)
وإن كان في القطاع صبي أو مجنون أو ذو رحم محرم من المقطوع عليه سقط الحد عن الباقين، فالمذكور في الصبي والمجنون قول أبي حنيفة وزفر -رحمهما الله-. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لو باشر العقلاء يحد الباقون، وعلى هذا السرقة الصغرى. له أن المباشر أصل والردء تابع، ولا خلل في مباشرة العاقل المكلف، ولا اعتبار بالخلل في التبع، وفي عكسه ينعكس المعنى والحكم. ولهما أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأكمل: هذا إنما يتم لولا سبب التوبة متوقفة على رد جميع المال فلا يتم، ويجوز أن يقال هذا الموضع إنما هو على قول البعض الآخر من المشايخ.
[كان في القطاع صبي أو مجنون أو ذو رحم محرم من المقطوع عليه]
م: (وإن كان في القطاع صبي أو مجنون أو ذو رحم محرم من المقطوع عليه سقط الحد عن الباقين) ش: هذه مسألة القدوري في مختصره، إلا أن لفظه وإن كان فيهم صبي، وهذا الذي ذكره القدوري ظاهر الرواية عن أصحابنا. وقال المصنف م: (فالمذكور في الصبي والمجنون قول أبي حنيفة وزفر - رحمهما الله-. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لو باشر العقلاء يحد الباقون) ش: أي من الذين لم يباشروا القتل من العقلاء الباقين. وقال الأترازي: والعجب من صاحب الهداية أنه قال وعن أبي يوسف بعد أن قال والمذكور في الصبي والمجنون قول أبي حنيفة وزفر. وكان القياس أن يقول أبو يوسف ولم يذكر قول محمد وقوله مع أبي حنيفة. وقد صرح الشيخ أبو نصر بذلك انتهى.
قلت: لعجبه عجب، لأن القدوري ذكر في شرحه لمختصر الكرخي وعند أبي يوسف. وذكر البيهقي في كفاية بلفظه عن أبي يوسف، ويحتمل أن يكون قول أبي يوسف رواية عنه بعد أن كان مع أبي حنيفة.
م: (وعلى هذا السرقة الصغرى) ش: أي وعلى هذا الخلاف حكم السرقة الصغرى إن ولي الصبي أو المجنون إخراج المتاع، وإن ولي غيرهما قطعوا إلا الصبي والمجنون.
م: (له) ش: أي لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن المباشر أصل، والردء تابع) ش: أي المباشر أصل في الفعل، والردء أي المعين تابع م: (ولا خلل في مباشرة العاقل المكلف، ولا اعتبار بالخلل في التبع) ش: وهو الصبي أو المجنون لعدم القصد الصحيح منهما، وسقوط الحد عن التبع لا يوجب سقوطه عن المتبوع.
م: (وفي عكسه) ش: وهو أن يباشر الصبي أو المجنون م: (ينعكس المعنى والحكم) ش: الحكم هو أن لا يجب على الباقين، والمعنى هو العلة وهي أن سقوطه عن الحد يوجب السقوط من التبع.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (أنه) ش: أي أن قطع الطريق م:(7/90)
جناية واحدة قامت بالكل، فإذا لم يقع فعل بعضهم موجبا كان فعل الباقين بعض العلة، وبه لا يثبت الحكم فصار كالخاطئ مع العامد.
وأما ذو الرحم المحرم فقد قيل: تأويله إذا كان المال مشتركا بين المقطوع عليهم، والأصح أنه مطلق لأن الجناية واحدة على ما ذكرناه، فالامتناع في حق البعض يوجب الامتناع في حق الباقين، بخلاف ما إذا كان فيهم مستأمن، لأن الامتناع في حقه من وجه خلل في العصمة وهو يخصه، أما هنا الامتناع لخلل في الحرز، والقافلة حرز واحد، وإذا سقط الحد صار القتل إلى الأولياء؛ لظهور حق العبد على ما ذكرناه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(جناية واحدة قامت بالكل، فإذا لم تقع فعل بعضهم موجباً) ش: لكان الشبهة م: (كان فعل الباقين بعض العلة، وبه) ش: أي وبعض العلة م: (لا يثبت الحكم، فصار كالخاطئ مع العامد) ش: كما إذا رمى رجل سهاماً إلى إنسان عمداً ورماه آخر خطأ فأصابه السهمان معاً ومات منهما لا يجب القصاص على العامد لما أن الفعل واحد فيكون فعل المخطئ مورث شبهة في حق العامد.
[ذو الرحم المحرم إذا قطع عليه الطريق ذو رحم منه]
م: (وأما ذو الرحم المحرم فقد قيل تأويله) ش: الذي قاله أبو بكر الرازي الداريسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه قال: تأويل المسألة م: (إذا كان المال مشتركاً بين المقطوع عليهم) ش: قطاع الطريق ذو رحم محرم لا يجب الحد باعتبار نصيب ذوي الرحم، فيصير شبهة في نصيب الباقين، فلا يجب الحد عليهم، لأن المأخوذ شيء واحد، فإذا امتنع في حق أحدهم سبب القرابة يمنع في حق الباقين.
فأما إذا لم يكن المال مشتركاً بينهم فإن لم يأخذ المال إلا من ذي الرحم المحرم فكذلك، وإن أخذوا منه ومن غيره يحدون باعتبار المال المأخوذ من الأجنبي م: (والأصح أنه مطلق) ش: أي محرز على إطلاقه، وإنهم لا يحدون بكل حال، لأن مال جميع العاقلة في حق القطاع شيء واحد؛ لأنه محرز واحد وهو العاقلة م: (لأن الجناية واحدة على ما ذكرناه) ش: أشار به إلى قوله، ولهما أنه جناية واحدة قامت بالكل م: (فالامتناع) ش: بعد، أي امتناع الحد م: (في حق البعض يوجب الامتناع في حق الباقين) ش: لأن بعض العلة يترتب عليه الحكم.
م: (بخلاف ما إذا كان فيهم مستأمن) ش: أي في العاقلة، وهذا جواب سؤال مقدر بأن يقال القطع على المستأمن لا يوجب الحد كالقطع على ذي الرحم المحرم، ثم وجود هذا في العاقلة يسقط الحد، فينبغي أن يسقط الحد وجود المستأمن أيضاً، فأجاب عنه قوله بخلاف المستأمن لوجوده في العاقلة م: (لأن الامتناع في حقه) ش: أي امتناع الحد في القطع على المستأمن م: (من وجه خلل في العصمة) ش: أي في عصمة ماله وهو خاص به، وهو معنى قوله م: (وهو يخصه، أما هنا الامتناع لخلل في الحرز) ش: أي الخلل في العصمة يخص المستأمن م: (والقافلة حرز واحد) ش: والشبهة تمكنت فيه.
م: (وإذا سقط الحد صار القتل إلى الأولياء لظهور حق العبد على ما ذكرناه) ش: أشار به إلى(7/91)
فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا عفوا. وإذا قطع بعض القافلة الطريق على البعض لم يجب الحد؛ لأن الحرز واحد، فصارت القافلة كدار واحدة. ومن قطع الطريق ليلا أو نهارا في المصر أو بين الكوفة والحيرة فليس بقاطع الطريق استحسانا، وفي القياس يكون قاطعا للطريق، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بوجوده حقيقة. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجب إذا كان خارج المصر وإن كان بقربه لأنه لا يلحقه الغوث. وعنه إن قاتلوا نهارا بالسلاح أو ليلا به فهم قطاع الطريق، لأن السلاح لا يلبث، والغوث يبطئ بالليالي. ونحن نقول: إن قطع الطريق بقطع المارة، ولا يتحقق ذلك في المصر ويقرب منه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: لأن الجناية واحدة م: (فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا عفوا) ش: لأن الحق لهم م: (وإذا قطع بعض القافلة الطريق على البعض لم يجب الحد، لأن الحرز واحد، فصارت القافلة كدار واحدة) ش: كما لو سرق من دار سكن السارق فيها، فإذا لم يجب الحد وجب القصاص إن قتل عمداً ورد المال إن أخذه وهو قائم والضمان إن هلك أو استهلك.
م: (ومن قطع الطريق ليلاً أو نهاراً في المصر أو بين الكوفة) ش: أي أو قطع الطريق بين الكوفة م: (والحيرة) ش: وهي التي كان يسكنها النعمان بن المنذر وهي أول منازل الكوفة.
وقال تاج الشريعة: الحيرة بكسر الحاء مدينة على رأس ميل من الكوفة م: (فليس بقاطع الطريق استحساناً، وفي القياس يكون قاطعاً للطريق، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بوجوده حقيقة) ش: أي بوجود القطع من حيث الحقيقة.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجب إذا كان خارج المصر وإن كان بقربه) ش: أي بقرب المصر م: (لأنه لا يلحقه الغوث) ش: وهو اسم من الإغاثة م: (وعنه) ش: أي وعن أبي يوسف، رواه القدوري م: (إن قاتلوا نهاراً) ش: أي في المصر م: (بالسلاح أو ليلاً به) ش: أي أو قاتلوا ليلا بالسلاح أو بالخشب م: (فهم قطاع الطريق) ش: بضم القاف وتشديد الطاء جمع قاطع م: (لأن السلاح لا يلبث) ش: من الألباب م: (والغوث يبطئ بالليالي) ش: والعرب سمى الليالي مستحق القطع.
وبه قال الشافعي، وقال أكثر أصحابنا: يثبت المحاربة في أي موضع لا يلحقه الغوث، وفي الحلية ذكر في " الحاوي " أن القوى التي فعل أهلها حكمها حكم الصحراء بتحقق المحاربة.
وأما الأمصار الكبار فمن قصد نواحيها جهاراً فكذلك، وأما وسط المصر في المواضع التي يتكاثر الناس فيها في أسواقهم ودورهم إذا كسبوا سوقانها ونهبوها أو دوراً فنهبوها فيه وجهان أصحهما أن حكم المحاربين.
م: (ونحن نقول: إن قطع الطريق بقطع المارة ولا يتحقق ذلك في المصر ويقرب منه) ش: أي في(7/92)
لأن الظاهر لحوق الغوث يؤخذون برد المال إيصالا للحق إلى المستحق ويؤدبون ويحبسون لارتكابهم الجناية. ولو قتلوا فالأمر فيه إلى الأولياء لما بينا،
ومن خنق رجلا حتى قتله فالدية على عاقلته عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهي مسألة القتل بالمثقل، وسنبين في باب الديات إن شاء الله تعالى. وإن خنق في المصر غير مرة قتل به، لأنه صار ساعيا في الأرض بالفساد فيدفع شره بالقتل، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المصر م: (لأن الظاهر لحوق الغوث، يؤخذون برد المال إيصالا للحق إلى المستحق، ويؤدبون ويحبسون لارتكابهم الجناية، ولو قتلوا فالأمر فيه إلى الأولياء) ش: قصاصاً أو صلحاً أو عفواً، لأن ظهر حقهم حيث لم يجب الحد م: (لما بينا) ش: أشار به إلى قوله بظهور حق العبد، والفتوى عليه، وقول أبي يوسف لمصلحة الناس، واختاره القفال من أصحاب الشافعي.
[خنق رجلاً حتى قتله]
م: (ومن خنق رجلاً حتى قتله فالدية على عاقلته عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: لأنه يوجب القصاص بالمثقل، أشار إليه بقوله م: (وهي مسألة القتل بالمثقل، وسنبين في باب الديات إن شاء الله تعالى) ش:.
م: (وإن خنق) ش: أي بمصر خنقه، ومصدره الخنق بكسر النون، ولا يقال بالسكون، كذا من الفار إلى م: (في المصر غير مرة) ش: قال الأترازي: خنق بالتشديد سماعاً وتخفيفاً، لأن التفعيل للشر.
قلت: التكثير استفيد من قوله غير مرة، فلا حاجة إلى التشديد م: (قتل به) ش: أي بسبب الخنق م: (لأنه صار ساعياً في الأرض بالفساد فيدفع شره بالقتل) ش: وفي " الكافي " ثقيل سماعه من، لأنه ذو فتنة.
وفي " المحيط ": عشرون، قوله من الطريق وأخذن المال قتلن وضمن المال وبه قالت الثلاثة، ولو كانت فيهم امرأة قتلت وأخذت ولم يقتل الرجال ويقتل الرجال دون المرأة عند أبي حنيفة، وعند الثلاثة تقتل المرأة أيضاً، وعند محمد يسقط الحد عن الرجال أيضاً، خرج قاطعاً للطريق على أن يسلب أموال الناس فاستقبله الناس فقتلوه لا شيء عليهم، ولو قدم رجل من القطاع إلى موضع لا يقدمه على قطع الطريق ثم قتلوه كانت الدية عليهم م: (والله أعلم) .(7/93)
كتاب السير السير: جمع سيرة، وهي الطريقة في الأمور، وفي الشرع تختص بسير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مغازيه. قال: الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به فريق من الناس سقط عن الباقين، أما الفرضية فلقوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة} [التوبة: 36] (التوبة: الآية 36)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب السير]
م: (كتاب السير) ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام م: (السير) ش: وهو م: (جمع سيرة) ش: على ما يذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهي الطريقة) ش: سمي بهذا الكتاب لما فيه من بيان سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والمسلمين، ويقال السيرة فعلة من السيرة، وقد يراد به السير الذي هو قطع المسافة.
وقد يراد به السير في المعاملات، وسميت المغازي سيراً لأن أول أمرها السير إلى العدو؛ لأن المراد بها سير الإمام إلى العدو، ومع الغزاة في المغز أصل السبق حالة السير، إلا أنها غلبت شرعاً على أمور المغازي كالمناسك على أمر الحج، والمغازي جمع غزاة من غزوت العدو وقصدته للقتال غزواً وغزوة وغزاة ومغزاة، وسمي كتاب الجهاد أيضاً لما فيه من بيان المجاهدة مع الأعداء لإعزاز الدين وهدم قواعد المشركين.
وفي " التحفة ": الجهاد شرعاً هو الدعاء إلى الدين الحق والقتال مع من لا يقبله.
فإن قلت: ما المناسبة بين الكتابين.
قلت: المناسبة بينهما في كون كل منهما إخلاء العالم عن المعاصي، وقدم الحدود لأنها أدنى، والترقي يكون من الأدنى إلى الأعلى، وقيل: قدم الحدود لأنها مقابلة مع المسلمين في الأغلب، والجهاد مع المشركين فقدم ما يخص المسلمين.
السير بكسر السين وفتح الياء جمع سيرة.
م: (في الأمور) ش: خيراً كانت أو شراً، ومنه سيرة العمرين، أي طريقتهما م: (وفي الشرع تختص بسير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مغازيه) ش: وقد مر الكلام فيه.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به فريق من الناس سقط عن الباقين) ش: إلى هنا كلام القدوري في مختصره، ثم شرع المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعبره بقوله م: (أما الفرضية فلقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] (التوبة: الآية 36) ش: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مأموراً في الابتداء بالصفح والإعراض عن المشركين، قال الله تعالى(7/94)
ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» وأراد به فرضا باقيا، وهو فرض على الكفاية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] (الحجر: الآية 85) .
وقال: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] الحجر: الآية 94) ، ثم أمر بالدعاء والموعظة والمجادلة بالطريق الأحسن.
قال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] (النحل: الآية 125) ثم أمر بالمجادلة إذا كانت البداية منهم.
فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] (الحج: الآية 39) ، أي أذن لهم بالدفع.
وقال: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] (البقرة: الآية 191) ، ثم أمر بالبداية بالقتال.
قال الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] (التوبة: الآية 5) .
وقال تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12] ، (التوبة: الآية 5) .
ولقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] (الأنفال: الآية 39) .
ولقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] (البقرة: الآية 216) .
معناه فرض عليكم القتال لقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] (البقرة: الآية 183) .
ولقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] (التوبة: الآية 41) .
م: (ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود مطولا في سننه، حدثنا سعيد بن منصور قال أبو معاوية حدثنا جعفر بن برقان عن زيد بن أبي شيبة عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال لا إله إلا الله، ولا يكفره بذنب ولا يخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والإيمان: بالأقدار» وقال المنذري في مختصره: زيد بن أبي شيبة في معنى المجهول، وقال عبد الحق: زيد بن أبي شيبة وهو رجل من بني سليم لم يرو عنه إلا جعفر بن برقان.
م: (وأراد به فرضاً باقياً) ش: هذا تفسير من المصنف لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الجهاد فرض ماض» يعني فرضاً دائماً إلى يوم القيامة، م: (وهو فرض على الكفاية) ش: أي الجهاد فرض كفاية.(7/95)
لأنه ما فرض لعينه، إذ هو إفساد في نفسه، وإنما فرض لإعزاز دين الله ودفع الشر عن العباد، فإذا حصل المقصود بالبعض سقط عن الباقين كصلاة الجنازة ورد السلام، وإن لم يقم به أحد أثم جميع الناس بتركه؛ لأن الوجوب على الكل، ولأن في انشغال الكل به قطع مادة الجهاد من الكراع والسلاح فيجب على الكفاية، إلا أن يكون النفير عاما فحينئذ يصير من فروض الأعيان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أبو بكر الرازي: في شرحه " مختصر الطحاوي ": الجهاد عند أصحابنا فرض على الكفاية مثل غسل الموتى والصلاة عليهم ودفنهم وطلب علم الدين والقيام به وتعليمه.
ويحكى عن ابن شبرمة والثوري أن الجهاد تطوع وليس بواجب. انتهى.
قلت: كذا روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سئل عطاء وعمرو بن دينار أن الغزو واجب، قالا: ما علمناه واجباً، وقالوا: قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] للندب كما في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] (البقرة: الآية 180) ، وعند أكثر أهل العلم فرض على الكفاية إلا ابن المسيب، فإنه قال فرض عين لعمومات في النصوص.
م: (لأنه) ش: أي لأن الجهاد م: (ما فرض لعينه إذ هو إفساد في نفسه) ش: لأنه تعذيب عباده وتخريب بلاده م: (وإنما فرض لإعزاز دين الله ودفع الشر عن العباد) ش: وإليه الإشارة في قَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] (الأنفال: الآية 39) م: (فإذا حصل المقصود بالبعض) ش: أي ببعض الناس، والمقصود هو الذي ذكره من إعزاز دين الله ودفع الشر عن عباد الله م: (سقط عن الباقين كصلاة الجنازة ورد السلام) ش: فإن البعض إذا قام بها سقط عن الباقين.
م: (وإن لم يقم به أحد) ش: أي بهذا الفرض الذي هو سمي فرض كفاية م: (أثم جميع الناس بتركه، لأن الوجوب على الكل) ش: أي كل الناس م: (ولأن في انشغال الكل به) ش: وفي بعض النسخ في اشتغال الكل به أي اشتغال كل الناس، أي بالجهاد م: (قطع مادة الجهاد من الكراع) ش: والمراد به الخيل هاهنا.
والكراع كراع الشاة والبقرة م: (والسلاح) ش: أي وقطع مادة الجهاد بالسلاح، فإذا انقطعت مادة الجهاد ينقطع الجهاد، فينبغي أن يقوم بعض الناس بالجهاد وبعض بتحصيل أسبابه من التجارة والزراعة والحرف التي يحصل بها آلات الجهاد، فإذا كان الأمر كذلك م: (فيجب على الكفاية) ش: حتى إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
م: (إلا أن يكون النفير عاماً) ش: استثناء من قوله فيجب على الكفاية، أي يجب الجهاد على الكفاية إلا إذا كان النفير عاماً بأن لا يندفع شر الكفارة إذا هجموا ببعض المسلمين م: (فحينئذ يصير من فروض الأعيان) ش: فيفترض على كل واحد.(7/96)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {انفروا خفافا وثقالا} [التوبة: 41] (التوبة: الآية 41) ،
وقال في " الجامع الصغير " الجهاد واجب إلا أن المسلمين في سعة حتى يحتاج إليهم، فأول هذا الكلام على أن الجهاد يجب على الكفاية، وآخره إلى النفير العام، وهذا لأن المقصود عند ذلك لا يتحصل إلا بإقامة الكل فيفرض على الكل. وقتال الكفار واجب وإن لم يبدءوا للعمومات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيقاتل العبد بدون إذن سيده، والمرأة بدون إذن الزوج م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] (التوبة: الآية 41) ش: أي ركباناً ومشاة، وشباباً وشيوخاً، ومهازيل وسماناً، وصحاحاً ومراضاً، يقال: نفر إلى العدو ونفر أو نفير أي خرج، وقيل خراباً ومتأهلين، وقيل أغنياء وفقراء.
واعترض بأن الآية عامة فما وجه تخصيصه بالنفير العام، فكيف خص به، وأجيب: بأنها لو لم يختص بها لوقع الناس في حرج، ولأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يخرج مع كثير من أهل المدينة ولو كان فرض عين لم يدع أحداً منهم.
[حكم الجهاد]
م: (وقال في " الجامع الصغير ") ش: أي محمد: م: (الجهاد واجب، إلا أن المسلمين في سعة حتى يحتاج إليهم، فأول هذا الكلام) ش: أي أول كلام محمد في آخر الكتاب في الجامع الصغير م: (على أن الجهاد يجب على الكفاية) ش: وأراد بأول الكلام قوله: الجهاد واجب، إلا أن المسلمين في سعة.
وذلك لأنه قال: إنهم في سعة، يعني يسع لبعضهم تركه إذا حصلت الكفاية بالآخرين م: (وآخره) ش: أي آخر كلامه أشار م: (إلى النفير العام) ش: لأنه قال: حتى يحتاج إليهم، يعني إذا احتيج إليهم في النفير العام يكون لهم سعة في ترك الجهاد حينئذ م: (وهذا) ش: إيضاح لما قبله من وجوب الجهاد على الكل عند النفير العام.
م: (لأن المقصود عند ذلك) ش: أي عند النفير العام م: (لا يتحصل إلا بإقامة الكل) ش: أي كل الناس، فإن كان كذلك م: (فيفرض) ش: أي الجهاد م: (على الكل) ش: أي على كل الناس.
م: (وقتال الكفار واجب وإن لم يبدؤوا) ش: يعني الكفار الذين امتنعوا عن قبول الإسلام وعن أداء الجزية يجب قتالهم وإن لم يبدؤونا بالقتال. وكذا يجوز قتالهم في الأشهر الحرم، وقال الثوري: لا يجوز قتالهم حتى يبدؤونا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] وقال عطاء: لا يجوز في الأشهر الحرم م: (للعمومات) ش: أي للعمومات الواردة في ذلك من الآية والأخبار لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [النساء: 66] وقوله: وَقَاتِلُوا أي الكفار، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» ، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» .
فإن قيل: العمومات متعارضة فقوله تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] (البقرة: الآية 191)(7/97)
ولا يجب الجهاد على الصبي؛ لأن الصبا مظنة المرحمة، ولا عبد ولا امرأة لتقدم حق المولى والزوج، ولا أعمى ولا مقعد ولا أقطع لعجزهم، فإن هجم العدو على بلد وجب على جميع الناس الدفع، تخرج المرأة بغير إذن زوجها، والعبد بغير إذن المولى؛ لأنه صار فرض عين وملك اليمين ورق النكاح لا يظهر في حق فروض الأعيان كما في الصلاة والصوم، بخلاف ما قبل النفير، لأن بغيرهما مقنعا فلا ضرورة إلى إبطال حق المولى والزوج. ويكره الجعل ما دام للمسلمين فيء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهذا يدل على أن قتالهم إنما يجب إذا بدؤونا بالقتال كما قاله الثوري، وأجيب: بأنه منسوخ بقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] (الأنفال: الآية 39) ، وبقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] (التوبة: الآية 29) .
[الجهاد على الصبي]
م: (ولا يجب الجهاد على الصبي، لأن الصبا) ش: بكسر الصاد وفتح الباء م: (مظنة المرحمة) ش: قال ابن الأثير: المظنة بكسر الظاء موضع الشيء ومعدنه مفعلة من الظن بمعنى العلم، وكان القياس فتح الظاء، وإنما كسرت لأجل الهاء م: (ولا عبد) ش: أي ولا يجب على عبد م: (ولا امرأة لتقدم حق المولى والزوج ولا أعمى ولا مقعد ولا أقطع لعجزهم) ش: وهذا كله بإجماع الأربعة، وقال صاحب الديوان: المقعد الأعرج.
م: (فإن هجم العدو) ش: من قولهم هجمت على القوم إذا دخلت عليهم، وفي المغرب الهجوم الإتيان بغتة، والدخول من غير آن م: (على بلد وجب على جميع الناس الدفع، تخرج المرأة بغير إذن زوجها والعبد) ش: أي يخرج العبد م: (بغير إذن المولى، لأنه صار فرض عين) ش: على جميع الناس.
م: (وملك اليمين) ش: في العبد والجارية م: (ورق النكاح) ش: في الزوجة م: (لا يظهر في حق فروض الأعيان) ش: وأراد بذلك أن الفروض المعينة مقدمة على حق السيد والزوج م: (كما في الصلاة والصوم) ش: فإنها مقدمة على حقهما.
م: (بخلاف ما قبل النفير، لأن بغيرهما) ش: أي بغير العبد والمرأة م: (مقنعاً) ش: أي كفاية، وهاهنا حق السيد والزوج لعدم الاحتياج إليهما م: (فلا ضرورة إلى إبطال حق المولى والزوج) ش: بغير ضرورة.
م: (ويكره الجعل) ش: بضم الجيم وسكون العين، وهو ما جعل من شيء للإنسان على شيء يفعله، والمراد هنا ما أخرجه الإمام للغزاة على الناس فيما يجعل به التقوي للخروج إلى الحرب م: (ما دام للمسلمين فيء) ش: اسم المال المصاب من الكفار بغير قتال كالخراج.
والجزية والغنيمة ما يصاب منهم بالقتل، يعني إذا كان في بيت المال، لأن بيت المال ما(7/98)
لأنه يشبه الأجر، ولا ضرورة إليه، لأن بيت المال معد لنوائب المسلمين. فإذا لم يكن فلا بأس بأن يقوي بعضهم بعضا، لأن فيه دفع الضرر الأعلى بإلحاق الأدنى، يؤيده «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخذ دروعا من صفوان وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يغزي الأعزب عن ذي الحليلة ويعطي الشاخص فرس القاعد» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يتقوى به الناس للخروج إلى الغزاة يعطيهم الإمام من ذلك المال، لأن بيت المال معد لنوائب المسلمين، ويكره مع وجود ذلك الجعل الذي ذكرناه، لأن فيه شبهة الأجرة، وهو معنى قوله م: (لأنه يشبه الأجر) ش: لأن الجهاد حق الله تعالى، ولا يجوز أخذ الأجرة عليه، فإذا تمحض أجره كان حراماً، وإذا أشبهها كان مكروهاً، وهو إلى الحرام أقرب. م: (ولا ضرورة إليه) ش: أي إلى الجعل م: (لأن بيت المال معد لنوائب المسلمين) ش: والنوائب جمع نائبة، وهي ما ينصب الإنسان أي يترك به من المهمات والحوادث وقد نابه ينوبه نوباً.
م: (فإذا لم يكن) ش: في بيت المال شيء م: (فلا بأس أن يقوي بعضهم بعضا، لأن فيه) ش: أي فيما إذا قوى بعضهم بعضاً م: (دفع الضرر الأعلى) ش: وهو شر الكفرة م: (بإلحاق الأدنى) ش: أي الضرر الأدنى، والمعنى دفع الضرر العام بالنص والخاص مجمل م: (يؤيده) ش: أي يؤيد ذلك م: (أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخذ دروعاً من صفوان) ش: هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي عن شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن أبيه صفوان بن أمية أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «استعار منه دروعاً يوم حنين، فقال: أغصبت يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة» .
م: (وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يغزي الأعزب عن ذي الحليلة ويعطي الشاخص فرس القاعد) ش: هذا رواه ابن أبي شيبة وإسناده إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولفظه: كان عمر يغزي العزب ويأخذ فرس المقيم ويعطيه للمسافر، وأخرجه ابن سعد في " الطبقات "، ولفظه كان يغزي الأعزب عن ذي الحليلة ويغزي الفارس عن الفارس القاعد. قوله: غزا من الإغزاء، يقال أغزى الأمير الجيش إذا بعثه إلى العدو، والأعزب الذي لا امرأة له، ووقع في بعض النسخ الأعزب بالألف واللام، ووقع في نسخة شيخنا العزب بدون الألف واللام، وهو الصحيح.
وقال في " المغرب ": رجل عزب بالتحريك لا زوجة له ولا يقال له أعزب وقال ابن الأثير أيضا: يقال: رجل عزب ولا يقال أعزب، وحليلة الرجل امرأته.
والشاخص: اسم فاعل من شخص من مكان على مكان إذا صار في ارتفاع، فإذا صار في حدود فهو حائط، كذا قاله ابن دريد، وشخص الرجل ببصره إذا أحد النظر رافعاً طرفه إلى السماء، ولا يكون الشاخص إلا كذلك، والمراد هنا الأول أعني الذي يذهب إلى العدو.(7/99)
باب كيفية القتال وإذا دخل المسلمون دار الحرب فحاصروا مدينة أو حصنا دعوهم إلى الإسلام لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قاتل قوما حتى دعاهم إلى الإسلام» فإن أجابوا كفوا عن قتالهم؛ لحصول المقصود، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله ... » الحديث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب كيفية القتال]
م: (باب كيفية القتال)
ش: أي هذا باب في بيان كيفية القتال، لما فرغ من بيان فرضية القتال وشرائطه، شرع في بيان كيفيته. م: (وإذا دخل المسلمون دار الحرب فحاصروا مدينة أو حصناً) ش: يقال حاصروا العدو إذا أحاط به وضيق عليه، والمدينة هي البلدة العظيمة من مدن بالمكان إذا أقام به، فعلى هذا هي فعيلة، وقيل مفعلة من قولهم دنيت أي ملكت ولاية يقال لها مدينة، ذكره في " الجمهرة "، والحصن معروف.
وقال الكاكي: والحصن بالكسر كل مكان مجمر محرز لا يتوصل إلى ما في جوفه، فالمدينة أكبر من الحصن م: (دعوهم إلى الإسلام لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قاتل قوماً حتى دعاهم إلى الإسلام» ش: هذا الحديث رواه عبد الرزاق في " مصنفه "، حدثنا سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن أبيه عن ابن عباس قال: «ما قاتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوماً حتى دعاهم» ورواه الحاكم في " مستدركه " وقال: حديث صحيح الإسناد، ورواه أحمد أيضاً في " مسنده " والطبراني في " معجمه "، وفي هذا الباب أحاديث كثيرة، عند أحمد عن ذرين بن سبلة، وعند عبد الرزاق أيضاً عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعند الطبراني عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعند أحمد أيضاً عن سليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (فإن أجابوا) ش: أي فإن أجابوا إلى الإسلام م: (كفوا عن قتالهم) ش: أي امتنعوا وكف جاء لازماً ومتعدياً، فعلى الأول بفتح الكاف، وعلى الثاني بضمها ويجوز الفتح أيضاً على معنى منعوا أنفسهم عن قتالهم م: (لحصول المقصود) ش: وهو إعلاء كلمة الله تعالى وإظهار الدين في بلاد الكفر، ثم أكد المصنف قوله كفوا عن قتالهم بقوله م: (وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» ... الحديث) ش: هذا الحديث روي عن أبي هريرة أخرجه البخاري ومسلم عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني(7/100)
وإن امتنعوا دعوهم إلى أداء الجزية، به أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمراء الجيوش ولأنه أحد ما ينتهي به القتال على ما نطق به النص وهذا في حق من يقبل منه الجزية ومن لا يقبل منه كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب لا فائدة في دعائهم إلى قبول الجزية، لأنه لا يقبل منهم إلا الإسلام، قال الله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] فإن بذلوها فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنما بذلوا الجزية لتكون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله» . وفي لفظ مسلم: «حتى يشهد أن لا إله إلا الله ويؤمن بربي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» . وروي عن عمر أيضاً أخرجاه عنه أيضاً، وروي عن جابر أيضاً أخرجه مسلم عن أبي الزيد عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» ... بلفظ حديث أبي هريرة، وزاد ثم قرأ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21] {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] (الغاشية: الآية 21 - 22) .
وحديث أبي هريرة الأول في قوم لا يوحدون الله عز وجل، أما اليهود والنصارى فما لهم يقروا برسالته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بعد التوحيد ولم يبرءوا من دينهم فلا يحكم بإسلامهم لأنهم يقولون: إن محمداً رسول الله إلى العرب دوننا ويدل عليه لفظ مسلم المذكور قوله: «إلا بحقها» قوله: «وحسابهم على الله» يعني فما أسروا في قلوبهم.
[امتناع المحاصرون من الكفار عن قبول الدعوة]
م: (وإن امتنعوا) ش: أي عن الإسلام م: (دعوهم إلى أداء الجزية، به) ش: أي بالدعاء إلى الجزية م: (أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمراء الجيوش) ش: هذه قطعة من حديث مطول أخرجه الجماعة إلا البخاري عن سليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ... » الحديث.
وفيه «فاسألهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ... » الحديث، والجيش - الجند - يسيرون لحرب من جاشت القدر إذا غلت، قاله تاج الشريعة وأخذه من " المغرب ".
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الدعاء إلى الجزية م: (أحد ما ينتهي به القتال على ما نطق به النص) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] (التوبة: الآية 29) ، م: (وهذا) ش: إشارة إلى الدعاء الذي يدل عليه قوله ادعوهم إلى الجزية م: (في حق من يقبل منه الجزية ومن لا يقبل منه كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب لا فائدة في دعائهم إلى قبول الجزية، لأنه لا يقبل منهم إلا الإسلام، قال الله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] (الفتح: الآية 16) ش: أي إلى أن يسلموا.
قال م: (فإن بذلوها) ش: بالذال المعجمة، أي فإن قبلوها، أي الجزية، والمراد من البذل القبول على ما يأتي الآن، لأن القتال منهي بمجرد القبول قبل وجود الإعطاء والبذل بالإجماع م: (فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنما بذلوا الجزية لتكون(7/101)
دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا والمراد بالبذل القبول، وكذا المراد بالإعطاء المذكور فيه في القرآن، والله أعلم
ولا يجوز أن يقاتل من لم تبلغه الدعوى إلى الإسلام إلا أن يدعوه؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في وصية أمراء الأجناد: «فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله» ولأنهم بالدعوى يعلمون أنا نقاتلهم على الدين لا على سلب الأموال وسبي الذراري فلعلهم يجيبون، فنكفى مؤنة القتال. ولو قاتلهم قبل الدعوة أثم للنهي ولا غرامة لعدم العاصم وهو الدين أو الإحراز بالدار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دمائهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا) ش: هذا غريب، وكيف يقول الأترازي وقد صح عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إنما بذلوا الجزية ... إلى آخره.
نعم أخرج الدارقطني في " سننه " عن الحكم عن حسين عن أبي الجنوب عن عبد الله بن عبد الله مولى هاشم قال: قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا، ودينه كديننا، ومع هذا هو أيضاً ضعيف، قال الدارقطني أبو الجنوب ضعيف.
م: (والمراد بالبذل) ش: أي في قول القدوري، فإن بذلوها م: (القبول، وكذا المراد بالإعطاء المذكور فيه) ش: قال الأترازي: أي في الجزية، وتذكير الضمير على تأويل المذكور.
قلت: لو قال أي في أداء الجزية لما احتاج إلى التأويل المذكور م: (في القرآن، والله أعلم) ش: هو قوله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] .
[قتال من لم تبلغه الدعوة إلى الإسلام]
م: (ولا يجوز أن يقاتل من لم تبلغه الدعوى إلى الإسلام إلا أن يدعوه) ش: أي يدعو من لم تبلغه الدعوى م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (في وصية أمراء الأجناد: «فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله» ش: وهذا الحديث من حديث بريدة المطول، وقد مر بعضه عن قريب الذي رواه الجماعة غير البخاري.
م: (ولأنهم بالدعوى يعلمون أنا نقاتلهم على الدين لا على سلب الأموال وسبي الذراري فلعلهم يجيبون فنكفى مؤنة القتال) ش: فنكفى على صيغة المجهول، ومؤنة القتال بالنصب على أنه مفعول ثان م: (ولو قاتلهم قبل الدعوة أثم للنهي) ش:، هو ما رواه عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا عمر بن ذر بن يحيى بن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له حين بعثه: " لا تقاتل قوماً حتى تدعوهم» ، انتهى.
والدعوة بالفتح إلى الطعام وبالكسر في النسب قال الجوهري: وقيل بالضم في الحرب م: (ولا غرامة لعدم العاصم) ش: يعني لا غرامة بواجبه بفعل قبل الدعوى، وإن كان فيه الإثم لعدم العاصم عن الغرامة.
وقال الكاكي: ولا غرامة للإتلاف من الأموال والدماء - لعدم العصمة - مقومة م: (وهو الدين) ش: أي العاصم وهو الذمي م: (أو الإحراز بالدار) ش: وقال الشافعي يضمن لحرمة(7/102)
فصار في قتل الصبيان والنسوان،
ويستحب أن يدعو من بلغته الدعوة مبالغة في الإنذار، ولا يجب ذلك لأنه صح «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغار على بني المصطلق وهم غارون» «وعهد إلى أسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يغير على أبنى صباحا ثم يحرق»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القتال، قلنا الحرمة بالدين أو بالإحراز بالدار ولم يوجد م: (فصار) ش: حكم هذا كالصبيان والنسوان، أي كما لا غرامة م: (في قتل الصبيان والنسوان) ش: فإنه لا قصاص ولا دية وإن كان ورد في قتلهم.
[قتال من بلغته الدعوة]
م: (ويستحب أن يدعو) ش: أي الإمام أو رأس الجيش أو السرية م: (من بلغته الدعوة مبالغة في الإنذار) ش: لأنها ربما تنفع فانتقلت ميال إلى النجاس م: (ولا يجب ذلك) ش: أي دعاء من يلقنه الدعوة م: (لأنه صح «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغار على بني المصطلق وهم غارون» ش: هذا أخرجه البخاري عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع أساله عن الدعاء قبل القتال.
قلت: إنما كان ذلك في أول الإسلام قد «أغار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تستقى من الماء فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث، حدثني عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وكان في ذلك الجيش» .
وقال المنذري في " حواشيه ": غارون بتشديد الراء، هكذا قيده غير واحد، وقال الفارسي: أظنه غادون بالدال المهملة المخففة، فإن صحت رواية الراء فوجهه أنهم ذو غرة، أي أتاهم الجيوش على غرة منهم، فإن الغار هو الذي يغر غرة فلا وجه له هنا، هذا الذي قاله فيه تكلف، فإن معنى غارون هنا غافلون.
قال الجوهري وغيره: الغار الغافل، والغرة الغفلة، وبنو المصطلق بضم الميم وسكون الصاد المهملة وفتح الطاء المهملة وكسر اللام، وفي آخره قاف، وهو لقب من الصلاة، وهو رفع الصوت، وأصله مصتلق، فأبدلت التاء من الطاء لأجل الصاد، واسمه خزيمة بن سعد بن عمرو ابن ربيعة بن حارثة بطن من خزاعة.
م: (وعهد إلى أسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يغير على أبنى صباحاً ثم يحرق) ش: هذا أخرجه أبو داود وابن ماجه عن صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن عرق «عن أسامة بن زيد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عهد إليه فقال: أغير على أبنى صباحاً وحرق» قوله عهد إلى أسامة أي أوصاه، وأسامة بن زيد بن حارثة مولى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمه أم أيمن حاضنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأسامة وأيمن أخوان، ومات أسامة بالمدينة، ولما مات النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان أسامة ابن عشرين سنة، وأُبْنَى بضم الهمزة وسكون الباء الموحدة وفتح النون مقصور على وزن حبلى، ويقال أبني بالياء آخر الحروف المضمومة مع ضم الهمزة.(7/103)
والغارة لا تكون بدعوة. فإن أبوا ذلك استعانوا بالله عليهم وحاربوهم، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث سليمان بن بريدة: «فإن أبوا ذلك فادعهم إلى إعطاء الجزية إلى أن قال: فإن أبوها فاستعن بالله عليهم وقاتلهم» ولأنه تعالى هو الناصر لأوليائه والمدمر على أعدائه فيستعان بالله في كل الأمور، قال: ونصبوا عليهم المجانيق كما نصب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الطائف وحرقوهم، لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأترازي: موضع بالشام وهو فلسطين، والأصح أنه عن فلسطين بين الرملة وعسقلان م: (والغارة لا تكون بدعوة) ش: لأن فيها ستر الأمر والإسراع والغارة اسم مصدر للإغارة الذي هو مصدر أغار الثعلب إذا أسرع في العدو.
م: (فإن أبوا ذلك) ش: أي فإن امتنعوا عن الجزية م: (استعانوا بالله عليهم وحاربوهم لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - م: (في حديث سليمان بن بريدة: «فإن أبوا ذلك فادعهم إلى إعطاء الجزية ... إلى أن قال: فإن أبوها فاستعن بالله عليهم وقاتلهم» ش: قد تقدم حديث سليمان بن بريدة عن قريب، وهو حديث طويل، وفيه «فإن هم أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم
» الحديث.
م: (ولأنه تعالى هو الناصر لأوليائه والمدمر على أعدائه) ش: أي المهلك وهو اسم فاعل من التدمير والأصوب المدمر أعداءه كما في قَوْله تَعَالَى: {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان: 36] (الفرقان: الآية 36) .
م: (فيستعان بالله في كل الأمور) ش: فيستعان على صيغة المجهول، وأمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث سليمان بن بريدة بالاستعانة أيضاً، حيث قال «فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم» .
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ونصبوا عليهم المجانيق) ش: وهو جمع منجنيق م: (كما نصب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الطائف) ش: هكذا ذكر الترمذي في الاستئذان مفصلا ولم يصل سنده، فقال: ففيه حديث وكيع عن رجل عن ثور بن يزيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نصب المنجنيق على الطائف» قال قتيبة قلت لوكيع: من هذا الرجل؟ قال صاحبكم عمر بن غارون، ورواه أبو داود في " المراسيل " عن مكحول أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصب على الطائف.
ورواه ابن سعد في " الطبقات " عن مكحول وزاد أربعين يوماً، ورواه العقيلي في " الضعفاء " مستنداً عن محمد من حديث عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب عن أبي صادق عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نصب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنجنيق فنصب على حصن الطائف» ويقال قدم بالمنجنيق يزيد بن ربيعة، وقيل غيره.
م: (وحرقوهم) ش: كلام القدوري في " مختصره "، وعلله المصنف بقوله م: (لأنه عليه(7/104)
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أحرق البويرة. وأرسلوا عليهم الماء وقطعوا أشجارهم وأفسدوا زروعهم، لأن في جميع ذلك إلحاق الكبت والغيظ بهم وكسر شوكتهم وتفريق جمعهم فيكون مشروعا،
ولا بأس برميهم وإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر، لأن في الرمي دفع الضرر العام بالذب عن بيضة الإسلام، وقتل الأسير والتاجر ضرر خاص، ولأنه قلما يخلو حصن عن مسلم، فلو امتنع باعتباره لانسد بابه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلام) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (أحرق البويرة) ش: وهذا أخرجه الأئمة الستة عن الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع نخل بني النضير وحرق وهي البويرة» .... الحديث.
م: (وأرسلوا عليهم الماء وقطعوا أشجارهم، وأفسدوا زروعهم) ش: كل ذلك من كلام القدوري، وقال الشافعي - في قول، وأحمد - في رواية - لا يفعلون ذلك إلا إذا كان الكفار يفعلون ذلك، وعلل المصنف بقوله م: (لأن في جميع ذلك إلحاق الكبت) ش: وهو الذل والهوان.
وقال الأترازي: يقال كبته الله أي أهلكه، والمعنى الملائم ما ذكرناه م: (والغيظ بهم وكسر شوكتهم وتفريق جمعهم فيكون مشروعاً) ش:.
م: (ولا بأس برميهم وإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر، لأن في الرمي دفع الضرر العام بالذب) ش: بالذال المعجمة وتشديد الباء، يقال ذب عنه يذب ذباً إذا منع عنه م: (عن بيضة الإسلام) ش: أي عن مجتمع الإسلام.
وفي " المغرب " مجتمع أهل الإسلام يسمى أهل الإسلام بيضة تشبيهاً لبيضة النعامة وغيرها، لأن تلك مجتمع الولد م: (وقتل الأسير والتاجر ضرر خاص) ش: وفي الرمي عليهم دفع ضرر عام فيحتمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
وروي عن الحسن بن زياد أنه إذا كان فيهم مسلم تاجر مستأمن أو أسير أو من أسلم منهم أنه لا يجوز، لأن قتل المسلم حرام، وقتل الكافر مباح، والمحرم مع المبيح إذا اجتمعا، فالرجحان للمحرم، وإن قتل المسلم لا يجوز الإقدام عليه، وقتل الكافر يجوز تركه، ألا ترى أن للإمام أن لا يقتل الأسارى لمنفعة المسلمين، فكان مراعاة جانب المسلمين أولى، ورد عليه بأن قتالهم فرض بالنص، فلو كان هذا العارض معتبراً للآدمي إلى سد باب الجهاد، فلا يجوز ذلك لأنه ماض إلى يوم القيامة.
م: (ولأنه قلما يخلو حصن من مسلم، فلو امتنع باعتباره) ش: أي فلو امتنع الرمي باعتبار المسلم التاجر أو الأسير م: (لانسد بابه) ش: أي باب الجهاد فلا يعتد به، تحقيقه أن الرمي إليهم(7/105)
وإن تترسوا بصبيان المسلمين أو بالأسارى لم يكفوا عن رميهم لما بينا، ويقصدون بالرمي الكفار، لأنه إن تعذر التمييز فعلا فلقد أمكن قصدا، إذ الطاعة بحسب الطاقة، وما أصابوه منهم لا دية عليهم ولا كفارة، لأن الجهاد فرض، والغرامات لا تقرن بالفروض، بخلاف حالة المخمصة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جائز وإن كان فيهم نساؤهم وصبيانهم، فكذا إذا كان مسلماً، والجامع كون من لا يجوز قتله فيهم.
م: (وإن تترسوا) ش: أي وإن استتروا، يقال تترس بالترس إذا توقى م: (بصبيان المسلمين أو بالأسارى لم يكفوا عن رميهم لما بينا) ش: أشار به إلى قوله: لانسد باب الجهاد، وقال الشافعي: إذا فعلوا ذلك لم يجز أن يبدأهم بالرمي.
فإن بدؤونا جاز الرمي، ويقال للرامي اجتهد في إصابة المشرك وتجنب المسلم، وبقوله قال مالك وأحمد، وعن الشافعي لا يجوز ذلك إذا لم يأت بضرب المسلم.
م: (ويقصدون بالرمي الكفار؛ لأنه إن تعذر التمييز فعلا فقد أمكن قصداً إذ الطاعة بحسب الطاقة) ش: لأن الله عز وجل لا يكلف نفساً إلا وسعها م: (وما أصابوه منهم) ش: أي وما أصاب المسلمين من صبيان المسلمين وأسراهم الذين تترس المشركون بهم م: (لا دية عليهم ولا كفارة) ش: أي لا يجب عليهم الدية ولا الكفارة.
وعند الشافعي تجب الكفارة قولاً واحداً، وفي الدية فقولان، وفي " التهذيب " لو رمي في غير حال الضرورة وهو يعلم أنه مسلم يجب القود، وإن ظنه كافراً فلا قود وتجب الكفارة، وفي الدية قولان: وعن المزني: إن علم أنه مسلم ورمى للضرورة يجب الدية، قال أبو إسحاق إن قصده لزمته الدية علم أنه مسلم أو لا، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ليس في الإسلام دم مفرج» بالجيم، وقيل بالحاء المهملة أي مبطل دمه، وإن لم يقصده بعينه، بل رمى إلى الصف لم يلزمه الدية، كذا في " شرح الوجيز ".
م: (لأن الجهاد فرض، والغرامات لا تقرن بالفروض) ش: أي الإتيان بالفروض، لا يقرن به الغرامات، لأن الفرض مأمور به، وسبب الغرامات عدوان محض منهي عنه وبين الأمرين منافاة.
فإن قلت: هذا تعليل في مقابل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ليس في الإسلام دم مفرج» ، والتعليل في مقابلة النص باطل.
قلت: هذا عام خص منه البغاة وقطاع الطريق، فتخص صورة النزاع بما قلنا.
م: (بخلاف حالة المخمصة) ش: هذا جواب عما قاس عليه الحسن، وقال إطلاق الرمي(7/106)
لأنه لا يمتنع مخافة الضمان لما فيه من إحياء نفسه، أما الجهاد فمبني على إتلاف النفس فيمتنع حذر الضمان.
ولا بأس بإخراج النساء والمصاحف مع المسلمين إذا كان عسكرا عظيما يؤمن عليه، لأن الغالب هو السلامة، والغالب كالمتحقق. ويكره إخراج ذلك في سرية لا يؤمن عليها، لأن فيه تعريضهن على الضياع والفضيحة، وتعريض المصاحف على الاستخفاف فإنهم يستخفون بها مغايظة للمسلمين وهو التأويل الصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لضرورة إقامة الجهاد لا ينفي الضمان كتفاؤل حال الغير حالة المخمصة لمكان الضرورة، ويجب الضمان، تقدير الجواب أن حالة المخمصة بخلاف هذا م: (لأنه) ش: أي لأن صاحب المخمصة م: (لا يمتنع) ش: عن أكل مال الغير م: (مخافة الضمان) ش: أي لأجل الخوف عن الغرامة م: (لما فيه) ش: أي في أكل مال الغير م: (من إحياء نفسه) ش: وهو منعة عظيمة يتحمل بسببها بدل الضمان م: (أما الجهاد فمبني على إتلاف النفس) ش: أي نفس الكفار، وقد يكون فيهم مسلمون م: (فيمتنع) ش: أي عن الجهاد الفرض م: (حذر الضمان) ش: أي لأجل قدرة عن الضمان، وهو منصوب على أنه مفعول له وذا عن الجواز كما لا يجوز وجوب الدية.
والكفارة على الإمام فيما إذا مات الزاني من جلده أو رجمه، ولو وجب لامتنع عن القضاء ولا يتقلده أحد، ويجوز أن يكون المعنى أن الجهاد مبني على إتلاف النفس مطلقاً، لأن المجاهد إما أن يقتل وقد يصارف المسلم أو يقتل، فلو ألزمنا الضمان امتنع من الجهاد والفرض، لكونه خاسراً في الحالتين، بخلاف ما إذا لم يضمن.
[إخراج النساء والمصاحف مع المسلمين في الجهاد]
م: (ولا بأس بإخراج النساء والمصاحف مع المسلمين إذا كان عسكراً عظيماً يؤمن عليه) ش: أي على العسكر أو على إخراج النساء والمصاحف م: (لأن الغالب هو السلامة والغالب كالمتحقق، ويكره إخراج ذلك في سرية) ش: وهي عدد قليل يسيرون بالليل ويسكنون بالنهار، ذكره في " المبسوط ".
وقال محمد في " السير الكبير ": أفضل ما يبعث في السرية أدناه ثلاثة، ولو بعث بما دونه جاز، وعن أبي حنيفة أقل السرية مائة، وقال الحسن بن زياد من قول نفسه أقل السرية أربعمائة، وأقل الجيش أربعة آلاف.
وفي " فتاوى قاضي خان " ذكر قول الحسن قول أبي حنيفة م: (لا يؤمن عليها) ش: أي على السرية لقلتهن م: (لأن فيه) ش: أي في إخراج ذلك م: (تعريضهن) ش: أي تعريض النساء م: (على الضياع والفضيحة، وتعريض المصاحف على الاستخفاف، فإنهم يستخفون بها مغايظة للمسلمين) ش: أي لأجل غيظهم لهم م: (وهو التأويل الصحيح) ش: أي تعريض المصاحف على الاستخفاف وهو التأويل الصحيح.(7/107)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تسافروا بالقرآن في أرض العدو» .
ولو دخل مسلم إليهم بأمان لا بأس بأن يحمل معه المصحف إذا كانوا قوما يوفون بالعهد، لأن الظاهر عدم التعرض، والعجائز يخرجن في العسكر العظيم لإقامة عمل يليق بهن كالطبخ والسقي والمداواة، فأما الشواب فإقامتهن في البيوت أدفع للفتنة، ولا يباشرن القتال، لأنه يستدل به على ضعف المسلمين إلا عند الضرورة ولا يستحب إخراجهن للمباضعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا تسافروا بالقرآن في أرض العدو» ش: هذا الحديث رواه الجماعة إلا الترمذي من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو، ويخاف أن يقال له لعدو» .
واعلم أن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - حمل الحديث على الجيش الصغير الذي لا يؤمن معه ضياعه والشافعية، معنى ذلك وأخذ المالكية بإطلاقه، وقال القرطبي ولا فرق بين الجيش والسرايا عملاً بإطلاق الحديث، وهو إن كان يقبله العدو له في الجيش العظيم نادراً فشأنه وسقوطه ليس بنادر.
قلت: الظاهر مع المالكية على ما لا يخفى، والمراد بالقرآن في الحديث المصحف، وقد جاء مفسراً في بعض الأحاديث، وأشار إليه البخاري بقوله باب السفر بالمصحف إلى أرض العدو، وفي " المحيط " ويكره إدخال المصاحف وكتب الفقه في سرية، ذكره في " السير الكبير "، وإنما قيد التأويل بالصحيح احترازاً عما قيل: إن النهي كان في ابتداء الإسلام لقلة المصاحف كيلا ينقطع عن أيدي الناس، فأما الآن فقد كثرت فلا بأس بإخراجها مطلقاً، وكذا قال أبو الحسن العمي والطحاوي.
قلت: هذا ظاهر لا يخفى.
م: (ولو دخل المسلم إليهم بأمان لا بأس بأن يحمل معه المصحف إذا كانوا قوماً يوفون بالعهد، لأن الظاهر عدم التعريض، والعجائز يخرجن في العسكر العظيم لإقامة عمل يليق بهن كالطبخ والسقي والمداواة) ش: أي مداواة الجرحى م: (وأما الشواب فإقامتهن في البيوت ادفع للفتنة) ش: وإن كانوا يريدون المباضعة فيخرج بالإماء لا بالحرائر.
م: (ولا يباشرن) ش: أي العجائز م: (القتال، لأنه يستدل به) ش: أي بقتال العجائز م: (على ضعف المسلمين إلا عند الضرورة) ش: وقد روي «أن أم سليم قاتلت يوم خبير ووضعت شارة على بطنها حتى قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مقامها خير من مقام فلان وفلان» ، أي من المنهزمين.
م: (ولا يستحب إخراجهن) ش: أي إخراج النساء الشواب م: (للمباضعة) ش: للجماع م:(7/108)
والخدمة، فإن كانوا لا بد من خروجهن فبالإماء دون الحرائر. ولا تقاتل المرأة إلا بإذن زوجها، ولا العبد إلا بإذن مولاه لما بينا، إلا أن يهجم العدو على بلد للضرورة.
وينبغي للمسلمين أن لا يغدروا ولا يغلوا ولا يمثلوا؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا» ، والغلول السرقة من المغنم، والغدر الخيانة ونقض العهد، والمثلة المروية في قصة العرنيين منسوخة بالنهي المتأخر هو المنقول، ولا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا فانيا ولا مقعدا ولا أعمى، لأن المبيح للقتل عندنا هو الحراب فلا يتحقق منه، ولهذا لا يقتل يابس الشق، والمقطوع اليمنى، والمقطوع يده ورجله من خلاف، والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا في الشيخ والمقعد والأعمى؛ لأن المبيح عنده الكفر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(والخدمة، فإن كانوا لا بد من خروجهن فبالإماء) ش: أي فيخرج الإماء جمع أمة م: (دون الحرائر) ش: جمع حرة.
م: (ولا تقاتل المرأة إلا بإذن زوجها، ولا العبد إلا بإذن مولاه لما بينا) ش: أشار به إلى قوله لتقدم حق الولي والزوج م: (إلا أن يهجم العدو على بلد للضرورة) ش: هذا استثناء من قوله ولا تقاتل المرأة يعني عند الضرورة، وعند الضرورة يقاتلان، الجهاد حينئذ يصير فرض عين.
[محرمات الجهاد ومكروهاته]
م: (وينبغي للمسلمين أن لا يغدروا ولا يغلوا ولا يمثلوا؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا» ش: هذا في حديث سليمان بن بريدة وقد تقدم بعضه، وفيه: «اغزوا ولا تغدورا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا» م: (والغلول السرقة من المغنم، والغدر الخيانة ونقض العهد، والمثلة المروية في قصة العرنيين منسوخة بالنهي المتأخر هو المنقول) ش: هذا كأنه جواب عن سؤال مقدر كأن القائل يقول هذا الحديث يدل على تحريم المثلة، وحديث العرنيين يدل على إباحتها؟ فأجاب بقوله وحديث العرنيين منسوخ بالنهي المتأخر عن حديث العرنيين.
والدليل على تأخر النهي ما رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن عمران بن حصين أنه قال: «ما قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعد ماشل الأركان محطياً على الصدقة وينهانا عن المثلة» وتخصيصه بالذكر في خطبته يدل على تأكد الحرمة، والمثلة من مثلت بالرجل أمثل به مثلاً ومثلة إذا سودت وجهه أو قطعت أنفه أو ما أشبه ذلك ذكره في " الفائق ".
م: «ولا تقتلوا امرأة ولا صبياً ولا شيخاً فانياً ولا مقعداً ولا أعمى» ش: هذا كله من كلام القدوري في مختصره، وعلله المصنف بقوله م: (لأن المبيح للقتل عندنا هو الحراب، فلا يتحقق منه، ولهذا لا يقتل يابس الشق) ش: أي المفلوج، ويراد باليبس بطلان حسه وذهاب حركته لا أنه ميت حقيقة، كذا في " المغرب " م: (والمقطوع اليمين، والمقطوع يده ورجله من خلاف، والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا في الشيخ والمقعد والأعمى؛ لأن المبيح عنده الكفر) ش:(7/109)
والحجة عليه ما بينا، وقد صح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل الصبيان والذراري، وحين رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة مقتولة قال هاه، ما كانت هذه تقاتل فلم قتلت؟!»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي المبيح للقتل عند الشافعي الكفر، هذا في قول عن الشافعي.
وفي قول آخر كقولنا، وبه قال مالك وأحمد وفي شرح " الوجيز " وفي الشيوخ الضعفاء والعميان والزمنى ومقطوعة الأيدي والرجل قولان، في قول: يجوز قتلهم، وبه قال أحمد في رواية، وفي قول: لا يجوز م: (والحجة عليه) ش: أي على الشافعي م: (ما بينا) ش: وهو قوله لا يقتل يابس الشق.
فإن قلت: احتج الشافعي بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم ... » الحديث يروى عن سمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قلت: المراد من الشيوخ الذين يقاتلون توفيقاً بين الحديثين، أو من له رأي في الحرب كما قتل دريد بن الصمة يوم أوطاس وهو ابن مائة وعشرين سنة، لأنه كانوا يأخذون برأيه في الحرب، وقتله ربيعة بن رفيع من المسلمين.
م: (وقد صح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل الصبيان والذراري» ش: هذا حديث غريب بهذا اللفظ ولم يتكلم أحد من الشراح فيه غير أن بعضهم قالوا المراد بالذراري النساء مجازاً باعتبار السبب، إذ النساء سبب لحصول الذراري، ولا يمكن جريه على حقيقته بدليل عطفه على الصبيان.
قلت: هذا التكلف كله لأجل قول المصنف، وقد صح ولم يصح بهذا اللفظ، وإنما الذي صح ما رواه الجماعة، إلا ابن ماجه عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقتوله فنهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل النساء والصبيان» وفي لفظ الشيخين «فأنكر قتل النساء والصبيان» .
م: «وحين رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة مقتولة قال هاه، ما كانت هذه تقاتل فلم قتلت» ش: هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي بإسنادهما إلى رياح بن الربيع قال: «كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلا فقال: انظر على ما اجتمع هؤلاء، فجاء فقال: امرأة قتيل.
فقال ما كانت هذه لتقاتل، وعلى المقدمة خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فبعث رجلاً فقال: قل لخالد لا تقتلن امرأة ولا صبياً» وأخرجه أحمد في " مسنده " وابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه "، وفي لفظه فقال: «هذه ما كانت لتقاتل» . ورياح بالياء آخر الحروف، ويقال بالباء الموحدة.(7/110)
قال: إلا أن يكون أحد هؤلاء ممن له رأي في الحرب، أو تكون المرأة ملكة لتعدي ضررها إلى العباد، وكذا يقتل من قاتل من هؤلاء دفعا لشره، ولأن القتال مبيح حقيقة.
ولا يقتلوا مجنونا، لأنه غير مخاطب إلا أن يقاتل فيقتل دفعا لشره، غير أن الصبي والمجنون يقتلان ما داما يقاتلان وغيرهما لا بأس بقتله بعد الأسر، لأنه من أهل العقوبة لتوجه الخطاب نحوه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الدارقطني: ليس في الصحابة أحد يقال له رياح إلا هذا مع اختلاف فيه، وقال ابن ماكولا: رياح بالياء الموحدة ابن ربيع حنظة الكاتب له صحبة، روى عنه المدفع بن صفي، وقيل فيه: رياح بالياء المعجمة بنقطتين من تحتها، قوله: هاه كلمة تنبيه، والهاء في آخرها ليسكت.
م: (قال: إلا أن يكون أحد هؤلاء ممن له رأي في الحرب) ش: هذا لفظ القدوري في " مختصره " استثناء من قوله: «ولا تقتلوا امرأة ولا صبياً ولا شيخاً فانياً ولا أعمى ولا مقعداً» إلا أن يكون أحد هؤلاء ممن له رأي في الحرب.
وقد نقل المصنف قوله: «ولا تقتلوا امرأة....» إلى آخره، ثم تكلم ما ذكره بعده ثم نقل إسناده بقوله إلا أن يكون إلى آخره، وقال أبو بكر الرازي في كتاب " المرتد " من " شرح الطحاوي "، وأما الشيخ الفاني فأنا أقتله إذا كان ذا رأي في الحرب أو كان كامل العقل، ومثله يقتله إذا ارتد، والذي لا تقتله هو الشيخ الفاني الذي خرف وزال عن حدود العقلاء المميزين.
فهذا حينئذ يكون بمنزلة المجنون والصبي، فلا يقتل إذا كان حربياً، ولا إذا ارتد، وأما الذميون فهم بمنزلة الشيوخ ويجوز قتلهم إذا رأى الإمام ذلك، كما يقتل سائر الناس بعد أن يكونوا عقلاء، ويقتلهم إذا ارتدوا، كذا في " شرح الطحاوي ".
م: (أو تكون المرأة ملكة) ش: هذا أيضاً من جملة كلام القدوري، ذكره بعد قوله: إلا أن يكون أحد هؤلاء ممن له رأي في الحرب م: (لتعدي ضررها) ش: أي لتعدي ضرر المرأة الملكة م: (إلى العباد) ش: باعتبار حكمها م: (وكذا يقتل من قاتل من هؤلاء) ش: أشار به إلى الشيخ الفاني والأعمى والمقعد والمرأة م: (دفعاً لشره) ش: أي يقتل القاتل من هؤلاء لأجل دفع شره عن المسلمين م: (ولأن القتال مبيح حقيقة) ش: أي لأن قتال هؤلاء مبيح لقتالهم من حيث الحقيقة لكفرهم وإيذائهم.
م: (ولا يقتلوا مجنوناً لأنه غير مخاطب، إلا أن يقاتل فيقتل دفعاً لشره، غير أن الصبي والمجنون يقتلان ما داما يقاتلان) ش: دفعاً لشرهما م: (وغيرهما) ش: أي وغير الصبي والمجنون م: (لا بأس بقتله بعد الأسر، لأنه من أهل العقوبة لتوجه الخطاب نحوه) ش: بالعقل والبلوغ، وكذلك الرهابين إذا قاتلوا حيث يباح قتلهم جزاء على قتالهم.
وفي " السير الكبير ": لا يقتل الراهب في صومعة ولا أهل الكنائس الذي لا يخالطون(7/111)
وإن كان يجن ويفيق فهو في حال إفاقته كالصحيح. ويكره أن يبتدئ الرجل أباه من المشركين فيقتله لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وصاحبهما في الدّنيا معروفا} [لقمان: 15] (لقمان: الآية 35) ، ولأنه يجب عليه إحياؤه بالإنفاق عليه فيناقضه الإطلاق في إفنائه، فإن أدركه امتنع عليه حتى يقتله غيره، لأن المقصود يحصل بغيره من غير اقتحامه المأثم، وإن قصد الأب قتله بحيث لا يمكنه دفعه إلا بقتله لا بأس به، لأن مقصوده الدفع، ألا ترى أنه لو شهر الأب المسلم سيفه على ابنه ولا يمكنه دفعه إلا بقتله يقتله لما بينا، فهذا أولى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الناس، فإن خالطوا يقتلون كالقسيس وغيره، وكذلك الراهب إن دل على عورة المسلمين جاز قتله م: (وإن كان) ش: أي المجنون م: (يجن ويفيق فهو في حال إفاقته كالصحيح) ش: يعني يقتل حال إفاقته سواء وجد منه القتال أو لا لكونه مقاتلاً مخاطباً، ولا خلاف فيه للأئمة الأربعة.
م: (ويكره أن يبتدئ الرجل أباه من المشركين فيقتله) ش: بنصب اللام م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] (لقمان: الآية 35) ش: وفي السير الكبير: المراد الأبوان المشركان بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي} [لقمان: 15] (لقمان الآية 35) ، وليس من المعروف أن يقتله أن يتركهما حرزاً للسباع، وروي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - منع أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن قتل أبيه يوم بدر، ولا خلاف عليه.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الابن م: (يجب عليه إحياؤه) ش: أي إحياء أبيه م: (بالإنفاق عليه) ش: والإنفاق سبب الإحياء م: (فيناقضه الإطلاق في إفنائه) ش: أي تناقض الإحياء إطلاقاً وقتل بإفنائه ولزوم المناقض لا يجوز، وقال الأترازي: الإطلاق في إفنائه، أي إفناء الأب م: (فإن أدركه) ش: أي فإن أدرك الابن أباه في الحرب م: (امتنع عليه) ش: أي امتنع الابن عن قتل أبيه وانتفاء عليه بأن يعالجه فيضرب قوائم فرسه ونحو ذلك.
م: (حتى يقتله غيره) ش: أي غير الابن لئلا يلحقه مأثم بمباشرة قتل أبيه، وفي " الذخيرة ": لو ظفر عليه قتل أبيه لا ينبغي أن يقصده بالقتل، ولا ينبغي أن يمكنه من الرجوع حتى لا يعود حرباً علينا، ولكنه يلحقه إلى موضع يتمسك به حق غيره فيقتله، م: (لأن المقصود) ش: أي من يقتله م: (يحصل بغيره) ش: أي بغير الابن م: (من غير اقتحامه الإثم) ش: أي من غير دخوله في الإثم بقتل أبيه.
م: (وإن قصد الأب قتله) ش: أي قتل ابنه م: (بحيث لا يمكنه دفعه) ش: أي بحيث لا يمكن الابن دفع أبيه عنه م: (إلا بقتله لا بأس به) ش: أي يقتله حينئذ م: (لأن المقصود الدفع) ش: عن نفسه م: (ألا ترى أنه لو شهر الأب المسلم سيفه على ابنه) ش: وقد قصد قتل ابنه م: (ولا يمكنه دفعه إلا بقتله يقتله لما بينا) ش: أشار به إلى قوله لأن مقصوده الدفع م: (فهذا أولى) ش: لأنه كان هكذا في الأم والجد والجدة، ولو كان المشرك حالا أن يبتدئ بالقتل، وعند الشافعي يكره أن يقتل ذا(7/112)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رحم محرم من الكفار، وفي الرحم غير المحرم وجهان، في وجه يكره، والثاني لا يكره، وقول مالك وأحمد كقولنا.
وفي " شرح الطحاوي ": وما سوى السوء الدين من ذوي الرحم المحرم فلا بأس بقتله، هذا في الكافر، وأما في أهل الخوارج والبغي فكل ذي رحم محرم كالأب سواء، وأما في الرحم في باب الزنا فإن البداية بالشهود شرط، فلو كان الشاهد هو الولد فلا بأس بأن يرمي ولا يقصد القتل.(7/113)
باب الموادعة ومن يجوز أمانه وإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقا منهم وكان في ذلك مصلحة للمسلمين فلا بأس به؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها وتوكّل على الله} [الأنفال: 61] (الأنفال: الآية 61) ، «ووادع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل مكة عام الحديبية على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الموادعة ومن يجوز أمانه]
م: (باب الموادعة ومن يجوز أمانه)
ش: أي هذا باب في بيان جواز الموادعة أي المصالحة، وسميت المصالحة بالموادعة لأنها مشاركة من الودع، وهو الترك بأن يدع كل واحد فريقي المسلمين والكافرين القتال مع الآخر، وذكر ترك القتال بعد ذكر القتال ظاهر، لأن ترك الشيء يقتضي وجود ذلك الشيء سابقاً لا محالة. قوله: ومن يجوز أمانه، أي في بيان من يجوز أمانه.
م: (وإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقاً منهم، وكان في ذلك مصلحة للمسلمين فلا بأس به) ش: أي بالصلح درءاً عليه.
قوله: أن يصالح أهل الحرب، وفي بعض النسخ: وكان في ذلك مصلحة فعلى النسخة الأولى لفظ مصلحة منصوب بأنه خبر كان، وعلى النسخة الأخرى مرفوع لأنه اسم كان وخبره قوله: في ذلك، وقيد بقوله مصلحة لأنه إذا لم يكن مصلحة لا يجوز المصلحة بأن يكون المسلمين ضعف.
أو كانت الموادعة خيراً للمسلمين ذكره الكرخي في مختصره م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61] م: (الأنفال: الآية 61) ش: أي وإن مالوا للصلح، يقال: جنح له وإليه إذا مال، وفي السلم ثلاث لغات فتح السين وكسرها وفتحها جميعاً، وهي مما يذكر ويؤنث ولذلك قيل {فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] .
فإن قيل: هذه الآية منسوخة في قول ابن عباس بقوله: فاقتلوا الذين لا يؤمنون، وفي قول مجاهد بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] (التوبة: الآية 5) ، فكيف جاز الاحتجاج بها؟ أجيب: بأن هذه الآية محمولة على ما إذا كانت في المصالحة مصلحة للمسلمين بدليل آية أخرى وهي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [محمد: 35] (محمد: الآية 35) ، وبدليل الآية الموجبة للقتال والألزم التناقص لما أن موجب الأمر بالقتال مخالف الأمر بالمصالحة، فلا بد من التوفيق بينهما، وهو بما ذكرنا بدليل موادعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل مكة على ما ذكر في الكتاب. وقال في " الكشاف ": إن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبداً أو يحاربوا إلى الهدنة أبداً.
م: (ووادع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل مكة عام الحديبية على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين)(7/114)
ولأن الموادعة جهاد معنى إذا كان خيرا للمسلمين لأن المقصود وهو دفع الشر حاصل به، ولا يقتصر الحكم على المدة المروية لتعدي المعنى إلى ما زاد عليها، بخلاف ما إذا لم تكن خيرا لأنه ترك الجهاد صورة ومعنى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: الحديث رواه أحمد في مسنده مطولاً من حديث محمد بن إسحاق، وفيه «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالاً وساق الهدي مع سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل إلى أن قال: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض..» الحديث.
وقال الأترازي: فيه نظر، أي في الذي ذكره صاحب الهداية، لأن الصلح عند أصحاب المغازي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وادعهم على ترك القتال سنين، هكذا ذكره المعتمر ابن سليمان في كتابه عن أبيه انتهى.
قلت: كلامه يدل على أن عشر سنين غير صحيح ولم يطلع في كتب الحديث، فهذا من رواية أحمد عشر سنين، وفي سيرة ابن هشام عشر سنين، وفي سنن أبي داود عشر سنين، وفي مغازي الواقدي عشر سنين، نعم وقع في رواية البيهقي في " دلائل النبوة " سنتين من رواية موسى ابن عتبة.
وكذلك في رواية ابن عائد عن محمد بن شعيب أن مدة الصلح كانت سنتين بعد ذلك، قال أبو الفتح العميري: أهل النقل يختلفون في تجريد المعرة بعشر سنين.
وقال السهيلي في " الروض الأنف " اختلف العلماء هل يجوز الصلح إلى أكثر من عشر سنين؟ رجحه المشائعين أن منع الصلح هو الأصل، بدليل آية القتال، وقد ورد التحديد بالعشر في حديث ابن إسحاق فحصلت الإباحة في هذا القدر، ويبقى الزائد على الأصل انتهى، وهذا هو التحقيق في تجريد الكلام في هذا المقام، فإن أحداً من الشراح لم يسلك فمنهم من سكت عنه بالكلية.
م: (ولأن الموادعة جهاد معنى إذا كان خيراً للمسلمين، لأن المقصود وهو دفع الشر حاصل به) ش: أي بالموادعة، وإنما ذكر الضمير باعتبار معنى الصلح، وكذا الكلام في تذكير الضمير في قوله إذا كان خيراً م: (ولا يقتصر الحكم على المدة المروية) ش: يعني عشر سنين، لأن مدة الموادعة تدور مع المصلحة وهي قد تزيد وقد تنقص م: (لتعدي المعنى) ش: وهو دفع الشر م: (إلى ما زاد عليها) ش: أي على المدة المروية م: (بخلاف ما إذا لم تكن خيراً) ش: متصل بقوله إذا كان خيراً، يعني لا يجوز الصلح إذا لم يكن خيراً للمسلمين م: (لأنه ترك الجهاد صورة ومعنى) ش: أما صورة فظاهر حيث ترك القتال.(7/115)
وإن صالحهم مدة ثم رأى نقض الصلح أنفع نبذ إليهم الإمام وقاتلهم؛ «لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نبذ الموادعة التي كانت بينه وبين أهل مكة،» ولأن المصلحة لما تبدلت كان النبذ جهادا وإيفاء العهد ترك الجهاد صورة ومعنى، ولا بد من النبذ تحرزا عن الغدر، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في العهود وفاء لا غدر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما معنى فلأنه لما لم يكن فيه مصلحة للمسلمين لم يكن في تلك الموادعة دفع الشر فلم يحصل الجهاد معنى أيضاً.
[صالح الإمام أهل الحرب مدة معينة]
م: (وإن صالحهم مدة) ش: أي وإن صالح الإمام أهل الحرب مدة معينة م: (ثم رأى نقض الصلح أنفع نبذ إليهم) ش: من النبذ وهو الطرح، والمراد بالنبذ نقض العهد وهو م: (الإمام) ش: ينقضه لأنه إنما أخبرهم طرحه إليهم، ولا بد من بلوغ خبر النبذ إلى جميعهم احترازاً عن الغدر، ومتى علم المسلمون أن القوم لم يعلموا بذلك لم يجز لهم أن يغيروا عليهم حتى تمضي المدة المذكورة.
وقد صح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وادع قريشاً فلما أراد النبذ بعث إلى مكة ينادي بنقض الصلح على ما يجيء. م: (وقاتلهم لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (نبذ الموادعة التي كانت بينه وبين أهل مكة) ش: كانت هذه الموادعة في يوم الحديبية، وكان فيها: من شاء أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فدخلت خزاعة في عهد محمد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ودخلت بنو بكر في عقد قريش فمكثوا في الهدنة نحو السبعة أو الثمانية عشر شهراً، ثم إن بني بكر وبني خزاعة قاتلوهم، وجاء الخبر بذلك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم أمر الناس فتجهزوا، «فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يا رسول الله ألم تكن بينك وبينهم مدة، قال: " ألم يبلغك ما صنعوا» ، رواه البيهقي في " دلائل النبوة " ورواه ابن أبي شيبة مرسلاً، وفيه «فقال أبو بكر: ما قاله الآن فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إنهم غدروا فنقضوا العهد فأنا عاد منهم ... » الحديث.
م: (ولأن المصلحة لما تبدلت كان النبذ جهاداً وإيفاء العهد ترك الجهاد) ش: أي إيفاء العهد المنقوض ترك الجهاد م: (صورة ومعنى) ش: أما صورة فظاهر، لأنه فيه ترك القياس، وأما معنى فلعدم دفع الشر، وهو ترك الجهاد من حيث المعنى م: (ولا بد من النبذ تحرزاً عن الغدر، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: في العهود وفاء لا غدر) ش: ليس هذا الحديث من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما هو من كلام عمرو ابن عيينة وله قصة، رواه أبو داود والنسائي الترمذي عن شعبة أخبرني أبو الفيض عن سليم بن عامر رجل من حمير قال: كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس وهو يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر فنظروا فإذا هو عمرو بن عيينة وأرسل معاوية إليه فسأله فقال سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من كان بينه وبين قوم عهد فلا ينبذ عهده ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء» ، فرجع معاوية(7/116)
ولا بد من اعتبار مدة يبلغ فيها خبر النبذ إلى جمعهم ويكتفى في ذلك بمضي مدة يتمكن ملكهم بعد علمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته، لأن بذلك ينتفي الغدر،
قال: وإن بدءوا بخيانة قاتلهم ولم ينبذ إليهم إذا كان ذلك باتفاقهم؛ لأنهم صاروا ناقضين للعهد فلا حاجة إلى نقضه، بخلاف ما إذا دخل جماعة منهم فقطعوا الطريق ولا منعة لهم، حيث لا يكون هذا نقضا للعهد. ولو كانت لهم منعة وقاتلوا المسلمين علانية يكون نقضا للعهد في حقهم دون غيرهم، لأنه بغير إذن ملكهم ففعلهم لا يلزم غيرهم حتى لو كان بإذن ملكهم صاروا ناقضين للعهد، لأنه باتفاقهم معنى، وإن رأى الإمام موادعة أهل الحرب وأن يأخذوا على ذلك مالا فلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالناس، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. م: (ولا بد من اعتبار مدة يبلغ فيها خبر النبذ إلى جمعهم ويكتفى في ذلك بمضي مدة يتمكن ملكهم بعد علمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته، ولأن بذلك ينتفي الغدر) ش: قال الله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] (الأنفال: الآية 58) ، أي على سواء منكم ومنهم في العلم بذلك فعرفنا أن لا يحل قتالهم قبل النبذ وقبل أن يعلموا بذلك ليعودوا إلى ما كانوا عليه من التحصين وكان ذلك للتحرز عن الغدر. قوله: خيانة أي نقضاً للعهد.
[بدء الكفار بالخيانة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن بدءوا بخيانة قاتلهم) ش: أي الإمام م: (ولم ينبذ إليهم إذا كان ذلك) ش: أي نقض العهد م: (باتفاقهم لأنهم صاروا ناقضين للعهد فلا حاجة إلى نقضه) ش: أي نقض العهد م: (بخلاف ما إذا دخل جماعة منهم) ش: أي من أهل دار الحرب م: (فقطعوا الطريق) ش: في دار الإسلام م: (ولا منعة لهم) ش: أي والحال أنهم لا قوة لهم ولا شوكة م: (حيث لا يكون هذا نقضاً للعهد) ش: لا في حقهم ولا في حق غيرهم، كذا في نقض العهد في دارنا.
م: (ولو كانت لهم منعة وقاتلوا المسلمين علانية يكون نقضاً للعهد في حقهم دون غيرهم) ش: من أهل الحرب منهم م: (لأنه) ش: أي لأن فعلهم هذا م: (بغير إذن ملكهم ففعلهم لا يلزم غيرهم حتى لو كان بإذن ملكهم صاروا ناقضين للعهد) ش: في حق جميعهم لوجود الرضى منهم، وهو معنى قوله: م: (لأنه باتفاقهم معنى) ش: أي باتفاق الكل.
م: (وإن رأى الإمام موادعة أهل الحرب) ش: إنما كرر هذا بعد أن بين حكم موادعة أهل الحرب لأن القدوري لم يذكر الموادعة على المال ولم يذكر الموادعة مع المرتدين أيضاً.
وذكر ذلك كله في " الجامع الصغير "، فكذلك كرر موادعة الحرب وذكر الموادعة على المال بقوله م: (وأن يأخذ على ذلك مالاً) ش: أي وإذا رأوا أيضاً أن يأخذوا مالاً في الموادعة م: (فلا(7/117)
بأس به؛ لأنه لما جازت الموادعة بغير المال، فكذا بالمال، لكن هذا إذا كان بالمسلمين حاجة، أما إذا لم يكن لا يجوز لما بينا من قبل، والمأخوذ من المال يصرف مصارف الجزية، هذا إذا لم ينزلوا بساحتهم بل أرسلوا رسولا لأنه في معنى الجزية. أما إذا أحاط الجيش بهم ثم أخذوا المال فهو غنيمة بخمسها ويقسم الباقي بينهم؛ لأنه مأخوذ بالقهر معنى،
وأما المرتدون فيوادعهم الإمام حتى ينظر في أمرهم؛ لأن الإسلام مرجو منهم فجاز تأخير قتالهم طمعا في إسلامهم. ولا يأخذ عليه مالا؛ لأنه لا يجوز أخذ الجزية من أهل الردة لما بينا. ولو أخذه لم يرده لأنه مال غير معصوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بأس به لأنه لما جازت الموادعة بغير المال، فكذا بالمال) ش: وهو أولى، أي فكذا يجوز بالمال.
م: (لكن هذا إذا كان بالمسلمين حاجة، أما لم يكن) ش: أي الحاجة م: (لا يجوز) ش: لأنه يشبه الأجر م: (لما بينا من قبل) ش: أشار به إلى قوله أنه ترك الجهاد صورة ومعنى، هكذا فسر الأكمل.
وقال الكاكي: لما بينا من قبل، وهو أنه لا يحل قتالهم قبل النبذ. وقال الأترازي: قوله: لما بينا من قبل إشارة إلى ما ذكر قبل هذا محظور بقوله: لأنه ترك الجهاد صورة ومعنى. ويجوز أن يكون هذا إشارة إلى قوله لأنه نسبة الأجر قبل باب كيفية القتال بخمسة خطوط، وكتب شيخي بخطه في هذا إشارة إلى أنه ترك الجهاد صورة ومعنى م: (والمأخوذ من المال) ش: منهم على الموادعة م: (يصرف مصارف الجزية، هذا إذا لم ينزلوا بساحتهم، بل أرسلوا رسولاً) ش: أي بدارهم للحرب ولا خمس فيه م: (لأنه في معنى الجزية أما إذا أحاط الجيش بهم ثم أخذوا المال فهو غنيمة بخمسها) ش: أي يخرج الخمس منها م: (ويقسم الباقي بينهم) ش: أي بين جيش المجاهدين القائمين م: (لأنه مأخوذ بالقهر معنى) ش: أي من حيث المعنى، لأنه مأخوذ بعد الفتح بالقتال.
[موادعة المرتدون]
م: (وأما المرتدون فيوادعهم الإمام) ش: إذا طلبوا ذلك وجاء الإسلام منهم فيؤخر القتل عنهم م: (حتى ينظر في أمرهم، لأن الإسلام مرجو منهم فجاز تأخير قتالهم طمعاً في إسلامهم) ش: قال الفقيه أبو الليث في " شرح الجامع الصغير ": هذا إذا غلبت المرتدون على مدينة وصارت دارهم دار الحرب يدل على ما ذكره الفقيه وضع المسألة في مختصر الكرخي بقوله: غلب المرتدون على دار من دور الإسلام فلا بأس بموادعتهم عند الخوف.
م: (ولا يأخذ عليه مالاً) ش: أي ولا يأخذ الإمام على ما فعل من موادعتهم مالاً (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (لا يجوز أخذ الجزية من أهل الردة لما بينا) ش: أي في باب الجزية م: (ولو أخذه لم يرده) ش: أي ولو أخذ الإمام المال منهم لم يرده م: (لأنه مال غير معصوم) ش: لأن مالهم في المسلمين إذا ظهروا على ذلك، بخلاف ما إذا أخذ من أهل البغي حيث يرده عليهم(7/118)
ولو حاصر العدو المسلمين وطلبوا الموادعة على مال يدفعه المسلمون إليهم لا يفعل الإمام لما فيه من إعطاء الدنية وإلحاق المذلة بأهل الإسلام إلا إذا خيف الهلاك، لأن دفع الهلاك واجب بأي طريق يمكن. ولا ينبغي أن يباع السلاح لأهل الحرب، ولا يجهز إليهم؛ «لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن بيع السلاح من أهل الحرب وحمله إليهم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعدما وضعت الحرب أوزارها، لأنه ليس بفيء إلا أنه لا يرده حال الحرب لئلا يكون إعانة على المعصية.
[حاصر العدو المسلمين وطلبوا الموادعة على مال يدفعه المسلمون]
م: (ولو حاصر العدو المسلمين وطلبوا الموادعة على مال يدفعه المسلمون لا يفعل الإمام لما فيه من إعطاء الدنية) ش: أي النقيصة م: (وإلحاق المذلة بأهل الإسلام) ش: فلا يجوز ذلك م: (إلا إذا خيف الهلاك) ش: إذا كان المسلمون يخافون على أنفسهم الهلاك فلا بأس بذلك لأن الضرورات تبيح المحظورات م: (لأن دفع الهلاك واجب بأي طريق يمكن) ش: وهذا لا يجري على عمومه، فإنه لم يكن دفع الهلاك عن نفسه إلا بإجراء كلمة الكفر ينبغي أن يجب ولا يجب بل هو مرخص به.
وكذا لو كره يقتل نفسه أو يقتل غيره لا يجب عليه بل الصبر عن قتل الغير واجب، حتى لو صبر في الصورتين كان شهيداً فعلم أن المراد بأي طريق كان سوى المشيات التي للإباحة في مباشرتها شرعاً.
م: (ولا ينبغي أن يباع السلاح لأهل الحرب ولا يجهز إليهم) ش: أي لا يحتمل إليهم التجار الجهاز وهو المتاع يعني السلاح. وفي " الجامع الصغير ": يكره بيع السلاح من أهل الفتنة م: (لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن بيع السلاح من أهل الحرب وحمله إليهم) ش: هذا حديث غريب بهذا اللفظ.
وروى البيهقي في " سننه " والبزار في " مسنده " والطبراني في " معجمه " من حديث بحر بن كنيز السقاء عن عبيد الله القطبي عن أبي رجاء عن عمران بن حصين أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن بيع السلاح في الفتنة» .
وقال البيهقي: رفعه وهم، والصواب موقوف. وقال البزار: لا نعلم أحداً يرويه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا عمران بن حصين، والقبطي ليس بالمعروف، وابن كنيز ليس بالقوي، وقد رواه مسلم ابن ذرين عن أبي رجاء عن عمران موقوفاً.(7/119)
ولأن فيه تقويتهم على قتال المسلمين فيمنع من ذلك، وكذا الكراع لما بينا، وكذا الحديد لأنه أصل السلاح، وكذا بعد الموادعة لأنها على شرف النقض أو الانقضاء فكانوا حربا علينا، وهذا هو القياس في الطعام والثوب إلا أنا عرفناه بالنص، «فإنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر ثمامة أن يمير أهل مكة وهم حرب عليه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن فيه) ش: أي في بيع السلاح لأهل الحرب م: (تقويتهم على قتال المسلمين فيمنع من ذلك) ش: أي من بيعه م: (وكذا الكراع) ش: أي وكذا بيع الكراع منهم لا ينبغي ولا يجهز إليهم، والكراع الخيل م: (لما بينا) ش: إشارة إلى قوله لأن فيه تقويتهم.
م: (وكذا الحديد) ش: أي وكذا لا ينبغي أن يباع الحديد منهم م: (لأنه أصل السلاح) ش: وقال فخر الإسلام البزدوي في شرح " الجامع الصغير " بيع ما لا يقاتل به إلا بصفة لا بأس به كما كرهنا بيع المزامير وأبطلنا بيع الخمر ولم يجز بيع العنب بأساً، ولا يبيع الخشب وما أشبه ذلك.
وقال الفقيه أبو الليث في شرحه " للجامع الصغير ": ليس هذا كما قالوا في بيع العصير ممن يجعله خمراً، إلا أن العصير ليس بآلة للمعصية.
وإنما يصير آلة للمعصية بعدما يصير خمراً، وأما هاهنا فالسلاح آلة الفتنة في الحال، فإذا كان هكذا يكره من يعرف بالفتنة فبإشارة هذا يعلم أن بيع الحديد منهم لا يكره، لأن نفسه ليس بآلة للمعصية كالعصير، انتهى.
قلت: هذا الذي قاله مثل ما قاله فخر الإسلام، وهذا هو التحقيق، إلا أن ظاهر الرواية بخلاف ذلك.
ألا ترى أن الحاكم قد نص على تسوية الحديد والسلاح، وإليه ذهب المصنف، حيث قال: وكذا الحديد لأنه أصل السلاح، لكن يرد عليه بيع الخشب ممن يتخذه آلة الفناء، حيث لا يكره بيع العصير ممن يتخذه خمراً.
م: (وكذا بعد الموادعة) ش: أي كما لا يباع السلاح والكراع منهم قبل الموادعة فكذلك بعد الموادعة م: (لأنها) ش: أي لأن الموادعة م: (على شرف النقض أو الانقضاء) ش: بتبدل المصلحة أو الانقضاء أو على شرف القضاء مدة الموادعة م: (فكانوا حرباً علينا) ش: أي بعد ذلك م: (وهذا هو القياس) ش: يعني كان القياس م: (في الطعام) ش: أي في بيع الطعام منهم.
م: (والثوب) ش: أي وكذا بيع الثوب منهم، وحمل ذلك إليهم أن يكون مكروهاً م: (إلا أنا عرفناه بالنص) ش: أي عرفنا جواز ذلك بالنص، وفسر النص بقوله م: (فإنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (أمر ثمامة أن يمير أهل مكة وهم حرب عليه) ش: أي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ لم يتكلم أحد من الشراح في حديث ثمامة هذا كيف يخرجه، ومن رواه وما قصته.(7/120)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه البيهقي في " دلائل النبوة " من طريق ابن إسحاق حدثني سعيد المقبري عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فذكر قصة إسلام ثمامة بلفظ الصحيحين، وفي آخره فقال: «إني والله ما صبوت. ولكني أسلمت وصدقت محمداً وآمنت به، وايم الذي نفس ثمامة بيده لا تأتيكم حبة من اليمامة وكانت ريف مكة ما بقيت حتى يأذن فيها محمد وانصرف إلى بلده ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش فكتبوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يحمل إليهم حمل الطعام ففعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . مختصر ليس في الصحيحين من حيث ثمامة أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لثمامة أن يرد الميرة على أهل مكة.
وذكره ابن هشام في أواخر السيرة، وفيه: «والله لا يصل إليكم حبة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم خرج إلى اليمامة فمنع أهلنا أن يحملوا إلى مكة شيئاً فكتبوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنك تأمر بصلة الرحم وإنك قد قطعت أرحامنا، فكتب إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخلي بينهم وبين الحمل» .
ورواه الواقدي أيضاً مطولاً، وفيه: وكتب يعني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ثمامة أن خل بين قريش وبين المسيرة، فلما جاءه الكتاب قال: سمعاً وطاعة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مختصر.
قلت: ثمامة بضم الثاء المثلثة من قوله: مرات يمير من قار أهلها أي أتاهم بالميرة، أي بالطعام.(7/121)
فصل إذا أمن رجل حر أو امرأة حرة فردا أو جماعة أو أهل حصن أو مدينة صح أمانهم ولم يجز لأحد من المسلمين قتالهم، والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل إذا أمن رجل حر أو امرأة حرة فردا أو جماعة]
م: (فصل)
ش: أي هذا فصل في بيان أحكام الأمان. ولما كان الأمان نوعاً من الموادعة لما فيه ترك القتال كالموادعة، ذكره في فصل على حدة.
م: (إذا أمن رجل حر أو امرأة حرة فردا أو جماعة) ش: أي أو أمن في جماعة م: (أو أهل حصن) ش: أي أو أمن أهل حصن م: (أو مدينة) ش: أي أو أمن أهل مدينة م: (صح أمانهم) ش: أي صح أمان جماعة الكفار وأهل الحصن، والمصدر مضاف إلى مفعوله وطرأ ذكر الفاعل م: (ولم يجز لأحد من المسلمين قتالهم) ش: وسواء كان الرجل الحر الذي أمنهم أعمى أو شيخاً أو مريضاً، وإذا كان عبداً فيه كلام يأتي إن شاء الله تعالى.
م: (والأصل فيه) ش: أي في حكم الأمان م: (قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم» ش: هذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «ما كتبنا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا القرآن، وما في هذه الصحيفة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حرم....» الحديث، وفيه: «وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم
» الحديث. وأخرج البخاري نحوه عن أنس.
وأخرج مسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «للمدينة حرم ... » الحديث، وفيه: «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم» .
وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم» .
وروي أيضاً من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يد المسلمين على من سواهم تتكافأ دماؤهم، ويجير على المسلمين أدناهم، ويرد على المسلمين أقصاهم» .
قوله: تتكافأ دماؤهم أي تتساوى في القصاص والديات، لا فضل للشريف على وضيع(7/122)
أي أقلهم وهو الوحد، ولأنه من أهل القتال فيخافونه، إذ هو يعد من أهل المنعة فيتحقق الأمان منه لملاقاته محله، ثم يتعدى إلى غيره، ولأن سببه لا يتجزأ، وهو الإيمان، وكذا الأمان لا يتجزأ فيتكامل كولاية الإنكاح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كذا قال أبو عبيد، قوله: ليسعى بذمتهم، الذمة العهد والأمان، ولهذا سمى المعاهد ذمياً، لأنه قد أعطي الأمان على ماله ودمه للجزية التي تؤخذ منه، ومنه قول سلمان الفارسي: ذمة المسلمين واحدة.
وفسر المصنف أدناهم بقوله: م: (أي أقلهم، وهو الواحد، ولأنه) ش: لا أقل منه، وإنما فسره بالأقل احترازاً عن تفسير محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، حيث فسره بالعبد لأنه أدنى المسلمين، فجعل الأدنى هاهنا من الدناءة، وجعله غيره من الدنو.
قوله: وهم يد على من سواهم، أي كلمتهم ونصرتهم واحدة على جميع الملل المحاربة لهم يتعاونون على ذلك، ولا يخذل بعضهم بعضاً.
قوله: ويرد عليهم أقصاهم، معناه إذا دخل العسكر أرض الحرب فوجه الإمام السرايا فيما غنمت من شيء جعل لها ما سمي لها دون ما بقي على العسكر، لأنهم رد للسرايا.
قوله: ويجير، من أجرت فلاناً على فلان إذا حميته منه ومنعته ولاية، أي ولأن كل واحد من الرجل والمرأة م: (من أهل القتال) ش: أما الرجل فظاهر، وأما المرأة بأن تخرج للمداواة والخبز والطبخ، وذلك منها جهاداً، وبمالها أو بعبيدها.
فإن قلت: ما تقول في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «هاه ما كانت هذه تقاتل» ، قاله لما رأى امرأة مقتولة؟ قلت: معناه ما تقاتل بنفسها.
م: (فيخافونه إذ هو يعد من أهل المنعة، فيتحقق الأمان منه) ش: الضمير المنصوب في فيخافونه، وقوله: إذ هو، وفي قوله منه كلها ترجع إلى ما ترجع الضمير الذي في قوله م: (لملاقاته محله) ش: أي لملاقاة الأمان، ومحله هو الحر الخائف م: (ثم يتعدى إلى غيره) ش: أي ثم يتعدى الأمان على غيره الذي أمن من المسلمين، كما في شهادة رمضان، فإن الصوم يلزم من شهد بالهلال ثم يتعدى منه إلى غيره م: (ولأن سببه) ش: أي سبب الأمان م: (لا يتجزأ وهو الإيمان) ش: أي التصديق بالقلب.
م: (وكذا الأمان لا يتجزأ) ش: فإذا تحقق من بعض، فأما أنه يبطل أو يكمل لا يجوز الأول بعد تحقق السبب فتحقق الثاني، وهو معنى قوله م: (فيتكامل) ش: أي ينفر، وكل مسلم به لكان سببه في حقه م: (كولاية الإنكاح) ش: فيما إذا وجد الإنكاح من أحد الأولياء المساوية في الدرجة صح النكاح في حق الكل، لأن سبب ولايته وهو القرابة غير متجزئ فلا تجزأ الولاية(7/123)
قال: إلا أن يكون في ذلك مفسدة فينبذ إليهم، كما إذا أمن الإمام بنفسه ثم رأى المصلحة في النبذ، وقد بيناه.
ولو حاصر الإمام حصنا وأمن واحد من الجيش وفيه مفسدة ينبذ الإمام الأمان لما بينا ويؤدبه الإمام لافتياته على رأيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فكذلك هاهنا.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: واعلم أن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - استدل بالمفعول على وجهين جعل المناط في أحدهما كون من يعطي الأمان ممن يخافونه. وفي الآخر الإيمان، فالأول يقتضي عدم جواز أمان العبد المحجور والتأخير والأسير، والثاني يقتضي جوازه. ولو جعلها علة واحدة بخلاف الواو عن الثاني لتقع العلة لقوله ثم يتعدى إلى غيره كان أولى، ويمكن أن يجعل الأول علة، والآخر شرطاً، أو سماه مسبباً مجاوزاً، والشيء ينفى على عدمه عند عدم شرطه.
م: (قال: إلا أن يكون في ذلك مفسدة) ش: استثنى من قوله صح أمانهم، أي إلا أن يكون في الأمان فساد في حق المسلمين م: (فينبذ إليهم) ش: أي يعلمهم بالنبذ م: (كما إذا أمن الإمام نفسه ثم رأى المصلحة في النبذ) ش: أي يعلم الإمام أهل الحرب بالنبذ دفعاً للضرر عنهم م: (وقد بيناه) ش: أي في أول فصل الموادعة عند قوله: وإن صالحهم مدة ثم رأى نقض الصلح أنفع إليهم.
[حاصر الإمام حصناً وأمن واحد من الجيش وفيه مفسدة]
م: (ولو حاصر الإمام حصناً وأمن واحد من الجيش وفيه مفسدة) ش: أي والحال أن فيه فساد م: (ينبذ الإمام الأمان لما بينا) ش: أي في فصل الموادعة كما ذكرناه، إلا أن قاله الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - قبل قوله: نبذ.
قوله ولو حاصر الإمام حصناً وأمن واحد من الجيش تكرار محض، لأنه علم ذلك من قوله لأن يكون فيه مفسدة، انتهى.
قلت: أراد بهذا القائل، ألا ترى حيث قال هذا وأقول هذا تكرار محض لا محالة، لأنه علم ذلك من قوله إلا أن يكون في ذلك مفسدة.
قال الأكمل: بعد نقله هذا عنه، وأقول: يجوز أن يكون ذلك قبل أن يحاصر الإمام.
وهذا بعده، ويجوز أن يكون إعادة تمهيداً أو توطئة لقوله م: (ويؤدبه الإمام لافتياته على رأيه) ش: أي يؤدب الإمام ذلك الواحد من الجيش لافتياته، أي لسبقه على رأي الإمام. قال في المجمل الافتيات افتعال من الفوت وهو السبق إلى الشيء دون ائتمار من يؤتمر، يقال الافتيات على فلان أي لا يعمل شيء دون أمره.(7/124)
بخلاف ما إذا كان فيه نظر، لأنه ربما تفوت المصلحة بالتأخير فكان معذورا.
ولا يجوز أمان ذمي لأنه متهم بهم، وكذا لا ولاية له على المسلمين، قال: ولا أسير ولا تاجر يدخل عليهم لأنهما مقهوران تحت أيديهم ولا يخافونهما، والأمان يختص بمحل الخوف، ولأنهما يجبران عليه فيعرى الأمان عن المصلحة، ولأنهم كلما اشتد الأمر عليهم يجدون أسيرا أو تاجرا فيتخلصون بأمانه فلا ينفتح لنا باب الفتح. ومن أسلم دار الحرب ولم يهاجر إلينا لا يصح أمانه لما بينا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأصل الافتيات الافتوات، لأنه من الفوت أجوف واوي، فقلبت الواو ياء بتحركها وانكسار ما قبلها.
م: (بخلاف ما إذا كان فيه نظر) ش: أي بخلاف ما إذا كان في أمان هذا الواحد من الجيش نظر للمسلمين ومصلحة لهم من حيث لا يؤدبه الإمام م: (لأنه) ش: أي لأن هذا الواحد لو انتظر إلى رأي الإمام م: (ربما تفوت المصلحة بالتأخير) ش: أي بتأخير الأمان م: (فكان) ش: هذا الواحد م: (معذوراً) ش: في الإقدام على الإمام.
[أمان الذمي]
م: (ولا يجوز أمان ذمي لأنه متهم بهم) ش: لأنه من جملتهم وإن حضر لمعونة المسلمين، وهو متهم في حقنا لأنه في تقوية الكفر. وعن مالك: يصح أمانه لأن له ذمة، فكان تابعاً للمسلمين والمشهور عنه أنه لا يصح م: (وكذا لا ولاية له على المسلمين) ش: لأنه لأمانه ولاية وهي نفاذ قول على الغير، ولا ولاية للكافر على أهل الإسلام، قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] (النساء: الآية 141) ، فلا يصح أمانه.
م: (قال: ولا أسير ولا تاجر) ش: أي ولا يصح أيضاً أمان أسير ولا أمان تاجر م: (يدخل عليهم) ش: أي على أهل الحرب م: (لأنهما مقهوران تحت أيديهم) ش: لأن الأمان لدفع الخوف م: (ولا يخافونهما) ش: أي ولا يخاف أهل الحرب من الأسير والتاجر م: (والأمان يختص بمحل الخوف) ش: والأسير والتاجر ليسا بمحل الخوف لأنهما مقهوران.
م: (ولأنهما) ش: أي ولأن الأسير والتاجر م: (يجبران عليه) ش: أي على الأمان إذا احتاجوا إليه م: (فيعرى الأمان عن المصلحة) ش: لأن الأمان شرع لمصلحة المسلمين ولا مصلحة في أمان حصل عن إكراه مفسد للتراضي.
م: (ولأنهم) ش: أي ولأن أهل الحرب م: (كلما اشتد الأمر عليه) ش: من ضيق الحصار وشدة الحال م: (يجدون أسيراً أو تاجر فيتخلصون) ش: عند الشدائد م: (بأمانه) ش: أي بأمان الأسير أو التاجر م: (فلا ينفتح لنا باب الفتح) ش: لأنه ينسد بالأمان فيؤدي إلى سد ركن الجهاد.
م: (ومن أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا لا يصح أمانه لما بينا) ش: أشار به إلى قوله والأمان(7/125)
ولا يجوز أمان العبد المحجور عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أن يأذن له مولاه في القتال. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصح وهو قول الشافعي، وأبو يوسف - رحمهما الله - معه في رواية، ومع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أمان العبد أمان، رواه أبو موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأنه مؤمن ممتنع فيصح أمانه اعتبارا بالمأذون له في القتال، وبالمؤبد من الأمان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يختص بمحل الخوف
[أمان العبد المحجور عليه]
م: (ولا يجوز أمان العبد المحجور عليه) ش: من القتال م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أن يأذن له مولاه في القتال. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصح وهو قول الشافعي) ش: وبه قال محمد ومالك وأحمد م: (وأبو يوسف - رحمهما الله - معه) ش: أي مع محمد م: (في رواية) ش: وهي رواية الكرخي م: (ومع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية) ش: وهي رواية الطحاوي وهو الظاهر عنه، واعتمد عليه في " المبسوط ".
م: (لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «أمان العبد أمان» رواه أبو موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: هذا الحديث غريب، واسم أبي موسى عبد الله بن قيس. وروى ابن أبي شيبة في مصنفه حديثاً طويلاً عن فضيل بن يزيد الرقاشي وفيه أجاز عمر أمانه، أي أمان العبد.
وروى البيهقي بإسناد ضعيف عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعاً: «ليس للعبد من الغنيمة إلا خرثي من المتاع وأمانه جائز، وأمان المرأة جائز إذ هي أعطت القوم الأمان» . قوله: خُرْثِيّ من المتاع بضم الخاء المعجمة وسكون الراء وكسر الثاء المثلثة وتشديد الياء آخر الحروف.
قال ابن الأثير: الخرثي: أثاث البيت ومتاعه، واستدل الأترازي لمحمد بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ويسعى بذمتهم أدناهم» وأدنى المسلمين العبد فيصح أمان العبد كيف بأن لإطلاق الحديث.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن العبد م: (مؤمن ممتنع) ش: يعني ذو قوة وامتناع، يعني له بنية صالحة للقتال م: (فيصح أمانه اعتباراً بالمأذون له في القتال) ش: والجامع على كلمة الله ودفع شر الكفار م: (وبالمؤبد من الأمان) ش: يعني واعتبار بالمؤبد بالباء الموحد، يعني عقد الذمة، فإن الحربي إذا عقد الذمة مع العبد وقبل الجزية وقبل العبد منه هذا العقد صح، وهذا العقد والقبول من العبد ويصير ذمياً بالاتفاق حتى يجري عليه أحكام أهل الذمة من المنع عن الخروج إلى دار الحرب وقصاص قاتله وغير ذلك.(7/126)
فالإيمان لكونه شرطا للعبادة والجهاد عبادة، والامتناع لتحقق إزالة الخوف به والتأثير إعزاز الدين وإقامة المصلحة في حق جماعة المسلمين، إذ الكلام في مثل هذه الحالة، وإنما لا يملك المسابقة لما فيها من تعطيل منافع المولى ولا تعطيل في مجرد القول. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه محجور عن القتال فلا يصح أمانه لأنهم لا يخافونه فلم يلاق الأمانة محله، بخلاف المأذون له في القتال، لأن الخوف منه متحقق، ولأنه إنما لا يملك المسابقة لما أنه تصرف في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فالإيمان) ش: مرفوع على الابتداء، وخبره محذوف، أي شرطه يعني شرط الإيمان في قولنا، ولأنه مؤمن يصح أمانه م: (لكونه) ش: أي لكون الإيمان م: (شرطاً للعبادة والجهاد عبادة والامتناع) ش: أي الامتناع شرط أيضاً م: (لتحقق إزالة الخوف به) ش: أي بالامتناع م: (والتأثير) ش: يعني في صحة قياس المحجور على المأذون له، وقيل: معنى العلة الجامعة في قياس العبد المحجور على المأذون له م: (إعزاز الدين وإقامة المصلحة في حق جماعة المسلمين، إذ الكلام في مثل هذه الحالة) ش: أي حالة المصلحة وهو الأمان في الحر.
فإذا وجد في المحجور عليه صح تعديته إليه كما في سائر الأقيسة م: (وإنما لا يملك المسابقة) ش: جواب عما يقال: الأصل في الجهاد هو المسابقة، وهي المضاربة بالسوء وهؤلاء يملكه، فكذا لا يملك الأمان أيضاً. وتقرير الجواب أنه لا يملك المسابقة م: (لما فيها) ش: أي في المسابقة م: (من تعطيل منافع المولى) ش: وهو لا يملك ذلك م: (ولا تعطيل) ش: أي لمنافعه م: (في مجرد القول) ش: وهو ظاهر.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه) ش: أي أن العبد م: (محجور عن القتال، فلا يصح أمانه لأنهم لا يخافونه) ش: أي لأن أهل الحرب سراي العبد م: (فلم يلاق الأمان محله) ش: ومحله الخوف. وقال الأكمل: قوله ولأبي حنيفة أنه محجور عن القتال يصح أن يكون ممانعة.
وتقريره لا نسلم وجود الامتناع، لأن الامتناع إنما يكون لإزالة الخوف وهم لا يخافونه وأن يكون معاوضة وهو الظاهر من كلام المصنف. تقريره أنه محجور عن القتال لا يصح أمانه لأنهم لا يخافونه، وفيه نظر، فإن الخوف أمر باطني لا دليل على وجوده ولا على عدمه، فإن الكفار من أين يعلمون أنه عبد محجور عليه حتى لا يخافونه.
والجواب: أن ذلك يعلم بترك المسابقة، فإنهم لما أرادوا شيئاً مقتدراً على القتال مع المقاتلين ولا يحمل سلاحاً ولا يقاتلهم علموا أنه ممنوع من ذلك ممن له المنع. ولو قال المصنف: إنه ممنوع عن القتال والأمان نوع قتال لكان أسهل إثباتاً لمذهب أبي حنيفة فتأمل. م: (بخلاف المأذون له في القتال، لأن الخوف منه متحقق) ش: فصح أمانه م: (ولأنه) ش: أي ولأن العبد المحجور وهو عطف على قوله لأنهم لا يخافونه م: (إنما لا يملك المسابقة لما أنه تصرف في(7/127)
حق المولى على وجه لا يعرى عن احتمال الضرر في حقه، والأمان نوع قتال، وفيه ما ذكرناه لأنه قد يخطئ، بل هو الظاهر، وفيه سد باب الاستغنام، بخلاف المأذون لأنه رضي به والخطأ نادر لمباشرته القتال، وبخلاف المؤبد لأنه خلف عن الإسلام فهو بمنزلة الدعوة إليه، ولأنه مقابل بالجزية، ولأنه مفروض عند مسألتهم ذلك، وإسقاط الفرض يقع فافترقا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حق المولى على وجه لا يعرى عن احتمال الضرر في حقه) ش: أي في حق المولى م: (والأمان نوع قتال، وفيه ما ذكرناه لأنه قد يخطئ) ش: أي لأن العبد قد يخطئ في القتال لعدم ممارسته بأمر الحرب م: (بل هو الظاهر) ش: لأن اشتغاله بخدمة المولى يمنعه عن التعلم بأدب الحرب.
م: (وفيه) ش: أي وفي الأمان م: (سد باب الاستغنام) ش: أي على المسلمين وذلك ضرر في حقهم، فإذا كان ممنوعاً الضرر للمولى، فكيف يصح منه ما يضر المولى والمسلمين، توضيحه أن أمانه لو صح يحرم القتال بالاستغنام بعد ذلك، والاستغنام الكتاب مال مباح فيعد صحة الأمان لا يبقي للمولى استعمال عبده في الاستغنام وهو ضرر للمولى لا محالة.
م: (بخلاف المأذون لأنه رضي به) ش: أي بخلاف أمان المأذون، لأن المولى رضي له أي بأمانه م: (والخطأ نادر) ش: أي الخطأ من المأذون نادر م: (لمباشرته) ش: أي لمباشرة المأذون م: (القتال) ش: لأنه لما باشره عرف مصلحة الأمان فكان الخطأ نادراً. م: (وبخلاف المؤبد) ش: أي الأمان المؤبد وهو عقد الذمة، وهو جواب قول محمد وبالمؤبد بالأمان م: (لأنه) ش: أي لأن الأمان المؤبد م: (خلف عن الإسلام) ش: أي من حيث إنه ينتهي به القتال المطلوب به السلام الحربي م: (فهو بمنزلة الدعوة إليه) ش: أي إلى الإسلام، وهي نفع للمسلمين لا ضرر فصح ذلك الأمان كذلك.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الأمان المؤبد م: (مقابل بالجزية) ش: وفيه نفع للمسلمين م: (ولأنه) ش: أي ولأن الأمان المؤبد م: (مفروض) ش: أي فرض م: (عند مسألتهم) ش: أي مسألة أهل الحرب م: (ذلك) ش: أي الأمان. وقال الأترازي: هنا يعني إذا طلب الحربي الإسلام عليه من المحجور يفترض عليه الفرض.
وقال الأكمل: ولأنه مفروض عند مسألتهم ذلك، يعني أن الكفار إذا طلبوا عقد الذمة يفترض عليه - على الإمام - إجابتهم إليه م: (وإسقاط الفرض يقع) ش: وقال تاج الشريعة: إذا طلبوا يفترض على الإمام إجابتهم، فيكون العبد مسقطاً لفرض، وإسقاط الفرض يقع لكونه منجياً من العذاب ولا كذلك الأمان. لأنه ليس فيه إسقاط الفرض م: (فافترقا) ش: أي افترق أمان العبد المحجور عليه عن القتال، وأمان المأذون له بالقتال أو افترق الأمان المؤقت من المحجور عليه عن القتال الأمان والمؤبد منه.(7/128)
ولو أمن الصبي وهو لا يعقل لا يصح كالمجنون،
وإن كان يعقل وهو محجور عن القتال، فعلى الخلاف، وإن كان مأذونا له في القتال فالأصح أنه يصح بالاتفاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[أمان الصبي]
م: (ولو أمن الصبي وهو لا يعقل لا يصح) ش: أي أمانه م: (كالمجنون) ش: في عدم صحة أمانه، وبه قالت الثلاثة. وقال الناطقي في " الأجناس " ناقلاً عن " السير الكبير " قال محمد: الغلام الذي راهق وهو يقبل الإسلام ويضمن جاز أمانه، ثم قال: وهذا قوله. وأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف فلا يجوز.
وقال في كتابه " النهي ": لا يجوز أمان الصبي المراهق ما لم يبلغ، عند أبي حنيفة، وعند محمد يجوز إذا كان يقبل الإسلام وصفاته.
م: (وإن كان) ش: أي الصبي م: (يعقل وهو محجور عن القتال، فعلى الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور في العبد المحجور، فعند أبي حنيفة لا يصح أمانه، وعند محمد يصح، وبه قال مالك وأحمد في وجه، وبقول أبي حنيفة قال الشافعي وأحمد في وجه.
م: (وإن كان) ش: أي الصبي م: (مأذوناً له في القتال فالأصح أنه يصح بالاتفاق) ش: أي باتفاق أصحابنا وليس على الخلاف، لأنه تصرف دائر بين النفع والضرر كالبيع، فيملكه الصبي بعد الإذن.
فائدة: وألفاظ الأمان للحربي: لا تخف ولا توجل " أو مترس " بالفارسية يعني: لا تخف، ولكم عهد الله وذمة الله، أو يقال فاسمع الكلام، ذكره في " السير الكبير ".(7/129)
باب الغنائم وقسمتها
وإذا فتح الإمام بلدة عنوة أي قهرا، فهو بالخيار، إن شاء قسمها بين الغانمين كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر، وإن شاء أقر أهله عليه ووضع عليهم الجزية وعلى أراضيهم الخراج، كذلك فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بسواد العراق بموافقة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الغنائم وقسمتها]
م: (باب الغنائم وقسمتها) ش: أي هذا باب في بيان أحكام الغنائم: وهي جمع غنيمة، والغنيمة اسم لمال مأخوذ من الكفرة بالقهر والغلبة والحرب قائمة. والفيء: اسم المال يؤخذ منهم بغير قتال كالخراج والجزية ويخمس الغنيمة وأربعة أخماسه للغانمين، والفيء لا يخمس، بل هو لكافة المسلمين، والعقل: ما يخص الإمام الغازي زيادة على سهمه.
[إذا فتح الإمام بلدة عنوة كيف يقسمها]
م: (وإذا فتح الإمام بلدة عنوة أي قهراً، فهو بالخيار، إن شاء قسمها بين الغانمين) ش: أي فهذا ليس بتفسير للعنوة لغة، لأن عنا يعنو بمعنى ذل وخضع، وهو لازم، وقهر متعد، بل يكون هو تفسيره من طريق شعور الذهن، لأن من الذلة يلزم القهر، أو أن الفتح بالمذلة ملتزم للقهر. قوله قسمة أي قسم البلدة بتأويل البلد، وإلا كان ينبغي أن يقال قسمها م: (كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر) ش: أخرجه أبو داود في مسنده عن يحيى بن زكريا عن يحيى بن سعيد عن بشير بن بشار عن سهل بن خيثمة قال: «قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر نصفاً لنوائبه ونصفاً بين المسلمين، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهماً» .
م: (وإن شاء أقر أهله عليه ووضع عليهم الجزية وعلى أراضيهم الخراج، كذلك فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بسواد العراق) ش: أخرج ابن سعد في " الطبقات " بإسناده أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه بعث عثمان بن حنيف على خراج السواد ... الحديث، وفيه أنه أفرض الخراج على كل حربي، إلى أن قال: وأفرض على رقابهم على الموسر ثمانية وأربعين درهماً، وعلى من دون ذلك أربعة وعشرين درهماً، وعلى من لم يجد شيئاً اثني عشر درهماً
الحديث.
ورواه ابن زنجويه في كتاب " الأموال " كذلك، وسمي سواد العرق لخضرة أشجاره وزروعه. حده طولاً من مدينة الموصل إلى عبادان، وعرضاً من العذيب إلى حلوان، وهو الذي على عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو أطول من العراق وثلاثين فرسخاً.
م: (بموافقة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: ما خالفه في ذلك إلا بلال وأصحابه.(7/130)
ولم يحمد من خالفه، وفي كل من ذلك قدوة فيتخير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المبسوط " من صحابة سلمان، وأبا بردة فقالوا: اقسم بيننا، فإن الغنيمة حقنا، وكان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: ما فعلت هو الحق، ولم يدركوا الحكمة فيما فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وتمسكوا بالظاهر فيما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر، ولم يكن فعله ذلك بأهل خيبر بطريق الحتم، إذ لو كان بطريق الحتم لما خالفه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى زيد بن أسلم عن أبيه، قال: قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها، كما قسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر، ولما لم يرجع بلال وأصحابه عما قالوا ولم يتركوا المنازعة مع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دعا عمر عليهم.
وقال القاضي أبو زيد: روي أن عمر قال: اللهم اكفني بلالاً وأصحابه، فحال الحول وما فيهم عين تطرف ماتوا كلهم. وقال تاج الشريعة: فدعا عليهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على المنبر وقال: اللهم اكفني بلالاً وأصحابه، فماتوا جميعاً قبل تمام السنة، وأشار المصنف إلى ذلك بقوله م: (ولم يحمد من خالفه) ش: أي من خالف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (وفي كل من ذلك قدوة) ش: أي من القسمة بين الغانمين وإقرار أهلها قدوة، أي اتباع لما فعله عمر ومن وافقه من الصحابة، فإذا كان كذلك م: (فيتخير) ش: الإمام بين القسمة وإقرار أهلها عليها. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن أحداً من الصحابة بل أكثرهم يصير قدوة على خلاف ما فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذا لم يصل إلى حد الإجماع. والجواب عنه من وجهين، أحدهما أن فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا لم يصل إلى حد الإجماع يعلم أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على أي جهة فعله يحمل على أدنى منازل فعاله وهي الإباحة، وحينئذ لا يستوجب لا محالة، فإذا ظهر دليل صحابي جاز أن يعمل بخلافه.
قلت: فيه تأمل. والآخر أن يقال فيه: إن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قد علم من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ما فعله بأهل خيبر لم يكن على وجه الحتم، كما ذكرناه الآن.
الوجه الثاني: أنه على تقدير أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فعل ذلك وجوباً، فإن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل ما فعل مستنبطاً من قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] بعد قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] (الحشر: الآية 7) .
فيكون ثابتاً بإشارة النص وهي تفيد القطع، فيكون الواجب أحدهما يتعين بفعل الإمام كالواجب المخير في خصال الكفارة فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدهما وفعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الآخر، هذا الذي ذكره الأكمل.
وقال صاحب " النهاية ": روي [أن] عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استشار الصحابة مراراً ثم(7/131)
وقيل: الأولى هو الأول عند حاجة الغانمين، والثاني عند عدم الحاجة؛ ليكون عدة في الزمان الثاني، وهذا في العقار، وأما في المنقول المجرد لا يجوز المن بالرد عليهم؛ لأنه لم يرد به الشرع فيه،
وفي العقار خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن في المن إبطال حق الغانمين أو ملكهم، فلا يجوز من غير بدل يعادله، والخراج غير معادل لقلته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جمعهم فقال: أما إني تلوت آية من كتاب الله استغنيت بها عنكم، ثم تلا قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] إلى قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] إلى قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} [الحشر: 9] وهكذا قرأ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] ثم قال: أرى لمن بعدكم في هذا الفيء نصيباً ولو قسمتها بينكم لم يكن لمن بعدكم نصيب.
قسمها عليهم وجعل الجزية على رؤوسهم والخراج على أراضيهم ليكون لهم ولمن يأتي من بعدهم من المسلمين، ولم يخالفه على ذلك إلا نفر منهم بلال، ولم يحمدوا على خلافه.
م: (وقيل) ش: في التوفيق بينهما م: (الأولى) ش: أي القسمة كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (وهو الأول عند حاجة الغانمين) ش: أي عند احتياجهم إليها، وفي بعض النسخ: وقيل: الأول هو الأولى.
م: (والثاني) ش: أي إقرار أهل البلد عليه بالمن، ووضع الجزية والخراج، كما فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (عند عدم الحاجة) ش: أي حاجة الغانمين إليها م: (ليكون عدة في الزمان الثاني) ش: أي في الذي يأتي بعدهم م: (وهذا) ش: أي إقرار أهل البلد على بلدهم بالمن م: (في العقار، أما في المنقول المجرد لا يجوز المن بالرد عليهم لأنه لم يرد به الشرع فيه) ش: بأن يدفع إليهم مجاناً ويقسم به عليهم، وإنما قيد المنقول بالمجرد لأنه يجوز المن عليهم في المنقول بطريق التبعية بالعقار على ما يأتي عن قريب.
م: (وفي العقار خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن عنده لا يجوز إقرار أهل البلد على بلدتهم بالمن في العقار، بل يقسم الأرض أيضاً ولا يتركها في أيديهم، وبه قال أحمد، وعن مالك يقسمها، وعنه كقولنا: م: (لأن في المن إبطال حق الغانمين) ش: أي عندنا لأنه لا يثبت الملك قبل الإحراز بدار الإسلام م: (أو ملكهم) ش: أي أو إبطال ملكهم عند الشافعي، لأن الغنيمة تملك عنده قبل الإحراز بالدار م: (فلا يجوز) ش: أي المن م: (من غير بدل يعادله) ش: أي يعادل حق الغانمين فإن قيل الخراج معادله.
أجاب بقوله: م: (والخراج غير معادل) ش: أي يعادل حق الغانمين، فإن قيل: الخراج يعادله، أجاب بقوله: والخراج غير معادل م: (لقلته) ش: فإن قيل: فالحق إذ الملك ثبت في رقابهم أيضاً وجاز أن يقسمها.(7/132)
بخلاف الرقاب، لأن للإمام أن يبطل حقهم رأسا بالقتل والحجة عليه ما رويناه، ولأن فيه نظرا لهم لأنهم كالأكرة العاملة للمسلمين العالمة بوجوه الزراعة والمؤن مرتفعة، مع ما أنه يحظى به الذين يأتون من بعد، والخراج وإن قل حالا فقد جل مآلا لدوامه. وإن من عليهم بالرقاب والأراضي يدفع إليهم من المنقولات بقدر ما يتهيأ لهم العمل ليخرج عن حد الكراهة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فأجاب بقوله: م: (بخلاف الرقاب) ش: يعني أن حقهم لم يتعلق بها م: (لأن للإمام أن يبطل حقهم رأساً) ش: يعني بالكلية م: (بالقتل) ش: فكذا له أن يبطل بالخلف وهو الجزية، وهذا لأنها خلقت في الأصل حراً، والملك يثبت معارضاً، فالإمام إذا استرقهم فقد بدل حكم الأصل، فإذا جعلهم أحراراً فقد بقي حكم الأصل فكان جائزاً.
م: (والحجة عليه) ش: أي على الشافعي م: (ما رويناه) ش: أي من فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بموافقة الصحابة م: (ولأن فيه) ش: أي في إقرار أهله عليه م: (نظراً لهم) ش: أي للمسلمين م: (لأنهم) ش: أي لأن الكفار يكونون م: (كالأكرة) ش: بفتح الهمزة والكاف والراء، أي كالمزارعين م: (العاملة للمسلمين العالمة بوجوه الزراعة) ش: حاصل الكلام أن تصرف الإمام وقع على وجه النظر في إقرار أهلها عليها، لأنه لو قسمها بين الغانمين اشتغلوا بالزراعة وقعدوا عن الجهاد.
وكان يكره العدو، وربما لا يهتدون لذلك العمل أيضاً، فإذا تركها في أيديهم وهم عارفون بالعمل صاروا كالأكرة المزارعين للمسلمين القائمة بوجوه الزراعة م: (والمؤن) ش: أي مؤن الزراعة م: (مرتفعة) ش: عن الإمام وعن المسلمين م: (مع أنه يحظى) ش: بالظاء المعجمة م: (به الذين يأتون من بعد) ش: قال شيخنا: هذا إشارة إلى قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] .
م: (والخراج وإن قل) ش: هذا جواب عن قول الشافعي، والخراج غير معادل لعلته، تقدير الجواب أن الخراج وإن قل م: (حالاً) ش: لكونه بعض ما يمكن أن يخرج في سنته م: (فقد جل) ش: بالجيم م: (مآلاً) ش: أي في المستقبل م: (لدوامه) ش: في وجوبه كل سنة.
م: (وإن من) ش: أي الإمام م: (عليهم) ش: أي على الكفار م: (بالرقاب والأراضي يدفع إليهم من المنقولات بقدر ما يتهيأ لهم العمل) ش: لأنهم لا يتمكنون من الانتفاع بالأراضي إلا بأسباب الزراعة، فلا بد من أن يدع لهم ما به يتقوون على ذلك م: (ليخرج عن حد الكراهة) ش: معناه ما قال الإمام التمرتاشي فإن من عليهم برقابهم وأراضيهم وقسم النساء والذراري وسائر الأموال جاز.
ولكن يكره لأنهم لا ينتفعون بالأراضي بدون الأموال ولا يقالهم بدون ما يمكن به مرجئة العمر إلا أن يدع لهم ما يمكنهم به العمل في الأرض، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يفعل ذلك(7/133)
قال: وهو في الأسارى بالخيار، إن شاء قتلهم لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد قتل، ولأن فيه حسم مادة الفساد، وإن شاء استرقهم، لأن فيه دفع شرهم مع وفور المنفعة لأهل الإسلام، وإن شاء تركهم أحرارا ذمة للمسلمين لما بينا. إلا في مشركي العرب والمرتدين على ما نبين إن شاء الله تعالى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو الإمام في هذا الكتاب وفيه تعذيب الحيوان بلا فائدة.
م: (قال) ش: أي الإمام، وفي بعض النسخ: قال القدوري: م: (وهو في الأسارى بالخيار إن شاء قتلهم لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتلهم، أخرج البخاري ومسلم عن الزهري عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل عام الفتح وعلى رأسه مغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: يا رسول الله من جعل متعلقاً بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه» زاد البخاري: وقال مالك: «ولم يكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما نرى والله أعلم يومئذ محرماً» . وأخرج أبو داود في المراسيل عن سعيد بن جبير «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (قد قتل) ش: يوم بدر ثلاثة من قريش صبراً» : مطعم بن عدي، والنفس بن عدي وهو غلط، وإنما هو طعمة بن عدي وهو أخو مطعم، وأهل المغازي ينكرون قتل مطعم بن عدي يومئذ ويقولون مات بمكة قبل بدر، والذي قتل يوم بدر هو أخوه طعمة ولم يقتل صبراً وإنما قتل في المعركة، والله أعلم.
م: (ولأن فيه) ش: أي في قتل الأسارى م: (حسم مادة الفساد) ش: أي قطع مادته م: (وإن شاء) ش: أي الإمام م: (استرقهم لأن فيه) ش: أي في استرقاقهم م: (دفع شرهم مع وفور المنفعة لأهل الإسلام، وإن شاء تركهم أحراراً ذمة للمسلمين لما بينا) ش: أي فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فإن قيل: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ينافي ترك قتلهم، فلا يجوز.
أجيب: بأنه ترك العمل به في حق أهل الذمة والمستأمن، هكذا في المتنازع فيه بفعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال الأترازي: وأما جعلهم أهل ذمة على الجزية، توضع الجزية والخراج، فلما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه فعل كذلك بأرض السواد. وهو معنى قوله لما بينا، لكن هذا الحكم في غير المشركين من العرب وغير المرتدين لأنه لا يجوز استرقاقهم، ولا وضع الجزية ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وأشار إليه المصنف بقوله: م: (إلا في مشركي العرب والمرتدين على ما نبين) ش: أي في باب الجزية م: (إن شاء الله تعالى) .(7/134)
ولا يجوز أن يردهم إلى دار الحرب، لأن فيه تقويتهم على المسلمين، فإن أسلموا لا يقتلهم لاندفاع الشر بدونه، وله أن يسترقهم توفيرا للمنفعة بعد انعقاد سبب الملك، بخلاف إسلامهم قبل الأخذ، لأنه لم ينعقد السبب بعد. ولا يفادى بالأسارى عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يفادى بهم أسارى المسلمين، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن فيه تخليص المسلم وهو أولى من قتل الكافر والانتفاع به، وله أن فيه معونة للكفرة لأنه يعود حربا علينا، ودفع شره وشر حرابه خير من استنقاذ الأسير المسلم، لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء من الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[إذا أسلم الأسارى بعد الأسر]
م: (ولا يجوز أن يردهم إلى دار الحرب لأن فيه تقويتهم على المسلمين، فإن أسلموا) ش: أي فإن أسلم الأسارى بعد الأسر م: (لا يقتلهم لاندفاع الشر بدونه) ش: أي بدون القتل، لأن الغرض من قتلهم دفع شرهم وقد حصل ذلك بالإسلام بدون القتل، فلا حاجة إليه، لكن يجوز استرقاقهم وهو معنى قوله: م: (وله) ش: أي للإمام م: (أن يسترقهم توفيراً للمنفعة) ش: للمسلمين م: (بعد انعقاد سبب الملك) ش: وهو أخذهم وهم كفار م: (بخلاف إسلامهم قبل الأخذ) ش: حيث لا يجوز استرقاقهم م: (لأنه لم ينعقد السبب بعد) ش: أي سبب الملك وهو الاستيلاء الأخذ بعد الإسلام. م: (ولا يفادى بالأسارى عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: المفاداة تكون بين اثنين، لأنه من باب المفاعلة، يقال: فاداه: إذا أطلقه وأخذ فديته، كذا قال المطرزي، وقيد الأسير استنقاذه بنفس أو مال، والفدية اسم ذلك المال، وجمعها فدى، وفديات، وعن المبرد المفاداة: أن يدفع رجلاً ويأخذ رجلاً، والفداء أن يشتريه، وقيل هما بمعنى.
وقال ابن الأثير: الفداء بالكسر والمد والفتح مع القصر: فكاك الأسير، يقال: فداه يفديه فداء وفدى، وفاداه يفاديه مفاداة: إذا أعطى فداءه وأنقذه، وفاداه بنفسه وفداه: إذا قال له: جعلت فداك، وقيل: المفاداة أن يفتدى الأسير بأسير مثله، علم أن أخذ الفدية بمقابلة إطلاق أسارى المشركين لا يجوز عند أبي حنيفة وهو المشهور عنه.
م: (وقالا: يفادى بهم) ش: أي الأسارى التي في أيدينا م: (أسارى المسلمين، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وقول مالك وأحمد إلا بالنساء، فإنه لا يجوز المفاداة بالنساء عندهم، ومنع أحمد المفاداة بصبيانهم م: (لأن فيه تخليص المسلم وهو أولى من قتل الكافر والانتفاع به) ش: أي أولى من قتل الكافر الأسير في أيدينا والانتفاع بالكفرة.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن فيه) ش: أي في فداء أسارى المسلمين م: (معونة للكفرة) ش: وفي بعض النسخ تقوية م: (لأنه) ش: أي الأسير الذي يدفع إليهم م: (يعود حرباً علينا ودفع شره وشر حرابه خير من استنقاذ الأسير المسلم، لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء من الله(7/135)
تعالى في حقه غير مضاف إلينا، والإعانة بدفع أسيرهم إليهم مضافة إلينا
أما المفاداة بمال يؤخذ منهم لا يجوز في المشهور من المذهب لما بينا، وفي " السير الكبير " أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة، استدلالا بأسارى بدر،
ولو كان أسلم أسير في أيدينا لا يفادى بمسلم أسير في أيديهم لأنه لا يفيد إلا إذا طابت نفسه به وهو مأمون على إسلامه. قال: ولا يجوز المن عليهم، أي على الأسارى خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعالى في حقه) ش: حال كونه م: (غير مضاف إلينا) ش: أي إلى فعلنا م: (والإعانة بدفع أسيرهم إليهم مضافة إلينا) ش: بطريق التسبب فلا يجوز.
فإن قلت: حديث الطحاوي في " شرح الآثار " عن عمران بن حصين «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فادى برجل من العدو رجلين من المسلمين» .
قلت: هو منسوخ بدليل ما أخبر عمران بن حصين في " شرح الآثار " أيضاً، تفسيره «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدى بذلك المأسور بعد أن أقر بالإسلام» وقد نسخ أن يرد أحد من أهل الإسلام إلى الكفار، بقوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] (الممتحنة: الآية 10) .
[مفاداة الأسرى بمال يؤخذ منهم]
م: (أما المفاداة بمال يؤخذ منهم) ش: أي يأخذه الإمام من الكفار م: (لا يجوز في المشهور من المذهب لما بينا) ش: أي بقوله: إن فيه معونة للكفرة م: (وفي " السير الكبير ") ش: عن محمد م: (أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة استدلالاً بأسارى بدر) ش: «فإنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فادى أسارى بدر بالمال والفداء، وكان أربعة آلاف درهم» وبه قال الشافعي وأحمد.
وقال الأترازي: وهذا الاستدلال عجيب مع نزول الآية بالإنكار على المفاداة.
قلت: وهي قَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ} [الأنفال: 68] (الأنفال: الآية 68) ، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو نزل العذاب ما نجي منه إلا عمر» ، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يشير بالقتل.
[إذا أسلم أسير في أيدينا هل يفادى بمسلم أسير في أيديهم]
م: (ولو كان أسلم أسير في أيدينا لا يفادى بمسلم أسير في أيديهم لأنه لا يفيد) ش: لأنه لا فائدة في تخليص المسلم بالمسلم م: (إلا إذا طابت نفسه به) ش: أي إلا إذا رضي بذلك نفس الأسير المسلم م: (وهو مأمون على إسلامه) ش: لا بخلاف عليه بالردة، وينبغي أن يكون هذا على قوله لأن في المشهور عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنها لا يفادى الأسير بالنفس ولا بالمال.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يجوز المن عليهم) ش: هذا قول القدوري، وقوله م: (أي على الأسارى) ش: من كلام المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - والمن هو الإنعام عليهم بأن يتركهم مجاناً بدون إجراء الأحكام عليهم من القتل أو الاسترقاق أو تركهم ذمة المسلمين م: (خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ومالك وأحمد، وقال الشافعي: حكمهم أحد الأمور الأربعة:(7/136)
فإنه يقول: من رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على بعض الأسارى يوم بدر. ولنا قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] (النساء: الآية 66) ، ولأنه بالأسر والقسر ثبت حق الاسترقاق فيه، فلا يجوز إسقاطه بغير منفعة وعوض، وما رواه منسوخ بما تلونا.
وإذا أراد الإمام العود ومعه المواشي فلم يقدر على نقلها إلى دار الإسلام ذبحها وحرقها ولا يعقرها ولا يتركها. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يتركها لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن ذبح الشاة إلا لمأكلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القتل والاسترقاق والفداء بالأسارى أو بالمال أو المن، وعندهما أحد الأمور الثلاثة، ولا يجوز المن، وعند أبي حنيفة أحد الأمرين: القتل أو الاسترقاق، ولا يجوز الفداء أو المن.
م: (فإنه) ش: أي فإن الشافعي م: (يقول: «من رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على بعض الأسارى يوم بدر» ش: وروي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من على أبي عزة الجمحي يوم بدر» .
م: (ولنا قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] (النساء: الآية 66) ، ولأنه) ش: أي: ولأن المأسور، كذا قاله الكاكي، والأولى أن يقال ولأن الشأن م: (بالأسر والقسر) ش: أي القهر م: (ثبت حق الاسترقاق فيه) ش: أي في المأسور م: (فلا يجوز إسقاطه) ش: أي إسقاط الحق م: (بغير منفعة وعوض) ش: كسائر الأموال المقسومة، ولأن في ذلك تقوية لهم على المسلمين فلا يجوز كرد السلاح إليهم.
م: (وما رواه) ش: أي الشافعي م: (منسوخ بما تلونا) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] لأنه متأخر نزل بعد ذلك، لأن سورة براءة آخر ما نزلت وقد تضمنت وجوب القتل على كل حال بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] فكان ناسخاً لما تقدم كله.
ولقائل أن يقول قد أجمعوا على أنه مخصوص خص منه الذمي والمستأمن فجاز أن يخص منه الأسير قياساً عليهم، أو لحديث أبي عزة أو غيرهما، والجواب أن قياس الأسير على الذمي فاسد لوجود الذمة فيه دون الأسير، وهي المناط، وكذا المستأمن لعدم استحقاق رقبته، وحديث أبي عزة متقدم على الأئمة وغيرها غير موجود أو غير معلوم فلا يصح التخصيص بشيء من ذلك.
[أراد الإمام العود إلى دار الإسلام ومعه المواشي]
م: (وإذا أراد الإمام العود) ش: أي إلى دار الإسلام م: (ومعه المواشي) ش: جمع ماشية وهي الإبل والبقر والغنم م: (فلم يقدر على نقلها) ش: أي على نقل الماشية م: (إلى دار الإسلام ذبحها وحرقها ولا يعقرها ولا يتركها، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتركها) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال مالك: يجوز عقرها لا حرقها م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «نهى عن ذبح الشاة إلا لمأكلة» ش: هذا غريب.
وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا محمد بن فضل عن يحيى بن سعيد قال: «حدث أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعث جيوشاً..... الحديث، وفيه: لا يعقرن شاة ولا بقرة إلا لمأكلة» .(7/137)
ولنا أن ذبح الحيوان يجوز بغرض صحيح، ولا غرض أصح من كسر شوكة الأعداء، ثم يحرق بالنار لينقطع منفعته عن الكفار، وصار كتخريب البنيان، بخلاف التحريق قبل الذبح لأنه منهي عنه، وبخلاف العقر لأنه مثلة، وتحرق الأسلحة أيضا وما لا يحترق منها يدفن في موضع لا يقدر عليه الكفار إبطالا للمنفعة عليهم.
ولا يقسم غنيمة في دار الحرب حتى يخرجها إلى دار الإسلام. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بذلك، وأصله أن الملك للغانمين لا يثبت قبل الإحراز بدار الإسلام عندنا، وعنده يثبت، ويبنى على هذا الأصل عدة من المسائل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بفتح الكاف وضمها مصدر الأكل.
[ذبح الحيوان لكسر شوكة الأعداء]
م: (ولنا أن ذبح الحيوان يجوز بغرض صحيح، ولا غرض أصح من كسر شوكة الأعداء) ش: وإلحاق الغيظ فتذبح م: (ثم يحرق بالنار لينقطع منفعته عن الكفار، وصار كتخريب البنيان) ش: والجامع قطع المنفعة عنهم م: (بخلاف التحريق قبل الذبح) ش: حيث لا يجوز م: (لأنه منهي عنه) ش: أي لأن الحرق بالنار منهي عنه.
وفيه أحاديث منها ما رواه البخاري عن سليمان بن يسار «عن أبي هريرة: بعثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعث فقال: " إن وجدتم فلاناً وفلاناً فأحرقوهما "، فلما خرجنا دعانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " إن وجدتم فلاناً وفلاناً فاقتلوهما ولا تحرقوهما، فإنه لا يعذب بها إلا الله» وأخرجه الترمذي في " سننه "، «وسمى الرجلين فقال فيه: إن وجدتم هبار بن الأسود، ونافع بن عبد القيس» .
م: (وبخلاف العقر) ش: حيث لا يجوز م: (لأنه مثلة) ش: وهو حرام م: (وتحرق الأسلحة أيضاً) ش: لقطع قوتهم، هذا إذا كان الإمام لا يقطع من إخراجها إلى دار الإسلام، وكانت مما يحرق بالنار م: (وما لا يحترق منها) ش: بأن كان من الحديد م: (يدفن في موضع لا يقدر عليه الكفار إبطالا للمنفعة عليهم) ش: لأن قطع قوتهم بهذا السلاح يكون بالدفن.
[قسمة الغنائم في دار الحرب]
م: (ولا يقسم غنيمة في دار الحرب حتى يخرجها إلى دار الإسلام، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بذلك) ش: أي بالقسم في دار الحرب بعدما انهزم المشركون، وبه قال أحمد، وقال مالك: يعجل قسمة الأموال في دار الحرب ويؤخر قسمة السبي إلى دار الإسلام م: (وأصله) ش: أي أصل الخلاف م: (أن الملك للغانمين لا يثبت قبل الإحراز بدار الإسلام عندنا، وعنده) ش: أي وعند الشافعي م: (يثبت ويبتنى على هذا الأصل عدة من المسائل) ش: منها أن أحداً من الغانمين إذا وطئ أمة من السبي فولدت فادعاه ثبت نسبه عنده وصارت الأمة أمة ولد.
وعندنا لا يثبت النسب لعدم الملك، ويجب العقر ويقسم الأمة والولد والعقر بين الغانمين، ومنها، البيع لو باع الإمام أو واحد من الغزاة شيئاً من الغنيمة لا يجوز عندنا خلافاً لهم، ومنها الإرث، إذا مات أحد الغزاة بدار الحرب لا يورث منه عندنا خلافاً لهم.(7/138)
ذكرناها في كفاية المنتهى، له أن سبب الملك الاستيلاء إذا ورد على مال مباح كما في الصيد، ولا معنى للاستيلاء سوى إثبات اليد، وقد تحقق. ولنا أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن بيع الغنيمة في دار الحرب، والخلاف ثابت فيه، والقسمة بيع معنى فتدخل تحته، ولأن الاستيلاء إثبات اليد الحافظة والناقلة، والثاني منعدم لقدرتهم على الاستنقاذ ووجوده ظاهرا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنها لو لحق المدد قبل القسمة لا يشاركه عندهم ويشارك عندنا، ومنها لو أتلف واحد شيئاً من المغنم قبل الإحراز، لا يضمن عندنا، خلافاً لهم م: (ذكرناها في كفاية) ش: بتوفيق الله، أراد بالكفاية كفاية م: (المنتهى) ش: وهو كتاب معدوم لم يقع في ديار العراق والشام ومصر.
م: (له) ش: أي للشافعي م: (أن سبب الملك الاستيلاء إذا ورد على مال مباح كما في الصيد) ش: والاحتطاب م: (ولا معنى للاستيلاء سوى إثبات اليد وقد تحقق) ش: أي الاستيلاء.
م: (ولنا أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «نهى عن بيع الغنيمة في دار الحرب» ش: هذا غريب ليس له أصل م: (والخلاف) ش: أي الخلاف المذكور بيننا وبين الشافعي م: (ثابت فيه) ش: أي في البيع، فمن حرم البيع القسمة م: (والقسمة بيع معنى) ش: أي من حيث المعنى لاشتمالها على الأفراد والمبادلة لا محالة: (فتدخل تحته) ش: أي فتدخل القسمة تحت البيع، فكما لا يجوز البيع لا تجوز القسمة.
م: (ولأن الاستيلاء إثبات اليد الحافظة) ش: وهي اليد التي يثبت بها حفظ العين م: (والناقلة) ش: أي وإثبات اليد الناقلة، وهي التي تنقل العين من شخص إلى شخص، قاله الأترازي، وقال الكاكي: والناقلة بأن ينقله كيف شاء يتصرف فيه، وقيل: الناقلة بالإحراز الناقل إلى دار الإسلام.
م: (والثاني) ش: أي إثبات اليد الناقلة م: (منعدم لقدرتهم) ش: أي لقدرة الكفرة م: (على الاستنقاذ) ش: أي الاستخلاص لأنهم قاهرون بالدار معنى لأنها في أيديهم م: (ووجوده) ش: بالجر عطف على قوله: لقدرتهم، أي لوجود الاستنقاذ م: (ظاهراً) ش: لكون الدار في أيديهم، لأن الدار إنما تضاف إلينا أو إليهم باعتبار القوة والاستيلاء، وما بقيت هذه البقعة منسوبة إليهم عرف أن القوة لهم.
ألا ترى أنه يحل للإمام أن يرجع إلى دار الإسلام ويترك هذه البقعة في أيديهم، والقوة على الاسترداد ظاهر، يمنع ثبوت يد المسلمين، بخلاف ما إذا فتحت البلدة، لأنها صارت دار إسلام لفتحها وإجراء الأحكام فيها.
فكان فتح البلدة كالإحراز بدارنا، إليه أشار في " المبسوط " وفي " السير الكبير ": دار الحرب الأرض التي يخاف فيها المسلمون من أرض العدو، ودار الإسلام ما غلب عليها المسلمون(7/139)