{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] (91 التوبة) . وله أنه ملك الصيد بالأخذ ملكا محترما، فلا يبطل احترامه بإحرامه وقد أتلفه المرسل فيضمنه، بخلاف ما إذا أخذه في حالة الإحرام؛ لأنه لم يملكه. والواجب عليه ترك التعرض، ويمكنه ذلك بأن يخليه في بيته، فإذا قطع يده عنه كان متعديا، ونظيره الاختلاف في كسر المعازف.
وإذا أصاب محرم صيدا فأرسله من يده غيره لا ضمان عليه بالاتفاق؛ لأنه لم يملكه بالأخذ، فإن الصيد لم يبق محلا للتملك في حق المحرم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] (96 المائدة) ، فصار كما إذا اشترى الخمر، فإن قتله محرم آخر في يده فعلى كل واحد منهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يكون ضامنًا، قال تعالى. م: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] (التوبة: الآية 91) ش: لأنه فعل ما فعله طلبًا لرضا الله تعالى، وما لأحد سبيل إلى منع المحسن من إحسانه.
م: (وله) ش: أي لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (أنه) ش: أي المحرم. م: (ملك الصيد بالأخذ ملكا محترما) ش: أي معصومًا. م: (فلا يبطل احترامه بإحرامه) ش: كما في سائر أمواله. م: (وقد أتلفه المرسل فيضمنه) ش: بالإتلاف. م: (بخلاف ما إذا أخذه في حالة الإحرام) ش: لأن محرم العين على المحرم فلا يضمن المرسل. م: (لأنه) ش: أي لأن الآخذ. م: (لم يملكه) ش: أي لم يملك الصيد. م: (والواجب عليه) ش: جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال سلمنا أنه ملكه ملكًا محترمًا، ولكن وجب إخراجه من الملك تركًا للتعرض الواجب الترك فأجب بقوله الواجب عليه. م: (ترك التعرض) ش: لا الإخراج عن ملكه. م: (ويمكنه ذلك بأن يخليه في بيته، فإذا قطع يده عنه كان متعديا) ش: فيضمنه. م: (ونظيره الاختلاف في كسر المعازف) ش: لأنه آمر بالمعروف ناه عن المنكر، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب الضمان؛ لأنه مملوك لصاحبه كما إذا قتل الجارية المغنية خطأ تجب قيمتها غير مغنية والمعازف الملاهي، قال ابن دريد: قال قوم من أهل اللغة: هو اسم يجمع العود والطنبور وأشباههما. وقال آخرون: بل المعازف التي استخرجها أهل اليمن في ديوان الأدب المعزف ضرب من الطنابير يتخذه أهل اليمن.
م: (وإذا أصاب محرم صيدا فأرسله من يده غيره لا ضمان عليه بالاتفاق) ش: بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وصاحبيه. م: (لأنه) ش: أي لأن المحرم. م: (لم يملكه) ش: أي الصيد. م: (بالأخذ) ش: ملكًا محترمًا. م: (فإن الصيد لم يبق محلا للتمليك) ش: لأن الحرمة أضيفت إلى العين. م: (في حق المحرم؛ لقوله عز وجل: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] ش: (المائدة: الآية 96) أي محرمين. م: (فصار كما إذا اشترى الخمر) ش: يعني إذا اشترى المسلم الخمر لا يملكها، فإذا أتلفها آخر لا ضمان عليه؛ لأنها حرام لعينها لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حرمت الخمرة لعينها» فكذا إذا أرسل صيد المحرم؛ لأن الصيد حرام عليه لعينه، فلا يجب الضمان.
م: (فإن قتله محرم آخر في يده) ش: أي في يد المحرم. م: (فعلى كل واحد منهما) ش: أي من(4/411)
جزاؤه؛ لأن الآخذ متعرض للصيد الآمن، والقاتل مقرر لذلك، والتقرير كالابتداء في حق التضمين كشهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا، ويرجع الآخذ على القاتل، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يرجع؛ لأن الآخذ مؤاخذ بصنعه فلا يرجع على غيره. ولنا أن الآخذ إنما يصير سببا للضمان عند اتصال الهلاك به، فهو بالقتل جعل فعل الآخذ علة، فيكون في معنى مباشرة علة العلة فيحال بالضمان عليه كالغاصب.
فإن قطع حشيش الحرم، أو شجرة ليست بمملوكة، وهو مما لا ينبته الناس فعليه قيمته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الآخذ والقاتل. م: (جزاؤه؛ لأن الآخذ متعرض للصيد الآمن، والقاتل مقرر لذلك) ش: أي التعرض الموجب لتفويت الأمن. م: (والتقرير كالابتداء في حق التضمين كشهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا) ش: لأنهم يضمنون بما قرروا بشهادتهم ما كان على شرف السقوط بتمكين الزوج على ما عرف. م: (ويرجع الآخذ على القاتل) .
ش: فإن قلت: ليس للآخذ في الصيد ملك ولا يد محترمة، فكيف يرجع على القاتل، فالضمان يجب بأحد هذين الأمرين.
قلت: يده على الصيد معتبرة بحق الآخذ؛ لأنه يتمكن من إرساله وإسقاط الجناية عن نفسه فالقاتل صار مفوتًا هذه اليد، فيضمن إن لم يملكه الآخذ كغاصب المدبر إذا قتله إنسان في يده فأدى الغاصب ضمانه، فإنه يرجع على القاتل بقيمته كما لو ملكه وإن كان المدبر لا يقبل النقل من ملك إلى ملك.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يرجع؛ لأن الآخذ مؤاخذ بصنعه) ش: وهو تعرضه للصيد الآمن فلا يرجع على غيره؛ لأنه يستلزم تنزيل الراجع منزلة المالك بواسطة الضمان والصيد غير قابل للملك في حق المحرم. م: (فلا يرجع على غيره) ش: كمسلم غصب خنزير ذمي فأتلفه من يده آخر فأخذ الذمي من الغاصب لم يرجع الغاصب على المتلف بشيء، فكذا هذا.
م: (ولنا أن الآخذ إنما يصير سببا للضمان عند اتصال الهلاك به) ش: أي بالأخذ. م: (فهو) ش: أي القاتل. م: (بالقتل جعل فعل الآخذ علة، فيكون) ش: أي قتله. م: (في معنى مباشرة علة العلة فيحال بالضمان) ش: أي يضاف الضمان. م: (عليه) ش: أي إلى القاتل. م: (كالغاصب) ش: أي إذا أتلف المغصوب وضمنه الغاصب، فإن حصل الضمان يستقر عليه، والجواب عما استشهد به زفر أن غاصب الخنزير أثبت له يد محترمة؛ لأن خروجه عن محل التمليك لإهانته، بخلاف الصيد؛ لأن ذلك فيه زيادة احترام في حق المحرم بإحرامه لحرمة الأذى، فبقيت له يد محترمة، وإن لم يثبت له ملك.
[قطع حشيش الحرم وشجره]
م: (فإن قطع حشيش الحرم، أو شجرة ليست بمملوكة، وهو مما لا ينبته الناس فعليه قيمته) ش: الواو فيه للحال. اعلم أن ما زرعه الإنسان وشجر الحرم أنواع أربعة؛ إما أن يكون من جنس ما(4/412)
إلا فيما جف منه؛ لأن حرمتهما تثبت بسبب الحرم، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها» ، ولا يكون للصوم في هذه القيمة مدخل؛ لأن حرمة تناولها بسبب الحرم لا بسبب الإحرام، فكان من ضمان المحال على ما بينا،
ويتصدق بقيمته على الفقراء، وإذا أداها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ينبته الناس كالجوز واللوز والتفاح والكمثرى ونحوها، أو من جنس ما لا ينبتونه كشجر أم غيلان والأثل وكل واحد منهما إما أن ينبت بنفسه أو ينبته الناس فينبت، ولا يجب الجزاء إلا في نوع واحد وهو الذي ينبت بنفسه مما لا ينبته الناس، ولا شيء في الأنواع الثلاثة؛ لأنها لا تنبت للحرم بل إلى المنبت؛ لهذا تملك بالإنبات فكانت أهلية ولم تكن حرمية.
وفي " المبسوط " حرمة شجر الحرم كحرمة صيده فإن صيده يأكل منها ويأوي إليها ويستظل بظلها ويتخذ الوكر على أغصانها، ويسكن إليها في الحر والمطر كالكهوف، وما ينبته الناس عادة فهو لهم، والناس يزرعون في الحرم ويحصدونه من عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير نكير.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بما أنبته الناس في الحرم من النخل والشجر كما في البقول والزروع، وهو قول أبي الخطاب وابن عقيل من الحنابلة. وقال القاضي منهم: يجب الجزاء، وهو قول الشافعي في الجزاء في الشجر بكل حال، وهو المذهب عنده فأوجب في الدوحة وهي الشجرة العظيمة بقرة، ورووه عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وليس له صحة، وضعفه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي أصغر من ذلك شاة والكبيرة بالبقرة والصغيرة بالشاة عند الشافعي وابن حنبل، ولا أصل له إلا ما روي عن عطاء والشافعي لا نقله الصحابة، وقلد الشافعي فيه مع مخالفة الأصول. وعن بعض السلف أنه أوجب في الدوحة بدنة، وعن عبد الله وابن المنذر وابن أبي نجيح في الدوحة سبعة دنانير أو ستة دنانير، وقال مالك وأبو ثور وداود الظاهري وابن المنذر: لا ضمان في شجر الحرم ولا في حشيشه كقطع المحرم في الدليل، وهو قول الشافعي في القديم. وقال في الجديد: يلزمه الجزاء، وبه قال أحمد، لكن الجزاء عند الشافعي في الدوحة بقرة كما قلنا عن قريب، وفيما دونها شاة وفي الصغيرة القيمة والمعتبر فيها أن تكون سبعة للعظيمة. وقال ابن المنذر: لا أجد دليلًا فيه من كتاب ولا سنة ولا إجماع.
م: (إلا فيما جف منه) ش: استثناء من قوله: فعليه قيمته، يعني لا يجب عليه شيء في قطع ما جف منه، أي يبس. م: (لأن حرمتهما) ش: أي حرمة حشيش الحرم وحرمة شجره. م: (تثبت بسبب الحرم، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها» ش: هذا الحديث قد مر. م: (ولا يكون للصوم في هذه القيمة) ش: أي قيمة شجر الحرم وحشيشه. م: (مدخل؛ لأن حرمة تناولها بسبب الحرم لا بسبب الإحرام، فكان من ضمان المحال) ش: لا ضمان الفعل كما في صيد الحرم. م: (على ما بينا) ش: أشار به إلى قوله والصوم يصلح جزاء الأفعال لا ضمان من ضمان المحال.
م: (ويتصدق بقيمته على الفقراء، وإذا أداها) ش: أي إذا أدى القاطع قيمة قيمة الشجر إلى الفقراء. م:(4/413)
ملكه كما في حقوق العباد.
ويكره بيعه بعد القطع؛ لأنه ملكه بسبب محظور شرعا، فلو أطلق له في بيعه لتطرق الناس إلى مثله، إلا أنه يجوز البيع مع الكراهة، بخلاف الصيد، والفرق ما نذكره. والذي ينبته الناس عادة عرفناه غير مستحق للأمن بالإجماع؛ ولأن المحرم المنسوب إلى الحرم والنسبة إليه على الكمال عند عدم النسبة إلى غيره بالإنبات. وما لا ينبت عادة إذا أنبته إنسان التحق بما ينبت عادة. ولو نبت بنفسه في ملك رجل فعلى قاطعه قيمتان: قيمة لحرمة الحرم حقا للشرع، وقيمة أخرى ضمانا لمالكه كالصيد المملوك في الحرم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(ملكه) ش: أي ملك الشجر. م: (كما في حقوق العباد) ش: كالغاصب إذا أدى قيمة المغصوب إلى مالك ملك المغصوب.
فإن قلت: في المقيس عليه تحصل المعاوضة، وفي المقيس لا تحصل.
قلت: تحصل المعاوضة في المقيس أيضًا؛ لأن الفقير نائب عن الله تعالى، وقد ملك العوض، فيملك القاطع المعوض وهو الشجر.
م: (ويكره بيعه) ش: أي بيع الحشيش والشجر. م: (بعد القطع؛ لأنه ملكه بسبب محظور شرعا، فلو أطلق له في بيعه لتطرق الناس إلى مثله) ش: ولا يبقى أشجار الحرم، وفي ذلك إلحاق صيد الحرم. م: (إلا أنه يجوز البيع مع الكراهة) ش: لأنه ملكه بالضمان. م: (بخلاف الصيد) ش: يعني لا يجوز بيع الصيد بعد أداء القيمة أصلًا. م: (والفرق ما نذكره إن شاء الله تعالى) ش: وهو قوله لأن بيعه جائز تعرض للصيد إلا من يقف عليه بعد سبعة عشر أو ثمانية عشر شطرًا.
م: (والذي ينبته الناس عادة) ش: متصل بقوله وهو ما ينبته الناس. م: (عرفناه غير مستحق الأمن بالإجماع) ش: لأن الناس يزرعون في الحرم ويحصدون فيه من عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا من غير نكير من أحد. م: (ولأن المحرم المنسوب إلى الحرم) ش: أي الذي يحرم قطعه هو الشجر الذي ينبت إلى الحرم. م: (والنسبة إليه على الكمال عند عدم النسبة إلى غيره بالإنبات) ش: أي بإنبات أحد. م: (وما لا ينبت) ش: على صيغة المجهول. م: (عادة) ش: أي من حيث العادة. م: (إذا أنبته إنسان التحق بما ينبته عادة) ش: أراد بالالتحاق أن لا يجب بقطعه شيء بحرمة الحرم.
م: (ولو نبت بنفسه) ش: أي لو نبت ما لا ينبت عادة كأم غيلان بلا إنبات أحد. م: (في ملك رجل فعلى قاطعه قيمتان: قيمة لحرمة الحرم حقا للشرع، وقيمة أخرى) ش: أي تجب قيمة أخرى. م: (ضمانا) ش: أي للضمان. م: (لمالكه كالصيد المملوك في الحرم) ش: حيث يجب فيه قيمتان: إحداهما لحرمة الحرم والأخرى لصاحب الصيد.
فإن قيل: النبات يملك بالأخذ، فكيف تجب القيمة بعد ذلك. وأجيب بأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار» ، محمول على خارج الحرم، وأما حكم الحرم فبخلافه؛ لأنه حرام التعرض بالنص كصيده.(4/414)
وما جف من شجر الحرم لا ضمان فيه؛ لأنه ليس بنام. ولا يرعى حشيش الحرم، ولا يقطع إلا الإذخر. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بالرعي؛ لأن فيه ضرورة، فإن منع الدواب عنه متعذر. ولنا ما روينا، والقطع بالمشافر كالقطع بالمناجل، وحمل الحشيش من الحل ممكن فلا ضرورة فيه، بخلاف الإذخر؛ لأنه استثناه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: الحرم غير مملوك لأحد، فكيف يتصور قوله - وقيمة أخرى ضمانًا لمالكه - وأجيب بأنه على قول من يرى بملك أرض الحرم، وهو قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -.
م: (وما جف من شجر الحرم لا ضمان فيه؛ لأنه ليس بنام) ش: لأنه لو وجب الضمان فيه لتضرر أهل الحرم في إيقاد النار؛ لأن ما جف بمنزلة الميت من الصيد. م: (ولا يرعى حشيش الحرم، ولا يقطع إلا الإذخر) ش: وهو نبت بمكة معروف، وبه قال الشافعي ومالك - رحمهما الله -. وفي " المحلى " لا يحل لأجل قطع شيء من شجر الحرم ولا شوكه ولا من حشيش حاشًا الإذخر، واستثنى مالك والشافعي - رحمهما الله - السنا أيضًا. قال: وهو خلاف أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويجب الضمان بإتلاف الشجر، وهو مروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وعطاء، وبه قال مالك، والشافعي، وابن حنبل، ويحرم قطع الشجر والعوسج وبه قال مالك، وابن حنبل، وعطاء. وعن مجاهد، وعمرو بن دينار، والشافعي: لا يحرم، وهو مردود بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «لا يعضد شوكها» في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في " الصحيحين ".
وقال الشافعي: لا قطع في الشجرة المؤذية كقتل الصيد المؤذي وهو قياس بعيد في مقابلة النص فهو فاسد الوضع، كاستدلال الشافعية بخبر الواحد فيما تعم به البلوى، واختار المتولي منهم أنه مضمون، وقطع إمام الحرمين، والغزالي، إلى أن تحريم الشجرة مما لا ينبته الناس.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بالرعي) ش: وبه قال الشافعي، ومالك. م: (لأن فيه ضرورة، فإن منع الدواب عنه متعذر. ولنا ما روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا يختلى خلالها» . م: (والقطع بالمشافر كالقطع بالمناجل) ش: هذا جواب عما يقال النص في القطع لا في الرعي، والمشافر جمع مشفرة، ومشفر البعير كالجحفلة من الفرس، والشفر من الإنسان، والمناجل جمع منجل بكسر الميم، وهو الحديد الذي يحصد به الزرع. م: (وحمل الحشيش من الحل ممكن) ش: هذا جواب عن قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن فيه ضرورة تقريره سلمنا أن النص في القطع لا في الرعي، لكن لا نسلم الضرورة؛ لأن حمل الحشيش من الحل إلى خارج الحرم ممكن. م: (فلا ضرورة، بخلاف الإذخر) ش: هذا جواب أيضًا عما يقال: ما بال الإذخر لم يحرم رعيه، ولا ضرورة فيه، فأجاب بقوله: بخلاف الإذخر.
م: (لأنه) ش: أي لأن الإذخر. م: (استثناه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: وهو في حديث طويل أخرجه الأئمة(4/415)
فيجوز قطعه ورعيه، وبخلاف الكمأة؛ وذلك لأنها ليست من جملة النبات،
وكل شيء فعله القارن مما ذكرنا أن فيه على المفرد دما فعليه دمان: دم لحجته، ودم لعمرته. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دم واحد بناء على أنه محرم بإحرام واحد عنده، وعندنا بإحرامين. وقد مر من قبل. قال: إلا أن يتجاوز الميقات غير محرم بالعمرة أو الحج فيلزمه دم واحد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الستة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لما فتح الله على رسوله مكة..» الحديث، وقد ذكرناه عن قريب. وفي آخره: الإذخر. م: (فيجوز قطعه ورعيه) ش: لاستثناء الشارع في أمره. م: (وبخلاف الكمأة) ش: معطوف على قوله بخلاف الإذخر. م: (وذلك لأنها ليست من جملة النبات) ش: إنما هو شيء مزروع في الأرض ينبت من ماء السماء لا من الأرض في النبات ينبت من الأرض ومائها، كذا قال في " الكافي "، والكمأة بفتح الكاف، وسكون الميم، وفتح الهمزة جمع كم على عكس ثمرة.
فإن قيل: النص عام، وقد خص منه الإذخر بالنص أو الإجماع، فلم لا يجوز تخصيصه بغير الرعي والضرورة.
قلنا: الإذخر خص بالاستثناء المتصل، والكمأة تداخله، فلا يجوز تخصيصه المتراخي يجوز عند بعض أصحابنا، كذا قيل. وفي " المبسوط "، و" البدائع ": تأويل الحديث أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان من قصد فيه الاستثناء، فسبقه العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أو كان أوحي إليه أنه يرخص فيما سبقه العباس، أو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عممه، فجاء جبريل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرخصة، فقال: «إلا الإذخر» .
م: وكل شيء فعله القارن مما ذكرنا) ش: يعني من الجنايات. م: أن فيه على المفرد دما فعليه) ش: أي على القارن. م: (دمان: دم لحجته، ودم لعمرته. وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: دم واحد) ش: أي عليه دم واحد، وبه قال مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه. م: (بناء على أنه محرم بإحرام واحد عنده) ش: لأن إحرام العمرة داخل في إحرام الحجة عنده، حتى إن القارن يطوف طوافًا واحدًا ويسعى سعيين.
م: (وعندنا بإحرامين. وقد مر من قبل) ش: أراد به ما ذكره بقوله: في باب القران الاختلاف بيننا وبين الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بناء على أن القارن عندنا يطوف طوافين ويسعى سعيين، وعنده طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا.
م: (إلا أن يتجاوز) ش: وفي بعض النسخ، قال: أي القدوري. م: (إلا أن يتجاوز القارن) ش: وفي بعض نسخ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أن يجاوز من باب المفاعلة، والأول من باب التفاعل وهذا استثناء من قوله: فعليه دمان، إلا في هذه المسألة، وفيه نظر؛ لأن للقارن دمان، أي على القارن دمان في كل موضع يجب فيه على المفرد دم إلا في صورة واحدة، وهي أن يجاوز. م: (الميقات غير محرم) ش: أي حال كونه غير محرم. م: (بالعمرة أو الحج فيلزمه دم واحد) ش: وفي(4/416)
خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما أن المستحق عليه عند الميقات إحرام واحد، وبتأخير واجب واحد لا يجب إلا جزاء واحد.
وإذا اشترك محرمان في قتل صيد فعلى كل واحد منهما جزاء كامل؛ لأن كل واحد منهما بالشركة يصير جانيا جناية تفوق الدلالة، فيتعدد الجزاء بتعدد الجناية. وإذا اشترك حلالان في قتل صيد الحرم فعليهما جزاء واحد؛ لأن الضمان بدل عن المحل لا جزاء عن الجناية فيتحد باتحاد المحل، كرجلين قتلا رجلا خطأ تجب عليهما دية واحدة، وعلى كل واحد منهما كفارة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعض النسخ يلزمه لذلك الدم دم واحد. وقال القدوري في " شرح مختصر الكرخي ": وليس في الأصول معنى يجب على المفرد دم، وعلى القارن دم، إلا في هذه المسألة ففيه نظر؛ لأن القارن إذا أفاض قبل الإمام عليه دم واحد، وكذا إذا أدى طواف الزيارة جنبًا، أو محدثًا، وقد رجع إلى أهله يجب عليه دم واحد، وكذلك إذا وقف القارن بعرفة ثم قتل صيدًا. م: (خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن عنده يجب عليه دمان.
م: (لما أن المستحق عليه عند الميقات إحرام واحد) ش: هذا تعليل لنا لا لزفر، أي الواجب عليه عند عبور الميقات أحد الإحرامين هو إحرام واحد للعمرة. م: (وبتأخير واجب واحد، لا يجب إلا جزاء واحد) ش: ألا ترى أنه لو أحرم بالعمرة عند الميقات، ثم جاوز، ثم أحرم بالحج لا شيء عليه مع أنه قارن، بخلاف سائر المحظورات، فإنه صار بجنايته مرتكبًا به محظورة إحرامين، فيدخل النقص فيهما، وهاهنا ليس كذلك، وكذا لو أهل بعمرته بعدما جاوز ثم أهل بحجته بمكة فعليه دم واحد بتأخيره إحرام العمرة.
م: (وإذا اشترك محرمان في قتل صيد فعلى كل واحد منهما جزاء كامل) ش: وهو قول الحسن، والشعبي، وسعيد بن جبير، والنخعي، والثوري، وبه قال مالك، والمتولي من الشافعية، وهو رواية عن أحمد، واختيار أبي بكر من الحنابلة. وعن ابن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وطاووس، والزهري، وحماد بن أبي سليمان، والأوزاعي، أن عليهما جزاء واحد. م: (لأن كل واحد منهما بالشركة يصير جانيا جناية تفوق الدلالة، فيتعدد الجزاء بتعدد الجناية) ش: الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: هو ضمان المحل، والمحل واحد، ونحن نقول: هو ضمان الفعل، والفعل متعدد.
م: (وإذا اشترك حلالان في قتل صيد الحرم فعليهما جزاء واحد؛ لأن الضمان بدل عن المحل لا جزاء عن الجناية فيتحد) ش: أي الجزاء. م: (باتحاد المحل) ش: والمحل واحد، والجزاء واحد على كل واحد منهما نصف قيمة الصيد، وإن كانوا أكثر من ذلك ضم الضمان على عددهم. م: (كرجلين قتلا رجلا خطأ تجب عليهما دية واحدة) ش: لأنه لا ضمان المحل. م: (وعلى كل واحد منهما كفارة) ش: لأنها ضمان الفعل.(4/417)
وإذا باع المحرم الصيد أو ابتاعه فالبيع باطل؛ لأن بيعه حيا تعرض للصيد بتفويت الأمن وبيعه بعدما قتله بيع ميتة. ومن أخرج ظبية من الحرم فولدت أولادا فماتت هي. وأولادها فعليه جزاؤهن؛ لأن الصيد بعد الإخراج من الحرم بقي مستحقا للأمن شرعا، ولهذا وجب رده إلى مأمنه، وهذه صفة شرعية فتسري إلى الأولاد. فإن أدى جزاءها ثم ولدت ثم ماتت الأولاد ليس عليه جزاء الولد؛ لأن بعد أداء الجزاء لم تبق آمنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإذا باع المحرم الصيد أو ابتاعه) ش: أي اشتراه. م: (فالبيع باطل؛ لأن بيعه حيا) ش: أي لأن بيع المحرم الصيد حال كونه حيًا. م: (تعرض للصيد بتفويت الأمن وبيعه بعدما قتله بيع ميتة) ش: وكلاهما باطل فيكون البيع باطلًا. وقال الناطقي: لو اشترى، أو باع حال إحرامه الصيد، نقض الحاكم البيع، وإن قبضه المشتري فاستهلكه، والبائع محرم، والمشتري حلال، فعلى البائع قيمة الصيد للكفارة، ولا ضمان عليه للبائع إن كان صاده حال إحرامه، وإن صاده وهو حلال ثم أحرم ثم باعه حال إحرامه فعلى المشتري قيمته للبائع. م: (ومن أخرج ظبية من الحرم فولدت أولادا فماتت هي وأولادها فعليه جزاؤهن) ش: أي جزاء الأم والأولاد. م: (لأن الصيد بعد الإخراج من الحرم بقي مستحقا للأمن شرعا) ش: يعني بعد إخراجه من الحرم متصف بوصف شرعي وهو الأمن. وإذا كان كذلك بقي مستحقًا بأن يكون آمنًا من جهة الشرع، ولقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] (آل عمران: الآية 97) ، فبقي معه هذا الوصف.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل استحقاقه الأمن شرعًا. م: (وجب رده إلى مأمنه، وهذه صفة شرعية) ش: أي كون الصيد واجب الرد إلى المأمن، أي إلى موضع أمانه، وهو الحرم صفة شرعية. م: (فتسري إلى الأولاد) ش: يعني يثبت وجوب الرد إلى الحرم في الأولاد أيضًا؛ لأن الأوصاف القارة في الأمهات تسري إلى الأولاد، كالحرية، والكتابة، والتدبير.
فإن قلت: ينتقض هذا بولد المغصوبة، فإنها واجب الرد، ولم يسر إلى والدها.
قلت: صفة المغصوبية ليست بصفة شرعية فلا يتعدى إلى الولد.
فإن قلت: المضمونية صفة شرعية، فينبغي أن تتعدى.
قلت: هي صفة غير لازمة، فلا تسري، بخلاف التدبير وغيره، فإنه صفة لازمة، وفي " جامع قاضي خان ": إن سبب وجوب الضمان في المغصوب تفويت اليد، ولم يوجد ذلك في الأولاد لا حقيقة، ولا حكمًا؛ لأن المالك لم يطالب الأولاد حتى إذا طالبه وامتنع كان ضامنًا، أما حق الرد لله تعالى في كل ساعة، فإذا لم يرد ومنع كان ضامنًا من وقت المنع.
م: (فإن أدى جزاءها) ش: أي جزاء الظبية. م: (ثم ولدت ثم ماتت الأولاد ليس عليه جزاء الولد؛ لأن بعد أداء الجزاء لم تبق آمنة) ش: أي مستحقة الأمن، فحينئذ لم تبق الأولاد مستحقة للأمن(4/418)
لأن وصول الخلف كوصول الأصل، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أيضًا لحدوثها على ملكه خارج الحرم، وهو معنى قوله. م: (لأن وصول الخلف) ش: وهو القيمة إلى الفقراء. م: (كوصول الأصل) ش: وهو الصيد إلى الحرم، ألا ترى أنه لو غصب جارية فأدى قيمتها ثم ولدت أولادًا فاستهلكها وأولادها لا يجب عليه شيء فكذا هاهنا، كذا في " الجامع المحبوبي " وكذا فسر الإمام حميد الدين الضرير - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله: لأن وصول الخلف كوصول الأصل، وقيد بقوله: لأن وصول قيمة الصيد إلى فقراء مكة، بمنزلة وصول الصيد إلى الحرم.
وقال الأترازي: فيه نظر؛ لأنه يجوز أن يصرف القيمة إلى فقراء مكة وغيرهم عندنا، فإذا أدى الجزاء إلى غيرهم يسقط أيضًا مع أنه لم يصل الخلف إلى فقرائها، فلا يستقيم التعليل بأن وصول الخلف إلى فقراء مكة كوصول الأصل إلى الحرم، انتهى.
قلت: فنظيره غير موجه، فلا يرد شيء على المصنف، ولا على الشيخ حميد الدين الضرير، أما المصنف فإنه أطلق هو، ويشمل الوصول إلى فقراء مكة، والى غير فقرائها، وقال الشيخ حميد الدين الضرير - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإنه قيده باعتبار الغالب، والله أعلم الصواب.(4/419)
باب مجاوزة الوقت بغير إحرام وإذا أتى الكوفي بستان بني عامر فأحرم بعمرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب مجاوزة الميقات بغير إحرام]
م: (باب مجاوزة الوقت بغير إحرام) ش: أي: هذا باب في بيان حكم من جاوز الميقات بغير إحرام، ولما فرغ من بيان حكم الجناية الواقعة بعد الإحرام شرع في باب الجناية الواقعية قبل الإحرام، فاشتركا في معنى الجناية، لكن لما كانت الجناية بعد الإحرام على الكمال قدم بيانها على هذا الباب، والمجاوزة من باب المفاعلة التي تكون بين الاثنين، ولكنها بمعنى الجواز كما في قوله تبارك وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] (آل عمران: الآية 133) بمعنى أسرعوا الوقت، قال في " الجمهرة ": الوقت معروف اسم واقع على الساعة في الزمان والحين، فعلى هذا يكون استعمال الوقت في معنى المكان مجازًا كما استعمل المكان في معنى الزمان مجازًا في قَوْله تَعَالَى: {هُنَالِكَ دَعَا} [آل عمران: 38] (آل عمران: الآية 38) .
وقال الجوهري: الوقت معروف، والميقات الوقت المضروب للفعل والموضع، يقال: هذا ميقات أهل الشام للموضع الذي يحرمون منه فعلى هذا يكون إطلاق الميقات على مكان الإحرام حقيقة لاستعمال أهل اللغة الميقات في معنى المكان. قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا يخلو من تأمل، وقال الأكمل ناقلًا عن غيره:
فإن قيل: كان الواجب أن لا يجب على من جاوز الميقات بغير إحرام شيء؛ لأن المحرم للأشياء الموجبة للكفارة هو الإحرام، والإحرام غير موجود في ذلك الوقت.
فالجواب: أن من جاوز الميقات بغير إحرام ارتكب المنهي عنه، وتمكن به في حجه نقصان، ونقصانه يجبر بالدم إلا إذا تدارك ذلك في أوانه بالرجوع إلى الميقات ملبيًا قبل أن يطوف، انتهى.
قلت: مذهب الحسن البصري، والنخعي، أن الإحرام من الميقات غير واجب، فلا يجب عليه شيء إذا جاوز الميقات بغير إحرام.
وفي " المبسوط ": ولو جاوزه وأحرم انعقد إحرامه إلا عند سعيد بن جبير فإنه قال: لا ينعقد إحرامه، فإن رجع إلى الميقات قبل التلبس بأفعال الحج بالإحرام سقط عنه الدم عند أكثر العلماء.
[الحكم لو جاوز الكوفي ذات عرق بلا إحرام]
م: (وإذا أتى الكوفي) ش: أي الرجل من أهل الكوفة. م: (بستان بني عامر) ش: هو موضع قريب من مكة داخل الميقات خارج الحرم. م: (فأحرم بعمرة) ش: يعني المسألة ما إذا جاوز ذات عرق بلا إحرام، ودخل البستان، وكان من نيته الحج أو العمرة؛ لأنه لو لم يكن من ذلك، ولم يرد دخول مكة في أوان الميقات ثم أنشأ الإحرام لم يجب عليه شيء لحرمة الوقت، وذات عرق(4/420)
فإن رجع إلى ذات عرق ولبى بطل عنه دم الوقت، وإن رجع إليه ولم يلب حتى دخل مكة وطاف لعمرته فعليه دم، وهذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: إن رجع إليه محرما فليس عليه شيء لبى أو لم يلب. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لا يسقط لبى أو لم يلب؛ لأن جنايته لم ترتفع بالعود، وصار حكمه كما إذا أفاض من عرفات ثم عاد إليه بعد الغروب. ولنا أنه تدارك المتروك في أوانه، وذلك قبل الشروع في الأفعال فيسقط الدم، بخلاف الإفاضة؛ لأنه لم يتدارك المتروك على ما مر. غير أن التدارك عندهما بعوده محرما؛ لأنه أظهر حق الميقات كما إذا مر به محرما ساكنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ميقات أهل العراق، وقال القرطبي: ذات عرق عليه، أو عصية بينهما وبين مكة يومان، وبعض يوم.
م: (فإن رجع) ش: أي محرمًا قيدنا به؛ لأنه إذا رجع قبل الإحرام، وأحرم من الميقات لا شيء عليه عندنا، وعند الشافعي. م: (إلى ذات عرق) ش: التخصيص بذات عرق لظاهر حال الكوفي، وإلا فالرجوع إليه وإلى غيره من المواقيت سواء في ظاهر الرواية في سقوط الدم. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: ينظر أنه إن عاد إلى ميقات آخر، وذلك الميقات يحاذي الميقات الأول سقط الدم، وإلا فلا. م: (ولبى بطل عنه دم الوقت) ش: أي دم الميقات.
م: (وإن رجع إليه ولم يلب حتى دخل مكة، وطاف لعمرته فعليه دم، وهذا) ش: أي هذا المذكور بالتفصيل. م: (قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقالا: إن رجع إليه) ش: أي إلى الميقات حال كونه. م: (محرما فليس عليه شيء لبى أو لم يلب) ش: وبه قال الشافعي في قول. م: (وقال زفر: لا يسقط لبى أو لم يلب) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأحمد، والشافعي في قول. م: (لأن جنايته لم ترتفع بالعود) ش: جنايته هو ترك الإحرام من الميقات فلا يرجع بعوده إلى الميقات؛ لأن بالعود الواجب عليه إنشاء تلبية واجبة عند الميقات، ووجوب التلبية عند الإحرام لا بعده.
م: (وصار حكمه كما إذا أفاض من عرفات ثم عاد إليه بعد الغروب. ولنا أنه تدارك المتروك في أوانه) ش: أي في أوان المتروك، والمتروك قضاء حق الفائت. م: (وذلك) ش: أي أوان المتروك. م: (قبل الشروع في الأفعال) ش: أي في أفعال الحج. م: (فيسقط الدم، بخلاف الإفاضة) ش: جواب عن قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما إذا أفاض، أراد أن قياسه عليه غير صحيح. م: (لأنه لم يتدارك المتروك) ش: لأن المتروك هنا استدامة الوقوف إلى غروب الشمس، وبالعدة لم يحصل ذلك. م: (على ما مر) ش: أي في الجنايات. م: (غير أن التدارك عندهما) ش: أشار به إلى أن التدارك هل يحصل بمجرد العود، أو مع التلبية، فقال: إن التدارك عندهما أي عند أبي يوسف، ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. م: (بعوده) ش: خلاف كونه محرمًا؛ لأنه أظهر حق الميقات وهو مجاوزته. م: (محرما؛ لأنه أظهر حق الميقات كما إذا مر به) ش: أي بالميقات حال كونه. م: (محرما ساكنا) ش: فلا يلزمه(4/421)
وعنده - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بعوده محرما ملبيا؛ لأن العزيمة في حق الإحرام من دويرة أهله، فإذا ترخص بالتأخير إلى الميقات وجب عليه قضاء حقه بإنشاء التلبية وكان التلافي بعوده ملبيا، وعلى هذا الخلاف إذا أحرم بحجة بعد المجاوزة مكان العمرة في جميع ما ذكرناه. ولو عاد بعدما ابتدأ بالطواف، واستلم الحجر لا يسقط عنه الدم بالاتفاق، ولو عاد إليه قبل الإحرام يسقط عنه بالاتفاق. وهذا الذي ذكرناه إذا كان يريد الحج أو العمرة، فإن دخل البستان لحاجته فله أن يدخل مكة بغير إحرام، ووقته البستان، وهو وصاحب المنزل سواء؛ لأن البستان غير واجب التعظيم فلا يلزمه الإحرام بقصده، وإذا دخله التحق بأهله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شيء، وكلاهما حالان مترادفان، أو متداخلان.
م: (وعنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. م: (بعوده) ش: أي التدارك بعوده حال كونه. م: (ملبيا) ش: كلاهما أيضًا حالان مثل ذاك. م: (لأن العزيمة) ش: أي الميقات. م: (في حق الإحرام من دويرة أهله) ش: أي لأن الأخذ بما أوجب الله عليه في الإحرام أن يكون من دويرة أهله في حق الآفاقي، قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) على ما مر فيما مضى.
م: (فإذا ترخص بالتأخير) ش: أي بتأخير الإحرام. م: (إلى الميقات وجب عليه قضاء حقه بإنشاء التلبية) ش: أي قضاء حق الميقات بالإتيان بالتلبية. م: (وكان التلافي بعوده ملبيا) ش: أي بالتدارك في عوده إلى الميقات حال كونه ملبيًا فإذا عاد ملبيًا فقد أتى بجميع المستحق عليه. م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور. م: (إذا أحرم بحجة بعد المجاوزة) ش: عن الميقات. م: (مكان العمرة في جميع ما ذكرناه) ش: من الأشياء.
م: (ولو عاد) ش: على الميقات. م: (بعدما ابتدأ بالطواف، واستلم الحجر لا يسقط عنه الدم بالاتفاق) ش: أي باتفاق علمائنا، والشافعي في قول، ومالك، وأحمد، والفاء في فاستلم تفسيرًا للشروع في الطواف لبيان المعتبر في ذلك الشرط، وإن عاد قبله فعلى الخلاف المذكور. م: (ولو عاد إليه) ش: أي إلى الميقات. م: (قبل الإحرام يسقط عنه بالاتفاق) ش: وذلك لأنه استثناء التلبية الواجبة عند ابتداء الإحرام. م: (وهذا الذي ذكرناه) ش: من الأحكام. م: (إذا كان يريد الحج أو العمرة، فإن دخل البستان لحاجته فله أن يدخل مكة بغير إحرام) ش: كما يجوز للبستاني. م: (ووقته) ش: أي ميقاته. م: (البستان، وهو وصاحب المنزل سواء؛ لأن البستان غير واجب التعظيم) ش: إذ ليس فيه ما يوجب التعظيم. م: (فلا يلزمه الإحرام بقصده) ش: أي البستان.
م: (وإذا دخله) ش: أي البستان. م: (التحق بأهله) ش: أي بأهل البستان سواء نوى الإقامة خمسة عشر يومًا، أو لم ينو، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو نوى الإقامة خمسة عشر يومًا فالجواب على ما ذكر، يعني إن نوى أن يقيم به خمسة عشر يومًا جاز له أن يدخله مكة بغير(4/422)
وللبستاني أن يدخل مكة بغير إحرام للحاجة فكذلك له ذلك. والمراد بقوله: ووقته البستان جميع الحل الذي بينه وبين الحرم وقد مر من قبل، فكذا وقت الداخل الملتحق به، فإن أحرما من الحل ووقفا بعرفة لم يكن عليهما شيء يريد به البستاني والداخل فيه؛ لأنهما أحرما من ميقاتهما.
ومن دخل مكة بغير إحرام، ثم خرج من عامه ذلك إلى الوقت، وأحرم بحجة عليه أجزأه ذلك من دخوله مكة بغير إحرام وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تجوز، وهو القياس اعتبارا بما لزمه بسبب النذر، وصار كما إذا تحولت السنة. ولنا أنه تلافى المتروك في وقته؛ لأن الواجب عليه تعظيم هذه البقعة بالإحرام، كما إذا أتاه محرما بحجة الإسلام في الابتداء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إحرام؛ لأنه صار وطنًا له، وإن لم ينو الإقامة فلا يجوز له دخول مكة بغير إحرام؛ لأنه ليس من أهله فلا يعتبر.
[دخول البستاني مكة بغير إحرام]
م: (وللبستاني أن يدخل مكة بغير إحرام للحاجة فكذلك له ذلك) ش: أي الذي دخل البستان لحاجته أن يدخل مكة بغير إحرام، كما يجوز للبستاني؛ لأنه التحق بأهل البستان. م: (والمراد بقوله) ش: أي بقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ". م: (ووقته البستان جميع الحل الذي بينه وبين الحرم وقد مر من قبل) ش: أراد به ما ذكره في فصل المواقيت بقوله: ومن كان داخل الميقات فوقته الحل، معناه: الحل الذي بين المواقيت وبين الحرم. م: (فكذا) ش: أي فكذا يكون. م: (وقت الداخل) ش: أي ميقاته. م: (الملتحق به) ش: أي بالبستاني. م: (فإن أحرما) ش: أي البستاني والملتحق به. م: (من الحل ووقفا بعرفة لم يكن عليهما شيء) ش: لأنهما بالميقات على ما يجيء الآن. م: (يريد به البستاني والداخل فيه) ش: أي في البستان. م: (لأنهما أحرما من ميقاتهما) ش: وهو الحل.
[دخل مكة بغير إحرام ثم خرج من عامه ذلك إلى الوقت وأحرم بحجة]
م: (ومن دخل مكة بغير إحرام، ثم خرج من عامه ذلك إلى الوقت) ش: أي إلى الميقات. م: (وأحرم بحجة عليه) ش: يعني حجة الإسلام، أو حجة منذورة، أو عمرة منذورة. م: (أجزأه ذلك) ش: عما لزمه. م: (من دخوله مكة بغير إحرام) ش: يعني يسقط عنه ما وجب عليه من العمرة أو الحجة بسبب دخول مكة بغير إحرام، وذكر في " الإيضاح "، و" شرح الأقطع "، و" شرح مختصر الكرخي " غيرها. م: (وقال زفر: لا تجوز، وهو القياس اعتبارا بما لزمه بسبب النذر) ش: فإنه إذا كان عليه حجة، وجبت بالنذر، وحج حجة الإسلام فإنه لا يسقط بها المنذورة فكذلك هاهنا، والجامع أن كل واحدة منهما واجبة بسبب غير سبب الأخرى. م: (وصار ذلك كما إذا تحولت السنة) ش: التي دخل فيها مكة ثم حج فإنه لا يقوم مقام ما لزمه بدخول مكة بلا خلاف.
م: (ولنا أنه تلافى) ش: أي تدارك. م: (المتروك في وقته) ش: وهو السنة التي دخل فيها مكة. م: (لأن الواجب عليه تعظيم هذه البقعة) ش: أي الكعبة. م: (بالإحرام) ش: يعني لما انتهى إلى الميقات كان حقه أن يجاوزه بإحرام يؤدي أفعاله في تلك السنة لا في سنة أخرى. م: (كما إذا أتاه) ش: أي البقعة التي هي مكة حال كونه. م: (محرما بحجة الإسلام في الابتداء) ش: يعني من أول الأمر، فإنه يجزئه(4/423)
بخلاف ما إذا تحولت السنة؛ لأنه صار دينا في ذمته، فلا يتأدى إلا بإحرام مقصود كما في الاعتكاف المنذور، فإنه يتأدى بصوم رمضان من هذه السنة دون العام الثاني.
ومن جاوز الوقت فأحرم بعمرة، وأفسدها مضى فيها وقضاها؛ لأن الإحرام يقع لازما فصار كما إذا أفسد الحج، وليس عليه دم لترك الوقت، وعلى قياس قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يسقط عنه، وهو نظير الاختلاف في فائت الحج إذا جاوز الوقت بغير إحرام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن حجة الإسلام التي نوى، وعما لزمه بدخول مكة. م: (بخلاف ما إذا تحولت السنة؛ لأنه صار دينا في ذمته) ش: بمضي وقت الحج. م: (فلا يتأدى إلا بإحرام مقصود) ش: أي قصدي. م: (كما في الاعتكاف المنذور) ش: أي كما إذا نذر أن يعتكف شهر رمضان هذا. م: (فإنه يتأدى بصوم رمضان من هذه السنة دون العام الثاني) ش: يعني إذا لم يعتكف شهر رمضان الذي نذر فيه الاعتكاف حتى جاز رمضان العام الثاني فصامه فاعتكف فيه قضاء عما عليه لم يعتكف؛ لأنه لما لم يعتكف في الرمضان الأول، صار الصوم مقصودًا، فلم يتأد إلا بصوم مقصود، كذا هذا.
فإن قيل: سلمنا أن الحج يتحول إلى السنة، ويصير دينًا، ولكن لا نسلم أن العمرة تصير دينًا؛ لأنها موقتة فينبغي أن تسقط العمرة الواجبة بدخول مكة بغير إحرام بالعمرة المنذورة في السنة الثانية، كما تسقط هي بها في السنة الأولى.
أجيب بأنه لا شك أن العمرة يكره تأخيرها إلى أيام النحر والتشريق، فإذا أخرها إلى وقت يكره صار كالمعقول لها، فصارت دينًا.
[جاوز الوقت فأحرم بعمرة وأفدسدها]
م: (ومن جاوز الوقت) ش: أي الميقات. م: (فأحرم بعمرة، وأفسدها) ش: أي العمرة أفسدها بجماع. م: (مضى فيها وقضاها) ش: أي العمرة ثم يقضيها. م: (لأن الإحرام يقع لازما) ش: أي لأنه عقد لازم لا يخرج الرغبة بعد الشروع فيهما إلا بأداء الأفعال، وأما القضاء فلأنه التزم الأداء على وجه الصحة، ولم يفعل. م: (فصار) ش: أي حكم هذا. م: (كما إذا أفسد الحج) ش: فإنه يقضيه فكذلك هذا. م: (وليس عليه دم لترك الوقت) ش: لأنه إذا فصلها بإحرام الميقات ينجبر به ما نقص من حق الوقت بالمجاوزة بغير إحرام، فيسقط عنه الدم كمن سها في الصلاة، ثم أفسدها ثم قضاها سقط عنه سجود السهو. م: (وعلى قياس قول زفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يسقط عنه) ش: الدم لبى أو لم يلب؛ لأن جنايته لا ترتفع بالعود، وكذا إذا جاوز الميقات ثم أحرم بعمرة، ثم وجب عليه القضاء بالإفساد، ولا يسقط عنه الدم بالقضاء لعدم ارتفاع الجناية بالقضاء قياسًا على تلك المسألة.
م: (وهو نظير الاختلاف) ش: أي هذا الاختلاف بيننا وبين زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الدم الواجب بالمجاوزة عن الميقات يسقط بالقضاء عندنا ولا يسقط عنده نظير الاختلاف الواقع. م: (في فائت الحج إذا جاوز الميقات بغير إحرام) ش: ثم أحرم بالحج وفاته الحج بفوات الوقوف بعرفات،(4/424)
وفيمن جاوز الوقت بغير إحرام وأحرم بالحج ثم أفسد حجه. وهو يعتبر المجاوزة هذه بغيرها من المحظورات. ولنا أنه يصير قاضيا حق الميقات بالإحرام منه في القضاء، وهو يحكي الفائت ولا ينعدم به غيره من المحظورات فوضح الفرق.
وإذا خرج المكي يريد الحج، فأحرم ولم يعد إلى الحرم ووقف بعرفة فعليه شاة؛ لأن وقته الحرم، وقد جاوزه بغير إحرام، فإن عاد إلى الحرم ولبى أو لم يلب فهو على الاختلاف الذي ذكرناه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وتحلل بأفعال العمرة، ووجب عليه القضاء من قابل يسقط الدم الواجب بالمجاوزة بغير إحرام لوجوب القضاء عندنا خلافًا له. م: (وفيمن جاوز الوقت) ش: عطفًا على قوله في فائت الحج، أي ونظير الاختلاف أيضًا بيننا وبينه فيمن جاوز الوقت، أي الميقات. م: (بغير إحرام وأحرم بالحج ثم أفسد حجه) ش: بالجماع قبل الوقوف بعرفات فوجب عليه المضي والقضاء، ويسقط عنه دم المجاوزة عندنا خلافًا له.
م: (هو) ش: أي زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (يعتبر المجاوزة هذه) ش: أي يقيس المجاوزة هذه. م: (بغيرها) ش: أي بغير المجاوزة. م: (من المحظورات) ش: كالتطيب واللبس والحلق، فإن الدم الواجب فيها لا يسقط بقضاء الحج أو العمرة، فكذا هذا.
م: (ولنا أنه يصير قاضيا حق الميقات بالإحرام منه) ش: أي من الميقات في. م: (في القضاء، وهو) ش: أي القضاء. م: (يحكي الفائت) ش: فينعدم المعنى الذي لأجله وجب الدم، وهو أداء الواجب الحج بإحرام بعد مجاوزة الميقات. م: (ولا ينعدم به) ش: أي بالقضاء. م: (غيره) ش: أي غير هذا المحظور. م: (من المحظورات) ش: لأن الواجب بها النقصان يمكن في الإحرام الأول، والجبر لا يقع بأصل العبادة كسجدة في الصلاة يقع بها الجبر، وبأصل الصلاة لا يقع، أما هاهنا الدم وجب بترك أصل الإحرام من الوقت، وقد أتى بأصل الإحرام في الوقت في القضاء، فينوب عما ترك؛ لأن أصل الصلاة عن الأصل، أما الأصل فلا ينوب عن التبع، كذا في " المبسوط "، وهو معنى قوله. م: (فوضح الفرق) ش: أي بين ما نحن فيه، وبين ما قاس عليه زفر.
[خرج المكي يريد الحج فأحرم ولم يعد إلى الحرم ووقف بعرفة]
م: وإذا خرج المكي) ش: يعني من الحرم حال كونه. م: يريد الحج، فأحرم) ش: يعني للحج. م: ولم يعد إلى الحرم ووقف بعرفة فعليه شاة) ش: لأنه لما خرج عن الحرم ثم أحرم بالحج فصار كالآفاقي إذا جاوز الميقات ثم أحرم فوجب عليه شاة لزكى حرمة الميقات كما وجب على الآفاقي. م: (لأن وقته) ش: أي لأن ميقاته. م: (الحرم، وقد جاوزه بغير إحرام) ش: إذا قيد بقوله يريد الحج؛ لأنه لو خرج من الحرم لأجل حاجته ثم أحرم بحج لا شيء عليه عاد، أو لم يعد؛ لأنه لما خرج إلى ذلك الموضع لحاجة صار من أهله، ووقت أهله كذا في " جامع الأسبيجابي ".
م: (فإن عاد إلى الحرم ولبى أو لم يلب فهو على الاختلاف الذي ذكرناه) ش: يعني عند أبي حنيفة يسقط عنه الدم بالعود والتلبية عند الحرم، وعندهما يسقط بمجرد العود، وعند زفر لا(4/425)
في الآفاقي.
والمتمتع إذا فرغ من عمرته ثم خرج من الحرم، فأحرم ووقف بعرفة فعليه دم؛ لأنه لما دخل مكة وأتى بأفعال العمرة صار بمنزلة المكي، وإحرام المكي من الحرم لما ذكرنا فيلزمه الدم بتأخيره عنه، فإن رجع إلى الحرم، فأهل فيه قبل أن يقف بعرفة فلا شيء عليه، وهو على الخلاف الذي تقدم في الآفاقي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يسقط، وإن لبى. م: (في الآفاقي) ش: ذكره قبل هذا في إتيان الكوفي في بستان بني عامر، قيل: الصواب الأفقي؛ لأن الآفاق جمع أفق، فالنسبة تكون للمفرد دون الجمع، ولم يسمع في كتب اللغة الآفاقي، وعن الأصمعي وابن السكيت الأفقي بفتحتين.
[المتمتع إذا فرغ من عمرته ثم خرج من الحرم فأحرم ووقف بعرفة]
م: (والمتمتع إذا فرغ من عمرته ثم خرج من الحرم، فأحرم) ش: بالحج. م: (ووقف بعرفة فعليه دم) ش: هذه المسألة من مسائل " الجامع الصغير "، وقيد فيه بالتمتع لأن إحرام القارن بحجة وعمرة ميقاتي فلا يرد هذا الحكم فيه. م: (لأنه لما دخل مكة، وأتى بأفعال العمرة صار بمنزلة المكي، وإحرام المكي من الحرم لما ذكرنا فيلزمه الدم بتأخيره عنه) ش: أي بتأخير الإحرام عن الوقت. م: (فإن رجع إلى الحرم، وأهل فيه) ش: أي أحرم، ولبى في الحرم. م: (قبل أن يقف بعرفة فلا شيء عليه، وهو على الخلاف الذي تقدم) ش: فيما مضى أن عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسقط عنه الدم إذا لبى، وعندهما: لا تشترط التلبية. وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يسقط الدم في الحالين في الآفاقي إنما قال تقدم. م: (في الآفاقي) ش: فإن كان المتمتع أيضًا آفاقيًا؛ لأن المتمتع في آخر إحرام الحج كالمكي فافهم، والله أعلم، وبه التوفيق.(4/426)
باب إضافة الإحرام إلى الإحرام قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا أحرم المكي بعمرة، وطاف لها شوطا ثم أحرم بالحج فإنه يرفض الحج، وعليه لرفضه دم، وعليه حجة وعمرة. وقال أبو يوسف، ومحمد - رحمهما الله -: رفض العمرة أحب إلينا، وقضاها، وعليه دم لرفضها؛ لأنه لا بد من رفض أحدهما؛ لأن الجمع بينهما في حق المكي غير مشروع، والعمرة أولى بالرفض؛ لأنها أدنى حالا وأقل أعمالا وأيسر قضاء لكونها غير موقتة، وكذا إذا أحرم بالعمرة ثم بالحج ولم يأت بشيء من أفعال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب إضافة الإحرام إلى الإحرام]
م: (باب إضافة الإحرام إلى الإحرام)
ش: أي هذا باب في بيان حكم إضافة الإحرام إلى الإحرام، ولما كانت هذه من أهل مكة، وممن منزله داخل الميقات جناية، وكذا إضافة إحرام العمرة إلى الحجة في الآفاقي عقب باب الجنايات بهذا الباب لكونه نوعًا من الجنايات.
م: (قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا أحرم المكي بعمرة، وطاف لها شوطا ثم أحرم بالحج فإنه يرفض الحج، وعليه لرفضه دم، وعليه حجة وعمرة) ش: إنما قيد المكي لأن الآفاقي لو أحرم بعمرة فطاف له شوطًا ثم أحرم بحجة يمضي في الحج فيها، ولا يرفض الحج؛ لأن بناء أفعال الحج على أعمال العمرة صحيح في حقه عندنا، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ومالك: يصح في حق المكي أيضًا لمشروعية القران، والتمتع عندهما، وإنما قيد بقوله: وطاف لها شوطًا؛ لأنه إذا لم يطف للعمرة أصلًا يرفض العمرة بالاتفاق، وقيد بقوله: شوطًا، وأراد به أقل الأشواط، حتى إذا طاف شوطين، أو ثلاثة أشواط كان الخلاف فيه كما ذكره، أما إذا طاف للعمرة أكثر الأشواط يرفض الحج بالاتفاق.
م: (وقال أبو يوسف، ومحمد: رفض العمرة أحب إلينا) ش: لأنها أيسر قضاء، وأداء، وأخف مؤنة، فصارت أولى بالرفض على ما يجيء. م: (وقضاها) ش: أي العمرة. م: (وعليه دم لرفضها؛ لأنه لا بد من رفض أحدهما) ش: أي الحجة أو العمرة. م: (لأن الجمع بينهما) ش: أي الحجة والعمرة. م: (في حق المكي غير مشروع) ش: أي عندنا، خلافًا للشافعي، ومالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) . م: (والعمرة أولى بالرفض) ش: من الحج. م: (لأنها أدنى حالا وأقل أعمالا وأيسر قضاء لكونها غير موقتة) ش: لأن العمرة سنة، والحج فريضة؛ لأن أداءها يمكن في جميع السنة إلا خمسة أيام يكره فيها.
م: (وكذا إذا أحرم بالعمرة ثم بالحج ولم يأت بشيء من أفعال العمرة لما قلنا) ش: برفض العمرة أيضًا بالاتفاق، وفي عبارته تسامح؛ لأنه عطف بقوله: وكذا المتفق عليه على المختلف فيه، وفيه تلبيس إذا أحرم بالعمرة ثم بالحج، ومات بشيء من أفعال العمرة كما قلنا هو قوله: لأنها(4/427)
العمرة لما قلنا. فإن طاف للعمرة أربعة أشواط، ثم أحرم بالحج رفض الحج بلا خلاف؛ لأن للأكثر حكم الكل فتعذر رفضها كما إذا فرغ منها، ولا كذلك إذا طاف للعمرة أقل من ذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وله أن إحرام العمرة قد تأكد بأداء شيء من أعمالها، وإحرام الحج لم يتأكد، ورفض غير المتأكد أيسر؛ ولأن في رفض العمرة، والحالة هذه إبطال العمل، وفي رفض الحج امتناعا عنه، وعليه دم بالرفض أيهما رفضه؛ لأنه تحلل قبل أوانه؛ لتعذر المضي فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أدنى حالًا، وأقل أعمالًا وأيسر قضاء. م: (فإن طاف للعمرة أربعة أشواط، ثم أحرم بالحج رفض الحج بلا خلاف؛ لأن للأكثر حكم الكل فيتعذر رفضها كما إذا فرغ منها) ش: أي من العمرة لعدم إمكان الرفض. م: (ولا كذلك إذا طاف للعمرة أقل من ذلك عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: وفي بعضها: وكذلك بحذف كلمة " لا " من قوله: ولا كذلك، وقال السغناقي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال الإمام حسام الدين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الصواب، وكذلك قال الكاكي أيضًا هو المثبت في نسخة المصنف، قال: وكذلك وجدت بخط شيخي.
وقال الأترازي في نسخته: ولا كذلك، هذا جواب سؤال مقدر بأن يقال: لما قال المصنف: فإن طاف للعمرة أربعة أشواط رفض الحج؛ لأن للأكثر حكم الكل، ورد عليه السؤال بأن يقال: كيف يرفض الحج على مذهب أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما إذا طاف الأقل للعمرة، ولم يوجد الأكثر الذي له حكم الكل؟
فأجاب عنه وقال: ولا كذلك إذا طاف للعمرة أقل من ذلك، إلا أن أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يعلل لرفض العملة فيما إذا طاف الأقل للعمرة لوجود الأكثر لم يعلل بعلة أخرى، وهي ما ذكره بقوله:
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. م: (أن إحرام العمرة قد تأكد بأداء شيء من أعمالها، وإحرام الحج لم يتأكد، ورفض غير المتأكد أيسر) ش: من رفض المتأكد وهذا لأن الحكم جاز أن يكون معلولًا بعلل شتى، وعدم الكل لعلة لا يوجب للكل عدم الحكم. م: (ولأن في رفض العمرة) ش: هذا وجه آخر لقوله: ولا كذلك، أي: والجواب أن في رفض العمرة وجود بعض أفعال العمرة، وأشار إليه بقوله. م: (والحالة هذه) ش: يعني، والحال أنه أتى بشيء من أفعال العمرة. م: (إبطال العمل) ش: بالنصب لأنه اسم إن، يعني أن إبطال العمل في الطواف الذي أتى به.
م: (وفي رفض الحج امتناع عنه) ش: أي ولأن في رفض الحج امتناعًا عن الإبطال، والامتناع أهون في الإبطال؛ لأن ما وقع معتد به، ولا كذلك إذا لم يفعل شيئًا. م: (وعليه دم بالرفض أيهما رفضه) ش: يعني الحج عنده والعمرة عندهما. م: (لأنه تحلل قبل أوانه) ش: بعد أداء الأفعال. م: (لتعذر المضي فيه) ش: لكون الجمع بينهما غير مشروع.(4/428)
فكان في معنى المحصر، إلا أن في رفض العمرة قضاءها لا غير، وفي رفض الحج قضاؤه وعمرة؛ لأنه في معنى فائت الحج. وإن مضى عليهما أجزأه لأنه أدى أفعالهما كما التزمهما، غير أنه منهي عنهما، والنهي لا يمنع تحقق الفعل على ما عرف من أصلنا. وعليه دم؛ لجمعه بينهما؛ لأنه تمكن النقصان في عمله لارتكابه المنهي عنه، وهذا في حق المكي دم جبر، وفي حق الآفاقي دم شكر.
ومن أحرم بالحج ثم أحرم يوم النحر بحجة أخرى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فكان في معنى المحصر) ش: من حيث إنه تعذر المضي بعد الشروع، وعلى المحصر دم للتحلل، ويكون الدم دم جبر لا دم نسك على ما يأتي إن شاء الله تعالى. م: (إلا أن في رفض العمرة قضاءها لا غير) ش: أي غير أن في رفض العمرة قضاء العمرة لا غير؛ لأنه خرج عنها بعد الشروع.
م: (وفي رفض الحج) ش: أي ولأن في رفض الحج. م: (قضاؤه) ش: أي قضاء الحج الذي رفضه في سنة أخرى. م: (وعمرة) ش: بالرفض، أي مع قضاء عمرة أخرى غير العمرة التي شرع فيها. م: (لأنه في معنى فائت الحج) ش: وفائت الحج يتحلل بأفعال العمرة، لكن يؤدي أولًا العمرة التي شرع فيها، ويفرغ منها، ثم يأتي بعمرة أخرى. م: (وإن مضى عليهما) ش: أي على العمرة والحج، يعني لم يرفض المكي ومن في معناه العمرة والحج، بل مضى عليهما وأداهما. م: (أجزأه لأنه أدى أفعالهما كما التزمهما، غير أنه منهي عنهما) ش: أي عن إحرام الحج، والعمرة، وقال صاحب " النهاية ": وفي نسخة شيخ بخطه عنها أي عن العمرة إذ هي المستتبعة للرفض إجماعًا فيما إذا لم يشتغل بطواف الحج والكلام فيه؛ لأنها هي الداخلة في وقت الحج، وبسببها وقع العصيان.
م: (والنهي لا يمنع تحقق الفعل على ما عرف من أصلنا) ش: لأن النهي إذا كان المعنى في غيره لا يعدم المشروعية على أصل الحقيقة على ما عرف في موضعه. وفي " الكافي ": فإن قيل: قد ذكر الشيخ في أول المسألة أن الجمع بينهما في حق المكي غير مشروع، وهاهنا قال: النهي تحقيق المشروعية، وهذا يصير تناقضًا، قلنا: أراد بقوله: غير مشروع كاملًا كما في حق الآفاقي، فيندفع التناقض في حق المكي. م: (وعليه دم) ش: أي دم جبر. م: (لجمعه بينهما) ش: أي بين الحج والعمرة. م: (لأنه تمكن النقصان في عمله لارتكابه المنهي عنه) ش: وهو الجمع بينهما فارتكب محظور فعليه دم جبر لا يحل له، ولا لسائر الأغنياء، فيتصدق به على المساكين كسائر دماء الكفارة. م: (وهذا) ش: أي هذا الدم الواجب. م: (في حق المكي دم جبر) ش: للنقصان لارتكابه المنهي عنه. م: (وفي حق الآفاقي دم شكر) ش: لما أنعم الله به عليه من الجمع بين العبادتين.
[أحرم بالحج ثم أحرم يوم النحر بحجة أخرى]
م: (ومن أحرم بالحج ثم أحرم يوم النحر بحجة أخرى) ش: اعلم أن الجمع بين الإحرامين لحجتين أو لعمرتين حرام؛ لأنه بدعة، ويأتي هذا على أربعة أقسام بالقسمة العقلية إدخال إحرام(4/429)
فإن حلق في الأولى لزمته الأخرى، ولا شيء عليه، وإن لم يحلق في الأولى لزمته الأخرى، وعليه دم قصر، أو لم يقصر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: إن لم يقصر فلا شيء عليه؛ لأن الجمع بين إحرامي الحج، أو إحرامي العمرة بدعة،
فإذا حلق فهو وإن كان نسكا في الإحرام الأول فهو جناية على الثاني؛ لأنه في غير أوانه فلزمه الدم بالإجماع، وإن لم يحلق حتى حج في العام القابل فقد أخر الحلق عن وقته في الإحرام الأول وذلك يوجب الدم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما لا يلزمه شيء على ما ذكرنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحج على إحرام الحج، وإدخال إحرام الحج على إحرام العمرة، وإدخال إحرام العمرة على إحرام الحج، وإدخال إحرام العمرة على إحرام العمرة. وأشار إلى بعضها، وسيأتي كل ذلك. وأشار إلى ذلك: الأول بقوله: ومن أحرم بالحج ثم أحرم يوم النحر بحجة أخرى ففيه تفصيل، أشار إليه بقوله. م: (فإن حلق في الأولى) ش: أي في الحجة الأولى. م: (لزمته الأخرى) ش: أي الحجة الأخرى؛ لأنه لم يجمع بين الإحرامين؛ لأنه تحلل من الأولى بالحلق، ويؤدي الحجة الأخرى في العام القابل. م: (ولا شيء عليه) ش: أي ولا دم عليه؛ لأنه لم يجمع بين الإحرامين.
م: (وإن لم يحلق في الأولى) ش: أي في الحجة الأولى. م: (لزمته الأخرى) ش: أي الحجة الأخرى. م: (وعليه دم قصر، أو لم يقصر) ش: قال الكاكي: قوله: قصر أي حلق بعد إحرام، أو لم يحلق، وعبر بالقصر عن الحلق؛ لأنه وضع المسألة بلفظ من يقول: ومن أحرم، وهو يتناول الذكر والأنثى، فذكر أولًا لفظ الحلق، ولا ينافي لفظ التقصير ليشملهما أن الحلق مختص بالرجال. وفي بعض الروايات حلق مكان قصر. م: (عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: يعني عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يلزمه دم على كلا التقديرين، أما إذا حلق فلأنه جناية في حق إحرام الحجة الثانية، وإنما كان نسكًا في حق إحرام الأولى، وأما إذا لم يحلق للأولى يلزمه الدم أيضًا؛ لأن تأخير النسك عن وقته يوجب الدم عنده.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف، ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. م: (إن لم يقصر) ش: يعني أن يفرغ من الحجة. م: (فلا شيء عليه؛ لأن الجمع بين إحرامي الحج، أو إحرامي العمرة بدعة) ش: هذا دليل لقوله وعليه دم؛ قصر أو لم يقصر، وقال فخر الإسلام البزدوي في " شرح الجامع الصغير ": وذكر بعض مشايخنا في ذلك روايتين يعني في وجوب الدم لأجل الجمع بين الإحرامين في رواية: يجب، وفي رواية: لا يجب.
م: (فإذا حلق فهو وإن كان نسكا في الإحرام الأول فهو جناية على الثاني) ش: أي على الإحرام الثاني. م: (لأنه في غير أوانه) ش: لأنه حلق قبل أداء الأعمال في الإحرام. م: (فلزمه الدم بالإجماع) ش: جواب إذا. م: (وإن لم يحلق حتى حج في العام القابل فقد أخر الحلق عن وقته في الإحرام الأول وذلك يوجب الدم عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعندهما لا يلزمه شيء على ما ذكرنا) ش: وهو(4/430)
فلهذا سوى بين التقصير وعدمه عنده، وشرط التقصير عندهما.
ومن فرغ من عمرته إلا التقصير فأحرم بأخرى فعليه دم لإحرامه قبل الوقت؛ لأنه جمع بين إحرامي العمرة، وهذا مكروه فيلزمه الدم وهو دم جبر وكفارة.
ومن أهل بحج ثم أحرم بعمرة لزماه؛ لأن الجمع بينهما مشروع في حق الآفاقي، والمسألة فيه فيصير بذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن التأخير لا يوجب شيئًا عندهما. م: (فلهذا) ش: أي فلأجل أن التأخير جناية عنده. م: (سوى بين التقصير وعدمه عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (وشرط التقصير عندهما) ش: أي عند أبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله - يعني إن قصر في هذه السنة فعليه دم بجنايته على الإحرام الثاني؛ لأن التأخير غير مضمن عندهما، كذا في " الجنازية "، و" الإيضاح "، ولكن ينبغي أن لا يجب دم عند محمد لعدم لزوم الآخر. قيل في جواب المسألة مصورة فيما إذا وقف في الحجة الأولى، فلا يكون جمعًا بين الإحرامين فيلزمه الإحرام الثاني، لكن بعد الأداء لكن لا يستقيم هذا مع قوله؛ لأن الجمع بين الإحرامين بدعة.
[فرغ من عمرته إلا التقصير فأحرم بأخرى]
م: (ومن فرغ من عمرته إلا التقصير فأحرم بأخرى) ش: أي بعمرة أخرى. م: (فعليه دم لإحرامه قبل الوقت) ش: أي قبل وقت الإحرام، يعني إن وقت الإحرام للعمرة الثانية بعد الحلق أو التقصير للأولى، فلما أحرم للثانية قبل ذلك يكون محرمًا قبل الوقت، فيصير جامعًا بين إحرامي العمرتين، وهذا معنى قوله. م: (لأنه جمع بين إحرامي العمرة، وهذا) ش: أي الجمع بين إحرامي العمرة. م: (مكروه فيلزمه الدم وهو دم جبر وكفارة) ش.
فإن قلت: يجب الدم رواية واحدة في الجمع بين إحرامي العمرة، والجمع بين إحرامي الحج روايتان، فما الفرق على إحداهما.
قلت: الجمع في هذا الإحرام إنما كره لأجل الجمع في الأفعال. وفي الحجتين لا يتحقق الجمع فعلًا؛ لأن أفعال الحج الثاني لا يؤدى في هذه السنة، فإنما يؤدى في السنة الثانية، والجمع بين إحرامي العمرة بسبب الجمع فعلًا لجواز العمرة في كل السنة.
[أهل بحج ثم أحرم بعمرة]
م: (ومن أهل بحج ثم أحرم بعمرة لزماه) ش: هذا هو القسم الثاني من الأقسام الأربعة المذكورة، وهو إدخال إحرام الحج على إحرام العمرة، فإذا جمع بينهما لزماه. م: (لأن الجمع بينهما مشروع في حق الآفاقي) ش: قوله: أهل، أي رفع صوته بالتلبية، وإنما اختار الفقهاء لفظ أهل على التلبية في كثير من المواضع إشارة إلى السنة في التلبية وهي رفع الصوت.
م: (والمسألة فيه) ش: أي في الآفاقي، ومعنى المسألة أن الآفاقي إذا أحرم بحجة ثم بعمرة قبل أداء شيء من أفعال الحج لزماه لصدوره من أهله؛ لأنه أمكن إتيان أفعال العمرة قبل أفعال الحج، وإنما الترتيب فيما هو وسيلة، والعبرة للمقصود. م: (فيصير بذلك) ش: أي الجمع بين الحج والعمرة(4/431)
قارنا لكنه أخطأ السنة فيصير مسيئا. فلو وقف بعرفات ولم يأت بأفعال العمرة فهو رافض لعمرته؛ لأنه تعذر عليه أداؤها، إذ هي مبنية على الحج غير مشروعة، فإن توجه إليها لم يكن رافضا حتى يقف، وقد ذكرناه من قبل فإن طاف للحج ثم أحرم بعمرة فمضى عليهما لزماه، وعليه دم لجمعه بينهما؛ لأن الجمع بينهما مشروع على ما مر فصح الإحرام بينهما، والمراد بهذا الطواف طواف التحية، وأنه سنة وليس بركن حتى لا يلزمه بتركه شيء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قارنا) ش: لأنه جمع بين النسكين. م: (لكنه أخطأ السنة) ش: لأن القارن من يحرم بالحج والعمرة معًا، أو يقدم إحرام العمرة لا عكس. م: (فيصير مسيئا) ش: لأن الله تعالى جعل الحج أحد الفائتين في قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) فكان ينبغي أن يدخل الحج على العمرة لا العكس، لكنه لما لم يؤد الحج صح؛ لأن الترتيب وجد في الأداء وإن فات في الإحرام.
م: (فلو وقف بعرفات، ولم يأت بأفعال العمرة فهو رافض لعمرته؛ لأنه تعذر عليه أداؤها) ش: أي أداء العمرة. م: (إذ هي) ش: أي العمرة فقوله هي مبتدأ. م: (مبنية) ش: نصب على الحال من هي، والعامل فيها معنى الإشارة في هي، كذا قال في " النهاية "، هكذا كانت مقيدة بخط شيخي، وفيه نظر. م: (على الحج) ش: متعلق بقوله: مبنية. م: (غير مشروعة) ش: خبر المبتدأ في " جامع قاضي خان " لما وقف بعرفة بعذر عليه، إذ أعمال العمرة بعد الوقوع؛ لأنه لو فعل لكان بانيًا أفعال العمرة على أفعال الحج، وذلك غير مشروع.
م: (فإن توجه إليها) ش: أي إلى عرفات. م: (لم يكن رافضا) ش: لعمرته. م: (حتى يقف) ش: بعرفات حتى لو بدا له فرجع من الطريق إلى مكة فطاف لعمرته وسعى، ثم وقف بعرفات كان قارنًا. م: (وقد ذكرناه من قبل) ش: أي في آخر باب القران، فقال: ولا يصير رافضًا بمجرد التوجه وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة.... إلى آخره.
م: (فإن طاف للحج) ش: أي فإن طاف طواف القدوم للحج. م: (ثم أحرم بعمرة فمضى عليهما لزماه) ش: حتى يأتي بأفعال العمرة ثم بأفعال الحج. م: (وعليه دم) ش: يعني دم الكفارة حتى لا يأكل منه؛ لأنه خالف السنة في هذا الجمع. م: (لجمعه بينهما) ش: أي بين الحج والعمرة. م: (لأن الجمع بينهما مشروع على ما مر) ش: أراد به قوله: لأن الجمع بينهما في حق الآفاقي مشروع. م: (فصح الإحرام بينهما) ش: أي بين الحج والعمرة. م: (والمراد بهذا الطواف) ش: أشار به إلى الطواف الذي في قوله: فإن طاف للحج ثم أحرم بعمرة. م: (طواف التحية) ش: وهو طواف القدوم. م: (وأنه) ش: أي وإن طواف القدوم. م: (سنة وليس بركن حتى لا يلزمه بتركه شيء) ش: لأنه إذ ترك السنة أصلًا لا يلزمه شيء.(4/432)
وإذا لم يأت بما هو ركن يمكنه أن يأتي بأفعال العمرة ثم بأفعال الحج، فلهذا لو مضى عليهما جاز، وعليه دم لجمعه بينهما، وهو دم كفارة وجبر هو الصحيح؛ لأنه بان بأفعال العمرة على أفعال الحج من وجه. ويستحب أن يرفض عمرته؛ لأن إحرام الحج قد تأكد بشيء من أعماله، بخلاف ما إذا لم يطف للحج،
وإذا رفض عمرته يقضيها لصحة الشروع فيها، وعليه دم لرفضها ومن أهل بعمرة في يوم النحر، أو في أيام التشريق لزمته لما قلنا، ويرفضها، أي يلزمه الرفض؛ لأنه قد أدى ركن الحج فيصير بانيا أفعال العمرة على أفعال الحج من كل وجه، وقد كرهت العمرة في هذه الأيام أيضا على ما نذكره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإذا لم يأت بما هو ركن يمكنه أن يأتي بأفعال العمرة ثم بأفعال الحج، فلهذا لو مضى عليهما جاز، وعليه دم لجمعه بينهما، وهو دم كفارة وجبر وهو الصحيح) ش: احترز به عما اختاره شمس الأئمة، وقاضي خان، والمحبوبي، أنه دم شكر لا دم القران لتحقق القران لوجوب الترتيب المشروع في الأركان، وإنما فات الترتيب في طواف التحية، وهو من التوابع فصار كترك التركيب في الإحرام.
كذا في " المبسوط "، ولكن اختار المصنف أنه دم جبر لما اختاره فخر الإسلام لأنه خالف السنة، فكان كقران المكي فلا يأكل هو منه ولا الغني.
م: (لأنه بان بأفعال العمرة على أفعال الحج من وجه) ش: وذاك لأن طواف التحية، وإن كان سنة لكنه من جملة أفعال الحج من هذا الوجه، وذلك مكروه. م: (ويستحب أن يرفض عمرته؛ لأن إحرام الحج قد تأكد بشيء من أعماله، بخلاف ما إذا لم يطف للحج) ش: لأنه لا يرفض العمرة؛ لأنه لا يكون بانيًا أفعال العمرة على أفعال الحج.
[رفض العمرة]
م: (وإذا رفض عمرته يقضيها لصحة الشروع فيها، وعليه دم لرفضها) ش: أي لرفض العمرة؛ لأنه بالرفض يصير جانيًا فيلزمه الدم. م: (ومن أهل بعمرة في أيام النحر) ش: قال السغناقي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أي المحرم بالحج إذا وقف بعرفات يوم عرفة، ثم أحرم بالعمرة يوم النحر قبل الحلق أو قبل طواف الزيارة؛ لأن حكم من أهل بها من بعد ما أحل مرة من الحج بالحلق يأتي ذكره.
وقال الأكمل: والظاهر الإطلاق على ما ذكره. م: (أو في أيام التشريق لزمته) ش: أي العمرة. م: (لما قلنا) ش: يريد به قوله: لأن الجمع بينهما مشروع في حق الآفاقي. م: (ويرفضها) ش: أي ويرفض العمرة. م: (أي يلزمه الرفض) ش: قال محمد في " الجامع الصغير ": يرفضها، وقالوا في " شرح الجامع الصغير ": معناه أن يلزمه الرفض والمصنف أيضًا قال كذلك. م: (لأنه قد أدى ركن الحج فيصير بانيا أفعال العمرة على أفعال الحج من كل وجه، وقد كرهت العمرة في هذه الأيام أيضًا على ما نذكره) ش: في باب القران.
م: (فلهذا) ش: أي ولأجل كونها مكروهة في هذه الأيام. م: (يلزمه رفضها، فإن رفضها فعليه دم(4/433)
فلهذا يلزمه رفضها، فإن رفضها فعليه دم، لرفضها، وعمرة مكانها، لما بينا، فإن مضى عليها أجزأه؛ لأن الكراهة لمعنى في غيرها، وهو كونه مشغولا في هذه الأيام بأداء بقية أعمال الحج فيجب تخليص الوقت له تعظيما وعليه دم لجمعه بينهما، إما في الإحرام أو في الأعمال الباقية، قالوا: وهذا دم كفارة أيضا. وقيل إذا حلق للحج ثم أحرم لا يرفضها على ظاهر ما ذكر في الأصل، وقيل يرفضها احترازا عن النهي. قال الفقيه أبو جعفر: ومشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - على هذا، فإن فاته الحج ثم أحرم بعمرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لرفضها وعمرة مكانها) ش: أي وعليه عمرة مكان العمرة المرفوضة. م: (لما بينا) ش: أشار إلى قوله: لأن الجمع بينهما مشروع في حق الآفاقي. م: (فإن مضى عليها) ش: أي على العمرة التي أحرم بها يوم النحر. م: (أجزأه) ش: وفي بعض النسخ عليها: أو على الحج والعمرة لما قيل: كيف أجزأه أجاب بقوله. م: (لأن الكراهة لمعنى في غيرها، وهو كونه مشغولا في هذه الأيام بأداء بقية أفعال الحج فيجب تخليص الوقت له) ش: أي للحج. م: (تعظيما) ش: أي لأجل التعظيم له والتعظيم له إنما يكون بجعل الوقت خالصًا له بلا مزاحمة عنده. م: (وعليه دم لجمعه بينهما) ش: أي للجمع بين الإحرامين. م: (إما في الإحرام) ش: أي باعتبار أنه أحرم بالعمرة قبل الحلق. م: (أو في الأفعال الباقية) ش: أي أو الجمع في الأفعال الباقية من رمي الجمار وغيره على تقدير الإحرام بعد الحلق قبل الطواف للزيارة أو بعده.
فإن قيل: بعد طواف الزيارة كيف يكون جامعًا؛ لأنه تحلل عن الإحرام أصلا بطواف الزيارة.
قلنا: يكفي، لكن بقي عليه بعض واجبات الحج، وهو رمي الجمار في أيام التشريق.
م: (قالوا) ش: أي المشايخ. م: (وهذا دم كفارة أيضا) ش: لا دم شكر. م: (وقيل إذا أحرم للحج ثم حلق لا يرفضها) ش: أي العمرة. م: (على ظاهر ما ذكر في الأصل) ش: أي " المبسوط " قال فيها: لا يرفض مطلقًا. م: (وقيل يرفضها احترازا عن النهي) ش: وهو العمرة في أيام النحر، والتشريق.
م: (قال الفقيه أبو جعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: هو محمد بن عبد الله الهندواني من كبار العلماء، مات ببخارى، وحمل إلى بلخ، ودفن يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة سنة اثنين وثلاثين وثلاثمائة، وهو ابن اثنين وستين سنة. م: (ومشايخنا على هذا) ش: أي على هذا القول، وهو رفض العمرة. م: (فإن فاته الحج ثم أحرم بعمرة أو بحجة فإنه يرفضها) ش: أي يرفض الثانية حتى لا يلزم الجمع بين الحجتين أو العمرتين، بيانه أن فائت الحج جاز إحرامًا؛ لأن إحرام الحج باق ومعتمرًا. م: (لأن فائت الحج يتحلل بأفعال العمرة من غير أن ينقلب إحرامه إحرام العمرة) ش: وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ينقلب إحرامه إحرام العمرة، وفائدة الخلاف تظهر في حق لزوم الرفض إذا أحرم بحجة أخرى، وعندهما يرفضها لئلا يصير جامعًا بين إحرامي الحج، وعنده لا يرفضها بل يمضي فيها، كذا.(4/434)
أو بحجة فإنه يرفضها؛ لأن فائت الحج يتحلل بأفعال العمرة من غير أن ينقلب إحرامه إحرام العمرة على ما يأتيك في باب الفوات إن شاء الله، فيصير جامعا بين العمرتين من حيث الأفعال، فعليه أن يرفضها كما لو أحرم بعمرتين، وإن أحرم بحجة يصير جامعا بين الحجتين إحراما فعليه أن يرفضها، كما لو أحرم بحجتين، وعليه قضاؤها لصحة الشروع فيها ودم لرفضها بالتحلل قبل أدائه، والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكره فخر الإسلام، وظهير الدين مرغيناني وكذا في " المبسوط ". م: (على ما يأتي في باب الفوات إن شاء الله تعالى، فيصير) ش: أي فائت الحج الذي أحرم بعمرة. م: (جامعا بين العمرتين) ش: أحدهما العمرة الملتزمة، والأخرى لكونه فات الحج. م: (من حيث الأفعال، فعليه أن يرفضها) ش: العمرة التي أحرم بها.
م: (كما لو أحرم بعمرتين، وإن أحرم بحجة يصير جامعا بين الحجتين إحراما) ش: أي من حيث الإحرام. م: (فعليه أن يرفضها) ش: أي الحجة. م: (كما لو أحرم بحجتين وعليه قضاؤها) ش: أي قضاء تلك الحجة. م: (لصحة الشروع فيها ودم) ش: أي وعليه دم. م: (لرفضها بالتحلل قبل أدائه) ش: لأنه تحلل قبل أداء تلك الحجة.
[باب الإحصار]
[ما يتحقق به الإحصار]
م: (باب الإحصار)(4/435)
باب الإحصار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي هذا باب في بيان حكم الإحصار أعقب باب الجنايات بباب الإحصار؛ لأن فيه ما هو جناية في الحرم. الإحصار في اللغة: المنع من حصره إذا منعه، والمحصر هو الممنوع، تقول العرب: أحصر فلان إذا منعه خوف أو مرض من الوصول إلى أيام حجته أو عمرته، وإذا حبسه سلطان قاهر تقول: حصر. وفي " المحلى ": الإحصار من عذر أو مرض أو كسر أو قطع طريق أو ذهاب نفقته أو رواحله، وعندنا هو فائت الحج والإحصار بكل حابس، وقال ابن المنذر في " الأشراف ": وهو مذهب ابن مسعود، وعطاء، والنخعي، والثوري، وأبي ثور. وقال الأترازي: هو قول ابن مسعود، وابن عباس، وعروة، ومجاهد، وعلقمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، والحسن، وسالم، والقاسم، وابن سيرين، والزهري، وأبي عبيد، وأبي عبيدة، وداود، وأصحابه، وهو قول عبادة، والكلبي أيضًا.
وقال الفضل بن سلمة: وقال بعض الفقهاء: لا يكون إلا من عدو دون المرض، وهو قول مخالف لقول مجتهدي الفقهاء، ومذاهب العرب. قلت: هذا قول مالك، والشافعي، وإسحاق، وأحمد في رواية على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفي " الأسبيجابي " و" الوتري " و" مناسك الكرماني ": اختلف العلماء في الإحصار في اثنين وستين موضعًا بعون الله تعالى، ونحن نذكره مختصرًا.
الأول: أن الإحصار متحقق بكل مانع يمنع المحرم من الوصول إلى البيت لإتمام حجته، أو عمرته من خوف، أو مرض، ومنع سلطان، أو قاهر في حبس، أو مدينة حديثة.
الثاني: أن المحصر لا يتحلل إلا بالذبح عندنا، وبه قال الشافعي، وأحمد، وجمهور أهل العلم. وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا هدي عليه إلا أن يكون معه هدي ساقه.
الثالث: يتحقق الإحصار في العمرة عند عامة أهل العلم، وهو مذهبنا، ذكره في " المبسوط "، وغيره، وذكر محب الدين الطبري عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه لا يتحقق لعدم التأقيت، وخوف الفوات، وذكر ابن قدامة الحنبلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قول مالك.
الرابع: لا يجوز ذبح دم الإحصار إلا في الحرم عندنا في الحج، والعمرة. وقال أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أحكام القرآن ": هو قول ابن مسعود، وابن عباس إن قدر عليه، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في العمرة يذبح هديه حيث أحصر، وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الحج روايتان، أحدهما: أنه يختص بيوم النحر.(4/436)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخامس: أنه يجوز ذبحه قبل يوم النحر في العمرة اتفاقًا، وكذا في الحج عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وبه قال الشافعي، ومالك، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في العمرة، وكذا في الحج رواية. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومحمد، والثوري، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية أنه لا يجوز قبل يوم النحر، فإذا لم يجز نحره قبل يوم النحر لم يجز له التحلل قبله.
السادس: لا يحتاج إلى الحلق بل يتحلل بالذبح، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحلق، فإن لم يحلق فلا شيء عليه، وفي " الكرماني ": في حلق المحصر روايتان عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية يجب، وفي رواية: لا يجب. وفي رواية " النوادر " عنه يجب الدم بتركه، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - واجب، وعند الشافعي، وأحمد - رحمهما الله - كذلك إذا جعلاه نسكًا.
السابع: إذا لم يجد هديًا يبقى محرمًا، ولا بدل له عندنا، وبه قال الشافعي، ومالك - رحمهما الله - في أحد قوليه. وفي قول آخر: يصوم عشرة أيام، وهو قول أحمد وأشهب - رحمهما الله -. وفي " المرغيناني "، و" التحفة ": هو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخرًا. وكان عطاء - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: إذا عجز عن الهدي نظر إلى قيمته فيطعم بذلك كل مسكين نصف صاع من بر أو يصوم، وقال أبو يوسف في " الأمالي ": وهذا أحب إلي.
الثامن: المحصر بالحج النفل يجب عليه قضاء حجة، وعمرة، وإن كان محصرًا بعمرة يجب عليه قضاء عمرة لا غير، وهو قول عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وعروة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وقال أبو بكر الرازي: وهو قول ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وعلقمة، والحسن، والنخعي، وسالم، والقاسم، وابن سيرين، وعكرمة، والشعبي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، ورواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال مالك، وأحمد، والشافعي في رواية: لا قضاء عليه إلا أن تكون حجة الإسلام.
التاسع: في الاشتراك، والاعتبار به عندنا، ولا يحل إلا بالهدي، وبه قال مالك، والشافعي في الجديد، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية: يعتبر شرطه، وهو قول أحمد، وداود - رحمهما الله - وجماعة من أهل الحديث، والشافعي في القديم.
العاشر: يبعث القارن بهديين عندنا، وبه قال إبراهيم، وسعيد بن جبير، وعند الأئمة الثلاثة يحل بهدي واحد.
الحادي عشر: سئل عبد الملك بن الماجشون - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن مالك، قال: إن أحصر بعد إحرامه سقط عنه حجة الإسلام، وخالف الجماعة فيه.(4/437)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثاني عشر: إذا أحاط به العدو من كل جانب، يتحلل عند الجمهور، وفي أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أو الوجهين لا يتحلل.
الثالث عشر: المحصر إذا فاته الحج، وقدر أن يتحلل بأفعال العمرة يتحل بها، ولو لم يتحلل لا يحج من العام القابل بذلك الإحرام عندنا، وهو قول الجمهور، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحج به إذا لم يتحلل منه.
الرابع عشر: قال الزهري، وعروة بن الزبير: لا إحصار على أهل مكة. وفي " المبسوط ": ولو أحصر بمكة بعد قدومه فليس بمحصر. وقال السرخسي: الأصح أنه إن منع من الوقوف والطواف فهو محصر.
الخامس عشر: لا يتحقق الإحصار بعد الوقوف بعرفة عندنا، وبه قال مالك، لكن يكون حولهما حتى يصل إلى البيت فيطوف طواف الزيارة والصدر، ثم يحلق وقد فاته الوقوف بمزدلفة ورمي الجمار فعليه دم للوقوف ودم لرمي الجمار بالإجماع، ودمان بتأخير طواف الزيارة والحلق عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتحقق.
السادس عشر: إن امتنع عليه الطواف، والوقوف بعرفة فهو محصر، وإن قدر على أحدهما فليس بمحصر.
السابع عشر: ذهب بعض الناس إلى أنه لا إحصار اليوم لزوال الشرك عن جزيرة العرب، وهو شذوذ، فإن العرب وقطاع الطريق لا تخلو الأرض منهم، وقد كانت القرامطة بعد زوال الشرك أشد على الحج من المشركين، وكذا بنو خفاجة، وبلي وبنو سالم، وغيرهم، لا كثرهم الله.
الثامن عشر: المحرم بالحج إذا أحصر وفاته الحج، فإنه يتحلل بأفعال العمرة إذا قدر عليها، ولا يحتاج إلى إحرام جديد للعمرة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد، بل يؤديها بإحرام الحج الذي هو فيه، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحتاج إلى إحرام جديد للعمرة.
التاسع عشر: إذا حبسه السلطان إذا حبس في مدينة يتحلل عند الجماعة خلافًا لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه قال: لا يحلله إلا البيت.
العشرون: المحصر في الحج إذا تحلل بأفعال العمرة ليس عليه الوقوف بالمزدلفة، ولا رمي الجمار. وقال المرغيناني: يأتي بكل ما قدر عليه من مناسك الحج مع أعمال العمرة.
الحادي والعشرون: الذبح عندنا يختص بالحرم سواء أمكن ذبحه بالحرم أو لم يكن، وقالت الشافعية في أحد الوجهين: يجوز ذبحه بالحل مع القدرة على ذبحه في الحرم، وأجمعوا على أنه(4/438)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لو أحصر في الحرم لا يجوز ذبح هديه في الحل، وكذا لو أحصر في الحل لا يجوز ذبحه في الحل في غير مكان الإحصار عندهم.
الثاني والعشرون: لو أحاط العدو به لا يتحلل في الوجهين أو القولين للشافعي، وعند الجماعة يتحلل.
الثالث والعشرون: يتحقق الإحصار كيفما كان العدو في المنع عامًا أو خاصا، وعند الشافعي: لا يتحلل بشرذمة في قوله.
الرابع والعشرون: قال في " الذخيرة للمالكية " للمحصر خمس حالات يجوز له التحلل في ثلاثة منها، ويمتنع في وجه، ويصح في وجه، وإن شرط الإحلال فأحد الثلاثة أن يكون العدو طارئًا بعد إحرامه، أو متقدما، أو لم يعلم به، أو علم وكان يروي أنه لا يقيده فقيده، وإن علم أنه يقيده، أو شك لا يحل أن يشترطه في صورة الشك، وعندنا لا تفصيل في ذلك، ويتحقق في الكل، ويتحلل منه.
الخامس والعشرون: القارن إذا أحصر يتحلل منهما، وتلزمه عمرتان وحجة عندنا، سواء كان في الفرض، أو النفل، وعند الثلاثة لا يلزمه شيء في النفل.
السادس العشرون: في الأصل أن المحصر إذا قضى حجته من عامه فلا عمرة، روى الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن عليه حجة، وعمرة، كما لو أخرها إلى العام القابل.
السابع والعشرون: الحج عن الغير إذا أحصر يجب دم الإحصار على الآمر عندهما، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحاج.
الثامن والعشرون: إذا أحرمت المرأة بحج التطوع فللزوج أن يحللها بالتقبيل، والمعانقة، والمس، والتطيب، وقص ظفر، ونحوها في الحال من غير ذبح، وعليها أن تبعث هديًا فيذبح في الحرم، وكذا العبد والأمة، وعليهما الهدي بعد عتقهما وقضاء الحج والعمرة، وكذا بعد إذن المولى لهما في ذلك لم يكره له تحليلهما، وروي عن أبي يوسف وزفر ومالك والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أنه ليس له تحليلها لإسقاط حقه بالإذن كالزوجة. والصحيح ظاهر الرواية أنه لا يتحلل بالنهي، ولا بقوله: حللتك.
التاسع والعشرون: لا يلزم المولى به الهدي، وإن كان بإذنه، وذكر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرحه " لمختصر الكرخي " أن المولى إذا أعتقه يجب على المولى أن يبعث الهدي عنه، وقبل إعتاقه لا يجب عليه.
الثلاثون: في " الينابيع ": لو أحرمت المرأة بإذن زوجها لا تتحلل إلا بالذبح، وروى زفر(4/439)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إن تم إحصارها إلى يوم النحر صح إحلالها، فإن زال في مدة تقدر أن تدرك الحج بعده لا تحل بذبح ذلك الهدي، ويجب عليها المضي في الحج، فإن لم تفعله حتى فاتها الحج تتحلل بالعمرة.
الحادي والثلاثون: إذا زال الإحصار وقدر على الحج بعد الذبح جاز له التحلل استحسانًا. وفي رواية زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يتحلل.
الثاني والثلاثون: الهدي بسبع بدنة، أو بقرة، أو شاة بكمالها، وهو قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وبه قال الجمهور. وعن عائشة، وابن عمر: لا تجزئه الشاة.
الثالث والثلاثون: في السنن يجزئه ما يجزئ في الأضحية عند الجمهور، وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يجوز من الكل إلا الشيء فصاعدًا، وقال الأوزاعي: يجزئ الجذع من الكل عن سبعة إلا الشاة.
الرابع والثلاثون: المخطئ في رواية الهلال، وعدد الشهر ليس بمحصر بل هو فائت الحج، وقال داود وأصحابه: هو محصر وإن وجده، ويمكنه أن يذهب معه، ويأتي بأفعال العمرة فلا إحصار، هكذا قالوا. وإن كان لا يمكنه الرواح معه نصف راحلته أو غير ذلك فهو محصر. وفي " التحفة ": إن خاف أن لا يمكنه المشي مع القافلة إذا هلكت راحلته فهو محصر.
الخامس والثلاثون: قال عبد الله وعروة ابنا الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: إن العدو والمرض سواء لا يحل المحصر فيهما. وقال أبو بكر الرازي: لا نعلم أيهما موافقًا من فقهاء الأمصار.
السادس والثلاثون: يتحقق الإحصار عندنا بعد الإحرام. وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يكون محصرًا حتى يفوته الحج، إلا أن يدرك فيما بقي فيتحلل في مكان.
السابع والثلاثون: ذهب الجمهور إلى جواز قتال الحاصر عند القدرة. وقال مالك: لا يجوز سواء كان الحاصر مسلمًا، أو كافرًا.
الثامن والثلاثون: إذا لبسوا الدروع والمغفر للقتال فعليهم الفدية، وقال قوم: لا شيء عليهم.
التاسع والثلاثون: لو أحصر في فاسد الحج فله أن يتحلل عند الأئمة وأصحابهم، وقال داود وأصحابه: لا يبقى إحرامه بالإفساد، وقال مالك والحسن: ينقلب عمرة.
الأربعون: قالت الثلاثة: الهدي واجب وهو شرط التحلل. وقال أشهب: هو ليس بشرط للتحلل.(4/440)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحادي والأربعون: قال في " المحلى ": قد روينا عن عطاء، وإبراهيم، والحسن: إن حل المحصر دون البيت فعليه هدي آخر دون سوى الذي لزمه، وعندنا لا شيء عليه.
الثاني والأربعون: قال الحكم بن عيينة: على القارن إذا حل عليه حجة وثلاث عمرات، وعندنا حجة، وعمرتان.
الثالث والأربعون: لو أحرم بحجتين أو عمرتين ثم أحصر يتحلل بدمين عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعند أبي يوسف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ومحمد، والشافعي، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بهدي واحد.
الرابع والأربعون: لو أحرمت المرأة بغير محرم بغير إذن الزوج بحجة الإسلام فهي محصرة، وله أن يحللها بغير هدي، ذكره في الأصل، وذكر الكرخي أنه لا يحللها إلا بالهدي، ولو جامعها قيل يكره، وقيل: لا يكره لحصول التحلل قبل الجماع بالمس بشهوة، ذكره في " المحيط ".
الخامس والأربعون: في " البدائع ": المفرد بالحج إذا تحلل ثم زال الإحصار عنه فأحرم وحج من عامه فليس عليه نية القضاء، ولا عمرة عليه، وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن عليه قضاء حجة، وعمرة، ولا بد من نية القضاء، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما لو تحولت السنة.
السادس والأربعون: في " المحلى ": عن الشعبي إن دخل المحصر قبل هديه فعليه الفدية يخير في إطعام ستة مساكين، أو صيام ثلاثة أيام، أو شاة، وعند الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - غير مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عليه شاة.
السابع والأربعون: المحصر إن رجع إلى أهله قال عروة بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يحل فيه إلا رأسه، وخالفه الجماعة.
الثامن والأربعون: قال أبو مصعب، وأبو بكر البقالي: إن الحج يسقط عن الحاج إذا أراد الحاج وصد عنه، وإن لم يحرم، وأبو بكر البقالي تلميذ ابن شعبان وفقيه مصر في وقته، وهو مذهب ابن شعبان.
التاسع والأربعون: لو باع العبد والأمة المحرمين جاز البيع. وقال سحنون - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز بيعهما، ويملكهما المشتري عندنا، وقال مالك، والشافعي، وزفر، وأبو ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: ليس له تحليلهما.(4/441)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخمسون: روى محمد بن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الأمة المزوجة إذا أذن لها مولاها في الحج فأحرمت فليس لزوجها أن يحللها، ذكره في " البدائع ".
الحادي والخمسون: ينعقد إحرام العبد، والأمة بغير إذن المولى عند الفقهاء كافة، ويثبت فيهما حكم الإحصار، وقال أهل الظاهر: لا ينعقد.
الثاني والخمسون: في " البدائع ": لو أحرم بشيء ولم ينو حجة، ولا عمرة ثم أحصر يجعله عمرة، ويحل بهدي واحد، وعليه عمرة في الاستحسان، وفي القياس: لا تعين حجته، ولا عمرته إلا بالشروع في عمل أحدهما، وهو قياس قاعدة زفر.
الثالث والخمسون: المذهب عندنا أن الهدي ليس له بدل، والأصح عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن له بدلًا، وفيه ثلاثة أقوال: الأول: إطعام فدية الأذى، وفي الصيام ثلاثة أقوال: أحدها: صوم التمتع، والثاني: صوم الحلق، والثالث: صوم التعديل، ذكره محب الدين الطبري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مناسكه ".
الرابع والخمسون: في " قاضي خان ": إذا أحصر بعد الوقوف بعرفة لا يحل بالهدي، وهو محرم عن النساء حتى يصل إلى البيت فيطوف طواف الزيارة في يوم النحر، وطواف الصدر، ويحلق، هكذا ذكره في الأصل.
الخامس والخمسون: رجل أحرم بحجة أو عمرة ثم أحصر يبعث بهدي الإحصار، فزال الإحصار ثم حدث إحصار آخر، فإن علم أنه يدرك هديه، ونوى أن يكون لإحصاره الثاني جاز وحل به، وإن لم ينو حتى ذبح لم يجزئه.
السادس والخمسون: في " البدائع " وغيره: تحليل الزوجة بتطيبها، وبساطها بإذن الزوج والمولى، ولا يفتقر تحليلهما إلى الهدي.
السابع والخمسون: [.....] في الحج يلزمه المعنى فيه، والقضاء لو أفسده فلو أحصر في قضائه، وتحلل لا يلزمه القضاء، والأصح أنه يلزمه.
الثامن والخمسون: ذكر السغناقي، والطبري عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: ليس على المحصر بدل، وإنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ، فأما من حبسه عدو أو غير ذلك فإنه يحل بغير هدي، ولا يرجع إن كان معه هدي وهو محصر نحوه، وإن كان لا يستطيع أن يبعث به، وإن قدر أن يبعث به لم يحل حتى يبلغ الهدي محله، رواه عنه البخاري، ومسلم - رحمهما الله - قال: فمن أصابه الله تعالى بمرض، أو بكسر، أو بحبس فليس عليه شيء، رواه سعيد بن منصور وأراد به بالتلذذ النساء، قاله الطبري - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(4/442)
وإذا أحصر المحرم بعدو أو أصابه مرض فمنعه من المضي جاز له التحلل. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يكون الإحصار إلا بالعدو؛ ولأن التحلل بالهدي شرع في حق المحصر؛ لتحصيل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التاسع والخمسون: في الحصر إن كان العدو يرجى زواله، وعلم أنه قد بقي من الوقت ما لا يملكه إدراكه، فإنه يتحلل عند الجماعة، وبه قال ابن القاسم، وعبد الملك، وقال أشهب: لا يحل حتى يوم النحر، ولا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة.
الستون: المكي إذا تلبس بالحج ثم أحصر بمكة فإنه يطوف، ويسعى، ويحل، وكذا الغريب بمكة إذا أحرم بالحج، وبه قال الشافعي، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا بقي محصورًا حتى فرغ الناس من الحج خرج إلى الحل، ويحرم بعمرة ويفعل ما يفعله المعتمر، ويحل، وعليه الحج من قابل، والهدي مع الحج، وكذا الغريب إذا أحصر بها، حكاه عنه ابن المنذر في " الأشراف "، وقال الزهري: لا بد للمحصر المكي أن يقف وإن نفس نفسًا.
الحادي والستون: قال القرطبي في " شرح الموطأ ": من أحصر بمرض، أو كسر، أو عرج فقد حل في موضعه، ولا هدي، وعليه القضاء، وخالف فيه جماعة.
الثاني والستون: على المحصر هدي واحد، وقال مالك: لا شيء عليه، وقال مالك والزهري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: عليه هديان، الأول: يتحلل به في حلاق الشعر، وإزالة التفث في الحال، ويبقى محرمًا في حق النساء حتى يصل إلى البيت، ويطوف، ويسعى، ويحل، وعليه الحج قابلًا، وهدي ثان.
[أحصر المحرم بعدو أو أصابه مرض فمنعه من المضي]
م: (وإذا أحصر المحرم بعدو أو أصابه مرض فمنعه من المضي جاز له التحلل) ش: قوله المحرم يتناول المحرم بالحج، والمحرم بالعمرة، قوله. م: (من المضي) ش: أي من الوصول إلى البيت، والتحلل: الخروج من الإحرام، ثم العدو: يشمل المسلمين والكافرين.
فإن كانوا المسلمين واحتاج المحرمون على القتال فلا يلزمهم القتال، ولهم التحلل، وإن كانوا كفارًا يجب القتال إذا لم يزد عدد الكفار على الضعف بشرط وجدان المسلمين أهبة للقتال، وقال الآخرون: لا يجب القتال، وإن كان العدو كفارًا وكان في مقاتلة كل مسلم أقل من مشرك.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يكون الإحصار إلا بالعدو) ش: معناه: ليس للمحرم التحلل بعذر المرض، وبه قال مالك، وأحمد في رواية، بل يصير حتى يصح، فإن كان محرمًا بعمرة أتمها، وإن كان محرمًا بحج فإنه يتحلل بعد العمرة، هذا إذا لم يشترط، أما إذا اشترط التحلل عند المرض وقت الإحرام بأن قال: إذا مرضت يعقبني تحلل، فقد نص في القديم على صحة هذا، وبه قال أحمد، ومحمد - رحمهما الله - في رواية، وفي رواية جماعة من أهل الحديث لحديث بنت الزبير، ضباعة عمة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «تريدي الحج؟ " فقالت:(4/443)
النجاة، وبالإحلال ينجو من العدو لا من المرض. ولنا أن آية الإحصار وردت في الإحصار بالمرض بإجماع أهل اللغة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إن شاء الله تعالى، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " حجي، واشترطي أن تحلي حيث حبست» .
وقال النووي: الصحيح بنت الزبير بن عبد المطلب هاشمية، وضباعة الأسلمية كما ذكره الغزالي غلط. قلنا: الاشتراط لا يمنع أن يجب بدونه كاشتراط التأخر، أما التحلل إلى حين بلوغ الهدي محله، وقال الزهري وهو الراوي للحديث: لم يقل أحد بالشرط إذ لو تحلل بالشرط من غير هدي لما شرع الهدي؛ لأن كل من أحرم كان يشترط، وقال إمام الحرمين: تأويل الحديث أي حبسني الموت، أي حين أدركني الموت انقطع إحرامي، قال النووي: هذا التأويل باطل.
م: (ولأن التحلل بالهدي مشروع في حق المحصر لتحصيل النجاة) ش: من الصيد. م: (وبالإحلال ينجو من العدو لا من المرض) ش: بدليل قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] [البقرة: الآية 196] ، والآية في الإحصار بالعدو، بدليل قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) ، والأمان من العدو لا المرض، وإنما يكون من المرض الشفاء؛ ولأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كان محصرًا بالعدو، وفيما لم يرد به النص يتمسك بالأصل، وهو لزوم الإحرام إلى مراد الأفعال، إلا أن يشترط ذلك عند الإحرام لما مر من الحديث، وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: لا حصر إلا من العدو دون المرض، واستدل عليه بهذه الآية ذكر ذلك عنه ابن زيد في " القواعد ".
م: (ولنا أن آية الإحصار وردت في الإحصار بالمرض بإجماع أهل اللغة) ش: منهم ابن السكيت، وهو من كبار أهل اللغة، قال في كتاب " الإصلاح ": يقال: قد أحصره المرض إذا منعه من السفر، أو من حاجة يريدها وقد حصره العدو يحصره حصرًا إذا منعوا عليه فعلم أن الإحصار بالمرض والحصر بالسكون بالعدو، ومنهم أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد في كتاب " الجمهرة ": أحصر الرجل إذا منع من النقرة لمرض أو عائق في التنزيل، فإن أحصر ... ثم الإحصار وهو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين الحج من مرض أو كسر، أو عدو، يقال: أحصر الرجل إحصارًا فهو محصر، وإن حبس في سجن أو دار فهو محصور، وقال أبو جعفر النحاس: جميع أهل اللغة على أن الإحصار إنما هو من المرض ومن العدو، ولا يقال إلا حصر.
وقال الأخفش والكسائي، والفراء، وأبو عبيدة: حصرت الرجل فهو محصور، أي حبسته، وأحصرني بولي. وقالوا: وما كان من ذهب نفقة، أو مرض [....] أحصر، وما كان من عدو، وأحصروا قبل منه حصر. وقال ثعلب في الفصيح: أحصر بالمرض، وحصر بالعدو، وقال النووي: قال أهل اللغة: أحصره، وحصر بالعدو، وقيل: أحصر وحصر بمعنى واحد قاله أبو عمرو الكسائي، وحكى ابن فارس أن ناسًا يقولون: حصره المرض، وأحصره العدو.(4/444)
فإنهم قالوا: الإحصار بالمرض، والحصر بالعدو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإنهم) ش: أي فإن أهل اللغة. م: (قالوا: الإحصار) ش: يعني من باب الأفعال. م: (بالمرض، والحصر) ش: بسكون الصاد. م: (بالعدو) ش: كما ذكرناه مستقصى قبل في كلام المصنف بحث من وجهين: الأول: كان من حق الكلام أن يقال بإجماع أهل التفسير؛ لأن أهل اللغة لا تعلق لهم بورود الآية، وسبب نزولها. الثاني: إنما نزلت في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه وكان الإحصار بالعدو.
وأجيب عن الأول: أن معناه بدلالة إجماع أهل اللغة أجمعوا على معنى ذلك المعنى أن تكون الآية واردة في الإحصار بالمرض.
وعن الثاني: بما قيل: النصوص الواردة مطلقة يعمل بها على إطلاقها من غير حمل على الأسباق الواردة، وهي الاجتهاد، ونقول أيضًا: إن العلة المبيحة للتحلل من الإحرام من الإحصار قدر مشترك، وهو المنع، وهو موجود في العدو والمرض فيعم بعموم العلة، ويوضحه ما رواه الترمذي: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا الصواف، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، قال: حدثني الحجاج بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كسر أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى " فذكرت ذلك لأبي هريرة، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فقالا: صدق» .
وقال الترمذي: هذا حديث حسن، ورواه أبو داود، وابن ماجه من طريق عبد الرزاق.
قلت: الحجاج بن عمرو بن غزية الأنصاري المازني الذي له صحبة ورواية، وكان آخر من قاتل مع علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وليس له عند الترمذي، ولا في بقية السنن إلا هذا الحديث الواحد.
فإن قلت: قال القرافي في " الذخيرة ": وهو حديث ضعيف.(4/445)
والتحلل قبل أوانه لدفع الحرج الآتي من قبل امتداد الإحرام، والحرج في الاصطبار عليه مع المرض أعظم. وإذا جاز له التحلل يقال له: ابعث شاة تذبح في الحرم وواعد من تبعثه بيوم بعينه تذبح فيه ثم يتحلل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا خطأ منه، وقال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح المهذب " روي بأسانيد صحيحة ولو كان فيه ضعف لما حكم بصحته، ونبه على ضعفه مع مخالفة مذهبه، وفي رواية لأبي داود من عرج أو كسر أو مرض، وفي رواية عن أحمد: في حبس بكسر، أو مرض، وقال ابن حزم في " المحلى ": صح عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أفتى في محرم بعمرة لذع فلم يقدر على النفوذ أن يبعث بهدي ويواعد أصحابه، فإذا بلغ الهدي المحل، وصح عنه أيضًا أنه أفتى في مريض محرم لا يقدر على النفوذ بأنه لا ينحر عنه بدنة ثم ليهل عامًا قابلًا مثل إهلاله الذي أهل به.
والجواب عن استدلال الشافعي بالآية المذكورة: قد علم مما ذكرناه عن ابن عباس مضطربة، وتصديقه للحجاج بن عمرو - رَحِمَهُ اللَّهُ - ودليل على اضطراب قوله، ويحمل قوله على نفي الكمال، مثل لا فتى إلا علي، ولا سيف إلا ذو الفقار، والتحلل قبل أوانه هذا استدلال مفعول فيه ثانية الترك، كأنه قال: سلمنا أن آية الإحصار وردت في الحصر بالعدو ولا فرق بين الإحصار والحصر، لكن المرض ملحق به بالدلالة.
م: (لأن التحلل قبل أوانه لدفع الحرج الآتي من قبل امتداد الإحرام، والحرج في الاصطبار عليه) ش: أي على الإحرام. م: (مع المرض أعظم) ش: لا محالة لكثرة احتياجه إلى المداواة، ويمتد ذلك. م: (وإذا جاز له التحلل) ش: بسبب العدو جاز بسبب المرض بالطريق الأولى؛ لأن الاصطبار على الإحرام مع المرض أشق من الاصطبار عليه بلا مرض، وإذا حد له التحلل. م: (يقال له: ابعث شاة) ش: يعني إذا ثبت له التحلل بالحصر بما ذكرنا من الدليل يقال له: ابعث شاة؛ ابعث: أمر، وشاة: منصوب. م: (تذبح) ش: على صيغة المجهول صفة شاة. م: (في الحرم) ش: في محل النصب على الحال.
م: (وواعد) ش: أمر من المواعدة إنما يحتاج به إلى المواعدة عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأن دم الإحصار عنده غير موقت بزمان، أما عندهما موقت بيوم النحر، فلا يحتاج إلى المواعدة كذا في " المحيط " و" المبسوط ". وأما في العمرة فمستقيم على قولهم جميعًا. م: (من تبعثه) ش: فيقول: واعد، والخطاب فيه للمحصر. (بيوم بعينه) ش: اللام فيه متعلق بقوله: واعد.
م: (تذبح فيه) ش: أي في ذلك اليوم بعينه، وتذبح على صيغة المجهول أيضًا. قال الأترازي: يذبح مجزوم على أنه جواب الأمر.
قلت: يجوز أن يكون مرفوعًا على تقدير: هو يذبح فيه. م: (ثم تحلل) ش: أي بعد الذبح،(4/446)
وإنما ينبعث إلى الحرم؛ لأن دم الإحصار قربة، والإراقة لم تعرف قربة إلا في زمان مخصوص أو مكان مخصوص على ما مر، فلا يقع قربة دونه، فلا يقع به التحلل، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) فإن الهدي اسم لما يهدى إلى الحرم. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يتوقت به؛ لأنه شرع رخصة، والتوقيت يبطل التخفيف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبعد التحليل هو مخير إن شاء أقام مكانه، وإن شاء رجع؛ لأنه صار ممنوعًا من الذهاب إلى مكة يخير بين المقام، والانصراف كذا في " المبسوط "، وفي " جامع قاضي خان ": ويبقى محرمًا ما لم يذبح حتى لو فعل مثل الذبح ما يفعله الحلال فقد ارتكب محظور إحرامه.
م: (وإنما يبعث إلى الحرم؛ لأن دم الإحصار قربة، والإراقة لم تعرف قربة إلا في زمان مخصوص أو مكان مخصوص) ش: والإراقة لم تعرف قربة قام مقام الحلق في أوانه، وهو في أوانه نسك، فكذا ما قام مقامه، وأوانه بعد ركن الحج، وهو الوقوف بعرفات، لكنه لما وقع قبل الأداء، والأوان اعتبر جناية، فقيل: إنه دم كفارة. م: (على ما مر) ش: إشارة إلى قوله: في فصل الصيد: الهدي قربة غير معقولة، فيختص بمكان أو زمان. م: (فلا يقع قربة دونه) ش: أي فلا يقع دم الإحصار قربة دون الحرم. م: (فلا يقع به التحلل) ش: أي فلا يقع بدونه التحلل يعني إذا ذبح دم الإحصار في غير الحرم لا يحصل التحلل.
م: (وإليه) ش: أي وإلى كون دم الإحصار قربة. م: (الإشارة بقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196)) بالكسر عبارة عن المكان كالمسجد والمجلس، نهي عن الحلق حتى يبلغ الهدي محله، موضع حله؛ فسر المحل بقوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] وليس المراد عين البيت؛ لأنه لا يراق فيه الدماء فكان المراد به الحرم. م: (فإن الهدي اسم لما يهدى إلى الحرم) ش: أي ينعقد إلى الحرم مأخوذ من الإهداء والهدية، ولهذا لو جعل ثوبه هديًا لزمه تبليغه إلى الحرم، كذا في " الأسرار ". وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: للمحصر التحلل بلا هدي إلا أن يكون معه هدي ساقه، وهو خلاف القرآن، والحديث.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يتوقت بالحرم) ش: ويجوز أن يذبح في الموضع الذي أحصر فيه. م: (لأنه) ش: أي لأن الهدي. م: (شرع رخصة) ش: أي لأجل الرخصة. م: (فالتوقيت) ش: بالحرم. م: (يبطل التخفيف) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية. وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أحصر مع أصحابه في الحديبية نحروا بها وهي خارج الحرم. ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) ، المراد بالمحل الحرم كما ذكرنا، وأما ما يستدل به فقد اختلفت الروايات في نحره - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حين أحصر. «روي أنه أرسلها على يد ناجية الأسلمي لينحرها في الحرم حتى قال ناجية: ما لنا أصنع بما تبعث(4/447)
قلنا: إن المراعى أصل التخفيف لا نهايته، وتجوز الشاة؛ لأن المنصوص عليه الهدي والشاة أدناه، وتجزئه البقرة والبدنة أو سبعها كما في الضحايا، وليس المراد بما ذكرنا بعث الشاة بعينها؛ لأن ذلك قد يتعذر، بل له أن يبعث بالقيمة حتى تشترى الشاة هنالك وتذبح عنه. وقوله: ثم تحلل إشارة إلى أنه ليس عليه الحلق أو التقصير، وهو قول أبي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فقال: " انحرها، واصبغ نعلها بدمها، واضرب صفحة سنامها وخل بينها وبين الناس، ولا تأكل أنت ولا رفقتك منها شيئًا.» وهذه الرواية أقرب إلى موافقة الآية، وهو قَوْله تَعَالَى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] (الفتح: الآية 25) .
وأما الرواية الثانية فإن صحت فنقول: الحديبية من الحرم؛ لأن نصفها من الحل، ونصفها من الحرم، وكان يضارب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أحد، ومصلاه في الحرم، وإنما تبعث الهدايا إلى جانب الحرم، ونحرت فيه، ولا يكون للخصم حجة.
وقيل: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مخصوصا بذلك؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان يجد في ذلك الوقت من يبعث الهدايا مع يده إلى الحرم، كذا في " المبسوط "، وقال الواقدي: الحديبية: هي طوف الحرم على سبعة أميال، وقال أبو القاسم بن عبيد الله بن خردويه في كتابه " حدود الحرم ": من طريق المدينة على ثلاثة أميال، ومن طريق اليمن على سبعة أميال، ومن طريق الطائف على أحد عشر ميلًا، ومن طريق جدة على أحد عشر ميلًا، ومن طريق العراق على تسعة أميال.
م: (قلنا: إن المراعى أصل التخفيف لا نهايته) ش: أي الذي يراعى هنا أصل التخفيف لا نهاية التخفيف، ولهذا لم يستحق التخفيف من لم يجد الهدي، بل يبقى محرمًا حتى يطوف ويسعى كما يفعل فائت الحج. م: (وتجوز الشاة) ش: يعني في الهدي، وذكر في " المحيط ": إذا كان معسرًا لا يجد قيمة الشاة أقام حرامًا حتى يطوف ويسعى كما يفعله فائت الحج. م: (لأن المنصوص عليه الهدي) ش: أي في قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) . م: (والشاة أدناه) ش: أي أدنى الهدي؛ لأن الهدي من الإبل، والبقر، والغنم. م: (وتجزئه البقرة والبدنة أو سبعها كما في الضحايا) ش: أي يجزئه سبع البقرة أو سبع البدنة كما في الأضحية، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن عطاء قال: للمحصر إذا لم يجد الهدي، قوم الهدي طعامًا يتصدق به على المساكين، فإن لم يكن عنده طعام صام لكل نصف صاع يومًا، وقال أبو يوسف: قول عطاء أحب إلي.
م: (وليس المراد بما ذكرنا بعث الشاة بعينها؛ لأن ذلك) ش: أي بعث الشاة بعينها. م: (قد يتعذر، بل له أن يبعث) ش: شاة. م: (بالقيمة حتى تشترى الشاة هنالك) ش: أي في الحرم. م: (وتذبح عنه. وقوله) ش: أي قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (ثم تحلل؛ إشارة إلى أنه ليس عليه الحلق أو التقصير) ش: وذلك لأنه لم يشترط الحلق للتحلل. م: (وهو) ش: أي عدم اشتراط الحلق للمحصر. م: (قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عليه ذلك) ش: أي على المحصر(4/448)
حنيفة ومحمد - رحمهما الله -، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عليه ذلك، ولو لم يفعل لا شيء عليه؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حلق عام الحديبية، وكان محصرا بها وأمر أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بذلك. ولهما أن الحلق إنما عرف قربة مرتبا على أفعال الحج فلا يكون نسكا قبلها، وفعل النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ليعرف استحكام عزيمتهم على الانصراف.
قال: وإن كان قارنا بعث بدمين لاحتياجه إلى التحلل من إحرامين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحلق، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، ومالك وأحمد - رحمهما الله - في رواية، وفي " الكافي ": المراد من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذلك، أي الحلق استحبابًا لا وجوبًا، بدليل قوله. م: (ولو لم يفعل) ش: أي الحلق. م: (لا شيء عليه) ش:
فإن قلت: لا مطابقة بين الدليل والمدلول؛ لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أمره فيما قربه دليل الوجوب، فكيف يصح دليلًا على قول: ولو لم يفعل لا شيء عليه.
قلت: عن أبي يوسف روايتان في المسألة، في رواية: يجب الحلق، وفي رواية: لا يجب، ذكره المحبوبي، والمصنف ذكر دليل رواية الوجوب فقط، وقيل: لا؛ لأن ترك الواجب يوجب الدم، وترك السنة يوجب الإساءة، ولم يذكر واحدًا من الأمرين. وفي " مبسوط شيخ الإسلام " - رَحِمَهُ اللَّهُ - على هذه الرواية: لا يتحقق الخلاف، وإنما يتحقق على ما روي في " النوادر " أن عليه الحلق، وإن لم يحلق فعليه دم.
م: (لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: (حلق عام الحديبية، وكان محصرا بها وأمر أصحابه بذلك) ش: أي بالحلق، والحديث صحيح، رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ ولأن الإحصار يمنع من الطواف والسعي، ولم يمنع من الحلق فما منع سقط للضرورة، وما لم يمنع لم يسقط لعدم الضرورة.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد. م: (أن الحلق إنما عرف قربة مرتبا على أفعال الحج فلا يكون نسكا قبلها) ش: أي قبل أفعال الحج، ولم توجد أفعال الحج، فلا تكون قربة؛ ولأن الحلق من توابع الإحرام قد يؤمر به المحصر كالرمي. م: (وفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه) ش: هذا جواب عما تمسك به أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيانه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أحصر بالحديبية صالح مع كفار قريش أن يعتمر في العام القابل، وكان رأي أصحابه أن يحاربوهم ويعتمروا من عامهم ذلك، فحلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر أصحابه بذلك. م: (ليعرف استحكام عزمهم على الانصراف) ش: أي على الرجوع؛ لأن حكم الله كان في الرجوع لا لأجل أن الحلق واجب.
[ما يفعل المحصر لو كان قارنا]
م: (قال: وإن كان) ش: أي المحصر. م: (قارنا بعث بدمين لاحتياجه إلى التحلل من إحرامين) ش: وعند الشافعي، ومالك، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يكفيه دم. م: (فإن بعث بهدي واحد ليتحلل عن(4/449)
فإن بعث بهدي واحد ليتحلل عن الحج ويبقى في إحرام العمرة لم يتحلل عن واحد منهما؛ لأن التحلل منهما شرع في حالة واحدة. ولا يجوز ذبح دم الإحصار إلا في الحرم، ويجوز ذبحه قبل يوم النحر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: لا يجوز الذبح للمحصر بالحج إلا في يوم النحر، ويجوز للمحصر بالعمرة متى شاء، اعتبارا بهدي المتعة والقران، وربما يعتبر أنه بالحلق إذ كل واحد منهما محلل. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه دم كفارة حتى لا يجوز الأكل منه فيختص بالمكان دون الزمان كسائر دماء الكفارات،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحج، ويبقى في إحرام العمرة لم يتحلل عن واحد منهما؛ لأن التحلل منهما) ش: أي من الإحرامين. م: (شرع في حالة واحدة) ش: فلم يصح تقديم التحلل عن أحدهما كما في " المدرك ".
فإن قلت: وجب أن يكتفى بهدي واحد؛ لأن الهدي شرع في التحلل، والتحلل عن الإحرامين يقع بتحلل واحد، كما لو حلق قبل الذبح بعد أداء الأفعال.
قلت: ليس هذا كالحلق؛ لأن الحلق في الأصل محظور الإحرام، وإنما صار قربة بسبب التحلل، فكان قربة لمعنى في غيره لا في نفسه، فينوب الواحد عن اثنين كالطهارة الواحدة تكفي للصلاة الكثيرة، وكالسلام الواحد في باب الصلاة، فإنه يكفي للتحلل عن صلوات كثيرة، فأما الهدي شرع للتحلل؛ إلا أنها قربة مقصودة بنفسها بدون التحلل كما في الأضحية، وما شرع قربة مقصودة بنفسها، فلا ينوب الواحد عن الاثنين كأفعال الصلاة.
[مكان ووقت ذبح دم الإحصار]
م: (ولا يجوز ذبح دم الإحصار إلا في الحرم) ش: إنما أعاد هذه المسألة مع أنه ذكرها عن قريب في هذا الباب توطئة لقوله. م: (ويجوز ذبحه قبل يوم النحر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: زيادة في بيان أن دم الإحصار أعرف في الاختصاصية بالمكان، حيث لم يختلف فيه أصحابنا من اختصاصه بالزمان؛ لأنه مختلف فيه، فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز ذبحه قبل يوم النحر.
م: (وقالا: لا يجوز الذبح للمحصر بالحج إلا في يوم النحر، ويجوز للمحصر بالعمرة) ش: أن يذبح. م: (متى شاء) ش: أي بالإجماع. م: (اعتبارا بهدي المتعة والقران) ش: فإنهما موقتان بالزمان، والمكان بلا خلاف، وهذا متصل بقوله: إلا في يوم النحر بالعمرة متى شاء، ففرقنا بينهما احترازًا. م: (وربما يعتبر أنه) ش: أي ربما يعتبر أبو يوسف، ومحمد - رحمهما الله - الذبح. م: (بالحلق؛ إذ كل واحد منهما محلل) ش: هذا بيان وجه الاعتبار بالحلق، أي القياس عليه بيانه أن كل واحد منهما دم يتحلل به عن إحرام الحج، فلا يجوز قبل أوان التحلل كالحلق.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه) ش: أي أن الذبح. م: (دم كفارة حتى لا يجوز الأكل منه فيختص بالمكان دون الزمان كسائر دماء الكفارات) ش: لأن هذا دم واجب لأجل الخروج عن الإحرام قبل أداء الأفعال، والخروج عن الإحرام قبل أداء الأفعال جناية، فيكون ما وجب لأجله(4/450)
بخلاف دم المتعة والقران؛ لأنه دم نسك، وبخلاف الحلق؛ لأنه في أوانه؛ لأن معظم أفعال الحج وهو الوقوف ينتهي به. قال: والمحصر بالحج إذا تحلل فعليه حجة وعمرة، هكذا روي عن ابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كفارة كما في سائر الجنايات، ولهذا لا يباح له التناول بالاتفاق. والكفارات تختص بالمكان دون الزمان بالاتفاق. م: (بخلاف دم المتعة والقران) ش: هذا جواب عن اعتبارهما، والذي بالحلق بيانه أن هذا الاعتبار غير صحيح. م: (لأنه) ش: أي لأن دم المتعة والقران. م: (دم نسك) ش: وما هو دم نسك يختص بالزمان، فكذا هذا.
م: (وبخلاف الحلق) ش: هذا جواب عن اعتبارهما الآخر، بيانه أن اعتبارهما الذبح بالحلق لا يصح. م: (لأنه) ش: أي لأن الحلق. م: (في أوانه؛ لأن معظم أفعال الحج وهو الوقوف) ش: بعرفة. م: (ينتهي به) ش: أي بوقت الحلق، ووقت الحلق مبدؤه طلوع الفجر من يوم النحر، فلا بد أن يقع الحلق في يوم النحر. وقال صاحب " الأسرار ": قال الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) ، من غير اشتراط زمان، فالاشتراط بالناس نسخ. م: (والمحصر بالحج إذا تحلل فعليه حجة وعمرة) ش: وفي غالب النسخ قال: والمحصر بالحج، أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المحصر بالحج ... إلخ.
م: (هكذا روي عن ابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: قال الأكمل: وابن عباس، وعمر قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من فاته عرفة بليل، فقد فاته الحج فيتحلل بعمرة، وعليه الحج من قابل» قال: والحديث عام في الذي فاته الحج لفوات وقت الوقوف، وبفواته في الإحصار لأن كلًا منهما قد فاته عرفة، وقلنا بوجوب العمرة، وأما الحجة فإنها تجب قضاء لصحة الشروع فيها، انتهى.
قلت: المصنف لم يبين من أخرج الذي ذكره، ولو كان له أصل لبينه مخرج الأحاديث، وإنما قال بعد قوله: روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ... إلى آخره، ذكره أبو بكر الرازي عن ابن عباس، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لا غير، وقد ذكرنا فيما مضى ناقلًا عن السروجي أنه قول عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وعروة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وذكرنا هناك أيضًا أنه قول مالك، والشافعي، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية: لا قضاء عليه إلا أن تكون حجة الإسلام.(4/451)
ولأن الحجة تجب قضاء لصحة الشروع فيها والعمرة لما أنه في معنى فائت الحج،
وعلى المحصر بالعمرة القضاء، والإحصار عنها يتحقق عندنا. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يتحقق؛ لأنها لا تتوقت. ولنا أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أحصروا بالحديبية وكانوا عمارا؛ ولأن شرع التحلل لدفع الحرج، وهذا المعنى موجود في إحرام العمرة، وإذا تحقق الإحصار فعليه القضاء إذا تحلل كما في الحج. وعلى القارن حج وعمرتان، أما الحج وإحداهما فلما بينا، وأما الثانية لأنه خرج منها بعد صحة الشروع فيها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن الحجة) ش: دليل آخر. م: (تجب قضاء لصحة الشروع فيها) ش: والشروع الصحيح ملزم. م: (والعمرة) ش: أي وقت العمرة. م: (لما أنه) ش: أي أن المحصر. م: (في معنى فائت الحج) ش: لأن في كل واحد منهما خروجًا عن الإحرام بعد الشروع قبل أداء الأفعال ثم فائت الحج يتحلل بأداء العمرة ويقضي الحج، فكذا هذا.
فإن قيل: العمرة في فائت الحج للتحلل، وهاهنا يحل بالهدي، فلا حاجة إلى إيجاب العمرة.
قلنا: والهدي لأجل لا يسقط العمرة الواجبة بعد تحقق الإحصار، لما أن المحصر في معنى فائت الحج، والعمرة واجبة، كذا ذكره العلامة حميد الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وفي " المستصفى ": الهدي شرع لتعجيل التحلل عن الإحرام لا للتحلل عن الإحرام؛ لأنا لو شرطنا توقف تحلله بالعمرة يؤدي إلى إلحاق الضرر به لعجزه عنها بواسطة الإحصار.
[ما يلزم المحصر بالعمرة]
م: (وعلى المحصر بالعمرة القضاء؛ لأن الإحصار عنها يتحقق عندنا. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يتحقق) ش: أي الإحصار عن العمرة. م: (لأنها لا تتوقت) ش: لعدم تحقق الفوات. م: (ولنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أحصروا بالحديبية وكانوا عمارا) ش: هذا الحديث قد صح من وجوه كثيرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أحصروا بالعمرة بالحديبية فقضوها من القابل، وكانت تسمى عمرة القضاء، على أن مالكًا قد أورد في " الموطأ «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أهل بعمرة عام الحديبية» .
م: (ولأن شرع التحلل) ش: أي لأن مشروعية التحلل الكائن الناشئ من امتداد الإحرام. م: (لدفع الحرج، وهذا المعنى موجود في إحرام العمرة) ش: بالشروع، فيشرع التحلل. م: (وإذا تحقق الإحصار فعليه القضاء إذا تحلل كما في الحج) ش: أي كما في المحصر بالحج إذا تحلل فعليه حجة وعمرة. م: (وعلى القارن) ش: أي وعلى المحصر القارن. م: (حجة وعمرتان، أما الحج وإحداهما) ش: أي وأحد العمرتين. م: (فلما بينا) ش: يعني في المفرد من كونه يعني فائت الحج.
م: (وأما الثانية) ش: أي وأما العمرة الثانية. م: (فلأنه خرج منها بعد صحة الشروع فيها) ش: فوجب قضاؤها، فإن بعث القارن هديًا، قال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذكر القارن هنا وقع غلط ظاهر من النساخ، فالصواب أن يقال: فإن بعث المحصر، بيان الغلط من وجهين،(4/452)
فإن بعث القارن هديا وواعدهم أن يذبحوه في يوم بعينه ثم زال الإحصار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما: أنه ذكر وإن بعث القارن هديا، ويجب على القارن بعث الهدي فلأنه يتحلل بالواحد؛ لأنه ذكر قبل هذا في الباب، فإن كان قارنًا بعث بدمين. والثاني: أن المصنف جمع بين روايتي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، و" الجامع الصغير "، وهذه المسألة مذكورة في هذين الكتابين في حق المحصر بالهدي بالحج، ودفع الكاكي هذا عن المصنف فقال: يمكن أن يكون، وهذا المراد من قوله: هدي، أي لكل واحد من الحج والعمرة، أو يكون أراد بالهدي الجنس كما في قول الراوي: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشاهد ويمين» أن بجنس الشاهد عند إقامة البينة، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - في دفع هذا: لما كان كلام المصنف قبل هذا في القارن لم يرد ذلك النظر.
وقال: م: (فإن بعث القارن هديًا) ش: والهدي إلى الحرم سواء كان ذلك دمين، أو دمًا واحدا وثوبا، وكان ذكر الواجب عليه دمان، وهما هدي القارن، فكأنه قال: فإن بعث القارن دمين فلا منافاة بين هذا وبين ما تقدم، ولا هو غالط في الكلام ولا من فسخه، بل ربما لو قال: فإن بعث المحصر كما بينا في حق القارن، ولو قال: هديين كان غير فصيح؛ لأنه اسم لجنس ما يهدى، ولا شيء إلا إذا قصد الأنواع، وليس بمقصود، انتهى.
قلت: كلامه لا يخلو عن النظر؛ لأن قوله: لأنه اسم جنس، وهذا غير صحيح، وكذلك في كلام الكاكي نظر من هذا الوجه، ووجه آخر أن الأصل عدم التقدير، وقال الأترازي: قيد بالقارن في " الهداية " وليس فيه كثير فائدة؛ لأن الحكم في المفرد بالحج كذلك، ولهذا وضع القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذه المسألة في مطلق المحصر، ولم يقيد بالقارن فقال: وإذا بعث المحصر هديا، ولم يقيد في " الجامع الصغير " أيضًا بالقارن وضع المسألة في المحصر بالحج، على أنه كان ينبغي أن يقول صاحب " الهداية " هديين؛ لأن القارن المحصر يبعث الهديين، انتهى.
قلت: لا يصح نفيه على الإطلاق، وأما نفي الأكمل العدد؛ لأنه قال: لم يرد به هاهنا، ونحن لا نسلم من أن يكون المراد العدد؛ لأن ذكر القارن قبله وبأن عليه دمين قرينة على صحة الإرادة من قوله: هديا هديين، وقول الأكمل، ولو كان غير فصيح لا يقبل هنا؛ لأن هذا في كلام الفصحاء، وكلام الفقهاء في متون الكتب مشحونة بالتسامح، والتساهل في الكلام.
م: (وواعدهم أن يذبحوه في يوم بعينه ثم زال الإحصار) ش: هنا أربعة أوجه: القسمة العقلية؛ لأنه إما أن لا يدرك الهدي، أو يدركهما، أو يدرك الهدي دون الحج أو بالعكس، فذكر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - جميع ذلك، فالأول هو قوله: م: (فإن كان لا يدرك الحج والهدي لا يلزمه أن يتوجه) ش: لعدم الفائدة.(4/453)
فإن كان لا يدرك الحج والهدي لا يلزمه أن يتوجه بل يصبر حتى يتحلل بنحر الهدي لفوات المقصود من التوجه، وهو أداء الأفعال. وإن توجه ليتحلل بأفعال العمرة له ذلك؛ لأنه فائت الحج. فإن كان يدرك الحج والهدي لزمه التوجه لزوال العجز قبل حصول المقصود بالخلف. فإذا أدرك هديه صنع به ما شاء؛ لأنه ملكه وقد كان عينه لمقصود استغنى عنه.
وإن كان يدرك الهدي دون الحج؛ يتحلل لعجزه عن الأصل. وإن كان يدرك الحج دون الهدي جاز له التحلل استحسانا، وهذا التقسيم لا يستقيم على قولهما في المحصر بالحج؛ لأن دم الإحصار عندهما يتوقت بيوم النحر، فمن يدرك الحج يدرك الهدي، وإنما يستقيم على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي المحصر بالعمرة يستقيم بالاتفاق؛ لعدم توقت الدم بيوم النحر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: ينبغي أن يلزم المتوجه ليتحلل بأفعال العمرة، وأنه واجب وله القدرة على ذلك.
قلت: لأنه قد فاته المقصود الأعظم، وهو الحج، وقد رخص له التحلل ببعث الهدي، فجاز له أن يتحلل.
م: (بل يصبر حتى يتحلل بنحر الهدي) ش: المبعوث. م: (لفوات المقصود من التوجه) ش: وهو الإدراك للحج، والهدي معًا، وهو معنى قوله: م: (وهو أداء الأفعال) ش: أي أفعال الحج. م: (وإن توجه) ش: الثاني. م: (ليتحلل بأفعال العمرة له ذلك؛ لأنه فائت الحج. فإن كان يدرك الحج والهدي لزمه التوجه لزوال العجز) ش: وهو عدم الإدراك. م: (قبل حصول المقصود بالحلق) ش: كالمكفر بالصوم إذا أيسر قبل إتمام الكفارة به. م: (فإذا أدرك هديه صنع به ما شاء؛ لأنه ملكه وقد كان عينه لمقصود استغنى عنه) ش: بإدراك الأصل.
[مكان ذبح الهدي للمحصر]
م: (وإن كان يدرك الهدي دون الحج) ش: وهو الوجه الثالث. م: (يتحلل لعجزه عن الأصل) ش: وفي بعض النسخ بعجزه عن الأصل بالباء الموحدة، أي بسبب عجزه، والتقدير في الكلام، أي لأجل عجزه. م: (وإن كان يدرك الحج دون الهدي جاز له التحلل استحسانا، وهذا التقسيم) ش: أراد به إدراك الحج دون إدراك الهدي هو الوجه الواقع. م: (لا يستقيم على قولهما) ش: أي على قول أبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله -. م: (في المحصر بالحج؛ لأن دم الإحصار عندهما يتوقت بيوم النحر، فمن يدرك الحج يدرك الهدي، وإنما يستقيم على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي المحصر بالعمرة يستقيم) ش: هذا الوجه الرابع. م: (بالاتفاق) ش: بين أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصاحبيه. م: (لعدم توقت الدم بيوم النحر) ش: فلا يلزم إدراك الحج إدراك الهدي، ويجوز أن يكون بنفاذ الذبح أول يوم من عشر ذي الحجة مثلًا على قولهما، فلا يتأتى لأن الهدي موقت بيوم النحر في الحصر بالحج، فمن أدرك الحج أدرك الهدي لا محالة، وفي المحصر بالعمرة اتفاق.
م: (وجه القياس وهو قول زفر) ش: ورواية الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. م: (أنه) ش: أي المحصر. م: (قدر على الأصل وهو الحج قبل حصول المقصود بالبدل، وهو الهدي) ش: كالمقيم(4/454)
وجه القياس - وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قدر على الأصل وهو الحج قبل حصول المقصود بالبدل، وهو الهدي. وجه الاستحسان أنا لو ألزمناه التوجه لضاع ماله؛ لأن المبعوث على يديه الهدي ليذبحه ولا يحصل مقصوده، وحرمة المال كحرمة النفس، وله الخيار إن شاء صبر في ذلك المكان أو في غيره؛ ليذبح عنه فيتحلل، وإن شاء توجه ليؤدي النسك الذي التزمه بالإحرام وهو أفضل؛ لأنه أقرب إلى الوفاء بما وعد.
ومن وقف بعرفة ثم أحصر لا يكون محصرا؛ لوقوع الأمن عن الفوات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إذا وجد الماء في خلال الصلاة، وكالمريض إذا قدر على الوطء في مدة الإيلاء يبطل الفيء باللسان، وكالمكفر بالصوم إذا أيسر قبل إتمام الكفارة.
م: (وجه الاستحسان أنا لو ألزمناه التوجه لضاع ماله؛ لأن المبعوث على يديه الهدي ليذبحه) ش: أي لأجل أن يذبحه، وهو جواب أن، وفي غالب النسخ: يذبحه بدون اللام. م: (ولا يحصل مقصوده) ش: أي مقصود المحصر. م: (وحرمة المال كحرمة النفس) ش: يعني كما أن خوف النفس عذر في التحلل، فكذلك الخوف على المال.
فإن قلت: هذا الذي ذكره المصنف أن حرمة المال كحرمة النفس مخالف لما قال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والأصوليون أن حرمة المال فجاز أن يكون وقاية النفس، فإذا أكره بالقتل على إتلاف مال غيره جاز الإقدام عليه.
أجيب: بأن حرمة النفس فوق حرمة المال حقيقة؛ لأنه مملوك ليستدل، فإنه يماثل المالك المستقل، ولكن حرمة المال تشبه حرمة النفس من حيث كون إتلافه ظلمًا لقيام عصمة صاحبه فيه، وإلى هذا أشار المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بكاف التشبيه، فإن المشابهة بهذين الشيئين لا يقتضي اتحادهما من جميع الجهات، وإلا لارتفع التشبيه، ولو خاف على نفسه لا يلزمه التوجه، فكذا إذا خاف على ماله؛ لأنه ينبغي أن يضمن المبعوث على يده بالذبح لفوات مقصود المحصر، ولا وجه لإيجاب الضمان عليه لوجود الإذن.
م: (وله الخيار إن شاء صبر) ش: هذا على وجه الاستحسان، يعني لما جاز له التحلل استحسانًا كان له الخيار إن شاء صبر. م: (في ذلك المكان أو في غيره؛ ليذبح عنه) ش: بهديه الذي بعثه. م: (فيتحلل، وإن شاء توجه ليؤدي النسك الذي التزمه بالإحرام وهو الأفضل) ش: أي التوجه أفضل. م: (لأنه أقرب إلى الوفاء بما وعد) ش: وهو الحج؛ لأنه شرع فيه ووعد أداءه بقوله: اللهم إني أريد الحج، وأيضًا التوجه عمل بالعزيمة والتحلل رخصة.
[حكم من وقف بعرفة ثم أحصر]
م: (ومن وقف بعرفة ثم أحصر لا يكون محصرا؛ لوقوع الأمن عن الفوات) ش: أي لا يتحلل بالهدي عندنا، وبه قال مالك، وعند الشافعي، ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: لو أحصر عن طواف الزيارة، ولقاء البيت يكون محصرًا لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية ومن أحصر بمكة وهو ممنوع عن الطواف والوقوف، فهو محصر؛ لأنه تعذر عليه الإتمام؛ فصار كما إذا أحصر في الحل. وإن قدر على أحدهما فليس بمحصر، أما على الطواف فلأن فائت الحج يتحلل به، والدم بدل عنه في التحلل، وأما على الوقوف فلما بينا(4/455)
ومن أحصر مكة وهو ممنوع عن الطواف والوقوف، فهو محصر؛ لأنه تعذر عليه الإتمام؛ فصار كما إذا أحصر في الحل. وإن قدر على أحدهما فليس بمحصر، أما على الطواف فلأن فائت الحج يتحلل به، والدم بدل عنه في التحلل، وأما على الوقوف فلما بينا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
196 -) .
قلنا: حكم الإحصار يثبت عند خوف الفوت، وبعد الوقوف بعرفة لا يخاف الفوت؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من وقف بعرفة فقد تم حجه» وكان المنع بعد التمام، فلا يكون محصرًا، ومعنى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] أي: فإن منعتم عن إتمام الحج والعمرة، ولكنه يبقى محرمًا إلى أن يطوف للزيارة والصدر ويحلق أو يقصر، وعليه دم لترك الوقوف بمزدلفة، ولرمي الجمار دم، ولتأخير الطواف دم، ولتأخير الحلق دم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فكان عليه أربعة دماء، وعندهما ليس لتأخير الطواف شيء.
فإن قيل: أليس أنكم قلتم: إذا ازدادت عليه مدة الإحرام يثبت حكم الإحصار في حقه، وقد ثبتت زيادة مدة الإحرام هاهنا فلما لم يثبت حكم الإحصار في حقه.
قلنا: ليس كذلك، فإنه يتمكن من التحلل بالحلق إلا في حق النساء، وإن كان يلزمه بعض الدماء فلا يتحقق العذر الواجب للتحلل، كذا في " المبسوط ".
[أحصر بمكة وهو ممنوع عن الطواف والوقوف]
م: (ومن أحصر بمكة وهو ممنوع عن الطواف والوقوف، فهو محصر؛ لأنه تعذر عليه الإتمام، فصار كما إذا أحصر في الحل) ش: حاصله أن الإحصار لا يتحقق عندنا، إلا إذا منع عن الوقوف والطواف جميعًا، وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يتحقق الإحصار بمكة مطلقًا، سواء قدر على الطواف أو لا، لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) ، قلنا: مورد النص فيمن أحصر، خارج الحرم بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) والنهي عن الحلق مقيدًا ببلوغ الهدي إلى الحرم دليل إلى أنه خارج الحرم.
م: (وإن قدر على أحدهما) ش: أي أحد الاثنين وهما الطواف والوقوف. م: (فليس بمحصر) ش: يعني لا يكون محصرًا يعني لا يتحلل بالدم؛ لأنه بأيهما أحصر، فله أن يأتي بالآخر.
م: (أما على الطواف) ش: أي أما لو قدر على الطواف. م: (فلأن فائت الحج يتحلل به) ش: أي بالهدي. م: (والدم بدل عنه) ش: أي عن الطواف. م: (في التحلل) ش: في حق المحصر بعمرة عن الطواف، فلما قدر على الطواف، وهو الأصل؛ لم يثبت البدل، وهو التحلل بالهدي.
م: (وأما على الوقوف) ش: أي أما لو قدر على الوقوف. م: (فلما بينا) ش: وهو قوله: ومن وقف بعرفة ثم أحصر لا يكون محصرًا. م: (وقد قيل في هذه المسألة) ش: يعني قوله: ومن أحصر بمكة. م: (خلاف بين أبي حنيفة، وأبي يوسف - رحمهما الله -) ش: وهو ما ذكر علي بن جعد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قال: سألت أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن المحرم(4/456)
وقد قيل في هذه المسألة خلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - والصحيح ما أعلمتك من التفصيل، والله تعالى أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يحصر في الحرم فقال: لا يكون محصرا. فقلت: أليس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحصر بالحديبية وهي من الحرم، فقال: إن مكة يومئذ كانت دار الحرب، فأما اليوم، فهي دار الإسلام، فلا يتحقق الإحصار فيها، قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأما أنا فأقول: إذا غلب العدو على مكة حتى حالوا بينه وبين البيت فهو محصر.
م: (والصحيح ما أعلمتك من التفصيل) ش: أي قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والصحيح من الرواية الممنوع من الوقوف والطواف يكون محصرًا باتفاق أصحابنا، وإذا قدر على أحدهما لا يكون محصرًا وهو معنى قوله: ما أعلمتك من التفصيل فافهم، والله ولي العصمة.(4/457)
باب الفوات ومن أحرم بالحج وفاته الوقوف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر، فقد فاته الحج؛ لما ذكرنا أن وقت الوقوف يمتد إليه، وعليه أن يطوف ويسعى ويتحلل ويقضي الحج من قابل ولا دم عليه؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من فاته عرفة بليل فقد فاته الحج فليتحلل بعمرة» . وعليه الحج من قابل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الفوات] [حكم من أحرم بالحج وفاته الوقوف بعرفة]
م: (باب الفوات) ش: أي: هذا باب في بيان أحكام الفوات في الحج وآخره عن الإحصار؛ لأن الفوات إحرام وأداء، والإحرام والإحصار إحرام بلا أداء، فكان الإحصار قابلًا في العارضية، فقدم على الطواف وأيضًا معنى الإحصار من الفوات نازل منزلة المفرد من المركب، والمفرد قبل المركب.
م: (ومن أحرم بالحج وفاته الوقوف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج؛ لما ذكرنا أن وقت الوقوف يمتد إليه) ش: أي إلى طلوع الفجر من يوم النحر، وأراد بقوله: لما ذكرنا ذكره في الفصل المتقدم على باب القران.
م: (وعليه أن يطوف ويسعى ويتحلل) ش: أي بالحلق، وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يبقى محرمًا حتى يقف بعرفة في العام القابل، واختلف أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في أن التحلل بماذا، قال بعضهم: يتحلل ويسعى، ويحلق قولا واحدًا.
وقال بعضهم في المسألة قولان: أحدهما: وهو الصحيح أن عليه طوافًا وسعيا وحلقًا، والثاني: أنه ليس عليه شيء، وقال المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يسقط، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (ويقضي الحج من قابل) ش: أي من عام قابل. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان الحج فرضا يبقى في ذمته، ويحج من قابل، وإن كان تطوعًا يلزمه القضاء، وعن أحمد: لا قضاء في رواية. م: (ولا دم عليه؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: (من فاته عرفة بليل فقد فاته الحج فليتحلل بعمرة. وعليه الحج من قابل) ش: هذا الحديث أخرجه الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه " عن ابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرجه عنه رحمة بن مصعب عن ابن أبي ليلى عن عطاء ونافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وقف بعرفة بليل فقد أدرك الحج، ومن فاته بليل فقد فاته الحج، فليحل بعمرة، وعليه الحج من قابل» ، ورحمة بن مصعب - رَحِمَهُ اللَّهُ - ضعيف. قال الدارقطني: رحمة ضعيف، وقد تفرد به. ورواه ابن عدي في الكامل وأعله بمحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وضعفه عن جماعة.(4/458)
والعمرة ليست إلا الطواف والسعي، ولأن الإحرام بعدما انعقد صحيحا لا طريق للخروج عنه إلا بأداء أحد النسكين كما في الإحرام المبهم. وهاهنا عجز عن الحج فتتعين عليه العمرة، ولا دم عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرجه عن يحيى بن عيسى التميمي النهشلي، عن محمد بن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك عرفات فوقف بها والمزدلفة فقد تم حجه، ومن فاته عرفات، فقد فاته الحج، فليحل بعمرة، وعليه الحج من قابل» . ويحيى بن عيسى النهشلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال النسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه: ليس بالقوي، وقال ابن حبان في كتاب " الضعفاء ": كان ممن ساء حفظه، وكثر وهمه حتى خالف الأثبات، فبطل الاحتجاج به، ثم أسند عن ابن معين - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: كان ضعيفًا ليس بشيء، وقال في " التنقيح ": روى له مسلم، والشراح كلهم ذكروا هذا الحديث، ولم يذكر أحد منهم ما حاله.
م: (والعمرة ليست إلا الطواف والسعي) ش: بين الصفا والمروة. م: (ولأن الإحرام بعدما انعقد صحيحا لا طريق للخروج عنه إلا بأداء أحد النسكين) ش: وهما الحج والعمرة، قوله: صحيحًا، أي نافذًا لازمًا، لا يرتفع برافع احترز به عن إحرام الرقيق بغير إذن المولى. وإحرام المرأة في التطوع بغير إذن زوجها، فإن للمولى والزوج أن يحللاهما وليس باحتراز عن الإحرام الفاسد كما إذا جامع المحرم قبل الوقوف بعرفة، أو أحرم مجامعًا، فإن حكمه حكم الصحيح، قيل: قوله: لا طريق للخروج عنه إلا بأداء أحد النسكين منقوض بالمحصر، فإن الهدي طريق له للخروج عنه، وأجيب بأنه بنى الكلام على ما هو الوضع، ومسألة الإحصار في العوارض تثبت بالنص، وقال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجواب: أجرى الكلام على ما هو الأصل فلا ترد العوارض نقضًا.
م: (كما في الإحرام المبهم) ش: أي لا، كما لا يخرج في الإحرام المبهم إلا بأحد النسكين، والإحرام المبهم بأن يقول: لبيك اللهم لبيك، ولا يقول: بحج وعمرة. م: (وهاهنا) ش: يعني في مسألة الفوات عن الوقوف. م: (عجز عن الحج فتتعين عليه العمرة) ش: لأن الحكم إذا دار بين الشيئين وانتفى أحدهما، تعين الآخر، وقد انتفى الحج منها لفائتة فتعين العمرة. م: (ولا دم عليه) ش: وقال الشافعي، ومالك، والحسن بن زياد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: عليه دم لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لأبي أيوب الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين فاته الحج: فإذا أدركت الحج من قابل، فحج واهدي ما استيسر من الهدي، وهكذا عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ ولأنه صار كالمحصر، فيجب عليه دم قياسًا عليه.(4/459)
لأن التحلل وقع بأفعال العمرة، فكانت في حق فائت الحج بمنزلة الدم في حق المحصر فلا يجمع بينهما. والعمرة لا تفوت وهي جائزة في جميع السنة إلا خمسة أيام يكره فعلها فيها،
وهي يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أنها كانت تكره العمرة في هذه الأيام الخمسة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولنا الحديث الذي رواه الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - المذكور آنفًا وهذا دليل على أن الدم غير واجب؛ لأنه موضع الحاجة إلى البيان، واللائق بمنصبه البيان في موضع الحاجة، فإذا لم يبين، علم أنه ليس بواجب. روي عن الأسود - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: سمعت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من فاته الحج يحل بعمرة، ولا دم عليه، وعليه الحج من قابل. ثم لقيت زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد ذلك بثلاثين سنة، فقال مثل ذلك، وعن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله.
م: (لأن التحلل وقع بأفعال العمرة فكانت في حق فائت الحج بمنزلة الدم في حق المحصر فلا يجمع بينهما) ش: ولا يقاس أحدهما على الآخر؛ لأن كل واحد منهما قادر، وعاجز على ما يعجز عنه الآخر وعما يقدر عليه. م: (والعمرة لا تفوت) ش: لأنها غير مؤقتة. م: (وهي جائزة في جميع السنة) ش: حتى لو أهل بعمرة في أشهر الحج فقدم مكة يوم النحر يقضي عمرته، ولا دم عليه، والحاصل أن جميع السنة وقتها. م: (إلا خمسة أيام يكره فعلها فيها) ش: أي فعل العمرة في هذه الخمسة أيام.
وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يكره في وقت من السنة، وقال مالك: تكره في أشهر الحج تعظيمًا لأمر الحج. وقد اختلف السلف في العمرة في أشهر الحج، وكان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ينهى عنها، ويقول: الحج في الأشهر، والعمرة في غيرها أكمل لحجكم وعمرتكم.
والصحيح أن العمرة جائزة فيها بلا كراهة بدليل ما روى البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الصحيح " بإسناده «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمر أربع عمر في ذي القعدة» .
م: (وهي يوم عرفة ويوم النحر، وأيام التشريق، لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أنها كانت تكره العمرة في هذه الأيام الخمسة) ش: أخرج البيهقي عن شعبة عن يزيد عن معاذ، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: العمرة في السنة كلها إلا أربعة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، ويومان بعد ذلك. وقال الشيخ في " الإمام ": وروى إسماعيل بن عباس عن نافع عن طاوس - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن قال البحر يعني ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: خمسة أيام: عرفة، يوم النحر، وثلاثة أيام التشريق، اعتمر قبلها وبعدها ما شئت.
وقال مخرج الأحاديث: ولم يعزه. قلت: روى سعيد بن منصور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ورواية عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لا يوافق كلام المصنف، ولا يوافقه إلا حديث ابن عباس -(4/460)
ولأن هذه أيام الحج فكانت متعينة له. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا تكره في يوم عرفة قبل الزوال؛ لأن دخول وقت ركن الحج بعد الزوال لا قبله، والأظهر من المذهب ما ذكرناه، ولكن مع هذا لو أداها في هذه الأيام صح ويبقى محرما بها فيها؛ لأن الكراهة لغيرها وهو تعظيم أمر الحج وتخليص وقته له فيصح الشروع، والعمرة سنة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فريضة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - على ما لا يخفى. وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولنا ما روى أصحابنا عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: تمت العمرة في السنة كلها إلا: يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم التشريق، انتهى. قلت: هذا ليس فيه الكفاية للدليل، وإقامة الحجج.
م: (ولأن هذه) ش: أي هذه الأيام الخمسة. م: (أيام الحج فكانت متعينة له) ش: أي للحج: وروي. م: (عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنها لا تكره في يوم عرفة قبل الزوال؛ لأن دخول وقت ركن الحج بعد الزوال لا قبله، والأظهر من المذهب ما ذكرناه) ش: وهو كون هذه العمرة يوم عرفة قبل الزوال وبعده. م: (ولكن مع هذا) ش: أي مع كونها مكروهة في الأيام الخمسة. م: (لو أداها في هذه الأيام صح ويبقى محرما بها فيها) ش: أي بالعمرة إن لم يؤدها في هذه الأيام كبناء الصلاة بعد دخول الوقت المكروه. م: (لأن الكراهة لغيرها) ش: أي لغير عين العمرة، أراد أن الكراهة لمعنى في غيرها لا في نفسها. م: (وهو) ش: أي الكراهة لغيرها. م: (تعظيم أمر الحج وتخليص وقته له) ش: أي للحج، ومن تعظيم أمره أن يجعل له الوقت خاصة لا يكون فيه غيره، فإذا كان الكراهة لمعنى في غيرها. م: (فيصح الشروع فيها، والعمرة سنة) ش: وفي " الينابيع ": أي سنة مؤكدة، وفي " البدائع ": اختلف أصحابنا فيها.
فمنهم من قال: إنها واجبة كصدقة الفطر، والأضحية، والوتر، ومنهم من أطلق عليها اسم السنة، وهي لا تنافي الوجوب، وفي " التحفة "، و" القنية ": اختلف المشايخ فيها، قيل: هي سنة مؤكدة، وقيل: واجبة، وقيل في " التحفة ": وهما متقاربان، وفي " الذخيرة ": لا يوجد في كتب أصحابنا أن العمرة تطوع، إلا في كتاب " الحجر ". وقال بعض المشايخ - ومنهم محمد بن الفضل -: فرض كفاية ذكره في " المنافع "، وبالأول قال الشعبي، والنخعي، ومالك، وأبو ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وهو مذهب ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ومنهم من قال: العمرة تطوع، وبه كان الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول ببغداد ثم قال بمصر: هي فريضة كالحج، وهو الجديد، وإليه أشار بقوله المصنف.
م: (وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فريضة) ش: وبه قال أحمد، وابن حبيب، وأبو بكر بن الجهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - من المالكية، ويروى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ذكر ذلك ابن المنذر - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأشراف "، قال: وهو قول عطاء،(4/461)
لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «العمرة فريضة كفريضة الحج»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وطاوس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، ومسروق، وإسحاق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: «العمرة فريضة كفريضة الحج» ش: هذا غريب.
وروى الحاكم في " مستدركه "، والدارقطني في " سننه " من حديث محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت» ، وقيل أحاديث أخر منها: ما رواه أبو داود والدارقطني رحمهما الله في سننهما " عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رجلًا قال: يا رسول الله: ما الإسلام؟ قال: " أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وأن تحج وتعتمر» .
ومنها ما رواه أبو رزين العقيلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة ولا ظعن، قال: " احجج عن أبيك، واعتمر.» ومنها ما رواه ابن ماجه في " سننه "، وأحمد في مسنده " عن محمد بن الفضيل عن حبيب عن أبي عمرة، عن عائشة بنت طلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «قالت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلى النساء جهاد؟ قال: " عليهن جهاد لا قتال فيه؛ الحج والعمرة» .
ومنها ما رواه الدارقطني من حديث الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن كتابًا وبعث به مع عمرو بن حزم وفيه أن العمرة الحج الأصغر» ومنها ما رواه البيهقي في " سننه " عن طريق ابن لهيعة عن(4/462)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عطاء عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحج والعمرة فريضتان واجبتان» .
والجواب عن هذه الأحاديث أما حديث زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال الحاكم بعد أن أخرجه الصحيح عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من قوله: وفي إسناده إسماعيل بن مسلم ضعفوه، ومحمد بن معبد قال البخاري فيه: منكر الحديث، ولم يرض به أحد. وقال حرفنا حديثه ما روى زيد بن ثابت مرفوعًا، وكذا أخرجه البيهقي موقوفا قال: وهو الصحيح.
وأما حديث عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فهو مخرج في " الصحيحين " وليس فيه: وتعتمر وهذه الزيادة فيها شذوذ، قال صاحب " التنقيح " وأما حديث أبي ذر بن العقيلي فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا أعلم في إيجاب العمرة حديثًا أصح من هذا، ولكن لا يدل على وجوب العمرة إذ الأمر فيه ليس للوجوب، فإنه لا يجب أن يحج عن أبيه، وإنما يدل الحديث على جواز فعل الحج والعمرة فيه لكونه غير متطبع، وأما حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقال صاحب " التنقيح "، قد أخرجه البخاري في صحيحه " من رواية غير واحد عن حبيب، وليس فيه ذكر العمرة.
وأما حديث عمرو بن حزم - رَحِمَهُ اللَّهُ - ففي إسناده سليمان بن داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال غير واحد من الأئمة: إنه سليمان بن أرقم - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو متروك، وأما حديث جابر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ففي البيهقي، قال: ابن لهيعة غير محتج به، ورواه ابن عدي في " الكامل " وأعله به واستدل من قال بفرضية العمرة بالآية الكريمة وهو قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) ؛ لأن الله تعالى عطف العمرة على الحج وأمر بهما، والأمر للوجوب، والواجب من هذا أن عمر وعليًا وابن مسعود وسعيد بن جبير وطاوس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قالوا: إتمامها أن يحرم بها من دويرة أهله، فجعل الإتمام تقديم الإحرام بها على المواقيت المعروفة لا فرض العبادة.
وقال ابن القصار: استدلالهم بهذه الآية غلط؛ لأن من أراد أن يأتي بالسنة فواجب عليه أن يأتي بها تامة كمن أراد أن يصلي تطوعًا عليه يجب عليه أن يكون على طهارة ويأتي بها تامة الأركان والشروط، وما قالوه يبطل بعمرة ثانية وثالثة فإنه يجب إتمامها والمضي فيها وفي فسادها وإن لم تكن واجبة في الأصل. وقال أبو عمر حافظ المغرب: إن الله سبحانه وتعالى لم يوجب(4/463)
ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الحج فريضة، والعمرة تطوع» ؛ ولأنها غير مؤقتة بوقت وتتأدى بنية غيرها كما في فائت الحج، وهذه أمارة النفلية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العمرة، ولا أوجبها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في باب النفل ولا أجمع المسلمون على فرضيتها، والمفروض لا يثبت إلا من هذه الوجوه، فقد ثبت في " الصحيح " أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بني الإسلام على خمس» ، وذكر منها «حج البيت» ولم يذكر العمرة. فلو كانت فريضة كالحج كما زعموا لذكرها، فسقط قول من ادعى أنها فريضة.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الحج فريضة، والعمرة تطوع» ش: هذا الحديث غريب مرفوعًا، ورواه ابن أبي شيبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه "، موقوفًا على ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: حدثنا ابن إدريس وأبو ساحة عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر عن إبراهيم قال: قال عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «الحج فريضة والعمرة تطوع» .
وروى ابن ماجه في " سننه ": حدثنا هشام بن عمار عن الحسن بن الحسن بن يحيى الحسني عن عمر بن قيس عن طلحة بن يحيى عن عمه إسحاق بن طلحة عن طلحة بن عبيد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمع رسول الله يقول: «الحج جهاد، والعمرة تطوع» . وعمر بن قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تكلم فيه.
وأخرج الترمذي عن الحجاج بن أرطاة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قال: سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن العمرة أواجبة؟ قال: " لا، وأن تعتمروا هو أفضل» ، وقال: حديث حسن صحيح، وهو قول بعض أهل العلم، قالوا: العمرة ليست بواجبة. وكان يقال: هما حجان الحج الأكبر يوم النحر والحج الأصغر العمرة.
م: (ولأنها غير موقتة) ش: أي ولأن العمرة غير موقتة. م: (بوقت) ش: إذ لو كانت فرضًا لتعلقت بوقت كالصلاة والصوم.. م: (وتتأدى بنية غيرها) ش: يعني تؤدى بإحرام غيرها بأن نواها بنية الحج. م: (كما في فائت الحج) ش: فإنه يتأدى بنية الحج الذي فاته. م: (وهذه أمارة النفلية) ش: يعني كونها غير موقتة وكونها تؤدى بنية غيرها، علامة النفلية، أي علامة كونها نفلًا، والفرض وبيان النفل، فإن النفل يتأدى بنية الفرض. والفرض الذي هو غير معين، لا يتأدى بنية النفل.
فإن قلت: هذا يشكل بالأيمان، وصلاة الجنازة، فإنهما فرضان وليسا بموقتين. وبالصوم(4/464)
وتأويل ما رواه، أنها مقدرة بأعمال كالحج؛ إذ لا تثبت الفرضية مع التعارض في الآثار. قال: وهي الطواف والسعي. وقد ذكرناه في باب التمتع، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإنه يتأدى بنية غيره وهو فرض.
قلت: عدم التوقيت في الأيمان نشأ من فرضية مبتدأة من غير انقطاع، فكان جميع العمر من غير انقطاع وقته، ولا كذلك العمرة فإنها غير الخصم، يتأدى بأكثره كما في سائر الفرائض. وأما صلاة الجنازة فوقتها حضورها، فكانت موقتة وتتأدى بنية غيرها. وأما صوم رمضان فإنها فرض يتأدى بنية النفل لكونه معينًا في وقت له معتاد، ولم يشرع في غيره. فكذلك لم يصح بنية النفل.
م: (وتأويل ما رواه) ش: أي ما رواه الشافعي. م: (أنها) ش: أي العمرة. م: (مقدرة بأعمال كالحج؛ إذ لا تثبت الفرضية مع التعارض في الآثار، قال: وهي الطواف والسعي، وقد ذكرناه في باب التمتع) ش: هذا التعليل كأنه جواب عما يقال: ما وجه هذا التأويل الذي أولتم وقلتم: إن الفرض هنا بمعنى التقدير؟
فأجاب بما حاصله: أن الآثار أي الأحاديث والأخبار، إذا تعارضت لا تثبت الفرضية؛ لأن الفرض لا يثبت إلا بدليل مقطوع به.
فإن قيل: هو ثابت بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) ، عطف العمرة على الحج، والحج فريضة، والأمر بالإتمام، والأمر للوجوب؟
قلت: قد مر الجواب عن هذا عن قريب.
ونقول أيضًا، القران في النظم لا يؤوب القران في الحكم. والأمر إنما هو بالإتمام. والإتمام إنما يكون بالشروع. ونحن نقول به، وإن كانت في الابتداء سنة. والله أعلم بالتوفيق.(4/465)
باب الحج عن الغير الأصل في هذا الباب أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوما أو صدقة أو غيرها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الحج عن الغير] [شروط جواز الحج عن الغير]
م: (باب الحج عن الغير)
ش: لما فرغ عن بيان أفعال الحج بنفسه مع عوارضه، شرع في بيان الحج عن غيره بطريق النيابة. ولما كان الأصل في التصرفات أن تقع عمن تصدر منه، كان الحج عن الغير خليقًا أن يؤخر في باب على حدة.
م: (الأصل في هذا الباب) ش: أي في باب الحج عن الغير. م: (أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره) ش: خلافًا للمعتزلة، فإنهم قالوا: ليس للإنسان ذلك؛ لأن الثواب هو الجنة وهي لله تعالى، ولا يجوز تمليك ملك الغير، وسيجيء الرد عليهم. م: (صلاة) ش: يعني سواء كان جعل ثواب عمله لغيره صلاة. م: (أو صوما أو صدقة أو غيرها) ش: كالحج وقراءة القرآن والأذكار، وزيارة قبور الأنبياء والشهداء والأولياء والصالحين، وتكفين الموتى، وجميع أنواع البر والعبادة، مالية كالزكاة والصدقة والعشور والكفارات ونحوها، أو بدنية كالصوم والصلاة والاعتكاف وقراءة القرآن والذكر والدعاء، أو مركبة منهما كالحج والجهاد.
وفي " البدائع ": جعل الجهاد من البدنيات وفي " المبسوط " جعل المال في الحج شرط الوجوب، فلم يكن الحج مركبًا من البدل.
قيل: هو أقرب إلى الصواب ولهذا لا يشترط المال في حق المكي إذا قدر على المشي إلى عرفات. فإذا عمل شخص، ثواب ما عمله من ذلك إلى آخره يصل إليه وينتفع به، حيًا كان المهدى إليه أو ميتا، ومنع الشافعي ومالك - رحمهما الله - وصول ثواب القرآن إلى الموتى، وثواب الصلاة والصوم وجميع الطاعات والعبادات غير المالية وجوزا فيها. ويرد عليهما بما رواه الدارقطني «أن رجلًا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال كان لي أبوان أبرهما حال حياتهما فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فقال له - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " إن من البر بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك وأن تصوم لهما مع صيامك» .
وعن علي بن أبي طالب، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مر على المقابر فقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] إحدى عشرة مرة ثم وهب أجرها للأموات، أعطي من الأجر بعدد الأموات» رواه الدارقطني.
وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلًا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، إنا نتصدق عن موتانا ونحج عنهم وندعو لهم فهل يصل ذلك إليهم، فقال: " نعم، إنه ليصل إليهم(4/466)
عند أهل السنة والجماعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويفرحون به كما يفرح أحدكم بالطريق إذا أهدي إليه» . رواه أبو حفص الكبير.
وعن معقل بن يسار قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقرءوا على موتاكم سورة يس» رواه أبو داود.
وروى الحافظ اللالكائي في " شرح السنة " عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يموت الرجل ويدع ولدًا، فترفع له درجات، فيقول: ما هذا يا رب؟ فيقول سبحانه وتعالى: استغفار ولدك. وقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] (محمد: الآية 19) . قال: ويستغفرون لمن في الأرض، وكذا استغفار نوح وإبراهيم - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -. وذكر عبد الحق صاحب " الأحكام " في العاقبة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغريق ينتظر دعوة تلحقه من ابنه وأخيه أو صديق له، فإذا لحقته كان أحب من الدنيا وما فيها» . ولهذا شرع الدعاء للميتة في صلاة الجنازة.
وفي العاقبة أن يصاد بن غالب قال: رأيت رابعة العدوية العابدة في المنام، وكنت كثير الدعاء لها، فقالت: يا بشر، هديتك تأتينا في أطباق من نور، عليها مناديل الحرير. وهكذا يأتينا دعاء الأحياء إذا دعوا لإخوانهم الموتى فاستجيب لهم. ويقال هذه هدية فلان إليك، ومما يدل على هذا أن المسلمين يجتمعون في كل عصر وزمان ويقرءون القرآن ويهدون ثوابه لموتاهم. وعلى هذا أهل الصلاح والديانة من كل مذهب من المالكية والشافعية وغيرهم ولا ينكر ذلك منكر فكان إجماعًا.
م: (عند أهل السنة والجماعة) ش: خلافًا للمعتزلة وفي مذهب أهل العدل والتوحيد، أن ليس للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره لأن الثواب نعمة دائمة خالصة مع التعظيم ومعظم ركنه للتعظيم. وبه فارق أغراض الصبيان والمجانين والبهائم وتعظيم المستحق لغير المستحق قبيح في العقل. ولو جاز أن يجب العالم أو التقي أو العادل تعظيمه لحامل أو جاهل أو صبي أو حمار، فإنه صح تعظيمه عقلًا، وإنكاره مكابرة. ولو جاز هذا فالأنبياء أحق الناس بهبة ثواب أعمالهم لآبائهم وأمهاتهم. وقد علم خلافه بالتواتر حين «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وسائر أولاده وزوجاته: " إني لا أملك يوم القيامة من الله شيئًا، ولا ينفعكم إلا أعمالكم.» وقال الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] (النجم: الآية 39) .(4/467)
لما روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أنه ضحى بكبشين أملحين، أحدهما عن نفسه، والآخر عن أمته ممن أقر بوحدانية الله تعالى وشهد له بالبلاغ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلنا: أما قولهم قبيح عقلًا غير مسلم. بل يجوز في العقل تعظيم غير المستحق بواسطة محبته له. وباعتبار ذلك استحقق تعظيمه. وأما قولهم قد علم خلافه غير مسلم، ولئن سلم ذلك لقد شرطه أو بالمنع عن الله تعالى. وأما الجواب عن الآية فبثمانية أوجه:
الأول: أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} [الطور: 21] (الطور: الآية 21) ، أدخل الأبناء الجنة بصلاح آبائهم، قاله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
الثاني: خاصة بقوم إبراهيم وقوم موسى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، يعني في صحف إبراهيم وموسى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38] {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] للعطف فهذان في صحيفتهما مختص بهما، فأما هذه الأمة فلقد ما سعيت ما سعى لها غيرها، قاله عكرمة.
الثالث: أن المراد بالإنسان الكافر هنا، وأما المؤمن فله ما سعى وما سعي له، قاله الربيع بن أنس بن الفضل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
الخامس: أن معنى ما سعى: ما نوى، قاله أبو بكر الوراق - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
السادس: أن ليس للإنسان الكافر من الخير إلا ما عمله في الدنيا فيثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير البتة، ذكره الأستاذ أبو إسحاق الثعلبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
السابع: اللام بمعنى على أي ليس على الإنسان إلا ما سعى كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] (الإسراء: الآية 7) ، أي فعليها وكقوله تعالى: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} [غافر: 52] (الرعد: الآية 25) ، أي وعليهم.
الثامن: ليس إلا سعيه، غير أن الأسباب مختلفة، فتارة يكون سعيه في تحصيل الشيء بنفسه، وتارة لتحصيل سببه لسعيه في تحصيل ولد أو صديق يستغفر الله، وتارة يسعى في خدمة الدين والعبادة، فيكتب محبة أهل الدين والصلاح فيكون ذلك سببًا حصل بسعيه حكى هذا أبو الفرج بن الجوزي.
م: (لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه ضحى بكبشين أملحين، أحدهما عن نفسه، والآخر عن أمته ممن أقر بوحدانية الله تعالى وشهد له بالبلاغ» ش: روي هذا الحديث عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - منهم أبو هريرة وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وروى حديثهما ابن ماجه في " سننه " من طريق عبد الرزاق بإسناده عن عائشة وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان إذا أراد(4/468)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن يضحي، اشترى كبشين عظيمين أقرنين أملحين موجوءين، فذبح أحدهما عن أمته ممن شهد بالتوحيد، وشهد له بالبلاغ، وذبح الآخر عن محمد وآل محمد» .
وكذلك رواه أحمد في " مسنده " وروى أحمد أيضًا من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره.
ورواه الطبراني في " الأوسط " من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة فذكره، ومنهم جابر روى حديثه أبو داود وابن ماجه من حديث أبي عياش المعافري عن جابر بن عبد الله قال: «ذبح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر كبشين أقرنين أملحين موجوءين، فلما وجههما قال: إني وجهت وجهي ... الآية، " اللهم لك ومنك عن محمد وأمته بسم الله، والله أكبر، ثم ذبح» .
ومنهم أبو رافع حديثه عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وحذيفة بن أسيد عند الحاكم، وأبو طلحة عند ابن أبي شيبة في " مسنده ". وأنس بن مالك حديثه عند ابن أبي شيبة أيضًا.
قوله: أملحين؛ الأملح الذي به سواد وبياض، ويقال: كبش أملح، فيه ملحة وهي بياض بشقه شعرات سود، وقوله أحدهما بالجر وكذا قوله، والآخر وهما بدلان من قوله بكبشين، ويجوز نصبهما على تقدير يذبح أحدهما؛ لأن قوله ضحى يدل على الذبح قوله وشهد له بالبلاغ أي شهد للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتبليغ أوامر الله ونواهيه إلى عباده. وإنما بين الأمة ممن آمن وشهد؛ لأن الأمة على نوعين: أمة دعوة وإجابة وهم المؤمنون وأمة دعوة لا إجابة وهم الكافرون.
وذلك لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مبعوثًا إلى كافة الخلق وهم بأجمعهم أمة له. إلا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى إحدى الشاتين عن أمة المؤمنين لا عن الكافرين لأنهم لا يستحقون الثواب. وجه الاستدلال به ظاهر؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل من ثوابه لأمته، وهذا يعلم منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الإنسان يجوز أن(4/469)
جعل تضحية إحدى الشاتين لأمته
والعبادات أنواع: مالية محضة كالزكاة، وبدنية محضة كالصلاة، ومركبة منهما: كالحج، والنيابة تجري في النوع الأول في حالتي الاختيار والضرورة، لحصول المقصود بفعل النائب. ولا تجري في النوع الثاني بحال؛ لأن المقصود وهو إتعاب النفس لا يحصل به، وتجري في النوع الثالث عند العجز للمعنى الثاني وهو المشقة بتنقيص المال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ينفعه عمل غيره والتأسي برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو العروة الوثقى.
م: (جعل) ش: أي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: (تضحية إحدى الشاتين لأمته) ش: أي ثوابها، أي جعل ثوابها لأمة المؤمنين وهذا دليل صريح على جواز أن يجعل الرجل من ثوابه لغيره، وينتفع به الغير سواء كان حيًا أو ميتا.
م: (والعبادات أنواع: مالية محضة) ش: أي نوع منها عبادة مالية خالصة. م: (كالزكاة) ش: وصدقة الفطر، والمقصود منها صرف المال إلى سد خلة المحتاج. م: (وبدنية محضة) ش: أي نوع مهنا عبادة بدنية محضة. م: (كالصلاة) ش: والمقصود منها التعظيم بالجوارح، وإتعاب النفس الأمارة بالسوء ابتغاء مرضاة الله. م: (ومركبة منهما) ش: أي نوع منها عبادة مركبة من المالية والبدنية. م: (كالحج) ش: وقد ذكرنا في أول الباب أن الصواب أن الحج من العبادات البدنية؛ لأن المال شرط الوجوب.
م: (والنيابة تجري في النوع الأول) ش: وهو العبادة المالية المحضة كالزكاة فتجوز النيابة فيها. م: (في حالتي الاختيار) ش: أي الصحة. م: (والضرورة) ش: أي المرض. م: (لحصول المقصود بفعل النائب) ش: وذلك لأن المقصود هو صرف المال لسد خلة المحتاج، وهو يحصل بفعل النائب؛ لأن المقصود هو صرف المال. م: (ولا تجري) ش: أي النيابة. م: (في النوع الثاني) ش: وهو العبادة البدنية المحضة كالصلاة. م: (بحال) ش: أي في الاختيار والضرورة. م: (لأن المقصود وهو إتعاب النفس لا يحصل به) ش: أي بالنائب. م: (وتجري) ش: أي النيابة. م: (في النوع الثالث) ش: وهو العبادة المركبة من المال والبدن كالحج. م: (عند العجز للمعنى الثاني للمشقة بتنقيص المال) ش: إنما قال للمعنى الثاني؛ لأن الحج يشترط على معنيين: إتعاب النفس وتنقيص المال. فانتفى المعنى الأول عند العجز فتعين الثاني.
وقال الكاكي: وفي بعض النسخ للمعنى الأول، وهو اعتبار كونه ماليًا، وهذا أظهر بالنسبة إلى تقدير الكتاب، ولا يجزئ عند القدرة حتى لو حج صحيح رجلًا، ثم عجز لم يجزه بالإجماع. وفي كتب الشافعية، لو حج المغصوب غيره نظر إن شفي لم يجزه ذلك قولًا واحدًا عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن مات فيه قولان في قول يجوز وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي قول لا يجوز.(4/470)
ولا تجري عند القدرة لعدم إتعاب النفس، والشرط العجز الدائم إلى وقت الموت؛ لأن الحج فرض العمر،
وفي الحج النفل تجوز الإنابة حالة القدرة؛ لأن باب النفل أوسع. ثم ظاهر المذهب أن الحج يقع عن المحجوج عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الأصحاب: وهو الأظهر، ولو كان مرض لا يرجى زواله، فحج غيره فبرأ لا يجزئه في الأظهر، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في الأظهر، ولو حج الصحيح قبل العجز ثم عجز لم يجزه بالإجماع.
م: (ولا تجري) ش: أي النيابة. م: (عند القدرة لعدم إتعاب النفس، والشرط العجز الدائم) ش: أي شرط جواز النيابة في الحج عن الغير هو العجز المستمر الدائم. م: (إلى وقت الموت) ش: حتى لو قدر المحجوج عنه حج بعد أداء المأمور بحج ثانيًا فلا يسقط عنه الفرض، كما في الشيخ الفاني إذا قدر على الصوم بعد أداء الفدية يجب عليه الصوم. م: (لأن الحج فرض العمر) ش: هذا دليل لكون الشرط هو العجز الدائم، بيانه: أن الحج لما كان فرض العمر. وقدر على أدائه في أثناء عمره، وجب عليه، وجعل فعل النائب فيما مضى كأن لم يكن.
فإن قيل: القدرة على الأصل تبطل الخلف قبل حصول المقصود بالخلف، وقد حصل بالخلف، وهو حصول المشقة بتنقيص المال.
فالجواب: إن لم نسلك في هذه المسألة مسلك الأصل والخلف وإنما قلنا: إن الحج مركب من أمرين أحدهما يحتمل النيابة والآخر لا يحتملها. فقولنا بأحدهما عند القدرة، فلم تجز النيابة، وبالآخر عند العجز فجوزناها لكن شرطنا لكونه وظيفة العمر أن يكون العجز دائمًا لما مر.
واعترض بيان كونه وظيفة العمر، لا يصلح دليلًا على اشتراط العجز الدائم لتخلفه عنه، فإنه شرط لجواز الفدية للشيخ الفاني عن الصوم. والصوم ليس وظيفة العمر. والجواب أن الدليل يستلزم المدلول ولا ينعكس، وكل ما كان وظيفة العمر يشترط فيه العجز الدائم، ولا يلزم أن كل ما يشترط فيه العجز الدائم يكون وظيفة العمر.
[الإنابة في حج النفل]
م: (وفي الحج النفل تجوز الإنابة حالة القدرة؛ لأن باب النفل أوسع) ش: ولهذا تجوز الصلاة النافلة مع القدرة على القيام، لكن للأمر ثواب النفقة بالاتفاق؛ لأن وقوع النفل عن الأمر بالنص على خلاف القياس، وهو حديث الخثعمية، وهو ورد في الفرض؛ لأنها قالت: إن فريضة الحج أدركت ... فبقي النفل على أصل القياس، وقال الفراء في " الذخيرة ": المذهب كراهة النيابة في النفل، وذكر النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرحه " أن في النيابة في الحج للنفل قولين والصحيح جوازها. م: (ثم ظاهر المذهب) ش: كراهة النيابة في النفل، وذكر النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (أن الحج يقع عن المحجوج عنه) ش: وهو الأمر هذا في الفرض بالنص على ما يجيء، وأما في نفل، فيقع عن المأمور بالاتفاق.(4/471)
وبذلك تشهد الأخبار الواردة في هذا الباب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واعترض عليه الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث قال: قال بعضهم في هذا الموضع الحج النفل يقع عن المأمور بالاتفاق، وللأمر ثواب النفقة، وذلك خلاف الرواية ألا ترى إلى ما قال الحاكم الجليل الشهيد في " مختصر الكافي " الحج التطوع عن الصحيح جائز.
ثم قال: وإذا حج الصحيح عن نفسه فهو تطوع، قال: وفي الأصل تكون الحجة عن الحج. م: (وبذلك) ش: أي وبوقوع الحج عن المحجوج عنه. م: (تشهد الأخبار الواردة في الباب) ش: أي في الباب الواردة في الحج عن الغير.
فمن جملة الأخبار ما أخرجه ابن ماجه عن محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس، قال: حدثني حصين بن عون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت: يا رسول الله، «إن أبي أدركه الحج، ولا يستطيع أن يحج إلا معترضا فسكت ساعة، ثم قال: حج عن أبيك» . قال العقيلي قال أحمد بن محمد بن كريب منكر الحديث.
وأخرجه البيهقي عن محمد بن سيرين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رجلًا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره، قال البيهقي رواية محمد بن سيرين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مرسلة، قال صاحب " التنقيح ": قال أحمد وابن معين وابن المديني: لم يسمع ابن سيرين من ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال وقد روى البخاري في " صحيحه " حديثًا من رواية ابن سيرين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
ومنها ما أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين العقيلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رجل من بني عامر، «قال: يا رسول الله: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، قال: حج عن أبيك واعتمر.» قال الترمذي: حديث حسن صحيح، واسم أبي رزين لقيط بن صبرة، رواه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده " وابن حبان في " صحيحه "، والحاكم في " مستدركه "، وقال: على شرط الشيخين.
ومنها ما رواه الطبراني من حديث سودة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رجلًا قال: يا رسول الله أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج فأحج عنه؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أكان يجزئ عنه؟ " فقال: نعم، قال: " حج عنه» .(4/472)
«كحديث الخثعمية فإنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال فيه: " حجي عن أبيك واعتمري» . وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الحج يقع عن الحاج، وللآمر ثواب النفقة؛ لأنه عبادة بدنية، وعند العجز أقيم الإنفاق مقامه كالفدية في باب الصوم.
قال: ومن أمره رجلان أن يحج عن كل واحد منهما حجة فأهل بحجة عنهما فهي عن الحاج ويضمن النفقة؛ لأن الحج يقع عن الآمر حتى لا يخرج الحاج عن حجة الإسلام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنها ما أخرجه البيهقي من حديث عطاء الخراساني عن أبي العون بن المحصن الحنفي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قال: قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن أبي أدركته فريضة الله في الحج، وهو شيخ كبير لا يتمالك على الراحلة أفتأمرني أن أحج عنه؟ قال: " نعم، حج عنه ". قال: وكذلك من مات من أهلنا ولم ير [....] ، أفنحج عنه، قال: " نعم وتؤجرون " قال: ويتصدق عنه ويصام عنه؟ قال: " نعم والصدقة أفضل.» قال البيهقي: إسناده ضعيف.
م: (كحديث الخثعمية، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال فيه: «حجي عن أبيك واعتمري» ش: حديث الخثعمية أخرجه الأئمة الستة في كتبهم. أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - والباقون عن أخيه الفضل بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الله في الحج، وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، ظهر البعير، قال: حجي عنه» . وفي رواية المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهم، فإن حديث الخثعمية ليس فيه ذكر اعتمري، وهذه اللفظة في حديث أبي رزين العقيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما ذكرناه الآن، وهذا الحديث يدل صريحًا على جواز الحج عن الغير.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الحج يقع عن الحاج) ش: يعني المأمور. م: (وللآمر ثواب النفقة؛ لأنه عبادة بدنية) ش: كذا أشار إليه في " المبسوط: أن الحج غير مركب من البدن، والمال فيه شرط الوجوب وقد ذكرناه. م: (وعند العجز) ش: عن الحج بنفسه. م: (أقيم الإنفاق مقامه) ش: أي مقام أداء الأفعال يعني الواجب عليه إذا حج، وإنفاق المال في طريقه فإن عجز عن الأداء بقي عليه الإمضاء ما يقدر.
وهو الإنفاق في طريقه. م: (كالفدية في باب الصوم) ش: فإنها أقيمت مقام الصوم، فكذا الإنفاق هاهنا يقوم مقام أداء الأفعال في حق سقوط الأفعال، وهذا لأن الإنفاق سبب أداء الأفعال، وإقامة السبب مقام المسبب أصل في الشرع في " النهاية " إلى هذا مال عامة المتأخرين، منهم صدر الإسلام أبو اليسر والإمام الأسبيجابي وقاضي خان وغيرهم، وقال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن أصل الحج يكون عن الآمر.
[أمره رجلان بأن يحج لكل واحد منهما حجة فأهل بحجة عنهما]
م: (قال: ومن أمره رجلان بأن يحج لكل واحد منهما حجة فأهل بحجة عنهما فهي عن الحاج ويضمن النفقة؛ لأن الحج يقع عن الآمر حتى لا يخرج الحاج عن حجة الإسلام) ش: يجزيه هذا(4/473)
وكل واحد منهما أمره أن يخلص الحج له من غير اشتراك، ولا يمكن إيقاعه عن أحدهما لعدم الأولوية فيقع عن المأمور، ولا يمكنه أن يجعله عن أحدهما بعد ذلك، بخلاف ما إذا حج عن أبويه، فإن له أن يجعله عن أحدهما؛ لأنه متبرع بجعل ثواب عمله لأحدهما أو لهما، فيبقى على خياره بعد وقوعه سببا لثوابه، وهنا يفعل بحكم الآمر، وقد خالف أمرهما فيقع عنه. ويضمن النفقة إن أنفق من مالهما؛ لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الموضع أن الحج في هذه الصورة من وجه يقع للمأمور باعتبار المخالفة ولهذا لا يخرج الأمر عن حجة الإسلام، ومن وجه يقع للآمر من حيث قطع المسألة وتعين النفقة وهذا لا يخرج المأمور عن حجة الإسلام أيضًا، وقد صرح الإمام العتابي وغيره في " شرح الجامع الصغير " أن الحج يقع عن الأمر من وجه، وعن المأمور من وجه، فلا يخرج عن حجة الإسلام لا المأمور ولا الآمر.
والمصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أشار إلى هذين الوجهين أيضًا حيث قال: أولًا فهي عن الحاج، ثم قال الحج يقع عن الآمر، يعني يقع عن وجه من وجه آخر. وقال الأكمل: ذهب الشارحون إلى أن الدليل غير مطابق للمدلول، قوله فهي أي حجة عن الجميع، ويضمن النفقة ودليله لأن الحج يقع عن الآمر، ولا مطابقة بينهما كما ترى، ثم نقل عن السغناقي أن هذا التعليل حكم غير مذكور.
قلت: لا فائدة في ذكر تعليل بدون ذكر المعلل، وتحرير الكلام ما ذكرناه الآن، ثم نقل الأكمل خط الأترازي على الشراح من ثقة، ثم قال أقول بتوفيق الله في تقرير كلامه أي كلام المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقع عن الآمر، على ظاهر الرواية حتى لا يخرج الحاج عن حجة الإسلام ولا يمكن إيقاعه عن الآمر وكيف يمكن!
م: (وكل واحد منهما أمره أن يخلص الحج له من غير اشتراك، ولا يمكن إيقاعه عن أحدهما لعدم الأولوية) ش: يعني ليس أحدهما أولى من الآخر فلا يقع عنهما ولا عن أحدهما. م: (فيقع عن المأمور) ش: كلامه لا يخلو عن الإغلاق. م: (ولا يمكنه أن يجعله لأحدهما بعد ذلك) ش: هذا كأنه جواب عما يقال إذا وقع الحج للمأمور فيجعل عن أيهما شاء، كما إذا حج عن أبويه، فإن له أن يجعل عن أيهما شاء أي إن وقع لنفسه؛ لأنه لما لم يهل به على أولوية المأمور به وقع عن نفسه ولزمه الحج وضمن النفقة.
م: (بخلاف ما إذا حج عن أبويه، فإن له أن يجعله عن أحدهما؛ لأنه متبرع بجعل ثواب عمله لأحدهما أو لهما، فيبقى على خياره بعد وقوعه سببا لثوابه) ش: كما كان قبله. م: (وهنا) ش: أي في المذكور في الصورة الأولى. م: (يفعل بحكم الآمر، وقد خالف أمرهما فيقع عنه) ش: بخلاف ما هناك؛ لأنه متبرع فيه لا بحكم الآمر فكذلك قيد بالآمر؛ لأنه إذا أدى العمرة عن رجلين أو عن أحدهما بلا أمر يصح؛ لأنه في الحقيقة جعل ثوابه للغير. م: (ويضمن النفقة إن أنفق من مالهما؛ لأنه(4/474)
صرف نفقة الآمر إلى حج نفسه. وإن أبهم الإحرام بأن نوى عن أحدهما غير عين، فإن مضى على ذلك صار مخالفا لعدم الأولوية، وإن عين أحدهما قبل المضي. فكذلك عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو القياس؛ لأنه مأمور بالتعيين. والإبهام يخالفه فيقع عن نفسه، بخلاف ما إذا لم يعين حجة أو عمرة حيث كان له أن يعين ما شاء لأن الملتزم هناك مجهول، وهاهنا المجهول من له الحق. وجه الاستحسان أن الإحرام شرع وسيلة إلى الأفعال لا مقصودا بنفسه. والمبهم يصلح وسيلة بواسطة التعيين فاكتفى به شرطا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صرف نفقة الآمر إلى حج نفسه) ش: فيضمن لتصرفه في المال في خلال الموضع الذي أمر بصرفه فيه. م: (فإن أبهم الإحرام بأن نوى عن أحدهما غير عين) ش: يعني من غير تعيين فلا يخلو عن أمرين إما أن لا يمضي على ذلك أو مضى. م: (فإن مضى على ذلك) ش: أي على الإبهام. م: (صار مخالفا لعدم الأولوية، وإن عين أحدهما قبل المضي. فكذلك عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو القياس) ش: أي قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو القياس. م: (لأنه مأمور بالتعيين) ش: من جهة كل منهما. م: (والإبهام يخالفه) ش: أي إبهامه عن أحدهما يصير مخالفًا. م: (فيقع عن نفسه) ش: كما إذا أمره رجلان كل منهما بشراء عبد هكذا فاشتراه لأحدهما غير معين يقع الشراء للمأمور، ثم إذا أراد أن يعين أحدهما، لا يصح فكذا هنا. م: (بخلاف ما إذا لم يعين حجة أو عمرة حيث كان له أن يعين ما شاء) ش: كان هذا جواب عما يقال إذا أحرم رجل على الإبهام من غير تعيين حجة ولا عمرة فإنه يصح أن يعين في الحجة والعمرة ما شاء، فلما لا يكون هاهنا كذلك. وأجاب بخلاف ما إذا.. إلى آخره، ثم بين الفرق بينهما بقوله. م: (لأن الملتزم هناك مجهول) ش: أي فيما إذا أبهم الإحرام مجهول ومن هم له الحق معلوم وجهالة الملتزم لا تمنع صحة الأداء كما إذا قال لفلان علي شيء لأحد يصح الإقرار، ويلزمه البيان ولو قال لأحدهما علي شيء لا يصح الإقرار لأن جهالة من له الحق تمنع صحة الإقرار. م: (وهاهنا) ش: يعني فيما إذا لم يعين حجة أو عمرة. م: (المجهول من له الحق) ش: وبينهما فرق.
وقد ذكرناه الآن بخلاف ما إذا أحرم عن أحد أبويه حيث يصح، وإن كان من له الحق مجهولًا؛ لأن ذلك ليس بحكم الآمر ليراعي شرائط الإمساك. م: (وجه الاستحسان) ش: هو قول أبي حنيفة ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. م: (أن الإحرام شرع وسيلة إلى الأفعال) ش: يعني ليس بمقصود بنفسه، بل هو وسيلة يقصد به الأداء ولهذا لا يصح قبل أشهر الحج. م: (لا مقصودا) ش: أي ليس بشرع مقصود. م: (بنفسه والمبهم يصلح وسيلة بواسطة التعيين) ش: لأنه شرط فيراعى وجوده لا بصيغة التعيين كالوضوء للصلاة وإن لم يقع بها. م: (فاكتفى به) ش: أي بالإحرام المبهم. م: (شرطا) ش: أي من حيث الشرطية للأداء.
فإن قيل: الإحرام بمنزلة التكبير في الصلاة وفيه جهة الركنية، فينبغي أن يكون بمنزلة الشروع في الأفعال.(4/475)
بخلاف ما إذا أدى الأفعال على الإبهام؛ لأن المؤدي لا يحتمل التعيين فصار مخالفا. قال: فإن أمره غيره أن يقرن عنه فالدم على من أحرم؛ لأنه وجب شكرا لما وفقه الله تعالى من الجمع بين النسكين، والمأمور هو المختص بهذه النعمة؛ لأن حقيقة الفعل منه، وهذه المسألة تشهد بصحة المروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الحج يقع عن المأمور. وكذلك إن أمره واحد بأن يحج عنه، والآخر بأن يعتمر عنه، وأذنا له بالقران، فالدم عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلنا: هو بمنزلة الوضوء عندنا ولهذا يجوز أن يكون قبل أشهر الحج.
م: (بخلاف ما إذا أدى الأفعال على الإبهام) ش: هذا متصل بقوله: فاكتفى به شرطا، يعني إذا أهل عن أحدهما، ثم عين أحدهما قبل المضي، صح تعيينه بخلاف ما إذا عين أحدهما بعد المضي، وهو قوله بخلاف ما إذا أدى الأفعال على الإبهام؛ لأنه إذا أدى ثم عين، فإنه يقع ابتداء، ثم التعيين يرد على ما مضى ويحمل، فلا يفيد شيئا، وهو معنى قوله. م: (لأن المؤدي لا يحتمل التعيين فصار مخالفا) ش: لأن ما مضى فات لا يعتمد التعيين كما ذكرنا.
م: (فإن أمره غيره) ش: وفي بعض النسخ قال: فإن أمره غيره، أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن أمر رجل غيره. م: (أن يقرن) ش: بضم الراء من باب نصر ينصر مفرد له عنه. م: (فالدم) ش: أي الدم القران. م: (على من أحرم) ش: أي وهو القارن. م: (لأنه وجب شكرا لما وفقه الله تعالى من الجمع بين النسكين) ش: أي الحج والعمرة.
م: (والمأمور هو المختص بهذه النعمة؛ لأن حقيقة الفعل منه) ش: ولكن يقع القران على الآمر. وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول وفي أصح قوليه يجب دم القران من الآمر لأن مقتضى إحرامه أمره به، وكأنه القارن بنفسه.
م: (وهذه المسألة تشهد بصحة المروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الحج يقع عن المأمور) ش: لكون الدم عليه، وفيه نظر؛ لأن جميع الدماء في مال الحاج إلا دم الإحصار، فإنه في مال المحجوج عنه، وقيل: لا تدل هذه المسألة عليه؛ لأن سائر الأفعال من الرمي وغيره يوجد منه حقيقة، ويقع شرعًا عن الآمر، ووجوب هذا الدم من باب إقامة النسك وإقامة المناسك عليه حقيقة، وإن انتقل إلى الآمر حكمًا.
م: (وكذلك إن أمره واحد) ش: أي وكذلك وجود الدم على المأمور إن أمره واحد. م: (بأن يحج عنه، والآخر) ش: أي وأمره شخص آخر. م: (أن يعتمر عنه، وأذنا له) ش: أي أذن الاثنان كلاهما. م: (بالقران، فالدم عليه) ش: أي على المأمور، وإنما قيد بالإذن؛ لأنه إذا لم يوجد الإذن منهما بالقران ومع هذا قران، يكون مخالفًا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
فإن قيل: وجوب الدم عليه، لا يتوقف على إذنهما لما أنه على تقرير عدم الإذن يلزمه الدم(4/476)
لما قلنا.
ودم الإحصار على الآمر، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: على الحاج؛ لأنه وجب للتحلل دفعا لضرر امتداد الإحرام، وهذا الضرر راجع إليه، فيكون الدم عليه، ولهما أن الآمر هو الذي أدخله في هذه العهدة فعليه خلاصه، فإن كان يحج عن ميت فأحصر، فالدم في مال الميت عندهما خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم قيل: هو من ثلث مال الميت؛ لأنه صلة كالزكاة وغيرها، وقيل من جميع المال؛ لأنه وجب حقا للمأمور، فصار دينا.
ودم الجماع على الحاج؛ لأنه دم جناية وهو الجاني عن اختيار ويضمن النفقة، معناه: إذا جامع قبل الوقوف حتى فسد حجه؛ لأن الصحيح هو المأمور به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أيضًا، ولأن القران أفضل، فكيف يكون مخالفًا. قلنا: فائدة التقييد بالإذن لدفع وهم وجوب الدم على الآمر كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح. م: (لما قلنا) ش: وهو أن المأمور مختص بهذه النعمة.
[دم الإحصار يلزم الأصيل أم النائب في الحج]
م: (ودم الإحصار على الآمر) ش: لأنه هو الذي أوقع فيه. م: (وهذا) ش: أي وجوب الدم على الآمر، عند إحصار المأمور. م: (عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: على الحاج؛ لأنه) ش: أي لأن الدم. م: (وجب للتحلل دفعا لضرر امتداد الإحرام، وهذا الضرر راجع إليه) ش: أي إلى الحاج. م: (فيكون الدم عليه) ش: أي على الحاج. م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -. م: (أن الآمر هو الذي أدخله في هذه العهدة فعليه خلاصه) ش: واعترض على قوله: أن الآمر هو الذي أدخله في هذه العهدة، بأن الآمر إذا أمر بالقران، فهو الذي أدخل المأمور في عهدة الدم، ولا يجب وعليه واجب، بأن دم القران نسك فيه، وقد وقع الآمر النفقة بمقابلة جميع ما كان من المناسك، وهو من جملتها، بخلاف دم الإحصار فإنه ليس بنسك، ولم يكن معلومًا عند الآمر أيضًا.
م: (فإن كان يحج عن ميت) ش: أي فإن كان الرجل يحج عن ميت. م: (فأحصر، فالدم) ش: أي دم الإحصار. م: (في مال الميت عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -. م: (خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن عنده على الحاج. م: (ثم قيل: هو من ثلث مال الميت؛ لأنه صلة) ش: الصلة هي التي لا تكون في مقابلة عوض مالي. م: (كالزكاة وغيرها) ش: يعني النذور وغيرها من الكفارات فإنها من الثلث. م: (وقيل من جميع المال) ش: يعني وتجب من جميع مال الميت. م: (لأنه) ش: أي لأن الدم. م: (وجب حقا للمأمور) ش: يعني لإدخال الآمر في هذه العهدة دينًا على الميت والدين محل جميع المال. م: (فصار دينا) ش: على الآمر.
[دم الجماع يلزم الأصيل أم النائب في الحج]
م: (ودم الجماع على الحاج؛ لأنه دم جناية وهو الجاني) ش: أي الحاج هو الجاني. م: (عن اختيار ويضمن النفقة، معناه) ش: أي معنى قوله يضمن النفقة. م: (إذا جامع قبل الوقوف بعرفة حتى فسد حجه؛ لأن الصحيح) ش: أي لأن الحج الصحيح. م: (هو المأمور به) ش: وبه قال الشافعي -(4/477)
بخلاف ما إذا فاته الحج حيث لا يضمن النفقة لأنه ما فاته باختياره. أما إذا جامع بعد الوقوف لا يفسد حجه ولا يضمن النفقة لحصول مقصود الآمر. وعليه الدم في ماله لما بينا، وكذلك سائر دماء الكفارات على الحاج لما قلنا.
ومن أوصى بأن يحج عنه فأحجوا عنه رجلا، فلما بلغ الكوفة مات
أو سرقت نفقته وقد أنفق النصف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم عليه المضي في هذه الحجة الفاسدة؛ لأنه لا يخرج عن إحرام الحج إلا بأفعال الحج لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) ، من غير فصل بين الجائز والفاسد وعليه الحج من قابل وليسقط الحج عن الميت حتى يحج المأمور في السنة الثانية على وجه الصحة قضاء للأول وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قضاء الحج في السنة الثانية قولان:
أحدهما: أنه عليه الآمر. وأصحهما: أنه عن الأجير، فعلى هذا يلزمه حجة أخرى سوى القضاء للمستأجر، فيقضي عن نفسه ثم يحج عن المستأجر، ويلبث من حج عنه كذا في " شرح الوجيز ".
م: (بخلاف ما إذا فاته الحج حيث لا يضمن النفقة لأنه ما فاته باختياره. أما إذا جامع بعد الوقوف لا يفسد حجه ولا يضمن النفقة لحصول مقصود الآمر. وعليه) ش: أي على المأمور. م: (الدم في ماله لما بينا) ش: وهو قوله لأنه دم جناية. م: (وكذلك) ش: أي وكذلك وجوب الدم في. م: (سائر دماء الكفارات على الحاج لما قلنا) ش: وهو أنه دم جناية ومن هذا علم أن الدماء ثلاثة أنواع: دم نسك كالقران والتمتع، ودم جناية كجزاء الصيد ونحوه، ودم مؤنة كدم الإحصار.
[الوصية بالحج]
م: (ومن أوصى بأن يحج عنه) ش: وفي بعض النسخ قال: ومن أوصى، أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " الوصية فيه خلاف، قال ابن المنذر - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأشراف ". قال محمد بن سيرين وحماد بن أبي سليمان، وداود بن أبي هند، وحميد الطويل، وعثمان البتي، ومالك، وأبو ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يحج عن الميت من ثلث ماله إذا أوصى.
قلت: وهو قول أصحابنا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وهو قول ابن عباس وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ويكون من ماله إذا كان ثلثه يكفي. وقال الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعطاء - رَحِمَهُ اللَّهُ - وطاوس - رَحِمَهُ اللَّهُ - والزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخرج من رأس ماله من غير وصية.
لكن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: من ميقاته، وقال أحمد: من بلده أو من حيث أيسر هذا في الحج الفرض، وقال النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن أبي ذئب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحج أحد عن أحد ذكره النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (فأحجوا عنه رجلا، فلما بلغ الكوفة مات) ش: إنما قال: بلغ الكوفة؛ لأن محمدًا وضع المسألة في الخراساني.
م: (أو سرقت نفقته وقد أنفق النصف) ش: الواو فيه للحال وقيد النصف اتفاقي، حتى لو أنفق(4/478)
يحج عن الميت من منزله بثلث ما بقي. وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: يحج عنه من حيث مات الأول.
فالكلام هاهنا في اعتبار الثلث، وفي مكان الحج. أما الأول فالمذكور قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أما عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحج عنه بما بقي من المال المدفوع إليه إن بقي شيء وإلا بطلت الوصية اعتبارا بتعيين الموصي؛ إذ تعيين الوصي كتعيينه. وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحج عنه بما بقي من الثلث الأول؛ لأنه هو المحل لنفاذ الوصية. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن قسمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثلث أو السدس فالحكم كذلك. م: (يحج عن الميت من منزله بثلث ما بقي) ش: من المال الذي بقي. م: (وهذا) ش: أي هذا المذكور. م: (عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقالا: يحج عنه من حيث مات الأول) ش: وهو الذي أحجوا عنه.
صورة المسألة رجل له أربعة آلاف درهم، أوصى بأن يحج عنه فمات، وكان مقدار الحج ألف درهم، فدفعها الوصي إلى من يحج عنه فتوفي في الطريق، قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يؤخذ ثلث ما بقي من التركة، وهو ألف درهم، فإن سرقت ثانيًا، يؤخذ ثلثه مرة أخرى هكذا.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يؤخذ ثلث ما بقي من ثلث جميع المال وهو ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث درهم. فإن سرقت ثانيًا لا يؤخذ مرة أخرى.
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا سرقت الألف التي دفعها أولا بطلت الوصية، فإن بقي منها شيء يحج به لا غير؛ لأن تعيين الوصي كتعيين الموصي لكونه نائبًا عنه ولو أفردها الموصي ثم هلكت، بطلت الوصية فكذلك هذا، ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الوصية فعل يعادها بثلث الثلث.
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن قسمة الوصي وعزله لا يصح إلا بالتسليم إلى الوجه الذي سماه الموصي؛ لأنه لا خصم له لينقبض ولم يوجد التسليم إلى ذلك الوجه فصار كما إذا هلك قبل الإفراز والعزل، وفي ذلك يحج من ثلث ما بقي فكذا في هذا.
م: (فالكلام هاهنا) ش: في موضعين أحدهما. م: (في اعتبار الثلث) ش: والأخرى. م: (وفي مكان الحج) ش: ففي كل منهما اختلاف. م: (أما الأول) ش: أي الموضع الأول، وهو الذي فيه الوصية بالثلث. م: (فالمذكور) ش: وفيما قيل. م: (قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أما عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحج عنه بما بقي من المال المدفوع إليه إن بقي شيء وإلا بطلت الوصية اعتبارا بتعيين الموصي؛ إذ تعيين الوصي كتعيينه) ش: أي كتعيين الوصي لأنه قام مقامه.
م: (وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحج عنه بما بقي من الثلث الأول) ش: مع ما بقي من المال المفرد. م: (لأنه) ش: أي لأن الثلث. م: (هو المحل لنفاذ الوصية. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن قسمة(4/479)
الوصي وعزله المال لا يصح إلا بالتسليم إلى الوجه الذي سماه الموصي؛ لأنه لا خصم له ليقبض، ولم يوجد التسليم إلى ذلك الوجه فصار كما إذا هلك قبل الإفراز والعزل، فيحج بثلث ما بقي.
وأما الثاني فوجه قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو القياس، أن القدر الموجود من السفر قد بطل في حق أحكام الدنيا، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» الحديث، وتنفيذ الوصية من أحكام الدنيا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوصي، وعزله المال، لا يصح إلا بالتسليم إلى الوجه الذي سماه الموصي) ش: وهو الحج. م: (لأنه لا خصم له ليقبض، ولم يوجد التسليم إلى ذلك الوجه فصار كما إذا هلك قبل الإفراز والعزل، فيحج بثلث ما بقي) ش: وفي ذلك يحج من ثلث ما بقي فكذلك في هذا.
م: (وأما الثاني) ش: أي وأما الكلام في الثاني وهو مكان الحج. م: (فوجه قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو القياس، أن القدر الموجود من السفر قد بطل في حق أحكام الدنيا) ش: استدل أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله. م: (قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ... » الحديث) ش: هذا الحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» قوله الحديث يجوز بالنصب على تقدير إقرار الحديث بتمامه، ويجوز بالرفع أي الحديث بتمامه قوله عمله أراد عملًا ودخل فيه ولا يتمه، وإذا بطل عمله في أحكام الدنيا.
م: (وتنفيذ الوصية من أحكام الدنيا) ش: وجب الاستئناف. ألا ترى أنه لو أحرم ثم مات ينقطع ذلك الإحرام حتى لا شيء عليه عندنا وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول شيء عليه.
واعترض عليه بأن الحديث الذي استدل به أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظاهره متروك؛ لأنه يقتضي أن يكون غير هذه الثلاثة من الأعمال منقطعًا، وليس كذلك؛ لأنه يثاب عليها، وما هو كذلك لا يكون منقطعًا.
أجيب: بأن الأعمال كلها على ثلاثة أنواع، أعمال عملها فمضت، وأعمال لم يشرع فيها فهي معدومة، وأعمال شرع فيها ولم يتمها. والطرفان لا يوصفان بالانقطاع.
أما الأول: فلأن الماضي لا يتحمل الانقطاع، لكن يحتمل البطلان بما يحبط ثوابه. نعوذ بالله من ذلك.
وكذلك الثاني؛ لأنه غير موجود وهذا لأن الانقطاع عبارة عن تفرق أجزائه والماضي بجميع أجزائه لا يتصور ذلك. وكذلك الذي لم يوجد بجميع أجزائه، فتعيين الذي شرع ولم يتمه تنفذ الوصية من أحكام الدنيا وهو ليس من الثلاث.(4/480)
فبقيت الوصية من وطنه كأن لم يوجد الخروج. وجه قولهما وهو الاستحسان أن سفره لم يبطل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 100] الآية (النساء: الآية 100) وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من مات في طريق الحج، كتب له حجة مبرورة في كل سنة» .
وإذا لم يبطل سفره اعتبرت الوصية من ذلك المكان. وأصل الاختلاف في الذي يحج بنفسه، وينبني على ذلك المأمور بالحج. قال: ومن أهل بحجة عن أبويه يجزئه أن يجعله عن أحدهما. لأن من حج عن غيره بغير إذنه فإنما يجعل ثواب حجه له، وذلك بعد أداء الحج فلغت نيته قبل أدائه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فبقيت الوصية من وطنه كأن لم يوجد الخروج. وجه قولهما) ش: أي قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. إنما أخر تعليلهما وقدم تعليل أبي يوسف، وكان يقتضي الحال العكس، يشير بذلك إلى أنه اختار قولهما استحسانًا.
والمأخوذ في الثلث استحسانًا، ولهذا ذكر القياس أولًا، ثم قال: وهو الاستحسان أي قولهما. م: (وهو الاستحسان أن سفره لم يبطل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 100] (النساء: الآية 100)) ش: الكلام في إعراب الآية مثل الكلام في قوله الحديث. م: (وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من مات في طريق الحج، كتب له حجة مبرورة في كل سنة» ش: هذا الحديث بهذا اللفظ غريب. وروى الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأوسط " وأبو يعلى الموصلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده " من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من خرج حاجًا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة. ومن خرج معتمرًا فمات، كتب له أجر العمرة إلى يوم القيامة. ومن خرج غازيًا في سبيل الله فمات، كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة» .
م: (وإذا لم يبطل سفره) ش: أي عمله. م: (اعتبرت الوصية من ذلك المكان) ش: لأن الثواب لم يبطل. م: (وأصل الاختلاف) ش: المذكور. م: (في الذي يحج بنفسه) ش: فمات في الطريق وأوصى بأن يحج عنه، فعند أبي حنيفة يحج من وطنه وعندهما من حيث مات فيه. م: (وينبني على ذلك) ش: أي ذلك الاختلاف. م: (المأمور بالحج) ش: إذا مات في بعض الطريق، فعنده يحج من وطنه وعندهما من موضع مات فيه. م: (قال: ومن أهل بحجة عن أبويه يجزئه أن يجعله عن أحدهما) ش: وذلك لأنه يجعل الثواب لأحدهما، وإنما يحصل الثواب بعد الأداء فنفلوا ميتة عنها قبل الأداء.
فبعد ذلك، إذا جعل ثواب حجته لأحدهما جاز. م: (لأن من حج عن غيره بغير إذنه فإنما يجعل ثواب حجه له، وذلك) ش: أي جعل ثواب حجه له. م: (بعد أداء الحج فلغت نيته قبل أدائه) ش: لعدم(4/481)
وصح جعله ثوابه لأحدهما بعد الأداء، بخلاف فالمأمور على ما قررنا من قبل، والله تعالى أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثواب قبل الأداء. م: (وصح جعله ثوابه لأحدهما بعد الأداء) ش: أي لأحد الأبوين، أي بعد الأداء، وكذا صح إذا جعل لهما جميعًا.
م: (بخلاف المأمور) ش: أي بالحج إذا أهل بحجة عن أبويه حيث لا يجوز أن يجعل أحدهما لأنه بحكم الآمر. م: (على ما قررنا من قبل) ش: أي عند قوله ومن أمره رجلان أن يحج عن كل واحد منهما حجة.
[الحاج عن الغير إذا نوى الإقامة بمكة لحاجة نفسه] 1
فروع: الحاج عن الغير إذا نوى الإقامة بمكة لحاجة نفسه لا لحج الميت إن أقام أقل من خمسة عشر يومًا، فهو مسافر بحاله ونفقته في مال الميت، وفي أكثر من ذلك من مال نفسه إذا وصل إلى مكة قبل الحج بيوم أو يومين، لم يذكر ما حاله.
وفي " النوادر " عن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - لو أقام في أيام العشر فنفقته في مال الميت، قيل ذلك ينفق من مال نفسه إلى أن ترتحل أيام العشر لو أوصى بمال معين يبلغ ذلك حجا. فالموصي بالخيار إن شاء دفع كل سنة بحجة، وإن دفع إلى رجال في سنة، وهذا أفضل. ولو حج المأمور ماشيًا كان مخالفًا، ولو حج على حمار كره ذلك والبعير أفضل.
ولو مرض المأمور في الطريق، لم يجز أن يدفع النفقة إلى غيره إلا بإذن الآمر. ولو ضاع المال قبل إحرامه يجوز لوصي الميت أو ورثته أن يستردوا المال منه ما لم يحرم. ولو أحرم حين أراد الأخذ منه فله أن يأخذه ويكون إحرامه عن الميت. فإن استرد فنفقته إلى بلده من مال الميت. وإن استرده بجناية ظهرت منه، فالنفقة في ماله لو استرد لجهالته بأمر المناسك أو لضعف رأي فيه فالنفقة في مال الميت. استأجر المأمور من مخدوم وهو محله ممن لا يخدم نفسه فأجره من مال الميت. وإلا فمن ماله.
ولا بأس بخلط المأمور نفع نفقته مع الرفقة أمر بذلك الميت أم لا. ولو أنكر الموصي أو الورثة حجه، فالقول قوله مع يمينه إلا إذا كان للميت دين على إنسان. وقال: حج عني بهذا المال، فحج عنه بعد موته لا يصدق إلا ببينة ولو رجع عن الطريق وقال: منعت لم يصدق ويضمن جميع النفقة إلا إذا كان أمرًا ظاهرًا.(4/482)
باب الهدي الهدي أدناه شاة، لما روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، «سئل عن الهدي، فقال: " أدناه شاة» قال: وهو من ثلاثة أنواع: الإبل والبقر والغنم؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما جعل الشاة أدنى، لا بد أن يكون له أعلى وهو البقر والجزور. ولأن الهدي ما يهدى إلى الحرم ليتقرب به فيه. والأصناف الثلاثة سواء في هذا المعنى. ولا يجوز في الهدايا إلا ما يجوز في الضحايا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الهدي] [أنواع الهدي]
م: (باب الهدي) ش: أي هذا باب في بيان الهدي، وأنواعه، ولما ذكر الهدي في كتاب الحج في مواضع كثيرة، من وجوه كثيرة، من نسك وجزاء ومؤنة، شرع في بيانه مع أنواعه. وفي " ديوان الأدب "، الهدي ما يهدى للبيت، والهدي ما يهدى إلى الحرم من النعم من شاة أو بقرة أو بعير. وفي المشارق وأهل الحجاز [.....] .
م: (الهدي أدناه شاة، لما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سئل عن الهدي، فقال: " أدناه شاة» ش: قال مخرج الأحاديث: هذا غريب، ولم أجده إلا من كلام عطاء. رواه البيهقي في " المعرفة " من طريق الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج أن عطاء قال: أدنى ما يهراق من الدماء في الحج، وغيره شاة. وقد ذكر الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحديث المذكور وسكت عنه.
م: (وهو) ش: أي الهدي. م: (من ثلاثة أنواع: الإبل والبقر والغنم؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما جعل الشاة أدنى، لا بد أن يكون له أعلى وهو البقر والجزور) ش: وفيه تأمل في موضعين: الأول قوله جعل الشاة أدنى، فالحديث الذي ذكره، لم يثبت عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فضلًا أن يجعل أدناه شاة، والثاني قوله لا بد أن يكون له أعلى فيه ما فيه؛ لأن كون الأعلى من هذين الصنفين من أين يؤخذ؟ والأحسن أن تؤخذ هذه الثلاثة من حديث البخاري عن ابن حمزة نصر بن عمران الضبعي، قال سألت ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن المتعة وأمرني بها، وسألته عن الهدي فقال: فيه جزور أو بقرة أو شاة ... الحديث.
م: (ولأن الهدي ما يهدى إلى الحرم ليتقرب به فيه) ش: أي بالهدي في الحرم. م: (والأصناف الثلاثة سواء في هذا المعنى) ش: أي في معنى التقرب، وقيل في معنى الإهداء في الحرم. م: (ولا يجوز في الهدايا إلا ما يجوز في الضحايا) ش: يعني يجوز الثني فصاعدًا من الأنواع الثلاثة.
ولا يجوز الجذع إلا من الضأن، ويشترط أن يكون سالمًا من العيب كما في الأضحية والجذع من البهائم قبل الثني. والثني من الغنم ما تمت له سنة وطعن في الثانية، ومن البقر ما طعن في الثالثة، ومن الإبل ما طعن في السادسة، والجذع من الضأن ما طعن في الشهر السابع.(4/483)
لأنه قربة تعلقت بإراقة الدم، كالأضحية فيتخصصان بمحل واحد. والشاة جائزة في كل شيء إلا في موضعين: من طاف طواف الزيارة جنبا، ومن جامع بعد الوقوف بعرفة فإنه لا يجوز فيهما إلا بدنة. وقد بينا المعنى فيما سبق.
ويجوز الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران؛ لأنه دم نسك، فيجوز الأكل منها بمنزلة الأضحية، وقد صح: أن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أكل من لحم هديه وحسا من المرقة.» ويستحب له أن يأكل منها لما روينا.
وكذا يستحب أن يتصدق على الوجه الذي عرف في الضحايا. ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا؛ لأنها دماء كفارات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الزهري: لا يجوز الجذع من الضأن، وعن الأوزاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجزئ الجذع من الجميع، وعن أنس والحسن بن أبي الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجزئ الجذع من الإبل عن ثلاثة، وعن عطاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عن سبعة.
م: (لأنه) ش: أي لأن الهدي. م: (قربة تعلقت بإراقة الدم، كالأضحية فيتخصصان) ش: أي الهدي والأضحية. م: (بمحل واحد) ش: وفي بعض النسخ بمكان واحد، يعني يقعان موقعًا واحدًا، وينزلان منزلا واحدا، أي حكمًا واحدا يجوز هنا ما يجوز هناك ولا يجوز هنا ما لا يجوز ثمة؛ لأن كلًا منهما لزمه إراقة الدم. م: (والشاة جائزة في كل شيء إلا في موضعين: من طاف طواف الزيارة جنبا، ومن جامع بعد الوقوف بعرفة، فإنه لا يجوز فيهما إلا بدنة. وقد بينا المعنى فيما سبق) ش: أي في الفصل الأول والثاني في باب الجنايات.
[الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران]
م: (ويجوز الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران؛ لأنه دم نسك، فيجوز الأكل منها بمنزلة الأضحية) ش: وبه قال عطاء - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " المبسوط " ويستحب الأكل. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يأكل من فدية الأذى وجزاء الصيد وما نذره للمساكين ويأكل مما سواه.
وقال الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يأكل من الجميع. رواه سعيد بن منصور - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يأكل من هدي التطوع لا غير.
م: (وقد صح: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكل من لحم هديه وحسا من المرقة) ش: صح هذا في حديث جابر - رَحِمَهُ اللَّهُ - الطويل الذي رواه مسلم وغيره أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها يعني عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قوله حسا» بالحاء والسين المهملتين من حسوت المرق حسوًا إذا شربه. م: (ويستحب له أن يأكل منها) ش: أنث الضمير لإرادة الهدايا أي من هدي التطوع وهدي المتعة والقران جعلهما واحدا. م: (لما روينا) ش: وهو قوله وقد صح ... إلخ.
[الصدقة من هدي التطوع والمتعة والقران]
م: (وكذا يستحب أن يتصدق على الوجه الذي عرف في الضحايا) ش: يعني يتصدق بالثلث ويطعم الثلث ويدخر الثلث. م: (ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا؛ لأنها دماء كفارات) ش: مثل دماء(4/484)
وقد صح «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما أحصر بالحديبية وبعث الهدايا على يد ناجية الأسلمي قال له: " لا تأكل أنت ورفقتك منها شيئا» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكفارات والنذور، وهدي الإحصار وهدي التطوع إذا لم يبلغ محله.
أما إذا بلغ التطوع محله، فيجوز منه الأكل، والمراد من هدي التطوع في المتن في قوله، ويجوز الأكل من هدي التطوع هو الذي بلغ محله لأنها دماء كفارات. م: (وقد صح " أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أحصر بالحديبية وبعث الهدايا على يدي ناجية الأسلمي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال له: «لا تأكل أنت ورفقتك منها شيئا» . ش: روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة من حديث ناجية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وليس فيه قوله: لا تأكل أنت ورفقتك منها شيئا.
وهو في أحاديث أخرى منها ما رواه مسلم وابن ماجه عن قتادة عن سنان بن سلمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن ذؤيبا الخزاعي أبا قبيصة حدثه «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث بالبدن معه، ثم يقول " إن عطبت منها شيئًا فخشيت عليه موتًا فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك» . ومنها ما أخرجه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده " والطبراني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في معجمه عن شريك عن ليث عن شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة اليماني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال «بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معي هديًا وقال: " إذا عطبت منها شيئًا فانحره، ثم اضرب نعله في دمه، ثم اضرب صفحته ولا تأكلها أنت ولا أهل رفقتك وخل بينه وبين الناس» .
وزاد فيه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بهدي تطوع، وقال أبو عمر بن عبد البر - رَحِمَهُ اللَّهُ - في إسناد عمرو اليماني - رَحِمَهُ اللَّهُ - روى عنه شهر بن حوشب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعث معي رسول الله بهدي تطوعًا، فقال: «إن عطب منه شيء فانحره ثم اصبغ نعله في دمه، ثم اضرب به على صفحته، وخل بينه وبين الناس» . كذا ذكره أبو عمر بغير [....] ، ولم يزد على قول عمرو اليماني - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكره الذهبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تجريد الصحابة. وقال عمرو اليماني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى عنه شهر بن حوشب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثه بهدي» ولم يزد على هذا شيئا.
ومنها ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - من رواية أبي التياح الضبعي عن موسى بن سلمة الهذلي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «قال بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بست عشرة(4/485)
ولا يجوز ذبح هدي التطوع والمتعة والقران إلا في يوم النحر.
قال: وفي الأصل: يجوز ذبح دم التطوع قبل يوم النحر، وذبحه يوم النحر أفضل. وهذا هو الصحيح؛ لأن القربة في التطوعات باعتبار أنها هدايا، وذلك يتحقق بتبليغها إلى الحرم فإذا وجد ذلك جاز ذبحها في غير يوم النحر، وفي أيام النحر أفضل؛ لأن معنى القربة في إراقة الدم فيها أظهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بدنة مع رجل وأمره فيها، قال فمضى ثم رجع، فقال يا رسول الله كيف أصنع بما أبدع علي منها؟ قال: " انحرها ثم اصبغ نعليها في دمها، ثم اجعله على صفحتها ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك» ، هذا لفظ مسلم.
وفي رواية له، بعث ثماني عشرة بدنة مع رجل، وهذا رواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - «قال: بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلانًا الأسلمي، وبعث معه بهدي ثماني عشرة بدنة» وناجية بالنون والجيم المكسورة، ابن جندب بن عمير الأسلمي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - معدود في أهل الحجاز بما في أهل المدينة، وذكر ابن عفير أن اسمه كان ذكوان فسماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناجية، والتاء فيه للمبالغة، مات بالمدينة في خلافة معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[مكان ووقت ذبح الهدي]
م: (ولا يجوز ذبح هدي التطوع والمتعة والقران إلا في يوم النحر) ش: ذكر في " شرح الأقطع ". قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا أحرم جاز الذبح، ولنا في هدي المتعة والقران قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] (الحج: الآية: 28) عطف، ولا قضاء التفث على الأكل من بهيمة الأنعام التي نحروها، وقضاء التفث مختص بيوم النحر فيكون النحر كذلك، واعترض بأن ثم للتراخي فربما يكون الذبح قبل يوم النحر.
وقضاء التفث فيه واجب، وأجيب بأن موجب ثم في التراخي يتحقق بالتأخير ساعة، فلو جاز الذبح بقتل يوم النحر، جاز قضاء التفث بعده بساعة وليس كذلك.
والبائس الذي يناله بأس أي شدة في الفقر والتفث الأخذ من الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والأخذ من الشعر كأنه الخروج من الإحرام إلى الإحلال.
[ذبح دم التطوع قبل يوم النحر]
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (وفي الأصل) ش: أي في المبسوط. م: (يجوز ذبح دم التطوع قبل يوم النحر) ش: لأن القربة في هدي التطوع بوصوله إلى الحرم فلا يشترط الزمان. م: (وذبحه) ش: أي ذبح دم التطوع. م: (يوم النحر أفضل. وهذا هو الصحيح؛ لأن القربة في التطوعات باعتبار أنها هدايا، وذلك يتحقق بتبليغها إلى الحرم. فإذا وجد ذلك) ش: أي تبليغ الهدايا إلى الحرم. م: (جاز ذبحها في غير يوم النحر، وفي أيام النحر أفضل؛ لأن معنى القربة في إراقة الدم فيها) ش: أي في أيام النحر. م: (أظهر) ش: لأنها خصت بالهدايا والضحايا، والأخص منها الهدايا فيكون لها زيادة شرف.(4/486)
أما دم المتعة والقران فلقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] (الحج: الآية 28) ، وقضاء التفث يختص بيوم النحر، ولأنه دم نسك فيختص بيوم النحر كالأضحية. ويجوز ذبح بقية الهدايا في أي وقت شاء. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز إلا في أيام النحر اعتبارا بدم المتعة والقران؛ فإن كل واحد منهما دم جبر عنده. ولنا أن هذه دماء كفارات فلا تختص بيوم النحر؛ لأنها لما وجبت لجبر النقصان كان التعجيل بها أولى لارتفاع النقصان به من غير تأخير، بخلاف دم المتعة والقران؛ لأنه دم نسك. قال: ولا يجوز ذبح الهدايا إلا في الحرم لِقَوْلِهِ تَعَالَى في جزاء الصيد: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] (المائدة: الآية 95) ، فصار أصلا في كل دم هو كفارة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أما دم المتعة والقران فلقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] (الحج: الآية 28) ، وقضاء التفث يختص بيوم النحر) ش: وجه الاستدلال بهذه الآية قد ذكره آنفًا وما فيها من المعنى. م: (ولأنه) ش: أي ولأن دم المتعة والقران. م: (دم نسك) ش: أي قربة. م: (فيختص بيوم النحر) ش: حتى حل التناول منه. م: (كالأضحية، ويجوز ذبح بقية الهدايا في أي وقت شاء. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز إلا في أيام النحر اعتبارا بدم المتعة والقران؛ فإن كل واحد منهما) ش: أي من دم المتعة ودم القران. م: (دم جبر عنده) ش: هذا مخالف لما ذكره في كتبهم.
فإنه ذكر في " الوجيز " وشرحه و" التتمة " وغيرها، أن الدم الواجب في الإحرام إما لارتكاب محظور أو جزاء ترك مأمور ولا يختص بزمان، فيجوز في يوم النحر وغيره، وإنما الضحايا هي التي تختص بالحرم وأيام التشريق. وفي " شرح المجمع " مذهب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن لا يختص بيوم النحر والضحايا والهدايا والدماء، وفي وقت ذبح الهدي وجهان، الصحيح أنه يختص بيوم النحر، كالأضحية، والثاني لا يختص بزمان كدماء الجبر، وقد ذكر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الخلاف معه في بقية الهدايا. والصحيح من مذهبه ما ذكرناه أن دماء الجبر أن لا يختص بيوم النحر. م: (ولنا أن هذه) ش: أي بقية الهدايا. م: (دماء كفارات فلا تختص بيوم النحر؛ لأنها لما وجبت لجبر النقصان كان التعجيل بها أولى لارتفاع النقصان به من غير تأخير، بخلاف دم المتعة والقران؛ لأنه دم نسك) ش: أي قربة.
م: (قال: ولا يجوز ذبح الهدايا إلا في الحرم) ش: وفي بعض النسخ قال: ولا يجوز، أي قال القدوري، ولا يجوز ذبح الهدايا إلا في الحرم، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح.
وقال في القديم [....] في الحل يجوز ذبحه في الحل، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما يجب من الفدية بالإحرام لا يختص بمكان كما لا يختص بزمان. م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى في جزاء الصيد: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] (المائدة: الآية 95) ، فصار ذلك) ش: أي جزاء الصيد. م: (أصلا في كل دم هو كفارة) ش: إذ لا فرق بين الكفارات ولا تفاوت في معنى الجزاء والزجر، وإذا(4/487)
ولأن الهدي اسم لما يهدى إلى مكان ومكانه الحرم. قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «منى كلها منحر، وفجاج مكة كلها منحر» .
ويجوز أن يتصدق بها على مساكين الحرم وغيرهم خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الصدقة قربة معقولة، والصدقة على كل فقير قربة. قال: ولا يجب التعريف بالهدايا؛ لأن الهدي ينبئ عن النقل إلى مكان ليتقرب بإراقة دم فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجب وجوب التبليغ في البعض بالنص وجب في غيره بدلالة النص.
م: (ولأن الهدي اسم لما يهدى إلى مكان ومكانه الحرم. قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «منى كلها منحر، وفجاج مكة كلها منحر» ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه عن أسامة بن زيد الليثي عن عطاء بن أبي رباح عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل عرفة موقف وكل منى منحر وكل المزدلفة موقف، وكل فجاج مكة طريق ومنحر» . وأخرجه أبو داود أيضًا من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف وكل فجاج مكة منحر وكل جمع موقف» .
هذا رواه محمد بن المنكدر عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال ابن معين: محمد بن المنكدر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يسمع من أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال أبو زرعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يلق أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوله منحر بفتح الميم اسم المكان الذي ينحر فيه الهدايا. وفجاج جمع فج، وهو الطريق الواسع بين الجبلين. وهذا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيان الحكم لا الحقيقة.
م: (ويجوز أن يتصدق بها على مساكين الحرم وغيرهم) ش: أي وغير مساكين الحرم. م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن عنده يجب صرفها على مساكين الحرم لأن المقصود التوسعة على فقراء مكة حتى لو فرق القارن على دخول مكة لحمها على غير مساكين الحرم لا يجوز. م: (لأن الصدقة قربة معقولة) ش: لأنها لسد خلة المحتاج. م: (والصدقة على كل فقير قربة) ش: فلا يختص بها فقير لأن التصدق قربة في كل مكان، فلا يختص مكان بخلاف الإراقة، فإنه لا يكون إلا في مكان مخصوص أو زمان مخصوص.
م: (ولا يجب التعريف بالهدايا) ش: وفي بعض النسخ قال: ولا يجب التعريف بالهدايا، أي قال القدوري: ولا يجب الإتيان بالهدايا إلى عرفات، وللتعريف معاد التنبه بأهل عرفة، والذهاب بالهدايا إلى عرفات والوقوف بها، فتعريف الهدايا إعلامها بعلامة مثل التقليد والإشعار، والكل ليس بواجب لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: تعرف وإن شئت فلا. م: (لأن الهدي ينبئ عن النقل إلى مكان ليتقرب بإراقة دم فيه) ش: أي في ذلك(4/488)
لا عن التعريف فلا يجب. فإن عرف بهدي المتعة فحسن؛ لأنه يتوقت بيوم النحر، فعسى أن لا يجد من يمسكه، فيحتاج إلى أن يعرف به، ولأنه دم نسك، فيكون مبناه على التشهير بخلاف دماء الكفارات؛ لأنه يجوز ذبحها قبل يوم النحر على ما ذكرنا. وسببها الجناية، فيليق بها الستر.
قال: والأفضل في البدن النحر وفي البقر والغنم الذبح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] (الكوثر: الآية 2) ، قيل في تأويله: الجزور. وقال الله تعالى: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] (البقرة: الآية 67) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المكان وهو الحرم. م: (لا عن التعريف) ش: يعني لا ينبئ على التعريف. م: (فلا يجب) ش: لعدم معنى التعريف فيه. م: (فإن عرف بهدي المتعة) ش: يريد به إخراجه إلى عرفات. م: (فحسن) ش: لأن فيه زيادة اشتهار دون السنة في الواجبات الإشهار، ولهذا ليس رفع الصوت بالتلبية.
م: (لأنه) ش: أي لأن هدي المتعة. م: (يتوقت بيوم النحر) ش: يعني لا يحل من مكة أي هديه. م: (فعسى أن لا يجد من يمسكه، فيحتاج إلى أن يعرف به) ش: أي إلى أن يأخذه معه إلى عرفات. م: (ولأنه دم نسك) ش: أي ولأن الهدي المتعة قربة. م: (فيكون مبناه على التشهير) ش: لما ذكرنا أن السنة في الواجبات الإشهار. م: (بخلاف دماء الكفارات؛ لأنه يجوز ذبحها قبل يوم النحر على ما ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله لأنها وجبت لجبر النقصان، كان التعجيل بها أولى لارتفاع النقصان به. م: (وسببها) ش: أي وسبب دماء الكفارة. م: (الجناية، فيليق بها الستر) ش: لأن الجناية نوع معصية فالستر فيها أحسن.
[الأفضل في ذبح البدن والبقر والغنم في الهدي]
م: (قال: والأفضل في البدن النحر، وفي البقر والغنم الذبح) ش: الذي هو قطع الأوداج، وعن الليث الذبح قطع الحلقوم من باطن عند التفصيل وهو أظهر وأسلم، قاله في " المغرب ".
والنحر في اللبة مثل الذبح في الحلق. اللبة المنحر هو الصدر والنحر هو الوضع الذي ينحر فيه الهدي. م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] (الكوثر: الآية 2)) هذا دليل لقوله: والأفضل في البدن النحر.
م: (قيل في تأويله) ش: أي في تأويل قوله وانحر. م: (الجزور) ش: أي نحر الجزور والبعير ذكرًا كان أو أنثى، إلا أن اللفظة يريد بقوله هي الجزور، وإن أردت ذكرًا والجمع جزور أو جزائر، وإنما قال قيل في تأويله بصيغة المجهول؛ لأنه ورد فيه معان كثيرة، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - معنى انحر ضع يدك على نحرك في الصلاة. وعن بعض الصحابة وجه نحرك إلى القبلة، وعن عطاء أمر أن يستوي بين السجدتين جالسًا حتى يبدو غيره، وقيل انحر هواك ونفسك وشيطانك في الصلاة.
م: (وقال الله تعالى: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] (البقرة: الآية 67)) ش: هذا دليل لقوله وفي البقر والغنم الذبح وذكر هذا الدليل لذبح البقر، وذكر الدليل لذبح الغنم بقوله. م: (وقال الله تعالى:(4/489)
وقال الله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] (الصافات: الآية 107) ، والذبح ما أعد للذبح، وقد صح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر الإبل وذبح البقر والغنم» ثم إن شاء نحر الإبل في الهدايا قياما أو أضجعها، وأي ذلك فعل فهو حسن، والأفضل أن ينحرها قياما لما روينا: «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نحر الهدايا قياما» . وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا ينحرونها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] ش: (الصافات: الآية 107) وجه الاستدلال به أن الله لما أمر إبراهيم بذبح ولده إسماعيل، ورأى منهما الصدق والامتثال لأمره من عليهما بقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] (الصافات: الآية: 107) ، وكان كبشا من الجنة.
م: (والذبح) ش: بكسر الذال. م: (ما أعد للذبح) ش: فعلم منه أن الغنم تذبح. م: (وقد صح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر الإبل وذبح البقر والغنم) ش: ذكر هنا إذا صح «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نحر الإبل وذبح البقر والغنم، أما نحر الإبل فقد صح في حديث جابر الطويل، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثة وستين بدنة، ثم أعطى عليًا - رضي الله عنه - فنحر ما غير» وأما ذبح البقر فقد ذكر مخرج الأحاديث حديث البخاري ومسلم «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلت ما هذا، قالوا ذبح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أزواجه» .
قلت: هذا لا يدل قطعًا أنه ذبح البقرة بيده الكريمة يومئذ؛ لأنه يحتمل قطعًا أن يكون أمر بذبحها، بل الظاهر هذا، كما يقال: بنى الأمير هذا القصر، معناه أنه هو الذي أمر ببنائه، وأما ذبح الغنم فأخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال «ضحى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكبشين أملحين فرأيته واضعًا قدميه على صفاحهما يسمي ويكبر فذبحهما بيده اليمنى» ولم أر أحدًا من شراح " الهداية " حرر هذا الموضع كما ينبغي، بل منهم من قال: هذا ظاهر، قلت: ليت شعري من أين هذا الظهور.
[كيفية ذبح الهدي]
م: (ثم إن شاء نحر الإبل في الهدايا قياما) ش: الهدايا جمع هدية، صفة الإبل وقيامًا حال من الإبل بمعنى قائمات، لما روى البخاري عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر بيده سبع بدن قيامًا» . م: (أو أضجعها) ش: أي أناخها وأبركها لما روي أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان ينحر بدنة قائمًا وربما ينحرها باركة.
م: (وأي ذلك فعل فهو حسن) ش: أي الأمرين من الاضطجاع والقيام فعل حسن لما ذكرنا وفعل ذلك أيضًا من الصحابة. م: (والأفضل أن ينحرها قياما «لما روي: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر الهدايا قيامًا» ش: الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن أنس. «قال: صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر بالمدينة أربعًا ونحن معه إلى أن قال: ونحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبع بدنات قيامًا» مختصر.
م: (وأصحابه - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - كانوا ينحرونها قياما معقولة اليد اليسرى) ش: هذا رواه أبو داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، أخبرني عبد الرحمن بن(4/490)
قياما معقولة اليد اليسرى، ولا يذبح البقر والغنم قياما؛ لأن في حالة الاضطجاع الذبح أبين، فيكون الذبح أيسر، والذبح هو السنة فيهما. قال: والأولى أن يتولى ذبحها بنفسه إذا كان يحسن ذلك؛ لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساق مائة بدنة في حجة الوداع فنحر نيفا وستين بنفسه، وولى الباقي عليا،» ولأنه قربة والتولي في القربات أولى لما فيه من زيادة الخشوع، إلا أن الإنسان قد لا يهتدي لذلك ولا يحسنه، فجوزنا تولية غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سابط أن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا ينحرون البدنة معقولة اليد اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها قيل هذا مرسل ليس بصحيح، فإن المخبر عن عبد الرحمن بن سابط هو ابن جريج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والحديث من مسند جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كما ذكره أصحاب الأطراف، واعترض على المصنف بأنه لو استدل على عقل يدها اليسرى بعقل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لكان أولى من أن يستدل عليه بعقل الصحابة، قلت: هذا اعتراض باطل؛ لأن المصنف لم يذكر ذلك حتى يستدل، وعقل اليد لما يذكره المصنف إلا من تمام الحديث.
م: (ولا يذبح البقر والغنم قياما؛ لأن في حالة الاضطجاع الذبح أبين) ش: أي موضع الذبح المحصر بخلاف ما إذا كانت قيامًا. م: (فيكون الذبح) ش: في حالة الاضطجاع. م: (أيسر، والذبح هو السنة فيهما) ش: أي في البقر والغنم والواو فيه للحال. م: (قال: والأولى أن يتولى الذبح بنفسه إذا كان يحسن ذلك) ش: أي الذبح. م: (لما «روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساق مائة بدنة في حجة الوداع فنحر نيفا وستين بنفسه، وولى الباقي عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» -) ش: صح هذا الحديث من حديث جابر الطويل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ساق مائة بدنة في حجة الوداع، إلى المنحر فنحر ثلاثة وستين بيده ثم أعطى عليًا، فنحر ما غبر» وقد ذكرناه. م: (ولأنه) ش: أي ولأن ذبح الهدي. م: (قربة) ش: أي يقرب إلى الله تعالى. م: (والتولي) ش: أي بنفسه.
م: (في القربات أولى لما فيه من زيادة الخشوع) ش: لأن الشخص إذا تولى حاجة بنفسه يدل على تواضعه ومسكنته. م: (إلا أن الإنسان) ش: استثناه من قوله: والتولي. م: (قد لا يهتدي لذلك) ش: أي للذبح بنفسه. م: (ولا يحسنه) ش: أي الذبح. م: (فجوزنا تولية غيره) ش: لأنه إذا لم يحسن ربما يعذب الحيوان ويجعله ميتة.
وقد قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره أن يتولى ذلك غيره إلا عند العجز، واستحب الجمهور استقبال القبلة بها، وكان ابن عمر وابن سيرين -(4/491)
قال: ويتصدق بجلالها وخطامها ولا يعطي أجرة الجزار منها
قال: «لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " تصدق بجلالها وبخطامها، ولا يعطي أجرة الجزار منها» . ومن ساق بدنة فاضطر إلى ركوبها ركبها، وإن استغنى عن ذلك لم يركبها لأنه جعلها خالصة لله تعالى، فما ينبغي أن يصرف شيئا من عينها أو منافعها إلى نفسه، إلى أن يبلغ محله، إلا أن يحتاج إلى ركوبها، لما روي «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رأى رجلا يسوق بدنة، فقال: " اركبها ويلك» ، وتأويله أنه إن كان عاجزا محتاجا، ولو ركبها فانتقص بركوبه فعليه ضمان ما نقص من ذلك وإن كان لها لبن لم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يكرهان ما ليس يستقبل به القبلة ولو استناب يهوديًا أو نصرانيًا يجوز، ولكنه يكره، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يقع قربة.
م: (ويتصدق بجلالها) ش: وفي بعض النسخ قال ويتصدق، أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويتصدق بجلها وهو جمع جل وهو ما يلبس على الدابة. م: (وخطامها) ش: بكسر الخاء المعجمة وهو الزمام، وهو ما يجعل في عنق البعير. م: (ولا يعطي أجرة الجزار منها) ش: أي من الهدايا.
هذا الحديث رواه الجماعة إلا الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أقوم على بدنة، وأقسم جلالها وجلودها وأمرني أن لا أعطي الجزار منها شيئًا» ويجوز أن يتصدق على الجزار منها شيئا سوى أجرته عند الأكثر وإن أعطى شيئا منها [....] ؛ لأنه إتلاف أو معاوضة.
[ركوب الهدي]
م: (ومن ساق بدنة فاضطر إلى ركوبها ركبها، وإن استغنى عن ذلك لم يركبها) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن المنذر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال عروة ومالك وأحمد وإسحاق وداود - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - جميعًا -: يركبها من غير ضرورة. وقال الماوردي من الشافعية يركبها من غير حاجة إلا أنه يهزلها الركوب، ومن هذا حمل متاعه عليها عند الحاجة وأوجب بعضهم ركوبها. وتلك في الثانية أو الثالثة. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (لأنه جعلها خالصة لله تعالى، فلا ينبغي أن يصرف شيئا من عينها أو منافعها إلى نفسه، إلى أن يبلغ محله، إلا أن يحتاج إلى ركوبها، «لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا يسوق بدنة، فقال: " اركبها ويلك ") » ش: هو حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كما ذكرناه الآن قوله ويلك، هنا كلمة ترحم ولهذا جاء في رواية ويحك، ومعناه اركبها لئلا يفضي مشيك إلى الهلاك.
م: (وتأويله) ش: أي تأويل الحديث المذكور. م: (أنه إن كان عاجزا محتاجا) ش: إلى الركوب وليس معه ما يكره. م: (ولو ركبها فانتقص بركوبه فعليه ضمان ما نقص من ذلك) ش: أي من ركوبه ويتصدق به على الفقراء، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن انتفاع الأغنياء بها تعلق ببلوغها المحل، فإذا لم يبلغ، وجب التصدق على الفقراء. م: (وإن كان لها لبن لم يحلبها لأن اللبن متولد منها(4/492)
يحلبها؛ لأن اللبن متولد منها، فلا يصرفه إلى حاجة نفسه، وينضح ضرعها بالماء البارد حتى ينقطع اللبن. ولكن هذا إذا كان قريبا من وقت الذبح، فإن كان بعيدا منه يحلبها ويتصدق بلبنها كي لا يضر ذلك بها. وإن صرفه إلى حاجة نفسه تصدق بمثله أو بقيمته؛ لأنه مضمون عليه. ومن ساق هديا فعطب، فإن كان تطوعا فليس عليه غيره؛ لأن القربة تعلقت بهذا المحل وقد فات، وإن كان عن واجب فعليه أن يقيم غيره مقامه؛ لأن الواجب باق في ذمته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فلا يصرفه إلى حاجة نفسه) ش: وبه قال الشافعي وفي منعهم إلا أن يفضل عن روي الولد أو يموت الولد، فحينئذ له أن يحلبها لأن ترك الحلب يضر بها.
م: (وينضح) ش: أي ترش من باب ضرب. م: (ضرعها بالماء البارد حتى ينقطع اللبن) ش: وجوز الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - شرب لبنها بعد كفاية فصلها.
وفي " شرح النووي " لبن الهدي المنذور يجوز شربه عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أنه قد زال ملكه للفقراء، ولا يجوز بيعه بلا خلاف عندهم، وفي " الإمام " روى ابن أبي العوام الحافظ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في فضائل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - من جهة إسحاق بن أبي إسرائيل، قال حدثنا يحيى بن اليماني، قال حدثنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عمار عن إبراهيم - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: إذا در اللبن من البدنة، فإذا نفحه بالماء لما يتقلص، وإن جز وبرها أو صوفها تصدق به أو بقيمته إن استهلكه. وفي " المبسوط " يتصدق بولد الهدي أو بذبحه معها، فإن باعه تصدق بثمنه، ويسري حكم الهدي إلى أولادها، وعليه الأئمة. وقال أشهب: إذا باع ولد الهدي، فعليه بدله كبير.
وقال ابن القاسم - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن نحره في الطريق، أبدله ببعير في مناخ البدنة لا ينفره، وفساد هذين القولين لا يحتاج إلى بيان. م: (ولكن هذا إذا كان قريبا من وقت الذبح) ش: هذا إشارة إلى قوله لم يحلبها. م: (فإن كان بعيدا منه) ش: أي من وقت الحج. م: (يحلبها ويتصدق بلبنها كي لا يضر ذلك) ش: أي عدم الحلب. م: (بها) ش: أي بهدي البدنة.
م: (وإن صرفه إلى حاجة نفسه تصدق بمثله) ش: لأنه من ذوات الأمثال. م: (أو بقيمته) ش: أي أو يتصدق بقيمته؛ لأن دفع القيمة في حقوق الله تعالى جائزة. م: (لأنه مضمون عليه) ش: أي لأن اللبن مضمون على نفسه لأنه جزء من أجزاء الهدي، وقد لزمته الإراقة بجميع أجزائه وبالحلب والصرف إلى حاجة نفسه عجز عن الإراقة فيه، وكان عليه التصدق كما لو عجز عن إراقة الكل.
[الحكم لو ساق هديا فعطب أو هلك]
م: (ومن ساق هديا فعطب) ش: أي هلك. م: (فإن كان تطوعا فليس عليه غيره؛ لأن القربة تعلقت بهذا المحل وقد فات) ش: كما إذا نذر أن يتصدق بدراهم معينة، فهلكت قبل الصرف إلى الفقراء لا يلزمه شيء إلا حسن لأن الواجب كان في العين لا في الذمة. م: (وإن كان) ش: الهدي. م: (واجبًا فعليه أن يقيم غيره مقامه؛ لأن الواجب باق في ذمته) ش: لأن الواجب هنا في الذمة لا في العين(4/493)
وإن أصابه عيب كبير يقيم غيره مقامه؛ لأن المعيب بمثله لا يتأدى به الواجب، فلا بد من غيره، وصنع بالمعيب ما شاء؛ لأنه التحق بسائر أملاكه. وإذا عطبت البدنة في الطريق، فإن كان تطوعا نحرها وصبغ نعلها بدمها وضرب بها صفحة سنامها، ولا يأكل هو ولا غيره من الأغنياء بذلك أمر رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ناجية الأسلمي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والمراد بالنعل قلادتها، وفائدة ذلك أن يعلم الناس أنه هدي، فيأكل منه الفقراء دون الأغنياء، وهذا لأن الإذن بتناوله معلق بشرط بلوغه محله، فينبغي أن لا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما لم يذبحه في الحرم، لا يسقط عنه ما في الدية، فلزمه غيره كما إذا عزل دراهم الزكاة، فهلكت قبل الصرف إلى الفقراء، يلزمه إخراجها ثانيا.
قال النووي: لو نذر هديًا معينا فتعبت، لا يلزمه إبداله، وهو قول عبد الله بن الزبير وعطاء والحسن البصري - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - والنخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال، وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يلزمه إبداله ولا يجوز للمهدي ولا لسائقه ولا للغني أن يأكل من هذا الهدي، ويجوز للفقراء من غير الرفقة. وفي الفقراء الرفقة وجهان أصحهما لا يجوز ويترك جزرًا للسباع.
م: (وإن أصابه عيب كبير) ش: أراد بالكبير ما يكون مانعًا في الأضحية. وقال في قاضي خان: العيب الكبير أن يذهب أكثر من ثلثي الأذن على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعلى قولهما إن ذهب أكثر من نصف الأذن يمنع. م: (يقيم غيره) ش: أي غير العيب. م: (مقامه؛ لأن المعيب بمثله لا يتأدى به الواجب، فلا بد من غيره، وصنع بالمعيب ما شاء؛ لأنه التحق بسائر أملاكه) .
ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب دفع المعيب مع بدله، وبه قال بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. م: (وإذا عطبت البدنة في الطريق) ش: أراد إذا قر من العطب. م: (تضمن) ش: أي الهلاك بدليل قوله نحرها. م: (فإن كان تطوعا نحرها وصبغ نعلها بدمها وضرب بها صفحة سنامها، ولا يأكل هو ولا غيره من الأغنياء بذلك أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناجية الأسلمي) ش: قد تقدم حديثه في هذا الباب، قال في " الجنازية " هذه المسألة مكررة في الظاهر ورد بأن الأول في الهدي، وهذه في البدنة وخصها بالذكر بعدما دخلت في ذلك العموم، كما هو رواية من ذكر الأصول على الإبهام ثم الشروع في بيان تفاصيلها، أو نقول ذلك ذكر في الأولى أنه هذا عليه غيره أم لا وفصل بين الواجب والتطوع في حق هذا الحكم ولم يبين أنه ما إذا يفعل بالذي عطب فأعادها لبيان ما يفعل به.
في هذا الحكم فصل أيضًا بين التطوع والواجب، غير أنه أعاد قوله وإن كانت واجبة أقام غيره تأكيدًا. م: (والمراد بالنعل قلادتها، وفائدة ذلك) ش: أي وفائدة صبغ النعل بالدم. م: (أن يعلم الناس أنه هدي، فيأكل منه الفقراء دون الأغنياء، وهذا لأن الإذن بتناوله معلق بشرط بلوغه محله، فينبغي أن لا(4/494)
يحل قبل ذلك أصلا إلا أن التصدق على الفقراء أفضل من أن يتركه جزرا للسباع، وفيه نوع تقرب. والتقرب هو المقصود. فإن كانت واجبة أقام غيرها مقامها، وصنع بها ما شاء؛ لأنه لم يبق صالحا لما عينه وهو ملكه كسائر أملاكه. ويقلد هدي التطوع والمتعة والقران؛ لأنه دم نسك، وفي التقليد إظهاره وتشهيره فيليق به، ولا يقلد دم الإحصار ولا دم الجنايات؛ لأن سببها الجناية والستر أليق بها، ودم الإحصار جائز فيلحق بجنسها. ثم ذكر الهدي ومراده البدنة؛ لأنه لا يقلد الشاة عادة، ولا يسن تقليدها عندنا لعدم فائدة التقليد على ما تقدم، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يحل قبل ذلك أصلًا، إلا أن التصدق على الفقراء أفضل من أن يتركه جزرًا للسباع) ش: بفتح الجيم والزاي. وهو اللحم الذي يأكله السباع. هكذا نقل عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. م: (وفيه نوع تقرب) ش: أي وفي التصدق على الفقراء نوع تقرب إلى الله تعالى. م: (والتقرب هو المقصود) ش: وبأكل الفقراء يحصل التقرب الذي هو المقصود، ولا يجوز للمهدي ولا لسائقه ولا للغني أن يأكل من هذا الهدي، ويجوز للفقراء من غير الرفقة فإن كانت واجبة وفي فقراء الرفقة وجهان عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أصحهما لا يجوز، ويترك جزرًا للسباع، ويمنع الفقراء الحاضرون المحتاجون إليه من الرفقة. م: (فإن كانت واجبة) ش: عطف على قوله فإن كانت تطوعًا. م: (أقام غيرها مقامها، وصنع بها) ش: أي بالبدنة التي عطبت. م: (ما شاء؛ لأنه لم يبق صالحا لما عينه وهو ملكه كسائر أملاكه) ش: وتذكير الضمير في هذه الألفاظ باعتبار الهدي. م: (ويقلد هدي التطوع والمتعة والقران؛ لأنه دم نسك، وفي التقليد إظهاره وتشهيره فيليق به) ش: الضمائر في هذه الألفاظ الثلاثة يرجع إلى دم نسك. وفي " المحيط " ويقلد دم النذر لأنه دم نسك وعبادة، وفي إظهار هذه الدماء إظهار الشعائر مع موافقة السنة.
[تقليد دم الإحصار والجنايات]
م: (ولا يقلد دم الإحصار ولا دم الجنايات؛ لأن سببها الجناية والستر أليق بها) ش: أي بدم الجنايات.
م: (ودم الإحصار جائز) ش: كان هذا جواب عما يقال وكيف لا يقلد دم الإحصار وهو غير جناية فأجاب بقوله: ودم الإحصار جائز. م: (فيلحق بجنسها) ش: أي يلحق دم الإحصار بجنس وبالجنايات لأنه جابر كهي يعني لا تقلد هؤلاء كما لا تقلد هي، فقيل: إنه روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قلد هدايا الإحصار وأجيب بأنه كان قلدها للمتعة، فلما أحصرت بقيت كما كانت فبعث إلى مكة على حالها. م: (ثم ذكر الهدي) ش: أي ثم ذكر القدوري الهدي في قوله: ومن ساق الهدي فعطبت. م: (ومراده البدنة؛ لأنه لا يقلد الشاة عادة، ولا يسن تقليدها عندنا) ش: وفي بعض النسخ ولا يسن تقليده بتذكير الضمير على تأويل الهدي. م: (لعدم الفائدة في تقليدها) ش: لأن الشاة لا تكون مسبية بل يكون صاحبها معها يحفظها بخلاف الإبل والبقر، فإنهما تحلبان، فقلدنا صيانة على أيدي من يطمع فيها وفيه خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (على ما تقدم) ش: يعني قبل باب القران حيث قال: هناك تقليد الشاة غير معتاد.(4/495)
مسائل منثورة هل عرفة إذا وقفوا في يوم وشهد قوم أنهم وقفوا يوم النحر أجزأهم، والقياس أن لا يجزيهم اعتبارا بما إذا وقفوا يوم التروية، وهذا لأنه عبادة تختص بزمان ومكان، فلا يقع عبادة دونهما. وجه الاستحسان أن هذه شهادة قامت على النفي وعلى أمر لا يدخل تحت الحكم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[مسائل منثورة في الحج]
م: (مسائل منثورة) ش: أي هذه مسائل منثورة أي متفرقة أو مسائل شتى قاله الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي لم تدخل في الأبواب. وقال الأكمل: من عادة المصنفين أن يذكروا في آخر الكتاب ما شذ وندر من مسائل في الأبواب السالفة في فصل على حدة، تكثيرًا للفائدة ويترجموا عنه بمسائل منثورة أو مسائل شتى أو مسائل متفرقة أو مسائل لم تدخل في الأبواب.
م: أهل عرفة إذا وقفوا في يوم وشهد قوم أنهم وقفوا يوم النحر أجزأهم) ش: هذه المسألة من خواص " الجامع الصغير "، قوله أجزأهم أي وقوفهم حتى يتم حجهم به. صورة المسألة أن يشهد قوم أنهم رأوا هلال ذي الحجة في ليلة؛ لأن اليوم الذي وقفوا فيه اليوم العاشر. م: (والقياس أن لا يجزيهم اعتبارا بما إذا وقفوا يوم التروية) ش: يعني قياسًا على ما إذا وقفوا، يوم التروية وهو يوم الثامن من ذي الحجة. وشهد الشهود أنهم وقفوا في هذا اليوم، يعني يوم التروية حيث لا يجوز ثم أوضح وجه القياس بقوله. م: (وهذا لأنه) ش: أي لأن الوقوف. م: (عبادة تختص بزمان ومكان فلا يقع عبادة دونهما) ش: أي دون الزمان والمكان المعهودين، ويوجه المقيس عليه. قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح أنه يجزيهم فكذا هذا.
م: (وجه الاستحسان أن هذه شهادة قامت على النفي) ش: ولكن بقي جواز وقوفهم وجواز حجهم فلا يقبل؛ لأن المقصود من النية الإثبات. وبالنفي لا يحيط العلم ولا شهادة بدون العلم.
فإن قيل: لو ادعت امرأة أن زوجها قال لها أنت طالق، وادعى الزوج أنه استثنى بعد ذلك، فشهدوا على أنه لا استثنى يقبل، وكذا لو ادعت أنه لو قال: المسيح ابن الله، وقال الزوج: إنه وصل ذلك بقوله قول النصارى تقبل الشهادة أنه لم يقل قول النصارى. وهذا معنى قول.
قلنا: هذه الشهادة قامت على أمر شاهد معاين وهو هلال ذي الحجة قلنا وهو السكوت.
فإن قيل: هنا أيضًا قامت على أمر معين وهو هلال ذي الحجة.
قلنا: لا كذلك؛ لأن رواية الهلال لا تدخل تحت الحكم.
م: (وعلى أمر لا يدخل تحت الحكم) ش: أي وقامت أيضًا هذه الشهادة على أمر لا يدخل تحت(4/496)
لأن المقصود منها نفي حجهم، والحج لا يدخل تحت الحكم فلا تقبل، ولأن فيه بلوى عاما لتعذر الاحتراز عنه، والتدارك غير ممكن، وفي الأمر بالإعادة حرج بين، فوجب أن يكتفى به عند الاشتباه، بخلاف ما إذا وقفوا يوم التروية؛ لأن التدارك ممكن في الجملة بأن يزول الاشتباه في يوم عرفة، ولأن جواز المؤخر له نظير، ولا كذلك جواز المقدم. قالوا: ينبغي للحاكم أن لا يسمع هذه الشهادة ويقول قد تم حج الناس فانصرفوا؛ لأنه ليس فيها إلا إيقاع الفتنة. وكذا إذا شهدوا عشية عرفة برؤية الهلال، ولا يمكنه الوقوف في بقية الليل مع الناس أو أكثرهم لم يعمل بتلك الشهادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حكم القاضي؛ لأن البر من باب المنازعات، فصار كأنهم عهدوا بأنه لم يصل، فلا يجب على القاضي شيء. م: (لأن المقصود منها نفي حجهم، والحج لا يدخل تحت الحكم فلا تقبل) ش: أي الشهادة، وذلك لما ذكرنا. م: (ولأن فيه) ش: للزوجة بأن من الاستحسان أي في الخطأ في عرفة أو في الوقوف يوم عرفة أو في عدم جواز الحج. م: (بلوى عاما لتعذر الاحتراز عنه) ش: لأن تغيير هذا اللفظ يتعذر.
م: (والتدارك غير ممكن، وفي الأمر بالإعادة حرج بين، فوجب أن يكتفى به عند الاشتباه) ش: فيجعل عفوًا لئلا يكون تكليفًا بما ليس في الوسع. م: (بخلاف ما إذا وقفوا يوم التروية؛ لأن التدارك ممكن في الجملة بأن يزول الاشتباه في يوم عرفة) ش: يعني بالوقوف فيها. م: (ولأن جواز المؤخر له نظير) ش: كقضاء الصلاة وقضاء الصيامات فيجزيهم الوقوف يوم النحر. م: (ولا كذلك جواز المقدم) ش: فإنه لا نظير له في الشرع، فلا يجزيهم الوقوف بيوم التروية.
فإن قلت: له نظير آخر أيضًا، ألا ترى أن صلاة الفطر تقدم عن وقتها يوم عرفة.
قلت: هذا أمر مثبت بخلاف القياس، فلا يقاس عليه.
م: (قالوا) ش: أي العلماء وأصحاب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (ينبغي للحاكم أن لا يسمع هذه الشهادة ويقول قد تم حج الناس فانصرفوا؛ لأنه ليس فيها) ش: أي في هذه الشهادة. م: (إلا إيقاع الفتنة) ش: قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها» . وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - جاز للشهود أن يقضوا مع الإمام، ويجوز حجهم. م: (وكذا إذا شهدوا) ش: وفي بعض النسخ وكذلك أي وكذلك الحكم في عدم قبول شهادتهم أو شهدوا. م: (عشية عرفة برؤية الهلال) ش: صورته أن الشهود شهدوا في الطريق قبل أن يلحقوا عرفات عقبة عرفات وقالوا إن كنا رأينا الهلال، يعني هلال ذي الحجة، وهذا اليوم هو التاسع.
م: (ولا يمكنه) ش: أي والحال أن الإمام لا يمكنه. م: (الوقوف في بقية الليل مع سائر الناس أو أكثرهم لم يعمل بتلك الشهادة) ش: ويقفون من الغد بعد الزوال؛ لأنهم لما شهدوا وقد تعذر الوقوف، صار كأنهم شهدوا بعد الوقوف، فلا تسمع وإن كان يلحق الوقوف مع أكثر الناس(4/497)
قال: ومن رمى في اليوم الثاني الجمرة الوسطى والثالثة ولم يرم الأولى، فإن رمى الأولى ثم الباقيتين فحسن؛ لأنه راعى الترتيب المسنون. ولو رمى الأولى وحدها أجزأه) لأنه تدارك المتروك في وقته، وإنما ترك الترتيب. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجزيه ما لم يعد الكل؛ لأنه شرع مرتبا، فصار كما إذا سعى قبل الطواف أو بدأ بالمروة قبل الصفا. ولنا أن كل جمرة قربة مقصودة بنفسها، فلا يتعلق الجواز بتقديم البعض على البعض، بخلاف السعي؛ لأنه تابع للطواف؛ لأنه دونه، والمروة عرفت منتهى السعي بالنص فلا تتعلق بها البداية.
قال: ومن جعل على نفسه أن يحج ماشيا فإنه لا يركب حتى يطوف طواف الزيارة. وفي الأصل: خيره بين الركوب والمشي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولكن لا تلحقه الضعفة، فإن وقف جاز، وإلا فات الحج؛ لأنه ترك الوقوف مع العلم والقدرة، وإنما المعتبر قدرة الأكثر لا قدرة الأقل.
[رمى في اليوم الثاني الجمرة الوسطى والثالثة]
م: (ومن رمى في اليوم الثاني) ش: وفي أكثر النسخ قال: ومن رمى أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ". م: (الجمرة الوسطى والثالثة) ش: أي الجمرة الثالثة. م: (ولم يرم الأولى) ش: أي الجمرة الأولى. م: (فإن رمى الأولى ثم الباقيتين) ش: أي الجمرتين الباقيتين. م: (فحسن) ش: لمراعاة الترتيب المسنون وهو معنى قوله. م: (لأنه راعى الترتيب المسنون. ولو رمى الأولى وحدها أجزأه؛ لأنه تدارك المتروك في وقته، وإنما ترك الترتيب) ش: ولا يضره لأنه سنة.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجزيه ما لم يعد الكل؛ لأنه شرع مرتبا، فصار كما إذا سعى قبل الطواف أو بدأ بالمروة قبل الصفا. ولنا أن كل جمرة قربة مقصودة بنفسها، فلا يتعلق الجواز بتقديم البعض على البعض، بخلاف السعي؛ لأنه تابع للطواف؛ لأنه دونه) ش: لانفصاله من البيت، ولكنه من جنسه فيعاد تحقيقًا للتبعية. م: (والمروة عرفت منتهى السعي بالنص) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن الصفا والمروة من شعائر الله فابدءوا بما بدأ الله تعالى» فبدأ بالصفا، فلم يعتبر البداية بالمروة وهو معنى قوله. م: (فلا تتعلق بها البداية) ش: لا يقال: كل صلاة مقصودة بنفسها أيضًا لتعلق جوازها بغيرها، ومع هذا وجب الترتيب عندكم، ولأنا نقول ثبت ذلك بالنص، وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها» .
[جعل على نفسه أن يحج ماشيا]
م: (قال: ومن جعل على نفسه أن يحج ماشيا فإنه لا يركب حتى يطوف طواف الزيارة) ش: وعند الشافعي ومالك - رحمهما الله -، يلزمه المشي إلى أن يتحلل التحلل الثاني، وهو الرمي ثم لم يذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شيء من الكتب من أي موضع يبدأ بالمشي من النذر قيل من بيته وهو الأصح، وبه قال أصحاب الشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأنه هو المراد عرفًا، ولهذا كان الأفضل أن يحرم من بيته، وقيل من الميقات وبه قال عامة أصحاب الشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأنه يحرم من الميقات وقيل من أي موضع يحرم فيه.
م: (وفي الأصل) ش: أي في " المبسوط ". م: (خيره بين الركوب والمشي) ش: لأن الحج راكبًا(4/498)
وهذا إشارة إلى الوجوب، وهو الأصل؛ لأنه التزم القربة بصفة الكمال، فتلزمه بتلك الصفة، كما إذا نذر الصوم متتابعا.
وأفعال الحج تنتهي بطواف الزيارة، فيمشي إلى أن يطوفه. ثم قيل: يبتدئ المشي من حين يحرم، وقيل من بيته لأن الظاهر أنه هو المراد، ولو ركب أراق دما لأنه أدخل نقصا فيه، قالوا: إنما يركب إذا بعدت المسافة وشق عليه المشي، وإذا قربت والرجل ممن يعتاد المشي ولا يشق عليه ينبغي أن لا يركب.
ومن باع جارية محرمة قد أذن لها في ذلك فللمشتري أن يحللها ويجامعها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أفضل ويكره ماشيًا. م: (وهذا إشارة إلى الوجوب) ش: أي وفي " الجامع الصغير " أشار إلى وجوب المشي، وفي بعض النسخ وهذا إشارة إلى الوجوب. أي قوله: " لا يركب حتى يطوف طواف الزيارة " أشار إلى وجوب المشي؛ لأنه إخبار عن المجتهد، وإخباره يعتبر بإخبار الشرع؛ لأنه نائبه في بيان الأحكام. م: (وهو الأصل) ش: أي الوجوب هو الأصل. م: (لأنه التزم القربة بصفة الكمال، فتلزمه بتلك الصفة، كما إذا نذر بالصوم متتابعا) ش: يلزمه متتابعًا، ولكن إذا حج راكبًا يجزيه، لكن يلزمه الجزاء، فإذا ركب في الكل والأكثر يلزمه الدم، وفي الأقل تلزمه الصدقة بقدره من الكل من قيمة الشاة الوسط.
[أفعال الحج تنتهي بطواف الزيارة]
م: (وأفعال الحج) ش: يريد بالأفعال الأركان، لا مطلق الأفعال، فإن رمي الجمار وغيره من أفعاله. م: (تنتهي بطواف الزيارة، فيمشي إلى أن يطوفه) ش: أي طواف الزيارة؛ لأنه آخر الأركان في الحج. م: (ثم قيل: يبتدئ المشي من حين يحرم) ش: وعليه فتوى فخر الإسلام والإمام العتابي وغيرهما، وهو الصحيح. م: (وقيل من بيته) ش: أي يمشي من بيته. م: (لأن الظاهر أنه هو المراد) ش: وقد ذكرنا هذا عن قريب بما فيه من الخلاف. م: (ولو ركب أراق دما لأنه أدخل نقصا فيه) ش: أي في جعله على نفسه أن يحج ماشيا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول عند العجز.
م: (قالوا) ش: أي قال مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يشير به إلى بيان التوفيق بين رواية الأصل وبين رواية " الجامع الصغير "، ونقل فخر الإسلام البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير " عن الفقيه أبي جعفر الهندواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (إنما يركب إذا بعدت المسافة وشق عليه المشي، وإذا قربت) ش: أي المسافة والحال أن. م: (والرجل ممن يعتاد المشي ولا يشق عليه المشي ينبغي أن لا يركب) ش: وبهذا يحصل التوفيق بين روايتي الأصل و" الجامع الصغير ".
[باع جارية محرمة فهل للمشتري أن يجامعها]
م: (ومن باع جارية محرمة قد أذن) ش: البائع. م: (لها في ذلك) ش: أي في الإحرام. م: (فللمشتري أن يحللها ويجامعها) ش: وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي بعض نسخ " الجامع الصغير " أو يجامعها بلفظ، أو قال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير " يحتمل أن يكون عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الأولى من الرواية تدل على أن التحليل بأدنى محظورات الإحرام مثل قص الشعر وقلم الظفر والتطيب ونحو ذلك. والثانية تدل على أن(4/499)
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس له ذلك؛ لأن هذا عقد سبق ملكه، فلا يتمكن من فسخه، كما إذا اشترى جارية منكوحة. ولنا أن المشتري قائم مقام البائع. وقد كان للبائع أن يحللها، فكذا للمشتري، إلا أنه يكره ذلك للبائع لما فيه من خلف الوعد، وهذا المعنى لم يوجد في حق المشتري، بخلاف النكاح؛ لأنه ما كان للبائع أن يفسخه إذا باشر بإذنه، فكذا لا يكون ذلك للمشتري. وإذا كان له أن يحللها، لا يتمكن من ردها بالعيب عندنا، وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتمكن لأنه ممنوع عن غشيانها، وذكر في بعض النسخ أو يجامعها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التحليل بالواقعة، وقال في كتاب " المناسك " للمشتري أن يجامعها ولم يرد على ذلك، وهذا مذهبنا.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس له ذلك) ش: أي ليس للمشتري أن يحللها وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. م: (لأن هذا عقد سبق ملكه) ش: أي لأن إذن البائع لها بالإحرام عقد سبق ملك المشتري. م: (فلا يتمكن من فسخه) ش: لأن المشتري نزل منزلة البائع. م: (كما إذا اشترى) ش: أي اشترى رجل. م: (جارية منكوحة) ش: يعني مزوجة، فليس له فسخ النكاح؛ لأنه عقد سبق ملكه. م: (ولنا أن المشتري قائم مقام البائع. وقد كان للبائع أن يحللها) ش: لأن منافعها كانت مملوكة وخذله بعد الإذن. م: (فكذا للمشتري) ش: أن يحللها. م: (إلا أنه يكره ذلك) ش: أي التحلل. م: (للبائع لما فيه من خلف الوعد) ش: حيث وجد فيه الإذن. م: (وهذا المعنى) ش: أي خلف الوعد. م: (لم يوجد في حق المشتري، بخلاف النكاح) ش: جواب عما قاله زفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. م: (لأنه ما كان للبائع أن يفسخه) ش: أي أن يفسخ النكاح. م: (إذا باشر بإذنه) ش: أي بإذن المولى، وإنما لم يكن له أن يفسخ إذا كان بإذنه لما أن النكاح حق الزوج.
فقد تعلق حقه بإذن المالك، فلا يتمكن المالك من فسخه، وإن بقي ملكه لتعلق حق العبد به كالراهن ليس له ولاية الاستماع بالمرهون لتعلق حق المرتهن به، والمشتري قام مقامه بعد الشراء.
م: (فكذلك لا يكون ذلك) ش: أي حق الفسخ. م: (للمشتري) ش: أما هاهنا فقد اجتمع في الجارية حقان، حق الله في الإحرام، وحق المشتري في الاستمتاع، فيقدم حق العبد لحاجته على حق الله لغناه. م: (وإذ كان له) ش: أي للمشتري. م: (أن يحللها، لا يتمكن من ردها بالعيب عندنا) ش: لأن عيب الإحرام لا يرتفع بالتحلي. م: (وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتمكن لأنه ممنوع عن غشيانها) ش: أي من وطئها، وهذا عيب عنده فيرد به. م: (وذكر في بعض النسخ) ش: أي ذكر محمد في بعض نسخ " الجامع الصغير ". م: (أو يجامعها) ش: يعني بكلمة أو، وذلك في قوله: " ومن باع جارية محرمة أذن له في ذلك " فللمشتري أن يحللها ويجامعها. وذكر فيه بواو العطف وقد بينا هذا هناك مفصلًا.(4/500)
والأول يدل على أنه يحللها بغير الجماع بقص شعر أو بقلم ظفر، ثم يجامع، والثاني يدل على أنه يحللها بالمجامعة؛ لأنه لا يخلو عن تقديم مس يقع به التحلل، والأولى أن يحللها بغير المجامعة تعظيما لأمر الحج، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والأول) ش: أي قوله أن يحللها ويجامعها بواو العطف. م: (يدل على أنه يحللها بغير الجماع بقص شعرها أو بقلم ظفر، ثم يجامع، والثاني) ش: هو قوله أو يجامعها بكلمة أو. م: (يدل على أنه يحللها بالمجامعة؛ لأنه لا يخلو عن تقديم مس يقع به التحلل، والأولى أن يحللها بغير المجامعة تعظيما لأمر الحج، والله أعلم بالصواب) ش: وماله إليه صاحب " الهداية " بقوله، والأول ولم ير بعضهم الجواز للمجامعة الواقعة عن تقديم شيء يقع به التحلل فيصيبها بعد التحلل.
تم المجلد الرابع من تجزئة المحقق
يليه المجلد الخامس أوله: " كتاب النكاح "(4/501)
كتاب النكاح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب النكاح] [ما ينعقد به النكاح]
م: (كتاب: النكاح) ش: أي هذا الكتاب في بيان أحكام النكاح. وقال الكاكي: النكاح لغة الجمع والضم، ومن أمثال العرب: أنكحنا الفرى فسنرى، أي جمعنا بين حمار الوحشي الذكور والإناث فننظر ما يتولد منها فضرب مثلا لقوم يجتمعون على الأمر لا يدرون ما يصدر عنه. وحكى المبرد من البصريين عن الكوفيين أنه عبارة عن الجمع والضم، ويستعمل في الوطء لوجود الضم ويستعمل في العقد مجازا. قال الله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25] (النساء: الآية 25) . وقال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] (النور: الآية 32) ، والعقد موقوف على الإذن، ووطء الأيامى من بناتهن وأخواتهن حرام عليهم. وفي " شرح قاضي خان ": النكاح في اللغة والشرع حقيقة في الوطء مجاز في العقد. وقال الشافعي: إنه في الشرع عبارة عن العقد، لأنه تعالى حيثما ذكره في القرآن أراد به العقد، وهذا لا يصح، لأنه تعالى قال: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] (النور: الآية 3) . وقال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] (النساء: الآية 6) أراد به الوطء بالإجماع، وفي " شرح الأسبيجابي " النكاح لغة: الجمع المطلق، وشرعا: العقد بشرائطه. وقال فخر الإسلام: النكاح العقد الشرعي، ويذكر ويراد به الوطء، ثم قيل: إنه حقيقة فيهما لوجود معنى الضم فيهما. وقال فخر الإسلام: النكاح العقد الشرعي، والأصح أنه حقيقة في الوطء خاصة، لوجود معنى الضم فيه حقيقة، ولا يجوز أن يكون حقيقة في العقد؛ لأنه يؤدي إلى الاشتراك، وهو خلاف الأصل، وعليه فحول أهل اللغة. وفي " المبسوط ": النكاح لغة الوطء، ومنه قول الفرزدق:
التاركين على طهر نساءهم ... والناكحين بشط دجلة البقرا
يهجو بذلك قوما، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ناكح البهيمة ملعون» قال المطرزي: ثم قيل للتزويج نكاح لأنه سبب، ولما فرغ من بيان العبادات شرع في المعاملات؛ لأنها تالية لها إذ بها بقاء العابد ووجود العبادة، والبقاء بالكسب الحلال، والكسب الحلال يتوقف على معرفة المعاملات، ثم قدم النكاح وما يتبعه على سائر المعاملات، لأن فيه معنى العبادة فإن النكاح سنة الأنبياء والمرسلين، وفيه تحصيل نصف الدين، وقد تواترت الأخبار والآثار في توعد من رغب عنه وتحريض من رغب فيه، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس منى» ... " الحديث.(5/3)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وزاد ابن ماجه من رواية بن ميمون عن القاسم عن عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة» رواه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر، «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعكاف بن وداعة: " لك أربع سنن من المرسلين: الحياء، والتعطر، والسواك، والنكاح» . رواه الترمذي من حديث أبي أيوب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال الترمذي: حسن غريب.
«وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعكاف بن وداعة: " هل لك زوجة؟ " قال: لا قال: " ولا جارية " قال: لا قال: " وأنت موسر " قال: وأنا موسر، قال: " أنت إذا من إخوان الشياطين إن سنتنا النكاح، شراركم عزابكم» .
هكذا نقله السروجي، ثم قال: رواه أحمد بن حنبل وابن عبد البر، وذكره جار الله في " الفائق " وزاد: «فإن كنت من رهبان النصارى، فالحق بهم، وإن كنت منا فسنتنا النكاح» ، انتهى.
قلت: نقله شيخنا زين الدين العراقي في شرحه للترمذي، وقال: وحديث عكاف، رواه أبو جعفر العقيلي في كتابه " الضعفاء " بإسناده إلى عطية بن بشر الهلالي «عن عكاف بن وداعة الهلالي أنه أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " يا عكاف لك امرأة؟ " قال: لا، قال: " فجارية؟ "، قال لا، قال: " وأنت صحيح موسر؟ "، قال: نعم، قال: " فأنت إذا من إخوان الشياطين إن كنت من رهبان النصارى فالحق بهم، وإن كنت منا فسنتنا النكاح " [ ... ] والذي نفسي بيده ما للشياطين سلاح أبلغ. وقال بعضهم: أنفذ في الصالحين من الرجال والنساء من ترك النكاح، وابن وداعة أنهم صواحب أيوب وداود ويوسف وكرسف، قال: بأبي يا رسول الله وما كرسف؟، فقال: " رجل عبد الله على ساحل البحر خمسمائة عام "(5/4)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال بعضهم: ثلاثمائة عام يقوم الليل ويصوم النهار، فمرت به امرأة فأعجبته فتبعها وترك عبادة ربه وكفر بالله فتداركه الله عز وجل لما سلف فتاب عليه، فقال: بأبي أنت وأمي زوجني يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قل زوجتك باسم الله والبركة زينب بنت كلثوم الحميرية» .
وقال القاضي: عكاف بن وداعة الهلالي أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالزواج، والحديث قوي، ثم قال شيخنا زين الدين: رواه أحمد في " مسنده "، قال: حدثنا عبد الرزاق أنبأنا محمد بن راشد، عن مكحول، عن رجل عن أبي ذر قال: «دخل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل اسمه عكاف بن بشر التميمي فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هل لك من زوجة؟» " وساق الحديث بكماله، وروى البيهقي في حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى» .
وروى ابن عدي في " الكامل " من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لو لم يبق من أجلي إلا يوما واحد لقيت الله تعالى بزوجة فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يقول «شراركم عزابكم» ، وروى البغوي في " معجم الصحابة " من حديث أبي نجيح، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قدر على أن ينكح فلم ينكح فليس منا» .
وابن نجيح هذا ذكره البغوي وابن عبد البر في الصحابة، وروى الطبراني من حديث ابن موسى: قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تزوجوا فإن التزوج خير من عبادة ألف سنة» .
قلت: ذكره صاحب " الفردوس ".
بهذه الأحاديث أخذت الظاهرية، حيث قالوا: النكاح فرض عين حتى إن من قدر على الوطء، والإنفاق يأثم بتركه، واختلف أصحابهم فقيل: فرض كفاية وبه قال بعض أصحاب الشافعي.
وقيل: مستحب وبه قال بعض أصحاب الشافعي. وقيل: سنة مؤكدة، وقال بعضهم: واجب على الكفاية. وفي " المبسوط ": النكاح سنة مستحب في قول جمهور العلماء. وفي " المحيط " سنة مؤكدة. وفي " المنافع " قوله: من قال إنه فرض كفاية عند المتأخرين من مشايخنا، وقيل: وهو قول الكرخي. وفي " البدائع ": النكاح فرض حالة التوقان وخوف(5/5)
قال: النكاح ينعقد بالإيجاب والقبول بلفظين يعبر بهما عن الماضي؛ لأن الصيغة وإن كانت للإخبار وضعا فقد جعلت للإنشاء شرعا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوقوع في الزنا بلا خلاف.
وفي " المبسوط ": لا يسعه تركه حينئذ. وقال النسفي: النكاح سنة، يعني في حال الاعتدال، وعند التوقان يجب، وهو غلبة الشهوة، وقالوا: حالة الجور مكروه، لأنه لا يظهر المصالح المطلوبة من النكاح في حالة الجور.
فإن قلت: روي عن حذيفة _ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - _ قال: إذا كان سنة خمس ومائة فلأن يربي أحدكم جروا كلبا خير له من أن يربي ولد المرء، وروي أيضا: خيركم الذي لا أهل له ولا ولد.
قلت: قال ابن حزم: وهما موضوعان؛ لأنهما من رواية أبي عاصم، رواه الجراح العسقلاني، لا يحتج به، وبيان وضعهما أنه لو استعمل الناس ما فيهما من ترك النسل لبطل الإسلام والجهاد والدين، وغلب أهل الكفر، فيظهر رده بلا شك، انتهى كلامه.
م: (قال: النكاح ينعقد بالإيجاب والقبول) ش: أراد به أن النكاح ينعقد بالعقد الشرعي الذي يوجب حل المرأة بنفسه، وإنما قيد بنفسه احترازا عن البيع، فإنه يوجب حلها بواسطة ملك الرقبة والعقد والربط، يقال: عقد الحبل إذا ضم أحد طرفيه بالآخر وهي العقدة، ومنها عقدة النكاح والربط. والانعقاد مطاوعة ليصير كلام أحد العاقدين منضما إلى الآخر حكما، ويحصل تركيب شرعي له آثار مخصوصة عند وجود الشرائط، وأراد بالإيجاب إخراج الممكن من الإمكان إلى الوجود على ما هو المعروف عند المتكلمين، لا الإيجاب الذي يعاقب بتركه.
وقلنا: زوجت وتزوجت آلة انعقاده، وقوله: ينعقد بالإيجاب إشارة إلى هذا لأن الباء تدخل على الآلة كما يقال: قطعت بالسكين وكتبت بالقلم، وكذا قولهم: البيع ينعقد بكذا، يعنون به العقد الشرعي الذي يوجب الملك في المحل.
م: (بلفظين) ش: قيد باللفظين ليخرج الكتابة، فإنه لو كتب رجل على شيء لامرأة زوجيني نفسك، فكتبت المرأة على ذلك الشيء عقيبه زوجت نفسي منك، لا ينعقد النكاح وبه قال الشافعي ومالك وأحمد.
م: (يعبر بهما) ش: أي يبين بهما لأن التعبير والعبارة البيان م: (عن الماضي) ش: أي عن صيغة الفعل الماضي بأن تقول المرأة: زوجت نفسي منك، ويقول الرجل: قبلت م: (لأن الصيغة وإن كانت للإخبار وضعا) ش: أي للإخبار في أصل الوضع، لأن الإخبار إظهار ما كان أو سيكون لا لإثبات ما لم يكن. لأن قولك أقمت لا يوجب القيام. وكذلك قولك: تزوجت لا يثبت التزويج وضعا ولغة م: (فقد جعلت) ش: أي الصيغة. م: (للإنشاء شرعا) ش: أي من حيث الشرع: لأن الإنشاء إثبات أمر لم يكن.(5/6)
دفعا للحاجة.
وينعقد بلفظين يعبر بأحدهما عن الماضي وبالآخر عن المستقبل مثل أن يقول: زوجني فتقول: زوجتك، لأن هذا توكيل بالنكاح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإنما جعلت م: (دفعا للحاجة) ش: لأن الحاجة كانت متحققة في الجاهلية، وكانت لهم أنكحة مقدرة، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح» ، فقدرها الشارع، وإنما اختير لفظ الماضي للإنشاء؛ لأنه يقتضي سبق الوجود، فيكون أدل على الوجود فصار الوجود حقا له، والفرق بين الإنشاء والإخبار أن الإنشاء سبب لمدلوله وليس الإخبار سببا لمدلوله، ولأن الإنشاء يتبعه مدلوله، والإخبار يتبع المدلول، ولأن الإنشاء لا يحتمل التصديق والتكذيب، والإخبار يحتملها.
م: (وينعقد بلفظين يعبر بأحدهما عن الماضي والآخر عن المستقبل) ش: قال الإمام حميد الدين: ينظر الانعقاد بالماضي والمستقبل؛ مثل أن يقول الرجل: إني تزوجت وقالت المرأة زوجت نفسي منك، قد صح النكاح، ويكون بلفظ المستقبل تبعا للماضي، وما ورد في الكتاب مثل قوله: م: (مثل أن يقول) ش: أي الرجل م: (زوجني فتقول) ش: أي المرأة م: (زوجتك) ش: قال حميد الدين: قيل: إنه غير صحيح؛ لأن قوله: زوجني توكيل، فلا يكون معطى العقد، قال والنظير الواضح ما قلنا.
ويجاب: بأن الواحد يتولى طرفي العقد في النكاح دون البيع وهو معنى قوله: م: (لأن هذا) ش: أي قوله زوجني م: (توكيل بالنكاح) ش: والولي الواحد يتولى طرفي النكاح على ما نبينه إن شاء الله تعالى. والحاصل أن قوله زوجتك بمنزلة الإيجاب والقبول، والتوكيل بمنزلة التحصين، والواحد يتولى طرفي العقد، لكن قوله زوجتك لا يكون بمنزلة شطري العقد، إلا بقوله: زوجني؛ لأن به يصير وكيلا، فصار كأنه شطر العقد استحسانا.
والفرق بين النكاح والبيع أن الحقوق في البيع تتعلق بالوكيل، والوكيل بالنكاح ليس كذلك لأنه لا يطالب بتسليم المهر ولا غيره، وفي " شرح الأسبيجابي ": قدرة الزوج على الرد يفضي إلى الإضرار بها وإلحاق العار والشنار، بقبيلتها؛ لأنهم إذا أوجبوا العقد عند قوله: _ زوجني _ بأن قال الولي: زوجتك مثلا لو لم يتم العقد بهذا جاز للزوج أن يرجع ويلحق بالولي عار وشنار وهذا لا يجوز، لأنه يقال: زوجها ابنه فلم يقبله بخلاف البيع حيث لا عار في رده، وكذا لو قال الزوج: جئتك لتزوجني ابنتك، فقالت ابنة الرجل قد زوجتك صح النكاح ولزم، وكذا لو قال لامرأة: أتزوجك على ألف درهم، فقالت: قد تزوجتك على ذلك صح، لأن النكاح لا يحصره اليوم. وفي " خزانة الأكمل ": أتزوجك بكذا، أو أخطبك على كذا، فقالت: قد زوجتك نفسي صح، وهو استحسان، بخلاف البيع والخلع، ذكره السرخسي.(5/7)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المرغيناني ": ينعقد بقوله: زوجتك ويقول الآخر قبلت، أو قال: أتزوجك فقالت قد قبلت، ولو قال: خطبتك بألف فقالت زوجت نفسي منك كان نكاحا. وفي الخبر المروي عن أبي حنيفة قال زوجني ابنتك، فقالت: قد تزوجتك صح، قال: قد زوجتك بنتي بألف، فقال: قبلت، وسكت عن المهر صح، وإن قال قبلت ولا أقبل المهر لا يصح، لأنه رد، وعن أبي حفص الكبير يصح، لأن المال في النكاح تبع. وقال المرغيناني: قال: زوجني ابنتك فقال: ارفعها وانصبها حيث شئت بحضرة الشهود لا ينعقد.
وقال الإمام محمد بن الفضل: ينعقد قال: زوجت ابنتي ولم يزد على هذا أبو الصغير فقبلت يقع للأب، إلا أن يقول: قبلت لابني وهذا يدل على أن من قال: بعت هذا فقال الآخر: قبلت أو اشتريت صح، وإن لم يقل: إن منك إذا كان منهما مقدمات البيع، قالت: تزوجتك على كذا إن أجاز أبي أو رضي فقال: قبلت لا يصح، ولو كان أبوها حاضرا يسمع فقال: أجزت أو رضيت جاز، ولو قالت: زوجت نفسي منك فقال: قبلت جاز.
وفي " الذخيرة ": صرت امرأة لي، فقالت: نعم، أو صرت، اختار المشايخ أنه ينعقد، وفي " جوامع الفقه ": لو قال: هذه زوجتي بحضرة الشهود لا يصح على المختار قضاء ويصح بينه وبين الله. ولو قال: تزوجتك إن رضيت أو رضي فلان وهو في المجلس فقالت: رضيت أو قال: رضيت جاز.
وفي " القنية ": [لو] قام أحد الزوجين قبل القبول بطل، وفي بطلان البيع روايتان، وفي " البدائع ": والقول في القبول ليس بشرط عندنا خلافا للشافعي. له بنت واحدة وقال زوجتك بنتي صح، وإن كان له بنتان لم يصح تزوج حاضرة منتقبة لم يعرفها الشهود ولم يذكروا اسمها ونسبها يجوز إلا عند البصري، له بنت واحدة اسمها فاطمة فقال: زوجتك بنتي عائشة لم يصح إلا أن يقول: عائشة هذه، لأن الاسم لغو في المشار إليها. تزوج وامرأة في بيت فقبلت، وليس معها غيرها فسمعوا كلامها صح، وإن كان معها غيرها لم يصح إلا إذا عرفوا كلامها، سميت في الصغر، وفي الكبر باسم زوجت بالأشرف.
قالت: زوجت نفسي بعد انقضاء عدتي لا يصح، وكما لا يصح تعليق النكاح بالشرط لا يجوز إضافته إلى وقت مستقبل. له بنتان أيم وذات زوج، فقال: زوجتك بنتي ولم يسمها صح زوجت نفسها منه فلم يقبل شيئا بل دفع إليه المهر في المجلس فهو قبول. قال برهان الدين السمرقندي، وبرهان الدين صاحب " المحيط ". وقال القاضي بديع الدين: لا ينعقد. قال لامرأة: السلام عليك يا زوجتي، فقالت: السلام عليك يا زوجي، لا ينعقد.
ذكر علي السعدي: ويصح نكاح الهازل والملاعب وبه قال ابن حنبل وهو المشهور من(5/8)
وينعقد بلفظ النكاح والتزويج والهبة والتمليك والصدقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مذهب مالك ذكره في " الذخيرة "، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث هزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة» رواه الترمذي، وهو حجة على الشافعي في النكاح.
قلت: رواه أبو داود أيضا وفيه أن طلاق الهازل ونكاحه ورجعته مؤاخذ به، ولا يلتفت إلى قوله كنت هازلا ولا يدين أيضا فيما بينه وبين الله عز وجل. وقد ذهب بعض المالكية إلى أن نكاح الهازل غير صحيح، فقال علي بن زياد منهم: لا يجوز نكاح هزل ولا لعب، ويفسخ قبل البناء وبعده، وعن ابن القاسم نجيزه، وقال أبو بكر ابن اللباد منهم: إنه صحيح لازم.
قال شيخنا زين الدين: وهو قول عامة العلماء، وروي ذلك عن ابن مسعود، وعطاء، وهو قول أبي جعفر، والشافعي.
[انعقاد النكاح بلفظ النكاح والتزويج والهبة والتمليك والصدقة]
م: (وينعقد) ش: أي النكاح م: (بلفظ النكاح) ش: بأن يقول أنكحني، فيقول: نكحتك، وفي بعض النسخ بلفظ الإنكاح بأن يقول: أنكحني ابنتك فيقول: أنكحتك م: (والتزويج) ش: أي وبلفظ التزويج عن تزوجني فيقول: تزوجتك.
م: (والهبة) ش: أي وبلفظ الهبة، بأن يقول: هبي لي نفسك، فتقول: وهبت، أو يقول لأبيها: هب لي ابنتك، فيقول: وهبت م: (والتمليك) ش: أي وبلفظ التملك بأن يقول: ملكني بنتك، فيقول: ملكت.
م: (والصدقة) ش: أي وبلفظ الصدقة بأن يقول: تصدقي لي بنفسك، فتقول: تصدقت، وبهذا كله قال مجاهد والثوري والحسن بن صالح ومالك وأبو ثور وأبو عبيد وداود.
وفي " المبسوط " و " المحيط ": الألفاظ التي ينعقد بها النكاح نوعان: صريح وكناية، فالصريح: لفظ النكاح والتزويج عرفا وشرعا وكناية ثلاثة أنواع: ما ينعقد به، وما لا ينعقد به وما اختلف فيه.
وأما الأول: فالتمليك والهبة والصدقة وغيرها.
والثاني: وهو ما لا ينعقد به الإحلال والإباحة والتمتع والخلع والإقالة والإجازة بالرأي والرضا والشركة والإعارة والكتابة والولاء والإيداع.
والثالث: ما اختلفوا فيه البيع والشراء ولو قالت: بعتك نفسي أو قال الأب: بعتك ابنتي بكذا، أو قال الرجل: اشتريتك بكذا، فأجابت بنعم، فقد اختلف فيه المشايخ، وكان أبو القاسم(5/9)
وقال الشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _: لا ينعقد إلا بلفظ النكاح والتزويج؛ لأن التمليك ليس حقيقة فيه، ولا مجازا عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البلخي يقول بجوازه، وإليه أشار محمد في كتابه " الحدود " وقال: إذا زنى بامرأة ثم قال: تزوجتها واشتريتها فسوى بينهما، وقال: يسقط عنه الحد فيهما فجعله دعوى النكاح، وهو رواية عن أبي جعفر وهو الصحيح ذكره في " الذخيرة " وغيره.
وقال أبو بكر الأعمش: لا ينعقد بلفظ البيع، وفي " جوامع الفقه ": وينعقد النكاح بكل لفظ شرع لتمليك العين بغير نية إذا ذكر معه المهر كالبيع والهبة والصدقة، وإن لم يذكر المهر ينعقد بالنية. وفي " البدائع " و " التحفة ": ينعقد عند الكرخي بلفظ الإجارة والإعارة، وعند عامة الأصحاب لا ينعقد بهما، وفي القرض قيل: لا ينعقد، وقيل ينعقد به لأنه يفيد ملك الرقبة للمستقرض.
وفي " المرغيناني ": ينعقد على قياس قول أبي جعفر ومحمد، لأنه يفيد الملك عندهما بالقرص، وبلفظ السلم قيل: لا ينعقد، وقيل: ينعقد به، لأنه يفيد ملك الرقبة، وينعقد السلم في الحيوان حتى لو قبضه ملكه ملكا فاسدا. واختلفوا في الصرف، قيل لا ينعقد به وقيل ينعقد ولا ينعقد بالوصية، وعن الطحاوي ينعقد وفي الرهن اختلاف المشايخ وقال الجرجاني: لا ينعقد بالإقالة، لأنها موضوعة للفسخ، وكذا الصلح لكونه لإسقاط الحق لا لابتداء العقد.
وقال السرخسي: ينعقد بلفظ الصلح والعطية، وروى بشر عن أبي يوسف أنه ينعقد بلفظ الرد، صورته: طلق امرأة بائنا، فقالت: رددت نفسي عليك بكذا كان نكاحا إذا قبل، وفي " الذخيرة " قال: أتزوجك متعة لا ينعقد.
وفي " الهارونيات " عنه ينعقد ويلغو لفظ المتعة، وفي " المنتقى ": أتزوجك أمتعة فهو باطل وفي " المرغيناني " أتمتع بك مدة كذا لا ينعقد إلا إذا كانا لا يعيشان إلى تلك المدة غالبا كمائتي سنة وثلاثمائة سنة لأنه مؤبد حكما، وقال المرغيناني: النكاح لا ينعقد بالجعل.
قال في " الذخيرة ": هذا ليس بصحيح، وفي " نوادر ابن رستم ": عن أبي يوسف إذا قالت امرأة لرجل: جعلت نفسي لك بألف بحضرة الشهود فقال: قبلت يكون نكاحا، ولو عقداه بلفظ يفهمان بكونه نكاحا ولا يعلمان به اختلف المشايخ فيه.
م: (وقال الشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _: لا ينعقد إلا بلفظ النكاح والتزويج) ش: وبه قال أحمد، وهو قول سعيد بن المسيب وعطاء والزهري م: (لأن التمليك ليس حقيقة فيه) ش: أي في النكاح أو في التزويج، لأنه لو كان حقيقة فيهما يلزم الترادف وهو خلاف الأصل.
م: (ولا مجاز عنه) ش: أي عن النكاح أو التزويج. لأن المجاز يقتضي المشاكلة في المعاني(5/10)
لأن التزويج للتلفيق، والنكاح للضم ولا ضم ولا ازدواج بين المالك والمملوكة أصلا.
ولنا: أن التمليك سبب لملك المتعة في محلها بواسطة ملك الرقبة وهو الثابت بالنكاح والسببية طريق المجاز وينعقد بلفظ البيع هو الصحيح لوجود طريق المجاز، ولا ينعقد بلفظة الإجارة في الصحيح؛ لأنه ليس بسبب لملك المتعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولم يوجد م: (لأن التزويج للتلفيق) ش: يقال لفقت الثوبين ولفقت أحدهما بالآخر إذا لازمت بينهما بالخياطة. ويقال: أحاديث ملفقة أي ضم بعضها إلى بعض. م: (والنكاح للضم ولا ضم ولا ازدواج بين المالك والمملوكة أصلا) ش: ولهذا لو اشترى منكوحة يفسد النكاح، ولو كان بينهما ملاءمة لما فسد.
م: (ولنا أن التمليك سبب لملك المتعة) ش: يعني تمليك الرقبة سبب لملك المتعة إذا صارت فعل المتعة لإفضائه إليه، وملك المتعة وهو الثابت بالنكاح والسببية طريق المجاز، وقيد بقوله م: (في محلها) ش: أي في محل المتعة احترازا عن تمليك الغلمان والبهائم والأخت من الرضاعة والأمة المجوسية؛ فإنها ليست محلا لملك المتعة.
م: (بواسطة ملك الرقبة) ش: يتعلق بقوله: التمليك سبب لملك المتعة م: (وهو الثابت) ش: أي ملك الرقبة وهو الثابت م: (بالنكاح) ش: فكان بينهما اتصال باعتبار السبب م: (والسببية طريق المجاز) ش: وإن لم يكن اتصالا من جهة المعنى. فصحت الاستعارة فيكون من باب إطلاق السبب على المسبب، قال الأكمل: واعترض بأن ملك الرقبة إذا ورد على ملك النكاح أفسده، فكيف يثبت النكاح به. وأجيب: بأن إفساد النكاح ليس من حيث تحريم الوطء لا محالة، بل من حيث ضرب الملكية لها في موجب النكاح من طلب القسم وتقرير النفقة والسكنى والمنع من العزل، وحينئذ لا منافاة بين ما يثبته وينفيه فجازت الاستعارة.
م: (وينعقد) ش: أي النكاح م: (بلفظ البيع) ش: بأن قالت المرأة: بعتك نفسي، أو قال الأب: بعت بنتي منك، وكذا بلفظ الشراء قال: اشتريتك بكذا، فأجاب بنعم م: (هو الصحيح) ش: يعني انعقاد النكاح بلفظ البيع هو الصحيح. واحترز به عن قول أبي بكر الأعمش، فإنه قال: لا ينعقد بلفظ البيع، وقد ذكرناه عن قريب م: (لوجود طريق المجاز) ش: لأن الملك بسبب ملك المتعة في محل فيجوز استعارته.
م: (ولا ينعقد بلفظ الإجارة) ش: بأن تقول امرأة: أجرت نفسي منك بكذا، أو يقول الأب أجرت ابنتي بكذا ونوى به النكاح، واعلم أن الشهود الذين حضروا ذلك فإنه لا يجوز م: (في الصحيح) ش: احترازا عن قول الكرخي، فإنه قال: ينعقد بها.
م: (لأنه) ش: أي لأن لفظ الإجارة م: (ليس سببا لملك المتعة) ش: لأن الإجارة لا تنعقد إلا مؤقتة والنكاح لا ينعقد إلا مؤبدا، وبينهما تغاير على سبيل المنافاة، فأنى تصح الاستعارة.(5/11)
ولا بلفظ الإباحة والإحلال والإعارة لما قلنا، ولا بلفظ الوصية لأنها توجب الملك مضافا إلى ما بعد الموت. قال: ولا ينعقد نكاح المسلمين إلا بحضور شاهدين حرين عاقلين بالغين مسلمين رجلين، أو رجل وامرأتين عدولا كانوا أو غير عدول أو محدودين في القذف. قال _ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - _: اعلم أن الشهادة شرط في باب النكاح لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا نكاح إلا بشهود» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الشهادة في النكاح]
م: (ولا بلفظ الإباحة) ش: أي ولا ينعقد النكاح أيضا بلفظ الإباحة م: (والإحلال والإعارة لما قلنا) ش: أنه ليس سببا للملك، أما الإباحة، والإحلال، فإن من أحل، أو أباح طعاما لغيره لا يملكه، وإنما يتلفه على ملك المبيح.
وأما الإعارة إنها تملك المنفعة بغير عوض، فلا توجب ملكا يستفاد به ملك المتعة م: (ولا بلفظ الوصية) ش: أي ولا ينعقد أيضا بلفظ الوصية بأن يقول الأب أوصيت لك بابنتي م: (لأنها) ش: أي لأن الوصية م: (توجب الملك مضافا إلى ما بعد الموت) ش: فلا مناسبة بينهما، فلا تصح الاستعارة.
وعن الكرخي لو قال: أوصيت لك بابنتي الآن، فإنه ينعقد أو قال أوصيت لك بضع جاريتي في الحال بكذا لو قبل الآخر ينعقد النكاح. واعلم أن الاعتبار لهذه الألفاظ ينعقد بشبهة فيسقط به الحد، ويجب به أقل من المسمى ومن مهر المثل عند الدخول، كذا في " المبسوط ".
م: (قال: ولا ينعقد نكاح المسلمين إلا بحضور شاهدين) ش: الشهادة في النكاح شرط عندنا، وهو مذهب سعيد بن المسيب وجابر بن زيد والحسن البصري وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري والأوزاعي وقتادة والشافعي وأحمد، حكاه ابن المنذر في " الأشراف ".
وقال عبد الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون وعبد الله بن الحسن وأبو ثور يجوز من غير شهادة [ ... ] ، وكذا فعل الحسن بن علي وابن زيد _ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - _.
وبه قال ابن أبي ليلى وعثمان البتي ذكره السرخسي، وقالت طائفة: يجوز بغير شهود إذا أعلنوه وهو قول الزهري ومالك وأهل المدينة، ثم إنه قيد شهادة الشاهدين بتوصيفهما بقوله: م: (حرين عاقلين بالغين مسلمين رجلين، أو رجل وامرأتين، سواء كانوا عدولا أو غير عدول أو محدودين) ش: أي وكان الشاهدان محدودين م: (في القذف) ش: ثم يذكر ما في هذه الأوصاف للشهود بما فيه الخلاف والتعليل.
م: (قال) ش: أي في المصنف: م: (_ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - _: اعلم أن الشهادة شرط في باب النكاح لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا نكاح إلا بشهود» ش: هذا غريب بهذا اللفظ، وينبغي أن يستدل بما رواه ابن حبان في " صحيحه " من حديث الزهري عن عروة عن عائشة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - _ قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، وما كان من(5/12)
وهو حجة على مالك _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ في اشتراط الإعلان دون الشهادة. ولا بد من اعتبار الحرية فيهما؛ لأن العبد لا شهادة له لعدم الولاية، ولا بد من اعتبار العقل والبلوغ، لأنه لا ولاية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النكاح على غير ذلك فهو باطل، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» .
قال: ولا يصح في ذكر الشاهدين غير هذا الخبر، وقال الأكمل: واعترض بأنه خبر واحد فلا يجوز تخصيص قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] (النساء: الآية 3) ، وغيره من الآيات وأجاب الإمام فخر الإسلام بأن هذا حديث مشهور تلقته الأمة بالقبول فيجوز الزيادة على كتاب الله.
قلت: هذا فيه نظر لا يخفى م: (وهو) ش: أي الحديث المشهور م: (حجة على مالك في اشتراط الإعلان دون الإشهاد) ش: هذا الحديث لم يثبت بهذا اللفظ، فكيف يكون حجة على مالك. نعم حديث عائشة المذكور حجة عليه.
واحتج مالك بما رواه الترمذي: حدثنا أحمد بن منيع عن يزيد بن هارون عن عيسى بن ميمون عن القاسم عن عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالغربال» وقال: حسن غريب وعيسى بن ميمون ضعيف في الحديث، وإن سلمنا صحة هذا الحديث فنقول: الإعلان يحصل بحضور الشاهدين، ولو شرط كتمان العقد مع حضور شاهدين صح العقد عندنا، وبه قال الشافعي، والخطابي وابن المنذر والظاهرية. وقال مالك: يفرق بينهما.
م: (ولا بد من اعتبار الحرية فيهما) ش: أي في الشاهدين م: (لأن العبد لا شهادة له لعدم الولاية) ش: والشهادة من باب الولاية.
واعترض بأن الولاية عبارة عن نفاذ القول على الغير شرعا لو أبى، وذلك إنما يحتاج عند الأداء، وكلامنا في حالة الانعقاد، فكما ينعقد بشهادة المحدودين في القذف ينعقد بشهادة العبدين؛ إذ الولاية لا مدخل في هذا الحال.
وأجيب: بأن الأداء يحتاج إلى ولاية متعدية وليست بمراد هنا، وإنما المراد بها الولاية القاصرة تعظيما لأمر النكاح، كاشتراط أصل الشهادة.(5/13)
بدونهما، ولا بد من اعتبار الإسلام في أنكحة المسلمين؛ لأن لا شهادة للكافر على المسلم.
ولا يشترط وصف الذكورة حتى ينعقد بحضور رجل وامرأتين، وفيه خلاف الشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ وستعرف في الشهادات إن شاء الله تعالى. ولا تشترط العدالة حتى ينعقد بحضرة الفاسقين عندنا، خلافا للشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا بد من اعتبار العقل والبلوغ، لأنه لا ولاية بدونهما) ش: أي بدون العقل والبلوغ، ولا خلاف في اشتراطهما في الشهادة، وإنما الخلاف في وصف الذكورة والعدالة على ما يأتي عن قريب إن شاء الله تعالى.
م: (ولا بد من اعتبار الإسلام في أنكحة المسلمين؛ لأنه لا شهادة للكافر على المسلم) ش: يعني من باب الولاية، ولا ولاية للكافر على المسلم، وفيه النظر الذي مر أنه ليس المراد به الأداء حتى تكون الولاية شرطا.
والجواب: إنا قد ذكرنا أن الشهادة وظيفة، إنما كانت تعظيما، ولا تعظيم لشيء بسبب حضور الكفار.
[شروط شهود النكاح]
م: (ولا يشترط وصف الذكورة حتى ينعقد بحضرة رجل وامرأتين) ش: وقال الشافعي وداود وأصحابه واختاره ابن حزم وجوزه بشهادة أربع من النساء م: (وفيه خلاف الشافعي) ش: فإن عنده لا يجوز فيه شهادة النساء لدلالة قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» .
فإن لفظ شاهدين يقع على ذكرين أو ذكر وأنثى، والثاني غير مراد بالإجماع فيتعين الأول.
قلنا: شهادة النساء حجة أصلية بالنص، لكن فيه نوع شبهة باعتبار صورة البدلية والنكاح إنما يثبت بالشبهة.
م: (وستعرف) ش: أي خلاف الشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ م: (في الشهادات إن شاء الله تعالى) ش: فإنه وعد خلاف الشافعي في كتاب الشهادة، وسيجيء إن شاء الله عز وجل.
م: (ولا تشترط العدالة) ش: أي في شهود النكاح م: (حتى ينعقد) ش: أي النكاح م: (بحضرة الفاسقين عندنا، خلافا للشافعي) ش: فإنه يقول: لا ينعقد بحضرة الفاسقين، وبه قال أحمد، وقال إمام الحرمين في " النهاية ": لا ينعقد بحضور الفاسقين، لأن الشهادة فيه مقبولة معنى، وهو صون العقد عن الجحود لأن العقد لا يثبت بشهادتهما، انتهى.
هذا باطل فالمستورين، فإنه لا يثبت بشهادتهما عند الحجة، ويصح العقد بحضورهما(5/14)
له أن الشهادة من باب الكرامة، والفاسق من أهل الإهانة. ولنا أنه من أهل الولاية، فيكون من أهل الشهادة، وهذا لأنه لما لم يحرم الولاية على نفسه لإسلامه لا يحرم على غيره، لأنه من جنسه، ولأنه صلح مقلدا فيصلح مقلدا وكذا شاهدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبابني الزوجين أو ابني أحدهما على الأصح ولا يثبت بهما.
م: (له) ش: أي للشافعي م: (أن الشهادة من باب الكرامة) ش: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أكرموا الشهود، فإن الله يحيي بهم الحقوق» م: (والفاسق من أهل الإهانة) ش: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا لقيت الفاسق فألقه بوجه مقهور» ، ولأن كلامه محتمل الصدق والكذب، ولا يترجح صدقه لعدم عدالته، إذ العدالة هي المرجح على ما عرف، فإذا فات المرجح بقي محتملا فلا يصح حجة.
م: (ولنا أنه) ش: أي الفاسق م: (من أهل الولاية) ش: لإسلامه في نفسه م: (فيكون من أهل الشهادة) ش: لأنه إذا كان من أهل الولاية على نفسه يكون من أهل الولاية على غيره، وهي الشهادة.
م: (وهذا) ش: إشارة إلى جواب عما يقال: الولاية على نفسه ولاية قاصرة، فلا نسلم أن من كان من أهل الولاية على نفسه كان من أهل الشهادة، لأنها متعدية إلى غيره.
وتقرير الجواب أن يقال: هذا الذي قلنا إن الفاسق من أهل الشهادة، لأنه من أهل الولاية م: (لأنه) ش: أي لأن الفاسق م: (لما لم يحرم الولاية على نفسه لإسلامه) ش: أي لكونه مسلما م: (لا يحرم) ش: أي الولاية م: (على غيره، لأنه) ش: أي لأن كونه أهلا للولاية على غيره.
م: (من جنسه) ش: أي من جنس كونه أهلا للولاية على نفسه. وقيل: الضمير في لأنه للمشهود.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الفاسق وهو الشاهد م: (صلح مقلدا) ش: بكسر اللام، أي سلطانا وخليفة، فإن جمهور الأئمة بعد الخلفاء الأربعة لم [ ... ] من فسق، أي المشهود عليه من جنس الفاسق من حيث إن كل واحد منهما مسلم.
لأنه أي لأن الولاية على تأويل الحكم المذكور ونحوه فالقول بالخروج عن الإمامة بالفسق يفضي إلى فساد عظيم. فإذا كان كذلك م: (فيصلح مقلدا) ش: بفتح اللام، أي قاضيا، أو حاكما.
م: (وكذا شاهدا) ش: أي فكذا شاهدا، لأن الشهادة والقضاء من باب واحد. قال الأكمل: في عبارته تسامح، لأنه يهم منه أن تكون أهلية الشهادة مرتبة على أهلية القضاء.
وقد ذكر في كتاب " أدب القاضي " أن أهلية القضاء مستفادة من أهلية الشهادة، ولو قال بالواو كان أحسن لا يقال: يجوز أن يكون مرتبا على مقلد بكسر اللام، لأن أهلية السلطنة(5/15)
والمحدود في القذف من أهل الولاية فيكون من أهل الشهادة تحملا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ليست مستفادة من أهلية الشهادة، لأن عليه كذلك.
والجواب: أن كلامه إذا كان الفسق لا يمنع عن ولاية هي أعم ضررا فلأن لا يمنع عن ولاية عامة الضرر وخاصة أولى، والترتيب على هذا الوجه غير خلاف الصحة. ولو قال: الفاسق من أهل الولاية القاصرة بلا خلاف فيصلح شاهدا على الانعقاد لأنه لا إلزام فيه فكانت الولاية قاصرة لكان أسهل فهما.
[شهادة المحدود في القذف على عقد النكاح]
م: (والمحدود في القذف من أهل الولاية) ش: نظرا إلى الإسلام م: (فيكون من أهل الشهادة تحملا) ش: يعني من حيث تحمل الشهادة: لا من حيث الأداء.
وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] (النور: الآية 4) ، نهي عن القبول، وهو يعدم وصف الأداء لا أصل الشهادة؛ إذ النفي عن قبول الشيء يقتضي تحقيق ذلك الشيء وفوت الثمرة لا يدل على فوت الأصل، كشهادة العميان على ما يجيء.
وقال ابن المنذر: اختار أبو جعفر وأصحابه بأعميين أو محدودين في القذف أو فاسقين الجمع على رد شهادتهما، وأبطلوه بشهادة العبدين، وقد اختلفوا في شهادتهما.
وأجاب عنه السروجي وقال: ما أجهله، وأكثر الخليفة ما لا يعرفه والمراد بالمحدودين التائبان وإلا فلا فائدة في ذكرهما مع ذكر الفاسقين وشهادتهما مقبولة عن جماعة من العلماء بعد التوبة، منهم الشافعي.
والفاسق له شهادة حتى لو حكم به حاكم نفذ حكمه، قال الله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] ، (الحجرات: الآية 6) ، فأمرنا بالتثبيت والتبين ولم يأمرنا بالدفع والرد، بخلاف العبدين، فإن الشهادة من باب الولاية إذ فيهما إلزام على الغير. والعبد ليست له ولاية على نفسه، فكيف تثبت له ولاية على غيره، وقد جازف في نقل الإجماع في رد شهادة المذكورين، قال: ولم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اشتراط الشاهدين في النكاح خبر.
قال: وكان يزيد بن هارون يعيب على أصحاب الرأي ويقول: أمر الله بالإشهاد في البيع ولم يأمر بالإشهاد في النكاح، فكيف زعم أصحاب الرأي أن البيع بدونه جائز، والنكاح بدونه فاسد؟
وقال السروجي: جهله أعظم من جهل ابن المنذر، لأن الأئمة قائلة على أن الأمر في الإشهاد على التبايع أمر استحباب، ويزيد ليس له من الفهم إلا المتعلق باللغة دون المعاني.
وجمهور العلماء وأهل الفتوى على اشتراط الإشهاد في النكاح، وطعنه هذا طعن على الذين ذكرناهم مما مضى عن ترتيب ولا يخص أبو حنيفة وأصحابه، انتهى.(5/16)
وإنما الفائت ثمرة الأداء بالنهي لجريمته فلا يبالى بفواته كما في شهادة العميان وابني العاقدين.
قال: وإن تزوج مسلم ذمية بشهادة ذميين صح عند أبي حنيفة وأبي يوسف _ رحمهما الله _. وقال محمد، وزفر _ رحمهما الله _: لا يجوز، لأن السماع في النكاح شهادة ولا شهادة للكافر على المسلم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قوله: _ لم يثبت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اشتراط الشاهدين في النكاح خبر يرده ما رواه ابن حبان من حديث عائشة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - _ وقد مر عن قريب.
م: (وإنما الفائت ثمرة الأداء) ش: جواب عما يقال: إن المحدود في القذف إذا كان من أهل الولاية ينبغي أن تكون شهادته متعدية وليست كذلك، فأجاب بقوله: _ وإنما الفائت من شهادة المحدود في القذف ثمرة الأداء.
أي أداء شهادتهم م: (بالنهي لجريمته) ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] (النور: الآية 4) ، م: (فلا يبالى) ش: بصيغة المجهول م: (بفواته) ش: أي بفوات ثمرة الأداء، وإنما ذكر الضمير لهما باعتبار المذكور. وأما بالنظر إلى لفظ الأداء م: (كما في شهادة العميان) ش: فإن النكاح ينعقد بشهادتهم بالإجماع، ولا تقبل عند الأداء بالإجماع.
م: (وابني العاقدين) ش: أي وكذا في شهادة ابني العاقدين فإن النكاح ينعقد بشهادتهما بالإجماع ولا يقبل عند الأداء بالإجماع.
[شهادة الأخرس والمفلس وابني الزوج وابني الزوجة وابنيهما في النكاح]
فروع في المشكلات: وينعقد بشهادة الأخرس، والمفلس، وابني الزوج وابني الزوجة وابنيهما. وفي " المغني ": وفي شهادة محدودين وابني الزوجين وابني الزوجة وجهان، واختار الانعقاد أبو عبد الله بن بطال وينعقد عند الجماعة بالعبدين والمكاتبين والمدبرين والصبيين والأصمين.
وفي " المغني ": ولا ينعقد بشهادة أصمين ولا شهادة أخرسين وفي شهادة المراهقين احتمال، وفي " النهاية " وأجمعوا على أنه لا ينعقد بشهادة الأصمين، وفي " الذخيرة ": ولا ينعقد بشهادة النائمين لا يسمعان كلام العاقدين. وفي " قنية المنية ": ينعقد بهما وهو الأصح. م: (قال: وإن تزوج مسلم ذمية بشهادة ذميين صح عند أبي حنيفة وأبي يوسف) ش: سواء كانا موافقين في دينهما أو مخالفين م: (وعند محمد _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ وزفر: لا يجوز) ش: وبه قال الشافعي وأحمد، وفي بعض النسخ، وقال محمد _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _، وزفر _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _: لا يجوز.
وقال المالكية: أنكحة الكفار فاسدة مع أنه لا ولاية للكافر على الكافر صحيحة عندهم والشهادة ليست بشرط عندهم والإسلام يصححها عندهم م: (لأن السماع) ش: أي سماع العاقدين من الإيجاب والقبول م: (في النكاح شهادة، ولا شهادة للكافر على المسلم) ش: بالاتفاق.(5/17)
فكأنهما لم يسمعا كلام المسلم، ولهما أن الشهادة شرطت في النكاح على اعتبار إثبات الملك لوروده على محل ذي خطر لا على اعتبار وجوب المهر؛ إذ لا شهادة تشترط في لزوم المال، وهما شاهدان عليها، بخلاف ما إذا لم يسمعا كلام الزوج، لأن العقد ينعقد بكلاميهما والشهادة شرطت على العقد.
قال: ومن أمر رجلا بأن يزوج ابنته الصغيرة فزوجها والأب حاضر بشهادة رجل واحد سواهما جاز النكاح، لأن الأب يجعل مباشرا للعقد لاتحاد المجلس، فيكون الوكيل سفيرا ومعبرا، فيبقى المزوج شاهدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فكأنهما) ش: أي فكأن الذميين م: (لم يسمعا كلام المسلم) ش: أي بطريق الشهادة وشرط الانعقاد سماع الشاهدين كلام مظهري العقد، ولم يوجد فصار كأنهما سمعا كلام المرأة دون كلام الزوج، فلم ينعقد، كما لو لم يسمعا كلامهما أو كلام الزوج وذلك أن سماع من لا شهادة له يكون وجوده كعدمه، كما في العبد.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أن الشهادة شرطت في النكاح على اعتبار إثبات الملك) ش: أي مطلق المتعة م: (لوروده) ش: أي لورود الملك م: (على محل ذي خطر) ش: فيشترط الشهادة تعظيما للأبضاع، فيكون الرجل هو المخاطب بالشهادة لأجل أنه يملك البضع، ألا ترى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مخصوصا بالنكاح بغير شهود م: (لا على اعتبار) ش: أي لا يشترط الإشهاد على اعتبار م: (وجوب المهر) ش: لها عليه م: (إذ لا شهادة تشترط في لزوم المال) ش: لأن إيجاب المال يصح بلا شهود كالبيع وغيره م: (وهما شاهدان عليها) ش: أي الذميان شاهدان عليها أي على الذمية، فشهادة أهل الذمة على الذمية جائزة.
فإن قيل: ملك الازدواج مشترك. قلنا: نعم، لكن ذلك ليس بأصل، وإنما يقع تبعا للملك الوارد عليه، كما لو اشترى أمة يملك وطأها بلا طهر، لأنه وقع تبعا.
م: (بخلاف ما إذا لم يسمعا كلام الزوج) ش: جواب عن قول محمد وزفر: تقريره الشهادة شرط في النكاح على العقد كما علم، لأنه يخاطب كلام الزوج بالإشهاد عليها بالعقد م: (لأن العقد ينعقد بكلاميهما) ش: أي بكلام الزوجين م: (والشهادة شرطت على العقد) ش: فإن لم يسمعا كلام المسلم لم يشهدا على العقد.
م: (قال: ومن أمر رجلا بأن يزوج ابنته الصغيرة فزوجها والأب حاضر) ش: أي والحال أن الأب حاضر عند العقد م: (بشهادة رجل واحد) ش: يتعلق بقوله فزوجها م: (سواهما) ش: أي سوى الآمر والمأمور م: (جاز النكاح، لأن الأب يجعل مباشرا للعقد) ش: أي لأن الموجود من الوكيل واجب الانتقال إلى الموكل في باب النكاح، وإنما جعل الأب مباشرا إذا كان حاضرا م: (لاتحاد المجلس، فيكون الوكيل سفيرا ومعبرا) ش: لانتقال الوكالة إلى الأب م: (فيبقى المزوج شاهدا) ش: ونصبه آخر فينعقد.(5/18)
وإن كان الأب غائبا لم يجز، لأن المجلس مختلف فلا يمكن أن يجعل الأب مباشرا، وعلى هذا إذا زوج الأب ابنته البالغة بحضرة شاهد واحد إن كانت حاضرة جاز، وإن كانت غائبة لا يجوز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الكاكي: قيل: في هذا التعليل نظر. قلنا: قائله هو السغناقي؛ فإنه قال في " النهاية ": هذا تكلف غير محتاج إليه في المسألة الأولى، لأن الأب يصلح أن يكون شاهدا في باب النكاح، فلا حاجة إلى نقل المباشرة من المأمور إلى الآمر حكما، وإنما يحتاج إليه في المسألة الأخيرة وهي إذا زوج الأب ابنته البالغة بمحضر شاهد واحد، فإن كانت حاضرة جاز بنقل مباشرة الأب إليها لعدم صلاحيتها للشهادة على نفسها، وإن كانت غائبة لم يجز، لأن الشيء إنما يقدر تقديرا إذ لم يتصور تحقيقا، إليه أشار في " الفوائد الظهيرية ".
وقال الأكمل: وأرى أنه لا فرق بين الصورتين في الاحتياج إلى ذلك التكلف.
قلت: فيه تكلف لا يخفى، ومن أراد أن يتضح له ذلك فلينظر في النهاية.
م: (وإن كان الأب غائبا لم يجز النكاح، لأن المجلس مختلف) ش: لأنه لو انتقل إليه العقد لكان الإيجاب في مجلس والقبول في مجلس آخر م: (فلا يمكن أن يجعل الأب مباشرا) ش: لأجل غيبته م: (وعلى هذا) ش: أي وعلى اعتبار حضرة الأب وغيبته م: (إذا زوج الأب ابنته البالغة بحضرة شاهد واحد، إن كانت) ش: أي الابنة م: (حاضرة جاز) ش: لإمكان اعتبار الأب شاهدا م: (وإن كانت غائبة لا يجوز) .(5/19)
فصل في بيان المحرمات قال: لا يحل للرجل أن يتزوج بأمه ولا بجداته من قبل الرجال أو النساء، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23) ، والجدات أمهات؛ إذ الأم هو الأصل لغة أو ثبتت حرمتهن بالإجماع قال ولا ببنته لما تلونا، ولا ببنت ولده وإن سفلت للإجماع، ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في بيان المحرمات في النكاح] [المحرمات من جهة النسب]
م: (فصل في بيان المحرمات) ش: أي هذا فصل في بيان النساء المحرمات تزوجها؛ لأن الله تعالى أخرجهن من محلية النكاح فاحتيج إلى بيانهن، وهن أربعة عشر، سبعة من جهة النسب، وسبعة من السبب، وستجيء كلها.
م: (قال: لا يحل للرجل أن يتزوج بأمه) ش: هذه إحدى السبعة من جهة النسب م: (ولا بجداته) ش: أي لا يحل أن يتزوج بجداته سواء كن م: (من قبل الرجال أو النساء) ش: أي ومن قبل النساء، وليس من كلام العرف تزوجت بامرأة، وإنما يقال: تزوجت امرأة، قاله يونس.
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] ش: (النساء: الآية 23) فدلالته على حرمة الأم ظاهرة م: (والجدات) ش: وأما دلالته على حرمة الجدات فأشار إليه بقوله: م: (أمهات إذ الأم هو الأصل لغة) ش: يقال لمكة: أم القرى لكونها هي الأصل، لما روي أنها خلقت أولا ثم دحيت الأرض منها، وقال الله تعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7] (آل عمران: الآية 7) أي أصل ويرد إليه المتشابه، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الخمر أم الخبائث» وهذا عند المحققين، ومن مشايخنا الذين لا يجوزون الجمع بين الحقيقة والمجاز.
وعند مشايخنا العراقيين: يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز عند اختلاف المحل فحرمة الجدات قد ثبتت بالنص أيضا بمجازه، وعند الطائفة الأولى بطريق الحقيقة باعتبار معنى يعمهما لغة لا باعتبار الجمع بين الحقيقة والمجاز.
قوله: حرمت الجدات بالنص، ومن يبغ يثبت حرمتهن بالإجماع، وإليه أشار المصنف بقوله: م: (أو ثبتت حرمتهن بالإجماع) ش: هذا عند الفريقين.
م: (قال: ولا ببنته) ش: ولا ببنت بنت وإن سفلت على ما يجيء الآن والاستدلال فيهن مثل الاستدلال في الأم، فإن بنت البنت تسمى بنتا حقيقة باعتبار أن البنت يراد بها الفرع، فيتناولها النص حقيقة ومجازا عند البعض، ويجوز الجمع عند اختلاف المحل أو بالإجماع.
م: (لما تلونا) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: م: (ولا ببنت ولده وإن سفلت) ش: ولفظ الولد يتناول الابن والبنت، ولما ذكرنا من جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز في محلين مختلفين عند البعض م: (للإجماع) ش: عند الفريقين م: (ولا بأخته) ش: أي ولا يحل أيضا أن يتزوج بأخته سواء أكانت(5/20)
بأخته ولا ببنات أخيه ولا ببنات أخته ولا بعمته ولا بخالته لأن حرمتهن منصوص عليها في هذه الآية
وتدخل فيها العمات المتفرقات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأب وأم، أو لأب أو لأم، ضمت الهمزة في _ أخت _ لتدل على الواو الذاهبة منه بخلاف الأخ، لأجل التاء التي ثبتت في الأصل والوقف كالاسم الثاني.
م: (ولا ببنات أخيه) ش: أي سواء أكن لأب وأم أو لأب أو لأم م: (ولا ببنات أخته) ش: أي سواء كانت بنت أخته لأب وأم أو لأب أو لأم م: (ولا بعمته) ش: أي ولا يحل أيضا أن يتزوج بعمته م: (ولا بخالته) ش: أي ولا يحل أيضا أن يتزوج بخالته، والخال أخو الأم والخالة أختها، ذكره الجوهري في باب " خول " ليدل على أن أصلها واوي م: (لأن حرمتهن) ش: أي حرمة هؤلاء المذكورات كلها من الأخوات المتفرقات وبنات الأخ، وبنات الأخت، والعمات، والخالات م: (منصوص عليها في هذه الآية) ش: أي قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23) .
وفي " النهاية ": حاصله أن المحرمات التي ضمها كتاب النكاح والرضاع على أحد وعشرين نوعا: سبعة من جهة النسب: الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ وبنات الأخت.
وسبعة من جهة الرضاع: كذلك يحرم الرضاع في هؤلاء لقول - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وأربعة من جهة المصاهرة: وهي: أم المرأة وابنتها ومنكوحة الأب، وحليلة الابن، واثنتان من جهة الجمع وهما: الجمع بين أكثر من أربعة، والجمع بين الأختين، وواحدة من جهة الكفر: أو من المجوسية كذا في " شرح الطحاوي ".
وفي " التحفة ": تحريم النكاح يتنوع إلى تسعة أنواع: القرابة، والصهرية، والرضاع، والجمع، وتقديم الأمة على الحرة، وبسبب حق الغير، وبسبب الشركة، وبسبب ملك اليمين، وبسبب الطلقات الثلاثة، فعلى هذا تكون الحرمات خمسة وعشرين، كلها مذكورة في الكتاب.
م: (وتدخل فيها) ش: أي في حرمة الآية م: (العمات المتفرقات) ش: أي العمة لأب وأم، والعمة لأب دون أم، والعمة لأم دون أب، وفي " المحيط ": وكذا أم العمة حرام؛ لأن أم عمته لأبيه وأمه، أو لأمه هي أم أبيه لا محالة، وأم أبيه حرام عليه، وأما عمته لأبيه هي أخت أبيه ولأب، فإنما تكون امرأة جد أب الأب وامرأة الجد حرام عليه، وكذا عمات أبيه وعمات أجداده وعمات أمه، وعمات جداته وإن سفلن.
وأما عمة العمة تنظر إن كانت العمة القربى عمة لأبيه وأمه أو لأبيه، فعمة العمة حرام، لأن القربى إذا كانت أخت أبيه لأبيه وأمه أو لأبيه، فإن عمتها تكون جدة أب الأب، وأخت أب(5/21)
والخالات المتفرقات، وبنات الأخوات المتفرقات وبنات الإخوة المتفرقين لأن جهة الاسم عامة. قال: ولا بأم امرأته التي دخل بابنتها أو لم يدخل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23) ، من غير قيد الدخول.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأب حرام، لأنها عمته وإن كانت العمة القربى عمة لأمه، فعمة العمة لا تحرم؛ لأن أب العمة يكون زوج أم أبيه، فعمتها تكون أخت زوج الجدة أم الأب وأخت زوج الأم لا تحرم، وأخت زوج الجدة أولى أن تحرم.
[المحرمات من جهة السبب]
م: (والخالات المتفرقات) ش: أي الخالة لأب وأم، والخالة لأب دون أم، والخالة لأم دون أم والخالة لأم دون أب، وكذا خالات آبائه وأمهاته. وأما خالة الخالة وإن كانت الخالة القربى خالة لأب وأم، أو لأم فخالتها تحرم عليه، وإن كانت القربى خالة لأب فخالتها لا تحرم عليه، لأن أم الخالة القربى تكون امرأة الجد أب الأم لا أم أمه، فأختها امرأة أب الأب وأخت امرأة الجد لا تحرم عليه.
م: (وبنات الأخوة المتفرقات وبنات الإخوة المتفرقين) ش: أي ويدخل في الآية المذكورة بنات الإخوة والأخوات.
وقوله: المتفرقين بصيغة الجمع المذكر صفة الأخوة التي جمع أخ ويدخل فيه الأخوات التي هي جمع أخت، ومعنى التفرق يعني سواء كانت بنات الأخ لأب وأم أو لأم وبنات الأخت كذلك، وكلهن محرمات على التأبيد بالكتاب والسنة والإجماع.
وفي " الذخيرة ": أولاد الأعمام والعمات والأخوال والخالات من المباحات لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ} [الأحزاب: 50] (النساء: الآية 23) .
في " النتف ": حرم الله تعالى العمة والخالة ولم يحرم بناتهما، وكذا أولادهم وإن سفلوا يجوز التناكح فيما بينهم من جميع القرابات وهم أرحام لا محرم م: (لأن جهة الاسم عامة) ش: يعني المعنى المجوز لإطلاق اسم الأخت يشمل الفرق الثلاث، وهو المجاور في رحم أو صلب، فكان الاسم حقيقة للكل.
وقال تاج الشريعة: قوله: وجهة الاسم عامة _ أي جهة اسم العمومة والخئولة لأنها أخت أبيه وأخت أمه، وهذه الجهة لا تتغير بكونها لأب وأم.
م: (قال: ولا بأم امرأته) ش: هذا بيان المحرمات من جهة السبب وهي جهة المصاهرة، أي ولا يحل له أن يتزوج بأم امرأته م: (التي دخل بابنتها أو لم يدخل بها لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23 من غير قيد الدخول) ش: وكذا بجدتها وإن علت لِقَوْلِهِ تَعَالَى يعني القرآن مطلق عن قيد الدخول في أمر المرأة، والله حرمها مطلقا، فمن قيدها بالدخول فقد(5/22)
ولا ببنت امرأته التي دخل بها لثبوت قيد الدخول بالنص، سواء كانت في حجره أو في حجر غيره، لأن ذكر الحجر خرج مخرج العادة لا مخرج الشرط، ولهذا اكتفى في موضع الإحلال بنفي الدخول.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نسخه، وبه قال الجمهور: وهو قول عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وعمران بن حصين _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - _ وبه قال الشافعي وأحمد بن حنبل، ومالك في الصحيح.
وقال بشر المريسي، وابن شجاع، وداود: دخول ابنتها شرط، ويروى عن ابن مسعود وجابر أن أم الزوجة لا تحرم حتى يدخل بالبنت ولا يحرم بنفس العقد، لو طلقها قبل الدخول بها جاز له التزوج بأمها.
م: (ولا ببنت امرأته) ش: أي ولا يحل أيضا أن يتزوج ببنت امرأته م: (التي دخل بها لثبوت قيد الدخول بالنص) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23) ، وإن لم يدخل بها حتى حرمت عليه بطلاق أو موت يحل له أن يتزوج بالبنت، لأن هذه الحرمة تعلقت بشرط الدخول، وقال إمام الحرمين في " النهاية ": إنما تحرم إذا كانت صغيرة يوم العقد فتجعل في حجره وتكمله، وإذا كانت كبيرة يوم العقد لا تحرم.
م: (سواء كانت) ش: أي بنت امرأته م: (في حجره أو في حجر غيره) ش: اختلف الصحابة _ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - _ في شرطية الحجر بهذه الحرمة، فقال علي _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ الحجر شرط، وبه قال داود لظاهر الآية م: (لأن ذكر الحجر خرج مخرج العادة) ش: فإن العادة أن تكون البنات في حجر زوج أمهاتها ليأتي تربيتها م: (لا مخرج الشرط) ش: أي ما يخرج مخرج كونه شرطا، والتقييد العرفي لا يوجب تقييد الحكم به، كما في قَوْله تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] (النور: الآية 33) ، كذا في " المبسوط "، ولا إلزام فيه على داود؛ لأن علم الخبر شرط صحة الكتابة عنده.
م: (ولهذا) ش: أي ولأن ذكر الحجر خرج مخرج العادة م: (اكتفى في موضع الإحلال) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23) ، يعني اكتفى الله تعالى في هذه الآية م: (بنفي الدخول) ش: ولم يشترط نفي الحجر مع نفي الدخول، حيث لم يقل: فإن لم تكونوا دخلتم بهن. وليس في حجوركم؛ فإن الإباحة تتعلق بضد ما تتعلق به الحرمة.
واعترض: بأنه يجوز أن تكون الحرمة متعلقة ذات وصفين، وهما الدخول والحجر، ثم تنتفي الحرمة بانتفاء أحدهما لأن الشيء ينتفي بانتفاء الجزء، فلم تكن ثبوت الإباحة عند انتفاء الدخول، دليلا على أن الحرمة غير متعلقة بالحجر.(5/23)
قال: ولا بامرأة أبيه وأجداده، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] (النساء: الآية 22) ، ولا بامرأة ابنه وبني أولاده؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأجيب: بأن العادة في مثله نفي الوصفين جميعا أو نفي العلة مطلقا لا نفي أحدهما والسكوت عن الآخر.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا بامرأة أبيه) ش: أي ولا يحل له أن يتزوج بامرأة أبيه م: (وأجداده) ش: أو بنساء أجداده م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] (النساء: الآية 22) ش:، واسم الأب يتناول الأجداد، والأب الحقيقي باعتبار عموم المجاز وهو الأصل، فثبتت الحرمة في الجميع نصا أو إجماعا على ما مر، وعلى قول من يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز في المحلين يثبت نصا. وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا} [النساء: 22] انتهى.
بمعنى النفي، إذ لو كان المراد هو النهي لكان ينعقد نكاحها؛ لأن النهي في الأفعال الشرعية لا يعدم المشروعية، ثم المراد من النكاح إن كان هو العقد فالوطء حرام، لأن سبب الوطء عقد النكاح، ولما كان حراما فالسبب المقصود به أولى أن يكون حراما، وأن المراد به هو الوطء، فحرمة العقد ثابتة بالإجماع، لكن لا يتم تمسك المصنف بالآية إلا على قول من قال: المراد بالنكاح العقد.
وقَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] معناه إلا ما قد سلف في الجاهلية، فإنكم لا تؤاخذون بذلك إذا خليتم سبيلهن بعد الحرمة، وقيل معناه: ولا ما قد سلف؛ لأن إلا تأتي بمعنى لا، قال الله تعالى: {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا} [إبراهيم: 44] (البقرة: الآية 150) .
فيكون المعنى: أنه كما لا يحل ابتداء العقد بعد ثبوت الحرمة لا يحل إمساك بما قد سلف بعد أول الحرمة كيلا يظن أن هذه الحرمة تمنع ابتداء العقد لا تمنع البقاء، والعرب في الجاهلية كانوا فرقتين:
فرقة يعتقدون الإرث في منكوحة الأب إذا لم يكن منها ولد، يطأها بغير عقد جديد، رضيت أم كرهت.
وفرقة يعتقدون أنها تحل لهم بعقد جديد، وأنه متى رغب فيها فهو أحق بها من غيره، فنزلت {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] الآية، ناسخة لما اعتقده الفريقان.
م: (ولا بامرأة ابنه) ش: أي ولا يحل له أن يتزوج بامرأة ابنه م: (وبني أولاده) ش: أي ولا يحل أيضا نكاح نساء بني أولاده من الذكور والإناث م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23) ش: الحلائل جمع حليلة، والذكر حليل، وسميت امرأة الابن(5/24)
وذكر الأصلاب لإسقاط اعتبار التبني لا لإحلال حليلة الابن من الرضاعة، ولا بأمه من الرضاعة، ولا بأخته من الرضاعة، ولقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23) . ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حليلة لأنها حلت للابن من الحل، أو لأنها تحل فراشه، ويحل هو فراشها من الحلول أو حل كل واحد إزار صاحبه، وحليلة الابن حرام على الأب، سواء دخل بها الابن أو لم يدخل لإطلاق النص من الدخول، وأما حليلة ابن الابن بعمومه أو بالإجماع.
م: (وذكر الأصلاب لإسقاط اعتبار التبني) ش: هذا جواب عما يقال: ابن الابن لا يكون من صلبه، فكيف يصح تعدية حليلة الابن الصلبي إليه مع هذا القيد؟ أجاب بقوله: وذكر الأصلاب لأجل إسقاط حرمة اعتبار التبني، فإن التبني قد انتسخ بقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] (الأحزاب: الآية 5) .
فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تبنى زيد بن حارثة، ثم تزوج زينب بعدما طلقها زيد، فكان المشركون قد طعنوا وقالوا: إنه قد تزوج حلية ابنه، فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] (الأحزاب: الآية 40) ، فالتعدي هنا لدفع طعن المشركين.
م: (لا لإحلال حليلة الابن من الرضاعة) ش: فإن حليلة الابن من الرضاع تحرم على أبيه من الرضاع عندنا.
وقال الشافعي: لا تحرم بناء على أصله أن لبن الفحل لا يحرم، واستدل بهذا القيد المذكور.
ودليلنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» . وقال الكاكي: وذكر في كتب الشافعية أن تقييد الأصلاب ليس لإحلال حليلة الرضاع بل لإحلال حليلة المتبنى، فحينئذ لا خلاف بيننا وبينهم.
م: (ولا بأمه من الرضاعة) ش: أي ولا يحل أيضا أن يتزوج بأمه من الرضاعة م: (ولا بأخته من الرضاعة) ش: أي ولا يحل أيضا أن يتزوج بأخته من الرضاع، والرضاع بفتح الراء وكسرها وبالتاء معهما، وأنكر الأصمعي كسرها مع التاء.
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23) (ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .
ش: هذا الحديث بهذا اللفظ أخرجه الطبراني في " معجمه الكبير " من حديث ثوبان، أن(5/25)
ولا يجمع بين أختين نكاحا ولا بملك يمين وطأ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23) ، ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من كان يؤمن بالله، واليوم الآخر فلا يجمعن ماءه في رحم أختين» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .
وأخرج الترمذي من حديث عائشة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - _ قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من الولادة» وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرج البخاري من حديث ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أريد على ابنة حمزة، فقال: " إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، وإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» وأخرجه مسلم ولفظه: " ما يحرم من الرحم ".
م: (ولا يجمع بين أختين نكاحا) ش: أي من حيث النكاح الذي لا يكونان معه بعقد أو عقدين م: (ولا بملك يمين وطأ) ش: أي من حيث الوطء قيد بالوطء؛ لأنه يجوز أن تجمع بين الأمتين الأختين من حيث الملك، غير أنه إذا وطء إحداهما لا يطأ الأخرى، وكان عمر _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ يتوقف في الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين، ويقول أحلتهما آية وهي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36] (النساء: الآية 36) ، وحرمتهما آية، وهي قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23) ، وجعل أبو بكر الرازي هذا قول علي ومجاهد، رواه عن علي الشعبي، ويروى عنه، إنكاره.
وفي " الكشاف ": جعل قول عثمان وعلي ثم قال: يرجح علي بالتحريم، وعثمان بالإباحة والإباحة قول الظاهرية، م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] ش: (النساء الآية 23) ، وهو في موضع الرفع، لأنه معطوف على الحرمات، أي ويحرم عليكم الجمع بين الأختين، والمراد حرمة النكاح، لأن التحريم في الآية تحريم النكاح لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا} [النساء: 23] عطف على أمهاتكم.
م: (ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمعن ماءه في رحم أختين» ش:، هذا حديث غريب لم يتعرض له أحد من الشرح غير الكاكي أحال ما ذكره في " المبسوط " والسروجي أحال على " الذخيرة " للمالكية. نعم روى الترمذي في " جامعه " من حديث أبي وهب الجيشاني أنه سمع «من فيروز الديلمي يحدث عن أبيه قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " اختر أيهما(5/26)
فإن تزوج أخت أمة له وقد وطئها صح النكاح؛ لصدوره من أهله مضافا إلى محله، وإذا جاز لا يطأ الأمة، وإن كان لم يطأ المنكوحة لأن المنكوحة موطوءة حكما، ولا يطأ المنكوحة للجمع إلا إذا حرم الموطوءة على نفسه بسبب من الأسباب، فحينئذ يطأ المنكوحة لعدم الجمع وطأ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شئت» وقال: هذا حديث حسن غريب، وفيه دلالة على أن الجمع بين الأختين لا يجوز.
قال الترمذي: وأبو وهب الجيشاني اسمه الديلم بن موشع والجيشان بفتح الجيم وسكون الياء آخر الحروف وبشين معجمة نسبة إلى جيشان قبيلة باليمن، وهو جيشان بن غيلان صخر بن عين، واسم ابن فيروز الضحاك، وذكره ابن حبان في " الثقات " م: (فإن تزوج أخت أمة له) ش: أي فإن تزوج رجل أخت أمة في ملكه م: (قد وطئها) ش: جملة حالية، والجملة الفعلية الماضية إذا وقعت حالا لا بد فيها من لفظة قد صريحة أو مقدرة، أي والحال أن الرجل قد كان وطأ أمته التي في ملكه م: (صح النكاح؛ لصدوره من أهله مضافا إلى محله) ش: أي لأجل صدور النكاح من أهله حال كونه مضافا إلى محله، لأن الأخت المملوكة وطؤها من باب الاستخدام وهو لا يمنع نكاح الأخت إلا أنه لا يطأها بعد ذلك.
م: (وإذا جاز) ش: أي نكاح أخت أمته وطئها م: (لا يطأ الأمة) ش: بعد ذلك حتى لا يصير جامعا بين الأختين بوطء م: (وإن كان لم يطأ المنكوحة) ش: واصل بما قبله م: (لأن المنكوحة موطوءة حكما) ش: أي من حيث الحكم، ولهذا تستحق الوطء على هذا الزوج، والأمة لا تستحق الوطء على المولى.
فإن قيل: لما كان النكاح قائما مقام الوطء ينبغي أن لا يجوز هذا النكاح حكما، كيلا يصير جامعا بينهما وطئا كما قال بعض أصحاب مالك.
قلنا: نفس النكاح ليس بوطء، وإنما صار كالوطء عند ثبوت حكمه، وهو حل الوطء وحكم الشيء يثبت بعده، والنكاح حال وجوده ليس بوطء صحيح لوجوده في محله.
م: (ولا يطأ المنكوحة للجمع) ش: أي لأجل الجمع بينهما م: (إلا إذا حرم الموطوءة) ش: أي الأمة الموطوءة م: (على نفسه، بسبب من الأسباب) ش: كالبيع والتزويج والهبة بالتسليم وبالإعتاق والكتابة م: (فحينئذ) ش: أي حين حرم الأمة الموطوءة على نفسه م: (يطأ المنكوحة لعدم الجمع) ش: من حيث الوطء وعن أبي يوسف لا يحل، وعنه أيضا: لو ملك فرج الأولى غيره لا يطأ الأخرى حتى تحيض الأولى حيضة بعد وطئها، لأنه يجوز أن تكون حاملا منه.(5/27)
ويطأ، المنكوحة إن لم يكن وطئ المملوكة لعدم الجمع وطأ، إذ الموقوفة ليست موطوءة حكما.
فإن تزوج أختين في عقدتين، ولا يدري أيتهما أولى فرق بينه وبينهما؛ لأن نكاح إحداهما باطل بيقين ولا وجه إلى التعيين لعدم الأولوية ولا إلى التنفيذ مع التجهيل؛ لعدم الفائدة أو للضرر، فتعين التفريق. ولهما نصف المهر لأنه وجب للأولى منهما وانعدمت الأولوية للجهل بالأولوية فينصرف إليهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ويطأ المنكوحة إن لم يكن وطئ المملوكة لعدم الجمع وطأ؛ إذ الموقوفة ليست بموطوءة حكما) ش: لأن ملك اليمين لم يوضع للوطء، ولهذا لا يثبت نسب ولد الموقوفة بلا عدة وفي المنكوحة يثبت بدونها
[تزوج أختين في عقدتين ولا يدري أيتهما أولى]
م: (فإن تزوج أختين في عقدتين ولا يدري أيتهما أولى) ش: بضم الهمزة، لأنه لو تزوجهما في عقد واحد كان النكاح باطلا للجمع بين الأختين، فلا يستحقان شيئا من المهر.
وقيد بقوله: ولا يدري أيتهما أولى، لأنه لو علم ذلك بطل نكاح الثانية م: (فرق بينه وبينهما، لأن نكاح إحداهما باطل بيقين، ولا وجه إلى التعيين لعدم الأولوية) ش: لأنه إذا لم يكن وجه لتعيين إحداهما بأن تعين اسم إحداهما بعدم الأولوية لعدم التعيين م: (ولا إلى التنفيذ مع التجهيل) ش: يعني لا تنفيذ لإحداهما بغير عينها.
م: (لعدم الفائدة) ش: لأن المقصود بالنكاح التوالد والتناسل، وذلك بالوطء، والوطء لا يقع في غير المعينة، بل يقع في المعينة، ولا حل في الجمعية م: (أو للضرر) ش: في حقهما، لأن كل واحدة منهما متعلقة، ولا مطلقة على تقدير إبقاء النكاح، وفيه ضرر بهما، ولا خلاف فيه للأئمة الأربعة م: (فتعين التفريق) ش: بينهما أكثر لما ذكر من الأمور.
م: (ولهما) ش: أي الأختين م: (نصف المهر) ش: بينهما نصفان م: (لأن) ش: أي لأن نصف المهر م: (وجب للأولى) ش: بضم الهمزة.
قوله: منهما: أي من الأختين، أي التي نكاحها أولى لصحة نكاحها، وقد جاءت فرقة من جانب الزوج فصار كالطلاق قبل الدخول لا يصح نكاحها وتبقى الموطوءة على الإباحة وليست إحداهما أولى من الأخرى فصار بينهما م: (وانعدمت الأولوية للجهل بالأولوية) ش: وقال الأكمل: وتقرير كلامه: المهر للأولى منهما، وليس إحداهما بكونها أولى للجهل بالأولوية، وفي بعض النسخ بالأولوية م: (فينصرف إليهما) ش: أي إلى الأختين.
فإن قيل: ينبغي أن لا يقضي على الزوج بشيء، كما روي عن أبي يوسف، وبه قال بعض الحنابلة لأن المقضي له مجهول، وجهالة المقضي له تمنع القضاء، كما إذا قال لإحداهما علي ألف، فإنه لا يكون لإحداهما أن تأخذ منه شيئا [ ... ] .(5/28)
وقيل: لا بد من دعوى كل واحدة منهما أنها الأولى أو الاصطلاح لجهالة المستحقة.
ولا يجمع بين المرأة وعمتها وخالتها أو ابنة أخيها أو ابنة أختها لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأجيب: بأن معنى المسألة أن تدعي كل واحدة منهما أنها الأولى ولا حجة لهما، أما إذا قالت لا ندري النكاح الأول لا يقضى لهما بشيء ما لم يصطلحا على أخذ نصف المهر، لأن الحق وجب لمجهول فلا بد من الدعوى أو الإصلاح ليقضى لهما، وهو اختيار الفقيه أبي جعفر الهندواني كذا في الكافي.
وأشار إلى هذا بقوله م: (وقيل لا بد من دعوى كل واحد منهما) ش: أي من الأختين م: (بالأولوية أو الإصلاح) ش: أي ولا بد من اصطلاحهما م: (لجهالة المستحقة) ش: وصورة الاصطلاح أن يقولا عند القاضي لنا عليه المهر فتصطلح على أخذ نصف المهر إذ الحق لا يعد وفاء ويكون لكل واحدة ربع المهر.
وعن محمد: يجب مهر كامل لهما، لأنه يقر بنكاح إحداهما، وعدم طلاقها، فإذا جاز نكاح إحداهما وجب المهر كاملا.
[الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها]
م: (ولا يجمع بين المرأة وعمتها وخالتها) ش: أي ولا يجمع بين المرأة وخالتها وعمتها م: (أو ابنة أخيها) ش: أي أخي المرأة م: (أو ابنة أختها) ش: أي أخت المرأة م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها» ش: هذا الحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة، واللفظ لهم خلا مسلما قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على بنت أخيها، ولا المرأة على خالتها، ولا الخالة على بنت أختها لا تنكح الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى» .
واعلم أن مسلما لم يخرجه هكذا بتمامه، ولكنه فرقه حديثين فأخرج صدره عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا: «لا تنكح المرأة على بنت الأخ، ولا بنت الأخت على الخالة» .
وروي عن علي _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ أخرجه أحمد في " مسنده " من النصف الأول من الحديث الذي ذكره المصنف حيث قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها» .
وكذا رواه ابن ماجه من حديث أبي موسى مثله سواء.(5/29)
وهذا مشهور، تجوز الزيادة على الكتاب بمثله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكذا بعينه رواه الطبراني في الكبير من حديث الحسن عن سمرة بن جندب.
وكذا رواه الطبراني من حديث أيوب بن خالد عن عتاب بن أسيد.
م: (وهذا مشهور) ش: أي هذا الحديث مشهور، وتلقته الأمة بالقبول، واشتهر بين التابعين وأتباع التابعين مع رواية كبار الصحابة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - _، وقد رواه من الصحابة ابن عباس، وأبو هريرة، وعلي، وابن عمر، وأبو سعيد، وأبو أمامة، وجابر وعائشة، وأبو موسى، وسمرة بن جندب، وعبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك، وعتاب بن أسيد م: (تجوز الزيادة على الكتاب بمثله) ش: أراد بالكتاب قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] (النساء: الآية 24) ، وكذلك أيضا قد خصت هذه الآية بالوثنية والمجوسية، وبناته من الرضاعة فخص هذه الصورة أيضا بهذا الخبر.
وقيل ورد بيانا لمجمل الكتاب، لأن شرط الإحصان في الإباحة بقوله محصنين وهو مجمل وخبر الواحد يصح أن يكون بيانا كما هو معهم الكتاب، وقد احتج بهذا الحديث على تحريم الجمع بين من ذكر في الحديث. وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على القول بهذا الحديث، قال: ولا يجوز عند جميعهم نكاح المرأة على عمتها، وإن علت، ولا على ابنة أختها وإن سفلت ولا على خالتها وإن علت، ولا على ابنة أختها وإن سفلت.
قال: والرضاعة في ذلك كالنسب ولا خلاف فيه للفقهاء ونقل عن الروافض والخوارج والظاهرية وعثمان البتي أنه يجوز الجمع بين المرأة وعمتها وبينهما وبين الخالة، ورد عليهم بما ذكرنا.
فإن قلت: ما الحكمة في النهي عن ذلك؟
قلت: قال بعضهم: لما فيه من قطيعة الرحم، وبه جزم الرافعي، واستدلوا على ذلك بما رواه ابن حبان في صحيحه من رواية حريز أن عكرمة حدثه عن ابن عباس قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تزوج المرأة على العمة، والخالة " قال: " إنكن إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامكن» ومن قال بهذا يجري الحكم إلى الأقارب كلها بهذا المعنى فلا يجوز الجمع عندهم بين المرأة وقريبتها سواء كانت عمة أو خالة أو بنت عمة أو بنت خالة أو بنت عم أو بنت خال.
وهكذا يروى عن إسحاق بن طلحة وعكرمة وقتادة وجابر بن زيد، واختلفت الرواية فيه عن عطاء بن أبي رباح فروى ابن أبي نجيح عنه موافقة الجمهور، وهو الصحيح عنه، وحكي عن(5/30)
ولا يجمع بين امرأتين لو كانت إحداهما ذكرا لم يجز له أن يتزوج بالأخرى؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مالك أن غيره أحسن منه واقتصر الجمهور على تحريم ما ورد به الخبر، وقال شيخنا زين الدين: ليست الحكمة فيه قطيعة الرحم، بل المعنى فيه كما رجحه ابن عبد البر هو المعنى في تحريم الجمع بين الأختين، وذلك لأن أحد الأختين لو كان ذكرا لا يحل له نكاح الأخرى، فكذلك من هو بمنزلة الأختين كالعمة والخالة وبنت الأخت وليس كذلك بنت العم، وبنت العمة، وبنت الخال، وبنت الخالة، فإنه لو كان إحداهما ذكرا يحل له نكاح الأخرى.
وقد روي هذا المعنى عن الصحابة فيما ذكر ابن عبد البر من رواية معتمر بن سليمان عن فضيل بن ميسرة عن أبي حريز عن العتبي قال: كل امرأتين إذا جعل موضع إحداهما ذكرا لم يحل له أن يتزوج بالأخرى، فالجمع بينهما باطل، فقلت له: عمن هذا؟ فقال: عن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبو حريز بفتح الحاء المهملة وكسر الراء، وفي آخره زاي واسمه عبد الله بن حسين وهو قاضي سجستان، واختلف في الاحتجاج به فضعفه الجمهور، ويحيى بن سعيد القطان، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن معين في رواية ووثقه في أخرى ووثقه أبو زرعة أيضا، ولم يحتج به الشيخان، وعلق له البخاري، وأخرج له ابن حبان في " صحيحه ".
[الجمع بين المرأة وبنت زوج كان لها من قبل]
م: (ولا يجمع بين امرأتين لو كانت إحداهما ذكرا لم يجز له أن يتزوج الأخرى لأن الجمع بينهما يفضي إلى القطيعة والقرابة المحرمة للنكاح محرمة للقطع، ولو كانت الحرمة بينهما بسبب الرضاعة يحرم لما لما روينا من قبل) ش: قال الأترازي: لو قال: لو كانت كل واحدة منهما رجلا كما في لفظ بعض القدوري لكان أولى لأن الشرط أن يتصور الرجل من كل جانب لا من جانب واحد وإلا ينتقض هذا الكلي بالمسألة التي تليه، وهي مسألة الجمع بين المرأة وبنت زوج كان لها من قبل، ثم إن الشراح قالوا في صورة قوله: ولا يجمع بين امرأتين ... إلى آخره، كالمرأة وعمتها فإن كل واحدة منهما لو فرضت ذكرا حرم العقد بينهما، لأنه لو فرضت المرأة ذكرا يحرم عليه نكاح عمته، ولو فرضت العمة ذكرا يحرم عليه نكاح بنت أخيه، فإذا لم يحرم الجمع بينهما إلا من جهة واحدة جاز الجمع بينهما كما إذا جمع بين امرأة وبين بنت زوج كان لها من قبل لأن إحداهما لو كان رجلا وهي الزوجة جاز له أن يتزوج الأخرى فلم يعم التحريم.
وقال زفر _ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - _: لا يجوز كما في الصورة الأولى، وهو مذهب ابن أبي ليلى والحسن البصري، وعكرمة، وفي الينابيع: إن كان النكاح لا يحل على كلا التقديرين لا يحل له أن يجمع بينهما بنكاح ولا بملك يمين وطأ ولا بالمس بشهوة ولا بالتقبيل، وإن كان يحل إلى إحدى التقديرين دون الآخر يحل عند الجمهور خلافا لزفر _ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - _.
وفي المجتبى: لفظ المصنف: لو كانت كل واحدة منهما رجلا لم يجز أن يتزوج بالأخرى، ولما وقع في بعض النسخ: لو كانت إحداهما رجلا سهوا وقع من الكاتب، لأنه ينتقض بالمسألة التي تليها، وإنما قال هذا لما عرف من دأب هذا الكتاب أن يذكر أصلا جامعا يخرج منه المسائل.(5/31)
لأن الجمع بينهما يفضي إلي القطيعة والقرابة المحرمة للنكاح محرمة للقطع، ولو كانت الحرمة بينهما بسبب الرضاع يحرم لما روينا من قبل، ولا بأس بأن يجمع بين امرأة وبنت زوج كان لها من قبل لأنه لا قرابة بينهما ولا رضاع وقال زفر _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _: لا يجوز لأن بنت الزوج لو قدرتها ذكرا لا يجوز له التزوج بامرأة أبيه. قلنا: امرأة الأب لو صورتها ذكرا جاز له التزوج بهذه، والشرط أن يصور ذلك من كل جانب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن الجمع بينهما) ش: أي الجمع بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلا م: (يفضي إلى القطيعة) ش: أي قطيعة الرحم، والمحرم والقطع لأن المعاداة عادة بين الضرائر م: (والقرابة المحرمة للنكاح محرمة للقطع) ش: أي القرابة إذا كانت ممن يحرم النكاح بها يحرم قطعها لأنه يفترض وصلها.
والنكاح سبب لقطعها لجواز أن لا ينقطع؛ الزوج فيما يأمر وينهى، فيؤدي إلى التشاجر كما هو العادة، وهو سبب للقطع والجمع بينهما يؤدي إلى القطيعة أيضا بل القطيعة هنا أكثر، وقال صدر الشريعة: يعني أن حرمة النكاح ثمة كحرمة القطيعة حتى لا يؤدي إلى استذلالها، فإن النكاح رق.
م: (ولو كانت الحرمة بينهما بسبب الرضاعة يحرم) ش: بينهما، كما في النسب م: (لما روينا من قبل) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» ، وقد مر عند قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23) .
م: (ولا بأس بأن يجمع بين امرأة وبنت زوج كان لها من قبل) ش: وقال الأترازي: أراد بابنة الزوج ابنته من امرأة أخرى، وقوله: كان لها من قبل صيغة نكرة، وهي الزوج، والضمير في لها يرجع إلى المرأة، وبه قال الأئمة الأربعة، ويرى به العلماء.
م: (لأنه لا قرابة بينهما) ش: أي بين هذه المرأة وبنت زوج كان لها من قبل م: (ولا رضاع) ش: لأن المانع من الجمع قرابة بين المرأتين أو ما يشبه القرابة في الحرمة كالرضاع، وذلك غير موجود فيهما.
م: (وقال زفر _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _: لا يجوز) ش: وهو قول الحسن البصري وعكرمة وابن أبي ليلى م: (لأن بنت الزوج لو قدرتها ذكرا لا يجوز له التزوج بامرأة أبيه. قلنا: امرأة الأب لو صورتها ذكرا جاز له التزوج بهذه) ش: أي بهذه البنت.
م: (والشرط أن يصور ذلك من كل جانب) ش: كما كان في الأختين كذلك، لأن ذلك هو المنصوص عليه، وما نحن فيه فرع عليه، فيجب أن يكون الفرع على وفاق الأصل.(5/32)
قال: ومن زنى بامرأة حرمت عليه أمها وبنتها. وقال الشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _: الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة لأنها نعمة فلا تنال بالمحظور. ولنا أن الوطء سبب الجزئية بواسطة الولد حتى يضاف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقد صح أن عبد الله بن جعفر جمع بن امرأة علي وابنته، قال السروجي: ذكر البخاري أن عبد الله بن جعفر جمع بين ابنة علي، وامرأة علي _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - _ عن ابن عباس أنه جمع بين امرأة رجل وابنته من غيرها، رواه الدارقطني.
وكذلك رواه الدارقطني عن رجل من أهل مصر كانت له صحبة يقال له: جيلة أنه جمع امرأة رجل وابنته من غيرها. وفي " المغني ": لو كان لرجل ابن من غير زوجته، ولها بنت من غيره أو كان له بنت ولها ابن جاز تزوج أحدهما من الآخر في قول عامة العلماء.
وحكي عن طاوس كراهيته إذا كان ممن ولدته المرأة بعد وطء الزوج لها، والأول أولى لعموم الآية، ومتى ولدت المرأة من ذلك الزوج ولدا صار عما لولدها وخالا، وإذا تزوج امرأة وزوج ابنه أمها جاز، وإذا ولد لكل واحد منهما ولد كان ولد الأب عم ولد الابن خال ولد الأب.
[هل الزنا يوجب حرمة المصاهرة]
م: (ومن زنى بامرأة حرمت عليه أمها وبنتها) ش: وهو قول عمر وعمران بن الحصين، وابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وأبي بن كعب، وعائشة، وابن عباس في الأصح، وبه قال الحسن البصري، وعامر الشعبي، وإبراهيم النخعي، وعبد الرحمن الأوزاعي، وطاوس، ومجاهد، وعطاء.
وقال أبو بكر ابن أبي شيبة في " مصنفه ": وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار، وسالم، وحماد، والثوري، وإسحاق بن راهوية، وأحمد بن حنبل، ومالك في " المدونة "، عن ابن القاسم.
م: (وقال الشافعي: الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة) ش: هو قول ابن عباس في رواية عروة، والزهري، وأبي ثور، وابن المنذر، ورواه مالك في " الموطأ ". وقال شهاب الدين القرافي: وهو رواية غير مشهورة عنه، ذكر ذلك في " الذخيرة "، وإن لاط برجل لا يحرم عليه أمه، ولا بنته عندنا، وبه قال عامة العلماء.
وقال عبد الله بن الحسن والأوزاعي والثوري وابن حنبل _ في رواية _: تحريم أمه وبنته عليه، وقال الحسن بن صالح: يكره، ولو مسه بشهوة أو قبله لا يحرم عليه أمه ولا بنته بالإجماع م: (لأنها نعمة فلا تنال بالمحظور) ش: أي لأن المصاهرة نعمة فلا تنال بالمحظور الحرام.
م: (ولنا أن الوطء سبب الجزئية) ش: أي بين الواطئ والموطوءة، يعني يصيران كشخص واحد م: (بواسطة الولد) ش: حتى لا يحل للزانية أن تتزوج أب الزاني ولا ابنه م: (حتى يضاف)(5/33)
إلى كل واحد منهما كملا فتصير أصولها وفروعها كأصوله وفروعه،
وكذلك على العكس. والاستمتاع بالجزء حرام إلا في موضع الضرورة وهي الموطوءة، والوطء محرم من حيث إنه زنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي الولد.
م: (إلى كل واحد منهما) ش: أي من الزاني والزانية، حتى يقال: ابن فلان، وابن فلانة، م: (كملا) ش: على وجه الكمال إضافة حقيقية وعرفا وهذه علة ثبوت الجزئية بين الواطئ والموطوءة.
فإن قيل: ما ذكرتم أن الولد يضاف إلى كل واحد كملا ممنوع، لأنه ليس بولد.
قلت: يضاف إليه إلا ترى أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أثبت للزاني الحجر.
وجعل كمل الولد منسوبا إلى صاحب الفراش بقوله: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» وإضافة الولد إلى كل واحد منهما ليست بطريق الحقيقة، بل بعضها يضاف إليه حقيقة وبعضه مجازا، والولد مخلوق من مائهما، فكان البعض متولدا من أحدهما، والبعض متولد من الآخر ضرورة، لأن المائين لما اختلطا حصلت المجاورة بينهما، والمجاورة من طريق المجاز.
يقال: جرى النهر وسال الميزاب، فكذا هذا، أجيب: بأن الولد يضاف إلى كل منهما والأصل أن الاستعمال بطريق الحقيقة لا بطريق المجاز، ولأن هذا إضافة واحدة إلى شخص واحد وقد حملت الحقيقة في البعض فلا يجوز حملها على المجاز في البعض الآخر؛ لأن اللفظ الواحد لا يطلق على الحقيقة والمجاز في الحالة الواحدة.
م: (فتصير أصولها) ش: هذه نتيجة قوله: حتى يضاف إلى كل واحد منهما فتصير أصول الموطوءة م: (وفروعها كأصوله وفروعه) ش: أي كأصول الواطئ وفروعه، وأراد بالأصول آباءهما وبالفروع أولادهما في الحل والحرمة.
م: (وكذلك على العكس) ش: أي وكذلك تصير أصوله وفروعه كأصولها وفروعها والاستمتاع بالجزء حرام، هذا جواب عما يقال: لو كان الأمر كذلك لكانت الحرمة ثابتة في نفس المرأة الموطوءة؛ لأنها حينئذ جزء الواطئ.
فأجاب بقوله: م: (الاستمتاع بالجزء حرام إلا في موضع الضرورة وهي الموطوءة) ش: لأنها لو قيد بحرمتها لما حلت امرأة فيؤدي إلى إبطال المقصود من شرع النكاح وهو التوالد والتناسل، فمعنى الضرورة لم يعتبر ذلك هنا كما حلت حواء لآدم - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -.
وقد خلقت منه حقيقة فحلت له ضرورة وحرمت ابنتها م: (والوطء محرم) ش: بكسر الراء جواب عن قوله: فلا ينال بالمحظور، وتقديره أن يقال: إن الوطء حرام م: (من حيث إنه زنا(5/34)
لا من حيث إنه سبب الولد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا من حيث إنه سبب الولد) ش: وفي بعض النسخ والوطء محرم من حيث إنه سبب الولد، لا من حيث إنه زنا، والذي يظهر من كلام الشراح هنا أن هذه النسخة هي الصحيحة.
فإن الأكمل قال: بيانه أن الوطء ليس سبب الحرمة من حيث ذاته، ولا من حيث إنه زنا، وإنما سبب لها من حيث إنه سبب للولد أقيم مقامه كالسفر مع المشقة ولا عدوان ولا معصية للسبب الذي هو الوطء، لعدم اتصافه بذلك، لا يقال: ولد عصيان ولا عدوان، والشيء إذا قام مقام غيره يعتبر فيه صفة أصله لا صفة نفسه كالتراب في التيمم.
وقال الشبلي لا عدوان ولا عصيان في المسبب الذي هو الولد، فكذا لا عصيان في المسبب الذي قام مقامه في ذلك الوجه وهو الزنا، لأن وصف النائب إنما يوجب في وصف المنوب كما في التيمم مع الوضوء.
وقال الكاكي: معنى ابتناء الحرمة بالوطء بواسطة أنه سبب للماء، والماء سبب للولد، ووجود الولد هو الأصل في الإعتاق باعتبار أنه جزء لوالدين ولا عصيان فيه، فكان الوطء قائما مقام الماء نظرا لكون الماء مطهرا وسقط وصف التراب، انتهى.
فإن قلت: قال الشافعي: النكاح أمر حمدت عليه، والزنا فعل رجمت عليه، فأنى يكون سببا للنعمة، ألا ترى أنه لا يثبت به النسب ولا العدة، فكذا جهة المصاهرة، لأنه لو كان سببا للنعمة يفضي إلى تكثير الزنا.
واستدل أيضا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحرام لا يحرم الحلال» هكذا رواه ابن عباس _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - _ وروى أبو هريرة _ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - _ أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عمن زنى بامرأة ثم تزوج بأمها، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحرم الحرام الحلال» «وقالت عائشة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - _: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل أتى امرأة فجورا ثم تزوج بنتها، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يحرم الحرام الحلال» .(5/35)
ومن مسته امرأة بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها. وقال الشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _: لا تحرم، وعلى هذا الخلاف مسه امرأة بشهوة ونظرها إلى ذكره عن شهوة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: أجيب بأن عدم ثبوت النسب به لكون المقصود من النسب الشرف به، ولا يحصل ذلك بالنسبة إلى الزاني وعدم وجوب العدة لكون وجوبها في الأصل وباعتبار حق النكاح والفراش، وبين النكاح والسفاح منافاة، فبانعدام الفراش ينعدم السبب الموجب للعدة.
واستدلاله بالحديث لا يصح إلا ما لا يجعل الحرام محرما للحلال، وإنما تثبت الحرمة باعتبار أن الفعل حرمة للولد، وحرمة هذا الفعل لكونه زنى، مع أن هذا الحديث غير مجرى على ظاهره.
فإن كثيرا من الحرام يحرم الحلال، كما إذا وقعت قطرة من خمر في الماء، وكالوطء بالشبهة، ووطء الأمة المشركة، ووطء الأب جارية الابن، هذا كله حرام حرم الحلال.
وفي حديثهم الأول عثمان بن عبد الرحمن الرقاشي، قال يحيى بن معين: كان يكذب، وقال البخاري، وأبو داود، والنسائي: ليس بشيء، وقال الدارقطني: متروك.
وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات لا يجوز الاحتجاج به. وأما الحديث الآخر فضعيف، فقال أحمد: حديثهم من كلام ابن أشرح بعض قضاة العراق، وقيل: من قول ابن عباس وكبار أصحابه خالفوه في ذلك.
[مسته امرأة بشهوة هل تحرم عليه أمها وبنتها]
م: (ومن مسته امرأة بشهوة حرمت عليه أمها وبنتها) ش: وفي جميع التفاريق سواء كان ذلك المس عمدا أو خطأ أو ناسيا أو طائعا أو مكرها، إذا اشتهى، وفي " القنية ": لو قال: لم أشته لم يصدق.
وقال الكاكي: سواء كان اللمس حلالا أو حراما، وبه قال الشافعي في قول، ومالك في الحلال، فإنه ذكر في " المبسوط ": لو قبل أمة بشهوة لا يتزوج بنتها، وكذا لو قبل امرأته بشهوة ثم ماتت قبل الوطء لا يتزوج بنتها.
م: (وقال الشافعي: لا تحرم) ش: في قول، وبه قال أحمد سواء كان في الحلال أو الحرام م: (وعلى هذا الخلاف) ش: المذكور بينا وبين الشافعي م: (مسه امرأة بشهوة) ش: أي مس الرجل امرأته بشهوة م: (ونظرها إلى ذكره عن شهوة) ش: وكذا في الخلاف في التقبيل والمفاخذة.
وقال أبو الليث _ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - _: في مسها له تأويل المسألة أنه إذا صدق الرجل المرأة أنها مسته بشهوة، ولو كذبها ولم يقع في أكبر رأيه أنها فعلت عن شهوة ينبغي أنه لا تحرم عليها أمها وابنتها، كذا في " جامع قاضي خان " و " المحبوبي ".
وفي " المجتبى ": تثبت حرمة المصاهرة بمسها إذا كانت مشتهاة وهي بنت سبع سنين(5/36)
له أن المس والنظر ليسا في معنى الدخول، ولهذا لا يتعلق بهما فساد الصوم والإحرام ووجوب الاغتسال فلا يلحقان به. ولنا أن المس والنظر سبب داع إلى الوطء فيقام مقامه في موضع الاحتياط
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فصاعدا، ولا تثبت في بنت الخمس، وفيما بنت الخمس والتسع، وقال أبو الليث: تكلموا في الثمان والسبع والست. والغالب أنها لا تشتهى ما لم تبلغ تسع سنين، وقال الشهيد في كتاب " البينات " وعليه الفتوى.
م: (له) ش: أي للشافعي م: (أن المس والنظر ليسا في معنى الدخول، ولهذا) ش: أي لكونهما ليسا في معنى الدخول م: (لا يتعلق بهما) ش: أي بالمس والنظر، أي فلا يلحق المس والنظر به م: (فساد الصوم والإحرام ووجوب الاغتسال فلا يلحقان) ش: أي بالدخول، لأن الملحق لا بد أن يكون في معنى الملحق به.
م: (ولنا أن المس والنظر سبب داع إلى الوطء فيقام) ش: أي السبب الداعي إلى الوطء م: (مقامه) ش: أي مقام الوطء م: (في موضع الاحتياط) ش:، وهذا لأنا وجدنا لصاحب الشرع يزيد اعتناء في حرمة الأبضاع.
ألا ترى أنه أقام بشبهة البعضية بسبب الرضاع مقام حقيقتها في إثبات الحرمة دون سائر الأحكام من التوارث ومنع موضع الذكورة، ومنع قبول الشهادة، فأقمنا السبب الداعي مقام المدعو احتياطا وفساد الصوم والإحرام.
ووجوب الاغتسال ليس من باب حرمة الأبضاع حتى يقوم السبب فيه مقام الوطء، ونوقض بأن ما ذكرتم إن كان صحيحا قام النظر إلى جمال المرأة مقام الوطء في ثبوت الحرمة لكونه سببا داعيا إليه.
أجيب: بأن النظر إلى الفرج المحرم وهو ما يكون نظرا إلى داخل الفرج بأن كانت ممكنة وهو لا يحل إلا في الملك، والظاهر من ذلك أنها لا تكون على هذه الحالة في خلوة الأجانب.
قال الأكمل: فانظر بعد هذا في أن النظر إلى الجمال الحلال في الملك وغيره [ ... ] ولا هل يكون داعيا إلى الوطء دعوة النظر إليه أو لا؟ لا أراك قائلا بذلك إلا مكذبا. انتهى قال الكاكي هنا: ولنا حديث أم هانئ _ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - _ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نظر إلى فرج امرأة حرمت عليه أمها وابنتها» .
وفي حديث: «ملعون من نظر إلى فرج امرأة وابنتها» ، وعن عمر _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ أنه جرد جارية له ونظر إليها ثم استوهبها منه بعض بنيه، فقال: أما إنها لا تحل لك.
وعن ابن عمر _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ أنه قال: إذا جامع الرجل المرأة أو قبلها أو لمسها(5/37)
ثم إن المس بشهوة أن تنتشر الآلة، أو تزداد انتشارا هو الصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة حرمت على أبيه وابنه وحرمت عليه أمها وابنتها، انتهى.
قلت: حديث أم هانئ أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه "، وقوله في الحديث: ملعون إلى آخره أخرجه الجرجاني، وعن إبراهيم: كانوا يقولون: إذا اطلع الرجل من المرأة على ما لا يحل له أو لمسها بشهوة فقد حرمت عليه جميعا.
وعن عطاء وإبراهيم والحكم وحماد بن أبي سليمان ومجاهد وجابر بن زيد وابن المسيب مثله، وعن ابن منبه قال: في التوراة التي أنزل الله على موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أنه لا يكشف رجل امرأة وابنتها إلا وهو ملعون، ذكر ذلك كله ابن أبي شيبة في " مصنفه ".
م: (ثم إن المس بشهوة أن تنتشر الآلة) ش: هذا تعريف المس بشهوة وهو أن تنتشر الآلة يعني إذا لم تكن منتشرة قبل النظر والمس م: (أو تزداد انتشارا) ش: إذا كانت منتشرة قبل ذلك.
م: (هو الصحيح) ش: احترز به عن قول كثير من المشايخ بحيث لم يشترطوا انتشارا، وجعلوا حد الشهوة أن يميل قلبه إليها ويشتهي جماعها، واختار المصنف قول شمس الأئمة السرخسي.
وقول شيخ الإسلام في " المحيط ": والأصح قول كثير من المشايخ المذكور، وإن كان شيخا أو عنينا فحد الشهوة فيه أن يتحرك قلبه بالاشتهاء إن لم يكن متحركا ولا يعتبر مجرد الاشتهاء، وهكذا ذكره السرخسي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - _ وحكي عن محمد بن إبراهيم الميداني أنه كان يميل إلى هذا.
وفي " الذخيرة ": لا تثبت هذه الحرمة بالنظر إلى سائر الأعضاء غير الفرج، وإن كان عن شهوة، وقال الصفار: إن كان لا يشتهي بقلبه لعلو سنه فإن مس مقدار ما لو كان شابا تنتشر آلته تثبت الحرمة.
وكان الفقيه محمد بن مقاتل الرازي لا يعتبر تحرك القلب، وإنما يعتبر تحرك الآلة، وكان لا يفتي بثبوت الحرمة في الشيخ الكبير والعنين والذي ماتت شهوته حتى تتحرك آلته لمماسته.
وروى ابن رستم عن محمد أنه إذا لمسها بشهوة فلم ينتشر عضوه أو كان منتشرا، فلم يزدد انتشارا وهو لامسها بعد، وإن كان بينهما ثوب رقيق يجد حرارة الملموس في يده تثبت الحرمة.
وفي " طلاق المنتقى " للحسن بن زياد عن أبي يوسف: إذا لمس شهوة من جسد أم امرأته من فوق الثياب عن شهوة وهو يجد من جسدها حرارة حرمت عليه امرأته، وكذا مس رجلها فوق الكعب أو مس ساق الخف وأسفل الخف.(5/38)
والمعتبر النظر إلى الفرج الداخل، ولا يتحقق ذلك إلا عند اتكائها، ولو مس فأنزل فقد قيل: إنه يوجب حرمة المصاهرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى إبراهيم عن إبراهيم عن محمد أن النظر إلى دبر المرأة موضع الجماع، ثم النظر إلى فرج المرأة ثم رجع، وقال: لا يحرم، لا النظر إلى الفرج من داخل، ومثله عن أبي يوسف _ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقيل: الشهادة على إقراره بالمس والتقبيل بشهوة، وهل يقبل على ذلك بغير إقراره، قيل: لا يقبل، وإليه مال محمد بن الفضل لأنه لا يوقف على ذلك، وقيل: يقبل وإليه مال علي البزدوي.
وفي " نوادر ابن سماعة " عن أبي يوسف: رجل نظر إلى بنته من غير شهوة فتمنى أن يكون له جارية مثلها فوقعت له شهوة مع وقوع نظره، فإن كانت الشهوة على ابنته حرمت عليه امرأته، وإن كانت على ما تمنى لم تحرم.
وفي " واقعات الناطفي " و " المحيط ": أقام امرأته عن فراشه ليجامعها ومعها ابنتها فوصلت يده إليها فقرصها بأصبعه يظن أنها امرأته وهي تشتهى، حرمت عليه امرأته، وإن كان يحسبها امرأته، لأنه مسها بشهوة، ولا يشترط بلوغها، ويشترط أن تكون مشتهاة.
وعن محمد بن الفضل: بنت تسع مشتهاة من غير تفصيل، وبنت خمس فما دونها غير مشتهاة، وبنت ثمان وسبع وست إن كانت عبلة ضخمة كانت مشتهاة وإلا فلا. وفي " الينابيع ": لو جامع ابنة امرأته فأفضاها وأفسدها لا تحرم عليه أمها.
وقال أبو يوسف: أكره له الأم والبنت، وفي " المحيط ": تحرم عليه أمها، وقال محمد: التنزه أحب إلي، ولا فرق بينهما، ولو وطء جارية ابنته من الزنا فولدت منه لا تصير أم ولد له بالاتفاق، وسئل ابن سلمة عن امرأة أدخلت ذكر صبي في فرجها وهو ليس من أهل الجماع، قال: تثبت به حرمة المصاهرة.
م: (والمعتبر النظر إلى الفرج الداخل ولا يتحقق ذلك) ش: أي النظر إلى داخل الفرج م: (إلا عند اتكائها) ش: إلا إذا كانت متكئة، أما إذا كانت قاعدة مستوية أو قائمة، ونظر إليها لا تثبت حرمة المصاهرة لأن هذا الحكم متعلق بالفرج، والداخل فرج من كل وجه، والخارج فرج من وجه دون وجه لأن الاحتراز من النظر إلى الفرج الخارج متعذر، فسقط اعتباره. وعن أبي يوسف: لو نظر إلى بيت الشعر ثبت حرمة المصاهرة، وقال محمد: لا يثبت حتى ينظر إلى الشعر ذكره قاضي خان.
م: (ولو مس فأنزل فقد قيل: إنه يوجب حرمة المصاهرة) ش: وبه كان يفتي شمس الإسلام(5/39)
والصحيح أنه لا يوجبها لأنه بالإنزال تبين أنه غير مفض إلى الوطء، وعلى هذا إتيان المرأة في الدبر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأوزجندي، ووجهه أن مجرد المس بشهوة يثبت الحرمة، وهذه إن كانت توجب زيادة حرمة لا توجب خلافها.
م: (والصحيح أنه لا يوجبها) ش: هذا اختيار المصنف وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي والإمام فخر الإسلام.
م: (لأنه بالإنزال تبين أن غير مفض إلى الوطء، وعلى هذا) ش: أي على هذا الخلاف م: (إتيان المرأة في الدبر) ش: أي دبر المرأة، أما لو لاط بغلام لا يوجب ذلك حرمة عند عامة العلماء، وقد ذكرناه فيما مضى.
وقال الشافعي: لو أتى امرأته بنكاح صحيح أو فاسد في دبرها أو أمته في دبرها تثبت به حرمة المصاهرة فيه قولان، ثم الإتيان في دبر المرأة حرام بإجماع الفقهاء.
وروي عن ابن عبد الحكم عن الشافعي أنه قال: لم يصح تحريمه عندنا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والقياس أنه حلال، فقال ابن الربيع: كذب ابن عبد الحكم، فإن الشافعي نص على تحريمه.
وقال شيخنا في " شرح الترمذي " له: قد انعقد الإجماع آخرا على تحريم إتيان المرأة في الدبر، وإن كان فيه خلاف قديم قد انقطع، وكل من روي عنه إباحته فقد روي عنه إنكاره.
فأما القائلون بتحريمه من الصحابة، فعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وابن مسعود، ومن التابعين: سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن المسيب، وطاوس، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وسفيان الثوري، والشافعي، وآخرين من أهل العلم.
قال الشيخ: ولم يختلف فيه أحد من الصحابة إلا ابن عمر ولا من التابعين إلا نافع، وأما ابن عمر _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - _ فروى النسائي في " سننه الكبرى " من طريق مالك قال: أشهد على ربيعة حدثني عن سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر عن ذلك. فقال: لا بأس به.
وقد صح عن ابن عمر أيضا إنكار ذلك فيما رواه النسائي في " سننه الكبرى " من طريق مالك قال: أشهد من رواية الحارث بن يعقوب عن سعيد بن يسار قال: قلت لابن عمر: إن متسري الجواري يتحمض لهن، قال: وما التحميض، قال: يأتيهن في أدبارهن، قال ابن عمر: أو يفعل هذا مسلم؟! وروى الثعلبي في " تفسيره " من رواية عطاف بن موسى عن عبد الله بن الحسن عن أبيه أنه حكى عن مالك إباحة ذلك، وأنكره أصحابه.(5/40)
وإذا طلق امرأته طلاقا بائنا أو رجعيا لم يجز له أن يتزوج بأختها حتى تنقضي عدتها. وقال الشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _: إن كانت العدة عن طلاق بائن أو ثلاث يجوز لانقطاع النكاح بالكلية إعمالا للقاطع، ولهذا لو وطئها مع العلم بالحرمة يجب الحد. ولنا أن نكاح الأولى قائم لبقاء بعض أحكامه كالنفقة والمنع من الخروج والفراش والقاطع تأخر عمله ولهذا بقي لو وطئ القيد. والحد لا يجب على إشارة كتاب الطلاق،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[طلق امرأته طلاقا بائنا أو رجعيا متى يجوز له أن يتزوج بأختها]
م: (وإذا طلق امرأته طلاقا بائنا أو رجعيا لم يجز له أن يتزوج بأختها حتى تنقضي عدتها) ش: وكذا لا يتزوج بأربع سواها، ولا بعمتها، ولا بخالتها، ولا ببنت أختها، وكذا الفسخ بعد الدخول بها حتى تنقضي عدتها يروى ذلك عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - _، وبه قال سعيد بن المسيب، وعبيدة السلماني، ومجاهد، والنخعي، والثوري، وابن حنبل، ذكر ذلك في " المغني ".
م: (وقال الشافعي: إن كانت العدة عن طلاق بائن أو ثلاث يجوز) ش: وقال [به] مالك وابن أبي ليلى وأبو ثور وابن عبيد وابن المنذر، ويروى عن القاسم بن محمد وعروة م: (لانقطاع النكاح بالكلية إعمالا للقاطع) ش: وهو الطلاق البائن والثلاث.
م: (ولهذا) ش: أي لأجل انقطاع النكاح بالكلية إعمالا للقاطع، ولهذا م: (لو وطئها مع العلم بالحرمة يجب الحد) ش: ولو جاءت بولد لأكثر من سنتين لم يثبت النسب، ولو بقيت بينهما علقة النكاح لسقط به الحد، ويثبت النسب.
وإنما العدة واجبة لأنه من محرم لا لأنها من حقوق النكاح حتى لا يجب بدون توهم الدخول، فكما كان من العدة حق النكاح لا يعتبر توهم الدخول كعدة الوفاة، كذا في " المبسوط ".
م: (ولنا أن نكاح الأولى) أي المرأة الأولى، وفي بعض النسخ النكاح الأول م: (قائم لبقاء بعض أحكامه كالنفقة والمنع من الخروج) ش: من المسلم.
م: (والفراش) أي وكالفراش وهو صيرورة المرأة بحال لو جاءت بولد ثبت النسب م: (والقاطع) ش: وهو الطلاق، وهو جواب عن قول الشافعي: يجوز انقطاع النكاح بالكلية م: (تأخر عمله) ش: إلى زمان انقطاع العدة لبقاء حكم النكاح.
فلو لم يكن قائما حال العدة تخلف الحكم عن علته، وهو باطل م: (ولهذا لو وطئ المعتدة بقي القيد) ش: أي في حق التزوج بزوج آخر، وفي حق الخروج والبروز في العدة، والحد كما يجب هذا جواب عن قوله: ولهذا لو وطئها مع العلم بالحرمة يجب الحد.
م: (والحد لا يجب على إشارة كتاب الطلاق) ش: معنى إشارته ما ذكر في باب ثبوت(5/41)
وعلى عبارة كتاب الحدود: يجب؛ لأن الملك قد زال في حق الحل فيتحقق الزنا ولم يرتفع في حق ما ذكرنا فيصير جامعا.
ولا يتزوج المولى أمته ولا المرأة عبدها؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النسب، أي الموطوءة إذا جاءت بولد لأكثر من سنتين، أو لتمام سنتين من بعد الطلاق فادعاه المطلق يثبت نسبه منه.
فدل على أن هذا شبهة في المحل، والشبهة إذا كانت في المحل يستوي فيه العلم والظن في سقوط الحد عنه، بخلاف الشبهة في الفعل، فإن النسب لا يثبت بها أصلا، كما لو وطئ جارية أبيه أو أمه أو زوجته، وقال: ظننت أنها تحل لي.
م: (وعلى عبارة كتاب الحدود: يجب) ش: أي الحد م: (لأن الملك قد زال في حق الحل، فيتحقق الزنا) ش: لوقوع الوطء في غير الملك فيجب الحد م: (ولم يرتفع) ش: أي الملك م: (في حق ما ذكرنا) ش: يعني من النفقة. والمنع والفراش وليس هذا إلا باعتبار الحكم بقيامه والنكاح في حق التزوج بالأخت احتياطا في التعادي عن الجمع بين الأختين وهو يعني قوله م: (فيصير جامعا) ش: يعني إذا كان الملك قد زال في حق الحل، وتزوج أختها يصير جامعا بين الأختين.
فإن قلت: ما معنى ذكر لفظ الإشارة في عدم وجوب الحد، ولفظ العبارة في وجوب الحد.
قلت: لأنها في المسألة الأولى التي ذكرنا صورتها، وهي نسبه، ويثبت نفيها إشارة إلى أن الوطء في عدة الثلاث لا يكون زنا، فلا يجب الحد.
وفي المسألة الثانية يفهم وجوب الحد من نفس العبارة؛ لأنه وطء في غير الملك فصار زنا وموجب الزنا الحد.
[لا يتزوج المولى أمته ولا المرأة عبدها]
م: (ولا يتزوج المولى أمته) ش: سواء ملك كلها أو بعضها م: (ولا المرأة عبدها) ش: أي ولا تتزوج المرأة عبدها، سواء ملكت كله أو بعضه، وبهذا قالت الأئمة الأربعة، وعليه الإجماع. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على بطلان نكاح المرأة عبدها، انتهى. ونفاة القياس جوزوا ذلك، واستدلوا بقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] (النساء: الآية 3) ، وقَوْله تَعَالَى: {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] (النساء: الآية 25) .
والجواب: أن الآية المذكورة يعارضها قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] (النور: الآية 32) ، خاطب الله تعالى الموالى بإنكاح الإماء لا بنكاحهن.
فإن قيل: الآية ساكتة عن نكاحهن، والساكت ليس بحجة.
فالجواب: أن الموضع موضع ما يحتجن إليه من أمر النكاح، والسكوت عن البيان في موضع يحتاج إلى البيان بيان.(5/42)
لأن النكاح ما شرع إلا مثمرا بثمرات مشتركة بين المتناكحين والمملوكية تنافي المالكية فيمتنع وقوع الثمرة على الشركة.
ويجوز تزوج الكتابيات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن النكاح ما شرع إلا مثمرا بثمرات مشتركة بين المتناكحين) ش: ثمرته للزوجة وجوب المهر والكسوة والنفقة ووجوب الوطء عليه حكما، وما بعدها وبأنه لا يحل له العزل بغير رضاها، ولها الخيار بالجب والعنة، وثمرته للزوج التمكين من نفسها، وقرارها في بيته. وأعمال داخل البيت من الطبخ وغسل ثيابه وتربية ولده منها وإرضاعها، بمكان كل واحدة منهما مالكا ومملوكا، وبينهما منافاة، أشار إليه بقوله: م: (والمملوكية تنافي المالكية) ش: لأن المالكية تقتضي الظاهرية، والمملوكية تقتضي المقهورية ولا خفاء في التنافي بينهما فإن كان كذلك.
م: (فيمتنع وقوع الثمرة على الشركة) ش: لأن ملك أحدهما صاحبه ينفي وقوع الثمرة على الاشتراك، وإذا انقطعت الشركة ينقطع الملك ما يثبت لعينه في باب النكاح، وإنما يثبت لتحقيق الثمرات.
فإن قيل: المالكية والمملوكية من جهتين مختلفتين فلا تنافي حينئذ.
فالجواب عنه: اختلاف الجهة، لأن كون المرأة مالكة بجميع أجزائها إنما هو بالنسبة إلى العبد، فلم تختلف، ولقائل أن يقول: المرأة بجميع أجزائها مالكة للعبد بجميع أجزائه.
وليست مالكة لمنافع بضعه فجاز أن يملك العبد بالنكاح على سيدته منافع بضعها؛ لأن النكاح عقد على ملك منافع البضع وهو لم يكن من حيث منافع بضعه مملوكا، ولا المولى من حيث منافع بضعها مالكة، بل من حيث أجزائها.
[تزوج الكتابيات والمجوسيات والوثنيات والصابئات]
م: (ويجوز تزوج الكتابيات) ش: جمع كتابية، والذكر كتابي، وهو الذي يؤمن بنبي ويقر بكتاب، ولا خلاف للأئمة الأربعة في جواز نكاح الكتابية الحرة، وهي النصرانية واليهودية.
وممن آمن بزبور داود، وصحف إبراهيم وشيث - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، والسامرة من اليهود اختلفوا فيه، ولكن قال الشافعي: ينبغي أن تكون إسرائيلية، يعني من أولاد إسرائيل، وهو يعقوب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأما التمسك بكتب الأنبياء السالفة، بصحف إبراهيم وموسى وإدريس لا يجوز نكاحهم، كذا في " شرح الوجيز ".
وممن روي عنهم جواز حرائر أهل الكتاب عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وحذيفة، وسلمان، وجابر وغيرهم _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
ويروى عن ابن عمر أنه كان لا يجوز نكاح الكتابية، وقالت الإمامية: لا يجوز نكاح الكتابية إلا عند عدم المسلمة لاختلاف العلماء في كونهم مشركين، قول الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] (البقرة: الآية 221) ، أي حتى يسلمن من أهل الكتاب.(5/43)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] (المائدة: الآية 5) ، أي العفائف
ولا فرق بين الكتابية الحرة والأمة على ما تبين بعد إن شاء الله تعالى: ولا يجوز تزويج المجوسيات،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واختلف أهل العلم أن لفظ الشرك يتناول أهل الكتاب، فقال بعضهم: يتناوله لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] ش: (التوبة: الآية 30) .
ثم قال في آخر الآية: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] والأصح أن اسم الشرك مطلقا لا يتناول أهل الكتاب لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] (الحجر: الآية 2) ، {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1] (البينة: الآية 1) ، والعطف يقتضي المغايرة، والمطلق ينصرف إلى الكامل.
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] (المائدة: الآية 5) ش: أي الكتابيات من أحصنت إذا عفت، وأحصنها زوجها إذ أعفها فهي محصنة بالفتح م: (أي العفائف) ش: فسر المصنف المحصنات بالعفائف، وكذا فسر السدي والشعبي.
قال الأكمل: تفسيره بذلك احترازا عن قول ابن عمر _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - _، فإنه فسره بالمسلمات، وليست العفة شرطا لجواز النكاح، وإنما ذكرها بناء على العادة بدلالة الفرض.
وجه الاستدلال أن الله تعالى قال: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ} [المائدة: 5] (المائدة: الآية 5) ، أي: وأحل لكم المحصنات من الذين أوتوا الكتاب فلا خفاء في دلالته على الحل، والعفائف جمع عفيفة من عف عن الحرام يعف عف وعفة، أي كف وهو عف وعفيف، والمرأة عفة وعفيفة.
م: (ولا فرق بين الكتابية الحرة والأمة على ما نبين بعد إن شاء الله تعالى) ش: يعني بعد أسطر، حيث قال: ويجوز تزويج الأمة.
وقال الكاكي: الأولى أن لا يتزوج الكتابية، ولا تؤكل ذبيحتهم إلا للضرورة، لما روي أن عمر _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ غضب على حذيفة، وكعب، وطلحة غضبا شديدا، فقالوا: انطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، وكان حذيفة بن اليمان تزوج يهودية، وكذا كعب بن مالك، وطلحة بن عبيد الله.
م: (ولا يجوز تزويج المجوسيات) ش: أي بإجماع الأئمة الأربعة، وفقهاء الأمصار، والصحابة، وهي جمع مجوسية، والذكر مجوسي، والمجوس: يعبدون النار.
وفي " المبسوط ": لا يجوز نكاحها؛ لأنها ليست من أهل الكتاب، وذكر إسحاق في " تفسيره ": جواز نكاحها، على ما روي عنه أن المجوس من أهل الكتاب، وبه قال داود(5/44)
لقولة - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم» .
قال: ولا الوثنيات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الظاهري وأباح وطأهن بملك اليمين سعيد بن المسيب، وعطاء وعمرو بن دينار، ومالك.
وقال السروجي: وأباح أبو ثور وداود الظاهري نكاح المجوسية، وروي ذلك عن حذيفة، وقال مرة الهمداني، والحسن، وإبراهيم، وحماد: لا يطأ المجوسية حتى تسلم.
وبه قال الشافعي وأحمد، قال أبو عمر بن عبد البر: عليه جماعة فقهاء الأمصار، ولم يبلغنا إباحة ذلك إلا عن طاوس.
قلت: قد ذكرنا إباحة ذلك عن غير طاوس، وقال السروجي: لا يجوز أنكحة عبدة الشمس والكواكب، وكل من لا كتاب له ولا نكاح الزنادقة والمعطلة.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم» ش: هذا الحديث بهذا اللفظ غريب، وقال الأكمل: رواه عبد الرحمن ابن عوف، قلت ليست روايته هكذا، ونذكر حديثه الآن كما ورد:
روى عبد الرزاق وابن أبي شيبة في " مصنفيهما " عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد عن علي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام فمن [أسلم] قبل منه ومن لم يسلم ضربت عليه الجزية غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم» .
وقال ابن القطان: هذا مرسل، ومع إرساله ففيه قيس بن مسلم وهو ابن الربيع، وقد اختلف وهو ممن ساء حفظه بالقضاء كشريك وابن أبي ليلى.
وروى البزار في " مسنده " والدارقطني في " غرائب مالك " من حديث علي الحنفي حدثنا مالك بن أنس عن جعفر بن محمد عن أبيه «عن عمر بن الخطاب _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _، ذكر المجوس، فقال: لا أدري كيف أصنع في أمرهم، فقال عبد الرحمن _ رضي الله تعالى _عنه: أشهد سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ، انتهى.
قوله: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» أي اسلكوا بهم طريقهم، يعني عاملوهم معاملتهم في إعطاء الأمان وأخذ الجزية.
[زواج المحرم والمحرمة في حالة الإحرام]
م: (قال: ولا الوثنيات) ش: أي قال القدوري: ولا يجوز أيضا تزويج الوثنيات، وهو جمع وثنية، والذكر وثني، ونسبته إلى عبادة الوثن وهو ماله جثة من خشب أو حجر أو فضة أو جوهر ينحت، والجمع أوثان.(5/45)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] (البقرة: الآية 221) . ويجوز تزوج الصابئات إن كانوا يؤمنون بدين نبي ويقرون بكتاب؛ لأنهم من أهل الكتاب. وإن كانوا يعبدون الكوكب ولا كتاب لهم لم تجز مناكحتهم؛ لأنهم مشركون. والخلاف المنقول فيه محمول على اشتباه مذهبهم، فكل أجاب على ما وقع عنده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكانت العرب تنصبها لتعبدها، ويدخل في الوثنيات عبدة الشمس وعبدة النجوم والصور التي أنحتوها، والمعطلة والزنادقة والباطنية والإباحية وفي " شرح الوجيز ": وكذا كل مذهب يكفر معتقده، لأن اسم الشرك يتناولهم جميعا م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] (البقرة: الآية 221) ش: وهو بعمومة يتناول الوثنية. قال الأكمل: وهي من يعبد الصنم وغيره.
قلت: الوثنية من تعبد الوثن وقد قررناه الآن. والصنم غيره لأنه صورة بلا جثة، كذا فرق بينهما كثير من أهل اللغة، وقيل: لا فرق بينهما وقيل: قد يطلق الوثن على غير الصور.
م: (ويجوز تزويج الصابئات) ش: هو جمع صابئة، والذكر صابئ، من صبئ إذا خرج من دين إلى دين، وقال السدي: الصابئون: طائفة من اليهود كالسامرة، وقال أبو إسحاق: هو قول عمر بن الخطاب _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _، وقال قاض خان: وهو قول علي _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _.
وفي " الذخيرة القرافية ": الصابئون من النصارى، والسامرة من اليهود: يجوز مناكحتهم، وفي " المغني " عن أحمد: أنهم طائفة من النصارى، ونص عليه الشافعي، وهو قول إسحاق بن راهويه.
وقيد المصنف جواز تزويج الصابئات بقوله م: (إن كانوا يؤمنون بدين نبي) ش: أي كانت جماعة الصابئة يؤمنون بنبي من الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - م: (ويقرون بكتاب) ش: من الكتب المنزلة من السماء م: (لأنهم من أهل الكتاب) ش: أي حين يؤمنون بنبي ويقرون يكونون من أهل الكتاب، ولا خلاف في تزويج الكتابيات.
م: (وإن كانوا يعبدون الكواكب ولا كتاب لهم لم تجز مناكحتهم، لأنهم مشركون) ش: فلا تجوز مناكحتهم، قالوا: هم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الكواكب، والتفصيل المذكور في حكمهم مبني على هذين التفسيرين.
م: (والخلاف المنقول فيه) ش: يعني بين أبي حنيفة وصاحبيه أن أنكحتهم صحيحة عنده، خلافا لهما: (محمول على اشتباه مذهبهم) ش: أي كل واحد من أبي حنيفة وصاحبيه م: (فكل أجاب على ما وقع عنده) ش: فوقع عند أبي حنيفة أنهم من أهل الكتاب يقرؤون الزبور ولا يعبدون الكواكب.(5/46)
وعلى هذا حل ذبيحتهم. قال: ويجوز للمحرم والمحرمة أن يتزوجا في حالة الإحرام وقال الشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _: لا يجوز، وتزويج الولي المحرم وليته على هذا الخلاف المذكور، فعندنا يجوز، وعنده لا يجوز له، قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ينكح المحرم ولا ينكح غيره»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولكنهم يعظمونها كتعظيمنا القبلة للاستقبال إليها، ووقع عندهما أنهم يعبدون الكواكب، ولا كتاب لهم، فصاروا كعبدة الأوثان، فإذا لا خلاف بينهم في الحقيقة؛ لأنهم إن كانوا كما قال أبو حنيفة جاز مناكحتهم عندهما أيضا، وإن كانوا كما قالا فلا يجوز مناكحتهم عنده أيضا.
وقال مجاهد والحسن: لا كتاب للصائبة، وقال أبو العالية وقتادة: يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرءون الزبور. وقال عبد الرحمن بن زيد: يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم كتاب، ولا نبي، ولا عمل.
وقال مقاتل: هم قوم يقرون بالله ويعبدون الملائكة ويقرءون الزبور ويصلون إلى الكعبة، أخذوا من كل دين شيئا، وقال الكلبي: هم قوم من النصارى يحلقون وسط رءوسهم ويجبون مذاكيرهم.
وقال عبد العزيز بن يحيى: قد درجوا وانقرضوا فلا عين ولا أثر، وقال الخليل: هم قوم يشبه دينهم دين النصارى، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب فيزعمون أنهم على دين نوح - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
م: (وعلى هذا حل ذبيحتهم) ش: أي وعلى الخلاف المنقول فيه حل ذبيحتهم، فعند أبي حنيفة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _: تحل ذبائحهم، وعندهما لا تحل، وذكر شيخ الإسلام في " شرح أبو اليسر " أن الصابئين تحل ذبائحهم ونساؤهم عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، خلافا لمحمد، والسرخسي ذكر أن أبا يوسف مع محمد وهو المشهور.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويجوز للمحرم والمحرمة أن يتزوجا في حال الإحرام) ش: قال الحافظ أبو جعفر الطحاوي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - _: وهو قول عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - _.
وبه قال سعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وجابر وعمرو بن دينار وأيوب السختياني، وعبد الله بن أبي نجيح، وهو مذهب أهل العراق.
م: (وقال الشافعي: لا يجوز) ش: وبه قال مالك وأحمد م: (وتزويج الولي المحرم وليته) ش: أي موليته م: (على هذا الخلاف المذكور، فعندنا يجوز، وعنده لا يجوز له) ش: أي للشافعي.
م: (قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينكح المحرم ولا ينكح غيره» .
ش: هذ الحديث رواه الجماعة إلا البخاري من حديث عثمان بن عفان _ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - _ قال:(5/47)
ولنا ما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تزوج ميمونة وهو محرم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينكح المحرم ولا ينكح» زاد مسلم وأبو داود في رواية: ولا يخطب وزاد ابن حبان في " صحيحه ": ولا يخطب بمكة.
قوله: _ لا ينكح _ بفتح الياء، و _ لا ينكح _ بضم الياء من الإنكاح، أي لا ينحك غيره.
م: (ولنا ما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (تزوج بميمونة وهو محرم) هذا الحديث رواه الأئمة الستة في كتبهم عن طاووس عن ابن عباس _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - _، قال: «تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ميمونة وهو محرم» زاد البخاري: «وبنى بها، وهو حلال، وماتت بسرف» .
وأخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج ميمونة وهو محرم» وأخرجه البزار في " مسنده " عن مسروق عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - « [أنه]- عَلَيْهِ السَّلَامُ - تزوج وهو محرم واحتجم وهو محرم» وقال السهيلي في " الروض الأنف ": إنما أراد نكاح ميمونة ولكنها لم تسم.
وقال الحافظ أبو جعفر الطحاوي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - _: الذين رووا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج فيها، وهو محرم أهل، وثبت من أصحاب ابن عباس مثل سعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وجابر بن زيد، وهؤلاء كلهم فقهاء الذين نقل عنهم عمرو بن دينار وأيوب السختياني وعبد الله بن أبي نجيح وهؤلاء أئمة يقتدى بروايتهم.
وأما حديث عثمان فإنما رواه وهب بن منبه، وليس كعمرو بن دينار ولا كجابر بن زيد، ولا كمن روى ما يوافق ذلك عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - ولا لوهب أيضا موضع في العلم كموضع عمرو بن دينار ممن ذكر.
فإن قلت: روي يزيد بن الأصم؛ «عن ميمونة بنت الحارث، قالت: تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن حلالان» . رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه. قلت: أجيب أن عمرو بن دينار قال: قلت: أجيب أن عمرو بن دينار قال: قلت: للزهري وما يدري ابن الأصم أعرابي نوال على ناقة أنجعله مثل ابن عباس، مع أنه يحتمل أن يكون روى مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سليمان بن يسار «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبا رافع مولاه ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونه بنت الحارث ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة قبل أن يخرج» .
قلت: قال أبو عمر بن عبد البر: حديث مالك يعني في هذا الباب غير متصل، ورواه مطر الوراق فوصله، قال: وهو غلط من مطر الوراق، لأن سليمان بن يسار ولد سنة أربع وثلاثين، ومات أبو رافع بعد قتل عثمان _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ بسنتين، وكان قتل عثمان _ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - _ في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين فلا يمكن أن يروي عنه.(5/48)
وما رواه محمول على الوطء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الترمذي: لا نعلم أحدا أسنده غير حماد بن زيد عن مطر الوراق عن ربيعة.
وضعف يحيى بن سعيد مطر الوراق، وضعفه أحمد وضعف البخاري حديث عثمان في النهي عن نكاح المحرم، ورد رواية مالك، ومذهبه.
وقال أيضا: حديث ابن الأصم مرسل، وأدخل في صحيحه عن سعيد بن المسيب أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تزوجها وهو محرم، وقال الطحاوي: ومطر عندهم ليس ممن يحتج بحديثه.
فإن قلت: قال ابن حبان: وليس في هذه الأخبار تعارض، وعندي أن معنى قوله: تزوج ميمونة وهو محرم، أي داخل في الحرم، كما يقال: أنجدوا أنهم إذا دخلوا نجد أو تهامة.
قلت: الجواب عنه في ثلاثة أوجه:
الأول: أن حمله على الحقيقة الشرعية أولى من الحقيقة اللغوية لما عرف.
والثاني: أنهم يزعمون أنه كان بالمدينة عند العقد، وإنما زوجه إياها وكيلاه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فلم يكن في الحرم، ولو ادعوا أن للمدينة حرما له ذلك مسلم لهم، ويكون على هذا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محرما على رواية، إلا إذا أبعد عن المدينة.
والثالث: أن الراوي الذي هو ابن عباس قطع له بعقد الإحرام لأنه وقع به قول من قال: تزوج بها، وهذا حلال، ولا يمكن حمله على خلاف رواية الراوي.
فإن قلت: قالوا: النهي قول والجواز فعل، والقول مقدم بوجهين:
أحدهما: أن القول يتعدى دون الفعل.
والثاني: يجوز أن يكون الفعل مخصوصا به - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لا سيما في باب النكاح، ولأن الفعل يعارض في نفسه، ولا معارض للقول.
قلت: أجيب عن الوجه الأول بالمنع، فإن الفعل يتعدى أيضا، لأن الإحرام لما لم يكن مانعا منه في حقه وثبت جواز العقد معه ثبت في حق أمته أيضا، إذ أمته أولى بالرخص، وهو كالغرم لضعفهم وحاجتهم وقوته بحمل الأشق.
وعن الوجه الثاني أن الأصل عدم الاختصاص، ويلزم منه تفسير الأصل فلا يصار إليه.
م: (وما رواه) ش: أي ما رواه الشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ أنه م: (محمول على الوطء) ش: لأن النكاح للوطء حقيقة، وللعقد مجازا أي لا يطأ المحرم ولا يمكن الحرمة حتى يطأ، هذا ما ذكره بعضهم وهو ضعيف لأن التمكين من الوطء لا يسمى نكاحا مع اختلاله إعرابا لكنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -(5/49)
ويجوز تزويج الأمة مسلمة كانت أو كتابية. وقال الشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _: لا يجوز للحر أن يتزوج بأمة أو كتابية، لأن جواز نكاح الإماء ضروري عنده لما فيه من تعريض الحر على الرق وقد اندفعت الضرورة بالمسلمة، ولهذا جعل طول الحرة مانعا منه. وعندنا الجواز مطلق لإطلاق المقتضى، وفيه امتناع عن تحصيل الجزء الحر لإرقاقه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أخبر عن معيار أحوال المحرمين أنهم في إحرامهم لا يشتغلون بالنكاح والإنكاح، ولا يباشرون ذلك.
وقال الخطابي: الأوجه أن يقال: إن الحديث مروي بالنهي مجردا، والنهي يكون للتنزيه كما في نهيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن الخطبة على خطبة أخيه، ولو فعل صح النكاح عندنا والشافعي وأحمد خلافا لمالك، وحديث النهي يحمل عليه توفيقا بين الحديثين، ولو روي منفيا فالنفي يجيء بمعنى النهي، كذا في " الكافي ".
[نكاح الإماء]
م: (ويجوز تزويج الأمة مسلمة كانت أو كتابية، وقال الشافعي: لا يجوز للحر أن يتزوج بأمة أو كتابية) ش: وبه قال مالك وأحمد _ في رواية _ وعن مالك: إنكاح الأمة مطلقا، وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن الحارث والديري أنهما قالا: يتزوج الحر أربعا من الإماء من غير فصل. وقال ابن عباس ومجاهد: وسع الله تعالى على هذه الأمة نكاح الأمة وإن كان موسرا إلا أن تكون تحته حرة، وقال قتادة والثوري: إن خاف العقد جاز له نكاح الأمة وإن وجد طولا.
وفي " الذخيرة القرافية ": إذا لم يستغن بأمة واحدة يتزوج إلى أربع وهو قول ابن حنبل، وإن استغنى بها ففي الزيادة عليها خلاف، وأباح حماد نكاح اثنين من الإماء، وعند الشافعي لا يزيد على واحدة وهو رواية عن أحمد م: (لأن نكاح الإماء ضروري عنده) ش: أي عند الشافعي.
م: (لما فيه) ش: أي لما في تزويج الإماء م: (من تعريض الحر على الرق) ش: إذ الولد يتبع الأم في الرق م: (وقد اندقعت الضرورة بالمسلمة) ش: أي الأمة المسلمة الواحدة والضرورة تتقدر مؤنتها بقدرها، فلا حاجة إلى الكتابة.
م: (ولهذا) ش: أي لكونه ضروريا م: (جعل) ش: أي الشافعي م: (طول الحرة مانعا منه) ش: أي من تزويج الأمة لاندفاع الضرورة بالقدرة على تزويج الحرة.
م: (وعندنا الجواز مطلق) ش: أي جواز نكاح الأمة مطلقا مسلمة كانت أو كتابية م: (لإطلاق المقتضي) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] (النساء: الآية 3) .
م: (وفيه) ش: أي في نكاح الأمة م: (امتناع عن تحصيل الجزء الحر لإرقاقه) ش: لأنه لم يوجد بعد كلامه ما يراق، وفيه الإرقاق بحال وبعدما صدر لا يصدر منه شيء حتى يقال: إنه إرقاق،(5/50)
وله أن لا يحصل الأصل. فيكون له أن لا يحصل الوصف،
ولا يتزوج أمة على حرة، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تنكح الأمة على الحرة» وهو بإطلاقه حجة على الشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ في تجويزه ذلك للعبد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبعد وجوب المال لا يوصف بالرق والحرية ولا بطريق التبعية والامتناع عنه ليس بمانع شرعا.
م: (وله أن يحصل الأصل) ش: أي الولد بالعزل برضا المرأة [ ... ] العجز العقيم م: (فيكون له أن لا يحصل الوصف) ش: أي وصف الحرية أيضا بتزوج الأمة.
[زواج أمة على حرة وحرة على أمة]
م: (قال: ولا يتزوج أمة على حرة) ش: كان حرا أو عبدا م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا تنكح الأمة على الحرة» ش:.
روى الدارقطني في " سننه " في الطلاق من حديث مظاهر بن أسلم عن القاسم بن محمد، عن عائشة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - _ قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طلاق العبد اثنتان، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وقرء الأمة حيضتان، ويتزوج الحرة على الأمة، ولا يتزوج الأمة على الحرة» ومظاهر بن أسلم ضعيف. وروى الطبراني في تفسير سورة النساء بإسناده عن الحسن أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى أن تنكح الأمة على الحرة، قال: وتنكح الحرة ومن له طول الحرة فلا ينكح أمة» رواه عبد الرزاق في " مصنفه " مقصرا على نكاح الأمة. فقال: حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن، قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تنكح الأمة على الحرة» رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " أيضا.
حدثنا أبو داود الطيالسي عن هشام الدستوائي عن رجل عن الحسن لا تنكح الأمة على الحرة.
وروى عبد الرزاق في " مصنفه " أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: لا تنكح الأمة على الحرة، وتنكح الحرة على الأمة. وأخرج عن الحسن نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة عن علي بن أبي طالب، وابن مسعود _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - _ وأخرج مكحول أيضا نحوه، وفي " السروجي ": وعن سعيد بن المسيب ومكحول في الرجل يتزوج الأمة على الحرة فلا يفرق بينهما.
وعن الزهري: يرجع طهره وينزع أمته، وعن طاوس: قلت: إن رجلا تزوج أمة على حرة، وأنه يزعم أنه قد حرمتها عليه، قال: صدقوه ذكره ابن أبي شيبة.
م: (وهو بإطلاقه) ش: أي الحديث المذكور يقتضي إطلاقه م: (حجة على الشافعي في تجويزه ذلك) ش: أي تجويز الأمة على الحرة م: (للعبد) ش: فإن عنده يجوز للعبد أن يتزوج الأمة على الحرة(5/51)
وعلى مالك _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ في تجويزه ذلك برضاء الحرة، ولأن للرق تأثير الماء ولأن للرق أثر في تنصيف النعمة على ما نقرره في كتاب الطلاق إن شاء الله. فيثبت به حل المحلية في حالة الانفراد دون حالة الانضمام.
ويجوز تزويج الحرة عليها؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وتنكح الحرة على الأمة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبه قال أحمد في رواية م: (وعلى مالك) ش: أي وحجة على مالك م: (في تجويزه) ش: أي تجويز الأمة على الحرة م: (برضا الحرة) ش: يعني إذا رضيت الحرة بذلك يجوز م: (ولأن للرق تأثير الماء) ش: قوله: حالة الانضمام دليلنا، ولم يذكر دليل الشافعي، ولا دليل مالك، فوجه قول الشافعي: أن تزوج الأمة ممنوع لمعنى في التزوج إذا كان حرا. وهو تعريض حريته على الرق مع المانع عنه، وهو لا يوجد في حق العبد؛ لأنه رقيق بجميع أجزائه، ووجه قول مالك إن المنع لحق الحرة، وإذا رضيت فقد أسقطت حقها.
وأشار إلى وجه قولنا بقوله: م: (ولأن للرق أثرا) ش: أي الرق له تأثير م: (في تنصيف النعمة) ش: وهو الحل الذي بني عليه النكاح في جانب النساء والرجال جميعا م: (على ما نقرره في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى) ش: قرره في آخر فصل الذمي باب طلاق السنة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى _ عز وجل.
م: (فيثبت به) ش: أي الذي بنى عليه النكاح ردا على قوله: م: (حل المحلية في الانفراد) ش: وهي إذا تزوج الأمة ولم يكن تحته حرة م: (دون حالة الانضمام) ش: وهي إما الجمع بين الحرة والأمة في عقد النكاح، أو تزوج الأمة على الحرة تقدير هذا أن في الحقيقة حالتين: حالة الانضمام مع الحرة.
وحالة الانفراد عنها، فيثبت الحل في حالة الانفراد دون حالة الانضمام، وهو تزوجها على الحرة أو مع الحرة، والتزوج على الحرة انضمام، لأن كل فعل يقبل الامتداد يعطي لبقائه حكم الابتداء. وحكم النكاح من ذلك، فيجعل الانضمام على هذا الطريق، وقد طول الأكمل هنا كلامه واستغربه وهو في الحقيقة أخذه من " النهاية "، وصاحب " النهاية " أخذه من " المبسوط "، وفيما ذكرناه كفاية.
م: (ويجوز تزويج الحرة عليها) ش: أي على الأمة، ولا يبطل نكاح الأمة بإجماع الأئمة الأربعة، وقال المزني من أصحاب الشافعي: يبطل نكاح الأمة للقدرة على طول الحرة م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «وتنكح الحرة على الأمة» ش: تقدم هذا عن قريب في " سنن " الدارقطني عن عائشة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - _.(5/52)
ولأنها من المحللات في جميع الحالات؛ إذ لا منصف في حقها. فإن تزوج أمة على حرة في عدة من طلاق أو ثلاث بائن لم يجز عند أبي حنيفة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _، ويجوز عندهما، لأن هذا ليس بتزوج عليها وهو المحرم، ولهذا لو حلف لا يتزوج عليها لم يحنث بهذا، ولأبي حنيفة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ أن نكاح الحرة باق من وجه في العدة لبقاء بعض الأحكام، فيبقى المنع احتياطا، بخلاف اليمين، لأن المقصود أن لا يدخل غيرها في قسمها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأنها) ش: أي ولأن الحرة م: (من المحللات) ش: بفتح اللام م: (في جميع الحالات؛ إذ لا منصف) ش: بكسر الصاد م: (في حقها) ش: أي في حق الحرة، بخلاف الأمة.
م: (فإن تزوج أمة على حرة في عدة من طلاق بائن أو ثلاث) ش: قبل الاعتداد عن طلاق بائن، لأنها لو كانت معتدة عن طلاق رجعي لا يجوز بالاتفاق م: (لم يجز عند أبي حنيفة ويجوز عندهما) ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وعند عدم طول الحرة م: (لأن هذا) ش: أي نكاح الأمة في عدة الحرة م: (ليس بتزويج عليها) ش: أي على الحرة لزوال الملك م: (وهو المحرم) ش: أي التزوج على الحرة وهو محرم، بكسر الراء م: (ولهذا) ش: أي ولكون المحرم هو التزوج على الحرة.
م: (لو حلف لا يتزوج عليها) ش: أي على المرأة، بأن قال: إن تزوجت عليك امرأة فهي طالق، فتزوج امرأة بعدما أبانها م: (لم يحنث بهذا) ش: أي بهذا التزوج، وهو تزوج المرأة حرة كانت أو أمة في عدة من طلاق بائن، بخلاف ما إذا تزوج امرأة في عدة أختها من طلاق بائن، فإنه لا يجوز باتفاق علمائنا، خلافا للشافعي؛ لأن المحرم هناك الجمع، وفي التزويج في العدة بينهما في حقوق النكاح.
أما ها هنا فأبلغ لأجل الجمع، ولهذا لو تزوج الحرة عليها جاز، بل في تزوج الأمة على الحرة إدخال ناقصة الحال في مزاحمة كاملة الحال، ولهذا لا يوجد بعد البينونة، كذا في " المبسوط " " والأسرار ".
م: (ولأبي حنيفة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ أن نكاح الحرة باق من وجه في العدة، لبقاء بعض الأحكام) ش: وهو المنع من التزوج والفراش، حتى بانت منه، والنفقة فكانت العدة حقا من حقوق النكاح. وحق الشيء كنفس ذلك الشيء م: (فيبقى المنع احتياطا) ش: كما لو تزوج أختا في عدة أخت م: (بخلاف اليمين) ش: جواب عن قولهما، ولهذا لو حلف، تقريره أن اليمين يعتبر فيه العرف، وفي العرف لا يسمى تزوجا عليها بعد البينونة، فلهذا لم تطلق.
وأما في ألفاظ الشرع المعتبر المعنى، ومعنى الحرمة باق ببقاء العدة، وعلل المصنف بقوله: م: (لأن المقصود أن لا يدخل غيرها) ش: عليها شريكة م: (في قسمها) ش: بفتح القاف، لأن قصد الحالف تطبيب قلبها بترك الإشراك في الفراش، فإذا تزوجها في العدة فما أشرك غيرها في(5/53)
وللحر أن يتزوج أربعا من الحرائر والإماء، وليس له أن يتزوج أكثر من ذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] (النساء: الآية 3) ، والتنصيص على العدد يمنع الزيادة عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قسمها.
[عدد النساء اللائي يتزوجهن الحر]
م: (ويجوز للحر أن يتزوج أربعا من الحرائر والإماء) ش: أي أربعة من النساء الحرائر، أو أربعة من الإماء، وأربعا منهما إذا قدم الأمة م: (وليس له أن يتزوج أكثر من ذلك) ش: أي من الأربع، وعن القاسم بن إبراهيم أنه أباح تسعة وهو خرق الإجماع، وهذا نقل عن الروافض أنهم يجوزون تسعا من الحرائر.
وفي " الحواس ": روى عن النخعي وابن أبي ليلى هكذا، وعن بعض الشيعة والخوارج جواز ثمانية عشر تعلقا بقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] (النساء: الآية 3) ، فمن جعل مثنى بعد العدل يعني اثنين، وكذا ما بعده أباح نكاح تسع ومن قال: مثنى بمعنى اثنين مرتين أباح نكاح ثمانية عشر امرأة.
وحكى القاضي عبد الوهاب عن بعض النساء: أنه جوز للرجل أن يتزوج من النساء أي عدد شاء قليلا كان أو كثيرا من غير حصر وعدد.
وذكر السروجي: ذكر الله سبحانه وتعالى الزواج في التوراة من غير حصر بعدد حفظا لمصالح الرجال دون النساء وحرم في الإنجيل الزيادة على الواحدة حفظا لمصالح النساء دون الرجال، وجمع في هذه الشريعة المعظمة بين مصالح الرجال والنساء.
م: (لقوله عز وجل: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] (النساء: الآية 3) ، م: (والتنصيص على العدد يمنع الزيادة عليه) ش: قيل: قوله: والتنصيص على العدد يمنع الزيادة عليه غير مسلم، ألا ترى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما يغسل الثوب من خمس: من بول وغائط، وقيء، ودم ومني» وبالاتفاق يغسل من الخمس أيضا مع أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نص على العدد مع كلمة الحصر.
وأجيب: بأن معناه إنما يغسل الثوب من خمس مما يخرج من بدن الآدمي، لأن هذا الحديث خرج جوابا لسؤال من سأل عن النجاسة، وهو مختص على هذا العدد، وقيل: كلام المصنف إنما يمشي على قول من يقول: إن الواو في الآية بمعنى أو كما في قَوْله تَعَالَى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى} [فاطر: 1] (فاطر: الآية 1) .
ورد بأن الأصح أن الواو بمعناها؛ لأن أو لا تستعمل إلا في التخيير، والتخيير في الحقيقة لا يدخل في العدد، ومثل هذا التركيب يدل على جواز أحد الأعداد كما في قوله: اقتسموا هذا المال اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة.(5/54)
وقال الشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ لا يتزوج إلا أمة واحدة، لأنه ضروري عنده والحجة عليه ما تلونا إذ الأمة المنكوحة ينتظمها اسم النساء كما في الظهار.
ولا يجوز للعبد أن يتزوج أكثر من اثنين، وقال مالك: يجوز له الأربع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو قلت: أو يعلم أنه لا ممنوع أن يقتسموه إلا إحدى هذه القسمة وليس لهم أن يجمعوا بينها، لأن أو لأحد الشيئين، والواو تدل على تجويز الجمع بين الفرق.
وقال الفراء: المراد واحد من الأعداد، ولا وجه لحمله على الجمع، لأن العبارة في التسع بهذا اللفظ من المعنى في الكلام، فإن من أراد أن يقول: أعط فلانا تسع دراهم، وقال: أعط درهمين وثلاثة وأربعة كان سخيفا جاهلا، فعلم أن المراد واحد.
وقيل: معنى الآية فينكح بعضكم اثنين وبعضكم ثلاثة وبعضكم أربعة لا يجوز لا لغة ولا شرعا. وإذا تزوج تسعا في زمان واحد لا يكون مثنى ولا ثلاث ولا رباع، بل يكون تساع.
م: (وقال الشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _: لا يتزوج إلا أمة واحدة) ش: يعني عند عدم طول الحرة وخوف العنت، وبه قال أحمد، وقال مالك: يجوز تزويج أربعا من الإماء عند عدم طول الحرة، وخوف العنت.
وعندنا: يجوز الأربع مع الطول وخوف العنت، ثم في جواز نكاح الأمة عدم طول الحرة وخوف العنت شرط عندهم، وعندنا ليس بشرط، ولكن المستحب أن لا يتزوج مع طول الحرة عندنا.
م: (لأنه ضروري عنده) ش: أي لأن نكاح الأمة ضروري عند الشافعي والضرورة ترتفع بالواحدة فلا يزيد عليها، كالميتة أحلت للضرورة لم يجز إلا مقدار ما يسد رمقه.
م: (والحجة عليه) ش: أي على الشافعي م: (ما تلونا) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] (النساء: الآية 3) ، م: (إذ الأمة المنكوحة ينتظمها) ش: أي يشملها م: (اسم النساء) ش: أي كما أن لفظة النساء تتناول الحرائر وتتناول الإماء أيضا.
قال الأترازي: كان الأولى أن يقول إذ الأمة والحرة م: (كما في الظهار) ش: فإن النية مذكورة بلفظ النساء يتناول الأمة المنكوحة، وحكم المدبرة والمكاتبة على هذا الخلاف المذكور، فالمستسعاة كالمكاتبة عند أبي حنيفة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
[عدد النساء اللائي يتزوجهن العبد]
م: (ولا يجوز للعبد أن يتزوج أكثر من اثنتين) ش: وبه قال الشافعي وأحمد وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - _، وبه قال عطاء والحسن البصري والشعبي والثوري.
م: (وقال مالك: يجوز له الأربع) ش: كالحر، وبه قال سالم وطاوس ومجاهد والزهري(5/55)
لأنه في حق النكاح بمنزلة الحر عنده، حتى ملكه بغير إذن المولى، ولنا أن الرق منصف فيتزوج العبد اثنين والحر أربعا إظهارا لشرف الحرية
قال: فإن طلق الحر إحدى الأربع طلاقا بائنا لم يجز له أن يتزوج رابعة حتى تنقضي عدتها، وفيه خلاف الشافعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وربيعة الرأي وأبو ثور وداود والمكاتب والمدبر وأم الولد في هذا كالعبد م: (لأنه) ش: أي لأن العبد م: (في حق النكاح بمنزلة الحر عنده) ش: أي عند مالك.
م: (حتى ملكه) ش: أي حتى ملك النكاح م: (بغير إذن المولى) ش: لأن ملك النكاح من خواص الآدمية والرق لا يؤثر فيها، فصار كالقصاص، فإنه مبني على أصل الحرية فيه بالإجماع فكذا ها هنا.
م: (ولنا أن الرق منصف) ش: يعني يؤثر في تنصيف النعم، وهذا الحل نعمة من الله تعالى يوصل بها إلى قضاء شهوة النكاح حلالا، والنعم متفاوتة الأحوال في الشرع، فإن حال النبوة لما كان أشرف حل له التسع دون غيره، وحال الحر أشرف من حال العبد.
فتظهر الزيادة في حق الحر دون العبد م: (فيتزوج العبد اثنتين والحر أربعا) ش: أي يتزوج الحر أربع نسوة م: (إظهارا لشرف الحرية) ش: ويؤيده حديث عمر _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _، فإنه قال: لا يتزوج العبد أكثر من اثنتين.
وفي " المحلى ": وعن عطاء أجمع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن العبد لا يجمع بين النساء فوق اثنتين، انتهى، وفيه خلاف للشافعي ومالك، وقد ذكرناه عن قريب.
[نكاح المرأة وعدة الرابعة قبل انقضائها]
م: (فإن طلق الحر إحدى الأربع) ش: حتى إذا كان الحر متزوجا بأربع نسوة فطلق إحداهن م: (طلاقا بائنا لم يجز له أن يتزوج رابعة) ش: أي امرأة رابعة م: (حتى تنقضي عدتها) ش: يروى ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت، وبه قال سعيد بن المسيب وعبيدة السلماني ومجاهد والنخعي والثوري وأحمد.
وقال: القاسم بن محمد وعروة وابن أبي ليلى: له ذلك لانقطاع النكاح بينهما، وبه قال الشافعي، وأشار إليه المصنف بقوله: م: (وفيه خلاف الشافعي) ش: أي تزوج الرابعة في عدة المطلقة طلاقا بائنا خلاف الشافعي، يعني يجوز عنده، وبه قال مالك وأبو ثور وأبو عبد الله بن المنذر.
قلنا: إنكاح المطلقة الرابعة قائم لبقاء أحكامه من النفقة والفراش والمنع من الخروج، والقاطع قد تأخر عمله إلى انقطاع العدة.
وعن أبي الزناد أنه قال: كان للوليد بن عبد الملك أربع نسوة، فطلق واحدة منهن البتة وتزوج غيرها قبل أن تحل، فعاب ذلك عليه كثير من الفقهاء منهم سعيد بن المسيب، قال سعيد(5/56)
وهو نظير نكاح الأخت في عدة الأخت قال وإن تزوج حبلى من زنا جاز النكاح، لا يطؤها حتى تضع حملها، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ النكاح فاسد، وإن كان الحمل ثابت النسب فالنكاح باطل بالإجماع، ولأبي يوسف _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ أن الامتناع في الأصل لحرمة الحمل، وهذا الحمل محترم، لأنه لا جناية منه ولهذا لم يجز إسقاطه، ولهما أنها من المحللات بالنص
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن منصور: إذا عاب عليه سعيد بن المسيب فأي شيء بقي.
وحكي أن مروان شاور الصحابة فيه، فاتفقوا على أنه يفرق بينهما، وخالفهم زيد ثم رجع إلى قولهم ذكره في " المبسوط ".
م: (وهو نظير نكاح الأخت في عدة الأخت) ش: أي عدم جواز نكاح المرأة وعدة الرابعة قبل انقضائها عدم جواز الأخت في عدة الأخت، وقد مر ذلك فيما مضى.
وفي " المبسوط ": لزوج المرتدة أن يتزوج بأختها بعد لحاقها بأهلها قبل انقضاء عدتها؛ لأنها لا عدة عليها من المسلم لتباين الدارين، فإن عادت مسلمة لا يضر نكاح الأخت، لأن العدة لا تعود، وعند أبي يوسف تعود، وفي بطلان نكاحها روايتان عنه.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (وإن تزوج حبلى من زنا جاز النكاح، ولا يطؤها الزوج حتى تضع حملها) ش: هذا إذا لم يكن الحمل ثابت النسب م: (وهذا) ش: أي جواز النكاح ومنع الوطء إلى حين الوضع م: (عند أبي حنيفة ومحمد) ش: وبه قال الشافعي في جواز النكاح، ولكنه جوز وطأها.
م: (وقال أبو يوسف: النكاح فاسد) ش: وبه قال ابن شبرمة وزفر ومالك وأحمد م: (وإن كان الحمل ثابت النسب فالنكاح باطل بالإجماع) ش: ولو كان الحمل من الزنا من الزوج فالنكاح جائز عند الكل، ويحل له وطؤها وتستحق النفقة عند الكل ذكره في " النوازل "، وإن كان الزنا من غيره تستحق النفقة عند بعد المشايخ، ولا تستحق النفقة عند البعض على مذهب أبي حنيفة ومحمد.
م: (ولأبي يوسف أن الامتناع) ش: أي امتناع النكاح م: (في الأصل) ش: وهو صورة الإجماع يعني فيما إذا كان الحمل ثابتا بالنسب م: (لحرمة الحمل) ش: وصيانة عن سقيته ماءه زرع غيره، فإن الحمل يزداد سمعه وبصره حدة بالوطء.
م: (وهذا الحمل محترم، لأنه لا جناية منه) ش: أي من الحمل م: (ولهذا) ش: أي ولعدم الجناية منه م: (لم يجز إسقاطه) ش: فيمتنع النكاح ها هنا أيضا. م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد م: (أنها) ش: أي الحبلى من الزنا م: (من المحللات بالنص) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] (النساء: الآية 24) ، وكل من كانت كذلك جاز نكاحها.(5/57)
وحرمة الوطء كيلا يسقي ماؤه زرع غيره. والامتناع في ثابت النسب لحق صاحب الماء ولا حرمة للزاني، فإن تزوج حاملا من السبي فالنكاح فاسد، لأنه ثابت النسب،
وإن زوج أم ولده وهي حامل منه، فالنكاح باطل، لأنها فراش لمولاها حتى يثبت نسب ولدها منه من غير دعوى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: ما بال الحامل الثابت النسب لم تدخل تحت هذا النص؟
قلت: لكان تحت قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] (البقرة: الآية 235) ، م: (وحرمة الوطء) ش: هذا جواب عما يقال: لو كان من المحللات يحل وطؤها بعد ورود العقد عليها.
فأجاب: بقوله م: (وحرمة الوطء كيلا يسقي ماؤه زرع غيره) ش: وهو حرام لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماؤه زرع غيره» ، يعني وطء الحوامل، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " «لا توطأ حامل حتى تضع» صحيح.
فإن قلت: فم الرحم ينسد بالحبل، فكيف يكون سقي زرع غيره؟
قلت: شعره ينبت من ماء الغير.
فإن قلت: النكاح شرع لأمر ضروري وهو الحمل، فلا يثبت بدونه، والحمل هنا غير ثابت فلا يثبت النكاح.
قلت: ليس من ضرورة حرمة الوطء المعارض على شرف الزوال فساد النكاح كما حرم بالحيض والنفاس.
م: (والامتناع في ثابت النسب) ش: جواب عن قول أبي يوسف: إنه لحرمة الحمل. تقريره لا نسلم أن فساد النكاح لحرمة الحمل، بل إنما هو م: (لحق صاحب الماء ولا حرمة للزاني) ش: لارتكابه الحرام م: (فإن تزوج حاملا من السبي فالنكاح فاسد، لأنه ثابت النسب) ش: هذا بإجماع الأئمة الأربعة، وكذا المهاجرة إلينا لو كانت حاملا.
وروى الحسن عن أبي حنيفة: والمهاجرة والمسبية أنه يجوز نكاحهما لكن لا يطأهما حتى يضعا حملهما، وإن لم تكن حاملا فلا يجوز النكاح، لأن الفرقة وقعت بتباين الدارين، كذا في " جامع المحبوبي ".
[زوج أم ولده وهي حامل منه]
م: (وإن زوج أم ولده وهي حامل منه) ش: أي والحال أنها حامل من المولى م: (فالنكاح باطل، لأنها) ش: أي لأن أم الولد م: (فراش لمولاها) ش: لوجود حده، وهو صيرورة المرأة متعينة لثبوت نسب الولد منها، وهو معنى قوله: م: (حتى يثبت نسب ولدها منه) ش: أي من المولى م: (من غير دعوى) .(5/58)
فلو صح النكاح لحصل الجمع بين الفراشين إلا أنه غير متأكد حتى ينتفي الولد بالنفي من غير لعان فلا يعتبر ما لم يتصل به الحمل.
قال ومن وطئ جاريته ثم زوجها جاز النكاح، لأنها ليست بفراش لمولاها هنا، فإنها لو جاءت بولد لا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: فإن قلت: ذكر هنا بلفظ الباطل، وفيما تقدم بلفظ الفاسد.
قلت: لأن الحرمة فيما تقدم مختلف فيها لما ذكرنا من رواية الحسن، فكانت حرمتها أخف فذكر بلفظ الفاسد، وقيل: المراد بالفساد هناك البطلان أيضا، وفيه تأمل.
م: (فلو صح النكاح لحصل الجمع بين الفراشين) ش: وهما فراش المولى وفراش الناكح، ولأنه لا يجوز، لأنه يؤدي إلى اشتباه الأنساب كنكاح المنكوحة م: (إلا غير متأكد) ش: هذا استثناء من قوله _ فراش لمولاها _ يعني أم الوالد فراش لمولاها إلا أنها فراش غير قوي.
ويجوز أن يكون هذا جوابا عما يقال وهو أنه لو كانت فراشا لمولاها لما جاز نكاحها عند كونها غير حامل، مع أنه يجوز، فأجاب عنه بقوله: م: (إلا أنه) ش: أي إلا أن فراشها غير متأكد يعني ضعيف.
م: (حتى ينتفي الولد بالنفي) ش: أي حتى ينتفي ولده بمجرد النفي م: (من غير لعان فلا يعتبر ما يتصل به الحمل) ش: أي فلا يعتبر هذا الفراش ما لم يتصل به الحمل، لأن الحمل مانع في الجملة، وكذلك الفراش فعند اجتماعهما يحصل التأكيد.
فإن قلت: إذا كان غير متأكد بنفي الولد من غير لعان وجب أن يكون الإقدام على النكاح نفيا للسبب، فإنه يقبل النفي دلالة كما إذا قال لجارية له ولدت أولاد في بطون مختلفة، هذا الأكبر مني فإنه ينتفي نسب الباقين، وإذا انتفى نسبه كان حملا غير ثابت النسب، وفي مثله يجوز النكاح كما تقدم.
قلت: أجيب بأن هذه دلالة، والدلالة إنما تحمل إذا لم يخالفها صريح، والصريح هنا موجود، لأن المسألة فيما إذا كان الحمل منه، وإن قال: رجل تزوج أم ولد وهي حامل منه، وإنما يكون الحمل منه إذا أقر به.
[وطء جاريته ثم زوجها]
م: (قال: ومن وطء جاريته ثم زوجها جاز النكاح) ش: أي قبل أن يستبرئها. وقال الشافعي وأحمد: لا يجوز نكاحها قبل الاستبراء بحيضة، وعند زفر لا يجوز نكاحها حتى تحيض ثلاث حيض، كما في الزانية عنده، فإنه يجب عليها ثلاث حيض عنده، وكذا الخلاف في أم الولد غير حامل منه.
م: (لأنها) ش: أي لأن الجارية م: (ليست بفراش لمولاها هنا) ش: لعدم حد الفراش وهو صيرورة المرأة متعينة لثبوت نسب ولد الرجل، ولم يوجد ذلك هنا م: (فإنها لو جاءت بولد لا(5/59)
يثبت نسبه من غير دعوة إلا أن عليه أن يستبرئها صيانة لمائه، وإذا جاز النكاح فللزوج أن يطأها قبل الاستبراء عند أبي حنيفة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ وأبي يوسف _ رحمهما الله _ وقال محمد _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ لا أحب له أن يطأها حتى يستبرئها لأنه احتمل الشغل بماء المولى فوجب التنزه كما في الشراء. ولهما أن الحكم بجواز النكاح أمارة الفراغ فلا يؤمر بالاستبراء لا استحبابا ولا وجوبا، بخلاف الشراء لأنه يجوز مع الشغل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يثبت نسبه من غير دعوة للنكاح، إلا أن عليه) ش: أي على المولى.
م: (أن يستبرئها) ش: قال الشارحون: معناه عليه الاستحباب دون الوجوب، وذلك لأن هذا اللفظ غير مذكور في الجامع الصغير، وإنما ذكره المصنف فيقال: إنه أراد به الاستحباب م: (صيانة لمائه) ش: وقد صرح في " فتاوى الولوالجي " الاستحباب.
م: (وإذا جاز النكاح فللزوج أن يطأها قبل الاستبراء عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد لا أحب له أن يطأها حتى يستبرئها) ش: وفي " المشكلات " لا يحل له أن يطأها حتى يستبرئها بحيضة.
م: (لأنه) ش: أي لأن رحمها م: (احتمل الشغل بماء المولى) ش: لوجود سببه وهو الوطء، ولو تحقق الشغل والوطء يحرم الوطء تأدبا عن السقي لزرع غيره فإذا احتمل م: (فوجب التنزه كما في الشراء) ش: فإن التنزه عن الوطء في الشراء قبل الاستبراء واجب.
وقال الأترازي: ليس المراد منه الوجوب المصطلح لدلالة قوله لا أحب أن يطأها.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أن الحكم بجواز النكاح أمارة الفراغ) ش: أي حكم الشرع بجواز النكاح علامة فراغ الرحم، لأن النكاح لم يشرع إلا على رحم فارغ عن شاغل محرم.
وإن كان الرحم فارغا م: (فلا يؤمر بالاستبراء لا استحبابا ولا وجوبا) ش: أي لا على الاستحباب ولا على طريق الوجوب، إذ الحكم لا يثبت بلا نسب، فإنما قدم لفظ استحبابا وكان حقه التأخير.
لأن نفيه يستلزم نفي الوجوب، فكان تقديم يوجب الاستغناء عن نفي الوجوب، إما لأن الخصم يقول به، وكان نفيه أهم وإما ليتصل بقوله: _ بخلاف الشراء _ فإن الاستبراء فيه واجب.
م: (بخلاف الشراء) ش: هذا جواب عن قياس محمد، صورة النزاع على الشراء بالفارق، تقريره أن الشراء ليس مثل الذي قاسه عليه م: (لأنه) ش: أي لأن الشراء م: (يجوز مع الشغل) ش: دون النكاح، فأمركم بجواز النكاح أمارة النزع، وإلا لكان حكما بما لا يجوز.
ولا كذلك في الشراء فيجب الاستبراء، وهذا الخلاف فيما إذا لم يستبرئ المولى، أما لو(5/60)
وكذا إذا رأى امرأة تزني فتزوجها حل له أن يطأها قبل أن يستبرئها عندهما وقال محمد لا أحب له أن يطأها ما لم يستبرئها، والمعنى ما ذكرنا،
ونكاح المتعة باطل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
استبرأها ثم زوجها بزوج يجوز وطء الزوج بالإجماع قبل الاستبراء، ومن المشايخ من قال: لا خلاف بينهم في الحامل.
لأن عندهما لا يجب الاستبراء، ولم يقولا لا يستحب، وعند محمد يستحب، وما قاله واجب، وقال أبو الليث: وقول محمد أقرب إلى الاحتياط، وبه نأخذ كذا في " جامع المحبوبي ".
[رأى امرأة تزني فتزوجها]
م: (وكذا) ش: أي وكذا الحكم مع الخلاف المذكور فيما م: (إذا رأى امرأة تزني فتزوجها حل له أن يطأها قبل أن يستبرئها عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وبه قال الشافعي ومالك.
وقال أحمد: لا يجوز إلا بشرط انقضاء العدة بثلاث حيض وتوبتها حتى قال أحمد: لو زنت امرأته لا يطأ الزوج حتى تستعد من الزاني بثلاث حيض عنده، وقيل يكتفى بحيضة، وقال أحمد: لا يطأ الجارية الزانية، وقول قتادة وإسحاق وأبي عبيدة مثل قول أحمد في انقضاء العدة بثلاث حيض والتوبة.
وقال ابن حزم في " المحلى ": لا يحل للزانية أن تنكح زانيا ولا عفيفا حتى تتوب، فإذا تابت حل لها الزواج من عفيف، ولا يحل للزاني المسلم أن يتزوج مسلمة لا زانية ولا عفيفة حتى يتوب، وللزاني أن يتزوج كتابية عفيفة. وإن لم يتب، والزنى الطارئ منهما أو من أحدهما لا يوجب فسخ نكاحهما، وروي ذلك بإسناد عن علي وابن مسعود والبراء بن عازب وجابر بن عبد الله وابن عمر وعائشة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - _.
وقال ابن المنذر: وهو قول جابر وطاوس وابن المسيب وابن زيد وعطاء والحسن وعكرمة والزهري والثوري والشافعي، وإذا تابا حل للزاني أن يتزوج بمن زنى عند الجمهور وعند ابن مسعود والبراء بن عازب وعائشة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - _ أنها لا تحل للزاني بحال، ثم لا يفرق بين الزوجين بزنى أحدهما.
وعن جابر بن عبد الله أن المرأة إذا زنت يفرق بينهما ولا شيء لها، وعن الحسن مثله، وعن علي _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ أنه فرق بين امرأة ورجل زنى قبل أن يدخل بها.
م: (وقال محمد: لا أحب أن يطأها قبل أن يستبرئها) ش: وذلك بطريق الاحتياط لاحتمال الشغل بماء الزاني م: (والمعنى ما ذكرنا) ش: أي ما ذكرنا من الجانبين في مسألة الجارية
[نكاح المتعة]
م: (ونكاح المتعة باطل) ش: ادعى غير واحد من العلماء الإجماع على تحريم المتعة، وقال الخطابي في(5/61)
وهو أن يقول لامرأة أتمتع بك كذا مدة بكذا من المال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" المعالم ": كان ذلك مباحا في صدر الإسلام ثم حرم فلم يبق اليوم خلاف بين الأئمة إلا شيئا ذهب إليه بعض الروافض.
قال: وكان ابن عباس يتأول في إباحته للمضطر إليه بطول العزوبة وقلة اليسار، ثم توقف عنه وأمسك عن الفتوى به، وقال أبو بكر الحازمي: يروى جوازه عن بعض الشيعة، وعن ابن جريج. وقال المازري في " العلم ": تقرير الإجماع على منعه، ولم يخالف فيه إلا طائفة من المبتدعة.
وحكى ابن عبد البر: الخلاف القديم في ذلك، فقال: وأما الصحابة فإنهم اختلفوا في نكاح المتعة فذهب ابن عباس إلى إجازتها وتحليلها، والاختلاف عنه في ذلك وعليه أكثر الصحابة، منهم عطاء بن رباح وسعيد بن جبير وطاوس، قال: وروي أيضا إجازتها وتحليلها عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله، قال جابر: تمتعنا إلى النصف من خلافة عمر _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ حتى نهى عمر الناس قال: وأما سائر الرواة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخلفاء وفقهاء المسلمين فعلى تحريم المتعة، منهم مالك بن أنس من أهل المدينة، والثوري وأبو حنيفة من أهل الكوفة، والشافعي ومن يسلك سبيله من أهل الحديث والفقه والنظر بالاتفاق، والأوزاعي من أهل الشام، والليث بن سعد من أهل مصر وسائر أصحاب الآراء.
م: (وهو أن يقول الرجل لامرأة: أتمتع بك كذا مدة بكذا من المال) ش: هذه صورة المتعة وفي " المنافع " صورتها أن يقول خذي هذه العشرة لأتمتع بك أو لاستمتع بك، أو متعيني نفسك أياما.
وفي " البدائع ": نكاح المتعة نوعان، أحدهما: أن يكون بلفظ التمتع، والثاني: أن يكون بلفظ النكاح أو التزوج أو ما يقوم مقامهما، فالأول أن يقول: أتمتع بك يوما أو شهرا أو سنة على كذا، وهو باطل.
وقال شيخنا زين الدين في " شرح الترمذي ": نكاح المتعة المحرم هو ما إذا خرج بالتوقيت فيه، أما إذا كان في تعيين الزوج أنه لا يقيم معها إلا سنة أو شهرا أو نحو ذلك ولم يشترط ذلك، فإنه نكاح صحيح عند عامة أهل العلم ما عدا الأوزاعي، فإنه قال في هذه الصورة: وهو متعة ولا خير فيه.
وإذا تقرر أن نكاح المتعة غير صحيح فهل يحد من وطئ في نكاح متعة، اختلف فيه العلماء فقال أكثر أصحاب مالك: لا حد فيه لشبهة العقد.
وقال الرافعي: إذا وطئ جاهلا بفساده فلا حد، وإن كان عالما فقد بنى أمر الحد على ما(5/62)
وقال مالك هو جائز، لأنه كان مباحا فيبقى إلى أن يظهر ناسخه، قلنا ثبت النسخ بإجماع الصحابة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - _
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
روي أن ابن عباس كان يجوز نكاح المتعة ثم رجع عنه، فإن صح رجوعه وجب الحد لحصول الإجماع، وإن لم يصح رجوعه فيبنى على أنه لو اختلف أهل عصر في مسألة، ثم اتفق من بعدهم على أحد القولين فيها، فهل يصير ذلك مجمعا عليه، فيه وجهان أصوليان.
إذا قلنا: نعم يجب الحد، وإلا فلا، قال الرافعي: وهو الأصح. وكذا صححه النووي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - _. وقال ابن الزبير: المتعة الزنا الصريح، ولا أجد أحدا يعمل بها إلا رجمته.
م: (وقال مالك: هو جائز) ش: أن نكاح المتعة، جائز، وقال الكاكي: هذا سهو، فإن المذكور في كتب مالك حرمة نكاح المتعة. وقال في " المدونة ": ولا يجوز النكاح إلى أجل قريب أو بعيد وإن سمى صداقا، وهذا المتعة.
وقال الأكمل معتذرا عن المصنف يجوز أن يكون شمس الأئمة الذي أخذ منه المصنف اطلع على قول له على خلاف ما في " المدونة ". انتهى.
قلت: لم يذكر في كتاب من كتب المالكية رواية تجوز المتعة، وبالاحتمال نقل قول عن إمام من الأئمة غير موجه مع أن مالكا روى في موطئه حديث الزهري من حديث علي بن أبي طالب _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن متعة النساء يوم خيبر» ، على ما يأتي بيانه عن قريب إن شاء الله.
وقال الأكمل هنا أيضا معتذرا ليس من يروي حديثا يكون واجب العمل؛ لجواز أن يكون عنده ما يعارضه أو يترجح عليه، انتهى.
قلت: عادة مالك أن لا يروي حديثا في موطئه إلا وهو يذهب ويعمل به، ولو ذكر عنه ما ذكره الأكمل لذكره أصحابه ولم ينقل عنه شيء من ذلك.
م: (لأنه) ش: أي لأن نكاح المتعة م: (كان مباحا فيبقى إلى أن يظهر ناسخه) ش: أي يبقى حكمه إلى أن يظهر ناسخه يحرم م: (قلنا: ثبت النسخ بإجماع الصحابة _ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - _) ش: بيان ذلك أنه وردت الأحاديث الدالة على نسخها.
منها ما رواه الترمذي من حديث الزهري عن عبد الله والحسن بن محمد بن علي عن أبيهما عن علي بن أبي طالب _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن متعة النساء وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر» . وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه بقيه الستة ما عدا أبا داود _ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عنه _.(5/63)
وابن عباس _ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - _ صح رجوعه إلى قولهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنها ما أخرجه مسلم وبقيه أصحاب " السنن " من رواية الربيع بن سبرة عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المتعة، وقال: إنها حرام من يومكم إلى يوم القيامة» .
ومنها ما رواه ابن حبان في " صحيحه " من حديث «أبي هريرة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _، قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، فنزلنا ثنية الوداع، فرأى نساء يبكين، فقال: " ما هذا "، قيل: نساء استمتع بهن أزواجهن ثم فارقوهن، فقال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حرام أو هدم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث» .
ومنها ما رواه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع قال: «رخص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام أوطاس في المتعة ثلاثة أيام ثم نهى عنها» . ومنها ما رواه البيهقي من «حديث أبي ذر إنما أحلت لنا أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متعة النساء ثلاثة أيام نهى عنها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . ومنها ما رواه أبو داود في " سننه " من «حديث الزهري قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ فذكرنا متعة النساء، فقال رجل: قال الربيع بن سبرة: أشهد على أبي أنه حدث أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عنها في حجة الوداع» انتهى.
ثم أجمعت الصحابة على أن المتعة قد انتسخت في حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فكانت الأحاديث ناسخة، والإجماع مظهر؛ لأن نسخ الكتاب والسنة بالإجماع ليس بصحيح على المذهب الصحيح.
فإن قلت: ما وجه الاختلاف المذكور في وقت تحريم المتعة لأنه جاء في زمن خيبر وفي وقت غزوة تبوك في عام أوطاس، وفي حجة الوداع؟
قلت: قال الماوردي: يصح أن ينهى عنها في زمن ثم ينهى عنها في زمن آخر توكيدا، أو ليشهر ويسمعه من لم يكن سمعه أولا أو سمع بعض الرواة في زمن وسمعه آخر في زمن، فنقل كل منهم ما سمعه وأضافه إلى زمن سماعه.
وقال بعضهم: هذا مما تداوله التحريم والإباحة مرتين والله أعلم.
وقال النووي: الصواب والمختار أن التحريم كانا مرتين، وكانت حلالا قبل خيبر ثم حرمت بعد خيبر ثم أبيحت يوم فتح مكة، وهو يوم أوطاس، ثم حرمت يومئذ بعده ثلاثة أيام تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة واستمر التحريم.
م: (وابن عباس _ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - _ صح رجوعه إلى قولهم) ش: هذا جواب عما يقال: أين الإجماع وقد كان ابن عباس مخالفا؟ فأجاب بقوله: وابن عباس صح رجوعه عن إباحة المتعة(5/64)
فتقرر الإجماع،
والنكاح المؤقت باطل مثل أن يتزوج امرأة بشهادة شاهدين عشرة أيام. وقال زفر _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ هو صحيح لازم، لأن النكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة. ولنا أنه أتى بلفظ المتعة، والعبرة في العقود للمعاني ولا فرق بين ما إذا طالت مدة التوقيت أو قصرت، لأن التأقيت هو المعين لجهة المتعة، وقد وجد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى قول الصحابة في تحريمها، وروى جابر بن زيد أن ابن عباس ما خرج من الدنيا حتى رجع عن قوله في الصرف والمتعة م: (فتقرر الإجماع) ش: أي إجماع الصحابة في تحريمها.
[النكاح المؤقت]
م: (والنكاح المؤقت باطل) ش: وهو قول عامة الفقهاء، وفي " المحيط ": كل نكاح مؤقت متعة، وفي " ملتقى البحار ": النكاح المؤقت في معنى المتعة عندنا خلافا لزفر م: (مثل أن يتزوج الرجل امرأة بشهادة شاهدين عشرة أيام) ش: هذه صورة النكاح المؤقت.
وقوله: عشرة أيام _: ليس بقيد، وكذا قوله شهرا أو سنة ونحوهما والفرق بذكر لفظ التزوج في المؤقت دون المتعة، وكذا بالشهادة فيه دون المتعة، وحكى ابن عبد البر وابن قدامة الحنبلي والنووي عن زفر أن نكاح المتعة يصح ويتأبد عنده.
قال السروجي: ونقلهم غلط، وإنما قال زفر في النكاح المؤقت كما ذكرته عن أصحابنا، وهو الذي ذكره المصنف وغيره.
م: (وقال زفر: هو صحيح لازم) ش: أي النكاح المؤقت صحيح، والتوقيت باطل طالت المدة أو قصرت، لأن النكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة لأنه أتى بالإيجاب، والشرط الزائد على ما يتم به النكاح، فصح الإيجاب وبطل الشرط م: (لأن النكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة) ش: كما لو تزوجها بشرط أن يطلقها بعد شهر، وعن إبراهيم النخعي: النكاح يهدم الشرط والشرط يهدم البيع، وذلك لأن النكاح من الإسقاطات لأن معناه سقوط حرمة البضع في حق الزوج إلا أنه شرع ملكا ضروريا لأجل شرعية الطلاق ولهذا لا يبطل بالشرط الفاسد.
م: (ولنا أنه) ش: أي النكاح بالتوقيت م: (أتى بلفظ المتعة) ش: يعني أتى بمعنى المتعة بلفظ النكاح؛ لأن معنى المتعة هو الاستمتاع بالمرأة لا لقصد مقاصد النكاح، وهو موجود فيما نحن فيه، لأنها لا تحصل في مدة قليلة م: (والعبرة في العقود للمعاني) ش: لا للألفاظ ألا ترى أن الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة، والحوالة بشرط مطالبة الأصيل كفالة.
م: (ولا فرق بين ما إذا طالت مدة التوقيت أو قصرت) ش: احترز به عن قول الحسن بن زياد: أنهما إن ذكرا من الوقت ما لم يعلم أنهما يعيشان إليه كمائة سنة أو أكثر كان النكاح صحيحا، لأنه في معنى التأبيد، وهو رواية عن أبي حنيفة، وأشار إلى وجه الظاهر بقوله:
م: (لأن التوقيت هو المعين لجهة المتعة وقد وجد) ش: لأن مقتضى قوله: تزوجتك(5/65)
ومن تزوج امرأتين في عقدة واحدة إحداهما لا يحل له نكاحها صح نكاح التي يحل نكاحها وبطل نكاح الأخرى لأن المبطل في إحداهما بخلاف ما إذا جمع بين حر وعبد في البيع، لأنه يبطل بالشروط الفاسدة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التأبيد لأنه لم يوضع شرعا إلا لذلك، ولكنه يحتمل المتعة فإذا قال: إلى عشرة أيام عين التوقيت لجهة كونه متعة معنى، وفي هذا المعنى المدة القليلة والكثيرة سواء، واستشكل هذه المسألة بما إذا شرط وقت العقد أن يطلقها بعد شهر، فإن النكاح صحيح، والشرط باطل، ولا فرق بينهما وبين ما نحن فيه.
وأجيب: بأن الفرق بينهما ظاهر، لأن الطلاق قاطع للنكاح، فاشتراط بعد شهر لينقطع به دليل على وجود العقد مؤبدا، ولهذا لو مضى الشهر لا يبطل النكاح، فكان النكاح صحيحا والشرط باطلا.
وأما صورة النزاع فالشرط إنما هو في النكاح لا في قاطعه، ولهذا لو صح التوقيت لم يكن بينهما بعد مضي المدة عقد كما في الإجازة.
وقال الكاكي فيما يتعلق بمحلية النكاح: إن المناكحة بين أهل السنة والاعتزال، قال الإمام الرسعني: لا يجوز، وقال الإمام الفضل: من قال: أنا مؤمن إن شاء الله فهو كافر لا يجوز نكاح نسائهم.
وقال أبو حفص الكردي: لا ينبغي أن يزوج الحنفي بنته من الشفعوي ولكن يتزوج بنتهم وفي " فتاوى الصغرى " قال بعض المشايخ: يجوز أن يزوج بنته من الشفعوي، وقياس ما ذكر الفضل لا يجوز، وقيل: لا بأس يتزوج النهاريات وهو أن يتزوجها على أن يأتيها نهارا دون الليل وكره ابن سيرين وجه هذا القيد.
وعن ابن دينار من المالكية: يفسخ قبل البناء وبعده، وبعضهم قالوا: يفسخ قبل البناء ويثبت بعده ويأتيها ليلا ونهارا، قال: لأنه مؤبد ويلغو الشرط، ولو نكح مطلقا ونيته إن تمكن معها مدة فنكاحه صحيح، وشدد الأوزاعي في جعله متعة، وذكره النووي في شرح مسلم.
[تزوج امرأتين في عقدة واحدة وإحداهما لا يحل له نكاحها]
م: (ومن تزوج امرأتين في عقدة واحدة وإحداهما لا يحل له نكاحها صح نكاح التي يحل نكاحها وبطل نكاح الأخرى) ش: بإجماع الأئمة الأربعة، وقال السروجي: وهو قول الجمهور من العلماء وأحد قولي الشافعي وابن حنبل.
م: (لأن المبطل في إحداهما بخلاف ما إذا جمع بين حر وعبد في البيع) ش: أي في عقدة واحدة حيث يفسد البيع في العبد م: (لأنه) ش: أي لأن البيع م: (يبطل بالشروط الفاسدة) ش: «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع وشرط» بخلاف النكاح، وأيضا الشرط في البيع بمنزلة القمار لأنه مقابلتها بمال،(5/66)
وفي قبول العقد في الحر شرط فيه، ثم جميع المسمى للتي يحل نكاحها عند أبي حنيفة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ وعندهما يقسم على مهر مثليهما، وهي مسألة الأصل.. ومن ادعت عليه امرأة أنه تزوجها وأقامت بينة فجعلها القاضي امرأته ولم يكن تزوجها وسعها المقام معه، وأن تدعه يجامعها، وهذا عند أبي حنيفة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ وهو قول أبي يوسف _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ أولا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولا كذلك النكاح.
وفرق آخر: وهو أن الحر لم يدخل تحت العقد فكان تبعا للعبد بالحصة ابتداء، وهو فاسد، والنكاح لا يفسد بذلك، ويدل على التفرقة بينهما، لأنه لو قال: بعتك هذا العبد بقيمة، أو لم يذكر شيئا كان البيع فاسدا، أو لو قال: زوجتك ابنتي بمهر المثل، أو لم يذكر شيئا كان النكاح صحيحا ويجب مهر المثل.
م: (وفي قبول العقد في الحر شرط فيه) ش: أي في تصحيح البيع في العبد؛ لأنه لو لم يكن كذلك لزم تفريق الصفقة وذلك حرام، وشرط قبول الحرية شرط فاسد، والبيع يبطل بالشروط الفاسدة لا النكاح م: (ثم جميع المسمى) ش: في العقد يكون م: (للتي يحل نكاحها عند أبي حنيفة) ش: وبه قال الشافعي في قول.
م: (وعندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد م: (يقسم على مهر مثليهما) ش: وبه قال الشافعي في قول وأحمد، ففي قول _ تستحق مهر المثل لفساد المسمى بجهالة، وبه قال مالك في قول.
وفي " المغني ": تزوج أربعا في حالة واحدة صح النكاح، وكذا في أشهر قولي الشافعي وابن حنبل، وعنهما يجب لكل واحدة مهر مثلها م: (وهي مسألة الأصل) ش: أي " المبسوط ".
م: (ومن ادعت عليه امرأة أنه تزوجها وأقامت بينة فجعلها القاضي امرأته) ش: بمقتضى شهادة البينة م: (ولم يكن تزوجها) ش: أي والحال أن الرجل لم يكن تزوج هذه المرأة م: (وسعها المقام معه) ش: _ بفتح الميم وضمها _ أي وسع المرأة الإقامة مع الزوج م: (وأن تدعه) ش: أي وسعها أيضا أن تتركه م: (يجامعها وهذا) ش: أي هذا المذكور من الحكم م: (عند أبي حنيفة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _) .
ش: وهذه المسألة [ ... ] بين الفقهاء بأن قضاء القاضي بشهادة الزور في العقود والفسوخ ينفذ عند أبي حنيفة ظاهرا وباطنا، ومعنى نفوذه ظاهر [
] فيما بينا بثبوت التمكين والنفقة والغنم وغير ذلك، ومعنى نفوذه ثبوت الحل عند الله تعالى م: (وهو قول أبي يوسف أولا) ش: أي قول أبي حنيفة هو قول أبي يوسف أولا.(5/67)
وفي قوله الآخر وهو قول محمد _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ لا يسعه أن يطأها وهو قول الشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ لأن القاضي أخطأ الحجة إذ الشهود كذبة فصار كما إذا ظهر أنهم عبيد أو كفار، وعن أبي حنيفة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ أن الشهود صدقة عنده وهو الحجة لتعذر الوقوف على حقيقة الصدق بخلاف الكفر والرق لأن الوقوف عليهما متيسر. وإذا ابتنى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وفي قوله الآخر) ش: أي قول أبي يوسف آخرا م: (وهو قول محمد لا يسعه أن يطأها وهو) ش: أي قول محمد م: (قول الشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _) ش: وهو قول مالك وأحمد أيضا، وعلى هذا الاختلاف في البيع، فلو ادعى بيع جاريته ولم يبعها في الواقع فيقضي بالجارية للمدعي حل وطؤها عنده خلافا لهم، وكذا لو ادعت المرأة الطلقات الثلاث على زوجها وهو ينكر، وأقامت بينة ولم يكن طلقها في الواقع فقضى القاضي بالطلقات الثلاث، وتزوجت بزوج آخر حل للثاني أن يطأها عنده، وعندهم لا تحل للأول، ولا للثاني، وكذا الاختلاف في الفسخ.
والحاصل في المسألة أربع أقاويل، فأبو حنيفة يقول: للثاني لا للأول وعندهما لا تحل للثاني ولا للأول للحرية.
والشافعي يقول: يطؤها الأول سرا والثاني علانية، وفيه اجتماع رجلين على امرأة واحدة في طهر واحد وهو قبيح، والأوجه ما قاله أبو حنيفة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _، كذا في " جامع المحبوبي ".
م: (لأن القاضي أخطأ الحجة إذ الشهود كذبة) ش: بالفتحات جمع كاذب، والخطأ في الحجة منع النفوذ باطنا م: (فصار كما إذا ظهر أنهم) ش: أي الشهود م: (عبيد أو كفار) ش: أو محدودون في القذف، والمشهود له يعلم بحالهم، فإن قضاءه ينفذ ظاهرا لا باطنا، وكذا لو قضى بنكاح منكوحة الغير أو معتدة الغير بشهادة الزور فإنه ينعقد ظاهرا لا باطنا بالإجماع.
م: (وعن أبي حنيفة أن الشهود صدقة) ش: بالفتحات جمع صادق م: (عنده) ش: أي عند القاضي م: (وهو الحجة) ش: أي صدق الشهود عند القاضي هو الحجة م: (لتعذر الوقوف على حقيقة الصدق) ش: الحاصل أن القاضي مأمور بالقضاء بينة صادقة، والتكليف بحسب الوسع وليس في وسعه الوقوف على صدق الشهود حقيقة، ولهذا إذا أقيمت البينة وثبت عنده صدقهم بالتعديل أو غيره يجب القضاء، حتى لو لم ير ذلك على نفسه يكفر، ولو أخره يفسق، ورجحت ها هنا صدقهم بالتعديل في ظنه فيلزمه، فوجب تصحيح قضائه إن أمكن.
م: (بخلاف الكفر والرق) ش: هذا جواب عن قولهما: فصار كما أظهر أنهم عبيد أو كفار، تقريره أن العبيد والكفار يعرفون بسيماهم م: (لأن الوقوف عليهما مقيس بالأمارات، وإذا ابتنى(5/68)
القضاء على الحجة وأمكن تنفيذه باطنا بتقديم النكاح نفذ قطعا للمنازعة بخلاف الأملاك المرسلة، لأن في الأسباب تزاحما فلا إمكان والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القضاء) ش: على صيغة المجهول م: (على الحجة) ش: وهي الشهادة الصادقة عند القاضي م: (وأمكن تنفيذه) ش: أي تنفيذ الحكم م: (باطنا) ش: بتقديم النكاح، جواب عما يقال القضاء إظهار ما كان ثابتا لا إثبات ما لم يكن، والنكاح لم يكن ثابتا، فكيف ينفذ القضاء باطنا.
فأجاب بقوله: بتقديم النكاح، يعني بتقديم النكاح على القضاء بطريق الاقتضاء كأنه قال: أنكحتك إياه وحكمت بينكما بذلك م: (نفذ قطعا للمنازعة) ش: يحل له أن يطأها لئلا تنازعه في طلب الوطء ثانيا.
فإن قيل: إن كان قضاؤه متضمنا إن شاء بالعقد ثابتا فيشترط الشهود عند قوله قضيت.
قلنا: قال شمس الأئمة السرخسي وغيره: إنه لا ينعقد باطنا بقوله: قضيت، إلا بمحضر الشهود، وبه أخذ عامة المشايخ، وهو قول الزعفراني.
وقيل لا يشترط حضور الشهود لقضائه؛ لأن العقد يثبت بمقتضى صحة قضائه في الباطن، وما يثبت بمقتضى صحة الغير لا يثبت بشرائطه كالبيع في قوله: أعتق عبدك عني بألف. وقد جرى " الأكمل " في هذه المسألة بحث مع شخص تولى من أولياء المرأة، وذكره في شرحه ثم قال: وإمامنا في هذه المسألة علي _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _، وأقام شاهدين فقضى بالنكاح بينهما، فقالت المرأة: إن لم يكن به يا أمير المؤمنين تزوجني منه فقال على _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _: شاهداك زوجاك، ولو لم ينعقد العقد بينهما بقضائه لما امتنع عن العقد عند طلبها ورغبه الزوج فيها، وقد كان في ذلك تحصينها من الزنا، وكان ذلك منه بشهادة الزور.
م: (بخلاف الأملاك المرسلة) ش: أي المطلقة عن إثبات سبب الملك إن ادعى ملكا مطلقا في الجارية أو الطعام من غير تعيين أو إرث لا ينعقد القضاء فيها إلا ظاهرا بالاتفاق حتى لا يحصل للمقتضى له وطؤها م: (لأن في الأسباب تزاحما) ش: لأنها كثيرة، ولا يمكن للقاضي تعيين شيء منها بدون الحجة.
م: (فلا إمكان) ش: في تنفيذه إلا ظاهرا، لأنه لا يمكن تقديم شيء من أسباب الملك في القضاء لعدم أولوية بعضها على بعض، ولا يمكن تقديم الكل للاستحالة بخلاف القضاء بالنكاح، لأن طريقه متعين من الوجه.
قلنا: فيمكن تنفيذه وإثباته في الهبة والصدقة، وعن أبي حنيفة روايتان في رواية ألحقها بالأنكحة والأشربة من حيث إنها تحتاج إلى الإيجاب والقبول، وفي رواية ألحقها بالأملاك المرسلة؛ لأنه لا ولاية للقاضي؛ لأنها تملك مال الغير بغير عوض.(5/69)
باب في الأولياء والأكفاء وينعقد نكاح الحرة العاقلة البالغة برضاها وإن لم يعقد عليها ولي، سواء كانت بكرا أو ثيبا عند أبي حنيفة وأبي يوسف _ رحمهما الله _ في ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ أنه لا ينعقد إلا بولي وعند محمد ينعقد موقوفا. وقال مالك والشافعي _ رحمهما الله _ لا ينعقد النكاح بعبارة النساء أصلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب في الأولياء والأكفاء] [نكاح الحرة العاقلة البالغة برضاها]
م: (باب في الأولياء والأكفاء) ش: لما ذكر النكاح وألفاظه ومحله شرع في بيان العاقد والولي، أي هذا باب في بيان حال الأولياء والأكفاء. والأولياء جمع ولي وهو المالك، يقال: ولي اليتيم والكفيل أي مالك أمرهما. والأكفاء جمع كفء وهو النظير، ومنه كافأه أي سواه.
م: (وينعقد نكاح الحرة العاقلة البالغة برضاها وإن لم يعقد عليها ولي) ش: يعني هي زوجت نفسها بنفسها م: (سواء كانت بكرا أو ثيبا) ش: واحترز به عن قول أصحاب الظاهر، فإنهم فصلوا بين البكر والثيب، فقالوا: إن كانت بكرا لا يصح نكاحها بغير ولي، وإن كانت ثيبا صح م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف في ظاهر الرواية) ش: احترز به عن رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: إن كان الزوج كفؤا لها جاز النكاح، وإلا فلا.
م: (وعن أبي يوسف) ش: يعني في غير ظاهر الرواية م: (أنه لا ينعقد إلا بولي) ش: أبو يوسف أولا يقول: لا يجوز تزويجها من كفء أو غير كفء إذا كان لها ولي ثم رجع وقال: صح النكاح سواء كان الزوج كفؤا لها أو لا، وذكر الطحاوي قول أبي يوسف: إن الزوج إذا كان كفؤا لها أمر القاضي بإجازة العقد، فإن أجازه جاز وإن أبى لم يجز ولم يفسخ، ولكن يجبر القاضي فيجز، ذكره " في المبسوط ".
م: (وعند محمد ينعقد موقوفا) ش: إلى إجازة الولي سواء كان الزوج كفؤا لها أو لا، فإن الولي أجاز وإلا فلا، ومن العلماء من قال: إن كانت غنية شريفة لم يجز تزويجها نفسها بغير رضا الولي، وإن كانت فقيرة يجوز تزويجها نفسها بغير رضا الولي.
م: (وقال مالك والشافعي: لا ينعقد النكاح بعبارة النساء أصلا) ش: ولا توكيلهن، ولا بد من الولي أو السلطان عند عدمه، ويروى ذلك عن بعض الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وقال مالك: إن كانت ذات حسن وجمال وشرف أو قال: يرغب في مثلها لم يصح نكاحها إلا بولي، وإن كانت بخلاف ذلك جاز أن يتولى نكاحها أجنبي برضاها، ولا تتولاه بنفسها.
قيل: هذا النقل عنه غلط، والصحيح عنه أن الزانية إن زوجها الجار أو غيره ليس بولي جاز، والتي لها موضع، فإن زوجها غير الولي فرق بينهما، فإن أجازه الولي أو السلطان جاز.(5/70)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وللشافعي وأحمد شرط في ذلك واستدلا بقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] (البقرة: الآية 232) ، قال الشافعي: هذه ابتدائية في كتاب الله _ عز وجل _ تدل على النكاح بغير ولي لا يجوز لأنه نهى الولي عن العضل، أي المنع، والمنع إنما يتحقق منه إذا كان الممنوع في جدة إذ الخطاب للأولياء.
وروى البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي من رواية الحسن عن معقل بن يسار، قال: كانت لي أخت تخطب إلي فأمنعها ... الحديث، فأنزل الله تعالى هذه الآية {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] .
وروى الترمذي حديث ابن عمر: حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - _ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» الحديث.
وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه أيضا، وروى الترمذي من حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي» .
وأخرج الدارقطني في سننه من حديث قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين عن ابن مسعود _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - _ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» .
وروى الدارقطني أيضا من حديث ابن عمر _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - _ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» .
رواه الحاكم من حديث أنس _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ «لا نكاح إلا بولي» رواه البيهقي من(5/71)
لأن النكاح يراد لمقاصده والتفويض إليهن مخل بها. إلا أن محمدا _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ يقول يرتفع الخلل بإجازة الولي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حديث الحسن عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجوز النكاح إلا بولي وشاهدي عدل» .
وروى ابن ماجه من رواية هشام عن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها» .
وروى ابن عدي في " الكامل " من حديث قبيصة بن ذؤيب عن معاذ بن جبل _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما امرأة تزوجت بغير ولي فهي زانية» .
وروى الطبراني في " الأوسط " من حديث أبي سفيان عن جابر مرفوعا: «لا نكاح إلا بولي فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» .
وروى ابن عدي في " الكامل " من حديث أصبغ بن نباتة عن علي _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما امرأة تزوجت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن لم يكن لها ولي فالسلطان ولي من لا ولي له» .
وفي الباب أيضا عن عبد الله بن عمر وأبي ذر والمقداد بن الأسود والمسور بن مخرمة وأم سلمة وزينب بنت جحش _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - _.
وأما استدلالهم: بطريق المعقول فهو ما أشار إليه المصنف بقوله: م: (لأن النكاح يراد لمقاصده) ش: ومقاصده هو أن يستدعي التوافق بينهما عادة ولا يوفق عليها إلا بالعقل الكامل، وعقلها ناقص بالحديث م: (والتفويض إليهن) ش: أي تفويض عقد النكاح إلى النساء م: (مخل بها) ش: أي مقاصد النكاح، لأنهن سريعات الاغترار سيئات الاختيار لا سيما عند هيجان الشهوة، فإن الشهوة إذا ثارت حجبت العقول من تحسين النظر في العواقب.
قلنا: هذا مردود بما أذن لها الولي بأن يأذن الولي بخير الخلل، فكان الواجب الجواز حينئذ وهم لا يقولون به.
وأشار إلى هذا بقوله: م: (إلا أن محمدا يقول: يرتفع الخلل بإجازة الولي) ش: والاستثناء من قوله: مخل بها، فالذي قاله محمد جواب بالرد لما قال الخصم، وتقرير ما قاله محمد أن الغرر الموهوم ينتفي بإجازة الولي ولا خلل في نفس العبد فيصبح موقوفا بإجازته.
وقال أيضا: ينفذ عقد الولي عليها بسكوتها عنده، ولو لم يكن له ولاية عليها لم ينفذ بسكوتها كالأجنبي.(5/72)
ووجه الجواز أنها تصرفت في خالص حقها وهي من أهله لكونها عاقلة مميزة ولهذا كان لها التصرف في المال ولها اختيار الأزواج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلنا: سكوتها إذن منها: يجعل الشارع ذلك إذنا منها فلم ينفذ إلا بإذنها لوكيلها. قالوا: يجب على الولي تزويجها عند طلبها ولو لم يكن له ولاية لما وجب ذلك عليه.
قلنا: هذا ممنوع بل هي تأذن لمن يزوجها أو تباشر بنفسها ما لو قام بها وصف نقص بسلب أهلية الأمانة العامة والخاصة، وسلب الشهادة فيما يندرئ بالشبهات، وسقوط الجمعة والجماعات فصارت كالرخصة.
قلنا: هذا قياس شبهة باطل، والنكاح ليس من الحدود ولا ما يندرئ بالشبهات، وإنما سقطت الجمعة والجماعات للفتنة.
وقولهم: تبطل بالمسافر، ولا بسلب عقدة الولاية، ولا يوصف بسببه بالنقص، قالوا: إن الولاية تبقى عليها بعد بلوغها نقص صداقها، وفي حق الضم والإسكان.
قلنا: هذا لخوف الفتنة عليها.
قالوا: إنها قاصرة في البضع، ولهذا لا تسافر وحدها.
قلنا: يبطل هذا بسفر بالحج؛ فإنها بغير محرم ولا زوج عند مالك والشافعي.
م: (ووجه الجواز) ش: أي جواز عقد النكاح المرأة الحرة العاقلة البالغة برضاها، وإن لم يعقد عليها ولي م: (أنها تصرفت في خالص حقها) ش: حتى كان البدل الواجب بمقابلتها لها م: (وهي من أهله) ش: أي المرأة من أهل التصرف خالص حقها م: (لكونها عاقلة مميزة ولهذا) ش: أي ولأجل كونها عاقلة مميزة م: (كان لها التصرف في المال، ولها اختيار الأزواج) ش: بالاتفاق وكل تصرف هذا شأنه فهو جائز.
فإن قلت: لا نسلم أنها تصرفت في خالص حقها، بل في حق تعلق به حق الأولياء، ولهذا لا يجوز إذا لم يكن بكفء.
قلت: لا فرق في ظاهر الرواية فلا يرد عليه، وأما على رواية الحسن عن أبي حنيفة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ فالجواب: أن المراد بخالص حقها ما كان من الموضوعات الأصلية، التي يترتب عليها النكاح من تمليك منافع بضعها وإيجاب النفقة والكسوة والمهر والسكنى ونحوها، وكل ذلك خالص حقها فلا يعتبر بالعارض للحوق الماء بالأولياء.
فإن قيل: هذا استقلال بالرأي في مقابلة الكتاب والسنة: وكله فاسد، أما الكتاب فقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] (البقرة: الآية 232) ، نهى الولي عن العضل وهو المنع، وإنما يتحقق المنع إذا كان الممنوع في يده.(5/73)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما السنة: فهي الأحاديث التي ذكرناها.
فنجيب أولا عن الآية، ثم عن الأحاديث: فنقول:
الآية مشتركة الإلزام؛ لأنه نهاهم عن منعهن عن النكاح، فدل على أنهم يمكنهم، وإن قَوْله تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 234] (البقرة: الآية 240) ، وقَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] (البقرة: الآية 230) ، قَوْله تَعَالَى: {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] (البقرة: الآية 232) ، يعارضهما.
وأما الجواب عن الأحاديث فيأتي واحدا واحدا، فنقول:
أولا: عن استدلال الشافعي بقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] إنه يدل على نكاحها بمباشرتها من غير إذن الولي من وجوه:
الأول: أن الله تعالى أضاف العقد إليها.
الثاني: أن نهيه تعالى عن العضل إذا تراضى الزوجان.
الثالث: أن العضل إذا تراضى الزوجان.
الرابع: أن العضل اسم يشترك بمعنى المنع، وبمعنى الضيق، وآلة العضال، وذلك كله ظاهر في منعه من الخروج والمراسلة في عقد النكاح، والأظهر في الآية أن الخطاب للأزواج، لا للأولياء.
قال الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] (البقرة: الآية 232) ، وذلك بالحبس وتطويل العدة عليهن لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] وكانوا يطلقون فيراجعون إذا قرب انقضاء عدتهن من غير حاجة ضرر.
وقال الإمام فخر الدين بن الخطيب: المختار أنه خطاب للأزواج، لا للأولياء، قال: وتمسك الشافعي بها ممنوع على المختار، رواه ابن عباس، وأيضا ثبوته في حق الولي ممتنع؛ لأنه مهما عزل فلا يبقى بعضلها أثر.
وأما الجواب عن حديث معقل بن يسار، فإن الرازي قال: في طريقه مجهول؛ فلا يكون حجة عندهم.
وأما حديث عائشة _ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - _ فمداره على الزهري، وابن جريج سأله عنه فلم يعرفه. وفي رواية فأنكره فسقط عباؤه.
وقال الطحاوي: قد يثبت عن عائشة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - _ ما يخالف هذا الحديث؛(5/74)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإنها زوجت حفصة بنت عبد الرحمن بن المنذر من الزبير، وعبد الرحمن غائب بالشام، ولما قدم قال: أمثل هذا يصنع به أو يعاب عليه، فكلمت عائشة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - _ المنذر. فقال المنذر: إن ذلك بيد عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: ما كنت أرد أمرا قضيته، ومرت حفصة عنده، ولم يكن ذلك طلاقا، قال: فلما رأت عائشة تزويجها جائزا مستقيما استحال عندنا أن تكون ترى ذلك، وقد علمت ما نسب إليها من رواية الزهري.
فإن قلت: قال ابن حزم في " المحلى ": هذا مشهور، ثم إنكاح عائشة حفصة، وفيه أمرت رجلا فأنكح، ثم قال: ليست إلى النساء إلا النكاح، قال: فصح يقينا بهذا رجوعها عن العمل الأول، قال: كتب إلي محمد بن سماعة بهذا.
قلت: قال السروجي: ما أجهله بالفقه وأصوله، وهل يقول أحد في العالم إن كتاب ابن سماعة يفيد اليقين والعلم الضروري، مع أنه لا يعرف صحة سنده، ولا يعرف من روى هذا بإسناد اليقين، وخبر الواحد بالمشافهة لا يفيد يقينا، فما ظنك بكتابه؟
فإن قلت: هذا الحديث قد روي بطرق كثيرة.
قلت: في طريقه زيد بن يسار بن مزود الرهاوي، قال أحمد، وعلي بن المديني والدارقطني: هو ضعيف، وقال يحيى: ليس بشيء، وقال النسائي والأزدي: متروك الحديث، وفيها عبد الله بن حكيم أبو بكر الرازي، عن هشام بن عرفة، وقال نوح بن دراج القاضي، قال يحيى: ليس بثقة، ولا يدري بالحديث.
وقال النسائي: قال يحيى وعلي وأحمد: وهو ليس بشيء، ولا يكتب حديثه، وفيه أبو الحصين وهو مجهول، وفيه عطاء بن عجلان الحنفي العطار، وقال الترمذي: ذاهب الحديث، وفيه أبو مالك الحسن ضعفه مسلم، وفيه الحجاج بن أرطاة وفيه كلام كثير، وفيه عبد الله بن لهيعة وهو معروف الحال، والعجب أنهم يضعفونه، وهو عند كون الحديث عليهم، ويحتجون به عند كون الحديث لهم، وفيها ابن ربيعة ضعفه ابن معين، وقال: ليس بشيء.
وأما حديث أبي موسى الأشعري فرواه إسحاق الهمداني، عن أبي بردة فضعفه شعبة، وسفيان الثوري، وأبو إسحاق مدلس، وقد قال عن أبي بردة؛ فلا يكون حجة.
وأما حديث ابن مسعود ففيه بكر بن بكار، قال يحيى: ليس بشيء.
وأما حديث ابن عمر _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - _ ففيه ثابت بن زهير، قال أبو حاتم: منكر الحديث، وضعفه ابن عدي، وابن حبان. وقال أبو داود: موقوف على ابن عمر.
وأما حديث عمران بن حصين فقد قال السروجي: ليس له حديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما رواه(5/75)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن ابن مسعود.
وأما حديث أبي هريرة ففيه جميل بن الحسن العتكي، ومسلم بن أبي مسلم، لا يعرفان.
وأما حديث معاذ بن جبل _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ ففيه نوح بن أبي مريم أبو عصمة، ضعفه ابن معين والدارقطني.
وأما حديث جابر _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ ففيه ثعلبة بن الوليد أبو محمد الحمصي، وكان مدلسا، وقالوا: أبو مسهر ثعلبة غير ثقة، ويروي عن قوم مجهولين متروكين، لا يحتج بهم.
وأما حديث علي _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ففيه أصبغ بن نباتة أبو القاسم الحنظلي، ليس بثقة ولا يساوي شيئا، قال ابن معين وقال النسائي: متروك الحديث وفيه عمر بن صبيح التميمي أبو نعيم، قال: أنا الذي وضعت خطبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يضع الحديث، وفي الجملة قد ضعف البخاري هذه الأحاديث.
وقال يحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه: تنسب إليه ثلاثة أحاديث لم تثبت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أحدها: «لا نكاح إلا بولي» ، وثانيها: «من مس ذكره فليتوضأ» . ثالثها: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» ، رواه عنهما ابن عون [ ... ] وشمس الدين السبط بن الجوزي: وقال يحيى بن معين: لا يصح في هذا الباب إلا حديث عائشة، قلنا: قد روي ما يخالف حديثها، وقد ذكرناه عن قريب
وقال الحافظ أبو جعفر الطحاوي: فلما لم يكن في هذه الأقاويل دليل على ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى، وأراد بهم الشافعي ومالكا، وأحمد، وإسحاق، وأبا ثور، نظرنا فيما سواها، هل نجد شيئا يدل على الحكم في هذا الباب، كيف هو؟ فإن يونس قد حدثنا قال: أخبرنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن عبد الله بن الفضل، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن ابن عباس _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - _ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها سكوتها» وأخرجه من ثلاث طرق، ثم قال: فبين ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا الحديث بقوله: «الأيم أحق بنفسها من وليها» .
وهذا الحديث أخرجه أيضا الترمذي، عن يحيى بن يحيى عن مالك، ثم قال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي، والأيم بفتح الهمزة وتشديد الياء التي هي آخر الحروف،(5/76)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو في " الأصل " التي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا، مطلقة كانت أو متوفى عنها زوجها. قيل وأراد بها هنا الثيب خاصة، على ما نبين إن شاء الله تعالى.
وقد ذكرت في شرحي لمعاني الآثار للطحاوي، وقد اختلف في معنى الأيم هنا مع اتفاق أهل اللغة، أنه يطلق على كل امرأة لا زوج لها صغيرة كانت أو كبيرة، بكرا كانت أو ثيبا، وذهب علماء الحجاز، وكافة العلماء إلى أن المراد بها هاهنا الثيب التي فارقها زوجها، وقالوا: بأنه أكثر استعمالا فيمن فارقت زوجها بموت أو طلاق، وبرواية الأثبات فيه الثيب مفسرا، وهو أيضا لفظ مسلم: «الثيب أحق بنفسها من وليها» "، ويقابله: «البكر تستأمر في نفسها» ، ولو كان المراد بالأيم كل ما لا زوج لها من الأبكار وغيرهن، وأن جميعهن أحق بأنفسهن لم يكن لتفصيل الأيم من البكر معنى.
وذهب الكوفيون وزفر إلى أن الأيم هنا يطلق على ظاهره في اللغة، فإن كل امرأة بكرا كانت أو ثيبا إذا بلغت فهي أحق بنفسها من وليها وعقدها على نفسها جائز، وهو قول الشعبي، والزهري أيضا، قالوا: وليس الولي من أركان صحة العقد، ولكن من تمامه وجماله.
قلت: لا شك أن قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الأيم أحق بنفسها» عام يتناول الثيب والبكر والمتوفى عنها زوجها، ويجب العمل بعموم العام، وأنه موجب للحكم فيما يتناوله قطعا.
فإن قلت: رواية الثيب أحق بنفسها تفسير الأيم أحق بنفسها.
قلت: هذه الرواية ليست فيها إجمال حتى تكون تلك الرواية مفسرة لها بل يعمل بكل واحدة من الروايتين، فيعمل برواية الأيم على عمومها، وبرواية الثيب على خصوصها، ولا منافاة بين الروايتين، على أن أبا حنيفة يرجح العمل بالعام على العمل بالخاص، ويجمع الأيم على الأيامى.
وقال الجوهري: الأيامى الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء، وأصلها أيايم، فقلبت؛ لأن الواحد أيم، سواء كان تزوج من قبل أو لم يتزوج، وامرأة أيم أيضا بكرا كانت أو ثيبا، وقد أمت المرأة من زوجها، تيم أيمة، وإيماء، وأيموما، وأيمت المرأة، وتأيم الرجل زمانا إذا مكث لا يتزوج، وقيل: أكثر ما يستعمل في النساء، وقد قيل في المرأة: أيمة، قوله: والبكر تستأذن، أي يطلب منها الإذن في نكاحها.
فإن قلت: قال الترمذي بعد أن ذكر هذا الحديث: وقد احتج به بعض الناس في إجازة النكاح بغير ولي، وليس فيه ما قد احتجوا به؛ لأنه قد روي من غير وجه، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي» وهكذا أفتى به بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «لا نكاح إلا بولي» . وإنما معنى قوله(5/77)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأيم أحق بنفسها من وليها» عند أكثر أهل العلم؛ لأن الولي لا يزوجها إلا برضاها.
قلت: هذا الذي [ذكره] لا يليق بحاله؛ لأن هذا الكلام لا يصدر من مثله؛ لأن [فتوى ابن] عباس متى تساوي هذا الحديث الصحيح المجمع على صحته، وحديث ابن عباس متكلم فيه، وقد ذكرنا
فإن قلت: لم ترك المصنف الاستدلال من الجانبين بالحديث لغيره من المصنفين؟
قلت: قال الأكمل: وإذا كان الكتاب والسنة متعارضين ترك المصنف الاستدلال بهما للجانبين، وصار أي المعقول، انتهى.
قلت: ليس فيه ما يشفي العليل على ما لا يخفى على المتأمل، وما استدل به أصحابنا ما رواه الدارقطني من حديث ابن عباس _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - _عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس للولي من الثيب أمر، والبكر يستأمرها أبوها في نفسها» " ومنه ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة في " مصنفه «أن رجلا زوج ابنته وهي كارهة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا نكاح لك فانكحي ما شئت» ".
وروي أيضا من حديث عكرمة، عن ابن عباس «أن جارية بكرا أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد ذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» قيل: رجاله ثقات، وأعله بالإرسال.
قلت: المرسل عندنا حجة، ومنه ما روي عن ابن عباس أن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد نكاح بكر وثيب أنكحهما أبوهما» وقال الدارقطني: الصواب عن المهاجر عن عكرمة مرسل.
قلت: المرسل حجة به ما رواه الدارقطني عن أبي سلمة قال: «أنكح رجل من بني المنذر ابنته(5/78)
وإنما يطالب الولي بالتزويج كيلا تنسب إلى الوقاحة ثم في ظاهر الرواية لا فرق بين الكفؤ وغير الكفؤ، لكن للولي الاعتراض في غير الكفؤ، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف _ رحمهما الله _ أنه لا يجوز التزويج في غير الكفؤ لأنه كم من واقع لا يدفع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهي كارهة، فرد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نكاحها» .
وروى الدارقطني أيضا عن أبي سعيد الخدري _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: " لا تنكحوهن إلا بإذنهن " وعن الحكم قال: كان علي _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ إذا رفع إليه رجل تزوج امرأة بغير ولي، فدخل بها أمضاه، فلو كان وقع باطلا كما زعم الشافعي لما أمضاه.
م: (وإنما يطالب الولي) ش: هذا جواب عما يقال إذا تصرفت في خالص حقها فلم أمر الولي م: (بالتزويج) ش: إذا طالبه، وأي حاجة لها إلى طلب التصرف من الولي في خالص حقها.
فأجاب بقوله: وإنما يطالب الولي بصيغة المجهول بالتزويج م: (كيلا تنسب) ش: المرأة م: (إلى الوقاحة) ش: من وقح الرجل إذا صار قليل الحياء فهو وقح، ووقاح بين الوقحة والوقاحة والقحة وامرأة وقاح الوجه، وذلك لأنها تستحي من الخروج إلى محافل الرجال لتباشر العقد، لأن هذا يعد منها وقاحة لأنها لا تقدر على المباشرة.
م: (ثم في ظاهر الرواية لا فرق بين الكفؤ وغير الكفؤ) ش: إذا زوجت نفسها من كفء أو من غير كفء جاز نكاحها، وروي عن الحسن أنه لا يجوز من غير كفء، ومثله في " المحيط ". وفي " قاضي خان ": يجوز في ظاهر الرواية كما ذكره المصنف.
م: (لكن للولي حق الاعتراض في غير الكفء) ش: دفعا للعار عنه، هذا إذا لم تلد، فإن ولدت فلا حق للولي في الفسخ كذا، في " قاضي خان " و " الخلاصة ". وفي " شرح شيخ الإسلام ": له حق الفسخ بعد الولادة.
م: (وعند أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز التزويج في غير الكفء) ش: وهي رواية الحسن كما ذكرنا، وفي فتاوى " قاضي خان " و" القنية ": المختار للفتوى في زماننا رواية الحسن، وفي رواية الكافي وبقوله أخذ كثير من المشائخ، قال شمس الأئمة في المبسوط: هذا أقرب إلى الاحتياط م: (لأنه كم من واقع لا يدفع) ش: أي كم من قضية تقع ولا يقدر أحد على دفعها، لأنه ليس كل ولي يحبس المدافعة إلى القاضي ولا كل قاض يعدل، فكان الأحوط سد باب التزويج(5/79)
ويروى رجوع محمد إلى قولهما،
ولا يجوز للولي إجبار البكر البالغة على النكاح خلافا للشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ له الاعتبار بالصغيرة وهذا لأنها جاهلة بأمر النكاح لعدم التجربة ولهذا يقبض الأب صداقها بغير أمرها. ولنا أنها حرة مخاطبة فلا يكون للغير عليها ولاية الإجبار، والولاية على الصغيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من غير كفء. قال الشيخ صدر الإسلام: لو زوجت المرأة المطلقة الثلاث نفسها من غير كفء ودخل بها الزوج ثم طلقها لا تحل على الزوج الأول على ما هو المختار من رواية الحسن. وفي الحقائق هذا مما يجب حفظه لكثرة وقوعه.
م: (ويروى رجوع محمد إلى قولهما) ش: أي إلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف يعني ينعقد نكاحا أيضا عنده بلا ولي، يتوقف على إجازته، كما هو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف، وكذا ذكره أيضا في "البدائع "، وفي " قاضي خان " كان أبو يوسف يقول يتوقف على إجازة الولي كفؤا كان أو لا، ثم رجع، وقال: يجوز في الكفء، ويتوقف في غيره ثم رجع، وقال: يجوز فيهما، وفي رواية الطحاوي عنه ي: جبره القاضي.
[إجبار البكر البالغة على النكاح]
م: (ولا يجوز للولي إجبار البكر البالغة على النكاح) ش: يريد أنه لا يزوجها بغير رضاها، فإن فعل ذلك فالنكاح موقوف على إجازتها عندنا، فإن ردته بطل، وإن سكتت عند استئذان وليها لها فهو إذن منها، وهو قول الأوزاعي والشعبي وطاوس والحسن بن حي وأبي عبيدة، والثوري وأبي ثور وأحمد، وفي رواية والظاهرية واختاره ابن المنذر م: (خلافا للشافعي) ش: وبقوله قال مالك في أشهر الروايتين عنه، وأحمد في رواية، وابن أبي ليلى، وعند الحسن البصري: أن البنت أيضا، وعن إبراهيم: إن كانت المرأة في عيال أبيها لم يستأمرها، وإن كانت في عيال غيره استأمرها، ولكن يستحب عند السلف استئذانها.
م: (له) ش: أي الشافعي م: (الاعتبار بالصغيرة) ش: أي القياس على الصغيرة، لأن الصغيرة إذا كانت بكرا تزوج كرها، فكذا البالغة والجامع بينهما الجهالة، وأشار إلى هذا بقوله م: (وهذا) ش: أي وجوب الاعتبار بالصغيرة م: (لأنها جاهلة بأمر النكاح لعدم التجربة) ش: لأنها لم تمارس الرجال فلا تقف على مصالح النكاح ومفاسدها، فكان بلوغها بكرا كبلوغها مجنونة م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كونها جاهلة بأمر النكاح م: (يقبض الأب صداقها بغير أمرها) ش: كما في الصغيرة.
م: (ولنا أنها) ش: البكر البالغة م: (حرة مخاطبة) ش: فالحرية والخطاب وصفان مؤثران في ولاية الاسترداد بالتصرف م: (فلا يكون للغير عليها ولاية الإجبار) ش: كما في المال م: (والولاية على الصغيرة) ش: جواب عن قياس الشافعي على الصغيرة تقديره أن القياس على الصغيرة قياس(5/80)
لقصور عقلها وقد كمل بالبلوغ، بدليل توجه الخطاب عليها فصار كالغلام، وكالتصرف في المال، وإنما يملك الأب قبض الصداق برضاها دلالة، ولهذا لا يملك مع نهيها، قال: فإذا استأذنها الولي فسكتت أو ضحكت فهو إذن، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «البكر تستأمر في نفسها، فإن سكت فقد رضيت» ، ولأن جهة الرضاء فيه راجحة، لأنها تستحي عن إظهار الرغبة لا عن الرد والضحك أدل على الرضاء من السكوت، بخلاف ما إذا بكت، لأنه دليل السخط والكراهة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالفارق، لأن الولاية على الصغير م: (لقصور عقلها) ش: وفيما نحن فيه ليس موجود م: (وقد كمل بالبلوغ بدليل توجه الخطاب عليها فصار) ش: أي فصار الإجبار عليها م: (كالغلام) ش: أي كالإجبار على الغلام إذا كان بالغا م: (وكالتصرف في المال) ش: أي صار كالتصرف في المال، أي مال البكر البالغة، فإنه لا يجوز للأب التصرف فيه م: (وإنما يملك) ش: جواب عن قوله ولهذا يقبض الأب صداقها تقريره إنما يملك م: (الأب قبض الصداق برضاها دلالة) ش: يعني بالسكوت لأن الظاهر أن البكر تستحي عن قبض صداقها وأن الأب هو [الذي] يقبض حتى يجهزها بذلك مع مال نفسه ليبعثها إلى بيت زوجها، فكان ذلك إذنا لا ولاية.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل ذلك م: (لا يملك) ش: أي الأب قبض صداقها م: (مع نهيها) ش: أبيها عن ذلك لأن الدلالة تبطله بالصريح ولم يستدل المصنف للشافعي بالحديث ولا لنا، والأحاديث التي استدل بها أصحابنا في هذا الباب قد ذكرناها عن قريب.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (فإذا استأذنها الولي) ش: أي فإذا طلب الولي الإذن منها قبل النكاح، قال في " المبسوط ": يستأذنها خالية لا في ملأ من الناس كيلا يمنعها الحياء من الرد أو لا يذهب الحشمة الأب عند الناس بردها م: (فسكتت أو ضحكت فهو إذن) ش: أي سكوتها وضحكها إذن، وكذا إذا ابتسمت يكون رضا وهو الصحيح من المذهب، ذكره الحلواني كذا في المحيط م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «البكر تستأمر في نفسها، فإن سكتت فقد رضيت» ش: هذا غريب بهذا اللفظ، وروى الأئمة الستة من حديث أبي هريرة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن " قالوا: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكيف إذنها؟ قال: " إن سكتت» .
م: (ولأن جهة الرضاء فيه راجحة) ش: أي لأن جانب الرضا يرجح على جانب الرد م: (لأنها تستحي عن إظهار الرغبة لا عن الرد والضحك أدل) ش: أي أكثر دلالة م: (على الرضا من السكوت) ش: أي على الرضا بالمسموع عن السكوت لأن الضحك علامة السرور والفرح بما سمعت م: (بخلاف ما إذا بكت، لأنه دليل السخط والكراهة) ش: والبكاء على السرور نادر، فلا عبرة به، ولكن ليس برد، حتى لو رضيت بعده ينفذ الحكم.(5/81)
وقيل إذا ضحكت كالمستهزئة بما سمعت لا يكون رضا، وإذا بكت بلا صوت لم يكن ردا، وإن أبت لم يزوجها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل: إذا ضحكت كالمستهزئة بما سمعت لا يكون رضا) ش: والضحك الذي يكون بطريق الاستهزاء معروف بين الناس، وفي " المرغيناني " و " الحاوي ": إن بكت وكان دمعها باردا يكون رضا، وإن كان حارا لا يكون رضا م: (وإذا بكت بلا صوت لم يكن ردا، وإن أبت لم يزوجها) ش: وفي " المبسوط " قال بعض المتأخرين: إذا كان لبكائها صوت كالويل يكون ردا، وأما إذا خرج الدمع من غير صوت لا يكون ردا، لأنها تحن على مفارقة أبويها وعليه الفتوى.
وعن أبي يوسف أن البكاء رضا، وفي " جامع قاضي خان " يأخذ بدموع عينها، إن كانت باردة فهي من السرور فيكون رضا، وإن كانت حارة فهي من الحزن فيكون ردا. وقيل: إن كان عذبا فرضا، وإن كان مالحا فرد؛ وقال الشافعي: البكاء رضا إلا أن يكون مع الصياح أو ضرب الخد.
فائدة: في كتاب " الأجناس " من جعل السكوت رضا في عشر مسائل:
الأولى: السكوت عند اشتجار الولي.
الثانية: في بيع الملحثة، لو قالا في السر يظهر البيع علانية وهو تلحثة، ثم قال أحدهما للآخر: خذ به إلى أن جعله صحيحا فسكت الآخر، ثم تبايعا كان البيع صحيحا.
الثالثة: وقع عبد مسلم في الغنيمة بعدما أسره المسكوت، فقسمت، ومولاه حاضر ساكت، ولم يطالب العبد، فلا سبيل له على العبد بعد ذلك.
الرابعة: قبض المشتري المبيع بغير إذن البائع، وهو ساكت قبل نقد الثمن، فهو إذن له فيه.
الخامسة: رأى عبدا يبيع ويشتري، فسكت فهو إذن له في التجارة.
السادسة: سكوت الشفيع بعد العلم بالبيع يبطل حقه فيها.
السابعة: عبده بيع وهو ساكت، ثم قال: أنا حر لا يقبل، رواه الطحاوي في " مختصره "، فقال له: قم مع مولاك، فقام لزمه البيع.
الثامنة: قال: والله لا أسكن فلانا داري، أو لا أتركه في داري، وهو نازل فيها فسكت يحنث، وإن قال له: اخرج، فأبى أن يخرج، فسكت الحالف لا يحنث.
التاسعة: ولدت امرأته ولدا فهنأه الناس به، فسكت لزمه.
العاشرة: بلغها الخبر فسكتت.
وزاد السروجي عليها أربعة أخرى:(5/82)
قال وإن فعل هذا غير الولي، يعني استأمر غير الولي أو ولي غيره أولى منه لم يكن رضا حتى تتكلم به، لأن هذا السكوت لقلة الالتفات إلى كلامه فلم يقع دلالة على الرضاء، ولو وقع فهو محتمل والاكتفاء بمثله للحاجة، ولا حاجة في حق غير الأولياء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأولى: لو قبض الموهوب في المجلس، والواهب ساكت ملكه استحسانا.
الثانية: قبض المبيع في البيع الفاسد، والبائع ساكت ملكه المشتري.
الثالثة: لو جاءت أم الولد بولد آخر فسكت المولى يوما أو يومين لزمه، ولا يصح نفيه بعد ذلك.
الرابعة: مجهول النسب إذا بيع وهو ساكت ينظر صح بيعه، وصار كأنه أقر بالبيع.
وقد ذكر الكاكي خمسة أخرى:
الأولى: إذا هنئ بالولد فسكت لزمه.
الثانية: قال لغيره: بع عبدي، فسكت، ثم قام وباع كان ذلك قبولا للتوكيل.
الثالثة: شق زق غيره وهو حاضر، فسكت حتى سال ما فيه لم يضمن.
الرابعة: زوج الصغيرة غير الأب والجد، فبكت بكرا، فسكتت ساعة بطل خيارها.
الخامسة: رأى غيره يبيع ماله عرضا أو عقارا فقبضها المشتري فتصرف فيها زمانا وهو ساكت سقطت دعواه، ذكره في " منية الفقهاء ".
[استأمرالمرأة غير الولي]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (وإن فعل هذا) ش: يعني الاستدلال م: (غير الولي) ش: أي من الأجانب، وفسر قوله _ فإن فعل هذا _ بقوله م: (يعني استأمرها غير الولي أو ولي غيره) ش: أي لو استأمرها ولي غيره م: (أولى منه) ش: كاستئذان الأخ مع وجوب الأب، قوله: _ غيره أولى منه _ جعله وقف صفة لقوله ولي الضمير في منه يرجع إلى الغير م: (لم يكن رضا حتى تتكلم به، لأن السكوت لقلة الالتفات) ش: أي لقلة التفاتها م: (إلى كلامه فلم يقع دلالة على الرضاء) ش: وبه قال الشافعي.
م: (ولو وقع) ش: أي السكوت دليلا على الرضا م: (فهو محتمل) ش: أي محتمل الإذن والرد م: (والاكتفاء بمثله) ش: أي بمثل السكوت المحتمل م: (للحاجة) ش: أي حاجة الإنكاح، ولا يوجد ذلك في حق غير الولي وهو معنى قوله م: (ولا حاجة في حق غير الأولياء) ش: وهذا رد لقوله _ ولو وقع _ أي السكوت.
وفي " المبسوط ": وحكى عن الكرخي أن سكوتها عند استئمار الأجنبي يكون رضا، لأنها تستحي من الأجنبي أكثر مما تستحي من الولي، والأول أصح، ولا يكون إذنا إذا استأمرها قريب(5/83)
بخلاف ما إذا كان المستأمر رسول الولي لأنه قائم مقامه، ويعتبر في الاستئمار تسمية الزوج على وجه تقع به المعرفة لتظهر رغبتها فيه من رغبتها عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كافر أو عبد مكاتب م: (بخلاف ما إذا كان المستأمر رسول الولي) ش: يعني يكون استئمار رسول الولي كاستئمار الولي.
م: (لأنه) ش: أي لأن رسول الولي م: (قائم مقامه) ش: أي مقام الولي، وفي " البدائع ": استئذان البكر البالغ على وجهين: الأول: أن يستأذنها بعده، والسكوت فيها رضا في الوجهين إذا كان الزوج هو الولي الأقرب قبل العقد.
والثاني: أن يستأذنها أو وكيله أو رسوله بخلاف الولي الأبعد والأجنبي م: (ويعتبر في الاستئمار تسمية الزوج على وجه تقع به المعرفة) ش: أي تقع بالزوج المعرفة حتى لو قال: زوجتك بعض جيراني أو بعض بني عمي لم يكن سكوتها رضا، لأن الرضا بالمجهول لا يتصور. وقيل: لو عد عليها جماعة فسكتت زوجها من أحدهم، وكذا لو ذكر ابن فلان وهم يحصون، قالوا: والشرط أن يكون الزوج كفؤا والمهر وافرا حتى لو لم يكن كفؤا ولم يكن المهر وافرا وعلم أحدهما لم يكن سكوتها رضا إلا في حق الأب والجد عند أبي حنيفة، لأن الأب والجد عنده في هذا العقد. وعندهما الولي مطلقا، لأن الأب والجد بمنزلة الأجانب في هذا العقد، كذا في " جامع قاضي خان " و " المحيط " و " المبسوط ".
وقال الشافعي: يشترط النطق في غير الكفء في قوله: وفي غير مهر المثل واستئمار وكيل الأب كالأب، وفي " القنية ": لو قال الأب: يذكرك فلان بمهر كذا فوثب مرتين وهي في نكاحها فزوجها جاز.
ولو قال لها رضا أريد أزوجك من رجل فسكتت لا يكون رضا، هكذا روي عن محمد لعدم العلم، وفي " الحاوي ": سئل أبو نصير عن رجل قال لبنته: زوجتك من رجل فسكتت فهو رضا، ولا خيار لها. قال: أزوجك من رجل فسكتت لم يكن رضا، وفرق بين الماضي والمستقبل. وعن أبي القاسم الصفار لها الخيار في الفصلين، وقال صاحب " الحاوي " وبه نأخذ.
وفي " جوامع الفقه ": لو قالت كنت قلت لك: لا أريده فهو رد، وكذا لا أرضى أو لا أجيز أو أنا كارهة، ولو قالت: لا يعجبني، أو لا أريد الأزواج، فليس برد حتى لو رضيت بعد ذلك صح ولو قالت: لا أريد فلانا فهو رد، ولو قالت: لا أرضى ثم قالت: رضيت موصولا جاز، وإن فصلت بطل، ولو قالت: ذلك إليك هو رضا.
م: (لتظهر رغبتها فيه) ش: أي ليظهر رغبة المرأة في الزوج المسمى م: (من رغبتها عنه) ش: أي عن الزوج المسمى، ولفظ رغب إذا استعمل بكلمة عن يدل على عدم الرغبة.(5/84)
ولا يشترط تسمية المهر هو الصحيح، لأن النكاح صحيح بدونه، ولو زوجها فبلغها الخبر فسكتت فهو على ما ذكرنا، لأن وجه الدلالة في السكوت لا يختلف ثم المخبر إن كان فضوليا يشترط فيه العدد أو العدالة عند أبي حنيفة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ خلافا لهما، ولو كان رسولا لا يشترط إجماعا، وله نظائر. ولو استأذن الثيب فلا بد من رضاها بالقبول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[تسمية المهر في الاستئمار]
م: (ولا يشترط تسمية المهر) ش: يعني عند تسمية الزوج في الاستئمار م: (هو الصحيح) ش: أي ترك تسمية المهر هو الصحيح، واحترز به عن قول بعض المتأخرين حيث قالوا: لا بد من تسمية المهر في الاستئمار، لأن رغبتها تختلف باختلاف المهر في القلة والكثرة، والصحيح أنه لا يشترط، كذا في " المبسوط ".
وفي " جامع قاضي خان ": لأن الظاهر مختلف لاختلاف الزوج؛ لأن الأب لا يقف على مرادها في حق الزوج، فأما في حق الصداق يعلم مرادها في ذلك، وهو صداق مثلها م: (لأن النكاح صحيح بدونه) ش: أي بدون ذكر المهر، ولا يصح بدون ذكر الزوج، وفي " الكافي ": إذا كان المزوج أبا أو جدا لا يشترط، لأنه لا ينقض من المهر إلا بعرض يفوق المهر، والمصنف أطلق الصحة من غير تفصيل.
م: (ولو زوجها) ش: أي زوج المولى المرأة م: (فبلغها الخبر فسكتت فهو على ما ذكرنا) ش: أي من فصول الرضا بالضحك، والسكوت دون البكاء م: (لأن وجه الدلالة في السكوت لا يختلف) ش: أي من حال الاستئمار وحال بلوغ الخبر، لأن المعنى الذي صار السكوت لأجله رضا قبل العقد وجعله بعده، وهو العجز عن النطق بسبب الحياء.
م: (ثم إن المخبر إن كان فضوليا يشترط فيه العدد أو العدالة عند أبي حنيفة خلافا لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد، فإن عندهما الإخبار كاف لا يشترط العدد ولا العدالة م: (ولو كان رسولا) ش: أي ولو كان المخبر رسولا: م: (لا يشترط) ش: أي العدد والعدالة م: (إجماعا) ش: لأنه قام مقام الولي م: (وله نظائر) ش: أي لهذا الخلاف الذي وقع بين أبي حنيفة وصاحبيه، وفي إخبار الفضولي نظائر من المسائل وهي عزل الوكيل وحجر المأذون ووقوع العلم بفسخ الشركة وسكوت الشفيع عن الطلب، وإعتاق العبد الجاني وبيعه بعد الإخبار، ففي الكل يشترط العدد والعدالة عن أبي حنيفة خلافا لهما، ذكر الخلاف في وجوب الشرائع على المسلم والذي لم يهاجر ذكره في " الكافي ".
م: (ولو استأذن الثيب فلا بد من رضاها بالقبول) ش: أي بإجماع بين الأربعة إذا كانت بالغة، وفي الثيب الصغيرة لا يحتاج إلى رضاها، بل ينكحها الولي جبرا عندنا، وعند الشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - _ لا اعتبار برضاها فلا تزوج حتى تبلغ، ويروى هذا عن مالك، وعند أحمد: لا يجوز إجبار الصغيرة والكبيرة، وهذه رواية عن مالك إلا أن أحمد قال: إذا بلغت تسع سنين(5/85)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الثيب تشاور» ، ولأن النطق لا يعد عيبا منها وقل الحياء بالممارسة فلا مانع من النطق في حقها. وإذا زالت بكارتها بوثبة أو حيضة أو جراحة أو تعنيس فهي في حكم الأبكار لأنها بكر حقيقة، لأن مصيبها أول مصيب لها ومنه الباكورة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صح إذنها في النكاح وغيره.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «الثيب تشاور» ش: هذا غريب بهذا اللفظ، وروى مسلم من حديث ابن عباس _ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - _ مرفوعا: «والثيب أحق بنفسها من وليها» .
وروى أبو داود والنسائي من حديث نافع بن جبير عن ابن عباس _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - _ مرفوعا: «والثيب أحق بنفسها من وليها» .
وروى أبو داود والنسائي من حديث نافع بن جبير عن ابن عباس _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - _ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس للولي مع الثيب أمر» .
م: (ولأن النطق لا يعد عيبا منها وقل الحياء بالممارسة) ش: فلا يكتفي بسكوتها عند الاستئمار م: (فلا مانع من النطق في حقها) ش: أي حق الثيب بخلاف البكر.
م: (وإذا زالت بكارتها بوثبة) ش: وهي الوثوب من فوق م: (أو حيضة) ش: أو سبب ورود الحيض م: (أو الجراحة) ش: أصابت موضع العذرة م: (أو تعنيس) ش: أي أو بسبب تعنيس من عنست عنوسا إذا جاوزت وقت التزويج فلم تتزوج، وقيل: عنست الجارية إذا طال في منزل أهلها بعد إدراكها حتى خرجت عن عداد الأبكار.
وقال أبو زيد: كذلك عنست الجارية تعنيسا. وقال الأصمعي: لا يقال عنست يعني بالتشديد، ولكن عنست على صيغة المجهول، وعنسها أهلها، وكذلك بشدة حيض وتحمل ثقيل وبأصبع أو عود م: (فهي في حكم الأبكار) ش: في كون إذنها سكوتها.
م: (لأنها بكر حقيقة، لأن مصيبها أول مصيب لها) ش: وبه قال الشافعي في الأصح، ومالك، وأحمد وابن أبي هريرة، وهو قوله المحمود، وقال ابن جني من أصحاب الشافعي: هي كالثيب لزوال عذرتها.
م: (ومنه الباكورة) ش: أي ومن اشتقاق البكر الباكورة، وهي التي تدرك من الثمار أولا، وقال الأكمل: البكر من يكون مصيبها أول مصيب، فهذه أي التي زالت بكارتها بوثبة ونحوها تشتق من الباكورة.(5/86)
ولأنها تستحي لعدم الممارسة، ولو زالت بكارتها بزنا فهي كذلك عند أبي حنيفة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _: لا يكتفى بسكوتها لأنها ثيب حقيقة وحكما، لأن مصيبها عائد إليها. ومنه المثوبة والمثابة والتثويب. ولأبي حنيفة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ أن الناس عرفوها بكرا فيعيبونها بالنطق فتمتنع عنه فيكتفى بسكوتها كيلا تتعطل عليها مصالحها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الأمر بالعكس، يدل عليه قول المصنف (ومنه الباكورة) وقوله أيضا م: (والبكرة) ش: بضم الباء وهي أول النهار، أي ومنه البكرة، أي من اشتقاق البكر وتحقيق الكلام هاهنا أن هذه المادة وهي: الباء والكاف والراء يأتي منها ألفاظ على معان مختلفة غير خالية عن المعنى الأصلي وهي الأولية وهي البكر بالكسر، العذر، أو المرأة التي ولدت بطنا واحدا، وبكرها بالكسر ولدها، وكذلك البكر بالكسر من الإبل وبالفتح الصبي منها، وبكرة البئر ما يسقى عليها بالفتح أيضا، وبكر بالفتح أيضا أبو قبيلة وهو بكر بن وائل بن قاسط.
م: (ولأنها تستحي لعدم الممارسة، ولو زالت بكارتها بزنا) ش: أي التي زالت بكارتها بزنا م: (فهي كذلك) ش: أي هي في حكم التي زالت بكارتها بوثبة ومحوها، أي لعدم ممارستها بالرجال الأبكار م: (عند أبي حنيفة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _) ش: وبه قال مالك وأحمد في رواية، وحكى أبو إسحاق أن الشافعي قال به في القديم.
م: (وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي _ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - _: لا يكتفى بسكوتها) ش: يعني عند الاستئذان، وبه قال أحمد في رواية، وهو قول الشافعي في الجديد م: (لأنها) ش: أي لأن التي زالت بكارتها بزنا م: (ثيب حقيقة وحكما) ش: أما حقيقة فلأن مصيبها ليس بأول مصيب، وهو معنى قوله م: (لأن مصيبها عائد إليها) ش: وأما حكما فإنها تدخل في الوصية في الثيب دون الأبكار م: (ومنه المثوبة) ش: أي ومن اشتقاق الثيب المثوبة وهو الثواب، وإنما سمي بها لأنها رجع إليها في العاقبة، لأن الثواب جزاء عمله يرجع إليها.
م: (والمثابة) ش: أي ومنه المثابة وهو الموضع الذي يثاب إليه، أي يرجع إليه كرة بعد أخرى، ومنه قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125] (البقرة: الآية 125) ، قال الزمخشري: معادا ومرجعا للحاج، والعمار ينصرفون عنه، ثم يثوبون إليه أي يرجعون م: (والتثويب) ش: أي ومنه التثويب، وهو الدعاء مرة بعد أخرى، وهو العود بعد الإعلام.
م: (ولأبي حنيفة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ أن الناس عرفوها بكرا فيعيبونها من النطق) ش: وفي بعض النسخ فيعيبونها من التعيب بالنطق، فتستحي م: (فتمتنع عنه) ش: أي عن النطق م: (فيكتفى بسكوتها كيلا تتعطل عليها مصالحها) ش: وإن أكرهت على الزنا فلا رواية فيه، ذكر في " الفتاوى " و " المرغيناني ". وفي " الحواشي ": لا ينعدم به حياؤها.
فإن قيل: حياء البكر حياء كرم الطبيعة وهو محمود، وهذا الحياء من ظهور الفاحشة فلم يكن(5/87)
بخلاف ما إذا وطئت بشبهة أو نكاح فاسد، لأن الشرع أظهره حيث علق به أحكامها. أما الزنا فقد ندب إلى ستره حتى لو اشتهر حالها لا يكتفي بسكوتها،
وإذا قال الزوج بلغك النكاح فسكتت وقالت رددت فالقول قولها. وقال زفر _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ القول قوله، لأن السكوت أصل والرد عارض فصار كالمشروط له الخيار إذا ادعى الرد بعد مضي المدة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في معنى المنصوص. قلنا: هذا الحياء أيضا محمود، لأنها تستر على نفسها ليستر الله تعالى عليها، والحياء من ظهور المعصية من كرم الطبيعة وحسن العقيدة أيضا، ولما سقط نطقها في موضع يكون نطقها دليلا على رغبتها في الرجال على فحش الوجود أولى، كذا في " المبسوط ".
وقيل: لا يمكن إدارة الحكم على حقيقة الحياء لتعذر ضده وتعذر ما هو المعتبر منه، فأدير على مظنته وهو البكارة، وتعذر أن يرد حقيقتها [....] بعض الولي عنها شرعا وعقلا، فاكتفي بالبكارة الظاهرة، وأصل الخلقة والأصل بقاؤها فيكتفى بالسكوت إلى أن يظهر ويشيع. م: (بخلاف ما إذا وطئت بشبهة أو نكاح فاسد) ش: حيث تصير ثيبا بالإجماع م: (لأن الشرع أظهره حيث علق به) ش: أي بذلك الوطء م: (أحكامها) ش: وهي وجوب العدة والمهر وثبوت النسب م: (أما الزنا فقد ندب) ش: أي الشرع م: (إلى ستره) ش: حيث قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أصاب من هذه القاذورات فليستر ليستره الله تعالى» م: (حتى لو اشتهر حالها) ش: بأن أقيم عليها الحد إذ صار الزنا عادة م: (لا يكتفى بسكوتها) .
ش: فإن قيل: ينبغي أن يكتفى بسكوتها ها هنا أيضا، لأنها بكر شرعا. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ... » الحديث.
قلنا: هو قول بعض المشايخ وهو ضعيف، فإن هذا موجود في الموطوءة بشبهة أو نكاح فاسد، ولا يكتفى بسكوتها بالإجماع فعلم أن المعتبر بقاء صفة الحياء.
[قال الزوج بلغك النكاح فسكتت وقالت رددت]
م: (وإذا قال الزوج: بلغك النكاح فسكتت وقالت: رددت فالقول قولها) ش: أي قول المرأة م: (وقال زفر القول قوله) ش: أي قول الزوج م: (لأن السكوت أصل والرد عارض) ش: لأن السكوت عدم الكلام والعدم هو الأصل في كل شيء، والمرأة تدعي عارضا، والقول قول التمسك بالأصل م: (فصار) ش: أي الحكم في هذا م: (كالمشروط له الخيار إذا ادعى الرد بعد مضي المدة) ش: فإنه لا يعتبر قوله، بل القول قول من يدعي لزوم العقد بالسكوت بالإجماع، وكذا المشتري والشفيع، فالشفيع يقول: طلبتها بعد البيع، والمشتري يقول: سكت، فالقول قول للمشتري لتمسكه بالأصل.(5/88)
ونحن نقول: إنه يدعي لزوم العقد وتملك البضع، والمرأة تدفعه فكانت منكرة كالمودع إذا ادعى رد الوديعة، بخلاف مسألة الخيار. لأن اللزوم قد ظهر بمضي المدة، وإن أقام الزوج البينة على سكوتها ثبت النكاح لأنه قرر دعواه بالحجة، وإن لم يقم له بينة فلا يمين عليها عند أبي حنيفة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ وهي مسألة الاستحلاف في الأشياء الستة، وستأتيك في الدعوى إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ونحن نقول: إنه) ش: أي الزوج م: (يدعي لزوم العقد وتملك البضع والمرأة تدفعه فكانت منكرة) ش: وكانت متمسكة بالأصل معنى، فالقول لها كما لو ادعى أصل العقد وأنكرت، وهذا لأن العبرة للمعاني لا للصور م: (كالمودع) ش: بفتح الدال م: (إذا ادعى رد الوديعة) ش: أي إلى مالكها فالقول قول المودع لأنه ينكر الضمان من حيث المعنى، والحاصل من هذا إنما تعتبر الإنكار المعنوي، وزفر يعتبر الإنكار الصوري م: (بخلاف مسألة الخيار) ش: جواب عن قول زفر، وقياسه ووجه ما قاله من قوله م: (لأن اللزوم قد ظهر بمضي المدة) ش: أي لزوم البيع قد ظهر بمضي مدة الخيار، ولو قالت: بلغني الخبر يوم كذا فرددت، وقال الزوج: بل سكتت فالقول قول الزوج. وفي المرغيناني: لو قالت: أدركت أمس وعملت بالخيار وفسخت لم تصدق إلا بحجة وبطل خيارها، وإن قالت: علمت الآن وفسخت صح، قيل لمحمد: كيف يصح وهو كذب، قال: لا يصح إلا على هذا الوجه، فإنها لا تصدق في الإسناد، ولو قالت: نسخت حين علمت لا تصدق إلا بالبينة.
وفي عمدة الفتاوى: بكر زوجها وليها فقالت بعد سنة: كنت قلت حين بلغني لا أرضى فالقول قولها، وإن كانت صغيرة فقالت: اخترت نفسي حين أدركت أو حين علمت لا تسمع لأنها تريد إبطال العقد الثابت عليها بخلاف الأول.
م: (فإن أقام الزوج البينة على سكوتها ثبت النكاح لأنه) ش: أي لأن الزوج م: (قرر دعواه بالحجة) .
ش: فإن قلت: ينبغي أن لا يقبل لأنه شهادة على النفي.
قلت: السكوت أمر وجودي لأنه عبارة عن ضم شفة إلى شفة وعدم التكلم من لوازمه، فتكون البينة على أمر وجودي.
م: (وإن لم يقم بينة فلا يمين عليها عند أبي حنيفة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _) ش: وعندهما والشافعي ومالك وأحمد تستحلف م: (وهي مسألة الاستحلاف في الأشياء الستة) ش: وهي النكاح والرجعة والفيء في الإيلاء والاستيلاد والرق والولاء م: (وستأتيك) ش: أي بيان هذه الأشياء الستة م: (في الدعوى) ش: أي في كتاب الدعوى م: (إن شاء الله تعالى) .(5/89)
ويجوز نكاح الصغير والصغيرة إذا زوجها الولي بكرا كانت الصغيرة أو ثيبا والولي هو العصبة ومالك _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ يخالفنا في غير الأب، والشافعي في غير الأب والجد وفي الثيب الصغيرة أيضا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[نكاح الصغير والصغيرة إذا زوجها الولي]
م: (ويجوز نكاح الصغير والصغيرة إذا زوجها الولي بكرا كانت الصغيرة أو ثيبا) ش: وقال ابن شبرمة، وأبو بكر الأصم: لا يزوجها أحد حتى يبلغا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] (النساء: الآية 6) .
فلو جاز تزويجهما قبل البلوغ لم يكن لهذا معنى، ولا حاجة لهما إلى النكاح؛ لأن مقصود النكاح طبعا قضاء الشهوة، ولا شهوة لهما، وشرعا النسل، ولا تناسل لهما إلى النكاح، لأنه مقصود النكاح، وهذا العقد يعقد للعمر، ويلزمها أحكامه بعد البلوغ، ولا ولاية لأحد بعد البلوغ حتى يلزمها أحكامه.
وللعامة قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] (الطلاق: الآية 4) ، بين الله تعالى عدة الصغيرة، وسبب العدة شرعا النكاح، فذلك يقرر نكاح الصغيرة والمراد بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] الاحتلام، وحديث عائشة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - _ مشهور وقريب إلى التواتر؛ فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها وهي بنت ست سنين، وبنى بها وهي بنت تسع سنين وكانت عنده تسع سنين.
م: (والولي هو العصبة) ش: على ترتيب العصبات في الإرث، كما سيأتي عن قريب، فأقرب الأولياء الابن، ثم ابنه وإن سفل، ثم الأب، ثم الجد وإن علا، ثم الجد عند أبي حنيفة أولى من الأخ، سواء كان لأب أو لأب وأم.
وعندهما لكل واحد من الجد والأخ الولاية كما في الميراث وفي " المبسوط ": النكاح للجد عند الكل وهو ظاهر الرواية.
م: (ومالك يخالفنا) ش: جملة من المبتدأ والخبر م: (في غير الأب) ش: يعني الولي عنده الأب ليس الأحق غيره، فلو زوجها الجد عند عدم الأب لا يجوز.
م: (والشافعي _ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - _ في غير الأب والجد) ش: يعني عند وليهما الأب والجد لا غير، إذا كانت الصغيرة بكرا أو ثيبا، فلا ولاية عليها، حتى لو زوجها الأخ أو العم وزوج البنت الصغيرة الأب والجد كرها لا ينعقد النكاح.
م: (وفي الثيب الصغيرة أيضا) ش: أي الشافعي خالفنا أيضا في تزويج الثيب الصغيرة، فإن عنده لا ولاية للأب والجد في تزويجها كرها، وبه قال أحمد وداود، وفي " المحلى ": لا يجوز للأب، ولا لغيره تزوج الذكر الصغير قبل بلوغه عند طاووس، وقتادة، والثوري، وداود(5/90)
وجه قول مالك أن الولاية على الحرة باعتبار الحاجة ولا حاجة لانعدام الشهوة إلا أن ولاية الأب ثبتت نصا بخلاف القياس والجد ليس في معناه فلا يلحق به. قلنا لا بل هو موافق للقياس لأن النكاح يتضمن المصالح ولا تتوفر إلا بين المتكافئين عادة ولا يتفق الكفؤ في كل زمان فأثبتنا الولاية في حالة الصغير إحرازا للكفء. وجه قول الشافعي _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ أن النظر لا يتم بالتفويض إلى غير الأب والجد لقصور شفقته وبعد قرابته، ولهذا لا يملك التصرف في المال مع أنه أدنى رتبة فلأن لا يملك التصرف في النفس وأنه أعلى رتبة أولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الظاهري. وقال ابن شبرمة وعثمان البتي: لا يجوز لأحد تزويج الصغير والصغيرة حتى يبلغا، وأجاز تزويج الصغير لغير الأب والجد من العصبات الحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز وطاوس _ في رواية _ وعطاء، والأوزاعي، ولهما الخيار عندهم إذا بلغا، ذكر ذلك ابن أبي شيبة في " مصنفه " وأبو بكر بن المنذر في " الأشراف ".
م: (وجه قول مالك: أن الولاية على الحرة باعتبار الحاجة) ش: مع قيام المنافي م: (ولا حاجة) ش: للصغير والصغيرة م: (لانعدام الشهوة، إلا أن ولاية الأب ثبتت نصا بخلاف القياس) ش: فإن أبا بكر _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ زوج عائشة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - _ من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي بنت ست سنين.
وصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك فلا يقاس عليه غيره م: (والجد ليس في معناه) ش: لقصور شفقته م: (فلا يلحق به) ش: دلالة، لأن الولد جزء الأب، وكانت الولاية للأب عليه كالولاية على نفسه، والجزئية قد ضعفت بالجد والشفقة قد نقصت، فلا يكون في معناه.
م: (قلنا: لا بل هو موافق للقياس، لأن النكاح يتضمن المصالح) ش: من التناسل والسكن والازدواج وقضاء الشهوة م: (ولا تتوفر المصالح إلا بين المتكافئين عادة) ش: أي بين الاثنين اللذين كل منهما كفء للآخر.
م: (ولا يتفق الكفء في كل زمان) ش: قلة الكفء وغير وجوده م: (فأثبتنا الولاية في حالة الصغير) ش: للولي م: (إحرازا للكفء) ش: أي لأجل الإحراز والحفظ؛ لأنه لو انتظر بلوغها يفوت ذلك الكفء، وكل من يتأتى منه الإحراز أبا كان أو غيره فله الولاية في حالة الصغر.
م: (وجه قول الشافعي أن النظر) ش: في حال الصغر م: (لا يتم بالتفويض إلى غير الأب والجد لقصور شفقته، وبعد قرابته، ولهذا لا يملك التصرف في المال، مع أنه أدنى رتبة، فلأن لا يملك التصرف في النفس) ش: لكونه وقاية للنفس فلا يكون يملك التصرف م: (وأنه أعلى رتبة أولى)(5/91)
ولنا أن القرابة داعية إلى النظر كما في الأب والجد وما فيه من القصور أظهرناه في سلب ولاية الإلزام بخلاف التصرف في المال لأنه يتكرر فلا يمكن تدارك الخلل، فلا تفيد الولاية إلا ملزمة، ومع القصور لا تثبت ولاية الإلزام. وجه قوله في المسألة الثانية أن الثيابة سبب لحدوث الرأي لوجود الممارسة فأدرنا الحكم عليها تيسيرا، ولنا ما ذكرنا من تحقق الحاجة ووفور الشفقة ولا ممارسة تحدث الرأي بدون الشهوة فيدار الحكم على الصغر ثم الذي يؤيد كلامنا فيما تقدم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: قوله: وأنه أعلى _ جملة حالية وقوله: _ أولى _ خبر، لأن الذي دخلت عليه لام التوكيد. م: (ولنا أن القرابة داعية إلى النظر) ش: والولاية بالنظر، وهو موجود في كل قريب م: (كما في الأب والجد) ش: فإن النظر فيهما لم ينشأ إلا من القرابة، غاية ما في الباب أنه يتفاوت كمالا، وقصورا لقرب القرابة وبعدها. م: (وما فيه من القصور) ش: أي والذي في غير الأب والجد من قصور النظر م: (أظهرناه في سلب ولاية الإلزام) ش: يعني لم يكن ولاية الأخ، والعم ملزمة، بل كانت متوقفة إلى البلوغ. حتى جعلنا لهما خيار البلوغ، فإذا بلغا ووجد الأمر على ما ينبغي مضيا على النكاح، وإن وجد أنه أوقعا خللا لقصور الشفقة والنظر فسخا النكاح.
م: (بخلاف التصرف في المال لأنه) ش: أي التصرف في المال م: (يتكرر) ش: بيد أولي الأيدي، بأن يبيع المشتري من آخر، بخلاف النكاح؛ لأنه بعد عمر م: (فلا يمكن تدارك الخلل) ش: لأنه لا يمكن توقيف ذلك كله إلى وقت البلوغ.
م: (فلا تفيد الولاية إلا ملزمة) ش: يعني في المال م: (ومع القصور لا تثبت ولاية الإلزام) ش: بخلاف المتناكحين، فإنهما ثابتان من غير تكرار غالبا، فكان التدارك بالتوفيق، هكذا بخلاف.
م: (وجه قوله) ش: أي قول الشافعي: م: (في المسألة الثانية) ش: وهو قوله في الثيب الصغيرة أيضا م: (أن الثيابة سبب لحدوث الرأي) ش: أن الرأي أمر باطن، والثيابة سبب لحدوثه م: (لوجود الممارسة) ش: فقام مقامه م: (فأدرنا الحكم عليها) ش: أي على الثيابة م: (تيسيرا) ش: أي لأجل التيسير.
م: (ولنا ما ذكرنا من تحقق الحاجة) ش: يعني أن مقتضى الولاية النظرية هو الحاجة م: (ووفور الشفقة) ش: وهي موجودة في الأب والجد م: (ولا ممارسة) ش: للصغير م: (تحدث الرأي) ش: بضم التاء من الإحداث. م: (بدون الشهوة) ش: يعني الممارسة التي تحدث الرأي لا تحل بدون الشهوة، لأن الرأي بلذة الجماع إنما يحدث عن مباشرة بشهوة، ولا شهوة للصغيرة م: (فيدار الحكم على الصغر) ش: لأنه سبب للعجز عن التصرف، فكلما ثبت الصغر تثبت الولاية. م: (ثم الذي يؤيد كلامنا فيما تقدم) ش: يعني من إطلاق الولي في قوله: ويجوز نكاح(5/92)
قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «النكاح إلى العصبات» من غير فصل
والترتيب في العصبات في ولاية النكاح كالترتيب في الإرث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصغير والصغيرة إذا زوجهما الولي م: (قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «النكاح إلى العصبات» ش: ذكر هذا الحديث شمس الأئمة السرخسي، وسبط بن الجوزي، ولم يخرجه أحد من الجماعة، ولا يثبت، مع أن الأئمة الأربعة اتفقوا على العمل به في حق البالغة.
وقال السروجي: روي عن علي _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ موقوفا ومرفوعا: «الإنكاح إلى العصبات» ، ويروى: النكاح إلى العصبات م: (من غير فصل) ش: يعني بين عصبة وعصبة، فيعمل بإطلاقه.
وقال أبو الفرج في " التحقيق " عن أحمد: يجوز تزويج الصغير والصغيرة لجميع العصبات، وإن كانا سمين، ويثبت لهما الخيار إذا بلغا في رواية عنه، ومذهبنا في غير الأب والجد قول عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، والعبادلة، وأبي هريرة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - _ وزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمامة بنت حمزة بن أبي سلمة وكانت صغيرة، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن عمها وقال: «لها الخيار إذا بلغت» ، وإنما زوجها بالعصوبة لا بالنبوة بوجهين:
أحدهما: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يزوج صغيرة ولا كبيرة ممن كان لها ولي، ولو كان تزويجها بالنبوة لم يتقدم عليه ولي.
والوجه الثاني: أنه أثبت لها الخيار، كما لو زوجها غير الأب والجد، والولي والنبوة أعظم من ذلك؛ ولا قصور فيها، والعباس _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ وإن كان عمها يحتمل أنه كان غائبا، أو متأدبا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجعل الأمر إليه، ذكره سبط بن الجوزي وغيره.
[الترتيب في العصبات في ولاية النكاح]
م: (والترتيب في العصبات في ولاية النكاح كالترتيب في الإرث) ش:، فأقرب الأولياء الابن، ثم ابنه وإن سفل، ثم الأب، ثم الجد وإن علا. وفي " الذخيرة " و" الأسبيجابي ": الولاية للأب، ثم الجد أب الأب وإن علا، [ثم] لأخ لأب وأم، ثم لأب، ثم لأولادهما على الترتيب ثم لمولى العتاقة، يستوي فيه الذكر والأنثى، ثم ذوي الأرحام الأقرب فالأقرب، ثم مولى الموالاة في قول أبي حنيفة، كما ذكر في الميراث، وعند محمد: ليس لذوي الأرحام إنكاح، ثم القاضي ومن نصبه القاضي. وعند زفر: الأخ لأب وأم، والأخ لأب سواء، ثم مولى العتاقة بعد العصبات النسبية، ثم عصبته، ثم ذوو الأرحام الأقرب فالأقرب عند أبي حنيفة استحسانا، وأبي يوسف في أكثر الروايات، وذكر الكرخي مع محمد، والأول أصح، ثم مولى الموالاة، ثم السلطان، ثم القاضي ومن نصبه القاضي.(5/93)
والأبعد محجوب بالأقرب. قال: فإن زوجهما الأب أو الجد. يعني الصغير والصغيرة. فلا خيار لهما بعد بلوغهما لأنهما كاملا الرأي وافرا الشفقة فيلزم العقد بمباشرتهما كما إذا باشراه برضاهما بعد البلوغ وإن زوجهما غير الأب والجد فلكل واحد منهما الخيار إذا بلغ إن شاء أقام على النكاح، وإن شاء فسخ، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد _ رحمهما الله _. وقال أبو يوسف _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ لا خيار لهما اعتبارا بالأب والجد، ولهما أن قرابة الأخ ناقصة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " قاضي خان ": الابن مقدم على الأب عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ثم ابنه وإن سفل ثم الأب ثم الجد، وذكر الكرخي: أن الأخ مع الجد ويشتركان عند أبي يوسف ومحمد كالميراث عندهما.
والأصح أن النكاح للجد عند الكل، وفي " المبسوط ": وهو ظاهر الرواية وهو الأصح، وقال شمس الأئمة الحلواني في " شرحه ": الأصح عندي أن الجد أولى بالنكاح عند الكل، وشفقة الجد كشفقة الأب، ولهذا يثبت خيار البلوغ في الجد كالأب بخلاف الأخ، وفي " المحيط " والمختلف: هما سواء.
م: (والأبعد محجوب بالأقرب) ش: منهم وهو ظاهر فيما تقدم م: (قال: فإن زوجهما الأب أو الجد _ يعني الصغير والصغيرة _ فلا خيار لهما بعد بلوغهما) ش: به قال الشافعي، ومالك في الأب، في حق الصغيرة وأحمد في رواية، وغير الأب والجد من الأولياء لا يملكون تزويجهما عندهم م: (لأنهما) ش: لأن الأب والجد م: (كاملا الرأي وافرا الشفقة) ش: وأصلهما كاملان الرأي وافران الشفقة فسقطت النون منهما للإضافة م: (فيلزم العقد بمباشرتهما كما إذا باشراه) ش: أي العقد م: (برضاهما بعد البلوغ) ش: أي بعد بلوغهما.
م: (وإن زوجهما) ش: أي الصغير والصغيرة م: (غير الأب والجد فلكل واحد منهما الخيار إذا بلغ، إن شاء أقام على النكاح، وإن شاء فسخ) ش: أي النكاح.
م: (وهذا) ش: أي كون كل واحد منهما مخيرا بعد البلوغ م: (عند أبي حنيفة ومحمد) ش: وهو قول أبي يوسف أولا، وهو قول ابن عمر وأبي هريرة _ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - _.
م: (وقال أبو يوسف _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _: لا خيار لهما اعتبارا بالأب والجد) ش: وهو قول عروة بن الزبير، وإنما اعتبره أبو يوسف بالأب والجد؛ لأنه عقد بولاية مستحقة بالقرابة، فلا يثبت فيه الخيار، وإذ القرابة سبب كامل لاستحقاق الولاية، والولاية لم تشرع في غير موضع النظر صيانة عن الإفضاء إلى الضرر، وإذا صح النظر قام عقد الولي مقام عقد نفسها لو كانت بالغة، كما أن الوصي يقوم مقام الأب، فيكون عقده كعقد الأب.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد م: (أن قرابة الأخ ناقصة) ش: يعني أن التزويج(5/94)
والنقصان يشعر بقصور الشفقة، فيتطرق الخلل إلى المقاصد
عسى، والتدارك ممكن بخيار الإدراك وإطلاق الجواب في غير الأب والجد يتناول الأم والقاضي وهو الصحيح من الرواية لقصور الرأي في أحدهما ونقصان الشفقة في الآخر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صدر من قاصر الشفقة، فلهما الخيار لتدارك الخلل في المقاصد، إذا ملكت أمرها، كذا قاله الكاكي.
ولكن التركيب لا يساعد هذا التقرير؛ لأنه ليس معنى قوله: _ قرابة الأخ ناقصة _ فإنه نسب النقصان إلى القرابة لا إلى الشفقة، ألا ترى كيف قال: م: (والنقصان يشعر بقصور الشفقة) ش: أي النقصان في القرابة يشعر بأن شفقة الأم قاصرة.
فحينئذ يكون معنى نقصان قرابة الأخ بالنسبة إلى قرابة الأب والابن، فهذا التفريع هو الذي يشعر بحصول الشفقة، فإذا كان كذلك م: (فيتطرق الخلل إلى المقاصد) ش: قال تاج الشريعة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _:
يعني أن ما وراء الكفاءة والمهر مقاصد أخر في النكاح من سوء الخلق وحسنه [و] لطافة العشيرة وغليظها وكرم الصحبة ولؤمها، وتوسيع النفقة وتعسيرها، قال: وإنما عين الأخ، لأنه أقرب بعد الأب والجد من سائر الأولياء، فلما ثبت الحكم فيه مع قربته ثبت في غيره بالطريق الأولى.
م: (عسى والتدارك ممكن بخيار الإدراك) ش: أي رأيهما التدارك يحصل بخيار الإدراك، أي بخيار البلوغ، ولم يتعرض أحد من الشراح لمعنى عسى، والذي يليق به ها هنا بمعنى الترجي.
م: (وإطلاق الجواب في غير الأب والجد) ش: أي إطلاق جواب كتاب القدروي في غير الأب والجد بقوله: ولكل واحد منهما الخيار _ يدل على أن الأم أو القاضي إذا زوج الصغير أو الصغيرة كان لكل واحد منهما الخيار في نكاح الأم والقاضي إذا أدركا قوله _ وإطلاق الجواب _ مبتدأ وخبره هو قوله: م: (يتناول الأم والقاضي) ش: يعني في إثبات الخيار عند البلوغ.
م: (وهو الصحيح من الرواية) ش: احترز عما روى خالد بن صبيح المروزي عن أبي حنيفة أنه لا يثبت الخيار لليتيمة إذا زوجتها الأم أو القاضي؛ لأن للقاضي ولاية تامة تثبت في المال والنفس جميعا، فتكون ولاية القاضي كولاية الأب، وشفقة الأم فوق شفقة الأب، فكانت كالأب وجه ظاهر الرواية وهو المختار.
وأشار إليه بقوله: م: (لقصور الرأي في أحدهما) ش: وهو الأم م: (ونقصان الشفقة في الآخر) ش: وهو القاضي؛ لأن ولايتهما متأخرة عن ولاية الأخ والعم، فإذا ثبت الخيار في(5/95)
فيتخير.
قال: ويشترط فيه البلوغ والقضاء بخلاف خيار العتق لأن الفسخ ههنا لدفع ضرر خفي وهو تمكن الخلل، ولهذا يشمل الذكر والأنثى، فجعل إلزاما في حق الآخر فيفتقر إلى القضاء، وخيار العتق لدفع ضرر جلي وهو زيادة الملك عليها، ولهذا يختص بالأنثى فاعتبر دفعا للزيادة، والدفع لا يفتقر إلى القضاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تزويجها ففي تزويج القاضي والأم أولى.
وهذا لأن الولاية الملازمة تبتنى على الرأي الكامل والشفقة الوافرة، والأم وإن كانت شفقتها وافرة فولايتها قاصرة حيث لا تثبت في المال، والقاضي وإن كانت ولايته كاملة فشفقته قاصرة؛ لأن شفقته إنما تكون بحق الدين م: (فيتخير) ش: أي يتيمة يكون لها الخيار عند البلوغ.
[فسخ النكاح بخيار البلوغ]
م: (قال: ويشترط فيه البلوغ) ش: أي في فسخ النكاح بخيار البلوغ م: (والقضاء) ش: أي حكم القاضي م: (بخلاف خيار العتق) ش: حيث لا يشترط فيه القضاء م: (لأن الفسخ ههنا) ش: أي في خيار البلوغ.
م: (لدفع ضرر خفي وهو تمكن الخلل) ش: لقصور شفقة الزوج م: (ولهذا) ش: أي ولأجل تمكن الخلل م: (يشتمل الذكر والأنثى) ش: لأن قصور الشفقة، كما هو في حق الجارية ممكن، كذلك في حق الغلام، وإذا كان الضرر خفيا لا يطلع عليه؛ لأن فرض المسألة فيما إذا كان الزوج كفؤا والمهر تاما، فربما ينكره الزوج فيحتاج إلى القضاء م: (فجعل إلزاما في حق الآخر) ش: لكونه رضي بحكم ثابت م: (فيفتقر إلى القضاء) ش: أي في الحكم.
م: (وخيار العتق لدفع ضرر جلي، وهو زيادة الملك عليها) ش: فإن الزوج قبل عتقها كان يملك تطليقتين ويملك بمراجعتها في قرأين، ثم أزال ذلك بالعتق وهو أمر جلي، ليس للاتحاد فيه بحال حتى يحتاج إلى الإلزام.
لكن لها أن ترفع ذلك عن نفسها، وذلك مع بقاء أصل النكاح غير ممكن لأن بعد العتق يستلزمها، ووجود الملزوم بدون اللازم محال، فكان لها أن ترفع أصل الملك في ضمن ما لها من رفع الزيادة، وهي كلها بالعتق.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون زيادة الملك عليها م: (يختص بالأنثى) ش: دون الذكور، لأن زيادة الملك يتصور في الأمة دون العبد م: (فاعتبر) ش: أي الضرر الجلي م: (دفعا للزيادة) ش: لأن ولاية المولى لم تكن ثابتة في هذه الزيادة.
وصار كأن العقد الآن في حقها، فكان الاختيار منها دفعا للحكم عن الثبوت م: (والدفع لا يفتقر إلى القضاء) ش: لأن الدفع أمر يستعمل به الدافع؛ إذ لكل واحد ولاية دفع الضرر عن(5/96)
ثم عندهما إذا بلغت الصغيرة وقد علمت بالنكاح فسكتت فهو رضا، وإن لم تعلم بالنكاح فلها الخيار حتى تعلم فتسكت شرط العلم بأصل النكاح لأنها لا تتمكن من التصرف بالرد إلا به والولي ينفرد به فعذرت بالجهل
ولم يشترط العلم بالخيار، لأنها تتفرغ لمعرفة أحكام الشرع والدار دار العلم فلم تعذر بالجهل، بخلاف المعتقة لأن الأمة لا تتفرغ لمعرفتها، فعذرت بالجهل بثبوت الخيار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نفسه، كالرد بالعيب قبل القبض، فإنه يصح بلا حكم.
فإن قيل: دفعها ما عليها من الزيادة يبطل ما كان ثابتا من حق الزوج استتبع للزيادة، وفي ذلك جعل التابع متبوعا، وهو عكس المعقول ونقض الأصول.
وأجيب: بأن هذا ليس يجعل التابع متبوعا، وإنما هو باب إلزام الضرر المرضي.
فإن الزوج حين تزوج الأمة عالما لها بخيار العتق التزم الضرر، والذي يحصل به والضرر المرضي غير ضار بخلاف الأمة، فإنها لم ترض بما يزيد عليها من ذلك عند العتق بلزوم اختيارها في النكاح، فلم يكن ضررها بمرضي، فكان ضارا وغير الضار يدفع الضار دون غيره.
م: (ثم عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد، خصهما بالذكر، لأن مذهب أبي يوسف لا يرد ها هنا؛ لأنه خيار البلوغ، وإن كان المزوج غير الأب والجد م: (إذا بلغت الصغيرة، وقد علمت بالنكاح، فسكتت فهو رضا) ش: فلا يكون لها الخيار.
م: (وإن لم تعلم بالنكاح فلها الخيار حتى تعلم فتسكت، شرط العلم بأصل النكاح؛ لأنها) ش: أي الصغيرة التي بلغت م: (لا تتمكن من التصرف بالرد إلا به) ش: أي بالعلم بأصل النكاح م: (والولي) ش: أي والحال أن الولي م: (ينفرد به) ش: أي بالنكاح، فإذا كان الأمر كذلك م: (فعذرت بالجهل) ش: على صيغة المجهول.
[الفرق بين خيار البلوغ والعتق في النكاح]
م: (ولم يشترط العلم بالخيار) ش: في حق الحرة م: (لأنها تتفرغ لمعرفة أحكام الشرع والدار) ش: أي والحال أن الدار م: (دار العلم فلم تعذر بالجهل) ش: بالخيار م: (بخلاف المعتقة) ش: حيث تعذر م: (لأن الأمة لا تتفرغ لمعرفتها) ش: أي لمعرفة أحكام الشرع، فإذا كان كذلك م: (فعذرت بالجهل بثبوت الخيار) ش: وحاصل ما ذكره المصنف هذه أمور، يقع بها الفرق بين خيار البلوغ والعتق وهي خمسة أمور. الأول: أن خيار البلوغ في الفرقة محتاج إلى القضاء دون خيار العتق؛ لأن خيار البلوغ مختلف فيه، فلا بد أن يتأكد بالقضاء كالرجوع في الهبة، وخيار العتق، إذا كان الزوج عبدا مجمع عليه فلا يحتاج إلى القضاء، وقد مر هذا.
الثاني: أن خيار البلوغ يثبت للغلام والجارية، وخيار العتق يثبت للجارية فقط، وقد مر هذا(5/97)
ثم خيار البكر يبطل بالسكوت ولا يبطل خيار الغلام ما لم يقل رضيت أو يجيء منه ما يعلم أنه رضي، وكذلك الجارية إذا دخل بها الزوج قبل البلوغ اعتبارا لهذه الحالة بحالة ابتداء النكاح،
وخيار البلوغ في حق البكر لا يمتد إلى آخر المجلس ولا يبطل بالقيام في حق الثيب والغلام لأنه ما ثبت بإثبات الزوج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أيضا.
الثالث: أن الصغيرة إذا بلغت وقد علمت بالنكاح فسكتت بطل خيارها سواء كانت عالمة بأن لها الخيار أو لم تكن، وقد مر هذا أيضا.
وقوله: م: (ثم خيار البكر بطل بالسكوت) ش: تفريع على خيار البلوغ الشامل للذكر والأنثى، بيانه أن خيار البكر يبطل بالسكوت لأنها لما كانت صغيرة وأدركت استؤمرت في النكاح، فسكتت عند ابتداء العقد كان سكوتها رضا، فكذلك إذا كان لها الخيار فأدركت، وسكت كان سكوتها رضا، فيبطل خيارها م: (ولا يبطل خيار الغلام ما لم يقل: رضيت) ش: صريحا م: (أو يجيء منه) ش: أو دلالته، وقد مضى، أو يجيء منه بالجزم عطفا على قوله: _ ما لم يقل _ قوله: _ منه _ أي من الغلام م: (ما يعلم منه أنه رضي) ش: مثل إرسال المهر إليها فتقبله ونحو ذلك.
م: (وكذلك الجارية) ش: أي وكذا لا يبطل خيار الجارية الثيب م: (إذا دخل بها الزوج قبل البلوغ) ش: أي قبل أن تبلغ م: (اعتبارا لهذه الحالة بحالة ابتداء النكاح) ش: هذا متعلق بمجموع ما ذكر، وهو خيار البكر، وخيار الغلام وخيار الجارية التي دخل بها قبل البلوغ، وقد مر أن الصغيرة البكر إذا أدركت واستؤمرت للنكاح فسكتت عند ابتداء العقد كان سكوتها رضا عنه، فكذلك إذا كان لها الخيار فأدركت وسكتت كان سكوتها رضا، فيبطل خيارها اعتبارا، بهذه الحالة بالحالة الأولى، وهي حالة ابتداء النكاح. وأما الغلام والجارية والثيب إذا استؤمرا عند ابتداء النكاح لم يكن سكوتهما رضا، بل لا بد من الرضاء، أو دلالته، فكذلك عند خيار البلوغ لم يكن السكوت منهما رضا بحال، لا بد من ذلك اعتبارا بهذه الحالة بالحالة الأولى.
[خيار البلوغ في حق البكر]
م: (وخيار البلوغ في حق البكر) ش: تفريغ آخر، وهو بيان الأمر الرابع في الفرق بين خيار البلوغ والعتق، وبيانه أن خيار البلوغ في حق البكر م: (لا يمتد إلى آخر المجلس) ش: يعني مجلس صيرورتها بالغة بأن رأت الدم في المجلس، وقد كان بلغها خبر النكاح فسكتت، أو مجلس بلوغ الخبر بالنكاح فسكتت، يبطل خيارها بمجرد السكوت في الوجهين جميعا م: (ولا يبطل) ش: أي الخيار م: (بالقيام في حق الثيب والغلام) ش: بل يمتد إلى آخر المجلس؛ لأنه ما ثبت دليل البطلان في حق الثيب خاصة.
م: (لأنه) ش: أي لأن خيار بلوغها م: م: (ما ثبت بإثبات الزوج) ش: وما لم يثبت بإثبات(5/98)
بل لتوهم الخلل فإنما يبطل بالرضا غير أن سكوت البكر رضا بخلاف خيار العتق لأنه ثبت بإثبات المولى وهو الإعتاق فيعتبر فيه المجلس كما في خيار المخيرة، ثم الفرقة بخيار البلوغ ليست بطلاق، لأنها تصح من الأنثى، ولا طلاق إليها، وكذا بخيار العتق لما بينا، بخلاف المخيرة، لأن الزوج هو الذي ملكها وهو مالك للطلاق.
فإن مات أحدهما قبل البلوغ ورثه الآخر، وكذا إذا مات بعد البلوغ قبل التفريق، لأن أصل العقد صحيح والملك ثابت به انتهى بالموت،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزوج لا يقتصر على المثبت، بل يمتد إلى ما وراء المجلس، لهن التفويض هو القصر على المجلس م: (بل لتوهم الخلل) ش: هذا أضراب دليل يشمل البكر والغلام، تقريره خيار البلوغ يثبت بعدم الرضا لتوهم الخلل، وما ثبت بعدم الرضا يبطل بالرضا؛ لوجود منافيه م: (فإنما يبطل بالرضا، غير أن سكوت البكر رضا) ش: دون سكوت الغلام، فيبطل خياره بمجرد سكوت، فيمتد خياره، ويمتد خياره إلى ما وراء المجلس.
م: (بخلاف خيار العتق) ش: هذا بيان الفرق بينهم وبين خيار البلوغ، وهو بيان الأمر الخاص بيانه أن خيار العتق مخالفة م: (لأنه ثبت بإثبات المولى وهو الإعتاق) ش: لأنه لو لم يعتق لما ثبت لها الخيار م: (فيعتبر فيه المجلس) ش: لأن كل خيار ثبت بإثبات غيره فيقتصر على المجلس م: (كما في خيار المخيرة) ش: فإنه يقتصر فيه على المجلس م: (ثم الفرقة بخيار البلوغ ليست بطلاق) ش: يعني سواء كان قبل الدخول أو بعده.
م: (لأنها تصح من الأنثى) ش: ولا خيار م: (ولا طلاق إليها) ش: أي إلى الأنثى، وفائدته تظهر في موضوعين.
أحدهما: أن الفرقة إذا كانت قبل الدخول لم يجب نصف المسمى، ولو كان طلاقا لوجب.
والثاني: أنهما لو تناكحا بعد الفرقة ملك الزوج ثلاثة تطليقات.
م: (وكذا بخيار العتق) ش: أي كذا الفرقة بخيار العتق ليس بطلاق م: (لما بينا) ش: أنه يصح من الأنثى م: (بخلاف المخيرة) ش: فإن الفرقة بالتخيير م: (لأن الزوج الذي ملكها) ش: أي ملك المرأة الطلاق بالتخيير إليها م: (وهو مالك للطلاق) ش: أي والحال أن الزوج مالك بالطلاق.
[مات أحد الزوجين قبل البلوغ]
م: (وإن مات أحدهما قبل البلوغ) ش: أي فإن مات أحد الزوجين قبل البلوغ م: (ورثه الآخر) ش: أي الزوج الآخر م: (وكذا) ش: وورثه الآخر م: (إذا مات بعد البلوغ قبل التفريق) ش: أي قبل تفريق القاضي بينهما م: (لأن أصل العقد صحيح، والملك ثابت به) ش: أي بأصل العقد م: (انتهى بالموت) ش: فيتوارثان.(5/99)
بخلاف مباشرة الفضولي إذا مات أحد الزوجين قبل الإجازة، لأن النكاح ثمة موقوف فيبطل بالموت، وهاهنا نافذ فيتقرر به. قال ولا ولاية لعبد ولا صغير ولا مجنون لأنه لا ولاية لهم على أنفسهم فأولى أن لا تثبت على غيرهم، ولأن هذه ولاية نظرية ولا نظر في التفويض إلى هؤلاء
ولا ولاية لكافر على مسلم لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] (النساء: الآية 141) ، ولهذا لا تقبل شهادته عليه ولا يتوارثان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بخلاف مباشرة الفضولي) ش: بأن عقد بين الرجل والمرأة بغير إذنهما، فإن العقد فيه موقوف على الإجازة م: (إذا مات أحد الزوجين قبل الإجازة) ش: فلا إرث في أحدهما للآخر م: (لأن النكاح ثمة موقوف، فيبطل بالموت وها هنا) ش: يعني في المخيرة للنكاح م: (نافذ فيتقرر به) ش: أي بالموت.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا ولاية لعبد ولا صغير ولا مجنون، لأنه لا ولاية لهم على أنفسهم، فأولى أن تثبت على غيرهم) ش: لأن الولاية المتعدية فرع الولاية القاصرة، فمن لا ولاية له على نفسه فأولى أن لا يكون له ولاية على غيره.
م: (ولأن هذه ولاية ولا نظر في التفويض إلى هؤلاء) ش: يعني العبد، والصغير والمجنون، وهذا بالإجماع. وفي " المغني " قال أحمد: إن كان الصغير ابن عشر زوج وتزوج، وهو شذوذ وتعلق بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «واضربوهم عليها لعشر» . وللجماعة حديث «رفع القلم» المشهور، وحديثه [ ... ] والتخلق.
[لا ولاية لكافر على مسلم ومسلمة]
م: (ولا ولاية لكافر على مسلم ومسلمة) ش: يعني الولاية الشرعية، ولا معتبر بالحمية فيها م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] (النساء: الآية 141) ش: أي سبيلا شرعيا.
م: (ولهذا) ش: أي لعدم ولايته على المسلمين م: (لا تقبل شهادته عليه) ش: أي شهادة الكافر على المسلم م: (ولا يتوارثان) ش: أي المسلم والكافر، فلا يرث المسلم من الكافر. وفي " المغني ": الكافر إذا أسلمت أم ولده، هل يزوجها، فيه وجهان. أما سيدة الأمة الكافرة فلها تزويجها الكافر؛ لكونها لا تحل للمسلمين عندهم، ويزوج الكافر ابنته الكافرة، من كافر وفي " المغني ": ومن مسلم. وكذا يزوج ابنه الكافر، ويبطل به قوله: إن العتق يسلب الولاية؛ فإن الكافر فاسق وزيادة، وعندنا الفسق لا يسلب الولاية، وبه قال مالك وأحمد والشافعي.(5/100)
أما الكافر فتثبت له ولاية الإنكاح على ولده الكافر، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] (الأنفال: الآية 73) ولهذا تقبل شهادته عليه ويجري بينهما التوارث ولغير العصبات من الأقارب ولاية التزويج عند أبي حنيفة عند عدم العصبات، وهذا استحسان. وقال محمد لا تثبت وهو القياس، وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقول أبي يوسف في ذلك مضطرب، والأشهر أنه مع محمد لها ما روينا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وأما الكافر فتثبت له ولاية الإنكاح على ولده الكافر، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] ش: (الأنفال: الآية 73) ، لأن أنكحة الكفار فيما بينهم صحيحة، إلا على قول مالك. فإن أنكحتهم باطلة عنده، ونحن نقول بقوله عز وجل: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] (المسد: الآية 4) ، ولو لم يكن لهم نكاح لما سماها امرأته. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولدت من نكاح لا من سفاح» .
م: (ولهذا) ش: أي ولثبوت ولاية الكافر في النكاح على ولده م: (تقبل شهادته عليه) ش: أي شهادة الكافر على ابنه م: (ويجري بينهما التوارث) ش: أي يجري بين الأب والابن الكافر من الإرث، فيرث كل منهما من الآخر.
قال م: (ولغيرت العصبات من الأقارب) ش: نحو الأخوال والخالات والعمات م: (ولاية التزويج) ش: مرفوع، لأنه مبتدأ وخبره قوله: لغير العصبات مقدما م: (عند أبي حنيفة، معناه عند عدم العصبات) ش: نسبية كانت أو سببية، كمولى العتاقة. فعند أبي حنيفة بعد العصبات الأم ثم ذوو الأرحام الأقرب فالأقرب، ثم بنت الابن، ثم بنت البنت، ثم بنت ابن الابن، ثم بنت بنت البنت، ثم الأخت لأب وأم، ثم الأخت لأم، ثم أولادهم، ثم العمات، والأخوال والخالات، وأولادهم على هذا الترتيب، ثم مولى الموالاة، ثم السلطان، ثم القاضي ومن نصبه القاضي إذا شرط تزويج الصغار في عهدة منشورة، أما إذا لم يشترط فلا ولاية له.
م: (وهذا استحسان) ش: أي هذا الذي ذهب إليه أبو حنيفة استحسان م: (وقال محمد: لا تثبت) ش: أي والولاية لغير العصبات م: (وهو القياس) ش: أي الذي ذهب إليه محمد هو القياس م: (وهو رواية عن أبي حنيفة) ش: أي قول محمد رواية عن أبي حنيفة، رواه الحسن عنه، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد.
م: (وقول أبي يوسف في ذلك مضطرب) ش: لأنه ذكر في كتاب " النكاح " مع أبي حنيفة، وفي كتاب " الولاء" مع محمد م: (والأشهر أنه) ش: أي أن أبا يوسف م: (مع محمد) ش: ولكن ذكر في الكافر: والجمهور على أن أبا يوسف مع أبي حنيفة.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (ما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النكاح إلى(5/101)
ولأن الولاية إنما تثبت صونا للقرابة عن نسبة غير الكفؤ إليها وإلى العصبات الصيانة، ولأبي حنيفة: أن الولاية نظرية والنظر تتحقق بالتفويض إلى من هو المختص بالقرابة الباعثة على الشفقة.
ومن لا ولي لها يعني العصبة من جهة القرابة إذا زوجها مولاها الذي أعتقها جاز لأنه أخر العصبات، وإذا عدم الأولياء فالولاية إلى الإمام والحاكم لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «السلطان ولي من لا ولي له»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العصبات» والألف واللام تدل على جنس النكاح لعدم العهد، ومعناه: هذا الجنس مفوض إلى هذا الجنس.
فلا يكون لغيره فيه مدخل، وقد مضى الكلام في الحديث م: (ولأن الولاية إنما تثبت صونا للقرابة عن نسبة غير الكفء إليها وإلى العصبات الصيانة) ش: أي الصيانة إلى العصبات.
م: (ولأبي حنيفة أن الولاية نظرية، والنظر يتحقق بالتفويض إلى من هو المختص بالقرابة الباعثة على الشفقة) ش: والشفقة موجودة في الأم وقرابتها كما في قرابة الأب، ولهذا قال أصحابنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الإنكاح إلى العصبات» يتناول الإمام، لأنها عصبة في الجملة، يعني في صورة ولد الزنا، وولد الملاعنة وثبت له ولاية التزويج أيضا.
والجواب عن الحديث أن النكاح إلى العصبات حالة وجودهم وبه يقول.
[عدم الأولياء في نكاح المرأة]
قال: م: (ومن لا ولي لها) ش: هذا لفظ القدوري وقوله م: (يعني العصبة من جهة القرابة) ش: من كلام المصنف والضمير في لها يرجع إلى - من - وهي الولية، وفي بعض النسخ، ومن لا ولي له بتذكير الضمير وهو ظاهر.
م: (إذا زوجها مولاها الذي أعتقها جاز) ش: لمولى العتاقة وعصبة التزويج بالإجماع ترتيب عصبات العتق كعصبات القرابة بالإجماع، ويكون مقدما على ذوي الأرحام [ ... ] وغيرهما.
م: (لأنه آخر العصبات) ش: في الإرث، وكذا لمولى الموالاة ولاية التزويج على الصغيرة عندهما إذا لم يكن لها قريب، خلافا لمحمد والشافعي، ومالك وأحمد؛ لأنه يؤخر عن ذوي الأرحام في الميراث عند محمد، فلا يكون له ولاية، كما لذوي الأرحام، وعند الشافعي: عقد الموالاة يصح، فلا يكون له عصوبة ولا قرابة.
م: (وإذا عدم الأولياء) ش: يعني على الوجه المذكور، وذكر بلفظ الأولياء ليتناول العصبات النسبية والسببية م: (فالولاية للإمام) ش: أي الخليفة م: (والحاكم) ش: أي القاضي ومن نصبه القاضي إذا شرط تزويج الصغار في عهده م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «السلطان ولي من لا ولي له» ش: هذا في آخر حديث أخرجه أبو داود والترمذي، وابن ماجه.(5/102)
فإذا غاب الولي الأقرب غيبة منقطعة جاز لمن هو أبعد منه أن يزوج. وقال زفر لا يجوز لأن ولاية الأقرب قائمة لأنها تثبت حقا له صيانة للقرابة فلا تبطل بغيبته، ولهذا لو زوجها حيث هو جاز ولا ولاية للأبعد مع ولايته. ولنا أن هذه ولاية نظرية، وليس من النظر التفويض إلى من لا ينتفع برأيه ففرضناه إلى الأبعد وهو مقدم على السلطان كما إذا مات الأقرب. ولو زوجها حيث هو فيه منع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من حديث الزهري، عن عائشة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - _ قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» ، وقال الترمذي: حديث حسن.
م: (فإذا غاب الولي الأقرب) ش: كالأب م: (غيبة منقطعة جاز لمن هو أبعد منه) ش: كالجد م: (أن يزوج) ش: وبه قال مالك وأحمد، وقال الشافعي: يزوجها السلطان أو القاضي، ولا يجوز أن يزوجها الأبعد م: (وقال زفر: لا يجوز) ش: لأحد حتى يحضر الأقرب م: (لأن ولاية الأقرب قائمة؛ لأنها تثبت حقا له) ش: والأبعد محجوب الولاية، ولا تأثير للغيبة في قطع، وحقه ثبت م: (صيانة للقرابة) ش: عن نسب الكفء إليها.
م: (فلا تبطل) ش: أي حقه م: (بغيبته؛ ولهذا) ش: أي ولثبوت حقه؛ وعدم بطلانها بغيبته م: (لو زوجها حيث هو) ش: أي لزوجها الولي الأقرب، حيث كان هو م: (جاز) ش: بالاتفاق فدل على قيام ولايته في غيبته، فإذا كان كذلك لا يجوز تزويج الأبعد، م: (ولا ولاية للأبعد مع ولايته) ش: أي مع ولاية الأقرب. م: (ولنا أن هذه) ش: أي هذه الولاية م: (ولاية نظرية وليس من النظر التفويض إلى من لا ينتفع برأيه) ش: وهو الأقرب في غيبته لتعذر الانتفاع بغيبته، والتحق بمن لا ولي له أصلا، كالصغير والمجنون، وله أي الأبعد خلف عن رأي الأقرب فصار كولاية الحضانة يتقدم فيها الأقرب.
فإذا تزوج كانت الولاية للأبعد، فإن كان الأمر كذلك م: (ففرضناه إلى الأبعد) ش: وهذه نتيجة المتقدمين الصادقين، فافهم. م: (وهو مقدم على السلطان) ش: قال الأكمل: وهذه إشارة إلى جواب الشافعي م: (كما إذا مات الأقرب) ش: لم تنقل إلى السلطان، فعنده إذا غاب الأقرب يزوج السلطان كما ذكرناه.
قلت: لم يذكر قول الشافعي في الكتاب صريحا، ولم يذكر قوله إلا الشراح م: (ولو زوجها حيث هو فيه منع) ش: هذا جواب عن قول زفر، ولهذا لو زوجها حيث(5/103)
وبعد التسليم نقول: للأبعد بعد القرابة وقرب التدبير للأقرب عكسه فنزل منزلة وليين متساويين فأيهما عقد نفذ ولا يرد. والغيبة المنقطعة أن يكون في بلد لا تصل إليه القوافل في السنة إلا مرة واحدة، وهو اختيار القدوري.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جاز تقريره ولا نسلم جوازه، وفي " المحيط ": لا رواية فيه، وينبغي أن لا يجوز، لانقطاع ولايته م: (وبعد التسليم) ش: أي بعد أن سلمنا ذلك م: (نقول: للأبعد بعد القرابة وقرب التدبير، وللأقرب عكسه) ش: وهو قرب القرابة، وبعد التدبير، وثبوت الولاية، فاستويا من هذا الوجه.
م: (فنزل منزلة وليين متساويين فأيهما عقد نفذ) ش: أي العقد م: (ولا يرد) ش: يعني إذا حضر الأقرب، وقد زوج الأب، ثم حضر الأقرب لا يرد العقد، وقيل: عند زفر يبطل عقد الأبعد إذا حضر الأقرب لعدم ولايته م: (والغيبة المنقطعة) ش: لما ذكر لفظ الغيبة المنقطعة فيما مضى شرع هنا في بيانها، فقال م: (أن يكون) ش: أي ولي الأقرب م: (في بلد لا تصل إليه القوافل في السنة إلا مرة واحدة) ش: وقدرها الشافعي ومالك وأحمد بأدنى مدة السفر.
وفي " المبسوط ": وإليه أشار محمد في الكتاب، فقال: أرأيت لو كان في السواد ونحوه، إنما كان يستطيع رأيه فهذا إشارة إلى أنه إذا جاوز السواد ثبتت الولاية للأبعد، وعن أبي يوسف، ومحمد المنقطعة من البصرة إلى الرقة، وغير المنقطعة من بغداد إلى الكوفة، وقيل: بعد بمائة وخمسين فرسخا. وفي " المحيط ": عن محمد روايتان: إحداهما: مسيرة شهر، والأخرى: مسيرة ثلاثة أيام، واختارها أبو الليث. وعن محمد: من الكوفة إلى الري وهو عشرون مرحلة، وفي " الروضة ": وهو قول أبي حنيفة ذكره الطحاوي في شرحه ومختصره، وقيل: من الكوفة إلى البصرة.
وفي " الأسبيجابي ": إن كان في مكان لا تختلف إليه القوافل فهو غيبة منقطعة. وقيل: إن كانت في موضع يقع إليه بدفعة واحدة فليست بمنقطعة، ومن المشايخ من قال أن لا يتوقف له على أثر، بأن كان جوالا من موضع إلى موضع، أو مفقودا حتى لو كان في بلد واحد، لا يوقف عليه مختصا لها كانت غيبة منقطعة.
وقال أحمد: يزوجها في السفر البعيد دون القريب، قيل: يحتمل أن يكون البعيد ما يقصر فيه الصلاة. وقيل: ما يقطع بكلفة ومشقة، وقيل: يزوجها الحاكم، وإن كان قريبا، وإن كان القريب محبوسا أو أسيرا في مسافة قريبة فهو كالبعيد، وكذا إذا لم يعلم مكانه والشافعية قدروها بمسافة القصر.
م: (وهو اختيار القدوري) ش: يعني الذي اختاره القدوري في " مختصره "، وهو قوله والغيبة المنقطعة أي يكون في بلدة لا تصل إليها القوافل في السنة إلا مرة.(5/104)
وقيل: أدنى مدة السفر، لأنه لا نهاية لأقصاه، وهو اختيار بعض المتأخرين، وقيل: إذا كان بحال يفوت الكفء باستطلاع رأيه، وهذا أقرب إلى الفقه، لأنه لا نظر في إبقاء ولايته حينئذ.
وإذا اجتمع في المجنونة أبوها وابنها فالولي في إنكاحها ابنها، في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أبوها لأنه أوفر شفقة من الابن. ولهما أن الابن هو المقدم في العصوبة، وهذه الولاية مبنية عليها، ولا معتبر بزيادة الشفقة كأب الأم مع بعض العصبات، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل أدنى مدة السفر) ش: أي الغيبة المنقطعة أدنى مدة السفر، وبه أخذ الثوري ومحمد بن مقاتل الرازي، وأبو عصمة سعد بن معاذ المروزي، وأبو علي النسفي أدناهم، وهو اختيار بعض المتأخرين، وأبو اليسر والصدر الشهيد م: (لأنهم نهاية لأقصاه) ش: أي لأقصى السفر فاعتبرهم أدناهم م: (وهو اختيار بعض المتأخرين) ش: وعليه الفتوى، وبه قال الثلاثة، وبعض المتأخرين هم الذين ذكرناهم.
م: (وقيل: إذا كان بحال يفوت الكفر باستطلاع رأيه) ش: قال الإمام السرخسي في " مبسوطه ": هو الأصح، وهو اختيار الفضلي، ولهذا قال المصنف: م: (وهذا أقرب إلى الفقه؛ لأنه لا نظر في إبقاء ولايته حينئذ) ش: يعني لعدم الانقطاع به حينئذ. وعن هذا قال الإمام قاضي خان في " الجامع الصغير ": حتى لو كان مختفيا في البلدة، ولا يتوقف عليه تكون غيبة منقطعة.
[اجتمع في المجنونة أبوها وابنها فمن يلي نكاحها]
م: (وإذا اجتمع في المجنونة أبوها وابنها فالولي في إنكاحها ابنها، في قول أبي حنيفة وأبي يوسف) ش: وبه قال مالك وأحمد. م: (وقال محمد: أبوها) ش: أي أبوها أولى م: (لأنه أوفر شفقة من الابن) ش: لأن ولاية الأب تعم النفس والمال، وليس للابن ولاية في المال.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أن الابن هو المقدم في العصوبة) ش: ألا ترى أن الأب معه يستحق السدس بالفرضية فقط م: (وهذه الولاية مبنية عليها) ش: أي على العصوبة م: (ولا معتبر بزيادة الشفقة كأب الأم مع بعض العصبات) ش: هذا جواب محمد، وأبو الأم أوفر شفقة من ابن الأخ، يقدم أبو الأم عليه بالإجماع، ولا فرق بين الجنون بأن يبلغ مجنونا، والطارئ وهو الجنون بعد البلوغ عاقلا.
قال زفر: في الجنون الأصلي كذلك، أما في العارضي فلا ولاية للولي عليها، وحكى ذلك عن الشافعي، وفي " الحلية ": هذا ليس بشيء. وفي " شرح الوجيز ": والأصح أن لا فرق بين الأصلي والعارضي في ثبوت الولاية عليه كمذهبنا، ولكن يزوجها الأب والجد خاصة.
فرع: امرأة جاءت إلى القاضي وقالت: لا ولي لي وإني أريد أن أتزوج، فالقاضي يأذن لها في النكاح، علم أن لها وليا أم لا، وعن إسماعيل بن حماد فالقاضي يقول لها إن لم تكوني(5/105)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قرشية ولا عربية، ولا ذات زوج، ولا في عدة أحد: فقد أذنت لك.
قال شيخ الإسلام: للقاضي أن يكفلها إقامة البينة، يلزم القاضي ما ادعت من غير خيار وفي " الذخيرة ": هذه البينة تسمى بينة كشف الحال. وسئل شيخ الإسلام: عن بكر بالغ شافعية زوجت نفسها من حنفي أو شافعي هل يجوز؟ قال: نعم؛ وإن كان لا يصح عند الشافعي، والزوجان يعتقدان هذا المذهب، ولو سئلنا ما جواب الشافعي في هذه المسألة؟ أجبنا: أنه يصح عند أبي حنيفة.
وسئل أيضا في عقد عقد بحضرة فاسقين من المسلمين، وغاب عنها الزوج غيبة منقطعة، هل يجوز للقاضي أن يبعث إلى شافعي يبطل النكاح بهذا السبب؟، قال: نعم، وللحنفي أن يبطله بنفسه أيضا، أخذ بهذا الإمام، وإن لم يكن مذهبنا له. قال: وعندي أن هذا على قول أبي حنيفة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ بناء على أن القاضي إذا قضى بخلاف مذهبه ينفذ عنده خلافا لهما، وليس هو من ولايته، فإن أوصى الأب بالنكاح إلا إذا كان الأب قريبا، فحينئذ يزوج بالقرابة لا بالوصية؛ لأنه ولاية في المال دون النفس.
وقال أحمد في رواية، والشافعي ومالك: إن أوصى إليه في التزويج جاز، وهو رواية هشام عن أبي حنيفة، وإن كانت الثيب كبيرة يزوجها القاضي بإذنها، وإن كانت صغيرة، وعين الموصى الزوج زوجها الموصي منه، كما لو وكل به في حياته، وإن لم يتعين ينظر بلوغها لتأذن.
وفي " السروجي ": والوصي لا يزوج، وهو قول الشعبي، والنخعي، والثوري، والحارث النكلي، والشافعي، وابن المنذر ورواية عن أحمد، وفي " تعليق الطرسوسي ": الوصي أولى من الولي، سواء أقال الموصي: أنت وصي أو وصي على بناتي، أو أنت وصي على مالي عند مالك.(5/106)
فصل في الكفاءة الكفاءة في النكاح معتبرة، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء، ولا يزوجن إلا من الأكفاء»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الكفاءة في النكاح] [الكفاءة في النكاح معتبرة]
م: (فصل في الكفاءة) ش: لما كانت الكفاءة معتبرة وعدمها يمنع الجواز، ولهذا يتمكن الأولياء من الفسخ احتاج إلى أن يذكر حكمها في فصل على حدة، قال الجوهري: الكفء النظير، وكذلك الكفو، والكفوء على فعل وفعول. والمصدر الأكفاء بالفتح والمد. وقال ابن الأثير: الكفء النظير، والمساوي ومنه الأكفاء في النكاح، وهو أن يكون الزوج مساويا للمرأة في حسبها ونسبها، ودينها، وسنها وغير ذلك.
م: (قال: الكفاءة في النكاح معتبرة) ش: أصحاب الحديث والفقهاء اختلفوا في عبارة الكفاءة، قال ابن المنذر في " الأشراف ": ذهب عمر بن عبد العزيز، وحماد بن أبي سليمان، وعبيد بن عمير، وابن سيرين، وابن عون ومالك أن الكفاءة غير معتبرة إلا في الدين.
وفي " البدائع ": وهو قول الحسن البصري، والكرخي من أصحابنا، وفي " المبسوط ": وقال الكرخي: الأصح عندي أنه لا اعتبار بالكفاءة في النكاح. وعن الثوري وابن حنبل: لا بد من اعتبار الكفاءة، ولا يسقط إلا بتراضي الولي والمرأة. وعنه في الرجل يشرب الشراب، أو هو حائك يفرق بينهما، وفي " البسيط ": ذهب الشيعة إلى أن نكاح العلويات ممتنع على غيرهم مع التراضي، قال السروجي: وهما قولان باطلان.
م: (قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء، ولا يزوجن إلا من الأكفاء» ش: قال الأكمل: رواه جابر، وسكت [ ... ] ، وقال أبو عمر بن عبد البر: هذا حديث ضعيف، لا أصل له ولا يحتج بمثله. قال البيهقي: ضعيف بمرة، ورواه في " السنن ": عن مبشر بن عبيد وأسند في " المعرفة ": عن ابن حنبل أنه قال: أحاديث مبشر بن عبيد موضوعة كذب. وقال ابن القطان: وهو كما قال، لكن يبقى عليه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف ومدلس على الضعفاء.
قلت: مبشر بن عبيد يروي هذا الحديث عن الحجاج بن أرطاة عن عطاء عن عمرو بن دينار، عن جابر، عن عبد الله بن عمر _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - _، رواه أبو يعلى الموصلي في " مسنده ": عن مبشر بن عبيد عن أبي يزيد عن جابر يذكره وهو أبو يعلى.(5/107)
ولأن انتظام المصالح بين المتكافئين عادة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رواه ابن حبان في كتاب " الضعفاء ". وقال: مبشر بن عبيد يروي عن الثقات الموضوعات، لا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب. وقال البيهقي: وفي اعتبار الكفاءة أحاديث لا يقوم بأكثرها حجة، وأمثلها حديث علي _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ «ثلاثة لا يؤخرها، وفيه الأيم إذا وجدت كفؤا» . قلت: هذا حديث رواه الترمذي في الصلاة.
وفي " الجنازة " حديث قتيبة حدثنا عبد الله بن وهب، عن سعيد بن عبد الله الجهني، عن محمد بن عمرو بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن علي بن أبي طالب _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - _ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا علي ثلاثة لا تؤخرهما: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤا» .
وقال الترمذي: حديث غريب ولا أرى إسناده متصلا، [و] أخرجه الحاكم في " مستدركه "، وكذلك في كتاب النكاح وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. والمصنف استدل بالحديث الذي ذكره في اعتبار الكفاءة ولم يتعرض لاشتراطها، ولا ذكر الخلاف فيه، والحديث شاهد على اشتراطها.
وقال البيهقي في " المعرفة ": وأصل الكفاءة مستنبط من حديث بريرة، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما خيرها؛ لأن زوجها لم يكن كفؤا لها واستدل ابن الجوزي في " التحقيق ": على اشتراطها بحديث عائشة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - _ أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء» .
قلت: هذا أخرجه ابن ماجه، والحاكم في " مستدركه " من رواية الحارث بن عمر، وعن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - _ قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء وانكحوا لهم» ، وقال الحاكم: تابعه عكرمة بن إبراهيم، عن هشام، ثم رواه كذلك، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد.
روى الحاكم أيضا من حديث نافع، عن ابن عمر _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جاءكم الأكفاء فأنكحوهن ولا تربصوا لهن الحدثان» ، قال العباس بن حمزة أحد رواة الحديث: الحدثان الموت.
م: (ولأن انتظام المصالح) ش: من المسكن والصحبة والألفة والتولد والتناسل وتأسيس القرابات م: (بين المتكافئين عادة) ش: لأن انتظام المصالح لا يكون إلا بهما، بخلاف غير المتكافئين والمتكافئان المتساويان. وقال ابن الأثير: في حديث العقيقة «عن الغلام شاتان متكافئتان»(5/108)
لأن الشريفة تأبى أن تكون مستفرشة للخسيس، فلا بد من اعتبارها بخلاف جانبها، لأن الزوج مستفرش، فلا تغيظه دناءة الفراش.
وإذا زوجت المرأة نفسها من غير كفء فللأولياء أن يفرقوا بينهما دفعا لضرر العار عن أنفسهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي متساويتان، وهو بكسر الفاء، والمحدثون يقولون: متكافئان بالفتح، وأرى الفتح أولى، انتهى. وإنما ذكرت هذا لأجل وقوع هذا اللفظ في الكتاب.
م: (لأن الشريفة) ش: سواء كانت في الحسب أو النسب م: (تأبى أن تكون مستفرشة للخسيس) ش: أي للرجل الخسيس في الحسب والحرفة والمدينة م: (فلا بد من اعتبارها) ش: أي اعتبار الكفاءة، لأن ملك النكاح دل على أن النكاح رق حكما، إليه أشار قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته» ، وإذلال النفس حرام، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس للمؤمن أن يذل نفسه» م: (بخلاف جانبها) ش: أي جانب المرأة.
م: (لأن الزوج مستفرش) ش: بكسر الراء م: (فلا تغيظه دناءة الفراش) ش: فليس فيه إذلال النفس، فإن نسب الولد لا يكون إلى أمه بل يكون إلى أبيه، والولي لا يعتبر بأن يكون تحت الرجل لا يكافئه. وفي " المحيط ": الكفاءة من جانب النساء غير معتبرة عند أبي حنيفة _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وابن حنبل، وعندهما معتبرة استحسانا نص عليه محمد في " الجامع الصغير ". وفي " الذخيرة ": وروى هشام، عن أبي يوسف أنه لو تزوج امرأة على أنها قرشية فظهرت نبطية فله الخيار عنه، وعند أبي حنيفة لا خيار له، وعندهما معتبرة، وروي غير معتبرة، حتى لم يكن للأولياء الاعتراض على الأصل إذا تزوج وضيعة، وفي " المفيد والمزيد " غير معتبرة في ظاهر الرواية وقيل: معتبرة عندهما.
[زوجت المرأة نفسها من غير كفء]
م: (وإذا زوجت المرأة نفسها من غير كفء فللأولياء أن يفرقوا بينهما دفعا لضرر العار عن أنفسهم) ش: أما التفريق فما لم تلد المرأة، وفيه خلاف قد مضى، ولا يبطل حق الولي بالسكوت بعد العلم، وإن طال السكوت، ولا يكون التفريق إلا عند القاضي؛ لأنه مجتهد فيه.
وكل من الخصمين يثبت بدليل، فلا يقطع الخصومة إلا بفعل من له ولاية عليهما كالفسخ بخيار البلوغ، وما لم يفرق القاضي فحكم الطلاق والإرث قائم، وكأن النكاح انعقد صحيحا في ظاهر الرواية. وهذه الفرقة ليست بطلاق، لأنه تفريق على سبيل الفسخ لأجل النكاح، والطلاق تصرف في النكاح ولا مهر لها إن لم يدخل بها فلها المسمى. وأما إذا رضي بعض الأولياء فيسقط حق الباقين، إلا أن يكون الباقي أقرب من الرضا.
وقال أبي يوسف وزفر والشافعي: لا يسقط حق الباقين، لأنه حق الكل فلا يسقط إلا برضا الكل كالدين المشترك إذا أبرئ أحدهم، قلنا: إنه حق واحد، لا يتجزأ؛ لأنه ثبت بسبب(5/109)
ثم الكفاءة تعتبر في النسب لأنه يقع به التفاخر، فقريش بعضهم أكفاء لبعض، والعرب بعضهم أكفاء لبعض، والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «قريش بعضهم أكفاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فكل واحد على الكمال، كولاية الأمان إذا أبطله أحدهم لا يبقى ضرورة لحق القصاص.
[الكفاءة تعتبر في النسب في النكاح]
م: (ثم الكفاءة تعتبر في النسب) ش: وفي " المبسوط ": الكفاءة تعتبر في حق الرجل في النسب، والحرية، والمال، والحرفة، والحسب. وفي " فتاوى الولوالجي ": في التقوى وإسلام الأب والعقل أيضا. وفي " المنهاج ": عند الشافعي تعتبر الكفاءة في سلامة العيوب التي ترد بها، والنسب، والحرية، والعفة، والحرفة، وهي خمس، ومثله عن أحمد، وعنه الدين والمنصب. م: (لأنه) ش: أي لأن النسب م: (يقع به التفاخر) ش: وهذا ظاهر، وكان سفيان الثوري لا يعتبر الكفاءة فيه، لأن الناس سواء كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي، إنما الفضل بالتقوى.
وقال الجوهري: تقول: مررت برجل سواك وسواك وسوائك، أي غيرك وهما في هذا الأمر سواء، وإن شئت ترى أن وهم سواء الجميع، وهم أسواء وهم سواسية، أي أشباه، مثل ثمانية على غير قياس، وزنه أفعاعلة ذهبت منه الحروف الثلاثة، وأصله الباء فقريش أكفاء لبعضهم، يدخل فيه بنو هاشم وبنو المطلب، خلافا للشافعي فيهما، وأحمد في الأول والقرشي من كان من ولد النضر بن كنانة، ومن لم يكن من ولد النضر من العرب فهو غير قرشي.
وقال ابن عباس: سموا بداية في العجز لم يظهر لهاشمي من الدواب إلا أكلته فشبهت قريش بها لأجل القهر والعز والغلبة. وفي " البدائع ": وقريش لجميع العرب كالهاشمي، والمطلبي، والنوفلي، والأموي، والقيسي، والزهري، والتميمي، والعدوي.
وحاصله أن هاشما وعبد شمس والمطلب ونوفلا هم أولاد عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب، فالأربعة أولاد جد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أموي منسوب إلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأبو بكر _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ تميمي منسوب إلى تميم بن مرة بن كعب، وعمر _ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - _ عدوي منسوب إلى عدي بن كعب بن لؤي بن غالب وهؤلاء سادات.
م: (فقريش بعضهم أكفاء لبعض) ش: لصلاحية كل منهم الخلافة، بخلاف العرب غير قريش، ليست كفؤا لقريش لعدم مساواتهم لقريش؛ لأنهم لا يصلحون للخلافة م: (والعرب بعضهم أكفاء لبعض) ش: وليس أكفاء لقريش.
م: (والأصل فيه) ش: أي في هذا الباب م: (قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «قريش بعضهم أكفاء(5/110)
لبعض بطن ببطن، والعرب بعضهم أكفاء لبعض قبيلة بقبيلة، والموالي بعضهم أكفاء لبعض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لبعض بطن ببطن والعرب بعضهم أكفاء لبعض قبيلة بقبيلة، والموالي بعضهم أكفاء لبعض رجل برجل» ش: قال السروجي: لما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «قريش أكفاء» ... " فذكر الحديث ثم قال: إنما ذكرناه بصيغة التمريض، لأني لم أجده في كتب الحديث، وإنما ذكر في كتب الفقه، فلهذا لم أجزم به، انتهى.
قلت: روى الحاكم: حدثنا الأصم، حدثنا الصغاني، حدثنا شجاع بن الوليد، حدثنا بعض إخواننا، عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العرب بعضهم أكفاء لبعض قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، إلا حائك وحجام» .
وقال صاحب " التنقيح ": هذا منقطع إذ لم [يلق] شجاع بن الوليد بعض أصحابه، ورواه أبو يعلى في " مسنده " من حديث بقية بن الوليد، عن زرعة بن عبد الله الزهري، عن عمران بن أبي الفضل الأيلي، عن نافع عن ابن عمر نحوه مرفوعا مسندا. وقال ابن عبد البر: هذا حديث منكر موضوع، وقد روى شريح عن ابن أبي مليكة عن ابن عمر مرفوعا مثله، ولا يصح حديث شريح.
ورواه ابن حبان في كتاب " الضعفاء " وأعله بعمران بن أبي الفضل، وقال: إنه يروي الموضوعات عن الأثبات، لا يحل كتب حديثه، قوله: قبيلة بقبيلة _ قال الكاكي: أي وليس بعض القبائل من قريش أولى من بعضهم، وقال الزبير بن بكار: العرب ست طبقات: شعب، وقبيلة، وعمارة، وبطن، وفخذ، وفصيلة.
فالشعب يجمع العمارة، والعمارة تجمع البطن، والبطن تجمع الأفخاذ، والأفخاذ تجمع الفصائل، فمضر شعب، وربيعة شعب، ومدلج شعب، وحمير شعب وسميش شعب. والقبائل تتشعب فكنانة قبيلة، وقريش عمارة وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة.
وقال تاج الشريعة: العرب بعضهم أكفاء لبعض قبيلة بقبيلة لا اعتبار لفضل بعض القبائل على بعض في حق الكفاءة إلا بنو باهلة؛ فإنهم ليسوا بكفء لغيرهم من العرب لخساستهم(5/111)
رجل برجل» .
ولا يعتبر التفاضل فيما بين قريش لما روينا. وعن محمد _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ كذلك إلا أن يكون نسبا مشهورا كأهل بيت الخلافة، كأنه قال: تعظيما للخلافة، وتسكينا للفتنة، وبنو باهلة ليسوا بأكفاء لعامة العرب؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ودناءتهم. حكي أنهم كانوا يستخرجون النقي من عظام الموتى ويأكلون. قلت: النقي بكسر النون، وسكون القاف مخ العظم وشحم العين من الشمس، والجمع النقا.
قوله: _ والموالي أكفاء لبعض قال الكاكي: الموالي أي غير العرب، وسموا الموالي لأنهم نصروا العرب، وسمي الناصر مولى قول الله تعالى: {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] (محمد: الآية 11) أي لا ناصر لهم.
ولأن قلاعهم فتحت على أيدي العرب وكانوا بسبيل من استرقاقهم، فكأنهم كانوا عبيدهم، ثم عتقوا بالمن عليهم، فكانوا موالي العرب، وقال تاج الشريعة: الموالي يعني العجم، سموا بها، لأن بلادهم فتحت عنوة على أيدي العرب، ثم ذكر مثل الذي ذكرنا الآن. وقال الأكمل: الموالي العتق، لما كانت غير عرب في الأكثر غلبت إلى العجم حين قال الموالي: أكفاء بعضها لبعض.
قوله: م: (رجل برجل) ش: إشارة إلى أن السبب لا يعتبر فيهم، قال القفال وأبو عاصم من أصحاب الشافعي: فإنهم ضيعوا أنسابهم، فلا يكون التفاخر بينهم بالنسب، بل بالدين، كما أشار إليه سلمان الفارسي حين افتخرت الصحابة بالأنساب، وانتهى الأمر إليه، فقيل: سلمان ممن؟. فقال: أبي الإسلام لا أب لي سواه، والأصح من مذهب الشافعي اعتبار نسب العرب كالعجم، والعجمي ليس كفؤا لعربية، والعربي غير القرشي غير كفء لقرشية.
[التفاضل فيما بين قريش في الكفاءة في النكاح]
م: (ولا يعتبر التفاضل فيما بين قريش) ش: يعني النسب، لأنهم ضيعوا أنسابهم، ولا يفتخرون بالأنساب، وإنما افتخارهم بالإسلام والجزية فيصير ذلك فيما بينهم م: (لما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قريش بعضهم أكفاء لبعض» .
م: (وعن محمد كذلك إلا أن يكون نسبا مشهورا) ش: في الحرية م: (كأهل بيت الخلافة) ش: فحينئذ يعتبر التفاضل، حتى لو تزوجت قرشية من أولاد الخلفاء قرشيا من أولادهم كان للأولياء الاعتراض.
م: (كأنه قال) ش: هذا كلام المصنف، أي كأن محمدا قال ذلك م: (تعظيما للخلافة وتسكينا للفتنة) ش: لانعدام أصل الكفاءة، وفي " خزانة الأكمل ": وقريش بعضهم أكفاء لبعض، إلا من كان من بيت الشرف كالخلافة.
م: (وبنو باهلة ليسوا بأكفاء لعامة العرب) ش: الباهلة: قبيلة من قيس بن غيلان، وهو في(5/112)
لأنهم معروفون بالخساسة. وأما الموالي فمن كان له أبوان في الإسلام فصاعدا فهو من الأكفاء، يعني لمن له آباء فيه.
ومن أسلم بنفسه، أو له أب واحد في الإسلام لا يكون كفؤا لمن له أبوان في الإسلام لأن تمام النسب بالأب والجد. وأبو يوسف _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ ألحق الواحد بالمثنى، كما هو مذهبه في التعريف. ومن أسلم بنفسه لا يكون كفؤا لمن له أب واحد في الإسلام؛ لأن التفاخر فيما بين الموالي بالإسلام،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأصل اسم امرأة من همدان، والتأنيث للقبيلة سواء كان في الأصل اسم رجل أو اسم امرأة وهم معروفون بالدناءة، وهو معنى قوله م: (لأنهم معروفون بالخساسة) ش: أي بالدناءة، والخسيس الدنيء، والخسيسة والخساسة الحالة التي يكون عليها الخسيس، ومن خساستهم أنهم كانوا يأكلون بقية العظام [ ... ] ، وكانوا يطبخون عظام الموتى، فيأخذون الدسومات منها، قال قائلهم: ولا ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهلة، ومن دناءتهم أنهم كان لهم صنم من عجوة، فوقع الغلاء فيهم فأكلوه، وكانت العرب يعيرونهم ويقولون: بنو باهلة أكلوا آلهتهم.
م: (وأما الموالي فمن كان له أبوان في الإسلام فصاعدا) ش: نصب على الحال من أبوان أي [ ... ] إلى حالة الصعود على اثنين. م: (فهو من الأكفاء يعني لمن له آباء فيه) ش: وفسر قوله: م: (آباء فيه) ش: أي في الإسلام، حاصله من كان له أبوان في الإسلام فله نسب صحيح يكون كفؤا لمن له عشيرة أبا أو أكثر.
[من كان له أب واحد في الإسلام يكون كفؤا لمن له أبوان فيه]
م: (ومن أسلم بنفسه أو له أب واحد في الإسلام لا يكون كفؤا لمن له أبوان في الإسلام، لأن تمام النسبة بالأب والجد. وأبو يوسف ألحق الواحد بالمثنى) ش: يعني من كان له أب واحد في الإسلام يكون كفؤا لمن له أبوان فيه.
وفي " المبسوط ": وعن أبي يوسف الأكفاء بالأب، والصحيح ظاهر الرواية، والمذكور في الكتاب رواية عنه م: (كما هو مذهبه) ش: أي مذهب أبي يوسف م: (في التعريف) ش: أي في تعريف الشخص في الشهادة، كان الشهود إذا ذكروا اسم الغائب واسم أبيه يحصل به التعريف عند أبي يوسف.
ولا حاجة إلى ذكر الجد وبه قال بعض أصحاب الشافعي، وعنده لا بد من ذكر الجد، وقال السروجي: هذا إذا كان الولد صغيرا، لا يشاركه أحد في اسمه، أما إذا كان هناك من يشاركه في اسمه واسم أبيه وجده لا يكتفى بذلك حتى يذكر ما يميزه عنه.
م: (ومن أسلم بنفسه لا يكون كفؤا لمن له أب واحد في الإسلام) ش: وبه قال الشافعي م: (لأن التفاخر فيما بين الموالي بالإسلام) ش: نقل صاحب " النهاية " عن الإمام المحبوبي أن هذا في الموالي. فأما في العرب فإن من لا أب له في الإسلام من العرب وهو مسلم فهو كفء لمن له أب(5/113)
والكفاءة في الحرية نظيرها في الإسلام في جميع ما ذكرنا؛ لأن الرق أثر للكفر، وفيه معنى الذل فيعتبر في معنى الكفاءة. قال: وتعتبر أيضا في الدين أي الديانة، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف _ رحمهما الله _، وهو الصحيح، لأنه من أعلى المفاخر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في الإسلام؛ أن العرب يتفاخرون بالنسب، فيعدون بالنسب كفؤا لنسب آخر إذا كانا مسلمين، وأما العجم فقد ضيعوا أنسابهم وتفاخرهم بالإسلام، فمن كان له أهل في الإسلام يفتخر على من لا أهل له في الإسلام ولا يعد كفؤا له.
[الكفاءة في الحرية في النكاح]
م: (والكفاءة في الحرية نظيرها في الإسلام في جميع ما ذكرنا) ش: من الوفاق والخلاف، يعني الكفاءة في الحرية معتبرة بإجماع الفقهاء، حتى لا يكون العبد كفؤا لحرية الأصل، وكذا المعتق لا يكون كفؤا لحرية أصلية. والمعتق لا يكون كفؤا لمن له أبوان في الحرية م: (لأن الرق أثر للكفر، وفيه معنى الذل، فيعتبر فيه معنى الكفاءة) ش: وعن أبي يوسف: أن الذي أسلم بنفسه أو أعتق أو حرز من الفضائل ما يقابل نسب الآخر كان كفؤا له.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير ": م: (وتعتبر أيضا) ش: أي تعتبر الكفاءة أيضا م: (في الدين) ش: وفسره بقوله: م: (أي في الديانة) ش: وهو التقوى والصلاح والحسب وهو مكارم الأخلاق. وإنما فسره بهذا لأن مطلق الدين في الإسلام، ولا كلام لأجل أن إسلام الزوج شرطه جواز نكاح المسلمة، إنما الكلام في حق الاعتراض للأولياء بعد إنفاذ العقد وذلك لا يكون إلا في الدين بمعنى الديانة م: (وهذا) ش: أي اعتبار الكفاءة في الديانة م: (قول أبي حنيفة وأبي يوسف) ش: وبه قال الشافعي ومالك، فإن مالكا يعتبر الكفاءة في الدين وحده. ونقل هكذا عن الشافعي وأحمد في رواية: لا يعتبر إلا في الدين والنسب، والأصح عن أحمد مثل مذهب الشافعي، حتى لو نكحت امرأة من بنات الصالحين فاسقا، كان للأولياء حق الرد م: (وهو الصحيح) ش: احترازا عما روي عن أبي حنيفة: أن الكفاءة في التقوى والحسب غير معتبرة، ذكره في " المحيط "، وعما روي عن أبي يوسف: أنها غير معتبرة في التقوى، ومعتبرة في الحسب والنسب ومكارم الأخلاق، كذا في " المحيط ". وذكر المحبوبي محيلا إلى صدر الإسلام أن الحسب هو الذي له جاه وحرمة وحشمة لا يكون كفؤا للخسيس الذي لا جاه له.
وفي " جامع قاضي خان ": الحسب كفء للنسب، حتى إن الفقيه كفء للعلوي؛ لأن شرف العلم فوق شرف النسب، وكذا الفقيه الفقير كفء للغني الجاهل والعالم العجمي كفء للعربي الجاهل والعربية. وقيل: الأصح أنه لا يكون كفؤا للعربية؛ م: (لأنه) ش: أي لأن الدين م: (من أعلى المفاخر) ش: قول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] (الحجرات: الآية 13) .(5/114)
والمرأة تعير بفسق الزوج فوق ما تعير بضعة نسبه. وقال محمد _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _: لا تعتبر؛ لأنه من أمور الآخرة فلا تبتنى أحكام الدنيا عليه إلا إذا كان يصفع ويسخر منه، أو يخرج إلى الأسواق سكران ويلعب مع الصبيان؛ لأنه مستحق به.
قال: وتعتبر في المال وهو أن يكون مالكا للمهر والنفقة وهذا هو المعتبر في ظاهر الرواية، حتى إن من لا يملكهما أو لا يملك أحدهما لا يكون كفؤا، لأن المهر بدل البضع، فلا بد من إيفائه وبالنفقة قوام الازدواج ودوامه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والمرأة تعير بفسق الزوج فوق ما تعير بضعة نسبه) ش: بفتح الضاد المعجمة والعين المهملة وأصله وضعة، والهاء عوض عن الواو، يقال في حسبه ضعة وضعة بكسر الضاد أيضا، ومنه الوضيع وهو الدنيء من الناس، والمعنى: المرأة يعيرها الناس بفسق زوجها بأكثر ما تعير بزيادة نسب زوجها.
م: (وقال محمد: لا تعتبر) ش: أي الكفاءة في الدين م: (لأنه) ش: أي لأن الدين م: (من أمور الآخرة فلا تبتنى أحكام الدنيا عليه، إلا إذا كان يصفع) ش: أي إلا إذا كان الزوج يصفع على صيغة المجهول.
قال الجوهري: الصفع كلمة مركبة، والرجل صفعان، وقال غيره: يصفع، يضرب على قفاه م: (أو يسخر منه) ش: أي الزوج، أي يستهزأ به، ومنه المتمسخر م: (أو يخرج) ش: أي الزوج م: (إلى الأسواق) ش: حال كونه م: (سكران ويلعب مع الصبيان، لأنه مستحق به) ش: أي بذلك الصنع.
وفي " المحيط ": وعليه الفتوى، وعن أبي يوسف أنه قال: الذي يشرب المسكر، فإن كان مسكرا ولا يخرج سكرانا فهو كفء، وإن كان يعلن ذلك لم يكن كفؤا لامرأة صالحة من أهل البيوتات، ولم ينقل عن أبي حنيفة في ذلك شيء. والصحيح عنده أنه غير معتبر؛ لأن هذا ليس بلازم يمكن تركه. وفي " الفتاوى الظهيرية ": لو تزوج وهو كفء، ثم صار فاسقا لا يفسخ النكاح، لأن اعتبار الكفاءة وقت النكاح لا استمرارها بعد النكاح. وفي " الحاوي " ذكر شيخ الإسلام: أن الفاسق لا يكون كفؤا للعدل عند أبي حنيفة، وإن لم يعلن الفسق.
[الكفاءة في المال في النكاح]
م: (وتعتبر) ش: أي الكفاءة م: (في المال وهو) ش: أي الاعتبار في المال م: (أن يكون مالكا للمهر والنفقة) ش: يتناول الكسوة، لأنهما مما ينفق على الزوجة م: (وهذا) ش: أي كونه مالكا للمهر والنفقة م: (هو المعتبر في ظاهر الرواية، حتى إن من لم يملكهما) ش: أي المهر والنفقة.
م: (أو لا يملك أحدهما لا يكون كفؤا لأن المهر بدل البضع، فلا بد من إيفائه وبالنفقة قوام الازدواج ودوامه) ش: فلا بد من ذلك، وقيل: إن كان الرجل ذا جاه كالسلطان والعالم فهو كفء وإن لم يملك النفقة.(5/115)
والمراد بالمهر قدر ما تعارفوا تعجيله، لأن ما وراءه مؤجل عرفا. وعن أبي يوسف _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ أنه اعتبر القدرة على النفقة دون المهر؛ لأنه تجري المساهلة في المهر، ويعد المرء قادر عليه بيسار أبيه. فأما الكفاءة في الغني فمعتبرة في قول أبي حنيفة ومحمد _ رحمهما الله _ حتى إن الفائقة في اليسار لا يكافئها القادر على المهر والنفقة؛ لأن الناس يتفاخرون بالغنى ويتعيرون بالفقر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الذخيرة ": إن قدر على نفقتها بالتكسب ولم يقدر على المهر، اختلفوا فيه، وأكثرهم على أنه لا يكون كفؤا، وذكر هشام عن أبي يوسف أنه يكون كفؤا وكذا روى عن محمد. وفي " جوامع الفقه ": ومن قدر على المهر والنفقة شهرا فهو كفء.
م: (والمراد بالمهر قدر ما تعارفوا تعجيله، لأن ما وراءه مؤجل عرفا) ش: أي من حيث العرف، وليس بمطالب به، فلا تسقط الكفاءة كذا في " المجتبى ".
قلت: وفي عرف أهل خوارزم كله يؤجل فلا يعتبر القدرة عليه بيسار أبيه، لأن الآباء لا يتحملون المهور عن الأولاد دون النفقة الدارة.
م: (وعن أبي يوسف أنه اعتبر القدرة على النفقة دون المهر) ش: هذا غير ظاهر الرواية، وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف أنه قال: الكفء الذي يقدر على المهر والنفقة فإن كان يملك المهر دون النفقة قال: ليس بكفء. قلت: فإن ملك النفقة دون المهر قال: يكون كفؤا، وعن أبي حنيفة، ومحمد، وبعض أصحاب الشافعي مثل قول أبي يوسف.
وفي " جامع شمس الأئمة ": المعتبر نفقة سنة، وقيل نفقة شهرين. وفي " المحيط ": إذا صلحت للجماع وإلا فلا تعتبر القدرة على النفقة كالصغيرة جدا، والصبي كفء أبيه وهو الصحيح. ولو كان له ألف درهم دين وزوج امرأة بألف فهو كفء لها في قول أبي حنيفة ومحمد، وبه قال بعض الشافعية في الأظهر. م: (لأنه تجري المساهلة في المهور) ش: أي لأن اليسار يجري التسهيل والتأجيل في المهر م: (ويعد المرء قادرا عليه) ش: أي على المهر م: (بيسار أبيه) ش: ولا يعد قادرا على النفقة بيسار الأب، وفي " الذخيرة ": إذا كان يجد نفقتها، ولا يجد نفقة نفسه فهو كفء، وفي " منية المفتي " من لم يملك النفقة فلا يكون كفؤا موسرة كانت المرأة أو فقيرة م: (وأما الكفاءة في الغني فمعتبرة عند أبي حنيفة ومحمد) ش: وفي أكثر النسخ، وفي قول أبي حنيفة ومحمد، وبه قال بعض الشافعية م: (حتى إن الفائقة) ش: أي المرأة الفائقة.
م: (في اليسار لا يكافئها القادر على المهر والنفقة لأن الناس يتفاخرون بالغنى ويتعيرون بالفقر) ش: وهذا القول مذكور عنهما في غير رواية الأصل، وفي كتاب " النكاح ": لا يشترط إلا القدرة على المهر والنفقة.
وقال الإمام السرخسي في " مبسوطه " وصاحب " الذخيرة ":، والأصح أن ذلك لا يعتبر؛(5/116)
وقال أبو يوسف _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ لا يعتبر؛ لأنه لا ثبات له إذ المال غاد ورائح، ويتتبر في الصنائع، وهذا عند أبي يوسف ومحمد _ رحمهما الله _ وعن أبي حنيفة في ذلك روايتان
وعن أبي يوسف أنه لا يعتبر في النكاح إلا أن يفحش كالحجام والحائك والدباغ والكناس،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن كثرة المال مذمومة في الأصل، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هلك المكثرون إلا من قال بملكه هكذا وهكذا» أي تصدق به.
م: (وقال أبو يوسف: لا يعتبر؛ لأنه لا ثبات له) ش: أي لأن الغني لا ثبات له م: (إذ المال غاد ورائح) ش: أي لأن المال لا يستمر في يد شخص؛ لأنه يروح ويأتي، وكم من شخص يمسي غنيا، ويصبح فقيرا، وبالعكس.
م: (وتعتبر) ش: أي الكفاءة م: (في الصنائع) ش: أي الحرف م: (وهذا) ش: أي اعتبار الكفاءة م: (عند أبي يوسف ومحمد) ش: هكذا في أكثر النسخ، وهكذا أورد شيخ الإسلام خواهر زاده ذكر فخر الإسلام أن هذا قول أبي حنيفة ومحمد، وبه قال السغناقي، والشافعي، حتى لا يكون الحجام والكناس والدباغ كفؤا للبزاز والعطار، أما العطار فهو كفء للبزاز.
م: (وعن أبي حنيفة في ذلك) ش: أي في اعتبار الكفاءة في الصنائع م: (روايتان) ش: أظهرهما أنه لا يعتبر حتى لا يكون العطار كفؤا للعطار، وهو رواية عن محمد، وعنه في رواية: الموالي بعضهم أكفاء بعض إلا الحائك والحجام.
م: (وعن أبي يوسف أنه) ش: أي الكفء م: (لا يعتبر في النكاح إلا أن يفحش كالحجام والحائك والدباغ والكناس) ش: وفي " الغاية ": الكناس، والحجام، والدباغ، والحارس، والسايس، والراعي، ويقيم أي البلان في الحمار ليس كفؤا لبنت الخياط ولا الخياط لبنت البزاز والتاجر ولا هما لبنت العالم والقاضي، [و] الحائك ليس بكفء لبنت الدهقان وإن كانت فقيرة. وقيل: هو كفء،
[الكفاءة في العقل في النكاح]
وأما الكفاءة في العقل، وقد قال في " المحيط " و " المبسوط ": لا رواية فيها عن المتقدمين من أصحابنا، ثم قيل: تعتبر، فلا يكون المجنون كفؤا للعاقل، لأن الجنون يفوت مقاصد النكاح، فهذا أشد من الفقر، ودناءة الحرفة، وقيل: لا تعتبر، لأن الجنون بمنزلة(5/117)
وجه الاعتبار أن الناس يتفاخرون بشرف الحرف ويتعيرون بدناءتها. وجه القول الآخر أن الحرفة ليست بلازمة، ويمكن التحول عن الخسيسة إلى النفيسة منها. قال: وإذا تزوجت المرأة ونقصت عن مهر مثلها فللأولياء الاعتراض عليها عند أبي حنيفة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ حتى يتم لها مهر مثلها أو يفارقها، وقالا: ليس لهم ذلك، وهذا الوضع إنما يصح على قول محمد _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ على اعتبار قوله المرجوع إليه في النكاح بغير الولي، وقد صح ذلك وهذه شهادة صادقة عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المرض، وسائر الأمراض لا تثبت الكفاءة، وكذا الجنون.
وفي " المرغيناني ": لا يكون المجنون كفؤا للعاقلة، وعند بقية الأئمة هو من العيوب التي يفسخ النكاح بها. وفي " المحيط " وغيره: وهنا جنس خامس أخس من الكل، وهو الذي يخدم الظلمة أي يدعى: شاكردا.
قلت: وفي مصر جنس سادس أخس من كل جنس، وهم الطائفة الذين يسمون السرابانية وأنهم ينظفون الحيض وبيوت الخلاء، وينظفون أوساخ الناس.
م: (وجه الاعتبار) ش: أي اعتبار الكفاءة في الصنائع م: (أن الناس يتفاخرون بشرف الحرف ويتعيرون بدناءتها) ش: أي دناءة الحرف، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الناس أكفاء إلا الحائك والحجام» ، كذا ذكره الكاكي، والله أعلم بصحته.
م: (وجه القول الآخر) ش: وهو عدم الاعتبار م: (أن الحرفة ليست بلازمة) ش: لا تنفك من الرجل م: (ويمكن التحول عن الخسيسة) ش: أي عن الحرفة الخسيسة م: (إلى النفيسة) ش: أي إلى الحرفة الشريفة م: (منها) ش: أي من الحرف بخلاف النسب؛ لأنه صفة لازمة، والفقر كذلك لا يفارقه عادة.
م: (قال: وإذا تزوجت المرأة ونقصت عن مهر مثلها) ش: أي بما لا يتغابن الناس في مثله م: (فللأولياء الاعتراض عليها _ عند أبي حنيفة _، حتى يتم لها مثلها أو يفارقها) ش: ولا تكون الفرقة طلاقا، لأنها ما وقعت من قبل الزوج، ولا يكون لها المهر إن كانت الفرقة قبل الدخول وبعده لها المسمى.
م: (وقالا: ليس لهم ذلك) ش: أي الاعتراض م: (وهذا الوضع) ش: أي وضع القدوري _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ هذه المسألة على هذا الوجه م: (إنما يصح على قول محمد، على اعتبار قوله المرجوع إليه في النكاح بغير الولي وقد صح ذلك) ش: أي الرجوع م: (وهذه) ش: أي المسألة م: (شهادة صادقة عليه) ش: أي على رجوع محمد إلى قولهما في النكاح بغير ولي، فإنه لو لم يصح نكاحها بغير الولي لم يقل: ليس لهم الاعتراض.
وقال الأكمل: أقول: هذا إنما يستقيم إن يعين هذا الوضع في النكاح بغير ولي وليس(5/118)
لهما أن ما زاد على العشرة حقها، ومن أسقط حقه لا يعترض عليه، كما بعد التسمية. ولأبي حنيفة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ أن الأولياء يفتخرون بغلاء المهور ويتعيرون بنقصانها فأشبه الكفاءة، بخلاف الإبراء بعد التسمية؛ لأنه لا يتعير به.
وإذا زوج الأب ابنته الصغيرة ونقص من مهرها أو ابنه الصغير، وزاد في مهر امرأته جاز ذلك عليهما، ولا يجوز ذلك لغير الأب والجد، وهذا عند أبي حنيفة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _، وقالا: لا يجوز الحط والزيادة إلا بما يتغابن الناس فيه، ومعنى هذا الكلام أنه لا يجوز العقد عندهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كذلك، فإنه لو أذن لها الولي بالزواج ولم يسم مهرا فقدت على هذا الوجه صح وضع المسألة على قول محمد الأول، وكذلك لو أكره السلطان امرأة ووليها على تزويجها بمهر قليل ففعل، ثم زال الإكراه ورضيت المرأة دون الولي ليس له ذلك في قول محمد الأول، فلم يكن هذا في هذا الموضع دلالة على رجوع محمد إلى قولهما، انتهى.
قلت: هذا كله خلاصة ما قاله صاحب " النهاية " وغيره، وقال صاحب " الأسرار ": تأويل المسألة فيما إذا أكرهت المرأة والولي على أن يزوجها بأقل من مهر مثلها، ثم زال الإكراه ورضيت، ويأبى الولي، فليس له ذلك عندهما، ثم قال: أو طلبت من الولي التزويج بأقل من مهر مثلها لم يجبر الولي.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن ما زاد على العشرة حقها) ش: لأنها تملك إسقاطه وإثباته م: (ومن أسقط حقه لا يعترض عليه كما بعد التسمية) ش: يعني لو أبرأت بعد تسمية المهر لا يكون للولي الاعتراض، لأنه بدل بضعها، فلها التصرف فيه كيف شاءت.
م: (ولأبي حنيفة أن الأولياء يفتخرون بغلاء المهور ويتعيرون بنقصانها فأشبه الكفاءة) ش: أي في التعيير، فلم الاعتراض؟ م: (بخلاف الإبراء بعد التسمية) ش: جواب عن قولهما: بعد التسمية م: (لأنه لا يتعير به) ش: لأنه إبراء وهبة، وهذا من باب المروءة، فليس لهم اعتراض، وعند الشافعي ومالك وأحمد: لا يتصور الخلاف في هذه المسألة لانتفاء جواز النكاح بدون الولي عندهم.
[زوج الأب ابنته الصغيرة ونقص من مهرها]
م: (وإذا زوج الأب ابنته الصغيرة ونقص من مهرها أو ابنه الصغير) ش: أي زوج ابنه الصغير م: (وزاد في مهر امرأته جاز ذلك عليهما) ش: أي جاز النقصان على الصغير، والزيادة على الصغير عليهما، أي على الصغير والصغيرة م: (ولا يجوز ذلك لغير الأب والجد، وهذا) ش: أي جواز الزيادة والنقصان م: (عند أبي حنيفة) ش: وبه قال مالك وأحمد في الأب.
م: (وقالا: لا يجوز الحط والزيادة إلا بما يتغابن الناس فيه) ش: وبه قال الشافعي والظاهرية، فعندهم لا يجوز إلا بمهر المثل، وتكميل النقص يسقط الزيادة م: (ومعنى هذا الكلام) ش: أي كلام الصاحبين م: (أنه لا يجوز العقد عندهما) ش: إنما قال ذلك لأن عند بعض أصحابنا أصل(5/119)
لأن الولاية مقيدة بشرط النظر، فعند فواته يبطل العقد، وهذا لأن الحط عن مهر المثل ليس من النظر في شيء، كما في البيع، ولهذا لم يملك ذلك غيرهما. ولأبي حنيفة _ - رَحِمَهُ اللَّهُ - _ أن الحكم يدار على دليل النظر، وهو قرب القرابة، وفي النكاح مقاصد تربو على المهر أما المالية هي المقصودة في التصرف المالي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النكاح صحيح , ولا يجوز الحط والزيادة، وبه قال الشافعي، وترد إلى مهر المثل؛ لأن المانع من قبل المسمى، وفساده لا يمنع صحة النكاح، كما لو كان المسمى خمرا؛ لأنه ذكر في الكتاب، لا يجوز عندهما مطلقا، فحمله البعض على ذلك والأصح أن النكاح باطل عندهما، كما في غير الأب والجد م (لأن الولاية مقيدة بشرط النظر فعند فواته) ش: بعد فوات النظر م: (يبطل العقد) ش: من الأصل، كالمأمور بالعقد بشرط يبطل عقده إذا عدم الشرط.
م: (وهذا) ش: أي بطلان العقد م: (لأن الحط عن مهر المثل ليس من النظر في شيء، كما في البيع) ش: يعني إذا باع بأقل من قيمته، وكان بحيث لا يتغابن الناس في مثله فإذا لا يجوز العقد م: (ولهذا) ش: أي ولأجل قيد الولاية بالنظر م: (لم يملك ذلك) ش: أي المذكور من حط مهر المثل والزيادة عليه م: (غيرهما) ش: أي غير الأب والجد بالاتفاق.
م: (ولأبي حنيفة أن الحكم يضار على دليل النظر) ش: والنظر والضرر في هذا العقد باطنا، لكن النظر دليل عليه م: (وهو قرب القرابة) ش: الداعية إليه وهو موجود ها هنا فيترتب عليه الحكم وهو جواز النكاح م: (وفي النكاح مقاصد) ش: تقرير هذا الكلام أن المقصود من النفقة ليس حصول المال البتة؛ لأن في النكاح مقاصد سوى المال الذي هو المهر م: (تربو) ش: أي تزيد م: (على المهر) ش: من الكمالات المطلوبة في الإحسان [ ... ] .
والظاهر أنه قصر في الصداق لتوفير سائر المقاصد، التي هي أنفع لها من الصداق، فإنه يدل على اشتماله على المصلحة، فصار كالوصي إذا مانع بمال اليتيم جاز وتلك بحصول النظر وإن كان في الظاهر إتلاف مال اليتيم، وكان تصرف الأب في هذا واقعا بشرط النظر حتى إذا علم سوء الاختيار منه بخيانة أو فسق كان عنده باطلا وقد روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - على صداق خمسمائة زوجها أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وزوج فاطمة من علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عن صداق أربعمائة درهم، ومعلوم أن ذلك لم يكن صداق مثلهما؛ لأنهما مجمع الفضائل فلا صداق في الدنيا يزيد على هذا المقدار م: (أما المالية هي المقصودة في التصرف المالي) ش: هذا جواب عن قولهما: كما في البيع، تقريره قياسهما على البيع غير صحيح؛ لأن المالية هي المقصودة في التصرفات المالية، فإذا فسد لم يكن شيء في مقابلتها يجبر به خلل الغبن الفاحش، فلهذا يثبت الاعتراض.(5/120)
الدليل عدمناه في حق غيرهما.
ومن زوج ابنته وهي صغيرة عبدا، أو زوج ابنه وهو صغير أمة فهو جائز. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا، لأن الإعراض عن الكفاءة لمصلحة تفوقها، وعندهما هو ضرر ظاهر لعدم الكفاءة، فلا يجوز، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المجتبى " قيل: لا يجوز بيع الأب مال ابنه الصغير بغبن فاحش، فلا يجوز النكاح بالطريق الأولى، وبه قال الشافعي في الأصح وأحمد، وفي قول مثل قول أبي حنيفة لكن لها الخيار إذا بلغت، أما لو زوج ابنه الصغير بأمة لا يجوز عند الشافعي ومالك وأحمد؛ لعدم خوف العنت، ولو زوج ابنه الصغير لا يثبت المهر في ذمة الأب، بل يثبت في ذمة الابن عندنا سواء كان الأب موسرا أو معسرا، وبه قال الثوري والأوزاعي وأحمد.
وقال الشافعي: يثبت في ذمة الأب، وبه قال حماد شيخ أبي حنيفة، وقال مالك والليث: في الابن المعسر على الأب، وهو رواية عن أحمد.
م: (الدليل عدمناه في حق غيرهما) ش: هذا جواب عن قولهما: فلهذا لا يملك ذلك غيرهما، وأراد بالدليل وفور الشفقة، وتقريره أن الدليل الدال على النظر معدوم في حق غير الأب والجد، فلذلك لا يجوز لغيرهما. وقوله: والدليل، مرفوع على الابتداء أو خبره قوله: عدمناه ويجوز أن يكون والدليل منصوبا بفعل مقدر يفسره الظاهر تقديره وعدمنا الدليل، فهذا حتى لا يجتمع المفسر والمفسر.
[زوج ابنته وهي صغيرة عبدا]
م: (ومن زوج ابنته وهي صغيرة عبدا، أو زوج ابنه وهو صغير أمة فهو جائز) ش: الواو في وهي صغيرة للحال، وكذا الواو في قوله: وهو صغير، وعند الشافعي ومالك وأحمد لا يجوز له تزويج ابنه الصغير أمة لعدمية خوف العنت على أصلهم، فلا تتزوج المعيبة على المذهب، ويجوز له تزويج من لا يكافئه في الخصال على الأصح، ذكره في " المنهاج " وفيه: لو زوجها السلطان من غير كفء وليس لها ولي لم يصح في الأصح.
م: (قال) ش: المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وهذا عند أبي حنيفة) ش: أي الجواز عند أبي حنيفة م: (أيضا، لأن الإعراض عن الكفاءة لمصلحة تفوقها) ش: أي لمصلحة تفوق نفعها، وقدره الأب بفوات الكفاءة فلا اعتراض حينئذ في ذلك م: (وعندهما هو ضرر ظاهر لعدم الكفاءة فلا يجوز) ش: والتعليل من الجانبين نظير التعليل من المسألة السابقة فافهم.(5/121)
فصل في الوكالة بالنكاح وغيرها ويجوز لابن العم أن يزوج بنت عمه من نفسه، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز. وإذا أذنت المرأة للرجل أن يزوجها من نفسه، فعقد بحضرة شاهدين جاز، وقال زفر والشافعي: - رحمهما الله -: لا يجوز. لهما أن الواحد لا يتصور أن يكون مملكا ومتملكا، كما في البيع، إلا أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: في الولي ضرورة؛ لأنه لا يتولاه سواه، ولا ضرورة في الوكيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الوكالة بالنكاح وغيرها]
م: (فصل في الوكالة بالنكاح وغيرهما) ش: أي: هذا فصل في بيان حكم الوكالة بالنكاح وغيرها، أي غير الوكالة كنكاح الفضولي والولي، لأن هذا الفصل يشتمل على أحكام الوكيل والفضولي والولي، ولو كانت الوكالة فرعا من الولاية من حيث إن تصرف الوكيل ينفذ على الموكل كتصرف الولي على المولى عليه، ناسب ذكرها في باب الأولياء في فصل على حدة.
م: (ويجوز لابن العم أن يزوج بنت عمه من نفسه) ش: أي بنت عمه الصغيرة بغير إذنها، والبالغة بإذنها صورته أن يقول: اشهدوا أني زوجت بنت عمي فلانة بنت فلان بن فلان من نفسي، وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد، والثوري، وأبو ثور، والظاهرية. وقال السروجي: وإليه ذهب الحسن البصري ومحمد بن سيرين، وإسحاق، واختاره أبو بكر بن المنذر م: (وقال زفر: لا يجوز) ش: وبه قال الشافعي.
م: (وإذا أذنت المرأة للرجل أن يزوجها من نفسه، فعقد بحضرة شاهدين جاز) ش: أي ذلك عندنا م: (وقال زفر والشافعي: لا يجوز) ش: وقال أحمد: يرد أمرها إلى غيره ليزوجها، وقال قتادة وابن العذري: يزوجها منه ابن عم هو أبعد منه، وهكذا الخلاف في الوكيل إذا زوجها من نفسه، وقال الشافعي: لا يجوز ذلك أي إلا في أحد الوجهين.
م: (لهما) ش: أي لزفر، والشافعي، إنما جمع بين دليل زفر والشافعي لاشتراكهما في معنى وهو م: (أن الواحد لا يتصور أن يكون مملكا ومتملكا) ش: بشيء واحد في زمن واحد م: (كما في البيع) ش: يعني يوكل المشتري البائع بأن يبيع سلعة من نفسه، لا تصح هذه الوكالة، ولا هذا البيع، أو وكل زيد رجل مثلا بشراء شيء بعينه، ووكل صاحب العين ذلك الرجل أيضا بأن يبيعه من زيد لا يجوز، كما أن الواحد يصير مملكا ومتملكا.
م: (إلا أن الشافعي يقول) ش: أشار بالاستثناء إلى أن دليل الشافعي وزفر وإن كان مشتركا في المعنى المذكور ولكنه استثنى الولي؛ لأن مذهبه فيه كمذهبنا حيث يقول: م: (في الولي ضرورة، لأنه لا يتولاه سواه) ش: أي لأن العقد لا يتولاه سوى الولي؛ لأن عبارة النساء غير صحيحة عنده م: (ولا ضرورة في الوكيل) ش: ولأن في تقييد العقد بعبارة الولي ضرورة ولا(5/122)
ولنا أن الوكيل في النكاح معبر وسفير، والتمانع في الحقوق دون التعبير، ولا ترجع الحقوق إليه بخلاف البيع؛ لأنه مباشر حتى رجعت الحقوق إليه. وإذا تولى طرفيه فقوله: زوجت يتضمن الشطرين، فلا يحتاج إلى القبول.
قال: وتزويج العبد والأمة بغير إذن مولاهما موقوف، فإن أجاز المولى جاز، وإن رده بطل، وكذلك لو زوج رجل امرأة بغير رضاها، أو رجلا بغير رضاه، وهذا عندنا، فإن كل عقد صدر من الفضولي وله مجيز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ضرورة في الوكيل، لأن أكثر ما في الباب أن يأمر غيره من أحد الجانبين صورة قائما مقامه، وهو الولي من الجانبين شرعا، فيملك مباشرة العقد.
م: (ولنا أن الوكيل في النكاح معبر وسفير) ش: والواحد يجوز أن يكون معبرا عن اثنين، والسفير في اللغة: المصلح بين القوم، كذا في " الديوان ".
وقال ابن دريد في " كتاب الجمهرة ": السفير بين القوم الماشي بينهم في الصلح م: (والتمانع) ش: أي النافي م: (في الحقوق) ش: وهو كونه مطالبا ومسلما ومسلما، ومخاصما ومخاصما م: (دون التعبير) ش: أي الولي يصلح أن يكون معبرا بين اثنين كما ذكرنا، فإن العبارة ينعقد إليهما، فيصير العقد بين شخصين، فلا يؤدي إلى أحكام مضادة م: (ولا ترجع الحقوق إليه) ش: أي إلى الوكيل، لأنه معبر لا مباشر م: (بخلاف البيع، لأنه) ش: أي لأن الوكيل في البيع م: (مباشر حتى رجعت الحقوق إليه) ش: أي حقوق عقد البيع من مطالبة الثمن وتسليم المبيع، والقيام بالعهدة وغيرها، كل ذلك يرجع إلى الوكيل في البيع.
م: (وإذا تولى طرفيه ش: أي إذا تولى طرفي العقد م: (فقوله: زوجت يتضمن الشطرين) ش: أي قول الوكيل: زوجت فلانة من فلان يقوم مقام شطري العقد، وهما الإيجاب والقبول ولا يحتاج إلى القبول؛ لأن الواحد قام مقام اثنين، قامت عبارته الواحدة أيضا مقام عبارتين م: (فلا يحتاج إلى القبول) ش:.
[تزويج العبد والأمة بغير إذن مولاهما]
م: (قال) ش: أي قال القدوري في " مختصره ": م: (وتزويج العبد والأمة بغير إذن مولاهما موقوف، فإن أجاز المولى جاز، وإن رده بطل، وكذلك) ش: أي كذلك موقوف م: (لو زوج رجل امرأة بغير رضاها أو رجلا) ش: أي أو زوج رجل رجلا م: (بغير رضاه وهذا عندنا) ش: أي كون العقد موقوفا على الإجازة مذهب أصحابنا م: (فإن كل عقد صدر من الفضولي وله مجيز) ش: أي للعقد مجيز رأي قابل يقبل الإيجاب، سواء كان فضوليا آخر أو وكيلا وأصيلا حالة الوقوع كالبيع والنكاح والإجارة ونحوها، وإنما قيد بقوله: وله مجيز لأنه إذا لم يكن له مجيز كما إذا زوج الفضولي يتيمة يتوقف العقد. فإن قلت: السلطان مجيز، وكذا القاضي فينبغي أن يتوقف العقد.(5/123)
انعقد موقوفا على الإجازة.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تصرفات الفضولي كلها باطلة؛ لأن العقد وضع لحكمة، والفضولي لا يقدر على إثبات الحكم فتلغو. ولنا أن ركن التصرف صدر من أهله مضافا إلى محله، ولا ضرر في انعقاده، فينعقد موقوفا، حتى إذا رأى المصلحة فيه ينفذه، وقد يتراخى حكم العقد عن العقد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: يمكن فرض المسألة في موضع لا سلطان فيه، ولا قاضي كدار الحرب مثلا، ومن تصور تزويج عبد المكاتب حيث لا يتوقف بل يبطل لعدم المجيز، لأن النكاح عيب وليس بكسب، ولا يجوز إجازة المكاتب، وكذا إجازة المولى، لأنه أجنبي عن كسب المكاتب.
م: (انعقد موقوفا على الإجازة) ش: وبه قال مالك وأحمد في رواية، وقال أبو عمر في " التمهيد ": لم يختلف قول مالك وأصحابه في العبد يتزوج بغير إذن سيده، إذ السيد بالخيار إن شاء أجازه، وإن شاء فسخه.
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: الأمر عندنا بالمدينة على هذا. وقال إسماعيل القاضي: وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن البصري، والشعبي، والحكم، وجعل مالك التفرقة طلاقا، وأجازوا توقف البيع على إجازة المالك، وأجمعوا على توقيف الوصية على قبول الموصي له.
[تصرفات الفضولي في النكاح]
م: (وقال الشافعي: تصرفات الفضولي كلها باطلة) ش: وبه قال أحمد في رواية م: (لأن العقد وضع لحكمة) ش: بناء على المقاصد الأصلية هو الحكم م: (والفضولي لا يقدر على إثبات الحكم فتلغو) ش: وإلا لجاز للناس تمليك أموال الناس للناس، وفيه من الفساد ما لا يخفى، وإذا كان لا يقدر كان كلامه لغوا.
م: (ولنا أن ركن التصرف) ش: وهو الإيجاب والقبول م: (صدر من أهله) ش: وهو العاقل البالغ حال كونه م: (مضافا إلى محله) ش: وهو الأنثى من بنات آدم، ليست بمحرم، ولا معتدة، ولا مشركة، ولا زائدة على العدد المنصوص م: (ولا ضرر في انعقاده) ش: أي في انعقاد التصرف لكونه غير لازم م: (فينعقد موقوفا) ش: كيلا يلحق الضرر بالغائب م: (حتى إذا رأى المصلحة فيه ينفذه) ش: وإلا أبطله.
م: (وقد يتراخى حكم العقد عن العقد) ش: وهو جواب عن قول الشافعي: لأن العقد قد وضع لحكمة، هذا قول بالموجب، يعني سلمنا ذلك، لكن الحكم هنا لم يعدم، بل أخر إلى الإجازة، والحكم قد يتراخى عن العقد كالبيع بشرط الخيار، فإن لزومه متراخ إلى سقوط الخيار، ثم أبعد إذا سمها، ثم أجاز المولى النكاح يلزمه مهر المثل بالدخول، ومهر آخر بالإجازة قياسا، لأن الدخول في النكاح الموقوف كالدخول في النكاح الفاسد.
وفي الاستحسان يلزمه مهر واحد؛ لأن مهر المثل إنما يلزمه بالعقد، فلولاه للزم الحد، والمسمى أيضا يلزمه بحكمة العقد، فلو لزم المهران للزم في العقد الواحد مهران، وذا لا(5/124)
ومن قال: اشهدوا أني قد تزوجت فلانة، فبلغها الخبر فأجازت فهو باطل، وإن قال آخر: اشهدوا أني زوجتها منه فبلغها الخبر فأجازت جاز، وكذلك إن كانت المرأة هي التي قالت جميع ذلك، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا زوجت نفسها غائبا فبلغه فأجازه جاز. وحاصل هذا أن الواحد لا يصلح فضوليا من الجانبين، أو فضوليا من جانب وأصيلا من جانب عندهما، خلافا له،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يجوز، وفي: النهاية " عقد الوكيل عند غيبة الموكل إنما تصح إذا عرفه باسمه ونسبه، والتعاريف زوجها من نفسه بأمرها، وقال: اشهدوا أن فلانة وكلتني أن أزوجها من نفسي، ولم ينسبها ولم يعرفها الشهود ينفذ فيما بينه وبين الله تعالى.
وفي " النوازل ": إن لم ينسبها ولم يعرفها الشهود لا يجوز النكاح، لأن الغائب إنما يعرف بالتسمية، ألا ترى أنه لو قال: زوجته امرأة قد وكلتني لا يجوز، وفي " شرح القاضي ": لو كانت منقبة لا يعرفها، ولا يعرفها الشهود، فعن الحسن وبشر لا يجوز ما لم ترفع نقابها ويراها الشهود، ذكره الإمام التمرتاشي.
[قال اشهدوا أني قد تزوجت فلانة فبلغها الخبر فأجازت]
م: (ومن قال: اشهدوا أني قد تزوجت فلانة، فبلغها الخبر فأجازت) ش: أي أجازت المرأة ما قاله الرجل في غيبتها م: (فهو باطل) ش: عند أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف م: (وإن قال آخر) ش: أي وإن قال فضولي آخر في هذه المسألة م: (اشهدوا أني قد زوجتها منه) ش: أي قد تزوجت فلانة التي قال الرجل اشهدوا أني قد زوجتها منه م: (فبلغها الخبر) ش: أي المرأة م: (فأجازت جاز) ش: أي العقد، والفرق بين المسألتين أن الأولى لا مجيز لها فبطل ولا يتوقف، والثانية لها مجيز فيتوقف لما مر أن شرط التوقف وجود المجيز.
م: (وكذلك) ش: أي وكذلك يجوز م: (إن كانت المرأة هي التي قالت في جميع ذلك) ش: يعني إذا قالت المرأة في جميع ذلك: اشهدوا أني قد تزوجت فلانا، وخاطب عنه واحدا في المجلس، فقال زوجته: إياك، فبلغه الخبر فأجاز فهو جائز لوجود المجيز م: (وهذا عند أبي حنيفة ومحمد) ش: أي جميع ما ذكر قول أبي حنيفة ومحمد.
م: (وقال أبو يوسف: إذا زوجت نفسها غائبا فبلغه الخبر) ش: أي بلغ الغائب تزوجها نفسها إياه م: (فأجازه) ش: أي فأجاز الغائب ذلك م: (جاز) ش: أي العقد، وتجويز أبي يوسف المسألة في هذه الصور كلها.
م: (وحاصل هذا) ش: أي حاصل ما ذكره من الصور م: (أن الواحد لا يصلح فضوليا من الجانبين، أو فضوليا من جانب وأصيلا من جانب عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد م: (خلافا له) ش: أي لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.(5/125)
ولو جرى العقد بين الفضوليين، أو بين الفضولي والأصيل جاز بالإجماع. هو يقول: لو كان مأمورا من الجانبين ينفذ، فإذا كان فضوليا يتوقف وصار كالخلع، والطلاق، والإعتاق على مال. ولهما أن الموجود شطر العقد، لأنه شطر حالة الحضرة فكذا عند الغيبة، وشطر العقد لا يتوقف على ما وراء المجلس، كما في البيع، بخلاف المأمور من الجانبين، لأنه ينتقل كلامه إلى العاقدين وما جرى بين الفضوليين عقد تام، وكذا الخلع واختار؛ لأنه تصرف يمين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأجمع أصحابنا أن الواحد يصلح وكيلا من جانب، أصيلا من جانب، وكيلا من الجانبين، ووليا من جانب أصيلا من جانب ووكيلا من الجانبين، ووليا من جانب أصيلا من جانب، ووليا من جانب وكيلا من جانب في النكاح، وهل يصلح فضوليا من الجانبين وفضوليا من جانب، ووليا من جانب، أو فضوليا من جانب ووكيلا، أو فضوليا من جانب أصيلا من جانب، حتى يتوقف العقد على الإجازة، فعند أبي حنيفة ومحمد: لا يصلح ولا يتوقف، وعند أبي يوسف: يصلح ويتوقف، أما كون الواحد أصيلا من الجانبين فهو محال.
[العقد بين الفضوليين أو بين الفضولي والأصيل في النكاح]
م: (ولو جرى العقد بين الفضوليين، أو بين الفضولي والأصيل جاز بالإجماع) ش: هاتان صورتان لا خلاف فيهما، وهما ظاهرتان م: (هو) ش: أي أبي يوسف م: (يقول: لو كان) ش: أي الفضولي م: (مأمورا من الجانبين ينفذ، فذا كان فضوليا) ش: يعني بغير أمر م: (يتوقف) ش: لأن كلام الواحد عقد تام في النكاح، باعتبار الإذن ابتداء، فكذا باعتبار الإجازة انتهاء؛ لأن الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة م: (وصار كالخلع) ش: فإن الزوج إذا قال: خالعت امرأتي على كذا وهي غائبة، فبلغها الخبر، فقبلت في مجلس علمها جاز بالاتفاق م: (والطلاق) ش: أي كالطلاق على مال م: (والإعتاق) ش: أي كالإعتاق م: (على مال) ش: يرجع إلى الطلاق والعتاق جميعا كما فسرناه.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد م: (أن الموجود شطر العقد) ش: أي نصفه م: (لأنه شطر) ش: أي لأن الموجود منه شطر م: (حالة الحضرة) ش: أي حالة كونه حاضرا حتى ملك الرجوع قبل قبول الآخر، ويبطل بالقيام قبل قبول الآخر، ولو كان عقدا تاما لبطل.
م: (وشطر العقد لا يتوقف على ما رواه المجلس، كما في البيع) ش: كما إذا قال الرجل: بعت عبدي من فلان ولم يقبل عن المشتري أحدا، وقال: اشتريت عبد فلان ولم يقبل عن البائع أحدا، وقال: بعت فلان ولم يقبل عنهما أحدا، فلما لم يتوقف لم ينفذ بالإجازة اللاحقة بعد المجلس م: (بخلاف المأمور من الجانبين، لأنه ينتقل كلامه إلى العاقدين) ش: فيصير كالكلامين م: (وما جرى بين الفضوليين عقد تام) ش: لوجود الإيجاب والقبول، إلا أنه لا ينفذ في الحال، بل يتوقف على إجازة المعقود له كيلا يلحق الغرر.
م: (وكذا الخلع، واختار) ش: أي الطلاق على مال، والإعتاق عليه م: (لأنه تصرف يمين(5/126)
من جانبه حتى يلزم فيتم به. ومن أمر رجلا أن يزوجه امرأة فزوجه اثنتين في عقدة لم تلزمه واحدة منهما، لأنه لا وجه إلى تنفيذهما للمخالفة، ولا إلى التنفيذ في إحداهما غير عين للجهالة، ولا إلى التعيين، لعدم الأولية فتعين التفريق
ومن أمره أمير أن يزوجه امرأة فزوجه أمة لغيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من جانبه) ش: ولهذا كان لازما لا يقبل الرجوع وهو معنى قوله: م: (حتى يلزم فيتم به) ش: أي بالحالف؛ لأن اليمين لا يتم إلا بالحلف فكان عقدا تاما، وإنما كان من جانبه؛ لأن الخلع من جانبها معاوضة على ما سيجيء إن شاء الله تعالى، وإنما قال: تصرف يمين؛ لأنه كان قال: إن قبلت ألف درهم فهي طالق، وإن قبل له فهو حر، والقبول شرط وقوع الطلاق، والعتاق، لا شرط العقد.
م: (ومن أمر رجلا أن يزوجه امرأة فزوجه اثنتين في عقدة واحدة لم تلزمه) ش: أي الأمر م: (واحدة منهما) ش: أي من الثنتين م: (لأنه لا وجه إلى تنفيذهما) ش: أي تنفيذ العقد في الثنتين م: (للمخالفة، ولا إلى التنفيذ) ش: أي تنفيذ العقد م: (في إحداهما) ش: حال كونه م: (غير عين) ش: أي غير معينة م: (للجهالة) ش:؛ لأن النكاح في المجهولة يكون معلقا بشرط البيان، ولا يجوز تعليق ملك النكاح بالأخطاء م: (ولا إلى التعيين) ش: أي لا وجه أيضا إلى تعيين واحدة منهما م: (لعدم الأولية) ش: لأن إحداهما ليست بأولى من الأخرى، فإن كان الأمر كذلك م: (فتعين التفريق) ش: وفي المسألة قيود: الأول: أنه أمره بأن يزوجه امرأة فزوجه امرأتين، فلو أمره أن يزوجه امرأتين في عقدة واحدة فزوجه واحدة جاز، إلا إذا قال: لا تزوجني إلا امرأتين في عقدة فحينئذ لا يجوز.
والثاني: أنه أمره أن يزوجه امرأة ولم يعينها، فلو عينها، فزوجه أخرى معها يلزمه المعينة.
والثالث: أن الوكيل زوجه اثنتين في عقدة واحدة، لأنه لو زوجه في عقدتين لزمه الأولى، ونكاح الثانية موقوف على الإجازة، لأنه فضولي عنه.
والرابع: قال: لم يلزمه واحدة منهما: وأبو يوسف يقول: أولا لا يصح أحدهما بغير عينها منكوحة، كما لو طلق إحدى امرأتيه ثلاثا.
قال شمس الأئمة السرخسي: وهذا ضعيف، لأنه ليس كالطلاق لاحتمالهما التعليق بالشرط دون النكاح، وما لا يحتمل التعليق بالشرط لم يثبت في المجهول؛ لأنه تعلق بالبيان بخلاف الطلاق.
[أمره أمير أن يزوجه امرأة فزوجه أمة لغيره]
م: (ومن أمره أمير أن يزوجه امرأة) ش: قيد بالأمير وحكم غيره كذلك، وقال الإمام المحبوبي: وعلى هذه الخلاف إذا لم يكن أميرا م: (فزوجه) ش: الوكيل م: (أمة لغيره) ش: أو(5/127)
جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - رجوعا إلى إطلاق اللفظ، وعدم التهمة، وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: لا يجوز، إلا أن يزوجها كفؤا؛ لأن المطلق ينصرف إلى المتعارف، وهو التزوج بالأكفاء. قلنا: العرف مشترك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حرة عمياء أو مقطوعة اليدين، قال الكاكي: أو مفلوجة، أو مجنونة فعلى هذا كان قيد الأمير اتفاقا، وقيل: قيد به، لأن الكفاءة في جانب النساء لا الرجال مستحسنة في الوكالة عندهما، أما لو زوجه صغيرة لا تشتهى يجوز بالإجماع، أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تزوج عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وهي بنت ست سنين، انتهى.
قلت: الظاهر أن ذكره بالأمير موافقة للفظ محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن المسألة في مسائل " الجامع الصغير " روى محمد، عن يعقوب، عن أبي حنيفة في أمير من أمراء قريش أمرني أن أزوجه امرأة فزوجته أمة لغيره قال: جاز.
وقال الأترازي: إنما وضع المسألة أبو حنيفة في نفسه واضعا، حيث جعل نفسه مأمورا، ولا يتفاوت الحكم بين أن يكون الموكل أميرا، أو غير أمير، قرشيا أو غير قرشي بعد أن يكون حرا، فزوجه أمة لغيره إنما قيد بقوله: أمة لغيره، إذا لو زوجه أمة نفسه لا يجوز بالإجماع لمكان التهمة، ذكره في " جامع قاضي خان ".
م: (جاز عند أبي حنيفة) ش: أي جاز التزويج فلا يرد م: (رجوعا إلى إطلاق اللفظ) ش: لأن لفظ امرأة مطلق، يقع على الحرة والأمة جميعا م: (وعدم التهمة) ش: أي رجوعا إلى عدم التهمة؛ لأن الأمة ليست للوكيل فلا يتهم.
م: (وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز إلا أن يزوجه كفؤا) ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد، أما عندهم فلطول الحرة، وأما عندهما فلصرف الإطلاق إلى التعارف، كنقد البلد، والمتعارف تزويج الكفء، وهو معنى قوله: م: (لأن المطلق ينصرف إلى المتعارف، وهو التزويج بالأكفاء) ش: وفي " قاضي خان ": دلت المسالة على الكفاءة في جانب النساء معتبرة عندهما أيضا.
وفي " المحيط ": الكفاءة في جانب النساء غير معتبرة عند أبي حنيفة وبه قال الشافعي، وأحمد، وعندهما معتبرة استحسانا، وقيل: غير معتبرة عندهما بلا خلاف، وإنما لا يجوز في غير الكفء في هذه الصورة باعتبار المتعارف، لا باعتبار الكفاءة، وجب ألا يجوز عندهما قياسا واستحسانا، وعند الشافعي: زوجه الوكيل بامرأة مجهولة لا يصح في قول، ويصح في قول، وينصرف إلى المتعارف.
م: (قلنا: العرف مشترك) ش: يعني كما هو مستعمل فيما قلتم مستعمل عندنا، فإن(5/128)
أو هو عرف عملي، فلا يصلح مقيدا. وذكر في الوكالة أن اعتبار الكفاءة في هذا استحسان عندهما، لأن كل أحد لا يعجز عن التزوج بمطلق الزوج، فكانت الاستعانة في التزوج بالكفء، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأشراف كما يتزوجون الحرائر يتزوجون الإماء للتسهيل م: (أو هو عرف عملي) ش: أي من حيث العمل والاستعمال، لا من حيث اللفظ، وبيانه أن العرف على نوعين: لفظي نحو الدابة يعتبر لفظا بالفرس، ونحو المال بين العرب بالإبل، وعرف عملي أي من حيث إن عمل الناس، كذا كل سهم الجديد يوم العيد وأمثاله م: (فلا يصلح مقيدا) ش: أي للإطلاق، لأن إطلاق اللفظ عرف لفظي، والتقييد يقابله، ومن شرط التقابل اتحاد المحل الذي يرد عليه.
م: (وذكر) ش: أي محمد م: (في) ش: كتاب م: (الوكالة) ش: في الأصل م: (أن اعتبار الكفاءة في هذا استحسان عندهما) ش: أي أن اعتبار الكفاءة في النساء للرجال استحسان عند أبي يوسف ومحمد، وأما اعتبار الكفاءة في الرجال لا النساء فهو بالاتفاق م: (لأن كل أحد لا يعجز عن التزوج بمطلق الزوج، فكانت الاستعانة في التزوج بالكفء) ش: أي بحسب الظاهر فيتقيد به.
[أمره أن يزوجه امرأة فزوجه صبية] 1
فروع: قال في " الخلاصة ": أمره أن يزوجه امرأة، فزوجه صبية، أما عندهما فلا يجوز إذا كانت لا يجامع مثلها، كما لو زوجه رتقاء، أو قرناء، هذا قول الكل. ولو أمره أن يزوجه سوداء فزوجه بيضاء أو العكس لا يجوز، ولو أمره أن يزوجه عمياء فزوجه بصيرة يجوز، وفي " المنتقى ": أمره أن يزوجه أمة فزوجه حرة لا يجوز، وإن زوجه مكاتبة أو مدبرة أو أم ولد جاز، ولو أمر أن يزوجه نكاحا فاسدا فزوجه امرأة نكاحا صحيحا لا يجوز، بخلاف الوكيل بالبيع الفاسد إذا باع بيعا صحيحا جاز، والفرق أن الوكيل بالبيع الفاسد وكيل بالبيع؛ لأن البيع الفاسد بيع؛ لأنه يفيد الملك، فإن باع بيعا جائزا فقد خالف إلى خير يجوز.
وأما الوكيل بنكاح فاسد فليس بوكيل للنكاح؛ لأن النكاح الفاسد ليس بنكاح، لأنه لا يقيد الملك، ولهذا لا يجوز طلاقها ولا ظهارها، فإذا لم يصر وكيلا لم ينفذ تصرفها عليه، كذا ذكره الولوالجي في " فتاواه ".
وفي " الإيضاح ": الفضولي إن فسخ النكاح قبل الإجازة جاز في قول أبي يوسف الآخر، وفي قوله الأول: لا يجوز وهو قول محمد، وفي " النوازل ": بعث قوما إلى رجل يخطب ابنته، فقال: زوجت، فقبل رجل منهم، قيل: لم يجز؛ لأن الكل خاطب، والخاطب لا يصلح شاهدا، وقيل: يجوز وعليه الفتوى.(5/129)
باب المهر قال: ويصح النكاح وإن لم يسم فيه مهرا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب المهر] [النكاح إذا لم يسم مهرا]
م: (باب المهر)
ش: أي هذا باب في بيان المهر، لما ذكر ركن النكاح وشرائطه شرع في بيان حكمه وهو وجوب المهر، إذ وجوبه حكمة النكاح، قال الأكمل المهر المال، وقال الكاكي: المهر الصداق، وهو اسم لمال يسمى في عقد النكاح.
وقال الكاكي: وللمهر سبعة أسماء في القرآن:
أحدها: الصداق.
والثاني: النحلة قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] (النساء: الآية 4) .
والثالث: الأجر، قال الله تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 25] (النساء: الآية 25) .
والرابع: الفريضة: قال الله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] (البقرة: الآية 237) .
والخامس: المهر، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فإن لمسها فلها المهر بما استحل» .
السادس: العليقة، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أدوا العلائق "، قيل: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما العلائق؟ قال: " ما تراضى الأهلون» . السابع: العقر قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عقر نسائها» انتهى. قلت: لم يذكر في القرآن إلا أربعة من الأسامي، والثلاثة من الحديث، وقال السروجي: لها أسماء تسعة، وقد ذكرها مثل ما ذكرها الكاكي: وزاد الصدقة، والحبى، والحديث الذي فيه العلائق رواه الدارقطني. ويقال: أصدقها، ولا يقال أمهرها، هكذا ذكره ابن قدامة، وفي " المغني " وفي " الصحاح ": أمهرها ومهرها، وفي " المغرب ": مهر المرأة أي أعطاها المهر، وأمهرها إذا سمى لها مهرا، أو تزوجها به. م: (قال: ويصح النكاح وإن لم يسم فيه مهرا) ش: قد ذكرت غير مرة أن هذه الواو في قوله - ويصح - للاستفتاح، كذا سمعت من الأستاذين الكبار، وفي أكثر النسخ قال: - أي القدوري - ويصح النكاح، وصحة النكاح بدون تسمية المهر إجماعا، وإنما الخلاف هل يجب مهر مثل أو لا يجب شيء؟ على ما يأتي في المفوضة، وخلو النكاح عن تسميته، لا يمنع صحته كما إذا تزوجها(5/130)
لأن النكاح عقد انضمام وازدواج لغة، فيتم بالزوجين، ثم المهر واجب شرعا، إبانة لشرف المحل، فلا يحتاج إلى ذكره لصحة النكاح، وكذا إذا تزوجها بشرط أن لا مهر لها لما بينا، وفيه خلاف مالك -
- رَحِمَهُ اللَّهُ - وأقل المهر عشرة دراهم وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما يجوز أن يكون ثمنا في البيع يجوز أن يكون مهرا لها؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولم يسم لها مهرا، أو تزوجها على أن لا مهر لها، أو تزوجها على ما ليس بمال كالميتة والدم، وهما مسلمان فالنكاح جائز، ولها مهر مثل نسائها م: (لأن النكاح عقد انضمام، وازدواج لغة، فيتم بالزوجين) ش: ويصح بلا تسمية المهر، قال عز وجل: {فَانْكِحُوا} [النساء: 3] فلو شرطنا التسمية فيه لزدنا على النص.
م: (ثم المهر واجب شرعا) ش: هذا جواب عما يقال: المهر واجب شرعا، فكيف يصح النكاح مع السكوت؟ فأجاب بقوله: المهر واجب شرعا، يعني وجوبه ليس لصحة النكاح، وإنما وجب م: (إبانة) ش: أي إظهارا م: (لشرف المحل، فلا يحتاج إلى ذكره لصحة النكاح) ش: فإن قيل: هذه دعوى فلا بد من دليل.
أجيب: دل عليه قَوْله تَعَالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] إلى قَوْله تَعَالَى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] (البقرة: الآية 236) ، حكم بصحة الطلاق مع عدم التسمية، ولا يكون الطلاق إلا في النكاح الصحيح، فعلم أن ترك ذكره لا يمنع صحة النكاح. م: (وكذا) ش: أي وكذا يصح النكاح م: (إذا تزوجها بشرط أن لا مهر لها لما بينا) ش: أن النكاح عقد انضمام فيتم بالتزويج م: (وفيه) ش: أي وفيما إذا تزوجها أن لا مهر لها م: (خلاف مالك) ش: يعني أنه لا يجوز؛ لأنه عقد معاوضة، فيفتقر إلى ذكر المال، كالبيع إلى ذكر الثمن، ونفيه يفسد البيع، فنفي المهر ينبغي أن يفسد النكاح، قلنا: البيع مبادلة المال بالمال شرعا ولغة تمليك شيء بشيء فيقتضي ذكر الثمن، والمهر ليس بعوض أصلي، كما ذكر في الكتاب من قوله: إن النكاح عقد انضمام إلى آخره.
[أقل المهر]
م: (وأقل المهر عشرة دراهم) ش: أو قيمة عشرة، وقال محمد: وزن عشرة تبرا إن كان قيمته أقل من عشرة مضروبة، بخلاف السرقة، فإن السرقة لا تقطع فيها، وقال مالك: أقله بقدر ربع دينار أو ثلاثة دراهم. وقال ابن شبرمة: أقله خمسة دراهم. وقال إبراهيم النخعي: أقله أربعون درهما، وعندهما وعنده عشرون درهما، وقال سعيد بن جبير: أقله خمسون درهما، وكل منهم مذهبه في نصاب السرقة الذي يقطع في اليد لذلك.
م: (وقال الشافعي: ما يجوز أن يكون ثمنا في البيع) ش: يعني م: (يجوز أن يكون مهرا) ش: في النكاح، وبه قال أحمد، وأبو ثور، وإسحاق، وفقهاء المدينة، وهو مذهب الثوري أيضا. وقال ابن حزم: ما جاز أن يكون بالهبة، أو بالميراث جاز أن يكون صداقا حل بيعه، أو لم(5/131)
لأنه حقها فيكون التقدير إليها. ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا مهر أقل من عشرة» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يحل كالماء والكلب والسنور والثمرة التي لم يبد صلاحها، والسنبل قبل أن يشتد حبه أو حبة حنطة، أو حبة شعير، وقال ابن حزم أيضا: وقول مالك لا نعرفه عن أحد من أهل العلم قبله، وقد خالف فيه أئمة المدينة، والفقهاء الذين لا يخرج عن قولهم، وقال أبو عمر بن عبد البر: تقدمه إلى هذا أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فقاس الصداق على اليد عنده، فإنها لا تقطع إلا في ربع دينار أو عشرة دراهم. قلت: تقطع في ربع دينار عنده، ولا يكون صداقا حتى لو تزوجها على دينار قيمته أقل من عشرة دراهم يكمل عشرة دراهم عند علمائنا الثلاثة، ونقله عنه سهو وغلط.
م: (لأنه حقها) ش: أي لأن المهر حق المرأة م: (فيكون التقدير) ش: أي تقدير المهر م: (إليها) ش: ولهذا يملك التصرف فيه استيفاء وإسقاطا كالبيع والإجارة والكفالة.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا مهر أقل من عشرة دراهم» ش: هذا الحديث رواه جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقد مر الكلام عليه مستوفى في الكفالة. ورواه الدارقطني، والبيهقي رواه في " سننه " من طرق، وضعفه، لكن الحديث إذا روي من طرق مفرداتها ضعيفة يصير حسنا، ويحتج به، ذكره النووي في " شرح المهذب "، وقال الأترازي: ولما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا مهر أقل من عشرة دراهم» ، وروى أبو بكر الرازي، هذا الحديث في " شرح الطحاوي " إشارة إلى جابر 0 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، انتهى.
قلت: لم يذكر الإسناد حتى ينظر فيه، والظاهر أنه بالإسناد الذي رواه الدارقطني، وقد مر الكلام فيه، وقال الكاكي: وحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - " ولا مهر أقل من عشرة دراهم "، وهكذا رواه ابن عمر، وابن شعيب، عن أبيه عن جده، وهو مذهب علي، وابن عمر، وعائشة، وعامر، وإبراهيم، انتهى.
قلت: الخصم لا يرضى بهذا المقدار الذي ذكره على ما لا يخفى، وأما قوله: وهو مذهب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقد رواه الدارقطني، ثم البيهقي في " سننيهما " عن داود الأودي عن الشعبي عن علي 0 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم، ولا يكون المهر أقل من عشرة دراهم.(5/132)
ولأنه حق الشرع وجوبا إظهارا لشرف المحل، فيقدر بما له خطر، وهو العشرة، استدلالا بنصاب السرقة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال ابن الجوزي في " التحقيق ": قال ابن حبان: داود الأودي ضعيف، كان يقول بالرجعة، والشعبي لم يسمع من علي، وأخرجه الدارقطني أيضا في " الحدود "، عن جويبر عن الضحاك، عن النزال بن سبرة عن علي، فذكره وجويبر أيضا ضعيف.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن المهر م: (حق الشرع وجوبا) ش: أي من حيث وجوبه م: (إظهارا لشرف المحل) ش: أي لأجل إظهار شرف المحل، وخطره صيانة عن شبهة البدل م: (فيقدر بما له خطر وهو العشرة) ش: أي عشرة دراهم م: (استدلالا بنصاب السرقة) ش: لأنه لا يتلف به عضو محترم، فلا يتلف به منافع البضع كان أولى.
فإن قلت: هذا استدلال ضعيف، فإن مالكا والشافعي ينكرانه؛ فإن نصابهما عندهما ثلاثة دراهم أو ربع دينار. قلت: يمنع هذا لأن المدعى [أي] المهر مقدر خلافا للشافعي استدلالا بنصاب السرقة، فإنه مقدر بالإجماع، فكذا المهر بالقياس عليه لوجود الجامع، أما التقدير بالعشرة فبنصاب السرقة، فلما رواه أبو داود في " سننه " من حديث عطاء، «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، قال: قطع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم» .
فإن قلت: من أين قلت: إن المهر حق الشرع من حيث الوجوب؟ قلت: لقوله عز وجل: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا} [الأحزاب: 50] (الأحزاب: الآية 50) ، وكل مال تولى بيان مقدارها، كالزكاة وغيرها أوجبه الشرع، والتقدير مجهول، وخبر الواحد يبين ذلك، فلا يجوز أقل مما قدره.
فإن قلت: ما تقول في «حديث عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، رواه الجماعة أنه لما جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبه أثر صفرة، فأخبره أنه تزوج فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كم سقت إليها؟ " قال: زنة نواة من ذهب، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أولم ولو بشاة» ". وفي " التمهيد " رواه مالك في الموطأ عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فقد أجازه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقيل: مما حده أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أن النواة خمسة دراهم. وعن أحمد: أن النواة ثلاثة دراهم وثلث. قلت قال عياض: لا يصح لهم ذلك؛ لأنه قال: من ذهب وذلك يزيد على دينارين، وفي " الاستذكار ": أكثر أهل العلم أن وزنها خمسة دراهم، فظاهر هذا أنه تزوج بأكثر من ثلاثة مثاقيل من الذهب.
فإن قلت: روى البيهقي، عن حجاج، عن قتادة، عن أنس قال: قومت - يعني النواة - ثلاثة(5/133)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دراهم وثلث درهم. قلت: حجاج هو ابن أرطاة وهو ضعيف، وقتادة مدلس، وقد عنعن، ولهذا قال أحمد: هذا حديث لا تقوم به الحجة.
فإن قلت: ما تقول في حديث جابر رواه أبو داود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أعطى في صداق امرأة، على كفيه سويقا أو تمرا فقد استحل» . قلت: في إسناده موسى بن مسلم، وهو ضعيف، قال القدوري: وقال الأزدي: وهو ضعيف، رواه أبو داود موقوفا.
فإن قيل: ذلك في المتعة يدل على أن جابرا نفسه قال: كنا نسمع بالقبضة من الطعام على معنى المتعة، على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأخرجه مسلم في " صحيحه " من حديث ابن جريج، «عن أبي الزبير، قال: سمعت جابرا يقول: كنا نسمع بالقبضة من التمر والدقيق [ ... ] على عهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . قلت: هذا منسوخ، وكان ذلك للضرورة، والفقر في أول الإسلام.
قال ابن الجوزي: فإن قلت: قال البيهقي: هذا وإن كان منسوخا، لأنه في نكاح المتعة، فإنما نسخ منه شرط الآجل، فأما ما يجعلونه صداقا فإنه لم ينسخ، قلت: فساد قوله هذا ظاهر، فإن الإجماع على نسخ أحكام المتعة، ودعوى إخراج بعضها من النسخ دعوى باطلة. وقال السروجي: ويدل على بطلان قوله هذا وإثبات نقيضه، أفسده أن الذي نسخ من أحكام نكاح المتعة إنما هو شرط الأجل، وإن كان باقي أحكامه ثابت في النكاح المشروع المؤيد به، ينبغي أن لا يثبت بهذا النكاح نسب ولا يجري فيه التوارث، إذ هذه الأحكام المتعة وهي باقية في هذه الأنكحة، ولم ينسخ إلا شرط الأجل كما زعم، وذلك مخالف لإجماع المسلمين. وقيل في الجواب عن الحديث المذكور أنه روي عن جابر خلاف هذا، ونص مع ضعف كل واحد منهما، فلا يكون هذا دليل على دعواهم، وقيل: لو ثبت كان محمولا على الحل، والله أعلم.
فإن قلت: روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعيد - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «جاءت امرأة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جئت أهب لك نفسي. الحديث بطوله، وفيه: فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، قال: " هل معك شيء "؟ قال: لا والله يا رسول الله، قال: " انظر ولو خاتما من حديد " ... الحديث.(5/134)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفيه قال: " ما معك من القرآن "، قال: سورة كذا وكذا، عددها، فقال: " تقرأهن عن ظهر قلبك " قال: نعم، قال: " اذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن» "، وهذا من جملة ما استدل به الشافعي ومن يقول بقوله. قلت: أجاب الأترازي عن هذا بقوله: هذا خبر الواحد، وقد عارض نص الكتاب، فلا يحتج به.
قلت: هذا لا نجد كما ينبغي، بل الجواب الظاهر ما قاله ابن الجوزي أن ذلك كان للضرورة والفقر في أول الإسلام، وأظهر من ذلك ما قاله أصحابنا أنه ليس فيه دلالة على أنه جعل القرآن مهرا، ولهذا لم يشترط أن يعلمها، وإنما معناه ببركة ما معك من القرآن ولأجل أنك من أهل القرآن، كتزوج على إسلامه، وهو لا يصلح صداقا للبضع. وفي " التمهيد " قال مالك: ولأبي حنيفة، وأصحابه هاهنا والليث لا يكون القرآن [ ... ] بمال، فلأن التعليم في العلم والتعلم مختلف لا يكاد ينضبط، فأشبه المجهول، والسكوت عن المهر لا يبطل النكاح، لأنه معلوم لا بد منه.
فإن قلت: الاستدلال بالآية ضعيف، لأن الأموال ذكرت بلفظ الجمع في مقابلة الجمع، وذلك يقتضي انقسام الآحاد على الآحاد فعلى هذا يكون المراد تبعا لكل واحد بماله، لا بأمواله، والمال يقع على القليل والكثير.
قلت: قال الأترازي: لا نسلم انقسام الآحاد على الآحاد، إذا ذكر الجمع بمقابلة الجمع، ولئن سلمنا لكن لا نسلم أن المال تبع على القليل الذي هو غاية في القلة عرفا، وهذا لأن المال ما يجري فيه البدل والإباحة، والشح، والصفة، فلا يطلق عليه اسم المال عرفا كالفلس والجوز ولا بد من التقدير ما له خطر، فتعينت العشرة بالحديث أو بالقياس. انتهى. قلت: أراد بالحديث حديث جابر المذكور، وبالقياس القياس على نصاب السرقة وقد مر الكلام فيه عن قريب.
فإن قلت: روي في حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ينكح هذه؟ " فقام رجل عليه بردة عاقدها في عنقه، فقال: أنا يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " ألك مال؟ " قال: لا، قال: " أتقرأ شيئا من القرآن؟ " قال: نعم سورة البقرة والمفصل، قال: " انكحها على أن تقرئها وتعلمها وإذا رزقك الله عوضها» " فتزوجها الرجل على ذلك انتهى.
وقد قلت: لم يشترط أن يعلمها، وهذا قد اشترط إقراءه إياها وتعلمه كذلك. قلت: قال الدارقطني: تفرد به عتبة بن السكن وهو متروك، وقوله: - عوضها - يدل على أنه لا بد من المهر، وإنما أخره إلى وقت حصوله، وتأخيره لا يبطل النكاح.(5/135)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: «روى أبو هريرة قال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما تحفظ من القرآن؟ " قال: سورة البقرة والتي تليها، قال: " قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك» قال عبد الحق: من رواية عسل بن سفيان: ضعفه يحيى بن معين وأحمد، وقال أبو حاتم: منكر الحديث، وقال أبو عمر في كتاب " التمهيد ": ودعوى التعليم بما معك من القرآن دعوى باطلة، لا تصح، وأكثر أهل العلم لا يجيزون ما قاله الشافعي.
وقال أبو الفرج في " التحقيق " عن أبي اليمان الأزدي قال: زوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة من رجل على سورة من القرآن، لا يكون لأحد بعدك مهرا، وفي " مصنف " ابن أبي شيبة عن شعبة قال: سألت حمادا عن رجل وهب ابنته من رجل، فقال: كل منهما لا يجوز إلا بصداق.
فإن قلت: روى الترمذي وابن ماجه، عن عاصم، «عن عبد الله قال: سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز نكاح امرأة على نعلين» وقال: حديث حسن. قلت: قال ابن الجوزي في " التحقيق ": عاصم بن عبد الله بن معين ضعيف لا يحتج به، وقال ابن حبان: كان فاحش الخطأ فترك.
فرع: يجوز الدخول بها قبل أن يعطيها شيئا من صداقها سواء كانت مفوضة أو مسمى لها، وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن، والنخعي، والثوري، والشافعي، وأحمد وعامة أهل العلم.
وروي عن ابن عمر، وابن عباس، والزهري، وقتادة ومالك أنه لا يدخل بها حتى يعطيها شيئا، قال الزهري: مضت السنة عليه، واستدلوا بمنعه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عليا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - من الدخول على فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - حتى يعطيها شيئا فأعطاها درعه الحطمية.(5/136)
ولو سمى أقل من عشرة فلها العشرة عندنا. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مهر المثل لأن تسمية ما لا يصلح مهرا كانعدامه. ولنا أن فساد هذه التسمية لحق الشرع، وقد صار مقتضيا بالعشرة، فأما ما يرجع إلى حقها فقد رضيت بالعشرة لرضاها بما دونها، ولا معتبر بعدم التسمية لأنها قد ترضى بالتمليك من غير عوض تكرما، ولا ترضى فيه بالعوض اليسير،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولنا حديث عقبة بن عامر، الذي زوجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يعطها شيئا، وروى ابن أبي شيبة من حديث كريب بن هشام، وكان من أصحاب عبد الله أنه تزوج امرأة على أربعة آلاف ودخل بها قبل أن يعطيها شيئا.
[سمى أقل من عشرة في المهر]
م: (ولو سمى أقل من عشرة فلها العشرة عندنا) ش: وقال ابن القاسم في " المدونة ": إن سمى أقل من ربع دينار أو ثلاثة دراهم إن كمل قبل الدخول ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، وإلا فسخ عليه وبعد الدخول أجبر على تكميله أقل الصداق، وإن طلقها قبل الدخول يجب عليه نصف المسمى.
وقال غيره من المالكية: التسمية فائدة ويفسخوا على كل حال، ولم يوجبوا مهر المثل، وأوجبوا مهر المثل في تسمية الخمر والخنزير، وصححوا العقد.
م: (وقال زفر: مهر المثل) ش: أي يجب مهر المثل م: (لأن تسمية ما لا يصلح مهرا كانعدامه) ش: يعني فلا تسمية كما في الخمر والخنزير وهو القياس.
م: (ولنا) ش: وهو وجه الاستحسان م: (أن فساد هذه التسمية لحق الشرع) ش: وحق الشرع يتأدى بالعشرة وهو معنى قوله: م: (وقد صار مقتضيا بالعشرة) ش: باعتبار أن العشرة في كونها صداقا لا يتجزأ، وذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر كله، كما لو أضاف النكاح إلى بعضها صح في جميعها م: (فأما ما يرجع إلى حقها) ش: أي إلى حق المرأة م: (فقد رضيت بالعشرة لرضاها بدونها) ش: أي بما دون العشرة؛ لأن من رضي بخمسة فقد رضي بالعشرة بلا شك، وما زاد على العشرة فهو حقها، ثم رضاها بالخمسة إسقاط حقها وتفضي عن حق الشرع، فيصح تصرفها في حقها دون حق الشرع فتتم العشرة، بخلاف ما إذا لم يوجد التسمية، لأن الإنسان قد رضي بإسقاط الحق تكرما وتفضلا طلبا للتناسل الجميل، ولا يرضى الشيء القليل لما إذا كانت راضية بالعشرة.
م: (ولا معتبر بعدم التسمية) ش: هذا جواب عن قوله: كانعدامه تقريره أن هذا القياس غير صحيح م: (لأنها قد ترضى بالتمليك من غير عوض تكرما) ش: أي لأجل التكرم على الزوج م: (ولا ترضى فيه بالعوض اليسير) ش: ترفعا في المعاوضة فلا تكون التسمية دليلا على عدم الرضى بالعشرة، فلذلك لم يجب العشرة وإنما يجب مهر المثل بخلاف الرضا بما دون العشرة، فإنه رضا بها لا محالة.(5/137)
ولو طلقها قبل الدخول بها تجب خمسة عند علمائنا الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وعنده تجب المتعة كما إذا لم يسم شيئا. ومن سمى مهرا عشرة فما زاد فعليه المسمى إن دخل بها أو مات عنها؛ لأنه بالدخول يتحقق تسليم المبدل، وبه يتأكد البدل، وبالموت ينتهي النكاح نهاية، والشيء بانتهائه يتقرر ويتأكد فيتقرر بجميع مواجبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[طلقها قبل الدخول بها]
م: (ولو طلقها قبل الدخول بها يجب خمسة عند علمائنا الثلاثة وعنده) ش: أي عند زفر (تجب المتعة كما إذا لم يسم شيئا) ش: وعند مالك على قول ابن القاسم والشافعي وأحمد يجب نصف المسمى، والجواب عن قياس زفر على قيمة الخمر والخنزير، فنقول بخلاف الخمر، والخنزير، هذا لأن ما دون العشرة يصلح أن يكون مسمى مضمونا إلى غيره من المال فيصح بانفراده أيضا، أما الخمر والخنزير فلا تصح تسميتها مع غيرهما أصلا، فبطلت التسمية فوجب مهر المثل. وعلى هذا لو تزوجها على ثوب يساوي فلها الثوب وخمسة دراهم، فلو طلقها قبل أن يدخل بها فلها نصف الثوب ودرهمان ونصف، وإنما يعتبر قيمة الثوب يوم العقد، وكذا إذا سمى مكيلا أو موزونا، إلا أن الفرق بينهما إذا جاء بقيمة الثواب أجبرت المرأة على القبول، وإذا جاء بقيمة المكيل أو الموزون لا تجبر.
وقال الكاكي: ويعتبر قيمة الثوب يوم التزوج، وقيمة المكيل، أو الموزون يوم القبض، وروى الحسن، عن أبي حنيفة أنه يعتبر في الثوب قيمته يوم القبض، وفي المكيل والموزون يوم العقد.
م: (ومن سمى مهرا عشرة فما زاد فعليه المسمى إن دخل بها أو مات عنها) ش: اعلم أن المهر يجب بالعقد، إما بالتسمية إذا وجدت، وإلا فبالحكم، أعني مهر المثل بحكم الشرع، ثم يستقر المهر بأحد أشياء ثلاثة، إما بالدخول أو بموت أحد الزوجين، وإما بالخلوة الصحيحة، فذكر المصنف الأوليين وهما الدخول وموت أحد الزوجين.
ثم علل بقوله: م: (لأن بالدخول يتحقق تسليم المبدل) ش: وهو البضع م: (وبه يتأكد البدل) ش: وهو المهر فيجب عليه إيفاء البدل، كما إذا قبض المبيع يستقر عليه الثمن (وبالموت) ش: أي بموت أحد الزوجين م: (ينتهي النكاح نهاية) ش: أي يبلغ منتهاه، ولا يبقى بعده شيء (والشيء بانتهائه يتقرر ويتأكد) ش: لأنه لا يبقى قابلا للتغيير م: (فيتقرر بجميع مواجبه) ش: الممكن تقريرها لوجوب المقتضى، وانتهاء المانع كالإرث، والعدة، والمهر والنسب.
وقلنا: مواجبه الممكن تقريرها احترازا عن النفقة، وحل الزوج بعد انقضاء العدة فإن النفقة لا تجب بعد الموت، ولا يحل لها الزوج بعد انقضائها، ولا خلاف للأئمة الأربعة في هذه المسألة.
وقال أبو سعيد الإصطخري - من أصحاب الشافعي -: إن كانت الزوجة أمة لا يستقر لها(5/138)
وإن طلقها قبل الدخول بها والخلوة فلها نصف المسمى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] الآية (البقرة: الآية 237) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المهر بموتها، قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنه يستقر بموته.
[طلقها قبل الدخول بها والخلوة]
م: (فإن طلقها قبل الدخول بها والخلوة فلها نصف المسمى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] الآية (البقرة: الآية 237) ش: منصوبة بتقدير فعل، أي اقرأ الآية بكمالها، ويجوز رفعها على الابتداء، وخبره محذوف تقديره الآية بتمامها ونحو ذلك، وتمامها هو قَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237] (البقرة: الآية 237) .
قَوْله تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237]- أي من قبل أن تجامعوهن - والمس الجماع إجماعا، أو ملحق الخلوة الصحيحة على ما يأتي إن شاء الله تعالى، وقَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أي والحال أنكم قد فرضتم، أي قدرتم، ومعنى الفرض هنا التقدير.
وقيل: كلمة أو بمعنى الواو، أي وما لم تفرضوا، قَوْله تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أي الواجب نصف ما فرضتم. قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] أي المطلقات، وهو استثناء من قَوْله تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] تقديره الواجب نصف ما فرضتم إلا أن يعفو الزوجات فليس بواجب.
واعلم أن صيغة يعفون مشتركة بين الرجال والنساء في الصورة، ولكن في التقدير مختلفة، فوزن صيغة الرجال في الأصل يفعلون لأن حاصله يعفون استثقلت الضمة على الواو، مع ضمة ما قبلها، فحذفت، ثم حذفت الواو لالتقاء الساكنين، والواو الموجودة فيه ضمير الجماعة والنون علامة الرفع، ووزن صيغة النساء يفعلن، والواو لام الفعل فيه، والنون ضمير جمع النساء، وهو مبني والأول معرب رفعه بإثبات النون ونصبه وجزمه بحذفها.
قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] فذهب أصحابنا إلى أنه الزوج، وقال أبو بكر بن المنذر في " الأشراف ": روينا ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وعبد الله بن عباس، وجبير بن مطعم، ونافع بن جبير، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وشريح، ومجاهد، ومحمد بن كعب، وقتادة، والربيع، ونافع مولى ابن عمر، والأوزاعي، وابن شبرمة، والضحاك، وابن جريج، وابن حبان، وجابر بن زيد، وابن سيرين، والشعبي، والنخعي، وطاوس، وإياس بن معاوية، والثوري والليث، والشافعي في الجديد، خلاف ما ذكره عنه الزمخشري، وابن الخطيب في " تفسيرهما "، وهو قول أحمد، وهكذا ذكره أبو بكر الرازي، وأبو بكر بن أبي شيبة في " مصنفه "، والموفق ابن قدامة في " المغني ".(5/139)
والأقيسة متعارضة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى الدارقطني بإسناده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولي العقدة الزوج» " وقال علقمة، والحسن، وعطاء، وعكرمة وأبو الزياد: هو الولي، وقال مالك: والأب وحده في حق البكر، وهو قول الشافعي في القديم، والجد والأب فيه، وفي " المغني " وهو قول أحمد في القديم: في حق الأب خاصة بخمس شرائط: أن يكون الذي بيده عقدة النكاح أبا، وأن تكون صغيرة، وأن تكون بكرا، وأن تكون مطلقة، ولا يجوز عفو الأب في الطلاق، وأن يكون قبل الدخول.
وفي " المبسوط ": في القديم يجوز بأربع شرائط.
الأولى: في حق المجبر كالأب والجد.
الثانية: أن تكون ممن لا تملك أمر نفسها.
الثالثة: أن يكون بعد الطلاق.
الرابعة: أن يكون دينا لا عينا.
وقال أبو محمد: لا فرق بين الدين والعين. م: (والأقيسة متعارضة) ش: الأقيسة جمع قياس وهو معروف، هذا جواب إشكال، وهو أن يقال: ينبغي أن يسقط الكل لأن الطلاق قبل الدخول بعود المعقود عليه، وهو البضع إليها سالما، فينبغي أن يسقط كل البدل، كما إذا تبايعا ثم تقايلا. فأجاب عنه بقول: والأقيسة متعارضة، يعني هذا القياس يقتضي هكذا، لكن هذا قياس آخر يقتضي وجوب كل المهر، وهو أن الطلاق قاطع بملك النكاح فيه في وجوب كل المهر لأنه فوت ما ملكه باختياره، وذلك يقتضي وجوب كل المهر كالمشتري إذا تلف البيع قبل القبض، فإذا تعارض القياسان وجب المصير إلى النص، فقلنا باستقرار نصف المهر وسقوط نصفه. واعترض عليه بشيئين: أحدهما: أنه ليس هنا إلا قياسان، ولا ثالث لهما. والآخر: أن ظاهر كلامه يدل على أن الرجوع إلى النص إنما كان لتعارض القياسين وليس الأمر كذلك فإنه لا اعتبار بالقياس مع وجود وافق وخالف. أما إن خالف فهو متروك مردود، وأما إذا وافق فإن الحكم بالنص ثابت عندنا بعين النص لا بالعلة، ومنهم من قال: إنا نعمل بالقياسين ثبوتا وسقوطا، فالقياس المقتضي لوجوب الكل يعمل به في إيجاب الصرف، والقياس الذي يقتضي إسقاط الكل يعمل به في إسقاط النصف عملا بهما، وهو مقتضى النص. وذكر في " الحواشي ": العمل بالقياس في معرضة النص المخصوص جائز، وهذا النص قد خص منه الطلاق قبل الدخول بعد(5/140)
ففيه تفويت الزوج الملك على نفسه باختياره، وفيه عود المعقود عليه إليها سالما، فكان المرجع فيه إلى النص، وشرط أن يكون قبل الخلوة لأنها كالدخول عندنا، على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
قال: وإن تزوجها ولم يسم لها مهرا، أو تزوجها على أن لا مهر لها فلها مهر مثلها إن دخل بها أو مات عنها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخلوة فيستقيم الرجوع إلى النص المخصوص لتعذر العمل بالقياس، انتهى.
قلت: لا يجوز ترك النص المخصوص بالقياس، وإنما الجائز بالقياس زيادة التخصيص بعدما خص النص بدليل ولا يجوز تخصيصه بالقياس قبل أن يخص.
فإن قلت: ليس من بيان التعارض بين القياسين تركهما، بل العمل بأحدهما.
قلت: الأصل أن الدليلين إذا تعارضا ولم يكن ترجيح أحدهما على الآخر [....] ، أو تساقطا ولم يعمل بأحدهما بالترجيح من غير مرجح.
م: (ففيه) ش: أي في الطلاق قبل الدخول والخلوة، والفاء فيه تفسيرية، تفسير التعارض بين القياسين، ففسر الأول بقوله: - بموت الزوج - والثاني بقوله: - وقد عرف المعقود عليه - إلى آخره م: (تفويت الزوج الملك على نفسه باختياره) ش: قوله: - تفويت الزوج الملك على نفسه باختياره - تفويت مصدر مضاف إلى فاعله، والملك منصوب لأنه مفعول، والباء في باختياره تتعلق بقوله - تفويت الزوج.
م: (وفيه) ش: أي في الطلاق، قيل: الدخول أيضا م: (عود المعقود عليه) وهو البضع (إليها) أي إلى المرأة حال كونه م: (سالما فكان المرجع فيه) ش: أي في حكم هذا الأمر المرجع، أي الرجوع وهو مصدر ميمي م: (إلى النص) ش: منصوب لأنه خبر كان، وأشار به إلى القياسين تركا وعملا بالنص، وهذه الآية المذكورة.
م: (وشرط) ش: أي القدوري لأن المسألة من مسائله م: (أن يكون قبل الخلوة، لأنها كالدخول عندنا، على ما نبينه إن شاء الله تعالى) ش: ويأتي بيانه عن قريب في هذا الباب.
[تزوجها ولم يسم لها مهرا]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن تزوجها، ولم يسم لها مهرا، أو تزوجها على أن لا مهر لها فلها مهر مثلها إن دخل بها، أو مات عنها) ش: هاتان صورتان، الأولى أن يزوجها ولم يسم لها مهرا، يعني سكت عنه، والثانية على أن يتزوجها على أن لا مهر لها، يعني يشترط أن لا مهر لها، وهي مسألة المفوضة، وهي التي فوضت نفسها بلا مهر فلها مهر مثلها إن دخل بها، أو مات عنها، وفي " الذخيرة ": وكذا لو ماتت هي.
ومذهبنا قول عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ونصابه، وبه قال الحسن البصري، ورواه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ذكره عنه ابن أبي شيبة، والحسن بن حي، وابن شبرمة، وابن(5/141)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجب شيء في الموت، وأكثرهم على أنه يجب بالدخول. له أن المهر خالص حقها فتتمكن من نفيه ابتداء، كما تتمكن من إسقاطه انتهاء. ولنا أن المهر وجوبا حق الشرع على ما مر. وإنما يصير حقا لها في حالة البقاء فتملك الإبراء دون النفي.
ولو طلقها قبل الدخول بها فلها المتعة لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] الآية (البقرة: الآية 236)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبي ليلى، والشافعي في - رواية البويطي - وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور وابن جرير الطبري، وداود وفيما إذا تركا، ذكره، وإن نفيا بطل النكاح.
م: (وقال الشافعي: لا يجب شيء في الموت) ش: أي لا يجب لها إذا مات عنها قبل الدخول م: (وأكثرهم) ش: أي وأكثر أصحاب الشافعي (على أنه يجب بالدخول) ش: كمذهبنا، وبه قال أحمد.
وقال بعض أصحاب الشافعي: لا يجب لها شيء بالدخول، وفي الموت للشافعي قولان، أحدهما أن يجب، والثاني أنه لا يجب، وهو قول مالك في صورة نفي المهر. م: (له) ش: أي للشافعي م: (أن المهر خالص حقها، فتتمكن من نفيه ابتداء) ش: أي في ابتداء العقد، كالمفوضة، فلها أن تفوض نفسها بلا مهر م: (كما تتمكن من إسقاطه انتهاء) ش: أي في انتهاء العقد، فإن لها أن تسقط مهرها بعد العقد، كالخلع، واحتج الشافعي أيضا بما روي عن علي، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أنهم قالوا: لها الميراث، ولا صداق لها وعليها العدة.
م: (ولنا أن المهر وجوبا) ش: أي من حيث الوجوب م: (حق الشرع) ش: بدليل قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] (النساء: الآية 24) {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا} [الأحزاب: 50] (الأحزاب: الآية 50) ، وعلم من خصوصية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النكاح بغير مهر أنه في حق غيره، لا ينعقد إلا موجبا للمهر، وفي " المحيط ": في المهر حقوق ثلاثة، حق الشرع وهو أن لا يكون أقل من عشرة، وحق الأولياء وهو أن لا يكون أقل من مهر مثلها، وحق المرأة وهو كونه ملكا لها غير أن حق الشرع، وحق الأولياء يعتبر وقت العقد لا في حالة البقاء.
م: (وإنما يصير حقا لها في حالة البقاء، فتملك الإبراء دون النفي) ش: لأن الأصل أن تلاقي التصرف ما يملكه دون ما لا يملك، ولهذا ملكت الإبراء انتهاء دون النفي ابتداء.
م: (ولو طلقها قبل الدخول بها فلها المتعة) ش: وإنما لم يقل: فإن طلقها قبل الدخول أو الخلوة، بل قال: قبل الدخول فقط مع أن الخلوة شرط أيضا، لأن الدخول يشملها، إذ الخلوة دخول حكما م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] الآية) (البقرة: الآية 236) ش: قد مر الكلام في قوله - الآية - عن قريب، وجه الاستدلال أن الله تعالى قال: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] والفريضة هي المهر، أي لا جناح(5/142)
ثم هذه المتعة واجبة رجوعا إلى الأمر، وفيه خلاف مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. والمتعة ثلاثة أثواب من كسوة مثلها، وهي درع، وخمار، وملحفة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عليكم في الطلاق في الوقت الذي لم يحصل المساس، وفرض الفريضة، وأمر بالمتعة مطلقا، وهو على الوجوب، وقال: حقا وذلك يقتضيه أيضا، وذكر بكلمة على.
م: (ثم هذه المتعة واجبة رجوعا إلى الأمر) ش: أي لأجل الرجوع إلى الأمر، لأن مقتضاه الوجوب عند الإطلاق، والمتعة الواجبة عندنا هي هذه وحدها، والباقية مستحبة إلا إذا كانت الفريضة من قبل المرأة، حيث لا تسمى لها المتعة، لأنها جانبه، ومذهبنا هو قول ابن عمر، وابن عباس، والحسن، وعطاء، وجابر بن زيد، والشعبي، والنخعي، والزهري، والثوري، والشافعي في رواية الجماعة عنه، وعنه يجب نصف مهر المثل.
م: (وفيه خلاف مالك) ش: أي في الحكم المذكور خلاف مالك، فإن عنده مستحبة، وهو قول ابن أبي ليلى، والليث لأنه تعالى قال: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] والمحسن اسم للمتطوع، والوجوب لا يتقيد بالمحسن.
قلنا: قد فسر الإحسان بالإيمان، ولأن التقييد بالمحسن لا ينفي الوجوب على غيره، كما قال الله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] مع أنه هدى لهم ولغيرهم قال الكاكي: والصحيح من مذهبه كمذهبنا.
م: (والمتعة ثلاثة أثواب من كسوة مثلها) ش: أي مثل المرأة، وهذه اللفظة أعني من كسوة مثلها لفظ القدوري في مختصره، أشار بهذا إلى اعتبار حالها في الكسوة على ما يجيء الآن.
م: (وهي درع وخمار وملحفة) ش: فسر بهذا قوله: - والمتعة أثواب - لأن ذكر الأثواب يتناول أكثر من الثلاثة ففسر الأثواب بقوله: - وهي درع وخمار وملحفة - أي الأثواب المذكورة هي هذه لا غير.
والدرع هو ما تلبسه المرأة فوق القميص وهو مذكر، قاله صاحب " المغرب "، وعن الحلواني هو جابية إلى الصدر، وقال ابن الأثير: درع المرأة قميصها والخمار ما تغطي المرأة به رأسها، والملحفة بكسر الميم الملاءة، وهي ما تلتحف به المرأة.
وفي " الذخيرة ": المتعة ثلاثة أثواب، قميص ومقنعة وملحفة وسط، لا جيد غاية الجودة، ولا رديء غاية الرداءة، ولا يزاد على نصف مهر مثلها، ولا ينقص عن خمسة دراهم.
وفي " الينابيع ": إن كانت من السفلة فمتعتها من الكرباس، وإن كانت من الوسط فمتعتها من القز، وإن كانت مرتفعة الحال فمتعتها من الإبريسم وهذا هو الصحيح.
وفي " المغني ": أعلاها خادم، يروى ذلك عن ابن عباس، وكذا ذكره عنه في " النتف "،(5/143)
وهذا التقدير مروي عن عائشة وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وقوله: من كسوة مثلها إشارة إلى أنه يعتبر حالها، وهو قول الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المتعة الواجبة لقيامها مقام مهر المثل، والصحيح أنه يعتبر بحاله عملا بالنص، وهو قَوْله تَعَالَى:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأدناها كسوة تجوز فيه الصلاة، وإن كان فقيرا يمتعها درعا وخمارا وثوبا تصلي فيه، وقال الأوزاعي والثوري، وعطاء، ومالك، وأبو عبيدة كقولنا.
وعن أحمد في رواية: يرجع فيها إلى الحاكم وهو أحد قولي الشافعي وهو بعيد، وروى عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه طلق الكلبية، وحممها جارية أي متعها. وقال النخعي: العرب تسمي المتعة التحميم، وروي عن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أنه طلق امرأة ومتعها بعشرة آلاف، فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق.
وفي " التنبيه ": طلق امرأة قبل الفرض والمس، تجب المتعة، وروي عن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وبعد المسيس يجب مهر المثل، وفي المتعة قولان: قبل الفرض، وإن وجب لها نصف مهر المثل فلا متعة، وفي " المنهاج ": تجب متعة إذا لم يجب نصف مهر المثل قبل الوطء، وكذا الموطوءة في الأظهر مع مهر المثل.
م: (وهذا التقدير) ش: أي التقدير بثلاثة أثواب م: (مروي عن عائشة، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -) ش: قال الأترازي: ولنا ما روى أصحابنا في " المبسوط " وغيره، وابن عباس، وعائشة، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، والشعبي، أن المتعة ثلاثة أثواب، والبيهقي روى عن ابن عباس.
م: (وقوله) ش: أي قول القدوري في المختصر: م: (من كسوة مثلها إشارة إلى أنه يعتبر حالها) ش: أي حال المرأة.
وفي " البدائع ": ثم قيل: تعتبر المتعة بحاله، وبه قال أبو يوسف، وقيل: تعتبر بحالهما، وقيل: في المتعة الواجبة بحالها لأنها قائمة مقام مهر المثل، وفي المستحبة بحاله، قال: في الآية إشارة إلى اعتبار حالهما، فلو اعتبرنا بحاله وحده لسوينا بين الشريفة والوضيعة في المتعة، وذلك غير معروف بين الناس، بل هو منكر.
م: (وهو قول) ش: الشيخ م: (الكرخي في المتعة الواجبة) ش: أي الاعتبار بحال المرأة، وهو قول الشيخ أبي الحسن الكرخي م: (لقيامها) ش: أي لقيام المتعة م: (مقام مهر المثل) ش: لأنها تجب عند سقوط مهر المثل، وفي مهر المثل يعتبر بحالها، فكذا في حقه، وهكذا في النفقة والكسوة م: (والصحيح أنه يعتبر بحاله) ش: أي بحال الرجل، وهو اختيار أبي بكر الرازي واختيار المصنف، وهو الصحيح من مذهب الشافعي أيضا. م: (عملا بالنص وهو قَوْله تَعَالَى:(5/144)
{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] (البقرة: الآية 236) ، ثم هي لا تزاد على نصف مهر مثلها ولا تنقص عن خمسة دراهم، ويعرف ذلك في الأصل. وإن تزوجها ولم يسم لها مهرا، ثم تراضيا على تسميته فهي لها إن دخل بها، أو مات عنها، وإن طلقها قبل الدخول بها فلها المتعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] (البقرة: الآية 236) ش: بيانه أن الله تعالى اعتبر حال الرجل دون حال المرأة، والتعليل في معارضة النص باطل، والموسع هو الغني والفقير المقل.
م: (ثم هي) ش: أي المتعة م: (لا تزاد على نصف مهر مثلها) ش: وبه قال الشافعي في قول، وفي قول لا يعتبر بمهر المثل، وفي بعض النسخ، ثم هو، فالتأنيث على إرادة المتعة، والتذكير على إرادة قدر المتعة (ولا تنقص عن خمسة دراهم) ش: لأن المتعة وجبت عوضا عن البضع، وكل العوض لا يجوز أن يكون أقل من عشرة، فنصف العوض لا يجوز ان يكون أقل من خمسة، وهذا معنى ما أحله في الأصل، وهو قوله: م: (ويعرف ذلك في الأصل) ش: أي " المبسوط ".
بيان ذلك أن المتعة إما أن تكون زائدة على نصف مهر المثل أو لا، فإن كانت زائدة فلها نصف المثل هو العوض، ولكن تعذر بنصفه لجهالته، فيصار إلى خلفه وهو المتعة، فلا يزاد على نصف مهر المثل، وإن لم تكن، فإما أن يكون مساويا له أو لا، فإن كان مساويا له فلها المتعة اتباعا للنص، وإن لم يكن فإما أن يكون أقل من خمسة دراهم أو لا، فإن كان فلها الخمسة لأن المهر هو الأصل، والمتعة خلف ولا مهر أقل من عشرة دراهم، فلا متعة أقل من خمسة، وإن لم يكن فلها المتعة بالنص.
فإن قيل: نص المتعة مطلق عن هذه التفاصيل، نفيها تقييد له وهو نسخ، فالجواب أن قَوْله تَعَالَى {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] الأحزاب: الآية 50) دل على أن المهر مقدر شرعا، فالإيجاب بالتسمية في مهر من يعتبر بمهره مهر المثل، بيان ذلك القدر المجمل، وكذلك قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ولا مهر أقل من عشرة دراهم» فكان معارضا لآية المتعة، والتفصيل على الوجه المذكور توفيق بينهما، انتهى.
قلت: هذا كلام الأكمل، نقله عن شيخه.
[تزوجها ولم يسم لها مهرا ثم تراضيا على تسميته]
م: (وإن تزوجها ولم يسم لها مهرا، ثم تراضيا على تسميته فهي لها إن دخل بها أو مات عنها) ش: هذا بالإجماع، وكذا الحكم لو رافعته إلى القاضي ففرض لها مهرا؛ لأن لها أن تطالبه، وترافعه إلى القاضي؛ ليفرض لها مهرا، كذا ذكره التمرتاشي.
م: (وإن طلقها قبل الدخول بها فلها المتعة) ش: وهو قول أبي يوسف، في قوله المرجوع إليه،(5/145)
وعلى قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول نصف هذا المفروض، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه مفروض، فيتنصف بالنص. ولنا أن هذا الفرض تعيين للواجب بالعقد، وهو مهر المثل، وذلك لا يتنصف، فكذا ما نزل منزلته، والمراد بما تلا الفرض في العقد، إذ هو الفرض المتعارف. قال: فإن زادها في المهر بعد العقد لزمته الزيادة، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وسنذكره في زيادة الثمن والمثمن إن شاء الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو رواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: م: (وعلى قول أبي يوسف الأول نصف هذا المفروض) ش: أي لها نصف المفروض الذي فرض لها.
م: (وهو قول الشافعي) ش: أي قول أبي يوسف الأول، وهو قول مالك أيضا، وفي ظاهر الرواية عن أحمد، وهو قول ابن عمر، وعطاء، والشعبي، والنخعي م: (لأنه مفروض) ش: كالمسمى م: (فيتنصف بالنص) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] .
م: (ولنا أن هذا الفرض) ش: أي الفرض الذي بعد العقد م: (تعيين للواجب بالعقد وهو مهر المثل، وذلك لا يتنصف، فكذا ما نزل منزلته) ش: فأنزل منزلة مهر المثل، وأراد بالنازل منزلة المسمى بعد العقد م: (والمراد بما تلا) ش: أي المراد بما تلاه أبو يوسف من قَوْله تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] م: (الفرض في العقد) ش: يعني: حالة النكاح، قوله: الفرض: مرفوع؛ لأنه خبر المبتدأ أعني قوله: والمراد م: (إذ هو الفرض المتعارف) ش: لأن الفرض المطلق لا عموم له. م: (قال) ش: أي القدوري في مختصره: م: (وإن زادها في المهر بعد العقد لزمته الزيادة) ش: وبه قال أحمد م: (خلافا لزفر) ش: حيث يقول: لا تصح الزيادة، وبه قال الشافعي؛ لأن الزيادة هيئة مبتدأ، لا تلحق بأصل العقد إن قبضت ملكت، وإلا فلا، وعند المصنف أن يذكره فيما يأتي حيث قال: (وسنذكره في زيادة الثمن والمثمن إن شاء الله تعالى) أي في فصل يذكر بعد باب المراجعة والتولية، قال الأكمل: نحن نتبعه في ذلك، قلت: نحن لا نتبع ما قاله الأكمل، فنقول قال في " المبسوط ": ودليل جواز الزيادة قَوْله تَعَالَى: {فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24] (النساء: الآية 24) معناه من فريضة بعد الفريضة، وبقولنا قال أحمد في الزيادة في النكاح: ولا يجوز الزيادة في البيع.
وفي " شرح الطحاوي ": تزوجها على ألف، ثم على ألفين لا يثبت المهر الثاني خلافا لأبي يوسف؛ لأنهما فقدا إثبات الزيادة في ضمن العقد، فلم يثبت العقد، فكذا الزيادة.
وفي " شرح الأسبيجابي ": جدد النكاح على ألف آخر تثبت التسميتان عند أبي حنيفة، وعندهم لا تثبت الثانية وكذا لو راجع المطلقة بألف، وقيل: لو قال: لا أرضى بالمهر الأول(5/146)
وقيل: وإذا صحت الزيادة تسقط بالطلاق قبل الدخول، وعلى قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -لا تتنصف مع الأصل؛ لأن التنصيف عندهما يختص بالمفروض في العقد، وعند أبي يوسف المفروض بعده كالمفروض فيه، على ما مر. وإن حطت عنه من مهرها صح الحط؛ لأن المهر بقاء حقها، والحط يلاقيه حالة البقاء.
وإذا خلا الرجل بامرأته وليس هناك مانع من الوطء، ثم طلقها فلها كمال المهر وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لها نصف المهر؛ لأن المعقود عليه إنما يصير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أو أبرأته، ثم قالت: لا أقيم معك بدون المهر، ولو وهبت مهرها، ثم جدد المهر لا يجب الثاني بالاتفاق.
م: (وقيل) ش: أي على الاختلاف م: (وإذا صحت الزيادة تسقط بالطلاق قبل الدخول، وعلى قول أبي يوسف ولا تنتصف) ش أي الزيادة م: (مع الأصل؛ أن التنصيف عندهما يختص بالمفروض في العقد) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد، وهو قول أبي يوسف في قوله المرجوع إليه، وهو رواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
م: (وعند أبي يوسف المفروض بعده) ش: أي بعد العقد م: (كالمفروض فيه) ش: أي في العقد (على ما مر) بيانه في المسألة المتقدمة م: (وإن حطت عنه من مهرها صح الحط) ش: يعني إن حطت المرأة عن الزوج من مهرها، صح الحط فيلحق بالعقد م: (لأن المهر بقاء حقها، والحط يلاقيه حالة البقاء) ش: أي الحط يلاقي حقها حالة البقاء، لا حالة الابتداء، وقد بقي حقها على التمييز، ولو قال: حقها بقاء لكان أولى؛ لأن التمييز لا يجوز تقديمه عليه إتفاقا، وخالف المازني والمبرد في تقديمه على الفعل، ومذهب سيبويه أن لا يتقدم عليه وموضعه كتب النحو.
[خلا الرجل بامرأته وليس هناك مانع من الوطء ثم طلقها]
م: (وإذا خلا الرجل بامرأته وليس هناك مانع من الوطء ثم طلقها فلها كمال المهر) ش: قال ابن المنذر في " الأشراف " وأبو بكر بن أبي شيبة في " مصنفه "، وأبو بكر الرازي في " أحكام القرآن ": هذا قول عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وجابر، ومعاذ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وبه قال عروة بن الزبير وعلي بن الحسين، وزين العابدين، وسعيد بن المسيب، والزهري، والنخعي، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، والشافعي في قوله القديم، وحكى الطحاوي أنه إجماع الصحابة، وقال أبو بكر الرازي: هو اتفاق الصدر الأول. وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن عوف، عن زرارة بن أبي أوفى قال: سمعته يقول: قضاء الخلفاء الراشدين المهديين أن من أغلق بابا، أو أرخى سترا فقد وجب المهر، ووجبت العدة، ومثله في رواية أبي بكر الرازي.
وقال الأترازي: هذا إذا كان المهر مسمى، وإن لم يكن المهر مسمى فلها صداق مثلها، وإن لم تصح الخلوة فلها نصف المهر، وإن لم يكن المسمى فلها المتعة، كذا في " مختصر " الطحاوي، والخلوة الصحيحة قائمة مقام الدخول عندنا في تأكيد المهر، ووجوب العدة، وثبوت(5/147)
مستوفى بالوطء، فلا يتأكد المهر دونه. ولنا: أنها سلمت المبدل حيث رفعت الموانع، وذلك وسعها، فيتأكد حقها في البدل اعتبارا بالبيع.
وإن كان أحدهما مريضا، أو صائما في رمضان، أو محرما بحج فرض، أو نفل، أو بعمرة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النسب، ونفقة العدة، والسكنى، وتزوج البنت، وتحريم الأمة على قول أبي حنيفة.
وفي " الذخيرة ": ولم يقيموها مقام الوطء في حق الإحصان، وحرمة البنات وحلها للأولاد الرجعة والميراث، وأما وقوع طلاق آخر فقد قيل: لا يقع، وقيل: يقع، وهو أقرب إلى الصواب؛ لأنه لا احتياط، ثم هذا الطلاق، بل يكون رجعيا أو بائنا، قال شيخ الإسلام في باب العين: يكون بائنا.
م: (وقال الشافعي: لها نصف المهر) ش: وهو قول شريح، والشعبي، وطاوس، وابن سيرين، وأبي ثور، وقال أبو بكر الرازي، وابن المنذر: وروي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مثله، قالا: لا يصح ذلك عنهما لأن في حديث ابن عباس، ليث بن أبي سليم وهو ضعيف.
وقال مالك والرازي وابن المنذر: إن خلا بها في منزلها فلها نصف المهر، وإن خلا بها في منزله فلها المهر كله، وذكر أبو بكر الرازي عنه أنه قال: إن تطاول ذلك وجب المهر كاملا، وفي " الجواهر ": إن طال المقام، يتقرب الكمال في أحد القولين، ثم قيل: في عدة الطول سنة، وقيل: ما يعد طولا في العادة م: (لأن المعقود عليه) ش: وهو منافع البضع م: (إنما يصير مستوفى بالوطء) ش: فلم يوجد م: (فلا يتأكد المهر دونه) ش: أي دون الوطء والزوج لم يستوف المبدل من المرأة، فلا يجب عليه البدل.
م: (ولنا أنها) ش: أي المرأة م: (سلمت المبدل) ش: وهو منافع البضع م: (حيث رفعت الموانع) ش: وهو جمع مانعة، أي حالة مانعة من الوطء ويأتي تفسيرها عن قريب م: (وذلك) ش: أي رفع الموانع م: (وسعها) ش: أي وسع المرأة، وهو الذي تقدر عليه م: (فيتأكد حقها في البدل) ش: وهو المهر م: (اعتبارا بالبيع) ش: أي قياسا عليه، فإن التخلية فيه تسليم حتى يجب على المشتري تسليم الثمن، فكذا هنا يجب على الزوج تسليم البدل والمبدل، والمبدل في المعاوضات يتقرر بتسليم المبدل، بتحقق استيفائه، ألا ترى أن الأجر إذا خلا بين المستأجر والمستأجر يتأكد البدل، وإن لم يتحقق القبض، وهذا لأنه توقف بقدر البدل على حقيقة استيفاء المبدل، بما تمتنع من عليه البدل، عن الاستيفاء، فيتضرر من عليه المبدل وهو مرفوع شرعا.
وروى ابن أبي شيبة، عن جابر إذا نظر إلى فرجها، ثم طلقها فلها الصداق، وعليها العدة،(5/148)
أو كانت حائضا فليست الخلوة صحيحة، حتى لو طلقها كان لها نصف المهر؛ لأن هذه الأشياء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من كشف خمار امرأة، أو نظر إليها وجب الصداق، دخل بها أو لم يدخل» رواه الدارقطني وأبو بكر الرازي في " أحكامه "، وقال شريح: يجب بها العدة، ولا يتأكد بها المهر، كذا في " النتف ".
فإن قلت: هذا طلاق قبل المسيس فيتنصف بالنص، ومن قال بأن الخلوة مكملة فقد علق التنصيف بالخلوة، وهو خلاف النص، إذ النص علقه بعدم المس.
قلت: المس ليس بوطء حقيقة، وإنما هو حامل على الوطء لأنه سببه، فأطلق اسم السبب على المسبب، إذ الخلوة بالمس، ويتأيد ما ذكره بالنص، وهو قَوْله تَعَالَى {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] (النساء: الآية 20) ، والإفضاء الخلوة، وهو مأخوذ من الفضاء، وهو المكان الخالي، ونهى عن استرداد شيء من المهر.
وحمل المس على الخلوة هو أولى من حمله على الوطء؛ لأن المجوز للإطلاق ليس إلا الملازمة، وملازمة السبب للمسبب أقوى؛ لأن المسبب لا يوجد بدون السبب، والسبب قد يختلف في المسبب كما في البيع بشرط الخيار، فالسبب لازم دائما، والمسبب لازم في حال دون حال.
م: (وإن كان أحدهما مريضا) ش: هذا شروع في بيان الموانع إذا كان أحد الزوجين مريضا، والموانع جمع مانعة، وهي أقسام، مانع حقيقي كالمرض، ومانع طبيعي ككون المرأة رتقاء، أو قرناء، أو صغيرة لا تطيق الجماع، ومانع حسي، وهو أن يكون معهما ثالث، سواء كان بصيرا أو أعمى، يقظانا أو نائما، بالغا أو صبيا، يعقل، والمجنون، والمغمى عليه والصغير الذي لا يعقل لا يمنع وزوجته الأخرى تمنع.
وعن محمد: لا تمنع، وجاريته لا تمنع، بخلاف جاريتها، والكلب العقور يمنع وإن لم يكن عقورا، فإن كان للمرأة يمنع، وإن كان له لا يمنع، ومانع شرعي كالإحرام بحج فرض، ومانع طبيعي وشرعي كالحيض.
م: (أو صائما في رمضان) ش: هو مانع بلا خلاف، لما يلزمه من القضاء والكفارة م: (أو محرما) ش: أو كان أحد الزوجين محرما م: (بحج فرض، أو نفل، أو عمرة) ش: الكل سواء في(5/149)
موانع. وأما المرض فالمراد منه ما يمنع الجماع، أو يلحقه به ضرر، وقيل: مرضه لا يعرى عن تكسر وفتور، وهذا التفصيل في مرضها، وأما صوم رمضان لما يلزمه من القضاء والكفارة والإحرام لما يلزمه من الدم وفساد النسك والقضاء، والحيض مانع طبعا وشرعا. وإن كان أحدهما صائما تطوعا فلها المهر كله؛ لأنه يباح له الإفطار من غير عذر في رواية المنتقى، وهذا القول في المهر هو الصحيح. وصوم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المنع م: (أو كانت حائضا) ش: أو نفساء، فإنه مانع طبعا وشرعا م: (فليست الخلوة صحيحة) ش: هذا جواب عن الشرطية، أي فليست الخلوة صحيحة في الأشياء المذكورة.
م: (حتى لو طلقها كان لها نصف المهر، لأن هذه الأشياء) ش: يعني المرض وصوم رمضان، والإحرام مطلقا والحيض م: (موانع) ش: وفي " العيون "، والحائض، والمحرمة إذا جاءت بولد ثبت المهر بذلك كاملا، وإن جاءت بولد لأقل من ستة أشهر ثبت نسبه.
م: (أما المرض فالمراد منه ما يمنع الجماع، أو يلحقه به الضرر) ش: وهذا تقييد بتفصيل، وهو أن بالجماع إن كان لا يلحقه ضرر، فالخلوة صحيحة م: (وقيل: مرضه لا يعرى عن تكسر وفتور) ش: والتكسر في الأعضاء، والفتور في الذكر، وهذا بلا تفصيل وهو الأصح إذ لا تفصيل في مرضه، فكل مرض من جانبه يمنع صحة الخلوة؛ لأن جماع الرجل يوجب التكسر والفتور لا محالة م: (وهذا التفصيل في مرضها) ش: وهو الصحيح م: (وأما صوم رمضان لما يلزمه من القضاء والكفارة) ش: أراد به قوله ما يمنع بالجماع، أو يلحق به ضرر.
وفي " الذخيرة ": مرضها متنوع بلا خلاف، واختلفوا في مرضه، وقيل متنوع، وقيل: جميع أنواعه مانع على كل حال.
وفي " جوامع الفقه ": ومرضه أو مرضها يمنع إذا كان يضره الجماع، وقال الصدر الشهيد: يمنع جميع الخلوة؛ لأنه يجب بالإفطار القضاء والكفارة جميعا، وفي ذلك حرج فيكون مانعا.
م: (والإحرام) ش: عطف على قوله - صوم رمضان - تقديره، وأما الإحرام المطلق فإنه يمنع صحة الخلوة م: (لما يلزمه من الدم وفساد النسك والقضاء) ش: لأن الذي جامع في إحرامه تلزمه هذه الأشياء، وقد عرف في موضعه مفصلا م: (والحيض) ش: عطف على قوله - صوم رمضان - تقديره وأما الحيض فإنه م: (مانع طبعا وشرعا) ش: أما طبعا فلأن فيه من التلوث بالدم النجس، وأما شرعا فلقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] (البقرة: الآية 222) .
م: (وإن كان أحدهما) ش: أي أحد الزوجين م: (صائما تطوعا) ش: أي صوما تطوعا أو صائما متطوعا م: (فلها المهر كله) ش: لصحة الخلوة؛ لأنه لا يلزمه إلا القضاء وعلل المصنف(5/150)
القضاء والمنذور كالتطوع في رواية، لأنه لا كفارة فيه، والصلاة بمنزلة الصوم، فرضها كفرضه، ونفلها كنفله.
وإذا خلا المجبوب بامرأته، ثم طلقها فلها كمال المهر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: عليه نصف المهر؛ لأنه أعجز من المريض، بخلاف العنين؛ لأن الحكم أدير على سلامة الآلة ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المستحق عليها بالعقد التسليم في حق المستحق، وقد أتت به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بقوله: م: (لأنه يباح له الإفطار من غير عذر في رواية " المنتقى ") ش: بفتح القاف اسم كتاب في الفقه صنفه الحاكم الشهيد أبو الفضل محمد بن أحمد السلمي المروزي، وهو صاحب " الكافي " الذي يسمونه " مبسوطا ".
م: (وهذا القول في المهر هو الصحيح) ش: إشارة إلى وجوب كل المهر في صوم التطوع، واحترز بالصحيح عن قول من قال: صوم التطوع [ ... ] يمنع صحة الخلوة، لأنه لا يحل إبطاله إلا بعذر، وبهذا روي عن أبي حنيفة رواية إشارة.
وفي " النهاية " قوله: - وهذا القول في المهر هو الصحيح - أي أخذ رواية " المنتقى "، في حق كمال المهر دفعا للضرر عنها، وهو الصحيح، والثاني حق جواز الإفطار، فالصحيح غير رواية " المنتقى "، وهو أن لا يباح الإفطار من غير عذر.
م: (وصوم القضاء والمنذور كالتطوع في رواية؛ لأنه لا كفارة فيه) ش: يعني لا يمنع الخلوة، وفي " البدائع ": روى بشر عن أبي يوسف أن صوم النفل، وقضاء رمضان، والكفارات، والنذور لا تمنع الخلوة، قال: فكان في المسألة روايتان، وفي المنافع في صوم التطوع والكفارة روايتان بالقطع.
م: (والصلاة بمنزلة الصوم، فرضها كفرضه، ونفلها كنفله) ش: أي فرض الصلاة كفرض الصوم، ونفل الصلاة كنفل الصوم في أن الفرض فيهما يمنع صحة الخلوة، وأن النفل فيهما يمنع، وعن أحمد لا يمنع الإحرام والصيام في الحيض والنفاس وغيرهما صحة الخلوة، وكذا لا يمنع الموانع الحقيقية كالجب والعنة والرتق والقرن في المرأة، وهو يروى عن عطاء وابن أبي ليلى، والثوري، وعنه يمنع في رواية، وعنه في صوم رمضان فرق بين المقيم والمسافر.
[خلا المجبوب بامرأته ثم طلقها]
م: (وإذا خلا المجبوب) ش: وهو الذي استؤصل ذكره وخصيتاه من الجب، وهو القطع م: (بامرأته ثم طلقها فلها كمال المهر عند أبي حنيفة) ش: وزفر ذكره في " العيون "، وبه قال عطاء، وابن أبي ليلى والثوري.
م: (وقالا: عليه نصف المهر؛ لأنه أعجز من المريض) ش: لأن المريض ربما يجامع والمجبوب لا يقدر عليه أصلا لعدم الآلة م: (بخلاف العنين؛ لأن الحكم أدير على سلامة الآلة) ش: يعني خلوة العنين صحيحة توجب كمال المهر اتفاقا، لأن آلته سالمة فأدير حكمه، وهو وجوب كمال المهر على سلامة الآلة، ولا آلة للمجبوب فافترقا، لا يقال سلامتها موجودة في المريض أيضا، ومع(5/151)
قال: وعليها العدة في جميع هذه المسائل احتياطا، استحسانا لتوهم الشغل والعدة حق الشرع والولد، فلا تصدق في إبطال حق الغير بخلاف المهر؛ لأنه مال لا يحتاط في إيجابه وذكر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرحه: أن المانع إن كان شرعيا كالصوم والحيض تجب العدة لثبوت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذا ليست خلوة صحيحة؛ لأن السبب الظاهر وهو سلامة الآلة أقيم مقام الأمر الخفي في العنين، كما هو الأصل، والمانع من الوطء فيه خفي، وربما لا يتحقق بخلاف المريض، فإن المانع ثمة ظاهر، وهو المرض يعتبر الظاهر. وفي " البدائع ": في خلوة العنين والخصي صحيحة؛ لأنهما لا يمنعان الجماع كغيرهما، وفي " القنية ": صحة خلوة العنين إجماع، ومثله في " التحفة " و" العيون ".
م: (ولأبي حنيفة أن المستحق عليها بالعقد التسليم) ش: بأقصى ما في وسعها من التمكين م: (في حق المستحق) ش: أي المس م: (وقد أتت به) ش: أي والحال أنها قد أتت به، أي بالتسليم المستحق عليها م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير " م: (وعليها العدة في جميع هذه المسائل) ش: أي عند صحة الخلوة وفسادها بالموانع المذكورة م: (احتياطا) ش: أي لأجل الاحتياط م: (استحسانا) ش: أي على وجه الاستحسان فيما تصح الخلوة، وفيما لا تصح، والقياس أن لا تجب العدة؛ لأنه لم توجب الخلوة، فلا تجب العدة، وكذا بعد الخلوة لوجود الجامع، وهو كونه طلاقا قبل الدخول.
وجه الاستحسان هو قوله م: (لتوهم الشغل) ش: بفتح الشين المعجمة، نظرا إلى المنع الحقيقي م: (والعدة حق الشرع) ش: يدل عليه أن الزوجين لا يملكان إسقاطها، والتداخل يجري فيها، وحق العبد لا يتداخل م: (والولد) ش: أي وحق الولد، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره» والمقصود غاية نسب الولد وهو حقه م: (فلا تصدق) ش: أي المرأة م: (في إبطال حق الغير) ش: بقولها لم يطأني، وقيل: معناه فلا يصدق الزوج في إبطال حقها بقوله: لم أطأها.
م: (بخلاف المهر) ش: فإنه لا يجب بالخلوة الفاسدة م: (لأنه مال لا يحتاط في إيجابه) ش: لأنه لا يجب بالشك، فلا يجب إذا لم تصح الخلوة.(5/152)
التمكن حقيقة، وإن كان حقيقيا كالمرض والصغر، لا تجب لانعدام التمكن حقيقة. قال: وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا مطلقة واحدة، وهي التي طلقها الزوج قبل الدخول بها.
قال: وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا مطلقة واحدة، وهي التي طلقها الزوج قبل الدخول بها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: التوهم معدوم في فصل الجب.
قلنا: شغل رحمها بمائه موهوم بالسحق، ولهذا ثبت نسب ولديهما عند ابن أبي سليمان.
م: (وذكر القدوري في شرحه) ش: لمختصر الشيخ أبي الحسن الكرخي م: (أن المانع) ش: من الخلوة الصحيحة م: (إن كان شرعيا) ش: كالصلاة والصوم ونحوهما م: (تجب العدة لثبوت التمكن حقيقة) ش: أي لثبوت تمكنه من الوطء حقيقة بلا شك، ولكن لا يتمكن شرعا فدارت بين الوجوب وعدمه، فتجب احتياطا لجواز أنها لا تتأتى بالمانع الشرعي.
م: (وإن كان) ش: أي المانع (حقيقيا كالصغر والمرض لا تجب) ش: أي العدة م: (لانعدام التمكن) ش: من الوطء م: (حقيقة) ش: قال الأترازي: بيانه أن في كل موضع يتمكن من الوطء حقيقة لكن تمتنع لمانع يجب فيه العدة، وفيه الرتق يتصور الوطء بالفتق، وفي المجبوب، وفي كل موضع لا يتمكن من الوطء حقيقة كالمريض السخيف، والصغير أو الصغيرة، لا تجب العدة، كذا في " فتاوى الصغرى ".
أما المهر في الرتق فقال في كتاب الصلاة في باب المراجعة: إذا خلا بها ثم طلقها يجب عليه نصف المهر، قال الصدر الشهيد: وفي " شرح الجامع الصغير ": ومن المتأخرين من قال: الصحيح أن المذكور على قولهما، وعلى قول أبي حنيفة تصح الخلوة، ويجب المهر كاملا كالمجبوب، قال: لكن هذا خلاف ظاهر الرواية، وقال صاحب " الأجناس ": اتفقت الروايات أنه يجب نصف المهر وهو الأصح.
وفي " شرح الطحاوي ": أقيم الخلوة مقام الوطء في بعض الأحكام لتأكد المهر وثبوت النسب ووجوب العدة والنفقة والسكنى في العدة، وحرمة نكاح خمسا، أربع سواها في هذه العدة دون البعض كالإحصان، أي لا يصير محصنا بالخلوة وحرمة البنات والإحلال للزوج الأول، والرجعة، والإرث، حتى لو طلقها ومات وهو في العدة لم ترث، وفي وقوع الطلاق في هذه العدة اختلاف، والصحيح أنه يقع طلاق آخر في هذه العدة؛ لأن الأحكام لما اختلفت في هذا الباب وجب القول بالوقوع احتياطا، وفي حرمة البنت في هذه العدة عن طلاق بائن اختلاف، فعن محمد يحرم خلافا لأبي يوسف، والخلوة الصحيحة في النكاح لا توجب العدة.
وذكر العتابي تكلم مشايخنا في العدة الواجبة بالخلوة الصحيحة أنها واجبة ظاهرا على الحقيقة، فقيل: لو تزوجت وهي متعينة لعدم الدخول حل لها ديانة لا قضاء، والموت أقيم مقام الدخول في حكم المهر والعدة، وفيما سواها من الأحكام كالعدة، وفي " شرح القاضي(5/153)
وقد سمى لها مهرا، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تجب لكل مطلقة إلا لهذه؛ لأنها وجبت صلة من الزوج؛ لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خان ": فإن ماتت الأم قبل أن يدخل بها فابنتها له حلال.
[استحباب المتعة لكل مطلقة]
م: (قال) ش: القدوري: م: (وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا مطلقة واحدة وهي التي طلقها الزوج قبل الدخول بها، وقد سمى لها مهرا) ش: صدر الكلام يدل على عموم استحباب المتعة لكل مطلقة، لأن لفظ كل إذا أضيف إلى النكرة يقتضي عموم الإفراد، ثم استثنى منه هذه المطلقة المذكورة، قال صاحب " المنافع ": وقع الاشتباه هنا في الاستثناء في صدر الكلام، أما الاستثناء فإنه ذكر في " المبسوط " والحق أن المتعة تستحب للتي طلقها قبل الدخول، وقد سمى لها مهرا، فتعذر الاستثناء على هذا.
وأما صدر الكلام فإن المتعة واجبة للتي طلقها قبل الدخول ولم يسم لها مهرا، قال: والجواب أن المتعة في المستثنية ليست بمستحبة عند القدوري، فقد ذكر في شرحه أن المتعة واجبة ومستحبة، فالواجبة للتي طلقها قبل الدخول ولم يسم لها مهرا، والمستحبة لكل مطلقة إلا التي طلقها قبل الدخول، وقد سمى لها مهرا، والمراد من قوله: لكل مطلقة غير التي يجب لها المتعة؛ لأنه بين حكم هذه قبل هذا.
وقال الأترازي: معنى كلام القدوري: تستحب المتعة لكل مطلقة سوى التي تقدم ذكرها، وهي التي طلقها قبل الدخول، وقبل التسمية، فإن متعتها واجبة إلا لمطلقة واحدة، وهي التي طلقها قبل الدخول بعد التسمية، فإن متعتها ليست بواجبة ولا مستحبة حكما للطلاق، ولو كان مستحبا لكان لمعنى آخر كما في قوله في صلاة الفطر: ولا يكبر في طريق المصلى عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أي حكما للعيد، ولكن لو كبر لأنه ذكر الله تعالى يجوز ويستحب، وهذا اختيار صاحب " الهداية "، وعلى رواية صاحب " المختلف " وغيره أن المتعة المستثناة أيضا مستحبة، فلا يصح الاستثناء على روايتهم.
وقال " صاحب الكافي ": قوله: - تستحب المتعة ... إلى آخره - يريد به المطلقة بعد الدخول في نكاح فيه تسمية أولا، والمطلقة قبل الدخول في نكاح فيه تسمية إلا المفوضة، فإنه يجب فيها.
وقال الكاكي: إنه ورد الإشكال في الاستثناء وًصدر الكلام المذكورين، ثم أجاب عن الأول: بأن المصنف اتبع القدوري، فذكر ما ذكرناه، ثم قال لأن من نفى الاستحباب أراد به الاستحباب الناشئ من دفع وحشة الفراق، وهو معدوم في المستثنى، وظهرت المخالفة بين المستثنى والمستثنى منه من هذا الوجه.
وعن الثاني بأنه أجرى لفظ الاستحباب على العموم، وأراد به حقيقة في البعض، وهي(5/154)
أوحشها بالفراق إلا أن في هذه الصورة نصف المهر طريقة المتعة، لأن الطلاق فسخ في هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التي طلقها بعد الدخول، وقبل الدخول سمى لها مهرا أو لا، مجازا أي الوجوب في البعض، وهي التي طلقها قبل الدخول ولم يسم لها مهرا، وفي الوجوب استحباب وزيادة، وهذا واضح عند مشايخ العراق؛ لتجويزهم الجمع بين الحقيقة والمجاز عند اختلاف المحل. وقال الكاكي أيضا: أو يقال: إنه أراد به كل مطلقة غير التي يجب لها المتعة؛ لأنه بين حكمها سابقا، فدل سبق ذكرهما على أنه أراد بهذا العموم وغيرهما كي لا يلزم التكرار في البعض أو التناقص.
وقال السروجي - بعد أن ساق كلام المصنف -: وتستحب المتعة إلى قوله: - وقد سمى لها مهرا - وفي بعض النسخ - ولم يسم لها مهرا - انتهى.
قلت: قال في " المجتبى ": المكتوب في النسخ: المتعة إلا التي طلقها قبل الدخول ولم يسم لها مهرا، وهكذا صح الإمام ركن الأئمة الساغبي في شرحه للقدوري، انتهى.
قلت: على هذه النسخة لا يبقى الإشكال.
وقال تاج الشريعة: قوله: وتستحب المتعة لكل مطلقة، اعلم أن المتعة واجبة لمطلقة واحدة وهي التي مر ذكرها في الكتاب، ومستحبة لمطلقتين إحداهما التي طلقها زوجها بعد الدخول ولم يسم لها مهرا، والأخرى التي طلقها بعد الدخول وقد سمى لها مهرا، والتي طلقها قبل الدخول بعد التسمية لا تكون المتعة واجبة لها، ولا مستحبة وهي الصورة المستثناة في الكتاب، فصار قوله: - وتستحب المتعة لكل مطلقة - أي تستحب لكل مطلقة غير تلك المطلقة التي وجبت متعتها إلا المطلقة الواحدة.
فالحاصل أن المطلقات أربع؛ لأنها لا تخلو إما أن كانت مدخولا بها أو لم تكن، فإن لم تكن فلا يخلو أن كان مهرها مسمى، أو لم يكن، فإن لم يكن فهي التي وجبت لها المتعة، وإن كان مهرها مسمى فهي الصورة المستثناة، التي لا يستحب لها ولا تجب، وإن كانت مدخولا بها فلا تخلو، إما أن كان مهرها مسمى أو لا، وأما إن كان يلزم القسمان الآخران، وهما اللتان يستحب لهما المتعة. م: (وقال الشافعي: تجب) ش: أي المتعة م: (لكل مطلقة إلا لهذه) ش: وهي التي طلقها قبل الدخول بعد تسمية المهر، فليست المتعة عنده واجبة لها على القول الجديد، وعلى قوله القديم تجب المتعة، وبقوله قال أحمد في رواية، وفي رواية مثل قولنا، وقال مالك: إنها مستحبة في الجميع.
م: (لأنها) ش: أي لأن المتعة م: (وجبت صلة من الزوج) ش: وليست بعوض؛ ولهذا اختلف بيسار الزوج وإعساره، والأعواض لا تختلف كمال من عليه (لأنه) ش: لأن الزوج(5/155)
الحالة، والمتعة لا تتكرر. ولنا أن المتعة خلف عن مهر المثل في المفوضة؛ لأنه سقط مهر المثل ووجبت المتعة، والعقد يوجب العوض، فكان خلفا، والخلف لا يجامع الأصل ولا شيئا منه، فلا تجب مع وجوب شيء من المهر وهو غير جان في الإيحاش فلا تلحقه الغرامة به، فكان من باب الفضل.
وإذا زوج الرجل بنته على أن يزوجه المزوج بنته أو أخته ليكون أحد العقدين عوضا عن الآخر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أوحشها بالفراق) ش: فأوجبناها صلة؛ رفعا لوحشة الفراق.
م: (إلا أن في هذه الصورة) ش: أي المستثناة م: (نصف المهر) ش: منصوب لأنه اسم لأن، وطريقة المتعة مرفوع لأنه خبر إن، وتقدير الكلام للمستثناة نصف المهر يجب م: (بطريق المتعة، لأن الطلاق فسخ) ش: معنى م: (في هذه الحالة) ش: أي في الطلاق قبل الدخول يعود مالها إليها سالما، وذلك يقتضي سقوط المهر كله، كما في فسخ البيع، لكن الشرع أوجب نصف المهر بطريق المتعة.
م: (والمتعة لا تتكرر) ش: فلا يجب المتعة لهذه المطلقة مع نصف المهر، وقيل: قوله: - وطريق المتعة - وقع اختيار بعض المتأخرين من أصحابنا حيث قالوا: الطلاق في هذه الحالة فسخ فيسقط جميع المسمى، وإنما يجب نصفه على طريق المتعة، وأما الآخرون منهم قالوا: يبقى نصف المهر، وسقط نصفه بالطلاق، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] (البقرة: الآية 237) .
م: (ولنا أن المتعة خلف عن مهر المثل في المفوضة) ش: بكسر الواو، وهي التي طلقها قبل الدخول، ولم يسم لها مهرا، أو تزوجها على أن لا مهر لها، م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (سقط مهر المثل) ش: بالطلاق قبل الدخول م: (ووجبت المتعة والعقد) ش: أي والحال أن العقد م: (يوجب العوض) ش: لا ينفك عنه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] (النساء: الآية 24) م: (فكان خلفا) ش: عن مهر المثل كالتيمم مع الوضوء م: (والخلف لا يجامع الأصل) ش: فلا تجب المتعة بوجوب المهر لكل المفروض عند الطلاق بعد الدخول أو بعض المفروض قبله م: (ولا شيئا منه، فلا تجب) ش: أي المتعة م: (مع وجوب شيء من المهر، وهو غير جان في الإيحاش) ش: جواب عن حرف الخصم، وهو قوله: أوحشها بالفراق، وتقديره: سلمنا أنه أوحشها بالفراق لكنه لم يكن في ذلك الإيحاش جانيا؛ لأنه فعل حاصل بإذن الشرع.
م: (فلا تلحقه الغرامة به) ش: أي بالإيحاش، وذلك لأن الطلاق مباح شرعا، وربما يكون مستحبا إذا كانت المرأة سليطة أو تاركة للصلاة أو خافا أن لا يقيما حدود الله، قيل: هذا مما يعلم ولا يفتى به كما في صورة المرأة الصالحة والزوج مدمن خمر، أو يطلقها ثلاثا ولا يفارقها؛ فإنه يجوز لها أن تدفع السم إلى زوجها فتقتله م: (فكان من باب الفضل) ش: أي فكانت المتعة من باب الإحسان، وإنما قال - فكان - على تأويل المشاع، والمتعة بمعنى واحد أو على تأويل فعل(5/156)
فالعقدان جائزان، ولكل واحدة منهما مهر مثلها.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يبطل العقدان؛ لأنه جعل نصف البضع صداقا، والنصف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المتعة.
[تعريف وحكم نكاح الشغار]
م: (وإذا زوج الرجل بنته على أن يزوجه المزوج بنته، أو أخته؛ ليكون أحد العقدين عوضاً عن الآخر فالعقدان جائزان، ولكل واحدة منهما مهر مثلها) ش: هذا النكاح يسمى نكاح الشغار من الشغور، وهو الرفع والإخلاء، يقال: شغر البلد إذا خلا عن الناس، والبلد شاغرة إذا لم تمنع من غارة أحد، وسمي هذا النكاح بذلك لخلوه عن المهر، وهو من أنكحة الجاهلية.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا شغار في الإسلام» وقيل: هو من الرفع، يقال: شغر الكلب إذا رفع رجليه ليبول، وفيه قولان، قيل: سمي به؛ لأنهما رفعا المهر من العقد، وقيل: معناه لا ترفع رجل بنتي حتى أرفع رجل بنتك لأهل الجاهلية، ذكره الغرابي في " الوسيط والبسيط "، وقيل: الشغار البعد، فكأنه بعد عن الحق في نفي المهر، وأشغر في الفلاة أبعد فيها.
فإن قلت: قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا شغار في الإسلام» حديث صحيح أخرجه الجماعة من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وأخرجه الترمذي أيضاً من حديث عمران بن حصين، وأخرجه مسلم من حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، ولفظه: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الشغار» .
قلت: النهي الوارد فيه إنما كان من أجل خلائه عن تسمية المهر، وتركه بالكلية عادة الجاهلية لا لعين النكاح، فأشبه البيع وقت النداء والنكاح لا يبطله خلوه من تسمية المهر كالمفوضة، ولا فساد تسميته كالصداق المجهول، وملك الغير والآبق ولا تسمية بما ليس بمال كالميتة والدم، ولا بتسمية ما ليس بمتقوم كالخمر والخنزير، وقد نص إمام الحرمين على أن خلوه لا يبطله ولا يشترط آخر في النكاح؛ لأنه شرط فاسد والنكاح لا يبطله الشروط الفاسدة. قوله: في الكتاب عوضاً عن الآخر قيد به؛ لأنه لو لم يقل على أن يكون بضع كل واحدة صداقاً للآخر يجوز النكاح ولا يكون شغاراً بإجماع الأئمة الأربعة. وأما إذا قال: زوجتك بنتي، على أن تزوجني ابنتك، على أن يكون نكاح كل واحدة منهما صداقاً للأخرى، فإنه ينعقد النكاح عندنا، ولكل واحدة منهما مهر المثل، وكذا إذا قال في الأختين أو الابنتين.(5/157)
الآخر منكوحا، ولا اشتراك في هذا الباب، فبطل الإيجاب. ولنا: أنه سمى ما لا يصلح صداقا فيصح العقد ويجب مهر المثل، كما إذا سمى الخمر والخنزير، ولا شركة بدون الاستحقاق.
وإن تزوج حر امرأة على خدمته إياها سنة، أو على تعليم القرآن فلها مهر مثلها. وقال محمد: لها قيمة خدمته سنة، وإن تزوج عبد امرأة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: يبطل العقدان) ش: وبه قال مالك وأحمد، واحتجوا بالحديث، وأجبناه عن قريب، وبقوله قال عطاء، وعمرو بن دينار، ومكحول، والزهري، والثوري. وقال الأوزاعي: إن كان دخلا بهما فلهما مهر مثلهما، وقبل الدخول يفسخ ويفسد العقد، وقال عطاء: المشاغران يقران على نكاحهما، ويؤخذ لكل واحدة صداق وبه يبطل تشاغرهما، ولم يستدل المصنف للشافعي في هذا بالحديث، بل استدل له بالمعقول حيث قال.
م: (لأنه) ش: أي لأن الرجل الذي زوج بنته على أن يزوجه الرجل بنته م: (جعل نصف البضع) ش: من كل واحدة منهما م: (صداقاً، والنصف الآخر منكوحاً، ولا اشتراك في هذا الباب) ش: أي في باب النكاح؛ لأن البضع الواحد لا يكون مشتركاً بين شخصين، كما إذا زوجت المرأة نفسها من رجلين، وإذا لم يصح الاشتراك م: (فبطل الإيجاب) ش: وإذا بطل الإيجاب بطل العقد.
م: (ولنا أنه سمى ما لا يصلح صداقاً، فيصح العقد ويجب مهر المثل، كما إذا سمى الخمر والخنزير) ش: بأن تزوجها على خمر أو خنزير م: (ولا شركة بدون الاستحقاق) ش: هذا جواب الخصم، وبيانه أن البضع لما لم يصلح صداقاً لم يتحقق الاشتراك؛ لأن منافع بضع المرأة لا تصلح أن تكون مملوكة لامرأة أخرى، فبقي هذا شرطاً فاسداً، والنكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة.
[تزوج حر امرأة على خدمته إياها سنة أو على تعليم القرآن]
م: (وإن تزوج حر امرأة على خدمته إياها سنة، أو على تعليم القرآن) ش: أي تزوجها على أن يعلمها القرآن صح النكاح م: (فلها مهر مثلها) ش: في الصورتين، وبصورة تعليم القرآن، مثل قولنا قال مكحول، والليث، ومالك، وإسحاق، وأحمد في رواية، واختاره أبو بكر من الحنابلة، وابن الجوزي في " التحقيق "؛ لأنه عبادة وليس بمال، وشرع النكاح بالمال، فصار كالصوم والصلاة وتعليم الإيمان، ومعنى حديث الواهبة نفسها وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «زوجتكها بما معك من القرآن» ، أي من أجل أنك من أهل القرآن، أو ببركة ما معك من القرآن، كتزوج أبي طلحة على إسلامه.
م: (وقال محمد: لها قيمة خدمته سنة) ش: والمسألة من مسائل القدوري، ولكنه ذكرها على الاتفاق، ولم يذكر خلاف محمد، والمصنف ذكره اتباعاً لرواية " الجامع الصغير "، فإنه قال فيه: محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في رجل تزوج امرأة على خدمته سنة، قال: إن كان حراً فلها(5/158)
حرة بإذن مولاه على خدمته سنة جاز، ولها خدمته سنة، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لها تعليم القرآن والخدمة في الوجهين، لأن ما يصلح أخذ العوض عنه بالشرط يصلح مهرا عنده؛ لأن بذلك تتحقق المعاوضة، فصار كما إذا تزوجها على خدمة حر آخر برضاها أو على رعي الزوج غنمها. ولنا أن المشروع إنما هو الابتغاء بالمال، والتعليم ليس بمال، وكذلك المنافع على أصلنا، وخدمة العبد ابتغاء بالمال لتضمنه تسليم رقبته، ولا كذلك الحر، ولأن خدمة الزوج الحر لا يجوز استحقاقها بعقد النكاح؛ لما فيه من قلب الموضوع بخلاف خدمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مهر مثلها، وإن كان عبداً فلها خدمة سنة.
وقال محمد: لها خدمة سنة إن كان حراً، قال فخر الإسلام البزدوي في " شرح الجامع الصغير ": قال الفقيه أبو جعفر: ينبغي أن يكون قول أبي يوسف مثل قول محمد، وقال بعض مشايخنا: إن قوله مثل قول أبي حنيفة.
م: (وإن تزوج عبد امرأة حرة بإذن مولاه على خدمته سنة جاز، ولها خدمته سنة) ش: لما فيه من تسليم رقبته والعبد من الأموال يباع في الأسواق، ويعرض عرض الدواب، وقد سلبت عنه كرامات البشر.
م: (وقال الشافعي: لها تعليم القرآن والخدمة في الوجهين) ش: أي في الحر والعبد، وبه قال مالك وأحمد، وكذا الخلاف لو تزوجها وجعل مهرها طلاق الغير، أو العفو عن القصاص، فعندنا يجب مهر المثل، وعندهم المسمى م: (لأن ما يصلح أخذ العوض عنه بالشرط يصلح مهراً عنده) ش: أي عند الشافعي، لأن المقصود تحقق المعاوضة.
م: (لأن بذلك تتحقق المعاوضة، فصار كما إذا تزوجها على خدمة حر آخر برضاها، أو على رعي الزوج غنمها) ش: أي أو تزوجها على أن يرعى غنمها سنة فلا، وكذا إذا تزوجها على أن يزرع أرضها سنة.
م: (ولنا أن المشروع) ش: أي في عقد النكاح م: (إنما هو الابتغاء بالمال) ش: أي الطلب بالمال لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] (النساء: الآية 24) ، م: (والتعليم ليس بمال) ش: أي تعليم القرآن ليس بمال، فضلاً أن يكون متقوماً.
م: (وكذلك المنافع) ش: غير متقومة م: (على أصلنا) ش: لأنها أعراض لا تبقى زمانين، وتقومها في العقد على خلاف القياس م: (وخدمة العبد ابتغاء بالمال لتضمنه تسليم رقبته) ش: أي رقبة العبد، كما في الإجارة م: (ولا كذلك الحر) ش: لأنه يتضمن تسليم رقبته، وعلى هذه النكتة يقع جواز النكاح على خدمة آخر، ورعي الغنم، قاله الأكمل.
وفي " المحيط ": ولو تزوجها على خدمة حر آخر فالصحيح صحته، ويرجع على الزوج(5/159)
حر آخر برضاه، لأنه لا مناقضة فيه، وبخلاف خدمة العبد؛ لأنه يخدم مولاه معنى حيث يخدمها بإذنه وبأمره بالنكاح، وبخلاف رعي الأغنام؛ لأنه من باب القيام بأمور الزوجية، فلا مناقضة على أنه ممنوع في رواية، ثم على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تجب قيمة الخدمة؛ لأن المسمى مال إلا أنه عجز عن التسليم لمكان المناقضة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بقيمة حرمته وعلى رعي غنمها وزراعة أرضها يجوز في رواية، ولا يجوز في رواية.
وفي " المرغيناني " روايتان: ولو تزوج العبد على رقبته بإذن مولاه أمة أو مدبرة أو أم ولد جاز، ولو تزوج عليها حرة أو مكاتبة لا يجوز، ولا ينفذ بقيمته؛ لأن المنع من جهة الشرع، لا من جهة المال، بخلاف عبد الغير، حيث يصح النكاح، وتجب قيمته.
م: (ولأن خدمة الزوج الحر لا يجوز استحقاقها بعقد النكاح لما فيه) ش: أي لما في استحقاق خدمة الزوج الحر م: (من قلب الموضوع) ش: لأن موضوع النكاح أن يكون الزوج مالكاً، قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] (النساء: الآية 34) .
والمراد بالقوامة المالكية، ومقتضى النكاح أن تكون المرأة خادمة، والزوج مخدوماً لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «النكاح رق» ، وفي جعله خدمته مهراً كان الرجل خادماً، والمرأة مخدومة، وهذا خلاف موضوع النكاح بلا خلاف.
م: (بخلاف خدمة حر آخر برضاه؛ لأنه) ش: يصلح أن يكون مهراً؛ لأنه مسلم من رقبته كالمستأجر م: (لا مناقضة فيه، وبخلاف خدمة العبد؛ لأنه يخدم مولاه معنى) ش: يعني من حيث المعنى.
م: (حيث يخدمها بإذنه وبأمره بالنكاح، وبخلاف رعي الأغنام؛ لأنه من باب القيام بأمور الزوجية) ش: وليس من باب الخدمة، لأنهما يشتركان في منافع أموالهما فلم تتمحض الخدمة، ألا ترى أن الابن إذا استأجر أباه للخدمة لا يجوز، ولو استأجره لرعي الغنم والزراعة وغيرها يجوز، وكيف وقد وقع التنصيص في قصة شعيب - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وشريعة من قبلنا تلزمنا، إذا نص الله ورسوله بلا إنكار.
م: (فلا مناقضة على أنه ممنوع في رواية) ش: وهي رواية الأصل " الجامع " وهو الأصح، ويجوز على رواية ابن سماعة، وعللها بقوله لأنه من باب القيام بأمور الزوجية م: (ثم على قول محمد تجب قيمة الخدمة؛ لأن المسمى) ش: وهي الخدمة م: (مال) ش: يرد العقد عليها إذ المنفعة تصير مالاً بإيراد العقد عليها.
م: (إلا أنه عجز عن التسليم) ش: أي عن تسليم الخدمة م: (لمكان المناقضة) ش: وهي كون(5/160)
فصار كالتزوج على عبد الغير. وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - يجب مهر المثل؛ لأن الخدمة ليست بمال، إذ لا تستحق فيه بحال، فصار كتسمية الخمر والخنزير، وهذا لأن تقومه بالعقد للضرورة، فإذا لم يجب تسليمه في العقد لم يظهر تقومه فيبقى الحكم على الأصل وهو مهر المثل، فإن تزوجها على ألف فقبضتها ووهبتها له ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بخمسمائة؛ لأنه لم يصل إليه بالهبة عين ما يستوجبه؛ لأن الدراهم والدنانير لا تتعينان في العقود والفسوخ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المخدوم خادماً، والخادم مخدوماً وهي ممنوعة عن استخدام الزوج شرعاً فتكون لها قيمة المسمى م: (فصار كالتزوج على عبد الغير) ش: فاستحق، فلزم قيمته. م: (وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف يجب مهر المثل؛ لأن الخدمة) ش: أي خدمة الحر م: (ليست بمال إذ لا تستحق فيه) ش: أي لا تستحق الخدمة في النكاح، قال الرازي: سماعاً في هذا الموضع بكلمة أو التي هي موضوعة لأحد الشيئين على أن تكون هذه الجملة دليلاً ثانيا، بيانه أن مهر المثل إنما وجب لأحد الأمرين، إما لأن خدمة الزوج الحر ليست بمال، أو لأن خدمته لها لا تعتبر مستحقة في النكاح. م: (بحال) ش: يعني أصلاً، لأن المنافع ليست بمال متقوم حقيقة، لعدم الإحراز وتقومها المعقود للضرورة شرعاً، بخلاف القياس، وإذا منعنا الشرع عن تسليم هذه المنفعة لمكان المناقضة لم يثبت تقومها لما ذكرنا أن فيه قلب الموضوع، م: (فصار كتسمية الخمر والخنزير) ش: إذا عقد، وسماهما، أو إحداهما، فإنه يجب مهر المثل.
م: (وهذا لأن تقومه بالعقد للضرورة، فإذا لم يجب تسليمه) ش: أي تسليم ما ليس بمال م: (في العقد لم يظهر تقومه، فيبقى الحكم على الأصل وهو مهر المثل) ش: إذ مهر المثل هو الأصل في النكاح.
م: (فإن تزوجها على ألف) ش: أي بأن تزوج امرأة، وجعل صداقها ألف درهم م: (فقبضتها) ش: أي فقبضت المرأة الألف الصداق م: (ووهبتها له) ش: أي للزوج م: (ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها) ش: أي رجع الزوج على المرأة م: (بخمسمائة) ، ش: وهي نصف المهر، وبه قال الشافعي. وقال: في الأظهر لا يرجع كما في"العين"، وبه قال مالك وأحمد في رواية م: (لأنه) أي لأن الزوج م: (لم يصل إليها بالهبة) ش: أي هبة الألف التي قبضتها ثم وهبتها له م: (عين ما يستوجبه) أي عين ما يستحقه بالطلاق قبل الدخول؛ لأنه يستحق به نصف المهر والمقبوض ليس بمهر، بل هو عوض عنه، وهذا لأن المهر دين في الذمة، والمقبوض عين، فكان مثله لا عينه، فصارت هبة المقبوض كهبة مال آخر، وحقه في سلامة نصف الصداق، فلم يسلم له الرجوع وهذا م: (لأن الدراهم والدنانير لا تتعينان في العقود والفسوخ) ش: عندنا فصار كهبة مال آخر.(5/161)
وكذا إذا كان المهر مكيلا، أو موزونا أو شيئا آخر في الذمة؛ لعدم تعينها. فإن لم تقبض الألف حتى وهبتها له، ثم طلقها قبل الدخول بها لم يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء في قولهم جميعا، وفي القياس يرجع عليها بنصف الصداق، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه سلم المهر له بالإبراء، فلا تبرأ عما يستحقه بالطلاق قبل الدخول. ووجه الاستحسان أنه وصل إليه عين ما يستحقه بالطلاق قبل الدخول، وهو براءة ذمته عن نصف المهر، ولا يبالي باختلاف السبب عند حصول المقصود.
ولو قبضت خمسمائة ثم وهبت الألف كلها المقبوض وغيره، أو وهبت الباقي ثم طلقها قبل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذا) ش: أي وكذا يرجع عليها بالنصف م: (إذا كان المهر مكيلاً، أو موزوناً، أو شيئا آخر في الذمة) ش: كالعدة، وليس في الكثير من النسخ لفظ " أو شيئاً "؛ بل هو " أو موزوناً آخر " بلفظ: " آخر " صفة الموزون.
وقال الأترازي: أو موزوناً آخر غير الدراهم والدنانير - يعني غير مقبوض بأن تزوجها، وجعل مهرها كذا وكذا أكراً من الحنطة، أو الشعير، أو كذا وكذا رطلاً من الأشياء التي توزن، أو شيئاً آخر عين المكيل والموزون، وكل ذلك بلا قبض، وعلل هذا بقوله: م: (لعدم تعينها) ش: أي لعدم تعيين هذه الأشياء عند العقد، ولهذا لم يجب عليها رد عين ما قبضت. م: (فإن لم تقبض الألف) ش: أي فإن لم تقبض المرأة الألف التي أصدقها عليها م: (حتى وهبتها له ثم طلقها قبل الدخول بها لم يرجع واحد منهما) ش: أي من الزوجين م: (على صاحبه بشيء) ش: من ذلك م: (في قولهم جميعاً) ش: أي في قول أبي حنيفة وصاحبيه استحساناً.
م: (وفي القياس يرجع عليها بنصف الصداق وهو قول زفر؛ لأنه) ش: أي لأن الزوج م: (سلم المهر له بالإبراء) ش: وما سلم له بالإبراء غير ما يستحقه بالطلاق وهو براءة ذمته عما عليه من نصف المهر بالطلاق قبل الدخول فالزوج سلم له غير ما يستحقه م: (فلا تبرأ) ش: أي المرأة م: (عما يستحقه) ش: أي الزوج م: (بالطلاق قبل الدخول) ش: فالزوج يسلم له وهو النصف.
م: (ووجه الاستحسان أنه) ش: أي أن الزوج م: (وصل إليه عين ما يستحقه بالطلاق قبل الدخول وهو براءة ذمته عن نصف المهر) ش: لكن بسبب آخر وهو الإبراء م: (ولا يبالي باختلاف السبب عند حصول المقصود) ش: وهو براءة ذمة الزوج عن نصف المهر؛ لأن الأسباب غير مطلوبة لذاتها بل لأحكامها، ألا ترى أن من يقول لآخر: لك علي ألف درهم ثمن هذه الجارية التي اشتريتها منك، وقال الآخر: الجارية جاريتك ولي عليك ألف، لزمه المال لحصول المقصود، وإن كذبه في السبب وهو بيع الجارية.
م: (ولو قبضت خمسمائة ثم وهبت الألف كلها المقبوض وغيره، أو وهبت الباقي ثم طلقها قبل(5/162)
الدخول بها لم يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء، عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يرجع عليها بنصف ما قبضت اعتبارا للبعض بالكل، ولأن هبة البعض حط فيلحق بأصل العقد، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن مقصود الزوج قد حصل وهو سلامة نصف الصداق بلا عوض، فلا يستوجب الرجوع عند الطلاق، والحط لا يلتحق بأصل العقد في النكاح، ألا ترى أن الزيادة فيه لا تلتحق حتى لا تتنصف، ولو كانت وهبت أقل من النصف وقبضت الباقي فعنده يرجع عليها إلى تمام النصف، وعندهما ينتصف المقبوض.
ولو كان تزوجها على عرض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدخول بها لم يرجع أحدهما بشيء على صاحبه عند أبي حنيفة) ش: أي فيما يتعين وفيما لا يتعين، وبه قال الشافعي في وجه، وهو الأصح، وفي وجه: يرجع عليها بنصف الصداق، وهو قول زفر، وهو القياس.
م: (وقالا: يرجع عليها بنصف ما قبضت اعتباراً للبعض بالكل) ش: يعني لو قبضت الكل، ثم وهبت للزوج ثم طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف ما قبضت، فكذا إذا قبضت البعض م: (ولأن هبة البعض حط، فيلحق بأصل العقد) ش: أي البعض الذي لم يقبضه حط والحط يلحق بأصل العقد، فكأنه تزوجها قبل الخمسمائة المقبوضة ابتداء.
م: (ولأبي حنيفة أن مقصود الزوج قد حصل) ش: وقد فسر مقصوده، بقوله: م: (وهو سلامة نصف الصداق بلا عوض) ش: وقد حصل م: (فلا يستوجب الرجوع عند الطلاق) ش: كمن له على آخر دين مؤجل، فاستعجل قبل حلول الأجل م: (والحط لا يلتحق بأصل العقد في النكاح) ش: لأنه ليس بعقد معاينة، ولا مبادلة مال بمال، فلا تقع الحاجة إلى دفع العين، فلا يلتحق بأصل العقد، وإنما يلتحق في البيع فإنه عقد معاينة ومبادلة مال بمال، ومرابحة مع الحاجة إلى دفع العين، ثم استوضح ذلك بقوله.
م: (ألا ترى أن الزيادة فيه لا تلتحق حتى لا تتنصف) ش: وكذا الحط لا يلتحق، لأن الحط والزيادة شيئان، فإذا لم يلتحق الحط لا تلتحق الزيادة، ألا ترى أنها لو حطت عن الزوج إلا خمسة لم يكمل لها عشرة اعتباراً بالابتداء، ولو التحق الحط بأصل العقد يكمل، ولو انتصف ولم تهب الباقي حتى طلقها لم ينتصف الباقي اعتباراً بالابتداء. م: (ولو كانت وهبت أقل من النصف. وقبضت الباقي فعنده يرجع عليها إلى تمام النصف) ش: صورته: تزوجها على ألف، فوهبت منه مائتين، وقبضت الباقي، فعند أبي حنيفة يرجع عليها بثلاثمائة درهم حتى يتم النصف.
م: (وعندهما ينتصف المقبوض) ش: يعني يرجع عليها بأربعمائة؛ لأنه عنده ما سلم للزوج العين، وعندهما المقبوض معتبر، فكأنه تزوجها على ما قبضت فينتصف المقبوض.
[تزوجها على عرض فوهبته له]
م: (ولو كان تزوجها على عرض) ش: وفي " الكافي ": تزوجها على ما يتعين بالتعيين كالعرض، وفي " جامع قاضي خان " والمكيل والموزون إذا كان عيناً فهو بمنزلة العروض، وإن كان(5/163)
فقبضته أو لم تقبض، فوهبت له، ثم طلقها قبل الدخول بها لم يرجع عليها بشيء، وفي القياس، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - عليها بنصف قيمته؛ لأن الواجب فيه رد نصف عين المهر على ما مر تقريره. وجه الاستحسان: أن حقه عند الطلاق سلامة نصف المقبوض من جهتها، وقد وصل إليه، ولهذا لم يكن لها دفع شيء آخر مكانه، بخلاف ما إذا كان المهر دينا، وبخلاف ما إذا باعت من زوجها؛ لأنه وصل إليه ببدل. ولو تزوجها على حيوان، أو عروض في الذمة فكذلك الجواب؛ لأن المقبوض متعين في الرد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ديناً فهو بمنزلة الدراهم م: (فقبضته أو لم تقبضه) ش: سواء في حكم المسألة م: (فوهبته له ثم طلقها قبل الدخول بها لم يرجع عليها بشيء) ش: استحساناً وبه قال الشافعي في القديم، وفي الجديد يرجع، وهو قول مالك، وأحمد في رواية، وهو قول زفر.
م: (وفي القياس. وهو قول زفر رجع عليها بنصف قيمته؛ لأن الواجب فيه رد نصف عين المهر على ما مر تقريره) ش: يعني في قوله: لأنه يسلم لها المهر في الإبراء فلا تبرأ بما تستحقه.
م: (وجه الاستحسان: أن حقه) ش: أي حق الزوج م: (عند الطلاق سلامة نصف المقبوض من جهتها) ش: بلا عوض م: (وقد وصل إليه) ش: عين المهر بلا عوض من جهتها، فحصل مقصوده، فلا يرجع بشيء، كما عجل الدين المؤجل قبل حلول الأجل، وكمن عجل الزكاة قبل الحلول.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل حصول حقه إليه م: (لم يكن لها دفع شيء آخر مكانه) ش: أي مكان ما تستحقه بالطلاق قبل الدخول؛ لتعينه في الرد م: (بخلاف ما إذا كان المهر ديناً) ش: يجري فيه العوض كالمكيل والموزون حيث يرجع عليها بالنصف؛ لأن المقبوض لا يتعين بالرد، إذ الديون تقضى بأمثالها لا بأعيانها.
م: (وبخلاف ما إذا باعت) ش: يعني الصداق المعوض م: (من زوجها لأنه وصل إليه ببدل) ش: أي بعوض؛ لأنه اشتراه منها والسلامة بعوض كلا سلامة، فلا ينوب عما التحقه بالطلاق، فيرجع عليها بنصف المهر.
م: (ولو تزوجها على حيوان) ش: بأن تزوجها على حمار، أو فرس أو نحوهما م: (أو عروض) ش: أي أو تزوجها على عروض حال كونها م: (في الذمة) ش: بأن قال: ثوب هروي بين جنسه ونوعه م: (فكذلك الجواب) ش: أي لا يرجع عليها بشيء قبض أو لم يقبض، وعلى قول الشافعي: لا تصح التسمية، ويجب مهر المثل.
وعن مالك في رواية وأحمد - في رواية -: بطل النكاح لجهالة المسمى، وعندنا صح العقد ووجب الوسط، وأنها لا ترجع بشيء م: (لأن المقبوض متعين في الرد) ش: أن الأصل في العرض الحيوان العينية، وثبوته في الذمة على خلاف الأصل للضرورة لما فيه من الجهالة، وكان(5/164)
وهذا لأن الجهالة قد تحملت في النكاح، فإذا عين يصير كأن التسمية وقعت عليه،
وإذا تزوجها على ألف، على أن لا يخرجها من البلدة أو على أن لا يتزوج عليها أخرى فإن وفى بالشرط فلها المسمى؛ لأنه صلح مهرا، وقد تم رضاها به. وإن تزوج عليها أخرى أو أخرجها فلها مهر مثلها؛ لأنه سمى ما لها فيه نفع، فعند فواته ينعدم رضاها بالألف، فيكمل مهر مثلها، كما في تسمية الكرامة والهدية مع الألف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ينبغي أن يفسد العقد، ولكنه صح ووجب الوسط.
م: (وهذا) ش: أشار به إلى شيئين، أحدهما: جواز النكاح بالحيوان والعروض بلا تعيين، والآخر: إلى أن المقبوض متعين في الرد، فأشار إلى الأول بقوله: م: (لأن الجهالة) ش: يعني عدم التعيين م: (قد تحملت في النكاح) ش: لأن مبناه على المسامحة عادة، وإنما قيد بقوله: تحملت في النكاح احترازاً عن المعاوضات المحضة، حيث لا يتحمل فيها الجهالة، كما لو اشترى فرساً، أو حماراً، لا يجوز لما عرف أن مبناه على المضايقة فيؤدي إلى المنازعة.
وأشار إلى الثاني بقوله: م: (فإذا عين) ش: أي عند القبض م: (يصير كأن التسمية وقعت عليه) ش: ولو كان كذلك كان متعيناً، وكذلك إذا عين بالقبض، وفائدة الأول صحة العقد، وإن كان المسمى مجهولاً، ومنع وجود المهر، وفائدة الثاني عدم رجوع الزوج عليها بشيء إن وهبته له، وعدم ولاية الاستبدال بغيره، بخلاف الدراهم والدنانير.
[تزوج رجل امرأة على ألف درهم على أن لا يخرجها من البلدة]
م: (وإذا تزوجها على ألف) ش: أي إذا تزوج رجل امرأة على ألف درهم م: (على أن لا يخرجها من البلدة، أو على أن لا يتزوج عليها أخرى) ش: أي أو يتزوج بشرط أن لا يتزوج عليها امرأة أخرى، فالنكاح صحيح، وإن كان شرط عدم المسافرة، أو عدم التزويج فهو فاسد؛ لأن فيه المنع عن الأمر المشروع.
م: (فإن وفى بالشرط فلها المسمى؛ لأنه صلح مهراً) ش: أي لأنه سمى ما صلح مهراً؛ لأنه سمى ما لها فيه نفع، وهو عدم إخراجها من البلد، وعدم التزوج عليها م: (وقد تم رضاها به) ش: أي رضا المرأة بما سمى.
م: (وإن تزوج عليها أخرى أو أخرجها) ش: أي من البلدة م: (فلها مهر مثلها) ش: وصورة المسألة فيما إذا كان مهر المثل أكثر من الألف م: (لأنه سمى ما لها فيه نفع) ش: حتى رضيت بقبض المسمى عن مهر المثل م: (فعند فواته ينعدم رضاها بالألف، فيكمل مهر مثلها كما في تسمية الكرامة) ش: بأن يكرمها ولا يكلفها الأعمال الشاقة م: (والهدية) ش: أي وكما في تسمية الهدية. م: (مع الألف) ش: بأن شرط ما يبعث به كما لو سمى الهدية مع الألف، بأن يرسل إليها مع الألف الثياب الفاخرة.(5/165)
ولو تزوجها على ألف إن أقام بها، وعلى ألفين إن أخرجها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال زفر: إن شرط لها مع الألف ما هو مال كالهدية، فالجواب هكذا، وإن شرط ما ليس بمال، كطلاق الضرة فليس لها إلا الألف، وفي " المغني ": الشروط في النكاح أقسام ثلاثة:
الأول: يلزم الوفاء به، وهو ما يعود نقصه إليها وهو أن لا يخرجها من دارها أو بلدها أو لا يسافر بها أو لا يتزوج عليها ولا يتسرى عليها، فهذه الشروط يلزمه الوفاء بها، فإن لم يف فلها فسخ نكاحها، يروى ذلك عن عمر، وسعد بن أبي وقاص، ومعاوية وعمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
وبه قال شريح، وعمر بن عبد العزيز، وجابر بن زيد، وطاوس، والأوزاعي، وإسحاق وأبطل هذه الشروط الزهري وقتادة، وهشام بن عروة، والليث والثوري؛ ومالك، والشافعي، وابن المنذر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لكن يكمل لها مهر المثل إن نقصت منه بسبب هذه الشروط.
والثاني: ما يبطل فيه الشروط ويصح النكاح، مثل أن يشترط أن لا يكون لها مهر، وأن ينفق عليها، ولا يطأها، أو أن يعزل عنها، أو لا يكون عندها في الجمعة إلا يوماً أو ليلة، أو شرط لها النهار دون الليل، أو شرط عليها أن تنفق عليه أو تقطعه شيئاً من مالها، فهذه الشروط كلها باطلة، لأنها تنافي مقتضى العقد، والنكاح صحيح في الصور كلها؛ لأنه لا يبطل بالشروط الفاسدة.
والثالث: ما يبطل به النكاح وهو التوقيت في النكاح، ونكاح المتعة واشتراط الخيار، وهذا اتفاق، أو يقول: زوجتك إن رضيت أختها أو فلانا أوجبت بالمهر في وقت كذا، وإلا فلا نكاح بيننا.
وذكر أبو الخطاب فيه: وفي خيار الشرط ورضا أمها أو رضا فلان روايتان، أحدهما: النكاح فيها صحيح والشرط باطل، وبه قال أبو ثور، وحكاه عن أبي حنيفة في شرط الخيار، وزعم أنه لا خلاف فيها.
وفي " خزانة الأكمل ": تزوجها على أن أباها بالخيار صح النكاح وبطل الخيار، وإن قال: إن رضي أبي فالنكاح باطل. وقال ابن قدامة عن عطاء وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي أن من قال في النكاح: إلى وقت كذا، وإلا فلا عقد بيننا أن الشرط باطل والعقد صحيح. وروى منصور عن أحمد أن الشرط والعقد جائزان، وعن مالك والشافعي وأبي عبيد فساد العقد. وفي اشتراط الخيار في الصداق عن الحنابلة ثلاثة أوجه: صحة العقد وبطلان الخيار، وصحتهما وصحة العقد وبطلان الصداق.
م: (ولو تزوجها على ألف إن أقام بها) ش: يعني في بلدها م: (وعلى ألفين إن أخرجها) ش:(5/166)
فإن أقام بها فلها الألف، وإن أخرجها فلها مهر المثل، لا يزاد على الألفين، ولا ينقص عن الألف، وهذا عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: الشرطان جميعا جائزان، حتى كان لها الألف إن أقام بها، والألفان إن أخرجها. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الشرطان جميعا فاسدان، ويكون لها مهر مثلها، لا ينقص عن الألف، ولا يزاد على ألفين. وأصل المسألة في الإجارات في قوله: إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم، وسنبينها فيه إن شاء الله.
ولو تزوجها على هذا العبد، أو على هذا العبد، فإذا أحدهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يعني من بلدها م: (فإن أقام بها فلها الألف، وإن أخرجها فلها مهر المثل لا يزاد على الألفين ولا ينقص عن الألف. وهذا) ش: أي هذا الحكم م: (عن أبي حنيفة، وقالا: الشرطان جميعاً جائزان، حتى كان لها الألف إن أقام بها، الألفان) ش: أي وكان لها الألفان م: (إن أخرجها) ش: من بلدها، فإن أقام بها فلها الألف، وإن أخرجها فلها مهر مثلها، لا يزاد على ألفين ولا ينقص.
م: (وقال زفر: الشرطان جميعاً فاسدان) ش: وبه قال مالك والشافعي، وذكر مشايخ العراق قول زفر والحسن كقول أبي حنيفة ذكره في " فتاوى قاضي خان ". وفي " شرح الطحاوي ": وعلى هذا الخلاف، إذا تزوجها بألف إن كان له امرأة وبألفين إن لم يكن، أو بألف إن كانت عجمية، وبألفين إن كانت عربية، أو بألف إن كانت ثيباً وبألفين إن كانت بكراً.
وعن أبي يوسف وغيره: لو تزوجها بألف إن كانت قبيحة، وبألفين إن كانت جميلة بالإجماع؛ لأنه لا خطر في التسمية الثانية، لأن أحد الوجهين ثابت جزماً.
وفي " نوادر ابن سماعة " عن محمد نص على الخلاف فيه، ولو طلقها قبل الدخول في هذه الفصول فلها نصف الألف عدة م: (ويكون لها مهر مثلها، لا ينقص عن الألف، ولا يزاد على الألفين) ش: ولم يذكر المصنف وجوه هذه الأقوال، وأحالها على باب الإجارة حيث قال.
م: (وأصل المسألة في الإجارات في قوله: إن خطته اليوم فلك درهم، وإن خطته غداً فلك نصف درهم وسنبينها فيه) ش: أي في كتاب الإجارة م: (إن شاء الله تعالى) ش: وجه قول زفر أنه ذكر بمقابلة شيء واحد، وهو البضع لشيئين مختلفين على سبيل النقد، وهما الألف والألفان، فتفسد التسمية للجهالة، ويجب مهر المثل، وبه قال الشافعي وأبو ثور.
ووجه قولهما: أن ذكر كل واحد من الشرطين تقييد، فيصحان جميعاً، وبه قال إسحاق، وأحمد في رواية.
ووجه قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أن الشرط الأول قد صح لعدم الجهالة فيه، فيتعلق العقد به، ثم لم يصح الشرط الثاني؛ لأن الجهالة نشأت منه ولم يفسد النكاح.
[تزوجها على هذا العبد أو على هذا العبد]
م: (ولو تزوجها على هذا العبد، أو على هذا العبد فإذا أحدهما) ش: أي أحد العبدين(5/167)
أوكس والآخر أرفع، فإن كان مهر مثلها أقل من أوكسهما فلها الأوكس، وإن كان أكثر من أرفعهما فلها الأرفع، وإن كان بينهما فلها مهر مثلها، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: لها الأوكس في ذلك كله. فإن طلقها قبل الدخول بها فلها نصف الأوكس في ذلك كله بالإجماع. لهما أن المصير إلى مهر المثل لتعذر إيجاب المسمى وقد أمكن إيجاب الأوكس إذ الأقل متيقن، فصار كالخلع والإعتاق على مال. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الموجب الأصلي مهر المثل، إذ هو الأعدل، والعدول عنه عند صحة التسمية، وقد فسدت لمكان الجهالة، بخلاف الخلع والإعتاق على مال؛ لأنه لا موجب له في البدل، إلا أن مهر المثل إذا كان أكثر من الأرفع، فالمرأة رضيت بالحط، وإن كان أنقص من الأوكس فالزوج رضي بالزيادة، والواجب في الطلاق قبل الدخول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أوكس) ش: من الوكس وهو النقص م: (والآخر أرفع) ش: أي أكثر قيمة من الآخر م: (فإن كان مهر مثلها أقل من أوكسهما فلها الأوكس، وإن كان أكثر من أرفعهما فلها الأرفع، وإن كان بينهما) ش: أي بين الأرفع والأوكس.
م: (فلها مهر مثلها، وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: لها الأوكس في ذلك كله. فإن طلقها قبل الدخول بها فلها نصف الأوكس في ذلك كله بالإجماع) ش: أي بإجماع أصحابنا، قاعدة هذا أن البدل الأصل عنده مهر المثل، وعندهما المسمى، إذا فسدت على ما يجيء الآن، يخرج ذلك من ذكره تعليل الثلاثة وهو قوله: م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن المصير إلى مهر المثل لتعذر إيجاب المسمى وقد أمكن إيجاب الأوكس، إذ الأقل متيقن فصار كالخلع) ش: على ألف أو ألفين م: (والإعتاق) ش: أي وصار كالإعتاق على ألف أو ألفين م: (على مال) ش: يرجع إلى الخلع والإعتاق جميعاً، وكذا الإقرار بالألف أو الألفين.
م: (ولأبي حنيفة أن الموجب الأصلي مهر المثل، إذ هو الأعدل) ش: أي لأن مهر المثل هو الأعدل، لكونه معادلاً للبضع، أو مساوياً له بخلاف المسمى؛ لأنه لا يجوز أن يكون مساوياً، ويجوز أن لا يكون؛ لأن قيمة البضع كالقيمة في البيع، والبضع يتقوم عند العقد م: (والعدول) ش: أي عن مهر المثل م: (عند صحة التسمية) ش: يعني إنما يجوز العدول عن التسمية عند صحتها، وهاهنا لم تصح م: (وقد فسدت) ش: أي التسمية قد فسدت م: (لمكان الجهالة) ش: لأنه أدخل فيه كلمة الشك.
م: (بخلاف الخلع والإعتاق على مال لأنه لا موجب له في البدل) ش: حتى لا يجب شيء عند ذكر عدم البدل م: (إلا أن مهر المثل إذا كان أكثر من الأرفع فالمرأة رضيت بالحط، وإن كان أنقص من الأوكس فالزوج رضي بالزيادة) ش: فعلمنا رضاهما.
م: (والواجب في الطلاق قبل الدخول) ش: هذا جواب عما يقال إذا كان كذلك فإن الواجب(5/168)
في مثله المتعة، ونصف الأوكس يزيد عليها في العادة، فوجب لاعترافه بالزيادة.
وإذا تزوجها على حيوان غير موصوف صحت التسمية، ولها الوسط منه، والزوج مخير إن شاء أعطاها ذلك، وإن شاء أعطاها قيمته. قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: معنى هذه المسألة أن يسمي جنس الحيوان، دون الوصف بأن يتزوجها على فرس أو حمار. أما إذا لم يسم الجنس بأن يتزوجها على دابة، لا تجوز التسمية ويجب مهر المثل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن يجب نصف الأرفع فيما وجب فيه الأوضع مهراً، لأن الواجب في الطلاق قبل الدخول نصف المسمى. وقال الكاكي: الواجب في الطلاق قبل الدخول إلى آخره، جواب قوله: - فلها نصف الأوكس في ذلك كله بالإجماع - وتقرير الجواب أن الواجب في الطلاق قبل الدخول م: (في مثله) ش: أي في مثل هذا العقد الذي فسدت التسمية فيه م: (المتعة) ش: مرفوع لأنه خبر مبتدأ أعني قوله والواجب.
م: (ونصف الأوكس يزيد عليها) ش: أي على المتعة م: (في العادة فوجب) ش: أي نصف الأوكس م: (لاعترافه) ش: أي لاعتراف الزوج م: (بالزيادة) ش: على المتعة.
فإن قيل: إذا فسدت التسمية عند أبي حنيفة ينبغي أن تجب المتعة، كما لو لم يسم شيئاً.
قلنا: إن نصف الأوكس بطريق المتعة.
فإن قيل: ينبغي أن يحكم المتعة، كما حكم مهر المثل قبل الطلاق، لأن المتعة هي الواجب الأصلي في الطلاق قبل الدخول، كما أن مهر المثل هو الموجب الأصلي قبل الطلاق.
قلنا: إنما لم يحكم المتعة؛ لأنها لا تزيد على نصف الأوكس عادة، حتى لو كانت زائدة عليه بحكم المتعة.
[تزوجها على حيوان غير موصوف]
م: (وإذا تزوجها على حيوان غير موصوف صحت التسمية) ش: صورة المسألة أن يسمي جنس الحيوان دون الوصف، يريد أنه لم يقل: جيد، أو وسط أو رديء إلى غير ذلك من أوصافه م: (ولها الوسط منه) ش: أي من الحيوان م: (والزوج مخير إن شاء أعطاها ذلك) ش: إشارة إلى الحيوان م: (وإن شاء أعطاها قيمته) ش: أي قيمة الحيوان.
م: (قال) ش: أي المصنف: م: (- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: معنى هذه المسألة أن يسمي جنس الحيوان دون الوصف) ش: يريد المصنف بهذا تفسير قول القدوري، فإن المسألة المذكورة من مسائل القدوري قال: وإن تزوجها على حيوان غير موصوف صحت التسمية، قال المصنف: معناها أن يسمي جنس الحيوان، ولم يذكر وصفه ويبين ذلك بقوله م: (بأن يتزوجها على فرس أو حمار) ش: فإن التسمية فيه صحيحة.
م: (أما إذا لم يسم الجنس بأن يتزوجها على دابة، لا تجوز التسمية، ويجب مهر المثل) ش: قد(5/169)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجب مهر المثل في الوجهين جميعا، لأن عنده ما لا يصلح ثمنا في البيع لا يصلح مسمى في النكاح، إذ كل واحد منهما معاوضة. ولنا: أنه معاوضة مال بغير مال فجعلنا التزام المال ابتداء، حتى لا يفسد في أصل الجهالة كالدية والأقارير، وشرطنا أن يكون المسمى مالا وسطه معلوم، رعاية للجانبين، وذلك عند إعلام الجنس، لأنه يشتمل على الجيد، والرديء، والوسط ذو حظ منهما، بخلاف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تكلم الشراح في هذا الموضع، وأطالوا الكلام، وملخصه أن المصنف سمى الفرس والحمار جنساً وليس كذلك، بل هما نوع من الحيوان، كما عرف في موضعه.
والجواب على ذلك: أن المصنف أراد بالجنس ما هو مصطلح الفقهاء، وهو النوع باصطلاح غيرهم، ثم في المسألة الأولى صحت التسمية ويجب الوسط، وفي المسألة الثانية لا تصح التسمية للجهالة الفاحشة، ويلزم مهر المثل، وبه قال مالك وأحمد م: (وقال الشافعي: يجب مهر المثل في الوجهين جميعاً، لأن عنده ما لا يصلح ثمناً في البيع، لا يصلح مسمى في النكاح) ش: قال الشافعي: الحكم في الوجهين المذكورين على البيع، لأن النكاح عقد معاوضة كالبيع م: (إذ كل واحد منهما معاوضة) ش:.
م: (ولنا أنه معاوضة مال بغير مال) ش: لأنه التزام المال ابتداء بغير عوض، وهو معنى قوله: م: (فجعلنا التزام المال ابتداء، حتى لا يفسد في أصل الجهالة) ش: المستدركة في الوصف م: (كالدية) ش: فإن الشرع جعل فيها مائة من الإبل، غير موصوفة.
م: (والأقارير) ش: هو جمع إقرار، فإنه يلزم فيها مال من غير أن يكون في مقابلها عوض مالي م: (وشرطنا أن يكون المسمى مالا وسطه معلوم) ش: قال الكاكي: هذا جواب سؤال مقدر، وهو أن يقال: لا أشبه عقد النكاح بالإقرار في كونه التزام مال ابتداء، وينبغي أن تصح التسمية فيما إذا سمى الحيوان، ولم يبين نوعه كما لو أقر بشيء، يصح الإقرار ويلزمه البيان.
فقال: وشرطنا أن يكون المسمى بالأوسط معلوم وسطه مبتدأ، ومعلوم خبره، والجملة صفة لقوله: مالا والوسط بفتح السين، وأصله أن يكون اسماً من جهة أنه أوسط الشيء، وأفضله وخياره، وقد يأتي صفة كوسط المرعى خير من طرفيه، ووسط الدابة للركوب خير من طرفيها، وهنا أيضاً كذلك، لأنه اسم لما بين طرفي الشيء، والوسط بالسكون فهو ظرف لا اسم، يعني بين، يقال: جلست وسط القوم أي بينهم م: (رعاية للجانبين) ش: يعني جانب الزوج، وجانب المرأة، كما في الزكاة يراعى ذلك لجانب الغني والفقير.
م: (وذلك عند إعلام الجنس، لأنه يشتمل على الجيد والرديء، والوسط ذو حظ منهما) ش: يعني من الجيد والرديء، لأن الوسط بالنسبة إلى الرديء جيد، وبالنسبة إلى الجيد رديء م: (بخلاف(5/170)
جهالة الجنس، لأنه لا وسط له، لاختلاف معاني الأجناس، وبخلاف البيع، لأن منشأه على المضايقة والمماكسة. أما النكاح فمبناه على المسامحة، وإنما يتخير، لأن الوسط لا يعرف إلا بالقيمة، فصارت أصلاً في حق الإيفاء، والعبد أصل تسميته فيتخير بينهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جهالة الجنس، لأنه لا وساطة له، لاختلاف معاني الأجناس) ش: جهالة الجنس، لأنه لا وساطة له، لاختلاف التزويج على دابة أو حيوان، حيث لا يمكن ذلك. لأنه ليس لهما طرفان، حتى يكون لهما وسطه، وهي معنى قوله لا وساطة له، لأن الجنس يشتمل على أنواع، وليس بعض النوع أولى من البعض بالإرادة، فصارت الجهالة فاحشة وفسدت به التسمية فوجب مهر المثل.
م: (وبخلاف البيع) ش: جواب عن قوله: -ما لا يصلح ثمناً لا يصلح مسمى في النكاح - وتقديره أن قياس الشافعي للوجهين المذكورين على البيع غير صحيح م: (لأن منشأه) ش: أي منشأ البيع م: (على المضايقة) ش: بين المتبايعين، لأن كلاً منهما يضيق على الآخر في أمور العقد.
م: (والمماكسة) ش: فسرها الأكمل بقوله أي المنازعة، وفسره الأترازي بقوله: والمماكسة المجادلة، وفي " المغرب ": المماكسة من المكس في البيع، وهو استنقاص الثمن من باب ضرب، والمكس أيضاً الجناية، وهو فعل المماكس العشار، منه: لا يدخل صاحب مكس الجنة.
م: (أما النكاح فمبناه على المسامحة) ش: أي المساهلة فلا يفسد بالجهالة ما لم يفحش م: (وإنما يتخير) ش: أي الزوج بين أداء الوسط، وبين أداء قيمته م: (لأن الوسط لا يعرف إلا بالقيمة، فصارت أصلاً في حق الإيفاء) ش: وتفسير قيمة الوسط بقدر الغلاء، والرخص عندهما وهو الصحيح، وعليه الفتوى، وإنما قدر أبو حنيفة بأربعين ديناراً في السود، وفي البيض بخمسين ديناراً بالمشاهد في زمانه، وهما بنيا على الأوقات والأمكنة كلها، والأمر على ما قالا: إن القيمة تختلف باختلاف الغلاء والرخص.
م: (والعبد أصل تسميته) ش: أي من حيث التسمية، هذا إذا ذكر مطلقاً، ولم يضف إلى نفسه، أما لو أضافه إلى نفسه بأن قال: تزوجتك على عبدي، فليس له أن يعطي القيمة، لأن الإضافة من أسباب التعريف، كالإشارة. ولو كان مشاراً إليه ليس له أن يعطي القيمة هكذا هاهنا، كذا في المحيط وغيره م: (فيتخير بينهما) ش: أي بين أداء القيمة وبين أداء العبد للوسط، حتى تجبر المرأة على القبول بأيهما، وقال زفر، ومالك، وأحمد: لا تجبر على القبول، وقال القاضي من الحنابلة: تجبر المرأة على قبولها إن سمى عبداً وسطاً أو جيداً، أو ردها كقولنا.
وفي " الذخيرة ": الوسط في زماننا أدون الترك وأرفع السود، وفي الوسط في بلادهم السندي، لأن الخادم عندهم أنواع ثلاثة: رومي، وسندي، وحبشي، قال: فالأعلى الرومي والأدنى الحبشي والوسط السندي، وفي بلادنا: التركي والصقلي والهندي، فالوسط الصقالبة.(5/171)
وإن تزوجها على ثوب غير موصوف فلها مهر المثل، ومعناه أنه ذكر الثوب ولم يزد عليه، ووجهه أن هذه جهالة الجنس، لأن الثياب أجناس، ولو سمى جنسا بأن قال: هروي تصح التسمية، ويخير الزوج لما بينا، وكذا إذا بالغ في وصف الثوب في ظاهر الرواية، لأنها ليست من ذوات الأمثال، وكذا إذا سمى مكيلا، أو موزونا وسمى جنسه دون صفته،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المبسوط ": أرفع الخدم التركي، والأدون الهندي، والوسط السندي، فالوسط أعلى الترك وأعلى الهنود في بلادنا، لأن السود لا توجب عندنا.
وفي " البدائع ": لو تزوجها على وصف أبيض صح، لأنه يصح بدون الوصف، فبالوصف أولى، والجيد عندهم الرومي، والوسط السندي، والرديء الهندي، والجيد عندنا التركي، والوسط الرومي والرديء الهندي، وقيمة الجيد خمسون ديناراً والوسط أربعون أو ثلاثون، والمعتبر فيه القيمة بلا خلاف، وفي " المغني ": الوسط من العبيد السندي والمنصوري، والأعلى التركي والرومي، والأدنى الزنجي والحبشي.
[تزوجها على ثوب غير موصوف]
م: (وإن تزوجها على ثوب غير موصوف فلها مهر المثل) ش: أي بإجماع الأئمة الأربعة م: (ومعناه) ش: أي معنى قوله: تزوجها على ثوب غير موصوف م: (أنه ذكر الثوب ولم يزد عليه، ووجهه) ش: أي وجه وجوب مهر المثل م: (أن هذه جهالة الجنس) ش: أي النوع، وقد ذكرنا أن مراده من الجنس النوع، على اصطلاح الفقهاء م: (لأن الثياب أجناس) ش: أي أنواع كالقطن، والكتان والإبريسم ونحوها.
م: (ولو سمى جنساً) ش: أي نوعاً م: (بأن قال: هروي تصح التسمية، ويخير الزوج) ش: يعني بين القيمة والوسط م: (لما بينا) ش: أن الثياب أنواع م: (وكذا) ش: أي وكذا يتخير م: (إذا بالغ في وصف الثوب) ش: بأن ذكر طوله وعرضه وذرعه ورقعته، وذكر أنه على منوال كذا وكذا، أو صار بحال يجب السلم فيه.
م: (في ظاهر الرواية) ش: احترازاً عما روي عن أبي حنيفة أن الزوج يجبر على تسليم الوسط، وهو قول زفر وقال الكاكي: قيد ظاهر الرواية لما روي عن أبي يوسف أنه قال: إن ذكر الأجل مع ذلك لا تجبر المرأة على قبول القيمة، وإن لم يذكر الأجل مع ذلك أجبرت، لأن الثياب لا تثبت في الذمة ثبوتاً صحيحاً إلا مؤجلا.
ووجه الظاهر ما ذكره بقوله: م: (لأنها ليس من ذوات الأمثال) ش: بدليل أن مستهلكها لا يضمن المثل، فصارت كالعبد م: (وكذا) ش: أي وكذا يتخير الزوج بين الوسط والقيمة م: (إذا سمى مكيلاً أو موزوناً، وسمى جنسه دون صفته) ش: مثل أن تقول: تزوجتك على كر حنطة، أو من زعفران ولم يزد على ذلك، فإنه يخير بين الوسط وقيمته.(5/172)
وإن سمى جنسه وصفته لا تخير، لأن الموصوف منهما يثبت في الذمة ثبوتا صحيحا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن سمى جنسه) ش: أي نوعه م: (وصفته لا تخير) ش: بل تجبر على الوسط م: (لأن الموصوف منهما) ش: أي من المكيل والموزون م: (يثبت) ش: دينا (في الذمة ثبوتاً صحيحاً) ش: حالاً أو مؤجلاً، بدليل جواز استقراضه والسلم فيه، وإن لم يذكر الصفة.
فروع: وفي " المحيط " وغيره: تزوجها على بيت وهو بدوي يلزمه بيت من شعر أو وبر إذ هو نوع من الثياب، وإن كان حضريا قال محمد: لها بيت وسط، قال: أراد به ثياب بيت، ولهذا قال: ما يجهز به هنالك، والتجهيز لا يكون بالبيت، قال صاحب " المحيط " وفي عرفنا يراد بالبيت الذي يبات فيه من المدر، ولا يصلح مهراً إذا لم يكن معينا، وفي " المبسوط ": المراد بالبيت متاع البيت وهو معروف بالعراق، وهو ما يجهز به ملك المرأة فينصرف إلى الوسط وعن أبي حنيفة: قيمته أربعون ديناراً. وفي " جوامع الفقه " هو على مثل متاع بيت وسط في عرفهم، وفي عرفنا يجب مهر المثل وإن عين البيت فهو على عينه، بخلاف الدراهم والدنانير، وفي تعيين التبر روايتان، والفلوس التي تزوج كالدراهم، والغطارفية كذلك.
وفي المواضع التي تزوج فيها تعيين، والمكيل، والموزون، والعدد بأعيانهما يتعين وللزوجة أخذ عينها، وقال مالك: يجوز النكاح على بيت وخادم، ويجب فيهما الوسط وعند الشافعي: يجب فيهما مهر المثل. وفي "مصنف ابن أبي شيبة " قال الحسن، وابن سيرين، والنخعي: يجوز النكاح على الوصفاء والوصايف.
زوجت نفسها بمهر أمها جاز به. وفي " الذخيرة " وهو الصحيح، ولو طلقها قبل الدخول بها فلها نصفه، ويجبر إذا علم مقدار مهر أمها. وفي " جوامع الفقه ": لو تزوجها على مثل مهر فلانة يجب مهر المثل.
وكذا إذا تزوجها على مثل هذا الزنبيل حنطة، أو قيمة هذا العبد، أو قيمة عبد، أو على سكنى دار موقوفة أو على أن يخدمها ما عاش، أو برد آبقها، أو على دراهم، أو ناقة من هذه الإبل، أو على ثوب قيمته عشرة، أو قال: بجميع ما أملكه يجب في ذلك مهر المثل.
وفي " المرغيناني ": هذا قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وعن أبي حنيفة: يعطيها ناقة من إبله. تزوجها على غنم بعينها على أن أصوافها له كان له الصوف استحساناً.
وتزوجها على جارية حبلى على أن ما في بطنها له فلها الجارية دون ولدها، قال: عن كل يجب مهر المثل، إلا أن يحكم بأكثر منه، فيجب ذلك على حكم فلان (فإن) حكم بأقل من مهر المثل فلا بد من رضاه.
وفي " المغني " لو تزوجها على حكمها أو حكمه، أو حكم أخيه لا يصح، وهو قول(5/173)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشافعي وقال مالك: يجوز، فإن وقعت الفرقة بالحكم فيها وإلا فسخ، ولا شيء لها فإن فرض لها مهر المثل لزمها النكاح.
وقال ابن حزم في " المحلى ": يفسد النكاح فيه، ولو تزوج امرأة على ألف مؤجل لا يصح التأجيل، ويؤمر الزوج بتعجيل ما تعارف أهل بلده بتعجيله، ويؤخذ الثاني بعد الطلاق والموت، ولا يجبر على تسليم الباقي ولا يجبر عليه.
وفي " قنية المنية " هو عادة خوارزم، فإن طلقها رجعياً لا يصير المهر حالاً، حتى تنقضي العدة به، وقال عامة المشايخ، وقال القاضي البديع، وقاضي خان: ويصير حالاً، ولو قال: بعضه معجل وبعضه مؤجل ولم يزد يجوز، ويحل بالفرقة وبالموت أو بالطلاق، وقيل: يجب حلاً وهو أقرب إلى الحق، وفي " الذخيرة " والصحيح الصحة للعرف معلومة في نفسها، وهو الطلاق أو الموت.
وفي " البدائع " إذا ذكر أجلاً مجهولاً كالميسرة، وهبوب الريح، ومجيء المطر، وقال: تزوجتك على ألف مؤجلة فهي حالة، لأن الأجل لم يثبت للجهالة الفاحشة، وإن تزوجها على ألف على أن ينقدها ما تيسر له، والبقية إلى سنة كان الألف كله إلى سنة، إلا أن تقيم المرأة بينه على أنه قد تيسر له منها شيء فتأخذه.
وفي " المغني ": يجوز بمهر معجل ومؤجل، وإن لم يذكر أجله، وقال القاضي: المهر صحيح ومحله الفرقة. وقال ابن حنبل: لا يحل الأجل إلا بموت أو فرقة، وهو قول الشعبي، والنخعي، والحسن، وحماد، والثوري، وقال أبو عبيد: يكون حالاً. وقال إياس بن معاوية وقتادة: لا يحل حتى يطلق، أو يخرج من مهرها، أو يتزوج عليها.
وعن مكحول والأوزاعي والعنبري: حال إلى سنة بعد دخوله، وقال الشافعي: لها مهر المثل، واختاره الخطاب من الحنابلة. وقال مالك: إن كان عرفهم أن لا يؤخذ إلا عند الموت والطلاق فإنه ينظر إلى مهر مثل تلك المرأة، فيعطي مثلها إن دخل بها، وإن لم يدخل بها يعجل المهر وإلا يفسخ، ذكره ابن المنذر عنه في " الأشراف "، وإن تزوجها على ألف إلى هبوب الريح، أو مجيء المطر فهي حالة الجهالة، أي المنازعة عند الأجل. وإن تزوجها إلى الحصاد، أو إلى الدياس، أو النيروز، أو المهرجان قال الأسبيجابي: لا رواية في هذه المسألة في الكتب الظاهرة.
وقال السرخسي: الصحيح صحة التأجيل إلى هذه الأشياء في الصداق كالكفالة، وفي " المرغيناني ": يجوز التزوج إلى الحصاد، والدياس في الصحيح، ومن المشايخ من قال: لا يثبت الأجل في الصداق إلى هذه الآجال، وفرق بين الصداق والكفالة بأن ما هو المعقود عليه،(5/174)
وإن تزوج مسلم على خمر، أو خنزير فالنكاح جائز، ولها مهر مثلها. لأن شرط قبول الخمر شرط فاسد، فيصح النكاح ويلغى الشرط بخلاف البيع؛ لأنه يبطل بالشروط الفاسدة لكن لم تصح التسمية لما أن المسمى ليس بمال في حق المسلم فوجب مهر المثل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو المرأة لا تحمل الجهالة بأن الأصل خلاف الكفالة، قال: والأول أصح.
قال: تزوجتك بمهر جائز في الشرع ينصرف إلى مهر المثل، هكذا في فتاوى أبى الليث وقاضي خان. وقال صاحب " المحيط ": ينصرف إلى عشرة دراهم، ولو تزوجها على أكثر من مهر مثلها، على أنها بكر فإذا هي ثيب لا تثبت الزيادة. تزوجها على حجة أو على أن يحجها فلها قيمة حج وسط وهو الحج على الراحلة، وعند مالك يجب مهر المثل، إلا أن تكون معه. وقال الشافعي وأحمد: التسمية فاسدة؛ لأن الحملان مجهول.
قلنا: هذا باطل بالإجماع على جواز الاستئجار، وإن زادهم إلى مكة في جميع بلاد الإسلام وفي " القنية ": يجوز الزيادة في المهر بغير شهود ولا تصح من غير قبول.
[تزوج مسلم على خمر أو خنزير]
م: (وإن تزوج مسلم على خمر، أو خنزير، فالنكاح جائز، ولها مثلها) ش: هذه من مسائل القدوري، وفي " الجواهر " للمالكية: يفسخ النكاح قبل الدخول، وبعده يثبت على المشهور، وهل فسخه على الاستحباب أو الوجوب؟ فيه قولان. وعند الشافعي يجب مهر المثل، وفي قول: قيمته.
وقال أبو عبيد: يفسد النكاح في ذلك كله، واختاره أبو بكر بن عبد العزيز من الحنابلة، وهو قول الظاهرية، ومثله التزوج على السنة واليوم، بقولنا: قال الأوزاعي والثوري وآخرون.
أما الجواز فهو م: (لأن شرط قبول الخمر شرط فاسد، فيصح النكاح ويلغى الشرط) ش: وفساد التسمية ليس بأكثر من عدمها، وذلك لا يفسد النكاح فكذا هكذا م: (بخلاف البيع) ش: حيث لا يصح الخمر والخنزير م: (لأنه يبطل بالشروط الفاسدة) ش: والنكاح لا يفسد، ولهذا لو سكت عن ذكر الثمن في البيع يبطل، والنكاح لا يبطل بالسكوت عن ذكر المهر حيث يصح ويجب مهر المثل، فافترقا.
م: (لكن لم تصح التسمية) ش: لأن شرط صحة التسمية أن يكون المسمى مالاً، والخمر والخنزير ليسا بمال متقوم، فبين في قوله، وهو قوله: م: (لما أن المسمى ليس بمال في حق المسلم فوجب مهر المثل) .
ش: وقال الشافعي - في قوله القديم - وأحمد: يجب في الخمر مهر المثل، وفي الخنزير القيمة، وقيل: قول المصنف في الخمر: ليس بمال فيه نظر، فإن الأصحاب قالوا فيها: إنها مال غير متقوم(5/175)
فإن تزوج امرأة على هذا الدن من الخل، فإذا هو خمر فلها مهر مثلها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: لها مثل وزنه خلا، وإن تزوجها على هذا العبد فإذا هو حر يجب مهر المثل عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: تجب القيمة:
لأبي يوسف أنه أطمعها مالا وعجز عن تسليمه فتجب عليه قيمته أو مثله إن كان من ذوات الأمثال، كما إذا هلك العبد المسمى قبل التسليم وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: اجتمعت الإشارة والتسمية، فتعتبر الإشارة لكونها أبلغ في المقصود وهو التعريف،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في حق المسلم؛ لأن المال يقع فيه شح القسمة، والخمر بهذه المثابة. فإن تزوج المرأة على هذا الدن من الخل فإذا هو خمر فلها مهر مثلها عند أبي حنيفة وقالا: لها مثل وزنه خلاً، وبه قال أحمد والشافعي في قول وفي قول آخر كقول أبي حنيفة م: (وإن تزوجها على هذا العبد فإذا هو حر) ش: أي ظهر أنه حر م: (يجب مهر المثل عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: تجب القيمة) ش: وقول أبي يوسف أولاً في مسألة الحر مثل قولهما، كذا ذكر الحاكم الشهيد في " الكافي " وشمس الأئمة السرخسي في "شرحه "، وكذلك لو تزوجها على شاة ذكية فظهرت ميتة فالخلاف فيها كالخلاف في الحر.
[تزوجها على هذا الدن من الخل فإذا هو خمر]
وفي " جوامع الفقه ": م: (إذا تزوجها على هذا الدن من الخل) ش: أو على هذه الذكية، م: (فإذا هو خمر) ش: أو ميتة يجب مهر المثل فيهما عند أبي حنيفة، وعندهما يجب فيه خلاً أو ذكية أو قيمتها، ولم يذكر القيمة غيره.
وفي العبد إذا ظهر حراً يجب مهر المثل عندهما، وعند أبي يوسف قيمته إذا لم يعلمها بكونه حراً، وإن علما يجب مهر المثل اتفاقاً. وإن قال: على هذا الثوب الهروي فإذا هو مروي فعند أبي حنيفة يجب ثوب هروي مجردة، ولم يذكر قول أبي يوسف.
ولو قال على هذا القفيز من الحنطة فإذا هي شعير، أو على هذا الخل، فإذا هو زيت يجب المسمى بقدره عند أبي حنيفة، وعن محمد يجب الشعير، قال: والظاهر أنه يجب عنده مهر المثل، ولو قال: على هذا الفرق من السمن، وليس فيه شيء يجب لها مثل ذلك من السمن. ولو قال: على هذا الزق من السمن يجب مهر المثل.
م: (لأبي يوسف أنه) ش: أي أن الزوج م: (أطمعها) ش: يقال: أطمعه الشيء فطمع حيث سمى لها م: (مالا وعجز عن تسليمه فتجب عليه قيمته أو مثله، إن كان من ذوات الأمثال) ش: فالخل من ذوات الأمثال م: (كما إذا هلك العبد المسمى) ش: في العقد بأن تزوجها عليه فهلك م: (قبل التسليم) ش: أي قبل تسليمه إليها فإنه يجب قيمة العبد الهالك اتفاقاً.
م: (وأبو حنيفة يقول: اجتمعت الإشارة) ش: وهو قول هذا م: (والتسمية) ش: في قول: العبد م: (فتعتبر الإشارة لكونها أبلغ في المقصود وهو التعريف) ش: لكونها قاطعة للشركة؛ لأن الإشارة(5/176)
فكأنه تزوج على خمر أو حر. ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: الأصل أن المسمى إذا كان من جنس المشار إليه يتعلق العقد بالمشار إليه؛ لأن المسمى موجود في المشار إليه ذاتا والوصف يتبعه، وإن كان من خلاف جنسه يتعلق بالمسمى؛ لأن المسمى مثل المشار إليه وليس بتابع له، والتسمية أبلغ في التعريف من حيث إنها تعرف الماهية، والإشارة تعرف الذات، ألا ترى أن من اشترى فصا على أنه ياقوت فإذا هو زجاج لا ينعقد العقد لاختلاف الجنس. ولو اشترى على أنه ياقوت أحمر، فإذا هو أخضر ينعقد العقد؛ لاتحاد الجنس،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بمنزلة وضع اليد على الشيء، ويحصل بها كمال التمييز؛ لأن الإشارة إلى شيء وإرادة غيره ممتنعة، وأما التسمية فمن باب استعمال اللفظ، وإرادة غير ما وضع له م: (فكأنه تزوج على خمر، أو حر) ش: أي فكأن الرجل تزوجها على خمر في تزوجها على هذا الدن من الخل، أو تزوجها على حر في تزوجه على هذا العبد، فالواجب فيهما مهر المثل بلا خلاف.
م: (ومحمد يقول: الأصل أن المسمى إذا كان من جنس المشار إليه يتعلق العقد بالمشار إليه؛ لأن المسمى موجود في المشار إليه ذاتاً) ش: أي من حيث الذات م: (والوصف يتبعه) ش: أي يتبع الذات؛ لأنه قائم بالذات، وعدمه لا يستلزم انعدام الذات.
م: (وإن كان) ش: أي المسمى م: (من خلاف جنسه) ش: أي جنس المشار إليه م: (يتعلق بالمسمى لأن المسمى مثل المشار إليه) ش: من حيث التعريف م: (وليس بتابع له) ش: أي للمشار إليه.
م: (والتسمية أبلغ في التعريف من حيث إنها تعرف الماهية) ش: وهي الحقيقة من حيث هي م: (والإشارة تعرف الذات) ش: من غير دلالة، على الحقيقة، ثم أوضح ذلك م: (ألا ترى أن من اشترى فصاً على أنه ياقوت، فإذا هو زجاج لا ينعقد العقد لاختلاف الجنس) ش: فيتعلق العقد بالمسمى وهو معدوم، وبيع المعدوم باطل.
م: (ولو اشترى على أنه ياقوت أحمر، فإذا هو أخضر ينعقد العقد لاتحاد الجنس) ش: لأن المشار إليه من جنس المسمى في تعلق العقد، وهو موجود فيصح إذا عرفنا هذا، قال محمد: الحر مع العبد جنس واحد؛ لاشتراكهما في الصورة والمعنى والمنافع، إلا أنهما مختلفان في المالية، فبعد الاختلاف، ويغلب الاتحاد والاتفاق فيتحد الجنس، وكان المشار إليه من جنس المسمى يتعلق العقد المشار إليه، وأنه لا يصلح مهراً لعدم كونه مالاً، فتفسد التسمية فيصار إلى مهر المثل.
أما الخمر من الخل فجنسان مختلفان؛ لأنهما لا يختلفان في الصورة ويختلفان في الاسم والمعاني فيقل الاتحاد ويغلب الاختلاف، فكانا جنسين مختلفين في تعلق العقد بالمسمى، وهو في الاسم والمعاني، وهو الدن من الخل، وأبو حنيفة يقول: إن الخمرية والخلية والرقية والحرية صفات تعاقب على الذات الواحدة، فلا يختلف به الجنس كالصبي والشاب والشيخوخة والصغر(5/177)
وفي مسألتنا العبد مع الحر جنس واحد؛ لقلة التفاوت في المنافع، والخمر مع الخل جنسان لفحش التفاوت في المقاصد فإن تزوجها على هذين العبدين، فإذا أحدهما حر فليس لها إلا الباقي، إذا ساوى عشرة دراهم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه مسمى، ووجوب المسمى وإن قل يمنع وجوب مهر المثل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والكبر، فكان المشار من جنس المسمى في الصلات جميعاً.
م: (وفي مسألتنا) ش: أراد به قوله: - وإذا تزوجها على هذا العبد فإذا هو حر - م: (العبد مع الحر جنس واحد) ش: وقيل: إن الحر الصغير يصير عبداً حراً، ومنافعهما متقاربة، أشار إليه بقوله: م: (لقلة التفاوت في المنافع) ش: يظهر ذلك في جواز البيع وعدمه م: (والخمر مع الخل) ش: في المسألة المذكورة، وهي ما إذا تزوجها على هذا الدن من الخل، فإذا هو خمر.
م: (جنسان لفحش التفاوت في المقاصد) ش: فإذا أحدهما لا يسد مسد الآخر، وما يصلح له الخل لا يصلح له الخمر، والخل بعد استحكامه لا ينقلب خمراً، وبخلاف هذا، قال في " المبسوط ": أبو حنيفة يقول: الخمر مع الخل جنس واحد، فإن الأصل واحد وهو العصير، والهيئة واحدة أوصاف تعرض على العين، فلا توجب تبدل الجنس كالصغر والكبر في الآدمي.
فإن قلت: يرد عليه مسألة " الجامع "، وهو إذا حلف لا يذوق هذه الخمرة فصارت خلاً فذاقه لا يحنث، فلو لم يتبدل الجنس لحنث، إذ الوصف في الحاضر لغو، وإلحاقه بالآدمي في الصغر والكبر بعد.
قلت: يمكن أن يجاب بأن الخل والخمر جنسان في العرف، ومبنى الإيمان عليه، وإن كانا جنساً واحداً في الحقيقة.
وفي " المحيط ": العبد والحر عند أبي حنيفة. ولو تزوجها على هذا العصير فتخمر قبل قبضه، عن أبي يوسف لها مثله، ولم يذكر قولهما، فإن تزوجها على هذين العبدين، هذه المسألة مبنية على الأصل المذكور، والخلاف فيها كالخلاف فيما ذكر هناك، فكذلك ذكرها بالفاء فقال:
م: (فإن تزوجها) ش: أي فإن تزوج رجل امرأة م: (على هذين العبدين، فإذا أحدهما حر فليس لها إلا الباقي) ش: أي ليس لها إلا العبد الباقي م: (إذا ساوى عشرة دراهم عند أبي حنيفة؛ لأنه) ش: أي لأن الباقي.
م: (مسمى، ووجوب المسمى وإن قل يمنع وجوب مهر المثل) ش: لأن المسمى ومهر المثل لا يجتمعان، بيان هذه أن أبا حنيفة يعتبر الإشارة، والإشارة إلى الحر تخرجه عن العقد، فكانت تسمية العبد الباقي لغواً، فكأنه تزوجها على عبد، وليس لها إلا ذلك، ولا يجب إلا مهر المثل؛(5/178)
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لها العبد، وقيمة الحر لو كان عبدا؛ لأنه أطمعها سلامة العبدين، وعجز عن تسليم أحدهما فتجب قيمته. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لها العبد الباقي، وتمام مهر مثلها إن كان مهر مثلها أكثر من قيمة العبد؛ لأنهما لو كان حرين يجب تمام مهر المثل عنده، فإذا كان أحدهما عبدا يجب العبد وتمام مهر المثل.
وإذا فرق القاضي بين الزوجين في النكاح الفاسد قبل الدخول فلا مهر لها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأنهما لا يجتمعان، ثم العبد الباقي لو كان يساوي مهر المثل ليس لها إلا ذلك، ولا يكمل مهر المثل مع العبد الباقي.
فإن قلت: قال المصنف قبل هذا: لو تزوجها على ألف إن أقام بها إلى أن قال: إن أخرجها فلها مهر المثل فهذا يدل على أن المسمى لا يوجب مهر المثل.
قلت: أجيب بأن ذلك الشرط المتحقق بعقد النكاح بفواته يوجب فوات رضاها فكمل لها مهر المثل فأما المسمى فلم يستحق أصلاً، فافهم.
م: (وقال أبو يوسف: لها العبد) ش: أي العبد الباقي م: (وقيمة الحر لو كان عبداً؛ لأنه أطمعها سلامة العبدين وعجز عن تسليم أحدهما، فتجب قيمته) ش: وبه قال أحمد، والشافعي في قول، وكذا لو ظهر أحدهما مغصوباً، وعند الشافعي في الأظهر يبطل في الحر والمغصوب، ويصح في المملوك ويتخير، فإن فسخ فمهر المثل.
م: (وقال محمد: وهو رواية عن أبي حنيفة) ش: رواه ابن جماعة عن أبي حنيفة م: (لها العبد الباقي، وتمام مهر مثلها إن كان مهر مثلها أكثر من قيمة العبد؛ لأنهما) ش: أي لأن العبدين م: (لو كانا حرين يجب تمام مهر المثل عنده) ش: أي عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وإنما قيد بقوله: عند محمد احترازاً عن قول أبي يوسف، ولو ظهر عند الصداق آخر لم يجب قيمته، أو كان عبداً، فكذا إذا ظهر العبدان حرين يجب قيمتهما أيضاً، وكذا في أحد العبدين إذا ظهر حراً.
م: (فإذا كان أحدهما عبداً يجب العبد، وتمام مهر المثل) ش: أي إذا كان أحد العبدين اللذين تزوجها عليها ظهر أحدهما عبداً والآخر حراً يجب العبد، وتمام مهر المثل إن كان أكثر من قيمة العبد.
[فرق القاضي بين الزوجين في النكاح الفاسد قبل الدخول]
م: (وإذا فرق القاضي بين الزوجين في النكاح الفاسد) ش: مثل النكاح بغير شهود، ونكاح الأخت في عدة الأخت في الطلاق البائن، ونكاح الخامسة في عدة الرابعة، ونكاح الأمة على الحرة م: (قبل الدخول) ش: قيد قبل الدخول بإجماع الأئمة الأربعة، وكذا بعد الخلوة؛ لأن بعد الدخول لها مهر المثل على ما يأتي عن قريب م: (فلا مهر لها) ش: عند أهل العلم قاطبة، وعن ابن جندب: يجب كالصحيح، والأصل له؛ لأن التمكين من الوطء حرام، فلا يقام مقام(5/179)
لأن المهر فيه لا يجب بمجرد العقد لفساده، وإنما يجب باستيفاء منافع البضع. وكذا بعد الخلوة؛ لأن الخلوة فيه لا يثبت بها التمكن، فلا تقام مقام الوطء، فإن دخل بها فلها مهر مثلها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوطء، وأقام اللمس والقبلة من غير خلوة مقام الوطء، وأوجب بذلك كمال المهر، ذكره في " المغني ".
وقال الأترازي: وإنما يجب التفريق على القاضي لئلا يلزم ارتكاب المحظور إعزازاً لصورة العقد، فإن فرق بينهما قبل الدخول فلا مهر، ولا عدة؛ لأن النكاح الفاسد لا حكم له قبل الدخول، وكذا إذا فرق بعد الخلوة الصحيحة؛ لأن الخلوة الصحيحة في النكاح الصحيح إنما قامت مقام الوطء للتمكن من الوطء.
وهنا لا يمكن الوطء لكون العقد فاسداً واجب الرفع، ولا يقال: ينبغي أن يجب نصف المهر لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] (البقرة: الآية 237) ؛ لأن قبول ذلك في المطلق بعد النكاح من كل وجه؛ لأن المطلق ينصرف إلى الكامل، ولم يوجد النكاح من كل وجه، انتهى.
قلت: قال الأترازي: وإنما يجب التفريق على القاضي، فمن أين الوجوب عليه؟ وقد قالوا لا يتوقف التفريق بينهما على تفريق القاضي، بل لكل واحد منهما فسخ هذا النكاح بغير مهر من صاحبه قبل الدخول وبعده بمحضر منه، كالبيع الفاسد لا يجب بمجرد العقد، فإن لكل واحد فسخه قبل القبض وبعده لا بمحضر من الآخر، كذا في " الذخيرة ".
قلت: يمكن أن يكون الوجوب على القاضي عند ترافع الزوجين إليه.
م: (لأن المهر فيه) ش: أي في النكاح الفاسد م: (لا يجب بمجرد العقد لفساده) ش: وإنما يجب لاستيفاء منافع البضع.
قوله: - لفساده - أي لفساد العقد م: (وإنما يجب) ش: أي المهر بسبب م: (استيفاء منافع البضع. وكذا بعد الخلوة) ش: أي وكذا يجب المهر في النكاح الفاسد إذا وجد التفريق بعد الخلوة الصحيحة أيضاً م: (لأن الخلوة فيه) ش: أي في النكاح الفاسد م: (لا يثبت بها التمكن) ش: من الوطء م: (فلا تقام مقام الوطء) ش: فصار كخلوة الحائض، وهذا قول المشايخ: الخلوة الصحيحة في النكاح الفاسد كالخلوة الفاسدة في النكاح الصحيح.
م: (فإن دخل بها) ش: أي بالمرأة التي تزوجها بنكاح فاسد م: (فلها مهر مثلها) ش: لأن الوطء في المحل المعصوم بسبب الضمان الجائز، أو الحد الزاجر، وتعذر الثاني بشبهة النكاح فيه، فتعين الأول لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما(5/180)
لا يزاد على المسمى عندنا خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، هو يعتبره بالبيع الفاسد. ولنا أن المستوفى ليس بمال، وإنما يتقوم بالتسمية، فإذا زادت على مهر المثل لم تجب الزيادة؛ لعدم صحة التسمية، وإن نقصت لم تجب الزيادة على المسمى لانعدام التسمية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
استحل من فرجها» .
بين - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن المهر مستحق في النكاح الباطل بالدخول، لا بالعقد والخلوة م: (لا يزاد) ش: أي مهر مثلها م: (على المسمى) ش: أي على الذي سمي عند العقد م: (عندنا) .
م: (خلافاً لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، هو يعتبره بالبيع الفاسد) ش: يقيسه عليه حيث تجب القيمة في البيع الفاسد بالغة ما بلغت، وإن زادت على الثمن، فكذلك مهر المثل.
م: (ولنا أن المستوفى ليس بمال) ش: المستوفى هو البضع، وهو ليس بمال؛ لأنه ليس بمتقوم في نفسه م: (وإنما يتقوم بالتسمية) ش: عند العقد، فيجب تقدير القيمة وهي مهر المثل بقدر التسمية. م: (فإذا زادت) ش: أي التسمية. م: (على مهر المثل لم تجب الزيادة؛ لعدم صحة التسمية) .
ش: فإن قيل: يرد على قوله: - وإنما يتقوم بالتسمية - مسألة المفوضة؛ فإن مهر المثل يجب فيها وتقوم منافع البضع.
قلنا: المراد أنها تقوم زائداً على مهر المثل بالتسمية في العقد، فهذا العقد يمنع النقص عن مسألة المفوضة، أي في حق الزيادة؛ لأن التسمية في النكاح الفاسد معدوم حكماً؛ لأنه وجد في ضمن النكاح الفاسد، فإن كان معدوماً حكماً لم تتغير الزيادة على الموجب الأصلي، وهو مهر المثل، كما في البيع الفاسد إذا كان الثمن زائداً على القيمة، فلا يجب الزائد، بل تجب القيمة، وأما إذا كانت التسمية أقل من مهر المثل وجب المسمى، ولا يجب الزائد لوجود الرضا من المرأة بذلك.
م: (وإن نقصت) ش: أي التسمية عن مقدار مهر المثل م: (لم تجب الزيادة على المسمى لانعدام التسمية) ش: أي تسمية الزيادة على المسمى.
قال الأكمل: فإن قلت: على هذا الانتقاض؛ لأنك أسقطت التسمية إذا زادت على مهر المثل (ثم) اعتبرتها إذا نقصت عنه، وهي وإن كانت فاسدة يجب شمول المعدوم، وإن كانت صحيحة يجب شمول الوجوب.
قلت: هي صحيحة من وجه دون وجه، صحيحة من حيث إن المسمى مال متقوم؛ لأن فرض المسألة فيه فاسدة من حيث إنها وجدت في عقد واحد، فاعتبرنا فسادها إذا زادت، وصحتها إذا نقصت لانضمام رضاها إليها.(5/181)
بخلاف البيع؛ لأنه مال متقوم في نفسه، فيتقدر بدله بقيمته. وعليها العدة إلحاقا للشبهة بالحقيقة في موضع الاحتياط، وتحرزا عن اشتباه النسب. ويعتبر ابتداؤها من وقت التفريق، لا من آخر الوطآت، هو الصحيح؛ لأنها تجب باعتبار شبهة النكاح، ورفعها بالتفريق، ويثبت نسب ولدها منه، لأن النسب يحتاط في إثباته إحياء للولد، فيترتب على الثابت من وجه. وتعتبر مدة النسب من وقت الدخول عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعليه الفتوى؛ لأن النكاح الفاسد ليس بداع إليه والإقامة باعتباره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بخلاف البيع) ش: هذا جواب عن قياس زفر، بيانه أن قياسه على البيع غير صحيح م: (لأنه) ش: أي لأن العوض عن البيع الفاسد م: (مال متقوم في نفسه فيتقدر بدله بقيمته) ش: أي بقدر قيمته بالغة ما بلغت.
م: (وعليها) ش: أي المرأة المذكورة، التي دخل بها في النكاح الفاسد م: (العدة إلحاقاً للشبهة) ، أي لشبهة النكاح م: (بالحقيقة) ش: أي حقيقة النكاح م: (في موضع الاحتياط) ش: لأن النسب أمر يحتاط في إثباته إحياء للولد، فتجب العدة حفظاً م: (وتحرزاً عن اشتباه النسب) ش: عند اختلاطه، والنسب يحتاط في إثباته فيه.
م: (ويعتبر ابتداؤها) ش: أي ابتداء العدة م: (من وقت التفريق) ش: أي من وقت تفريق القاضي أو العزم على ترك الوطء م: (لا من آخر الوطآت، هو الصحيح) ش: احترز به عما حكي عن أبي القاسم الصفار أنه يعتبر من آخر الوطآت، وهو قول زفر، ولهذا قال الأكمل: قوله: وهو الصحيح. احترازاً عن قول زفر، وكذا قاله الأترازي: حتى لو حاضت في آخر الوطآت ثلاث حيض قبل التفريق فقد انقضت عدتها، ذكره في " المبسوط ".
م: (لأنها) ش: أي لأن العدة م: (تجب باعتبار شبهة النكاح) ش: يعني من حيث وجود ركنه من الإيجاب والقبول م: (ورفعها) ش: أي رفع شبهة النكاح م: (بالتفريق، ويثبت نسب ولدها منه، لأن النسب يحتاط في إثباته إحياء للولد) ش: لأن الولد الذي ليس له أب معروف كالميت؛ لأنه ليس له من وجهة، ولا من يعظمه ويشينه م: (فيترتب) أي ثبوت النسب م: (على الثابت من وجه) ش: وهو النكاح الفاسد.
م: (وتعتبر مدة النسب من وقت الدخول عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعليه الفتوى) ش: يعني يعتبر مدة النسب، وهو ستة أشهر من وقت دخل الرجل عليها، ولا يعتبر من وقت العقد، وعندهما من وقت النكاح، وهو بعيد أشار إليه بقوله: م: (لأن النكاح الفاسد ليس بداع إليه) ش: أي إلى الوطء، ولهذا لا تثبت حرمة المصاهرة بعقد فاسد، حتى يكون فيه مس أو تقبيل م: (وعليه الفتوى) ش: أي على قول محمد، قال أبو الليث: م: (والإقامة باعتباره) ش: يعني أن إقامة العقد(5/182)
قال: ومهر مثلها يعتبر بأخواتها، وعماتها، وبنات أعمامها. لقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لها مثل مهر نسائها، لا وكس فيه، ولا شطط وهن أقارب الأب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مقام الوطء في النكاح الصحيح باعتبار أن العقد داع إلى الوطء والنكاح الفاسد ليس بداع إلى الوطء؛ لكونه حراماً واجب الرفع فلا يقام العقد مقام الوطء، ولا تعتبر المدة من حيث العقد.
[مهر مثل المرأة بم يعتبر]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: م: (ومهر مثلها) ش: أي مهر مثل المرأة م: (يعتبر بأخواتها، وعماتها، وبنات أعمامها) ش: المراد بأخواتها لأبيها وأمها، أو لأبيها، وكذا عماتها من أخوات أبيها لأبيه وأمه أو لأبيه.
وقال الشافعي، وأحمد، وعامة أهل العلم، وفي " المبسوط ": ويعتبر بعشيرتها من جهة أبيها، كأخواتها لأبيها وأمها، أو لأبيها، وعماتها، وبنات أعمامها، ومثله في " المحيط "، وقال: وعماتها وبناتهن وهو محمول على ما إذا كان أباً وهن من قبلها.
م: (قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لها مثل مهر نسائها، لا وكس فيه، ولا شطط، وهن أقارب الأب) ش: هذا الحديث أخرجه الأربعة في "سننهم"، عن سفيان بن منصور عن إبراهيم، عن علقمة، واللفظ للترمذي قال: «سئل ابن مسعود عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: لها مثل صداق نسائها، لا وكس، ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بروع بنت واشق بنت امرأة منا مثل ما قضيت، ففرح بها ابن مسعود» . وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقال شيخنا زين الدين: اختلف الأئمة في تصحيح هذا الحديث ونقله له، فقال الشافعي فيما رواه عن البيهقي في "السنن " و" المعرفة ": ولم أحفظه من وجه يثبت مثله، قال: وهو مرة يقال: عن معقل بن يسار، ومرة عن معقل بن سنان، ومرة عن بعض أشجع، لا يسمى فاعله بالاضطراب في تسمية رواته، انتهى.
قلت: قد صححه أكثر أهل الحديث: الترمذي، وابن حبان، وأبو عبد الله بن الأخرم النيسابوري، وأبو عبد الله الحاكم شيخ البيهقي، وقال البيهقي: هذا الاختلاف في تسمية من روى قصة بروع بنت واشق عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يوهن الحديث، فإن أسانيد هذه الروايات صحيحة، وفي بعضها أن جماعة من أشجع شهدوا بذلك، فبعضهم يسمي بهذا وبعضهم يسمي آخر، وكلهم ثقة، ولولا ثقة من رواه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان عبد الله بن مسعود - رضي الله تعالى(5/183)
ولأن الإنسان من جنس قوم أبيه، وقيمة الشيء إنما تعرف بالنظر في قيمة جنسه، ولا يعتبر بأمها وخالتها إذا لم يكونا من قبيلتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه - يفرح بروايته، وحكى الحاكم في "المستدرك " عن شيخه عبد الله بن محمد بن يعقوب الحافظ أنه قال: لو حضرت الشافعي لقمت على رءوس أصحابه. وقلت: قد صح الحديث فقال به.
وقال الترمذي: روي عن الشافعي أنه رجع بعد عن هذا القول، وقال بحديث بروع بنت واشق، وقال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العم من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبه يقول الثوري، وأحمد، وإسحاق.
وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم على بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -: إذا تزوج الرجل امرأة ولم يدخل بها، ولم يفرض لها صداقاً، قال: لها الميراث، ولا صداق لها وعليها العدة، وهو قول الشافعي.
قلت: ومعقل بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف ابن سنان الأشجعي، وليس له في الكتب إلا هذا الحديث، شهد الفتح، وكان ابن عقبة الذي يقال له: مشرف حامل لواء قومه، ونزل الكوفة وقدم المدينة فقتل بها يوم الحرة صبرا فقيل: قتله مسلم بن عقبة الذي يقال له: مشرف بن عقبة وقيل: قتله ماحق بن نوفل، وله قصة ذكرناها في " التاريخ الكبير ".
وبروع المشهور فيها عند أهل الحديث كسر الباء الموحدة وسكون الراء، ثم واو مفتوحة ثم عين مهملة. قال الجوهري: أهل الحديث يقولون بكسر الباء، والصواب بالفتح؛ لأنه ليس في الكلام فوعل إلا بروع بنت معروف وعنود اسم أود، وهكذا قال صاحب " المحكم ": وواشق بالشين المعجمة وهي أشجعية، وذكرها ابن حبان في الصحابة.
قوله: - لا وكس ولا شطط - أي لا نقصان ولا زيادة، والوكس بفتح الواو، وسكون الكاف وبالسين المهملة هو النقصان، والشطط بفتح الشين المعجمة، والطاء المهملة وتكرارها، الجور والزيادة ومن أقارب الأب أي ونساؤها أقارب الأب.
م: (ولأن الإنسان من جنس قوم أبيه) ش: لا من جنس قوم أمه، ألا ترى أن الأم قد تكون أمة والابنة قرشية تبعاً لأبيها، ومهر المثل مختلف باختلاف هذه الأوصاف م: (وقيمة الشيء إنما تعرف بالنظر في قيمة جنسه) ش: أي جنس ذلك الشيء، يعرف بالنظر في قيمة غير جنسه.
م: (ولا يعتبر بأمها، وخالتها إن لم يكونا من قبيلتها) ش: يريد بها من قبيلة أبيها، وذلك مثل أن يتزوج رجل ابنة عمه، فتلد له بنتاً يزوجها من رجل لا يسمي لها مهراً فيدخل بها زوجها ثم يطلقها أو يموت عنها قبل الدخول أو بعده، أو يطلقها بعد الخلوة الصحيحة، وأمها من جنسها(5/184)
لما بينا، فإن كانت الأم من قوم أبيها بأن كانت بنت عمه، فحينئذ يعتبر بمهرها؛ لأنها من قوم أبيها،
ويعتبر في مهر المثل أن تتساوى المرأتان في السن، والجمال، والمال، والعقل والدين، والبلد، والعصر، والعفة، لأن مهر المثل يختلف باختلاف هذه الأوصاف، وكذا يختلف باختلاف الدار، والعصر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجمالها فإنه يحكم لها بمهر مثل أمها وهي بنت عم أبيها، أو بمهر أخت أمها وهي خالتها بنت عم أبيها. وقال ابن أبي ليلى: يعتبر بأمها وخالتها ونسائها من قبل أمها م: (لما بينا) ش: إشارة إلى قوله: وقيمة الشيء إنما تعرف بالنظر في قيمة جنسه.
م: (فإن كانت الأم من قوم أبيها بأن كانت بنت عمه، فحينئذ يعتبر بمهرها؛ لأنها من قوم أبيها) ش: لأن الإنسان من جنس أبيه، ولهذا كان أكثر من تولى من خلفاء بني العباس من الإماء، ولم يخرجوا بذلك من أن يكونوا من بني هاشم، والهاشمية إن ولدت من نبطي كان ولدها نبطياً.
م: (ويعتبر في مهر المثل أن تتساوى المرأتان في السن والجمال والمال والعقل والدين والبلد والعصر والعفة) ش: وهي ثمانية أشياء. وفي "النتف": تعتبر المماثلة في خمس عشرة خصلة: الجمال والحسب والمال والعقل والدين والعلم والأدب والتقوى والعفة وكمال الخلق، وحداثة السن، والبكارة، وحال وصال الزوج، وأن يكون لها ولد.
وفي " المحيط " و" المرغيناني " قيل: لا يعتبر الجمال في بنت الحسب والشرف، وإنما يعتبر ذلك في أوساط الناس، إذ الرغبة فيهن للجمال، بخلاف بنت الشرف. وفي " المحيط ": فإن لم يوجد في قرابتها من هو مثل حالها يعتبر مثلها في الأجنبيات. وفي " خزانة الأكمل ": امرأة لا مثل لها في الجمال ومالها في قبيلتها، ينظر إلى قبيلة أخرى مثل قبيلة أبيها، وعند أبي حنيفة لا تعتبر الأجنبيات.
م: (لأن مهر المثل يختلف باختلاف هذه الأوصاف) ش: أشار به إلى الأوصاف الثمانية المذكورة، فإن الغنية تنكح بأكثر ما تنكح الفقيرة، وكذا الشابة مع العجوز والحسناء والشوهاء وكذا البواقي م: (وكذا يختلف باختلاف الدار والعصر) ش: أراد بالدار البلد، وأن يكون من هو بحالها في بلدها، حتى لا يعتبر مهرها بمهر عشيرتها في بلدة أخرى، فإن لم يوجد فيهم من يماثلها اعتبر بالأجانب من بلدها بإجماع الأئمة، وتحصيلاً للمقصود بقدر الوسع، كذا في " المبسوط ".
وفي " المحيط " و" الذخيرة ": يعتبر حالها بمن هو مثلها في هذه الصفات يوم التزويج. قوله: - والعصر - أي واختلاف العصر، أي الزمان.(5/185)
قالوا: ويعتبر التساوي أيضا في البكارة؛ لأنه يختلف بالبكارة والثيوبة.
وإذا ضمن الولي المهر صح ضمانه؛ لأنه من أهل الالتزام، وقد أضافه إلى ما يقبله، فيصح. ثم المرأة بالخيار في مطالبتها زوجها، أو وليها اعتبارا بسائر الكفالات، ويرجع الولي إذا أدى على الزوج إن كان بأمره كما هو الرسم في الكفالة، وكذلك يصح هذا الضمان وإن كانت الزوجة صغيرة بخلاف ما إذا باع الأب مال الصغير وضمن الثمن، لأن الوكيل سفير ومعبر في النكاح، وفي البيع عاقد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قالوا) ش: أصحابنا: م: (ويعتبر التساوي في البكارة أيضاً؛ لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (يختلف بالبكارة والثيوبة) ش: قال صاحب " المغرب ": الثيب من النساء التي قد تزوجت، والجمع ثيبات، والثيابة الثيبوبة في قصدها فليس من كلامهم. وقال الجوهري: ورجل ثيب وامرأة ثيب، والذكر والأنثى فيه سواء.
[زوج الولي ابنته وضمن لها المهر]
م: (وإذا ضمن الولي المهر صح ضمان) ش: يعني إذا زوج الولي ابنته، وضمن لها المهر صح ضمانه، سواء كان الزوج صغيراً أو كبيراً، وسواء كان من جانب الزوج أو الزوجة، لكن في الصغيرة إذا زوجها أبوها فللمرأة أن تطالب الأب بالمهر وإن لم يضمنه باللفظ، ذكره في " شرح الطحاوي " و" التتمة ".
م: (لأنه) ش: أي لأن الولي م: (من أهل الالتزام) ش: لأنه عاقل بالغ، وصبر نفسه رغيماً، والرغيم غارم بالحديث م: (وقد أضافه إلى ما يقبله) ش: أي أضاف الالتزام، أو الضمان إلى شيء يقبل الضمان وهو المهر، وذلك لأن المهر، وهو دين مضمون م: (فيصح) ش: بخلاف ما إذا باع الأب مال ولده الصغير، وضمن الثمن عن المشتري لم يصح، فلو صح الضمان كان ضامناً لنفسه، ولا يصح على ما يجيء عن قريب.
م: (ثم المرأة بالخيار في مطالبتها زوجها، أو وليها اعتباراً بسائر الكفالات) ش: لأن الحكم في الكفالة هكذا: أن المكفول له إن شاء طالب الكفيل، وإن شاء طالب الأصيل على ما عرف في موضعه.
م: (ويرجع الولي إذا أدى) ش: الولي المهر إلى البنت. م: (على الزوج) ش: يتعلق بقوله - يرجع - م: (إن كان) ش: أي الضمان م: (بأمره) ش: أي بأمر الزوج م: (كما هو الرسم) ش: أي العادة المستمرة م: (في الكفالة) ش: أي الكفيل يرجع على الأصيل إن كان بأمره م: (وكذلك يصح هذا الضمان) ش: أي ضمان المهر م: (وإن كانت الزوجة صغيرة) ش: أو كبيرة بكراً م: (بخلاف ما إذا باع الأب مال الصغير وضمن الثمن) ش: فإنه لا يصح ضمانه، والعرف هو قوله، م: (لأن الوكيل سفير ومعبر في النكاح) ش: ولهذا وكيل الزوجة لا يجبر على تسليمها ووكيل الزوج لا يطالب بالمهر م: (وفي البيع عاقد) ش: أي الولي في البيع عاقد(5/186)
ومباشر حتى ترجع العهدة عليه والحقوق إليه ويصح إبراؤه عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - ويملك قبضه بعد بلوغه، فلو صح الضمان يصير ضامنا لنفسه وولاية قبض المهر للأب بحكم الأبوة لا باعتبار أنه عاقد، ألا ترى أنه لا يملك القبض بعد بلوغها فلا يصير ضامنا لنفسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ومباشر) ش: أصيل في حقوقه م: (حتى ترجع العهدة عليه والحقوق إليه) ش: وحقوق العقد مثل تسليم المبيع وتسليم الثمن ونحوهما.
وفي " الغاية ": هذا كما لو أنه زوج الصغيرة وضمن لها المهر عن الزوج، أما إذا زوج ابنه الصغير في حال صحته وضمن عنه لزوجته المهر يصح إذا قبلت المرأة ذلك ولم يتعرض إليه المصنف، وإذا أدى الأب بعد ذلك لم يرجع على الأب استحساناً.
وفي القياس: يرجع، لأن غير الأب لو ضمن بإذن الأب وأدى يرجع في مال الصغير فكذلك الأب. وجه الاستحسان أن الآباء يتحملون المهور عن أبنائهم عادة ولا يطمعون في الرجوع، والثابت بالعرف كالثابت بالنص إلا إذا شرط الرجوع في أصل الضمان، فحينئذ يرجع بخلاف الوصي إذا أدى المهر عن الصغير بحكم الضمان يرجع؛ لأن الشرع من الوحي لا يوجد عادة، هذا إذا أدى الأب بعد الضمان، أما إذا مات قبل الأداء فللمرأة الخيار إن شاءت أخذت المهر من الزوج، وإن شاءت استوفت ذلك من تركة الأب، لأن الكفالة كانت صحيحة فلا تبطل بالموت، ثم إذا استوفت من التركة. قال في " المبسوط ": يرجع على سائر الورثة بذلك في نصيب الابن، وعليه إن كان قبض نصيبه. وقال زفر: لا يرجع ولم يذكر خلاف أبي يوسف فيه. وفي " الكافي" للحاكم الشهيد أيضاً، والولوالجي في "الفتاوى " ذكر خلاف أبي يوسف كما هو مذهب زفر، وكذا أثبت خلاف أبي يوسف في " خلاصة الفتوى " منقول عن " المحيط " أن الخصاف ذكر ذلك، وإن كان الضمان عن الأب في مرض الموت فهو باطل، وكذلك كل ضمان في مرض الموت عن الوارث فهو باطل، والمجنون بمنزلة الصبي في جميع ذلك، لأنه ولي عليه كالصغير، سواء كان الجنون أصلياً أو عارضاً.
ولو زوج الأب طفله الصغير امرأة بمهر معلوم لا يلزم المهر أباه إلا إذا ضمن. وقال مالك والشافعي - في القديم -: المهر على الأب لأنه ضمن دلالة، قلنا: الصداق على أخذ الساق بالآثار.
م: (ويصح إبراؤه) ش: أي إبراء الأب الثمن من المشتري م: (عند أبي حنيفة ومحمد) ش: وذكر شمس الأئمة السرخسي في "مبسوطه " صحة الإبراء ولم يذكر الخلاف م: (ويملك قبضه بعد بلوغه) ش: أي يملك الأب قبض الثمن بعد بلوغ الصبي، هذا إيضاح لرجوع العهدة على العاقد في البيع م: (فلو صح الضمان) ش: أي ضمان الأب الثمن عن المشتري في البيع م: (يصير ضامناً لنفسه) ش: فلا يصح وقد مر بيانه.(5/187)
قال: وللمرأة أن تمنع نفسها حتى تأخذ المهر وتمنعه أن يخرجها، أي يسافر بها، ليتعين حقها في البدل كما تعين في حق الزوج في المبدل وصار كالبيع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وولاية قبض المهر للأب) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: كيف قلتم: إن الأب سفير لا يرجع حقوق العقد إليه، وله ولاية قبض مهر الصغير، وقال الكاكي: تقدير السؤال أن يقال: الأب يملك قبض الصداق كالوكيل يملك قبض الثمن، فلو صح ضمانه يصير ضامناً لنفسه، وذا لا يجوز هناك، وكذا في الأب فأجاب عنه بقوله: وولاية قبض المهر للأب م: (بحكم الأبوة) ش: أي بولاية الأبوة م: (لا باعتبار أنه عاقد) ش: ثم لا يشترط إحضار الزوجة حتى يقبض الأب مهرها عند علمائنا، وعند زفر وهو قول أبي يوسف الآخر فتشترط. وفي " المرغيناني ": لا يشترط ولم يحك خلافاً.
م: (ألا ترى أنه) ش: أي الأب م: (لا يملك القبض) ش: أي قبض المهر م: (بعد بلوغها) ش: أي عند هبتها إياه عن القبض، فلو كان باعتبار أنه عاقد يقبض بعد البلوغ أيضاً، كما في ثمن المبيع وقال الولوالجي في "فتاواه ": للأب أن يطالب بمهر البكر، وإن كانت كبيرة، والقياس أن لا يطالب لأن ولاية الأب تنقطع عنها بالبلوغ. ووجه الاستحسان أن العادة فيما بين الناس أن الآباء يقبضون صداق البنات ويجهزون بها البنات، والبنت تكون راضية بتصرف الأب، لأنها تستحي عن المطالبة بنفسها، ولو رغب أباها عن قبض الصداق لا يملك الأب المطالبة، وليس لأحد من الأولياء أن يقبض الجارية المدركة مهرها إلا بوكالة منها.
ثم الأب في حق البكر البالغة إنما يملك قبض صداقها المسمى لا غير، حتى إن المسمى إذا كان بيضاً والأب قبض السود لا يجوز لأنه استبدال، والأب لا يملك الاستبدال. قال شمس الأئمة السرخسي: هذا مذهب علمائنا، وروي عن علماء بلخ أنهم جوزوا ذلك حتى من قبض بعض العبد أن من جنس المسمى، وبالنصف ضياعاً يجوز، قال: هذا أرفق بالناس. وقال في " الفتاوى الصغرى ": لو قبض السود مكان البيض أو على العكس لا يجوز وإن قبض الضياع لا يجوز إلا في موضع جرت العادة كما في ( ... ) يأخذون بعض المهر ضياعاً. م: (فلا يصير ضامناً لنفسه) ش: توضيح لما قبله، م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (وللمرأة أن تمنع نفسها) ش: أي من الزوج م: (حتى تأخذ المهر) ش: هذا إذا كان المهر عاجلاً، أما إذا كان مؤجلاً ففيه اختلاف بين أصحابنا على ما يجيء إن شاء الله تعالى. م: (وتمنعه) ش: أي ولها أيضاً أن تمنع زوجها م: (أن يخرجها، أي يسافر بها) ش: فسر الإخراج بالمسافرة م: (ليتعين حقها في البدل) ش: أي لتعين حق المرأة في المهر م: (كما تعين في حق الزوج في المبدل) ش: وهو البضع م: (وصار كالبيع) ش: يعني أن البائع يحبس المبيع لطلب الثمن، فكذلك المرأة تحبس بضعها لطلب المهر.(5/188)
وليس للزوج أن يمنعها من السفر والخروج من منزله وزيارة أهلها حتى يوفيها المهر كله، أي المعجل، لأن حق الحبس لاستيفاء المستحق وليس له حق الاستيفاء قبل الإيفاء. ولو كان المهر كله مؤجلا ليس لها أن تمنع نفسها لإسقاطها حقها بالتأجيل كما في البيع، وفيه خلاف أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وإن دخل بها فكذلك الجواب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: ليس لها أن تمنع نفسها والخلاف فيما إذا كان الدخول برضاها، حتى لو كانت مكرهة أو كانت صبية أو مجنونة لا يسقط حقها في الحبس بالاتفاق، وعلى هذا الخلاف الخلوة بها برضاها، ويبتنى على هذا استحقاق النفقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[منع الزوج زوجته من السفر والخروج من منزله]
م: (وليس للزوج أن يمنعها من السفر والخروج من منزله) ش: أي منزل الزوج م: (وزيارة أهلها) ش: أي ليس له أن يمنعها من زيارة أهلها (حتى يوفيها المهر كله، أي المعجل) ش: من المهر م: (لأن حق الحبس لاستيفاء المستحق) ش: لأن حق الحبس للزوج لأجل أن يستوفي منها مستحقه وهو الانتفاع ببضعها م: (وليس له الاستيفاء قبل الإيفاء) ش: أي قبل أن يوفي حقها وهو المهر وفي " المحيط ": تخرج في حوائجها وزيارة أهلها وتسافر بغير إذنه حتى يوفيها جميع المهر، والظاهر أن التأكيد في كل المهر على المعجل منه. م: (ولو كان المهر كله مؤجلا ليس لها أن تمنع نفسها لإسقاطها حقها بالتأجيل) ش: أي لإسقاط حق طلبها بسبب تأجيل المهر، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد م: (كما في البيع) ش: يعني أن الثمن إذا كان مؤجلا، للبائع أن يحبس المبيع، فكذلك لا تحبس المرأة نفسها إذا كان المهر مؤجلاً.
م: (وفيه خلاف أبي يوسف) ش: فإنه قال: لها أن تمنع نفسها إذا كان المهر مؤجلاً إلى أجل معلوم، سواء كانت المدة قصيرة أو طويلة، لأن ملك البضع لا يعرى عن ملك البدل. وعن أبي حنيفة ومحمد: ليس لها أن تمنع نفسها لأنها رضيت بإسقاط حقها فلا تمنع نفسها، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك م: (وإن دخل بها فكذلك الجواب) ش: أي كما أن المرأة لها أن تمنع نفسها حتى تأخذ المهر وتمنعه هي من أن يخرجها فيما قبل الدخول بالاتفاق، فكذلك بعد الدخول م: (عند أبي حنيفة) ش: وهذا قول أبي حنيفة آخراً كذا في " الإيضاح ".
م: (وقالا: ليس لها أن تمنع نفسها) ش: وهو قول أبي حنيفة أولاً م: (والخلاف) ش: أي الخلاف المذكور بين أبي حنيفة وصاحبيه م: (فيما إذا كان الدخول برضاها حتى لو كانت مكرهة أو كانت صبية أو مجنونة لا يسقط حقها في الحبس بالاتفاق على هذا الخلاف) ش: المذكور.
م: (والخلوة بها برضاها) ش: مثل الخلاف في الدخول م: (ويبتنى على هذا) ش: الخلاف م: (استحقاق النفقة) ش: فعند أبي حنيفة إذا منعت نفسها بعد الدخول لا تسقط نفقتها، لأن المنع بحق، وعندهما لا نفقة لها.
وقال فخر الإسلام البزدوي في "شرح الجامع الصغير ": كان أبو القاسم الصفار يفتي في(5/189)
لهما أن المعقود عليه كله قد صار مسلما إليه بالوطأة الواحدة، أو بالخلوة، ولهذا يتأكد بهما جميع المهر فلم يبق لها حق الحبس كالبائع إذا سلم المبيع. وله أنها منعت منه ما قابل بالبدل، لأن كل وطأة تصرف في البضع المحترم، فلا يخلى عن العوض إبانة لحظره، والتأكيد بالواحدة لجهالة ما وراءها، فلا يصلح مزاحما للمعلوم، ثم إذا وجد آخر، وصار معلوما تحققت المزاحمة، وصار المهر مقابلا بالكل كالعبد إذا جنى جناية يدفع كله بها، ثم إذا جنى أخرى وأخرى يدفع بجميعها.
وإذا أوفاها مهرها نقلها إلى حيث شاء، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المنع بقول أبي يوسف، ومحمد، وفي السفر بقول أبي حنيفة، قال: وهذا أحسن في الفتيا، يعني بعد الدخول لا تمنع نفسها بطلب المهر، فإذا امتنعت لا تسقط نفقتها، كما هو مذهب أبي حنيفة.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف، ومحمد م: (أن المعقود عليه) ش: وهو البضع م: (كله قد صار مسلما إليه) ش: أي إلى الزوج م: (بالوطأة الواحدة وبالخلوة، ولهذا) ش: أي ولأجل كون المعقود عليه مسلما بالوطأة الواحدة، وبالخلوة م: (يتأكد بهما) ش: أي بالوطأة الواحدة وبالخلوة م: (جميع المهر) ش: فإذا كان الأمر كذلك م: (فلم يبق لها حق الحبس كالبائع إذا سلم المبيع) ش: أي باختياره قبل قبض الثمن.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنها) ش: أي أن المرأة م: (منعت منه) ش: أي من الزوج م: (ما قابله البدل) ش: وهو البضع م: (لأن كل وطأة تصرف في البضع المحترم، فلا يخلى) ش: على صيغة المجهول الخلاء على البضع المحترم م: (عن العوض) ش: يعني لا يجوز إخلاؤه عن العوض م: (إبانة لحظره) ش: أي لأجل الإبانة بحظر الذي هو المحل المحترم م: (والتأكيد بالواحدة) ش: هذا جواب عن قولهما: ولهذا يتأكد بها جميع المهر، تقديره أن التأكيد بالواحدة، أي تأكد المهر بالوطأة الواحدة م: (لجهالة ما وراءها) ش: أي لأجل جهالة ما وراء الوطأة الواحدة م: (فلا يصلح مزاحماً للمعلوم) ش: لأن المجهول لا يزاحم المعلوم.
م: (ثم إذا وجد آخر) ش: أي وطء آخر م: (وصار معلوما تحققت المزاحمة) ش: فيزاحم الأول لكونه معلوما يصير المهر مقابلا له، وبالأول، وإذا وجد آخر فكذلك م: (وصار المهر مقابلا بالكل) ش: أي بكل الوطآت، ويظهر ذلك بقوله: م: (كالعبد إذا جنى جناية يدفع كله بها) ش: أي بهذه الجناية م: (ثم إذا جنى أخرى) ش: أي جناية أخرى م: (وأخرى) ش: أي وجناية أخرى إلى ما لا يتناهى م: (يدفع لجميعها) ش: أي لجميع الجنايات.
[الزوج إذا أراد أن يخرج المرأة إلى بلد أخرى وقد أوفى لها مهرها]
م: (وإذا أوفاها مهرها نقلها إلى حيث شاء) ش: أي إذا أوفى الرجل امرأته مهرها المعجل، كذا قيده الكاكي، نقلها إلى حيث شاء من البلاد م: (لقوله عز وجل: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6](5/190)
(الطلاق: الآية 6) ، وقيل: لا يخرجها إلى بلد غير بلدها؛ لأن الغريب يؤذى، وفي قرى المصر القريبة لا تتحقق الغربة. قال: ومن تزوج امرأة ثم اختلفا في المهر، فالقول قول المرأة إلى تمام مهر مثلها، والقول قول الزوج فيما زاد على مهر المثل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(الطلاق: الآية: 6) ش: وبه قال الشافعي، ومالك، وأحمد، وأصحابهم.
م: (وقيل) ش: قاله الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وقال الأترازي: هو محمد بن سلمة. قلت: لا يضر ذلك؛ لأن كلا من أبي الليث، ومحمد بن سلمة قائل بذلك م: (لا يخرجها إلى بلد غير بلدها، لأن الغريب يؤذى) ش: وذكر في " فصول الأستروشي ": الزوج إذا أراد أن يخرج المرأة إلى بلد أخرى وقد أوفى لها مهرها ليس له ذلك، هكذا اختاره أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
وقال ظهير الدين المرغيناني: في الأخذ بقول الله عز وجل أولى من الأخذ بقول الفقيه، قال الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] وذكر في " التجنيس ": والفتوى على أن للزوج أن يسافر بها إذا أوفاها المعجل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] الآية (الطلاق: الآية 6) ، ولأن الغريب يؤذى) .
ش: فإن قيل: هذا التعليل معارض بقوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] ، فلا يقبل.
قلنا: قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] مقيد بالنص بترك الإضرار، بدليل سياق الآية، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ} [الطلاق: 6] (الطلاق: الآية 6) ، وفي النقل إلى بلد آخر مضارة، ولهذا جاز الإخراج برضاها. وفي " المحيط ": المختار لمشايخنا أن لا يخرجها من بلدها، وجواز النقل ظاهر الرواية. وقال صاحب " ملتقى البحار " وأفتى بأنه يتمكن من نقلها إذا أوفاها المعجل، ومن المؤجل.
م: (وفي قرى المصر القريبة) ش: أي ما دون مدة السفر م: (لا تتحقق الغربة) ش: لقرب المسافة، بخلاف مدة السفر وما فوقها. وسئل أبو القاسم الصفار عمن يخرجها من المدينة إلى القرية، ومن القرية إلى المدينة، فقال: ذلك بيتوتة وليس بسفر، وإخراجها من بلد إلى بلد سفر وليس ببيتوتة.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن تزوج امرأة، ثم اختلفا في المهر) ش: أي الزوجان اختلفا في المهر تسميته، بأن قال الرجل: تزوجتك بألف، وقالت المرأة: بألفين م: (فالقول قول المرأة إلى تمام مهر مثلها، والقول قول الزوج فيما زاد على مهر المثل) ش: وعند الشافعي يتحالفا، كما في البيع، ولا يفسخ النكاح، سواء كان الاختلاف قبل الدخول أو بعده، ويجب مهر المثل. وقال مالك: إن كان الاختلاف بعد الدخول فالقول قول الزوج، وكذا لو كان بعد موتهما، وإن كان قبل الدخول يتحالفان، ويفسخ النكاح بناء على أصله أن(5/191)
وإن طلقها قبل الدخول بها فالقول قوله في نصف المهر، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -. وقال أبو يوسف: القول قوله قبل الطلاق وبعده،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فساد الصداق يوجب فساد النكاح، وهذه المسألة على وجوه ذكرت هنا.
منها ما إذا قال الزوج: ألف، وقالت المرأة: ألفان، وكان هذا بعد الدخول، قبل الطلاق، أو بعده بحكم مهر المثل، حتى لو كان مهر المثل ألفا أو أقل، فالقول قول الزوج، مع إنكاره الزيادة بالله ما تزوجها على ألفين، وإن نكل أعطاها الألفين على سبيل التسمية دراهم لا خيار للزوج فيها، وإن حلف لا يثبت الفضل، وأيهما أقام البينة قبلت بينته، فإن أقاما البينة جميعا كانت بينة المرأة أولى، لأنها كانت أكثر إثباتا، كالبائع والمشتري أقاما البينة على مقدار الثمن تكون بينة البائع أولى لما قلنا، هذا إذا كان مهر المثل ألفا أو أقل. فإذا كان ألفين أو أكثر فالقول قولها مع اليمين ما رضيت بألف؛ لأنها تنكر للحط الذي يدعيه الزوج، فإن نكلت يجب لها الألف باعتبار التسمية، وإن حلف ثبت لها الألفان، ألف منها باعتبار التسمية، وألف آخر باعتبار تحكيم مهر المثل، وللزوج خيار في هذه الألف إن شاء أعطاها دراهم كما سماها، وإن شاء أعطاها من الدنانير ما يساوي ألف درهم، فأيهما أقام البينة على دعواه قبلت بينته؛ لأن كل واحد منهما مدع ظاهرا، وإذا أقاما جميعا فبينة الزوج أولى وهو الصحيح.
فإذا كان مهر مثلها ألفا وخمسمائة يجب التحالف، ويبدأ التحالف بالمقرعة، ولم يتعرض له المصنف، فإن نكل الزوج ثبت الألفان [ ... ] ، وإن نكلت المرأة ثبت الألف، وإن حلفا جميعا ألف وخمسمائة الألف باعتبار التسمية، والخمسمائة باعتبار تحكيم مهر المثل، وللزوج خيار فيها، وأيهما أقام البينة قبلت بينته، وإن أقاما جميعا تهاترت البينتان للتعارض، ووجب مهر المثل ويخير الزوج فيها.
م: (وإن طلقها قبل الدخول بها) ش: فلها الزوج م: (فالقول قوله في نصف المهر) ش: هذا وجه آخر من الوجوه المتعلقة بهذه المسألة، صورته: قال الزوج تزوجتك بألف لا بل بألفين قبل الدخول بها فالقول قول الزوج في نصف المهر، ولا يحكم متعة مثلها، هذه على رواية " الجامع الصغير " و" المبسوط ".
وقال في " الجامع الكبير ": يحكم متعة مثلها، فإن شهدت لأحدهما فالقول له مع يمينه إن كانت بين الاثنين حلف كل واحد منهما م: (وهذا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى -) ش: أي هذا المذكور من قوله: من تزوج امرأة إلى هنا عند أبي حنيفة ومحمد، وبه قال أحمد في رواية، وإن خصهما بالذكر؛ لأن عند أبي يوسف القول قول الزوج في جميع الصور.
م: (وقال أبو يوسف: القول قوله قبل الطلاق وبعده) ش: لأن القول قول الزوج مع يمينه،(5/192)
إلا أن يأتي بشيء قليل، ومعناه ما لا يتعارف مهرا لها هو الصحيح. لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن المرأة قد تدعي الزيادة، والزوج ينكر، والقول قول المنكر مع يمينه، إلا أن يأتي بشيء يكذبه الظاهر فيه، وهذا لأن تقوم منافع البضع ضروري، فمتى أمكن إيجاب شيء من المسمى لا يصار إليه. ولهما أن القول في الدعاوى قول من يشهد له الظاهر، والظاهر شاهد لمن يشهد له مهر المثل، لأنه هو الموجب الأصلي في باب النكاح، وصار كالصباغ مع رب الثوب إذا اختلفا في مقدار الأجر تحكم فيه قيمة الصبغ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وسواء كان الاختلاف قبل الطلاق أو بعده، وبه قال أحمد في رواية م: (إلا أن يأتي بشيء قليل) ش: اختلفوا في معنى الشيء القليل، فقال المصنف م: (ومعناه) ش: أي ومعنى الشيء القليل.
وقال الأترازي: إن معنى قول أبي يوسف إلا أن يأتي بشيء قليل م: (ما لا يتعارف مهرا لها) ش: يعني تفسير القليل أن يذكر الزوج شيئا لا يتزوج مثل تلك المرأة على ذلك المهر عادة. وقيل معناه دون العشرة، لأنه مستنكر شرعا، وروي هذا عن أبي يوسف، وفي " قاضي خان ": تفسير المستنكر عن أبي يوسف روايتان، إحداهما: ما دون العشرة، والثانية: ما لا يتزوج على مثله، وهذه هي الصحيحة، أشار إليه المصنف بقوله: م: (هو الصحيح) ش: وكذا قال في " البدائع " هو الصحيح. وفي " المحيط " و" قاضي خان ": أصح، ويحكى عن أبي الحسن الكرخي.
م: (لأبي يوسف أن المرأة قد تدعي الزيادة، والزوج ينكر، والقول قول المنكر مع يمينه، إلا أن يأتي بشيء يكذبه الظاهر فيه) ش: بأن ذكر أقل من عشرة دراهم؛ لأن ظاهر الشرع ينكره، وظاهر الحال يكذبه م: (وهذا) ش: أي هذا الذي ذكره أبو يوسف م: (لأن تقوم منافع البضع ضروري) ش: لأنه ليس بمال، وإنما يتقوم تعظيماً لخطره.
وقال الأترازي: يعني لضرورة التوالد والتناسل م: (فمتى أمكن إيجاب شيء من المسمى لا يصار إليه) ش: أي: إلى مهر المثل لأن مهر المثل إنما يعتبر عند انعدام التسمية اعتبارا على أصل التسمية فلا نحكم بمهر المثل.
م: (ولهما) ش: أي: ولأبي حنيفة ومحمد م: (أن القول في الدعاوى قول من يشهد له الظاهر) ش: يعني ظاهر الحال م: (والظاهر شاهد لمن يشهد له مهر المثل، لأنه) ش: أي لأن مهر المثل م: (هو الموجب الأصلي في باب النكاح) ش: شرعا م: (وصار كالصباغ مع رب الثوب) ش: أي صار تحكيم مهر المثل في الاختلاف في مقدار المهر كاختلاف الصباغ مع صاحب الثوب، بيانه أن رب الثوب قال صبغته بدرهم، وقال الصباغ: بدرهمين، وهو معنى قوله: م: (إذا اختلفا في مقدار الأجر) ش: أي الأجرة.
م: (تحكم فيه) ش: على صيغة المجهول من التحكيم م: (قيمة الصبغ) ش: ينظر ما زاد(5/193)
ثم ذكر هاهنا أن بعد الطلاق قبل الدخول القول قوله في نصف المهر، وهذا رواية " الجامع الصغير " والأصل. وذكر في " الجامع الكبير ": أنه يحكم متعة مثلها، وهو قياس قولهما؛ لأن المتعة موجبة بعد الطلاق كمهر المثل قبله، فتحكم كمهر. ووجه التوفيق أنه وضع المسألة في الأصل في الألف والألفين، والمتعة لا تبلغ هذا المبلغ في العادة، فلا يفيد تحكيمها ووضعها في " الجامع الكبير ": في العشرة والمائة، ومتعة مثلها عشرون، فيفيد تحكيمها، والمذكور في " الجامع الصغير " ساكت عن ذكر المقدار فيحمل على ما هو المذكور في الأصل.
وشرح قولهما فيما إذا اختلفا في حال قيام النكاح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصباغ في قيمة الثوب إن كان درهما أو أكثر أعطي ذلك، ويحلف بالله ما صبغه بما ادعى رب الثوب، ويحلف رب الثوب بالله ما صبغته بأكثر من ذلك، وذلك لأن الصبغ غير مال قائم، فوجب الرجوع إلى قيمته وتحكيمه، كذا قال القدوري في شرح كتاب " الاستحلاف ".
م: (ثم ذكر) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (هاهنا) ش: أي في المسألة، وفي بعض النسخ ثم إنه وضعها هاهنا م: (أن بعد الطلاق قبل الدخول، القول قوله) ش: أي قول الزوج م: (في نصف المهر) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد، ولا يحكم متعة مثلها م: (وهذا رواية " الجامع الصغير " والأصل) ش: أي " المبسوط ".
م: (وذكر) ش: أي محمد م: (في " الجامع الكبير ": أنه يحكم متعة مثلها) ش: فإن شهدت لأحدهما فالقول له مع يمينه، وإن كانت بين الأمرين حلف كل واحد منهما كما في حال قيام النكاح م: (وهو قياس قولهما) ش: أي قول أبي حنيفة ومحمد، وإنما خصهما؛ لأن على قول أبي يوسف القول قول الزوج م: (لأن المتعة موجبة) ش: أي موجب النكاح م: (بعد الطلاق) ش: قبل الدخول م: (كمهر المثل قبله) ش: أي قبل الطلاق م: (فتحكم) ش: أي المتعة م: (كمهر) ش: أي كمهر المثل قبل الطلاق.
م: (ووجه التوفيق) ش: أي بين رواية الأصل و" الجامع الكبير " م: (أنه) ش: أي أن محمداً م: (وضع المسألة في الأصل في الألف والألفين، والمتعة لا تبلغ هذا المبلغ في العادة، فلا يفيد تحكيمها) ش: أي تحكيم المتعة؛ لأن الزوج معترف بنصف الألف م: (ووضعها) ش: أي المسألة م: (في " الجامع الكبير " في العشرة والمائة، ومتعة مثلها عشرون، فينفذ تحكيمها، والمذكور في " الجامع الصغير " ساكت عن ذكر المقدار فيحمل على ما هو المذكور في الأصل) ش: أي " المبسوط " وهو المتعارف، إذ المتعارف هو الاختلاف في الألوف. وقيل إن " المبسوط " صنف أولاً، ثم " الجامع الصغير "، فيكون المذكور في " المبسوط " كالمعهود فيحمل عليه، وقيل في المسألة روايتان.
[الزوجان إذا اختلفا في مقدار المهرقبل الطلاق]
م: (وشرح قولهما) ش: أي قول أبي حنيفة ومحمد م: (فيما إذا اختلفا) ش: أي الزوجان م: (في حال قيام النكاح) ش: هذا وجه آخر من الوجوه المتعلقة بالمسألة المذكورة، وهو أن(5/194)
أن الزوج إذا ادعى الألف والمرأة الألفين، فإن كان مهر مثلها ألفا أو أقل فالقول قوله، وإن كان ألفين أو أكثر فالقول قولها، وأيهما أقام البينة في الوجهين تقبل بينته، وإن أقاما البينة في الوجه الأول تقبل بينتها لأنها تثبت الزيادة، وفي الوجه الثاني بينته لأنها تثبت الحط، وإن كان مهر مثلها ألفا وخمسمائة تحالفا. وإذا حلفا يجب ألف وخمسمائة، هذا تخريج الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يتحالفان في الفصول الثلاثة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزوجين إذا اختلفا في مقدار المهر قبل الطلاق م: (أن الزوج إذا ادعى الألف، والمرأة الألفين فإن كان مهر مثلها ألفا أو أقل فالقول قوله) ش: أي مع اليمين؛ لأن الظاهر شاهد له، لأن في الدعاوى القول لمن يشهد له الظاهر. م: (وإن كان) ش: أي مهر مثلها م: (ألفين أو أكثر فالقول قولها) ش: أي قول المرأة مع يمينها م: (وأيهما) ش: أي أيما الزوجين م: (أقام البينة في الوجهين) ش: أي فيما إذا كان مهر مثلها ألفين أو أكثر م: (تقبل بينته، وإن أقاما البينة في الوجه الأول تقبل بينتها؛ لأنها تثبت الزيادة، وفي الوجه الثاني) ش: أي فيما إذا كان مهر مثلها ألفين أو أكثر تقبل م: (بينته؛ لأنها تثبت الحط) ش: أي حط أحد الألفين، والأصل في هذا هو البينة تثبت ما ليس ثابتا ظاهرا م: (وإن كان مهر مثلها ألفا وخمسمائة) ش: هذا وجه آخر من الوجوه المتعلقة بالمسألة المذكورة م: (تحالفا) ش: لأن المرأة تدعي الزيادة عليه وهو ينكر، والزوج يدعي عليها الحط عن مهر المثل وهي تنكر، وينبغي أن يقرع القاضي في البداية بالحلف، ذكره في " جامع قاضي خان " والقرعة مستحبة، ولكن يبدأ بأيهما شاء، وذكر الإمام المحبوبي يبدأ بيمين الزوج؛ لأنه أثبتهما إنكارا. وقال مالك بكليهما على المشهور.
م: (فإذا حلفا يجب ألف وخمسمائة) ش: يجب ألف بطريق التسمية، لا يخير الزوج فيها لاتفاقهما على تسمية الألف، ويجب خمسمائة باعتبار مهر المثل يخير فيها الزوج، وأيهما أقام البينة قبلت بينته، وإن أقاما يقضي بالألف وخمسمائة، ألف بطريق التسمية وخمسمائة باعتبار مهر المثل، لأن البينتين بطلتا لمكان التعارض، ونص محمد في هذا الفصل: أن بينة المرأة أولى لإثباتها الزيادة.
م: (هذا تخريج الرازي) ش: أي وجوب التحالف في فصل واحد، وهو ما إذا خالف مهر المثل قولهما هو تخريج الرازي، أي وجوب التحالف في فصل واحد هو ما إذا خالف مهر المثل قولهما هو تخريج الشيخ أبي بكر الجصاص أحمد بن علي الرازي من كبار علماء العراقيين صاحب التصانيف م: (يتحالفان) .
م: (قال الكرخي: - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وهو الشيخ أبو الحسن الكرخي أستاذ المحققين، وهو أستاذ أبو بكر الرازي، ولد سنة ستين ومائتين ومات سنة ثمانين وثلاثمائة. وقال الفائق: ولد سنة خمس وثلاثمائة، ومات سنة سبعين وثلاثمائة م: (في الفصول الثلاثة)(5/195)
ثم يحكم مهر المثل بعد ذلك. ولو كان الاختلاف في أصل المسمى يجب مهر المثل بالإجماع؛ لأنه هو الأصل عندهما، وعنده تعذر القضاء بالمسمى، فيصار إليه، ولو كان الاختلاف بعد موت أحدهما فالجواب فيه كالجواب في حال حياتهما لأن اعتبار مهر المثل لا يسقط بموت أحدهما. ولو كان الاختلاف بعد موتهما في المقدار فالقول قول ورثة الزوج، عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا يستثني القليل. وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - القول قول الورثة إلا أن يأتوا بشيء قليل، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجواب فيه كالجواب في حالة الحياة، وإن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي فيما إذا كان مهر المثل ألفا أو أقل، أو ألفين أو أكثر ألفا وخمسمائة م: (ثم يحكم مهر المثل بعد ذلك) ش: لأنهما لما حلفا تعذرت التسمية، فيحكم بمهر المثل، قيل: قول أبي بكر أصح.
م: (ولو كان الاختلاف في أصل المسمى) ش: هذا وجه آخر من الوجوه المتعلقة بالمسألة المذكورة، أي ولو كان اختلاف الزوجين في أصل المسمى بأن يدعي أحدهما التسمية وينكر الآخر م: (يجب مهر المثل بالإجماع) ش: لأنه لا يتمكن المصير إلى المسمى مع وجود الشك، ولو كان قبل الدخول تجب المتعة بالإجماع، وهكذا علله بعضهم، وعلل المصنف بقوله: م: (لأنه هو الأصل عندهما) ش: أي لأن مهر المثل هو الأصل عند أبي حنيفة ومحمد.
م: (وعنده) ش: أي وعند أبي يوسف م: (تعذر القضاء بالمسمى) ش: مع وجود الشك في وجوده م: (فيصار إليه) ش: أي إلى مهر المثل، وتعليل المصنف:
م: (ولو كان الاختلاف بعد موت أحدهما) ش: أي بعد موت أحد الزوجين وهذا أيضا وجه من الوجوه المتعلقة بالمسألة المذكورة، وصورته: اختلف الحي منهما مع ورثة الميت م: (فالجواب فيه) ش: أي في هذا الوجه م: (كالجواب في حال حياتهما) ش: أي حال قيام النكاح في الأصل والمقدار. وفي الأصل يجب مهر المثل.
م: (لأن اعتبار مهر المثل لا يسقط بموت أحدهما) ش: أي أحد الزوجين، كما في المفوضة، وهي التي زوجت نفسها من رجل بغير مهر إذا كان أحدهما يجب مهر المثل بالإجماع. بأن اختلف ورثتهما م: (في المقدار) ش: أي في مقدار المسمى م: (فالقول قول ورثة الزوج عند أبي حنيفة) ش: مع اليمين لإنكارهم الزيادة في المقدار، أي في مقدار المسمى فالقول قول ورثة الزوج أيضا، إلا أن يأتوا بشيء م: (ولا يستثني القليل) ش: أي على المذهب أبي حنيفة، بل يصدق ورثته وإن ادعوا شيئا قليلاً.
م: (وعند محمد الجواب فيه) ش: أي في هذا الوجه م: (كالجواب في حالة الحياة) ش: يعني أن القول قول ورثة المرأة على مهر المثل، وفيما زاد على ذلك القول قول ورثة الزوج م: (وإن(5/196)
كان في أصل المسمى فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - القول قول من أنكره. فالحاصل أنه لا حكم لمهر المثل عنده بعد موتهما على مهر مسمى على ما نبينه من بعد إن شاء الله.
وإذا مات الزوجان وقد سمى لها مهرا فلورثتها أن يأخذوا ذلك من ميراث الزوج، وإن لم يسم لها مهرا فلا شيء لورثتها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: لورثتها المهر في الوجهين، معنى المسمى في الوجه الأول ومهر المثل في الوجه الثاني. أما الأول: فلأن المسمى دين في ذمته، وقد تأكد بالموت فيقضى من تركته إلا إذا علم أنها ماتت أولا فيسقط
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان) ش: أي اختلاف الورثة م: (في أصل المسمى) ش: بأن ينكر أحدهما المسمى م: (فعند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - القول قول من أنكره) ش: أي من أنكر أصل المسمى، ولا يقضي بشيء؛ لأنه لا يقضي بمهر المثل بعد موتهما عنده، وعندهما يقضي بمهر المثل، وبه قال الشافعي، ومالك، وأحمد، وعليه الفتوى، ولكن الشافعي يقول: بعد التحالف، وعندنا، ومالك، وأحمد لا يجب التحالف.
م: (والحاصل أنه لا حكم لمهر المثل عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (بعد موتهما) ش: أي بعد موت الزوجين، استدل في الأصل، وقال الأترازي: إن ورثة علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لو ادعوا على ورثة عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مهر أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لم أقض ذلك في ميراث عمر إلا أن تقوم البينة م: (على مهر مسمى على ما نبينه من بعد إن شاء الله تعالى) ش: أشار به إلى دليل أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في المسألة التي تلي هذه المسألة، وهذا أيضا وجه من الوجوه المتعلقة بالمسألة المذكورة.
[مات الزوجان وقد سمى لها مهرا]
م: (وإذا مات الزوجان وقد سمى لها مهرا) ش: أي والحال أن الزوج قد سمى للمرأة مهرا م: (فلورثتها أن يأخذوا ذلك) ش: أي المسمى م: (من ميراث الزوج) ش: إنما يأخذ الورثة جميع المسمى من ميراث الزوج إذا ماتا معا، أو لم يعلم سبق أحدهما، أو علم أن الزوج مات أولا، لأن المسمى دين في الذمة وقد تقرر بالموت، وإن علم أن المرأة ماتت أولا يسقط من المهر قدر نصيب الزوج من التركة؛ لأنه ورث دينا على نفسه على ما يجيء الآن.
م: (وإن لم يكن سمى لها مهرا فلا شيء لورثتها عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وقالا: لورثتها المهر في الوجهين) ش: أي فيما إذا سمى، وفيما إذا لم يسم م: (معنى المسمى) ش: أي معنى قولهما بحسب المسمى م: (في الوجه الأول) ش: أي فيما إذا سمى م: (ومهر المثل) ش: أي ويجب مهر المثل م: (في الوجه الثاني) ش: أي فيما إذا لم يسم.
م: (أما الأول) ش: وهو وجوب المسمى م: (فلأن المسمى دين في ذمته وقد تأكد بالموت فيقضي من تركته إلا إذا علم أنها ماتت أولا) ش: الاستثناء من قوله: ويقضي من تركته م: (فيسقط(5/197)
نصيبه من ذلك. وأما الثاني: فوجه قولهما أن مهر المثل صار دينا في ذمته كالمسمى فلا يسقط بالموت، كما إذا مات أحدهما، لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن موتهما يدل على انقراض أقرانهما، فبمهر من يقدر القاضي مهر المثل.
ومن بعث إلى امرأته شيئا، فقالت: هو هدية، وقال الزوج: هو من المهر فالقول قوله لأنه هو المتملك، فكان أعرف بجهة التمليك كيف وأن الظاهر أنه يسعى في إسقاط الواجب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نصيبه من ذلك) ش: أي نصيب الزوج أي من مهر المثل الذي عليه قدر نصيبه من تركة المرأة وقد ذكرناه الآن.
م: (وأما الثاني) ش: وهو وجوب مهر المثل م: (فوجه قولهما: أن مهر المثل صار دينا في ذمته كالمسمى، فلا يسقط بالموت، كما إذا مات أحدهما) ش: ففيه لا يسقط بالاتفاق.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن موتهما يدل على انقراض أقرانهما فبمهر من يقدر القاضي مهر المثل) ش: أراد أن بانقراض الأقران لا يجد القاضي امرأة من أقرانها حتى يقدر مهر مثلها بتلك المرأة. وقيل: إذا لم يتقادم العهد ومرور الزمان الطويل حتى لو لم يتقادم العهد يتضمن بمهر مثلها عنده أيضاً.
قال السروجي: والتعليل الذي قبل هذا يدل على سقوط مهر المثل بموتهما تقادم أو لا. وفي " المناهج ": اختلفا في قدر المهر، وفي صفته تحالفا، ويفسخ المهر ويجب المثل، وكذا لو أنكر التسمية على الأصح لو اختلفت ورثتهما، أو وارث أحدهما مع الآخر.
وفي " المغني ": لو قال: لم يكن لها صداق فالقول قولها قبل الدخول وبعده ما ادعت مهر المثل، وبه قال ابن جبير، وابن شبرمة، وابن أبي ليلى، وابن حنبل، وابن راهويه، وهو قول الشعبي، والثوري، والشافعي.
وحكي عن فقهاء المدينة السبعة أن بعد الزفاف القول قوله - والدخول يقطع الصداق - وبه قال أصحابه: كانت العادة بالمدينة تعجيل الصداق.
وفي " الجواهر ": لو اختلفا بعد زوال العصمة بطلاق، أو فسخ، أو موت، فالقول قول الزوج مع يمينه، ولو ادعت التسمية وأنكر فالقول قوله.
[بعث إلى امرأته شيئا فقالت هو هدية وقال الزوج هو من المهر]
م: (ومن بعث إلى امرأته شيئا فقالت: هو هدية، وقال الزوج: هو من المهر فالقول قوله؛ لأنه هو المتملك) ش: على صيغة اسم الفاعل من التمليك م: (فكان أعرف بجهة التمليك كيف) ش: أي كيف لا يكون القول قول الزوج م: (وأن الظاهر أنه يسعى في إسقاط الواجب) ش: عن ذمته فيكون القول قول من يشهد له الظاهر، والواو في - وإن الظاهر - للحال وإن بكسر الهمزة وأنه بفتح الهمزة.(5/198)
قال: إلا في الطعام الذي يؤكل، فإن القول قولها، والمراد منه ما يكون مهيأ للأكل؛ لأنه يتعارف هدية. فأما في الحنطة والشعير فالقول قوله لما بيناه، وقيل: فلا يجب عليه من الخمار والدرع وغيره ليس له أن يحتسبه من المهر؛ لأن الظاهر يكذبه، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (إلا في الطعام الذي يؤكل) ش: كالجدي المشوي والدجاجة المشوية، والحلوى، والخبيصة، والخبز، واللحم، وسائر الأطعمة، والفواكه الرطبة وما لا بقاء له م: (فإن القول قولها) ش: وكذا ذكره المرغيناني، وفي " قاضي خان " وفي "المهيأ" للأكمل: وما لا يدخر فالقياس كما تقدم، وفي " الأسبيجابي ": القول قولها فيه م: (والمراد منه) ش: أي المراد من الطعام الذي يؤكل م: (ما يكون مهيأ للأكل) ش: أي معدل للأكل ما يتسارع إليه الفساد م: (لأنه يتعارف هدية) ش: أي لأن مثل هذه الأشياء عرفت هدية، فالقول قولها فيها.
م: (فأما الحنطة والشعير فالقول قوله) ش: فيها وكذا في الدقيق والشاة الحية والسمن والعسل وما له بقاء م: (لما بينا) ش: أشار به إلى قوله: - وإن الظاهر أنه يسعى في إسقاط حقه م: (وقيل) ش: قائله أبو القاسم الصفار.
م: (فلا يجب عليه) ش: أي في الشرع على الزوج م: (من الخمار والدرع وغيره) ش: كمتاع البيت م: (ليس له) ش: أي للزوج م: (أن يحتسبه) ش: بضم السين، فقال: حسبته أي عددت عليه حسبانا بفتح العين في الماضي، وضمها في المستقبل م: (من المهر؛ لأن الظاهر يكذبه) ش: والملاءة لا تجب عليه؛ لأنه ليس عليه أن يهيئ لها أمر الخروج.
وقال المرغيناني: عليه [ ... ] امرأة لخروجها. وفي " قنية المنية " دفع إليها مالا، فقالت: كان من مهري، وقال الزوج: كان وديعة عندك، وإن كان المدفوع من جنس مهرها فالقول قولها، وإن كان من خلاف جنسه فالقول قول الزوج. وفي " الإشراف ": بعث إليها بثوب فقال: هو من الكسوة، وقالت الزوجة: بل هو هبة، فالقول قول الزوج مع يمينه، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور، قال أبو بكر بن المنذر وبه أقول.
وفي " القنية ": بعث إلى امرأته متاعا، وبعث أبو المرأة إليه متاعاً، ثم ادعى الزوج أنه كان من الصداق فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف والمتاع قائم فللمرأة أن ترد وترجع بمهرها، وإن كان هالكا لا ترجع بالمهر، وما بعث إليه أبوها إن كان هالكا لم يكن على الزوجة شيء، وإن كان قائما وبعث من مال نفسه يرجع. وإن كان من مال الزوجة برضاها لا يرجع؛ لأن الزوجة لا ترجع فيما وهبت لزوجها، بعث إليها بهدايا وعوضت، ثم زفت إليه، ثم فارقها وادعى أن ذلك كان عارية، فالقول قوله، فإذا استرده فلها أن تسترد ما عوضه عن ذلك، قيل: لا يرجع كل واحد بما فرق على الناس من ذلك بإذن صاحبه صريحا، أو دلالة، ولا بالمأكولات(5/199)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من الأطعمة والفواكه الرطبة.
وفي " الذخيرة ": جهز بنته وزوجها ثم زعم أن الذي دفعه إليها ماله، وكان على وجه العارية عندها، قالت: هو ملكي جهزتني به، أو قال الزوج كذلك بعد موتها فالقول قولهما دون الأب، لأن الظاهر شاهد بملك البنت والعادة دفع ذلك إليها بطريق الملك، وحكي عن ركن الإسلام ابن الحسن السعدي أن القول قول الأب؛ لأن ذلك يستفاد من جهته وبه أخذ بعض المشايخ.
وقال الصدر الشهيد [في] واقعاته " المختار للفتوى ": إن كان العرف ظاهرا في الجهاز بمثل ذلك كما في ديارنا فالقول قول الزوج، وإن كان مشتركا فالقول قول الأب.(5/200)
فصل وإذا تزوج النصراني نصرانية على ميتة، أو على غير مهر، وذلك في دينهم جائز، ودخل بها، أو طلقها قبل الدخول بها، أو مات عنها؛ فليس لها مهر، وكذا الحربيان في دار الحرب، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قولهما في الحربيين، وأما في الذمية فلها مهر مثلها إن مات عنها، أو دخل بها، والمتعة إن طلقها قبل الدخول بها. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لها مهر المثل في الحربيين أيضا. له أن الشرع ما شرع ابتغاء النكاح إلا بالمال، وهذا الشرع وقع عاما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل تزوج النصراني نصرانية على ميتة أو على غير مهر]
م: (فصل) ش: لفظ فصل مهما يكتب هكذا لا يكون معربا؛ لأن الإعراب يقتضي التركيب، ومهما وصل بشيء مما بعد يكون معربا. ولما فرغ من بيان أنكحة المسلمين شرع في بيان أنكحة أهل الذمة.
م: (وإذا تزوج النصراني نصرانية) ش: هذا القيد اتفاقي، لأن الحكم في كل أهل الذمة هكذا، ولهذا ذكر في " المبسوط " بلفظ الذمي م: (على ميتة، أو على غير مهر) ش: أي وتزوجها على غير مهر، وكذا لو تزوج على دم.
م: (وذلك) ش: أي وتزوجها على هذا الوجه والواو للحال م: (في دينهم جائز، ودخل بها، أو طلقها قبل الدخول بها، أو مات عنها؛ فليس لها مهر) ش: أي مهر المثل، حتى لو ترافعا إلى القاضي لا يقضي بشيء.
م: (وكذلك) ش: أي الحكم إذا زوج م: (الحربيان في دار الحرب، وهذا) ش: أي عدم وجوب المهر م: (عند أبي حنيفة وهو) ش: أي عدم وجوب المهر م: (قولهما) ش: أي قول أبي يوسف، ومحمد، أي قولهما.
م: (في الحربيين) ش: كقول أبي حنيفة م: (وأما في الذمية) ش: أي وأما الحكم في الذمية إذا تزوجت ذميا م: (فلها مهر مثلها) ش: أي عندهما م: (إن مات) ش: أي الذي م: (عنها، أو دخل بها. والمتعة) ش: أي ولها المتعة.
م: (إن طلقها قبل الدخول بها) ش: يعني إذا ترافعا إلينا، أو أسلما، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد م: (وقال زفر: لها مهر المثل في الحربيين أيضا. له) ش: أي لزفر م: (أن الشرع ما شرع ابتغاء النكاح إلا بالمال) ش: قال الله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] (النساء: الآية 24) ، م: (وهذا الشرع) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا} [النساء: 24] م: (وقع عاما) ش: لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث إلى الكل.(5/201)
فيثبت الحكم على العموم. ولهما أن أهل الحرب غير ملتزمين أحكام الإسلام، وولاية الإلزام منقطعة لتباين الدارين، بخلاف أهل الذمة؛ لأنهم التزموا أحكامنا فيما يرجع إلى المعاملات كالربا والزنا، وولاية الإلزام متحققة لاتحاد الدار. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن أهل الذمة لا يلتزمون أحكامنا في الديانات، وفيما يعتقدون خلافه في المعاملات، وولاية الإلزام متحققة بالسيف وبالمحاجة، وكل ذلك منقطع عنهم باعتبار عقد الذمة، فإنا أمرنا بأن نتركهم وما يدينون فصاروا كأهل الحرب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] (الأعراف: الآية 158) . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بعثت إلى الأسود والأحمر» ، أي العرب والعجم، ولأن هذا الدين ناسخ الأديان كلها م: (فيثبت الحكم على العموم) ش: لأن النكاح من باب المعاملات، والكفار مخاطبون بالمعاملات.
م: (ولهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن أهل الحرب غير ملتزمين أحكام الإسلام) ش: لأن الالتزام بعقد الذمة قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قبلوا عقد الذمة فلهم ما للمسلمين» م: (وولاية الإلزام منقطعة لتباين الدارين) ش: أي دار الإسلام، ودار الكفر ولا إلزام إلا بالولاية م: (بخلاف أهل الذمة؛ لأنهم التزموا أحكامنا فيما يرجع إلى المعاملات كالزنا والربا) ش: فإنهم ينهون عن ذلك، ويقام عليهم الحد.
م: (وولاية الإلزام متحققة لاتحاد الدار، ولأبي حنيفة أن أهل الذمة لا يلتزمون أحكامنا في الديانات) ش: أي لا يلزم أهل الذمة المعاملات، أي وكذا لا يلزمون أحكامنا.
م: (وفيما يعتقدون خلافه في المعاملات) ش: كالنكاح بغير شهود وبيع الخمر والخنزير، والضمير في خلافه يرجع إلى ما يعتقدون، أي لا يلزمون أحكامنا في الشيء الذي يعتقدون خلاف ذلك الشيء لما أنا نفتقد حرمة النكاح بغير شهود، وهم يعتقدون خلاف ذلك.
م: (وولاية الإلزام) ش: هذا جواب في قولهما وولاية الإلزام م: (متحققة) ش: بيانه: أن ولاية الإلزام إنما تتحقق م: (بالسيف بالمحاجة) ش: ليست بموجودة م: (وكل ذلك ينقطع عنهم باعتبار عقد الذمة، فإنا أمرنا أن نتركهم وما يدينون فصاروا كأهل الحرب) ش: وفي عدم الالتزام(5/202)
بخلاف الزنا لأنه حرام في الأديان كلها، والربا مستثنى من عقودهم لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إلا من أربى فليس بيننا وبينه عهد» . وقوله في الكتاب: أو على غير مهر يحتمل نفي المهر ويحتمل السكوت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وانقطاع الولاية.
م: (بخلاف الزنا؛ لأنه حرام في الأديان) ش: جواب عن قولهما كالزنا، بيانه أن القياس عليه غير صحيح، لأنه حرام في الأديان م: (كلها) ش: فلم يكن دينهم خاصة حتى يتركون عليه، م: (والربا) ش: كذلك جواب عن قولهما: والربا بيانه أن الربا م: (مستثنى من عقودهم لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «إلا من أربى فليس بيننا وبينه عهد» ش: هذا حديث غريب، وذكره الأكمل، وسكت عنه غير أنه قال: " إلا " حرف تنبيه، لا حرف الاستثناء، كذا في السماع والنسخ.
قلت: هذا عجيب منه؛ لأن من ذكر أنه حرف استثناء حتى يرده مؤكدا بقوله: وكذا السماع والنسخ؟! وأعجب منه أيضا قول الأترازي: هو حرف تنبيه لا حرف استثناء، كذا وقع السماع مراراً بفرغانة وبخارى، وكذا سكت عنه بقية الشراح، وهما أيضاً لو سكتا لكان أوجه.
وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه " - في باب ذكر أهل نجران - حدثنا غيلان، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا خالد بن سعيد، عن الشعبي قال: كتب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى نجران وهم نصارى: «من باء منكم بالربا فلا ذمة له» ، وهو مرسل، وروى أبو عبيد في كتاب " الأموال " بإسناده، عن أبي المليح الهذلي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح أهل نجران ... الحديث وفيه: " لا يأكل الربا، فمن أكل منهم الربا فمتى يلزم يريد ".
م: (وقوله:) ش: أي قول محمد م: (في الكتاب) ش: أي في " الجامع الصغير "، أي على غير مهر هذا قد مضى في أول الفصل، وإنما ذكره لبيان أن المسألة من مسائل " الجامع الصغير "، ولبيان التفصيل في قوله: م: (أو على غير مهر؛ لأنه يحتمل نفي المهر ويحتمل السكوت) ش: بأن يعقد أن يسكتا عن ذكر المهر.
وقال صدر الشهيد: في " شرح الجامع الصغير ": فالنفي على الاختلاف لا محالة، فأما السكوت فإنه يرجع فيه إلى دينهم، فإن دانوا أنه لا يجب إلا بالنص عليه كان على الاختلاف، وإن دانوا أنه يجب إلا أن ينفي فإنه يجب عند السكوت بالإجماع.(5/203)
وقد قيل في الميتة والسكوت روايتان، والأصح أن الكل على الخلاف.
فإن تزوج الذمي ذمية على خمر أو خنزير، ثم أسلما أو أسلم أحدهما فلها الخمر والخنزير، ومعناه إذا كانا بأعيانهما والإسلام قبل القبض، وإن كانا بغير أعيانهما فلها في الخمر القيمة، وفي الخنزير مهر المثل، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لها مهر المثل في الوجهين، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لها القيمة في الوجهين. وجه قولهما: أن القبض يؤكد الملك في المقبوض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال فخر الإسلام البزدوي: والمتزوج بالميتة بمنزلة النفي؛ لأنه لا قيمة له عند أحد، وألحق شمس الأئمة السرخسي في " المبسوط " الدم بالميتة؛ لأنه لا يتمولها المسلمون.
م: (وقد قيل: في الميتة والسكوت روايتان) ش: أي عن أبي حنيفة في رواية: يجب مهر المثل كما قالا. وفي رواية لا يجب شيء م: (والأصح أن الكل على الخلاف) ش: رواية واحدة، فعنده لا يجب شيء لها، وعندهما لها مهر المثل.
[تزوج الذمي ذمية على خمر أو خنزير ثم أسلما أو أسلم أحدهما]
م: (فإن تزوج الذمي ذمية على خمر أو خنزير، ثم أسلما أو أسلم أحدهما فلها الخمر والخنزير) ش: هذه من مسائل " الجامع الصغير " م: (ومعناه) ش: أي معنى قول محمد فلها الخمر والخنزير م: (إذا كانا) ش: أي الخمر والخنزير م: (بأعيانهما) ش: إذا كانا معينين م: (والإسلام) ش: أي إسلامهما، أو إسلام أحدهما كان م: (قبل القبض) ش: أي قبض الخمر والخنزير م: (وإن كانا بغير أعيانهما) ش: يعني كانا دينا في الذمة م: (فلها في الخمر القيمة، وفي الخنزير مهر المثل، وهذا) ش: أي هذا كله سواء كانا عينين أو دينين م: (عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: لها مهر المثل في الوجهين) ش: أي في العين وغير العين، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد.
م: (وقال محمد: لها القيمة في الوجهين. وجه قولهما) ش: أي قول أبي يوسف ومحمد إنما جمع بين قوليهما وإن كانا مختلفين فيما بينهما حيث قال أبو يوسف بمهر المثل فيهما، ومحمد قال فيهما بالقيمة، ومهر المثل غير قيمة الخمر والخنزير؛ لأنهما متفقان في أنهما لا يوجبان عين الخمر والخنزير.
م: (أن القبض) ش: أي قبض المهر المعين م: (يؤكد الملك في المقبوض) ش: ولهذا لو هلك قبل القبض هلك من الزوج، وعليه مثله إن كان مثليا، وقيمته إن كان قيما وبعد القبض يهلك من المرأة وينصف بالطلاق قبل الدخول إن لم يكن مقبوضا. وبعد القبض لا يعود إلى ملك الزوج شيء إلا بالرضا أو بالمسمى، وإذا مر يوم الفطر والصداق بعد غير مقبوض ثم طلقها قبل الدخول بها لا يجب صدقة الفطر عليها بخلاف ما بعد القبض، ولا تجب الزكاة عليها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في المهر قبل القبض بخلاف ما يعود.(5/204)
فيكون له شبه بالعقد، فيمتنع بسبب الإسلام كالعقد، وصار كما إذا كانا بغير أعيانهما، وإذا التحقت حالة القبض بحالة العقد؛ فأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: لو كانا مسلمين وقت العقد يجب مهر المثل، فكذا هاهنا، ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: صحت التسمية لكون المسمى مالا عندهم، إلا أنه امتنع التسليم بالإسلام، فتجب القيمة، كما إذا هلك العبد المسمى قبل القبض. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الملك في الصداق المعين يتم بنفس العقد، ولهذا تملك التصرف فيه، وبالقبض ينتقل من ضمان الزوج إلى ضمانها، وذلك لا يمتنع بالإسلام كاسترداد الخمر المغصوب، وفي غير المعين القبض يوجب ملك العين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فيكون له شبهة بالعقد) ش: أي يكون للقبض شبهة بالعقد من حيث إنه مؤكد م: (فيمتنع بسبب الإسلام) ش: أي يمتنع القبض بسبب الإسلام كالعقد أي كما لو ابتدأ التمليك بالعقد بعد الإسلام م: (وصار كما إذا كانا بغير أعيانهما) ش: لأن القبض فيه كالقبض فيما إذا كان بغير أعيانها في إفادة ما لم يكن والقبض فيما إذا كان بغير أعيانهما منع عن تسليم نفسها فكذلك إذا كانا بأعيانهما كالعقد.
م: (وإذا التحقت حالة القبض بحالة العقد، فأبو يوسف يقول: لو كانا مسلمين وقت العقد يجب مهر المثل، فكذا هاهنا، ومحمد يقول: صحت التسمية) ش: حالة العقد؛ لأنهما كانا كافرين م: (لكون المسمى مالا عندهم) ش: أي عند أهل الذمة م: (إلا أنه امتنع التسليم بالإسلام فتجب القيمة، كما إذا هلك العبد المسمى قبل القبض) ش: فوجب القيمة.
م: (ولأبي حنيفة أن الملك في الصداق المعين يتم بنفس العقد، ولهذا تملك التصرف فيه) ش: أي في المعين كيف شاءت ببدل، وبغير بدل، فلو هلك على ملكهما دخل ما يتم بنفس العقد لا يحتاج فيه إلى القبض للتمليك، قوله: وبهذا إيضاح لتمام الملك بنفس العقد في الصداق المعين.
م: (وبالقبض ينتقل) ش: أي الملك م: (من ضمان الزوج إلى ضمانها، وذلك) ش: أي انتقال الضمان م: (لا يمتنع بالإسلام كاسترداد الخمر المغصوب) ش: يعني الذمي إذا غصب منه الخمر، ثم أسلم له أن يسترده من الغاصب، وكذلك المسلم إذا تخمر عصيره، وهذا لأنه صورة اليد، فلا يحصل به ملك الرقبة، ولا ملك التصرف، وصورة اليد لا تمنع بالإسلام.
وفي " الحواشي " ولأبي حنيفة: أن الملك نوعان: ملك الرقبة، وملك التصرف، وكلاهما ثابت للزوجة قبل القبض، والفائت لها صورة اليد ولا يمتنع ذلك بالإسلام كالمسلم إذا تخمر عصيره.
م: (وفي غير المعين القبض يوجب ملك العين) ش: لأن حقها كان في الدين وإنما يثبت في(5/205)
فيمتنع بالإسلام، بخلاف المشتري؛ لأن ملك التصرف إنما يستفاد فيه بالقبض وإذا تعذر القبض في غير المعين لا تجب القيمة في الخنزير؛ لأنه من ذوات القيم، فيكون أخذ قيمته كأخذ عينه، ولا كذلك الخمر؛ لأنه من ذوات الأمثال، ألا ترى أنه لو جاء بالقيمة قبل الإسلام تجبر على القبول في الخنزير دون الخمر، ولو طلقها قبل الدخول بها فمن أوجب مهر المثل أوجب المتعة، ومن أوجب القيمة أوجب نصفها، والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العين ابتداء بالقبض م: (فيمتنع بالإسلام) ش: وفي " الأسرار ": ولئن سلمنا أن القبض يؤكد الملك في المقبوض، ولكن لا نسلم أن الإسلام يمنع تأكد الملك بدليل أن من باع عبداً بخمر وقبض الخمر، فإن الملك فيه والجواز أن يهلك العين عنده قبل التسليم إليه، فالتسليم يقرر الملك، وهذا التسليم غير ممتنع بالإسلام، وإن كان قبضها كذا الملك في الخمر.
وإذا اشترى خمرا وقبضها، ثم أسلم ربها يجب، فإنه سقط خيار الرد، وإن كان في سقوطه تأكيد في الخمر، ومع هذا لم يمتنع بالإسلام، فعلم أن الإسلام لا يمنع تأكد الملك في الخمر، وبخلاف المشتري متصل بقوله: إن الملك في الصداق المعين يتم بالقبض، يعني بخلاف ما إذا باع الخمر والخنزير، أو اشترى ثم أسلم قبل القبض، فإنه لا يجوز القبض بل يفسخ العقد. وقال الأترازي: م: (بخلاف المشتري) ش: يجوز بفتح الراء وكسرها فعلى الأول يكون معناه أن الخنزير المشترى أو الخمر المشترى لا يجوز قبض ذلك بعد الإسلام وعلى الثاني أن المشتري الخمر والخنزير ليس له أن يقبضهما بعد الإسلام م: (لأن ملك التصرف إنما يستفاد فيه) ش: أي في البيع م: (بالقبض) ش: والإسلام مانع منه.
م: (وإذا تعذر القبض في غير المعين لا تجب القيمة في الخنزير؛ لأنه من ذوات القيم) ش: أي لأن الخنزير من ذوات القيم؛ لأنه لا مثل له من جنسه م: (فيكون أخذ قيمته) ش: أي قيمة الخنزير م: (كأخذ عينه) ش: فكان فيه تقرير حكم عقد باشراه في الكفر لا على وجه الشرع م: (ولا كذلك الخمر؛ لأنه) ش: أي لأن الخمر، قال الكاكي: ذكره على تأويل المذكور، وقال الأترازي: على تأويل الشراب، وهي من الأسماء المؤنثة السماعية م: (من ذوات الأمثال) ش: لأن لها من جنسها.
م: (ألا ترى) ش: توضيح لما قبله م: (أنه) ش: أي الزوج م: (لو جاء بالقيمة قبل الإسلام تجبر) ش: أي المرأة م: (على القبول في الخنزير دون الخمر) ش: كما لو أتى بالعين فيما إذا تزوج امرأة على خنزير، ولو تزوجها على خمر لا يجبر بين إعطاء القيمة وبين إعطاء العين.
م: (ولو طلقها قبل الدخول بها فمن أوجب مهر المثل مطلقاً) ش: هو أبو يوسف م: (أوجب المتعة، والذي أوجب القيمة) ش: مطلقاً م: (أوجب نصفها) ش: أي نصف القيمة. أما محمد وأبو حنيفة أوجبا في الخنزير مهر المثل وفي الخمر القيمة.(5/206)
باب نكاح الرقيق لا يجوز نكاح العبد والأمة إلا بإذن مولاهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب نكاح الرقيق] [نكاح المملوك بغير إذن سيده]
م: (باب نكاح الرقيق)
ش: أي هذا باب في بيان حكم نكاح الرقيق، أي المملوك، وقد يطلق على الواحد والجمع، كذا في " الصحاح ".
وفي " المغرب ": الرقيق العبد، وقد يقال للعبيد، ومنه: هؤلاء رقيقي. وفي " النهاية ": الرقيق المملوك فعيل بمعنى مفعول. قيل: كأنه نظر إلى معناه الذي هو المملوك، فإنه مفعول؛ لأنه من فعل متعد، والأظهر أن الرقيق معنى فاعل؛ لأن الرق هو الضعف وهو لازم، وفيه تأمل.
وقال الأترازي: إنما أخر هذا الباب عن فصل النصراني والنصرانية لما أن الرقيق لا ينفذ نكاحه أصلاً إلا إذا أذن له مولاه، بخلاف أهل الكتاب، فإن لهم ولاية النكاح بأنفسهم، فلما ذكر من لهم ولاية النكاح وهم المسلمون وأهل الكتاب ألحق بهم من ليس لهم النكاح بأنفسهم وهم الأرقاء.
وقدم هذا الباب على باب نكاح أهل الشرك؛ لأن الرق يتحقق في المسلم بقاء، ولم يتحقق ابتداء، والرقيق المسلم خير من المشرك الحر، قال الله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة: 221] (البقرة: الآية 221) ، هذا ما عندي من وجه المناسبة: وقال بعض الشارحين: إنما أخره عن فصل النصراني لأن الرق من آثار الكفر، والأثر يعقب المؤثر؛ لأنه يقتضي أن يكون وضع هذا بعد باب نكاح أهل الشرك لما قال في المعنى، انتهى.
قلت: أراد بعض الشارحين صاحب "النهاية" السغناقي؛ فإنه ذكر في كتابه هكذا، وفي كلام الأترازي أيضاً نظر، لأن المناسبة لا تراعى إلا بين الأبواب دون الفصول، وفصل النصراني والنصرانية داخل في ضمن باب المهر، وليس بباب بالاستقلال وينبغي أن يذكر المناسبة بين باب المهر، وباب نكاح الرقيق قد صدر بنكاح الرقيق، والرقيق يكون مهراً، إنما تزوج رجل امرأة على رقيق، فإذا تزوج الرقيق بإذن مولاه فالمهر دين في رقبته يباع فيه.
م: (لا يجوز نكاح العبد والأمة إلا بإذن مولاهما) ش: لا يجوز أي لا يعقد، كما في نكاح الفضولي، كذا نقل عن العلامة مولانا حافظ الدين. وقال السروجي: وكذا قال في " البدائع " و" المفيد ": لا يجوز نكاح المملوك بغير إذن سيده، وصوابه لا ينفذ، فإنه جائز صحيح، لكنه غير نافذ بل نفاذه موقوف إلى إجازة المولى، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن، وإبراهيم النخعي، ومنصور والحكم، رواه عنهم ابن أبي شيبة، قال شيخنا زين الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -(5/207)
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز للعبد لأنه يملك الطلاق، فيملك النكاح. ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعالى -: وهو قول أهل الرأي، ومالك فيما حكى الخطابي عنهم.
وفرق الرافعي بين قول أبي حنيفة ومالك، فقال: قال مالك: يصح وللسيد فسخه. وقال أبو حنيفة: موقوف على إجازة السيد. وقال شيخنا أيضا لما روى حديث الباب: فيه حجة على أن نكاح العبد بغير إذن سيده غير صحيح، وهو قول أكثر أهل العلم، منهم حماد بن أبي سليمان، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد وإسحاق، انتهى.
قلت: فعلى قول صاحب " الهداية " لا يجوز هو الصواب، وكذا قال القدوري بلفظ: لا يجوز.
فإن قلت: يؤيد هذا ما رواه أبو داود: «وإذا نكح العبد بغير إذن سيده فنكاحه باطل» .
قلت: هذا الحديث ضعيف وهو معروف عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -.
م: (وقال مالك: يجوز للعبد؛ لأنه يملك الطلاق فيملك النكاح) ش: قيد بالعبد؛ لأنه لا يجوز للأمة بالإجماع، لأن النكاح من خواص الإنسان فيبقى على أصل الحرية، إذ هو مملوك للمولى من حيث إنه آدمي، ألا ترى أنه يملك الطلاق وهو أثر النكاح فيملك سببه وهو النكاح؛ لأن من ملك رفع شيء يملك وضعه، ولكن ذكر في " الجواهر " للمالكية: لا ينكح العبد إلا بإذن سيده، فإن عقد بغير إذن سيده صح، وللسيد أن يطلق عليه بخلاف الأمة فإن العقد عليها بغير إذنه باطل، ولا يصح بإجازته، وعنه للسيد فسخه أو تركه نكاح العبد، وهي شاذة، والمهر والنفقة لازمان له، متعلقان بما يتحصل في يده من غير خراجه، ولا من كسبه.
وقال أبو عمر في "التمهيد ": نكاحه موقوف على إجازة السيد، وإن طلقها العبد قبل إجازة سيده لكان طلاقا لا يحل إلا بعد زوج.
وفي " الأشراف ": لا حد عليه في الوطء، وفيه روي ذلك عن الشعبي، والنخعي، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وابن حنبل. وقال داود وأصحابه: يحد بالوطء حد الزاني إذا علم بالنهي، وهو مذهب ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، قال: فكان ابن عمر يرى نكاحه زناً، ويرى عليه الحد، وبه قال أبو ثور.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» ش: هذا الحديث رواه الترمذي من حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» . وقال: حديث حسن(5/208)
ولأن في تنفيذ نكاحهما تعييبهما، إذ النكاح عيب فيهما، فلا يملكانه بدون إذن مولاهما. وكذلك المكاتب؛ لأن الكتابة أوجبت فك الحجر في حق الكسب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صحيح، ورواه الحاكم في "مستدركه "، وقال: حسن صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وروى ابن ماجه من رواية مندل، عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا تزوج العبد بغير إذن سيده كان عاهراً» وقد مر الكلام فيه عن قريب قوله - عاهر - أي زان، قاله الخطابي وغيره.
م: (ولأن في تنفيذ نكاحهما تعييبهما إذ النكاح عيب فيهما) ش: ولهذا لو اشترى عبدا أو أمة فوجده من زوجها فله أن يرده م: (فلا يملكانه) ش: أي فلا يملك العبد والأمة النكاح م: (بدون إذن مولاهما) ش: قال الأكمل: وفي هذا التعليل جواب لمالك؛ لأن مذهبه ليس كما نقله المصنف وقد بيناه.
وقال الأكمل أيضاً: واستشكل بجواز إقراره بالحدود والقصاص؛ فإن وجوب قطع اليد في السرقة، ووجوب القصاص عيب فيهما على قولهما، وأما على قول أبي حنيفة بمنزلة الاستحقاق، وهو أيضا أقوى العيوب فولايته على هذا التعيب يزيل هذه النكتة.
وأجيب: بأن الرق في حدود الله تعالى باق على حريته، والرق لا يؤثر فيهما، وإن لزم من ذلك تعييب فهو ضمني، لا يعتبر به، انتهى.
قلت: هذا كله من كلام السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
م: (وكذلك المكاتب) ش: لا يجوز تزويجه بغير إذن مولاه م: (لأن الكتابة أوجبت فك الحجر في حق الكسب) ش: فينال بذلك شرف الحرية، والنكاح ليس من باب الكسب م:(5/209)
فيبقى في حق النكاح على حكم الرق، ولهذا لا يملك المكاتب تزويج عبده، ويملك تزويج أمته؛ لأنه من باب الاكتساب، وكذا المكاتبة لا تملك تزويج نفسها بدون إذن المولى، وتملك تزويج أمتها لما بينا، وكذا المدبرة وأم الولد؛ لأن الملك فيهما قائم. وإذا تزوج العبد بإذن مولاه فالمهر دين في رقبته يباع فيه، لأن هذا دين وجب في رقبة العبد، لوجود سببه من أهله، وقد ظهر في حق المولى لصدور الإذن من جهته، فيتعلق برقبته دفعا للمضرة عن أصحاب الديون، كما في دين التجارة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(فيبقى في حق النكاح على حكم الرق) ش: يعني تبقى رقبته موقوفة في حق النكاح، كما كان.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل بقائه في حكم النكاح على حكم الرق م: (لا يملك المكاتب تزويج عبده) ش: لأنه ليس بكسب في حق الزوج م: (ويملك تزويج أمته؛ لأنه) ش: أي لأن تزويج أمته م: (من باب الاكتساب) ش: إذ به يحصل المهر والنفقة، إذ كل مهر وجب للأمة بعقد، أو دخول فهو للمولى.
م: (وكذا المكاتبة لا تملك تزويج نفسها بدون إذن المولى، وتملك تزويج أمتها لما بينا) ش: إشارة إلى قوله - لأنه من باب الاكتساب - م: (وكذلك) ش: أي وكذلك لا يجوز نكاح م: (المدبرة، وأم الولد؛ لأن الملك فيهما قائم) ش: ولهذا يعتقان إذا قال المولى: كل مملوك لي حر، وفي " المبسوط ": الأب والجد، والقاضي، والوصي، والمكاتب والمضارب والشريك والمفاوض يملكون تزويج الأمة.
م: (وإذا تزوج العبد بإذن مولاه فالمهر دين في رقبته، يباع فيه) ش: وكذا النفقة دين في رقبته حتى لو مات العبد سقط المهر والنفقة، لأن محل الاستيفاء قد فات، كذا ذكره التمرتاشي، وبه قال أحمد، وبعض أصحاب الشافعي م: (يباع فيه) ش: أي المهر م: (لأن هذا دين وجب في رقبة العبد لوجود سببه من أهله) ش: هذا دليل لقوله: م: (يباع فيه) ش: دون ما قبله لئلا يلزم المصادرة على المطلوب، تقديره: هذا الدين وجب في الرقبة تباع الرقبة فيه.
أما أصل الوجوب فلتحقق المقتضى، وهو وجود السبب من أهله، أي من أهل التزوج، والسبب هو الفعل والبلوغ، أما أنه وجب في رقبته فلدفع الضرر عن أصحاب الديون، وانتفاء المانع من جهة المولى، لوجود الإذن من جهة الإشارة إليه بقوله.
م: (وقد ظهر في حق المولى لصدور الإذن من جهته، فيتعلق برقبته دفعا للمضرة عن أصحاب الديون) ش: يعني النساء م: (كما في دين التجارة) ش: أي كما يباع في دين التجارة، قياسا على دين الاستهلاك، والجامع دفع الضرر عن الناس، وإنما قيد التزوج بإذن المولى، لأن العبد، أو المدبر، أو المكاتب إذا تزوج بغير إذن المولى، ودخل بها، ثم فرق بينهما المولى فلا مهر عليه حتى يعتق، وهذا مذهب الثلاثة، هذا ما ذكر في كتبهم، ففي " المنهاج " للشافعية:(5/210)
والمدبر والمكاتب يسعيان في المهر ولا يباعان فيه؛ لأنهما لا يحتملان النقل من ملك إلى ملك، مع بقاء الكتابة والتدبير، فيؤدى من كسبهما لا من نفسهما. وإذا تزوج العبد بغير إذن مولاه، فقال المولى: طلقها أو فارقها، فليس هذا بإجازة، لأنه يحتمل الرد، لأن رد هذا العقد ومتاركته يسمى طلاقا ومفارقة، وهو أليق بحال العبد المتمرد إذ هو أدنى، فكان الحمل عليه أولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السيد إذا أذنه لا يضمن نفقته، ولا مهرا في الجديد، وهنا في كسبه بعد النكاح، فإن كان مأذونا له في التجارة ففيما في يده من المال، وكذا في رأس المال في الأصح. وفي " المبسوط " لهم: الأصح ليس في رأس المال، فإن لم يكن مأذونا له ولا مكتسبا ففي ذمته، وفي قول: على السيد، وفي " الجواهر " للمالكية: النفقة، والمهر لازمان له، متعلقان لما يحصل له في يده لما ليس من خراجه، ولا من كسبه.
وفي " المغني " للحنابلة: المهر يتعلق برقبته، ويباع فيه إلا أن يفسد المولى، وهذا تقييد قولنا. وفي " شرح الوجيز " للشافعية: دين المهر، والنفقة يتعلق بذمة العبد، ويثبت الخيار للمرأة في القول الأصح. وفي قول: يجب على المولى، لأن الإذن في النكاح في عبد لا يكتسب التزاما للمؤنات، وهذا في عبد لم يكن له كسب، فلو كان مكتسبا يجوز في كسبه بعد النكاح، حتى لو حبسه المولى، واستخدمه في زمان كسبه غرم للمرأة المهر والنفقة. وهل للعبد أن يؤجر نفسه للمهر والنفقة، فيه قولان، انتهى.
لأن العبد إذا بيع في مهرها ولم يف الثمن لا يباع ثانيا، لأنه بيع في جميع المهر، ويطالب بالباقي بعد العتق. وفي دين النفقة يباع مرة أخرى؛ لأنه يجب شيئا فشيئا، كذا ذكره التمرتاشي، ولو زوج عبده أمته لا مهر لها، وبه قال الشافعي، ومالك وأحمد.
[تزوج العبد بغير إذن مولاه فقال المولى طلقها أو فارقها]
م: (والمدبر والمكاتب يسعيان في المهر، ولا يباعان فيه، لأنهما لا يحتملان النقل من ملك إلى ملك مع بقاء الكتابة والتدبير، فيؤدى من كسبهما لا من أنفسهما) ش: لتعذر الاستيفاء من الرقبة.
م: (وإذا تزوج العبد بغير إذن مولاه، فقال المولى: طلقها أو فارقها فليس هذا بإجازة) ش: وقال ابن أبي ليلى: يكون إجازة. وعند الشافعي، ومالك، وأحمد لا ينعقد هذا العقد أصلا، ويصير لغوا لا تلحقه الإجازة. ولو قال له: طلقها فيما إذا بلغه الخبر أن الفضولي زوجه يكون إجازة م: (لأنه) ش: أي لأن كلام المولى طلقها أو فارقها م: (يحتمل الرد، لأن رد هذا العقد ومتاركته يسمى طلاقا ومفارقة، وهو أليق بحال العبد المتمرد) ش: أي الرد أليق بحال العبد المتمرد أي: المارد الخارج عن الطاعة م: (إذ هو أدنى) ش: أي: الرد أدنى لأنه منع من الثبوت والطلاق موقع بعده، والدفع أسهل من الرفع.
م: (فكان الحمل عليه) ش: أي على الدفع م: (أولى) ش: بخلاف مسألة الفضولي، لأن الزوج يملك التطليق بالإجازة، فثبت ضمنا له، لأن فعل الفضولي إعانة له، فلا يحمل على(5/211)
وإن قال: طلقها تطليقة تملك الرجعة، فهو إجازة، لأن الطلاق الرجعي لا يكون إلا في نكاح صحيح، فتتعين الإجازة.
لو قال لعبده: تزوج هذه الأمة فتزوجها نكاحا فاسدا، ودخل بها؛ فإنه يباع في المهر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يؤخذ منه إذا عتق، وأصله أن الإذن في النكاح ينتظم الفاسد والجائز عنده، فيكون هذا المهر ظاهرا في حق المولى. وعندهما ينصرف إلى الجائز لا غير،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرد.
فإن قلت: الطلاق في الحقيقة لإبطال تمليك النكاح في الرد مجاز، والعمل بالحقيقة مجاز.
قلت: الحقيقة تدرك بدلالة الحال، وهي افتئات على رأي المولى.
م: (وإن قال: طلقها تطليقة تملك الرجعة، فهو إجازة، لأن الطلاق الرجعي لا يكون إلا في نكاح صحيح، فتتعين الإجازة) ش: وكذا قال: أوقع عليها تطليقة.
فإن قيل: إذا قال المولى لعبده: كفر يمينك بالمال، أو تزوج أربعا من النساء لا يثبت به العقد، وإن كان التكفير بالمال، وتزوج أربعا من النساء لا يكون إلا بعد الحرية.
أجيب: بأن ما كان أصلا في إثبات الأهلية في التصرفات الشرعية لا يثبت اقتضاء، كالإيمان في خطاب الكفار بالشرائع. وفي الإثبات عتق ذلك بخلاف ما نحن فيه، فإن النكاح ليس بأصل في إثبات الأهلية.
[قال لعبده تزوج هذه الأمة فتزوجها نكاحا فاسدا ودخل بها]
م: (ولو قال لعبده: تزوج هذه الأمة) ش: لا فائدة فيه، لأنه لو قال هذه الحرة، فعلى هذا الخلاف، وكذلك لا فائدة في ذكر الإشارة في التعيين، لأن الحكم في غير المعين كذلك م: (فتزوجها نكاحا فاسدا، ودخل بها، فإنه يباع في المهر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يؤخذ منه إذا عتق) ش: ولفظ الأصل، وإذا أذن له أن يتزوج واحدة فتزوجها نكاحا فاسدا، فدخل بها أخذ المهر في حال الرق في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا شيء عليه حتى يعتق، وعند الشافعي: في ذمته كقولهما، وفي قول في رقبته. وفي " المغني ": وفي تناوله الفاسد احتمال.
م: (وأصله) ش: أي أصل أبي حنيفة م: (أن الإذن في النكاح ينتظم الفاسد والجائز عنده) ش: أي يشملهما عند أبي حنيفة م: (فيكون هذا المهر ظاهرا في حق المولى) ش: بسبب إذنه فيباع.
م: (وعندهما ينصرف) ش: أي الإذن م: (إلى الجائز) ش: أي النكاح الجائز م: (لا غير)(5/212)
فلا يكون ظاهرا في حق المولى، فيؤاخذ به بعد العتاق. لهما أن المقصود من النكاح في المستقبل الإعفاف، والتحصين، وذلك بالجائز، ولهذا لو حلف لا يتزوج ينصرف إلى الجائز، بخلاف البيع، لأن بعض المقاصد حاصل، وهو ملك التصرفات. وله أن اللفظ مطلق، فيجري على إطلاقه، كما في البيع، وبعض المقاصد في النكاح الفاسد حاصل كالنسب، ووجوب المهر والعدة على اعتبار وجود الوطء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: يعني ولا ينتظم، وبه قال الشافعي في أظهر قوليه، وقد ذكرناه م: (فلا يكون ظاهرا في حق المولى) ش: ولا يؤاخذ به العبد في الحال م: (فيؤاخذ به بعد العتاق. لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن المقصود من النكاح في المستقبل الإعفاف) ش: أي تحصيل العفة م: (والتحصين) ش: أي تحصين النفس عن الحرام م: (وذلك) ش: أي الإعفاف لا يكون إلا م: (بالجائز) ش: أي النكاح الجائز قيد بالمستقبل، لأن مراده في النكاح في الماضي تحقق المخبر عنه فحسب، لا بالتحصين لاستحالته.
م: (ولهذا) ش: أي لأجل كون المقصود من النكاح في المستقبل الإعفاف م: (لو حلف لا يتزوج ينصرف) ش: يمينه م: (إلى الجائز) ش: ولا ينصرف إلى الفاسد، فلا يحنث بالفاسد. ولو حلف أنه ما تزوج، وقد كان تزوج فاسداً يحنث في يمينه لما ذكرنا أن مقصوده تحقق المخبر عنه، التحصين، كذا في " المبسوط ".
م: (بخلاف البيع) ش: يعني لو أمره بالبيع ينتظم الفاسد والصحيح م: (لأن بعض المقاصد) ش: وهو الإعتاق والهبة ونحو ذلك من التصرفات م: (حاصل) ش: وفسر قوله: بعض المقاصد بقوله: م: (وهو ملك التصرفات) ش: وقد ذكرناه م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن اللفظ) ش: تزوج م: (مطلق فيجري على إطلاقه) ش: ولا يقيد بالصحة، لأن الصحة والفساد، وصفتا العقد، والإذن من المولى في أصل العقد، فكذا يتقيد بصفة دون صفة م: (كما في البيع) ش: أي كما أن الأمر بالبيع مطلق ينتظم الفاسد والصحيح م: (وبعض المقاصد في النكاح الفاسد حاصل) ش: كان هذا جواباً عما يقال لا شيء يقصد به في النكاح الفاسد، فأجاب بقوله - وبعض المقاصد حاصل.
م: (كالنسب) ش: أي كثبوت النسب م: (ووجوب المهر والعدة) ش: أي وجوب العدة بشرط الدخول، أشار إليه بقوله: م: (على اعتبار وجود الوطء) ش: وكذا سقوط الحد من بعض المقاصد. وفي " قاضي خان " العبد أهل لمباشرة النكاح، وإنما يشترط رضا المولى عنه لتعلق المهر بماليته، وفي هذا لا فرق بين الصحيح والفاسد.
وفي " البدائع ": لو أذن له في النكاح الفاسد أيضاً، ودخل بها فيه يلزمه المهر في رقبته للحال بالاتفاق، ولو دخل في الموقوف، ثم أجازه المولى ففي القياس يلزمه مهران، مهر(5/213)
ومسألة اليمين ممنوعة على هذه الطريقة.
ومن زوج عبدا مأذونا له مديونا امرأة جاز، والمرأة أسوة للغرماء في مهرها، ومعناه إذا كان النكاح بمهر المثل، ووجهه أن سبب ولاية المولى ملك الرقبة على ما نذكره والنكاح لا يلاقي حق الغرماء بالإبطال مقصودا، إلا أنه إذا صح النكاح وجب الدين بسبب لا مرد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالدخول ومهر بالقصد بالإجازة، وفي الاستحسان يلزمه مهر واحد. م: (ومسألة اليمين ممنوعة على هذه الطريقة) ش: يعني طريقة إجراء اللفظ المطلق على الإطلاق، ولئن كان قول الكل فالعذر لأبي حنيفة أن مبنى الإيمان على العرف. وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هذه طريقة أخرى. وفي المسألة طريقتان: إحداهما ذكرت في المتن.
الثانية: أن الحاجة إلى إذن المولى لشغل رقبته بالمهر، لا بتمليك البضع، لأن العبد في حقه يبقى على أصل الحرية، ومسألة اليمين ممنوعة على الطريقة الأولى، لا على الطريقة الثانية، على ما لا يخفي. وثمرة اختلافهم في هذه المسألة تظهر فيما إذا جدد العقد عليها بشرائط الصحة بلا إذن، وتزوج امرأة أخرى صحيحاً بغير إذن لا يجوز عند أبي حنيفة، لانتهاء الأمر بالفاسد، وعندهما يجوز لعدم الانتهاء، لأنه لا يتناول الفاسد، كذا ذكر في " المبسوط ".
[زوج عبدا مأذونا له مديونا امرأة]
م: (ومن زوج عبداً مأذوناً له مديوناً امرأة جاز) ش: المراد بالمأذون المديون، صرح به في " الكافي " وجاز النكاح، والمهر في رقبته م: (والمرأة أسوة للغرماء في مهرها) ش: وقال الشافعي: المهر والنفقة يتعلقان بربح على ما في يده الحاصل بعد النكاح، وفي أظهر قوليه الربح سواء حصل بعد النكاح أو قبله، وهل يتعلق برأس المال فيه وجهان. أظهرهما لا يتعلق.
م: (ومعناه) ش: أي معنى قولنا: والمرأة أسوة للغرماء م: (إذا كان النكاح بمهر المثل) ش: تضرب المرأة في ثمن العبد بمهرها، وتضرب الغرماء على قدر ديونهم، وذلك كما إذا استهلك العبد مال إنسان يكون صاحب المال أسوة الغرماء.
م: (ووجه ذلك) ش: أي وجه كون المرأة أسوة للغرماء من حيث م: (أن سبب ولاية المولى) ش: للإنكاح م: (ملك الرقبة على ما نذكره) ش: أي فيما بعد هذه المسألة بقوله: - ولنا أن النكاح إصلاح ملكه - لأن في تحصينه عن الزنا الذي هو سبب الهلاك م: (والنكاح لا يلاقي حق الغرماء بالإبطال مقصوداً) ش: قيد بقوله - مقصوداً - لأن المانعية إنما تتحقق بذلك، وأما إذا كان خفياً فلا يعتبر به، وهاهنا كذلك، لأن محلية النكاح للآدمية، وحق الغرماء لا يلاقيها.
م: (إلا أنه إذا صح النكاح) ش: فولاية المولى تحصينا لملكه م: (وجب الدين بسبب لا مرد(5/214)
له فشابه دين الاستهلاك، وصار كالمريض المديون إذا تزوج امرأة، فمهر مثلها أسوة للغرماء.
/
ومن زوج أمته فليس عليه أن يبوئها بيت الزوج، ولكنها تخدم المولى، ويقال للزوج: متى ظفرت بها وطئتها؛ لأن حق المولى في الاستخدام باق، والتبوئة إبطال له، فإن بوأها معه بيتا فلها النفقة والسكنى، وإلا فلا؛ لأن النفقة تقابل الاحتباس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
له) ش: لعدم انفكاك النكاح عن ثبوت المال، وإن كان كذلك م: (فشابه دين الاستهلاك) ش: فإن العبد المأذون المديون إذا استهلك مال إنسان صار صاحب المال أسوة الغرماء م: (وصار) ش: أي العبد المأذون والمديون م: (كالمريض المديون إذا تزوج امرأة، فمهر مثلها أسوة للغرماء) ش: أي وارد بالأسوة المساوية في طلب الحق - أي غرماء الصحة، وإذا كان مهر المثل أكثر منه، فلا تساويهم، بل تؤخر إلى استيفائهم مهر مثلها حقهم، كدين الصحة مع دين المرض.
فإن قلت: المهر يتعلق بمالية رقبته، وفيه إضرار بالغرماء فوجب أن لا يصح.
قلت: لا نسلم ذلك، فالنكاح لا تعلق له بمالية رقبته، وهذا يصح نكاح الحر، ولا مالية في رقبته، والأخ والعم يزوجان الصغيرة، وليس لهما ولاية التصرف في المال، وحق الغرماء يتعلق بالمالية، فلم يلاق وجوب المهر حقهم، فيصح بالمهر.
[استخدام الأمة بعد زواجها]
م: (ومن زوج أمته فليس عليه أن يبوئها بيت الزوج) ش: يقال: بوأه منزلا، وبوأه له إذا أسكنه إياه، ولا خلاف فيه لأحد الفقهاء، ولكن قال الشافعي، وأحمد: يستخدمها بالنهار ويسلمها ليلا إلى زوجها.
وقال مالك: يسلمها إليه ليلة بعد ثلاث، ويأتيها زوجها فيما بين ذلك عند أهلها. وفي " الجواهر " للمالكية: استخدام الأمة لا يبطل بالتزويج، ويحرم على السيد الاستمتاع بها، وليس عليه أن يبوئها منزلا، إلا أن يشترط ذلك في العقد، وبه قال أحمد بن حنبل، وعندنا شرط ذلك باطل، لا يمنعه من استخدامها، لأن الحق للزوج حل الوطء في النكاح لا غير.
م: (ولكنها تخدم المولى، ويقال للزوج متى ظفرت بها وطئتها؛ لأن حق المولى في الاستخدام باق، والتبوئة إبطال له) ش: أي لحق المولى م: (فإن بوأها معه) ش: أي مع الزوج م: (بيتا، فلها النفقة، والسكنى) ش: على الزوج، م: (وإلا فلا) ش: إن لم يبوئها معه فلا يلزم النفقة، والسكنى على الزوج.
م: (لأن النفقة تقابل الاحتباس) ش: يعني جزاء الاحتباس، ولم يوجد، لكن هذا في غير المكاتبة، لأن المكاتبة لها النفقة والسكنى، وإن لم توجد التبوئة، وبه صرح في شرح كتاب النفقات للخصاف، والفرق بينها وبين الأمة والمدبرة، وأم الولد أن المولى لا يملك استخدام المكاتبة، فلا يحتاج إلى تبوئة المولى بخلافهن، فإن للمولى استخدامهن.(5/215)
ولو بوأها بيتا ثم بدا له أن يستخدمها له ذلك، لأن الحق باق لبقاء الملك، فلا يسقط بالتبوئة، كما لا يسقط بالنكاح،
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر تزويج المولى عبده وأمته، ولم يذكر رضاهما، وهذا يرجع إلى مذهبنا لأن للموالي إجبارهما على النكاح. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا إجبار في العبد، وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو بوأها بيتاً ثم بدا له أن يستخدمها له ذلك، لأن الحق باق لبقاء الملك، فلا يسقط بالتبوئة، كما لا يسقط بالنكاح) ش: وظهر، أي ثم ظهر للمولى، أي كما لا يسقط حق المولى بإنكاحه إياها، لأن المستحق للزوج ملك النكاح لا غير.
فإن قلت: ينبغي أن لا تسقط النفقة بالاستخدام بعد التبوئة كالحرة إذا منعت نفسها لاستيفاء الصداق.
قلت: القياس غير صحيح، لأن المقيس عليه وجد التفويت من قبل الزوج، فكان امتناعها بحق، فلم تسقط نفقتها، وفيما نحن فيه لم يوجد التفويت، والنفقة جزاء الاحتباس ولم يوجد فسقطت النفقة.
فإن قلت: ينبغي أن يجب عليه التبوئة، لأنه لما ملك الزوج منافع بعضها يجب عليه تسليمها، والتبوئة من التسليم.
قلنا: التبوئة أمر زائد على التسليم، فإن التسليم يتحقق بدون التبوئة، بأن قال له: متى ظفرت بها وطئتها فلا يلزمه التبوئة جمعاً بين الحقين بقدر الإمكان، ولو جاءت الأمة بولد، فنفقة ولدها على مولاها، لأنه مالكه لا على الأب، وذكر في " الجواهر ": أن للزوج المسافرة بها، ويخرج معها، والنفقة عليه إذا بوأها بيتاً، والمهر للأمة مال من مالها، فلم ينزعه السيد وفي " المغني " إذا أراد الزوج المسافرة بها فليس له ذلك، وإن أراد السيد السفر بها، قال ابن حنبل: لا أدري.
[تزويج المولى عبده وأمته ولم يذكر رضاهما]
م: (قال:) ش: أي المصنف م: (ذكر) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (تزويج المولى عبده وأمته، ولم يذكر رضاهما) ش: يعني لم يقل: إن رضاهما شرط لصحة النكاح أم لا م: (وهذا يرجع إلى مذهبنا) ش: وهو تزويجه بلا رضاها، وهو معنى قوله: م: (لأن للمولى إجبارهما على النكاح) ش: قال في " شرح الطحاوي ": للمولى أن يزوج أمته على كره منها، صغيرة كانت أو كبيرة، بالإجماع. وأما في العبد إذا كان صغيراً فكذلك، وإن كان كبيراً فكذلك عندنا في ظاهر الرواية. وروي عن أبي يوسف أنه قال: لا يجوز إلا برضا العبد، وهو قول الشافعي المشار إليه بقوله:
م: (وعند الشافعي لا إجبار للعبد) ش: وبه قال أحمد م: (وهو رواية عن أبي حنيفة) ش: قال الوبري: هو رواية الطحاوي، عن أبي حنيفة، وهي رواية شاذة، وقال الشافعي - في(5/216)
لأن النكاح من خصائص الآدمية والعبد داخل تحت ملك المولى من حيث إنه مال، فلا يملك إنكاحه، بخلاف الأمة؛ لأنه مالك منافع بضعها فيملك تمليكها. ولنا أن الإنكاح إصلاح لملكه؛ لأن فيه تحصينه عن الزنا، الذي هو سبب الهلاك أو النقصان فيملكه اعتبارا بالأمة، بخلاف المكاتب والمكاتبة، لأنهما التحقا بالأحرار تصرفا، فيشترط رضاهما.
قال: ومن زوج أمته، ثم قتلها قبل أن يدخل بها الزوج فلا مهر لها، عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: عليه المهر لمولاها اعتبارا بموتها حتف أنفها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القديم -، ومالك وأحمد - في رواية - كقولنا، وهذا الخلاف في العبد، أما في الأمة يجوز عقده، عليها بغير رضاها بالإجماع ولا يجوز تزويج المكاتب والمكاتبة جبرا بالإجماع، وكذا في المستسعاة عند أبي حنيفة، والشافعي، ومالك وأحمد.
م: (لأن النكاح من خصائص الآدمية، والعبد داخل تحت ملك المولى من حيث إنه مال، فلا يملك إنكاحه، بخلاف الأمة، لأنه مالك منافع بضعها، فيملك تمليكها) ش: بلا رضاها؛ لكونه تصرفا في خالص ملكه. م: (ولنا أن الإنكاح إصلاح لملكه) ش: يعني أن مملوكه [ ... ] رقبته، فيملك كل تصرف يشعر بصيانة ملكه فيه، والنكاح منه م: (لأن فيه تحصينه عن الزنا، الذي هو سبب الهلاك أو النقصان) ش: إذ بالجلد ربما يهلك لخرق الجلد أو الجرح، فالنقصان لازم، ألا ترى أنه لو اشترى عبدا حد في الزنا، فله الرد، فكان في النكاح صونه عنهما م: (فيملكه) ش: بلا رضاه.
م: (اعتبارا بالأمة) ش: والجامع قيام سبب الولاية، وهو ملك الرقبة وتحصين ملكه عن الزنا الموجب للهلاك والنقصان، وليس المناط في جواز إنكاح الأمة جبرا تملك منافع بضعها؛ لأنه لا يطرد مع الإجبار ولا ينعكس، فإن الزوج يملك منافع بضع المرأة ولا يقدر تزويجها، والمولى يملك تزويج الصغيرة، ولا يملك منافع بضعها، فكان التعديل به فاسدا.
م: (بخلاف المكاتب والمكاتبة) ش: هذا جواب عما يقال: لو كان الإجبار باعتبار تحصين الملك لجاز في المكاتب والمكاتبة، ولم يجز، فأجاب بقوله: بخلاف المكاتب والمكاتبة.
م: (لأنهما التحقا بالأحرار تصرفا) ش: أي من حيث التصرف، ففي ملك السيد نظر لهما، لقصور ملكه فيهما؛ لأنهما مالكان يدا؛ فيكون في تزويجهما تفويت لملك التصرف عليهما فإذا كان كذلك م: (فيشترط رضاهما) ش: أي إذا أراد المولى تزويجهما.
[زوج أمته ثم قتلها قبل أن يدخل بها الزوج]
م: (قال: ومن زوج أمته، ثم قتلها قبل أن يدخل بها الزوج فلا مهر لها عند أبي حنيفة) ش: وبه قال الشافعي وأحمد م: (وقالا: عليه المهر لمولاها اعتبارا بموتها حتف أنفها) ش: أي على الزوج المهر لمولى الأمة التي قتلها، قيد بقوله: - ثم قتلها -؛ لأنه إذا قتلها أجنبي لا يسقط المهر بالاتفاق، وقيد بقوله: - قبل أن يدخل الزوج بها -؛ لأنه إذا قتلها بعد الدخول لا(5/217)
وهذا لأن المقتول ميت بأجله، فصار كما إذا قتلها أجنبي. وله أنه منع المبدل قبل التسليم، فيجازى بمنع البدل، كما إذا ارتدت الحرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يسقط بالاتفاق، وإذا غيبها المولى بمكان لا يقدر عليه الزوج لا يطالبه بالمهر بالاتفاق، وكذا إذا غابت في مكان لا يقدر عليها، أو باعها من سلطان، أو غيره، فذهب بها من المصر فإنه يسقط المطالبة بالمهر عن الزوج، وكذا لو أعتقها قبل الدخول، فاختارت نفسها.
وإذا ارتدت الأمة، أو الحرة قبل الدخول يسقط المهر بالاتفاق، والحرة إذا قتلت نفسها فيه روايتان عن أبي حنيفة. وفي " المنهاج ": لو قتلت المرأة نفسها أو قتلها أجنبي لا يسقط مهرها عند الشافعي قبل الدخول لا يسقط بالاتفاق. والأمة إذا قتلت نفسها، أو قتلها أجنبي لا يسقط مهرها عند الشافعي، وفي " الجواهر ": لو قتل الأمةَ سيدها أو أجنبي أو قتلت نفسها، أي قياسها على موتها حتف أنفها، قال في " المغرب ": قولهم: - مات حتف أنفه - إذا مات على الفرش، قيل: هذا في حق الآدمي، ثم عمر في كل حيوان إذا مات.
وقال ابن الأثير: مات على حتف أنفه كأنه سقط لأنفه فمات والحتف الهلاك، كانوا يتخيلون أن روح المؤمن تخرج من أنفه، فإذا جرح خرجت من جراحته.
م: (وهذا) ش: أي اعتبار قتلها بموتها حتف أنفها م: (لأن المقتول ميت بأجله) ش: لا أصل له سوى هذا عند أهل السنة والجماعة م: (فصار) ش: أي حكم هذا م: (كما إذا قتلها أجنبي) ش: حيث لا يسقط.
م: (وله) ش: أي لأبي حنيفة م: (أنه) ش: أي أن الولي م: (منع المبدل) ش: وهو البضع م: (قبل التسليم) ش: أي قبل تسليمه إلى الزوج م: (فيجازى بمنع البدل) ش: وهو المهر م: (كما إذا ارتدت الحرة) ش: حيث يسقط مهرها مجازاة لفعلها، فكذلك هاهنا مجازاته تمنع البدل.
وقال الكاكي: إذا كان من أهل المجازاة تحقيقا للمساواة، ثم قال: وإنما قيدنا بقولنا: إذا كان من أهل المجازاة، لأن الصغيرة لو ارتضعت من أم زوجها أو المجنونة قبلت ابن زوجها بشهوة قبل الدخول، حتى بانتا لم يسقط المهر؛ لأنهما ليسا من أهل المجازاة بخلاف المولى، فإنه من أهل المجازاة، حتى يجب عليه الكفارة.
ولو كان المولى صبيا قالوا: يجب أن لا يسقط المهر على قول أبي حنيفة، بخلاف الصغيرة إذا ارتدت حيث يسقط مهرها بالارتداد؛ لأن الارتداد محظور في حقها، ولهذا يحرم عن الميراث، وإنما قيدنا بالارتداد بالحرة؛ لأن في ارتداد الأمة هل يسقط مهرها؟ لا رواية عن أصحابنا فيه، واختلف المشايخ فيه، قيل: لا يسقط، وقيل: يسقط.(5/218)
والقتل في أحكام الدنيا جعل إتلافا حتى وجب القصاص والدية، فكذا في حق المهر.
وإن قتلت حرة نفسها قبل أن يدخل بها زوجها فلها المهر، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، هو يعتبره بالردة، وبقتل المولى أمته، والجامع ما بيناه. ولنا أن جناية العبد على نفسه غير معتبرة في حق أحكام الدنيا، فشابه موتها حتف أنفها، بخلاف قتل المولى أمته، لأنه معتبر في أحكام الدنيا، حتى تجب الكفارة عليه.
وإذا تزوج أمة فالإذن في العزل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والقتل في أحكام الدنيا) ش: هذا جواب عن قولهما: لأن المقتول ميت بأجله، بيانه: أن القتل مؤقت في الحقيقة بأجل عند الله تعالى، ولكن في أحكام الدنيا م: (جعل إتلافا حتى وجب القصاص) ش: في العمد م: (والدية) ش: في الخطأ، هذا لا يجب القصاص على المولى لاستحالة أنه يجب عليه له، لكن عليه الإثم م: (فكذا في حق المهر) ش: يعني أن القتل جعل إتلافا في حق القصاص والدية، فكذا جعل إتلافا في حق المهر، وجعل كأنه غير الموت، يعني كما أن القتل جعل إتلافا.
[قتلت حرة نفسها قبل أن يدخل بها زوجها]
م: (وإن قتلت حرة نفسها قبل أن يدخل بها زوجها فلها المهر، خلافا لزفر) ش: وبه قال الشافعي، وفي شرح " الكافي ": " خلافا للشافعي " مكان " خلافا لزفر "، ثم قال: وفي " المبسوط " قال: " الشافعي " مكان " زفر "، وفي " الكافي " ذكرهما، وهذا قول من الشافعي، وفي " الحلية ": المنصوص أنه لا يسقط مهر مثلها، وفي " شرح الوجيز ": للأصحاب فيه طريقان، أشهرهما: أن المسألة على قولين، بالنقل والتخريج، أحدهما: أنه يسقط كما قال زفر، والثاني: لا يسقط، وهو اختيار المزني.
م: (وهو يعتبره بالردة) ش: أي زفر يقيس حكم هذه المسألة على حكم الردة يعني إذا ارتدت الحرة قبل الدخول بها م: (وبقتل المولى أمته) ش: أي ويعتبر أيضا بقتل المولى أمته م: (والجامع) ش: أي الجامع بين المقيس، وهو قتل الحرة نفسها، وبين المقيس عليه، وهو ردة الحرة قبل الدخول، وقتل المولى أمته م: (ما بيناه) ش: وهو أن من له حكم منع المبدل يجازى بمنع البدل، وقياس زفر قتل المولى أمته، إنما يصح على قول أبي حنيفة؛ لأن أبا يوسف ومحمد لا يقولان بسقوط المهر في قتل المولى أمته.
م: (ولنا أن جناية العبد على نفسه غير معتبرة في حق أحكام الدنيا) ش: لهذا قال أبو حنيفة ومحمد: إنها تغسل ويصلى عليها م: (فشابه) ش: أي قتلها نفسها م: (موتها حتف أنفها) ش: فإنها إذا ماتت حتف أنفها لا يسقط مهرها بالاتفاق م: (بخلاف قتل المولى أمته) ش: جواب عن قوله: ويقتل المولى أمته م: (لأنه يعتبر في حق أحكام الدنيا، حتى تجب الكفارة عليه) ش: يعني إذا قتلها خطأ، وكذلك يجب الضمان على المولى إن كان عليها دين.
[العزل عن الأمة]
م: (وإذا تزوج أمة فالإذن في العزل) ش: وهو أن يطأها ويعزل شهوته عنها، كي لا يتولد(5/219)
إلى المولى، عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - أن الإذن إليها لأن الوطء حقها حتى تثبت لها ولاية المطالبة، وفي العزل ينقص حقها، فيشترط رضاها كما في الحرة، بخلاف الأمة المملوكة؛ لأنه لا مطالبة لها، فلا يعتبر رضاها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الولد م: (إلى المولى عند أبي حنيفة) ش: العزل في الأمة المملوكة حلال بإجماع العلماء، وفي الأمة المنكوحة يجوز عند الشافعي في الأصح بغير الرضا وبالإذن يجوز عندنا، وللشافعي وجه، ومالك وأحمد، ولكن ولاية الإذن للمولى عند أبي حنيفة.
م: (وعن أبي يوسف ومحمد أن الإذن إليها) ش: أي الأمة، قاله الأترازي.
وفي بعض نسخ " الهداية ": وعن أبي يوسف ومحمد: أن الإذن إليها وهو أصح؛ لأن هذه المسألة من مسائل " الجامع الصغير " وصورتها فيه، روى محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في رجل زوج أمته، فأراد أن يعزل عنها، قال: الإذن في العزل إلى المولى، ولم يذكر الخلاف، فدل أن ظاهر الرواية عنهما، كما قال أبو حنيفة، ولهذا قال فخر الإسلام البزدوي في شرح " الجامع الصغير ": وعن أبي يوسف ومحمد أن العزل إليها قلت: وفي " خير المطلوب: ولم يذكر عنهما خلافا، وفيه عنهما بالإذن إليها.
وفي " ملتقى البحار ": الأمة تحت حر وعبد، لا يعزل الزوج عنها إلا بإذن المولى عند أبي حنيفة رضيت الأمة أو لم ترض، وهكذا في " البدائع " و" قاضي خان ".
وقال ابن حزم في " المحلى ": لا يحل العزل عن الحرة، ولا عن الأمة، وقال ابن المنذر في " الأشراف ": رخص في العزل عن جارية جماعة من الصحابة علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وأبو أيوب الأنصاري، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأنس، وأبي، والحسن بن علي، وخباب بن الأرت - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وبه قال سعيد بن المسيب، وطاوس، وعن أبي بكر، وعمر، وابن مسعود، وابن عمر، كراهته.
م: (لان الوطء حقها) ش: أي حق الأمة المنكوحة م: (حتى تثبت لها ولاية المطالبة) ش: فلا يجوز بغير رضاها م: (وفي العزل ينقص حقها فيشترط رضاها كما في الحرة) ش: أي كما يشترط الرضا في الحرة؛ لأن لها مطالبة الزوج بالوطء بالإجماع، لأن النكاح صيانة لها عن السفاح، وذا بقضاء الوطء.
م: (بخلاف الأمة المملوكة) ش: حيث يجوز لمولاها أن يعزل رضيت أم لم ترض م: (لأنه لا مطالبة لها) ش: أي للأمة المملوكة م: (فلا يعتبر رضاها) ش: والمكاتبة كالأمة عند الجمهور، وقال: له قوله: تخيير المكاتبة، وصح ذلك عن الحسن، وهو قول الحسن، وأبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي.(5/220)
وجه ظاهر الرواية أن العزل يخل بمقصود الولد، وهو حق المولى فيعتبر رضاه وبهذا فارقت الحرة. وإن تزوجت أمة بإذن مولاها، ثم أعتقت فلها الخيار حرا كان زوجها أو عبدا «لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لبريرة حين أعتقت: "ملكت بضعك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال سفيان الثوري: إن تزوجها بعد الكتابة فلا خيار لها، وإن تزوجها قبل الكتابة فلها الخيار، وقال قوم: إنها تخير تحت العبد، ولا تخير تحت الحر، وهو قول الحسن، والزهري، وأبي قلابة، وعطاء، وعروة، ونسب ذلك إلى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وهو قول ابن أبي ليلى، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وابن حنبل، وابن راهويه، وأبي سليمان، وداود الطائي.
م: (وجه ظاهر الرواية أن العزل يخل بمقصود الولد، وهو حق المولى، فيعتبر رضاه) ش: ولا حق للأمة في قضاء الشهوة، لأن النكاح لم يشرع لها ابتداء، وبقاء، لهذا لا تتمكن من مطالبة مولاها بالتزويج، ويعذر الزوج على إبطال نكاحها بلا استطاعة رأيها، وإنما كانت الكراهة للولد، والولد حق المولى، فيشترط رضاه لا رضاها.
وفي " جامع المحبوبي " على هذا الخلاف حق الخصومة لو وجدت زوجها عنيناً فعنده يكون للمولى، وعندهما لها، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد، والأصل فيه ما روي أن الصحابة استأذنوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العزل فأذن لهم وقد جاء عن بعض المفسرين في قَوْله تَعَالَى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] (البقرة: الآية 223) إن شئتم عزلاً، وإن شئتم غير عزل، لما أن اليهود يكرهون العزل، ويقولون: هو الموءودة الصغرى، فنزلت فأجمعوا في الحرة أن العزل لا يجوز بغير رضاها لكن ذكر في " الفتاوى ": إن خاف الولد السوء في الحرة يسعه العزل في الحرة بغير رضاها لفساد الزمان، وكذا يسعها المعالجة لإسقاط ما لم يستبن شيء من خلقه ثم إذا عزل بإذن أو بغير إذن، ثم ظهر بها حمل هل يحل نفيه؟ قالوا: إن لم يعد إليها أو عاد ولكن بال قبل العود يحل النفي، وإن لم يبل لا يحل النفي، كذا روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
م: (وبهذا فارقت الحرة) ش: أي بتعليلنا أن العزل يحل بمقصود الولد، وهو حق المولى فارقت الأمة المنكوحة الحرة، لأن لها الحق في الولد دون الأمة، فلما وجد الفارق بطل القياس.
م: (وإن تزوجت أمة بإذن مولاها، ثم أعتقت فلها الخيار، حراً كان زوجها) ش: يعني لها الخيار سواء كان زوجها حال الإعتاق حرا أو عبداً، إن شاءت أقامت معه، وإن شاءت اختارت نفسها ففارقته، ولا مهر لها إن لم يدخل بها الزوج، وإن كان دخل بها فالمهر واجب لسيدها، وإن اختارت زوجها فالمهر لسيدها، دخل الزوج بها أو لم يدخل.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (لبريرة حين أعتقت: "ملكت بضعك(5/221)
فاختاري» فالتعليل بملك البضع صدر مطلقا، فينتظم الفصلين. وهو محجوج به،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فاختاري") » ش: هذا أخرجه الدارقطني عن عائشة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبريرة: "اذهبي فقد عتق معك بضعك» ".
ورواه ابن سعد في " الطبقات " أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء عن داود بن أبي هند عن عامر الشعبي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبريرة لما أعتقت: "قد عتق بضعك معك، فاختاري» وهذا مرسل، وروى البخاري ومسلم، عن القاسم، «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كانت في بريرة ثلاث سنن ... إلى آخر الحديث، وفيه: وعتقت، فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من زوجها فاختارت نفسها» .
م: (فالتعليل بملك البضع صدر مطلقاً) ش: يعني أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل علة ثبوت الخيار ملك البضع، ولم يفصل بينهما إذا كان زوجها حراً أو عبداً. م: (فينتظم الفصلين) ش: أي: فيشمل الفصلين، وهو ما إذا كان زوجها حرا أو عبدا، حيث لا يثبت لها الخيار إذا كان زوجها حراً، وبه قال مالك وأحمد م: (وهو محجوج به) ش: أي الشافعي محجوج بهذا الحديث، لأن التعليل بملك البضع مطلقاً ينتظم الفصلين.
واختلفت الروايات في زوج بريرة، هل كان حراً أو عبداً حين خيرت، فإن أصحابنا لا يفرقون بين الحر والعبد في ثبوت الخيار لها، والشافعي يقول: لها الخيار في العبد دون الحر، فمن أحاديث أنه كان حراً، ورواه الجماعة إلا مسلماً من حديث إبراهيم عن الأسود «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: يا رسول الله إني اشتريت بريرة لأعتقها ... الحديث، وفي آخره قال الأسود: فكان زوجها حراً» .
وقال البخاري: قول الأسود منقطع، وقول ابن عباس: رأيته عبداً أصح، وأخرجه البخاري أيضاً عن الحكم عن إبراهيم، وفي آخره قال الحكم: «وكان زوجها حراً» قال البخاري: وقول الحكم مرسل.
ومن أحاديثه أنه كان عبداً ما رواه الجماعة إلا مسلماً «عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أن زوج بريرة كان عبداً أسود، يقال له: مغيث» ... الحديث، ومنها ما رواه مسلم وأبو داود من حديث هشام بن عروة «عن عائشة محيلاً على ما قبله في قصة بريرة وزاد وقال: وكان زوجها عبداً، فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاختارت نفسها، ولو كان حراً لم يخيرها» .(5/222)
ولأنه يزداد الملك عليها عند العتق، فيملك الزوج بعده ثلاث تطليقات فتملك رفع أصل العقد دفعا للزيادة. وكذلك المكاتبة يعني إذا تزوجت بإذن مولاها، ثم أعتقت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنها ما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن سماك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه «عن عائشة: "أن بريرة خيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان زوجها عبداً» " ومنها ما أخرجه البيهقي عن نافع، «عن صفية بنت أبي عبيد أن زوج بريرة كان عبداً» وقال: إسناده صحيح، وقال الطحاوي: إذا اختلفت الآثار وجب التوفيق بينها فنقول: إنا وجدنا الحرية تعقب الرق، ولا ينعكس فيحمل على أنه كان حراً عندنا ما خيرت عبداً قبله، وإن ثبت أنه عبد ولا يبقى الخيار لها يجب إذا لم يخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه إنما خيرها لكونه عبداً، انتهى.
وقال الكاكي: ولو تعارضت الروايات بقي قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ملكت بضعك فاختاري» م: (ولأنه يزداد الملك) ش: دليل معقول، فنقول: بيانه أن ملك الزوج يزداد م: (عليها) ش: أي على الأمة م: (عند العتق) ش: أي عند عتقها، يعني عند عتق مولاها إياها، لأنها كانت تخلص من زوجها قبل العتق بطلاقين، فبعد العتق لا تخلص منه إلا بثلاث، وهي معنى قوله: م: (فيملك الزوج بعده) ش: أي بعد العتق م: (ثلاث تطليقات) ش: فيزداد ملك الزوج عليها بسبب العتق بتطليقة، فيملك ثلاث تطليقات. ثم هي لا تملك دفع تلك الزيادة إلا برفع أصل النكاح، م: (فتملك رفع أصل العقد رفعاً للزيادة) ش:، فأثبت الشارع لها الخيار، فلا يتمكن من ذلك إلا برفع أصل النكاح، فصار هذا كعبد بين اثنين كاتبه أحدهما فلان حرائر والكل، لأن له أن يرد نصيبه ولا يمكن ذلك إلا برد الكل، ولهذا لو اختارت نفسها كان فسخاً لا طلاقاً كخيار البلوغ، لأن سبب هذا الخيار يعني في جانبها وهو ملكها أمر نفسها، وكل فرقة كانت بسبب جهة المرأة لا يكون طلاقاً، ثم خيارها يقتصر على المجلس عندنا.
وعند الشافعي: في الأصح على الفور، وفي قول: على التراخي، وفي التراخي قولان: في قول إلى ثلاث أيام، وفي قول إلى أن يمكنه من وطئها، وإن اختارت نفسها، فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها، لأن فسخ النكاح جاء من قبلها وبعده، فالمهر لسيدها، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
م: (وكذلك المكاتبة) ش: هذا لفظ القدوري، وفسره المصنف بقوله م: (يعني إذا تزوجت بإذن مولاها، ثم أعتقت) ش: بأداء بدل الكتابة كان لها الخيار، سواء كان زوجها حراً أو عبداً لزيادة الملك عليها، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد.(5/223)
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا خيار لها، لأن العقد نفذ عليها برضاها، وكان المهر لها، فلا معنى لإثبات الخيار، بخلاف الأمة، لأنه لا يعتبر رضاها. ولنا أن العلة ازدياد الملك، وقد وجدناها في المكاتبة، لأن عدتها قرءان وطلاقها ثنتان
وإن تزوجت أمة بغير إذن مولاها، ثم أعتقت صح النكاح، لأنها من أهل العبادة، وامتناع النفوذ لحق المولى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال زفر: لا خيار لها، لأن العقد نفذ عليها) ش: أي على المكاتبة م: (برضاها، وكان المهر لها، فلا معنى لإثبات الخيار) ش: وتحقيق كلام زفر وثبوت الخيار من الأمة لنفوذ العقد عليها بغير رضاها، وسلامة المهر لمولاها، وهذا غير موجود هنا، لأن المهر لها ولا ينفذ نكاحها إلا برضاها، وقال ابن أبي ليلى: إن أعانها على بدل الكتابة لا خيار لها، وإن لم يعنها فلها الخيار م: (بخلاف الأمة، لأنه لا يعتبر رضاها) ش: في التزويج وقد ذكرناه.
م: (ولنا أن العلة) ش: أي علة إثبات الخيار للأمة بعد العتق، م: (ازدياد الملك عليها، وقد وجدناها) ش: أي العلة، وهي ازدياد الملك عليها م: (في المكاتبة) ش: والدليل على ذلك قوله م: (لأن عدتها) ش: أي عدة المكاتبة م: (قرءان) ش: أي حيضتان م: (وطلاقها ثنتان) ش: وكذا إيلاؤها شهران، فازداد كل ذلك بالعتق، كما في الأمة إذا أعتقت، فيكون لها الخيار، ولأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خير بريرة، وهي مكاتبة، ولو قيل: يحتمل أنها لم تكن مكاتبة وقت النكاح، وحينئذ لم يكن نفوذ نكاحها برضاها، قلنا: الظاهر أنها كانت مكاتبة وقت النكاح، لأن الحال يدل على ما قبله، على أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رتب الخيار على ملك بضعها، فكانت علة لثبوت الخيار والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فإن قيل: المكاتبة مالكة لبضعها قبل العتق، ولهذا يكون البدل لها، ولم يحل للمولى وطؤها، فلم يتناول النص، قلنا: إنها ليست بمالكة لبضعها، لأنها لا تملك نفسها، وبضعها جزؤها، فلا تملكه، وإن وجب البدل لها لأنها أحق باكتسابها، ولم يحل وطؤها، لأنه من منافعها.
[تزوجت أمة بغير إذن مولاها ثم أعتقت]
م: (وإن تزوجت أمة بغير إذن مولاها، ثم أعتقت صح النكاح) ش: وفي " المبسوط ": وكذا الحكم في العبد لو تزوج بغير رضا المولى، وكذا لو باعه ثم أجاز المشتري، فكان التخصيص بالأمة لها مسألة تمليكها، وهي المسألة المتعلقة بالخيار، وقال الشافعي ومالك وأحمد: لا يصح لأنه نكاح الفضولي، وبعبارة النساء فلا تنعقد أصلاً عندهم.
وفي " المبسوط ": وعن زفر أنه يبطل النكاح م: (لأنها) ش: أي لأن الأمة م: (من أهل العبادة) ش: حتى لو أقرت بدين صح، وتطالب بعد العتق، وأهلية العبادة من خواص العبادة، وهي فيها ميقات على أهل الحرية، فينعقد نكاحها.
م: (وامتناع النفوذ لحق المولى) ش: هذا جواب عما يقال: إذا كان الأمر كما ذكرت فلم لا(5/224)
وقد زال. ولا خيار لها، لأن النفوذ بعد العتق، فلا تتحقق زيادة الملك، كما إذا زوجت نفسها بعد العتق، فإن كانت تزوجت بغير إذنه على ألف، ومهر مثلها مائة، فدخل بها زوجها ثم أعتقها مولاها فالمهر للمولى، لأنه استوفى منافع مملوكة المولى، وإن لم يدخل بها حتى أعتقها فالمهر لها، لأنه استوفى منافع مملوكة لها، والمراد بالمهر الألف المسمى، لأن نفاذ العقد بالعتق استند إلى وقت وجود العقد، فصحت التسمية ووجب المسمى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ينفذ نكاحها؟ فأجاب بأن امتناع النفوذ أي نفوذ النكاح لحق المولى م: (وقد زال) ش: أي حقه بالعتق، م: (ولا خيار لها، لأن النفوذ بعد العتق فلا يتحقق زيادة الملك) ش: للمولى م: (كما إذا زوجت نفسها بعد العتق) ش: حيث يسقط حق المولى، ويتم النكاح فعادت الحرية من جهتها.
م: (فإن كانت تزوجت بغير إذنه على ألف درهم، ومهر مثلها مائة فدخل بها زوجها، ثم أعتقها مولاها فالمهر لمولاها) ش: والنكاح صحيح، ولا خيار لها، وفي نفاذ النكاح، خلاف زفر كما في المسألة المتقدمة، إنما قال: والحال أن مهر مثلها مائة، ليعلم أن المسمى، وإن زاد على مهر المثل فهو للمولى، إذا كان الدخول قبل العتق، وإنما كان المهر كله للمولى م: (لأنه) ش: أي لأن الزوج م: (استوفى منافع مملوكة المولى) ش: فيجب البدل به.
م: (وإن لم يدخل بها حتى أعتقها فالمهر لها، لأنه استوفى منافع مملوكة لها) ش: فيجب البدل لها م: (والمراد بالمهر الألف المسمى) ش: هذا جواب عما يقال: كان ينبغي أن يكون للمولى مهر المثل بالدخول قبل العتق بالغاً ما بلغ، كما قال الشافعي وغيره وهو القياس، فأجاب بقوله: والمراد بالمهر المذكور بقوله: فالمهر للمولى، وفي قوله: بالمهر لها هو الألف المسمى، لا مهر المثل.
م: (لأن نفاذ العقد بالعتق استند إلى وقت وجود العقد) ش: لأن وجوب العقد بالدخول، إنما يكون باعتبار العقد م: (فصحت التسمية ووجب المسمى) ش: للمولى إذا أعتقها بعد الدخول، وللأمة إذا أعتقها قبله، فإن قيل: كيف يسند الجواز إلى وقت العقد، والمانع من الإسناد قائم، لأن المانع من الجواز هو الملك، والملك قد زال بالعتق مقتصر، ألا ترى أن الأمة إذا حرمت حرمة غليظة على زوج كان لها، قبل ذلك، وتزوجت بغير إذن المولى فدخل بها فأعتقها المولى لا تحل على الزوج الأول باعتبار العتق غير معتبر في حق هذا الدخول الذي كان قبل العتق.
أجيب: بأن ما ذكرته قياس، لأن القياس هو أن يلزمه مهران، مهر بالدخول قبل نفاذ النكاح، وهو مهر المثل، ومهر بالنكاح وهو المسمى لما ذكرت من وجود المانع عن الاسترداد، إلا أنهم استحسنوا فقالوا يلزمه مهر واحد، وهو المسمى وقت العقد، لأنه لو وجب مهراً بالدخول لوجب بحكم العقد، إذ لولاه لوجب الحد، فكان المهر واجباً بالدخول مضافاً إلى(5/225)
ولهذا لم يجب مهر آخر بالوطء في نكاح موقوف، لأن العقد قد اتحد باستناد النفاذ، فلا يوجب إلا مهرا واحدا.
ومن وطئ أمة ابنه، فولدت منه فهي أم وولد له، وعليه قيمتها ولا مهر عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العبد بإيجاب مهر آخر بالعقد، جمع بين المهرين بعقد واحد وهو ممتنع. م: (ولهذا) ش: أي ولأجل نفاذ العقد مسنداً إلى وقت وجوب العقد، وصحة التسمية، (لم يجب مهر آخر بالوطء في النكاح الموقوف لأن العقد قد اتحد باستناد النفاذ) ش: إلى أصله م: (فلا يوجب) ش: أي العقد المتحد م: (إلا مهراً واحداً) ش: لأنه لا يجوز أن يكون في العقد الواحد مهران.
[وطئ أمة ابنه فولدت منه]
م: (ومن وطئ أمة ابنه فولدت منه فهي أم ولد له) ش: أي للأب، وهذا إذا ادعاه الأب، وثبت النسب منه، وإنما يثبت إذا كانت الأمة في ملك الابن من وقت العلوق، إلى وقت الدعوى م: (وعليه قيمتها) ش: أي على الأب قيمة الجارية م: (ولا مهر عليه) ش: أي الأب أي العقر إذا ادعى الولد، سواء صدقه الابن، أو لم يصدقه، وتصير أمته أم الولد للأب وبه قال أحمد والشافعي في الصحيح، وقال المزني: لا تصير أم ولد له، روي ذلك عن مالك، لأنها ليست ملكاً له وقت الإحبال.
وفي " المبسوط " وغيره: العقر عبارة عن مهر المثل، وفي " مبسوط شيخ الإسلام ": ينظر إلى هذه المرأة بكم كانت تستأجر للزنا مع جمالها، وجاز الاستئجار على الزنا، فالقدر الذي يستأجر على الزنا يجعل مهراً.
وقال السروجي بعد قوله ولا مهر عليه: وقال زفر والشافعي وابن حنبل: يجب المهر، وفي " المنهاج ": يجب به عليه مهر ولا حد على الغاصب، وفي القديم يجب به عليه مهر ولا حد على الغاصب، وفي القديم يجب الحد، فإن أحبلها فالولد حر نسباً، والجارية تصير أم ولد في الأظهر إذا لم تكن أم ولد ابنه وعليه قيمتها مع المهر، لا قيمة ولده في الأصح.
وفي " المغني " إن علقت منه صارت أم ولده، وهو قال الثوري وإسحاق، ذكره ابن المنذر، وقال أبو ثور: إن علم أنها لا تحل له يجب الحد ولا يلزم الأب قيمة الجارية، ولا عقرها ولا قيمة الولد عند أحمد، قال وقال الشافعي: يلزمه ذلك إن حكم بأنها أم ولده، وقال ابن قدامة في " المغني " وقال أبو حنيفة: يلزمها قيمتها، لأنها حرمت على الابن فوطأها كالأم. وقال السروجي: وغلط في النقل، وهو كثير الخطأ والغلط في نقل مذهبنا، ولو كان الابن زوجها إياه جاز النكاح عندنا، وهو قال أهل العراق، وعند أهل الحجاز لا يجوز، وهو قول ابن حنبل.
وفي " المبسوط " لا يجوز للأب أن يتزوج بجارية ابنه عند الشافعي، واعلم أن جارية الابن لا تحل عند عامة العلماء، وقال ابن أبي ليلى: لا بأس به إذا احتاج إليها، وهو مذهب أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قياساً على الطعام، ومن الصحيحة قول العامة، قال السروجي:(5/226)
ومعنى المسألة أن يدعيه الأب، ووجهه: أن له ولاية تملك مال ابنه للحاجة إلى البقاء، فله تملك جارية ابنه للحاجة إلى صيانة الماء، غير أن الحاجة إلى إبقاء نسله دونها إلى إبقاء نفسه، فلهذا يتملك الجارية بالقيمة، والطعام بغير القيمة، ثم هذا الملك يثبت قبل الاستيلاد، شرطا له، إذ الصحيح حقيقة الملك أو حقه، وكل ذلك غير ثابت للأب فيها، حتى يجوز له التزوج بها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأجمعوا على أن الأب يحرم عليه وطء أمة ابنه، وذكر التمرتاشي أن العبد لو كان عبداً أو مكاتباً أو كافرا لم تجز دعوته، لعدم الولاية، والأب كالجد عند عدمه، وأما أب الأم فلا ولاية بحال، كذا في " جامع المحبوبي ".
م: (ومعنى المسألة أن يدعيه الأب) ش: إنما فسر المسألة بهذا، لأنها من مسائل " الجامع الصغير " ولم يذكر فيه الدعوى، بل قال: محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في رجل وطئ جارية ابنه فولدت منه، قال: هي أم ولده، وعليه قيمتها، ولا مهر عليه، وإنما ذكر القدوري الدعوة في باب الاستيلاد، فقال: إذا وطئ الأب جارية ابنه فجاءت بولد فادعاه، ثبت نسبه، وصارت أم ولده، وعليه قيمتها، وليس عليه عقرها ولا قيمة ولدها.
م: (ووجهه) ش: أي وجه ما قلنا م: (أن له) ش: أي أن للأب م: (ولاية تملك مال ابنه للحاجة إلى البقاء) ش: أي صيانة نفسه، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنت ومالك لأبيك» م: (فله) ش: أي فللأب م: (تملك جارية ابنه للحاجة إلى صيانة الماء) ش: لأن الماء حرموه، فوجب صون ماله عن الضياع بمال الابن، وذلك تمليك جاريته لتصحيح فعل الاستناد، إذ الاستناد إذا خلا عن الملك لغي، وإذا تملكها غرم قيمتها لابنه، لأن حاجته ليست بكاملة، لأنها ليست من ضرورات البقاء. م: (غير أن الحاجة) ش: هذا جواب عما يقال: لو كانت صيانة الماء لبقاء الأصل لما وجب عليه القيمة، كما في الطعام، فأجاب بقوله: غير أن الحاجة م: (إلى إبقاء نسله) ش: ولهذا لا يجبر الولد على إعطاء جارية والده للاستيلاد لكونه غير ضروري م: (فلهذا يتملك الجارية بالقيمة، والطعام بغير القيمة) ش: لأنه ضروري.
م: (ثم هذا الملك) ش: أي للأب هذا جواب عما يقال بطريق المعاوضة، فإن الاستيلاد يعتمد الملك كما في المملوكة، أو حق الملك، كما في المكاتبة وليس بشيء من ذلك وجود، فأجاب بقوله: ثم هذا الملك، م: (يثبت قبل الاستيلاد شرطاً له) ش: أي حال كونه شرطاً للاستيلاد م: (إذ الصحيح) ش: يعني الاستيلاد م: (حقيقة الملك) ش: كما في المملوكة م: (أو حقه) ش: كما في المكاتبة م: (وكل ذلك) ش: أي حقيقة الملك أو حق الملك م: (غير ثابت) ش: للأب فيها، حتى يجوز له التزوج بها ش: برفع يجوز، كقولهم: مرض فلان، حتى لا يرجونه وهو نتيجة لعدم ثبوت حقيقة الملك، وحق في جارية الابن للأب، يعني جاز للأب التزوج(5/227)
فلا بد من تقديمه، فتبين أن الوطء يلاقي ملكه، فلا يلزمه العقر. وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: يجب المهر، لأنهما يثبتان الملك حكما للاستيلاد، كما في الجارية المشتركة، وحكم الشيء يعقبه والمسألة معروفة. قال: ولو كان الابن زوجها أباه فولدت لم تصر أم ولد له، ولا قيمة عليه، وعليه المهر، وولدها حر، لأنه صح التزويج عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لخلوها عن ملك الأب، ألا ترى أن الابن ملكها من كل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بجارية الابن، فلو كان فيها حق لم يجز.
م: (فلا بد من تقديمه) ش: أي تقديم الملك على الوطء كي لا يقع فعله حراما، أو لكونه شرطاً لصحة الاستيلاد، وشرط الشيء يسبقه م: (فتبين أن الوطء يلاقي ملكه) ش: أي كأن الوطء وقع في ملكه م: (فلا يلزمه العقر) .
م: (وقال زفر، والشافعي: يجب المهر، لأنهما) ش: أي لأن زفر والشافعي م: (يثبتان الملك حكماً للاستيلاد) ش: فإنه سقط الإحصان بهذا الوطء، ولو كان في الملك لما سقط وحد قاذفه م: (كما في الجارية المشتركة) ش: فإنه إذا استولدها أحدهما، وادعى ولده فإنه يثبت نسبه، ويجب عليه نصف العقر م: (وحكم الشيء يعقبه) ش: لأن الأثر بعد المؤثر، وحكم الشيء الأثر الثابت به فالملك، أو شبهة الملك، ألا ترى أن هذا الوطء يثبت الإحصان بالإجماع، حتى لو قذفه إنسان يجب على قاذفه حد القذف، وعليه شمس الأئمة السرخسي.
أما في الجارية المشتركة الملك موجود قبل الوطء، فلا يحتاج إلى تقديم التمليك لصحة الاستيلاد، ولكن ملكه ناقص، فيجب نصف العقر بمصادفة الوطء لملك الغير من وجه.
فإن قيل: من العجب أن الجارية لو كانت مشتركة بين الأب والابن وولدت وادعاه الأب يثبت النسب ويجب العقر إجماعاً قلنا: العقر لأن الوطء فيما نحن فيه صادف المحل الخالي عن الملك وشبهه فلا يحتاج إلى إثبات الملك في الكل، فيجب نصف العقر، كما في المشتركة بين الوطء، وبين أجنبي، كذا في " جامع المحبوبي ".
م: (والمسألة معروفة) ش: أي في " الجامع الصغير " وغيره. م: (قال: ولو كان الابن زوجها أباه فولدت منه) ش: أي من الأب م: (لم تصر أم ولد له) ش: أي للأب م: (ولا قيمة عليه، وعليه) ش: أي للأب م: (المهر، وولدها حر، لأنه صح التزويج عندنا خلافاً للشافعي) ش: فعنده لا يجوز تزويجه جارية الابن، لأن للأب حق الملك في مال ولده، حتى لو وطئ جاريته عالماً بحرمتها عليه لم يلزمه الحد، وكل من له حق الملك في جارية لا يجوز تزويجه إياها، كالمولى إذا تزوج أمة من كسب مكاتبه، لأن حق الملك من مال ولده ظاهر، ألا ترى أن استيلاده في جارية ابنه صحيح، واستيلاد المولى أمة مكاتبة غير صحيح. ولنا ما ذكره المصنف بقوله: م: (لخلوها) ش: أي لخلو الجارية م: (عن ملك الأب، ألا ترى أن الابن ملكها من كل(5/228)
وجه، فمن المحال أن يملكها الأب من وجه، وكذا يملك من التصرفات ما لا يبقى معها ملك الأب لو كان، فدل ذلك على انتفاء ملكه، إلا أنه يسقط الحد للشبهة، فإذا جاز النكاح صار ماؤه مصوناً، فلم يثبت ملك اليمين فلا تصير أم ولد له، ولا قيمة عليه فيها ولا في ولدها، لأنه لم يملكهما، وعليه المهر، لالتزامه بالنكاح، وولدها حر، لأنه ملكه أخوه فيعتق عليه بالقرابة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجه) ش: بدلالة حل الوطء ونفاذ الإعتاق م: (فمن المحال أن يملكها الأب من وجه) ش: لأن الجمع بين الملكين لشخصين في محل واحد، في زمان واحد ممتنع، ولو كان للأب فيها حق ملك لم يحل للابن وطؤها كالمكاتب لا يحل له وطء أمته.
م: (وكذلك يملك الابن من التصرفات) ش: كالوطء والبيع والتزويج والهبة والإعتاق والإجارة وغيرها م: (ما لا يبقى معها) ش: أي مع هذه التصرفات م: (ملك الأب لو كان) ش: أي ملك الأب م: (فدل ذلك على انتفاء ملكه) ش: أي ملك الأب م: (إلا أنه يسقط الحد) ش: هذا جواب عما يقال من جهة الخصم، يعني ينبغي أن يجب الحد بالوطء، ثم يثبت للأب حق الملك، فأجاب بقوله: إلا أنه يسقط الحد عن الأب م: (للشبهة) ش: أي لشبهة الملك بظاهر الحديث: «أنت ومالك لأبيك» .
م: (فإذا جاز النكاح صار ماؤه مصوناً به) ش: أي النكاح م: (فلم يثبت ملك اليمين) ش: لعدم الحاجة إليه م: (فلا تصير أم ولد له) ش: لأنه لو استولدها فيجوز، صارت أم ولد له، فبالنكاح أي شبهة النكاح أولى أن تصير أم ولد له، لأنه لو استولدها فلا يحتاج إلى ملك اليمين لم يكن إثباته إلا لصيانة الماء م: (ولا قيمة عليه فيها) ش: أي ولا قيمة واجبة على الأب في الجارية م: (ولا في ولدها) ش: أي ولا عليه قيمته في ولد الجارية.
م: (لأنه) ش: أي لأن الأب م: (لم يملكهما) ش: أي لم يملك الجارية والابن م: (وعليه المهر لالتزامه) ش: أي لالتزام الأب م: (بالنكاح) ش: أي بسبب النكاح التزام المهر م: (وولدها حر لأنه ملكه أخوه، فيعتق عليه) ش: وبه قال مالك، وقال الشافعي: لا عتق في ملك غير الوالدين والمولودين، على ما يجيء في الإعتاق.
وعن حميد الدين الضرير: فيه اختلاف عند البعض يعتق قبل الانفصال، وثمرته تظهر في الإرث، حتى لو مات المولى وهو الابن يرث الولد على قول من قال: يعتق قبل الانفصال وعلى قول من قال: لا يعتق قبل الانفصال لا يرث.
وأما إذا مات المولى، لأن الرق مانع من الإرث، قيل: الوجه هو الأول، لأن الولد حدث على ملك الأخ من حيث العلوق، فلما ملكه عتق عليه م: (بالقرابة) ش: بالحديث.(5/229)
قال: وإذا كانت الحرة تحت عبد فقالت لمولاه: أعتقه عني بألف ففعل فسد النكاح. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يفسد، وأصله أنه يقع العتق عن الآمر عندنا، حتى يكون الولاء له. ولو نوى به الكفارة يخرج عن العهدة، وعنده يقع عن المأمور؛ لأنه طلب أن يعتق المأمور عبده عنه، وهذا محال؛ لأنه لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم، فلم يصح الطلب، فيقع العتق عن المأمور. ولنا أنه أمكن تصحيحه بتقديم الملك بطريق الاقتضاء، إذ الملك شرط لصحة العتق عنه، فيصير قوله "أعتق" طلب التمليك منه بالألف، ثم أمره بإعتاق عبد الآمر عنه، وقوله "أعتقت" تمليكا منه، ثم الإعتاق عنه، وإذا ثبت الملك للآمر فسد النكاح للتنافي بين الملكين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كانت الحرة تحت عبد فقالت لمولاه أعتقه عني بألف ففعل]
م: (قال) ش: محمد في " الجامع الصغير ": م: (وإذا كانت الحرة تحت عبد، فقالت لمولاه: أعتقه عني بألف ففعل) ش: أي ما قالته م: (فسد النكاح) ش: أي انفسخ، وبه قال الشافعي، وللمولى على الزوجة ألف.
م: (وقال زفر: لا يفسد وأصله) ش: أي أصل هذا الخلاف م: (أنه يقع العتق عن الآمر عندنا حتى يكون الولاء له، ولو نوى به الكفارة) ش: أي ولو نوى بعتقه الكفارة التي عليه، أي كفارة كانت م: (يخرج عن العهدة، وعنده) ش: أي عند زفر م: (يقع عن المأمور، لأنه طلب أن يعتق المأمور عبده عنده، وهذا محال؛ لأنه لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم فلم يصح الطلب، فيقع العتق عن المأمور) ش: أي لم يصح طلب العتق عن الآمر، فوقع عن المأمور.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن الشأن م: (أمكن تصحيحه) ش: أي تصحيح طلب الإعتاق منه م: (بتقديم الملك بطريق الاقتضاء) ش: وهو جعل غير المنطوق منطوقاً بصحة المنطوق، وزفر لا يقول بالاقتضاء م: (إذا الملك شرط لصحة العتق عنه، فيصير قوله: "أعتق" طلب التمليك منه بالألف، ثم أمره بإعتاق عبد الآمر عنه) ش: فيصير كأنه قال: العبد الذي كان لك الآن ملك لي بألف وأعتقه عني.
فإن قيل: كيف يصح هذا ولو صرح به بأن قال: ملكه عبدك عني، ثم كن وكيلاً بالإعتاق لا يصح؟ قلنا: كم من شيء يثبت ضمناً ولا يثبت قصداً.
م: (وقوله: أعتقت تمليكاً منه) ش: أي من المولى، وهو المأمور م: (منه) ش: أي من الآمر م: (ثم الإعتاق عنه) ش: بالنصب على أنه خبر صار أي من المولى، ثم يصير قول المأمور: أعتقت إعتاقاً عن الآمر م: (وإذا ثبت الملك للآمر فسد النكاح للتنافي بين الملكين) ش: أي بين ملك الرقبة وملك المتعة، قال الأترازي: وقال الكاكي: بين ملك اليمين وملك النكاح.
فإن قيل: ينبغي أن لا يفسد النكاح، لأن الملك ثبت ضرورة العتق وما يثبت بالضرورة يتقدر بقدرها، والضرورة في ثبوت العتق عن الأمر، لا في فساد النكاح.(5/230)
ولو قالت: أعتقه عني ولم تسم مالا لم يفسد النكاح، والولاء للمعتق، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا والأول سواء، لأنه يقدم التمليك بغير عوض تصحيحا لتصرفه، ويسقط اعتبار القبض، كما إذا كان عليه كفارة ظهار، فأمر غيره أن يطعم عنه. ولهما أن الهبة من شرطها القبض بالنص، فلا يمكن إسقاطه، ولا إثباته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلنا: الشيء إنما ثبت بلوازمه، وضروراته من لوازم ثبوت الملك العاري عن تعلق حق الغير به فساد النكاح.
فإن قيل: أليس أنه إذا قال لعبده: كفر يمينك بالمال عنه لا يعتق، فينبغي أن يثبت عتقه اقتضاء، لأنه لا يتمكن من التكفير بالمال إلا بالعتق.
قلنا: الحرية لا تصلح أن تثبت اقتضاء، لأن الثابت بالاقتضاء ثابت بالحرية، يصير أهلاً للتكفير بالمال، فكانت الحرية أصلاً فلا تثبت اقتضاء. م: (ولو قالت: أعتقه عني، ولم تسم مالاً لا يفسد النكاح) ش: يعني لو قالت الحرة المذكورة لمولى العبد: أعتقه عني ولم تذكر مالاً لا يفسد النكاح.
م: (والولاء للمعتق) ش: وتسقط الكفالة عنه إذا نوى، ولا يلزم الألف.
وقال زفر: يقع العتق عن المأمور، حتى يكون الولاء له، وتسقط الكفارة عنه إذا نوى، ولا يلزم الألف على الأمر م: (وهذا) ش: الحكم المذكور م: (عند أبي حنيفة، ومحمد وقال أبو يوسف: هذا والأول سواء) ش: أي عدم ذكر المبدل مع ذكر البدل سواء، يعني يقع العتق عن الأمر في الصورتين عند أبي يوسف.
وبه قال الشافعي م: (لأنه) ش: أي لأن أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - م: (يقدم التمليك بغير عوض) ش: يعني بطريق الهبة م: (تصحيحاً لتصرفه) ش: أي لتصرف الآمر، لما أن تصحيح كلام العاقل واجب مهما أمكن، وقد أمكن هنا بقوله: م: (ويسقط اعتبار القبض) ش: لأنه شرط، وقد أمكن ذلك بإسقاط القبول الذي هو ركن فلا يملك بإسقاط الشرط أولى فكان م: (كما إذا كان عليه كفارة ظهار، فأمر غيره أن يطعم عنه) ش: يعني إذا أمر المظاهر غيره، وقال: أطعم عني ستين مسكيناً، ففعل المأمور يقع الإطعام عن الآمر، وإن لم يوجد القبض.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - م: (أن الهبة من شرطها القبض بالنص) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تصح الهبة إلا مقبوضة» م: (فلا يمكن إسقاطه) ش: جواب عن قول أبي يوسف: إن القبض شرط، فيسقط تبعاً كالركن، فأجاب بقوله: م: (فلا يمكن إسقاطه) ش: جواب عن قول أبي يوسف م: (ولا إثباته) ش: أي إثبات القبض م:(5/231)
اقتضاء، لأنه فعل حسي، بخلاف البيع، لأنه تصرف شرعي، وفي تلك المسألة الفقير ينوب عن الآمر في القبض. فأما العبد فلا يقع في يده شيء لينوب عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(تبعاً له، لأنه فعل حسي) ش: يعني ليس من جنس القولي، فلا يتضمن الشيء أقوى منه م: (بخلاف البيع لأنه تصرف شرعي) ش: يعني الإيجاب والقبول قولي فجاز أن يتضمنه القول، وهو قوله: أعتق عبدك عني بألف، مع أن الركن في البيع يحتمل السقوط، كما في التعاطي.
فإن قيل: لو قال الآخر: أعتق عبدك عني بألف رطل من خمر ففعل فإنه يصح، ويعتق عنه، وإن لم يوجد القبض، والبيع الفاسد كالهبة في اشتراط القبض.
قلنا: قد ذكر الكرخي أن العتق يقع على المأمور هنا على قولهما، والمذكور قول أبي يوسف، ولئن سلم فالبيع الفاسد ملحق بالصحيح، ويأخذ الحكم منه، فاحتمل سقوط القبض كالصحيح، لأن حكمه يعرف في الصحيح.
م: (وفي تلك المسألة) ش: أي مسالة الكفارة م: (الفقير ينوب عن الآمر في القبض، فأما العبد فلا يقع في يده شيء) ش: بالإعتاق، لأن الإعتاق إزالة الملك وإتلاف المالية، ولا يقع في يده شيء م: (لينوب عنه) ش: أي لينوب عن العبدين الآمر.(5/232)
باب نكاح أهل الشرك وإذا تزوج الكافر بغير شهود، أو في عدة كافر آخر، وذلك في دينهم جائز، ثم أسلما؛ أقرا عليه، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: النكاح فاسد في الوجهين، إلا أنه لا يتعرض لهم قبل الإسلام، والمرافعة إلى الحكام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب نكاح أهل الشرك] [تزوج الكافر بغير شهود أو في عدة كافر آخر ثم أسلما]
م: (باب نكاح أهل الشرك)
ش: أي هذا باب في بيان نكاح أهل الشرك، وهم الذين لا كتاب لهم. م: (وإذا تزوج الكافر بغير شهود، أو في عدة كافر آخر، وذلك) ش: أي التزوج بغير شهود، أو في عدة الكافر م: (في دينهم جائز، ثم أسلما أقرا) ش: على صيغة المجهول م: (عليه) ش: أي على نكاحهما المذكور، قيد بعدة كافر، لأنه لو كان في عدة مسلم كان التزوج فاسدا بالإجماع، كذا قالوا، وفيه نظر؛ لأن كلامنا في أهل الشرك، ولا يجوز للمسلم نكاح المشركة، حتى يكون في عدة، كذا قاله الأكمل، ثم قال: ويجوز أن تصور بأن أشركت بعد الطلاق - والعياذ بالله تعالى - في عدة المسلم.
م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: قال الأترازي: إنما قال: وهذا عند أبي حنيفة، ولم يقل: ابتداء عند أبي حنيفة بدون ذكر هذا، لأن مسألة القدوري ليس فيها ذكر الخلاف، فقال صاحب " الهداية ": وهذا عند أبي حنيفة كشفا لموضع الخلاف، ولكن من حق المسألة أن يصفها في الفصل المتقدم على باب الرقيق؛ لأن ذلك الفصل هو المشتمل على نكاح الذمي.
وقد أراد بالكافر هاهنا الذمي، بدليل ما ذكره في بيان الدليل، وإنما لا يتعرض بهم لذمتهم، والمشرك لا ذمة له، ولأنه قال: إن حرمة نكاح المعتدة مجمع عليه، فكانوا ملتزمين لها، والمشرك لا يلتزم أحكامنا أصلا، فعلم أن المراد من الكافر المذكور في المسألة المذكورة هو الذمي، وكان ينبغي أن يذكره في بابه، لا في باب المشرك الذي لا كتاب له، انتهى.
قلت: فعلى هذا لا مطابقة بين ترجمة هذا الباب وباب نكاح أهل الشرك، وبين المسألة التي صدر بها الكتاب.
م: (وقال زفر: النكاح فاسد في الوجهين) ش: أي في النكاح بغير شهود، وفي النكاح في عدة الكافر م: (إلا أنه لا يتعرض لهم قبل الإسلام، والمرافعة) ش: أي وقبل المرافعة م: (إلى الحكام) ش: إنما يتعرض لهم إعراضا عنهم، لا تقربوا على صنعهم الفاحش القبيح، وترك التعرض لا يدل على الحرمة، كما في عبادة الأوثان والنيران، فإذا أسلموا أو ترافعوا إلينا وجب التفريق دفعا للحرمة القائمة.(5/233)
وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - في الوجه الأول كما قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي الوجه الثاني: كما قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -. له أن الخطابات عامة على ما مر من قبل، فتلزمهم، وإنما لا يتعرض لهم لذمتهم إعراضا، لا تقريرا. فإذا ترافعوا أو أسلموا والحرمة قائمة وجب التفريق. ولهما أن حرمة نكاح المعتدة مجمع عليها، فكانوا ملتزمين لها. وحرمة النكاح بغير شهود مختلف فيها، ولم يلتزموا أحكامنا بجميع الاختلافات. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الحرمة لا يمكن إثباتها حقا للشرع؛ لأنهم لا يخاطبون بحقوقه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال أبو يوسف ومحمد في الوجه الأول) ش: أي في النكاح بغير شهود م: (كما قال أبو حنيفة، وفي الوجه الثاني) ش: أي في النكاح في عدة الكافر م: (كما قال زفر) ش: وبه قال الشافعي وأحمد م: (له) ش: أي لزفر م: (أن الخطابات عامة) ش: مثل قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] (البقرة: الآية 235) .
وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] (المائدة: الآية 49) .
وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا نكاح إلا بشهود» م: (على ما مر من قبل) ش: إشارة إلى ما قال في أول الفصل، الذي فيه تزويج النصراني بقوله: وهذا الشرع وقع عاما، فثبت الحكم على العموم، م: (فتلزمهم) ش: أي الخطابات، أي مقتضاها يلزمهم.
م: (وإنما لا يتعرض لهم لذمتهم) ش: أي لأجل كونهم التزموا عقد الذمة م: (إعراضا) ش: عنهم م: (لا تقريرا) ش: على فعلهم الباطل م: (فإذا ترافعوا) ش: إلى الحكام م: (أو أسلموا، والحرمة قائمة) ش: أي ثابتة، والجملة حالية م: (وجب التفريق) ش: بين من كان منهم من الأزواج والزوجات.
م: (ولهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن حرمة نكاح المعتدة مجمع عليها) ش: أي معتدة الغير أجمعوا على حرمتها، سواء كان الغير مسلما أو كافرا م: (فكانوا ملتزمين لها) ش: أي خلافا باطلا في حقهم أيضا؛ لأنهم أتباع لنا، ولكنا لا نتعرض بعقد الذمة، فلما ترافعا، أو أسلما وجب الحكم بما هو حكم الإسلام.
م: (وحرمة النكاح بغير شهود مختلف فيها) ش: بين العلماء؛ فإن مالكا وابن أبي ليلى وعثمان يجوزونه م: (ولم يلتزموا أحكامنا بجميع الاختلافات) ش: ولكن عدم تعرضنا لأجل عقد الذمة م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الحرمة لا يمكن إثباتها حقا للشرع؛ لأنهم لا يخاطبون بحقوقه) ش: أي بحقوق الشرع، ولهذا لا يتعرض لهم في الخمر والخنزير، بخلاف الربا؛(5/234)
ولا وجه إلى إيجاب العدة حقا للزوج؛ لأنه لا يعتقده، بخلاف ما إذا كانت تحت مسلم؛ لأنه يعتقده، وإذا صح النكاح فحالة المرافعة، والإسلام حالة البقاء، والشهادة ليست شرطا فيها، وكذا العدة لا تنافيها كالمنكوحة إذا وطئت بشبهة. فإذا تزوج المجوسي أمه، أو ابنته ثم أسلما فرق بينهما؛ لأن نكاح المحارم له حكم البطلان فيما بينهم عندهما كما ذكرنا في المعتدة، ووجب التعرض بالإسلام فيفرقا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأنه مستثنى بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إلا من أربى، فليس بيننا وبينه عهد» م: (ولا وجه إلى إيجاب العدة حقا للزوج؛ لأنه) ش: أي لأن الزوج م: (لا يعتقده) ش: أي لا يعتقد وجوب العدة م: (بخلاف ما إذا كانت) ش: أي الذمية م: (تحت مسلم لأنه) ش: أي لأن المسلم م: (يعتقده) ش: أي يعتقد وجوب العدة.
م: (وإذا صح النكاح) ش: بينهما م: (فحالة المرافعة) ش: إلى الحاكم م: (والإسلام) ش: وقوله: فحالة المرافعة مرفوع بالابتداء وقوله: م: (حالة البقاء) ش: خبره م: (والشهادة ليست شرطا فيها) ش: أي في حالة البقاء، ولهذا لو مات الشهود لم يبطل النكاح م: (وكذا العدة لا تنافيها) ش: أي لا تنافي حالة البقاء م: (كالمنكوحة إذا وطئت بشبهة) ش: يجب عليها العدة صيانة لحق الوطء، ولا يبطل النكاح القائم.
م: (فإذا تزوج المجوسي أمه، أو ابنته، ثم أسلما فرق بينهما) ش: بإجماع الأئمة الأربعة م: (لأن نكاح المحارم له حكم البطلان فيما بينهم عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد، لأن الخطاب بحرمه هذه الأنكحة شائع في ديارنا، وهم من أهل دارنا، فثبت الخطاب في حقهم، إذ ليس في وسع المتتبع التبليغ إلى الكل، بل في وسعه جعل الخطاب شائعاً، فيجعل شيوع الخطاب كالوصول إليهم، ألا ترى أنهم لا يتوارثون بهذه الأنكحة.
فلو كان صحيحاً في حقهم لتوارثوا م: (كما ذكرنا في المعتدة) ش: أشار إلى ما ذكر في المسألة المتقدمة بقوله: ولهذا أن حرمة نكاح المعتدة مجمع عليها، فكانوا ملتزمين.
م: (ووجب التعرض بالإسلام فيفرقا) ش: لأن الإسلام ينافيه، ولما أسلما دخلا في حكم الإسلام فيفرق بينهما، وفي " العناية " إذا أسلم أحدهما فرق بينهما القاضي سواء وجد الترافع، أو لم يوجد.
وقال محمد: إذا وجد الرفع من أحدهما يفرق، وإلا فلا، على ما يجيء الآن، وفي " المبسوط " لو تزوج الذمي محرمه لا يتعرض له، وإن علم القاضي ما لم يرافعا إليه إلا في(5/235)
وعنده له حكم الصحة في الصحيح، إلا أن المحرمية تنافي بقاء النكاح فيفرق، بخلاف العدة؛ لأنها لا تنافيه، ثم بإسلام أحدهما يفرق بينهما، وبمرافعة أحدهما لا يفرق عنده، خلافا لهما. والفرق أن استحقاق أحدهما لا يبطل بمرافعة صاحبه، إذ لا يتغير به اعتقاده، أما اعتقاد المصر بالكفر لا يعارض إسلام المسلم، لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قول أبي يوسف الآخر أنه يفرق بينهما إذا علم ذلك، لما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كتب إلى عماله أن فرقوا بين المجوس ومحارمهم.
قلنا: هذا غير مشهور، وإنما المشهور ما كتب عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلى الحسن البصري قال: ما بال الخلفاء الراشدون تركوا أهل الذمة، وما هم عليه من نكاح المحارم، وإفشاء الخمور والخنازير، فكتب إليه إنما بذلوا الجزية ليتركوا ما يعتقدون، وإنما أنت متبع، ولست بمبتدع والسلام، ولأن الولاة والقضاة من ذلك الوقت إلى يومنا هذا لم يشتغل أحد منهم بذلك، مع علمهم بمباشرتهم ذلك، فحل محل الإجماع.
م: (وعنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (له حكم الصحة) ش: أي لنكاح المحارم حكم الصحة م: (في الصحيح) ش: احترز به عن قول مشايخ العراق: إن حكم البطلان في حقهم كقول أبي يوسف ومحمد، فلا يتعرض لهم لعقد الذمة. وجه الصحيح أن الخطاب في حقهم كأنه غير نازل؛ لأنهم يكذبون المبلغ، ويزعمون عدم رسالته، وولاية الإلزام بالسيف والمحاجة، وقد انقطعت بعقد الذمة وقصر حكم الخطاب عنهم، وشيوع الخطاب إليهم إنما يعتبر في حق من يعتقد رسالة المبلغ، فإذا اعتقدها بالإسلام ظهر حكم الخطاب.
م: (إلا أن المحرمية) ش: جواب عن هذا التشكيك، ووجها المحرمية م: (تنافي بقاء النكاح فيفرق) ش: بينهما كما لو اعترضت المحرمية على نكاح المسلمين برضاع أو مصاهرة م: (بخلاف العدة؛ لأنها لا تنافيه) ش: أي لأن العدة لا تنافي بقاء النكاح م: (ثم بإسلام أحدهما يفرق بينهما) ش: بالاتفاق م: (وبمرافعة أحدهما لا يفرق عنده) ش: أي لا يفرق بينهما عند أبي حنيفة م: (خلافا لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد، وقد مر الكلام فيه عن قريب.
م: (والفرق) ش: يعني بين التفريق بإسلام أحدهما، وعدم التفريق بمرافعة أحدهما م: (أن استحقاق أحدهما) ش: بواجب النكاح وحقوقه م: (لا يبطل بمرافعة صاحبه، إذ لا يتغير به اعتقاده) ش: يعني اعتقاده بمرافعة صاحبه، وهذا المعنى موجود فيما إذا أسلم أحدهما أيضا، لكن يترجح الإسلام، فيفرق بينهما بإسلام أحدهما، وهو معنى قوله: م: (أما اعتقاد المصر) ش: على دينه الباطل م: (لا يعارض إسلام المسلم؛ لأن الإسلام يعلو) ش: على كل شيء م: (ولا يعلى) ش: أي لا يعلى م: (عليه) ش: شيء، فلا يعارضه إصرار الآخر على دينه.(5/236)
ولو ترافعا يفرق بالإجماع، لأن مرافعتهما كتحكيمهما.
ولا يجوز أن يتزوج المرتد مسلمة ولا كافرة ولا مرتدة؛ لأنه مستحق للقتل، والإمهال ضرورة التأمل، والنكاح يشغله عنه، فلا يشرع في حقه، وكذا المرتدة لا يتزوجها مسلم، ولا كافر؛ لأنها محبوسة للتأمل وخدمة الزوج تشغلها عنه، ولأنه لا ينتظم بينهما المصالح، والنكاح ما شرع لعينه، بل لمصالحه. فإن كان أحد الزوجين مسلما فالولد على دينه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو ترافعا) ش: يعني ترافع كلاهما إلى الحاكم م: (يفرق بينهما بالإجماع؛ لأن مرافعتهما كتحكيمهما) ش: يعني إذا حكما رجلا وطلبا منه حكم الإسلام له أن يفرق بينهما، فالقاضي أولى بذلك لعموم ولايته.
[زواج المرتد]
م: (ولا يجوز أن يتزوج المرتد مسلمة، ولا كافرة ولا مرتدة، لأنه مستحق للقتل) ش: أي لأن المرتد مستحق للقتل بنفس الردة، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من غير دينه فاقتلوه» ، فلا ينتظم نكاحه مصالحة من السكن والازدواج والتناسل؛ لأن ذلك للبقاء، وهو مستحق للقتل، فصار كالميت.
فإن قيل: يرد عليه مستحق القتل قصاصا، فإنه يجوز له التزوج.
قلت: العفو مندوب إليه فيه، بخلاف المرتد؛ لأنه لا يرجع غالبا، إذ قد نزل بعد اطلاعه على محاسن الإسلام، فيكون ارتداده عن شبهة قوية عنده. وقال السروجي: يرد عليه ما لو قال لأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق ثلاثا، فإن هذا النكاح غير مستقر، ولا تنتظم به المصالح، لأنه يقع به الطلاق الثلاث عقيب النكاح، وثبوت النسب مشترك، وقال الكاكي: ولا يقال: مشركو العرب لا ملة لهم، فإنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وقد صحت المناكحة فيما بينهم، لأنا نقول: لهم ملة، لأنا نعني بالملة دينا يعتقد الكافر صحته، ولم يكن أقر ببطلانه وقد وجب الحد فيهم.
م: (والإمهال لضرورة التأمل) ش: هذا جواب سؤال، وهو أن يقال: ينبغي أن لا يمهل المرتد، لأنه مستحق للقتل، فأجاب بقوله: والإمهال أي إمهال المرتد ثلاثة أيام لضرورة التأمل، ليتأمل فيما عرض له من الشبهة ففيما وراء ذلك جعل كأنه لا حياة له حكما م: (والنكاح يشغله عنه) ش: أي عن التأمل م: (فلا يشرع في حقه، وكذا المرتدة لا يتزوجها مسلم ولا كافر؛ لأنها محبوسة للتأمل وخدمة الزوج تشغلها عنه؛ ولأنه لا ينتظم بينهما المصالح، والنكاح ما شرع لعينه بل لمصالحه) ش: أي لمصالح النكاح من السكن، والازدواج، والتناسل، والتوالد، فإذا فاتت المصالح بالردة لم يشرع أصلا.
م: (فإن كان أحد الزوجين مسلما فالولد على دينه) ش: أي على دين الإسلام بإجماع الأئمة الأربعة، ولا يتصور فيما إذا كان الزوج كافرا والمرأة مسلمة، بل هذا في حالة البقاء،(5/237)
وكذلك إن أسلم أحدهما وله ولد صغير صار ولده مسلما بإسلامه؛ لأن في جعله تبعا له نظرا إليه.
ولو كان أحدهما كتابيا، والآخر مجوسيا فالولد كتابي؛ لأن فيه نوع نظر له، إذ المجوسية شر. والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا فيه للتعارض، ونحن بينا الترجيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن أسلمت المرأة، ولم يعرض الإسلام على زوجها فولدت قبل العرض م: (وكذلك إن أسلم أحدهما) ش: أي أحد الزوجين م: (وله ولد صغير) ش: الواو فيه للحال م: (صار ولده مسلما بإسلامه) ش: أي بإسلام أحد الزوجين م: (لأن في جعله تبعا له) ش: أي لأن جعل الصغير تبعا للذي أسلم منهما م: (نظرا إليه) ش: أي للصغير، أي نظر يكون أعظم من الإسلام.
وفي " الينابيع ": يريد به إذا كان الصغير مع من أسلم في دار واحدة، وإن كان الصغير في دار الإسلام، ومن أسلم منهما في دار الحرب، وإن كان في دار الإسلام والصغير في دار الحرب لا يصير مسلما.
م: (ولو كان أحدهما كتابيا) ش: أي ولو كان أحد الزوجين من أهل الكتاب م: (والآخر مجوسيا) ش: أو وثنيا، والحاصل أن الآخر ليس من أهل الكتاب م: (فالولد كتابي) ش: حتى يجوز للمسلم مناكحته وتحل ذبيحته؛ م: (لأن فيه نوع نظر له) ش: لأن في جعل الصغير كتابيا نوع نظر له م: (إذ المجوسية شر) ش: من الكتابية م: (والشافعي يخالفنا فيه) ش: أي في جعل الولد تبعا للكتابي م: (للتعارض) ش: لأن جعله تبعا للكتابي يوجب حل الذبيحة والنكاح، وجعله تبعا للمجوسي لا يوجب ذلك، فوقع التعارض، إذ الكفر كله ملة واحدة، والترجيح للمحرم م: (ونحن بينا الترجيح) ش: وهو قوله: لأن فيه نظرا له من حيث حل الذبيحة وجواز النكاح.
فإن قلت: على ما ذكرت كل واحد منا ومن الخصم ذهب إلى نوع ترجيح، فمن أين تقوم الحجة؟
قلت: ترجيحنا بدفع التعارض، وترجيحه بدفعه بعد وقوعه، والدفع أولى من الرفع، لأن حكم من دافع لا يرفع. ثم اعلم أن للشافعي فيما إذا كان الأب كتابيا قولان: أحدهما: أنه تبع له حتى يحل ذبيحته، ومناكحته، وبه قال أحمد تغليبا للتحريم. ولو كانت الأم كتابية، والأب مجوسيا يجعل تبعا له قولا واحدا، حتى لا تحل مناكحته وذبيحته، وبه قال، وفي " الرافعي ": يتبع الأب إذا كان مجوسيا، وإن كانت الأم مجوسية قولان: وفي " البسيط ": في المتولد بين اليهودي والمجوسي قولان: أحدهما التحريم، والثاني هو الأصح: النظر إلى الأب، وتغليب جانب النسب.
وفي " الجواهر ": إن أسلم الزوج تقر الكتابية على نكاحها، ويعرض إليها الإسلام، فإذا أبت(5/238)
وإذا أسلمت المرأة وزوجها كافر عرض القاضي عليه الإسلام، فإن أسلم فهي امرأته، وإن أبى فرق بينهما، وكان ذلك طلاقا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وإن أسلم الزوج وتحته مجوسية عرض عليها الإسلام، فإن أسلمت فهي امرأته، وإن أبت فرق القاضي بينهما ولم تكن الفرقة بينهما طلاقا. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تكون الفرقة طلاقا في الوجهين، أما العرض فمذهبنا. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يعرض الإسلام؛ لأن فيه تعرضا لهم، وقد ضمنا بعقد الذمة أن لا نتعرض لهم إلا أن ملك النكاح قبل الدخول غير متأكد، فينقطع بنفس الإسلام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقعت الفرقة قبل الدخول وبعده، وقال أشهب: تعجيل الفرقة قبل الدخول، كقول الشافعي، وأحمد، وينتظم فراغ العدة بعده كقولهما، وإن أسلمت المرأة قبل الزوج وقعت الفرقة قبل الدخول، وبعده تقف على انقضاء العدة. وفي " التمهيد " قال مالك: إذا أسلم بعد انقضائها في غيبته، فإن نكحت قبل أن يقدم أوسعها إسلامه فلا سبيل له عليها، وإن أدركها قبل أن تنكح فهو أحق بها، وقال ابن قدامة: يعرض عليها الإسلام إن كانت حاضرة، وإن كانت غائبة تعجلت الفرقة.
وعن أحمد روايتان في اعتبار العدة، إحداهما: هو أحق قبل انقضاء عدتها، وفي الأخرى: تعجيل الفرقة، واختارها الخلال، وصحبه أبو بكر، وهو قول طاوس وعكرمة وقتادة والحكم وعمر بن عبد العزيز، ويروى عن ابن عباس، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هو أحق إذا أسلم ما دامت في دار هجرتها، وعن الشافعي هو أحق بها ما دامت في المصر، وعن إبراهيم يقران على نكاحهما.
[أسلمت المرأة وزوجها كافر]
م: (وإذا أسلمت المرأة وزوجها كافر) ش: الواو فيه للحال، وأطلق الكفر في قوله كافر لعدم بقاء المسلمة مع الكافر، أي كافر كان م: (عرض القاضي عليه الإسلام، فإن أسلم فهي امرأته، وإن أبى) ش: أي الزوج عن الإسلام م: (فرق بينهما، وكان ذلك طلاقا عند أبي حنيفة، ومحمد) ش: لا فسخا؛ لأنه فات الإمساك بالمعروف من جانبه، فتعين التسريح بالإحسان، فإن طلق وإلا فالقاضي نائب منابه.
م: (وإن أسلم الزوج وتحته مجوسية عرض عليه الإسلام) ش: وقيد بالمجوسية؛ لأنها إن كانت كتابية فلا عرض، ولا تفريق م: (فإن أسلمت فهي امرأته، وإذا أبت فرق القاضي بينهما، ولم تكن الفرقة بينهما طلاقا. وقال أبو يوسف: لا تكون الفرقة طلاقا في الوجهين) ش: أي لا يكون التفريق طلاقا عنده، سواء كان بإباء الزوج أو بإباء المرأة، بل يكون فسخا، وفائدته أنه لا ينقص من عدد الطلاق شيء. م: (أما العرض) ش: أي عرض الإسلام م: (فمذهبنا، وقال الشافعي: لا يعرض الإسلام لأن فيه) ش: أي لأن في العرض م: (تعريضا لهم، وقد ضمنا بعقد الذمة أن لا نتعرض لهم، لأن ملك النكاح) ش: أي غير أن ملك النكاح م: (قبل الدخول غير متأكد فينقطع بنفس الإسلام(5/239)
وبعده متأكد، فيتأجل إلى انقضاء ثلاث حيض، كما في الطلاق. ولنا أن المقاصد قد فاتت، فلا بد من سبب تبنى عليه الفرقة، والإسلام طاعة لا يصلح سببا لها، فيعرض الإسلام لتحصل المقاصد، بالإسلام، أو تثبت الفرقة بالإباء. وجه قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الفرقة بسبب يشترك فيه أحد الزوجان، فلا تكون طلاقا كالفرقة بسبب الملك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبعده) ش: أي بعد الدخول م: (متأكد) ش: فلا يرتفع بنفس اختلاف الدين م: (فيتأجل) ش: أي التفريق م: (إلى انقضاء ثلاث حيض) ش: قال الشراح قوله: ثلاث حيض ليس بصواب بل الصواب ثلاثة أطهار؛ لأن العدة عنده بالأطهار، وقيل: معناه كان الشافعي يقول: ينبغي أن يتأجل عندكم إلى انقضاء ثلاث حيض.
م: (كما في الطلاق) ش: يريد أن نفس الطلاق قبل الدخول يرفع النكاح، وبعده لا يرفع إلا بعد انقضاء العدة، وبقول الشافعي قال أحمد، وقال أحمد في رواية: يفسخ النكاح في الحال، وقال مالك: إن أسلمت الزوجة أولا فالحكم على ما ذكره الشافعي، وإن أسلم الزوج أولا، فإن أسلمت في الحال يقيما على نكاحهما، وإلا فسخ نكاحهما.
م: (ولنا أن المقاصد) ش: بالنكاح من السكن والازدواج م: (قد فاتت، فلا بد من سبب تبنى عليه الفرقة، والإسلام طاعة لا يصلح سببا لها) ش: للفرقة م: (فيعرض الإسلام) ش: على الزوج م: (لتحصل المقاصد بالإسلام) ش: إن أسلم م: (أو تثبت الفرقة بالإباء) ش: أي بإباء الزوج عن الإسلام، أي بامتناعه عنه ومذهبنا مروي عن عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، فإن دهقانة في نهر الملك أسلمت، فأمر عمر 0 - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بعرض الإسلام على زوجها، فقال: إن أسلم، وإلا فرق بينهما.
ويروى أن دهقانا أسلم في عهد علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فعرض الإسلام على امرأته فأبت، ففرق بينهما، كذا في " المبسوط "، والدهقان: كل سيد من العجم، والذال لغة فيه، ونهر الملك على طريق الكوفة إلى بغداد وقد طول الأكمل هنا.
حاصله أن سبب الفرقة الإباء عن الإسلام، لأن الإسلام لا يصح سببا لما ذكرنا ولا كفر من بقي عليه، لأنه موجود قبل هذا، فلم يصلح سببا إلا الإباء؛ لأنه صالح بسبب النعم، وإذا أضيف القول إليه أضيف ما يستلزمه الفوات، وهو الفرقة، فكانت الفرقة مضافة إلى الإباء.
ولما فرغ المصنف من البحث مع الشافعي شرع في البحث مع أبي يوسف وهو قوله: م: (وجه قول أبي يوسف: أن الفرقة بسبب) ش: وهو الإباء م: (يشترك فيه الزوجان) ش: على معنى أنه متحقق من كل منهما م: (فلا تكون) ش: أي الفرقة م: (طلاقا) ش: بل تكون فسخا عند الشافعي بسبب اختلاف الدين، وذلك متحقق في كل منهما م: (كالفرقة بسبب الملك) ش: بأن ملك أحد الزوجين الآخر، إذ الطلاق لا يتصور منهما، فكل سبب يتصور منهما لا يكون طلاقا.(5/240)
ولهما أن بالإباء امتنع عن الإمساك بالمعروف، مع قدرته عليه بالإسلام، فينوب القاضي منابه في التسريح، كما في الجب والعنة، أما المرأة فليست بأهل للطلاق، فلا ينوب القاضي منابها عند إبائها. ثم إذا فرق القاضي بينهما بإبائها فلها المهر إن كان دخل بها لتأكده بالدخول، وإن لم يكن دخل بها فلا مهر لها؛ لأن الفرقة من قبلها، والمهر لم يتأكد، فأشبه الردة والمطاوعة،
وإذا أسلمت المرأة في دار الحرب وزوجها كافر، أو أسلم الحربي وتحته مجوسية لم تقع الفرقة عليها حتى تحيض ثلاث حيض، ثم تبين من زوجها، وهذا لأن الإسلام ليس سببا للفرقة، والعرض على الإسلام متعذر لقصور الولاية، ولا بد من الفرقة دفعا للفساد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد م: (أن بالإباء) ش: أي إباء الزوج عن الإسلام م: (امتنع عن الإمساك بالمعروف، مع قدرته عليه) ش: أي على الإمساك م: (فينوب القاضي منابه في التسريح) ش: بالإحسان م: (كما في الجب، والعنة) ش: أي كما إذا وجدت زوجها مجبوباً، وهو مقطوع الذكر والخصيتين، ووجدته عنيناً، فإن القاضي يفرق بينهما عند طلب المرأة.
م: (أما المرأة فليست بأهل للطلاق فلا ينوب القاضي منابها عند إبائها) ش: لعدم تصور التسريح منها م: (ثم إذا فرق بينهما بإبائها فلها المهر إن كان دخل بها لتأكده) ش: أي لتأكد المهر م: (بالدخول) ش: فيكون لها كمال المهر م: (وإن لم يدخل بها فلا مهر لها، لأن الفرقة من قبلها، والمهر لم يتأكد) ش: لعدم الدخول م: (فأشبه الردة) ش: يعني كما إذا ارتدت قبل الدخول والعياذ بالله م: (والمطاوعة) ش: وأشبه المطاوعة أيضاً، بأن مكنت نفسها من ابن زوجها قبل الدخول، فلا يجب عليه لها المهر قبل الدخول، ولا نفقة العدة بعد الدخول.
وقال الأترازي: المطاوعة بفتح الواو لا كسرها، لأنه مصدر، أي مطاوعة المرأة ابن زوجها. قلت: يجوز كسر الواو أيضاً، ويكون اسم الفاعل من طاوع، ويكون المعنى ما يشبه المرأة المطاوعة لابن زوجها في تمكين نفسها منه، بل هذا الوجه من الفتح لا يخفى على أهل المذاق.
م: (وإذا أسلمت المرأة في دار الحرب وزوجها كافر، أو أسلم الحربي، وتحته مجوسية لم تقع الفرقة) ش: بينهما في الصورتين م: (حتى تحيض ثلاث حيض) ش: وإن لم تكن ممن تحيض فثلاثة أشهر، ثم بعد ثلاث حيض، أو شهور تقع الفرقة، ثم لا بد من ثلاث حيض، أو شهور أخرى للعدة م: (ثم تبين من زوجها) ش: أي بعد ثلاث حيض كما ذكرنا.
م: (وهذا) ش: أشار به إلى أنه لا بد للفرقة من سبب الإسلام، أو كفر المصر، واختلاف الدين لا يصلح أن يكون موجباً للفرقة، كما مر في المسألة المتقدمة، وبين ذلك بقوله: م: (لأن الإسلام عاصم، والعرض على الإسلام متعذر لقصور الولاية) ش: لانعدام يد أهل الإسلام عن دار الحرب.
م: (ولا بد من الفرقة دفعاً للفساد) ش: وهو كون المسلم تحت الكافر. قوله: والعرض على الإسلام متعذر من باب نحو عرضت الناقة على الحوض، والأصل أن يقال: وعرض الإسلام على(5/241)
فأقمنا شرطها، وهو مضي الحيض مقام السبب، كما في حفر البئر. ولا فرق بين المدخول بها، وغير المدخول بها. والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يفصل بينهما، كما مر له في دار الإسلام. وإذا وقعت الفرقة والمرأة حربية فلا عدة عليها، وإن كانت هي المسلمة فكذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، خلافا لهما، وسيأتيك إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكافر متعذر، إلا أنه قلب الكلام لعدم الالتباس، كما في قولك: أدخلت الخاتم في الإصبع، والأصل أدخلت الإصبع في الخاتم، ولما تعذر تقدير السبب أضيف الحكم إلى الشروط، وهو معنى قوله: م: (فأقمنا شرطها، وهو مضي الحيض مقام السبب) ش: لأن الشرط يضاف إليه الحكم عند تعذر الإضافة إلى العلة والسبب م: (كما في حفر البئر) ش: على قارعة الطريق، فإن وقع فيها إنسان فإن الضمان على الحافر، فلا يمكن إضافته إلى العلة والسبب لما عرف، فأضيف إلى الشرط وهو الحفر. وتحقيق هذا أن علة الوقوع ثقل الواقع، فلا يصلح سبباً لعدم التعدي، لأنه أمر طبيعي لا صنع للواقع فيه، وسبب الوقوع مشتبه، فلا يصلح سبباً لإضافة الحكم إليه، لأنه مباح، فأضيف إلى صاحب الشرط وهو الحافر؛ لأن إزالة سكنة الأرض بالحفر، فإذا كان كذلك، فوقعت الفرقة لانقضاء مدة العدة، أعني ثلاث حيض إن كانت ممن تحيض، أو مضي ثلاثة أشهر إن كانت ممن لا تحيض وبه صرح الكرخي في "مختصره " وذلك لأن الطلاق سبب البينونة، وانقضاء العدة شرطها.
م: (ولا فرق بين المدخول بها وغير المدخول بها، والشافعي يفصل بينهما) ش: حيث يقول: إن كان قبل الدخول تقع الفرقة في الحال، وإن كان بعد الدخول يتوقف على انقضاء ثلاث حيض م: (كما مر له) ش: أي للشافعي م: (في دار الإسلام) ش: من قوله: فإن كان قبل الدخول، بالتفصيل المذكور الآن، وبقوله قال مالك، وأحمد.
م: (وإذا وقعت الفرقة والمرأة حربية) ش: أي والحال أن المرأة حربية م: (فلا عدة عليها) ش: أي على الحربية بالإجماع، لأن حكم الشرع لا يثبت في حقها، ذكره في " شرح الطحاوي "، سواء كان قبل الدخول أو بعده م: (وإن كانت هي) ش: أي الحربية م: (المسلمة فكذلك) ش: لا عدة عليها بعد الدخول م: (عند أبي حنيفة، خلافاً لهما) ش: أي لأبي يوسف، ومحمد، وهذه متعلقة بما قبلها. بيانه أن أحد الزوجين إذا أسلم في دار الحرب تقع الفرقة بانقضاء ثلاث حيض، وبعد ذلك لا تلزم العدة على المرأة، سواء كانت مدخولاً بها أو لاً، وإن كانت غير حربية، أعني مجوسية أو وثنية، فلا عدة عليها أيضاً، كما ذكرنا. وإن كانت غير حربية، أعني مجوسية أو وثنية، فلا عدة عليها أيضاً، كما ذكرنا. وإن كانت مسلمة فلا عدة عليها عند أبي حنيفة، لأنه لا يوجب العدة على المسلمة من الحربي، وأصل المسألة في المهاجرة إلى دار الإسلام، فإنها إذا هاجرت إلينا مسلمة أو ذمية لم يلزمها العدة في قول أبي حنيفة، إلا أن تكون حاملاً، فحينئذ لا تتزوج حتى تضع حملها. م: (وسيأتيك بيانه إن شاء الله تعالى) ش: أي في مسألة المهاجرة. قال الأترازي: بعد ثلاث عشر خطأ، وقال الكاكي في باب العدة: والأول هو الأصوب.(5/242)
وإذا أسلم زوج الكتابية فهما على نكاحهما، لأنه يصح النكاح بينهما ابتداء، فلأن يبقى أولى. قال وإذا خرج أحد الزوجين إلينا من دار الحرب مسلما وقعت البينونة بينهما. وقال الشافعي: لا تقع. ولو سبي أحد الزوجين وقعت الفرقة بينهما بغير طلاق، وإن سبيا معا لم تقع الفرقة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقعت، فالحاصل أن السبب هو التباين دون السبي عندنا، وهو يقول بعكسه له أن التباين أثره في انقطاع الولاية، وذلك لا يؤثر في الفرقة كالحربي المستأمن والمسلم المستأمن، أما السبي فيقتضي الصفاء للسابي، ولا يتحقق إلا بانقطاع النكاح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[أسلم زوج الكتابية]
م: (وإذا أسلم زوج الكتابية، فهما على نكاحهما؛ لأنه يصح بينهما النكاح ابتداء، فلأن يبقى أولى) ش: لأن البقاء أسهل من الابتداء، فكم من شيء يتحمل من النكاح حالة البقاء، وإن لم يتحمل في الابتداء، ألا ترى أن المنكوحة إذا وطئت بشبهة يعتد له، وتبقى منكوحة، ولا يجوز نكاح المعتدة من وطء بشبهة ابتداء.
م: (وإذا خرج أحد الزوجين إلينا) ش: وفي بعض النسخ م: (قال: وإذا خرج) ش: أي قال القدوري: وإذا خرج أحد الزوجين م: (إلينا) ش: أي إلى دار الإسلام م: (من دار الحرب) ش: حال كونه م: (مسلماً) ش: غير مراغم، حتى إذا خرج مراغماً تقع الفرقة بالإجماع، أما عندنا فلتباين الدارين، وأما عنده في الرغم والقهر، كزوجته كذا في " مبسوط البزدوي " م: (وقعت البينونة بينهما. وقال الشافعي: لا تقع) ش: وقال شمس الأئمة السرخسي: ويستوي في وقوع الفرقة بتباين الدارين أن يخرج أحدهما مسلماً أو ذمياً، أو خرج مستأمناً، ثم أسلم أو صار ذمياً، لأنه صار من أهل دارنا، وفائدة وقوع البينونة حل وطء تلك الأمة لمن وقعت في سهمه بعد الاستبراء، وإن كان الخارج الرجل يجوز له أن يتزوج أربعاً سواها أو أختها إن كانت في دار الإسلام.
م: (ولو سبى أحد الزوجين وقعت الفرقة بينهما) ش: اتفاقاً م: (وإن سبيا معاً) ش: أي الزوجان م: (لم تقع الفرقة. وقال الشافعي: وقعت. فالحاصل أن السبب) ش: أي سبب وقوع البينونة م: (عندنا هو التباين) ش: أي تباين الدارين م: (دون السبي) ش: وجد أو لم يوجد م: (وهو بعكسه) ش: أي الشافعي بعكس ما قلنا، حيث يقول: إن السبي هو سبب البينونة لا التباين، وبه قال مالك وأحمد، حتى لو خرج أحد الزوجين إلينا مسلما، لا تقع الفرقة عندهم على أصلهم.
م: (له) ش: أي للشافعي م: (أن التباين أثره في انقطاع الولاية) ش: وهو سقوط مالكيته عن نفسه وماله م: (وذلك لا يؤثر في الفرقة كالحربي المستأمن والمسلم المستأمن) ش: أشار إلى انقطاع النكاح، كالحربي المستأمن، يعني إذا دخل دارنا بأمان انقطعت ولايته، ولا تقع الفرقة بينه وبين امرأته م: (أما السبي فيقتضي الصفاء) ش: بالمد، أي الخلوص، أي يقتضي صفاء السبي م: (للسابي) ش: ولا يصفى الملك في المسبي للسابي م: (ولا يتحقق إلا بانقطاع النكاح) ش: الزوج عن المسبية م:(5/243)
وهذا يسقط الدين عن ذمة المسبي. ولنا أن مع التباين حقيقة وحكما لا تنتظم المصالح، فشابه المحرمية، والسبي يوجب ملك الرقبة، وهو لا ينافي النكاح ابتداء، فكذلك بقاء، فصار كالشراء، ثم هو يقتضي الصفاء في محل عمله، وهو المال لا في محل النكاح. وفي المستأمن لم تتباين الدارين حكما لقصده الرجوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وهذا) ش: إيضاح لقوله: يقتضي الصفاء م: (يسقط الدين) ش: الذي للكفار م: (وعن ذمة المسبي) ش: يصفي المسبي السابي.
م: (ولنا أن مع التباين حقيقة وحكماً) ش: أي من حيث الحقيقة، ومن حيث الحكم. أما حقيقة فبأن يكون أحدهما في دار الحرب حكماً، لأنه فيه الرجوع. وأما حكماً فبأن لا يكون في الدار التي دخلها على سبيل الرجوع، بل يكون على سبيل القرار والسكنى، وفي " النهاية ": وفي قوله: حكماً، جواب عن قوله: كالحربي المستأمن، والمسلم المستأمن؛ لأن الحربي المستأمن وإن كان في دار الإسلام حقيقة، ولكن هو في دار الحرب حكماً؛ لأنه على نية الرجوع، فكذلك لم يترتب عليه حكم التباين، وكذلك المسلم المستأمن، حتى لو انقطعت نية الرجوع كان حكم التباين ثابتاً في حقه م: (لا تنتظم المصالح) ش: والنكاح شرط للمصالح، لا بعينه م: (فشابه المحرمية) ش: أي فشابه التباين المحرمية، يعني إذا اعترضت المحرمية على النكاح، فإنه لا يبقى معها لفوات انتظام المصالح، كذا هذا التباين.
م: (والسبي يوجب ملك الرقبة) ش: هذا رد دليل الخصم، تقديره: أن السبي يوجب ملك الرقبة م: (وهو) ش: أي ملك الرقبة م: (لا ينافى النكاح ابتداء) ش: بأن زوج أمته لغيره م: (فكذلك) ش: لا ينافيه م: (بقاء) ش: بأن اشترى منكوحة الغير م: (فصار) ش: أي السبي م: (كالشراء) ش: أي كالشراء من غيره، من حيث إن النكاح لا يفسد بالشراء، فكذلك بالسبي لعدم المنافاة، وكذلك الصدقة والهبة.
م: (ثم هو) ش: أي السبي م: (يقتضي الصفاء) ش: يعني مسلماً أن السبي يقتضي الصفاء لكن م: (في محل عمله، وهو المال لا في محل النكاح) ش: وهو منافع البضع باعتبار كونها آدمية، وذلك ليس محل عمله، لأن ذلك من الخصائص الإنسانية لا المالية، وقد اندرج في هذا الكلام الجواب عن قوله: وهذا يسقط الدين عن ذمة المسبي؛ لأن الدين في الذمة، وهو محل عمله؛ لأنها في الرقبة.
وقوله: وفي المستأمن: جواب عن قوله: كالحربي المستأمن أو المسلم المستأمن، وكان قد احترز بقوله: وحكماً عن ذلك، فإن التباين وإن وجد في المستأمن حقيقة لكنه لم يوجد حكماً، وهو معنى قوله: م: (وفي المستأمن لم تتباين الدارين حكماً لقصده الرجوع) ش: إلى دار الحرب. والرجوع منصوب على أنه مفعول المصدر، والمصدر يعمل عمل فعله.(5/244)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: استدل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بقضية زينب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها هاجرت من مكة إلى المدينة، وخلفت زوجها أبا العاص بمكة فردها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالنكاح الأول، فعلم أن التباين لا يوجب الفرقة.
قلت: ردها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالنكاح الجديد، يعني قوله: بالنكاح الأول، أي بحرمة النكاح الأول، وقد صح في " السنن " عند الترمذي، وابن ماجه، وأحمد أنها ردت بعد ست سنين في رواية، وفي رواية أخرى بعد سنتين، وعند الخصم تثبت الفرقة بانقضاء العدة، وإن لم يثبت التباين، فكيف يحتج به علينا؟
فإن قلت: استدل أيضاً بحديث أبي سفيان، فإنه أسلم بمر الظهران في معسكر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأقر النكاح بينه وبين امرأته هند، ولما فتح - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مكة هرب عكرمة بن أبي جهل، وحكيم بن حزام حتى أسلمت امرأة كل منهما، وأخذت الأمان لزوجها، وذهبت فجاءت به، ولم يجدد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - النكاح بينهما.
قلت: الصحيح أن أبا سفيان لم يحسن إسلامه يومئذ، وإنما أجازه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لشفاعة عمه العباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وعكرمة وحكيم بن حزام إنما هربا إلى الساحل، وكانت من حدود مكة، فلم يوجد تباين الدارين. وقد قال الزهري: إن دار الإسلام تتميز من دار الحرب بعد فتح مكة، ولم يوجد تباين الدارين يومئذ.
فإن قلت: قال الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] (النساء: الآية 24) ، عدد المنكوحات من المحرمات، ثم استثنى المملوكات ملك اليمين مطلقاً، ولم يفصل بينهما إذا كان تزوج المسبية معها، أو لم يكن، والمطلق يجري على إطلاقه عندكم، فكيف لا تجوزون وطء المسبية إن سبي معها زوجها.
روي في "السنن" مسنداً إلى أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في سبايا أوطاس: "ألا لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة» " ولا فصل فيه أيضاً.(5/245)
وإذا خرجت المرأة إلينا مهاجرة جاز أن تتزوج، ولا عدة عليها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: عليها العدة، لأن الفرقة وقعت بعد الدخول في دار الإسلام، فيلزمها أحكام الإسلام. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها أثر النكاح المتقدم وجبت إظهارا لخطره، ولا خطر لملك الحربي، ولهذا لا تجب العدة على المسبية. وإن كانت حاملا لم تزوج حتى تضع حملها، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يصح النكاح، ولا يقربها زوجها حتى تضع حملها، كما في الحبلى من الزنا. وجه الأول أنه ثابت النسب، فإذا ظهر الفراش في حق النسب يظهر في حق المنع من النكاح احتياطا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: أما الآية فإن قَوْله تَعَالَى: {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] عام خص منه البعض، فيخص التنازع بما إذا اشترى الأمة مع زوجها لا يجوز للمشتري أن يطأها بالإجماع، مع وجوب ملك اليمين، فكذا إذا سبى الأمة وزوجها كان مسلماً، أو ذمياً لا يجوز للسابي وطأها مع وجود ملك اليمين، فلما كان البعض مخصوصاً، حملنا الآية على ما إذا سبيت المرأة وحدها، وحصل بين الزوجين تباين حكماً.
والجواب عن سبايا أوطاس: فإنهن كن سبين وحدهن، دون أزواجهن، فإن الرجال كانوا قد خرجوا للقتال، وخلفوا النساء، والذراري في الحصن، فلما انهزموا استولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الحصن، وسبوا النساء دون الأزواج، وأوطاس اسم موضع بقرب مكة على ثلاث مراحل من مكة والله أعلم.
[عدة المهاجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام]
م: (وإذا خرجت المرأة إلينا مهاجرة) ش: أي حال كونها مهاجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، سواء كانت مسلمة أو ذمية م: (جاز أن تتزوج، ولا عدة عليها عند أبي حنيفة) ش: إلا أن تكون حاملاً.
م: (وقالا: عليها العدة) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد: عليها أن تعتد، ولا يجوز لها التزوج إلا بعد العدة م: (لأن الفرقة وقعت بعد الدخول في دار الإسلام، فيلزمها حكم الإسلام) ش: لأنها حرة فارقت زوجها بعد الإصابة، فتلزمها العدة، كالمطلقة في دارنا، وبه قال جمهور العلماء.
م: (ولأبي حنيفة أنها) ش: أي أن العدة م: (أثر النكاح المتقدم وجبت إظهاراً لخطره، ولا خطر لملك الحربي، ولهذا) ش: أي ولأجل أن ليس لملك الحربي خطر م: (لا تجب) ش: أي م: (العدة على المسبية) ش: بالاتفاق م: (وإن كانت) ش: أي المرأة المهاجرة المذكورة م: (حاملاً لم تزوج حتى تضع حملها) ش: للنص م: (وعن أبي حنيفة) ش: رواه عنه الحسن م: (أنه يصح النكاح، ولا يقربها الزوج حتى تضع حملها، كما في الحبلى من الزنا) ش: لا يصح الوطء حتى تضع حملها.
م: (وجه الأول) ش: وهو أنه لا تتزوج حتى تضع حملها م: (أنه ثابت النسب) ش: من الغير م: (فإذا ظهر الفراش في حق النسب يظهر في حق المنع من النكاح احتياطا) ش: في باب النسب، كأم الولد حبلت من مولاها لا يتزوجها حتى تضع.(5/246)
قال: وإذا ارتد أحد الزوجين عن الإسلام وقعت الفرقة بغير طلاق، وهذا عند أبي حنيفة، وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كانت الردة من الزوج فهي فرقة بطلاق هو يعتبره بالإباء، والجامع بينهما ما بيناه. وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مر على ما أصلنا له في الإباء. وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فرق بينهما. ووجهه أن الردة منافية للنكاح؛ لكونها منافية للعصمة، والطلاق رافع، فتعذر أن تجعل طلاقا، بخلاف الإباء، لأنه يفوت الإمساك بالمعروف، فيجب التسريح بالإحسان على ما مر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[ارتد أحد الزوجين عن الإسلام]
م: (قال: وإذا ارتد أحد الزوجين عن الإسلام) ش: - والعياذ بالله تعالى - م: (وقعت الفرقة بينهما بغير طلاق) ش: سواء دخل بها، أو لم يدخل، وهذا عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، وقال محمد: إن كانت الردة من الزوج فهي فرقة بطلاق وإن كانت منها فهو كما قالا.
وفي " مغني" الحنابلة " إذا ارتد أحد الزوجين قبل الدخول انفسخ النكاح في قول عامة أهل العلم، وحكي عن داود الأصفهاني: أنه لا ينفسخ بالردة، وإن كانت الردة بعد الدخول فكذلك في أحد الروايتين عن أحمد بن حنبل، وهو قول الحسن، وعمر بن عبد العزيز، وأبي حنيفة، ومالك، والثوري، وزفر، وأبي ثور، وابن المنذر.
وفي الرواية الثانية: يقف على انقضاء العدة، وهو قول الشافعي، وإسحاق، ثم من المالكية من جعل الردة فسخاً، ومنهم من جعلها طلقة بائنة. ومنهم من جعلها طلقة رجعية. ومنهم من قال: لو أسلم يعود إلى زوجته كانت بغير طلاق ولا بفسخ، كما يعود المرتد إلى ماله، على المعروف من كل مذهب، وعند ابن أبي ليلى لا تقع الفرقة بالردة قبل الدخول وبعده، لكن يستتاب المرتد، فإن تاب فهي امرأته، وإن مات على الردة، أو قتل ورثته امرأته.
م: (هو) ش: أي محمد م: (يعتبره بالإباء) ش: أي يعتبر الردة بالإباء م: (والجامع بينهما ما بيناه) ش: وما ذكره قبل هذا قريباً من الورقة بقوله لها، أي بالإباء امتنع عن الإمساك بالمعروف مع قدرته عليه، فينوب القاضي منابه في التسريح، فكذلك بالردة امتنع عن الإمساك، فناب القاضي منابه م: (وأبو يوسف مر على ما أصلنا له في الإباء) ش: وهو أن الفرقة سبب يشترك فيه الزوجان، فلا يكون طلاقاً كالفرقة بسبب الملك، وهذا ينتقض بالخلع.
م: (وأبو حنيفة فرق) ش: أي بين الإباء والردة م: (ووجهه) ش: أي وجه الفرق م: (أن الردة منافية للنكاح لكونها) ش: أي لكون الردة م: (منافية للعصمة) ش: لبطلان العصمة عن نفسه، وإملاكه بها فيترك ملك النكاح بها، ولأنها موت حكماً م: (والطلاق رافع) ش: للنكاح، وليس بمناف له م: (فتعذر أن تجعل طلاقاً بخلاف الإباء، لأنه يفوت به الإمساك بالمعروف فيجب التسريح بالإحسان على ما مر) ش: لأن الإباء امتناع عن الإمساك بالمعروف مع قدرته على الإسلام، فينوب القاضي منابه في التسريح.(5/247)
ولهذا تتوقف الفرقة بالإباء على القضاء، ولا تتوقف بالردة، ثم إن كان الزوج هو المرتد فلها كل المهر إن دخل بها، ونصف المهر إن لم يدخل بها، وإن كانت هي المرتدة فلها كل المهر إن دخل بها، وإن لم يدخل بها لا مهر لها، ولا نفقة، لأن الفرقة من قبلها. قال: وإذا ارتدا معا، ثم أسلما معا فهما على نكاحهما استحسانا. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يبطل؛ لأن ردة أحدهما منافية، وفي ردتهما ردة أحدهما. ولنا ما روي أن بني حنيفة ارتدوا ثم أسلموا ولم يأمرهم الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - بتجديد الأنكحة، والارتداد منهم واقع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهذا) ش: توضيح لكون الردة منافية للطلاق دون الإباء، أي لأجل ذلك م: (تتوقف الفرقة بالإباء على القضاء) ش: أي على حكم الحاكم؛ لأنها ليست للمنافاة، فتوقف حكمه على القضاء م: (ولا تتوقف) ش: على القضاء م: (بالردة) ش: لأن النافي لا يتوقف حكمه على القضاء كالمحرمية م: (ثم إن كان الزوج هو المرتد فلها كل المهر إن دخل بها، ونصف المهر إن لم يدخل بها) ش: بالنص م: (وإن كانت هي المرتدة فلها كل المهر إن دخل بها، وإن لم يدخل بها فلا مهر لها، ولا نفقة؛ لأن الفرقة من قبلها) ش: فلذلك يسقط المهر، والنفقة كالناشزة لا نفقة لها.
م: (قال ارتدا معاً) ش: أي ارتد الزوجان معاً م: (ثم أسلما معاً فلهما نكاحهما استحساناً) ش: أي من الاستحسان م: (وقال زفر: يبطل) ش: وهو القياس وبه قال الشافعي، ومالك، وأحمد م: (لأن ردة أحدهما منافية، وفي ردتها ردة أحدهما) ش: إذا كانت منافية للنكاح، فردتها بالطريق الأولى.
م: (ولنا ما روي) ش: وهو وجه الاستحسان م: (أن بني حنيفة) ش: وهم حي من العرب م: (ارتدوا، ثم أسلموا ولم يأمرهم الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - بتجديد الأنكحة) ش: قال مخرج الأحاديث: هذا غريب. قال الأترازي: وجه الاستحسان ما روى أصحابنا في " المبسوط " وغيره أن بني حنيفة ارتدوا لمنع الزكاة، وبعث إليهم أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الجيوش حتى أسلموا، ولم يأمرهم بتجديد الأنكحة، ولا أحد من الصحابة، وإجماعهم حجة يترك به القياس.
فإن قلت: من الجائز أنهم ارتدوا على التعاقب، فمن أين يعرف أنهم ارتدوا جميعاً، بل الغالب التعاقب في الردة، وهو الظاهر.
قلت: ترك الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عن تجديد الأنكحة دليل على عدم التعاقب؛ لأنه لو كان ارتدادهم على التعاقب لأمروا بتجديد الأنكحة، لأن السكوت عن الحق لا يليق بجنابهم.
م: (والارتداد منهم واقع معاً) ش: هذا جواب عما يقال: إن ارتداد بني حنيفة ما وقع جملة حتى يستقيم التعلق به، فأجاب بقوله: م: (والارتداد منهم) ش: أي من بني حنيفة م: (واقع) ش: منهم(5/248)
معا لجهالة التاريخ. ولو أسلم أحدهما بعد الارتداد فسد النكاح بينهما، لإصرار الآخر على الردة؛ لأنه مناف كابتدائها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جميعاً م: (لجهالة التاريخ) ش: لهيئة ارتدادهم، فيجعل كأنه وجد جملة كالغرقى، والحرقى، والهدمى م: (ولو أسلم أحدهما) ش: أي أحد الزوجين المرتدين م: (بعد الارتداد) ش: قبل الآخر م: (فسد النكاح بينهما) ش: يعني تقع الفرقة بينهما بإجماع علمائنا م: (لإصرار الآخر على الردة؛ لأنه) ش: أي لأن إصراره على الردة م: (مناف) ش: أي للنكاح م: (كابتدائها) ش: أي كإفسادها، حتى لا يجب لها شيء إن كان المسلم هو الزوج قبل الدخول.
وإن كانت هي التي أسلمت قبل الدخول فلها نصف الصداق، وإن وجد الدخول فلها المهر كاملاً في الوجهين؛ لأن المهر يستقر بالدخول، ويصير ديناً في ذمة الزوج، والديون لا تسقط بالردة، وعند زفر والشافعي ومالك وأحمد: إسلام أحدهما لا يؤثر في الفرقة الواقعة بارتدادهما، والله أعلم.(5/249)
باب القسم وإذا كان للرجل امرأتان حرتان فعليه أن يعدل بينهما في القسم، بكرين كانتا أو ثيبين أو إحداهما بكرا والأخرى ثيبا؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من كانت له امرأتان ومال إلى إحداهما في القسم جاء يوم القيامة وشقه مائل» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب القسم] [العدل في القسم بين النساء]
م: (باب القسم)
ش: أي هذا باب في بيان أحكام القسم بفتح القاف، مصدر قسم الشيء فانقسم، وبكسر القاف النصيب والقسمة، اسم للمقاسمة والانقسام، والقسم بفتحتين اليمين.
وقال الأترازي: بفتح القاف مصدر، وهو الرواية عن شيوخنا.
قلت: هذا عجيب، لا يحتاج إلى رواية، هكذا عن شيوخه، لأن كل واحد يعلم أنه بالفتح في باب التعديل بين النساء، ويعلم أنه بالكسر النصيب، ولما ذكر جواز عدد من النساء، ولم يكن بد من بيان العدل الوارد من الشارع في حقهن في باب على حدة، والموجب في تأخيره لشدة الاحتياج إلى معرفة غيره على ما لا يخفى.
م: (وإذا كان للرجل امرأتان حرتان فعليه أن يعدل بينهما في القسم، بكرين كانتا أو ثيبين، أو إحداهما بكراً والأخرى ثيباً) ش: قال: وإذا كان بلفظ التذكير، وإن كان مستنداً إلى المؤنث الحقيقي لوقوع الفصل، كقولهم: حضر القاضي امرأة، وهذا جاء خلافاً للمجرد، وقال: حرتان ليشمل المسلمة، والكتابية، والمراهقة، والبالغة، والمجنونة، والتي يخاف منها، والحائض، والنفساء، والحامل، والصغيرة التي يمكن وطؤها، والمحرمة، والمولى عنها، والمظاهرة منها، والجديدة، والقديمة فالكل سواء، وبه قال الحكم وحماد.
وقال مالك، والشافعي، وأحمد: يقيم عند البكر الجديدة سبعاً، وعند الثيب الجديدة ثلاثاً، ولا يحتسب عليها بذلك، وهو قول إبراهيم النخعي، وعامر الشعبي، وإسحاق بن راهويه، واختاره ابن المنذر، وقيل: للبكر ثلاث ليال، وللثيب ليلتان، هكذا روي عن سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وخلاس بن عمرو، ونافع عن ابن عمر.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «من كانت له امرأتان، ومال إلى إحداهما في القسم جاء يوم القيامة وشقه مائل» ش: هذا الحديث أخرجه أصحاب " السنن الأربعة " من حديث همام بن يحيى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كانت ... " آخره، ورواه ابن حبان في "صحيحه "، والحاكم(5/250)
وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يعدل في القسم بين نسائه، وكان يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك» يعني زيادة المحبة، ولا فضل فيما رويناه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في "مستدركه ". وقال حديث حسن صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وفي رواية الترمذي: "وشقه ساقط". وقال شيخنا: بل المراد به سقوطه حقيقة، أو المراد به سقوط حجته بالنسبة إلى إحدى امرأتيه، التي مال إليها مع الأخرى، ويحتمل الأمرين، ولا مانع من الحقيقة، ويدل على إرادة الحقيقة قوله في رواية أبي داود: "مائل"، فهو ظاهر أنه ليس المراد سقوط الحجة، وإنما المراد سقوط أحد شقيه، يعني ميلانه، وفيه أن الجزاء من جنس العمل، فلما لم يعدل وجار عن الحق، والجور الميل كان عذابه بأن يجيء يوم القيامة على رءوس الأشهاد، وأحد شقيه مائل.
م: (وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعدل في القسم بين نسائه، كان يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك» ش: هذا أيضاً أخرجه الأئمة الأربعة، عن عبد الله بن زيد، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... إلى آخره.
ورواه ابن حبان في "صحيحه "، والحاكم في "مستدركه "، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. قوله: - فيما أملك -، أي فيما قدرني عليه مما يدخل تحت القدرة والاختيار، بخلاف ما لا أقدر عليه من ميل القلب، فإنه لا يدخل تحت القدرة.
م: (يعني زيادة المحبة) ش: هذا ليس من لفظ الحديث، وإنما هو تفسير من الرواة. وحكى الترمذي عن بعض أهل العلم أنه فسره بالحب والمودة، ورواه البيهقي عن الشافعي في تفسير الحديث، قال: يعني - والله أعلم -: قلبه، وكذا قال أبو داود في "سننه " يعني القلب، وفسره الخطابي بميل القلوب م: (ولا فضل فيما روينا) ش: أي لا فضل بين البكر والثيب فيما روينا من الحديث المذكور.(5/251)
والقديمة والجديدة سواء لإطلاق ما روينا، ولأن القسم من حقوق النكاح ولا تفاوت بينهن في ذلك والاختيار في مقدار الدور إلى الزوج؛ لأن المستحق هو التسوية بينهن دون طريقها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[المبيت عند الزوجة]
م: (والقديمة والجديدة سواء) ش: وقد ذكرنا مذهب الشافعي عن قريب، ولكن نوضح هنا بأكثر من ذلك، فنقول: قال الشافعي، ومالك، وأحمد، وابن عبيد إن كانت جديدة بكراً أقام عندها بعد العقد سبعاً من غير قضاء، وإن كانت ثيباً أقام عندها ثلاثاً من غير قضاء، ولو شاء أقام عندها سبعاً مع القضاء.
وله في القضاء وجهان: أحدهما: أن يقضي جميعاً، وهو ظاهر المذهب إليه، والثاني: أن يقضي ما زاد على الثلاث. وفي " الجواهر " و" المغني ": للأمة الجديدة سبع إذا كانت بكراً، وإن كانت ثيباً فلها ثلاث عند المالكية، والحنابلة، فجعلوها كالحرة البكر والثيب، وللشافعية ثلاثة أقوال: أحدها: التسوية بين الحرة والأمة، والثاني: للأمة النصف كسائر القسم، الثالث: للبكر من الإماء أربع، وللثيب ليلتان تكميلاً لبعض الليلة، ذكره في " النهاية" لإمام الحرمين.
وفي " الجواهر ": الزيادة حق الزوجة، أو حق الزوج، أو حقهما فيه اختلاف. وفي " الجواهر " و" النهاية ": و" المغني ": على ولي المجنون أن يطوف به على نسائه. وفي " النهاية ": لو ترك حق واحدة وخص بالباقية يجب عليه القضاء، وعندنا ما ذكره في " المحيط " و" المبسوط ": الزوج لو أقام عند واحدة شهراً ظلماً ثم طلب القسم من الباقيات أو بغير طلب فليس عليه أن يعرض، لأنه ليس بمال، فلم يكن عليه ديناً في الذمة، لكنه ظالم يوعظ، فإن استمر يؤدب تعزيراً، ولو جعلت له الحرة مالاً على أن يزيد في أيامها فهي باطلة، ولها أن ترجع في مالها، وإن زادها في أيامها، لأن ذلك رشوة، والرشوة في الحكم. وكذا لو حطت من مهرها شيئاً بهذا الشرط، وبه قال الشافعي وأحمد. وقال أبو ثور: وهو جائز، وهو مذهب الحسن البصري، ذكره في " الأشراف ".
م: (لإطلاق ما روينا) ش: قال الأترازي: هذا تكرار بلا فائدة، لأن عدم القصد فيما رويناه يعلم من قوله: لإطلاق ما روينا، وما كان يحتاج إلى ذكرهما جميعاً. وقال الأكمل: الاختلاف في موضعين: في الفرق بين البكر والثيب، وفي تفضيل الجديدة على القديمة، قيد المصنف الأول بقوله: ولا فضل فيما روينا، والثاني: لإطلاق ما روينا. قلت: لكن النظر في تصويب أحدهما.
م: (ولأن القسم من حقوق النكاح، ولا تفاوت بينهن في ذلك) ش: أي بين النساء م: (والاختيار في مقدار الدور إلى الزوج) ش: يعني إن شاء ثلث لكل واحدة، وإن شاء تسع لكل واحدة إلى غير ذلك، وليس للمرأة أن تقول: بت عندي ليلة وليلة أخرى عند صاحبتي، لأن المقصود هو العدل، وذلك حاصل كيف كان.
م: (لأن المستحق هو التسوية بينهن) ش: أي بين الزوجات م: (دون طريقها) ش: أي طريق التسوية، وفي غالب النسخ: دون طريقه، وقال الأترازي: أي دون طريق العدل، يعني: يبيت(5/252)
والتسوية المستحقة في البيتوتة لا في المجامعة، لأنها تبتنى على النشاط، وإن كانت إحداهما حرة، والأخرى أمة فللحرة الثلثان من القسم، وللأمة الثلث بذلك ورد الأثر، ولأن حل الأمة أنقص من حل الحرة فلا بد من إظهار النقصان في الحقوق، والمكاتبة، والمدبرة، وأم الولد بمنزلة الأمة؛ لأن الرق فيهن قائم. قال: ولا حق لهن في القسم حالة السفر فيسافر الزوج بمن شاء منهن، والأولى أن يقرع بينهن، فيسافر بمن خرجت قرعتها. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: القرعة مستحبة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عند إحدى المرأتين مثل ما يبيت عند الأخرى، فإن بات عند هذه ليلة يبيت عند الأخرى كذلك، وليس لها أن تقول بت عندي ليلة وبت عند صاحبتي مثل ذلك؛ لأن المستحق عليه العدل، لا طريقه؛ لأن طريقه مفوض إلى الزوج. ثم قال الأترازي: وتذكير الضمير في طريقه، وإن كان راجعاً إلى التسوية لإرادة العدل، ومثل ذلك جائز، كما في قوله: والأرض أثقل أثقالها.
[التسوية في البيتوتة عند الزوجات]
م: (والتسوية المستحقة في البيتوتة، لا في المجامعة) ش: قال في شرح " الكافي ": وهذه التسوية في البيتوتة عندها للصحبة، والمؤانسة، لا في المجامعة، لأن ذلك شيء يبتنى على النشاط، ولا يقدر على اعتبار المساواة فيه، وهو نظير المحبة بالقلب م: (لأنها) ش: أي لأن المجامعة م: (تبتنى على النشاط) ش: كما ذكرنا.
م: (وإن كانت إحداهما حرة، والأخرى أمة فللحرة الثلثان من القسم، وللأمة الثلث، بذلك ورد الأثر) ش: وهو ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة وعبد الرزاق في "مصنفيهما"، والدارقطني، ثم البيهقي في "سننهما"، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله الأسدي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، قال: إذا نكحت الحرة على الأمة فلهذه الثلثان؛ ولهذه الثلث، لأن الأمة لا ينبغي لها أن تتزوج على الحرة، والمنهال بن عمرو فيه مقال، وعبادة ضعيف، قال في " التنقيح ": قال البخاري: فيه نظر.
وروى البيهقي عن ابن المسيب، وعن سليمان بن يسار، أن الحرة إذا أقامت على ضرات فلها يومان، ولأمته يوم، وبه قال الشافعي، وأحمد، ومالك في رواية. وقال مالك في رواية أخرى: إنهما سواء في استحقاق القسم.
م: (ولأن حل الأمة أنقص من حل الحرة) ش: لأنها على النصف من الحرة في غالب الحقوق م: (فلا بد من إظهار النقصان في الحقوق) ش: لئلا يلزم التسوية م: (والمكاتبة، والمدبرة، وأم الولد بمنزلة الأمة؛ لأن الرق فيهن قائم) ش: فيكون لهن الثلث من القسم.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: م: (ولا حق لهن في القسم حالة السفر، ويسافر الزوج بمن شاء منهن، والأولى أن يقرع بينهن، فيسافر بمن خرجت قرعتها. وقال الشافعي: القرعة مستحبة) ش: حتى لو سافر بدون القرعة بواحدة يقضي ما مضى، يعني يقيم عند من لم يسافر معها مثل تلك الأيام، وبالقرعة لا يقضي، وبه قال أحمد: يقضي بكل حال.(5/253)
لما روي «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه» إلا أنا نقول: إن القرعة لتطييب قلوبهن، فكانت من باب الاستحباب، وهذا لأنه لا حق للمرأة عند مسافرة الزوج، ألا ترى أن له أن لا يستصحب واحدة منهن، فكذا له أن يسافر بواحدة منهن، ولا تحتسب عليه تلك المدة، وإن رضيت إحدى الزوجات بترك قسمها لصاحبتها جاز؛ لأن سودة بنت زمعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سألت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن يراجعها، وتجعل يوم نوبتها لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه» ش: هذا الحديث أخرجه الجماعة من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه» أخرجوه مختصراً، ومطولاً، بحديث الإفك.
م: (إلا أنا نقول) ش: يعني نعمل بالحديث، كما يعمل الشافعي، غير أنا نقول: م: (إن القرعة لتطييب قلوبهن، فكانت) ش: أي القرعة م: (من باب الاستحباب) ش: والشافعي يعمل بظاهره، ونحن نقول: إن التسوية بينهن لم تكن واجبة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحضر، ففي السفر أولى، وإنما كان يقرع في السفر لما ذكرنا م: (وهذا) ش: يعني كون القرعة من باب الاستحباب م: (لأنه لا حق للمرأة عند مسافرة الزوج، ألا ترى) ش: توضيح لما قبله م: (أن له) ش: أي للزوج م: (أن لا يستصحب واحدة منهن، فكذا له أن يسافر بواحدة منهن) ش:.
هذا دليل على جواز أنه لا حق لهن حالة السفر م: (ولا تحتسب عليه تلك المدة) ش: أي لا تحتسب على الزوج السفر، يعني إذا سافر بإحدى المرأتين شهراً مثلاً، ولا يؤمر أن يكون عند الأخرى شهراً آخر، بل يسوي بينهما في الحضر ابتداء، وفي " الغاية ": ثم لا يقضي مدة السفر بواحدة منهن، وكذا لبقية نسائه، وقال داود: يقضي، واشترط صاحب " الوجيز " بسقوط القضاء على مذهب الشافعي أربعة شرائط: أحدها: أن يقرع.
والثاني: على أن لا يعزم على النقلة؛ لأن سفر النقلة لا يجوز أن يستصحب ببعضهن دون بعض، وفي سفر التجارة يجوز.
والثالث: أن يكون السفر طويلاً؛ لأن في السفر القصير لغرض التفرج طريقان: أحدهما: يستحب القرعة، ويقضي والثاني: كالسفر الطويل، ولا يقضي، وهو الصحيح عند صاحب " التهذيب " " والتتمة ".
والرابع: أن لا يعزم على الإقامة، ومقصده أربعة أيام، أو أكثر.
م: (وإن رضيت إحدى الزوجات بترك قسمها لصاحبتها جاز؛ لأن سودة بنت زمعة سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يراجعها وتجعل يوم نوبتها لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) ش: مفهوم هذا الحديث أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طلق(5/254)
ولها أن ترجع في ذلك؛ لأنها أسقطت حقا لم يجب بعد، فلا يسقط.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سودة، وقال مخرجو الأحاديث: ولم نجد ذلك.
قلت: روى البيهقي في "سننه " بإسناده إلى عروة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طلق سودة، فلما خرج إلى الصلاة أمسكت بثوبه فقالت: والله ما لي في الرجال من حاجة، ولكني أريد أن أحشر في أزواجك، قال: فراجعها، وجعل يومها لعائشة،» وهذا مرسل.
وفي " مستدرك" الحاكم عن هشام بن عروة، عن أبيه، «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: يا رسول الله يومي هذا لعائشة فقبل ذلك منها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: وفيها وفي أشباهها أنزل الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء: 128] » (النساء: الآية 127) ، وقال صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وروى البخاري ومسلم «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: ما رأيت امرأة أحب إليَّ من أن أكون في مسلاخها من سودة بنت زمعة من امرأة فيها حدة، فلما كبرت قالت: يا رسول الله قد جعلت يومي منك لعائشة، فكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم لعائشة يومين، يومها ويوم سودة» .
وروى البخاري أيضاً: «كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم لكل امرأة منهن يومها، غير أن سودة بنت زمعة جعلت يومها وليلتها لعائشة، تبغي بذلك رضا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» انتهى. وزمعة بفتحتين اسم رجل.
م: (ولها أن ترجع في ذلك) ش: أي للمرأة أن ترجع في قسمها بعد أن وهبت لصاحبتها م: (لأنها أسقطت حقاً لم يجب بعد، فلا يسقط) ش: فلم يكن إسقاطها يلزمها، فلها المطالبة بعد ذلك عن وجوب الحق، وبه قال الشافعي، ومالك، وأحمد، إلا أن الشافعي قال: يشترط قبول الزوج في هبة يومها، والله أعلم.(5/255)
كتاب الرضاع قال: قليل الرضاع وكثيره سواء إذا حصل في مدة الرضاع يتعلق به التحريم. وقال الشافعي: لا يثبت التحريم إلا بخمس رضعات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الرضاع] [عدد الرضعات المحرمات]
م: (كتاب الرضاع) ش: أي هذا كتاب الرضاع، وهو بفتح الراء وهو الأصل، وبكسرها لغة. وقال عياض: الرضاعة بفتح الراء وكسرها فيهما، وأنكر الأصمعي كسرها مع أنها في الصحاح رضع الصبي أمه يرضعها رضاعا، مثل سمع يسمع سماعا، وأهل نجد يقولون: رضع رضاعا بكسر الضاد، وفي المضارع مثل ضرب يضرب ضربا، والمرضع التي لها ابن رضاع، أو ولد رضيع، قاله عياض.
وقال الجوهري: المرأة ترضع ذات ولد رضيع ترضعه، فإن وصفتها بإرضاع الولد قلت مرضعة، وإنما كان المقصود من النكاح هو التوالد والتناسل، والولد لا بد له من الرضاع، ناسب ذكرنا الرضاع عقيب النكاح.
فإن قلت: الرضاع سبب التحريم، فكان المناسب أن يذكره في المحرمات.
قلت: لما خص الرضاع بمسائل شهادة النساء في الرضاع، ومثل خلط اللبن بالرق، وغير ذلك أفرده بكتاب واحد، والرضاع في الشرع هو مص الرضيع من ثدي الآدمية في وقت مخصوص، والمص يتناول القليل والكثير، وقوله: ثدي الآدمية احتراز عن ثدي الشاة ونحوها، فإن الرضاع لا يثبت به، والمراد من وقت مخصوص هو مدة الرضاع، وفي تقديرها اختلاف، سيأتي إن شاء الله تعالى.
م: (قال: قليل الرضاع وكثيره سواء إذا حصل في مدة الرضاع يتعلق به التحريم) ش: وكذا روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وبه قال الحسن البصري وسعيد بن المسيب، وطاوس، وعطاء ومكحول، والزهري، وقتادة، وعمرو بن دينار، والحكم، وحماد، والأوزاعي، والثوري، ووكيع، وعبد الله بن المبارك، والليث بن سعد ومجاهد، وزاد الشيخ أبو بكر الرازي: عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - والشعبي والنخعي. وقال ابن المنذر: وهو قول أكثر الفقهاء. وقال النووي: وهو قول جمهور العلماء، وحكى أبو بكر الرازي وابن قدامة في " المغني " عن الليث أنه قال: أجمع المسلمون على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد، كما يفطر الصائم، وهو قول مالك في رواية.
م: (وقال الشافعي: لا يثبت التحريم إلا بخمس رضعات) ش: وبه قال أحمد في ظاهر الرواية، وإسحاق عن أحمد ثلاث، وعنه واحدة. وقال " الرافعي ": وظاهر المذهب وجهان:(5/256)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الإملاجة ولا الإملاجتان»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما: كقول أبي حنيفة، والثاني: ثلاث رضعات، واختاره مشايخنا. وقال ثقات: القياس بثلاث رضعات، وهو قول زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، كذا في شرح " الأقطع ". وقال ابن عبيد، وأبو ثور: إنما تحرم الثلاث من مفهوم لا تحرم المصة والمصتان. ويروى عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أنها قالت: لا تحرم إلا سبع رضعات. وعن حفصة لا تحرم إلا عشر رضعات.
م: (لقوله) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان» ش: روي هذا الحديث مرفوعًا، قوله: «لا تحرم المصة والمصتان» من حديث ابن أبي ملكية، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحرم المصة والمصتان» ، وروي قوله: «ولا إملاجة ولا إملاجتان» من حديث أم الفضل بنت الحارث، قالت: «دخل أعرابي على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في بيتي، فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إني كانت لي امرأة، فتزوجت عليها أخرى، فزعمت امرأتي الأولى أنها أرضعت الحدثى رضعة أو رضعتين، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان» .
وروى ابن حبان في " صحيحه " حديثًا واحدًا نحو رواية المصنف من رواية محمد بن دينار، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان.» وقال الأترازي: قوله: «ولا الإملاجة ولا الإملاجتان» ، هذا من تتمة الحديث على ما ذكره صاحب " الهداية " ولكن ليس هو بمثبت في الأخرى، فركب الحديث، ولهذا لم يثبته الترمذي في جامعه، وأبو داود في سننه على ما روينا: «لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان» انتهى.
قلت: عدم اطلاعه في كتب الحديث، وقصر باعه في هذا الفن، ألجأه إلى هذا الكلام، وكيف يقول: وليس هذا بمثبت في الأصول من كتب الحديث، وقد رواه مسلم كما ذكرنا مفردًا ومشتملًا، ورواه ابن حبان، كما رواه المصنف، وعدم إثبات الترمذي، وأبي داود هذا لا يستلزم نفي أن يكون هذا من الأحاديث المثبتة.
قوله: " الحدثى " في رواية مسلم، بضم الحاء المهملة، تأنيث الأحداث، يريد المرأة التي تزوجها بعد الأولى، والإملاجة بكسر الهمزة وبالجيم من أملجت المرأة الصبي أي أرضعته.
وقال ابن الأثير: ويروى: «لا تحرم الملجة والملجتان» ثم قال: والملج المص، ملج الصبي أمه يملجها ملجًا، وملجها تمليجا إذا رضعها. قلت: الأول من باب نصر ينصر. والثاني: من باب(5/257)
ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] ... (النساء: الآية 23) ، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب من غير فصل» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
علم يعلم. قال الكاكي: المصة - مكيدن - وهو فعل الرضع، والإملاجة - شيردادن -، يقال: أملجه أي أرضعه.
قلت: حاصل كلامه يشعر بالفرق بين المصة والإملاجة، فقال: المصة فعل الرضيع، والإملاجة فعل المرأة التي ترضع، لأنه قال بالفارسية: شيردادن، يعني إعطاء اللبن من فعل المرأة.
فإن قلت: ما وجه استدلال الشافعي بالحديث المذكور، فإن مذهبه خمس رضعات مشبعات، والحديث كيف يدل عليه.
قلت: قال الكاكي: وجه تمسك الشافعي بالحديث المذكور أن المصة داخلة في المصتين، كقوله: لا أكلم فلانًا يومًا ويومين، حيث لا ينتهي اليمين إلا بثلاثة أيام، فكأنه قال: لا تحرم المصات، والإملاجتان، فانتفت الحرمة عن أربع رضعات، وثبتت عن الخمس، وهذا ضعيف.
وقيل: وجه تمسكه لا يثبت إلا بنفي مذهبنا، فإذا نفى مذهبنا بهذا الحديث ثبت مذهبه لعدم القائل بالفصل، وقيل: تمسكه بهذا الحديث لنفي مذهبنا، وإثبات مذهبه بحديث عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أنها قالت: «كان فيما أنزل القرآن عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس رضعات معلومات يحرمن، وكان ذلك مما يتلى بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا نسخ بعده، وكان مكتوبًا على قرطاس بعده، فدخل داجن البيت فأكله» وتمسك في شرح " الوجيز " وغيره من كتبهم بهذا الحديث أيضا.
قلت: حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - رواه مسلم بلفظ: «وأنزل الله في القرآن عشر رضعات معلومات، نسخ من ذلك خمس، وصار إلى خمس رضعات، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأمر على ذلك» انتهى.
ورواه ابن ماجه عن عائشة أيضا، ولفظه أنها قالت: «كان مما أنزل الله - عز وجل - من القرآن، ثم سقط: لا يحرم إلا عشر رضعات أو خمس رضعات» . وروى ابن ماجه أيضًا عن عبد الرحمن بن قاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: «لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشرًا، ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها» .
م: (ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] ... (النساء: الآية 23) م: (وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» من غير فصل) ش: أصحابنا استدلوا لمذهبهم بالآية الكريمة، وجه الاستدلال أن الله تعالى جعل علة التحريم فعل الرضاع قل أو كثر. وقال أبو بكر الرازي في " أحكام القرآن ": إذا اقتضى فعل الرضاع استحقاق اسم الأمومة والأخوة بوجود نفس فعل الرضاع، وذلك(5/258)
ولأن الحرمة وإن كانت لشبهة البعضية الثابتة بنشوز العظم، وإنبات اللحم، لكنه أمر مبطن، فتعلق الحكم بفعل الإرضاع، وما رواه مردود بالكتاب أو منسوخ به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يقتضي وجوب التحريم بقليل الفعل وكثيره لصدق إطلاق اسم الأم عليه، وهذا لأن كل حق يتعلق بعلة في الشرع يثبت الحكم بوجوده، لا تعدد فيه، وقيل لابن عمر: إن ابن الزبير يقول: لا بأس بالرضعة والرضعتين، فقال: قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير.
وقال أبو بكر بن العربي: الرضاع وصف ثبت بنفس الفعل، وهذا معلوم عربية، وشرعًا. قال عز وجل: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23) ، ارتبط التحريم بالرضاع مطلقًا، من غير تقييد بخمس، أو سبع، أو عشر، أو نحو ذلك، فمن قدره بعدد لا يدل القرآن عليه فقد رفع حكم الآية بأمر مضطرب، لا يعول عليه.
واستدل أصحابنا أيضًا بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم، من حديث ابن عباس، ومن حديث عائشة، وقد تقدم الكلام فيه في أول كتاب النكاح. قوله: - من غير فصل - يعني بين القليل والكثير في الكتاب والحديث، روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله حرم من الرضاع ما حرم من الولادة» متفق عليه.
وفي البخاري ومسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من الرحم» وفي لفظ: «ما يحرم من النسب» من غير تقييد بعدد كالقرآن.
م: (ولأن الحرمة وإن كانت لشبهة البعضية) ش: هذا دليل معقول، يتضمن جواب سؤال مقدر، تقديره أن يقال: لما كان التحريم باعتبار إنشاز العظم، وإنبات اللحم، وذلك يحصل بالكثير دون القليل، وتقدير الجواب: أن الحرمة وإن كانت باعتبار شبهة البعضية الحاصلة من اللبن م: (الثابتة بنشوز العظم وإنبات اللحم) ش: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرضاع أنشز العظم وأنبت اللحم» والإنشار بالراء الإحياء، قال الله تعالى: {إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22] (عبس: الآية 22) ، والمعنى في الحديث: نشره، كأنه أحياه، ويروى بالزاي، يقال: نشز الشيء إذا ارتفع.
م: (لكنه أمر مبطن) ش: فيه خفاء، والرضاع سبب ظاهر م: (فتعلق الحكم) ش: أي حكم الحرمة م: (بفعل الإرضاع) ش: يعني بمجرد الإرضاع م: (وما رواه) ش: أي ما رواه الشافعي من قوله: «لا تحرم المصة» ... الحديث م: (مردود بالكتاب) ش: لأن العمل بالكتاب أقوي على تقدير أن يكون الكتاب قبله م: (أو منسوخ به) ش: أي بالكتاب إن كان بعده. وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه قال: قوله: «لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان» كان ذلك، فأما اليوم فالرضعة الواحدة تحرم، فيجعل ذلك منسوخًا، حكاه عنه أبو بكر الرازي، ومثله روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
وقال ابن بطال: أحاديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - مضطربة، فوجب تركها والرجوع(5/259)
وينبغي أن يكون في مدة الرضاع لما نبين. ثم مدة الرضاع ثلاثون شهرا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: سنتان، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ثلاثة أحوال؛ لأن الحول حسن للتحول من حال إلى حال، ولا بد من الزيادة على الحولين لما نبين فقدر به. ولهما قَوْله تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] (الأحقاف: الآية15) ، ومدة الحمل أدناها ستة أشهر، فبقي الفصال حولان. وقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا رضاع بعد حولين» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
طبع الصبي م: (وينبغي أن يكون في مدة الرضاع على ما نبين) ش: أي ينبغي أن يكون الرضاع الذي يتعلق به التحريم في مدة الرضاع لا بعدها، وفي مدتها اختلاف، وسنبينه إن شاء الله تعالى. م: (ثم مدة الرضاع ثلاثون شهرا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) ش: وعند بعضهم: تثبت حرمة الرضاع في جميع العمر م: (وقالا: سنتان) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد: ومدة الرضاع سنتان م: (وهو قول الشافعي) ش: أي قولهما قول الشافعي، وبه قال أحمد.
م: (وقال زفر: ثلاثة أحوال) ش: أي مدة الرضاع ثلاث سنين، واختلفت المالكية بعد الحولين إلى شهرين، وفي " المختصر ": أيام يسيرة، وقال عبد الملك: شهر ونحوه. وفي " المبسوط " عنه: يقدر بزيادة الشهور. وفي " الحاوي ": مثل نقصان الشهور. قال أبو الوليد: يحرم بعد الحولين إلى ثلاثة شهور. وذكر الداودي عنه: يحرم بعد سنتين، وعند البصري: أربع سنين، وقيل خمسة عشر سنة، وقيل: عشرون سنة، وقيل: أربعون سنة، وقيل: سنة، وقيل: جميع العمر كما ذكرنا. م: (لأن الحول حسن للتحول) ش: هذا دليل زفر، أي الحول صالح للتحول، أي للتغير م: (من حال إلى حال) ش: باعتبار حولان الحول الموجب لتغيير الطباع، كما في أجل العنين، والزكاة لاشتمال الحول على الفصول الأربعة. م: (ولا بد من الزيادة على الحولين) ش: لأن الرضيع لا يحصل فطامه في ساعة واحدة، بل يفطم بالتدريج على وجه ينسى اللبن، ويتعود بالطعام.
ولا بد من زيادة مدة م: (لما نبين) ش: يعني في وجه قول أبي حنيفة م: (فقدر) ش: على صيغة المجهول، أي فتقدر الزيادة م: (به) ش: أي بالحول، فيصير ثلاثة أحوال. م: (ولهما) ش: أي ولأبي يوسف، ومحمد م: (قَوْله تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] (الأحقاف: الآية 15) ، ومدة الحمل أدناها ستة أشهر، فبقي الفصال حولان) ش: لأنه تعالى قال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] ولا رضاع بعد الفصال.
م: (وقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا رضاع بعد حولين» ش: هذا الحديث رواه الدارقطني بإسناده عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا رضاع إلا في حولين» .(5/260)
وله هذه الآية ووجهه أنه تعالى ذكر شيئين، وضرب لهما مدة، فكانت لكل واحد منهما بكمالها كالأجل المضروب للدينين، لا أنه قام، والمنقص في أحدهما، فبقي الثاني على ظاهره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه ابن عدي ولفظه: «لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين» .
وقال صاحب " التنقيح ": والصحيح وقفه على ابن عباس، ولم أر أحدًا رواه بعد حولين إلا المصنف، فكأنه نقله عن " المبسوط " هكذا.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (هذه الآية) ش: يعني قَوْله تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} [الأحقاف: 15] م: (ووجهه) ش: أي وجه الاستدلال بها م: (أنه ذكر شيئين) ش: يعني الحمل والفصال م: (وضرب لهما مدة) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: ثلاثون شهرا، فكل ما كان كذلك م: (فكانت) ش: أي المدة م: (لكل واحدة منهما لكمالها، كالأجل المضروب للدينين) ش: بأن قال: جعلت الدين الذي على فلان، والدين الذي على فلان سنة، يفهم منه تقدير المدة في كل واحد من الدينين م: (إلا أنه قام) ش: وحديث الإملاجة والإملاجتان لا يصح، لأنه يرويه مرة عن ابن الزبير عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومرة عن عائشة، ومرة عن أبيه، ومثل هذا الاضطراب يسقط.
وفي " المبسوط ": فأما حديث عائشة فضعيف جدًّا أنه إذا كان متلوًّا بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلماذا ما يتلى، لأن نسخ التلاوة بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يجوز، وما ذكر أن الداجن دخل البيت، فأكل القرطاس غير قوي، لأنه يقوي مذهب الروافض، فإنهم يقولون: إن الصحابة تركوا كثيرًا من القرآن بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يكتبوه في المصاحف، وهو قول باطل بالإجماع.
وقيل: عجب من الشافعية لا يعلمون بقراءة ابن مسعود في صوم الكفارة، ويعلمون برواية عائشة والقرآن لا يثبت بخبر الواحد، والعمل بالقراءة الشاذة لا يجوز.
م: (المنقص في أحدهما) ش: يعني الحمل وهو حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لا يبقى الولد في بطن أمه أكثر من سنتين، ولو بفلكة مغزل م: (فبقي الثاني) ش: وهو الفصال م: (على ظاهره) ش: وهو ثلاثون شهرًا، وهو عدم النص.
فإن قلت: هذا خبر الواحد، فلا يجوز تفسير الكتاب به.
قلت: أجيب بأن الكتاب مؤول، قال فخر الإسلام: وعامة أهل التفسير ذكروا أن المضروب(5/261)
ولأنه لا بد من تغيير الغذاء، لينقطع الإنبات باللبن، وذلك بزيادة مدة يتعود الصبي فيها غيرة فقدرت بأدنى مدة الحمل، لأنها مغيرة، فإن غذاء الجنين يغاير غذاء الرضيع، كما يغاير غذاء الفطيم، والحديث محمول على مدة الاستحقاق، وعليه يحمل النص المقيد بحولين في الكتاب. قال: وإذا مضت مدة الرضاع لم يتعلق بالرضاع تحريم لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا رضاع بعد الفصال»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للدينين يتنوع عليهما بقدر الإمكان، فلم يكن دلالة الكتاب على ما استدل به المصنف قطعية، ويؤيده ما روي أن رجلا تزوج امرأة، فولدت لستة أشهر، فجيء بها إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فشاور في رجمها، فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إن خاصمتكم بكتاب الله تعالى - خصمتكم، قالوا: كيف، قال: إن الله تعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] (الأحقاف: الآية 15) ، وقال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] (البقرة: الآية 233) ، فحمله ستة أشهر، وفصاله حولان، فتركها، وإذا لم يكن دلالتها على ذلك كذلك لم يلزم التفسير.
م: (ولأنه) ش: دليل آخر، أي ولأن الشأن م: (لا بد من تغيير الغذاء) ش: في الرضيع م: (لينقطع الإنبات باللبن) ش: ويحصل بغيره إبقاء لحياته م: (وذلك) ش: أي تغيير الغذاء يكون م: (بزيادة مدة يتعود الصبي فيها) ش: أي في تلك المدة م: (غيره) ش: أي غير اللبن، لأن القطع عن اللبن دفعة غير أن يتعود يهلك، وهذا هو الذي وعزاه المصنف لزفر، لقوله: لما تبين لكن زفر قيد بسنة كما في العنين، وأبو حنيفة قدرها: بأدنى مدة الحمل، لأنها مغيرة، فإن الولد في بطن الأم ستة أشهر يبقي، ويتغذى بغذاء الأم، وبعد الانفصال غذاؤه اللبن، ويصير أصلًا في الغذاء بالطعام.
م: (والحديث) ش: وهو قوله: «لا رضاع بعد الحولين» م: (محمول على مدة الاستحقاق) ش: أي الرضاع المستحق، حتى لا تستحق نفقة على الأب بعد ذلك. وقالوا: إن تمام الرضاع في حق استحقاق الأجر على الأب مقدر بحولين، حتى لو طلق امرأته وطلبت الإرضاع بعد الحولين وأبى الزوج لا يجبر على ذلك، ولو دفع ذلك في الحولين يجبر على الإعطاء م: (وعليه يحمل النص المقيد بحولين في الكتاب) ش: أي على استحقاق الصبي الرضاع يحمل قوله حولين كاملين، بدليل قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا} [البقرة: 233] (البقرة: الآية 233) ، وذلك لأن الرضاع لو كان حرامًا بعد الحولين لم يزل الرضاع في زوال الحرمة الثابتة شرعًا. م: (قال: وإذا مضت مدة الرضاع لم يتعلق بالرضاع تحريم لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا رضاع بعد الفصال» ش: هذا الحديث رواه الطبراني في(5/262)
ولأن الحرمة باعتبار النشر، وذلك في المدة إذ الكبير لا يتربى به، ولا يعتبر الفطام قبل المدة إلا في رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا استغنى عنه، ووجهه انقطاع النشر بتغير الغذاء،
وهل يباح الإرضاع بعد المدة؟ فقيل: لا يباح؛ لأن إباحته ضرورية لكونه جزء الآدمي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
معجمه بإسناده إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا رضاع بعد فصال ولا يتم بعد حلم» رواه عبد الرزاق مرفوعًا، ثم رواه موقوفًا. وقال العقيلي في كتابه: هو الصواب، ورواه الطيالسي في " مسنده " من حديث جابر نحوه. وفي إسناده حزام بن عثمان، وأعله ابن عدي به بعد أن رواه، ونقل عن الشافعي وابن معين - رحمهما الله تعالى - أنهما قالا: الرواية عن حزام حرام.
م: (ولأن الحرمة باعتبار النشر وذلك) ش: أي النشر م: (في المدة) ش: لأن الحرمة في الرضاعة باعتبار الصغير لا يتغذى بغيره م: (إذ الكبير لا يتربى به) ش: أي باللبن عادة، بوجوب تغذيته بغيره م: (ولا يعتبر الفطام قبل المدة) ش: يعني إذا فطم لا يعتبر م: (إلا في رواية عن أبي حنيفة) ش: رواه الحسن عنه م: (إذا استغنى عنه) ش: أي عن اللبن.
م: (ووجهه) ش: أي وجه ما روي عن أبي حنيفة م: (انقطاع النشر بتغير الغذاء) ش: أي انقطاع النشر الصالح باللبن، يعني أن نشر الصبي باللبن ينقطع بعد استغنائه بالطعام، لتغير غذائه؛ لأن غذاءه كان لبنًا فصار طعامًا، فلا تثبت الحرمة برضاع اللبن بعد ذلك، ولهذا قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث أبي هريرة: «الرضاع ما فتق الأمعاء، وكان ذلك قبل الطعام» وفي " الواقعات ": الفتوى على ظاهر الرواية، لا يعتبر الطعام قبل المدة.
[يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب]
م: (وهل يباح الإرضاع بعد المدة، قد قيل: لا يباح؛ لأن إباحته ضرورية) ش: أي لأن إباحة اللبن في المدة لضرورة الولد، والثابت بالضرورة يتقدر بقدر الضرورة، فلا يباح بعد المدة لزوال الضرورة م: (لكونه جزء الآدمي) ش: أي لكون اللبن جزء الآدمي، والانتفاع به حرام، لأن الآدمي وجزءه لا يجوز أن يكون مبتذلًا مهانًا، وسواء كان الإرضاع من الأم، أو من الأجنبية.
وقال التمرتاشي: واختلف المشايخ في الانتفاع باللبن للدواء، قيل: لم يجز، وقيل: يجوز إذا علم أنه يزول به الرمد، وفي " الذخيرة " و" الروضة ": فطمت في السنتين، واستغنت بالطعام، ثم رضعت في المدة من امرأة أخرى لا يكون رضاعًا، وإن لم تستغن كان رضاعًا، ذكره الخصاف في(5/263)
قال: ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، للحديث الذي روينا، إلا أم أخته من الرضاع، فإنه يجوز أن يتزوجها، ولا يجوز أن يتزوج أم أخته من النسب؛ لأنها تكون أمه، أو موطوءة أبيه بخلاف الرضاع،
ويجوز أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع، ولا يجوز ذلك من النسب، لأنه لما وطئ أمها حرمت عليه، ولم يوجد هذا المعنى في الرضاع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رضاعه.
وفي " إملاء بشر بن الوليد ": هو رضاع. وفي عمدة الفتاوى ": إن خيف عليه الهلاك لفطام قبل سنتين ونصف يطالب بالأجرة. وفي " المحيط ": الرضاع بعد الفطام لا يحرم عند أبي يوسف، وعند محمد: لا اعتبار بالفطام في الحولين، بل ذلك عنده محرم. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر: لا رضاع بعد مضي المدة، قاله الأسبيجابي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: «ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» للحديث الذي روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وقد ذكره في أوائل كتاب النكاح، واستثني من هذا العموم صورتين:
إحداهما: هو قوله: م: (إلا أم أخته من الرضاع، فإنه يجوز أن يتزوجها، ولا يجوز أن يتزوج أم أخته من النسب؛ لأنها تكون أمه، أو موطوءة أبيه) ش: أي لأن أم أخته من النسب تكون أمه إذا كانت الأخت لأب م: (بخلاف الرضاع) ش: لأن المعنى المذكور لم يذكر فيه.
م: (ويجوز أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع، ولا يجوز ذلك من النسب) ش: هذه هي الصورة الثانية المستثناة م: (لأنه لما وطئ أمها) ش: أي لأن الأب لما وطئ أم أخت ابنه م: (حرمت) ش: أي أخت الابن م: (عليه) ش: أي الأب بالمصاهرة م: (ولم يوجد هذا المعنى في الرضاع) .
ش: واعلم أن المصنف لو قال في المسألة الأولى: أم أخته وأخيه لكان أولى؛ لأن الحكم في الوجهين واحد، وكذا لو قال في هذه المسألة: أخت ولده ليشمل الذكر والأنثى لكان أولى. وقال الأترازي: وقد سنح في خاطري إنشاء سطر لضبط المسألة.
وما هذا تزوج أم أختك من رضاع ... ومن نسب محرمة فراع
وأخت ابن رضاعي حلال ... وما نسب يجوزها اتساع
واعلم أن كل ما لا يحرم من النسب لا يحرم بالرضاع كما ذكرنا في الصورتين، وهاهنا صور أخر تجوز من الرضاع دون النسب:
الأولى: يجوز أن يتزوج أم عمه من الرضاع دون النسب.
الثانية: يجوز له أن يتزوج بجدة ولده من الرضاع دون النسب.(5/264)
وامرأة أبيه، أو امرأة ابنه الرضاع لا يجوز أن يتزوجها، كما لا يجوز ذلك من النسب لما روينا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثالثة: يجوز له أن يتزوج بعمة ابنه من الرضاع دون النسب.
الرابعة: يجوز لها أن تتزوج بأب أخيها من الرضاع، ولا يجوز ذلك من النسب.
الخامسة: يجوز له أن يتزوج أم خاله من الرضاع دون النسب.
السادسة: يجوز لها أن تتزوج بأخ ابنتها من الرضاع دون النسب. وجمع بعض فقهاء بخارى المسائل التي تفارق حكم الرضاع حكم النسب، فقال مرتجزًا:
يفارق الإرضاع حكم النسب ... في خمسة مسطورة في الكتب
أم أخ, وأم أخت سيدي ... وأم أم الابن فافقه سيدي
وهكذا وقعت أخت الولد ... فاقتبس العلم لكيما تهتدي
وأم عم, ثم أم عمة ... فافقه مقالي, لا لقيت عمه
وأم خال ثم أم خالة ... والحق لا يخفى من الجهالة
نكاحهن في الرضاع واقع ... وما عداه فالدليل مانع
وقال شيخنا: واستثنى بعضهم (من) ش: قوله: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب أربع مسائل، استثناها الرافعي في الشرح، وزادها بعضهم إلى ثلاث مسائل أخرى، وقد نظم بعض الفضلاء المسائل الأربعة التي استثناها الرافعي في بيتين، وذيلت عليها بالمسائل الثلاثة الأخرى في بيتين آخرين، والبيتين هما:
أربع في الرضاع هن حلال ... وإذا ما نسبتهن حرام
جدة ابن, وأخته ثم ... أم لأخيه, وحافر والسلام
والذي زاد شيخنا هو قوله:
عزز بأم عم, وخال, وأخ ... ابن فتلك سبع تمام
وهي ليست بواردات على النص، ولا الشافعي وهو الأم.
[حكم لبن الفحل]
م: (وامرأة أبيه، أو امرأة ابنه من الرضاع لا يجوز أن يتزوجها، كما لا يجوز ذلك في النسب لما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» . وعند الشافعي: يجوز تزوج حليلة الابن من الرضاع، قوله: وامرأة أبيه صورته امرأة تزوج بها زوج المرضعة، ثم فارقها فإنها لا تحل(5/265)
وذكر الأصلاب في النص لإسقاط اعتبار التبني على ما نبينه. ولبن الفحل يتعلق به التحريم، وهو أن ترضع المرأة صبية فتحرم هذه الصبية على زوجها، وعلى آبائه وأبنائه، ويصير الزوج الذي نزل له منه اللبن أبا للرضيعة، وفي أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لبن الفحل لا يحرم، لأن الحرمة بشبهة البعضية، واللبن بعضها لا بعضه. ولنا ما ورينا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لولده أن يتزوجها كما لا يجوز ذلك في النسب لما روينا، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .
م: (وذكر الأصلاب في النص) ش: هذا جواب عما يقال: إنه تعالى حرم حليلة الابن من الصلب، وحليلة الابن من الرضاع ينبغي أن لا تحرم، لأن هذا ليس من صلبه فأجاب بقوله: وذكر الأصلاب في النص، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23) م: (لإسقاط اعتبار التبني) ش: فإن حليلة الابن المتبنى كانت حرامًا في الجاهلية.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون لإسقاط حليلته من الرضاع، أو لإسقاطهما جميعًا، وما وجه ترجيح جانب حليلة الابن المتبنى في الإسقاط.
أجيب: بأن حرمة الحليلة من الرضاع ثابتة بالحديث المشهور، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع» الحديث، فحملناه على حليلة الابن المتبنى، لئلا يلزم التدافع بين موجب الكتاب والسنة المشهورة.
م: (على ما نبينه) ش: في فصل المحرمات م: (ولبن الفحل يتعلق به التحريم) ش: الإضافة في لبن الفحل من باب إضافة الشيء إلى سببه؛ لأن سبب اللبن هو الفحل، وقوله: يتعلق به التحريم قول عامة أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ومالك وأحمد - رحمهما الله تعالى -.
وفي " المبسوط ": قال بعض العلماء - وهو داود، وابن علية -: لم يتعلق به التحريم، وهو أحد قولي الشافعي، ولكن ذكر في شرح " الوجيز ": ويتعلق بلبن الفحل التحريم عند عامة العلماء. وعن بعض الصحابة خلافه، واختاره أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي، رواه عن الشافعي، لأن النص ذكر حرمة الرضاع في جانب النساء، ولأن الحرمة لا تثبت في حق الرجال بحقيقة فعل الإرضاع منه، حتى لو نزل له لبن، فأرضع به صبيًّا لا تثبت الحرمة، فلأن لا تثبت بإرضاع زوجته أولى، وفي شرح " الأقطع ": روي عن سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي. أن لبن الفحل لا يحرم.
م: (وهو أن ترضع المرأة صبية، فتحرم هذه الصبية على زوجها، وعلى آبائه وأبنائه، ويصير الزوج الذي نزل لها منه اللبن أبًا للرضيعة، وفي أحد قولي الشافعي: لبن الفحل لا يحرم؛ لأن الحرمة لشبهة البعضية، واللبن بعضها لا بعضه، ولنا ما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .(5/266)
والحرمة بالنسب من الجانبين، فكذا بالرضاع، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ليلج عليك أفلح؛ فإنه عمك من الرضاعة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي رواية عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «يحرم من الرضاعة ما يحرم بالولادة» فقد ألحقه بالنسب.
وأشار إلى وجه الاستدلال بالحديث المذكور بقوله: م: (والحرمة بالنسب) ش: تثبت م: (من الجانبين) ش: أي من جانبي الرجل والمرأة م: (فكذا بالرضاع) ش: أي فكذا بسبب الرضاع الحاصل بسبب الحرمة من الجانبين.
فإن قيل: الحرمة هنا تثبت باللبن، واللبن منها لا منه، ولهذا يتحقق نزول اللبن من البكر.
قلنا: اللبن منه أيضًا، لأن سببه الولادة، وهو الإحبال وهو نسبه، فتثبت الحرمة بينهما كما في النسب، ونزول اللبن بلا إصابة الفحل نادر، فلا عبرة به.
م: (وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: ليلج عليك أفلح؛ فإنه عمك من الرضاعة) ش: الحديث رواه الأئمة الستة في كتبهم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: «دخل عليّ أفلح بن أبي القعيس فاستترت منه، فقال: تستترين مني وأنا عمك، قلت: من أين؟، فقال: أرضعتك امرأة أخي، قالت: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل، فدخلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحدثته فقال: " إنه عمك، فليلج عليك» وجه الاستدلال به أن العم من الرضاع لا يكون إلا باعتبار لبن الفحل.
وفي " المبسوط ": قوله: ليلج أمر للغائب من الولوج بالجيم، وهو الدخول، وأصله ليولج، لأنه من ولج يلج، ولو جاز فأصل يلج يولج، فحذفت الواو لوقوعها بين الياء والكسرة، فحذفت فصار يلج، وكذا حذفت من سائر تصرفات هذه المادة وعليك بكسر الكاف؛ لأنه خطاب لعائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، قوله: أفلح بالرفع فاعل فلح، وأفلح بفتح الهمزة وسكون الفاء وبالحاء المهملة على الرجل الذي هو ابن أبي القعيس كما هو المذكور في الحديث المذكور، وهذا في رواية لمسلم هكذا أفلح بن أبي القعيس، وهكذا في أكثر الروايات.
وفي " الصحيحين " أيضًا والنسائي من طريق مالك «أن أفلح أخا أبي القعيس، جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة، وفي رواية لمسلم والنسائي قالت: استأذن عليّ عمي من الرضاعة أبو الجعد، فرددته» . قال هشام: إنما هو أبو القعيس، والصواب: أنه أفلح كنيته أبو الجعد، وهو أخو أبي القعيس، قال القرطبي في " المفهم " هو الصحيح، وما سوى ذلك وهم، ولا يعرف لأبي القعيس، ولا لأخيه أفلح ذكر إلا في هذا الحديث، ويقال: إنهما في الأشعريين.
ووقع في رواية الترمذي هكذا عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: جاء عمي من(5/267)
ولأنه سبب لنزول اللبن منها فيضاف إليه في موضع الحرمة احتياطا،
ويجوز أن يتزوج الرجل بأخت أخيه من الرضاع، لأنه يجوز أن يتزوج بأخت أخيه من النسب، وذلك مثل الأخ من الأب إذا كانت له أخت من أمه جاز لأخيه من أبيه أن يتزوجها، وكل صبيين اجتمعا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرضاعة يستأذن علي ... الحديث، هكذا وقع منهما من غير تعريف له باسم أو كنية، أو غيرهما. وقال شيخنا زين الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في تفسير رواية الترمذي: جاء عمي من الرضاعة، اختلف في كيفية ثبوت العمومة لأفلح هذا، فزعم بعضهم ممن رأي أن لبن الفحل لا يحرم بالنسبة إلى الفحل، والراجح أن أفلح هذا رضع مع أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فكان عمًّا لعائشة من الرضاعة، ولهذا أخطأ برده الأحاديث الصحيحة.
والصواب أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - ارتضعت من امرأة أبي القعيس، وأفلح أخو أبي القعيس، فصار عمًّا من الرضاعة، كما ثبت مصرحًا به في الصحيحين من رواية عراك، عن عروة، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: «استأذن عليّ أفلح، أخو أبي القعيس» الحديث، وأطنب شيخنا الكلام في هذا الحديث.
وذكر فيه فوائد، منها أنه قد يستدل بقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - ولم يرضعني الرجل على أنه لو كان للرجل لبن فأرضع أنه يحرم، وهو قول الكرابيسي من أصحاب الشافعي، والصحيح أنه لا يتعلق به حرمة، ولكن قد نص الشافعي في " البويطي " على أنه إذا نزل للرجل لبن فأرضعه صبية كره له نكاحها.
م: (ولأنه) ش: أي لأن الزوج م: (سبب لنزول اللبن منها، فيضاف إليه في موضع الحرمة احتياطًا) ش: أي إلى الزوج لا يقال: إنه إضمار قبل الذكر، لأن الشهوة تقوم مقام الذكر كما في قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] (ص: الآية 32) ، أي الشمس؛ لأن الموضع موضع الحرمة، فيجعل كأن البعضية حصلت بين الرضيع وبين الزوج.
م: (ويجوز أن يتزوج الرجل بأخت أخيه من الرضاع؛ لأنه يجوز أن يتزوج بأخت أخيه من النسب، وذلك مثل الأخ من الأب إن كانت له أخت من أمه جاز لأخيه من أبيه أن يتزوجها) ش: أوضح الأترازي كلام المصنف بقوله: هذا مثل أن يرضع زيد من أم عمرو، فيجوز لعمرو أن يتزوج أخت زيد نسبًا، وإن كان زيد أخاه من الرضاع، كما في النسب، ذلك مثل الأخوين لأب، ولأحدهما أخت من أمه من غير أمها جاز للأخ الآخر أن يتزوج أخته، لأن هذه أجنبية في حق الأخ لأب، وعلى هذا أخت الأخت من الرضاع، وأخت الأخت من النسب، وكان ينبغي أن يقول: أخت أخيه، أو أخته من الرضاع، ويقول: أخت أخيه، وأخته من النسب، لكن اكتفى بذكر الأخ لظهور ذلك.
م: (وكل صبيين) ش: أراد بهما الصبي والصبية بطريق التغليب، كما في العمرين لأبي بكر(5/268)
على ثدي واحد لم يجز لأحدهما أن يتزوج بالأخرى، هذا هو الأصل، لأن أمهما واحدة، فهما أخ وأخت،
ولا تتزوج المرضعة أحدا من ولد التي أرضعت، لأنه أخوها، ولا ولد ولدها، لأنه ولد أخيها، ولا يتزوج الصبي المرضع أخت زوج المرضعة؛ لأنها عمته من الرضاع. وإذا اختلط اللبن بالماء، واللبن هو الغالب تعلق به التحريم، وإن غلب الماء لم يتعلق به التحريم، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، فيغلب المذكر على المؤنث، والأخف على الأثقل م: (اجتمعا على ثدي واحد) ش: لآدمية كيفما كان م: (لم يجز لأحدهما أن يتزوج بالأخرى) ش: لأنهما أخ وأخت لأب وأم من الرضاعة، فلا يجوز كما في النسب، هذه المسالة من مسائل القدوري، ولفظ القدوري على ثدي واحد على كورة واحدة صفة لثدي، والمراد ثدي المرأة كما قدمنا. وفي بعض النسخ " وقع على ثدي واحدة "، بإضافة الثدي إلى واحدة، وبتأنيث الواحدة على تقدير امرأة واحدة، وهكذا شرحه الأترازي؛ لأن في نسخة " على ثدي واحدة، وكذا قال في " النهاية " على ثدي واحدة، كذا حتى لو اجتمعا على ضرع بهيمة واحدة لم يحرم أحدهما على الآخر، فكان هو بمنزلة طعام أكلاه من إناء واحد.
م: (هذا هو الأصل) ش: أي اجتماع الصبيين على ثدي امرأة واحدة هو الأصل في باب الحرمة م: (لأن أمهما) ش: أي أم الصبيين م: (واحدة فهما) ش: أي الصبيان م: (أخ وأخت) ش: والأخت حرام على الأخ من النسب والرضاع جميعًا.
[تتزوج المرضعة أحدًا من ولد التي أرضعت]
م: (ولا تتزوج المرضعة أحدًا) ش: المرضعة بفتح الضاد، أي لا تتزوج الصبية المرضعة م: (من ولد التي أرضعت) ش: أي من ولد المرأة التي رضعت الصبية، وقال الكاكي: المرضعة بفتح الضاد، هكذا عن الثقات، وبصيغة الفاعل غير صحيح يعرف بالتأمل. وقال السغناقي: المرضعة بصيغة اسم المفعول، وبالرفع على الفاعلية، ونصب أحدًا على المفعولية، هذا هو الأصح من النسخ. وفي نسخة أخرى: ولا تتزوج المرضعة أحدًا من ولد التي أرضعت، بعكس الأولى في الفاعلية والمفعولية، وهذا أيضًا صحيح، فإن كلاهما بخط شيخي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
م: (لأنه أخوها) ش: أي لأن الأحد الذي ولد ولد التي أرضعتها م: (لأنه ولد أخيها) ش: كما في النسب م: (ولا يتزوج الصبي المرضع) ش: بفتح الضاد م: (أخت زوج المرضعة، لأنها عمته من الرضاع) ش: كما لا يجوز في النسب.
م: (وإذا اختلط اللبن بالماء، واللبن هو الغالب) ش: أي والحال أن اللبن هو الغالب على الماء م: (تعلق به التحريم) ش: لأن الحكم للغالب م: (وإن غلب الماء لم يتعلق به التحريم، خلافًا للشافعي) ش: فإن عنده على الأصح يتعلق به التحريم إذا كان مقدار خمس رضعات من اللبن وبه قال أحمد، وكذا الخلط بالدواء، أو بلبن بهيمة، أو بكل مائع أو جامد، واعتبر مالك أن يكون اللبن مستهلكًا في(5/269)
هو يقول: إنه موجود فيه حقيقة، ونحن نقول: المغلوب غير موجود حكما، حتى لا يظهر بمقابلة الغالب، كما في اليمين،
وإن اختلط بالطعام لم يتعلق به التحريم، وإن كان اللبن غالبا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: إذا كان اللبن غالبا يتعلق به التحريم. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قولهما فيما إذا لم تمسه النار حتى لو طبخ بها لا يتعلق به التحريم في قولهم جميعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جميع ذلك، لعدم تعلق التحريم به.
م: (هو يقول: إنه) ش: أي الشافعي يقول: إن اللبن م: (موجود فيه حقيقة) ش: غاية ما في الباب أن اللبن هالك، يعني لفوات منفعته بغلبة الماء، فدارت الحرمة بين الثبوت وعدمه، فتغلب الحرمة احتياطًا. م: (ونحن نقول: المغلوب غير موجود حكمًا، حيث لا يظهر لمقابلة الغالب، كما في اليمين) ش: بأن حلف لا يشرب اللبن، فشرب لبنًا مغلوبًا بماء لا يحنث. لكن للخصم أن يجيب عنه ويقول: إن الأيمان مبنية على العرف، فلا يحنث، لأنه في العرف لا يسمى المغلوب لبنًا، أما الحرمة فمبنية على وجود اللبن، ولكن الأولى أن نقول: إن الحرمة لا تتعلق بصورة الإرضاع، ووجود اللبن كما في " الكبير " بالإجماع، بل يتعلق باعتبار إنشاز العظم، وإنبات اللحم، والمغلوب لا يحصل الإنشاز والإنبات، لأنه لا يحصل التغذي به. فإن قيل: يشكل هذا بما لو وقعت قطرة دم، أو خمر في جب من ماء، حيث ينجسه، وإن كان الماء غالبًا حقيقة.
قلنا: لما لم يكن الماء كثيرًا شرعًا بأن لم يكن عشرًا في عشر لم يكن غالبًا حكمًا، فتعارضتا فرجحنا حجة النجاسة احتياطيًا، كذا نقل عن العلامة حميد الدين الضرير. قال الكاكي: لكن سمعت شيخي العلامة مولانا عبد العزيز - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن الرجحان الذاتي، إنما يكون راجحًا سابقًا على الرجحان الحالي، إذا لم يكن في الحادثة نص، وقد وجد النص هاهنا، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم» ... " الحديث. وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا بلغ الماء قلتين
» الحديث، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الماء طهور» ... " الحديث، فلا يعتبر الرجحان الذاتي؛ لأنه يثبت بالاجتهاد، ولا اختيار للاجتهاد في مقابلة النص.
[اختلط لبن الرضاع بالطعام]
م: (وإن اختلط بالطعام لم يتعلق به التحريم، وإن كان اللبن غالبًا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) ش: كلمة إن واصلة بما قبله، وذكر في شرح " الطحاوي ": أن اللبن إذا كان غالبًا بحيث يتقاطر من الطعام، فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لا يكون رضاعًا، خلافًا لصاحبيه.
م: (وقالا: إذا كان اللبن غالبًا يتعلق به التحريم. قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - م: (قولهما) ش: أي قول أبي يوسف ومحمد م: (فيما إذا لم تمسه النار) ش: أي فيما لم تمس اللبن النار م: (حتى لو طبخ فيها) ش: أي طبخ اللبن بالنار م: (لا يتعلق به التحريم في قولهم جميعًا) ش: لأنه لا(5/270)
لهما أن العبرة للغالب، كما في الماء إذا لم يغيره شيء في حاله. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الطعام أصل، واللبن تابع له في حق المقصود، فصار كالمغلوب،
ولا معتبر بتقاطر اللبن من الطعام عنده هو الصحيح؛ لأن التغذي بالطعام إذ هو الأصل، وإن اختلط بالدواء واللبن غالب، تعلق به التحريم، لأن اللبن يبقى مقصودا فيه، إذ الدواء لتقويته على الوصول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يتغير بالطبخ من غيره عن طعمه وصفته، وذكر خواهر زاده: أن على قول أبي حنيفة: إنما لا يثبت إذا أكل لقمة لقمة، أما إذا حشاه حشوًا يثبت به، وقيل: إذا وصل اللبن إلى حلقه معقودًا فلا خلاف فيه، وإذا تناول الثريد فلا خلاف فيه، وفي كتاب الرضاع للخصاف: إذا ثردت له خبزًا في لبنها حتى يشرب الخبز ذلك اللبن، أو لت به سويقًا فأطعمته إياه إن كان طعم اللبن يوجد، فهذا رضاع، وذكر صاحب " الأجناس " أنه قولهما. وفي " الرافعي ": ولو ثردت في اللبن طعامًا، أو عجنت به دقيقًا وخبزت تعلق به الحرمة. وفي العجن: والخبز وجه عن القاضي حسين.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن العبرة للغالب، كما في الماء) ش: أي كما إذا خلط بالماء اللبن، وهو الغالب م: (إذا لم يغيره شيء عن حاله) ش: يعني إذا لم يغير اللبن شيئًا عن حاله بالطبخ، كما إذا خلط لبن المرأة بالماء، واللبن هو الغالب.
م: (وله) ش: أي لأبي حنيفة م: (أن الطعام أصل، واللبن تابع له في حق المقصود) ش: وهو الأكل بالوصول إلى المعدة، ولهذا يؤكل ولا يشرب، وغير المائع يستتبع المائع م: (فصار) ش: أي اللبن م: (كالمغلوب) ش: فيه نظر، لأن المغلوب غير موجود حكمًا، أما ما لم يكن مغلوبًا ويكون كالمغلوب، فلا نسلم أنه ليس بموجود. والجواب: أن هذه مناقشة لفظية تندفع يجعل الكاف زائدة.
م: (ولا معتبر بتقاطر اللبن من الطعام عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (هو الصحيح، لأن التغذي بالطعام إذ هو الأصل) ش: قيد بالصحيح احترازًا عما قيل: إن الرضاع إنما لا يثبت بالطعام إذا لم يتقاطر اللبن عند حمل اللقمة، أما إذا تقاطر منه اللبن يثبت به التحريم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لأن القطرة من اللبن إذا دخلت حلق الصبي كافية لإثبات الحرمة، والصحيح عدم ثبوت الحرمة بكل حال، وعلله المصنف بقوله: لأن التغذي بالطعام إذ هو الأصل، لأن الأصل في الباب التغذي، فيكون اللبن تابعًا له في حق المقصود.
م: (وإن اختلط) ش: أي اللبن م: (بالدواء واللبن غالب) ش: أي والحال أن اللبن هو الغالب م: (تعلق به التحريم؛ لأن اللبن يبقى مقصودًا فيه، إذ الدواء لتقويته) ش: أي لتقوية اللبن م: (على الوصول) ش: أي ما لا يصل بانفراده.
فإن قلت: إذا كان الدواء لتقويته على الوصول وجب أن يستوي الغالب والمغلوب؛ لأن وصول قطرة منه يحرم. قلت: النظر هاهنا إلى المقصود، فإذا كان غالبًا كان القصد إلى التغذي به،(5/271)
وإذا اختلط اللبن بلبن الشاة، وهو الغالب تعلق به التحريم، وإن غلب لبن الشاة لم يتعلق به التحريم اعتبارا للغالب، كما في الماء،
وإذا اختلط لبن امرأتين تعلق التحريم بأغلبهما عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الكل صار شيئا واحدا، فيجعل الأقل تابعا للأكثر في بناء الحكم عليه. وقال محمد وزفر - رحمهما الله -: يتعلق التحريم بهما، لأن الجنس لا يغلب الجنس، فإن الشيء لا يصير مستهلكا في جنسه وإنما يصير مستهلكا في غير جنسه لاتحاد المقصود. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا روايتان، وأصل المسألة في الأيمان،
وإذا نزل للبكر لبن فأرضعت صبيّا تعلق به التحريم لإطلاق النص
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والدواء لتقويته على الوصول، وإن كان مغلوبًا على القصد إلى التداوي واللبن لتقوية الدواء، يشير إلى هذا بقوله: وإذا خلط، دون اختلط، وقوله: لأن اللبن يبقى مقصودًا.
م: (وإذا اختلط اللبن بلبن شاة، وهو الغالب) ش: أي إذا اختلط لبن المرأة بلبن شاة، ولبن المرأة غالب م: (يتعلق به التحريم، باعتبار الغالب، كما في الماء) ش: أي كما إذا اختلط بالماء، حيث يعتبر الغلبة.
[إذا اختلط لبن امرأتين تعلق التحريم بأغلبهما]
م: (وإذا اختلط لبن امرأتين تعلق التحريم بأغلبهما عند أبي يوسف؛ لأن الكل صار شيئًا واحدًا، فيجعل الأقل تابعًا للأكثر في بناء الحكم عليه) ش: وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة.
م: (وقال زفر ومحمد: يتعلق التحريم بهما) ش: أي يتعلق التحريم بالمرأتين م: (لأن الجنس لا يغلب الجنس، فإن الشيء لا يصير مستهلكًا في جنسه، وإنما يصير مستهلكًا في غير جنسه لاتحاد المقصود) ش: أي لاتحاد مقصودهم، فلا ينتفي القليل، ويتعلق به التحريم م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في هذا روايتان) ش: في رواية، كما قال أبو يوسف، وبه قال الشافعي في قول. وفي رواية كما قال محمد، وهو قول زفر والشافعي في قول. وفي " الغاية ": وقول محمد أظهر وأحوط فيه، وفي " الرافعي ": اختلط لبن امرأتين، وغلب أحدهما، فإن علقنا الحرمة بالمغلوب تثبت الحرمة منهما، وإلا اختصت بالتي غلب لبنها.
م: (وأصل المسألة في الإيمان) ش: أي فيما إذا حلف أن لا يشرب من لبن هذه البقرة وانخلط لبنها بلبن بقرة أخرى فشربه، فهو على الخلاف المذكور، فعند محمد يحنث، لأن الجنس لا يغلب على الجنس، وعندهما: لا يحنث.
[نزل للبكر لبن فأرضعت صبيا]
م: (وإذا نزل للبكر لبن فأرضعت صبيًّا تعلق به التحريم لإطلاق النص) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23) ، مطلق لا فصل فيه بين البكر والثيب، وهذا الاختلاف فيه للأئمة الأربعة. عن الشافعي وجه أنه لا يتعلق به التحريم، وبه قال أحمد في رواية، لأنه قادر، فأشبه لبن الرجل، ولكن نص الشافعي أنه يتعلق به التحريم.(5/272)
ولأنه سبب للنشوء فتثبت به شبهة البعضية. وإذا حلب لبن المرأة بعد موتها فأوجر به الصبي تعلق به التحريم، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، هو يقول: الأصل في ثبوت الحرمة، إنما هو المرأة، ثم تعدى إلى غيرها بواسطتها، وبالموت لم تبق محلّا لها، ولهذا لا يوجب وطئها حرمة المصاهرة. ولنا أن السبب هو شبهة الجزئية، وذلك في اللبن، لمعنى الإنشاز والإنبات، وهو قائم باللبن، وهذه الحرمة تظهر في حق الميتة دفنا وتيمما. أما الحرمة في الوطء لكونه ملاقيا لمحل الحرث، وقد زال بالموت فافترقا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المغني ": نزل للبكر لبن من غير وطء فأرضعت به طفلًا، ثبت به الحرمة، وبه قال مالك، والثوري، والشافعي، وأصح الروايتين عن ابن حنبل. وقال أبو بكر بن المنذر: وهذا قول كل من يحفظ عنه. م: (ولأنه) ش: أي ولأن لبن البكر م: (سبب للنشوء، فتثبت به شبهة البعضية) ش: ويتعلق به الحرمة للاحتياط.
م: (وإذا حلب لبن المرأة بعد موتها، فأوجر به الصبي) ش: على صيغة المجهول من الوجر، وهو الدواء الذي يصب في وسط الفم، يقال: أوجرته الدواء وجرة، واحد المفعولين وأوجر الصبي، قام مقام الفاعل، والآخر هو الصبي، أي أوجر لبن المرأة الصبي، ويجوز أن يرفع الصبي بالفعل على ترك المفعول الآخر وهو اللبن، أي أوجر الصبي اللبن.
م: (تعلق به التحريم خلافًا للشافعي، هو) ش: أي الشافعي م: (يقول: الأصل في ثبوت الحرمة) ش: أي حرمة الرضاع م: (إنما هو المرأة ثم يتعدى إلى غيرها بواسطتها، وبالموت لم يبق محلًّا لها) ش: أي للحرمة م: (ولهذا) ش: أي ولأجل عدم المحل بالموت م: (لا يوجب وطئها) ش: أي وطء الميتة م: (حرمة المصاهرة) ش: وقيد بقوله: بعد موتها؛ لأنه لو حلب قبل الموت لا يتأتى خلاف الشافعي، فإن عنده على الأظهر يتعلق به التحريم كمذهبنا، وبقولنا قال مالك وأحمد.
م: (ولنا أن السبب) ش: أي سبب الحرمة م: (هو شبهة الجزئية) ش: بسبب الرضاع م: (وذلك) ش: أي السبب، وهو شبهة الجزئية م: (في اللبن) ش: أي حاصل في رضاع اللبن م: (لمعنى الإنشاز والإنبات، وهو) ش: أي المعنى المذكور م: (قائم باللبن، وهذه الحرمة) ش: جواب عما قال الخصم: إنها بالموت لم تبق محلًّا:، بيانه أن الحرمة بسبب الرضاع م: (تظهر في حق الميتة دفنًا) ش: أي من حيث جواز الدفن م: (وتيممًا) ش: أي من حيث جواز التيمم، وهو مصدر من يمم، يقال: يممت المريض، فتيمم إذا مسحت وجهه ويديه، ويقال أيضًا: يممت الميت، وصورته: كانت الصغيرة المرضعة ذات زوج، فزوجها يصير محرمًا للميتة، لأن الميتة أم امرأته، فيجوز له دفنها وتيممها.
م: (أما الحرمة في الوطء) ش: جواب عن قوله: ولهذا لا يوجب حرمة المصاهرة بالوطء إنما تثبت م: (لكونه) ش: أي لكون الوطء م: (ملاقيًا لمحل الحرث) ش: لتثبت به الجزئية م: (وقد زال) ش: أي محل الحرث م: (بالموت فافترقا) ش: أي الرضاع والوطء يعني لا يقاس ذلك على هذا بعد الموت(5/273)
وإذا احتقن الصبي باللبن لم يتعلق به التحريم. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يثبت به الحرمة، كما يفسد به الصوم، ووجه الفرق على الظاهر أن المفسد في الصوم إصلاح البدن، ويوجد ذلك في الدواء، فأما المحرم في الرضاع معنى النشر، ولا يوجد ذلك في الاحتقان، لأن المغذي وصوله من الأعلى، وإذا نزل للرجل لبن فأرضع صبيا لم يتعلق به التحريم، لأنه ليس بلبن على التحقيق، فلا يتعلق به النشوء والنمو، وهذا لأن اللبن إنما يتصور ممن يتصور منه الولادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لوجود الفارق.
[احتقن الصبي باللبن]
م: (وإذا احتقن الصبي باللبن) ش: من الحقنة، وهو دواء يجعل في خريطة من أدم يقال لها المحقنة، ويعطى المريض من أسفله، وهي معروفة بين الناس، وفي " المغرب ": احتقن بالضم غير جائز، وإنما الصواب: حقن أو عولج بالحقنة م: (لم يتعلق به التحريم) ش: أي لم يتعلق بالاحتقان التحريم، هذا هو ظاهر الرواية عن أصحابنا، ولهذا لم يذكر الخلاف في " الجامع الصغير "، وقد ذكر الكرخي المسألة، ولم يحك الخلاف، وكذا لا يتعلق التحريم بالإقطار في الإحليل، والأذن، والجائفة، وبه قال الشافعي في الجديد، ومالك، وأحمد.
م: (وعن محمد أنه يثبت به الحرمة، كما يفسد به الصوم) ش: وبه قال الشافعي في القديم، وهو اختيار المزني، وكذا قال الشافعي في قوله القديم في الإقطار في الإحليل، وفي الأذن، وفي الجائفة إذا وصل إلى الجوف، والضمير في " أنه "، وفي " به " في الموضعين يرجع إلى الاحتقان الذي يدل عليه قوله: احتقن.
م: (ووجه الفرق على الظاهر) ش: أي على ظاهر الرواية عن أصحابنا م: (أن المفسد في الصوم إصلاح البدن، ويوجد ذلك) ش أي إصلاح البدن م: (في الدواء، وأما المحرم) ش: بكسر الراء المشددة م: (في الرضاع معنى النشر، ولا يوجد ذلك في الاحتقان؛ لأن المغذى) ش: بضم الميم وفتح الغين المعجمة والذال المشددة اسم فاعل من الغذاء م: (وصوله من الأعلى) ش: أي من أعلى البدن، يعني إلى الأعضاء العليا، وبالحقنة يصل اللبن إلى الأعضاء السفلى، لا إلى العليا، فلا يحصل معنى الغذاء، فلا يثبت التحريم بخلاف الصوم، فإن المفسد فيه وصول ما فيه إصلاح البدن إلى الجوف، وقد حصل هذا المعنى في الحقنة، فيفسد الصوم.
م: (وإذا نزل للرجل لبن، فأرضع به صبيًا لم يتعلق به التحريم) ش: ولا خلاف للأئمة الأربعة فيه وعن الكرابيسي من أصحاب الشافعي: أنه يثبت به التحريم، وقد ذكرناه مرة م: (لأنه) ش: أي لأن لبن الرجل م: (ليس بلبن على التحقيق) ش: كدم السمك ليس بدم على التحقيق، فصار كما لو نزل من ثدي البكر ماء أصفر، فلا يتعلق به شيء. وفي " المغني ": ولبن الخنثى كلبن الرجل م: (فلا يتعلق به النشوء والنمو، وهذا) ش: إشارة إلى قوله: لأنه ليس بلبن، أي على التحقيق م: (لأن اللبن إنما يتصور ممن يتصور منه الولادة) ش: فالرجل لا يتصور منه الولادة، فلا يتعلق به التحريم.(5/274)
وإذا شرب صبيان من لبن شاة لم يتعلق به التحريم؛ لأنه لا جزئية بين الآدمي والبهائم، والحرمة باعتبارها. وإذا تزوج الرجل صغيرة وكبيرة، فأرضعت الكبيرة الصغيرة حرمتا على الزوج؛ لأنه يصير جامعا بين الأم والبنت رضاعا، وذلك حرام، كالجمع بينهما نسبا، ثم إذا لم يدخل بالكبيرة فلا مهر لها، لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول بها، وللصغيرة نصف المهر، لأن الفرقة وقعت لا من جهتها والارتضاع، وإن كان فعلا منها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[شرب صبيان من لبن شاة]
م: (وإذا شرب صبيان من لبن شاة لم يتعلق به التحريم؛ لأن لا جزئية بين الآدمي والبهائم، والحرمة باعتبارها) ش: أي باعتبار الجزئية.
م: (وإذا تزوج الرجل صغيرة، وكبيرة، فأرضعت الكبيرة الصغيرة حرمتا على الزوج) ش: فيفسخ النكاح، وبه قال الشافعي وأحمد، وحكي عن مالك أنه إذا لم يدخل بالكبيرة بطل نكاحها، ويثبت نكاح الصغيرة؛ لأن الفرقة جاءت منها، وببطلان نكاحها لم يبق الجمع، وعن الأوزاعي أنه إذا لم يدخل بالكبيرة يثبت نكاحها، ويبطل نكاح الصغيرة م: (لأنه يصير جامعًا بين الأم والبنت رضاعًا) ش: أي من حيث الرضاع م: (وذلك) ش: أي الجمع بين الأم والبنت م: (حرام كالجمع بينهما) ش: أي بين الأم والبنت م: (نسبًا) ش: أي من حيث النسب.
م: (ثم إذا لم يدخل بالكبيرة فلا مهر لها) ش: أي للكبيرة، سواء قصدت الفساد أو لا، وجاز أن يتزوج الصغيرة مرة أخرى؛ لأنها ربيبة ولم يدخل بأمها، ولا يتزوج الكبيرة؛ لأنها أم امرأته م: (لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول بها، وللصغيرة نصف المهر؛ لأن الفرقة وقعت لا من جهتها) .
فإن قيل: يشكل بمسألة الصغيرة ارتد أبوها ولحقا بدار الحرب بانت، ولا يقضي لها بشيء من المهر، ولم يوجد الفعل منها.
قلنا: لما حكمنا بارتدادها تبعًا لهما صارت في الحكم كأنها ارتدت، والردة بحظور الإباحة لها محال، فلا تبقى مستحقة النظر، فلا يحل نصف المهر، أما الارتضاع لا حاصر له، فلا يسقط المهر.
فإن قيل: يشكل بقتل الرجل امرأة رجل قبل الدخول، فإنه يقضى على الزوج بالمهر، ولا يرجع على القاتل بشيء، مع أن القتل محظور.
قلنا: وجب بالقتل قصاص أو دية، وللزوج نصيب فيما هو الواجب بالقتل، فلا يتضاعف حقه بالتضمين. أما الزوج فيما نحن فيه لا نصيب له في شيء، فيضمن من أتلف نصف المهر، كذا في " الفوائد الظهيرية ".
م: (والارتضاع) ش: جواب عما يقال: العلة للفرقة الارتضاع، وهي فعلها، فلا تضاف الفرقة إليها. وأجاب بقوله: والارتضاع أي ارتضاع الصغيرة م: (وإن كان فعلًا منها) ش: أي من(5/275)
لكن فعلها غير معتبر في إسقاط حقها، كما إذا قتلت مورثها ويرجع به الزوج على الكبيرة إن كانت تعمدت به الفساد، وإن لم تتعمد فلا شيء عليها، وإن علمت بأن الصغيرة امرأته، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يرجع في الوجهين، والصحيح ظاهر الرواية؛ لأنها وإن أكدت ما كان على شرف السقوط وهو نصف المهر، وذلك يجري مجرى الإتلاف، لكنها مسببة فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصغيرة م: (لكن فعلها غير معتبر) ش: شرعًا م: (في إسقاط حقها كما إذا قتلت مورثها) ش: لم تحرم من الميراث بلا خلاف م: (ويرجع به) ش: أي ينصف المهر م: (الزوج على الكبيرة إن كانت تعمدت به الفساد، وإن لم تتعمد) ش: بأن قصدت دفع الهلاك عنها جوعًا.
م: (فلا شيء عليها، وإن علمت بأن الصغيرة امرأته) ش: أي امرأة زوجها. وفي " المبسوط ": يعتبر تعمد الفساد بأن قصده مع العلم بأن الرضاع يحرمها على الزوج في الشرع، فلو لم تعلم ذلك أخطأت، أو لم تعلم النكاح، أو لم تعلم بأن الرضاع يفسد النكاح، أو أرادت الخير بأن خافت على الرضيع الهلاك من الجوع لا يرجع به عليها، والقول فيه قولها، إن لم يظهر منها تعمد الفساد، ولأنه شيء في باطنها، لا يقف عليه غيرها، فيقبل قولها باليمين.
فإن قيل: يشكل هذا بصغيرتين تحت رجل، ولرجل آخر امرأتان، فأرضعت كل واحدة منهما الصغيرتين، حتى بانتا على الزوج، ولم يغرما شيئًا وإن تعمدت الفساد.
قلنا: فعل الكبيرة فيما نحن فيه مستقل بالإفساد، وأما فعل كل واحدة من الكبيرتين هناك غير مستقل بالإفساد، فلا تضاف الفرقة إلى كل واحدة، لأن الفساد باعتبار الجمع بين الأختين والأجنبية قائمة بهما، فلا تعدو إلى المرأتين، فلا يعتبر تعديها، وهنا باعتبار الجمع بين الأم والبنت، والأمية قائمة بالمرضعة، يعتبر تعديها لأنها مخاطبة.
م: (وعن محمد أنه) ش: أي أن الزوج م: (يرجع في الوجهين) ش: أي فيما إذا تعمدت الفساد، أو لم تتعمد، وبه قال زفر، والشافعي، وأحمد م: (والصحيح ظاهر الرواية، لأنها) ش: أي الكبيرة م: (وإن أكدت) ش: أي الكبيرة م: (ما كان على شرف السقوط، وهو نصف المهر) ش: كتقبيل ابن الزوج إذا بلغت حدًّا تشتهي م: (وذلك) ش: أي تأكيد ما كان على شرف السقوط م: (يجري مجرى الإتلاف) ش: في إيجاب الضمان م: (لكنها) ش: أي لكن الكبيرة م: (مسببة فيه) ش: أي في الإتلاف غير مباشرة.
قال الأترازي: ما كان يحتاج صاحب " الهداية " إلى أن يقول بكلمة الاستدراك بين اسم إن وخبرها، لأنه لا يصح أن يقال: إن زيدًا لكنه منطلق، وهذا لأن قوله: مسببة يقع خبر إن في قوله: لأنها، وإن أكدت ما كان على شرف السقوط، إما لأن الإرضاع هذا وقع بيانًا لكون الكبيرة مسببة، أي صاحبة سبب، لا علة، يعني أن الكبيرة لما كانت مسببة لأحد المعنيين.(5/276)
إما لأن الإرضاع ليس بإفساد النكاح وضعا، وإنما يثبت ذلك باتفاق الحال، أو لأن فساد النكاح ليس بسبب لإلزام المهر، بل هو سبب لسقوطه، لأن نصف المهر يجب بطريق المتعة على ما عرف، لكن من شرطه إبطال النكاح،
وإذا كانت مسببة يشترط فيه التعدي كحفر البئر، ثم إنما تكون متعدية إذا علمت بالنكاح، وقصدت بالإرضاع الفساد، أما إذا لم تعلم بالنكاح، أو علمت بالنكاح، ولكنها قصدت دفع الجوع والهلاك عن الصغيرة دون الإفساد لا تكون متعدية؛ لأنها مأمورة بذلك، ولو علمت بالنكاح، ولم تعلم بالفساد لا تكون متعدية أيضا، وهذا هاهنا اعتبار الجهل دفع قصد الفساد لا لدفع الحكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إما أن الإرضاع ليس بإفساد النكاح وضعًا) ش: لأن وضعه لتربية الصغير م: (وإنما يثبت ذلك) ش: أي إنما يثبت فساد النكاح بالإرضاع م: (باتفاق الحال) ش: بأن تقع الكبيرة والصغيرة اتفاقًا في ملك رجل واحد، لا قصدًا في ذلك. م: (وقوله: أو لأن إفساد النكاح) ش: عطف على قوله: إما لأن الإرضاع ليس بإفساد النكاح، وهو القسم الثاني، لا من التفصيلية م: (ليس بسبب لإلزام المهر) ش: لأنه غير مضمون بالإتلاف، لكنه غير متقوم في نفسه؛ لأنه ليس بملك عين، ولا منفعة على التحقيق، ولهذا لا يقدر على بيعه وهبته وإجارته م: (بل هو سبب لسقوطه) ش: أي لسقوط المهر م: (لأن نصف المهر) ش: جواب سؤال مقدر، بأن يقال: كيف قلت: إن فساد النكاح ليس بسبب لإلزام المهر، ويجب على الزوج نصف مهر الصغيرة؟ فأجاب بقوله: لأن نصف المهر م: (يجب بطريق المتعة على ما عرف) ش: في باب المهر أن المتعة تجب بالمهر ابتداء، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] لأن المعقود عليه عاد إليها سالمًا م: (لكن من شرطه) ش: أي من شرط وجوب المتعة م: (إبطال النكاح) ش: فكانت مباحة لا بشرط.
[علمت المرضعة بالنكاح وقصدت بالإرضاع الإفساد]
م: (وإذا كانت) ش: أي الكبيرة م: (مسببة يشترط فيه التعدي كحفر البئر) ش: فإنه له حفرها في ملكه لا يضمن ما وقع فيها. ولو حفرها في الطريق، أو في ملك غيره يضمن ما وقع فيها م: (ثم إنما تكون متعدية إذا علمت بالنكاح، وقصدت بالإرضاع الإفساد، أما إذا لم تعلم بالنكاح، أو علمت بالنكاح، لكنها قصدت دفع الجوع والهلاك عن الصغيرة، دون الإفساد لم تكن متعدية، لأنها مأمورة بذلك) ش: لأنه يكون حينئذ فرضًا عليها، وتكون مأجورة بالإرضاع لدفع الهلاك.
م: (ولو علمت بالنكاح ولم تعلم بالفساد، لا تكون متعدية أيضًا) ش: والقول قولها كما ذكرناه م: (وهذا) ش: أي القول بأن علمها بالنكاح، وبفساده بالإرضاع م: (هاهنا اعتبار الجهل) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر، بأن يقال: كيف يكون جهل الكبيرة بفساد النكاح بالإرضاع عذرًا، والجهل ليس بعذر في دار الإسلام؟.
فأجاب بقوله: وهذا اعتبار الجهل م: (لدفع قصد الفساد) ش: الذي يصير به الفعل تعديًا م: (لا لدفع الحكم) ش: وهو وجوب الضمان، تقديره أن الحكم الشرعي، وهو وجوب الضمان يعتمد(5/277)
ولا تقبل في الرضاع شهادة النساء منفردات، وإنما يثبت بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يثبت بشهادة امرأة واحدة إذا كانت موصوفة بالعدالة؛ لأن الحرمة حق من حقوق الشرع، فيثبت بخبر الواحد، كمن اشترى لحما فأخبره واحد أنه ذبيحة المجوسي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التعدي، والتعدي إنما يحصل بقصد الفساد، والقصد إلى الفساد إنما يتحقق عند العلم بالفساد، وإذا انتفى العلم بالفساد انتفى الفساد، فكان اعتبار الجهل لدفع قصد الفساد، لا لدفع الحكم.
فإن قلت: قصد الفساد يستلزم دفع الحكم، فكان اعتبار الجهل لدفع الحكم.
قلت: لزم أن يكون ضمانًا ضمنًا، فلا يعتبر به.
[شهادة النساء المنفردات في الرضاع]
م: (ولا تقبل في الرضاع شهادة النساء المنفردات) ش: يعني وحدهن. وقال الشافعي: تقبل شهادة أربع منهن، وهو قول عطاء، وفي " الغاية ": وقال الشافعي: يثبت بشهادة أربع من النساء، ورجل وامرأتين، وتقبل بشهادة مرضعة إن لم تطلب، أجرة ولا ذكرت هاهنا، وكذا إذا قالت أرضعته في الأصح، ذكره النووي في " المنهاج "، وفي " الرافعي ": يثبت الرضاع بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، وكذا بشهادة أربع نسوة، ولا يثبت بما دون أربع نسوة، وقبل أحمد شهادة المرضعة.
وفي " المغني ": شهادة الواحدة مقبولة في الرضاع عند أحمد، وهو قول طاوس والزهري والأوزاعي وابن أبي ذئب وسعيد بن عبد العزيز، وعنه شهادة امرأتين، وعنه شهادة امرأة واحدة وتستحلف مع شهادتها وتفارق، وإن كانت كاذبة لم يحل عليها حول حتى تبيض ثدياها بالبرص، وفي الوبري قال الشافعي: يفرق شهادة امرأة واحدة. وقال مالك: تثبت بقول شاهدين، ويمنع من النكاح ابتداء، ويفرق بينهما لو كانت تناكحا.
م: (وإنما يثبت) ش: أي الرضاع م: (بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين) ش: وهو مذهب عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، ذكره في " المغني "، وفي " المحيط ": هو قول عمر، وعلي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
م: (وقال مالك: يثبت بشهادة امرأة واحدة إذا كانت موصوفة بالعدالة، لأن الحرمة حق من حقوق الشرع، فيثبت بخبر الواحد، كمن اشترى لحمًا فأخبره واحد أنه ذبيحة المجوسي) ش: فإنه ينبغي للمسلم أن لا يأكل منه، ولا يطعم غيره، لأن المخبر خبره بحرمة العين، وبطلان الملك، فتعينت الحرمة مع بقاء الملك، ثم لما تثبت الحرمة مع بقاء الملك لا يمكنه الرد على بائعة، ولا أن يحبس الثمن على بائعه.
قلت: هذا الذي ذكره أنه مذهب مالك ليس بمذهب مالك، وإنما هو مذهب أحمد، ومذهب مالك ما ذكرناه الآن.(5/278)
ولنا أن ثبوت الحرمة لا تقبل الفصل عن زوال الملك في باب النكاح، وإبطال الملك لا يثبت إلا بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، بخلاف اللحم؛ لأن حرمة التناول ينفك عن زوال الملك، فاعتبر أمرا دينيّا والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا أن ثبوت الحرمة لا تقبل الفصل) ش: هكذا شأن الحرمة المؤبدة؛ فإنها لا تقبل الفصل م: (عن زوال الملك في باب النكاح) ش: يعني إذا ثبت حرمة الرضاع يزول ملك النكاح لا محالة، لأن حرمة النكاح مع ملك النكاح لا يجتمعان، فيلزم من إثبات حرمة الرضاع إبطال ملك النكاح م: (وإبطال الملك لا يثبت إلا بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، بخلاف اللحم؛ فإن حرمة التناول تنفك عن زوال الملك) ش: لأن الحرمة مع ملك اليمين يجتمعان، كما في الخمر م: (فاعتبر) ش: ذلك م: (أمرًا دينيًّا) ش: فيقبل فيه خبر الواحد.(5/279)
كتاب الطلاق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الطلاق] [باب طلاق السنة] [الطلاق الحسن والأحسن]
م: (كتاب الطلاق) ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الطلاق، وفي " المغرب ": الطلاق مصدر بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم، والكلام بمعنى التكليم، وهو مصدر طلقت زوجته بالفتح والضم.
وقال الأخفش: لا يقال بالضم، وامرأة طالق، وجاء طالقة، والطلق وجع الولادة، من طلقت بضم الطاء فهي مطلوقة، إذا أخذها الطلق والوجع؛ طلق اللسان وطليقة، والطليق الأسير إذا أطلق، وطلق امرأته تطليقًا وطلقت هي طلاقًا. ورجل طلاق وطلقة، أي كثير الطلاق للنساء.
والطلاق لغة: رفع القيد، وشرعًا رفع قيد النكاح من أهله في محله.
وقيل الطلاق: عبارة عن حكم شرعي يرفع القيد للنكاح بألفاظ مخصوصة، وسببه الحاجة المحوجة إليه. وشرطه كون المطلق عاقلًا بالغًا، والمرأة في النكاح أو في العدة التي يحصل بها محلًا للطلاق، وحكمه زوال الملك عن المحل، وأقسامه ما ذكر في الكتاب.
وإيقاع الطلاق مباح وإن كان متبغضًا في الأصل عند عامة العلماء، ومنهم من يقول لا يباح إيقاعه للضرورة، وذلك إما كبر السن أو الربيبة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله كل ذواق مطلاق» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة اختلعت من زوجها من غير نشوز فعليها لعنة الملائكة والناس أجمعين» .
وروى الترمذي من حديث ثوبان أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما امرأة سألت زوجها من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة» ، وقال: حديث حسن.(5/280)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى أيضًا عن ثوبان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المختلعات هن المنافقات» .
المناسبة بين كتاب النكاح وكتاب الطلاق ظاهرة لأن النكاح قيد شرعي، والطلاق رفعه، والمناسبة الخاصة بينه وبين الرضاع أن كلًّا منهما محرم.(5/281)
باب طلاق السنة قال: الطلاق على ثلاثة أوجه: حسن، وأحسن، وبدعي، فالأحسن أن يطلق الرجل امرأته تطليقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ويتركها حتى تنقضي عدتها لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يستحبون أن لا يزيدوا في الطلاق على واحدة حتى تنقضي العدة، وأن هذا أفضل عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثا عند كل طهر واحدة، ولأنه أبعد من الندامة، وأقل ضررا بالمرأة ولا خلاف لأحد في الكراهة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (باب طلاق السنة) ش: أي هذا باب في بيان طلاق السنة، وفي " المبسوط " الطلاق نوعان: سني وبدعي، والسني نوعان: سني من حيث العدد، وسني من حيث الوقت. والبدعي نوعان: بدعي يعود إلى العدد، وبدعي بمعنى يعود إلى الوقت، والسني من حيث العدد نوعان: حسن وأحسن، أما المصنف ذكر كله مفرقًا على ما تقف عليه.
م: (قال: الطلاق على ثلاثة أوجه: حسن وأحسن وبدعي، فالأحسن أن يطلق الرجل امرأته تطليقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ويتركها حتى تنقضي عدتها، لأن الصحابة، - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كانوا يستحبون أن لا يزيدوا في الطلاق على واحدة حتى تنقضي العدة) ش: أخرج هذا ابن أبي شيبة في " مصنفه ": حدثنا وكيع عن سفيان عن مغيرة عن إبراهيم النخعي، قال: كانوا يستحبون أن يطلقها واحدة ثم يتركها حتى تحيض ثلاث حيض.
م: (وأن هذا) ش: أي الاقتصار على تطليقة واحدة م: (أفضل عندهم) ش: أي عند الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - م: (من أن يطلق الرجل ثلاثًا عند كل طهر واحدة) ش: أي طلقة واحدة م: (ولأنه) ش: أي ولأن إيقاع الواحدة م: (أبعد من الندامة) ش: حيث أبقى لنفسه ممكنة التدارك، بأن يراجعها في العدة، وبعدها بتجديد النكاح من غير تزوج آخر وإبقاء ممكنة التدارك مندوب إلى الله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] (الطلاق: الآية 1) .
م: (وأقل ضررًا بالمرأة) ش: حيث لم تبطل محليتها نظرًا إليه، لأن اتساع المحلية نعمة في حقهن، فلا يتكامل ضرر الإيحاش.
م: (ولا خلاف لأحد في الكراهة) ش: أي لا خلاف في عدم الكراهة، يعني لم يقل أحد بكراهة إيقاع الواحد، بخلاف الحسن، فإن فيه خلاف فيكون هذا حسن.
قلت: هكذا فسر الشراح كلهم هذا اللفظ، وظاهره يقتضي خلافه على ما لا يخفى على المتأمل.(5/282)
والحسن هو طلاق السنة، وهو أن يطلق المدخول بها ثلاثا في ثلاثة أطهار. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنه بدعة ولا يباح إلا واحدة، لأن الأصل في الطلاق هو الحظر والإباحة لحاجة الخلاص، وقد اندفعت بالواحدة. ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «إن من السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والحسن هو طلاق السنة وهو أن يطلق المدخول بها ثلاثًا في ثلاثة أطهار. وقال مالك: إنه بدعة) ش: أي أن الطلاق المفرق على ثلاثة أطهار في المدخول بها بدعة. وفي " المغرب ": البدعة اسم من ابتداع الأمر إذا ابتدأه وأحدثه، ثم غلب على ما هو زيادة في الدين ونقصان منه.
وقيل البدعة: إحداث أمر لم يكن من عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (ولا يباح إلا واحدة) ش: أي طلقة واحدة م: (لأن الأصل في الطلاق هو الحظر) ش: أي المنع، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تزوجوا ولا تطلقوا» رواه أبو داود.
م: (والإباحة) ش: أي إباحة الطلاق م: (لحاجة) ش: الناس إلى م: (الخلاص وقد اندفعت) ش: أي الحاجة م: (بالواحدة) ش: أن بالطلقة الواحدة فلا يباح غيرها.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (وفي حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «إن من السنة أن تستقبل الطهر استقبالًا فتطلقها لكل قرء تطليقة» ش: هذا الحديث رواه الدارقطني في سننه من حديث يعلى بن منصور، حدثنا شعيب بن زريق عن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن قال: «حدثنا عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها طلقتين أخرتين عند القرأين فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله، قد أخطأت، السنة، والسنة أن تستقبل الطهر وتطلق لكل قرء، فأمرني فراجعتها، فقال: " إذا طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك، فقلت: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثًا، أكان يحل لي أن أراجعها فقال: " لا، كانت تبين منك، وكانت معصية» .
وذكره عبد الحق في " أحكامه " وأعله بعطاء الخراساني وقال: إنه أتى في هذا الحديث بزيادات لم يتابع عليها وهو ضعيف في الحديث لا يقبل ما تفرد به. ورواه الطبراني في " معجمه ". وقال " صاحب التنقيح ": عطاء الخراساني، قال ابن حبان: كان صالحًا غير أنه كان سيئ الحفظ، كثير الوهم، فبطل الاحتجاج وأحسن من هذا ما رواه النسائي بإسناده عن(5/283)
ولأن الحكم يدار على دليل الحاجة وهو الإقدام على الطلاق في زمان تجدد الرغبة، وهو الطهر الخالي عن الجماع فالحاجة كالمتكررة نظرا إلى دليلها، ثم قيل: الأولى أن يؤخر الإيقاع إلى آخر الطهر احترازا عن تطويل العدة والأظهر أن يطلقها كما طهرت لأنه لو أخر ربما يجامعها، ومن قصده التطليق فيبتلى بالإيقاع عقيب الوقاع.
وطلاق البدعة أن يطلقها ثلاثا بكلمة واحدة أو ثلاثا في طهر واحد، فإذا فعل ذلك وقع الطلاق وكان عاصيا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
«عبد الله، قال: طلاق السنة أن يطلقها تطليقة، وهي طاهرة من غير جماع، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى ثم تعتد بعد ذلك بحيضة، فأخبر أنه طلاق السنة، وهي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
م: (ولأن الحكم يدار على دليل الحاجة) ش: لا على حقيقة الحاجة، لأن تباين الأخلاق وتنافر الطباع أمر باطن لا يمكن الوقوف عليها، فأقيم السبب الظاهر، وهو الإمساك بالمعروف مقام دليل الحاجة م: (وهو الإقدام على الطلاق في زمان تجدد الرغبة وهو الطهر الخالي عن الجماع) ش:، لأنه زمان رغبة فيها طبعًا وشرعًا، فلا يختار فراقها إلا لحاجة م: (فالحاجة كالمتكررة نظرًا إلى دليلها) ش: أي دليل الحاجة، فأصل المعنى كلما تكرر جعل كأن الحاجة إلى الطلاق تكررت، فأبيح تكرار الطلاق بالتفريق على الأطهار.
م: (ثم قيل: إن الأولى أن يؤخر الإيقاع إلى آخر الطهر، احترازًا عن تطويل العدة) ش: أشار بهذا إلى اختلاف المشايخ في الطلاق السني، فقال بعضهم الأولى أن يؤخر الإيقاع إلى آخر الطهر، لأنه إذا لم يؤخر تتضرر المرأة بكون عدتها ثلاثة أطهار وثلاث حيض كوامل، فتطول عدتها لا محالة، وهو في الخلاصة رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة.
م: (والأظهر أن يطلقها كما طهرت، لأنه لو أخرها ربما يجامعها) ش: لأن الطهر زمان تجدد الرغبة م: (ومن قصده التطليق فيبتلى بالإيقاع) ش: أي إيقاع الطلاق م: (عقيب الوقاع) ش: أي الجماع، فيكون الطلاق بدعيًّا، وإنما قال المصنف والأظهر لأن محمدًا قال في الأصل، فإذا أراد أن يطلقها ثلاثًا طلقها واحدة إذا طهرت من الحيض.
[طلاق البدعة]
م: (وطلاق البدعة أن يطلقها ثلاثة بكلمة واحدة، أو ثلاثًا) ش: أي أو يطلقها ثلاث تطليقات م: (في طهر واحد، فإذا فعل ذلك) ش: أي الطلاق والتطليق بثلاث تطليقات بكلمة واحدة، أي في طهر واحد م: (وقع الطلاق) ش: وبانت منه وحرمت حرمة مغلظة م: (وكان عاصيًا) ش: لأنه ارتكب حرامًا، وقالت الظاهرية والشيعة: لا يقع الطلاق في حالة الحيض، والثلاث بكلمة واحدة. وعند الإمامية: لا يقع شيء أصلًا، وبه قال المريسي، وعند الزيدية منهم يقع واحدة، ويزعمون أنه قول علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «كان الطلاق على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدًا» وكذا في زمن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -, وثلاثًا من مدة عمر - رضي الله تعالى(5/284)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كل طلاق مباح لأنه تصرف مشروع حتى يستفاد به الحكم والمشروعية لا تجامع الحظر، بخلاف الطلاق في حالة الحيض، لأن المحرم تطويل العدة عليها لا الطلاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه -، رواه البخاري ومسلم، وفي المغني: وكان عطاء وطاوس وسعيد بن جبير وعمرو بن دينار وأبو الشعثاء يقولون: من طلق البكر ثلاثًا فهي واحدة، وقال القاضي أبو يوسف: كان الحجاج بن أرطاة يقول: طلاق الثلاث ليس بشيء، قال محمد بن إسحاق واحدة كقول الشيعة.
م: (وقال الشافعي كل الطلاق مباح) ش: وبه قال أبو ثور وداود الظاهري وابن حبيب من المالكية وأحمد في رواية عند إرسال الثلاث مباح م: (لأنه) ش: أي لأن الطلاق م: (تصرف مشروع حتى يستفاد منه الحكم) ش: بضم الدال لأنه حال، أي مستفاد بالطلاق الحكم، وهو قوله م: (والمشروعية لا تجامع المحظور) ش: وكل ما هو مشروع لا يكون محظورًا م: (بخلاف الطلاق في حالة الحيض) ش: هذا جواب عما يقال كيف يصح العموم والطلاق في حال الحيض حرام، فأجاب بقوله: بخلاف الطلاق في حالة الحيض.
م: (لأن المحرم) ش: بكسر الراء المشددة، أي المحرم للطلاق ويجوز فتحها بأن يقال: إن المحظور م: (تطويل العدة عليها لا الطلاق) ش: أي لا نفس الطلاق وتطويل العدة، كما إذا طلقها في حالة الحيض، لأن الحيض الذي وقع فيه الطلاق ليس بمحسوب في العدة بالإجماع أو يلتبس أمر العدة عليها كما إذا طلقها في طهر جامعها فيه، لأنا لا ندري أنها حامل فتعتد بالأقراء، أو حامل فتعتد بوضع الحمل، والحاصل في هذه المسألة أن عندنا يعتبر في طلاق السنة التفريق والوقت.
وعند مالك يعتبر الواحدة والوقت، وعند الشافعي يعتبر الوقت، ولا يلتفت إلى العدد، والشافعي يستدل أيضًا بقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] (البقرة: الآية 236) ، وهذا لأنه مطلق، فيتناول الجمع والتفريق بما «روي عن عويمر العجلاني أنه لما لاعن امرأته قال: كذبت عليها يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن أمسكتها فهي طالق ثلاثًا» فلم ينكر عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إيقاع الثلاث جملة "، وهذا الحديث متفق عليه، وبما ورد عن عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه طلق امرأته تماضر في مرض الموت، وبما روي من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أن امرأة قالت: يا رسول الله إن رفاعة طلقني وبت وقت طلاقي» ولم ينكر متفق عليه. وبما روي من حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أرسل إليها بثلاث تطليقات.
والجواب عن الآية قد خص عنها الطلاق حالة الحيض والطلاق في طهر جامعها فيه فيخص المتنازع، وهو الجمع. والجواب عن حديث عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وما شابه أنه محمول على خلاف السنة، بأن قال: أنت طالق للسنة، لأنه أليق بحالهم أن يعملوا(5/285)
ولنا أن الأصل في الطلاق هو الحظر لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية والإباحة للحاجة إلى الخلاص ولا حاجة إلى الجمع بين الثلاث وهي في المفرق على الأطهار ثابتة نظرا إلى دليلها، والحاجة في نفسها باقية فأمكن تصوير الدليل عليها والمشروعية في ذاته من حيث إنه إزالة الرق لا تنافي الحظر لمعنى في غيره، وهو ما ذكرناه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على وفاق الكتاب والسنة، ولأن تقليد الصحابي ليس بحجة عنده، فكيف يحتج بفعل الصحابي علينا. والجواب عن حديث رفاعة أنه ليس فيه طلقها ثلاثًا بكلمة واحدة، ويجوز أن يكون مفرقًا على الأطهار. والجواب عن حديث فاطمة بنت قيس " أن زوجها أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلى اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها " رواه مسلم.
م: (ولنا أن الأصل في الطلاق هو الحظر لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية) ش: من تحصين الفرج عن الزنا المحرم في جميع الأديان م: (والدنيوية) ش: من السكن والازدواج واكتساب الولد، وكل ما هو كذلك ينبغي أن لا يجوز وقوعه في الشرع م: (والإباحة للحاجة إلى الخلاص) ش: يعني إباحة الطلاق إنما كانت للحاجة إلى الخلاص عن عهدة المرأة م: (ولا حاجة إلى الجمع بين الثلاث) ش: لحصول الخلاص بما دونه.
م: (وهي في المفرق على الأطهار ثابتة) ش: هذا جواب عما يقال، فكما لا حاجة إلى الجمع بين الثلاث، فكذا لا حاجة إلى المتفرق على الأطهار. فأجاب بقوله: وهي أي الحاجة إلى الجمع بين الثلاث، إذ لا حاجة إلى الطلاق المتفرق ثابتة م: (نظرًا إلى دليلها) ش: وهو الإقدام على الطلاق في زمان تجدد الرغبة، وهو الطهر والحكم يدار على دليل الحاجة لكونها أمرًا باطنًا كما تقدم.
م: (والحاجة في نفسها باقية) ش: هذا جواب عما يقال دليل الحاجة إنما يقام مقام الحاجة فيما يتصور وجودها، وهاهنا لا يتصور، لأن الحاجة إلى الخلاص عن عهدة الطلاق في الطهر الثاني والثالث مع ارتفاع النكاح بالأولى. فأجاب بقوله: والحاجة في نفسها أي في ذاتها باقية م: (فأمكن تصوير الدليل عليها) ش: لأن الإنسان قد يحتاج إلى جهة باب النكاح لبنائه فيها، أو لحاجة أخرى. م: (والمشروعية في ذاته) ش: هذا جواب عن قوله: والمشروعية لا يجامع الحظر، فأجاب بقوله: والمشروعية في ذاته م: (من حيث إنه إزالة الرق) ش: أي إزالة قيد النكاح م: (لا تنافي الحظر لمعنى في غيره) ش: تقريره أن يقال يجوز أن يكون الطلاق باعتبار قطع النكاح المسنون محظورًا في جامع المشروعية، كالصلاة في الأرض المغصوبة، والبيع في وقت النداء، فإنهما مشروعان بذاتهما محظوران لغيرهما، ولا منافاة لاختلاف الجهة، فلم يلزم من إثبات المشروعية انتفاء الحظر م: (وهو ما ذكرناه) ش: من فرق المصالح الدينية والدنيوية.(5/286)
وكذا إيقاع الثنتين في الطهر الواحد بدعة لما قلنا. واختلفت الرواية في الواحدة البائنة. قال في الأصل: إنه أخطأ السنة، لأنه لا حاجة إلى إثبات صفة زائدة في الخلاص وهي البينونة وفي الزيادات أنه لا يكره للحاجة إلى الخلاص ناجزا
والسنة في الطلاق من وجهين سنة في الوقت، وسنة في العدد، فالسنة في العدد يستوي فيها المدخول بها وغير المدخول بها، وقد ذكرناها، والسنة في الوقت تثبت في المدخول بها خاصة، وهو أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه، لأن الداعي دليل الحاجة، وهو الإقدام على الطلاق في زمان تجدد الرغبة وهو الطهر الخالي عن الجماع. أما زمان الحيض فزمان النفرة وبالجماع مرة في الطهر تفتر الرغبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذا إيقاع الثنتين في الطهر الواحد بدعة لما قلنا) ش: أنه لا حاجة إلى الجمع بين الثلاث م: (واختلفت الرواية) ش: عن أصحابنا فيما إذا طلق الرجل امرأته في طهر لم يجامعها فيه طلقة واحدة بائنة.
م: (قال في الأصل) ش: أي " المبسوط " في كتاب الطلاق: م: (إنه أخطأ السنة) ش: فيكره م: (لأنه لا حاجة إلى إثبات صفة زائدة في الخلاص وهي) ش: أي الصفة الزائدة م: (البينونة) ش: لأن الحاجة إلى الطلاق للحاجة، ولا حاجة إلى صفة زائدة.
م: (وفي الزيادات أنه لا يكره للحاجة إلى الخلاص ناجزًا) ش: أي في الحال، وقال الأترازي: ينبغي أن يقول: وفي " زيادات الزيادات "، لأن محمدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر هذه المسألة فيها لا في " الزيادات "، فيحتمل أنه وقع سهوًا من الكاتب، أو يحتمل أنه إنما قال كذلك، لأن " زيادات الزيادات " من تتمة الزيادات "، كأنها مسألة الزيادات.
[السنة في الطلاق من وجهين سنة في الوقت وسنة في العدد]
م: (والسنة في الطلاق من وجهين سنة في الوقت، وسنة في العدد، فالسنة في العدد يستوي فيها المدخول بها وغير المدخول بها، وقد ذكرناها) ش: يعني في أول الباب يعني أن السنة في الطلاق من حيث العدد أن يطلقها واحدة، ويترك حتى تنقضي عدتها، وإنما سمي الواحد عددًا تجوزًا، لأن أصل العدد ليس هو بعدد حقيقة، لأن العدد ما يوازي نصف حاشيته عن بعد سواء، وليس للواحد إلا حاشية واحدة.
م: (والسنة في الوقت تثبت في المدخول بها خاصة) ش: قال الشافعي ومالك وأحمد: والخلوة كالدخول عندنا في حكم العدد ومراعاة وقت السنة في الطلاق لأجل العدد مقام الخلوة فيه أيضًا مقام الدخول، كذا في " المبسوط " م: (وهو أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه، لأن الداعي دليل الحاجة، وهو الإقدام على الطلاق في زمان تجدد الرغبة، وهو الطهر الخالي عن الجماع، أما زمان الحيض فزمان النفرة، وبالجماع مرة في الطهر تفتر الرغبة) ش: فلم يكن فيها دليل الحاجة، لقيامه مقامه، وقال الكاكي: قوله في طهر واحد لم يجامعها فيه، ولم يسبق طلاق في حيض ذلك الطهر لم يكن الطلاق في ذلك سنيًّا، وإن لم يجامعها فيه، وكذا لو وطئها حالة الحيض، لم يكن(5/287)
وغير المدخول بها يطلقها في حالة الطهر والحيض، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو يقيسها على المدخول بها. ولنا أن الرغبة في غير المدخول بها صادقة لا تقل بالحيض ما لم يحصل مقصوده منها. وفي المدخول بها تتجدد بالطهر. قال: وإذا كانت المرأة لا تحيض من صغر أو كبر فأراد أن يطلقها ثلاثا للسنة طلقها واحدة، فإذا مضى شهر طلقها أخرى، لأن الشهر في حقها قائم مقام الحيض، قال الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] إلى أن قال: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] (4: الطلاق) ،
والإقامة في حق الحيض خاصة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الطلاق فيه سنيًّا في الذخيرة والزيادات.
م: (وغير المدخول بها يطلقها في حالة الطهر والحيض، خلافًا لزفر) ش: فإنه يكره طلاقها في الحيض م: (وهو) ش: أي زفر م: (يقيسها) ش: أي يقيس غير المدخول بها م: (على المدخول بها. ولنا أن الرغبة في غير المدخول بها صادقة) ش: لأن الرغبة فيها لا تعتبر بحيضها ورغبته بعد الحيض، كما كانت قبله، لأن مقصوده لم يحصل منها، فكان إقدامه على الطلاق لحاجة إليه لنفرته عنه ورغبته م: (لا تقل بالحيض ما لم يحصل مقصوده منها) .
م: (وفي المدخول بها يتجدد) ش: أي الرغبة م: (بالطهر. قال: وإذا كانت المرأة لا تحيض من صغر أو كبر، فأراد أن يطلقها ثلاثًا للسنة طلقها واحدة، فإذا مضى شهر طلقها أخرى، لأن الشهر في حقها) ش: أي في حق الصغيرة والكبيرة التي لا تحيض م: (قائم مقام الحيض) ش: وكذا إذا كانت لا تحيض بالحمل عندنا لأن الحامل لا تحيض، وعند الشافعي: وإن كانت الحامل تحيض فطلاقه في حالة الحيض ليس ببدعة، وقال ابن ( ... ) من أصحابه: بدعة، ولا يتأتى هذا خلاف الشافعي، لأن إيقاع الثلاث بكلمة واحدة غير بدعة عنده، ولكن الأولى التفريق على الأشهر، وفي الأشهر، وفي " البسيط ": ليس في طلاق الصغيرة والآيسة سنة ولا بدعة، وبه قال أحمد، وكذا الحامل عندهم.
م: (قال الله عز وجل {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4] إلى أن قال: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] (4: الطلاق) أورد هذه الآية الكريمة دليلًا على أن الأشهر تقوم مقام الحيض في حق هاتين الطائفتين، قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] أي الصغائر اللاتي لم يبلغن، أو اللاتي بلغت بغير حيض كذلك يعتدون بثلاثة أشهر، كذا في التيسير.
وعن العلامة حميد الدين الضرير - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنما قال: لم يحضن، وما قال: لا يحضن، لأنه لو قال: لا يحضن يمكن أن لا ترى الحيض في هذا الزمان، ويمكن أنها قد كانت رأت قبل هذا الزمان، فقال: لم يحضن، يعني لا يرين أصلًا، وقَوْله تَعَالَى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] (4: الطلاق) مبتدأ، وخبره محذوف، أي واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر.
م: (والإقامة في حق الحيض خاصة) ش: أي إقامة الشهر مقام الحيض خاصة، واحترز به عن(5/288)
حتى يقدر الاستبراء في حقها بالشهر وهو بالحيض لا بالطهر، ثم إن كان الطلاق في أول الشهر تعتبر الشهور بالأهلة، وإن كان في وسطه فبالأيام في حق التفريق وفي حق العدة، كذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما يكمل الأول بالأخير، والمتوسطان بالأهلة، وهي مسألة الإجارات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قول بعض مشايخنا، حيث قالوا: الشهر في التي لا تحيض يقوم مقام الحيض والطهر جميعًا، وإليه ذهب " صاحب الينابيع " وغيره، وقال شمس الأئمة: ظن بعض أصحابنا أن الشهر في حق التي لا تحيض بمنزلة الحيض، والطهر في حق التي تحيض، وليس كذلك، بل الشهر في حقها بمنزلة الحيض في حق التي تحيض م: (حتى يقدر الاستبراء في حقها بالشهر) ش: أي في حق الأمة التي لا تحيض من صغر أو كبر.
م: (وهو) ش: أي الاستبراء م: (بالحيض لا بالطهر) ش: وقال الكاكي وغيره: اختلاف أصحابنا يظهر في حق إلزام الحجة على البعض بإجماعهم، لأن الاستبراء يكتفي بالحيض، وعلى أن الشهر يقوم مقام الحيض، إذ التبع خلف الأصل بحاله لا بذاته.
فإن قيل: لما قام الشهر مقام الحيض ينبغي أن يكون الطلاق الثاني في الشهر الثاني في حالة الحيض.
قلنا: قد ذكرنا أن الخلف يتبع الأصل بحاله لا بذاته، وذات الشهر طهر، والشهر أقيم الحيض في حكم خاص، وهو انقضاء العدة لا في جميع الأحكام، ألا ترى أن الطلاق بعد الجماع في ذوات الأقراء حرام، والآيسة والصغيرة لا تحرم، وكذا الطلاق الثاني.
م: (ثم إن كان الطلاق في أول الشهر) ش: يعني إن كان إيقاع الطلاق في أول الشهر م: (تعتبر الشهور بالأهلة) ش: أي يعتبر الشهور القائمة مقام الحيض بالأهلة كاملة كانت أو ناقصة م: (وإن كان) ش: أي الإيقاع م: (في وسطه) ش: أي في وسط الشهر م: (فبالأيام) ش: أي فيعتبر بالأيام م: (في حق التفريق) ش: أي في تفريق الطلاق على الأشهر بالإجماع، فيحتسب كل شهر ثلاثون يومًا في حق إيقاع الطلاق.
م: (وفي حق العدة كذلك عند أبي حنيفة) ش: لا يحكم بانقضاء العدة إلا بتمام تسعين يومًا من وقت الطلاق م: (وعندهما يكمل الشهر الأول بالأخير) ش: أي يكمل الشهر الأول بالشهر الأخير بالأيام م: (والمتوسطان بالأهلة) ش: أي ويكمل المتوسطان وهما ما بين الأول والأخير بالأهلة، لأن الأصل في الأشهر الأهلة م: (وهي مسألة الإجارات) ش: أي المسألة المذكورة مثل مسألة الإجارات على الخلاف المذكور إذا استأجر دارًا شهورًا معلومة أو سنة في خلال الشهر، فعند أبي حنيفة تكون السنة ثلاثمائة وستين يومًا، وعندهما يكمل الأول بالأخير وما بينهما معتبر بالأهلة، وعلى هذا الأجل في البيع.(5/289)
قال: ويجوز أن يطلقها ولا يفصل بين وطئها وبين طلاقها بزمان. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يفصل بينهما بشهر لقيامه مقام الحيض. ولأن بالجماع تفتر الرغبة، وإنما تتجدد بزمان وهو الشهر. ولنا أنه لا يتوهم الحبل فيها، والكراهية في ذوات الحيض باعتباره، لأن عند ذلك يشتبه وجه العدة، والرغبة وإن كانت تفتر من الوجه الذي ذكر لكن تكثر من وجه آخر، لأنه يرغب في وطء غير معلق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: ويجوز أن يطلقها) ش: أي ويجوز أن يطلق الآيسة أو الصغيرة م: (ولا يفصل بين وطئها وبين طلاقها بزمان) ش: يعني لا يشترط الفصل بشهر بين وطئها وطلاقها، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وأبو ثور وأبي عبيد، وهو قول الحسن وابن سيرين وطاوس وحماد بن سليمان وربيعة.
وقال شمس الأئمة: كان شيخنا يقول: هكذا إذا كانت الآيسة لا يرجى منها الحيض والحبل، وأما إذا كانت صغيرة لا يرجى منها الحيض والحبل فالأفضل الفصل بين جماعها وطلاقها بشهر، ولا منافاة بينه وبين قول المصنف، لأن الأفضلية لا تنافي الجواز.
م: (وقال زفر: يفصل بينهما بشهر لقيامه مقام الحيض) ش: فيمن تحيض، وفيها يفصل بين طلاقها ووطئها بحيضة، فكذا هنا بشهر م: (ولأن بالجماع تفتر الرغبة) ش: فكانت بمنزلة ذات الأقراء إذا جومعت في الطهر م: (وإنما تتجدد) ش: أي الرغبة م: (بزمان) ش: فلا بد منه، وهو الشهر.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن الشأن م: (لا يتوهم الحبل فيها) ش: أي في التي نحن فيها من الآيسة والصغيرة م: (والكراهية) ش: أي كراهية الطلاق بعد الجماع م: (في ذوات الحيض باعتباره) ش: أي باعتبار الحبل م: (ولأن عند ذلك) ش: أي كراهية الطلاق بعد الجماع م: (في ذوات الحيض باعتباره) ش: أي باعتبار الحبل م: (ولأن عند ذلك) ش: أي عند توهم الحبل م: (يشتبه وجه العدة) ش: أي وجه عدتها، فلا يدري أنها حامل فتعتد بالقراء، أو حامل فتعتد بوضع الحمل.
م: (والرغبة وإن كانت تفتر من الوجه الذي ذكر) ش: هذا جواب عن قول زفر، وإنما تتجدد الرغبة وإن كانت تفتر من وجه. فأجاب بقوله: والرغبة وإن كانت تقل، من القلة من الوجه الذي ذكره زفر، ويجوز أن يكون على صيغة المجهول أي من الوجه الذي ذكره الآن م: (لكن تكثر من وجه آخر) ش: أي ولكن تكثر الرغبة من وجه آخر لا يقال إذا تعارض دليل كثرة الرغبة مع دليل فتور الرغبة، يتساقطان لأنا نقول: لا يلزم من زوال كثرة الرغبة زوال أصل الرغبة فيكون الإقدام على الطلاق في زمان الرغبة.
والذي يظهر لي أن المصنف أجاب عنه بقوله م: (لأنه يرغب في وطء غير معلق) ش: أنه يترجح جهة الرغبة بكون الوطء غير معلق، بضم الميم وسكون العين المهملة وكسر اللام،(5/290)
فرارا من مؤن الولد، فكان الزمان زمان رغبة، فصار كزمان الحبل
وطلاق الحامل يجوز عقيب الجماع، لأنه لا يؤدي إلى اشتباه وجه العدة، وزمان الحبل زمان الرغبة في الوطء لكونه غير معلق، أو يرغب فيها لمكان ولده منها، فلا تقل الرغبة بالجماع. ويطلقها للسنة ثلاثا يفصل بين كل تطليقتين بشهر، عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله-، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وزفر: لا يطلقها للسنة إلا واحدة، لأن الأصل في الطلاق الحظر، وقد ورد الشرع بالتفريق على فصول العدة والشهر في حق الحامل ليس من فصولها، فصار كالممتد طهرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبالقاف من أعلق المرأة إذا أحبلها وثلاثية علق، يقال: علقته المرأة إذا حبلت علوقًا م: (فرارًا) ش: أي لأجل الفرار م: (عن مؤن الولد) ش: بضم الميم وفتح الهمزة جمع مؤنة م: (فكان الزمان زمان رغبة، فصار كزمان الحبل) ش: وفي الذخيرة قيل: إذا كانت صغيرة يرجى منها الحيض والحبل فالأفضل أن يفصل بينهما بشهر.
[طلاق الحامل عقيب الجماع]
م: (وطلاق الحامل يجوز عقيب الجماع، لأنه لا يؤدي إلى اشتباه وجه العدة، وزمان الحبل زمان الرغبة في الوطء لكونه) ش: أي لكون الوطء م: (غير معلق) ش: أي غير محبل م: (أو يرغب فيها) ش: عطف على قوله في الوطء، والضمير يرجع إلى الحامل يعني أن زمان الحبل زمن الرغبة في الوطء، لأنه في حالة الحبل غير معلق، وهو زمان الرغبة في الحامل م: (لمكان ولده منها) ش: أي لأجل حصول ولده من الحامل م: (فلا تقل الرغبة بالجماع) ش: لأن الولد داع إلى رغبة الرجل في أمه، ولما كان زمان الرغبة لا يقع طلاقها عقيب الجماع.
م: (ويطلقها) ش: أي الحامل م: (للسنة ثلاثًا يفصل بين كل تطليقتين بشهر عند أبي حنيفة وأبي يوسف) .
م: (وقال محمد وزفر: لا يطلقها للسنة إلا واحدة، لأن الأصل في الطلاق الحظر، وقد ورد الشرع بالتفريق على فصول العدة) ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] (الطلاق: الآية1) ، وقال ابن عباس: أي الأطهار عدتهن، ففي ذوات الأقراء ترقب على الأقراء، وفي حق الآيسة والصغيرة على الأشهر، لأن كل شهر فصل من فصول العدة في حقهن، كالقرء في ذوات الأقراء م: (والشهر في حق الحامل ليس من فصولها) ش: أي من فصول العدة، لأن مدة الحمل، وإن طالت فهي طهر وحيض واحد حقيقة وحكمًا، ألا ترى أن انقضاء العدة لا يتعلق.
م: (فصار كالممتد طهرها) ش: فلا يكون محلًا لتفريق الثلاث، لأن شهورها وإن امتدت فهو فصل واحد، ولا تفرق التطليقات فيه. وقال محمد: بلغنا عن ابن مسعود وجابر بن عبد الله والحسن البصري أن الحامل لا تطلق أكثر من واحدة للسنة، وقول الصحابي إذا كان فقيهًا يقدم على القياس، هكذا في " المبسوط " وبقول محمد قال الشافعي ومالك وأحمد.(5/291)
ولهما أن الإباحة لعلة الحاجة والشهر دليلها، كما في حق الآيسة والصغيرة، وهذا لأنه زمان تجدد الرغبة على ما عليه الجبلة السليمة، فصلح علما ودليلا، بخلاف الممتد طهرها لأن العلم في حقها إنما هو الطهر، وهو مرجو فيها في كل زمان، ولا يرجى مع الحبل.
وإذا طلق الرجل امرأته في حالة الحيض وقع الطلاق، لأن النهي عنه لمعنى في غيره، وهو ما ذكرناه فلا تنعدم مشروعيته، ويستحب له أن يراجعها لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهما ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أن الإباحة) ش: أي إباحة الطلاق م: (لعلة الحاجة) ش: أي باعتبار الحاجة م: (والشهر دليلها) ش: أي دليل الحاجة في حق الحامل م: (كما في حق الآيسة والصغيرة) ش: أي كما أنها دليل الحاجة في حقهما، لأن مدة الحمل مدة كاملة، ولهذا يلزمها الحد وأحكام العدة، فكانت كالشهور في حقهما م: (وهذا) ش: أي كون الشهر دليلًا في حق الآيسة والصغيرة م: (لأنه) ش: أي لأن الشهر م: (زمان تجدد الرغبة على ما عليه الجبلة السليمة) ش: إنما قال هذا لأن الشخص ربما لا يرغب في المرأة في أكثر من شهرين أو ثلاث بآفة عارضة في ذاته. أما الشخص السليم عن الآفة فلا بد أن يجدد الرغبة في المرأة في شهر فصلح للشهر دليلًا على الحاجة.
م: (فصلح) ش: أي الشهر م: (أن يكون علمًا ودليلًا) ش: على وجود الحاجة والحكم يدار على دليلها، فإذا وجد وجه على ما أبيح لأجله الطلاق، فيكون نكاحًا مباحًا م: (بخلاف الممتد طهرها) ش: هذا جواب عن قياس قول محمد، بيانه هو قوله م: (لأن العلم في حقها) ش: أي لأن العلم على الحاجة في حقها م: (هو الطهر) ش: بعد الحيض، يعني تجدد طهر يعقبه الحيض م: (وهو) ش: أي تجدد الطهر م: (مرجو فيها في كل زمان) ش: لأنه يمكن أن تحيض فتطهر، لأنها ليست يائسة ولا صغيرة م: (ولا يرجى) ش: أي تجدد الطهر م: (مع الحمل) ش: لأن الحامل لا تحيض، فإذا رأت دمًا لا يعتبر حيضها.
[طلق الرجل امرأته في حالة الحيض]
م: (وإذا طلق الرجل امرأته في حالة الحيض وقع الطلاق) ش: ويأثم بإجماع الفقهاء، وعند الشيعة وابن علية وهشام بن الحكم والظاهرية لا يقع م: (لأن النهي عنه) ش: أي عن الطلاق في حالة الحيض م: (المعنى في غيره، وهو ما ذكرناه) ش: وهو تطويل العدة ولاشتباه أمر العدة أوصله بالتدارك م: (فلا تنعدم مشروعيته) ش: لأن النهي إذًا لمعنى في غيره لا يعدم المشروعية كما عرف في الأصول، قيل: المراد بالنهي هاهنا المستفاد من ضد الأمر المذكور من قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] (الطلاق: الآية 1) ، أي لإظهار عدتهن. وقيل: المراد بالنهي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] (البقرة: الآية 231) .
م: (ويستحب) ش: أي للرجل الذي طلق امرأته في حالة الحيض م: (أن يراجعها) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وقال محمد في " الأصل ": وينبغي أن يراجعها م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)(5/292)
لعمر: «مر ابنك فليراجعها» ، وقد طلقها في حالة الحيض، وهذا يفيد الوقوع والحث على الرجعة، ثم الاستحباب. وقول بعض المشايخ. والأصح أنه واجب عملا بحقيقة الأمر رفعا للمعصية بالقدر الممكن برفع أثره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (لعمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مر ابنك فليراجعها) ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة «عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر ". م: (فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله تعالى.»
وفي لفظ البخاري ومسلم «أنه طلق امرأته تطليقة واحدة وهي حائض» . قوله: مره أي مر من أمر يأمر أمرًا، بهمزتين، فحذفت الهمزة التي هي فاء الفعل للاستثقال، واستغنى عن همزة الوصل فحذفت أيضًا، فصار مر على وزن عل والكاف في قوله: ابنك خطابًا لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وابنه عبد الله.
م: (وقد طلقها) ش: الواو للحال، أي والحال أن ابن عمر قد كان طلق امرأته م: (في حالة الحيض) ش: وكان طلقها واحدة كما في الذي ذكرناه م: (وهذا) ش: إشارة إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " فليراجعها " م: (يفيد الوقوع) ش: أي وقوع الطلاق إذ لا يتصور الرجعة بدون الوقوع م: (والحث) ش: أي ويفيد الحث م: (على المراجعة) ش: أي على أن يراجعها.
م: (ثم الاستحباب) ش: أي استحباب الرجعة م: (وقول بعض المشايخ) ش: وبه قال الشافعي وأحمد م: (والأصح أنه) ش: أي أن المراجعة أو الرجعة ذكر الضمير على تأويل الرجوع م: (واجب عملًا بحقيقة الأمر) ش: لأن مطلق الأمر للوجوب حقيقة. قال الأترازي: قال " صاحب الهداية " والأصح أنه واجب، ولأن فيه نظر محمدًا لم يذكر في الأصل لفظ الوجوب، بل قال: ينبغي له أن يراجعها.
قال في " الأصل ": وإذا طلق الرجل امرأته وهي حائض فقد أخطأ السنة، والطلاق واقع عليها، فينبغي أن يراجعها، وشمس الأئمة نقل في " المبسوط " لفظ محمد كذلك، ولم يذكر الوجوب، ثم قال الأترازي: نعم يحتمل أن تكون الرجعة واجبة، لأن الأمر بالمراجعة مطلق، ومطلق الأمر يدل على الوجوب انتهى، قلت: أراد الأترازي بقوله: التصرف فقط، إذ لا حاجة للتنظير فيه ولا للاعتذار بعد ذلك.
م: (ورفعًا للمعصية) ش: أي ولأجل رفع المعصية لأن إيقاع الطلاق في الحيض معصية والسبيل في رفع المعاصي برفعها م: (بالقدر الممكن) ش: أي بقدر ما أمكن كالبيع الفاسد، والنكاح الفاسد م: (برفع أثره) ش: أي يرفع أثر المعصية، وذكر الضمير على تأويل العصيان والمعصية(5/293)
وهو العدة، ودفعا لضرر تطويل العدة. قال: فإذا طهرت وحاضت ثم طهرت فإن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها، قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهكذا ذكر في " الأصل "، وذكر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة الأولى. قال أبو الحسن الكرخي ما ذكر الطحاوي قول أبي حنيفة، وما ذكر في " الأصل " قولهما ووجه المذكور في " الأصل " أن السنة أن يفصل بين كل طلاقين بحيضة، والفاصل هاهنا بعض الحيضة، فتكمل بالثانية ولا تتجزأ، فتتكامل. وجه القول الآخر أن أثر الطلاق قد انعدم بالمراجعة، فصار كأنه لم يطلقها في الحيض، فيسن تطليقها في الطهر الذي يليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الطلاق في حالة الحيض م: (وهو) ش: أي أثره هو م: (العدة) ش: أي أثر الطلاق الذي هو سببه هو العدة م: (ودفعًا لضرر تطويل العدة) ش: أي ولأجل رفع الضرر بطول العدة عليها يرفعها بالمراجعة.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: م: (فإذا طهرت) ش: أي بعد المراجعة م: (وحاضت ثم طهرت، فإن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (هكذا ذكر في الأصل) ش: أي هكذا ذكر محمد في " المبسوط "، لأنه قال فيه: فإذا طهرت من حيضة أخرى طلقها واحدة قبل الجماع. وهذا يدل على أن الطهر الذي يقع في الطلاق هو الطهر الذي بعد حيضة أخرى، لا الطهر بعد حيضة أوقع فيها الطلاق. قال المصنف: م: (وذكر الطحاوي أنه يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة الأولى. قال أبو الحسن الكرخي ما ذكره الطحاوي قول أبي حنيفة، وما ذكره في الأصل قولهما) ش: أي قول أبي يوسف ومحمد. وفي " الكافي ": هو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة، وبه قال الشافعي في المشهور عنه ومالك وأحمد، وما ذكره الطحاوي برواية عن أبي حنيفة. وبه قال الشافعي في وجه.
م: (ووجه المذكور في الأصل أن السنة أن يفصل بين كل طلاقين بحيضة، والفاصل هاهنا بعض الحيضة فتكمل بالثانية ولا تتجزأ) ش: أي الحيضة الثانية م: (فتتكامل. وجه القول الآخر) ش: أراد به ما ذكره الطحاوي م: (أن أثر الطلاق قد انعدم بالمراجعة، فصار كأنه لم يطلقها في الحيض، فيسن تطليقها في الطهر الذي يليه) ش: أي يلي الحيض.
واعلم أن المصنف بين وجه القولين المذكورين بالمعاني الفقهية، ولم يرجع إلى الحديث المروى في الباب، لأن كل واحدة من الروايتين مروية في الحديث. فروى البخاري بإسناده إلى نافع «عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مر ابنك فليراجعها ... » الحديث، وقد ذكرناه عن قريب، وهذا يدل على رواية الأصل. وروى الترمذي في " جامعه " بإسناده إلى سالم «عن ابن عمر أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: مره فليراجعها»
الحديث.(5/294)
ومن قال لامرأته: وهي من ذوات الحيض وقد دخل بها، أنت طالق ثلاثا للسنة، ولا نية له فهي طالق عند كل طهر تطليقة لأن اللام فيه للوقت ووقت السنة طهر لا جماع فيه. وإن نوى أن تقع الثلاث الساعة أو عند رأس كل شهر واحدة فهو على ما نوى، سواء كانت في حالة الحيض أو في حالة الطهر. وقال زفر: لا تصح نية الجمع لأنه بدعة وهي ضد السنة. ولنا أنه يحتمل لفظه لأنه سني وقوعا من حيث إن وقوعه بالسنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقد ذكرناه أيضًا، وهذا يدل على رواية الطحاوي فلأجل التعارض بينهما لم يذكرهما المصنف واكتفى بما ذكره في الكتاب.
[قال لامرأته وهي من ذوات الحيض وقد دخل بها أنت طالق ثلاثًا للسنة ولا نية له]
م: (ومن قال لامرأته وهي من ذوات الحيض وقد دخل بها أنت طالق ثلاثًا للسنة ولا نية له فهي طالق عند كل طهر تطليقة) ش: هذا إذا لم يجامعها وهي طاهرة، ولو جامعها فيه لا يقع حتى تحيض وتطهر إذا لم ينو شيئًا أو نوى عند كل طهر تطليقة وعند الشافعي ورواية عن أحمد يقع الثلاث في الحال إذا لم يجامعها وهي طاهرة. ولو جامعها في ذلك الطهر لا تطلق الثلاث حتى تحيض وتطهر، لأن عنده لا سنة ولا بدعة في العدد حتى ولو نوى تفريق الثلاث على الأطهار لا يقبل قوله في المشهور عنه. وعن بعض أصحابه يقبل وقال مالك: لا أعرف المباح من الطلاق إلا واحدة، فيكون الثلاث بدعيًّا عنده، وقيد به وقد دخل بها لأن غير المدخول بها تطلق ثلاثًا في الحال بالإجماع.
م: (لأن اللام فيه) ش: أي في قوله للسنة م: (للوقت) ش: بأن يستعار الوقت فكأنه قال: وقت السنة م: (ووقت السنة) ش: في الطلاق م: (طهر لا جماع فيه) ش: أي طهر خال عن الجماع.
م: (وإن نوى أن تقع الثلاث الساعة أو عند رأس كل شهر واحدة فهو على ما نوى سواء كانت) ش: أي تلك الساعة م: (في حالة الحيض أو في حالة الطهر. وقال زفر: لا تصح نية الجمع لأنه) ش: أي لأن الجمع بين الثلاث م: (بدعة وهي) ش: أي البدعة م: (ضد السنة) ش: والشيء لا يحتمل ضده، فقد نوى ما لا يحتمل لفظه فيلغو.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن الجمع م: (يحتمل لفظه) ش: وهو السنة من حيث الوقوع م: (لأنه سني وقوعًا) ش: أي من حيث الوقوع م: (من حيث أن وقوعه) ش: أي وقوع الثلاث جملة عرف م: (بالسنة) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من طلق امرأته ألفًا بانت منه بثلاث، والباقي رد عليه» .(5/295)
لا إيقاعا فلم يتناوله مطلق كلامه وينتظمه عند نيته. وإن كانت آيسة أو من ذوات الأشهر وقعت الساعة واحدة وبعد شهر أخرى، لأن الشهر في حقها دليل الحاجة كالطهر في حق ذوات الأقراء على ما بيننا.
وإن نوى أن يقع الثلاث الساعة، وقعن عندنا لما قلنا بخلاف ما إذا قال: أنت طالق للسنة ولم ينص على الثلاث حيث لا تصح نية الجمع فيه لأن نية الثلاث إنما صحت فيه من حيث إن اللام فيه للوقت، فيفيد تعميم الوقت ومن ضرورته تعميم الواقع فيه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لا إيقاعًا) ش: لأن إيقاع الثلاث جملة مكروه م: (فلم يتناوله مطلق كلامه) ش: لأن المطلق ينصرف إلى الكامل وذا في السني وقوعًا وإيقاعًا.
فإن قيل: الوقوع بدون الإيقاع محال لأنه انفعال فإذا صح الوقوع صح الإيقاع، فكان سنيًّا وقوعًا وإيقاعًا، وليس كذلك. أجيب: بأن الوقوع لا يوصف بالحرمة، لأنه ليس فعل مكلف، ولأنه حكم شرعي وهو لا يوصف بالبدعة، والإيقاع يوصف بهما لكونه فعل المكلف، فكان أشبه بالسنة المرضية، فكذلك قال سني وقوعًا.
م: (وينتظمه) ش: أي ينتظم الجمع م: (عند نيته) ش: لأنه سني من وجه، فكان محتمل لفظ السنة، وفيه تشديد على نفسه على ذلك، فصح نيته كما لو قال: كل مملوك لي حر لا يتناول المكاتب لقصور الملك يدًا. ولو نواه يصح ويعتق، وكذا لو حلف لا يأكل لحمًا لا يتناول لحم السمك لقصوره في اللحمية، ولو نواه صح ويحنث بأكله م: (وإن كانت آيسة أو من ذوات الأشهر) ش: يعني صغيرة مدخولًا بها، فقال: أنت طالق ثلاثًا للسنة م: (وقعت الساعة) ش: بالنصب على أنها ظرف م: (واحدة) ش: أي طلقة واحدة م: (وبعد شهر أخرى) ش: أي يقع بعد شهر طلقة أخرى م: (لأن الشهر في حقها دليل الحاجة) ش: كما تقدم وأن الشهر في حقها قائم مقام الحيض م: (كالطهر في حق ذوات الأقراء على ما بينا) ش: إشارة إلى ما ذكر في التعليل قريبًا من ورقة بقوله: لأن الشهر في حقها قائم مقام الحيض.
م: (وإن نوى أن تقع الثلاث الساعة وقعن عندنا خلافًا لزفر لما بينا) ش: إشارة إلى قوله: لأنه سني وقوعًا م: (بخلاف ما إذا قال: أنت طالق للسنة، ولم ينص على الثلاث، حيث لا تصح نية الجمع فيه) ش: قيل: هكذا ذكر فخر الإسلام، والصدر الشهيد، وصاحب " المختلفات "، وعلاء الأئمة السمرقندي م: (لأن نية الثلاث إنما صحت فيه من حيث إن اللام فيه للوقت فيفيد تعميم الوقت، ومن ضرورته تعميم الواقع) ش: أي ومن ضرورة تعميم الوقت الذي هو ظرف الوقوع تعميم الواقع فيه م: (فيه) ش: أي يلزم من ضرورة تعميم الوقت يعمم الواقع فيه أي في الوقت، لأنه جعل الوقت ظرفًا للواقع، وقد تكرر الظرف، فيتكرر المظروف.(5/296)
فإذا نوى الجمع بطل تعميم الوقت فلا تصح نية الثلاث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإذا نوى الجمع، بطل تعميم الوقت) ش: فيبطل تعميم الواقع فيه، لأن بطلان المقتضى يوجب بطلاق المقتضى م: (فلا تصح نية الثلاث) ش: بخلاف ما إذا ذكر ثلاثًا، لأن الثلاث مذكور صريحًا، فتصح نيته. وقال الأترازي بعد قوله: ومن ضرورة تعميم الواقع فيه: ولنا فيه نظر، لأن تعميم الوقت لا يستلزم تعميم الواقع فيه ألا ترى أنه لو قال لامرأته أنت طالق كل يوم ولم تكن له نية لا تقع إلى طلقة واحدة عندنا، خلافًا لزفر، لأن الوقت عام كما ترى من لفظ العموم، ولم يلزم منه عموم الواقع انتهى. ودفع نظره بأن المراد من تعميم الوقت تعميم وقت السنة لا مطلق الوقت، فيلزم من تعميمه تعميم الواقع.(5/297)
فصل ويقع طلاق كل زوج إذا كان عاقلا بالغا، ولا يقع طلاق الصبي والمجنون والنائم لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمجنون» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل من يقع طلاقه ومن لا يقع] [طلاق الصبي والمجنون والنائم]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل. لما ذكر طلاق السنة لأنه الأصل، وذكر ما يقابله من طلاق البدعة، شرع في بيان من يقع طلاقه ومن لا يقع.
م: (ويقع طلاق كل زوج إذا كان بالغًا عاقلًا) ش: وهذا بالإجماع م: (ولا يقع طلاق الصبي) ش: وفي " المغني " للحنابلة: إذا عقل الصبي الطلاق فطلق لزمه، وهو أكثر الروايات عن أحمد، واختاره أبو بكر والخرقي وابن حامد، وزعموا أن ذلك مروي عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والشعبي وإسحاق وروى أبو الحارث عنه إذا عقل الطلاق جاز طلاقه ما بين العشر إلى ثنتي عشرة. وفي " الجامع ": إذا كان الصبي مجبوبًا وفرق بينهما بالجب، يكون طلاقًا على المذهب، وإن لم يقع طلاق الصبي ومنهم من جعله فسخًا.
م: (والمجنون) ش: من جن الرجل وأجنه الله فهو مجنون، ولا تقل مجين، وقيل الفاصل بين المجنون والمعتوه والعاقل أن العاقل من يستقيم كلامه وأفعاله، والمجنون ضده، والمعتوه من يكون ذلك منه على السواء.
وقيل: المجنون من يفعل ما يفعله المجانين أحيانًا عن قصد، والعاقل ما يفعله المجانين أحيانًا لا عند قصد، على ظن الصلاح. والمعتوه يفعل ما يفعله المجانين عن قصد مع ظهور الفساد.
وفي " الصحاح " المعتوه: الناقص العقل. وفي " الذخيرة " من كان قليل الفهم، مختلط الكلام، فاسد التدبير إلا أنه لا يضرب ولا يشتم كما يفعله المجنون.
م: (والنائم) ش: وفي " الذخيرة " وطلاق النائم غير واقع ولا موقوف وإن أجاز بعد ما انتبه ولو قال النائم أوقعت ما تلفظت به في النوم لا يقع. وفي " المحيط ". إن أجازه بعد بأن قال: أجزت الطلاق يقع م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمجنون» هذا حديث غريب، وذكر المصنف أيضًا في الحجة لكن بلفظ المعتوه عوض المجنون.
وأخرج الترمذي عن عطاء بن عجلان عن عكرمة بن خالد المخزومي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله»(5/298)
ولأن الأهلية بالعقل المميز وهما عديما العقل، والنائم عديم الاختيار، وطلاق المكره واقع خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو يقول إن الإكراه لا يجامع الاختيار، وبه يعتبر التصرف الشرعي، بخلاف الهازل، فإنه مختار في التكلم بالطلاق؛ ولنا: أنه قصد إيقاع الطلاق في منكوحته في حال أهليته فلا يعرى عن قضيته دفعا لحاجته اعتبارا بالطائع، وهذا لأنه عرف الشرين واختار أهونهما وهذا آية القصد والاختيار إلا أنه غير راض بحكمه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال: هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا من حديث عطاء، وهو ضعيف ذاهب الحديث وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن عطاء عن ابن عباس قال: لا يجوز طلاق الصبي وفي " شرح الطحاوي "، ولو أن الصبي والمجنون طلق امرأته لم يقع طلاقه، وكذا المغمى عليه ( ... ) والمدهوش والنائم والمعتوه، والذي يشرب الدواء مثل البنج ونحوه فتغير عقله إذا طلق واحد من هؤلاء زوجته لم يقع طلاقه م: (ولأن الأهلية بالعقل والتميز وهما) ش: أي الصبي والمجنون م: (عديما العقل والنائم عديم الاختيار) ش: وشرط التصرف الشرعي إنما هو بالاختيار م: (وطلاق المكره واقع) ش: وهو قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وبه قال الشعبي وابن جبير والنخعي والزهري وسعيد بن المسيب وشريح القاضي وأبو قلابة عبد اله بن زيد الجرمي التابعي الكبير، وقتادة والثوري م: (خلافًا للشافعي) ش فإنه يقول: لا يقع طلاق المكره، وبه قال مالك وأحمد، ويروى عن ابن عباس، وابن عمر وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - ومن التابعين الحسن وعطاء والضحاك.
م: (هو) ش: أي الشافعي م: (يقول إن الإكراه لا يجامع الاختيار وبه) ش: أي وبالاختيار م: (يعتبر التصرف الشرعي) ش: ولا اعتبار في التصرف إلا باختيار م: (بخلاف الهازل، فإنه مختار في التكلم بالطلاق) ش: واستدل الشافعي أيضًا بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه» .
م: (ولنا أنه) ش: أي أن المكره م: (قصد إيقاع الطلاق في منكوحته في حال أهليته) ش: أي في حال عقله وتمييزه وكونه مخاطبًا، وبالإكراه لا يخرج عن ذلك م: (فلا يعرى عن قضيته) ش: أي عن حكمه، لئلا يلزم تخلف الحكم عن علته م: (دفعًا لحاجته) ش: أي لحاجة المكره وحاجته أن يتخلص عما توعد به من القتل والجرح ونحو ذلك م: (اعتبارًا بالطائع) ش: وفي وقوع طلاقه دفعًا لحاجته م: (وهذا) ش: إشارة إلى قوله والطلاق م: (لأنه عرف الشرين واختار أهونهما) ش: أي أهون الشرين وهو الطلاق م: (وهذا آية القصد) ش: أي علامة القصد م: (والاختيار) ش: وهذا جواب عن قوله: الإكراه لا يجامع الاختيار م: (إلا أنه) ش: أي غير أن المكره م: (غير راض بحكمه) ش: الضمير يرجع إلى إيقاع الطلاق وحكمه وقوع الطلاق وهذا جواب عما يقال: لو كان المكره مختارًا لما كان له اختيار فسخ العقد الذي باشره مكره من البيع والشراء والإجارة وغيرها وليس(5/299)
وذلك غير مخل به كالهازل.
وطلاق السكران واقع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كذلك. وتقريره أنه غير راض بحكمه م: (وذلك) ش: أي عدم الرضى بحكم الطلاق م: (غير مخل) ش: أي بحكمه م: (كالهازل) ش: فإنه يقع طلاقه مع عدم الرضى بوقوعه.
وأصحابنا استدلوا أيضًا بما روي عن علي وابن عباس وابن مسعود أنهم قالوا: كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه والصبي. وحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أيضًا الذي رواه الترمذي وقد ذكرناه. والجواب عن الحديث الذي استدل به الشافعي أنه لا حجة له لأن التجاوز والعفو عن الطلاق والعتاق لا يصح لأنه غير مذنب فلم يدخل تحت الحديث.
[طلاق السكران]
م: (وطلاق السكران واقع) ش: وكذا يصح إعتاقه وخلعه، وبه قال الشافعي في المنصوص والأصح، وهو قول الثوري ومالك وأحمد في رواية وفي " المبسوط " المنصوص للشافعي جديدًا وقديمًا وقوع طلاق السكران، ونص في الظهار على قولين، فمنهم من نقل من الظهار قولًا إلى الطلاق، ومعظم العلماء صاروا إلى وقوع طلاق السكران. وفي " المغني ": وهو قول سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والأوزاعي وميمون بن مهران والحكم وشريح وسليمان بن يسار ومحمد بن سيرين وابن شبرمة وسليمان بن حرب وابن عمر وعلي وابن عباس ومعاوية - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وبه قال قتادة، وحميد، وجابر بن زيد، وابن أبي ليلى وعمر بن عبد العزيز والحسن بن حميد.
وقال ابن حزم: أجاز مالك جميع تصرفاته الأربعة لقول أصحابنا وروى ابن وهب عنه أنه يجوز طلاقه دون نكاحه. وقال صاحب مطرف بن عبد الله لا يلزمه شيء من تصرفاته الأربعة، الطلاق والعتق والقتل والقذف. وعن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه لا يقع طلاقه، وبه قال طاوس والقاسم بن محمد ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة وعبد الله بن الحسن والليث بن سعد وإسحاق وأبو ثور والمزني وأبو سليمان وابن شريح وأبو طاهر الزيادي وأبو سهل الصعلوكي وابن سهل من الشافعية وزفر بن هذيل وأبو جعفر الطحاوي وأبو الحسن الكرخي وقال عثمان البتي: لا يلزمه منه عقد ولا بيع ولا نكاح ولا حد إلا حد الخمر فقط.
وقال الليث: لا يلزمه شيء بقوله، وأما ما عمل بيده من قتل أو سرقة أو زنى فإنه يقام عليه. وفي الذخيرة ": طلاق السكران واقع إذا سكر من الخمر والنبيذ، ولو أكره على الشرب فسكر أو شرب للضرورة فذهب عقله يقع طلاقه. وفي جوامع الفقه عن أبي حنيفة: يقع، وبه أخذ شداد ولو ذهب عقله بدواء أو أكل البنج لا يقع.
وذكر عبد العزيز الترمذي أنه قال: سئل أبو حنيفة وسفيان الثوري عن رجل شرب البنج فارتفع إلى رأسه فطلق، قالا: إن كان يعلم حين شرب ما هو؟ يقع وإلا لا يقع. ولو شرب الخمر ولم يوافقه فصعد منه فزال عقله وقع طلاقه. ولو سكر من الأنبذة المتخذة من الحبوب والعسل لا(5/300)
واختيار الكرخي والطحاوي - رحمهما الله - أنه لا يقع وهو أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن صحة القصد بالعقل وهو زائل العقل، فصار كزواله بالبنج والدواء. ولنا: أنه زال بسبب هو معصية، فجعل باقيا حكما زجرا له،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يقع طلاقه عندهما، وعند محمد يقع.
وفي الينابيع: لو سكر بالبنج والدواء لا يقع طلاقه بالإجماع، كالنائم بخلاف ما لو شرب رأسه حتى زال عقله، فإنه لا ينفذ تصرفاته ولا يجعل عقله باقيًا، وإن كان زوال بمعصية لنذوره ولهذا لا يشرع فيه حد. ذكره في المحيط بخلاف زواله بالخمر ونحوه أي فاعتبر عقله باقيًا، ووجب عليه الفرائض زجرًا له.
م: (واختيار الكرخي والطحاوي أنه) ش: أي طلاق السكران م: (لا يقع وهو أحد قولي الشافعي لأن صحة القصد بالعقل وهو زائل فصار كزواله بالبنج والدواء) ش:، أي كزوال العقل باستعمال البنج وشرب الدواء، فإن فيهما لا يقع الطلاق بالاتفاق. وكذا إذا أكل الأفيون أو شرب لبن الرمكة فسكر به، والبنج تعريب - بنك - قال في المغرب: وهو نبت له حب يسكر، وقيل: يثبت ورقه وقشره وبزره. وفي " القانون ": هو سم يخلط العقل ويبطل الذكر ويحدث جنونًا وخناقًا.
م: (ولنا أنه زال بسبب هو معصية فجعل) ش: أي عقله م: (باقيًا حكمًا زجرًا له) ش: أي عقوبة عليه. قيل في كلامه تسامح، لأنه جعل العقل زائلًا بالسكر وليس كذلك عندنا لأنه مخاطب ولا خطاب بلا عقل بل هو مغلوب.
وأجيب: بأن المغلوب كالمعدوم، فلذلك أطلق عليه الزوال. ويقال: ولئن سلمنا أنه زوال ولكنه حاصل بسبب هو معصية فلم يؤثر في إسقاط ما بني على التكليف، بل يجعل باقيًا زاجرًا وتنكيلًا، ألا ترى أنه ألحق بالصاحي في حق وجوب القصاص، وحد القذف حتى لو قتل أو قذف في هذه الحالة يجب القصاص وحد القذف، فلأن يلحق بالصاحي فيما لا يسقط بالشبهة أولى. واعترض بوجهين أن شرب المسكر كسفر المعصية فما بال السفر صار سببًا للتخفيف دون شرب المسكر. والثاني: أنه لما جعل العقل باقيًا في الطلاق حكمًا زاجرًا له كانت الردة والإقرار بالحدود أولى لأن الزجر والعقوبة هناك أتم.
وأجيب عن الأول: بأن الشراب نفسه معصية ليس فيه إن كان انفصال ولا جهة إباحة يصلح لإضافة التخفيف. وعن الثاني: بأن الركن في الردة الاعتقاد، والسكران غير معتقد لما يقول فلا نحكم بردته، لانعدام ركنها للتخفيف عليه بعد تقرر السبب، وأما الإقرار بالحدود فإن السكران لا يثبت على شيء مما أقر به، فيؤثر فيما يحتمل الرجوع.(5/301)
حتى لو شرب فصدع وزال عقله بالصداع نقول إنه لا يقع طلاقه
وطلاق الأخرس واقع بالإشارة، لأنها صارت معهودة، فأقيمت مقام العبارة دفعا للحاجة، وستأتيك وجوهه في آخر الكتاب إن شاء الله. وطلاق الأمة ثنتان، حرا كان زوجها أو عبدا، وطلاق الحرة ثلاث، حرا كان زوجها أو عبدا. وقال الشافعي - رحمه لله -: عدد الطلاق معتبر بحال الرجال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (حتى لو شرب فصدع وزال عقله بالصداع، نقول: إنه لا يقع طلاقه) ش: لأن حكمه يصير كحكم الإغماء.
[طلاق الأخرس]
م: (وطلاق الأخرس واقع بالإشارة) ش: إن كانت له إشارة تعرف في نكاحه وطلاقه وعتاقه وبيعه وشرائه يقع استحسانًا، سواء قدر على الكتابة أم لا. وبه قال الشافعي ومالك لأنه يحتاج إلى ما يحتاج إليه الناطق، ولو لم يجعل إشارته كعبارة الناطق لأدى إلى الحرج وهو مدفوع شرعًا.
وقال شمس الأئمة السرخسي في " المبسوط ": وإن كان الأخرس لا يكتب وكانت له إشارة في الأشياء التي ذكرناها فهو جائز استحسانًا، وفي القياس: لا يقع شيء من ذلك بإشارته لا يستبين من إشارة الأخرس حروف منظومة، فبقي مجرد قصد الإيقاع، وبهذا لا يقع. وإن لم يكن له إشارة معلومة تعرف ذلك منه أو يشك فيه فهو باطل، لعدم الوقوف على مراده.
وفي " الينابيع ": هذا إذا ولد أخرس أو طرأ عليه ودام، وإن لم يدم لم يقع طلاقه. وقال قتادة: يطلق ولي الأخرس ومثله عن الحسن البصري.
م: (لأنها) ش: أي لأن إشارة الأخرس م: (صارت معهودة فأقيمت مقام العبارة دفعًا للحاجة) ش: أي لأجل دفع حاجته م: (وستأتيك وجوهه) ش: أي وجوه طلاق الأخرس م: (في آخر الكتاب) ش: أي في آخر كتاب " الهداية " لا في آخر كتاب الطلاق.
م: (وطلاق الأمة ثنتان) ش: أنث الطلاق باعتبار التطليق م: (حرًا كان زوجها أو عبدًا. وطلاق الحرة ثلاث حرًا كان زوجها أو عبدًا) ش: وهو قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - رواه ابن حزم في " المحلى "، فقال: ولا يثبت ذلك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
م: (وقال الشافعي عدد الطلاق معتبر بحال الرجال) ش: والعدة بالنساء، وبه قال مالك في " الموطأ "، وعند أصحابنا عدة الطلاق معتبرة بالنساء وكذا العدة، وبه قال سفيان وأحمد وإسحاق. وثمرة الخلاف تظهر في حرة تحت عبد، أو في أمة تحت حر، ولا خلاف في حرة تحت حر أو في أمة تحت عبد، وقال السروجي: قال داود وهمام وقتادة ومجاهد والحسن البصري وابن سيرين وعكرمة ونافع وعبيدة السليماني ومسروق وحماد بن أبي سليمان والحسن بن جني والثوري والنخعي والشعبي: يطلق العبد الحرة ثلاثًا، وتعتد بثلاث حيض، ويطلق الحر الأمة(5/302)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطلاق بالرجال والعدة بالنساء» ، ولأن صفة المالكية كرامة، والآدمية مستدعية لها، ومعنى الآدمية في الحر أكمل، فكانت مالكيته أبلغ وأكثر. ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثنتين وتعتد بحيضتين، وعند الأئمة الثلاث مالك والشافعي وأحمد: يطلق الحر الأمة ثلاثًا وتعتد بحيضتين، ويطلق العبد الحرة ثنتين وتعتد بثلاث حيض، حرر ذلك الرافعي وصاحب " الأنوار " وابن حزم عنهم.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الطلاق بالرجال والعدة بالنساء» هذا الحديث غريب مرفوعًا، ورواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " موقوفًا على ابن عباس، ورواه الطبراني في " معجمه " موقوفًا على ابن مسعود. ورواه عبد الرزاق في " مصنفه " موقوفًا على عثمان، وزيد بن ثابت، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
وجه الاستدلال به أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قابل الطلاق بالعدة على وجه يختص كل واحد منهما بجنس على حدة، ثم اعتبار العدة بالنساء من حيث القدر، فيجب أن يكون اعتبار الطلاق بالرجال من حيث القدر، وتحقيقًا للمقابلة.
وأشار المصنف إلى تعليله بقوله م: (لأن صفة المالكية) ش: أي كون الشخص مالكًا م: (كرامة، والآدمية مستدعية لها) ش: أي الكرامة بتكريم الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] (الإسراء: الآية 70) م: (ومعنى الآدمية في الحر أكمل) ش: فإن العبد يشتمل على جهة الآدمية والمالكية، ولهذا يباع في الأسواق كما تباع الدواب والثياب، وتجب القيمة في قتله، كما في البهيمة م: (فكانت مالكيته أبلغ وأكثر) ش: وقال الأكمل: فإن قلت: الدليل أخص من المدعي إذ المدعي أن الطلاق بالزوج حرًا كان أو عبدًا، والدليل يدل على أن الزوج إذا كان حرًا كان مالكًا.
قلت: إذا ثبت ذلك للحر ثبت للعبد لعدم القائل بالفصل.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان» : ش: وهذا الحديث روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، أخرجه الترمذي وابن ماجه.(5/303)
ولأن حل المحلية نعمة في حقها وللرق أثر في تنصيف النعم، إلا أن العقدة لا تتجزأ فتكامل عقدتان. وتأويل ما روى أن الإيقاع بالرجال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أبو داود بعد أن أخرجه: هذا الحديث مجهول، وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث مظاهر بن أسلم، لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث. ونقل الذهبي في " ميزانه " تضعيف مظاهر عن أبي عاصم النبيل ويحيى بن معين وأبي حاتم والرازي والبخاري، ونقل توثيقه عن ابن حبان.
قلت: التوثيق أقوى لأن الأصل في الراوي العدالة.
وأخرج ابن ماجه هذا الحديث عن ابن عمر مرفوعًا نحوه سواء، ورواه البزار في " مسنده " والطبراني في " معجمه " والدارقطني في سننه ". وقال الدارقطني: تفرد به عمر بن مسيب وهو ضعيف لا يحتج بروايته والصحيح ما رواه نافع وسالم عن ابن عمر من قوله، وأخرج الحاكم هذا من حديث ابن عباس، وقال: الحديث صحيح ولم يخرجاه. وقال ذلك بعد أن خرج حديث عائشة، وقال: مظاهر بن أسلم شيخ من البصرة ولم يذكره أحد من متقدمي مشايخنا.
وجه الاستدلال بهذا أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذكر الأمة بلام التعريف ولم يكن ثمة معهود، فكان للجنس، وهو يقتضي أن يكون طلاق هذا الجنس اثنتين، فلو كان اعتبار الطلاق بالرجال لكان بعض الإماء ثنتين، ولم تبق اللام للجنس.
فإن قيل: يجوز أن يكون المراد بها الأمة تحت العبد علمًا بالحديثين.
أجيب: بأنه يقتضي أن تكون الهاء في عدتها عائدًا لها، فيكون تخصيصًا لها بكون عدتها حيضتين، إذ لا مرجع للضمير سواها، وليس كذلك، فإن عدة الأمة حيضتين سواء كان حرًا أو عبدًا بالاتفاق، وفيه نظر لجواز أن يكون من باب الاستخدام، ويكون المراد بالأمة أمة تحت عبد، والضمير عائد إلى مطلق الأمة. والجواب أن ذلك خطابية لا يجري في مقام الاستدلال.
م: (ولأن حل المحلية) ش: أي حل أن تكون المرأة محلًا للنكاح م: (نعمة في حقها) ش: أي في حق المرأة، لأنها تتوصل بذلك إلى دور النفقة والسكنى والازدواج وتحصين الفرج وغيرها م: (وللرق أثر في تصنيف النعم) ش: فيكون للحر أزيد منه للعبد ولا يملك العبد من التزوج أكثر من اثنتين، فكذا في حق النساء، فإنه لا يتزوج مع الحرة ولا بعد هذا، كأنه جواب عما يقال لما كان حل المحلية نعمة في حق الحرة وجب تنصيفه في حق الأمة بتطليقة ونصف، فأجاب بقوله م: (إلا أن العقدة) ش: أي التطليقة م: (لا تتجزأ) ش: أي لا يمكن تجزئتها م: (فتكامل عقدتين) ش: أي تطليقتين.
م: (وتأويل ما روى) ش: أي الشافعي م: (أن الإيقاع بالرجال) ش: يعني قوله الطلاق بالرجال(5/304)
وإذا تزوج العبد امرأة بإذن مولاه وطلقها وقع طلاقه، ولا يقع طلاق مولاه على امرأته، لأن ملك النكاح حق العبد فيكون الإسقاط إليه دون المولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي إيقاع الطلاق بالرجال، فإن قيل: هذا معلوم فلا يحتاج إلى ذكره.
أجيب: بل كان إلى ذكره حاجة لأن المرأة في الجاهلية إذا كرهت الزوج غيرت البيت، وكان ذلك طلاقًا منها، فرفع ذلك بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الطلاق بالرجال» .
م: (وإذا تزوج العبد امرأة بإذن مولاه وطلقها وقع طلاقه، ولا يقع طلاق مولاه على امرأته، لأن ملك النكاح حق العبد فيكون الإسقاط إليه دون المولى) ش: لأن ملك النكاح من خواص الآدمية والعبد فبقي فيها على أصل الحرية، فكان يجب أن يملك النكاح بدون إذن مولاه، لكن لو قلنا به لتضرر المولى فتركناه.(5/305)
باب إيقاع الطلاق الطلاق على ضربين: صريح وكناية. فالصريح قوله: أنت طالق، ومطلقة، وطلقتك، فهذا يقع به الطلاق الرجعي، لأن هذه الألفاظ تستعمل في الطلاق ولا تستعمل في غيره، فكان صريحا، وأنه يعقب الرجعة بالنص، ولا يفتقر إلى النية، لأنه صريح فيه، لغلبة الاستعمال. وكذلك إذا نوى الإبانة لأنه قصد تنجيز ما علقه الشرع بانقضاء العدة فيرد عليه. ولو نوى الطلاق عن وثاق لم يديّن في القضاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب إيقاع الطلاق] [أنواع الطلاق]
م: (باب إيقاع الطلاق) ش: (أي هذا باب في بيان إيقاع الطلاق. ولما ذكر أصل الطلاق ووصفه شرع في بيان تنوعه من حيث الإيقاع على ما يجيء بيانه مفصلًا إن شاء الله تعالى.
م: (الطلاق) ش: أي التطليق م: (على ضربين: صريح) ش: أي أحدهما: صريح وهو ما ظهر المراد به ظهورًا بينًا، بحيث يسبق إلى فهم السامع مراده م: (وكناية) ش: أي والثاني كناية وهي ما لا يظهر المراد منه إلا بنية. ثم الطلاق لا يقع بمجرد العزم والنية عند أئمة العرب وأصحابهم، وقال الزهري: يقع بمجرد العز والنية من التطليق.
م: (فالصريح قوله) ش: أي قول الرجل لامرأته م: (أنت طالق ومطلقة وطلقتك، فهذا يقع به الطلاق الرجعي) ش: أي الطلاق الرجعي م: (لأن هذه الألفاظ تستعمل في الطلاق ولا تستعمل في غيره فكان صريحًا وأنه يعقب الرجعة بالنص) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] (البقرة: 228) سماه بعلًا فدل على أن الطلاق الرجعي لا يبطل الزوجية.
فإن قلت: لفظ الرد يدل على زوال ملكه.
قلت: أطلق اسم الرد بعد انعقاد سبب زوال الملك، فيكون رد السبب من إثبات زوال الملك، ويكون فسخًا للسبب، ويطلق الرد على الفسخ كما يقال: رده بالعيب وأنه فسخ.
م: (ولا يفتقر إلى النية لأن صريح فيه لغلبة الاستعمال) ش: أي على الطلاق ولا دلالة على البينونة، وهذا بإجماع الفقهاء. وقال داود: يفتقر الصريح إلى النية لاحتمال غير الطلاق.
قلت: هذا الاحتمال مرجوح، فلا يعتبر نفي الاستعمال في الطلاق والنية في تعيين المبهم والإبهام فيه م: (وكذا) ش: أي وكذا يكون معقبًا للرجعة م: (إذا نوى الإبانة) ش: بلفظ الصريح م: (لأنه قصد تنجيز ما علقه الشرع بانقضاء العدة فيرد عليه) ش: كالوارث إذا قتل مورثه يحرم الميراث، لأنه قصد تعجيل ما أخره الشرع.
م: (ولو نوى الطلاق عن وثائق) ش: بفتح الواو وكسرها لغتان، والأفصح الفتح، يعني لو نوى الطلاق عن قيد م: (لم يدين في القضاء) ش: يعني لم يصدق قضاء. وفي المغرب: قولهم(5/306)
لأنه خلاف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه يحتمله. ولو نوى به الطلاق عن العمل لم يدين في القضاء، ولا فيما بينه وبين الله تعالى، لأن الطلاق لرفع القيد وهو غير مقيد بالعمل. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه يستعمل للتخليص. ولو قال: أنت مطلقة - بتسكين الطاء - لا يكون طلاقا إلا بالنية لأنها غير مستعملة فيه عرفا فلم يكن صريحا. قال: ولا يقع به إلا واحدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يدين أي يصدق م: (لأنه خلاف الظاهر) ش: أي لأن نية الطلاق عن وثائق خلاف الظاهر فلا يصدق قضاء م: (ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه) ش: أي لأن كلامه م: (يحتمله) ش: والله مطلع على نيته م: (ولو نوى به) ش: بقوله طالق م: (الطلاق عن العمل لم يدين في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى، لأن الطلاق لرفع القيد، وهو غير مقيد بالعمل) ش: بالتذكير. قال الأكمل: وهو قيد بتأويل الشخص أو الذات، وليس بشيء، بل الضمير يعود إلى القيد الذي يرفعه الطلاق وهو النكاح.
وقال الأترازي: وهو غير مقيد بالعمل بالنكاح فلا يصح بنية الطلاق عن العمل أصلًا، لا قضاء ولا ديانة. والمعنى أي الزوج غير مقيد المرأة بالعمل فلا تصح نية الطلاق عن العمل أصلًا.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن يدين فيما بينه وبين الله تعالى) ش: هذه رواية رواها الحسن عن أبي حنيفة م: (لأنه) ش: أي لأن الطلاق م: (يستعمل للتخليص) ش: فكان معناه أنت مخلصة عن العمل، وهذا إذا لم يصرح بذكره. أما إذا قال: أنت طالق من عمل كذا موصولًا صدق ديانة وقضاء رواية واحدة.
م: (ولو قال: أنت مطلقة - بتسكين الطاء - لا يكون طلاقًا إلا بالنية، لأنها غير مستعملة فيها عرفًا، فلم يكن صريحًا) ش: إذا لم يكن صريحًا كان كناية لعدم الواسطة، والكناية تحتاج إلى النية. ولو قال بالطاء أي طالق لا يقع وإن نوى. ولو قال: أنت طالق من هذا القيد لم تطلق لأنه لم يرد به قيد النكاح.
ولو قال: أنت طالق ثلاثًا من هذا القيد طلقت ثلاثًا ولا يصدق في القضاء في ترك الطلاق لأنه لا يتصور رفع هذا القيد ثلاث مرات، وإنما يرتفع ثلاث مرات قيد النكاح.
وفي " الذخيرة ": لو قال: أنت طالق من قيد أو غل أو عمل ذكر هذه المسألة في موضعين، فأجاب في أحدهما: أن لا يقع في القضاء، وأجاب في الأخرى أنه يقع في القضاء. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لو قال: أنت طالق من هذا القيد أو من هذا العمل لم تطلق، وإن قال: ثلاثًا تطلق ثلاثًا كما تقدم.
م: (قال: ولا يقع به إلا واحدة) ش: هذا من كلام القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - متصل بقوله: فهذا يقع به الطلاق الرجعي: أي لا تقع بكل واحد من الألفاظ الثلاث المذكورة إلا واحدة.(5/307)
وإن نوى أكثر من ذلك، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقع ما نوى، لأنه محتمل لفظه. فإن ذكر الطالق ذكر للطلاق لغة؛ كذكر العالم ذكر للعلم، ولهذا يصح قران العدد به فيكون نصبا على التمييز. ولنا أنه نعت فرد حتى قيل للمثنى طالقان، وللثلاث طوالق، فلا يحتمل العدد، لأنه ضده وذكر الطالق ذكر للطلاق هو صفة للمرأة لا الطلاق والطلاق هو تطليق، والعدد الذي يقترن به نعت لمصدر محذوف، معناه طلاقا ثلاثا، كقوله: أعطيته جزيلا، أي عطاء جزيلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن نوى أكثر من ذلك) ش: كلمة إن واصلة بما قبله وهذا قول الحسن البصري وعمرو بن دينار والأوزاعي والثوري وأبي سليمان وأبي ثور.
م: (وقال الشافعي: يقع ما نوى) ش: من ثنتين أو ثلاث، وبه قال مالك، والليث وزفر وأحمد في رواية وهو مذهب الظاهرية، وهو قول أبي حنيفة الأول، ولم يرتضيه ورجع عنه، ذكره في " المبسوط ".
وفي " البدائع ": وهو غير ظاهر الرواية، م: (لأنه محتمل لفظه فإن ذكر الطالق) ش: يعني لفظ الطالق م: (ذكر للطلاق لغة) ش: لكون لفظ الطالق نعته وهو لا يتحقق بدون المشتق منه م: (كذكر العالم ذكر للعلم) ش: لأن ذكر النعت يقتضي وصفًا ثابتًا بالموصوف لغة، فإن ذكر العالم ذكر لعلم قام بالموصوف لا بالواصف.
م: (ولهذا) ش: أي ولكونه محتمل لفظه م: (يصح قران العدد به) ش: أي بقوله: أنت طالق م: (فيكون) ش: أي العدد م: (نصبًا على التمييز) ش: والتمييز من محتملات اللفظ لما صح التمييز.
م: (ولنا أنه) ش: أي قوله: أنت طالق م: (نعت فرد حتى قيل للمثنى طالقان وللثلاث طوالق، فلا يحتمل العدد) ش: أي النعت الفرد لا يحتمل العدد م: (لأن الضد لا يحتمل الضد، وذكر الطالق) ش: جواب عن قوله: فإن م: (ذكر الطالق ذكر للطلاق) ش: لغة، وتقديره بأن ذكر الطلاق م: (هو صفة للمرأة) ش: لأنه نعت من الثلاثي، وهو يدل على طلاق يكون صفة للمرأة م: (لا للطلاق) ش: يعني ليس بصفة الطلاق م: (هو تطليق) ش: يعني الطلاق الذي هو بمعنى التطليق كسلام بمعنى التسليم، ومحل النية هو الثاني لأنه فعل الرجل دون الأول لأنه وصف ضرورة تتصف به المرأة ليس بفعل الزوج، لكنه يقتضي الثاني تصحيحًا له، فكان ثابتًا ضرورة صحة الكلام مقتضى، ولا عموم له.
م: (والعدد الذي يقترن به) ش: جواب عن قوله: ولهذا يصح قران العدد به: تقريره أن العدد الذي يقرن، أي بقوله: أنت طالق م: (نعت لمصدر محذوف معناه طلاقًا ثلاثًا) ش: يعني أنت طالق طلاقًا ثلاثًا، فلا يدل على وقوع الثلاث إلا لمصدر المحذوف الموصوف بالثلاثة لا قوله: أنت طالق، ثم مثل لوقوع المصدر المحذوف المنعوت بقوله م: (كقوله) ش: أي كقول القائل م: (أعطيته جزيلًا أي عطاء جزيلًا) ش: فالذي دل على هذا، كثرة العطاء هو المصدر المحذوف المنعوت، لا(5/308)
ولو قال: أنت الطلاق، أو أنت طالق الطلاق، أو أنت طالق طلاقا، فإن لم تكن له نية أو نوى واحدة أو ثنتين فهي واحدة رجعية، وإن نوى ثلاثا فثلاث. ووقوع الطلاق باللفظة الثانية والثالثة ظاهر، لأنه لو ذكر النعت وحده يقع به الطلاق، فإذا ذكره وذكر المصدر معه وأنه يزيده وكادة أولى وأما وقوعه باللفظة الأولى فلأن المصدر قد يذكر ويراد به الاسم، يقال: رجل عدل: أي عادل، فصار بمنزلة قوله: أنت طالق، وعلى هذا لو قال: أنت طلاق يقع الطلاق به أيضا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله أعطيته لأنه لا يدل إلا على مجرد الإعطاء فافهم.
[قال أنت الطلاق أو أنت طالق الطلاق أو أنت طالق طلاقًا]
م: (ولو قال: أنت الطلاق أو أنت طالق الطلاق أو أنت طالق طلاقًا، فإن لم تكن له نية أو نوى واحدة) ش: أي أو نوى بواحد من هذه الألفاظ الثلاث طلقة واحدة م: (أو اثنتين) ش: أي أو نوى طلقتين م: (فهي) ش: أي الطلقة بهذه الألفاظ طلقة م: (واحدة رجعية) ش: فوقع الطلاق بهذه الألفاظ ظاهرًا لأنها صريحة في الطلاق لغلبة الاستعمال فيه م: (وإن نوى ثلاثًا) ش: أي ثلاث طلقات طلقة م: (فثلاث. ووقوع الطلاق باللفظة الثانية) ش: وهو قوله أنت طالق الطلاق م: (والثالثة) ش: أي وقوع الطلاق باللفظة الثالثة، وهو قوله: أنت طالق طلاقًا م: (ظاهر) ش: بالرفع خبر لقوله ووقع الطلاق.
م: (لأنه) ش: أي لأن الرجل م: (لو ذكرت النعت) ش: أي الصفة م: (وحده يقع به الطلاق فإذا ذكره) ش: أي فإذا ذكر النعت م: (وذكر المصدر معه) ش: أي مع النعت م: (وأنه) ش: أي والحال أن ذكر المصدر مع النعت م: (يزيده وكادة) ش: أي يزيد المصدر وكادة، أي تأكيدًا كقولك قمت قيامًا، وقعدت قعودًا، وقوله م: (أولى) ش: جواب إذا.
م: (أما وقوعه باللفظة الأولى) ش: وهو قوله أنت الطلاق م: (فلأن المصدر قد يذكر ويراد به الاسم، يقال: رجل عدل، أي عادل) ش: للمبالغة م: (فصار) ش: أي قوله: أنت الطلاق م: (بمنزلة قوله أنت طالق) ش: م: (وعلى هذا لو قال: أنت طلاق، يقع الطلاق به أيضًا) ش: لأنه بمعنى طالق، والخلاف في قوله أنت الطلاق صريح أو كناية، فعندنا ومالك والشافعي في قول صريح.
وقال الشافعي: أنها كناية، وبه أخذ القفال.
فإن قلت: أنت الطلاق لو كان بمنزلة أنت طالق لما صح فيه نية الثلاث، كما لا يصح في أنت طالق.
قلت: أجيب: بأن نية الثلاث إنما لا يصح في طالق، لأنه نعت فرد كما تقدم، وأما الطلاق فهو مصدر في أصله، وإن وصفت به يلمح فيه جانب المصدرية، وصحت نية الثلاث.
وقال الطحاوي في " مختصره ": فلو قال: أنت طالق لم يكن أكثر من واحدة وإن نوى أكثر منها، وفرق بينه وبين أنت الطلاق للتعريف، وليس ذلك بمشهور بين أصحابنا.(5/309)
ولا يحتاج فيه إلى النية، ويكون رجعيا لما بينا أنه صريح الطلاق لغلبة الاستعمال فيه، وتصح نية الثلاث، لأن المصدر يحتمل العموم والكثرة لأنه اسم جنس فيعتبر كسائر أسماء الأجناس، فيتناول الأدنى مع احتمال الكل ولا تصح نية الثنتين فيها، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -. هو يقول: إن الثنتين بعض الثلاث فلما صحت نية الثلاث، صحت نية بعضها ضرورة، ونحن نقول: نية الثلاث إنما صحت لكونها جنسا حتى لو كانت المرأة أمة تصح نية الثنتين باعتبار معنى الجنسية، أما الثنتان في حق الحرة عدد، واللفظ لا يحتمل العدد، وهذا لأن معنى التوحد مراعى في ألفاظ الوحدان، وذلك إما بالفردية أو الجنسية، والمثنى بمعزل منهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا يحتاج فيه إلى النية، ويكون رجعيًا لما بينا، أنه صريح الطلاق لغلبة الاستعمال فيه، وتصح نية الثلاث لأن المصدر يحتمل العموم والكثرة لأنه اسم جنس) ش: يتناول القليل والكثير م: (فيعتبر كسائر أسماء الأجناس فيتناول الأدنى) ش: وهو الواحد م: (مع احتمال الكل ولا تصح نية الثنتين فيها خلافًا لزفر) ش: فإنه يقول: يصح نية الثنتين وبه قال الشافعي ومالك.
م: (هو) ش: أي زفر م: (يقول: إن الثنتين بعض الثلاث، فلما صحت نية الثلاث) ش: بالإجماع م: (صحت نية بعضها ضرورة) ش: لأن المصدر يحتمل الواحدة والاثنين، ولهذا يصح أن يوصف به، فتصح النية، لأنه يحتمل لفظه.
ويقول زفر: قال مالك والشافعي م: (ونحن نقول) ش: يعني في جواب زفر م: (نية الثلاث إنما صحت لكونه جنسًا) ش: أي لكون الثلاث جنسًا للطلاق من حيث العددية م: (حتى لو كانت المرأة أمة تصح نية الثنتين باعتبار معنى الجنسية في حقها) ش: لأن ذاك جنس طلاقها م: (أما الثنتان في حق الحرة عدد) ش: أي عدد محض لا واحد حقيقة، ولا واحد اعتبارًا م: (واللفظ) ش: أي لفظ الاثنين م: (لا يحتمل العدد) ش: لعدم صدق حد العدد عليه. م: (وهذا) ش: أي كون اللفظ لا يحتمل العدد م: (لأن معنى التوحد مراعى في ألفاظ الوحدان) ش: بضم الواو جمع واحد، قال الجوهري: الواحد أصل العدد، والجمع وحدان مثل شاب وشبان، ومراعاة التوحد إما باعتبار الذات كزيد وإما باعتبار النوع كرجل، وإما باعتبار الجنس كالحيوان، ولا تنوع في لفظ الطلاق. فلا بد من مراعاة التوحد فيه.
م: (وذلك) ش: أي مراعاة التوحد يكون بأحد الأمرين م: (إما بالفردية) ش: بطريق الحقيقة أو بطريق الاعتبار، وأشار إليه بقوله م: (أو الجنسية) ش: وهو بطريق الاعتبار كما قلنا إن صحة النية في الثلاث بقوله أنت طالق باعتبار أن الثلاث جنس طلاقها وهو واحد اعتبارًا عند تعدد الأجناس، فصحت النية بالثلاث باعتبار أن الثلاث واحد لا باعتبار أنها عدد م: (والمثنى بمعزل منهما) ش: أي الاثنان بمعزل من الفردية والجنسية، لأنه لم يوجد فيه معنى التوحيد لا بحسب الذات ولا بحسب الجنسية، ومعنى بمعزل بعيد عنه. وقال ابن دريد: يقال أنا عن هذا الأمر(5/310)
ولو قال: أنت طالق الطلاق، وقال أردت بقولي طالق واحدة، وبقولي: الطلاق أخرى يصدق، لأن كل واحد منهما صالح للإيقاع، فكأنه قال: أنت طالق، وطالق فتقع رجعيتان. إذا كانت مدخولا بها، وإذا أضاف الطلاق إلى جملتها، أو إلى ما يعبر به عن الجملة وقع الطلاق، لأنه أضيف إلى محله، وذلك مثل أن يقول أنت طالق، لأن التاء ضمير المرأة، أو يقول: رقبتك طالق، أو عنقك طالق، أو رأسك طالق، أو روحك أو بدنك أو جسدك أو فرجك أو وجهك؛ لأنة يعبر بها عن جميع البدن، أما الجسد والبدن فظاهر، وكذا غيرهما. قال الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] (النساء: 92) وقال: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] (الشعراء: 4) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بمعزل أي متنح.
[قال أنت طالق الطلاق وقال أردت بقولي طالق واحدة]
م: (ولو قال: أنت طالق الطلاق، وقال: أردت بقولي طالق واحدة، وبقولي الطلاق أخرى) ش: أي طلقة أخرى م: (يصدق لأن كل واحد منهما) ش: أي من قوله: طالق ومن قوله: الطلاق م: (صالح للإيقاع) ش: بإضمار أنت م: (فكأنه قال: أنت طالق وطالق فتقع رجعيتان) ش: أي طلقتان رجعيتان م: (إذا كانت مدخولًا بها) ش: وإن كانت غير مدخول بها ألغي الثاني، وهو قياس قول الشافعي.
وقال الأترازي: هكذا نقله في " شرح الجامع الصغير " عن الفقيه أبي جعفر، وذلك مروي عن أبي يوسف ومنعه فخر الإسلام البزدوي لأن طالق نعت وطلاقًا مصدره، فلا يقع إلا واحدة، وكذا في أنت طالق الطلاق.
م: (وإذا أضاف الطلاق إلى جملتها) ش: أي إلى جملة المرأة مثل قوله: أنت طالق، لأن التاء ضمير المرأة م: (أو إلى ما يعبر به عن الجملة) ش: أي أو أضاف الطلاق إلى ما يعبر به عن الجملة مثل قوله: رقبتك طالق م: (وقع الطلاق لأنه أضيف إلى محله) ش: أي لأن الطلاق أضيف إلى محله وهي المرأة، لأن التاء ضمير المخاطبة وهي عبارة عن المرأة م: (وذلك) ش: إشارة إلى قوله: لأنه أضيف إلى محله.
م: (مثل أن يقول: أنت طالق لأن التاء ضمير المرأة) ش: وهي عبارة عنها كما ذكر م: (أو يقول) ش: بالنصب عطفًا على قوله أن يقول (رقبتك طالق أو عنقك طالق، أو رأسك طالق، أو روحك أو بدنك أو فرجك أو جسدك أو وجهك لأنه يعبر بها) ش: أي بهذه الألفاظ م: (عن جميع البدن أما الجسد والبدن فظاهر) ش: لأنهما عبارة عن جملة المرأة م: (وكذا غيرهما) ش: أي غير الجسد والبدن من الألفاظ المذكورة ظاهر. ثم شرع في بيان ذلك ويوضحه بقوله: (قال الله تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] (النساء: الآية 92) ش: أي تحرير مملوك ولم يرد الرقبة بعينها م: (وقال الله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] ش: (الشعراء: الآية4) وأراد بالأعناق الذوات، ولهذا لم يقل: خاضعة ولو(5/311)
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " لعن الله الفروج على السروج " ويقال: فلان رأس القوم ويا وجه العرب، وهلك روحه بمعنى نفسه. ومن هذا القبيل الدم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أريد بها حقيقة العنق لقيل خاضعة م: (وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله الفروج على السروج» وأراد بالفروج النساء، وهذا الحديث غريب جدًا.
وقال مخرج الأحاديث ولهذا بعد شيخنا علاء الدين حيث استشهد بحديث أخرجه ابن عدى في " الكامل " قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذوات الفروج أن يركبن السروج» فإن المصنف استدل بالحديث المذكور على أن الفروج هي الأعضاء التي يعبر بها عن جملة المرأة كالوجه والعنق بحيث يقع الطلاق باستناده إليه.
وحديث ابن عدي أجنبي عن ذلك، وأخرج ابن عدي أيضًا عن علي بن علي المزني عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذوات الفروج أن يركبن السروج» ، وضعفه يعلى بن أبي علي، وقال: إنه مجهول.
م: (ويقال: فلان رأس القوم) ش: أي كبيرهم، وليس المراد به العضو، بل الشخص وكذا يقال: فلان أعتق كذا وكذا رأسًا، ويقال: أمري حسن ما دام رأسك سالمًا.
لكن هذا فيما إذا تكلم بإضافة الرأس: أما إذا قال: رأسك طالق والرأس منك طالق، ووضع يده على رأسها، وقال: هذا العضو منك طالق، فقال شمس الأئمة السرخسي في " شرح الكافي ": لا يقع بشيء ووجهه أن لا يراد به الذات م: (ويا وجه العرب) ش: أي أنت وجه، لأن الاستعمال شائع بين العرب بقول بعضهم لبعض: يا وجه، ويريدون به الذات، وقال الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] أي ذاته م: (وهلك روحه بمعنى نفسه) ش: أراد به الذات. وفي " الينابيع ": أي أن إضافة إلى العضو لا يبقى الإنسان بفقده يقع وإن كان يبقى بفقده ولا يقع، ومثله في العتق لا يبقى الإنسان بفقده وقيل يرد عليه القلب، قال المرغيناني: لا رواية في القلب.
وفي " المحيط ": وإن كان عضو لا يعبر به عن البدن لا يقع، وإن نوى ولو قال بعضك طالق ذكر شمس الأئمة السرخسي أنها لا تطلق، وذكر شمس الأئمة الحلواني أنها تطلق، وفي " الزيادات " لو قال: وبرك طالق لا يقع، وفي خزانة الأكمل: لو قال: إستك طالق يقع عند أبي يوسف كما لو قال فرجك.
وفي " الروضة ": لو قال: إستك طالق يقع ولم يحك خلافًا، ولا قول لأحمد، ولو قال: خرتك طالق، أو بلغمك أو ظفرك أو إصبعك أو شعرك لا يقع م: (ومن هذا القبيل الدم) ش: أي مما يعبر به عن جملة البدن الدم، بأن قال: دمك طالق أنه يقع في رواية هي رواية كتاب الكفالة،(5/312)
في رواية، يقال: دمه هدر ومنه النفس وهو ظاهر، وكذا إن طلق جزءا شائعا منها مثل أن يقول نصفك طالق أو ثلثك طالق، لأن الجزء الشائع محل لسائر التصرفات كالبيع وغيره، فكذا يكون محلا للطلاق، إلا أنه لا يتجزأ في حق الطلاق، فيثبت في الكل ضرورة.
ولو قال: يدك طالق أو رجلك طالق لم يقع الطلاق، وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: يقع، وكذا الخلاف في كل جزء معين لا يعبر به عن جميع البدن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإنه لو غل بدم الإنسان يصح وأشار في كتاب العتاق أن إضافة الطلاق إلى الدم لا تصح فإنه لو قال: دمك حر لا يعتق، وإنما قال من هذا القبيل لأن القدوري لم يذكر هذا.
م: (يقال دمه هدر) ش: يراد به أن نفسه هدر م: (ومنه) ش: أي ومن هذا القبيل م: (النفس وهو ظاهر) ش: لأن النفس عبارة عن الذات م: (وكذا) ش: أي وكذا يقع الطلاق م: (إن طلق جزءًا شائعًا منها مثل أن يقول: نصفك طالق أو ثلثك طالق لأن الجزء الشائع محل لسائر التصرفات كالبيع وغيره) ش:.
نحو الوصية م: (فكذلك يكون محلًا للطلاق، إلا أنه لا يتجزأ في حق الطلاق فيثبت في الكل) ش: أي يثبت الطلاق في كل المرأة م: (ضرورة) ش: أي لأجل الضرورة، وهو عدم إمكان التجزؤ.
[قال يدك طالق أو رجلك طالق]
م: (ولو قال: يدك طالق أو رجلك طالق، لم يقع الطلاق، وقال زفر والشافعي: يقع) ش: وبه قال مالك وأحمد. وفي السروجي: ولو أضاف الطلاق إلى يديها أو رجليها يقع عند بعض أصحابنا، بخلاف اليد الواحدة، وقال القاضي: الأشبه بمذهب أصحابنا أنه لو أراد باليد جميع البدن يقع.
وقال شمس الأئمة سبط بن الجوزي في " الإنصاف ": لو نوى باليد جميع البدن يقع م: (وكذا الخلاف) ش: أي بيننا وبين زفر والشافعي م: (في كل جزء معين لا يعبر به عن جميع البدن) ش: كالأصبع واليد والرجل، وقد بقيت أعضاء لم تذكر وهي الأذن والحاجب والأنف والخد والصدر والثدي والسن والكتف والخاصرة والجنب والركبة والقدم والرئة والمرارة وغيرها مما يشبهها، ويؤخذ حكمها مما تقدم.
وعند زفر والأئمة الثلاثة: يقع الطلاق في جميع ذلك إلا عند أحمد لا يقع في السن والظفر والشعر كقولنا، وفي البسيط: لا يقع بالإضافة إلى الجنين وفضلاتها كالبول والمني واللبن والمخاط والدمع والعرق، وفيه وجه أنه يقع إلا في الجنين، والدمع قيل كالفضلات ومنهم من قطع بالوقوع به وفي الأعضاء الباطنة كالكبد والرئة والقلب ونحوها يقع، وفي حياتها وروحها: يقع، وسمنها وشحمها تردد ولا حياة في الشحم، وفي الصفات كالحسن والقبح واللون لا يقع ولم يذكر الطول والعرض والقصر.(5/313)
لهما أنه جزء مستمتع بعقد النكاح، وما هذا حاله يكون محلا لحكم النكاح فيكون محلا للطلاق فيثبت الحكم فيه قضية للإضافة ثم يسري إلى الكل، كما في الجزء الشائع، بخلاف ما إذا أضيف إليه النكاح لأن التعدي ممتنع إذ الحرمة في سائر الأجزاء تغلب الحل في هذا الجزء وفي الطلاق الأمر على القلب. ولنا أنه أضاف الطلاق إلى غير محله فيلغو كما إذا أضافه إلى ريقها أو ظفرها، وهذا لأن محل الطلاق ما يكون فيه القيد، لأنه ينبئ عن رفع القيد، ولا قيد في اليد ولهذا لا تصح إضافة النكاح إليه، بخلاف الجزء الشائع، لأنه محل للنكاح عندنا حتى تصح إضافته إليه، فكذا يكون محلا للطلاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لهما) ش: أي لزفر والشافعي م: (أنه) ش: أي أن الجزء المعين م: (جزء مستمتع بعقد النكاح وما هذا حاله) ش: أي الذي يكون الاستمتاع بعقد النكاح حاله م: (يكون محلًا لحكم النكاح) ش: وكل ما كان الشيء محلًا للنكاح.
م: (فيكون محلًا للطلاق فيثبت الحكم) ش: أي حكم الطلاق م: (فيه) ش: أي في الاستمتاع م: (قضية للإضافة) ش: أي توقية لإضافة الطلاق فيه م: (ثم يسري إلى الكل) ش: أي إلى كل المرأة م: (كما في الجزء الشائع) ش: يسري إلى الكل م: (بخلاف ما إذا أضيف إليه النكاح) ش: هذا جواب عما يقال لو كان الجزء المعين محلًا لحكم النكاح، لانعقد النكاح إذا أضيف إليه، ثم يسري إلى الكل. فأجاب بقوله بخلاف ما إذا أضيف إليه النكاح.
م: (لأن التعدي) ش: أي السراية م: (ممتنع إذ لحرمة في سائر الأجزاء تغلب الحل في هذا الجزء) ش: فيمنع من السريان م: (وفي الطلاق الأمر على القلب) ش: يعني مضي الطلاق على غلبة الحرمة في هذا الجزء تغلب الحل في سائر الأجزاء.
م: (ولنا أنه أضاف الطلاق إلى غير محله فيلغو) ش: يعني لا يقع م: (كما إذا أضافه) ش: أي الطلاق م: (إلى ريقها) ش: بأن قال: ريقك طالق م: (أو ظفرها) ش: بأن قال ظفرك طالق م: (وهذا) ش: توضيح لما قبله م: (لأن محل الطلاق ما يكون فيه القيد لأنه) ش: أي الطلاق.
م: (ينبئ عن رفع القيد ولا قيد في اليد) ش: لأنه عبارة عن المنع مع القدرة عليه، واليد لا توصف بكونها قادرة عليه، فلا توصف بالقيد م: (ولهذا) ش: أي ولأجل عدم معنى القيد فيها م: (لا تصح إضافة النكاح إليها) ش: فلو قال: نكحت يدك وقبلت المرأة لا ينعقد النكاح م: (بخلاف الجزء الشائع لأنه محل النكاح عندنا حتى تصح إضافته إليه) ش: أي إضافة النكاح إلى الجزء الشائع م: (فكذا يكون محلًا للطلاق) ش: وقد مر عن قريب.
فإن قيل: قد جاء في الآية والحديث أن اليد تطلق على كل البدن، قال الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1](5/314)
واختلفوا في الظهر والبطن، والأظهر أنه لا يصح لأنه لا يعبر بهما عن جميع البدن.
وإن طلقها نصف تطليقة أو ثلثها كانت طالقا تطليقة واحدة لأن الطلاق لا يتجزأ، وذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر الكل، وكذا الجواب في كل جزء سماه لما بينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(المسد: الآية1) أي نفسه. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى ترد» فلم لا يقع الطلاق باعتبار أنه يعبر عن الكل. قلنا: قد ذكر في " الإسراء " " والمبسوط " أراد به صاحب اليد على حذف المضاف، وفي الآية أضاف الهلاك إلى اليد لأنه أراد رمي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحجر، فكان ذلك دليلًا على أن المراد به جميع البدن. ولو كان في عرف القوم عبارة عن البدن يقع الطلاق بإضافته إلى اليد. والطلاق يبنى على العرف، حتى لو لم يكن في بلاد ذلك العرف لا يقع. ولهذا لو طلق النبطي بالفارسية يقع، والعربي إذا تكلم به وهو لا يدري ما هو لم تطلق. وهو باب لا مناقشة فيه. م: (واختلفوا في الظهر والبطن) ش: يعني إذا قال ظهرك طالق أو بطنك طالق، لأن الظهر والبطن في معنى الأصل، إذ لا يتصور النكاح بدونهما، ويعبر بالظهر عن الكل كما يقال فلان يقوي ظهرك، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا صدقة إلا عن ظهر غنى» م: (والأظهر أنه لا يصح الطلاق) ش: أي لا يقع الطلاق م: (لأنه لا يعبر بهما) ش: أي الظهر والبطن م: (عن جميع البدن) ش:. ولو قال: ظهرك أو بطنك علي كظهر أمي لا يكون مظاهرًا.
[طلقها نصف تطليقة]
م: (وإن طلقها نصف تطليقة) ش: بأن قال: أنت طالق نصف تطليقة م: (أو ثلثها) ش: أي أو قال أنت طالق ثلث تطليقة م: (كانت طالقًا تطليقة واحدة لأن الطلاق لا يتجزأ وذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر الكل) ش: هذا قول عامة العلماء. وقال ثقات القياس وربيعة الرأي لا يقع شيء بذلك النصف والجزء ثلث من ألف جزء من الطلاق م: (وكذا الجواب في كل جزء سماه) ش: يعني يقع واحدة، وذلك كالعفو عن بعض القصاص يكون عفوًا عن الكل م: (لما بينا) ش: وهو أنه لا يتجزأ وذكر بعضه كذكر كله. ولو قال: أنت طالق نصفي تطليقة يقع واحدة لأنه أوقع أجزاء تطليقة واحدة، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد. ولو قال لموطوءته أنت طالق نصف تطليقة وثلث تطليقة وربع تطليقة يقع ثلاث لأنه أوقع من كل تطليقة واحدة جزء، فإنه نكر التطليقة في كل كلمة، والنكرة إذا أعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى، وفي غير الموطوءة يقع واحدة لأنها بانت بالأولى، كما لو قال: أنت طالق وطالق، ولو قال نصف تطليقة وثلثها وربعها يقع واحدة لأنه أضاف الأجزاء إلى تطليقة واحدة بحرف الكناية، وهو ظاهر الرواية، وهو الأصح.(5/315)
ولو قال لها أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقتين فهي طالق ثلاثا لأن نصف التطليقتين تطليقة، فإذا جمع بين ثلاثة أنصاف تطليقتين تكون ثلاث تطليقات ضرورة. ولو قال: أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقة قيل يقع تطليقتان، لأنها طلقة ونصف فيتكامل. وقيل يقع ثلاث تطليقات لأن كل نصف يتكامل في نفسها، فتصير ثلاثا. ولو قال: أنت طالق من واحدة إلى ثنتين أو ما بين واحدة إلى ثنتين فهي واحدة، ولو قال من واحدة إلى ثلاث أو ما بين واحدة إلى ثلاث فهي ثنتان، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا في الأولى: يقع ثنتان، وفي الثانية ثلاث، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأولى لا يقع شيء، وفي الثانية تقع واحدة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال بعض المشايخ: يقع ثنتان وبه قال الشافعي في أحد قوليه. ولو قال لأربع نسوة بينكن تطليقة طلقت كل واحدة منهن تطليقة واحدة، وبه قال الشافعي. وكذلك بينكن تطليقتان أو ثلاث أو أربع، إلا إذا نوى أن كل تطليقة بينهن جميعًا يقع على كل واحدة منهن ثلاث تطليقات، إلا أن التطليقتين. فإنه يقع على كل واحدة منهن تطليقتان، وإن قال بينكن خمس تطليقات ولا نية له طلقت كل تطليقتين، وكذا ما زاد إلى ثمان. فإن زاد من الثمان فقال تسع طلقت كل واحدة منهن ثلاثًا، فإن زاد على الثمان فكل واحدة منهن طالق ثلاثًا.
[قال لها أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقتين]
م: (ولو قال لها أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقتين فهي طالق ثلاثة. لأن نصف التطليقتين تطليقة، فإن جمع بين ثلاثة أنصاف تطليقتين تكون ثلاث تطليقات ضرورة) ش: وهذه من خواص " الجامع الصغير " وهو ظاهر م: (ولو قال: أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقة قيل يقع تطليقتان) ش: وهذا هو المنقول في " الجامع الصغير " عن محمد، وإليه ذهب الناطقي في الأجناس والعتابي في شرح " الجامع الصغير ".
وقال العتابي: هو الصحيح؛ م: (لأنها طلقة ونصف فيتكامل) ش: أي النصف فيصير تطليقتين. م: (وقيل: يقع ثلاث تطليقات لأن كل نصف يتكامل في نفسها فتصير ثلاثًا) ش: أي ثلاث تطليقات. م: (ولو قال: أنت طالق من واحدة إلى ثنتين أو ما بين واحدة) ش: أي لو قال: أنت طالق ما بين واحدة م: (إلى ثنتين فهي واحدة) ش: أي طلقة واحدة م: (ولو قال من واحدة إلى ثلاث أو ما بين واحدة إلى ثلاث فهي ثنتان) ش: أي طلقتان م: (وهذا) ش: أي المذكور في الحكم م: (عند أبي حنيفة. وقالا في الأولى) ش: أي من المسألة الأولى م: (يقع ثنتان) ش: أي طلقتان م: (وفي الثانية) ش: أي في المسألة الثانية م: (ثلاث) ش: أي يقع ثلاث تطليقات.
م: (وقال زفر: في الأولى لا يقع شيء، وفي الثانية تقع واحدة) ش: هذا الكلام مشتمل على الغايتين فعندهما تدخل الغايتان وعند زفر لا يدخلان، وعند أبي حنيفة يدخل الابتداء دون الانتهاء - والقسم الرابع هو أن يدخل الانتهاء دون الابتداء ولم يقل به أحد، واختلفوا فيه؛ قال: من واحدة إلى واحدة، والصحيح أنه يقع واحدة ويلغو آخر كلامه، ذكره قاضي خان،(5/316)
وهو القياس لأن الغاية لا تدخل تحت المضروب له الغاية كما لو قال بعت منك من هذا الحائط إلى هذا الحائط. وجه قولهما، وهو الاستحسان، أن مثل هذا الكلام متى ذكر في العرف يراد به الكل، كما تقول لغيرك خذ من مالي من درهم إلى مائة. وجه قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المراد بمثله الأكثر من الأقل والأقل من الأكثر فإنهم يقولون سني من ستين إلى سبعين وما بين ستين إلى سبعين ويريدون به ما ذكرنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعلل بأن الشيء الواحد حدًّا ومحدودًا، فيلغو آخر كلامه ويبقى قوله أنت طالق. وقال السروجي: فيه نظر لأن إلى واحدة نكرة، وهي غير الواحدة بالأولى فلا تكون الواحدة حدًا ومحدودًا.
ومن جوامع الفقه من واحدة إلى واحدة ولم يحك خلافًا، ومن واحدة إلى أخرى وإلى الثانية: واحدة عنده، وعندهما ثنتين ومن ثنتين إلى ثنتين اثنتان عندهما. وعنده ثلاث. في " المبسوط " ما بين واحدة إلى أخرى على قياس قول زفر لا يقع شيء. وعند أبي حنيفة يقع واحدة، وعندهما ثنتان. ومن واحدة إلى واحدة قيل على الخلاف وقيل تقع واحدة بالاتفاق، وتلغو الغاية وفيه ما بين واحدة إلى الثلاث أو من واحدة إلى الثلاث فهو واحدة في القياس، وبه قال زفر، وعندهما ثلاث وعند أبي حنيفة ثنتان.
م: (وهو القياس) ش: أي قول زفر هو القياس م: (لأن الغاية لا تدخل تحت المضروب له الغاية) ش: أي تحت الشيء التي تضرب له الغاية، وهو المعنى لأن الغاية إنما تذكر للفصل بينها وبين المضروب، فينبغي أن لا يدخل تحته ليحصل الفصل بينهما كما في الممسوحات، كذا في " جامع البرهاني " م: (كما لو قال: بعت منك من هذا الحائط إلى هذا الحائط) ش: لا يدخل الجدار في البيع.
م: (وجه قولهما) ش: أي وجه قول أبي يوسف ومحمد م: (وهو الاستحسان) . أن مثل هذا الكلام متى ذكر في العرف) ش: أي في عرف الناس م: (يراد به الكل، كما تقول لغيرك خذ من مالي من درهم إلى مائة) ش: كان له أن يأخذ المائة، وكذا لو قال كل من الملح إلى الحلو يريد به تعميم الإذن، وكذا لو اشتر لي هذا العبد من مائة إلى ألف يكون له إذن بالشراء. بألف، إذ مطلق الكلام يحمل على المتعارف.
م: (وجه قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى - عنه أن المراد بمثله) ش: أي بمثل هذا الكلام بحسب العادة، وهو أيضًا يحتج بالعادة م: (الأكثر من الأقل والأقل من الأكثر) ش: وهو ما بينهما م: (فإنهم يقولون سني من ستين إلى سبعين أو ما بين ستين إلى سبعين ويريدون به ما ذكرناه) ش: يعني الأكثر من الأقل والأقل من الأكثر. قال الأترازي: فيه نظر لأنه لا يتمشى من واحدة إلى ثنتين.
وأجيب: بأنه يتمشى أيضًا لأن الأكثر فيه الثلاث، والأقل فيه الواحد والأكثر من الأقل، والأقل من الأكثر الثنتان. وقيل هذا ليس بشيء، لأن قوله لأن الأكثر فيه يعني في الطلاق -(5/317)
وإرادة الكل فيما طريقه طريق الإباحة كما ذكر، والأصل في الطلاق هو الحظر ثم الغاية الأولى لا بد أن تكون موجودة لتترتب عليها الثانية ووجودها بوقوعها بخلاف البيع لأن الغاية فيه موجودة قبل البيع، ولو نوى واحدة يدين ديانة لا قضاء، لأنه محتمل كلامه لكنه خلاف الظاهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وليس الكلام فيه، وإنما الكلام في الأقل والأكثر من كلام المتكلم، والثلاث غير مذكورة فيه وقال الأكمل: قوله: أن المراد به الأكثر من الأقل إذا كان بينهما وذلك في قوله - من واحدة إلى ثلاث وقوله والأقل من الأقل معناه إذا لم يكن بينهما، وذلك كما في قوله من واحدة إلى ثنتين - وعلى هذا سقط الاعتبار، انتهى. وقد حاج أبو جعفر زفر حيث قال له كم سنك، فقال سني ما بين ستين إلى سبعين، فقال له أنت إذًا ابن تسع سنين، فتحير زفر. وقال فخر الإسلام حاج الأصمعي زفر على باب الرشيد، فقال له ما قولك في رجل قيل له ما سنك فقال ما بين ستين إلى سبعين أن يكون ابن تسع سنين. وقال: استحسن في مثل هذا ما ذكر لأبي يوسف ومحمد. وقال: الأترازي وجوابه أن المراد في العرف والعادة من قول الرجل سني ما بين العددين الذكورين، ولا شك أن العدد الذي بينهما أكثر من ستين، وما كان أكثر من ستين كيف يكون تسعة، ولا يصح سؤال الأصمعي، وكذا يقول زفر في قوله ما بين واحد إلى ثلاث أن المراد ما بين العددين، وهذا ما ساعد به خاطري زفر في هذا العلم.
م: (وإرادة الكل) ش: جواب عن قولهما يراد به الكل كما في قوله خذ من درهم إلى مائة، تقديره أن إرادة الكل م: (فيما طريقه طريق الإباحة كما ذكر) ش: أي أبو يوسف ومحمد في قوله خذ من مالي م: (والأصل في الطلاق الحظر) ش: فلا يراد الكل حتى لا ينسد باب التدارك.
م: (ثم الغاية الأولى) ش: جواب عن قول زفر، ووجهه أنه لا تدخل الغايتان، تقديره أن الغاية الأولى وهي الواحدة م: (لا بد أن تكون موجودة لتترتب عليها الثانية) ش: أي الغاية الثانية، لأنه لا ثانية إلا بعد الأولى م: (ووجودها بوقوعها) ش: حاصله أن القياس ما قاله زفر أن الغاية لا تدخل تحت المغيا، إلا أنه لا بد من إدخال الأولى، لأنه أوقع الثانية قبل الأولى، فدعت الضرورة إلى وجودها، ووجودها بوقوعها. أما إيقاع الثانية يصح بلا إيقاع الثالثة، فأخذنا فيه بالقياس.
م: (بخلاف البيع) ش: هذا جواب عن قول زفر أن الحدين لا يدخلان في المحدود، كما في قوله بعت من هذا الحائط، فأجاب بقوله بخلاف البيع م: (لأن الغاية فيه موجودة قبل البيع) ش: فلم تقع الضرورة إلى إدخال الغاية في المغيا، فبقيت الغاية خارجة عن المغيا على أصل القياس م: (ولو نوى واحدة) ش: يعني في قوله ما بين واحدة إلى ثلاثة، أو في قوله من واحدة إلى ثلاث م: (يدين ديانة) ش: يعني يصدق ديانة م: (لا) ش: يصدق م: (قضاء لأنه محتمل كلامه، لكنه خلاف الظاهر) ش: لما ذكرنا أن مثل هذا الكلام يستعمل لإرادة الأقل من الأكثر إلى آخره.(5/318)
ولو قال: أنت طالق واحدة في ثنتين ولو نوى الضرب والحساب، أو لم تكن له نية فهي واحدة. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقع ثنتان لعرف الحسّاب وهو قول الحسن بن زياد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ولنا أن عمل الضرب أثره في تكثير الأجزاء لا في زيادة المضروب وتكثير أجزاء التطليقة لا يوجب تعددها، فإن نوى واحدة وثنتين فهي ثلاث، لأنه يحتمله، فإن حرف الواو للجمع، والظرف يجمع المظروف، ولو كانت غير مدخول بها تقع واحدة كما في قوله واحدة وثنتين، وإن نوى واحدة مع ثنتين تقع الثلاث، لأن كلمة (في) تأتي بمعنى (مع) كما في قَوْله تَعَالَى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] (الفجر الآية: 29) أي مع عبادي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[قال أنت طالق واحدة في ثنتين ولو نوى الضرب والحساب أو لم تكن له نية]
م: (ولو قال: أنت طالق واحدة في ثنتين ولو نوى الضرب والحساب أو لم تكن له نية فهي واحدة) ش: أي طلقة واحدة م: (وقال زفر تقع ثنتان لعرف الحساب) ش: بضم الحاء وتشديد السين جمع حاسب، يعني هو معروف عندهم أن واحدة في ثنتين ثنتان م: (وهو) ش: أي قول زفر م: (قول الحسن بن زياد) ش: ومالك والشافعي في وجه.
م: (ولنا أن عمل الضرب أثره في تكثير الأجزاء لا في زيادة المضروب) ش: أي فيما ليس له طول وعرض وعمق، أما في الممسوحات يعني فيما له طول وعرض، يكون لبيان تكثير المضروب، فإنه لو زاد بالضرب في نفسه لم يبق أحد في الدنيا فقير لأنه يضرب ما مسكه من درهم في مائة ويضرب المائة في ألف، فيصير مائة ألف. وقال الأكمل: الغرض إزالة كسر يقع عن القسمة، فمعنى واحدة في ثنتين واحدة ذات جزأين. وقال الأترازي: وجه قول أصحابنا، والضرب أثره في تكثير أجزاء المضروب لا في زيادة العدد، والطلاق الذي له أجزاء كثيرة مثل الطلاق الذي له أجزاء قليلة، ولهذا لو قال: لها أنت طالق نصف تطليقة وسدسها وثلثها لم يقع إلا واحدة، وعلى هذا الخلاف إذا أقر وقال لفلان على عشرة دراهم في عشرة دراهم ونوى الحساب والضرب فعندنا يلزمه عشرة وعند زفر يلزمه مائة، إلا أن ينوي الواو أو مع، فحينئذ يلزمه جميع ذلك، ويحلف بالله ما أردت الإقرار بذلك كله إذا كان الخصم يدعيه.
م: (وتكثير أجزاء التطليقة لا يوجب تعددها) ش: كما لو قال: أنت طالق طلقة ونصفها وربعها وثمنها لم يقع إلا واحدة م: (فإن نوى واحدة وثنتين فهي ثلاث) ش: أي ثلاث تطليقات م: (لأنه يحتمله، فإن حرف الواو للجمع والظرف بجمع المظروف) ش: لأن بينهما اتصالًا م: (ولو كانت غير مدخول بها تقع واحدة) ش: أي طلقة واحدة م: (كما في قوله واحدة وثنتين) ش: أي كما يقع واحدة في قوله لغير المدخول بها أنت طالق واحدة وثنتين.
م: (وإن نوى واحدة مع ثنتين) ش: يعني قوله أنت طالق واحدة في ثنتين م: (تقع الثلاث) ش: أي ثلاث تطليقات م: (لأن كلمة م: (في) ش: تأتي بمعنى م: (مع) ش: كما في قَوْله تَعَالَى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] (الفجر الآية: 29) م: (أي مع عبادي) ش: ويقال دخل الأمير في جنده، أي مع(5/319)
ولو نوى الظرف تقع واحدة لأن الطلاق لا يصلح ظرفا فيلغو ذكر الثاني. ولو قال: اثنتين في اثنتين ونوى الضرب والحساب فهي ثنتان، وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثلاث، لأن قضيته أن يكون أربعا لكن لا مزيد في الطلاق على الثلاث. وعندنا الاعتبار للمذكور الأول على ما بيناه، ولو قال أنت طالق من هنا إلى الشام فهي واحدة يملك الرجعة. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - هي بائنة لأنه وصف الطلاق بالطول؛ قلنا: لا بل وصفه بالقصر لأنه متى وقع في مكان وقع في الأماكن كلها. ولو قال: أنت طالق مكة أو في مكة فهي طالق في الحال في كل البلاد وكذلك لو قال: أنت طالق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جنده. وقال صاحب " الكشاف " لا تكون (في) بمعنى مع هاهنا، إذ لو نوى كذلك لما قيل وادخلي جنتي، وقال: على الحقيقة، أي ادخلي في جملة عبادي.
م: (ولو نوى الظرف تقع واحدة، لأن الطلاق لا يصلح ظرفًا) ش: لأن أحد العددين لا يصلح ظرفًا للآخر، وبين الظرف والمظروف من الهيئة فاستعير له، ولو نوى الظرف يقع واحدة، لأن الطلاق معنى فقهي لا يصلح أن يكون ظرفًا للغير م: (فيلغو ذكر الثاني، ولو قال اثنتين في اثنتين) ش: أي لو قال: أنت طالق اثنتين في اثنتين م: (ونوى الضرب والحساب فهي ثنتان) ش: وبه قال الشافعي في الأظهر م: (وعند زفر ثلاث) ش: يعني يقع ثلاث طلقات، وبه قال الحسن ومالك والشافعي في وجه وأحمد م: (لأن قضيته أن يكون أربعًا) ش: بعرف الحساب م: (لكن لا مزيد في الطلاق على الثلاث، وعندنا الاعتبار للمذكور الأول على ما بيناه) ش: يعني أن الضرب في تكثير الأجزاء لا في زيادة المضروب، وعلى هذا الخلاف مسائل الإقرار بأن قال عشرة في عشرة، أو درهم في دينار، أو كر حنطة في كر شعير لم يكن عليه إلا المذكور أولًا عندنا، إلا أن يقول الواو أو حرف مع فيلزمه جميع ذلك، فحلفه القاضي بأنه ما أراد الجمع إذا ادعى الخصم الجميع، كذا في " المبسوط ".
م: (ولو قال: أنت طالق من هنا إلى الشام) ش: قال الأترازي: الشأم بسكون الهمزة ناحية بلد. قلت: ليس كذلك بل هو اسم لصقع يجمع بلادًا كثيرة وأعظمها دمشق م: (فهي واحد يملك الرجعة. وقال زفر: هي بائنة لأنه وصف الطلاق بالطول) ش: هذا التفصيل فيه نظر، فإنه لو قال: أنت طالق تطليقة واحدة ونص على الطول تقع رجعية عنده، فيحتمل أن يكون عنه روايتان في المسألة، ويحتمل أن يستفاد من قوله - هاهنا إلى الشأم - المبالغة في الطول والزيادة فيه. م: (قلنا: لا بل وصفه بالقصر لأنه متى وقع في مكان وقع في الأماكن كلها) ش: فلما خصه ببعض الأماكن يكون وصفًا له بالقصر، والطلاق لا يحتمل الطول والقصر حقيقة، وإنما يحتمل ذلك حكمًا، والقصر من حيث الحكم هو الرجعي.
م: (ولو قال أنت طالق بمكة أو في مكة فهي طالق في الحال في كل البلاد، وكذا لو قال أنت طالق(5/320)
في الدار، لأن الطلاق لا يتخصص بمكان دون مكان. وإن عني به إذا أتيت مكة يصدق ديانة لا قضاء، لأنه نوى الإضمار وهو خلاف الظاهر. وكذا إذا قال: أنت طالق وأنت مريضة، وإن نوى إن مرضت لم يدين في القضاء ولو قال: أنت طالق إذا دخلت مكة لم تطلق حتى تدخل مكة لأنه علقه بالدخول. ولو قال أنت طالق في دخولك الدار يتعلق بالفعل لمقارنته بين الشرط والظرف، فحمل عليه عند تعذر الظرفية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في الدار، لأن الطلاق لا يتخصص بمكان دون مكان لأن المطلقة في مكان مطلقة في كل مكان م: (وإن عني به) ش: أي وإن قصد بقوله: أنت طالق بمكة م: (إذا أتيت مكة يصدق ديانة) ش: يعني بينه وبين الله تعالى م: (لا قضاء) ش: أي لا يصدق في الحكم م: (لأنه نوى الإضمار م: (خلاف الظاهر) ش: فلا يصدق القاضي لما فيه نوع تخفيف على نفسه.
م: (ولو قال أنت طالق إذا دخلت مكة لم تطلق حتى تدخل، لأنه علقه بالدخول) ش: أي بقوله - إذا دخلت مكة - لا صريح بالتعليق فيعلق بالدخول م: (ولو قال: أنت طالق في دخولك الدار يتعلق بالفعل) ش: أي يتعلق الطلاق بفعل الدخول م: (لمقارنته بين الظرف والشرط) ش: لأن الظرف يسبق المظروف، كما أن الشرط يسبق المشروط م: (فحمل عليه) ش: أي على الشرط م: (عند تعذر الظرفية) ش: لأن الفعل لا يصلح ظرفًا لأنه عرض فلا يقوم بنفسه فلا يصلح الدخول ظرفًا للطلاق. وفي " المبسوط " وكذا الحكم في ذهابك إلى مكان كذا أو في لبسك ثوب كذا لم تطلق حتى تفعل.(5/321)
فصل في إضافة الطلاق إلى الزمان ولو قال أنت طالق غدا، وقع عليها الطلاق بطلوع الفجر، لأنه وصفها بالطلاق في جميع الغد، وذلك بوقوعه في أول جزء منه، ولو نوى به آخر النهار يصدق ديانة لا قضاء لأنه نوى التخصيص في العموم وهو يحتمله لكنه يخالف الظاهر ولو قال أنت طالق اليوم غدا أو غدا اليوم فإنه يؤخذ بأول الوقتين الذي تفوه به، فيقع في الأول في اليوم، وفي الثاني في الغد لأنه لما قال اليوم كان منجزا، والمنجز لا يحتمل الإضافة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في إضافة الطلاق إلى الزمان] [قال أنت طالق غدا]
م: (فصل في إضافة الطلاق إلى الزمان) ش: أي هذا فصل في بيان حكم إضافة الطلاق إلى الزمان، ذكر هنا فصولًا مترادفة بحسب إضافة الطلاق وتنويعه وتشبيهه، وإضافة الطلاق تأخير حكمه عن وقت الحكم إلى زمان يذكر بعده بغير كلمة الشرط.
م: (ولو قال: أنت طالق غدًا وقع عليها الطلاق بطلوع الفجر، لأنه وصفها بالطلاق في جميع الغد، وذلك بوقوعه في أول جزء منه) ش: أي من الغد وهو طلوع الفجر، لأن الغد يتحقق في ذلك الوقت م: (ولو نوى به) ش: أي بقوله غدًا م: (آخر النهار يصدق ديانة) ش: أي لاحتمال كلامه ذلك م: (لا قضاء) ش: أي لا يصدق قضاء في الحكم.
م: (لأنه نوى التخصيص في العموم، وهو يحتمله) ش: أي يحتمل الخصوص فيصدق ديانة، كما لو قال لا أكل طعامًا ونوى طعامًا دون طعام م: (لكنه يخالف الظاهر) ش: لأنه وصفها بالطلاق في جميع الغد، وذلك بوقوعه في أوله، وفيه تخفيف عليه فلا يصدقه القاضي.
ولقائل أن يقول العام ما يتناول أفراد متفقة الحدود ولفظ الغد ليس كذلك، وما يتوهم فيه من الطول والوسط، والآخر فهو من أجزائه لا من أفراده، وحينئذ لا تكون النية آخر النهار، فلا عموم ولا تخصيص. والجواب أن المراد الحقيقة والمجاز، فإن إطلاق لفظ الكل وإرادة الجزء مجاز لا محالة.
م: (ولو قال: أنت طالق اليوم غدًا، أو غدًا اليوم يؤخذ بأول الوقتين الذي تفوه به) ش: أي تكلم به م: (فيقع في الأول) ش: أي في الوجه الأول، وهو قوله أنت طالق اليوم غدًا م: (في اليوم وفي الثاني) ش: وهو قوله أنت طالق غدًا اليوم.
م: (في الغد، لأنه لما قال اليوم كان منجزًا، والمنجز لا يحتمل الإضافة) ش: فكان قوله غدًا لغوًا، وبقولنا قال الشافعي، وحكي عنه في قوله أنت طالق غدًا اليوم وجهان، أصحهما، أنه لا يقع في الحال شيء ويقع واحدة غدًا، كقولنا. والثاني أن الحكم فيه كما لو قال أنت طالق اليوم غدًا.(5/322)
ولو قال غدا كان إضافة، والمضاف لا ينجز لما فيه من إبطال الإضافة فلغا اللفظ الثاني في الفصلين. ولو قال أنت طالق في غد، وقال نويت آخر النهار دين في القضاء عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يدين في القضاء خاصة، لأنه وصفها بالطلاق في جميع الغد، فصار بمنزلة قوله غدا؛ على ما بيناه، ولهذا يقع في أول جزء منه عند عدم النية، وهذا لأن حذف (في) وإثباته سواء، لأنه ظرف في الحالين. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه نوى حقيقة كلامه، لأن كلمة (في) للظرف، والظرفية لا تقتضي الاستيعاب وتعيين الجزء الأول ضرورة عدم المزاحم فإذا عين آخر النهار كان التعيين القصدي أولى بالاعتبار من الضروري، بخلاف قوله غدا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو قال: غدًا كان إضافة، والمضاف لا ينجز لما فيه من إبطال الإضافة، فلغا اللفظ الثاني في الفصلين) ش: في قوله أنت طالق اليوم غدًا، وقوله غدًا اليوم، فإن قيل لم لم يجعل غدًا ظرفًا لطلاق آخر.
وأجيب: بأنه يحتاج إلى تقدير أنت طالق، والأصل خلافه فلا يصار إليه في غير موضع الضرورة، وفيه نظر، لأن صون كلام العاقل عن الإلغاء نوع ضرورة، والأولى أن يقال وصفها بالطلاق اليوم وغدًا، وبالطلقة الواحدة يحصل هذا المقصود، فلا حاجة إلى غيرها، فعلى هذا كان كلامه مصونًا عن الإلغاء.
فإن قيل هذا لا يتم في الصورة الثانية وهو قوله أنت طالق غدًا اليوم، لأنه وصفها بالطلاق غدًا، والموصوف به غدًا لا يكون موصفًا به اليوم. أجيب: بأن إيقاع الثانية فيها مفض إلى المكروه، وهو إيقاع الطلقتين دفعة واحدة، لا ينتفي لإثباتها، فيكون الثاني لغوًا.
م: (ولو قال: أنت طالق في غد، وقال: نويت آخر النهار دين في القضاء عند أبي حنيفة، وقالا يدين في القضاء خاصة، لأنه وصفها بالطلاق في جميع الغد، فصار بمنزلة قوله غدًا على ما بيناه) ش: هو أنه تخصيص العموم، وهو خلاف الظاهر فلا يصدق قضاء ويصدق ديانة، م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كونه وضعها بالطلاق في جميع الغد م: (يقع) ش: أي الطلاق م: (في أول جزء منه) ش: أي من الغد م: (عند عدم النية وهذا) ش: أي وقوع الطلاق في أول جزء منه عند عدم النية م: (لأن حذف م: (في) ش: وإثباته سواء لأنه ظرف في الحالين) ش: أي: الحذف والإثبات. م: (ولأبي حنيفة أنه نوى حقيقة كلامه) ش: لأنه لما قال في الغد جعل الغد ظرفا م: (لأن كلمة م: (في) ش: للظرف، والظرفية لا تقتضي الاستيعاب) ش: أي استيعاب المظروف، كقولنا: زيد في الدار يقتضي وجوده في جزء من أجزاء الظرف، وقد يشغل جميع المظروف، فكان كلامه محتملًا للوجهين م: (وتعيين الجزء الأول ضرورة عدم المزاحم، فإذا عين آخر النهار كان التعيين القصدي) ش: من المعين م: (أولى بالاعتبار من الضروري، بخلاف قوله غدًا) ش: يعني إذا قال غدًا بدون ذكر كلمة (في)(5/323)
لأنه يقتضي الاستيعاب حيث وصفها بهذه الصيغة مضافا إلى جميع الغد نظيره إذا قال: والله لأصومن عمري، ونظير الأول: والله لأصومن في عمري، وعلى هذا الدهر وفي الدهر.
ولو قال: أنت طالق أمس وقد تزوجها اليوم لم يقع شيء لأنه أسنده إلى حالة معهودة منافية لمالكية الطلاق، فليلغو كما إذا قال أنت طالق قبل أن أخلق، ولأنه يمكن تصحيحه إخبارا عن عدم النكاح أو عن كونها مطلقة بتطليق غيره من الأزواج. ولو تزوجها أول من أمس وقع الساعة، لأنه ما أسنده إلى حالة منافية، ولا يمكن تصحيحه إخبارا أيضا، فكان إنشاء، والإنشاء في الماضي إنشاء في الحال فيقع الساعة. ولو قال: أنت طالق قبل أن أتزوجك لم يقع شيء لأنه سنده إلى حالة منافية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأنه يقتضي الاستيعاب حيث وصفها) ش: أي وصف المرأة م: (بهذه الصيغة) ش: يعني بصيغة الطلاق حال كون الصيغة م: (مضافًا إلى جميع الغد) ش: فلا يصدق ديانة في نيته آخر النهار وقضاء، م: (نظيره) ش: أي نظير حكم هذا المذكور بدون ذكر كلمة في م: (إذا قال: والله لأصومن عمري، ونظير الأول) ش: وهو المذكور بكلمة (في) م: (والله لأصومن في عمري) ش: فإن الأول يتناول جميع عمره حتى لا يبر في يمينه إلا بصوم جميع العمر، وفي الثانية وهو قوله لأصومن في عمري يتناول ساعة من عمره، حتى لو صام ساعة يبر في يمينه م: (وعلى هذا) ش: أي وعلى الحكم المذكور م: (الدهر وفي الدهر) ش: يعني لو قال لأصومن الدهر، أو قال لأصومن في الدهر، ففي الأول لا يبر حتى يصوم الدهر كله، وفي الثاني لو صام ساعة منه يبر في يمينه.
[قال أنت طالق أمس وقد تزوجها اليوم]
م: (ولو قال: أنت طالق أمس وقد تزوجها) ش: أي والحال أنه قد تزوجها م: (اليوم) ش: بالنصب، أي في اليوم الذي قال أنت طالق م: (لم يقع شيء، لأنه أسنده) ش: أي أسند كلامه م: (إلى حالة معهودة) ش: أي معلومة م: (منافية لمالكية الطلاق فيلغو) ش: كلامه فلا يقع شيء م: (كما إذا قال: أنت طالق قبل أن أخلق) ش: أو قبل أن تخلقي، ولا خلاف فيه للفقهاء، وذلك لأنه وصفها بالطلاق في وقت لم تكن هي في ملكه م: (ولأنه يمكن تصحيحه) ش: أي تصحيح هذا الكلام م: (إخبارًا عن عدم النكاح أو عن كونها مطلقة بتطليق غيره من الأزواج) ش: أي: أو يكون إخبارًا عن كون هذه المرأة مطلقة بتطليق غيره من الأزواج، وهذا لا يستقيم إن كانت المرأة بكرًا أو ثيبًا بغير نكاح أو متوفى عنها زوجها، ولا يستقيم الكلام إلا في التعليل الأول، وهذا التعليل أيضًا في نفس الأمر تكرار، لأن عدم النكاح يصدق على هذا، فافهم. م: (ولو تزوجها أول من أمس وقع الطلاق الساعة، لأنه ما أسنده إلى حالة منافية، ولا يمكن تصحيحه إخبارًا أيضًا) ش: أي كما في المسألة السابقة، فلما لم يكن تصحيحه إخبارًا م: (فكان إنشاء، والإنشاء في الماضي إنشاء في الحال فيقع الساعة) ش: لأن الإنشاء إيجاب أمر لم يكن، والإيجاب في الماضي إنشاء في الحال فيكون طلاقًا في الحال. م: (ولو قال أنت طالق قبل أن أتزوجك لم يقع شيء، لأنه أسنده إلى حالة منافية) ش: لأنه أضاف الطلاق إلى زمان مناف للطلاق، لأنه لا وجود للطلاق قبل النكاح فلا يقع(5/324)
فصار كما إذا قال: طلقتك وأنا صبي أو نائم أو يصح إخبارا على ما ذكرناه
ولو قال: أنت طالق ما لم أطلقك أو متى لم أطلقك أو متى ما لم أطلقك، وسكت طلقت؛ لأنه أضاف الطلاق إلى زمان خال عن التطليق وقد وجد حيث سكت، وهذا لأن كلمة " متى " و " متى ما " صريح في الوقت لأنهما من ظروف الزمان، وكذا كلمة " ما " للوقت، قال الله تعالى: {مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31] (مريم الآية: 31) ، أي وقت الحياة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فصار) ش: أي حكم هذا م: (كما إذا قال: طلقتك وأنا صبي أو نائم) ش: لأنه أسنده إلى حالة غير معهودة، فلا يعتبر قوله في الإضافة.
م: (أو يصح إخبارًا) ش: يعني يجعل قوله أنت طالق، إخبارًا عن عدم النكاح قبل التزوج في قوله أنت طالق قبل أن أتزوجك م: (فلا يقع) ش: أي فصار حكم هذا قبل أن أتزوجك لأن حقيقة الصفة للإخبار، وأمكن العمل بها فلا يجعل إنشاء م: (على ما ذكرناه) ش: إشارة إلى قوله - لأنه يمكن تصحيحه إخبارًا عن عدم النكاح، وعن كونها مطلقة بتطليق غيره من الأزواج.
[قال أنت طالق ما لم أطلقك أو متى لم أطلقك]
م: (ولو قال: أنت طالق ما لم أطلقك أو متى لم أطلقك أو متى ما لم أطلقك وسكت طلقت، لأنه أضاف الطلاق إلى زمان خال عن التطليق، وقد وجد حيث سكت) ش: وهذا باتفاق الفقهاء م: (وهذا) ش: توضيح لما قبله م: (لأن كلمة " متى " و " متى ما " صريح في الوقت، لأنهما من ظروف الزمان) ش: إذا متى فإنها لمبهم في الوضع، ولكن لما كان الفعل يليها دون الاسم جعلت للشرط والإبهام فيما دخل عليه يعني بين أن يوجد وبين أن لا يوجد، فصحت المجازاة بها مع قيام معنى الوقت به، فإذا قال لامرأته أنت طالق متى لم أطلقك يقع الطلاق عقيب اليمين وجود وقت لم يطلقها فيه بعد كلامه ولم يقتصر على المجلس، لأنه باعتبار إبهام فيه يعم جميع الأزمنة، وأما متى ما فإنه أيضًا متى في الأصل، فزيدت فيه كلمة ما فإنها تستعمل للوقت لا محالة فترجحت جهة الوقت.
م: (وكذا كلمة ما) ش: أي تستعمل في الوقت كما ذكرناه. م: (قال الله تعالى: {مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31] (مريم الآية: 31) م: (أي وقت الحياة) ش: وقال الله تعالى حكاية عن عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31] أي مدة دوامي حيًا. قلت: شرطية أيضًا، قال الله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] (فاطر الآية: 2) ، فينبغي أن لا تقع إلا إذا كانت للوقت دون الشرط، وهي تكون شرطية من غير وقت، وللوقت بلا شرط، بخلاف متى ومتى (ما) ، فإنها إذا كانت للمجازاة فلا ينفك عن الوقت.
فإذا قلت: متى القتال؟ كانت للاستفهام عن زمان القتال، وليس فيه شرط، وإذا قلت متى تقسم أقم معك كانت ظرفًا تضمنت معنى الشرط، وكذا متى ما.(5/325)
ولو قال: أنت طالق إن لم أطلقك لم تطلق حتى يموت، لأن العدم لا يتحقق إلا باليأس عن الحياة، وهو الشرط كما في قوله: إن لم آت البصرة، وموتها بمنزلة موته، هو الصحيح. ولو قال: أنت طالق إذا لم أطلقك أو إذا ما لم أطلقك لم تطلق حتى يموت، عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: تطلق حين سكت، لأن كلمة إذا للوقت، قال الله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] (التكوير الآية1) : " وقال قائل:
وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[قال أنت طالق إن لم أطلقك]
م: (ولو قال: أنت طالق إن لم أطلقك لم تطلق حتى يموت، لأن العدم) ش: أي عدم التطليق م: (لا يتحقق إلا باليأس عن الحياة، وهو الشرط) ش: أي اليأس عن الحياة هو الشرط، فإذا انتهى إلى الموت وقد وجد اليأس فوجد الشرط، والمحل قائم والملك باق، فوقع قبل موته بقليل وليس لذلك القليل حد معروف باتفاق الفقهاء، ثم إن كان دخل بها فلها الميراث بحكم القرار عندنا خلافًا للشافعي، وإن لم يدخل بها فلا ميراث لها م: (كما في قوله: إن لم آت البصرة) ش: يعني كما إذا قال لها أنت طالق إن لم آت البصرة لا يقع الطلاق، حتى يقع الإياس عن الإتيان، فإذا انتهى إلى الوقت فقد وقع اليأس فوجد الشرط فوقع.
م: (وموتها بمنزلة موته) ش: أي موت الزوج يعني يقع الطلاق قبل موتها أيضًا م: (هو الصحيح) ش: احترازًا عن رواية النوادر، فإنه قال فيها لا يقع الطلاق بموتها، وفائدة وقوع الطلاق عليها بعد موتها أن لا يرث الزوج منها، لأنها بانت قبل الموت فلا تبقى بينهما واجبته عند الموت، وشرط التوريث هذا وقد عدم.
م: (ولو قال: أنت طالق إذا لم أطلقك أو إذا ما لم أطلقك لم تطلق حتى يموت، عند أبي حنيفة) ش: وبه قال أحمد في رواية م: (وقالا تطلق حين سكت) ش: وبه قال الشافعي ومالك م: (لأن كلمة " إذا " للوقت، قال الله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] ش: (التكوير) استدلالهم بهذه الآية ضعيف، فإن إذا فيها للشرط، ولهذا أتى فيها بالجواب، وهو قَوْله تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5] (الانفطار: الآية 5) والشمس مرفوعة بالفاعلية رافعة فعل مضمر، تفسيره كورت بكذا، ذكره الزمخشري، ورفعه بالفاعلية مذهبه، وغيره يرفعه بالفعل المقدر أو المفسر على أنه مفعول ما لم يسم فاعله.
وقال قائل:
وإذا تكون كريهة أدعى لها ... إذا يُحاسُ الحيس يدعى جندب
ولم يبين المصنف قائل هذا البيت من هو، وعزاه الكاكي إلى عنترة العبسي وليس بصحيح، وعزاه سيبويه إلى رجل من مذحج، وقال أبو رياش: قائله همام بن مرة أخو جناس بن مرة قاتل كليب، وزعم ابن الأعرابي أنه لرجل من بني عبد مناف قبل الإسلام بخمسمائة عام، وذكر هذا(5/326)
فصار بمنزلة " متى " و" متى ما "، ولهذا لو قال لامرأته: أنت طالق إذا شئت لا يخرج الأمر من يدها بالقيام من المجلس كما في قوله متى شئت، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - تستعمل في الشرط أيضا. قال قائلهم:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأن البيت من قصيدة من الكامل مع بيان لغاتها وإعرابها في الكتاب الذي صنفته وسميته " بالمقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية ". وقال الكاكي أول الشعر:
بل في القضية أن إذا استغنيتم ... وأمنتموا فأنا البعيد الأجنب
قلت: ليس كذلك، بل أوله:
يا ضمر أخبرني وليس بكاذب ... والقول ما فعل الذي لا يكذب
أمن السوية إن إذا استغنيتم ... وأمنتموا فأنا البعيد الأجنب
وإذا الشدائد بالشدائد مرة ... أسجتكم فأنا المحب الأقرب
ولجندب سهل البلاد وعذبها ... وإلى الملاح وحزنهن المجذب
وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
هذا وجدكم الصغار بعينه ... لا أم لي إذا كان ذاك ولا أب
عجبًا لتلك قضية وإقامتي ... فيكم إلى تلك القضية أعجب
قوله: يا ضمر، أراد: " يا ضمرة؛ فرخم. قوله: أسجتكم - من السجأة إذا غضبه. قوله: الملاح - بضم الميم وبتشديد اللام - نبات الحمص، والحزن بالفتح: ما حزن من الأرض، وفيها غلاظة. قوله: وإذا يحاس الحيس - وهو تمر يخلط بسمن وأقط ثم يدلك حتى يختلط. قوله: وجدكم - الواو فيه للقسم، أي وحق حظكم ... وسعدكم. والصغار - بالفتح - الذلة.
م: (فصار) ش: أي إذا م: (بمنزلة متى ومتى ما) ش: يعني في عدم سقوط معنى الوقت عند استعماله شرطًا واستوضح كونه بمعنى متى بقوله م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كونه بمعنى متى م: (لو قال لامرأته: أنت طالق إذا شئت لا يخرج الأمر من يديها بالقيام من المجلس؛ كما في قوله: متى شئت، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يستعمل في الشرط أيضًا) .
م: (وأصل الخلاف بين أهل اللغة والنحو) ش: الكوفيون يقولون: إن إذا قد تستعمل للشرط أيضًا، وقد تستعمل للوقت على السواء، وإذا كان بمعنى الشرط يسقط عنه معنى الوقت أصلًا كحرف أن، وهو مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى، وعند البصريين حقيقة للوقت وللشرط يستعمل مجازًا ولا يسقط منه معنى الشرط م: (قال قائلهم) ش: أي قائل الجمع الذين قالوا: إنه(5/327)
واستغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتحمل
فإن أريد بها الشرط لم تطلق في الحال، وإن أريد بها الوقت طلقت فلا تطلق بالشك والاحتمال، بخلاف مسألة المشيئة؛ لأنه على اعتبار أنه للوقت لا يخرج الأمر من يدها، على اعتبار أنه للشرط يخرج، وكان الأمر بيدها، فلا يخرج بالشك والاحتمال، وهذا الخلاف فيما إذا لم تكن له نية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يستعمل للشرط
واستغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتحمل
ومعنى قوله: (وإذا تصبك) بالجزم، فلو كان لها الجزم لدخل الفاء في جوابه، وهو محتمل، والبيت لعبد قيس بن خفاق، وهو من الكامل من قصيدة مشهورة في المعلقات وما قبله
أبني إن أباك حارب يومه ... وإذا دعيت إلى المكارم فاعجل
الله فاتقه وأوف ينذره ... وإذا حلفت مماريًا فتحلل
واستغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتحمل
قوله: أبني: أي: يا بني. قوله: خصاصة؛ أي: مجاعة بالجيم، وهو أكل المر وهو الشحم المذاب، والمراد الاكتفاء والقناعة بأدنى شيء، لأنه إذا كانت مشتركة لم يجز استعمالها فيهما دفعة.
م: (فإن أريد بها الشرط لم تطلق في الحال، وإن أريد بها الوقت طلقت، فلا تطلق بالشك والاحتمال) ش: فإن قيل: النظر إلى الشرطية يقتضي بقاء النكاح والحل والنظر إلى الوقتية يوجب الطلاق والحرمة فاجتمعت الحرمة والحل، فينبغي أن ترجح الحرمة كما عرف. قلنا: هذا متروك في جميع صور التردد، فإنه لو شك في الانتقاض بعد الطهارة، فإن بقاءها يوجب إباحة الصلاة بالنظر إلى الانتقاض بحرم أداؤها، مع هذا لا يترجح الحرمة، وإن كان مبنى الصلاة على الاحتياط لأن الشك لا يحدث شيئًا، فلا يكون من قبيل تعارض دليل الحرمة من دليل الحل، كذا قيل.
م: (بخلاف مسألة المشيئة) ش: جواب عن قولهما كما في قوله متى شئت، وتقديره قوله: م: (لأنه على اعتبار أنه) ش: أي أن إذا م: (للوقت) ش: أي لمعنى الوقت م: (لا يخرج الأمر من يدها، وعلى اعتبار أنه للشرط يخرج، الأمر بيدها) ش: بيقين م: (فلا يخرج بالشك والاحتمال) ش: لأن الشك لا يعارض اليقين، م: (وهذا الخلاف) ش: أي المذكور بين أبي حنيفة وصاحبيه م: (فيما إذا لم تكن له نية) ش: في قوله أنت طالق إذا لم أطلقك.(5/328)
أما إذا نوى الوقت يقع في الحال، ولو نوى الشرط يقع في آخر العمر لأن اللفظ يحتملهما.
ولو قال: أنت طالق ما لم أطلقك، أنت طالق فهي طالق بهذه التطليقة، معناه: قال ذلك موصولا به، والقياس أن يقع المضاف فيقعان إن كانت مدخولا بها، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه وجد زمان لم يطلقها فيه، وإن قل وهو زمان قوله: أنت طالق، قبل أن يفرغ منها. وجه الاستحسان أن زمان البر مستثنى عن اليمين بدلالة الحال، لأن البر هو المقصود، ولا يمكنه تحقيق البر إلا أن يجعل هذا القدر مستثنى، وأصله من حلف لا يسكن هذه الدار فاشتغل بالنقلة من ساعته وأخواته على ما يذكر في الأيمان إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وأما إذا نوى الوقت يقع) ش: الطلاق م: (في الحال ولو نوى الشرط يقع في آخر العمر) ش: يموت أحدهما م: (لأن اللفظ يحتملهما) ش: أي يحتمل الوقت والشرط، فإذا احتملهما على السواء يقع ما نوى بالإجماع، وقيل: إذا تستعمل للشرط مجازًا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وكذا عندهما فينبغي أن لا يصدقه القاضي فيما إذا نوى به معنى إن؛ لأن فيه تخفيفًا على نفسه. قيل في جوابه لما كثر استعماله في معنى الشرط فصار كالظاهر في حقه، فجاز أن يصدقه القاضي، مع أنه قيل حقيقة فيهما عنده، وفيه نوع تأمل.
[قال أنت طالق ما لم أطلقك أنت طالق]
م: (ولو قال: أنت طالق ما لم أطلقك أنت طالق فهي طالق بهذه التطليقة) ش: أي التطليقة الأخيرة المضافة إلى المعلقة بعدم التطليق م: (معناه) ش: أي معنى ما قاله محمد أو القدوري م: (قال ذلك موصولًا به) ش: قيد به لأنه لو قال مفصولًا يقعان بالإجماع قياسًا واستحسانًا، لأنه وجد الزمان الخالي عن التطليق م: (والقياس أن يقع المضاف) ش: وهو قوله ما لم أطلقك م: (فيقعان) ش: أي المضاف والتطليقة الأخيرة م: (إن كانت مدخولًا بها وهو) ش: أي القياس م: (قول زفر، لأنه وجد زمان لم يطلقها فيه وإن قل وهو زمان قوله أنت طالق قبل أن يفرغ منها) ش: بيانه أنه وجد ما بين اليمين، ووقوع الطلاق مقدار ما يقع فيه ستة أحرف، وشرط الحنث يستوي فيه القليل والكثير.
م: (وجه الاستحسان أن زمان البر مستثنى عن اليمين به لدلالة الحال) ش: لأن الحالف إنما يحلف ليبر في يمينه ولم يمكنه البر في هذه إلا أن يجعل الساعة التي تشتغل بالإيقاع فيها مستثنى، فيصير هذا القدر مستثنى من اليمين بدلالة الحال م: (لأن البر هو المقصود، ولا يمكنه تحقيق البر، إلا أن يجعل هذا المقدار) ش: أي مقدار ما تشتغل بالإيقاع فيه م: (مستثنى) ش: عن اليمين م: (وأصله) ش: أي أصل هذا الخلاف الذي وقع بيننا وبين زفر مسألة كتاب الإيمان، وأشار إليها بقوله: م: (من حلف لا يسكن هذه الدار فاشتغل بالنقلة من ساعته) ش: فإنه لا يحنث استحسانًا وعند زفر يحنث قياسًا م: (وأخواته) ش: أي وأخوات من حلف، وهي قوله لا تلبس هذا الثوب وهو لابسه، فنزعه في الحال، ولا يركب هذه الدابة وهو راكبها فنزل من ساعته لا يحنث، خلافًا لزفر م: (على ما يذكر في الإيمان إن شاء الله تعالى) ش: أي على ما يذكر أصل هذه المسألة وأخواتها في(5/329)
ومن قال لامرأة: يوم أتزوجك فأنت طالق فتزوجها ليلا طلقت لأن اليوم يذكر ويراد به بياض النهار، فيحمل عليه إذا قرن بفعل يمتد كالصوم، والأمر باليد لأنه يراد به المعيار، وهو أليق به ويذكر ويراد به مطلق الوقت، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] (الأنفال الآية: 16) ، والمراد به مطلق الوقت فيحمل عليه إذا قرن بفعل لا يمتد، والتزوج من هذا القبيل فينتظم الليل والنهار، ولو قال: عنيت به بياض النهار خاصة دين في القضاء لأنه نوى حقيقة كلامه والليل لا يتناول إلا السواد، والنهار لا يتناول إلا البياض خاصة وهو اللغة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كتاب الإيمان إن شاء الله عز وجل. م: (ومن قال لامرأة يوم أتزوجك فأنت طالق فتزوجها ليلًا) ش: أي في الليل م: (طلقت، لأن اليوم يذكر ويراد بياض النهار، فيحمل عليه) ش: أي على بياض النهار م: (إذا قرن) ش: أي اليوم م: (بفعل يمتد كالصوم) ش: فإنه يمتد م: (والأمر باليد) ش: كما في قوله أمرك بيدك يوم يقدم فلان م: (لأنه يراد به المعيار) ش: أي أراد باليوم المعيار إذا الفعل ممتد، والمراد بالمعيار أن يكون مقدارًا بقدر الفعل كالصوم في اليوم م: (وهو أليق به) ش: أي كون المعيار مرادًا من اليوم أليق بالفعل الممتد؛ لأن الفعل الممتد يحتاج إلى وقت مؤبد وهو بياض النهار الذي صار المعيار عبارة عنه، بخلاف ما إذا لم يكن الفعل ممتدًا، حيث لا يحتاج إلى وقت مديد بل يكفيه مطلق الوقت.
م: (ويذكر) ش: أي اليوم م: (ويراد به مطلق الوقت، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] (الأنفال الآية: 16) ، م: (والمراد به مطلق الوقت فيحمل عليه) ش: أي على مطلق الوقت م: (إذا قرن بفعل لا يمتد والتزوج من هذا القبيل) ش: أي مما لا يمتد إذ لا يقال تزوجتك شهرًا وسنة، فلو قال ذلك يتأبد ويمتد، وفي أكثر النسخ م: (والطلاق من هذا القبيل) ش: قال الإمام حميد الدين: هذا يدل على أن المعتبر جانب الشروط، وفي النسخة التي فيها الطلاق قال الإمام ظهير الدين: هذا يدل على أن المعتبر في الامتداد وعدمه جانب الجزاء لا جانب الشرط.
وقال الأترازي: اختلفوا في الفعل الذي لا يمتد، قال صاحب " الهداية ": أي أنه الطلاق، لأنه قال والطلاق من هذا القبيل، أي مما لا يمتد أبدًا، قال شمس الأئمة السرخسي وقال فخر الإسلام البزدوي والصدر الشهيد العتابي أنه التزوج م: (فينتظم الليل والنهار) ش: ويقع الطلاق إذا قدم ليلًا أو نهارًا في قوله - أنت طالق يوم يقدم فلان - وبه قال الشافعي في وجه، وفي الأصح عنده لا يتناول الليل فلا يقع الطلاق إذا قدم ليلًا.
م: (ولو قال: عنيت به بياض النهار خاصة دين) ش: أي صدق م: (في القضاء لأنه نوى حقيقة كلامه) ش: لأن النهار بياض النهار خاصة، والليل للسواد خاصة، واليوم يستعمل في بياض النهار، ومطلق الوقت الاشتراط عند البعض، والصحيح بطريق المجاز م: (والليل لا يتناول السواد والنهار يتناول البياض خاصة وهو اللغة) ش: يعني حقيقتهما اللغوية.(5/330)
فصل ومن قال لامرأته: أنا منك طالق فليس بشيء وإن نوى طلاقا، ولو قال: أنا منك بائن أو عليك حرام ينوي الطلاق فهي طالق، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقع الطلاق في الوجه الأول أيضا إذا نوى؛ لأن ملك النكاح مشترك بين الزوجين حتى تملك المطالبة بالوطء كما يملك هو المطالبة بالتمكين، وكذا الحل مشترك بينهما، والطلاق وضع لإزالتهما فيصح مضافا إليه كما يصح مضافا إليها، كما في الإبانة والتحريم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل إضافة الطلاق إلى النساء] [قال لامرأته أنا منك طالق]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل في إضافة الطلاق إلى النساء. ولما كانت هذه مخالفة لإضافة الطلاق إلى الرجال ذكرها في فصل على حدة. وقال الأكمل: ذكر فيه مسائل أخر متنوعة، وكان حقها أن يذكرها في مسائل شتى.
قلت: ليس من حقها ما ذكره، لأن الذي ذكره في هذا الفصل كله من أنواع الطلاق، والمناسب ذكرها كلها في فصول الطلاق.
م: (ومن قال لامرأته أنا منك طالق فليس بشيء وإن نوى طلاقًا) ش: هذه من مسائل " الجامع الصغير "، وصورتها فيه عن محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، في رجل يقول لامرأته أنا منك طالق، ينوي الطلاق، قال لا يكون طلاقًا، انتهى. وهذا معنى قول المصنف فليس قوله - وإن نوى طلاقًا - واصل بما قبله.
م: (ولو قال: أنا منك بائن أو عليك) ش: أي أو قال أنا عليك م: (حرام) ش: حال كونه م: (ينوي الطلاق فهي طالق) ش: هاتان الصورتان من تتمة مسائل " الجامع الصغير " المذكورة: الأولى: أنا منك بائن ينوي الطلاق كانت طلاقًا، الثانية: قوله أنا عليك حرام ينوي الطلاق كانت طلاقًا، وبقولنا قال أحمد.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يقع الطلاق في الوجه الأول أيضًا إذا نوى) ش: الوجه الأول هو قوله أنا منك طالق م: (لأن ملك النكاح مشترك بين الزوجين حتى تملك) ش: أي المرأة م: (المطالبة) ش: أي مطالبة زوجها م: (بالوطء كما يملك هو) ش: أي الزوج م: (المطالبة) ش: أي مطالبة المرأة م: (بالتمكين) ش: أي تمكين نفسها من الزوج م: (وكذا الحل مشترك بينهما) ش: أي بين الزوجين وذلك محل استمتاع كل منهما بصاحبه ولانتهاء النكاح بموت كل منهما وتسمية كل واحد ناكحًا م: (والطلاق وضع) ش: أي شرعًا م: (لإزالتهما) ش: أي لإزالة الحل والتمكين، وكل ما وضع كذلك م: (فيصح مضافًا إليه) ش: أي على الزوج م: (كما يصح مضافًا إليها) ش: أي إلى المرأة م: (كما في الإبانة والتحريم) ش: أي كما يصح في قوله أنا منك بائن، وأنا عليك حرام.(5/331)
ولنا أن الطلاق لإزالة القيد وهو فيها دون الزوج، ألا ترى أنها هي الممنوعة عن التزوج بزوج آخر والخروج، ولو كان لإزالة الملك فهو عليها لأنها مملوكة، والزوج مالك ولهذا سميت منكوحة، بخلاف الإبانة لأنها لإزالة الوصلة وهي مشتركة بينهما، وبخلاف التحريم لأنه لإزالة الحل وهو مشترك بينهما فصحت إضافتهما إليهما، ولا تصح إضافة الطلاق إليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهذا التعليل الذي علل به الشافعي مرضي عند أكثر أصحابه فقالوا لو كان كذلك لما احتاج إضافة الطلاق إليه، أي إلى النية كما لا يحتاج الإضافة إليها، أي إلى النية، بل المختار عند أصحابه أن على الزوج حجرًا من جهتها من حيث إنه لا ينكح أختها ولا أربعًا سواها فيصح إضافته إليه باعتبار رفع القيد؛ لأن الإضافة إلى الزوج غير معهودة، فاحتيج إلى النية، كذا في كتبهم.
م: (ولنا أن الطلاق لإزالة القيد) ش: أي القيد الحاصل بالنكاح م: (وهو) ش: أي القيد م: (فيها) ش: أي في المرأة م: (دون الزوج) ش: يعني القيد للنكاح حصل للرجل على المرأة لا للمرأة على الرجل، ثم أوضح ذلك بقوله م: (ألا ترى أنها) ش: أي المرأة م: (هي الممنوعة عن التزوج بزوج آخر والخروج) ش: أي وممنوعة من الخروج والبروز، والرجل ينطلق حيث شاء، ويريد ويستمتع بإمائه وإن كثرت وبثلاث سواها.
م: (ولو كان) ش: أي الطلاق م: (لإزالة الملك) ش: كما قال الشافعي م: (فهو عليها) ش: أي فالكل عليها م: (لأنها مملوكة والزوج مالك) ش: وهذا جواب عما قاله الشافعي بطريق التسليم بعد المنع، فإن الطلاق لإزالة الملك، ثم أوضح ذلك بقوله م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كونها مملوكة م: (سميت منكوحة) ش: ولما ملك بضعها وجب عليه المهر والنفقة وبمقابلته تملكه م: (بخلاف الإبانة) ش: أي بخلاف قوله - أنا منك بائن - م: (لأنها) ش: أي لأن الإبانة م: (لإزالة الوصلة وهي مشتركة بينهما) ش: أي بين الزوجين، ولهذا جاز إضافتها إلى كل واحد منهما ألا ترى أنه يقال بان عنها، كما يقال بانت عنه.
م: (وبخلاف التحريم) ش: أي وبخلاف قوله - أنا عليك حرام - م: (لأنه) ش: أي لأن لفظ حرام م: (لإزالة الحل وهو) ش: أي الحل م: (مشترك) ش: أي م: (بينهما فصحت إضافتهما) ش: أي إضافة الحرام والإبانة م: (إليهما) ش: أي إلى الزوجين، ألا ترى أنه يقال حرم عليها كما يقال حرمت عليه م: (ولا تصح إضافة الطلاق إليها) ش: أي إلى المرأة، لأن الطلاق زوال القيد، ولما لم يكن القيد على الرجل لم يصح إضافة الطلاق إليه، ولأن الطلاق لو وقع على المرأة لا يخلو، إما أن يثبت ابتداء أو بناء على ثبوته في الرجل، فلا يجوز الأول لعدم إضافة الطلاق إليها، ولا يجوز الثاني أيضًا، لأن الرجل ليس طالقًا عن المرأة عدم القيد فيه، فلغي قوله - أنا منك طالق - كما إذا قال لعبده أنا منك حر، حيث لا يعتق. فإن قيل لا نسلم عدم القيد في(5/332)
ولو قال: أنت طالق واحدة أو لا فليس بشيء، قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كذا ذكر في " الجامع الصغير " من غير خلاف، وهذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخرا. وعلى قوله محمد وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولا تطلق واحدة رجعية، ذكر قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب الطلاق فيما إذا قال لامرأته أنت طالق واحدة، أو لا شيء، ولا فرق بين المسألتين، ولو كان المذكور هاهنا قول الكل، فعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان: له أنه أدخل الشك في الواحدة لدخول كلمة أو بينها وبين النفي فيسقط اعتبار الواحدة، ويبقى قوله: أنت طالق،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرجل، ولهذا لا يجوز له أن يتزوج أربعًا سواها عليها وأختها وابنة أخيها، قيل له ذلك باعتبار عدم المشروعية لا باعتبار أن القيد واقع على الرجل.
[قال أنت طالق واحدة أو لا]
م: (ولو قال: أنت طالق واحدة أو لا فليس بشيء) ش: هذه مسألة " الجامع الصغير "، وصورتها فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في رجل قال لامرأته أنت طالق واحدة أو لا قال ليس بشيء، انتهى، وكذا لو قال: أنت طالق أو لا أو غير طالق لا يقع شيء وبه قال الشافعي وأحمد ومالك على هذا الخلاف لو قال أنت طالق ثلاثًا أو لا شيء.
م: (قال) ش: هكذا ذكره، أي قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: م: (كذا ذكر هذا في الجامع الصغير) وقال في الأصل وإن قال أنت طالق واحدة أو لا شيء فهي طالق واحدة رجعية في قول محمد وقول أبي يوسف الأول، ولم يذكر قول أبي حنيفة في الأصل كما ترى. ونقل صاحب الأجناس عن كتاب الطلاق إملاء أبي سليمان قال أبو حنيفة لا يقع الطلاق، ثم قال صاحب الأجناس وكذا ذكره عن أبي حذيفة في " الجرجانيات " م: (وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف آخرًا) ش: أي المذكور من قوله أنت طالق واحدة أو لا شيء.
م: (وعلى قول محمد وهو قول أبي يوسف أولًا يطلق واحدة رجعية، ذكر قول محمد في كتاب الطلاق فيما إذا قال لامرأته: أنت طالق واحدة أو لا شيء، ولا فرق بين المسألتين) ش: أي من قوله أنت طالق واحدة أو لا، ومن قوله أنت طالق واحدة أو لا شيء، لأنهما في المعنى واحد، يعني لا فرق بينهما في حق التردد في الإيقاع أو في الوضع م: (ولو كان المذكور هاهنا قول الكل فعن محمد روايتان) ش: أي لو كان المذكور في " الجامع الصغير " قول الثلاث فيكون عن محمد روايتان، لأنه ذكر قول الثلاثة عن محمد في طلاق " المبسوط " أنه يقع واحدة رجعية ليذكر الخلاف في " الجامع الصغير "، وهذا يستلزم ورود الروايتين عنه. م: (له) ش: أي لمحمد (- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - م: (أنه) ش: أي أن الرجل الذي قال لامرأته أنت طالق واحدة أو لا شيء م: (أدخل الشك في الواحدة لدخول كلمة م: (أو) ش: بينها) ش: أي بين الواحدة م: (وبين النفي) ش: وهو قوله لا شيء م: (فيسقط اعتبار الواحدة ويبقى قوله: أنت طالق) ش: سالمًا من الشك، فتقع طلقة(5/333)
بخلاف قوله: أنت طالق أو لا لأنه أدخل الشك في أصل الإيقاع فلا يقع شيء، ولهما أن الوصف متى قرن بالعدد كان الوقوع بذكر العدد ألا ترى أنه لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق ثلاثا تطلق ثلاثا، ولو كان الوقوع بالوصف للغا ذكر الثلاث، وهذا لأن الواقع في الحقيقة إنما هو المنعوت المحذوف، معناه أنت طالق تطليقة واحدة، على ما مر. وإذا كان الواقع ما كان العدد نعتا له كان الشك داخلا في أصل الإيقاع، فلا يقع شيء.
ولو قال أنت طالق مع موتي أو مع موتك فليس بشيء، لأنه أضاف الطلاق إلى حالة منافية له، لأن موته ينافي الأهلية وموتها ينافي الحلية، فلا بد منهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واحدة رجعية م: (بخلاف قوله: أنت طالق أو لا، لأنه أدخل الشك في أصل الإيقاع فلا يقع شيء) .
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أن الوصف) ش: وهو قوله أنت طالق م: (متى قرن بالعدد) ش: مثل أن يقول أنت طالق واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا م: (كان الوقوع) ش: أي وقوع الطلاق م: (بذكر العدد) ش: وهو قوله واحدة، إنما أطلق العدد على الواحد مجازًا من حيث إنه أصل العدد م: (ألا ترى أنه) ش: توضيح لما قبله، أي ألا ترى أن الرجل م: (لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق ثلاثًا تطلق ثلاثًا) ش: بالاتفاق، فعلم أن الوقوع بالعدد م: (ولو كان الوقوع) ش: أي وقوع الطلاق م: (بالوصف للغا ذكر الثلاث) ش: يعني لو كان بقوله أنت طالق لما وقع الثلاث، فعلم أن الوقوع بالعدد لا بالوصف.
م: (وهذا) ش: أشار به إلى قوله ولو كان الوقوع بالوصف م: (لأن الواقع في الحقيقة إنما هو المنعوت المحذوف، معناه أنت طالق تطليقة واحدة على ما مر) ش: أراد بقوله أن الوقوع بالعدد لا بالصفة وهي طالق، لكن العدد وقع نعتًا لمحذوف، أي تطليقة واحدة، فالمنعوت هو الواقع في الحقيقة فافهم م: (وإذا كان الواقع ما كان العدد نعتًا له كان الشك داخلًا في أصل الإيقاع فلا يقع شيء) ش: الضمير في له يرجع إلى الموصول وهو قوله ما هو عبارة عن التطليقة المحذوفة، وأراد بقوله العدد الواحد وقوله كان الشك إلى آخره جواب قوله إذا كان.
[قال أنت طالق مع موتي أو مع موتك]
م: (ولو قال: أنت طالق مع موتي أو مع موتك) ش: أي أو قال أنت طالق مع موتك م: (فليس بشيء) ش: أي هذا القول ليس بشيء حتى لا يقع به طلاق، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد، وهذه من مسائل " الجامع الصغير " وليس فيه خلاف، وكذا إذا قال أنت طالق بعد موتي أو بعد موتك بل أولى م: (لأنه أضاف الطلاق إلى حالة منافية له) ش: أي للطلاق م: (لأنه موته) ش: أي لأن موت الرجل م: (ينافي الأهلية) ش: أي للطلاق م: (وموتها) ش: أي موت المرأة م: (ينافي المحلية) ش: أي كونه محلًا للطلاق م: (فلا بد منهما) ش: أي فلا بد لوقوع الطلاق من الأهلية والمحلية، لأن الطلاق معلق لوجود الموت، فصار الموت شرطًا كما لو قال أنت طالق مع دخولك الدار والجزاء يعقب الشرط، فكان هذا إيقاعًا له بعد الموت ولا ملك بعد الموت، ولأن النكاح(5/334)
وإذا ملك الزوج امرأته أو شقصا منها أو ملكت المرأة زوجها أو شقصا منه وقعت الفرقة للمنافاة بين الملكين، أما ملكها إياه فللاجتماع بين المالكية والمملوكية، وأما ملكه إياها فلأن ملك النكاح ضروري، ولا ضرورة مع قيام ملك اليمين فينتفي النكاح، ولو اشتراها ثم طلقها لم يقع شيء؛ لأن الطلاق يستدعي قيام النكاح ولا بقاء له مع المنافي لا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
موقت بحياتهما، فموت أحدهما ينتهي لوجود غايته، والحكم لا يبقى بعد الغاية. وفي " الجامع " قال: والله لا أقربك حتى تموتي أو أموت صار موليًا، فكأنه قال: والله لا أقربك ما دام النكاح بيننا.
[ملك الرجل امرأته أو ملكت المرأة زوجها]
م: (وإذا ملك الزوج امرأته) ش: أي إذا ملك الرجل امرأته بشراء أو إرث أو بهبة أو صدقة م: (أو شقصًا منها) ش: أي أو ملك الرجل شقصًا من امرأته، والشقص بالكسر السهم، قال ابن دريد: م: (أو ملكت المرأة زوجها) ش: يعني بشراء أو نحوه كما ذكرنا م: (أو شقصًا منه) ش: أي وملكت المرأة شقصًا من الزوج م: (وقعت الفرقة) ش: جواب إذا، يعني يرتفع النكاح من بينهما بالفسخ وهذا قول الجمهور، وبه قالت الأئمة الثلاثة والظاهرية. وفي " التمهيد " عن عبد الله بن عتبة والشعبي والنخعي أنها لو ملكت زوجها فأعتقته حين ملكته كأنما على نكاحهما لو ملكها الزوج ووطئها بملك اليمين بعده، ولو ملك بعضها ينفسخ النكاح، ولا يطأها.
وقال قتادة: لم يردد منها الأقرباء ويطؤها بنكاحه وهو شذوذ م: (للمنافاة بين الملكين) ش: وهما ملك النكاح والملك بالشراء ونحوه.
م: (أما ملكها إياه) ش: أي أما ملك المرأة زوجها م: (فللاجتماع بني المالكية والمملوكية) ش: وهو مستحيل. لأن ملك النكاح الرقبة يقتضي أن يكون خادمًا، وملك النكاح يقتضي أن يكون مخدومًا فاستحال اجتماعهما.
م: (وأما ملكه إياها) ش: أي وأما ملك الرجل امرأته م: (فلأن ملك النكاح ضروري) ش: بيانه أن إثبات الملك على الحر على خلاف القياس، وإنما يثبت ضرورة الحل لبقاء النسل م: (ولا ضرورة مع قيام ملك اليمين) .
لأنه لما طرأ عليه ملك اليمين وهو الحل القوي م: (فينتفي) ش: الحل الضعيف، وفي تملك الشقص وإن كان لا يثبت الحل ولكن يثبت الملك، فقام مقام الحل، لأنه دليل عليه، بخلاف المكاتب إذا اشترى منكوحة حيث لا يبطل النكاح، لأن الثابت في كسبه حق الملك، وحق الملك لا يمنع حق النكاح.
م: (ولو اشتراها) ش: أي ولو اشترى الزوج امرأته الأمة م: (ثم طلقها لم يقع شيء، لأن الطلاق يستدعي قيام النكاح ولا بقاء له) ش: أي للنكاح م: (مع المنافي) ش: وهو ملك اليمين م: (لا(5/335)
من وجه ولا من كل وجه وكذا إذا ملكته أو شقصا منه لا يقع الطلاق لما قلنا من المنافاة. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقع لأن العدة واجبة بخلاف الفصل الأول، لأنه لا عدة هنالك حتى حل وطؤها له وإن قال لها وهي أمة لغيره أنت طالق ثنتين مع عتق مولاك إياك فأعتقها مولاها ملك الزوج الرجعة؛ لأنه علق التطليق بالإعتاق أو العتق، لأن اللفظ ينتظمهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من وجه) ش: العدة، لأنها أثر من آثاره، فلا يحنث مع وجود المنافي، وإلا لكان ملك النكاح باقيًا من وجه (ولا من كل وجه) متعلقًا بقوله ولا بقاء. وقال الأكمل: وقيل لا من وجه يعني إذا ملك الشقص لا من كل وجه، يعني إذا ملك اليمين الجمع، وعلى هذا يتعلق بقوله مع المنافي، انتهى.
قلت: هذا القول الذي أشار إليه الأكمل بقوله وقيل هو قول الأترازي، هكذا فسره في شرحه، م: (وكذا إذا ملكته) ش: أي وكذا لا يقع الطلاق إذا ملكت المرأة الحرة زوجها وهو عبد بميراث أو غيره م: (أو شقصًا منه) ش: أي أو ملكت شقصًا من زوجها م: (لا يقع الطلاق لما قلنا من المنافاة) ش: بين المالكية والمملوكية.
م: (وعن محمد أنه يقع) ش: أي الطلاق في الصورة الثانية لوجوب العدة عليها، والطلاق يعتمد ملك النكاح أو قيام العدة، ولهذا تجب العدة، ولهذا لا يحل له وطؤها م: (لأن العدة واجبة بخلاف الفصل الأول) ش: وهو ما إذا ملك الزوج امرأته م: (لأنه لا عدة هنالك، حتى حل وطؤها له) ش: أي لا عدة في حق مولاها الذي يملكها.
وفي " الكافي " فإن قيل أليس أنه لا يجوز له التزويج، وهذا دليل على الوجوب. قلنا: قد قالوا لا عدة عليها بدليل أنه لو زوجها من آخر جاز، والصحيح أنه لا يجوز تزويجها من آخر فعلم أنه لا تجب العدة عليها في حق من استبرأها، وفي حق غيره روايتان، وهذا لأن العدة إنما تجب لاستبراء الرحم من الماء، ويستحيل استبراء رحمها من ماء نفسه مع بقاء السبب الموجب لحل الوطء. م: (وإن قال لها) ش: أي ولو قال رجل لامرأته م: (وهي أمة لغيره) ش: أي والحال أنها أمة لغيره.
م: (أنت طالق ثنتين مع عتق مولاك إياك) ش: أي إعتاق مولاك إياك فاستعير الحكم لعلة، لأن العتق حكم الإعتاق، والدليل عليه أنه قال بعده علق التطليق بالإعتاق أو بالعتق، لأن الإعتاق يضاف حقيقة إلى المولى لا العتق م: (فأعتقها) ش: يعني م: (مولاها ملك الزوج الرجعة، لأنه علق التطليق بالإعتاق أو العتق) ش: أي بالعتق الحاصل بإعتاق المولى م: (لأن اللفظ) ش: وهو قوله مع عتق مولاك م: (ينتظمهما) ش: أي ينتظم الإعتاق والعتق على طريق البدل لا الشمول، لا ضيق المسافة لاستحالة الحقيقة والمجاز مرادين، ولهذا يندفع قول الأترازي. ولنا في قوله: لأن اللفظ ينتظمهما نظر، لأنه حينئذ يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز.(5/336)
والشرط ما يكون معدوما على خطر الوجود وللحكم تعلق به، والمذكور بهذه الصفة والمعلق به التطليق لأن في التعليقات يصير التصرف تطليقا عند الشرط عندنا،
وإذا كان التطليق معلقا بالإعتاق، أو لعتق يوجد بعده، ثم الطلاق يوجد بعد التطليق فيكون الطلاق متأخرا عن العتق، فيصادفها وهي حرة فلا تحرم حرمة غليظة بالثنتين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والشرط ما يكون معدومًا على خطر الوجود) ش: أي وقد علم أن الشرط ما يكون معدومًا، ويكون على خطر الوجود والعتق والإعتاق بهذه المثابة شرط على خطر الوجود م: (وللحكم تعلق به) ش: أي وقد علم أيضًا أن للحكم تعلقًا بالشرط؛ لأنه موقوف على وجود الشرط م: (والمذكور) ش: أي العتق م: (بهذه الصفة) ش: يعني معدوم على خطر الوجود وللحكم تعلق به، فيكون شرطًا لأنه جعل التطليق متصلًا بالعتق، وذلك التعلق إما أن يكون تعلق العلة بالمعلول أو الشرط بالمشروط، والإعتاق والعتق لا يكون علة لتطليق الزوج، وكذا تطليق الزوج لا يكون علة لإعتاق المولى والعتق الحاصل به والطلاق تعلق به، وهو معنى قوله م: (والمعلق به) ش: أي العتق م: (التطليق) ش: لا الطلاق عندنا لما تقرر في الأصول أن أثر التطليق في منع السبب لا في منع الحكم.
م: (لأن في التعليقات يصير التصرف معلقًا عند الشرط عندنا) ش: بناء على أن الشرط عندنا غلبة العلة إلى زمان وجوده كما عرف في الأصول. وقال تاج الشريعة: قوله - لأن في التعليقات ... إلى آخره - يعني أن المعلق بالشرط عندنا لا ينعقد سببًا، والشرط يمنع الانعقاد، وعند الشافعي يؤخر الحكم.
[التطليق بعد الإعتاق أو العتق]
م: (وإذا كان التطليق معلقًا بالإعتاق أو العتق يوجد بعده) ش: أي يوجد التطليق بعد الإعتاق أو العتق، لأن المشروط مع الشرط يتعاقبان م: (ثم الطلاق يوجد بعد التطليق فيكون الطلاق متأخرًا عن العتق) ش: بالضرورة م: (فيصادفها) ش: أي يصادف الطلاق المرأة م: (وهي حرة) ش: أي والحال أنها حرة عند المصادفة م: (فلا تحرم حرمة غليظة بالثنتين) ش: أي التطليقتين. وعند الشافعي العتق والطلاق وقعا معا فلم يكن رجعيا في أظهر قوليه بعد وقوع الطلاق لكن عنده صورة المسألة فيما إذا قال العبد لامرأته أنت طالق مع عتق مولاي إياي؛ لأن عنده اعتبار الطلاق بالرجال. وبه قال مالك وأحمد. وفي قول عنه يحرم حرمة غليظة؛ لأن العتق لو تقدم وقوع الطلاق، فصار كما لو طلقها اثنتين ثم عتق. وفي " الكافي " وذكر في " الهداية " لأنه علق التطليق بالعتق إلى آخره، وهو مشكل، لأنه أريد به الإعتاق هاهنا، فاستعير الحكم عن علته، ألا ترى إلى قوله: إياك - ولا تستعمل ذلك إلا في الفعل المتعدي، قيل في جوابه ليس بمشكل، لأنه لما علق التطليق بالإعتاق يلزم منه تعليقه بالعتق الحاصل من الإعتاق وقد بينا أن كل واحد يصلح شرطًا إذ كل منهما على خطر الوجود، ويكون قوله مع عتق مولاك إياك مع العتق الحاصل من إعتاق مولاك إياك، فلهذا أول المصنف قوله علق العتق بالإعتاق أو العتق.(5/337)
يبقى شيء، وهو أن كلمة " مع " للقران، قلنا قد تذكر للتأخر كما في قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] الشرح الآية: 6 فحمل عليه بدليل ما ذكرنا من معنى الشرط.
ولو قال: إذا جاء غد فأنت طالق ثنتين، وقال المولى: إذا جاء غد فأنت حرة، فجاء الغد لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: كيف سمى المصنف إضافة الطلاق إلى زمان الإعتاق تعليقًا، والمعلق غير مضاف. قلت: أجيب: بأنه سماها تعليقًا مجازًا لا حقيقة، لأن التعليق توقيف الأمر على أمر بحرف الشرط، فلما وجد توقف الطلاق على العتاق سماه تعليقًا، وإن لم يذكر لحوق الشرط فصار كأنه قال أنت طالق إن أعتق مولاك.
م: (يبقى شيء) ش: أي إشكالًا م: (وهو أن كلمة " مع " للقران) ش: عند أرباب اللسان، حاصل هذا أنه اعتذار عما ورد على كلامه، حيث قال يكون الطلاق متأخرًا عن العتق فورد عليه بأن قال لا نسلم أنه متأخر عنه، لأن كلمة مع للقران والصحبة، فقال: سلمنا ذلك لكن م: (قلنا: قد تذكر) ش: أي لفظ مع م: (للتأخر) ش: مجازًا، م: (كما في قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] ش: (الشرح: 5، 6) ، لأنه لا يمكن المعية بين العسر واليسر للتضاد بينهما، فيحمل على التأخير، وتحقيقه أن كلمة مع قد تذكر للاقتران في زمان الوجود، وقد تذكر للاقتران في أصل الوجود كما في قَوْله تَعَالَى: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 44] (النمل: 44) ، وكما في قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] (الشرح: 6) ، فلو كان المراد هو الأول يحرم حرمة غليظة، ولو كان المراد هو الثاني لا يحرم، والحرمة الغليظة لم تكن ثابتة فلا يثبت بالشك والاحتمال.
فإن قيل: ينقض هذا بما ذكر في " الجامع " بقوله لامرأته أنت طالق مع نكاحك، حيث لم يصح ولم يصر معنى الشرط، فينبغي أن يكون كذلك، كما في قوله مع عتق مولاك - إلى آخره - بأن العدول عن حقيقة معنى القران باعتبار أنه ملك للتطليق تخييرًا تعليقًا، فكان من ضرورة كلامه أن يحمل على معنى الشرط، أما هاهنا لم يملك الطلاق، والطلاق مع النكاح متنافيان، فلا يلزم العدول عن معنى القران، فيلغو ضرورة.
وقال الكاكي: وهذا الجواب لم يتضح لي لأنه تمليك بتعليق الطلاق بالنكاح، فيمكن تصحيح كلامه على اعتبار معنى الشرط فينبغي أن يحمل عليه.
م: (فيحمل عليه) ش: أي إذا كان الأمر كذلك فيحمل لفظ مع على التأخر، كما في الآية الكريمة م: (بدليل ما ذكرنا من معنى الشرط) ش: لضرورة تصحيح الكلام.
[قال الرجل لامرأته الأمة إذا جاء غد فأنت طالق ثنتين]
م: (ولو قال: إذا جاء غد فأنت طالق ثنتين) ش: أي ولو قال الرجل لامرأته الأمة إذا جاء غد فأنت طالق ثنتين م: (وقال المولى: إذا جاء غد فأنت حرة فجاء الغد لم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره(5/338)
وعدتها ثلاث حيض، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: زوجها يملك الرجعة عليها؛ لأن الزوج قرن الإيقاع بإعتاق المولى حيث علقه بالشرط الذي علق به المولى العتق، وإنما ينعقد المعلق سببا عند الشرط والعتق يقارن الإعتاق لأنه علته أصله علته، أصله الاستطاعة مع الفعل فيكون التطليق مقارنا، للعتق ضرورة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: لأنها حرمت عليه حرمة غليظة م: (وعدتها ثلاث حيض) ش: أي عدة الحرائر.
وهذه المسألة لا خلاف فيها على رواية أبي سليمان الجرجاني، وفيها الخلاف على رواية أبي حفص الكبير، أشار إليه بقوله م: (وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد زوجها يملك الرجعة) ش: يعني لا تحرم حرمة غليظة. وللشافعي قولان، لكن صورة المسألة عنده في العبد كما ذكرنا م: (لأن الزوج قرن الإيقاع) ش: أي إيقاع الطلاق م: (بإعتاق المولى، حيث علقه بالشرط الذي علق به المولى) ش:، وذلك أن الزوج أضاف الطلاق إلى زمان أضاف إليه المولى الإعتاق وهو مجيء الغد.
م: (وإنما ينعقد المعلق سببًا عند الشرط) ش: يعني المعلق إنما يكون سببًا للإيقاع عند وجود الشرط، فكأنا مقترنين في السببية فحكمه أيضًا كذلك م: (والعتق يقارن الإعتاق لأنه) ش: أي لأن الإعتاق م: (علته) ش: أي علة العتق، والعلة مع المعلول يقترنان عند الجمهور. وعند البعض يتعاقبان في العلة الشرعية، والتصرفات الشرعية بمنزلة الجواهر م: (أصله الاستطاعة مع الفعل) ش: يعني الاستطاعة التي يحصل بها الفعل لا تسبق الفعل، لأن الفعل معلول لها، فيقترنان في الحكم، لأنها لو سبقت لا يخلو إما أن تبقى إلى زمان وجود الفعل أولًا، فيلزم في الأول قيام العرض بالعرض، وفي الثاني يلزم حصول الفعل بلا قدرة، وهو محال، فكذا الإعتاق لا يستبق العتق، لأن العتق معلوله.
م: (فيكون التطليق مقارنًا للعتق ضرورة) ش: لأن الإعتاق أيضًا مقارن بمجيء الغد، لأن المقارن لمقارن الشيء مقارن لذلك الشيء لا محالة، فالطلاق بعد العتق فاسد، لأن الطلاق حكم التطليق لا يتأخر عنه، والتطليق يقارن الإعتاق، والإعتاق يقارن العتق، والطلاق يقارن العتق، كان المقارن للمقارن للشيء مقارن لذلك الشيء، فكيف يقع بعده، انتهى.
وقال الكاكي: لا يتضح قول محمد إلا أن يوصف حكم العلة بتأخر عن العلة كما هو مذهب البعض كما وصفه شمس الأئمة في مسألة أنت طالق مع عتق مولاك إياك ... إلى آخره.
وقال تاج الشريعة: اختلف المشايخ في جواز تأخير المعلولات عن العلل الشرعية، بعضهم قالوا لا يجوز ذلك، وبعضهم جوزه، لأن العلل الشرعية بمنزلة الجواهر على ما عرف، فمحمد أخذ في الطلاق بجواز التأخر، وفي العتق بالمقارنة.(5/339)
فتطلق بعد العتق. فصار كالمسألة الأولى، ولهذا تقدر عدتها بثلاث حيض. ولهما أنه علق الطلاق بما علق به المولى العتق، ثم العتق يصادفها وهي أمة، وكذا الطلاق والطلقتان تحرمان الأمة حرمة غليظة، بخلاف المسألة الأولى، لأنه علق التطليق بإعتاق المولى فيقع الطلاق بعد العتق على ما قررناه، بخلاف العدة لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ووجه ذلك أن الطلاق مختص ببطء الثبوت لتحققه مع المنافي، والإعتاق مختص بسرعة الثبوت، لكنه على وفاق الدليل فيقدم على الطلاق فيصادفها الطلاق وهي حرة، فيملك الرجعة، ولهذا يتأخر الملك في البيع الفاسد عن البيع إلى زمان القبض، بخلاف البيع الصحيح لما ذكرنا أن أحدهما على وفق الدليل، والآخر على خلافه، انتهى.
وعلل ركن الإسلام القاضي أبو الحسن السعدي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العتق وإن كان يقارن الإعتاق، لكن العتق لا يزول ما لم يزل الرق مع العتق، لا يجتمعان في محل واحد، فيكون نزول العتق بعد زوال الرق فكان الطلاق بعد الحرية.
وقيل في الجواب أنه يجوز أن يكون مراده بقوله بعد العتق أي معه كما أن مراده بقوله عتق مولاك وإياك، أي بعد عتق مولاك إياك، وقيل المعلق بالشرط كالمرسل عنده فيكون قول المولى عند الشرط عند حرة، وقال الزوج طالق مقترنين في زمان واحد ويتأخر ثنتين عن الحرية ضرورة فيقعان عليها، وهي حرة.
م: (فصار كالمسألة الأولى) ش: وهي قوله أنت طالق ثنتين مع عتق مولاك إياك م: (ولهذا تقدر عدتها بثلاث حيض) ش: هذا إيضاح لقوله م: (لتطلق بعد العتق) ش:، بيانه أن الطلاق صادف الحرية، ولهذا تعتد بثلاث حيض، فلو صادف الأمة لزمها الاعتداد بالحيضتين، هكذا شرحه الأترازي، ثم قال: وعلى هذا الاستدلال الذي أورده صاحب " الهداية " نظر، لأن الاعتداد بثلاث حيض باعتبار أنها حرة زمان وجوب العدة كما في المسألة الأولى، باعتبار أن الطلاق صادف الحرية، انتهى.
قلت: هذا الاستدلال هو الذي ذكره ثم نسبه لصاحب " الهداية " ثم نظر فيه، ولم يذكره صاحب " الهداية " هنا على ما لا يخفى.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أنه) ش: أي الزوج م: (علق الطلاق بما علق به المولى العتق) ش: وهو مجيء الغد م: (ثم العتق يصادفها وهي أمة) ش: أي والحال أنها أمة م: (وكذا الطلاق) ش: مصادفها وهي أمة م: (والطلقتان تحرمان الأمة حرمة غليظة) ش: فلا يملك الرجعة م: (بخلاف المسألة الأولى، لأنه علق التطليق بإعتاق المولى فيقع الطلاق بعد العتق على ما قررناه) ش: أي في المسألة الأولى، وهو أن الشرط مقدم على المشروط م: (بخلاف العدة لأنه) ش:(5/340)
يؤخذ فيها بالاحتياط، وكذا الحرمة الغليظة يؤخذ فيها بالاحتياط، ولا وجه إلى ما قال، لأن العتق لو كان يقارن الإعتاق لأنه علته، فالطلاق يقارن التطليق لأنه علته فيقترنان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي لأن الشأن م: (يؤخذ فيها بالاحتياط) ش: صيانة لأمر الدين م: (وكذا الحرمة الغليظة يؤخذ فيها بالاحتياط) .
م: (ولا وجه إلى ما قال) ش: أي محمد م: (لأن العتق لو كان يقارن الإعتاق لأنه علته) ش: أي لأن الإعتاق علة العتق م: (فالطلاق يقارن التطليق، لأنه علته) ش: أي لأن التطليق علة الطلاق م: (فيقترنان) ش: أي الإعتاق والتطليق، يعني كما أن الإعتاق يصادفها، وهي أمة فكذلك التطليق.(5/341)
فصل في تشبيه الطلاق ووصفه ومن قال لامرأته أنت طالق، هكذا يشير بالإبهام والسبابة والوسطى، فهي ثلاث لأن الإشارة بالأصابع تفيد العلم بالعدد في مجرى العادة إذا اقترنت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في تشبيه الطلاق ووصفه] [قال لامرأته أنت طالق هكذا يشير بالإبهام والسبابة والوسطى]
م: (فصل في تشبيه الطلاق ووصفه)
ش: أي هذا فصل في بيان تشبيه الطلاق. ولما ذكر أصل الطلاق شرع يذكر وصفه وتنويعه في فصل على حدة، لكونه تابعًا.
م: (ومن قال لامرأته أنت طالق، هكذا يشير) ش: أي حال كونه يشير م: (بالإبهام والسبابة والوسطى، فهي ثلاث) ش: أي ثلاث تطليقات، وقد طعن بعض الجهال على محمد في قوله: والسبابة لأنه ذكر هذه المسألة في " الجامع الصغير " هكذا، وقال: إنه اسم جاهل في الاسم الشرعي المسبحة، وورد عليه بأن السبابة وردت أيضًا في الشرع، وقد روى الطحاوي من حديث موسى ابن أبي عامر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رجلًا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال كيف الطهور؟ فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بماء فتوضأ فأدخل إصبعيه أذنيه فمسح بإبهاميه ظاهر أذنيه وبالسبابتين باطن أذنيه» . انتهى. على أن في النسخ السباحة، فكأن السبابة والسباحة أيضًا وردت بالحديث.
وقد روى النسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رجلًا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟ فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثًا ثم غسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل ذراعيه ثلاثًا، ثم مسح برأسه وأدخل أصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه ظاهر أذنيه، بالسباحتين باطن أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثًا، ثم قال هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص، فقد أساء أو ظلم وأساء» .
وقال الأترازي: المعتبر في اللغات استعمال م: (العرب العرباء لاستعمال) ش: أهل الحضر والمولدين، فاستعمال السبابة أولى لكونها لغة العرب الفصيح، وعدم النهي عن التكلم بها. انتهى.
قلت: لا فائدة في هذا الذي قاله أصلًا، لأن كل واحدة من السباحة والسبابة استعملت في الشرع كما ذكرنا، وأيضًا دعواه الأولوية في السبابة غير موجهة على ما لا يخفى.
م: (لأن الإشارة بالأصابع تفيد العلم بالعدد في مجرى العادة إذا اقترنت) ش: أي الإشارة(5/342)
بالعدد المبهم، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشهر هكذا وهكذا وهكذا» الحديث. وإن أشار بواحدة فهي واحدة، وإن أشار بثنتين فهي ثنتان لما قلنا، والإشارة تقع بالمنشورة منها، وقيل إذا أشار بظهورها فبالمضمونة منها، وإذا كان تقع الإشارة بالمنشورة منها فلو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بالعدد المبهم) ش: وهو أن يقول هكذا.
وقال العتابي في شرحه قوله يشير بالإبهام والسبابة والوسطى يريد به الإشارة بالأصابع التي اعتاد الناس الإشارة بها وبين الأصابع الأخر.
وقال تاج الشريعة: يعني يشير بالثلاثة بمرة واحدة، وفي " المغني " قال أنت طالق وأشار بأصابعه الثلاثة يقع واحدة وإن قال هكذا، وأشار بها وقع الثلاث.
م: (قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الشهر هكذا وهكذا وهكذا» الحديث روي عن ابن عمر وعن سعد بن أبي وقاص، وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. وحديث ابن عمر رواه البخاري ومسلم في الصوم، قال: «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الشهر هكذا وهكذا وهكذا وحبس الإبهام في الثالثة» . وحديث سعد أخرجه مسلم عن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: «ضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده على الأخرى، وقال الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وأمسك في الثالثة إصبعًا» . وحديث عائشة رواه الحاكم في " المستدرك " عنها أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أقسم أنه لا يدخل عليها شهرًا فغاب عنها تسعة وعشرين يومًا، ثم دخل عليها في الثلاثين، فقلت له إنك حلفت أن لا تدخل علينا شهرًا فقال: " الشهر هكذا وهكذا وهكذا " وأمسك في الثالثة الإبهام» ، وقال: صحيح على شرط البخاري.
قوله: وحبس، أي وقبض والاحتباس: الانقباض، وفي " المبسوط " قوله وحبس في المرة الثالثة إبهامه، بيان منه أن الشهر تسعة وعشرين يومًا ولا خلاف في هذه المسألة، والإشارة تقع بالمنشورة منها لا بالمضمونة لاعتبار العرف والعادة، ألا ترى أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حبس إبهامه في المرة الثالثة، وفهم منه تسعة وعشرون يومًا، ولو اعتبر المقبوض لكان المفهوم أحد وعشرين يومًا.
م: (وإن أشار بواحدة) ش: يعني وإن أشار بأن واحدة وقال أنت طالق م: (فهي واحدة) ش: أي فهي تطليقة واحدة. م: (وإن أشار بثنتين) ش: أي بإصبعين وقال أنت طالق هكذا م: (فهي ثنتان) ش: أي تطليقة ثنتان يعني يقع تطليقتان م: (لما قلنا) ش: يريد به قوله لأن الإشارة بالأصابع تفيد العلم بالعدد في مجرى العادة إذا اقترنت بالعدد المبهم م: (والإشارة تقع بالمنشورة) ش: أي الأصابع المنشورة م: (منها) ش: أي من أصابع اليد ولا تقع بالمضمومة باعتبار العرف والعادة.
م: (وقيل إذا أشار بظهورها) ش: أي بظهور الأصابع إلى المرات م: (فبالمضمومة منها) ش: أي فيقع الطلاق حينئذ بالمضمومة من الأصابع لا بالمنشورة. م: (وإذا كان تقع الإشارة بالمنشورة فلو(5/343)
نوى الإشارة بالمضمومتين يصدق ديانة لا قضاء، وكذا إذا نوى الإشارة بالكف حتى تقع في الأولى ثنتان ديانة، وفي الثانية واحدة، لأنه يحتمله لكنه خلاف الظاهر ولو لم يقل هكذا يقع واحدة لأنه لم يقترن بالعدد المبهم فبقي الاعتبار بقوله: أنت طالق،
وإذا وصف الطلاق بضرب من الشدة والزيادة كان بائنا مثل أن يقول: أنت طالق بائن أو البتة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نوى الإشارة بالمضمومتين يصدق ديانة لا قضاء) ش: وبه قال الشافعي لأنه كما وجدت الإشارة بالمنشورة وجدت بالمعقودة، إلا أنه خلاف الظاهر، لأن الإشارة المعهودة فيما بين الناس في بيان العدد المبهم بالأصابع المنشورة لا بالمحبوسة ولا بالكف، فإذا ادعى خلافه فلا يصدق في القضاء، كذا في " مبسوط شيخ الإسلام ".
م: (وكذا إذا نوى الإشارة بالكف) ش: وصورة الإشارة بالكف أن تكون جميع الأصابع منشورة، يعني أشار إليها بالأصابع المنشورة وبطونها إلى المرات وقال أنت طالق هكذا، ثم قال عنيت بها الإشارة بالكف لا بالأصابع. يصدق ديانة لا قضاء م: (حتى تقع في الأولى) ش: أي في المضمومتين م: (ثنتان) ش: أي طلقتان ديانة لا قضاء م: (ولي الثانية) ش: أي الإشارة بالكف م: (واحدة) ش: يعني يصدق ديانة حتى تقع واحدة لا قضاء حتى ثلاثًا في القضاء، لأنه أشار إليها بأصابعه الثلاث المنشورة. وفي " المبسوط " وبعض المتأخرين قالوا: لو جعل ظهر الكف إلى نفسه وبطون الأصابع إليها لا يصدق في القضاء، كذا في " مبسوط شيخ الإسلام ". وكذا إذا نوى الإشارة بالكف وصورة الإشارة بالكف أن يكون جميع الأصابع منشورة، يعني أشار إليها بالأصابع المنشورة وبطونها إلى المرأة وقال أنت طالق هكذا، ثم قال عنيت بها الإشارة بالكف لا بالأصابع يصدق ديانة لا قضاء حتى يقع في الأولى، أي في المضمومتين، وذكر الإمام التمرتاشي قيل لو كان باطن كفه إلى السماء فالعبرة للنشر، وإن كان ضمًا عن نشر فالعبرة للضم وقيل: إن كان نشرًا عن ضم فالعبرة للنشر، وإن كان ضمًا عن نشر فالعبرة للضم للعادة.
م: (لأنه يحتمله) ش: أي لأن قوله نويت الإشارة بالكف يحتمل ما نوى م: (لكنه خلاف الظاهر) ش: فلا يصدق قضاء م: (ولو لم يقل هكذا) ش: يعني إذا أشار إليها بالأصابع المنشورة، وقال أنت طالق لكنه لم يقل لفظ هكذا م: (يقع واحدة) ش: أي طلقة واحدة م: (لأنه) ش: أي لأن قوله عند الإشارة بدون لفظ هكذا م: (لم يقترن بالعدد المبهم) ش: فاعتبر وجود الإشارة كعدمها م: (فبقي الاعتبار بقوله أنت طالق) ش: فلا يقع به إلا واحدة، وإن نوى الثلاث عندنا وبه قال الشافعي عند عدم النية.
[يقول أنت طالق بائن أو البتة]
م: (وإذا وصف الطلاق بضرب) ش: أي بنوع م: (من الشدة والزيادة كان) ش: أي الطلاق م: (بائنًا مثل أن يقول أنت طالق بائن أو البتة) ش: أي وأنت طالق البتة أي القطع.(5/344)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقع رجعيا إذا كان بعد الدخول لأن الطلاق شرع معقبا للرجعة، فكان وصفه بالبينونة خلاف المشروع فيلغو، كما إذا قال: أنت طالق على أن لا رجعة لي عليك ولنا أنه وصفه بما يحتمله لفظه، ألا ترى أن البينونة قبل الدخول وبعد العدة تحصل به، فيكون هذا الوصف لتعيين أحد المحتملين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يقع رجعيًا) ش: أي طلاقًا رجعيًا م: (إذا كان بعد الدخول) ش: وبه قال مالك وأحمد م: (لأن الطلاق شرع معقبًا للرجعة، وكان وصفه بالبينونة خلاف المشروع فيلغو) ش: أي وصفه بالبينونة م: (كما إذا قال أنت طالق على أن لا رجعة لي عليك، ولنا أنه) ش: أي أن الزوج م: (وصفه) ش: أي وصف الطلاق م: (بما يحتمله) ش: وهو البينونة، ولهذا ثبتت البينونة به قبل الدخول، وبعد انقضاء العدة بالطلاق.
فإن قيل ينتقض بما إذا قال أنت طالق ونوى البينونة إلى الثلاث حيث لا يصح بالإجماع، فينبغي أن يصح لأنه محتمل كلامه، قلنا: النية تصح للملفوظ والبينونة ما صارت ملفوظة بقوله أنت طالق، بخلاف قوله أنت طالق بائن، فإن البينونة ملفوظة.
وقال الكاكي: في هذا الجواب نوع ضعف، لأنه ذكر في " المبسوط " قوله أنت طالق يحتمل المبين وغير المبين، فكان قول بائنًا تعيين أحد محتمليه، إلا أن يقول لا يحتمله بطريق الحقيقة لكنه يحتمله بطريق المجاز فلا بد للمجاز من نيته، ولهذا لا يندفع السؤال.
فإن قيل: بائن صفة المرأة لا صفة الطلاق، فكيف واصفًا للطلاق بالبينونة، كذا قيل وقال الكاكي وفيه نوع تأمل، انتهى.
قلت: قوله بائن صفة لطلاق، أو خبر بعد خبر، وليس صفة الطلاق وإنما يكون صفة الطلاق لو قال أنت طالق بائنًا.
م: (ألا ترى أن البينونة قبل الدخول وبعد العدة تحصل به) ش: أي بقوله أنت طالق م: (فيكون هذا الوصف) ش: أي وصف المرأة بقوله - أنت طالق بائن - م: (لتعيين أحد المحتملين) ش: وهو البينونة. وقال الأترازي: هو بفتح الميم، وأراد بهما الرجعي البائن وفيه نظر لأن الرجعي ليس يحتمل الطلاق بل هو البائن. وقال الأكمل ملخصًا من كلام السغناقي، واعترض بأنه لو قال مختلًا لما جاز نيته فيقع بقوله أنت طالق واحدة بائنة، إذا نوى وليس كذلك، وأجيب: بأن النية إنما تعمل إذا لم تكن مغيرة للمشروع ونية البائن من قوله أنت طالق مغيرة، لأن الطلاق شرع معقبًا للرجعة. ورد بأنه تسليم لدليل الخصم ومخرج إلى الفرق بين عدم جواز كون النية مغيرة، وجواز كون الوصف مغيرًا للمشروع.
وأجيب: بأن الفرق بينهما أن الوصف الملفوظ أقوى في اعتبار الشرع من النية، بدليل أنه لو قال أنت طالق، ولم يتقدم له تطليق، اعتبر الشارع ذلك طلاقًا، ولو نوى طلاقًا ولم يتلفظ بلفظ(5/345)
ومسألة الرجعة ممنوعة فتقع واحدة بائنة إذا لم تكن له نية أو نوى الثنتين، أما إذا نوى الثلاث فثلاث لما مر من قبل، ولو عنى بقوله: أنت طالق واحدة، وبقوله: بائن أو البتة أخرى تقع تطليقتان بائنتان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يعتبره طلاقًا لئلا يتغير المشروع، وهو شرعية الوقوع بألفاظ الطلاق.
م: (ومسألة الرجعة ممنوعة) ش: هذا جواب عن قول الشافعي كما إذا قال: أنت طالق على أن لا رجعة لي عليك، يعني لا نسلم أنه لا يقع بائنًا بل يقع واحدة بائنة، وهو معنى قوله م: (فتقع واحدة بائنة إذا لم تكن له نية أو نوى الثنتين) ش: أي الطلقتين م: (أما إذا نوى الثلاث) ش: أي الطلقات الثلاث م: (فثلاث) ش: أي يقع ثلاث طلقات م: (لما مر من قبل) ش: أي في باب إيقاع الثلاث بقوله، ونحن نقول: نية الثلاث إنما صحت لكونها جنسًا آخر.
وقال الكاكي: مسألة الرجعة ممنوعة يعني تقع واحدة بائنة فيها، ولئن سلم فالفرق في قوله أن لا رجعة صرح بنفي الشروع وفي مسألتنا وصف البينونة، وما نفى الرجعة صريحًا، ولكن يلزم منها نفي الرجعة ضمنًا، وكم من شيء يثبت ضمنًا ولا يثبت قصدًا، كذا سمعته من شيخي العلامة.
وذكر الأكمل هذا برمته، قال: كذا قال شيخي العلامة وشيخه هو قوام الدين الكاكي وشيخ قوام الدين هو عبد العزيز بن أحمد بن محمد البخاري أي الإمام البحر في الفقه والأصول شارح البزدوي، وكان وضع كتابًا على " الهداية " بسؤال قوام الدين المذكور إياه حين اجتمع به بترمذ، وتفقه عليه، ووصل إلى كتاب النكاح واخترمته المنية برد الله مضجعه.
م: (ولو عنى بقوله: أنت طالق واحدة، وبقوله: بائن أو البتة أخرى) ش: أي طلقة أخرى م: (تقع تطليقتان بائنتان) ش: وقياس قول الشافعي تطليقتان رجعيتان. وقال في " فتاوى " الولوالجي وقيل: الأول يقع رجعيًا. وقال الأترازي: أقول هذا أصح عندي، لأن قوله: بائن في قوله: أنت طالق بائن، وقع خبرًا بعد خبر للمبتدأ، كما في قولهم: زيد عالم عامل، أي جامع لهذين الوصفين، فثبت لكل واحد منهما موجبه، وموجب الطلاق ثبوت الرجعة، وموجب البائن ثبوت البينونة، ولا معنى لثبوت التطليقتين البائنتين، ولا يلزم من كون الثاني بائنًا كون الأول بائنًا، انتهى.
قلت: هذا كله مبادر من غير تأمل، ولا يخلو عما هو قصر، لأن قوله: خبر بعد خبر لا يصل أن يكون مصححًا لكلامه بل هو يرد كلامه، لأن معناه كأنه قال أنت طالق أنت بائن نعم، كان قوله أنت طالق يقتضي أن يكون رجعيًا ابتداء، إلا أنه جعل بائنًا لعدم الإمكان، لأن الثاني يكون بائنًا لا محالة عندنا فيكون الأول بائنًا أيضًا ضرورة، إذ لا يتصور بقاء الأول رجعيًا إذا صار الثاني بائنًا.(5/346)
لأن هذا الوصف يصلح لابتداء الإيقاع. وكذا إذا قال أنت طالق أفحش الطلاق؛ لأنه إنما يوصف بهذا الوصف باعتبار أثره، وهو البينونة في الحال، فصار كقوله: بائن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأكمل: ومن الناس من ذهب إلى أن الأول يقع رجعيًا بأن أراد ما ذكرناه يعني قوله أن الأول يقع رجعيًا ابتداء، فينقلب بائنًا لوقوع الثاني بائنًا لعدم تصور بقائه رجعيًا، فهذا صحيح ظاهر، وإن أراد بقاؤه رجعيًا فليس بصحيح.
م: (لأن هذا الوصف يصلح لابتداء الإيقاع) ش: أراد بالوصف لفظ بائن والبتة، وأنه يصلح للإيقاع ابتداء، بأن قال أنت بائن، أو أنت طالق البتة، ونوى به الطلاق يصح ويقع، وكذا إذا نوى بلفظ البتة تطليقة أخرى.
وقال الأترازي: وقوع الثنتين في قوله أنت طالق البتة فيه نظر عندي، لأن قوله: البتة ذكر منصوبًا، وهو من حيث العربية لا يصح إذا جعل صفة لمصدر محذوف بأن يراد أنت طالق البتة، والطلقة للمرة الواحدة ولا دلالة فيها على التكرار، وأما إذا لم ينوه فظاهر، كذا إذا نواه، لأن الطلقة مصدر وقع تأكيدًا لما دل عليه قوله طالق، فلا يثبت بها شيء آخر على سبيل الأصالة انتهى.
قلت: هذا أيضًا فيه ما فيه، لأن المصدر المحذوف المؤكد بكسر الكاف لما قبله صفة في نفس الأمر وصف بها لفظ طالق بلفظ الشدة، فلا ينافي أن يكون له معنى زائدًا يقع طلقة أخرى، فافهم.
م: (وكذا) ش: أي وكذا تقع التطليقة البائنة، وهذا معطوف على قوله أنت طالق بائن في الأحكام الأربعة وهو قوله فتقع واحدة بائنة إذا لم تكن له نية أو نوى الثنتين.
ولو نوى الثلاث فثلاث، ولو نوى بقوله أنت طالق واحدة، وبقوله أفحش الطلاق أخرى تقع تطليقتان، وكذا الجواب عن قوله أخبث الطلاق أو أشره أو أشده أو أكبره م: (إذا قال: أنت طالق أفحش الطلاق، لأنه إنما يوصف بهذا الوصف باعتبار أثره) ش: أي أثر الطلاق باعتبار ذاته م: (وهو البينونة في الحال، فصار كقوله: بائن) ش: إنما قلنا لا باعتبار ذاته، لأن ذاته لا توصف بهذه الأوصاف أعنى الفحش، والشر، والشدة والخبث والعظمى والكبر، لأن الطلاق ليس بمحسوس، ولا هذي هيئته، حتى يكون وصفًا لذاته، وغير المحسوس يعرف بأثره، فتكون هذه الأوصاف لأثره. ومن شدة أثره وفحشه وخبثه وكبره وعظمه أن يكون قاطعًا للنكاح في الحال، فصار كأنه بلفظ البائن، لأن أفعل التفضيل لبيان أصل التعارف، وذلك في الواحدة البائنة لأنها أشد حرمة حكمًا وأفحش من الرجعية، وقد يذكر لبيان نهاية التعارف وذلك في الثلاث. فإن نوى الثلاث، فقد نوى محتمل كلامه فصحت، وإن لم تكن له نية يصرف إلى الأدنى، لأنه المتيقن.(5/347)
وكذا إذا قال: أخبث الطلاق أو أسوؤه؛ لما ذكرنا، وكذا إذا قال: طلاق الشيطان، أو طلاق البدعة، لأن الرجعي هو السنة، فيكون طلاق البدعة وطلاق الشيطان بائنا، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله أنت طالق لبدعة أنه لا يكون بائنا إلا بالنية، لأن البدعة قد تكون من حيث الإيقاع في حالة حيض فلا بد من النية. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا قال: أنت طالق للبدعة أو طلاق الشيطان يكون رجعيا؛ لأن هذا الوصف قد يتحقق بالطلاق في حالة الحيض فلا تثبت البينونة بالشك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل أفحش أفعل التفضيل، فيقتضي أن يكون هناك فاحشًا. قلت: هذا الوزن مشترك بين التفضيل وبين الإثبات، لأن طالقًا لا يحتمل طالقان، ولأن مجرد هذا متيقن، هذا في " الفوائد الظهيرية ".
[قال أنت طالق أخبث الطلاق]
م: (وكذا إذا قال: أخبث الطلاق) ش: أي وكذا الجواب إذا قال أنت طالق أخبث الطلاق م: (أو أسوؤه) ش: أو قال طالق أسوأ الطلاق م: (لما ذكرنا) ش: من قوله لأنه إنما يوصف بهذا الوصف باعتبار أثره، وذكر ابن سماعة في نوادره أنه إذا قال أنت طالق أقبح الطلاق، فإن نوى ثلاثًا فثلاث، وإن نوى واحدة فهي واحدة رجعية، عند أبي يوسف، بائنة عند محمد.
وفي " الكافي " للحاكم الشهيد، وإن قال أنت طالق أكثر الطلاق فهي ثلاث لا يدين إذا قال نويت واحدة، وإن قال أنت طالق أكمل الطلاق وأشر الطلاق، فهي واحدة رجعية، وإن قال أنت طالق طول كذا وكذا أو عرض كذا وكذا فهي واحدة بائنة وإن قال أنت طالق خير الطلاق أو أعدله أو أحسنه أو أفضله فهي طالق للسنة في وقت السنة، وإن نوى ثلاثًا فهي ثلاث للسنة.
وقال الطحاوي في " مختصره ": ولو قال لها أنت طالق تطليقة حسنة أو جميلة كانت طالقًا تطليقة يملك فيها الرجعة، كانت حائضًا أو غير حائض، ولم تكف هذه التطليقة للسنة، ثم قال: وروى صاحب الإملاء عن أبي يوسف أنها طالق تطليقة للسنة كما إذا قال أنت طالق أحسن الطلاق.
م: (وكذا إذا قال: طلاق الشيطان أو طلاق البدعة) ش: أي وكذا يقع البائن إذا قال أنت طالق طلاق الشيطان أو طلاق البدعة، أي أو قال أنت طالق طلاق البدعة م: (لأن الرجعي هو السنة فيكون طلاق البدعة وطلاق الشيطان بائنًا، وعن أبي يوسف في قوله أنت طالق للبدعة أنه لا يكون بائنًا إلا بالنية، لأن البدعة قد تكون من حيث الإيقاع في حالة الحيض، فلا بد من النية. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا قال أنت طالق للبدعة أو طلاق الشيطان يكون رجعيًا، لأن هذا الوصف) ش: أي وصف البدعة والشيطان م: (قد يتحقق بالطلاق في حالة الحيض، فلا تثبت البينونة بالشك) ش: هذا الذي ذكره المصنف عن محمد هو رواية هشام عنه.(5/348)
وكذا إذا قال: كالجبل لأن التشبيه به يوجب زيادة لا محالة وذلك بإثبات زيادة الوصف، وكذا إذا قال مثل الجبل لما قلنا. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكون رجعيّا لأن الجبل شيء واحد فكان تشبيها به في توحيده.
ولو قال: لها أنت طالق أشد الطلاق، أو كألف، أو ملء البيت؛ فهي واحدة بائنة، إلا أن ينوي ثلاثا؛ أما الأول: فلأنه وصفه بالشدة، وهو البائن لأنه لا يحتمل الانتقاض والارتفاض أما الرجعي فيحتمله؛ وإنما تصبح نية الثلاث لذكره المصدر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م:) وكذا إذا قال: كالجبل) ش: أي وكذا يكون بائنًا إذا قال أنت طالق كالجبل وهذا قول أبي حنيفة ومحمد م: (لأن التشبيه به) ش: أي بالجبل م: (يوجب زيادة) ش: وهي البينونة، لأنه لا يحتمل الزيادة من حيث العدد، لأنه ليس بذي عدد لكونه واحدًا في الذات، فيحمل على الزيادة التي ترجع إلى الوصف. م: (وكذا إذا قال: مثل الجبل) ش: أي وكذا يكون بائنًا إذا قال أنت طالق مثل الجبل م: (لما قلنا) ش: يريد وسع المسافة به قوله أن التشبيه به يوجب زيادة لا محالة.
م: (وقال أبو يوسف: يكون) ش: أي الطلاق م: (رجعيًا) ش: وبه قال الشافعي وأحمد م: (لأن الجبل شيء واحد فكان تشبيهًا في توحيده) ش: أي توحيد الجبل وهو مزيد عن الوصف والعدد، ويحتمل التشبيه في العظم فلا تقع البينونة بالشك. ولو قال أن طالق كالصخرة أو كالفل فإنه رجعي وبائن عند محمد، ذكره المرغيناني.
وفي " الذخيرة " لو قال أنت طالق مثل التراب أو الأساطير. تقع واحدة رجعية عندهما. وعند أبي حنيفة وزفر تقع واحدة بائنة.
[قال لها أنت طالق أشد الطلاق]
م: (ولو قال لها: أنت طالق أشد الطلاق " أو كألف " أو ملء البيت؛ فهي واحدة بائنة، إلا أن ينوي ثلاثًا) ش: هذه من مسائل " الجامع الصغير " ويقع بهذه الألفاظ طلقة واحدة بائنة نواها أو لم ينو. فلو نوى ثلاثًا فثلاث م: (أما الأول) ش: وهو قوله أنت طالق أشد الطلاق، وفيه البينونة م: (فلأنه وصفه) ش: أي وصف الطلاق م: (بالشدة وهو البائن) م: (لا يحتمل الانتقاض) ش: أي النقض م: (والارتفاض) ش: من الرفض، ولهذا لا يحل له فيه إلى التزوج الجديد.
م: (أما الرجعي) ش: أي الطلاق الرجعي م: (فيحتمله) ش: أي فيحتمل الانتقاض م: (ولهذا) ش: أي في الطلاق الرجعي لأن يراجعها بقول أو فعل ولا يحتاج فيه إلى رضاها، وإنما صح نية الثلاث لذكره المصدر، هذا جواب عما يقال سلمنا أن قوله أنت طالق أشد الطلاق يقتضي الإبانة بواحدة بوصفه الطلاق بالشدة فمن أين تصح نية الثلاث؟ فأجاب بقوله: م: (وإنما تصح نية الثلاث لذكره بالمصدر) ش: وهو اسم جنس يحتمل الثلاث بلا وصف الشدة، وهاهنا أولى. فإن قيل هذا ينبغي أن يتيقن الثلاث بلا نية، لأنه لو قال أنت طالق شديد، يقع البائن وأشد أقوى منه فينبغي أن يصرف إلى الثلاث. قلنا: الجواب عندما ذكرناه عند قوله: أفحش(5/349)
وأما الثاني: فلأنه قد يراد بهذا التشبيه في القوة تارة، وفي العدد أخرى يقال: هو كألف رجل، ويراد به القوة فتصح نية الأمرين، وعند فقدانها يثبت أقلهما. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يقع الثلاث عند عدم النية لأنه عدد يراد به التشبيه في العدد ظاهرا، فصار كما إذا قال طالق كعدد ألف.
وأما الثالث: فلأن الشيء قد يملؤه البيت لعظمة في نفسه، وقد يملؤه لكثرته وأي ذلك نوى صحت نيته، وعند انعدام النية يثبت الأقل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الطلاق وهو أن المراد من أفعل التفضيل هنا مجرد الإثبات لا إثبات التفضيل فلا يجوز حمل مطلق اللفظ مع الاحتمال على الثلاث.
م: (وأما الثاني) ش: وهو قوله كألف م: (فلأنه) ش: أي فلأن الشأن م: (قد يراد بهذا) ش: أي بقوله: كألف م: (التشبيه في القوة تارة وفي العدد أخرى) ش: أي ويراد التشبيه في العدد مرة أخرى م: (يقال: هو كألف رجل) ش: أي فلان كألف رجل، يعني يعد كألف رجل م: (ويراد به القوة) ش: يقال فلان كألف رجل في القوة م: (فتصح نية الأمرين) ش: يعني إذا وسع المسافة نوى الواحدة يقع البائن باعتبار التشبيه في القوة. وإذا نوى الثلاث يقع أيضًا باعتبار التشبيه في العدد م: (وعند فقدانها) ش: أي عند فقدان النية م: (يثبت أقلهما) ش: أي أقل الأمرين وهو الواحد البائن، لأن الأقل متيقن.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يقع الثلاث عن عدم النية لأنه عدد) ش: أي لأن الألف عدد م: (يراد به التشبيه في العدد ظاهرًا) ش: هذه رواية عن محمد وذكرها الولوالجي وغيره م: (فصار) ش: أي فصار الحكم في هذا م: (كما إذا قال: طالق كعدد ألف) ش: وهذا لا خلاف فيه، لأنه نص على العدد. ولو قال أنت طالق واحدة كألف فهي واحدة بائنة، ولا تكون ثلاثًا، لأن الواحدة لا تحتمل العدد فيكون التشبيه لزيادة القوة.
[قال أنت طالق مثل الجبل أوملء البيت]
م: (وأما الثالث) ش: وهو قوله ملء البيت م: (فلأن الشيء قد يملأ البيت لعظمة في نفسه، وقد يملؤه لكثرته، وأي ذلك نوى صحت نيته) ش: فالعظم في الطلاق بالإبانة والكثرة بالثلاث، فأيهما نوى صح م: (وعند انعدام النية يثبت الأقل) ش: وهو الإبانة، لأن الأقل متيقن. وروى الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عن أبي يوسف ومحمد في غير ظاهر الرواية إذا قال أنت طالق مثل الجبل أو ملء البيت أو ملء الكوز، يكون رجعيًا. وفي شرح الأقطع لو قال: أنت طالق تطليقة تملأ الكوز كان بائنًا في قولهم جميعًا، لأنه صفة للطلاق يقتضي زيادة عظم، وليس ذلك إلا بالبينونة.
وفي " الروض " مختصر الرافعي قال: أنت طالق ملء البيت أو البلد أو السماء والأرض أو أعظم من الجبل أو أكثر الطلاق أو أعظمه أو أشده أو أطوله أو أعرضه، أو طلقة كبيرة أو عظيمة يقع واحدة رجعية وتلغو هذه كلها.
وهكذا في " مغني " الحنابلة. وهكذا لو قال: ملء الدنيا يقع واحدة رجعية، كقول الشافعي(5/350)
ثم الأصل عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه متى شبه الطلاق بشيء يقع بائنا أي شيء كان المشبه به، يذكر العظم أو لم يذكر؛ لما مر أن التشبيه يقتضي زيادة وصف، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أن ذكر العظم يكون بائنا وإلا فلا أي شيء كان المشبه به. لأن التشبيه قد يكون في التوحيد على التجريد، أما ذكر العظم فللزيادة لا محالة، وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن كان المشبه به مما يوصف بالعظم عند الناس يقع بائنا وإلا فهو رجعي. وقيل: محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيل مع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبيانه في قوله: مثل رأس الإبرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأقصى الطلاق وأكثره واحدة رجعية وهو المذهب، ويحتمل الثلاث في أقصاه، قال السروجي: هذا الاحتمال هو الحق والمذهب ضعيف جدًا. ولو قال: أنت طالق عدد التراب يقع واحدة عند أبي يوسف، واختاره البغوي وأحمد. وفي جوامع الفقه عن محمد عدد الرمل ثلاث، لأنه ذو عدد، بخلاف التراب روايتان عنه. ولو قال: أنت طالق واحدة مائة مرة لم يقع إلا وحدة قاله المتولي عن الشافعية وهو بعيد جدًا.
وفي المرغيناني قال: أنت طالق كثلاث فهي واحدة بائنة عند أبي يوسف، وثلاث عند محمد كما لو قال كعدد ثلاث. ولو قال كعدد الشمس أو القمر فهي واحدة بائنة عند أبي حنيفة ورجعية عند أبي يوسف، وعن محمد كالنجوم واحدة، وكعدد النجوم ثلاث. وفي المرغيناني وغيره قال: أنت طالق كعدد كل شعرة على جسد إبليس - لعنه الله - يقع واحدة حتى يعلم عدد شعره، أو هل له شعر. وذكر الكرخي: لو قال: أنت طالق عدد شعر رأسي وعدد شعر ظهر كفي، وقد طلقت ثلاثًا، لأن الشعر ذو عدد، وإن لم يكن موجودًا. وإن قال كالثلج فهو بائن.
م: (ثم الأصل عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) ش: أراد بهذا بيان الأصل الذي يبنى عليه أقوال الإمام وصاحبيه وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى م: (أنه) ش: أي أن الرجل م: (متى شبه الطلاق بشيء) ش: من الأشياء م: (يقع الطلاق بائنًا، أي شيء كان المشبه به يذكر العظم أو لم يذكر لما مر) ش: عن قريب م: (أن التشبيه يقتضي زيادة وصف) ش: وزيادة الوصف توجب البينونة.
م: (وعند أبي يوسف أن ذكر العظم يكون بائنًا، وإلا فلا أي شيء كان المشبه به) ش: يعني سواء كان صغيرًا أو كبيرًا م: (لأن التشبيه قد يكون في التوحيد على التجريد) ش: أي من وصف العظم م: (أما ذكر العظم فللزيادة لا محالة) ش: وذلك بالبينونة م: (وعند زفر إن كان المشبه به مما يوصف بالعظم عند الناس يقع بائنًا وإلا فهو رجعي) ش: سواء ذكر العظم أو لم يذكر م: (وقيل محمد مع أبي حنيفة، وقيل محمد مع أبي يوسف) ش: أشار بهذا إلى أن قول محمد مضطرب. وفي " الذخيرة " عند أبي يوسف ومحمد أن ذكر العظم كان بائنًا، وإن كان المشبه به حقيرًا. وإن لم يذكر العظم وإن كان له حد يقع بائنًا وإلا يكون رجعيًا.
م: (وبيانه) ش: أي بيان هذا الخلاف م: (في قوله: مثل رأس الإبرة) ش: أي في قوله أنت(5/351)
مثل عظم رأس الإبرة، ومثل الجبل مثل عظم الجبل. ولو قال: أنت طالق تطليقة شديدة، أو عريضة أو طويلة فهي واحدة بائنة، لأن ما لا يمكن تداركه يشتد عليه وهو البائن، وما يصعب تداركه يقال فيه لهذا الأمر طول وعرض. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقع بها رجعية، لأن هذا الوصف لا يليق به فيلغو
ولو نوى الثلاث في هذه الفصول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
طالق مثل رأس الإبرة، أي في قوله: م: (مثل رأس عظم الإبرة، مثل الجبل) ش: أي في قوله - أنت طالق م: (مثل عظم الجبل) ش: - ففي قوله مثل رأس الإبرة بائن عند أبي حنيفة ومحمد لمكان التشبيه رجعي عند أبي يوسف لأنه لم يذكر العظم، وكذا زفر، لأنه المشبه به مما لا يوصف بالعظم والشدة. وفي قوله: مثل عظم رأس الإبرة، يكون بائنًا عند أبي حنيفة ومحمد للتشبيه، وكذا عند أبي يوسف لذكر العظم.
وعند زفر رجعي، لأن الإبرة لا توصف بالعظم والشدة. وفي قوله: مثل الجبل، بائن عند أبي حنيفة ومحمد للتشبيه، ورجعي عند أبي يوسف لعدم ذكر العظم، وبائن عند زفر لأن الجبل يوصف بالعظم عند الناس، وفي مثل عظم الجبل يكون بائنًا عند الكل للتشبيه عندهما وذكر العظم عند أبي يوسف وكون المشبه به عظيمًا عند زفر، ولو قال مثل السمسم أو مثل حبة الخردل وقع رجعيًّا عن الثلاث وعند أبي حنيفة.
م: (ولو قال: أنت طالق تطليقة شديدة أو عريضة أو طويلة فهي واحدة بائنة) ش: أي فهي طلقة واحدة بائنة وفيه خلاف زفر وقد ذكرناه م: (لأن ما لا يمكن تداركه يشتد عليه) ش: أي على الزوج م: (وهو البائن) .
لأن شدة الشيء وقوته لا يحتمل الاعتراض عليه بالانتقاض، وذلك في الطلاق البائن، وهو معنى قوله: وهو البائن الضمير يرجع إلى كلمة ما في قوله ما لا يمكن م: (وما يصعب تداركه يقال فيه لهذا الأمر طول وعرض) ش: ويقال هذا أمر شديد وطويل وعريض.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أنه يقع بها) ش: أي بهذه الألفاظ م: (رجعية) ش: أي طلقة رجعية م: (لأن هذا الوصف) ش: أي ولو وصف الطلاق بالشدة والطول والعرض م: (لا يليق به) ش: أي بالطلاق، لأن هذه الأوصاف من صفات الأجسام م: (فيلغو) ش: أي يصير ذكره لغوًا فلا يعمل به. وقال الأترازي: وصف الطلاق بالشدة والطول والعرض ليس يمكن للزوم قيام العرض بالعرض، وجوابه أنا لا نسلم أن قيام العرض بالعرض يجوز، لكن نقول للأحكام الشرعية حكم الجواهر، فيجوز حينئذ. أو نقول: سلمنا أنه لا يجوز حقيقة، ولكن لا نسلم أنه لا يجوز مجازًا.
[قوله أنت طالق تطليقة شديدة أو عريضة أو طويلة]
م: (ولو نوى الثلاث) ش: أي الطلقات الثلاث م: (في هذه الفصول) ش: أي في فصل قوله أنت طالق بائن أو البتة أو أنت طالق أفحش الطلاق، وفصل قوله: أخبث الطلاق وأسوؤه،(5/352)
كلها صحت نيته، لتنوع البينونة على ما مر، والواقع بها بائن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وطلاق الشيطان، وطلاق البدعة، وفصل قوله أشد الطلاق، أو كألف أو ملء البيت أو مثل رأس الإبرة أو مثل أذن رأس الإبرة، ومثل الجبل، ومثل عظم الجبل. وفصل قوله أنت طالق تطليقة شديدة أو عريضة، ففي هذه الفصول م: (كلها صحت نيته) ش: وتقع الثلاث إذا نواها عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنها بائن عنده، والبائن على نوعين خفيفة وغليظة، فإذا نوى الثلاث فقد نوى أغلظ النوعين وأعلاهما فصح أعلاهما.
وذكر الصدر الشهيد في شرح " الجامع الصغير " مثل ما ذكر صاحب " الهداية " في صحة نية الثلاث في الفصول كلها، ولكن الإمام الزاهد العتابي، قال في شرحه " للجامع الصغير ": والصحيح أنه لا يصح في أنت طالق تطليقة شديدة أو طويلة أو عريضة، لأنه نص على التطليقة، وإنها تتناول الواحدة، ثم قال هكذا ذكره شمس الأئمة السرخسي.
قال الأترازي: هذا هو الأصح عندي، لأن النية إنما تصح فيما يحتمل اللفظ ذكر ذلك، والباء موصوفة للوحدة فلا يحتمل غير ذلك، فلا تصح نية الثلاث، انتهى. قلت: كون الباء للوحدة لا تنافي نية الثلاث، لأنه وصفها بالشدة والطول والعرض، وصحة نية الثلاث تؤخذ من الوصف.
م: (لتنوع البينونة) ش: أي غليظة وخفيفة م: (على ما مر) ش: أشار به إلى قوله ( ... ) وتقع واحدة بائنة إذا لم يكن له نية أو نوى الثنتين. أما إذا نوى الثلاث فثلاث م: (والواقع بها) ش: أي بهذه الألفاظ المذكورة م: (بائن) ش: لما ذكرنا عند قوله أنت طالق تطليقة شديدة أو عريضة أو طويلة.
فروع: لو قال لامرأته والحجر أو بهيمة إحداكما طالق، أو قال: هذه وهذه طلقت امرأته عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: لا يقع للشك، وإن قال لامرأته ورجل إحداكما طالق، أو هذه لا يقع عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: يقع ولو قال لامرأته وأجنبية إحداكما طالق، أو قال هذه أو هذه لا تطلق زوجته إلا بالنية، وفي " المبسوط " حلف أنه لم ينوها، وعند الشافعي وأحمد يقع على زوجته إلا النية وإن قال أردت الأجنبية قيل في الصحيح على المنصوص ذكر في " الإملاء "، وعند مالك لا يقبل منه، ذكر في " الجواهر ". ولو قال: إحدى امرأتي طالق وليس له إلا امرأة واحدة يقع عليها ذكره الصدر الشهيد في شرح " الجامع الصغير ".(5/353)
فصل في الطلاق قبل الدخول وإذا طلق الرجل امرأته ثلاثا قبل الدخول بها وقعن عليها، لأن الواقع مصدر محذوف لأن معناه طلاقا ثلاثا؛ على ما بيناه، فلم يكن قوله: أنت طالق إيقاعا على حدة فيقعن جملة. فإن فرق الطلاق، وبانت بالأولى ولم تقع الثانية، ولا الثالثة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الطلاق قبل الدخول] [طلق الرجل امرأته ثلاثًا قبل الدخول بها]
م: (فصل في الطلاق قبل الدخول)
ش: أي هذا فصل في الطلاق قبل الدخول على المرأة لما كان وضع النكاح للدخول كان الطلاق قبله من العوارض، والعارض يذكر بعد الأصل وهو الطلاق بعد الدخول.
م: (وإذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا قبل الدخول بها وقعن عليها) ش: عند عامة العلماء، وهو مذهب عمر وعلي وابن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وابن مسعود وأنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وبه قال سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وعكرمة وإبراهيم النخعي وعامر الشعبي وسعيد بن جبير والحكم وابن أبي ليلى والأوزاعي وسفيان الثوري. وقال ابن المنذر: وبه أقول ذكر أبو بكر بن أبي شيبة أنه قول عائشة وأم سلمة وخالد بن محمد ومكحول وحميد بن عبد الرحمن، وكان طاوس وابن الشعثاء وعمرو بن دينار يقولون: من طلق البكر ثلاثًا فهي واحدة. وفي " مصنف " ابن أبي شيبة عن جابر بن زيد وطاوس وعطاء أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها فهي واحدة، وفي " المبسوط " وهو قول الحسن البصري، م: (لأن الواقع مصدر محذوف) ش: وهو الطلاق الذي قام صفة، وهو الثلاث مقامه م: (لأن معناه طلاقًا ثلاثًا؛ على ما بيناه) ش: إشارة إلى ما ذكره في الفصل المتقدم على فصل تشبيه الطلاق بقوله: ولهما أن الوصف متى قرن بالعدد كان الوقوع بذكر العدد إلى آخره م: (فلم يكن قوله: أنت طالق إيقاعًا على حدة فيقعن جملة) ش: يعني إذا كان الواقع مصدرًا محذوفًا لم يكن قوله أنت طالق إيقاعًا على حدة، وإلا زاد عدد الطلاق وهو غير مشروع، فيقعن جملة، وصار الكلام واحدًا ولا يفصل بعضها عن بعض، فإن إيقاع الطلاق لا يتأتى بلفظ أو جزء منه، بخلاف قوله: أنت طلاق وطالق وطالق، حيث انفصلت الثانية والثالثة لأنها كلمات متفرقة، فوقعت الأولى.
م: (فإن فرق الطلاق) ش: بأن يقول أنت طالق طالق طالق على ما يجيء الآن م: (بانت بالأولى) ش: أي باللفظ الأول، وهو قوله: أنت طالق، وتبين لا إلى عدة، لأنها غير مدخولة م: (ولم تقع الثانية ولا الثالثة) ش: لأنه لا يبقى لوقوعها محل، فيلغو كلاهما. وحكي عن الشافعي القديم أنها تطلق ثلاثًا ثلاثًا. وقال ابن أبي هريرة من أصحابه: هذا قول آخر، وبه قال ابن أبي ليلى والأوزاعي والليث بن سعد وربيعة ومالك. وقال أحمد: لو ذكر بالواو تطلق ثلاثًا، وبغير الواو لا تطلق لمذهب العلماء، وهذا بخلاف ما إذا قال لها: أنت طالق طالق وطالق إن دخلت الدار، حيث يقع الثلاث جملة إذا وجد الدخول لوجود المعين في الآخر.(5/354)
وذلك مثل أن يقول: أنت طالق طالق طالق؛ لأن كل وحدة إيقاع على حدة إذا لم يذكر في آخر كلامه ما يغير صدره حتى يتوقف عليه، فتقع الأولى في الحال وتصادفها الثانية وهي مباينة، وكذا إذا قال لها أنت طالق واحدة وواحدة وقعت واحدة؛ لما ذكرنا أنها بانت بالأولى.
ولو قال لها أنت طالق واحدة فماتت قبل قوله واحدة كان باطلا لأنه قرن الوصف بالعدد فكان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو الشرط.
وإذا قدم الشرط فعند أبي حنيفة تقع الواحدة، لأن المعلق بالشرط كالمنجز عند وجود الشرط.
فإن قيل: الجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع، فلو قال لها أنت طالق ثلاثًا يقع الثلاث، فينبغي أن يقع الثلاث أيضًا إذا قال لها أنت طالق وطالق وطالق.
أجيب: بأنه مسلم ولكن إذا وقعت الأولى فلا توقف لعدم المغير في الآخر بانت بها، ولم يبق محل للثانية ولا للثالثة.
فإن قيل: ينبغي أن تقع الثلاث تحقيقًا لمعنى الجمع في الواو، أجيب: بأنه حينئذ تكون الواو للمقاربة ولا دلالة لها عليها لأنها للجمع المطلق.
فإن قيل: يلزم الترتيب على ما قلتم، والواو لم توضع له. أجيب: بالمنع لأنه إنما يلزم إذا كان وقوع الثانية والثالثة متحققًا فلا وقوع ولا ترتيب.
م: (وذلك) ش: أي التفريق م: (مثل أن يقول أنت طالق طالق طالق) ش: ذكر المصنف صورة التفريق بدون حرف الواو، والحكم فيما إذا ذكره بحرف الواو كذلك، ولهذا إذا قال لها: أنت طالق وطالق وطالق تبين بواحدة لا إلى عدة، قاله الأترازي م: (لأن كل واحدة إيقاع على حدة إذا لم يذكر في آخر كلامه ما يغير صدره) ش: أي صدر الكلام كالشرط والاستثناء م: (حتى يتوقف عليه) ش: أي على ما يغير صدره م: (فتقع الأولى) ش: في لفظ أنت طالق. م: (في الحال وتصادفها) ش: أي تصادف الأولى م: (الثانية) ش: أي اللفظة الثانية وهي طالق م: (وهي مباينة) ش: أي والحال أنها مباينة فلا يبقى للثانية محل ولا للثالثة.
م: (وكذا إذا قال) ش: أي وكذا تقع واحدة إذا قال م: (أنت طالق واحدة وواحدة وقعت واحدة لما ذكرنا أنها بانت بالأولى) ش: يعني لما سبقت الأولى في الوقوع صادفتها الثانية وهي مباينة.
[قال لها أنت طالق واحدة فماتت قبل قوله واحدة]
م: (ولو قال لها: أنت طالق واحدة فماتت قبل قوله واحدة كان باطلًا) ش: يعني لا يقع شيء وكذا إذا قال أنت طالق ثنتين فماتت قبل أن يقول: ثنتين، أو قال: أنت طالق ثلاثًا فماتت قبل أن يقول ثلاثًا، أو قال أنت طالق إن شاء الله تعالى فماتت قبل أن يقول إن شاء الله تعالى لم تطلق شيئًا م: (لأنه قرن الوصف) ش: وهو الطلاق م: (بالعدد) ش: وهو واحدة أو ثنتين أو ثلاثة م: (فكان(5/355)
الواقع هو العدد، فإذا ماتت قبل ذكر العدد فات المحل قبل الإيقاع فبطل، وكذا لو قال أنت طالق ثنتين أو ثلاثا لما بينا، وهذه تجانس ما قبلها من حيث المعنى. ولو قال: أنت طالق واحدة قبل واحدة أو بعدها واحدة وقعت واحدة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الواقع هو العدد، فإذا ماتت قبل ذكر العدد) ش: فهو واحدة أو ثنتين أو ثلاث، فكان الواقع هو العدد، فإذا ماتت قبل ذكر العدد م: (فات المحل قبل الإيقاع فبطل) ش: كلامه فلا يقع شيء.
م: (وكذا) ش: أي وكذا يبطل كلامه م: (لو قال: أنت طالق ثنتين أو ثلاثًا) ش: أي أو قال أنت طالق ثلاثًا، فماتت قبل أن يقول ثلاثًا م: (لما بينا) ش: إشارة إلى قوله لأنه قرن الوصف بالعدد فكان الواقع هو العدد م: (وهذه) ش: أي هذه المسائل الثلاثة المذكورة هي قوله أنت طالق واحدة فماتت قبل قوله واحدة، وقوله أنت طالق ثنتين فماتت قبل قوله أنت طالق ثنتين، وقوله أنت طالق ثلاثًا، فماتت قبل أن يقول ثلاثًا م: (تجانس) ش: أي تشاكل وتماثل م: (ما قبلها) ش: أي المسألة التي قبلها م: (من حيث المعنى) ش: وهي ما إذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا قبل الدخول بها.
بيانه أن المعتبر في الوصفين في الإيقاع هو العدد لا الوصف، فكانت هذه المسائل مماثلة للمسألة المتقدمة من حيث المعنى، لا بينهما تفاوتًا في الحكم وهو أن الطلاق واقع في المسألة المتقدمة لأن العدد صادفها وهي منكوحة وهاهنا لم يقع شيء لأن العدد صادفها وهي ميتة ليست بمحل لوقوع الطلاق.
ثم لأصحاب الشافعي فيما إذا ماتت قبل ذكر العدد ثلاثة أوجه:
أحدها: هو اختيار المزني أنه يقع واحدة في المسألة الأولى، وفي قصد الثنتين ثنتين وفي قصد الثلاث ثلاث.
الثاني: أنه يقع واحدة.
والثالث: أنه لا يقع شيء كقولنا. م: (ولو قال: أنت طالق واحدة قبل واحدة أو بعدها واحدة وقعت واحدة) ش: هذه المسألة مذكورة في " الجامع الصغير " والقدوري جميعًا، وعندنا في صورة قبل معتبرًا بكنايته وبعد الكناية يقع واحدة وفي قبل بهاء الكناية وبعد بغير الكناية يقع واحدة كما في قبل بغير الكناية فعنده يقع في الصور الأربع إلا واحدة.
وفي " الروضة " للنووي قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة قبل طلقة أو بعدها طلقة، بانت بالأولى. وإن قال بعد طلقة أو قبلها طلقة ففيه ثلاثة أوجه، أصحها يقع واحدة، والثاني لا يقع شيء، والثالثة يقع ثنتان ويلغو قوله قبلها. وإن قال أنت طالق واحدة مع واحدة أو معها واحدة فوجهان، أصحهما وقع الثنتين، والثاني واحدة.
وإن قال: أنت طالق طلقة تحت طلقة أو تحتها طلقة أو فوق طلقة أو فوقها طلقة فثنتان، وفيه(5/356)
والأصل أنه متى ذكر شيئين أدخل بينهما حرف الظرف إن قرنها بهاء الكتابة كان صفة للمذكور آخر؛ كقوله: جاءني زيد قبله عمرو، وإن لم يقرنها بهاء الكناية كان صفة للمذكور أولا كقوله جاءني زيد قبل عمرو.
وإيقاع الطلاق في الماضي إيقاع في الحال؛ لأن الإسناد ليس في وسعه، فالقبلية في قوله أنت طالق واحدة قبل واحدة صفة للأولى، فتبين بالأولى فلا تقع الثانية، والبعدية في قوله بعدها واحدة صفة للأخيرة فحصلت الإبانة بالأولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجه أنه طلقة كما في الإقرار فإنه لا يلزمه إلا درهم واختاره ابن كج والحناطي.
وقال إمام الحرمين والغزالي حكمه حكم مع، وفي كلام المتولي ما يقتضي أنه لا يقع في غير المدخول إلا واحدة.
وإن قال: أنت طالق طلقة قبلها طلقة أو بعدها طلقة وذلك قبل الدخول فوجهان:
أحدهما: يقع واحدة.
والثاني: لا يقع شيء. وفي " المغنى " يقع واحدة، وهو ظاهر قول الشافعي. وقال السروجي: هو أحد قولي الشافعي ولا قول له فيه. وقال أبو بكر من الحنابلة يقع ثنتان كقول أصحابنا ويلغو قوله وبعدها. وفي المدخول بها يقع الثلاث، وفي " الجواهر " قال: أنت طالق طلقة مع طلقة أو معها طلقة أو فوقها طلقة أو تحتها طلقة وقعت طلقتان.
م: (والأصل) ش: أي في المسائل المذكورة م: (أنه) ش: أي أن الرجل م: (متى ذكر شيئين أدخل بينهما حرف الظرف) ش: وهو قبل وبعد م: (إن قرنها بهاء الكناية كان) ش: أي الظرف م: (صفة للمذكور آخرًا كقوله جاءني زيد قبله عمرو) ش: وتكون القبلية صفة لزيد.
وليس المراد بالصفة مصطلح النحاة، بل المراد الصفة المعنوية كيف كانت م: (وإن لم يقرنها بهاء الكتابة كان صفة للمذكور أولًا كقوله: جاءني زيد قبل عمرو) ش: فتكون القبلية صفة لزيد، وهذا الذي ذكره هو أحد الفصلين اللذين بنى عليهما الفصول الثلاثة، وهي قبل وبعد وكلمة تا والأصل الثاني هو قوله:
[قوله أنت طالق واحدة بعدها واحدة]
م: (وإيقاع الطلاق في الماضي إيقاع في الحال، لأن الإسناد ليس في وسعه) ش: لأن الطلاق وضع لرفع الاستباحة، وما مضى من الاستباحة لا يمكن رفعه، فيقع في الحال، لأنه يملكه فيثبت ما أمكن صونًا لكلامه عن الإلغاء م: (فالقبلية في قوله أنت طالق واحدة قبل واحدة صفة للأولى) ش: هذا تفريع الأصل الأول، ولهذا ذكره بالفاء وأراد بالأولى لفظة واحدة الأولى م: (فتبين بالأولى) ش: أي فتبين المرأة بالواحدة الأولى م: (فلا تقع الثانية) ش: لعدم بقاء المحل لوقوعها.
م: (والبعدية في قوله بعدها واحدة) ش: أي قوله أنت طالق واحدة بعدها واحدة م: (صفة للأخيرة) ش: أي صفة للواحدة الأخيرة، وهي الثانية م: (فحصلت الإبانة بالأولى) ش: أي بالواحدة(5/357)
ولو قال أنت طالق واحد قبلها واحدة تقع ثنتان لأن القبلية صفة للثانية لاتصالها بحرف الكناية، فاقتضى إيقاعها في الماضي إيقاع الأولى في الحال، في غير أن الإيقاع في الماضي إيقاع في الحال أيضا، فيقترنان فيقعان جميعا. كذا إذا قال: أنت طالق واحدة بعد واحدة يقع ثنتان؛ لأن البعدية صفة للأولى، فاقتضى إيقاع الواحدة في الحال، وإيقاع الأخرى قبل هذه فتقترنان. ولو قال أنت طالق واحدة مع واحدة أو معها واحدة أنه تقع ثنتان، لأن كلمة "مع " للقران. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله معها واحدة أنه تقع واحدة، لأن الكناية تقتضي سبق المكني عنه لا محالة. وفي المدخول بها يقع ثنتان في الوجوه كلها لقيام المحلية بعد وقوع الأولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأولى لما ذكرنا.
م: (ولو قال أنت طالق واحدة قبلها واحدة تقع ثنتان) ش: أي طلقتان م: (لأن القبلية صفة للثانية) ش: أي للواحدة الثانية م: (لاتصالها بحرف الكناية فاقتضى إيقاعها في الماضي إيقاع الأولى في الحال أيضًا فيقترنان) ش: أي الإيقاعان يقترنان في الوقوع م: (فيقعان جميعًا، وكذا إذا قال: أنت طالق واحدة بعد واحدة) ش: أي وكذا م: (يقع ثنتان لأن البعدية صفة للأولى) ش: أي للواحدة الأولى م: (فاقتضى إيقاع الواحدة في الحال وإيقاع الأخرى قبل هذه فيقترنان) ش: في الوقوع.
م: (ولو قال: أنت طالق واحدة مع واحدة أو معها واحدة) ش: أي أو قال أنت طالق واحدة معها واحدة م: (تقع ثنتان) ش: أي طلقتان، وهذا الفصل الثالث من الفصول الثلاثة، وهي قبل وبعد ومع.
ولما ذكر الفصلين الأولين وهما القبلية والبعدية ذكر الفصل الثالث، وهو فصل كلمة مع م: (لأن كلمة " مع " للقران) ش: أي للمقارنة فتتوقف الأولى على الثانية تحقيقًا لمراده فوقعتا معًا.
م: (وعن أبي يوسف في قوله معها واحدة أنه تقع واحدة، لأن الكناية تقتضي سبق المكني عنه لا محالة) ش: فيقتضي أن لا يقع السابق فلا يقع ثنتان. وعلل ابن قدامة له أن الطلقة إذا وقعت لا يمكن أن يقع معها غيرها، والتعليل الصحيح هو الأول، وبقول أبي يوسف قال الشافعي في وجه، وهو اختيار المزني م: (وفي المدخول بها تقع ثنتان في الوجوه كلها) ش: أي في قوله قبل واحدة أو قبلها واحدة وبعد واحدة أو بعدها واحدة أو مع واحدة أو معها واحدة م: (لقيام المحلية بعد وقوع الأولى) ش: لأنها في العدة وهي محل الإيقاع.
وقال الكاكي: قبل هذا الجواب مشكل في وقوله - أنت طالق واحدة قبل واحدة، فإن كون الشيء قبل غيره لا يقتضي وجود ذلك الغير، ثم قال وجوابه مذكور في أصول " الجامع الكبير "، انتهى.
قلت: هذا تعليق فيه تسويف، وجوابه أن اللفظ أشعر بالوقوع وهو ظاهر فيه، والعمل(5/358)
ولو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة، وواحدة فدخلت الدار وقعت عليها واحدة، عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: تقع ثنتان. ولو قال لها أنت طالق واحدة وواحدة إن دخلت الدار فدخلت طلقت ثنتين بالاتفاق. لهما أن حرف الواو للجمع المطلق فيقعن جملة كما إذا نص على الثنتين وأخر الشرط. وله أن الجمع المطلق يحتمل القران والترتيب، فعلى اعتبار الأول تقع ثنتان، وعلى اعتبار الثاني لا يقع إلا واحدة، كما إذا أنجز بهذه اللفظة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالظاهر واجب كما لو قال أنت طالق، فإن الطلاق الثاني يقع أيضًا كالأول، وإن احتمل الخير والتأكيد لكونه غالبًا في الإنشاء ظاهرًا فيه.
[قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة وواحدة]
م: (ولو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة وواحدة، فدخلت الدار؛ وقعت عليها واحدة عند أبي حنيفة) ش: وبه قال الشافعي في وجه.
وقال أبو نصر من أصحابه: وهو أقيس م: (وقالا يقع ثنتان) ش: وبه قال الشافعي في وجه، وهو اختيار القاضي أبي الطيب، وهو قول مالك وأحمد وربيعة والليث بن سعد وابن أبي ليلى؛ لأن حرف الجمع كلفظ الجمع عندهم.
م: (ولو قال لها أنت طالق واحدة وواحدة إن دخلت الدار، فدخلت الدار طلقت ثنتين بالاتفاق) ش: هذه من مسائل القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وفيها أخر الشرط فوقعت طلقتان، لأن صدر الكلام يتوقف على آخره إذا كان في آخره ما يغير موجبه فوجد الشرط فوقع جميع ذلك بخلاف المسألة الأولى التي فيها قدم الشرط حيث يقع واحدة، لأن المعلق بالشرط بالمنجز عند وجوده، فلما طلقت واحدة لغت الثالثة، لأنها صادفتها وهي أجنبية، وإن كانت المرأة مدخولًا بها وقع الجميع بلا خلاف، قدم الشرط أو أخره؛ لأن الثانية صادفتها وهي في العدة.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن حرف الواو لجمع المطلق فيقعن جملة) ش: كلاهما به بغير جماعة النساء على إسناد الفعل إلى المطلقات، وهي غير مذكورة أي المطلقات جملة، وكان ينبغي أن يقول فيتعلقان أو يقعان بالتثنية، لأن الواحدة ذكرت مرتين لا ثلاث مرات كما إذا نص على الثلاث كان ينبغي أن يقول هنا أيضًا م: (كما إذا نص على الثنتين) ش: على ما لا يخفى م: (وأخر الشرط) ش: أي كما لو أخر الشرط كما في قوله أنت طالق واحدة وواحدة إن دخلت الدار حيث يقع ثنتان كما مر.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (أن الجمع المطلق يحتمل القران والترتيب) ش: لأن تحققه في الخارج لا يمكن إلا بأحد الوجهين م: (فعلى اعتبار الأول) ش: أي على اعتبار القران م: (يقع ثنتان وعلى اعتبار الثاني) ش: أي على اعتبار الترتيب م: (لا يقع إلا واحدة) ش: لكونه غير المدخول بها فلا يقع على ما زاد على الواحدة بالشك م: (كما إذا أنجز بهذه اللفظة) ش: بأن قال(5/359)
فلا يقع الزائد على الواحدة بالشك، بخلاف ما إذا أخر الشرط لأنه يغير صدر الكلام، فيتوقف الأول عليه فيقعن جملة، ولا مغير فيما إذا قدم الشرط فلم يتوقف، ولو عطف بحرف الفاء فهو على هذا الخلاف فيما ذكر الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وذكر الفقيه أبو الليث أنه يقع واحدة بالاتفاق، لأن الفاء للتعقيب وهو الأصح.
وأما الضرب الثاني وهو الكنايات لا يقع بها الطلاق إلا بالنية أو بدلالة الحال؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أنت طالق واحدة واحدة حيث لا يقع إلا واحدة بالاتفاق لعدم المحلية للثانية م: (فلا يقع الزائد على الواحد بالشك، بخلاف ما إذا أخر الشرط لأنه) ش: أي لأن الشرط م: (يغير صدر الكلام فيتوقف الأول عليه) ش: أول الكلام على الشرط م: (فيقعن جملة) ش: كان ينبغي أن يقول يقعان جملة م: (ولا مغير فيما إذا قدم الشرط فلم يتوقف) ش: فيقع على الترتيب فتبين بالأولى ولا تقع الثانية لعدم المحلية.
م: (ولو عطف بحرف الفاء) ش: بأن قال: أنت طالق واحدة فواحدة إن دخلت الدار م: (فهو على هذا الخلاف) ش: يعني عند أبي حنيفة ثنتان، وعندهما واحدة م: (فيما ذكره الكرخي) ش: فإن جعل العطف بالفاء والواو سواء.
وقال: إن حرف العطف يجعلها كلامًا واحدًا فتعلقتا كما في صورة الواو سواء قدم الشرط أو أخره عندهما خلافًا له. وفي " المبسوط ": الطحاوي مكان الكرخي.
م: (وذكر الفقيه أبو الليث أنه يقع واحدة بالاتفاق، لأن الفاء للتعقيب) ش: فتقع الأولى ولا محل للثانية م: (وهو الأصح) ش: أي الاتفاق أصح؛ لأن الفاء للعطف على التعقيب لغة لا مطلق العطف، فيقتضي التعليق على التعقيب فينزمن كما علقت بالأولى تبين، فلا تقع الثانية، كذا في المبسوط، وفيه لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق في المدخول بها تعلقت الأولى ووقعت الثانية، لغت الثالثة عند أبي حنيفة، ولو أخرت الشرط وقعت الأولى والثانية في الحال تعلقت الثالثة في المدخولة وغير المدخولة يقع واحدة في الحال، وبلغو ما سوى ذلك عنده وعندهما، وللشافعي ومالك وأحمد يتعلق الثالث بالشرط سواء قدم أو أخر في المدخولة وغيرها، وعند وجود الشرط إن كانت مدخولة يقع الثلاث وإلا تطلق واحدة.
[وقوع الطلاق بالكناية]
م: (وأما الضرب الثاني وهو الكنايات) ش: هذا عطف على ما ذكر بقوله فالصريح مثل قوله أنت طالق في أول باب إيقاع الطلاق؛ لأنه قسم الطلاق ثمة إلى صريح وكناية، وقد فرغ من بيان الصريح، والآن شرع في بيان الكتابة.
والصريح ما هو المشكوف المراد، والكناية ما هو مستتر المراد من قولهم كنيت أو كنوت الشيء إذا سترته م: (لا يقع بها) ش: أي الكناية م: (الطلاق إلا بالنية أو بدلالة الحال) ش: إذ هي دليل على المراد كما في البيع بالدراهم المطلقة يصرف إلى غالب نقد البلد، وكذا لو أطلق النية في الحج(5/360)
لأنها غير موضوعة للطلاق، بل تحتمل الطلاق وغيرها، فلا بد من التعيين أو دلالته. قال: وهي على ضربين: منها ثلاثة ألفاظ يقع بها الطلاق الرجعي ولا تقع بها إلا واحدة، وهي قوله: اعتدّي واستبرئي رحمك، أنت واحدة. أما الأولى: فلأنها تحتمل الاعتداد عن النكاح، وتحتمل اعتداد نعم الله تعالى. فإن نوى الأولى تعين بنيته فيقتضي طلاقا سابقا، والطلاق يعقب الرجعة، وأما الثانية فلأنها تستعمل بمعنى الاعتداد لأنه صريح بما هو المقصود منه فكان بمنزلته وتحتمل الاستبراء لتطليقته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يصرف إلى الفرض بدلالة الحال، ولهذا جعل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - دلالة الحال مقام النية في جميع الكنايات في حالة الغضب وغيره بلا نية من الزوج.
وقال الشافعي: لا يقع الطلاق بشيء من الكنايات في حالة الغضب وغيره بلا نية من الزوج ومن المرأة، وعندنا يكفي نية الزوج، لاحتمال إرادة غير الطلاق فيها في جميع الأمور. وقال مالك: يقع الطلاق بلا نية في الكنايات الظاهرة، كقوله: بائن، بتة، حرام. فإذا قال ما نويت الطلاق لا يصدق؛ لأن ظاهرها في الطلاق.
م: (لأنها) ش: أي لأن الكنايات م: (غير موضوعة للطلاق بل تحتمل الطلاق وغيرها فلا بد من التعيين) ش: بالنية م: (أو دلالة) ش: أي أو دلالة معنى التعيين، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الحال؛ لأن الحال مما يذكر ويؤنث ودلالة الحال بأن تكون في مذكرة الطلاق، وكان اللفظ لا يصلح ردًا.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: م: (وهي على ضربين) ش: أي نوعين؛ وأراد بهما الرجعي والبائن، أجمل أولًا ثم فصل ذلك بقوله م: (منها) ش: أي من الكنايات م: (ثلاثة ألفاظ يقع بها الطلاق الرجعي ولا يقع بها إلى واحدة، وهي قوله: اعتدى، واستبرئي رحمك، وأنت واحدة أما الأولى) ش: وهي لفظة اعتدى م: (فلأنها تحتمل الاعتداد عن النكاح، وتحتمل اعتداد نعم الله تعالى، فإذا نوى الأولى تعين بنيته) ش: أي نية الأولى، ويجوز أن يقال بنية الزوج م: (فيقتضي طلاقًا سابقًا، والطلاق يعقب الرجعة) .
م: (وأما الثانية) ش: هي لفظة استبرئي رحمك م: (فلأنها تستعمل بمعنى الاعتداد؛ لأنه صريح بما هو المقصود منه) ش: أي من الاعتداد م: (فكان بمنزلته) ش: أي بمنزلة الاعتداد، أي في حق إثبات الرجعة لا في حق احتمال الاعتداد بنعم الله تعالى م: (وتحتمل الاستبراء لتطليقته) ش: والاستبراء طلب براءة الرحم من الولد، كذا في " المغرب "، وإنما يحتاج إلى النية؛ لأن قوله استبرئي رحمك يحتمل أن يكون معناه اطلبي براءة رحمك حتى تعلمي أنها فارغة عن الولد أم لا، فلو كانت فارغة أطلقك، وإلا فلا، فلو كانت نيته هكذا لا يقع الطلاق، ولو كانت نيته الاعتداد عن النكاح يقع الطلاق سابقًا كما في قوله اعتدى، فلذلك احتاج إلى النية.(5/361)
وأما الثالثة فلأنها تحتمل أن تكون نعتا لمصدر محذوف معناه تطليقة واحدة، فإذا نواه جعل كأنه قاله. والطلاق يعقب الرجعة، وتحتمل غيره وهو أن يكون واحدة عنده أو عند قومها. ولما احتملت هذه الألفاظ الطلاق وغيره يحتاج فيه إلى النية ولا يقع بها إلا واحدة؛ لأن: قوله أنت طالق منها مقتضى أو مضمر. ولو كان مظهرا لا تقع بها إلا واحدة، فإذا نوى مضمرا أولى، وفي قوله " واحدة " وإن صار المصدر مذكورا، لكن التنصيص على الواحدة ينافي نية الثلاث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وأما الثالثة) ش: أي لفظ أنت واحدة م: (فلأنها تحتمل أن تكون نعتًا لمصدر محذوف، معناه تطليقة واحدة، فإذا نواه جعل كأنه قاله) ش: أي قال مصدرًا محذوفًا م: (والطلاق يعقب الرجعة) ش: أراد بهذا أنه طلاق رجعي، والطلاق من الرجعي فيه الرجعة م: (ويحتمل غيره) ش: أي غير ما ذكر م: (وهو أن يكون واحدة عنده) ش: أراد بها اعتدِّي واستبرئي رحمك وأنت واحدة م: (الطلاق وغيره يحتاج فيه إلى النية) ش: لأجل التمييز م: (ولا يقع بها إلا واحدة؛ لأن قوله: أنت طالق منها مقتضى) ش: في قوله اعتدي واستبرئي رحمك م: (أو مضمر) ش: في قوله أنت واحدة كان تقديره أنت طالق طلقة واحدة، وعند الشافعي لا يقع شيء بقوله أنت واحدة وإن نوى، لأنه نعت المرأة وليس فيه معنى احتمال الطلاق أصلًا.
قلنا: إذا نوى يقع؛ لأنه أمكن حمل كلام العاقل على الفائدة فيحمل عليه. وعند زفر يقع بائنًا بقوله أنت واحدة كما في سائر الكنايات.
وبعض المشايخ جعل الطلاق في اعتدي بعد الدخول بالاقتضاء، وقبله بطريق الاستعارة المحضة.
فإن قبل: قلت: الأمر بالاعتداد إنما يصح بعد وقوع الطلاق، فكيف يكون قبله؟
قلت: قوله اعتدي قبل الدخول جعل مستعارًا عن الطلاق، لأن الطلاق سبب لوجوب العدة على ما هو الأصل، إذ الطلاق قبل الدخول إنما وقع لعارض أن النكاح لم يوضع لهذا والعوارض غير داخلة ي القواعد، فيكون الطلاق سببًا لوجوب العدة، فاستعير الحكم لسببه.
م: (ولو كان مظهرًا) ش: يعني لو كان الطلاق وقال أنت طالق م: (لا تقع بها) ش: يعني بلفظة أنت طالق م: (إلا واحدة) ش: أي إلا طلقة واحدة م: (فإذا نوى) ش: أي الطلاق م: (مضمرًا) ش: في قوله أنت واحدة م: (أولى) ش: أن لا يقع إلا واحدة، وذلك أن الأصل في الكلام الصريح لكونه أولى على المراد، بخلاف المضمر لأن فيه قصورًا، ولهذا لا يثبت حكمه إلا بالنية.
م: (وفي قوله واحدة وإن صار المصدر مذكورًا) ش: هذا سؤال بيانه أن يقال لما المصدر مذكورًا ينبغي أن يصح نية الثلاث، فأجاب بقوله م: (لكن التنصيص على الواحدة ينافي نية الثلاث) ش: بيانه أن نية الثلاث لا تصح، وقوله أنت واحدة وإن ذكر المصدر بأن قيل أنت طالق واحدة؛(5/362)