والإضافة إلى الفطر باعتبار أنه وقته، ولهذا تتعدد بتعدد الرأس مع اتحاد اليوم والأصل في الوجوب رأسه وهو يمونه ويلي عليه فيلحق به ما هو في معناه كأولاده الصغار، لأنه يمونهم ويلي عليهم، وممالكه لقيام المؤنة والولاية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال القرافي في " الذخيرة ": وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبر الولاية التامة، قال: ووصف الولاية طردا وعكسا، لأن المجنون والفاسق لا ولاية لهما مع وجوبها في مالها، والحاكم له ولاية ولا وجوب عليه، انتهى.
قال السروجي: نقله خطأ وغلط، بل السبب عندنا الولاية التامة والمؤنة التامة، فالحاكم لا مؤنة عليه فلم يوجد المجموع في حقه ولا في حق المجنون المؤنة، وكذا ولاية الأب ولايته للعجز عن النظر لنفسه ومذهبه فاسد، واعتبار النفقة وحدها باطل طردا وعكسا، إلا أن العبد الموصى به لإنسان وخدمته لآخر يجب صدقة فطره على صاحب الرقبة على المذهب عندنا، ونفقته على صاحب الخدمة، وعبده الكافر وزوجته النصرانية واليهودية نفقتهم عليه، ولا تجب عليه صدقة الفطر عنهم، وكذا الأجير بنفقته تجب عليه نفقته ولا تجب صدقته عليه، وتجب صدقة عبده الهارب ومكاتبه عليه عنده ولا تجب نفقته عليه فبطل قوله.
م: (والإضافة إلى الفطر باعتبار أنه وقته) ش: هذا الجواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: لو كانت الأمارة أمارة السببية لكان الفطر سببا لإضافتها إليه، فقال: صدقة الفطر وليس كذلك عندكم.
فأجاب بقوله: والإضافة، أي إضافة الصدقة إلى الفطر باعتبار أنه وقته أي وقت الوجوب فكانت إضافة مجازية م: (وهذا يتعدد بتعدد الرأس مع اتحاد اليوم) ش: أي لأجل تعدد الصدقة بتعدد الرأس إن لم يتعدد الفطر، فعلم أن الرأس هو السبب في اليوم.
فإن قيل: يتكرر بتكرر الوقت في السنة الثانية والثالثة وهلم جرا مع اتحاد الرأس، ولو كان الرأس سببا لكان الوجوب متكررا مع اتحاده.
أجيب: بأن الرأس إنما جعل سببا بوصف المؤنة، وهي تتكرر بمضي الزمان، فصار الرأس باعتبار تكرر وصفه، كالتكرر بنفسه حكما، فكان السبب وهو التكرر حكما.
م: (والأصل في الوجوب) ش: أي في وجوب صدق الفطر م: (رأسه) ش: أي رأس الذي وجب عليه م: (وهو يمونه، ويلي عليه، فيلحق به ما هو في معناه) ش: أي في المؤنة، والولاية م: (كأولاده الصغار، لأنه يمونهم، ويلي عليهم) ش: أي يتولى أمورهم م: (ومماليكه) ش: بالجر عطفا على قوله: من أولاده الصغار م: (لقيام المؤنة، والولاية) ش: أي في المماليك.(3/486)
وهذا إذا كانوا للخدمة، ولا مال للصغار، فإن كان لهم مال تؤدى من مالهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الشرع أجراه مجرى المؤنة فأشبه النفقة،
ولا يؤدي عن زوجته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أي الذي ذكرناه من الوجوب م: (إذا كانوا) ش: أي الماليك م: (للخدمة) ش: لأنهم إذا كانوا للتجارة تجب عليه الزكاة م: (ولا مال للصغار) ش: أي هذا الذي ذكرنا من وجوب صدقة الفطر عن أولاده الصغار حال كونهم لا مال لهم.
م: (فإن كان لهم مال تؤدى من مالهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله-) ش: يخرجها عنهم أبوهم أو وصى أبيهم أو وصى أو جدهم أو وصى وصية أو وصى نصبه القاضي، ومثله في الأضحية ذكره الأسبيجابي، ولا تجب على الوصي باتفاق الروايات، والمجنون على هذا الخلاف م: (خلافا لمحمد) ش: فعنده لا يجب عليه شيء وبه قال زفر والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وابن المنذر، والظاهرية، لأن الصدقة عبادة فلا تجب على الصغير.
ولو أدى من مال الصغير ضمن، لأنها زكاة في الشريعة كزكاة المال، فلا تجب على الصغير م: (لأن الشرع أجراه) ش: أي أجرى وجوب صدقة الفطر م: (مجرى المؤنة) ش: لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أدوا عمن تمونون» م: (فأشبه النفقة) ش: حيث تلزم الأب إذا كان الصغير لا مال له، فإذا كان له مال يلزمه في ماله.
م: (ولا يؤدي) ش: أي صدقة الفطر م: (عن زوجته) ش: وبه قال الثوري، والظاهرية، وابن المنذر، وابن سيرين - رَحِمَهُ اللَّهُ - من المالكية، وخالفا مالكا فيه. وقال مالك، وأحمد، والشافعي، والليث، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: تجب على الزوج، وكذا عن خادمها.
وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم قاطبة على أن المرأة تجب فطرتها على نفسها قبل أن تنكح، وثبت أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «صدقة الفطر على كل ذكر وأنثى» ، ولم يصح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يخالف هذا الخبر، وليس فيه إجماع يتبع، فلا يجوز إسقاطها عنها، وأصحابنا على غيرها بغير دليل.
وقال ابن حزم: في هذا عجب عجيب وهو أو الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يقول بالمرسل، ثم أخذ هنا بأمر مرسل في العلم، وهو رواية إبراهيم بن يحيى الكذاب عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صدقة الفطر على كل حر وعبد ذكر وأنثى ممن تمونون» .
وأجاب الأترازي عن هذا بقوله: معنى الخبر -إن صح- يمونون الولاية، بدليل أن الفطرة(3/487)
لقصور الولاية والمؤنة فإنه لا يليها في غير حقوق النكاح، ولا يمونها في غير الرواتب كالمداواة ولا عن أولاده الكبار وإن كانوا في عياله لانعدام الولاية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا تلزمه عن أخيه، وذوي قرابته، والأجانب إذا أسابهم م: (لقصور الولاية والمؤنة فإنه) ش: أي فإن الزوج م: (لا يليها) ش: أي لا يلي زوجته م: (في غير حقوق النكاح) ش: يعني ولايته عليها مقصودة غير شاملة مقيدة بالنكاح.
م: (ولا يمونها) ش: أي ولا تلزمه مؤنتها م: (في غير الرواتب) ش: من النفقة والكسوة والسكنى، والرواتب جمع راتبة أي ثابتة أي من رتب إذا ثبت م: (كالمداواة) ش: إذا مرضت فإنها لا تلزمه كغير الرواتب م: (ولا عن أولاده الكبار) ش: أي لا تجب عليه عن أولاده الكبار، لأنه لا يستحق عليهم ولايته فصار كالأجانب م: (وإن كانوا في عياله لانعدام الولاية) ش: واصل بما قبله بأن كانوا فقراء زمنا، والعيال جمع عيل كجياد جمع جيد، وفي " المجمل " عال الرجل عياله، إذا مانهم، وفي " الفائق ": هو من عال يعول، إذا احتاج، وفي " المحيط ": إذا كان الأب فقيرا مجنونا تجب على الابن الولاية والمؤنة، ولا تجب على حفدته الصغار إن كانوا في عياله، ذكره في " التحفة ".
وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنها تجب عليه، وهو قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وفي " الينابيع ": على الأب إذا كانوا فقراء. وفي " الحلية " روايتان عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رواية الحسن تجب، وفي ظاهر الرواية لا تجب، وأجمعوا على أنه لا تجب على الأب فطرة عبيدهم.
وفي " المجرد " عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تجب على الأب صدقة فطر ولده الكبير الذي أدرك، معناها، وإن كان عاقلا ثم جن لا يجب. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو جن في صغره فلم يزل مجنونا حتى ولد له لم تجب عليه صدقة الفطر عن ولده، وعن جن جنونا مطبقا في حال صغره فهو بمنزلة الصبي تجب على أبيه، ولو كان له أبوان تجب على كل واحد منهما صدقة كاملة عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وحكى الزعفراني في قوله: في " الأسبيجابي " قول أبي حنيفة مع أبي يوسف، وعند محمد عليهما صدقة واحدة، وإن مات أحدهما فهو ابن الثاني منهما في ميراثه وصدقته لزوال المزاحمة.
وفي " التحفة ": لا تجب على الغني صدقة إخوته الصغار الفقراء. وفي رواية الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - تجب على الحمل عند عدم الأب، وإن كان الأب فقيرا لا تجب عليه باتفاق الروايات، وتجب عليه نفقته ولا تجب على الجنين عند الجمهور، واستحبه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولم يوجبه.
وفي رواية أوجبه، وهو مذهب داود، وأصحابه، وروي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه(3/488)
ولو أدى عنهم أو عن زوجته بغير أمرهم أجزأهم استحسانا لثبوت الإذن عادة ولا يخرج عن مكاتبه لعدم الولاية ولا المكاتب عن نفسه لفقره،
وفي المدبر وأم الولد ولاية المولى ثابتة فيخرج عنهما ولا يخرج عن مماليكه للتجارة خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن عنده وجوبها على العبد، ووجوب الزكاة على المولى فلا تنافي، وعندنا وجوبها على المولى بسببه كالزكاة فيؤدي إلى الثنى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان يعطي صدقة رمضان عن الخيل، وقال أبو قلابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كانوا يعطون حتى عن الخيل، وفي " الوتري ": لا تجب عن فرسه، ولا عن غيره من سائر الحيوانات، [ولا] عن الرقيق، وما روي عن عثمان وغيره، محمول على التطوع.
م: (ولو أدى عنهم) ش: أي عن أولاده الكبار م: (أو عن زوجته) ش: أي أو أدى عن زوجته م: (بغير أمرهم أجزأ استحسان لثبوت الإذن عادة) ش: والقياس أن لا يصح كما إذا أدى الزكاة بغير إذنها، وفي العادة أن الزوج هو الذي يؤدي عنها، وكان الإذن ثابتا عادة، بخلاف الزكاة، لأنها عبادة محضة لا تصح بدون الإذن صريحا، والاستحسان أربعة أنواع، ما ثبت بالأمر كالسلم، وبالإجماع [.....] وبالضروة كتطهير الحياض والآبار والأواني، وبالقياس الخفي وهو كثير النظر في الفقه، كما إذا اختلفا في الثمن قبل قبض المبيع لا يجب والثمن على البائع لأنه المدعي لا المنكر، ويجب استحسانا لأنه ينكر وجوب التسليم بما ادعاه المشتري من الثمن وهنا المراد النوع الثاني لا يجوز عندنا وعند الشافعي.
م: (ولا يخرج عن مكاتبة لعدم الولاية) ش: وفي " التحفة ": المكاتب والمدبر والمستثنى لا تجب عليه صدقة فطرهم لأنه لا تجب في نفقتهم ولا يجب عليهم أيضا لأنهم لا ملك لهم م: (ولا المكاتب عن نفسه لفقره) ش: أي ولا يخرج المكاتب صدقة الفطر عن نفسه لأنه فقير، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الجديد وأحمد. ويقال في القديم: ثم يؤدي المولى عنه وهو قول عطاء.
م: (وفي المدبر وأم الولد ولاية المولى ثابتة) ش: لأنها لا تنعدم بالتدبير والاسيتلاد، وإنما يختل بالمالية ولا عبرة به ها هنا، فإن كان كذلك م: (فيخرج عنهما) ش: بضم الياء من الإخراج.
م: (ولا يخرج عن ممالكه للتجارة خلافا للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: وبقوله، قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (فإن عنده وجوبها) ش: أي وجوب الفطرة م: (على العبد ووجوب الزكاة على المولى) ش: لا منافي بين الوجوبين لأنهما حقان مختلفان م: (فلا يتدخلان) ش: فتجب الفطرة في وقتها، وزكاة التجارة بعد تمام الحول م: (وعندنا وجوبها على المولى بسببه) ش: أي بسبب العبد، يعني كان أولا على المولى وجوب صدقة الفطر م: (كالزكاة) ش: يعني كوجوب الزكاة عليه بسبب أيضا لأجل التجارة م: (فيؤدي إلى الثنى) ش: بكسر الثاء المثلثة وبقصر النون يعني يؤدي إلى التثنية(3/489)
والعبد بين الشريكين لا فطرة على واحد منهما لقصور الولاية والمؤنة في كل واحد منهما، وكذا العبيد بين اثنين عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا على كل منهما ما يخصه من الرءوس دون الأشقاص بناء على أنه لا يرى قسمة الرقيق وهما يريانها، وقيل هو بالإجماع لأنه لا يجتمع النصيب قبل القسمة فلم تتم الرقبة لكل واحد منهما،
ويؤدي المسلم الفطرة عن عبده الكافر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو لا يجوز لإطلاق قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يثني في الصدقة» أي لا يؤخذ في السنة مرتين.
فإن قلت: سبب الزكاة فيهم المالية، وسبب الصدقة مؤنة رءوسهم، ومحل الزكاة بعض النصاب، ومحل الصدقة الذمة، فأداءهما حقان مختلفان سببا ومحلا، فلا شيء فيه.
قلت: مبني الصدقة على المؤنة، والعبد هنا معد للتجارة لا للمؤنة والنفقة لطلب الزيادة فيسقط اعتبارها بحكم القصد، فإنه السقوط حقيقة كما في الإباق، والعصب، فحينئذ لا تجب الصدقة لزوال سبب الوجوب، وهو المؤنة لا المنافي بين الواجبين فافهم.
م: (والعبد بين الشريكين) ش: أي العبد الكائن بين الشريكين للخدمة لا للتجارة، وبه صرح في " المبسوط " م: (لا فطرة على واحد منهما لقصور الولاية، والمؤنة في حق كل واحد منهما) ش: لأن الولاية والمؤنة الكاملين سبب ولم يوجد، قال الشافعي، ومالك، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: على كل واحد منهما بقدر نصيبه م: (وكذا العبيد بين اثنين) ش: أي وكذلك العبيد إن كانوا بين اثنين لا فطرة فيهم أصلا م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: كما لا فطرة في العبد الواحد بينهما بالاتفاق.
م: (وقالا: على كل واحد منهما ما يخصه من الرءوس دون الأشقاص) ش: أي دون الأيصاء وهو جمع شقص وهو النصيب، يعنى لو كان بينهما خمسة أعبد مثلا يجب على كل واحد منهما في الثاني لقصور الولاية، والحاصل أنه يجب في الزوج دون الفرد كالثلاثة والخمسة والسبعة فلا يجب في الثالث والخامس والسابع اتفاقا، ويجب في اثنين وأربعة وستة عندهما م: (بناء على أنه لا يرى قسمة الرقيق) ش: أي قال أبو حنيفة: هذه المسألة بناء على أنه لا يرى قسمة الرقيق للتفاوت الفحش، فلا يحصل لكل واحد من الشريكين ولاية كاملة في كل عبد م: (وهما يريانها) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يريان القسمة قياسا على البقر والغنم والإبل، ثم قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي بعض كتب أصحابنا وفي بعضها مثل قول أبي حنيفة وهو الأصح.
م: (وقيل: هو بالإجماع) ش: أي عدم وجوب الفطرة في العبيد بين اثنين بإجماع بين علمائنا الثلاثة، وهو قول الحسن البصري والثوري وعكرمة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (لأنه لا يجتمع النصيب بعد القسمة فلا تتم الرقبة لكل واحد منهما) ش: لأن اجتماع النصيب بالقسمة ولم يوجد فلم يتم ملك الرقبة الكاملة لكل واحد من الشريكين.
م: (ويؤدي المسلم الفطرة عن عبده الكافر) ش: أي(3/490)
لإطلاق ما روينا، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أدوا عن كل حر وعبد يهودي أو نصراني أو مجوسي» ... " الحديث، ولأن السبب قد تحقق والمولى من أهله وفيه خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الوجوب عنده على العبد وهو ليس من أهله، ولو كان على العكس فلا وجوب بالاتفاق،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صدقة الفطر وهو قول أبي هريرة وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز والنخعي والثوري وإسحاق وداود - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (لإطلاق ما روينا) ش: أراد ما تقدم من حديث ثعلبة في أول الباب وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أدوا عن كل حر وعبد» م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: (في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أدوا عن كل حر وعبد يهودي أو نصراني أو مجوسي.... الحديث» ش: هذا اللفظ أخرجه الدارقطني في "سننه " وليس فيه ذكر المجوسي، عن سلام الطويل عن زيد العمي عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أدوا صدقة الفطر عن كل صغير أو كبير ذكر أو أنثى يهودي أو نصراني حر أو مملوك نصف صاع من بر أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو من شعير» وقال: لم يسنده عنه غير سلام الطويل وهو متروك، ومن طريق الدارقطني رواه ابن الجوزي في " الموضوعات "، وغلظ القول في سلام عن النسائي وابن معين وابن حبان، وقال: يروي عن الثقات الموضوعات كأنه كان كالمتعمد لها ولم يذكر أكثر الشراح هذا الحديث.
م: (ولأن السبب قد تحقق) ش: وهو رأس يمونه بولائه عليه م: (والمولى من أهله) ش: أي من أهل الوجوب وليس هو بإضمار قبل الذكر لأن الشهرة قائمة مقام الذكر م: (وفيه خلاف الشافعي) ش: أي في الحكم المذكور خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبقوله قال مالك وأحمد وعن بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل قولنا، للاختلاف بينهم أن الوجوب على العبد ويحمل عنه المولى، أو على المولى ابتداء بلا محل فيه قولان م: (لأن الوجوب عنده) ش: أي عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (على العبد وهو) ش: أي العبد م: (ليس من أهله) ش: أي من أهل الوجوب هو مستدل لإثبات هذا الأصل بحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض صدقة الفطر على كل حر وعبد» فإن كلمة على للإيجاب، ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أدوا عمن تمونون» والوجوب لمن خوطب بالأداء وهو المولى، كلمة -على- في حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بمعنى عن كما في قَوْله تَعَالَى: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] م: (المطففين: الآية2) ، أي عن الناس م: (ولو كان على العكس) ش: أي لو كان الأمر على عكس المذكور بأن كان المولى كافرا والعبد مسلما م: (فلا وجوب بالاتفاق) ش: أي بيننا وبين الشافعي -رضي الله(3/491)
قال: ومن باع عبدا وأحدهما بالخيار ففطرته على من يصير له معناه إذا مر يوم الفطر والخيار باق. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: على من له الخيار، لأن الولاية له. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: على من له الملك لأنه من وظائفه كالنفقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه -أما عندنا فلأن الصدقة عبادة والكافر ليس من أهلها فلا تجب عليه، وأما عنده فلأن المخاطب وهو المولى وإن كان الوجوب على العبد عنده والكافر ليس مخاطبا بأداء العبادة.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن باع عبدا وأحدهما بالخيار) ش: والحال أن أحد المتعاقدين بالخيار م: (ففطرته) ش: أي فطرة العبد م: (على من يصير له العبد) ش: أعنى هذا تفسير فخر الإسلام، وفي شرح " الجامع الصغير " فسر قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فطرته على من له الخيار بمعنى إذا تم البيع فعلى المشتري، وإن انتقض فعلى البائع م: (معناه) ش: أي معنى قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا الكلام من المصنف يفسر كلام محمد الذي قاله في " الجامع الصغير " يعني معناه م: (إذا مر يوم الفطر) ش: يعني في مدة الخيار م: (والخيار باق) ش: قال الإمام حميد الدين الضرير في "شرحه ": هذا من قبيل إطلاق اسم الكل وإرادة البعض، لأن مضي كل يوم فطر ليس بشرط.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: على من له الخيار) ش: أي صدقة الفطر على من له الخيار إن كان للبائع فعلى البائع، وإن كان للمشتري فعلى المشتري، وإن كان الخيار لهما جميعا أو شرط البائع فعلى البائع أيضا، سواء تم البيع أو انفسخ م: (لأن الولاية له) ش: أي لمن له الخيار، ولهذا إذا جاز البيع تم، فإن فسخ انفسخ والفطرة تجب بالولاية والمؤنة فوجبت الفطرة على من له الخيار.
م: (وقال الشافعي: على من له الملك) ش: أي الفطرة على من له الملك يومئذ م: (لأنه) ش: أي لأن صدقة الفطر، وذكر الضمير باعتبار التصدق م: (من وظائفه) ش: أي من وظائف الملك م: (كالنفقة) ش: وهي مدة الخيار على من له الملك يومئذ، فكذا الفطرة، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكروا في شرح " الجامع الصغير " قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما ذكر صاحب " الهداية " قول الشافعي، قالوا: والقياس أن تكون الفطرة على من يكون له الملك يومئذ ثم قالوا وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الكاكي: الخلاف المذكور بين الشافعي وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - موافق لما في " المبسوط " و" شرح الطحاوي " - رَحِمَهُ اللَّهُ - مخالف لما في " الأسرار " و" فتاوى قاضي خان "، فإن المذكور فيهما عكس ما ذكر في الكتاب من الخلاف حيث ذكر فيهما: اعتبر زفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الملك، والشافعي الخيار، وفي " المحيط " قال زفر والحسن والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فطرته على من له الملك أن الخيار للبائع فعليه وإن كان للمشتري فعليه، وعند(3/492)
ولنا أن الملك موقوف، لأنه لو رده يعود إلى قديم ملك البائع، ولو أجيز يثبت الملك للمشتري من وقت العقد فيتوقف ما يبتنى عليه بخلاف النفقة، لأنها للحاجة الناجزة فلا تقبل التوقف، وزكاة التجارة على هذا الخلاف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - على البائع بكل حال، ولكن ما ذكر في كتبهم من " التتمة " و" التعليق " موافق لما ذكر في الكتاب فقالوا في "تتمتهم": لو اشترى عبدا فاشترط الخيار، وفي " التعليق " أو باع بشرط الخيار فأهل الهلال زمان الخيار ففطرته على من له الملك، إن قلنا الملك للبائع فالفطرة عليه، وإن قلنا للمشتري فالفطرة عليه، وإن قلنا الملك موقوف فالفطرة كذلك فتصير على من له الملك.
م: (ولنا أن الملك موقوف) ش: أي على ما يبنى عليه، أي لأن كل ما كان موقوفا فالمبني عليه كذلك، لأن التردد في الأصل يستلزم التردد في الفرع م: (لأنه لو رده يعود إلى قديم ملك البائع، ولو أجيز يثبت الملك للمشتري من وقت العقد فيتوقف على ما يبتنى عليه، بخلاف النفقة) ش: هذا جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كالنفقة م: (لأنها للحاجة الناجزة) ش: أي الواقعة في الحال، من نجز الشيء بالكسر إذا تم بما يقضى م: (فلا تقبل التوقف) ش: على شيء فيبطل قياس ما يقبل التوقف على ما لا يقبل.
م: (وزكاة التجارة على هذا الخلاف) ش: صورته رجل له عبد للتجارة فباعه بعروض التجارة بشرط الخيار ثم تم الحول في مدة الخيار فزكاته على الخلاف المذكور على من يصير له الملك، أو على من له الخيار أو على من له الملك يومئذ.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو باع عبدا للتجارة فحال الحول في مدة الخيار فالمشتري للتجارة بشرط الخيار من وقت البيع في حق من ثبت له الملك.
وقيل: صورته لأحدهما عشرون دينارا ولآخر عرض يساويه في القيمة، ومبدأ حولهما على السواء، ففي آخر الحول باع صاحب العروض من عرضه من الآخر بشرط الخيار له أو للمشتري فازدادت قيمة العروض في مدة الخيار قبل تمام الحول ثم تم الحول فإن تقرر الملك للبائع يجب عليه بحصة الزيادة شيء، وإن تقرر للمشتري يجب عليه ذلك أيضا عندنا.(3/493)
فصل في مقدار الواجب ووقته الفطرة نصف صاع من بر أو دقيق أو سويق أو زبيب أو صاع من تمر شعير وقالا: الزبيب بمنزلة الشعير وهو رواية عن أبي حنيفة، والأول رواية " الجامع الصغير ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في مقدار الواجب في زكاة الفطر]
م: (فصل في مقدار الواجب ووقته) ش: أي هذا فصل في بيان مقدار الواجب في صدقة الفطر وفي بيان وقته.
م: (الفطرة نصف صاع) ش: أي صدقة الفطر نصف صاع م: (من بر أو دقيق أو سويق) ش: السويق البر المقلي م: (أو زبيب أو صاع من تمر أو شعير) ش: وذكر هذا الأشياء إليه، وقد اختلف أهل العلم فيها اختلافا شديدا على ما نذكره، منها البر هو الحنطة فلم يخالف فيه إلا داود الظاهري، فإن عنده لا تجب إلا من التمر والشعير، ولا يجوز عنده قمح ولا دقيقه ولا دقيق شعير ولا سويق ولا خبز ولا زبيب ولا غير ذلك، فإنه ذكر في حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - التمر والشعير فلم يذكر غيره اتفاقا عليه.
ومنها الدقيق فقد ذكر في " الذخيرة القرافية ": منع مالك الدقيق. وفي " المدونة " لا يجزئ دقيق ولا سويق. وقال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تجزئ من تسعة وهو القمح والشعير والسلت والذرة والدخن والأرز والتمر والزبيب والأقط، وزاد ابن حبيب العلس فصارت عشرة.
وقال ابن حزم في " المحلى ": العجب كل العجب ما أجازه مالك من إخراج الدقيق.
ومنها السويق نص بعض الحنابلة لم يجز السويق لفوات بعض المنافع، وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا: لا يجوز الدقيق والسويق في الفطرة على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
ومنها الزبيب وفيه خلاف الظاهرية كما ذكر، وكذلك خلافهم في غير التمر والشعير، وقال أبو بكر بن العربي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يخرج من عيش كل قوم من اللبن لبنا، ومن اللحم لحما، ويخرج اللوبيا وغير ذلك، وقال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويجزئ في المذهب الحمص والعدس لأنه قوت، وفي الجبن واللبن عندهم خلاف.
م: (وقال أبو يوسف -رحمهما الله-: الزبيب بمنزلة الشعير) ش: يعني لا يخرج منه إلا صاعا مثلما يخرج صاعا من الشعير م: (وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قوليهما في الزبيب رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواها أسد بن عمرو والحسن بن زياد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والأول رواية الجامع الصغير) ش: يعنى الزبيب مثل البر نصف صاع، كذا روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ".(3/494)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من جميع ذلك صاع، لحديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا نخرج ذلك على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال الشافعي عن جميع ذلك صاع) ش: أشار به إلى المذكور في قوله -من بر إلخ، يعنى لا يخرج من هذه الأشياء إلا صاع كامل م: (لحديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قال كنا نخرج ذلك على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ش: حديث أبي سعيد هذا أخرجه الأئمة الستة عنه مختصرا ومطولا، قال: «كما نخرج إذا كان فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر عن كل صغير وكبير، حر أو مملوك صاعا من طعام أو صاعا من أقط أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حاجا أو معتمرا فكلم الناس على المنبر، فكان فيما كلم فيه الناس فقال: إني أرى أن مدين من تمر الشام تعدل صاعا من تمر، فأخذ الناس بذلك» .
قال أبو سعيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أما أنا فإني لا أزال أخرجه أبدا ما عشت، وحجة الشافعي من هذا الحديث في قوله صاعا من طعام، قالوا: والطعام في العرف هو الحنطة، سيما وقد وقع في رواية للحاكم صاعا من حنطة، ومن الشافعية من جعل هذا الحديث حجة لنا من جهة أن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل نصف صاع من الحنطة بدل صاع من التمر والزبيب.
وقال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا الحديث معتمد أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم أجاب عنه بأنه فعل صحابي، وقد خالفه أبو سعيد وغيره من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ممن هو أطول صحبة منه.
قلنا: إن قولهم الطعام في العرف هو الحنطة ممنوع، بل الطعام يطلق على كل ما مأكول، وهنا أريد به أشياء ليست الحنطة بدليل ما ساقه عند البخاري عن أبي سعيد قال «كما نخرج في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الفطر صاعا من الطعام» قال أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر» .
وقول النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه فعل صحابي، قلنا: قد وافقه غيره من الصحابة الجم الغفير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بدليل قوله في الحديث: فأخذ الناس بذلك، ولفظ الناس العموم فكان إجماعا، فكذلك ما أخرجه البخاري ومسلم عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعا من تمر أو صاعا من شعير» فعدل الناس به مدين من حنطة، ولا تصير مخالفة أبي سعيد لذلك بقوله: أما أنا فلا أزال أخرجه، لأنه لا يقدح في الإجماع، سيما إذا كان فيه الخلفاء الأربعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. أو نقول: أراد بالزيادة على قدر الواجب تطوعا.(3/495)
ولنا ما روينا وهو مذهب جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وفيهم الخلفاء الراشدون - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، وما رواه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا ما روينا) ش: أراد به حديث ثعلبة الذي مضى في أول الباب، وفيه التصريح بأن الفطرة من البر نصف صاع م: (وهو مذهب جماعة) ش: أي نصف صاع من البر مذهب جماعة م: (من الصحابة وفيهم الخلفاء الراشدون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أما الجماعة من الصحابة فهم: عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله وأبو هريرة وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس ومعاوية وأسماء بنت أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
فأما الخلفاء الراشدون فهم: أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وهو مذهب جماعة من التابعين وغيرهم، وهم سعيد بن المسيب وعطاء ابن أبي رباح ومجاهد وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز وطاوس وإبراهيم النخعي وعامر الشعبي وعلقمة والأسود وعروة وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وأبو قلابة عبد الله وعبد الملك بن محمد وعبد الرحمن الأوزاعي، وسفيان الثوري وعبد الله بن شداد ومصعب بن سعد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو قول القاسم وسالم وعبد الرحمن بن القاسم والحكم وحماد، وهو مروي عن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذكرها في " الذخيرة ".
أما حديث أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه البيهقي، ورواه عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا معمر عن عاصم عن أبي قلابة عن أبي بكر أنه أخرج زكاة الفطر مدين من حنطة وإن رجلا أدى إليه صاعا بين اثنين، قال البيهقي: هذا منقطع.
وأما حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه أبو داود والنسائي عن عبد العزيز بن أبي زياد عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان الناس يخرجون صدقة الفطر على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صاعا من شعير أو تمر أو سلت أو زبيب، فقال عبد الله: فلما كان عمر كثرت الحنطة جعل البر نصف صاع من حنطة مكان صاع من تلك الأشياء» .
وأما حديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه أنه قال في خطبته: «أدوا زكاة الفطر مدين من حنطة» قال البيهقي: وهو موصول عنه.
وأما حديث علي فأخرجه عبد الرزاق عنه قال: «على من جرى عليه نفقتك نصف صاع من بر أو صاع من شعير أو تمر» .
م: (وما رواه) ش: أي وما رواه الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من حديث أبي سعيد -رضي(3/496)
محمول على الزيادة تطوعا، ولهما في الزبيب أنه والتمر يتقاربان في المقصود، وله أنه والبر يتقاربان في المعنى لأنه يؤكل كل واحد منهما بجميع أجزائه، بخلاف الشعير والتمر لأن كل واحد منهما يؤكل ويلقى من التمر ومن الشعير النخالة، ولهذا ظهر التفاوت بين البر والتمر، ومراده من الدقيق والسويق ما يتخذ من البر. أما دقيق الشعير كالسعير والأولى أن يراعي فيهما القدر والقيمة احتياطا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله عنه- م: (محمول على الزيادة تطوعا) ش: أي على الزيادة على قدر الواجب من حيث التطوع بدليل أنه قال: كنا أو كنت، ولم يقل أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان الناس في ذلك الزمان حرصا على التطوعات، فكرهوا أداء الشقص وليس البر كالتمر والشعير، فإن التمر والشعير مشتمل بما ليس بمأكول، وهو النواة والنخالة، وعلى ما هو مأكول. وأما البر فلكله مأكول فإن الفقير يأكل دقيق الحنطة بنخالته بخلاف الشعير فلا يمكن قياس البر عليها.
م: (ولهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (في الزبيب أنه والتمر يتقاربان في المقصود) ش: وهو التفكه والاستحلاء، فالزبيب يشبه التمر من حيث أنه حلو مأكول وله عجم كما للتمر نواة.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (أنه) ش: أي الزبيب م: (والبر يتقاربان في المعنى) ش: هو الأكل م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (يؤكل كل واحد منهما بجميع أجزائه) ش: أما الزبيب فإنه لا يرمى منه شيء ولا يرمى نواه إلا من يتأنق في المأكول، وأما البر فإن الفقراء لا يرمون منه شيئا م: (ويلقى من التمر النواة ومن الشعير النخالة) ش: هذا جواب عن قولهما إن الزبيب بمنزلة الشعير، وأن الزبيب والتمر يتقاربان.
فأجاب: بأن الزبيب ليس بمتقارب من التمر يلقى منه النواة، ولا هو بمنزلة الشعير والشعير يلقى منه النخالة م: (ولهذا) ش: أي ولكون البر مأكول كله، ولكون التمر يلقى منه النواة م: (ظهر التفاوت بين التمر والبر) ش: فوجبت الفطرة من التمر صاعا ومن البر نصف صاع م: (ومراده) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الكاكي: والشيخ أبو الحسن القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (من الدقيق والسويق ما يتخذ من البر) ش: يعني دقيق الحنطة وسويقها.
م: (أما دقيق الشعير كالشعير) ش: يعني مثل عين الشعير، وذكر في " المبسوط ": دقيق الحنطة كالحنطة، ودقيق الشعير كعينه عندنا، وبه قال الأنماطي من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقد مر عن الشافعي أنه لا يجوز الدقيق والسويق في الفطرة م: (والأولى أن يراعى فيهما) ش: أي في الدقيق والسويق م: (القدر والقيمة احتياطا) ش: حتى إذا كان منصوصا عليهما يتأدى باعتبار القدر. وإن لم يكونا باعتبار القيمة، وتفسيره أن يؤدي نصف صاع من دقيق البر،(3/497)
وإن نص على الدقيق في بعض الأخبار ولم يبين ذلك في الكتاب اعتبارا للغالب، والخبز تعتبر فيه القيمة هو الصحيح، ثم يعتبر نصف صاع من بر وزنا فيما يروى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعتبر كيلا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تبلغ قيمته قيمة نصف صاع من بر أو أدى نصف صاع من دقيق البر ولكن لا تبلغ قيمته قيمة نصف صاع من بر لا يكون عاملا بالاحتياط، وفي " جامع البرهاني ": قال بعض مشايخنا: يجوز باعتبار العين لأنه منصوص عليه، وقال بعضهم: يجوز باعتبار القيمة لأن الدقيق يزيد على الحنطة غالبا حتى لو انتقض لا يجوز م: (وإن نص على الدقيق في بعض الأخبار) ش: هذا واصل بما قبله، وأراد ببعض الأخبار ما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال «أدوا قبل خروجكم زكاة فطركم، فإن على كل مسلم مدين من قمح ودقيقه» . قال في " النهاية ": كذا في " المبسوط " وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وذكر الشيخ أبو نصر حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فذكر هذا الحديث. وذكر الأكمل هكذا.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولنا ما روي عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فذكره، ولم يبين واحد منهم من خرج هذا الحديث وما حاله، ولقد أمعنت النظر في كتب كثيرة من كتب الحديث فما وقفت عليه، غير أن النسائي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى عن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «لم نخرج في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب أو صاعا من دقيق.» والحديث. ولم يبين ذلك في الكتاب أي لم يبين محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذلك، أشار به إلى الرعاية بين القدر والقيمة، وأراد بالكتاب " الجامع الصغير " م: (اعتبارا للغالب) ش: فإن الغالب أن قيمة نصف الصاع من التمر يساوي نصف صاع من البر م: (والخبز) ش: مبتدأ وقوله م: (يعتبر فيه القيمة) ش: خبره، يعني إذا أدى منوين من خبز الحنطة باعتبار القيمة لا يجوز.
قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لأنه لم يرد الخبز في شيء من النصوص وكان بمنزلة الذرة، ولأن الخبز نظير الحنطة في معنى القوت، لكن ليس بمعناه في القدر، فإن الحنطة مكيلة والخبز موزون، فلا يجوز إلا باعتبار القيمة م: (وهو الصحيح) ش: يعني كونه باعتبار القيمة، واحترز به عن قول بعض المتأخرين حيث قالوا: يجوز بلا اعتبار القيمة، فإذا أدى منوين من خبز الحنطة يجوز، لأنه لا جاز من الدقيق والسويق باعتبار العين فمن الخبز يجوز، لأنه انفع للفقراء.
م: (ثم يعتبر نصف صاع من بر وزنا فيما يروى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: رواه أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن العلماء - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لما اختلفوا في مقدار الصاع أنه ثمانية أرطال أو خمسة أرطال وثلث رطل فقد اتفقوا على التقدير بما يعدل بالوزن، وذلك دليل على اعتبار الوزن قيد م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعتبر كيلا) ش: رواه(3/498)
والدقيق أولى من البر، والدراهم أولى من الدقيق فيما روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو اختيار الفقيه أبي جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنه أدفع للحاجة وأعجل به، وعن أبي بكر الأعمش - رَحِمَهُ اللَّهُ - تفضيل الحنطة لأنه أبعد من الخلاف. إذ في الدقيق والقيمة خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
قال: والصاع عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثمانية أرطال بالعراقي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن رستم - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه يعتبر كيلا، حتى قال: قلت له: لو وزن الرجل منوين من الحنطة وأعطاهما لفقير هل يجوز عن صدقته؟، قال: لا فقد تكون الحنطة ثقيلة الوزن، وقد تكون خفيفة الوزن، فإنما يعتبر نصف الصاع كيلا.
م: (والدقيق أولى من البر والدراهم أولى من الدقيق فيما يروى عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أما أولوية الدقيق من البر، فلأنه أعجل بالنفقة، أما أولوية الدراهم من الدقيق فلأن الدراهم يقتضي بها أشياء كثيرة، وهذا ظاهر بين.
وفي " جامع" المحبوبي قال محمد بن سليمان - رَحِمَهُ اللَّهُ - كان في زمن الشدة، فالأداء من الحنطة أو دقيقه أفضل من الدراهم، وفي زمن السعة الدراهم أفضل م: (وهو اختيار الفقيه أبي جعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي كون الدقيق أولى من البر، وكون الدراهم أولى من الدقيق، كما روي عن أبي يوسف، وهو اختيار الفقيه أبي جعفر.
وقال الأترازي: هذا الذي ذكره في " الهداية " خلاف ما ذكره الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "نوادره "، حيث قال: وكان الفقيه أبو جعفر يقول: دفع الحنطة أفضل في الأحوال كلها ولأن فيه موافقة السنة وإظهار الشريعة م: (لأنه أدفع للحاجة وأعجل به) ش: أي بدفع الحاجة.
م: (وعن أبي بكر الأعمش - رَحِمَهُ اللَّهُ - تفضيل الحنطة) ش: أي وعن أبي بكر الأعمش أن الحنطة أفضل م: (لأنه أبعد من الخلاف) ش: لأنه الحنطة تجوز بالاتفاق ولا يجوز الدقيق، والقيمة عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو معنى قوله: م: (إذ في الدقيق والقيمة خلاف الشافعي) ش: كلمة إذ هنا للتعليل، أي لأجل خلاف الشافعي في جواز الدقيق في الفطرة وجواز القيمة.
م: (والصاع عند أبي حنيفة ومحمد ثمانية أرطال بالعراقي) ش: أي بالرطل العراقي وهو عشرون أستارا والأستار ستة دراهم ودانقان وأربعة مثاقيل، والصاع العراقي أربعة أمداد كذا ذكر فخر الإسلام، وقيل: ثمانية أرطال بالبغدادي، والرطل البغدادي مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم، وقيل: مائة وثمانية وعشرون درهما.
وقيل: مائة وثلاثون درهما.(3/499)
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خمسة أرطال وثلث رطل، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صاعنا أصغر الصيعان»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والأول أصح. وقول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هو قول جماع من أهل العراق وقول إبراهيم النخعي، وهو قول زفر أيضا فيما قاله أبو بكر الخصاف م: (وقال أبو يوسف: خمسة أرطال وثلث رطل) ش: أي الصاع خمسة أرطال وثلث رطل م: (وهو قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش:.
وقول مالك وأحمد أيضا م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «صاعنا أصغر الصيعان» ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صاعنا أصغر الصيعان» وهذا غريب.
وروى ابن حبان في "صحيحه " عن ابن خزيمة عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيل له: يا رسول الله صاعنا أصغر الصيعان ومدنا أكثر الأمداد، فقال: "اللهم بارك لنا في صاعنا وبارك لنا في قليلنا وكثيرنا واجعل لنا مع البركة بركتين» ، انتهى.
قال ابن حبان: وفي ترك المصطفى الإنكار عليهم، حيث قالوا: صاعنا أصغر الصيعان، بيان واضح أن صاع المدينة أصغر الصيعان، ولم يجر بين أهل العلم إلى يومنا هذا خلاف في هذا الصاع، إلا ما قاله الحجازيون والعراقيون، فزعم الحجازيون أن الصاع خمسة أرطال وثلث، وزعم العراقيون أنه ثمانية أرطال من غير دليل ثبت على صحته.
فإن قلت: روى الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "سننه" عن عمران بن موسى الطائي حدثنا إسماعيل بن سعد الخراساني حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي قال: قلت لمالك بن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يا أبا عبد الله كم وزن صاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال خمسة أرطال وثلث بالعراقي أنا حزرته.
قلت: يا أبا عبد الله خالف شيخ القوم، فقال: من هو؟ قلت: أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول ثمانية أرطال، قال: فغضب غضبا شديدا، وقال: قاتله الله ما أجرأه على الله، ثم قال لبعض جلسائه: يا فلان هات صاع جدك، يا فلان هات صاع عمك، يا فلان هات صاع جدتك، فاجتمعت أصوع، فقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما تحفظون في هذا؟ فقال بعضهم: حدثني أبي عن أبيه أنه كان يؤدي هذا الصاع إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال الآخر: حدثني أبي عن أخيه أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنا حزرت هذه فوجدتها خمسة أرطال وثلث.
قلت: يا أبا عبد الله أحدثك بأعجب من هذا أنه يزعم أن صدقة الفطر نصف صاع والصاع ثمانية أرطال، فقال: هذا أعجب من الأول، بل صاع تمام عن كل إنسان، هكذا أدركنا علماءنا(3/500)
ولنا ما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ بالمد رطلين يغتسل بالصاع ثمانية أرطال»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ببلدنا هذا.
قلت: هذا صاحب " التنقيح ": إسناده مظلم، وبعض رجاله غير مشهورين، المشهور ما أخرجه البيهقي عن الحسين بن الوليد القرشي وهو ثقة قال: قدم علينا أبو يوسف من الحج، فقال: إني أريد أن أفتح عليكم بابا من العلم بشيء تفحصت عنه، فقدمت المدينة فسألت عن الصاع، فقالوا: صاعنا هذا صاع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنظرت فإذا هي سواء، فقال فعيرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث ينقصان يسير، فرأيت أمرا قويا فتركت قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الصاع وأخذت بقول أهل المدينة، هذا هو المشهور من قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الاترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وجه قول أبي يوسف قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صاعنا أصغر الصيعان» .
قلت: قد علمت بما ذكرناه الآن أن هذا ليس لفظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف ينسبه الأترازي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع دعواه أن له يدا في الحديث، وكذلك الكاكي والأكمل وآخرون على هذا المنوال.
م: (ولنا ما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ بالمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال» ش: هذا إنما قال: ولنا، ولم يقل: ولهما، لأنه صرح بذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هنا أنه مع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلذلك قال: ولنا، وهذا الحديث أخرجه الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "سننه" عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في ثلاث طرق منها «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ بمد رطلين ويغتسل بصاع ثمانية أرطال» . وضعف البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذه الطرق كلها، والذي صح وثبت عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليس فيه الوزن، وما روي في " الصحيحين " فيه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع» واستدل الطحاوي لأبي حنيفة ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بما رواه عن ابن عمران بإسناده إلى مجاهد، قال: «دخلنا على عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فاستسقى بعضنا بعضا فقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل بمثل هذا، فقال مجاهد: فحزرته ثمانية أرطال، تسعة أرطال عشرة أرطال» فلم يشك مجاهد في الثمانية وإنما شك فيما فوقها، وذكر الطحاوي أيضا بإسناده إلى إبراهيم عن علقمة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل بالصاع» . وروى أيضا عن ربيع المؤذن بإسناده إلى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ بما يسع رطلين، ويغتسل بالصاع» ثم قال: وجه الاستدلال بهذا حديث الآثار على أن الصاع ثمانية أرطال، أن نقول: قد ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل بالصاع لكن كان مقداره غير معلوم، فعلم ذلك من حديث مجاهد عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حيث قدره بثمانية أرطال، ولأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ بالمد فعلم(3/501)
وهكذا كان صاع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو أصغر من الهاشمي وكانوا يستعملون الهاشمي.
قال: ووجوب الفطرة يتعلق بطلوع الفجر من يوم الفطر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن مقدار المد رطلان، فإن ثبت أن المد رطلان يلزم أن يكون صاع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعة أمداد، وهي ثمانية أرطال، لأن المد ربع صاع باتفاق.
م: (وهكذا كان صاع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: يعني ثمانية أرطال م: (وهو أصغر من الهاشمي) ش: أي صاع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أصغر من الصاع الهاشمي، لأن الصاع الهاشمي اثنان وثلاثون رطلا م: (وكانوا يستعملون الهاشمي) ش: وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل العراقي وهو أصغر بالنسبة إلى الهاشمي وهو صاع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقال فخر الإسلام: صاع العراق صاع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وذكر الطحاوي بإسناده إلى موسى بن طلحة وإبراهيم قالا: عايرنا الصاع فوجدناه حجاجيا، والحجاجي ثمانية أرطال بالبغدادي.
وقال فخر الإسلامي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: صاع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -[.....] فأخرجه الحجاج، وكان يمن على أهل العراق، ويقول في خطبته: يا أهل العراق يا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق ألم أخرج لكم صاع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلذلك سمي صاعا حجاجيا.
وقيل: لا خلاف لأن الرطل كان في زمن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عشرين أستارا والأستار ستة دراهم ونصفا، فإذا ما كايلت ثمانية أرطال على هذا الحساب خمسة أرطال وثلث تجد طل واحد منهما ألفا وأربعين درهما، نبه على ذلك كله صاحب " الينابيع "، وقوله فيه غير سديد، والصحيح أن اختلافا بينهم في الحقيقة، لأن الكل اعتبر الرطل العراقي فإنه ذكر في " المبسوط " عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب العشر والخراج خمسة أرطال كل رطل ثلاثون أستارا وثلث رطل بالعراقي.
وفي " الأسرار ": خمسة أرطال كل رطل ثلاثون أستارا أو ثمانية أرطال وكل رطل عشرون أستارا سواء، وفي " المستصفى " وقيل: الاختلاف بينهم في الرطل لا في الصاع. وفي " شرح الإرشاد " الاختلاف بينهم في المد، فإن المد عندنا رطلان، وعندهم رطل وثلث، ولا خلاف أن الصاع أربعة أمداد، ثم التقدير بالأرطال دون الأمناء لعبرة الطعام عندهم.
[وقت وجوب زكاة الفطر]
م: (قال: ووجوب الفطرة يتعلق بطلوع الفجر من يوم الفطر) ش: وفي أكثر النسخ قال: وجوب الفطرة أي قال القدوري: يعني وقت وجوب صدقة الفطر تثبت بطلوع الفجر الثاني من يوم الفطر، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم يعني في القديم، وأحمد في رواية، ومالك في رواية، وهو المشهور عند المالكية، وهو قول ابن القاسم وابن مطرف وابن الماجشون وابن وهب، وبه قال الليث، وأبو ثور، وآخرون.(3/502)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بغروب الشمس في اليوم الأخير من رمضان، حتى إن من أسلم أو ولد ليلة الفطر تجب فطرته عندنا وعنده لا تجب، وعلى عكسه من مات فيها من مماليكه أو ولده، له أن يختص بالفطر وهذا وقته، ولنا أن الإضافة للاختصاص، واختصاص الفطر باليوم دون الليل،
والمستحب أن يخرج الناس الفطرة يوم الفطر قبل الخروج إلى المصلى، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بغروب الشمس في اليوم الأخير من رمضان) ش: وبه قال إسحاق وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وهو قول الثوري أيضا، ومنهم من قال: تجب بطلوع الشمس كصلاة العيد. وقال ابن العربي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا وجه له م: (حتى إن من أسلم أو ولد ليلة الفطر تجب فطرته عندنا) ش: هذا بيان ثمرة الخلاف في المسألة المذكورة فتجب الفطرة عندنا في هذه الصورة م: (وعنده لا تجب) ش: أي وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تجب. الأصل في هذا أن وجوب الفطرة متعلق بطلوع الفجر من يوم الفطر، تعلق وجوب الأداء بالشرط لا تعلق وجوب الأداء بالسبب، إذ الفطرة شرط وجوب الأداء لا سببه، وتظهر ثمرة ذلك في مسألتين:
أحدهما: أن الرجل إ ذا قال لعبده: إذا جاء يوم الفطر فأنت حر، فجاء يوم الفطر عتق العبد، ويجب على العبد صدقة الفطر قبل العتق لا بعد.
والثانية: أن العبد إذا كان للتجارة تجب على المولى زكاة التجارة إذا تم الحول بانفجار الفجر من يوم الفطر. وقال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هاتان المسألتان شاهدتان على الأصل المعهود وهو أن المعلول يقارن العلة في الوجود، والمشروط يتعقب عن المشروط، والمشروط يتعقب عن الشرط في الوجود.
م: (وعلى عكسه من مات فيها من مماليكه أو ولده) ش: أي على عكس الحكم المذكور، يعنى لا تجب عندنا لعدم تحقق شرط وجوب الأداء وهو طلوع الفجر من يوم الفطر، ويجب عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لتحقق شرط وجوب الأداء وهو غروب الشمس في اليوم الأخير من رمضان وهو حي، ومن مات بعد طلوع الفجر يجب الفطرة عنه بالاتفاق م: (له) ش: أي للشافعي م: (أنه) ش: أي أن وجوب الفطرة م: (يختص بالفطر، وهذا وقته) ش: أي غروب الشمس في اليوم الأخير من رمضان.
م: (ولنا أن الإضافة) ش: أي إضافة الصدقة إلى الفطر م: (للاختصاص، واختصاص الفطر باليوم دون الليل) ش: إذ المراد فطر يضاد الصوم، وهو في اليوم لأن الصوم فيه حرام، ألا ترى أن الفطر كان يوجد في كل ليلة من رمضان، ولا يتعلق الوجوب به، فدل على أن المراد به ما يضاد الصوم.
م: (والمستحب أن يخرج الناس الفطرة يوم الفطر قبل الخروج إلى المصلى، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج)(3/503)
قبل أن يخرج، ولأن الأمر بالإغناء كيلا يتشاغل الفقير بالمسألة عن الصلاة، وذلك بالتقديم، فإن قدموها على يوم الفطر جاز،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: بضم الياء من الإخراج، أي كان يخرج صدقة الفطر م: (قبل أن يخرج) ش: بفتح الياء، أي قبل أن يخرج إلى المصلى.
قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: المستحب أن يخرج الناس الفطرة قبل الخروج إلى المصلى، وهذا المروي في " السنن " عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بزكاة الفطر أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة وقد روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج الفطرة قبل الخروج إلى المصلى» انتهى.
قلت: هذا الذي صنفه غير مرتب، لأن صاحب الكتاب لما ذكر قوله: -والمستحب- إلى أخره استدل عليه بقوله - لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج- فلا شك أن الدليل والمدلول في حكم شيء واحد، فجاء الأترازي فكر بينهما، وذكر حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - دليلا لمدلول المصنف.
وسبب قوله - لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج- ثم ذكر قوله وري بصيغة التمريض من غير تعرض لبيان من أخرجه، وما حاله وهذا ليس بصنع من يدعي أن له يدا في الحديث، وها هنا الذي ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مذكور في حديث رواه الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في كتابه " علوم الحديث "، وهو مجلد كامل في باب الأحاديث التي انفرد بزيادة فيها راو واحد حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن الجهم السمري قال: حدثنا أبو معشر عن نافع عن ابن عمر قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نخرج صدقة الفطر عن كل صغير وكبير حر أو عبد صاعا من تمر أو صاعا من زبيب أو صاعا من شعير أو صاعا من قمح، وكان يأمرنا أن نخرجها قبل الصلاة، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسمها قبل أن ينصرف إلى المصلى، ويقول: "أغنوهم من الطواف في هذا اليوم» .
م: (ولأن الأمر بالإغناء) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم» م: (كيلا يتشاغل الفقير بالمسألة عن الصلاة) ش: أي عن صلاة العيد م: (وذلك) ش: أي الإغناء م: (بالتقديم) ش: أي بتقديم صدقة الفطر م: (فإن قدموها على يوم الفطر جاز) ش: وللشافعة ثلاثة أوجه. أولها: يجوز تعجيلها في رمضان ولا يجوز قبله. ثانيها: يجوز قبل طلوع الفجر الثاني من اليوم الأول من رمضان ولا يجوز قبله.
إنما يجوز في جميع السنة، وعند الحنابلة يجوز يوم أو يومين، وقيل بنصف الشهر. وقال(3/504)
لأنه أدى بعد تقرر السبب، فأشبه التعجيل في الزكاة، ولا تفصيل بين مدة ومدة هو الصحيح،
وإن أخروها عن يوم الفطر لم تسقط، وكان عليهم إخراجها، لأن وجه القربة فيها معقول، فلا يتقدر وقت الأداء فيها، بخلاف الأضحية. والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحسن بن زياد ومالك -رحمهما الله-: لا يجوز تعجيلها قبل وقت وجوبها م: (لأنه أدى بعد تقرر السبب) ش: وهو رأس يمونه ويلي غلته م: (فأشبه التعجيل في الزكاة) ش: بعد تقرر سببها وهو ملك المال، وقيل: وقت الوجوب وهو حولان الحول.
م: (ولا تفصيل بين مدة مدة) ش: أي لا تفصيل في جواز تقديم صدقة الفطرة بين مدة ومدة، بل يجوز التقديم مطلقا م: (هو الصحيح) ش: احترز به عن قول خلف بن أيوب ونوح بن أبي مريم - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - حيث قال خلف: يجوز تقديمها بعد دخول شهر رمضان لا قبله، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال نوح بن أبي مريم - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز تعجيلها في العشر الأخير. وعن الكرخي بيوم وبيومين، وبه قال أحمد، وروى إبراهيم بن رستم في " النوادر " عن محمد قال: لو أعطى صدقة الفطر قبل الوقت بسنتين جاز، وهو راوية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال في " الخلاصة ": وذكر السنة والسنتين وقع اتفاقان بل يجوز مطلقا لو أدى عشر سنين أو أكثر.
م: (وإن أخروها عن يوم الفطر لا تسقط) ش: وبه قال الحسن البصري والحسن بن زياد ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وتسقط بتأخيرها عن يوم الفطر كالأضحية، فإنها تسقط بمضي أيام النحر م: (وكان عليهم إخراجها، لأن وجه القربة فيها معقول) ش: وجه القربة كونها صدقة مالية، والإغناء عن المسألة م: (فلا يتقدر وقت الأداء) ش: أي لا يتقدر وقت الأداء م: (فيها) ش: بل وجوز أن يتعدى إلى غيره، فلا تسقط بعد الوجوب إلا بالأداء كالزكاة م: (بخلاف الأضحية) ش: فإنها تسقط بمضي أيام النحر، لأن القربة فيها إراقة الدم وهي لم تعقل قربة، ولهذا لم تكن قربة في غير هذه الأيام فيقتصر على مورد النص، ولا تسقط بتأخير الأداء وإن افتقر، لأنها متعلقة بالذمة دون المال، كذا في " فتاوى الولوالجي " و" القاضي خان ".
انتهى المجلد الثالث يليه المجلد الرابع أوله: "كتاب الصوم"(3/505)
كتاب الصوم قال - رَحِمَهُ اللَّهُ - الصوم ضربان واجب ونفل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الصوم] [تعريف الصوم]
أي هذا كتاب في بيان أحكام الصوم، ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الكبير " كتاب الصوم عقيب كتاب الصلاة، لكون كل منهما عبادة بدنية، ولكن الزكاة ذكرت مقرونة بالصلاة في الكتاب والسنة، فلذلك ذكرت عقيب الصلاة، وقدمت على الصوم وغيره.
والصوم في اللغة عبارة عن الإمساك أي إمساك كان، قال الله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] (مريم: الآية 26) ، أي صمتاً وسكوتاً، وكان مشروعاً عندهم. وقال النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
أي قائمة على غير علف قاله الجوهري وقال ابن الفارس - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ممسكة عن السير [وصام النهار إذا قام غير قائم الظهيرة وقال أبو عبيد: كل ممسك عن طعام أو كلام] أو سير صائم، والصوم ركود الريح والصوم السعة، والصوم ذرق الحمام وسلخ النعامة، والصوم اسم شجر في لغة هذيل، والصيام مصدر كالصوم، وفي الشرع الصوم هو الإمساك عن المفطرات الثلاثة نهاراً مع النية.
اختلف أي صوم وجب في الإسلام أولاً، قيل صوم عاشوراء، وقيل ثلاثة أيام من كل شهر «لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة جعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام» رواه البيهقي، ولما فرض رمضان خير بينه وبين الإطعام، وفرض صوم شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة قبل وقعة بدر، وقيل في شعبان منها فصام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسع رمضانات، وفيها حولت القبلة وأمر بزكاة الفطر، وسببه شهود الشهر، لأن الصوم مضاف إليه، يقال صوم شهر رمضان وشرطه الوقت والنية والطهارة، [وركنه الكف عن المفطرات، وحكمه الثواب وسقوط الواجب عن الذمة] . م: (قال: الصوم ضربان) ش: أي نوعان، وفي البدرية جرت العادة بين أهل التحقيق الابتداء بالتحديد ليسهل أمر التقسيم، وقد بدأ بالتقسيم ليسهل أمر التحديد، وصاحب الكتاب بدأ بالتقسيم.
فإن قلت: الصوم واحد باعتبار القربة وقهر النفس، فكيف يتنوع.
قلت: تنوعه باعتبار أن هذا الصوم له أو عليه م: (واجب ونفل) ش: أي أحدهما واجب والآخر نفل واختار لفظ الواجب ليشمل الواجب بإيجاب الله تعالى أو الواجب بإيجاب العبد، كذا في المستصفى، وقيل أراد بالواجب الفرض، وقيل معناه الثابت علينا.
1 -(4/3)
والواجب ضربان: منه ما يتعلق بزمان بعينه كصوم رمضان والنذر المعين فيجوز الصوم بنية من الليل، وإن لم ينو حتى أصبح أجزأته النية ما بينه وبين الزوال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والواجب ضربان) ش: أي نوعان م: (منه) ش: أي من الواجب الذي هو ضربان م: (ما يتعلق بزمان بعينه) ش: أي الذي يتعلق بزمان معين م: (كصوم رمضان) ش: أي كصوم شهر رمضان وهو غير منصرف للعلمية ووجود الألف والنون المزيدتين المضارعتين، لألفي التأنيث، واشتقاقه من رمض الشيء بكسر الميم يرمض بفتحها إذا كثر حره، وقيل من الرمضاء وهي الحجارة الحارة لأنه قد يأتي في وقت الحر.
وقال الفراء: رمضان يجمع على رماضين كسلاطين وسراجين، وقال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أرمضاء ورمضانات. وقال ابن الأنباري - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجمع على رماض م: (والنذر المعين) ش: أي وكان الصوم المنذور المعين بشهر أو بيوم م: (فيجوز) ش: أي فيجوز م: (الصوم) ش: في هذا النوع، وهو صوم رمضان وصوم النذر المعين م: (بنية من الليل) ش: أي من بعد غروب الشمس، وكلمة من لابتداء الغاية، وهو الأصل فيها غير أن باقية معناه لا تخلو عنها.
م: (وإن لم ينو حتى أصبح أجزأته النية ما بينه وبين الزوال) ش: يعني وإن لم ينو في هذين الصوم حتى أصبح أجزأته النية ما بين الصبح وبين الزوال، وعبارة حافظ الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - أحسن من هذا، حيث قال وصح صوم رمضان والنذر المعين والنفل بنية من الليل إلى ما قبل نصف النهار، لأن النية إنما تصح إذا وقعت في الليل أو في أكثر النهار، لأن للأكثر حكم [الكل] .
لأن على قول المصنف الذي هو قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تقع النية في أكثر النهار، لأن للأكثر حكم الكل، لأن على قوله - لأن نصف اليوم من طلوع الفجر الصادق إلى الضحوة الكبرى - لا وقت الزوال وسيجيء كلام المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا، وقولنا هو قول سعيد بن المسيب والأوزاعي وإسحاق وعبد الملك وابن العدل - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - من المالكية وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصح صوم رمضان في حق المقيم الصحيح بغير نية، وهو مذهب عطاء ومجاهد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
قال ابن جرير مع الظاهرية في المحلى: إن من نسي أن ينوي من الليل ففي أي وقت نواه من النهار التالي لتلك الليلة صح صومه، سواء أكل أو شرب أو وطئ أو جمع بين الثلاثة أو لم يفعل شيئا من ذلك ويجزئه صومه ذلك ولا قضاء عليه، ولو لم ينو من النهار إلا مقدار ما ينوي فيه الصوم وإن لم ينوه لا صوم له ولا قضاء عليه.
وكذا من جاءه خبر هلال رمضان بعدما أكل أو شرب أو جامع فنوى الصوم قبل الغروب يجزئه صومه، وإن لم ينوه فلا صوم له ولا قضاء عليه، وإن لم يذكر حتى غربت الشمس فلا(4/4)
وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يجزيه.
اعلم أن صوم رمضان فريضة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] (البقرة: الآية 183) وعلى فرضيته انعقد الإجماع، ولهذا يكفر جاحده. والمنذور واجب لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] (الحج: الآية 29) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قضاء عليه، وعند ابن شريح والطبري وابن زيد الرومي من الشافعية فصح النفل بعد هذه الأشياء المنافية للصوم وهو في غاية الضعف.
م: (وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يجزيه) ش: لأن به تعيين نية الرمضانية والتبييت لها من الليل شرط عنده، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال مالك وجابر وابن زيد والمزني وداود ويحيى البلخي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا يجوز الفرض والنفل إلا بنية من الليل.
[صوم رمضان]
م: (اعلم أن صوم رمضان فريضة) ش: كان من حسن الترتيب أن يذكر هذا في أول الباب ثم يذكر تنوع الصوم مع الإشارة إلى الخلافيات م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] (البقرة: 183) ش: أي فرض عليكم [الصوم كما كتب على الذين من قبلكم، يعني على الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - والأمم من لدن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلى عهدكم، قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أولهم آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، والصوم عبادة قديمة [....
.] .
وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] (البقرة: الآية 183) يدل على فرضيته م: (وعلى فرضيته انعقد الإجماع، ولهذا يكفر جاحده) ش: أي منكره، قوله - يكفر - بضم الياء وفتح الفاء من غير تشديد، يعني من الإكفار لا من التفكير، معناه حكم يكفر جاحده، والأمة اجتمعت من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا من غير نكير أحد.
م: (والمنذور واجب لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] (الحج: الآية 29) ش: بناء على أن الأمر للوجوب.
فإن قلت: كان ينبغي أن يكون فرضاً لكونه ثابتاً بالكتاب، كصوم رمضان.
قلت: هذا عام خص منه النذر بالمعصية، والنذر بالطهارة، وعيادة المرضى، وصلاة الجنازة، فيثبت به واجب غير قطعي، كالواجب بخبر الواحد، بخلاف قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] فإنه غير مخصوص، فثبت به واجب قطعي.
فإن قلت: قد خص منها أيضاً المجانين والصبيان وأصحاب الأعذار ومع هذا تثبت الفرضية.
قلت: هذا المخصص بالدليل العقلي، وهو لا يخرج النص عن القطعي لأن العقل دل على اعتبار [عدم] دخول هؤلاء فلا يكون تخصيصاً، وقد يقال إن الأمر لتفريغ الذمة عما وجب(4/5)
وسبب الأول الشهر، ولهذا يضاف إليه ويتكرر بتكرره وكل يوم سبب وجود صومه، وسبب الثاني النذر والنية من شرطه، وسنبينه ونفسره إن شاء الله تعالى. وجه قوله: في الخلافية قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل» ، ولأنه لما فسد الجزء الأول لفقد النية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عليه بالسبب، فإن كان من الشارع كشهود الشهر في رمضان يكون الثابت به فرضاً، وإن كان من العبد يكون واجباً كما في النذر فرقاً بين إيجاب الرب وإيجاب العبد.
[سبب فرضية شهر رمضان]
م: (وسبب الأول) ش: معنى فرض م: (الشهر) ش: يعني حضوره م: (ولهذا) ش: أي ولكون الشهر سبب فرض الشهر م: (يضاف إليه) ش: والإضافة دليل السبب ( [ويتكرر بتكرره،] وكل يوم سبب وجود صومه) ش: أي صوم ذلك اليوم، لأن صوم رمضان بمنزلة عبادات متفرقة لأنه يتخلل بين يومين زمان لا يصلح للصوم أداء ولا قضاء وهو الليالي، فصار كالصلاة، كذا اختاره صاحب الأسرار وفخر الإسلام. وقال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الليالي كأول الأيام سبب في السببية.
م: (وسبب الثاني النذر) ش: أي سبب المنذور المعين النذر م: (والنية من شرطه) ش: أي من شرط الصوم، لأن الأعمال بالنيات م: (وسنبينه) ش: أي سنبين شرط الصوم، أراد به ما يذكره بعد هذا عند قوله - ولأنه صوم يوم فيتوقف الإمساك في أوله على النية المتأخرة المعتبرة وتفسيره إن شاء الله أراد به ما يذكره بقوله والنية - لتعينه لله تعالى، لأن النية عبارة عن تعين بعض المحتملات، فكان ما ذكره تفسير النية.
م: (وجه قوله في الخلافية) ش: أي وجه قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المسألة الخلافية وهو أن النية قبل الزوال يجزئه عندنا خلافاً له م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل» ش: هذا الحديث بهذا اللفظ وقع في رواية ابن أبي حاتم قال سألت أبي عن حديث رواه إسحاق بن حازم عن عبد الله بن أبي بكر عن سالم عن أبيه عن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مرفوعاً: «لا صيام لمن لم ينو من الليل» ورواه يحيى بن أيوب عن(4/6)
فسد الثاني ضرورة أنه لا يتجزأ بخلاف النفل لأنه متجزئ عنده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عبد الله بن أبي بكر عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مرفوعاً.
قلت: أيما أصح قال لا أدري، لأن عبد الله بن أبي بكر أدرك سالماً، وروى عنه فلا أدري أسمع هذا الحديث منه أو سمعه من الزهري عن سالم، وقد روي هذا عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قولها وهو عندي أشبه. ورواه أيضاً الأربعة من حديث عبد الله بن عمر عن أخته حفصة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له» هذا لفظ أبي داود والترمذي ولفظ ابن ماجه «لا صيام لمن لم يفرضه من الليل» وجمع النسائي بين اللفظين، ورواه أبو داود مرفوعاً وموقوفاً.
ورواه الترمذي عن عيسى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر قال: هذا حديث لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وقد روي عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قوله وهو أصح، ورواه النسائي من طريقين، قال الصواب عندي موقوف، ولم يصح رفعه، لأن يحيى بن أيوب ليس بذاك القوي، ثم أخرجه عن مالك عن الزهري عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وحفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - موقوفاً، ورواه مالك أيضاً عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قوله وروى الدارقطني في سننه من حديث يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له» ، ثم قال ورجاله كلهم ثقات " وأقره البيهقي على ذلك في سننه وفي خلافياته.
قلت: في رجاله عبد الله بن عباد غير مشهور، وقال ابن حبان هو يقلب الأخبار، وفيهم يحيى بن أيوب - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس بالقوي كما مر.
فإن قلت: أخرج الدارقطني أيضاً عن الواقدي بإسناده إلى ميمونة بنت سعد تقول سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول «من أجمع الصوم من الليل فليصم، ومن أصبح ولم يجمعه فلا يصم» .
قلت: أعله ابن الجوزي في " التحقيق " والواقدي. قوله - ولم يجمع - قال ابن الأثير من الإجماع وهو إحكام النية والعزيمة، وقال غيره بالتشديد والتخفيف يعني من التجميع والإجماع، ومعنى قوله - لم يفرضه من الليل - أي لم يقطعه ولم يجزمه ويروى [.....] .
م: (ولأنه لما فسد الجزء الأول لفقد النية فسد الباقي ضرورة أنه لا يتجزأ) ش: أي لأن الشأن لما فسد الجزء الأول من اليوم لعدم النية فيه، فسد الباقي لأن الصوم مساو لجميع اليوم لأنه لا يتجزأ م: (بخلاف النفل لأنه متجزئ عنده) ش: أي لأن النفل يتجزأ عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(4/7)
ولنا «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدما شهد الأعرابي برؤية الهلال: " ألا من أكل فلا يأكلن بقية يومه، ومن لم يأكل فيلصم» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الوجيز وشرحه " والتتمة يجوز النفل بنيته في النهار قبل الزوال، وفي النية بعد الزوال قولان، ثم إذا نوى قبل الزوال وبعده وما دناه فهو صائم من أول النهار في الأصح.
وقيل من وقت النية وهو اختيار القفال، ثم على القول الأصح شرط خلو أول اليوم عن الأكل والشرب والجماع، فيه وجهان، أحدهما لا يشترط وهو قول ابن شريح، لأن الصوم محسوب له من وقت النية، فكان ما مضى بمنزلة جزء من الليل، والأصح أنه يشترط وإلا بطل مقصود الصوم، وكذا اشتراط الخلو أول اليوم عن الكفر والجنون والحيض قولان، في قول لا يشترط لما ذكرنا، وفي قول يشترط وهو الأصح، انتهى.
قلت: قول المصنف لأنه متجزئ لا يصح إلا على قول ابن شريح، فافهم.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (بعدما شهد الأعرابي برؤية الهلال: «ألا من أكل فلا يأكلن بقية يومه، ومن لم يأكل فليصم» ش: هذا حديث غريب، ذكره ابن الجوزي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " التحقيق ".
وقال إن هذا الحديث لا يعرف، وإنما المعروف إنه شهد عنده برؤية الهلال، فأمر أن ينادي بالناس أن يصوموا غداً، وقد رواه الدارقطني بلفظ صريح أن أعرابياً جاء ليلة شهر رمضان.. فذكر الحديث، واستدل أبو نصر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأصحابنا في " شرحه " للقدوري.
فقال: ولنا ما وري «أن الهلال غم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما أصبحوا جاء أعرابي فشهد برؤية الهلال، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منادياً فنادى ألا من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يأكل فيصم» واستدل صاحب " النهاية " بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] (البقرة: الآية 185) أي الشهر لتحصيل الإمساك لله تعالى فيه بالنسبة في أكثر النهار.
فصار لله تعالى كما في شهر رمضان، فلا تثبت الزيادة لأنه نسخ. وفي حديث مشهور(4/8)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصبحوا يوم الشك مفطرين متلومين، أي غير عازمين للصوم ولا آكلين، فإنه بعد الأكل يتعين الفطر، فلا يبقى بعده متلوم وإفطار وإما تحقق التلوم مع الإمساك بلا نية، حتى إن تبين أنه في شعبان أكل، وإن تبين أنه في رمضان فلا حرج، ولو كان الصوم لا يصح بنيته في النهار في الفرض لم يكن للتلوم معنى.
وفي حديث مشهور «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في يوم عاشوراء ألا من أكل فلا يأكلن بقية يومه، ومن لم يأكل فيلصم» . أمرهم بالصوم من النهار، فثبت أنه جائز، وتبعه الكاكي، فذكر جميع ما قاله.
وقال في الحديث الذي احتج به المصنف لا يعرف، وإن المروي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلالاً أن أذن في الناس [أن من أكل] فليصم بقية يومه فليصوموا» فقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
قلت: الحديث المشهور هو الذي رواه البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر رجلاً من أسلم أن أذن في الناس أن من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يأكل فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء» وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه دليل على من أن تعين عليه صوم يوم ولم ينوه ليلاً أنه يجوز بها قبل الزوال.
فإن قلت: قال ابن الجوزي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في التحقيق لم يكن صوم يوم عاشوراء واجباً فله حكم النافلة يدل عليه ما أخرجاه في الصحيحين «عن معاوية سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول هذا يوم عاشوراء لم يفرض علينا صيامه فمن شاء منكم أن يصوم فليصم، فإني صائم، فصام الناس» . قال وفيه دليل أنه لم يأمر من أكل بالقضاء.
قلت: معنى حديث معاوية ليس مكتوباً عليكم الآن ولم يكتب عليكم بعد أن فرض رمضان، وهذا ظاهر، فإن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من مسلمة الفتح وهو إنما سمعه من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ما أسلم في سنة تسع أو عشر بعد أن نسخ صوم عاشوراء برمضان، ورمضان فرض في السنة الثانية.
«وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان [يوم] عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية، وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، ولما فرض رمضان قال من شاء صامه، ومن شاء تركه» متفق عليه.
وعن عائشة وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وجابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن صوم عاشوراء كان فرضاً قبل أن يفرض رمضان، فلما فرض رمضان فمن شاء صام، ومن شاء(4/9)
وما رواه محمول على نفي الفضيلة والكمال، أو معناه لم ينو أنه صوم من الليل، ولأنه يوم صوم فيتوقف الإمساك في أوله على النية المتأخرة المقترنة بأكثره كالنفل، وهذا لأن الصوم ركن واحد ممتد والنية لتعيينه لله تعالى فتترجح بالكثرة جنبة الوجود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ترك، ذكره ابن شداد في أحكامه، وما ترك الأمر بالقضاء، فإن من لم يدرك اليوم كاملاً لا يلزمه قضاؤه كما قيل فيمن بلغ أو أسلم في أثناء يوم من رمضان.
فإن قلت: أخرج أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - في سننه عن سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة عن عبد الرحمن بن مسلمة «عن محمد بن أسلم أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال صمتم يومكم هذا، قالوا لا قال: فأتموا بقية يومكم فاقضوه» قال أبو داود يعني عاشوراء.
قلت: هذا حديث مختلف فيه، فقال البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عبد الرحمن هذا مجهول مختلف في اسم أبيه، فلا يدرى من محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال المنذري عبد الرحمن بن مسلم كما ذكره أبو داود، وقيل عبد الرحمن بن سلمة، وقيل ابن المنهال بن سلمة، والحديث رواه النسائي وليس في روايته فاقضوه، وقال عبد الحق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأحكام الكبرى ولا يصح هذا الحديث في القضاء.
م: (وما رواه) ش: أي وما رواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل» وقد أجاب عنه بقوله - وما رواه - م: (محمول على نفي الفضيلة والكمال [أو معناه لم ينو أنه صوم من الليل] كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» . وقال تاج الشريعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولئن قال ما ذكرناه حقيقة قلنا نعم، ولكن فيه عمل بعموم النص، وفي معنى الجواز تركه.
لن صوم النفل يجوز قبل الزوال: ولأنه يوم صوم) ش: هذا دليل معقول، وهو أن يقال سلمنا ما رواه ليس بمحمول على شيء مما ذكرناه، فيكون معارضاً لما رويناه فيصار لما بعده من الحجة وهو القياس، وهو معنى - لأنه يوم صوم - لأن الصوم فيه فرض، وكل ما هو صوم يوم.
م: (فيتوقف الإمساك في أوله على النية المتأخرة المقترنة بأكثره كالنفل) ش: لأنه وقت واحد، فبالنية في أوله يترجح جهة الوجوب كما في النفل م: (وهذا) ش: أي توقف الإمساك على ما ذكرناه م: (لأن الصوم ركن واحد ممتد) ش: يحتمل العادة والعبادة وكلما [كان] كذلك يحتاج إلى ما يعينه للعبادة، فلا بد من ذلك وهو معنى قوله.
م: (والنية لتعيينه) ش: أي لتعيين الصوم م: (لله تعالى) ش: فنظر أن وجدت النية من أوله فلا كلام [له] وإلا م: (فتترجح بالكثرة (ش: أي بجودها في أكثر اليوم م: (جنبة الوجود) ش: أي جانب الوجود، لأن الأكثر يقوم مقام الكل في كثير من المواضع، وإذا كان كذلك لم يكن اقتران النية بالشروع شرطاً.(4/10)
بخلاف الصلاة والحج، لأنهما أركان فيشترط قرانها بالعقد على أدائهما بخلاف القضاء، لأنه يتوقف على صوم ذلك اليوم وهو النفل، وبخلاف ما بعد الزوال، لأنه لم يوجد اقترانها بالأكثر، فترجحت جنبة الفوات. ثم قال في المختصر ما بينه وبين الزوال وفي " الجامع الصغير " قبل نصف النهار وهو الأصح، لأنه لا بد من وجود النية في أكثر النهار، ونصفه من وقت طلوع الفجر إلى وقت الضحوة الكبرى لا إلى وقت الزوال، فتشترط النية قبلها ليتحقق في الأكثر.
ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بخلاف الصلاة والحج) ش: حيث يشترط اقتران النية بحال الشروع فيهما، ولا يجعل الأكثر كالكل م: (لأنهما أركان) ش: مختلفة كالركوع والسجود والوقوف والطواف م: (فيشترط قرانها) ش: أي قران النية م: (بالعقد) ش: أي بحال الشروع م: (على أدائهما) ش: لئلا تخلو بعض الأركان عن النية م: (بخلاف القضاء) ش: هذا جواب عما يقال، لو كان الصوم ركناً واحداً ممتداً والنية المتأخرة فيه جائزة كذلك، لم يكن في القضاء اشتراط النية من الليل، فأجاب عنه بقوله - بخلاف القضاء -.
م: (لأنه) ش: أي لأن الإمساك م: (يتوقف على صوم ذلك اليوم وهو النفل) ش: يعني يصوم ذلك اليوم ما تعلقت شرعيته بمجيء اليوم لا لسبب آخر من نحو القضاء والكفارة، فيكون الصوم قد وقع عنه فلا يمكن جعله من القضاء إلا قبل أن يقع كون الصوم منه، وذلك إنما يكون بنية من الليل.
م: (بخلاف ما بعد الزوال) ش: هذا جواب عما يقال إذا كان ركناً واحدا ًممتداً ينبغي أن يكون اقترانها بالقليل والكثير سواء، فأجاب عنه بقوله م: (لأنه لم يوجد اقترانها) ش: أي اقتران النية م: (بالأكثر) ش: أي بأكثر النهار م: (فترجحت جنبة الفوات) ش: لأنه لم يوجد الأكثر الذي يقوم مقام الكل بعد الزوال.
م: (ثم قال في المختصر) ش: أي ثم قال القدوري في " مختصره " المنسوب إليه م: (ما بينه وبين الزوال) ش: هو قوله فيه إذا لم ينو حتى أصبح أجزأته النية ما بينه وبين الزوال م: (وفي الجامع الصغير) ش: أي قال في " الجامع الصغير " أجزأته النية م: (قبل نصف النهار) ش: أي النهار الشرعي، وهو من طلوع الفجر إلى الغروب، ونصف النهار من ذلك وقت الضحوة الكبرى م: (وهو) ش: أي الذي ذكره في الجامع.
م: (الأصح لأنه لا بد من وجود النية في أكثر النهار، ونصفه من وقت طلوع الفجر إلى وقت الضحوة [الكبرى] ، فتشترط النية قبلها) ش: أي قبل الضحوة الكبرى م: (ليتحقق) ش: أي النية م: (في الأكثر) ش: أي في أكثر النهار، وقد مر الكلام فيه في أوائل الباب.
م: (ولا فرق بين المسافر والمقيم) ش: يعني في جواز النية قبل نصف النهار م: (خلافاً لزفر -(4/11)
فرق بين المسافر والمقيم، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا تفصيل فيما ذكرنا من الدليل
وهذا الضرب من الصوم يتأدى بمطلق النية وبنية النفل وبنية واجب آخر. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في نية النفل عابث، وفي مطلقها له قولان، لأنه بنية النفل معرض عن الفرض.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإنه يقول إمساك المسافر في أول النهار لم يكن مستحقاً لصوم الفرض، فلا يتوقف على وجود النية، بخلاف إمساك المقيم.
وفي " المبسوط " ولو نوى المسافر وقد قدم مصراً ولم يكن أكل جاز صومه عن الفرض عندنا، خلافاً لزفر، فإن عنده لا يجوز للمسافر إلا بنية من الليل، لأن إمساك المسافر في أول النهار لم يمكن مستحقاً لصوم الفرض، فلا يتوقف على وجود النية، بخلاف إمساك المقيم.
وفي الصحيح المقيم لا تشترط النية عند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال مالك والليث وابن المبارك وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية تكفي نية واحدة في كل رمضان م: (لأنه لا تفصيل فيما ذكرنا من الدليل) ش: يعني المعنى الذي لأجله جوز في حق المقيم وهو إقامة النية في الأكثر معها كما [مقامها] في الجميع موجود في حق المسار أيضاً، لأن الوقت في حق المسافر والمقيم في هذا سواء، وإنما يفارق المقيم في حق الترخص بالفطر، ولم يرخص به، وفي الولوالجي صام المسافر تبيتاً قبل الزوال جاز، لأنه كالمقيم إذ الاختيار تعجيل الواجب.
م: (وهذا الضرب) ش: أي ما يتعلق بزمان معين م: (من الصوم يتأدى بمطلق النية) ش: بأن يقول نويت الصوم م: (وبنية النفل) ش: [أي ويصح نية النفل] بأن يقول نويت أن أصوم تطوعاً م: (وبنية واجب آخر) ش: بأن ينوي كفارة أو غيرها قبل.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله بنية واجب آخر مستقيم في صوم [شهر] رمضان، فأما في النذر المعين فلا، لأنه يقع عما نوى من الواجب إذا كانت النية من الليل، ذكره في أصول شمس الأئمة وغيره، فحينئذ قول المصنف، وهذا الضرب لا يبقى على الإطلاق، ثم قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قاله شيخي العلامة.
قلت: هو الشيخ عبد العزيز يمكن أن يقال موجب كلام المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يتأدى المجموع بالمجموع والبعض بالبعض والبعض بالكل لأن كل فرض يتأدى بالمجموع فيظهر لكلامه وجه الصحة.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في نية النفل عابث) ش: من العبث أي لا يكون صائماً لا فرضاً ولا نفلا ً م: (وفي مطلقهما) ش: أي في مطلق النية م: (له) ش: أي للشافعي م: (قولان) ش: في قول يقع عن فرض الوقت، وفي قول لا يقع، والأصح أنه لا يجوز، وبه قال مالك وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنه بنية النفل معرض عن الفرض) ش: لما بينهما من المغايرة م: (فلا(4/12)
فلا يكون له الفرض. ولنا أن الفرض متعين فيه، فيصاب بأصل النية كالمتوحد في الدار يصاب باسم جنسه، وإذا نوى النفل أو واجبا آخر فقد نوي أصل الصوم وزيادة جهة وقد لغت الجهة فبقي الأصل، وهو كاف ولا فرق بين المسافر والمقيم، والصحيح والسقيم عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - لأن الرخصة كيلا تلزم المعذور مشقة، فإذا تحملها التحق بغير المعذور، وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا صام المريض أو المسافر بنية واجب آخر يقع عنه، لأنه شغل الوقت بالأهم لتحتمه في الحال وتخيره في صوم رمضان إلى إدراك العشرة، وعنه في نية التطوع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يكون له الفرض) ش: لإعراضه بترك النية، ومن هذا يظهر وجه قوله الآخر، لأنه لم يصر معرضاً فيه يجوز.
م: (ولنا أن الفرض متعين فيه) ش: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا انسلخ شعبان فلا صوم إلا رمضان» م: (فيصام بأصل النية) ش: أي فيدرك بأصل النية، وفي " المغرب " الإصابة الإدراك م: (كالمتوحد [في الدار يصاب باسم جنسه) ش: بأن يقال ما حيوان كما يصاب باسم نوعه] بأن يقول عند عدم المزاحمة إذا كان موجوداً، أشار إليه أما إذا كان غائباً فلا، والصوم ها هنا ليس بموجود.
قلت: إنه موجود من حيث الشرعية، وهذا الموجود من حيث الشرعية واحد فيتناوله مطلق الاسم م: (وإذا نوى النفل أو واجباً آخر) ش: أي أو نوى [واجباً آخر] م: (أو نوى واجباً آخر فقد نوى أصل الصوم) ش: وهو جنس النية م: (وزيادة جهة) ش: أي مع زيادة جهة أو نية النفل مع نية واجب آخر.
م: (فقد لغت الجهة) ش: وهو كونه نفلاً أو واجباً آخر، لأن الوقت لا بعد هذه الجهة م: (فبقي الأصل) ش: إذ ليس من ضرورة بطلان الوصف بطلان الأصل.
م: (وهو كاف) ش: أي [ها] هنا الأصل كاف لما شرع فيه من أصل الصوم المستحق م: (ولا فرق) ش: أي في المسألة المذكورة م: (بين المسافر والمقيم والصحيح والسقيم عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله) ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن الرخصة كيلا تلزم المعذور مشقة) ش: أي لأن الرخصة إنما شرعت كيلا يلحق المعذور مشقة م: (فإذا تحملها) ش: أي المشقة م: (التحق بغير المعذور) ش: فصار كالصحيح الذي لم يرخص له ذلك.
م: (وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا صام المريض أو المسافر بنية واجب آخر يقع عنه) ش: أي عن واجب آخر م: (لأنه شغل الوقت بالأهم) ش: وهو إسقاط الفرض عنه م: (لتحتمه في الحال) ش: لأن القضاء لازم في الحال فيؤخذ به م: (وتخيره في صوم رمضان إلى إدراك العشرة) ش: في أيام أخر حتى إذا مات قبل إدراك عدة من أيام أخر ليس عليه شيء.
م: (وعنه) ش: أي وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في نية التطوع روايتان) ش: في رواية(4/13)
روايتان. والفرق على أحدهما أنه ما صرف الوقت إلى الأهم
قال: والضرب الثاني ما ثبت في الذمة كقضاء شهر رمضان وصوم الكفارة، فلا يجوز إلا بنية من الليل، لأنه غير متعين، ولا بد من التعيين من الابتداء، والنفل كله يجوز بنية قبل الزوال، خلافا لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يتمسك بإطلاق ما روينا. ولنا «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدما كان يصبح غير صائم " إني إذا لصائم» ، ولأن المشروع خارج رمضان هو النفل فيتوقف الإمساك في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن سماعة يقع عن الفرض، وفي رواية الحسن يقع عما نوى من النفل، لأن رمضان في حقه كشعبان في حق المقيم ونيته في شعبان تقع عما نوى نفلاً كان أو واجباً، فكذا هذا.
م: (والفرق على أحدهما) ش: أي على إحدى الروايتين م: (أنه ما صرف الوقت إلى الأهم) ش: و [هو] إسقاط الفرض عن ذمته، فإنما قصد تحصيل الثواب والثواب في الفرض أكثر.
م: (قال: والضرب الثاني) ش: هو القسم الثاني من قوله في أول الباب الواجب ضربان، وقد مر الضرب الأول، وشرع هنا في بيان الضرب الثاني م: (وهو ما ثبت في الذمة) ش: المراد من الثبوت في الذمة كونه مستحقاً فيها من غير اتصال له بالوقت [على ما] قبل العزم على ضرب ما له إلى ما عليه.
م: (كقضاء شهر] رمضان وصوم الكفارة) ش: هو كفارة اليمين والظهار وكفارة قتل الصيد والحلف والمتعة وكفارة رمضان م: (فلا يجوز إلا بنية من الليل، لأنه غير متعين ولا بد من التعيين في الابتداء) ش: لأن صوم القضاء وجب في زمان يوصف تحريم الأكل [فلا يجوز] وإن لم ينو من الليل.
وعلى هذا النذر أيضاً النذر الذي ليس بمعين لا يجوز إلا بنية من الليل وصورته أن يقول لله علي صوم يوم أو صوم شهر م: (والنفل كله) ش: يعني سواء كان من الصحيح أو السقيم أو المقيم أو المسافر م: (يجوز بنية قبل الزوال خلافاً لمالك رحمه لله، فإنه يتمسك بإطلاق ما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل» .
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (بعد ما كان يصبح غير صائم: إني إذا صائم) ش: قوله - إني إذا صائم - هو مقول القول والحديث رواه مسلم عن عائشة بنت طلحة «عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: دخل علي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ فقلت لا، فقال إني إذا صائم، ثم أتاني يوماً آخر فقلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدي لنا حيس فقال: أدنيه فلقد أصبحت صائماً فأكل» .
م: (ولأن المشروع) ش: أي الصوم المشروع م: (خارج رمضان هو النفل فيتوقف الإمساك في(4/14)
أول اليوم على صيرورته صوما بالنية على ما ذكرنا، ولو نوى بعد الزوال لا يجوز. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز ويصير صائما من حين نوى، إذ هو متجزئ عنده لكونه مبنيا على النشاط ولعله ينشط بعد الزوال إلا أن من شرطه الإمساك في أول النهار. وعندنا يصير صائما من أول النهار، لأنه عبادة قهر النفس، وهي إنما تتحقق بإمساك مقدر فيعتبر قران النية بأكثره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أول اليوم على صيرورته صوماً بالنية على ما ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله ولأنه صوم يوم فيتوقف الإمساك في أوله على النية المتأخرة المقترنة بالكثرة كالنفل م: (ولو نوى بعد الزوال لا يجوز) ش: أي ولو نوى الصوم تطوعاً بعد زوال الشمس عن كبد السماء لا يجوز، لأن ما لا يكون محلا لنية صوم الفرض لا يكون محلا لنية صوم النفل.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جاز ويصير صائماً من حين نوى إذ هو متجزئ عنده لكونه مبنياً على النشاط، ولعله ينشط بعد الزوال إلا أن من شرطه الإمساك في أول النهار) ش: وهذا على الأصح من مذهبه، وفي تتمتهم إذا جوزناه بعد الزوال فهو صائم في أول النهار في الأصح، وقيل: من وقت النية، وهو اختيار القفال، وقد ذكرناه.
م: (وعندنا يصير صائماً من أول النهار لأنه عبادة قهر النفس وهي إنما تتحقق بإمساك مقدر فيعتبر قران النية بأكثره) ش: أي بأكثر النهار، وقد مر أن الأكثر يقوم مقام الكل في مواضع كثيرة. وفي المرغيناني لو نوى الإفطار بعد شروعه في الصوم لم يفطر حتى يأكل، وكذا لو نوى الرجوع عنه لا يكون رجوعاً، وكذا لو نوى الكلام في الصلاة لا تفسد حتى يتكلم.
وقال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لو نوى الإفطار فقد أفطر، وفي الليل لو نوى الإفطار من الغد بعد نيته يكون رجوعاً ولو أكل أو شرب أو جامع أو نام لا يكون رجوعاً إلا عند المروزي من الشافعية.
وقال الإصطخري - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا خرق للإجماع، وإن نوى أن يصوم غداً، إن شاء الله تعالى صحت نيته، لأن النية عمل القلب دون اللسان، فلا يعمل فيه الاستثناء.
وقال الحلواني: لا رواية لهذه المسألة، وفي القياس لا يصير صائماً كالطلاق والعتاق والبيع، وفي الاستحسان يصير صائماً لأنه لا يراد به الإبطال، بل هو استعانة وطلب التوفيق من الله تعالى: قال المرغيناني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو الصحيح وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.(4/15)
فصل
في رؤية الهلال قال: وينبغي للناس أن يلتمسوا الهلال في اليوم التاسع والعشرين من شعبان، فإن رأوه صاموا، وإن غم عليهم أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما، ثم صاموا لقوله: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم الهلال فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما» ولأن الأصل بقاء الشهر فلا ينقل عنه إلا بدليل ولم يوجد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في رؤية الهلال]
(فصل في رؤية الهلال) م: (وينبغي للناس أن يلتمسوا الهلال) ش: أي هلال رمضان م: (في اليوم التاسع والعشرين من شعبان) ش: لأن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوماً، والالتماس يكون عشية اليوم التاسع والعشرين، لأن اليوم التاسع من طلوع الفجر، والتماسه يكون عند الغروب م: (فإن رأوه صاموا لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صوموا لرؤيته» ..، وإن غم بضم الغين المعجمة وتشديد الميم أي وإن [ستر] وغطي عليهم أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً، ثم صاموا) ش: وصوم يوم تمام الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو إجماعاً من الأئمة أنه لا يجب بل هو منهي عنه.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم» ش: عليكم الهلال م: (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً) ش: هذا الحديث أخرجه البخاري و [مسلم] عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واللفظ للبخاري، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رأيتم الهلال فصوموا. وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين، وفي لفظ لهما فعدوا ثلاثين، وفي لفظ فأكملوا العدة، وفي لفظ فصوموا ثلاثين يوماً» والمصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - احتج بهذا الحديث على أن اليوم الثلاثين من شعبان يوم شك إذا غم هلال رمضان، فإنه لا يجوز صومه إلا تطوعاً.
م: (ولأن الأصل بقاء الشهر فلا ينقل عنه إلا بدليل، ولم يوجد) ش: قال الكاكي: قوله - فإن غم عليكم الهلال - من تتمة الحديث، وروي أنه قال «فإن] حال بينكم وبين منظره سحاب أو قترة فعدوا ثلاثين [يوماً» .
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مرفوعاً «لا تصوموا قبل رمضان صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه سحاب فكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً» وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حديث حسن صحيح ورواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، ورواه أبو داود الطيالسي حدثنا أبو(4/16)
ولا يصومون يوم الشك إلا تطوعا. لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يصام اليوم الذي يشك فيه أنه من رمضان إلا تطوعا» ، وهذه المسألة على وجوه: أحدها: أن ينوي صوم رمضان، وهو مكروه لما روينا، ولأنه تشبه بأهل الكتاب، لأنهم زادوا في مدة صومهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عوانة. عن سماك عن عكرمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه غمامة أو ضبابة فكملوا شهر شعبان ثلاثين ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان» ولا يعتبر قول المنجمين بالإجماع، ومن رجع إلى قولهم فقد خالف الشرع، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أتى كاهناً أو منجماً وصدقه فيما قال فقد كفر بما أنزل على محمد» .
[صوم يوم الشك وحكم من رأى هلال رمضان وحده]
م: (ولا يصومون يوم الشك إلا تطوعاً) ش: قال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يوم الشك هو الأخير من شعبان الذي يحتمل أنه من أول رمضان أو آخر شعبان. وفي " المبسوط " الشك إنما يقع من جهتين إما بأن غم هلال شعبان فوقع الشك أنه اليوم الثلاثون منه أو الحادي والثلاثون أو غم هلال رمضان فوقع الشك في يوم الثلاثين من شعبان أم من رمضان.
وفي الفوائد الظهيرية يوم الشك هو اليوم الذي يتم به الثلاثون في المستهل، ولم يهل الهلال ليلاً لاستتار السماء بالغمام. وفي المجتبى إذا لم ير علامة ليلة الثلاثين والسماء متغيثة يقع الشك، أما لو كانت السماء مضحية فلم ير الهلال فليس يوم الشك، ولا يجوز الصوم ابتداء لا فرضاً ولا نفلاً.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يوم الشك بأن تباعد الناس في طلب الهلال أو شهد برؤيته من يرد الحاكم شهادته، ونقل هذا القول عن جماعة من الصحابة والتابعين. وفي تتمة الشافعية صورة الشك أن يشهد برؤية الهلال من لا تقبل شهادته كالعبد والمرأة والصبي وأهل الذمة أو يقع في لسان القوم أن الهلال قد رؤي.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا يصام اليوم الذي يشك فيه أنه من رمضان إلا تطوعاً» ش: هذا غريب جداً، والشراح كلهم نقوله على أنه حديث ولم يبين أحد منهم ما حاله م: (وهذه المسألة على وجوه) ش: أي مسألة صوم يوم الشك على وجوه وهي خمسة على ما نذكره م: (أحدها) ش: أي أحد الوجوه الخمسة م: (أن ينوي صوم رمضان وهو مكروه لما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو «لا يصام اليوم الذي يشك فيه أنه من رمضان إلا تطوعاً» .
م: (ولأنه تشبه بأهل الكتاب لأنهم زادوا في مدة صومهم) ش: وذلك لأجل مجيء صومهم في أيام الحر أخروه، وزادوا فيه، فإذا نوى في صومه يوم الشك إنه من رمضان يكره، وفيه خلاف أبي هريرة وعمر ومعاوية وعائشة وأسماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فإن عندهم يجب صوم هذا اليوم مطلقاً ذكره ابن المنذر في الأشراف.(4/17)
ثم إن ظهر أن اليوم من رمضان يجزئه لأنه شهد الشهر وصامه، وإن ظهر أنه من شعبان كان تطوعا، وإن أفطر لم يقضه لأنه في معنى المظنون. والثاني: أن ينوي عن واجب آخر وهو مكروه أيضا لما روينا، إلا أن هذا دون الأول في الكراهة. ثم إن ظهر أنه من رمضان يجزئه لوجود أصل النية، وإن ظهر أنه من شعبان فقد قيل يكون تطوعا لأنه منهي عنه فلا يتأدى به الواجب وقيل يجزئه عن الذي نواه وهو الأصح، لأن المنهي عنه وهو التقدم على رمضان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أحمد وطائفة قليلة يجب صومه في الغيم يوم الصحو، وقال قوم إن الناس تبع للإمام إن صام صاموا وإن أفطر أفطروا وهو قول الحسن وابن سيرين وسوار العنبري والشعبي في رواية أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
وذكر الطحاوي ينبغي أن يصبح يوم الشك مفطراً متلوماً غير آكل ولا عازم على الصوم حتى إذا تبين أنه من رمضان قبل الزوال نوى، وإلا أفطر، وكذلك ذكره النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " خزانة الأكمل " وعليه الفتوى.
م: (ثم إن ظهر أن اليوم من رمضان يجزئه) ش: أي إن ظهر يوم الشك الذي صام فيه إنه من رمضان يجزئه عن رمضان، وبه قال الثوري، والأوزاعي م: (لأنه شهد الشهر) ش: أي شهر رمضان م: (وصامه، وإن ظهر أنه من شعبان كان) ش: أي صومه م: (تطوعاً وإن أفطر) ش: أي في ذلك اليوم.
م: (لم يقضه؛ لأنه في معنى المظنون) ش: ولم يقل؛ لأنه مظنون، لأن حقيقة الظنون أن يثبت به الظن بعد رجوعه بيقين، والحال أنه [قد] أداه فشرع فيه على ظن، أنه لم يؤده، ثم علم أنه أداه، وأما ها هنا فلم يثبت، وجوبه بيقين، فلم يكن مظنوناً حقيقة.
م: (والثاني) ش: أي من الوجوه الخمسة م: (أن ينوي) ش: يعني في يوم الشك م: (عن واجب آخر وهو مكروه أيضاً لما روينا) ش: يعني من قوله لا يصام اليوم الذي شك فيه إنه من رمضان إلا تطوعاً م: (إلا أن هذا دون الأول في الكراهة) ش: أي إلا أن هذا الوجه دون الأول في الكراهة لأن الأول يستلزم التشبه بأهل الكتاب دون هذا.
م: (ثم إن ظهر أنه) ش: أي أن هذا اليوم م: (من رمضان يجزئه لوجود أصل النية، وإن ظهر أنه من شعبان، فقد قيل يكون [تطوعاً] ) ش: يعني صوم هذا اليوم تطوعاً م: (لأنه منهي عنه فلا يتأدى به الواجب) ش: أي الواجب الكامل فلا يتأدى بالناقص فيقع تطوعاً م: (وقيل يجزئه عن الذي نواه) ش: من الواجب م: (وهو الأصح) ش: أي هذا القول هو الأصح، وكان المقتضى أن يقول وهو الصحيح كما قال في " المحيط " وهو الصحيح.
م: (لأن المنهي عنه وهو التقدم على رمضان) ش: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتقدموا على رمضان بصوم(4/18)
بصوم رمضان لا يقوم بكل صوم،
بخلاف يوم العيد لأن المنهي عنه وهو ترك الإجابة يلازم كل صوم، والكراهة هنا لصورة النهي. والثالث: أن ينوي التطوع وهو غير مكروه لما روينا، وهو حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله: يكره على سبيل الابتداء، والمراد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يوم ولا بصوم يومين» ، رواه الأئمة الستة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (بصوم رمضان لا يقوم بكل صوم) ش: [قوله - لا يقوم بكل صوم -] خبر لقوله لأن المنهي عنه، وقوله - وهو التقدم على رمضان بصوم رمضان - عليه معترضة، وقوله - لا يقوم بكل صوم - لا يوجد بكل صوم بل يوجد بصوم رمضان، هذا والمراد من القيام الوجود تقديره ما ذكرناه في " الجامع البرهاني " غير الصوم ليس بمنهي عنه، لأن الوقت وقت الصوم والإنسان لا ينهى عن الصوم في وقته، فالنهي أحد الشيئين، أما أداء صوم رمضان أو الزيادة على ما شرع، وهذا لا يوجد بكل صوم، وإنما يوجد بصوم رمضان.
وكان ينبغي أن لا يكره واجب آخر، لأنا أثبتنا نوع الكراهة لأنه مثل رمضان في الفرضية، أو لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يصام اليوم.. الحديث. فلا يؤثر في نفس الصوم بالنقصان، فيصلح لإسقاط [ما وجب عليه كالصلاة في الأرض المغصوبة، فإنه لا يؤثر كراهيتها في إسقاط القضاء] .
م: (بخلاف يوم العيد) ش: أي بخلاف صوم يوم العيد، فإن الصوم فيه مكروه بأي صوم كان، وهو معنى قوله م: (لأن المنهي عنه وهو ترك الإجابة) ش: إلى دعوة الله تعالى م: (يلازم كل صوم) ش: أي يحصل بكل صوم من صوم التطوع أو القضاء أو الكفارة م: (والكراهة هنا لصورة النهي) ش: هذا جواب عما يقال، فعلى هذا كان الواجب أن يكون صوم واجب آخر مكروهاً فأجاب بقوله والكراهة هنا صورة النهي، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يصام اليوم الذي يشك فيه» .. الحديث م: (والثالث) ش: أي الوجه الثالث من الوجوه الخمسة م: (أن ينوي التطوع) ش: أي يصوم في يوم الشك م: (وهو غير مكروه لما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا تطوعاً، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهو حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله: يكره على سبيل الابتداء) ش: يعني بأن لا يكون له عادة صوم يوم الخميس مثلاً، ما [إذا] اتفق يوم الخميس كونه يوم الشك، فيكره صومه حينئذ، وأما إذا وافق عادة له فلا يكره. واستدل على ذلك بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا بصوم يومين إلا أن يكون صوم يصومه رجل فليصم ذلك اليوم» . وهذا نص على الجواز، وأجاب المصنف عن هذا بقوله م: (والمراد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا بصوم يومين» الحديث) ش: يعني أتم الحديث وتمامه ما ذكرناه الآن.(4/19)
تتقدموا رمضان بصوم يوم ولا بصوم يومين» ، الحديث التقدم بصوم رمضان لأنه يؤديه قبل أوانه،
ثم إن وافق صوما كان يصومه فالصوم أفضل بالإجماع، وكذا إذا صام ثلاثة أيام من آخر الشهر فصاعدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقوله - والمراد - مبتدأ، وقوله المقدم بصوم رمضان - خبره م: ( [التقدم بصوم رمضان] لأنه يؤديه قبل أوانه) ش: أي قبل وقته، لأن فيه تقديم الحكم على السبب وهو باطل، والدليل على ذلك، أن ما قبل الشهر وقت التطوع لا لصوم الشهر فلا يتصور التقدم بالتطوع.
فإن قلت: صوم رمضان هو ما يقع فيه فكيف يتصور التقدم فيه أجيب بأن معناه أن ينوي الفرض قبل الشهر، وهذا كما يقال مثلاً قدم صلاة الظهر على وقته، فإن معناها نواها قبل دخول وقتها.
وقال مخرج أحاديث الهداية بعد ذكر الحديث المذكور وآخر الحديث به تأويل صاحب الكتاب يعني الهداية، فإنه أسند للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ثم إن وافق صوماً كان يصومه) ش: على سبيل العادة، بأن كان اعتاد يوم الخميس مثلاً فوافق يوم الشك يوم الخميس م: (فالصوم أفضل بالإجماع، وكذا إذا صام ثلاثة أيام من آخر الشهر) ش: أي شهر شعبان م: (فصاعداً) ش: أي أكثر من ثلاثة أيام، وانتصابه على الحال.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره التطوع إذا انتصف شعبان، لحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا» رواه أبو داود والترمذي والنسائي. قلت: يعارضه حديث عمران بن حصين «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل هل صمت من شهر شعبان شيئاً؟ قال لا، قال فإذا أفطرت فصم» ، رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، قال المنذري الصحيح أن سرار الشهر آخره، سمي بذلك لاستتار القمر فيه، وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - حديث أبي هريرة الذي ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس بمحفوظ.
قال: وسألنا عبد الرحمن بن مهدي فلم يحدثني به قال وكان يتوفاه فأنكره من حديث العلاء، وفي رواية حرب عن أحمد هذا حديث منكر، وقال الحافظ أبو جعفر هذا على وجه الإشفاق على صوم رمضان لا لكراهته في صومه حتى لو علمنا أنه يحصل له ضعف في صومه منعناه.
قلت: وكيف وقد عارضه أحاديث عديدة صحاح، منها ما رواه البخاري عن أبي هريرة «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم شعبان كله وعنه كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصومه إلا قليلاً» رواه مسلم.
ومنها ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أم سلمة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لم(4/20)
وإن أفرده فقد قيل الفطر أفضل احترازا عن ظاهر النهي، وقد قيل الصوم أفضل اقتداء بعلي وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنهما كانا يصومانه.
والمختار أن يصوم المفتي بنفسه احتياطا، ويفتي العامة بالتلوم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يكن يصوم من السنة شهراً كاملاً إلا شعبان ورمضان» .
ومنها ما رواه الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أسامة قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو شهر يغفل الناس عن صيامه، فدل على أن الصوم فيه أفضل من الصوم في غيره» .
م: (وإن أفرده) ش: يعني لم يوافق صوماً صومه م: (فقد قيل الفطر أفضل) ش: وهو قول محمد بن سلمة م: (احترازاً عن ظاهر النهي) ش: وهو قوله لا يصام اليوم الذي شك فيه الحديث.
م: (وقيل: الصوم أفضل) ش: وهو قول نصير بن يحيى م: (اقتداء بعائشة وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنهما كانا يصومانه) ش: قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أي يصومان يوم الشك من شعبان، وكانا يقولان لأن الصوم يوماً من شعبان أحب إلينا من أن نفطر يوماً من رمضان، وكذا ذكره الأكمل، وغيره. وقال مخرج الأحاديث هذا غريب، يعني لم يثبت على هذا الوجه، وفي التحقيق لابن الجوزي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مذهب علي وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه يجب صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دونه غيم ونحوه، قال: وهو أصح الروايتين عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال وعلى هذه الرواية لا يسمى يوم الشك بل هو من رمضان حكماً. وقال السروجي: وقد صح عن أكثر الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأكثر التابعين ومن بعدهم كراهة صوم يوم الشك أنه من رمضان، منهم عمر، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وأبو وائل وابن المسيب وعكرمة، [والنخعي والأوزاعي والثوري والأئمة الأربعة وأبو عبيد] وأبو ثور وأبو إسحاق وجاء ما يدل على الجواز عن جماعة من الصحابة، وعن أبي مريم يقول: سمعت أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: لأن أعجل في صوم رمضان يوما أحب إلي أن أتأخر لأني إذا تعجلت لم يفتني، وإذا تأخرت فاتني، ومثله عن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعن معاوية، لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان ويروى مثله عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وأسماء بنت أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (والمختار أن يصوم المفتي بنفسه) ش: يعني خاصة دون أن يأمر غيره بالصوم وفي " جامع الكردري " والمختار أن يفتي الخواص بالصوم والعوام بالتلوم، والفرق بين الخاصة والعامة وهو كل من يعلم نية يوم الشك هو من الخواص وإلا فهو من العوام م: (احتياطاً) ش: أي لأجل الاحتياط عن وقوع الفطر في رمضان م: (ويفتي العامة بالتلوم) ش: أي بالانتظار.(4/21)
إلى وقت الزوال ثم بالإفطار نفيا للتهمة.
والرابع: أن يضجع في أصل النية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إلى وقت الزوال) ش: أي إلى وقت زوال الشمس من كبد السماء، أي لم يفت بالإفطار م: (ثم بالإفطار نفياً للتهمة) ش: قال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم [الكاكي] أي تهمة الروافض، وفي الفوائد الظهيرية لا خلاف بين أهل السنة أنه لا يصام يوم الشك بنية رمضان.
وقال الروافض: يجب صومه. وقال الكاكي: أو [نفياً] لتهم الزيادة في رمضان، لأنه لو أفتى للعوام ربما يقع في صلاتهم توهم جواز الزيادة على رمضان؛ لأنهم لا يميزون بين رمضان وغيره، وذكر الإمام الكاشاني: أنه لو أفتى العوام بأداء النفل فيه عسى أن يقع عندهم أنه خالف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حيث نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صوم يوم الشك، أو يقع عندهم لما جاز النفل يجوز الفرض أولى، لأنه أهم، ولا ينبغي لهم أن يصوموا لذلك نفياً للاتهام.
وذكر فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في هذا حكاية أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو ما روى أسد بن عمرو أنه قال: أتيت باب الرشيد، فأقبل أبو يوسف القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعليه عمامة سوداء وخف أسود وهو راكب فرس أسود عليها سرج أسود ولبد أسود، وما عليه شيء من البياض إلا لحيته البيضاء وهو يوم الشك، فأفتى الناس بالفطر، فقلت له أو مفطر أنت؟ فقال: ادن إلي قال لي: إني إذن صائم، وإنما يفتى بالفطر بعد التلوم، زماناً لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أصبحوا يوم الشك مفطرين متلومين» .. " انتهى.
وفي بعض نسخ " الهداية " نفيا للتهمة، يعني تهمة العصيان الذي دل عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم» ، انتهى. ولا أدري هذا من المتن الذي ألفه المصنف أو كان حاشية فألحقها بعض النساخ بالمتن ولكن في [كلام مخرج الأحاديث ما يدل على أنه من المتن، حيث ذكر هذا الحديث] من جملة الأحاديث التي ذكرها في هذا الباب، ثم قال هذا غريب، والمعروف هذا من قول عمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
أخرجه أصحاب السنن الأربعة في كتبهم عن أبي خالد الأصم عن عمرو بن عيسى الملائي، عن أبي إسحاق عن جبلة بن زفر قال كنا عند عمار في اليوم الذي شك فيه، فأتى بشاة صلية، فتنحى بعض القوم، فقال عمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (والرابع) ش: أي الوجه الرابع م: (أن يضجع) ش: أي أن متردد من التضجيع بالضاد المعجمة والعين المهملة، يقال ضجع في الأمر [إذا] وهن وقصر، فأصله من الضجوع، وهو الضعف كذا ذكره المطرزي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن فارس، وفي المغرب [الضجع] في الأمر التردد فيه.
م: (في الأصل النية بأن ينوي أن يصوم غداً إن كان من رمضان، ولا يصومه إن كان من شعبان،(4/22)
بأن ينوي أن يصوم غداً إن كان رمضان، ولا يصومه إن كان شعبان، وفي هذا الوجه لا يصير صائماً لأنه لم يقطع عزيمته، فصار كما إذا نوى أنه إن وجد غداً غذاء يفطر وإن لم يجد يصوم. والخامس: أن يضجع في وصف النية بأن ينوي إن كان غداً من رمضان يصوم عنه، وإن كان من شعبان فعن واجب آخر، وهذا مكروه، لتردده بين أمرين مكروهين، ثم إن ظهر أنه من رمضان أجزأه لعدم التردد في أصل النية، وإن ظهر أنه من شعبان لا يجزئه عن واجب آخر لأن الجهة لم تثبت للتردد فيها، وأصل النية لا يكفيه، لكنه يكون تطوعاً غير مضمون بالقضاء لشروعه فيه مسقطاً لا ملزماً. والسادس: وإن نوى عن رمضان إن كان غداً منه وعن التطوع إن كان غداً من شعبان يكره، لأنه ناو للفرض من وجه، ثم إن ظهر أنه من رمضان أجزأه عنه لما مر، وإن ظهر أنه من شعبان جاز عن نفله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي هذا الوجه يصير صائماً؛ لأنه لم يقطع عزيمته) ش: أي لم يجزم بنيته م: (فصار) ش: أي صار حكم هذا م: (كما إذا نوى، أنه إن وجد غداً) ش: يعني في غد م: (غذاء يفطر، وإن لم يجد يصوم) ش: وكذا إن قال: إن وجدت سحوراً صمت، وإلا لا أصوم، فإنه لا يكون ناوياً.
م: (والخامس) ش: أي الوجه الخامس م: (أن يضجع في نصف النية بأن ينوي إن كان غداً من رمضان يوم عنه، وإن كان من شعبان فعن واجب آخر، وهذا مكروه، لتردده بين أمرين مكروهين) ش: وهما صوم رمضان وصوم واجب آخر م: (ثم إن ظهر أنه من رمضان أجزأه) ش: أي عن رمضان.
م: (لعدم التردد في أصل النية) ش: لأن التردد كان في وصفها، ومن المشايخ من قال إذا ظهر أنه من رمضان لا يكون صائماً عن رمضان، روي ذلك عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإن ظهر [أنه] من شعبان لا يجزئه عن واجب آخر، لأن الجهة لم تثبت) ش: أي جهة واجب آخر لم تثبت م: (للتردد فيها، وأصل النية لا يكفيه) ش: لعدم التعيين [دونه] ، ولا بد منه م: (لكنه) ش: أي لكون صومه م: (يكون تطوعا) ش: موصوفاً بكونه م: (غير مضمون بالقضاء) ش: يعني إذا أفسده لم يلزمه القضاء م: (لشروعه فيه) ش: أي في هذا الصوم حال كونه م: (مسقطاً) ش: أحد الوجهين م: (لا ملزماً) ش: أي لا لشروعه حال كونه ملزماً، لأنه نوى عن رمضان أو عن واجب آخر على ظن أنه يسقط عن ذمته.
م: (والسادس) ش: أي الوجه السادس م: (إن نوى عن رمضان إن كان غداً منه وعن التطوع) ش: أي ونوى عن التطوع م: (إن كان غداً من شعبان يكره، لأنه ناو للفرض من وجه، ثم إن ظهر أنه من رمضان أجزأه عنه) ش: أي عن رمضان م: (لما مر) ش: أي من قوله لعدم التردد في أصل النية م: (وإن ظهر أنه من شعبان جاز عن نفله لأنه) ش: أي لأن النفل.(4/23)
لأنه يتأدى بأصل النية، ولو أفسده يجب أن لا يقضيه لدخول الإسقاط في عزيمته من وجه. ومن رأى هلال رمضان وحده صام وإن لم يقبل الإمام شهادته لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» وقد رأى ظاهرا. وإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عليه الكفارة إن أفطر بالوقاع لأنه أفطر في رمضان حقيقة تيقنه به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (يتأدى بأصل النية) ش: لأن أصل النية كاف للجواز م: (ولو أفسده يجب أن لا يقضيه لدخول الإسقاط في عزيمته من وجه) ش: لأن القضاء إنما يجب إذا جزم نفسه وهنا لم يجزم به وذكر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هنا ستة وجوه وبقي وجه آخر وهو أن ينوي الفطر فيه ثم تبين قبل الزوال أنه من رمضان، فنوى الصوم فإنه يجزئه.
وفي شرح " المهذب للنووي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا قال: أصوم غداً من رمضان إن كان منه، وإلا فأنا مفطر أو متطوع لم يجزئه عن رمضان إذا بان أنه منه. وقال المزني: يجزئه عن رمضان.
م: (ومن رأى هلال رمضان وحده) ش: أي حال كونه وحده م: (صام وإن لم يقبل الإمام شهادته لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صوموا لرؤيته» ش: [و] هذا قطعة من حديث أخرجه البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومسلم عن أبي هريرة وقد مر م: (وقد رأى ظاهراً) ش: لأنه يفيد العلم في حقه، وقال الحسن البصري وابن سيرين وعطاء وعثمان البتي وإسحاق بن راهويه وأبو ثور لا يصوم إلا مع الإمام، ولم يذكر هل الإمام تقبل شهادته أم لا؟
قال في " التحفة ": يجب على الإمام رد شهادته لتهمة الفسق إن كان بالسماء علة، والتفرد إن لم يكن بها علة، وإن كان عدلاً. وفي " البدائع " إذا رأى الهلال وحده ورد الإمام شهادته. قال المحققون من مشايخنا لا رواية في وجوب الصوم عليه، وإنما الرواية أنه يصوم، وهو محمول على الندب احتياطاً، وفي " التحفة ": يجب عليه.
وفي " المبسوط ": عليه صومه وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقبل الإمام شهادته لأنه اجتمع في شهادته ما يوجب القبول وهو العدالة والإسلام وما يوجب الرد وهو مخالفة الظاهر فيترجح ما يوجب القبول احتياطاً لأنه إذا صام يوماً من شعبان كان خيراً من أن يفطر من رمضان
وفي " المبسوط ": إنما يرد الإمام شهادته إذا كانت السماء مصحية وهو من أهل المصر، وأما إذا كانت مغيمة أو جاء من خارج المصر من مكان مرتفع تقبل شهادته م: (فإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة) ش: [سواء كان إفطاره بالأكل والشرب والجماع.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عليه الكفارة) إن أفطر بالوقاع) ش: أي الجماع، وبه قال مالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - م: (لأنه أفطر في رمضان حقيقة لتيقنه [به] ) ش: أي برمضان إذ لا طريق لليقين أقوى من الرؤية وشك غيره لا يعتبر.(4/24)
وحكما لوجوب الصوم عليه. ولنا أن القاضي رد شهادته بدليل شرعي وهو تهمة الغلط فأورث شبهة، وهذه الكفارة تندرئ بالشبهات، ولو أدى قبل أن يرد الإمام شهادته اختلف المشايخ فيه ولو أكمل من الرجل ثلاثين يوما لم يفطر إلا مع الإمام، لأن الوجوب عليه للاحتياط، والاحتياط بعد ذلك تأخير الإفطار، ولو أفطر لا كفارة عليه اعتبارا للحقيقة التي عنده.
قال: وإذا كان بالسماء علة قبل الإمام شهادة الواحد العدل في رؤية الهلال رجلا كان أو امرأة حرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وحكماً) ش: أي وأفطر أيضاً من حيث الحكم وذلك م: (لوجوب الصوم عليه) ش: لأن وجوب الصوم عليه بينه وبين ربه فكذلك وجوب الكفارة لأنه عبادة.
م: (ولنا أن القاضي رد شهادته بدليل شرعي، وهو تهمة الغلط) ش: فإنها مطلق القضاء يردها شرعاً كما في شهادة الفاسق، وهي هاهنا ركنه لأنه [لما] ينادي غيره في النظر ظاهراً والنظر وحدة البصر ودقة المرقي وبعد المسافة، فالظاهر عدم اختصاصه للرؤية من بين سائر الناس فيكون غالطاً م: (فأورث شبهة وهذه الكفارة تندرئ بالشبهات) ش: واحترز بقوله وهذه الكفارة يعني كفارة الفطر عن كفارة اليمين و [كفارة] الظهار، وإنما يندرئ بالشبهات بدليل عدم وجوبها على المعذور والمخطئ، كذا في " المبسوط ".
م: (ولو أدى قبل أن يرد الإمام شهادته اختلف المشايخ فيه) ش: أي في وجوب الكفارة، والصحيح أنه لا تجب الكفارة كذا في " فتاوى قاضي خان " - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولو أكمل من الرجل) ش: وهو الذي رد الإمام شهادته م: (ثلاثين يوماً لم يفطر إلا مع الإمام، لأن الوجوب عليه للاحتياط) ش: أي لأن وجوب الصوم عليه بعد رد الإمام شهادته كان لأجل الاحتياط لكونه قد رأى. م: (والاحتياط بعد ذلك) ش: أي بعد وجوب الصوم عليه م: (تأخير الإفطار) ش: إذ أصل الغلط وقع له، كما روي في حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أمر الذي قال رأيت الهلال أن يمسح حاجبه بالماء، ثم قال أين الهلال؟ فقال فقدته، فقال شعرة قامت من حاجبك فحسبتها هلالاً.
م: (ولو أفطر لا كفارة عليه اعتباراً للحقيقة التي عنده) ش: وهي صوم ثلاثين يوماً بالرواية، وبقوله قال الليث، ومالك، وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يفطر سراً، وكذا روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[الحكم لو كان بالسماء علة وشهد برؤية الهلال واحد]
م: (قال: وإذا كان بالسماء علة قبل الإمام شهادة الواحد العدل في رؤية الهلال رجلاً كان أو امرأة، حراً كان أو عبداً لأنه أمر ديني) ش: يعني إذا أخبر عن أمر ديني وهو وجوب أداء الصوم على الناس، فيقبل خبره إذا لم يكذبه، لأنه إنما شق الغيم من موضع القمر فاتفقت رؤيته له دون غيره بخلاف ما إذا كانت السماء مصحية، لأن الظاهر يكذبه م: (فأشبه رواية الأخبار) ش: أي رواية الأحاديث وقول الواحد العدل في الديانات.(4/25)
كان أو عبدا، لأنه أمر ديني فأشبه رواية الأخبار ولهذا لا يختص لفظ الشهادة، وتشترط العدالة لأن قول الفاسق في الديانات غير مقبول، وتأويل قول الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عدلا كان أو غير عدل أن يكون مستورا، والعلة غيم أو غبار.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهذا) ش: أي ولكونه خبراً عن أمر ديني م: (لا يختص بلفظ الشهادة) ش: لأنها ملزمة لغيره بخلاف الأخبار لإلزامه بها نفسه، م: (وتشترط العدالة، لأن قول الفاسق في الديانات غير مقبول) ش: إذا لم يقبل مردود، لأن حكمه التوقف، قال الله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] (الحجرات: الآية 6) ، ولم يلزم منه الرد.
م: (وتأويل قول الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عدلاً أو غير عدل) ش: هذا كأنه جواب عن إيراد على قوله قبل الإمام شهادة الواحد العدل، فأجاب بقوله وقول الطحاوي عدلاً أو غير عدل م: (أن يكون مستوراً) ش: يعني غير معروف العدالة في الباطن.
وفي " المجتبى ": قال بعض المشايخ: قول الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عدلاً أو غير عدل لا يصح.
وفي " المحيط " و " الذخيرة ": هو غير ظاهر الرواية والمستور لا يقبل في ظاهر الرواية. وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لا يقبل وهو الصحيح. وفي التحفة تكفي العدالة الظاهرة.
وفي " الذخيرة ": وإن كان فاسقاً قبل، هذا أبعد لأن الصوم من باب الديانات لا من باب المعاملات. وفي " جوامع الفقه " قال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: معناه العدل بحكم الإسلام، وقيل لو كان معناه ذلك لم يحتج إلى اشتراطها م: (والعلة غيم أو غبار) ش: كما شرط في قبول خبر الواحد العدل أن يكون في السماء علة فسرها بقوله والعلة غيم أو غبار في المطلع م: (أو نحوه) ش: نحو الدخان والضباب.
وفي " الذخيرة ": عن أبي جعفر الفقيه قبول خبر الواحد في رمضان سواء كان بالسماء علة أو لا.
وعن الحسن أنه قال يحتاج إلى شهادة رجلين أو رجل وامرأتين سواء كان في السماء علة أو لاً، وذكر القدوري أنه تقبل شهادة الواحد للصوم والسماء مصحية عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلافاً لهما.
وفي " الذخيرة ": بين كيفية التفسير عن أبي بكر محمد بن الفضل، قال إذا كانت السماء مصحية إنما تقبل شهادة الواحد إذا فسر وقال رأيت الهلال خارج البلدة في الصحراء أو يقول رأيته في البلدة بين خلل السحاب في وقت يدخل في السحاب ثم يتخلل، أما بدون التفسير فلا يقبل(4/26)
أو نحوه،
وفي إطلاق جواب الكتاب يدخل المحدود في القذف بعد ما تاب، وهو ظاهر الرواية لأنه خبر ديني. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها لا تقبل لأنها شهادة من وجه، وكان الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أحد قوليه يشترط المثنى والحجة عليه ما ذكرنا، وقد صح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل شهادة الواحد في رؤية هلال رمضان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لمكان التهمة.
وفي " المحيط ": ويكتفي أن يفسر جهة الرؤية، فإن احتمل رؤيته يقبل وإلا فلا.
م: (وفي إطلاق جواب الكتاب) ش: أي القدوري وهو قوله قبل الإمام شهادة الواحد العدل م: (يدخل المحدود في القذف بعدما تاب) ش: لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قبلوا شهادة أبي بكرة في بعد ما حد في القذف كذا في " المبسوط " م: (وهو ظاهر الرواية لأنه خبر ديني) ش: أي عن أمر ديني وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها لا تقبل لأنها شهادة من وجه من حيث إنه يجب العمل به بعد القضاء، ومن حيث إنه يخص مجلس القاضي أو من حيث إنه يسقط العدالة فلا يقبل قوله، وإن تاب كسائر الحقوق.
م: (وكان الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أحد قوليه يشترط المثنى) ش: أي شهادة الاثنين، وبه قال مالك، والأوزاعي، وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: في رواية وأصح قولي الشافعي وقول أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من قولنا.
وفي " السروجي " المذهب عند الشافعية ثبوته بعدل واحد، ولا فرق بين الغيم وعدمه عندهم لا يقبل قول العبد والمرأة في الأصح، ويقبل قول المستور في الأًصح، وشرط عطاء وعمر بن عبد العزيز المثنى م: (والحجة عليه) ش: أي على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ما ذكرناه) ش: وهو قوله لأنه أمر ديني.
م: (وقد صح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل شهادة الواحد في رؤية هلال رمضان) ش: هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة، عن زائدة بن قدامة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
قال: «جاء أعرابي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقال: إني رأيت الهلال، قال: أتشهد أن لا إله إلا الله، قال: نعم، قال: أتشهد أن محمداً رسول الله، قال: نعم. قال يا بلال أذن في الناس فليصوموا» رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم في " المستدرك "، وقال على شرط(4/27)
ثم إذا قبل الإمام شهادة الواحد وصاموا ثلاثين يوما لا يفطرون فيما روى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - للاحتياط، ولأن الفطر لا يثبت بشهادة الواحد. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنهم يفطرون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مسلم أنه احتج بسماك، والبخاري احتج بعكرمة، ولفظ، ابن خزيمة وابن حبان وابن ماجه قال يا رسول الله إني رأيت الهلال الليلة وعند الدارقطني ليلة رمضان، وفي لفظ لأبي داود رأيت الهلال يعني هلال رمضان.
وقال الترمذي: حديث ابن عباس فيه اختلاف، روى سفيان الثوري وغيره، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، [عن] النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مرسلاً.
وقال شيخنا زين الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قول الترمذي إن سفيان وغيره رووه عن سماك، عن عكرمة مرسلاً فيه نظر من حيث إنه اختلف فيه على الثوري فرواه الفضل بن موسى الشيباني وأبو عاصم عن الثوري فذكر فيه ابن عباس وكذلك قوله وأكثر أصحاب مالك يروونه عن عكرمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فيه نظر من حيث إنه رواه عن سماك موصولاً وزائدة والوليد بن أبي ثور وجابر بن إبراهيم الحلبي وحماد بن سلمة.
فحديث زائدة في " السنن الأربعة " و " صحيح ابن حبان " و " المستدرك "، وحديث الوليد عند أبي داود والترمذي [وحديث حازم عند أبي على الطوسي في الحكاية والدارقطني في سننه] وحديث حماد بن سلمة عند ابن عبد البر في " الاستذكار "، وفي هذا الباب حديث «عن ابن عمر أخرجه أبو داود، [و] قال يرى الناس الهلال فأخبرت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه» .
فإن قلت: أخرج الدارقطني عن حفص بن عمرو الأيلي حدثنا مسعر بن كدام وأبو عوانة، عن عبد الملك بن ميسرة «عن طاووس قال شهدت المدينة وبها ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فجاء رجل واليها فشهد عنده برؤية هلال رمضان فسئل ابن عمر وابن عباس عن شهادته فأمره أن يجيزه، وقالا: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يجيز شهادة الإفطار إلا بشهادة رجلين» .
قلت: قال الدارقطني تفرد به حفص بن عمر الأيلي وهو ضعيف.
م: (ثم إذا قبل الإمام شهادة الواحد وصاموا ثلاثين يوماً لا يفطرون) ش: يعني إذا لم يروا الهلال، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -[في] " الأم " م: (فيما روى الحسن عن أبي حنيفة للاحتياط) ش: لجواز أنه خيال لا هلال م: (ولأن الفطر لا يثبت بشهادة الواحد) ش: هذا ظاهر م: (وعن محمد) ش: فيما رواه ابن سماعة عنه م: (أنهم يفطرون) ش: وبه قال بعض أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(4/28)
ويثبت الفطر بناء على ثبوت الرمضانية بشهادة الواحد، وإن كان لا يثبت بها ابتداء كاستحقاق الإرث بناء على النسب الثابت بشهادة القابلة
قال: وإذا لم تكن بالسماء علة لم تقبل الشهادة حتى يراه جمع كثير يقع العلم بخبرهم، لأن التفرد بالرؤية في مثل هذه الحالة يوهم الغلط فيجب التوقف حتى يكون جمعا كثيرا. بخلاف ما إذا كان بالسماء علة لأنه قد ينشق الغيم عن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " السروجي ": وهو المذهب عند الشافعية، وقال الحلواني هذا إذا كانت السماء مصحية وإن كانت مغيمة يفطرون بلا خلاف، وبالاثنين يفطرون إذا كانت مغيمة بالاتفاق، وكذلك إذا كانت مصحية، وفي " الفوائد " ولد الإسلام [.....] لا يفطرون والأول أصح وفي " البدائع " بلا خلاف. (ويثبت الفطر بناء على ثبوت الرمضانية بشهادة الواحد، وإن كان لا يثبت بها ابتداء) ش: هذا جواب عن اعتراض ابن سماعة على محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث قال له هذا فطر بقول الواحد وأنت لا ترى بذلك.
والجواب عنه بأن الفطر يثبت بناء على ثبوت الرمضانية، والحكم بشهادة الواحد تبعاً ومقتضى لا مقصود، وإن كان لا يثبت بها أي هذه الشهادة ابتداء في ابتداء الأمر لأنه يجوز أن يثبت الشيء في ضمن غيره، وإن كان لا يثبت أصلا بنفسه.
م: (كاستحقاق الإرث، بناء على النسب الثابت بشهادة القابلة) ش: فإن الإرث لا يثبت بشهادة القابلة ابتداء ويثبت النسب بشهادتها ثم يثبت النسب بناء عليه وكوقف المنقول لا يجوز في ضمن وقف العقار وإن كان لا يجوز ابتداء وكبيع الشرب والطريق فيصحان في ضمن بيع الأرض، وإن لم يصحا ابتداءً وقياسه على شهادة القابلة إنما تصح على قولهما دون قول أبي حنيفة، كذا ذكره في " الإيضاح ".
م: (قال: وإذا لم تكن بالسماء علة لم تقبل الشهادة حتى يراه جمع كثير يقع العلم بخبرهم) ش: يعني في هلال رمضان، فكذا في هلال الفطر عند العلة بالسماء، وأراد بالعلم الشرعي وهو غلبة الظن لا العلم القطعي، قيل هو نظير قوله في الزيادات إذا كان مع رفيقه ماء وهو في الصلاة وعلم أنه يعطيه أو غلب على ظنه وأراد بالعلم طمأنينة القلب أو حقيقة العلم لا تتصور فيه. م: (لأن التفرد بالرؤية في مثل هذه الحالة) ش: وهي حالة كون العلة بالسماء م: (يوهم الغلط فيجب التوقف فيه) ش: وفي " المحيط " إن تفرد الواحد والاثنين يورث الرؤية فيه الغلط والكذب والتخيل، والمطالع لا تختلف إلا بالمسافة البعيدة الفاحشة م: (حتى يكون جمعاً كثيراً) ش: وكان القياس أن يقال حتى يكون جمع كثير، ولقد رجعت إلى نسخ الكل، جمعاً كثيراً يحتاج إلى تقدير وهو أن يقال حتى يكون القوم من الرائين جمعاً كثيراً، ويقدر نحو ذلك.
م: (بخلاف ما إذا كان بالسماء علة لأنه قد ينشق الغيم عن موضع القمر فيتفق للبعض من الناس النظر) ش: وفي المنافع قصد به أي صاحب الهداية السجع باعتبار ما يؤول إليه وإلا لا يسمى قمراً(4/29)
موضع القمر فيتفق للبعض من الناس النظر، ثم قيل في حد الكثير أهل المحلة. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خمسون رجلا اعتبارا بالقسامة ولا فرق بين أهل المصر، ومن ورد من خارج المصر،
وذكر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه تقبل شهادة الواحد إذا جاء من خارج المصر لقلة الموانع، وإليه الإشارة في كتاب الأسبيجابي، وكذا إذا كان على مكان مرتفع في المصر. قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلا بعد ليلتين.
وفي " الصحاح " يسمى هلالاً إلى الثلاث م: (ثم قيل في حد الكثير أهل المحلة) ش: وأشار بهذا إلى بيان حد الكثير، الذي قاله حتى يراه جمع كثير، فقال حد الكثير أهل المحلة، ولا يكون أهل المحلة غالباً إلا جمع كثير.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خمسون رجلاً) ش: أي حد الجمع الكثير خمسون رجلاً م: (اعتباراً بالقسامة) ش: أي هو اعتبار بالقسامة، ويروى اعتبار بالقسامة بالنصب وهو الظاهر، وقيل مائة ذكرها في " خزانة الأكمل "، وعن أبي حفص الكبير أنه يعتبر ألوفاً، وقيل أربعة آلاف ببخارى، قيل وقيل خمسمائة ببلخ، قيل روي ذلك عن خلف، وكذا في هلال شوال، وذي الحجة كرمضان ذكره في الخزانة، وقيل يفوض ذلك إلى رأي الإمام أو القاضي، فإن استقر ذلك في قلبه قبل، وإلا فلا، وقيل هذا قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قلت ما أشبه هذا بقول أبي حنيفة في تفويضه إلى رأي المسلمين به، وما أبعد قول من اشترط أربعة آلاف، أو ألوفاً من الصواب، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتواتر الخبر من كل جانب يحصل العلم به، وهذا روي عن أبي يوسف وعن أبي يوسف جماعة لا يتصور اجتماعهم على الكذب.
وفي " الخلاصة " مقدار القلة والكثرة مفوض إلى رأي الإمام.
وفي " البدائع " قيل ينبغي أن يكون من كل مسجد واحد أو اثنان. وقيل من كل جماعة رجل أو رجلان م: (ولا فرق) ش: أي [في] عدم القول م: (بين أهل المصر، ومن ورد من خارج المصر) ش: إذا لم تكن بالسماء علة.
م: (وذكر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه تقبل شهادة الواحد إذا جاء من خارج المصر لقلة الموانع) ش: وهي الغبار والدخان ونحوهما، لأن المطالع تختلف فيه بصفاء الهواء خارج المصر، وكذا كونه في مكان مرتفع في المصر م: (وإليه الإشارة في كتاب الأسبيجابي) ش: أي إلى ما ذكره [الطحاوي، وإليه] الإشارة في كتاب الأسبيجابي ولفظه: فإذا كان الذي يشهد بذلك في المصر ولا علة في السماء لم تقبل شهادته. ووجه الإشارة اليقين في الرواية يدل على نفي ما عداه، فكان تخصيصه بالمصر ونفي العلة في عدم قبول الشهادة دليلاً على قبولها إذا كان شاهد خارج المصر، أو كان في السماء علة م: (وكذا) ش: أي وكذا تقبل م: (إذا كان على مكان مرتفع في المصر. قال) ش: لعدم الموانع.(4/30)
ومن رأى هلال الفطر وحده لم يفطر احتياطا، وفي الصوم الاحتياط في الإيجاب. قال: وإذا كان بالسماء علة لم تقبل في هلال الفطر إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين لأنه تعلق به نفع العبد وهو الفطر فأشبه سائر حقوقه. والأضحى كالفطر في هذا في ظاهر الرواية وهو الأصح، خلافا لما روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه كهلال رمضان لأنه تعلق به نفع العباد وهو التوسع بلحوم الأضاحي. وإن لم يكن بالسماء علة لم تقبل إلا شهادة جماعة يقع العلم بخبرهم كما ذكرنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ومن رأى هلال الفطر وحده لم يفطر احتياطاً) ش: لاحتمال كون ذلك اليوم من رمضان وتفرده بالنظر لا يخلو عن علة م: (وفي الصوم الاحتياط في الإيجاب) ش: أي الاحتياط في إيجاب الصوم عليه، وفي " خزانه الأكمل " وفي هلال شوال وحده لا يأكل ولا يروى أيضاً، وفي " المرغيناني " رأى هلال شوال وحده لا يفطر لمكان الاشتباه، وقيل الكل سواء كما قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولو أفطر لا خلاف أن لا كفارة عليه. وفي " المحيط " ذكر شمس الأئمة [السرخسي] من رأى هلال الفطر وحده ولم يقبل القاضي شهادته ماذا يفعل، قال محمد بن سلمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يمسك يومه ولا ينوي صومه، وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحل أكله وقيل إن [....] أفطر ويأكل سراً.
م: (وإذا كان بالسماء علة لم تقبل في هلال الفطر إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين لأنه تعلق به نفع العبد وهو الفطر، فأشبه سائر حقوقه) ش: ويشترط في الرجلين الحرية وينبغي أن يشترط لفظ العبادة لنفع العبد كسائر حقوقه، وأما الدعوى فينبغي أن لا يشترط كما في عتق الأمة وطلاق الحرة عند الكل وعتق العبد عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -.
وأما على قياس قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فينبغي أن تشترط الدعوى كما في عتق العبد عنده، ولا تقبل شهادة المحدود في القذف، وإن تاب وكذا العبد والأمة وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اعتبار لفظ الشهادة وجهان، وعند الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقبل قول الاثنين سواء كانت السماء مصحية أو مغيمة في الفطر لأنه حجة شرعية تثبت بها الحقوق.
م: (والأضحى كالفطر في هذا) ش: أي في أنه لا يقبل إلا شهادة رجلين، كما لا يقبل على هلال شوال م: (في ظاهر الرواية وهو الأصح) ش: أي ظاهر الرواية هو الأصح م: (خلافاً لما روي عن أبي حنيفة أنه كهلال رمضان) ش: أي في قبول شهادة الواحد العدل كما في هلال رمضان.
م: (لأنه تعلق به نفع العباد، وهو التوسع بلحوم الأضاحي) ش: هذا التعليل لظاهر الرواية الذي هو الأصح م: (وإن لم يكن بالسماء علة) ش: يعني في هلال الفطر م: (لم تقبل إلا شهادة جماعة يقع العلم بخبرهم كما ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله لأن التفرد بالرؤية في مثل هذه الحالة إلى(4/31)
قال: ووقت الصوم من حين طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
آخره.
[تعريف الصوم ووقته]
م: (قال: ووقت الصوم من حين طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] إلى أن قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] (البقرة: الآية 187) والخيطان بياض النهار وسواد الليل) ش: هذا قول فقهاء الأمصار وقد كان وقت الصوم في الابتداء من حين يصلي العشاء أو ينام، وهذا كان في شريعة من قبلنا، فخفف الله عن هذه الأمة وجعل أول وقته من حين طلوع الفجر بقوله تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] (سورة البقرة: الآية 187) وكان الأعمش - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول أول وقت الصوم إذا طلعت الشمس ونسخ الأكل والشرب بعد طلوع الشمس.
وفي " الدراية " هذا غلط فاحش لا يعتد بخلافه، وذلك لأنه مخالف لنص القرآن، وقال ابن قدامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يخرج أحد على قوله: وقال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد نقل عن جماعة من السلف بموافقته، «وعن زر قلت لحذيفة أي ساعة تسحرت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال هي النهار إلا أن الشمس لم تطلع» رواه النسائي، وعن حذيفة أنه لما طلع الفجر [تسحر، وعن ابن مسعود مثله، وقال مسروق لم يكونوا يعدون الفجر] فجركم، وإنما كانوا يعدون الفجر إلي يملاً البيوت والطريق قوله من حين طلوع الفجر، قال صاحب " المنافع "، حين بكسر النون لأنه معرب، وإضافته إلى الفرد لا يجوز بناؤه بخلاف قول النابغة الزبياني:
على حين عانيت السبب على الصبي
فإن المختار فيه بناؤه على الفتح لإضافته إلى الجملة، انتهى.
والظرف المضاف إلى الجملة يجوز بناؤه على الفتح والمضاف إلى الفعل المضارع لا يجوز بناؤه عند البصريين وإن كان جملة لأنه معرب بخلاف المضاف إلى الفعل الماضي، وإنما ذلك مذهب الكوفيين والفتحة في قَوْله تَعَالَى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] (سورة المائدة: الآية 119) ، فتحه إعراب عندهم وهو نصب على الظرفية ولا يجوز أن يكون مبنياً على الفتح ذكره الزمخشري في " الكشاف " بخلاف {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ} [الانفطار: 19] لإضافته إلى الحرف.
وقال ابن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه وجهان، فإن أضيف إلى الجملة الاسمية يعرب.
وقال ابن جني: يبنى قوله والخيطان تثنية خيط وهما بياض النهار وسواد الليل وقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] هو الذي بين أنها بياض النهار وسواد الليل لأنه نزل بعد «قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] (سورة البقرة الآية: 187) ، وهذا لما سمع عدي بن حاتم(4/32)
إلى أن قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] (البقرة: الآية 187) ، والخيطان بياض النهار وسواد الليل والصوم هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع نهارا مع النية، لأنه في حقيقة اللغة: هو الإمساك لورود الاستعمال فيه إلا أنه زيد عليه النية في الشرع لتتميز بها العبادة من العادة، واختص بالنهار لما تلونا، ولأنه لما تعذر الوصال كان تعيين النهار أولى ليكون على خلاف العادة، وعليه مبنى العبادة
والطهارة عن الحيض والنفاس شرط لتحقق الأداء في حق النساء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذه الآية علق خيطين أحدهما أبيض والآخر أسود، وكان يأكل حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود ففعل ذلك يوماً، فإذا الشمس طالعة فجاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بذلك فتبسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وقال إنك لعريض القفا، وفي رواية إن وسادتك لعريضة أي منامك طويل، وقال إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل» .
وفي " المجتبى " في مبسوط بكر اختلف المشايخ في أن العبرة لأول طلوع الفجر الثاني أم لاستطارته.
قال الحلواني: الأول أحوط والثاني أوسع، وفي " شرح الإرشاد " والباقي أصح والأول أحوط. م: (والصوم هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع نهاراً مع النية) ش: قيل هذا منقوض طرداً وعكساً، أما عكساً فبأكل الناسي فإن صومه باق والإمساك فائت، وأما طرداً فمن أكل قبل طلوع الشمس بعد طلوع الفجر كما أن النهار [هو] اسم لزمان هو مع الشمس، وكذلك في الحائض النفساء فإن هذا المجموع موجود والصوم فائت، وأجيب عن الأول يمنع فوت الإمساك، لأن المراد بالإمساك الشرعي وهو موجود. وعن الثاني فإن المراد من النهار، النهار الشرعي وهو اليوم بالنص. وعن الثالث بأن بالحيض خرجت عن أهلية الأداء شرعاً، قلت هذا السؤال والجواب للشيخ الإمام العالم بدر الدين الكردري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنه) ش: أي لأن الصوم م: (في حقيقة اللغة هو: الإمساك لورود الاستعمال) ش: في معنى الإمساك وقد مضى الكلام م: (فيه) ش: في أول الكتاب م: (إلا أنه) ش: أي إلا أن الإمساك م: (زيد عليه النية في [الشرع] لتتميز بها العبادة من العادة) ش: لأن النية هي الأصل في العبادة م: (واختص) ش: أي الصوم م: (بالنهار لما تلونا) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] (البقرة: الآية 187) .
م: (ولأنه) ش: دليل عقلي م: (لما تعذر الوصال) ش: وهو وصل النهار بالليل في الصوم م: (كان تعيين النهار أولى ليكون على خلاف العادة) ش: لأن العادة في النهار الأكل والشرب م: (وعليه) ش: أي على خلاف العادة م: (مبنى العبادة) ش: لأن العبادة في نفسها مسألة وإتعاب النفس ليحصل الأجر، فلو كانت على العادة ما كان لها من ذلك شيء.
[الطهارة عن الحيض والنفاس من شروط الصوم]
م: (والطهارة عن الحيض والنفاس شرط لتحقق الأداء في حق النساء) ش: أي لتحقق أداء(4/33)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصوم لأن الحيض والنفاس منافيان للصوم لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إحداكن تقعد شطر عمرها لا تصوم ولا تصلي» فلو كان الصوم مشروعاً معه لما قعدت بخلاف الجنابة حيث لا تمنع الصوم وهو قول عامة أهل العلم منهم علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وأبو ذر وابن عمر وابن عباس وعامر وأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وبه قال أصحابنا والثوري وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أهل العراق والشافعي ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أهل الحجاز والأوزاعي في أهل الشام والليث بن سعد في أهل المصر وداود في اأهل الظاهر وإسحاق وأبو عبيد في أهل الحديث، وكان أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: لا صوم له ويروى عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أصبح جنباً فلا صوم له ثم رجع عنه» وقال سعيد بن المسيب: رجع أبو عبيدة عن فتواه بذلك، وحكي عن الحسن وسالم بن عبد الله أنه يتم صومه ويقضي. وعن النخعي: يقضي الفرض دون النفل. وعن عروة وطاووس: إن علم بجنابته في رمضان ولم يغتسل فهو مفطر وإن لم يعلم فهو صائم.
وقال الخطابي: حديث أبي هريرة منسوخ، والله أعلم، وبالله التوفيق.(4/34)
باب ما يوجب القضاء والكفارة قال: وإذا أكل الصائم أو شرب أو جامع نهارا ناسيا لم يفطر، والقياس أن يفطر، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لوجود ما يضاد الصوم فصار كالكلام ناسيا في الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب ما يوجب القضاء والكفارة] [الحكم لو أكل الصائم أو شرب أو جامع ناسياً]
م: (باب ما يوجب القضاء والكفارة) ش: أي هذا باب في بيان ما يوجب القضاء والكفارة على الصائم على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى، ولما فرغ من بيان الصوم وأنواعه شرع في بيان ما يجب عند إبطاله لأنه أمر عارض على الصوم فناسب أن يذكر مؤخراً.
م: (قال: وإذا أكل الصائم أو شرب أو جامع ناسياً) ش: أي حال كونه ناسياً م: (لم يفطر) ش: قال الكاكي لم يفطر بالتشديد والتخفيف، فعلى الأول يكون مسندا إلى الأكل [....] ، قلت: فيه تعسف لأنه يقال حينئذ الضمير في لم يفطر يرجع إلى الآكل الذي دل عليه أكل وكذا ينبغي أن يرجع إلى الشرب الذي دل عليه أو شرب والجماع الذي يدل عليه أو جامع فحينئذ ينبغي أن يقال لم يفطرن بنون الجمع، وهذا كله تكلف، والأحسن أن يكون الضمير في - لم يفطر - راجعاً إلى الصائم أي لم يفطر الصائم بالأشياء المذكورة في الأكل والشرب ناسياً لا يفطر عند جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم وهم علي بن أبي طالب وأبو هريرة وابن عمر وعطاء وطاووس ومجاهد والحسن البصري والحسن بن صالح وعبد الله بن الحسن وإبراهيم النخعي وأبو ثور وابن أبي ذئب والأوزاعي والثوري والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإسحاق وأبو ثور وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والنخعي وابن المنذر.
وأما في الجماع ناسيا فهو مذهبنا. وهو قول مجاهد وإسحاق البصري والثوري والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وقال عطاء والأوزاعي والليث: عليه القضاء وقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عليه القضاء والكفارة.
م: (والقياس أن يفطر وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وربيعة وابن علية وسعيد بن عبد العزيز م: (لوجود ما يضاد الصوم) ش: ووجود ما يضاد الشيء يقدم له الاستحالة وجود الضدين معا م: (فصار كالكلام ناسيا في الصلاة) ش: حيث تفسد صلاته.
م: (ووجه الاستحسان قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (للذي أكل وشرب ناسيا: تم على صومك، فإنما أطعمك الله وسقاك) ش: هذا الحديث رواه الأئمة الستة في كتبهم من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واللفظ لأبي داود، قال) ش: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فقال يا رسول الله إني أكلت وشربت ناسياً وأنا صائم، فقال الله(4/35)
ووجه الاستحسان «قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - للذي أكل وشرب ناسيا: " تم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك» وإذا ثبت هذا في حق الأكل والشرب ثبت في الوقاع للاستواء في الركنية، بخلاف الصلاة، لأن هيئة الصلاة مذكرة
فلا يغلب النسيان، ولا مذكر في الصوم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أطعمك وسقاك» انتهى.
وهو أقرب إلى لفظ المصنف ولفظ الباقين من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه.
ورواه ابن حبان والدارقطني [في " سننه «أن رجلاً سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقال إني كنت صائماً فأكلت وشربت ناسياً فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتمم صومك فإن الله أطعمك وسقاك» .
وزاد الدارقطني] فيه فلا قضاء عليه ولا كفارة. قوله: تم على صومك بكسر التاء المثناة من فوق وتشديد الميم المفتوحة أمر من تم يتم معناه أتمه وامض عليه واستتم، ويقال تم على أمره أمضاه، وتم على أمرك أمضه.
فإن قلت: هذا الحديث يعارض الكتاب وهو قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] (سورة البقرة: الآية 187) فإن الصيام إمساك وقد فات، فالآية تدل على بطلانه، [و] لأن انتفاء ركن الشيء يستلزم إمضاه لا محالة، والحديث يدل على بقائه كما كان فيجب تركه، قلت هذا السؤال مع جوابه للإمام حميد الدين الضرير. وأجاب بأن في الكتاب دلالة على أن النسيان معفو عنه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] م: (سورة البقرة: الآية: 286) فكان الحديث موافقاً للكتاب فعمل، ويحتمل قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] على حالة انتفاء الإتمام عمدا؛ لأن الإتمام فعل اختياري فيكون عمدة الفوات له لذلك والنسيان ليس باختياري فلا يفوته. وقال تاج الشريعة: هذا الخبر مشهور قبله السلف حتى قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عقب هذه المسألة حاكياً عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لو قال الناس لقلت يقتضي معنى لو قول الأئمة وروايتهم هذا الحديث لقلت بالقضاء، فإن قال السائل سلمنا ذلك لكن النص ورد في الأكل والشرب على خلاف القياس، فكيف تعدى إلى الجماع؟.
فأجاب بقوله: م: (وإذا ثبت هذا) ش: أي بقاء الصوم م: (في حق الأكل والشرب ثبت في الوقاع للاستواء في الركنية) ش: لأن كلا منهما نظير الأخرى في كون الكف عن كل منهما ركنا في الآخر، فيكون الثبوت بالدلالة لا بالقياس م: (بخلاف الصلاة لأن هيئة الصلاة مذكرة) ش: هيئة الصلاة القيام والركوع والسجود والانتقال من واحد إلى واحد، وكل هذه الأفعال تذكر المصلي.
م: (فلا يغلب النسيان) ش: ولا يستلزم غلبة النسيان عدم نفي هيئات ما م: (ولا مذكر) ش:(4/36)
فيغلب، ولا فرق بين الفرض والنفل، لأن النص لم يفصل، ولو كان مخطئا أو مكرها فعليه القضاء
خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يعتبر بالناسي. ولنا أنه لا يغلب وجوده وعذر النسيان غالب، ولأن النسيان من قبل من له الحق، والإكراه من قبل غيره فيفترقان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي ولا شي مذكر م: (في الصوم فيغلب) ش: لأن هيئة الصائم وغير الصائم سواء لأن الصوم أمر مبطن فغلب عليه النسيان م: (ولا فرق) ش: أي لا وفرق في المسألة المذكورة م: (بين النفل والفرض) ش: لأن بين صوم النفل وصوم الفرض.
م: (لأن النص) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تم على صومك مطلق. م: (لم يفصل) ش: بين النفل والفرض، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن أبي ليلى ومحمد بن مقاتل الرازي في الفرض يقضي وهو القياس، كذا ذكره الإمام المحبوبي.
م: (ولو كان) ش: أي الأكل والشرب م: مخطئاً أو مكرهاً) ش: بفتح الراء: (فعليه القضاء) ش: الفرق بين النسيان والخطأ أن الناسي قاصد للفعل ناس الصوم، والمخطئ ذاكر للصوم غير قاصد للفعل، صورة المخطئ إذا تمضمض فسبق الماء حلقه، وصورة المكره صب الماء في حلق الصائم كرهاً.
وفي " المحيط " لو جامع ناسياً فنزع مع التذكر فصومه تام، وعند زفر عليه القضاء والكفارة. ولو أكل ناسياً فقيل أنت صائم فلم يتذكر وأكل بعده أفطر في قول أبي حنيفة، وقال زفر والحسن لا يفطر، ذكره في " المحيط " وفي " الخزانة " فسد صومه عند أبي حنيفة ولا كفارة عليه، وفي المرغيناني إن أكل ناسياً قبل النية ثم نوى الصوم ذكره في المغازي أنه لا يجزي صومه، وفي " البقالي " النسيان قبل النية أو بعدها.
وذكر أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " نوازله " أن رجلاً نظر إلى غيره يأكل ناسياً يكره له أن لا يذكره إذا كان قوياً على صومه، وإن كان يضعف بالصوم لا يكره لأن ما يفعله ليس بمعصية عند العلماء.
وفي [فتاوى] قاضي خان إن كان شاباً يخبره، وإذا كان شيخاً ضعيفاً لا يخبره. وفي " الخزانة " لو تقيأ ناسيا ًأكل فيه لا يفسد صومه، ولو ابتلع ماء في المضمضة خطأ يفسد صومه، وهو قول أكثر العلماء وقال عطاء وإسحاق وقتادة وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يفسده، وقال إبراهيم النخعي لا يفسده في الفرض ويفسده في النفل.
م: (خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يعتبر بالناسي) ش: أي يقيسه على الناسي والجامع الفصل، وقال الكاكي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قولان أحدهما يفطر كقولنا، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختاره المزني، والثاني أنه لا يفطر وهو الأصح عنه، وبه قال أحمد وأبو ثور - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختلف أصحابه، فمنهم من أطلق القولين من غير فصل وإن لا يبالغ ومنهم من قال(4/37)
كالمقيد والمريض في قضاء الصلاة.
قال: فإن نام فاحتلم لم يفطر لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث لا يفطرن الصائم: القيء والحجامة والاحتلام» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كذلك على الحالين إن بالغ بطل صومه، وإن لم يبالغ فقولان: أحدهما لا تبطل وهو الصحيح.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن كل واحد من الخطأ [والنسيان] والإكراه م: (لا يغلب وجوده وعذر النسيان [غالب] ) ش: فيكون اعتباره فاسداً، لأنه على خلاف القياس م: (ولأن النسيان) ش: إشارة إلى فرق آخر، وهو أن النسيان م: (من قبل من له الحق) ش: والحق لله تعالى م: (والإكراه من قبل غيره) ش: أي من قبل غير من له الحق، فإذا كان كذلك م: (فيفترقان) ش: فلا يصح أن يجعلا على السواء، ثم ذكر له نظيراً بقوله. م: (كالمقيد والمريض في [قضاء] الصلاة) ش: فإن المقيد الذي قيده أحد إذا صلى قاعداً بعذر القيد يقضي، والمريض إذا صلى لا يقضي، لأن المقيد من قبل ليس له الحق، بخلاف المريض، فإن مرضه من قبل من له الحق.
[احتلام الصائم]
م: (فإن نام فاحتلم) ش: أي أنزل م: (لم يفطر) ش: بإجماع الأئمة الأربعة لم يفطر م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «ثلاث لا يفطرن الصائم القيء والحجامة والاحتلام» ش: هذا الحديث أخرجه الترمذي حدثنا محمد بن عبيد المحاربي حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [ثلاث] لا يفطرن الصائم الحجامة والقيء والاحتلام» وقال أبو عيسى حديث أبي سعيد الخدري حديث غير محفوظ، وقد روي عن عبد الله بن زيد بن أسلم وعبد العزيز وغير واحد من أهل الحديث عن زيد بن أسلم ولم يذكروا فيه عن أبي سعيد وعبد الرحمن بن أسلم ضعيف في الحديث.
وقال الشراح: ذكروا هذا الحديث في معرض الاستدلال، ولم يذكره الأترازي واستدل هنا بقوله، وهذا لما روى صاحب السنن مرفوعاً إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال «لا يفطر من قاء ولا من احتلم ولا من احتجم» ولم يذكر من هو صاحب السنن ولا ما اسم الصحابي الذي رواه عن(4/38)
ولأنه لم توجد صورة الجماع ولا معناه وهو الإنزال عن شهوة بالمباشرة وكذا إذا نظر إلى امرأة فأمنى كما بينا وصار كالمفتكر إذا أمنى، وكالمستمني بالكف على ما قالوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: هذا الحديث أخرجه الطبراني في " الأوسط " عن ثوبان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخرجه البزار عن ابن عباس عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يوافق متن حديث المصنف إلا لفظ الترمذي.
م: (ولأنه لم توجد صورة الجماع) ش: وهو إيلاج الفرج م: (ولا معناه) ش: أي ولا معنى الجماع م: (وهو الإنزال عن شهوة بالمباشرة) ش: يعني مس الرجل والمرأة.
م: (وكذا) ش: أي لا يفطر م: (إذا نظر إلى المرأة فأمنى) ش: أي أنزل المني م: (كما بينا) ش: وهو قوله - لأنه لم يوجد صورة الجماع ولا معناه - ثم إنه سواء إذا نظر إلى وجهها وفرجها بخلاف حرمة المصاهرة فإنها تثبت بالنظر إلى فرجها، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن نظرت مرة وكذلك وإن نظرت مرتين فسدت، وفي السروجي بالنظر لا تفسد الصوم وإن تكرر، وكذا بإنزال معه من غير تكرر، وهو قول جابر بن زيد والثوري والشافعي وأبي ثور واختيار ابن المنذر، وقال مالك يفسد وإن صرف وجهه عنها، وهو رواية حنبل عن ابن حنبل ولا كفارة فيه عندهم.
م: (وصار كالمتفكر إذا أمنى) ش: إذا تفكر في امرأة حسناء فأنزل المني لا يفطر، ولأصحاب مالك في التفكر روايتان، وخالف فيه بعض الحنابلة م: (وكالمستمني بالكف) ش: يعني أن الصائم إذا عالج ذكره فأمنى أو عالج امرأته لم يفطر م: (على ما قالوا) ش: أي المشايخ وهو قول أبي بكر الإسكاف وأبي القسام لعدم الجماع صورة، وعامتهم قالوا يفسد صومه وعليه القضاء، وهو قول محمد بن سلمة وهو اختيار الفقيه أبي الليث في النوازل. وقال المصنف في التجنيس الصائم إذا عالج ذكره حتى أمنى يجب عليه القضاء وهو المختار لأنه وجد الجماع معنى، وقيل فيه نظر، لأن معنى الجماع يعتمد المباشرة على ما قلنا ولم يوجد.
وأجيب بأن معناه وجد، وهو المقصود من الجماع وهو قضاء الشهوة وهل يحل له أن يفعل ذلك إن أراد الشهوة لا يحل لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ناكح اليد ملعون» وإن أراد به تسكين ما به من الشهوة أرجو أن لا يكون عليه وبال.
وقال الأترازي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - قيل لأبي بكر الإسكاف أيحل للرجل أن يفعل ذلك قال مثل ما ذكرنا، ثم قال في آخره وهو مأجور فيه، قال الفقيه أبو الليث روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال ما يكفيه أن يتجوز رأساً برأس. وقال الأترازي: والأصح عندي قول أبي بكر، لأن الجماع لم يوجد لا صورة ولا معنى لعدم الإيلاج والإنزال باليد إلا أنا نكرهه احتياطاً، ونظم فيه شيخنا جلال الدين النهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - من جملة نظمه ما في قاضي خان:(4/39)
ولو ادهن لم يفطر لعدم المنافي، وكذا إذا احتجم لهذا ولما روينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجائز للعازب المسكين ... إمناؤه باليد للتسكين
وعن أحمد والشافعي - رحمهما الله - في القديم يرخص فيه وفي الجديد يحرم، ولو عملت المرأتان عمل الرجال إن أنزلتا عليهما القضاء وإلا لا قضاء ولا كفارة ولا غسل عليهما.
[ما لا يفطر الصائم]
[دهن الشعر أو الشارب في الصيام]
م: (ولو ادهن لم يفطر لعدم المنافي) ش: يعني إذا دهن شعره أو شاربه ليس بمناف لصومه فلا يفطر، لأن المنافي للصوم المفطرات الثلاث ولم يوجد واحد منها م: (وكذا) ش: أي لا يفطر م: (إذا احتجم لهذا) ش: أي لعدم المنافي وهو الداخل: ولما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة والقيء والاحتلام» ولكن يكره الحجامة ولا يفسد صومه، وبه قال مالك والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وداود. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يفطر الحاجم والمحجوم، وفي وجوب الكفارة فيها روايتان عن أحمد، وحديث «أفطر الحاجم والمحجوم» روي عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -.
[منهم] رافع بن خديج رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه النسائي واختلف في رفعه ووقفه وسعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه ابن عدي في " الكامل " وفيه داود بن الزبير فإنه متروك، وشداد بن أوس أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
وثوبان مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأسامة بن زيد أخرج حديثه النسائي وفي سنده اختلاف، وعائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرج حديثها النسائي، واختلف في رفعه ووقفه، ومعقل بن يسار أخرج حديثه النسائي أيضاً وأبو هريرة أخرج حديثه النسائي أيضاً مرفوعاً وموقفاً، وابن عباس أخرجه النسائي أيضاً مرفوعاً وموقوفا، وأبو موسى أخرج حديثه النسائي أيضاً مرفوعاً وموقوفاً.
وبلال أخرج حديثه النسائي أيضاً وفي سنده اختلاف، وأنس بن مالك أخرج حديثه البزار أيضاً، وأبو زيد الأنصاري أخرج حديثه ابن عدي وفيه ضعف، وأبو الدرداء أخرج حديثه الوليد بن مسلم وفيه ضعف.
وقال شيخنا زين الدين في " شرح الترمذي " وقد ذهب أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أن الحجامة لا تفطر، وبه قال من الصحابة سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وابن عباس وزيد بن أرقم والحسن بن علي وأبو هريرة وأنس وعائشة وأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.(4/40)
وإن اكتحل لم يفطر لأنه ليس بين العين والدماغ منفذ والدمع يترشح كالعرق والداخل من المسام لا ينافي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومن التابعين الشعبي وعروة والقاسم وعطاء بن يسار وزيد بن أسلم وعكرمة وأبو العالية وإبراهيم النخعي، ومن الأئمة سفيان الثوري ومالك وأبو حنيفة والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال ابن عبد البر: الأحاديث متدافعة متناقضة في إفساد صوم من احتجم فأقل أحوالها أن يسقط الاحتجاج بها، والأصل بأن الصائم لا يقضي فإنه قال وصح النسخ فيها.
قلت: لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أفطر الحاجم والمحجوم» كان في ثمان عشرة من رمضان عام الفتح، والفتح كان في السنة الثامنة واحتجامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في السنة العاشرة ذكره جماعة.
[اكتحال الصائم]
م: (وإن اكتحل لم يفطر) ش: هذا على إطلاقه قول عطاء والحسن وإبراهيم النخعي والأوزاعي والشافعي وأبي ثور ومذهب أنس بن مالك وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وإن لم يصل إلى جوفه لم يبطل بلا خلاف، وإن وصل [....] أو طاهراً يفسد صومه عند مالك وأحمد وهو قول ابن أبي ليلى وسليمان التيمي ومنصور بن المعتمر وابن شبرمة وإسحاق.
وفي " شرح مختصر الطحاوي " لا بأس بالكحل سواء وجد طعمه أو لم يوجد، وكذا في " المحيط " كما لو أخذ حنطة في فيه فوجد مرارته في حلقه، أو ماء فوجد عذوبته أو ندواته في حلقه، وكذا لو صب لبناً في عينه أو دواء فوجد طعمه أو مرارته في حلقه لا يفسد صومه، ولو بزق بعد الاكتحال فوجد الكحل من حيث اللون، قيل يفسده ذكره في " جوامع الفقه " م: (لأنه ليس بين العين والدماغ منفذ) ش: فما وجد في حلقه من طعمه إنما [هو] أثره لا عينه.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وليس بين العين والجوف منفذ فلا يصل من الكحل من العين إلى الجوف، وإنما وصل إليه أثر الكحل وهو الطعم، فقد وصل إليه من المسام فلا يعتد به كما لو اغتسل بالماء البارد فوجد برودته في الباطن، انتهى.
قلت: هذا الكلام غير سديد، والصواب ما قاله المصنف ليس بين العين والدماغ منفذ، وذكر الجوف ليس له صحة على ما لا يخفى، وقوله أيضاً، وإنما وصل إليه أثر الكحل وهو المفطر غير صحيح، والطعم الذي هو أثر الكحل كيف يوجد في الجوف ولا يوجد إلا في الحلق ينفذ إليه من الدماغ.
م: (والدمع يترشح كالعرق) ش: جواب عن سؤال مقدر، وهو أن يقال لو لم يكن بين العين والدماغ منفذ لما خرج الدمع، فأجاب بقوله والدمع يترشح أي ينزل من الدماغ شيئاً فشيئاً كما يترشح العرق من مسام الجلد م: (والداخل [من] المسام لا ينافي) ش: هو من جملة الجواب.
قال الكاكي: المسام المنافذ مأخوذ من سم الإبرة، وإن لم يسمع إلا من الأطباء.(4/41)
كما لو اغتسل بالماء البارد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: ذكره الأزهري، والمراد به مسام العرق، لأن المنافذ التي هي المخارق المعتادة م: (كما لو اغتسل بالماء البارد) ش: ذكر هذا نظير المناسبة، فإنه لا ينافي الصوم مع أنه يجد برودة الماء في باطنه.
فإن قيل هذا تعليل في مقابلة النص وهو باطل، وذلك لما روى معبد بن هودة الأنصاري «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال عليكم بالإثمد المروح وقت النوم وليتقه الصائم» أجيب بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ندب إلى الصوم يوم عاشوراء والاكتحال فيه، وقد أجمعت الأئمة على الاكتحال يوم عاشوراء فهو راجح على الأول، انتهى.
قلت: هذا الحديث رواه أبو داود من رواية عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هودة عن أبيه عن جده «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بالإثمد المروح عند النوم، وقال ليتقه الصائم» ورواه البخاري في " تاريخه ".
1 -
وقال قال أبو نعيم «حدثنا عبد الرحمن بن النعمان الأنصاري عن أبيه عن جده وكان أتى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمسح رأسه وقال لا تكتحل وأنت صائم، اكتحل ليلاً، الإثمد يجلو البصر وينبت الشعر» انتهى.
[قلت] : الإثمد بكسرة الهمزة بالفارسية ترمذ، وذكره الجوهري في باب ثمد فدل على [أن] الألف فيه زائدة، وقال الإثمد: حجر يكتحل بها. المروح بضم الميم وفتح الراء وتشديد الواو المفتوحة وبالحاء المهملة أي المطيب بالمسك كأنه جعل الرائحة تفوح بعد أن لم تكن له رائحة. وقال الأكمل قد اجتمعت الأمة على الاكتحال يوم عاشوراء فيه نظر يحتاج إلى الدليل على هذا.
وإيراده السؤال بحديث معبد غير موجه لأن يحيى بن معين قال حديث معبد منكر لا يحتج به، وعبد الرحمن ضعيف، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يقول الأكمل هذا تعليل في مقابلة النص، وهو باطل، ثم يجيب بقوله أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ندب إلى الصوم يوم عاشوراء، والاكتحال فيه، ومع هذا لم يبين كيف ندب ومتى ندب.
فإن قال ندب في حديث حميد، قلنا قد سمعت حال هذا الحديث، وإن قال روى البيهقي في " شعب الإيمان " من رواية حسين بن بشر عن محمد بن الصلت عن جرير عن الضحاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من اكحتل بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبداً» قال: قال البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد أن رواه إسناده ضعيف، وجرير ضعيف والضحاك لم يلق ابن عباس. وقال الأترازي في معرض الاستدلال بأن الاكتحال لم يفطر.
ولنا ما روى أبو بكر الجصاص الرازي في " شرحه لمختصر الطحاوي " عن عبد الباقي بن(4/42)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قانع عن عبد الرحمن بن أحمد عن محمد بن سليمان عن حبان بن علي عن محمد بن عبد الله ابن أبي رافع عن أبيه عن جده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكحتل بالإثمد وهو صائم» . وقال الشيخ أبو الحسين القدوري في " شرح مختصر الكرخي ".
«قال ابن مسعود خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان وعيناه مملوءتان من الكحل كحلته أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -» - انتهى.
قلت: الذي يتصدى لشرح كتاب يذكر فيه أحاديث في معرض الاستدلال ينبغي أن لا يكتفي بهذا المقدار، لأن الخصم لا يرضى به.
أما حديث أبي رافع فقد أخرجه ابن عدي في " الكامل " بإسناده نحوه وهو حديث منكر. قال البخاري: محمد بن عبد الله منكر الحديث. وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء.
وأما حديث ابن مسعود الذي ذكره فليس بصحيح من وجهين، أحدهما أن الحديث ليس لابن مسعود وإنما هو لابن عمر رواه ابن عدي في " الكامل "، قال أخبرنا أبو يعلى قال أنا عمار بن ياسر قال حدثنا سعيد بن زيد هو أخو حماد بن زيد حدثنا عمرو بن خالد القرشي عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر، وعن محمد بن علي عن ابن عمر قال «خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيت حفصة وقد اكتحل بالإثمد في رمضان» .
وقال ابن عدي هذه الأحاديث التي يرويها عمرو بن خالد عن حبيب بن أبي ثابت ليست [هي] المحفوظة، ولا يرويها غيره أو هو المفهم فيها. وقال شيخنا زين الدين عمرو بن خالد الهمداني الواسطي، وقال أبو طاهر: وقوله القرشي (بدليله) كيلا يعرض لأنه كذاب. الثاني من الوجهين إنه حديث لا يحتج به.
فإن قلت: هذا روي عن علي بن أبي طالب أيضاً، رواه الحارث بن أبي أسامة، قال: حدثنا أبو زكريا حدثنا سعيد بن زيد، عن عمرو بن خالد، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده، «عن علي بن أبي طالب، وعن حبيب بن ثابت، عن نافع عن ابن عمر قال انتظرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخرج في رمضان، فخرج من بيت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كحلته وملأت عينيه كحلاً» انتهى.
قلت: قد وقفت على حال عمرو بن خالد، وقال شيخنا زين الدين وهذان الحديثان ليسا صريحين في الكحل للصائم، إنما ذكر فيهما رمضان فقط، ولعله كان في رمضان.
فإن قلت: روى ابن الجوزي في كتاب " فضائل الشهور " من رواية شريح بن يونس عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حديث طويل فيه صيام(4/43)
ولو قبل امرأته لا يفسد صومه يريد به إذا لم ينزل لعدم المنافي صورة ومعنى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عاشوراء والاكتحال فيه.
قلت: رواه في " الموضوعات " بهذا الإسناد، ثم قال هذا حديث لا يشك عاقل في وضعه.
فإن قلت: روى الطبراني في " الأوسط «عن بريرة، قالت: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكتحل بالإثمد وهو صائم» .
قلت: قال شيخنا زين الدين وفي إسناده غير واحد يحتاج إلى الكشف عنهم.
[التقبيل والمباشرة للصائم]
م: (ولو قبل امرأته لا يفسد صومه يريد به إذا لم ينزل) ش: أي يريد القدوري أو محمد في " الجامع الصغير " بقوله - ولو قبل امرأة لا يفسد صومه - إنه إذا لم ينزل المني (لعدم المنافي صورة ومعنى) أي لعدم ما ينافي الصوم من حيث الصورة وهو إيلاج الفرج في الفرج ومن حيث المعنى وهو الإنزال بالمس عن شهوة، وقد روى البخاري ومسلم «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقبل ويباشر بعض نسائه وهو صائم وكان أملككم لإربه» . قوله - لإربه - بكسر الهمزة وسكون الراء، قال ابن الأثير أي لحاجة يعني أنه كان غالباً لهواه، وقال: أكثر المحدثين يرويه بفتح الهمزة والراء يعنون الحاجة، وبعضهم يرويه بكسر الهمزة وسكون الراء، وله تأويلات أحدها [أرادت به] الحاجة ويقال فيها الإربة والمأربة، والثاني أرادت به العضو وعنت به من الأعضاء الذكر خاصة.
فإن قلت: روى ابن ماجه من رواية زيد بن جبير عن أبي يزيد بن الضبي عن ميمونة مولاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: «سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل قبل امرأته وهما صائمان، قال قد أفطرا جميعاً» ثم قال فينبغي أن لا تجوز القبلة للصائم أصلاً، ثم قال قلت المراد منه إذا أنزل بالقبلة توفيقا بين الحديثين، انتهى.
قلت: هذا الحديث ليس بشيء، لأنه إنما يصح هذا الجواب إذا كان الحديثان متساويين في الصحة وحديث ميمونة هذا لا يساوي حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لأن في إسناده أبا يزيد الضبي لا يعرف اسمه، وهو مجهول، وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " العلل المفرد " سألت محمداً عن هذا الحديث فقال هذا حديث منكر لا أحدث به.
واختلف العلماء في القبلة للصائم على أربعة مذاهب:
أحدها: إباحتها مطلقا، وهو قول عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وبه قال عطاء والشعبي والحسن البصري، وهو قول أحمد وإسحاق وداود، واختاره ابن عبد البر.
والثاني: كراهتها مطلقاً للصائم، وهو قول ابن مسعود وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -،(4/44)
خلاف الرجعة والمصاهرة، لأن الحكم هنالك أدير على السبب على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. ولو أنزل بقبلة أو لمس فعليه القضاء دون الكفارة لوجود معنى الجماع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أبو عمر: عن [ابن] المسيب وابن شبرمة ومحمد بن الحنفية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن من قبل فعليه قضاء ذلك اليوم.
والثالث، الفرق بين الشيخ والشاب، وعبر بعضهم عنه بقوله بالتفرقة بين من تحرك القبلة شهوته وبين من لا تحرك، وهو قول ابن عباس وقول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأصحابه وسفيان الثوري والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
والرابع: التفرقة بين صيام الفرض وصيام النفل تكره في الفرض ولا تكره في النفل وهي رواية ابن وهب عن مالك.
فإن قلت: حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كان يقبل في شهر الصوم الذي رواه الترمذي ومسلم كما مر الآن لا يلزم منه أن يكون نهاراً، لأن ليل الصوم من شهر الصوم.
قلت: في الذي رواه البخاري ومسلم وهو صائم كما مر الآن.
فإن قلت: لا يلزم منه أن يكون في رمضان.
قلت: في رواية أبي بكر السهيلي عند مسلم كان يقبل في رمضان وهو صائم.
فإن قلت: الصائم منهي عن الجماع فينبغي أن يمنع من القبلة أيضاً لأنها من دواعيه.
قلت: هذا غير وارد، لأن المحرم ممنوع عن الطيب وهو من دواعيه، والصائم ليس بممنوع عنه، وفي جوامع الفقه يكره مس فرجها ولا بأس بالقبلة والمعانقة إذا أمن على نفسه، أو كان شيخاً كبيراً. وعن أبي حنيفة تكره المعانقة والمصافحة، وعنه تكره المباشرة الفاحشة لا بثوب وذلك أن المعانقة وهما متجردان ويمس فرجه ظاهر فرجها والتقبيل الفاحش مكروه، وهو أن يمضغ شفتيها.
م: (بخلاف الرجعة والمصاهرة) ش: يعني أنهما يثبتان بالقبلة بالشهوة وكذا بالمس وإن لم ينزل م: (لأن الحكم هنالك) ش: أي في الرجعة والمصاهرة م: (أدير على السبب) ش: إذ حرمة المصاهرة تبتني على الاحتياط، وأما ها هنا فالفساد تعلق بالمواقعة ولم توجد صورتها ولا معناها، ولهذا لا يفسد الصوم بعقد النكاح م: (على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى) ش: يعني في باب الرجعة. م: (وإن أنزل بقبلة أو مس فعليه القضاء) ش: لأنه يجب بمجرد الإفساد م: (دون الكفارة) ش: لأنها لا تجب إلا بكمال الجناية، لأنها تسقط بالشبهات لكونها دائرة بين العبادة والعقوبة وعدم صورة الجماع صار شبهة فلم تجب الكفارة.(4/45)
ووجود المنافي صورة أو معنى يكفي لإيجاب القضاء احتياطا، أما الكفارة فتفتقر إلى كمال الجناية لأنها تندرئ بالشبهات كالحدود،
ولا بأس بالقبلة إذا أمن على نفسه أي الجماع أو الإنزال ويكره إذا لم يأمن لأن عينه ليس بمفطر، وربما يصير فطرا بعاقبته، فإن أمن يعتبر عينه وأبيح له، وإن لم يأمن تعتبر عاقبته، وكره له. والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أطلق فيه في الحالين والحجة عليه ما ذكرنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل لا نسلم أن كمال الجناية شرط لوجوب الكفارة ألا ترى أنها تجب بنفس الإيلاج وإن لم يحصل الإنزال الأكمل إلا به أجيب بأن الكمال يحصل بنفس الإيلاج، ولهذا يجب الغسل أنزل أو لم ينزل، أما الإنزال فأمر زائد على الجماع، ولهذا لا يشترط في تحليل الزوج الثاني لأنه شبع ومبالغة فيه.
م: (لوجود معنى الجماع) ش: وهو قضاء الشهوة بالمباشرة م: (ووجود المنافي) ش: للصوم م: (صورة) ش: أي من حيث الصورة م: (أو معنى) ش: أي أو من حيث المعنى م: (يكفي لإيجاب القضاء احتياطاً) ش: أي لأجل الاحتياط: (أما الكفارة فتفتقر إلى كمال الجناية لأنها تندرئ) ش: أي تندفع م: (بالشبهات) ش: وهنا الشبهة عدم صورة الجماع كما ذكرنا م: (كالحدود) ش: يعني مثل الحدود فإنها تندرئ بالشبهات.
م: (ولا بأس بالقبلة إذا أمن على نفسه أي الجماع أو الإنزال) ش: قال السغناقي: صحت الرواية بكلمة أو، وقال الكاكي الرواية في النسخ المقروءة على المشايخ كلمة أو، وقال الأترازي: صحت الرواية عن مشايخنا بما وراء بكلمة أو، والوجه عندي أن يذكر الواو، ولأن الأمان عن أحدهما ليس بكاف لعدم الكراهة، بل الأمان منها شرط لعدم الكراهة حتى إذا أمن الجماع ولم يأمن الإنزال تكره له القبلة لتعريض الصوم على الفساد، وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله أي الجماع أو الإنزال إنما ذكر هكذا لأن المشايخ اختلفوا على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا أمن على نفسه قال بعضهم أراد بالأمن عن الوقوع في الوقاع، وقال بعضهم أراد به الأمن من خروج المني. م: (ويكره إذا لم يأمن) ش: يعني إذا لم يأمن الإنزال أو الجماع م: (لأن عينه) ش: أي عين القبلة ذكر الضمير باعتبار التقبيل، والمراد من عين القبلة نفسها م: (ليس بمفطر) ش: وهذا ظاهر م: (وإنما يصير فطراً بعاقبته) ش: يعني باعتبار المال بوجود الجماع أو الإنزال م: (فإن أمن يعتبر عينه) ش: أي نفس القبلة م: (وأبيح له) ش: أي القبلة لأنها ليست بنفسها مفطرة م: (وإن لم يأمن) ش: أي الجماع أو الإنزال م: (تعتبر عاقبته) ش: أي مآله م: (وكره له) ش: حينئذ م: (والشافعي أطلق له في الحالين) ش: أي جوز له القبلة فيما إذا أمن على نفسه أو لم يأمن، وفيه نظر، لأنه ذكر في " وجيزهم " وتكره القبلة للشاب الذي لا يملك إربه م: (والحجة عليه ما ذكرناه) ش: أي الحجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما ذكرنا، وهو قوله لأن عينه ليس بمفطر ... إلخ.(4/46)
والمباشرة الفاحشة مثل التقبيل في ظاهر الرواية. وعن محمد أنه كره المباشرة الفاحشة لأنها قلما تخلو عن الفتنة. ولو دخل حلقه ذباب وهو ذاكر لصومه لم يفطر، وفي القياس يفسد صومه لوصول المفطر إلى جوفه وإن كان لا يتغذى به كالتراب والحصاة، ووجه الاستحسان أنه لا يستطاع الاحتراز عنه فأشبه الغبار والدخان، واختلفوا في المطر والثلج، والأصح أنه يفسد لإمكان الامتناع عنه إذا آواه خيمة أو سقف ولو أكل لحما بين أسنانه فإن كان قليلا لم يفطر، وإن كان كثيرا يفطر. وقال زفر: يفطره في الوجهين؛ لأن الفم له حكم الظاهر حتى لا يفسد صومه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والمباشرة الفاحشة) ش: وهو أن يعانقها مجردين ويمس فرجه ظاهر فرجها م: (مثل التقبيل في ظاهر الرواية) ش: يكره إذا لم يأمن ولا يكره إذا أمن م: (وعن محمد أنه كره المباشرة الفاحشة لأنها قلما تخلو عن الفتنة) ش: عن الوقوع في الجماع. وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولو دخل حلقه ذباب وهو ذاكر لصومه لم يفطر) ش: لأنه مغلوب فيه كما في الغبار والدخان م: (وفي القياس أنه يفسد صومه لوصول المفطر إلى جوفه، وإن كان لا يتغذى به) ش: كلمة إن واصلة بما قبلها، ولا فرق بين المأكول وغيره م: (كالتراب والحصاة) ش: م: (ووجه الاستحسان أنه لا يستطاع الامتناع منه، فأشبه الغبار والدخان) ش: فإنه لا يستطاع دفعهما، وإن وصل الذباب إلى جوفه ثم خرج حياً لم يفطر، ذكره في " الحاوي " وهو قول سحنون من المالكية. وفي " خزانة الأكمل "، ولو دخل جوفه وهو كاره له لم يفطره.
م: (واختلفوا في المطر والثلج) ش: يعني اختلف المشايخ في المطر، فقال بعضهم المطر يفسد والثلج لا يفسد. وقال بعضهم على العكس. وقال عامتهم بإفسادهما م: (والأصح أنه يفسد) ش: لحصول الفطر معنى م: (لإمكان الامتناع عنه إذا أواه) ش: أي ضمه م: (خيمة أو سقف) ش: قلت: إذا كان في البرية وليس عنده خيمة ولا شيء يمنع المطر عنه، فالقياس أن لا يفسده، ولو خاض الماء فدخل أذنه لا يفطره، بخلاف الدهن، وإن كان بغير صيغة لوجود إصلاح بدنه، لو صب الماء في أذنه، فالصحيح أنه لا يفطره لفقده إصلاح البدن، لأن [الماء] يضر بالدماغ، وفي " الخزانة " لو دخل حلقه من دموعه أو عرق جبينه قطرتان أو نحوهما لا يضره والكثير الذي يجد ملوحته في حلقه يفسد صومه [....] ، ولو نزل المخاط، من أنفه في حلقه على تعمد منه فلا شيء عليه، ولو بلع بزاق غيره أفسد صومه ولا كفارة عليه، كذا في " المحيط ". وفي " البدائع " لو ابتلع ريق حبيبته أو [صديقه] ، قال الحلواني عليه كفارة، لأنه لا يعافه بل يلتذ به، وقيل لا كفارة فيه، ولو جمع ريقه في فيه ثم ابتلعه لم يفطر ويكره، ذكره المرغيناني.
م: (ولو أكل لحماً بين أسنانه فإن كان قليلاً لم يفطر) ش: يعني إذا كان قليلاً م: (وإن كان كثيراً يفطره. وقال زفر: يفطره في الوجهين) ش: يعني في القليل والكثير م: (لأن الفم له حكم الظاهر حتى(4/47)
بالمضمضة.
ولنا أن القليل تابع لأسنانه بمنزلة ريقه بخلاف الكثير لأنه لا يبقى فيما بين الأسنان. والفاصل مقدار الحمصة وما دونها قليل. وإن أخرجه وأخذه بيده ثم أكله ينبغي أن يفسد صومه لما روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الصائم إذا ابتلع سمسمة بين أسنانه لا يفسد صومه، ولو أكلها ابتداء يفسد صومه. ولو مضغها لا يفسد لأنها تتلاشى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا يفسد صومه بالمضمضة) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد، وفي " تتمتهم " إن قدر على إخراجه فابتلعه يفطر وإلا لا. وفي " شرح الإرشاد " إن كان مما يجري به الريق لا يفطر عنده، وإن كان لا مما يجري يفطر.
[ابتلاع الصائم الشيء اليسير]
م: (ولنا أن القليل تابع لأسنانه بمنزلة ريقه، بخلاف الكثير لأنه لا يبقى فيما بين الأسنان) ش: فكان الاحتراز عنه ممكناً. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " أنه إذا ابتلعه، فأما إذا استخرجه فأخذه بيده ثم ابتلعه يجب أن يفسد [صومه. ومنهم من قال لا يفسد صومه] سواء قصد ابتلاعه أو لم يقصد. ألا ترى ما قال محمد في " الجامع الصغير " [عن] محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الصائم يكون في أسنانه اللحم فأكله متعمداً فقال: ليس عليه قضاء ولا كفارة م: (والفاصل) ش: أي بين القليل والكثير م: (مقدار الحمصة) ش: فهو كثير والحمصة بتشديد الميم المفتوحة، قال ثعلب هو المختار، وقال المبرد بكسرها م: (وما دونها) ش:. أي [وما] دون الحمصة فهو م: (قليل) ش: ولم يذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المبسوط والجامع الصغير "، وذكر في " شرح زفر ويعقوب " لابن شجاع أبي عبد الله البلخي قال: أخبرني ابن أبي مالك عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما كان بين أسنانه في قدر الحمصة فطره أجعل قدر الحمصة كثيراً لأنه لا تبقى بين الأسنان غالباً وما دونه يبقى وقال الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحمصة فصاعداً كثيراً وما دون ذلك قليل، قال أبو نصر الدبوسي إذا أراد أن يبتلعه بغير ريق فهو كثير وإن لم يمكنه ذلك بغير استعانة بالبزاق فهو قليل.
م: (فإن أخرجه) ش: أي فإن أخرج الذي بين أسنانه م: (وأخذه بيده ثم أكله ينبغي أن يفسد صومه) ش: لإمكان الاحتراز عنه م: (لما روي عن محمد) ش: أي بالقياس على ما روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن الصائم إذا ابتلع سمسمة) ش: كائنة م: (بين أسنانه لا يفسد صومه) ش: لأنه قليل، وبه قال زفر والشافعي - رحمهما الله - وأحمد. وفي " الخلاصة " يجب أن يفسد صومه، وعلى هذا لو أخذ لقمة من الخبز وهو ناس لصومه فلما مضغها ذكر أنه صائم فابتلعها وهو ذاكر، إن ابتلعها قبل الإخراج من فيه عليه الكفارة، وإن أخرجها ثم أعادها لا كفارة عليه، وبه أخذ الفقيه.
م: (فلو أكلها ابتداء) ش: أي لو أكل سمسمة من الخارج م: (يفسد صومه) ش: لأنها من جنس ما يؤكل ويتغذى به، كذا في " فتاوى الولوالجي "، هذا إذا لم يمضغها م: (ولو مضغها إلا(4/48)
وفي مقدار الحمصة عليه القضاء دون الكفارة عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - عليه الكفارة أيضا لأنه طعام متغير ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعافه الطبع، فإن ذرعه القيء لم يفطر لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قاء فلا قضاء عليه ومن استقاء عامدا فعليه القضاء»
ويستوي فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يفسد صومه لأنها تتلاشى) ش: وكذا لو مضغ حبة حنطة لا يفسد صومه، لأنها تلتزق بأسنانه فلا تصل إلى جوفه، لأنه يصير تابعاً لريقه، ولو ابتلع ريقه لا يفسد بإجماع الأمة.
ولو استشم مخاطه فأخرجه من فيه لا يفسد كريقه. ولا تجب الكفارة [....] الدم في الظاهر، وفي رواية تجب، ولو عمل عمل الإبريسم فأدخل الإبريسم في فمه فخرجت فيه خضرة الصبغ أو صفرته أو حمرته فاختلط بالريق فصار الريق أحمر أو أخضر، فابتلع الريق وهو ذاكر لصومه يفسد، كذا في " الخلاصة ".
م: (وفي مقدار الحمصة عليه القضاء دون الكفارة عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - عليه الكفارة أيضاً) ش: أي مع القضاء م: (لأنه طعام متغير) ش: فلا يمنع ذلك وجوب الكفارة، كما إذا أكل اللحم المنتن.
م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعافه الطبع) ش: أي يكرهه، يقال أعاف الماء عيافة كرهه، وذلك لأنه لما بقي بين الأسنان دخل في معنى الغذاء نقصان، ولهذا إذا تخلل يرميه وربما تكون له رائحة كريهة يكرهها الطبع، فلما دخل في معنى الغذاء نقصان قصرت الجناية، ومع قصورها لا تجب الكفارة. م: (فإن ذرعه القيء) ش: أي سبق إلى فيه وغلبه فخرج منه، ذكره في " المغرب "، وقيل غشيه من غير تعمد من باب منع وهو بالذال المعجمة م: (لم يفطر به) ش: وبه قال علي بن أبي طالب: وابن عمر وزيد بن أرقم والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وإسحاق. قال ابن المنذر وهو قول كل من يحفظ عنه [العلم، قال وبه أخذ. قال وعن الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان في الفطر،] وقال الصدر نقل عن ابن مسعود وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن لا فطر في القيء مطلقاً. وعند المالكية خلاف في فطر من ذرعه القيء، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يفطر في الفاحش.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «من قاء فلا قضاء عليه، ومن استقاء عامدا فعليه القضاء» ش: هذا الحديث رواه الأئمة الأربعة عن عيسى بن يونس عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من قاء.. الحديث " وقال(4/49)
ملء الفم وما دونه فلو عاد وكان ملء الفم فسد عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه خارج حتى انتقض به الطهارة وقد دخل وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يفسد لأنه لم توجد صورة الفطر وهو الابتلاع وكذا معناه لأنه لا يتغذى به عادة وإن أعاده فسد بالإجماع لوجود الإدخال بعد الخروج فتتحقق صورة الفطر، وإن كان أقل من ملء الفم فعاد لم يفسد صومه لأنه غير خارج ولا صنع له في الإدخال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الترمذي حسن غريب، وقال محمد يعني البخاري لا أراه محفوظاً، ورواه الحاكم في " المستدرك " وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواته كلهم ثقات.
قوله - استقاء - بالمد استفعل من قاء يقيء يعني طلب القيء وكذلك تقيأ، ولا قضاء عليه في القيء، لأن كل ما يخرج من البدن لا يفسد الصوم، كالبول والغائط ونحوهما، فكذا القيء، وكان هذا هو القياس في الاستقاء، إلا أنا تركناه بالحديث.
فإن قيل: روى الطحاوي عن أبي الدرداء «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاء فأفطر» ينبغي أن يكون القيء مفطراً، كما هو مذهب البعض، أجيب بأن معناه قاء فضعف فأفطر توفيقاً بين الحديثين.
[حكم القيء بالنسبة للصائم]
م: (ويستوي فيه) ش: أي في القيء الذي ذرعه م: (ملء الفم وما دونه) ش: يعني إذا ذرعه القيء لا يفطر، سواء ملء الفم أو أقل منه م: (فلو عاد) ش: أي القيء الذي ذرعه م: (وكان ملء الفم) ش: أي والحال أنه كان ملء الفم م: (فسد عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه خارج) ش: حقيقة م: (حتى انتقض به الطهارة وقد دخل) ش: أي الخارج فيفسد الصوم.
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يفسد لأنه لم توجد صورة الفطر وهو الابتلاع وكذا معناه) ش: أي معنى صورة الفطر م: (لأنه لا يتغذى به عادة) ش: لأن الاعتبار بحصول التغذي أو التردي إلى الجوف، قيل لا نسلم عدم حصول الفطر معنى، ألا ترى أن بالقيء تندفع الصفراء أو البلغم، وفيه صلاح البدن، وأجيب بأن صلاح البدن إذا كان الخارج لا يؤثر في نقض الصوم، ولهذا لا يفسد الصوم بالفصد، وفيه صلاح البدن أيضاً، ولهذا يسميه الأطباء الاستفراغ الكلي.
م: (وإن أعاده) ش: أي وإن أعاد الذي قاء فيه فما إذا ذرعه ملء الفم م: (فسد) ش: أي صومه م: (بالإجماع لوجود الإدخال بعد الخروج فتتحقق صورة الفطر) ش: بدخول الخارج في الجوف بنفسه.
م: (وإن كان) ش: أي القيء الذي ذرعه م: (أقل من ملء الفم فعاد) ش: يعني بنفسه إلى الجوف م: (لم يفسد صومه لأنه غير خارج ولا صنع له في الإدخال) ش: لأن الدخول يترتب على(4/50)
إن أعاد فكذلك عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لعدم الخروج. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يفسد صومه لوجود الصنع منه في الإدخال، فإن استقاء عمدا ملء فيه فعليه القضاء لما روينا، والقياس متروك به ولا كفارة عليه لعدم الصورة،
وإن كان أقل من ملء الفم فكذلك عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لإطلاق الحديث، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يفسد لعدم الخروج حكما ثم إن عاد لم يفسد عنده، لعدم سبق الخروج، وإن أعاده فعنه أنه لا يفسد لما ذكرنا، وعنه أنه يفسد فألحقه بملء الفم لكثرة الصنع. قال: ومن ابتلع الحصاة أو الحديد أفطر لوجود صورة الفطر، ولا كفارة عليه لعدم المعنى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخروج ولم يوجد الخروج م: (فإن أعاد) ش: أي فإن أعاده الذي تقيأ م: (فكذلك) ش: أي لا تفسد م: (عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لعدم الخروج) ش: فلا يوجد الخروج م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يفسد صومه لوجود الصنع منه في الإدخال) ش: وهو فعله، والنقض أثر الفعل.
م: (فإن استقاء عمدا ملء فيه فعليه القضاء) ش: ذكر العمد تأكيدا ًلأن الاستقاء استفعال من القيء، وهو التكليف فيه، ولا يكون التكلف إلا بالعمد، كذا قاله الأترازي. وقال الكاكي: قوله: عمداً: إشارة إلى أنه لو استقاء ناسياً لصومه لا يفسد صومه.
قلت: هذا أوجه من الأول م: (لما روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من استقاء عمداً فعليه القضاء» م: (والقياس متروك به) ش: أي بالحديث المذكور؛ لأن القياس أن لا يفطر إلا بالدخول، ألا ترى أنه لا يفسد بالبول وغيره، ولكن ترك القياس بالحديث، وكذلك إن غلبه م: (ولا كفارة عليه لعدم الصورة) ش: وهذا الدخول.
م: (وإن كان أقل من ملء الفم فكذلك عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي يفسد م: (لإطلاق الحديث) ش: لأنه لم يفصل بين القليل، والكثير م: (وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يفسد لعدم الخروج حكما) ش: أي من حيث الحكم، ولهذا لا ينتقض به الطهارة.
م: (ثم إن عاد) ش: إلى جوفه بنفسه فيما إذا استقاء أقل من ملء الفم م: (لم يفسد عنده) ش: أي عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لعدم سبق الخروج، وإن أعاده) ش: أي أعاد ما صنعه م: (فعنه) ش: أي فعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه لا يفسد) ش: في رواية م: (لما ذكرنا) ش: يريد به عدم سبق الخروج م: (وعنه) ش: أي وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية أخرى م: (أنه يفسد فألحقه بملء الفم لكثرة الصنع) ش: وهو صنع الاستقاء وصنع الإعادة.
م: (قال: ومن ابتلع الحصاة أو النواة أو الحديد) ش: إنما قال: ابتلع، ولم يقل أكل؛ لأن الأكل هو المضغ والابتلاع جميعاً، والمضغ لا يحصل في الحصاة ونحوها، بخلاف الابتلاع، فإنه يحصل لأنه عبارة عن إدخال الشيء في الحلق م: (أفطر) ش: إلا على قول من لا يعتمد على قوله، وهو الحسن بن صالح، فإنه يقول: الفطر بإقضاء الشهوة، وهو قول بعض أصحاب(4/51)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مالك م: (لوجود صورة الفطر) ش: بإيصال الشيء إلى باطنه م: (ولا كفارة عليه لعدم المعنى) ش: أي لعدم معنى الفطر، وهو التغذي، والتروي إلى البدن.
وقال مالك: تجب عليه لأنه مفطر غير معذور، وكل من هو كذلك يجب عليه عنده، كذا قاله الأكمل، وهو خلاف ما نقله في " الذخيرة " [....] ، ولو ابتلع حصاة أو نواة، أو ما لا يتغذى به، قال مالك: يقضي، ولا يكفر عنهم، قال سحنون من أصحابه: عليه الكفارة إن تعمده وإلا فالقضاء. وقال ابن القاسم: لا شيء في سهوه، وفي عمده الكفارة، وذكر في " الجواهر ": وهو من كتب المالكية عن بعض المتأخرين من المالكية: لا يفطر، ومشهور مذهبه الفطر، وعدم الكفارة. وفي " البدائع ": لو ابتلع ما لا يؤكل عادة كالحجر، والمدر، والجوهر، والذهب، والفضة أفطر ولا كفارة عليه، وكذا لو ابتلع حصاة أو حشيشاً أو جوزة رطبة أو يابسة وابتلعها كفر.
وقيل: إن وصل القشر إلى حلقه أو لا لم يكفر، وإن مضغ فستقة مشقوقة يجب الكفارة، وإن لم تكن مشقوقة لا تجب إلا إذا مضغها، وفي الأرز والعجين لا تلزمه الكفارة، وكذا في دقيق الحنطة، والشعير إلا عند محمد، وفي دقيق الأرز قالوا: يلزمه، وفي " الذخيرة ": قيل: إن لته بسمن، أو دهن، تجب الكفارة بأكله، وفي الملح وحده لا تلزمه الكفارة إلا إذا اعتاد ذلك. وفي " الذخيرة ": قيل في قليله دون كثيره، لأنه مضر، وقيل: يجب مطلقاً، وإذا ابتلع حبة حنطة تلزمه الكفارة بخلاف حبة الشعير إلا إذا كانت مغلوة، ولو أكل لحماً غير مطبوخ تلزمه الكفارة بخلاف الشحم، وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والأصح عندي في الشحم لزومها، وفي الشحم، واللحم، والقديد: تجب الكفارة، لأنهما يؤكلان بذلك عادة، ولو أكل لحم الميتة وهي منتنة قد تدودت لا كفارة عليه، وإلا فعليه الكفارة.
وفي " المحيط ": لو ابتلع سمسمة فطره قيل لا تلزمه الكفارة، لعدم التيقن بوصولها إلى الجوف، وقيل: يجب الكفارة نروي ذلك عن أبي حنيفة نصاً، وهو الأصح، وبه قال محمد بن مقاتل الرازي، والأول قول الصفار، وإن مضغها لا يفطر، لأنها تتلاشى، وتبقى بين أسنانه، وفي " خزانة الأكمل ": في التفاحة والخوخة الكفارة، وإن ابتلع رمانة صحيحة فلا كفارة عليه، وفي كتاب الصيام للحسن بن زياد في قشر رمانة رطبة، وجوزة رطبة، ولوزة رطبة [فعليه] كفارة، ولا كفارة في اليابسة، ومنها: ولو ابتلع بلوطة، أو عفصة منزوعة القشر كفر، وفي ابتلاع مسك أو زعفران الكفارة، وفي " الخزانة ": لو أكل طيناً فعليه القضاء دون الكفارة إلا في الطين الأرمني عليه الكفارة إلا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه كسائر الأطيان عنده. وقال محمد: هو بمنزلة الغاريقون يتداوى به، وفي ابتلاع الهليلجة روايتان.(4/52)
ومن جامع في أحد السبيلين عامدا فعليه القضاء استدراكا للمصلحة الفائتة والكفارة، لتكامل الجناية. ولا يشترط الإنزال في المحلين اعتبارا بالاغتسال، وهذا لأن قضاء الشهوة يتحقق دونه وإنما ذلك شبع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[جماع الصائم عامدا]
م: (ومن جامع في أحد السبيلين عامدا) ش: هما القبل والدبر، وقيد بقوله - عامداً - لأنه إذا كان ناسياً لا يجب عليه شيء أصلاً م: (فعليه القضاء) ش: وعليه جمهور العلماء، وقال الأوزاعي وبعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إن كفر بالصوم لا يجب عليه القضاء لأنه من جنسه، وإن كفر بغيره وجب، وحكي قول عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا كفر لا قضاء عليه، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين للأعرابي الكفارة ولم يبين حكم القضاء، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أفطر متعمداً فعليه ما على المظاهر وليس على المظاهر سوى الكفارة شيء» ، ولنا أنه وجب عليه الصوم بشهود الشهر، وقد انعدم فلزمه القضاء، كما لو كان معذوراً فلم يؤده فيضمنه ما عنده، كما في حقوق العباد، وإنما أراد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله فعليه ما على المظاهر بسبب الفطر، وبه نقول، لكن وجوب القضاء عند تفويت الأداء غير مشكل كذا في " المبسوط ".
م: (استدراكا للمصلحة الفائتة) ش: يعني لأجل الاستدراك للمصلحة التي فاتت بإفساد الصوم، لأن الشارع حكيم لا يأمر بالإمساك إلا لحكمة، فإذا فوت هذه الحكمة والمصلحة بالإفساد يجب القضاء ليدركها.
قلت: هذه الحكمة لمصلحة قهر النفس الأمارة بالسوء، فبالجماع يفوت قهر النفس للتنافي بينهما فيجب القضاء للاستدراك، والقضاء يجب على المعذور وعلى غير المعذور أولى.
م: (والكفارة) ش: أي وعليه الكفارة أيضاً م: (لتكامل الجناية) ش: صورة ومعنى وهي إيلاج الفرج في الفرج، وهو قول الجمهور وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير: لا كفارة عليه، وهو قول الزهري وابن سيرين أيضاً وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الحسن عنه لا تجب الكفارة في الوطء في الدبر في الذكر والأنثى. قال في " المحيط ": تجب فيه الكفارة بالجماع [و] هو الصحيح، بخلاف الحد عنده لأنه متعلق بالزنا ولم يوجد. م: (ولا يشترط الإنزال في المحلين) ش: أي في القبل والدبر م: (اعتبارا بالاغتسال) ش: يعني إذا أدخل فنزع وجب عليه الغسل، فكذلك الكفارة، وقيل: الكفارة تندرئ بالشبهات، وأيضاً معنى الجماع وهو قضاء الشهوة فدرئت الشبهة، والغسل يجب بالاحتياط، فقياس أحدهما على الآخر غير صحيح، وأجيب بمنع معنى الجماع م: (لأن قضاء الشهوة يتحقق [دونه] ) ش: أي بدون الإنزال والإنزال شبع وليس بشرط، ألا ترى أن من أكل لقمة وجبت عليه الكفارة، وإن لم يوجد الشبع، وإليه أشار بقوله م: (وهذا) ش: أي قولنا الإنزال م: (وإنما ذلك شبع) ش: هذا جواب عن سؤال ذكر في " المبسوط " فإن قيل: تكامل الجناية شرط لإيجاب الكفارة وذلك لا يحصل بدون الإنزال. قلنا انقضاء شهوة(4/53)
وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا تجب الكفارة بالجماع في الموضع المكروه اعتبارا بالحد عنده، والأصح أنها تجب لأن الجناية متكاملة لقضاء الشهوة،
ولو جامع ميتة أو بهيمة فلا كفارة أنزل أو لم ينزل خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الجناية تكاملها بقضاء الشهوة في محل مشتهى ولم يوجد،
ثم عندنا كما تجب الكفارة بالوقاع على الرجل تجب على المرأة. وقال الشافعي - رحمه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المحل يتم بالإيلاج والإنزال شبع، ولا يعتبر به في تكميل الجناية.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا تجب الكفارة بالجماع في الموضع المكروه) ش: وهو الدبر م: (اعتبارا بالحد عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإنه لم يجعل هذا الفعل جناية كاملة في إيجاب العقوبة التي تندرئ بالشبهات، وهذه عقوبة تندرئ بالشبهات كالحدود في جانب المفعول ليس لقضاء الشهوة، وبه قال بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (والأصح أنها تجب) ش: أي الكفارة. رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن الجناية متكاملة لقضاء الشهوة) ش: في محله، والسبب قد تم وهو الفطر بهذه الجناية، وبه قال أبو يوسف ومحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وقال مالك وأحمد عليهما الغسل، وقال ابن قدامة قال أبو حنيفة في أشهر الروايتين عنه لا كفارة في الوطء في الدبر.
قلت: هذا غير صحيح، والأصح ما ذكرناه.
م: (ولو جامع ميتة أو بهيمة فلا كفارة أنزل أو لم ينزل خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فالصحيح عنه أنه تجب الكفارة. وفي " شرح المهذب " للنووي أولج في قبل بهيمة أو دبرها بطل صومه أنزل أو لم ينزل، وفيما دون الفرج لا يبطل إلا بالإنزال، ولا كفارة فيه، كقولنا، وتجب الكفارة في البهيمة في أصح الطريقين أنزل أم لا، واختلف الحنابلة في وجوب الكفارة في وطء البهيمة والميتة م: (لأن الجناية تكاملها بقضاء الشهوة في محل مشتهى ولم يوجد) ش: تكاملها بالرفع لأنه خبر إن والأولى أن يكون بالنصب بدلاً من الجناية، وقوله في قضاء الشهوة يكون خبر إن، والتقدير أن تكامل الجناية في قضاء الشهوة، حاصل المعنى أن الكفارة تعتمل الجناية الكاملة، وتكاملها لا يكون إلا بقضاء الشهوة في محل مشتهى، ولم ويوجد، ألا ترى أن الطباع السليمة تنفر عنها، فإن حصل به قضاء الشهوة فذلك لغلبة الشهوة والشبق أو لفرط السفه.
[كفارة المفطر عمدا بجماع أو غيره]
م: (ثم عندنا كما تجب الكفارة بالوقاع على الرجل تجب على المرأة) ش: هذا إذا طاوعته المرأة، أما إذا غلبها على نفسها فعليها القضاء دون الكفارة، وبه قال مالك وأبو ثور وابن المنذر وأحمد في أصح الروايات، قال الخطابي: هو قول أكثر العلماء.
م: (وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول: لا تجب عليها) ش: أي الكفارة وهو أظهر أقوال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو رواية عن محمد، وفي قول: تجب كفارة واحدة على الواطئ(4/54)
الله - في قول: لا تجب عليها لأنها متعلقة بالجماع وهو فعله، وإنما هي محل الفعل، وفي قول تجب ويتحمل الرجل عنها اعتبارا بماء الاغتسال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنهما ويتحمل عنها، وهو قول الأوزاعي، وله قول ثالث كقولنا م: (لأنها متعلقة بالجماع) ش: أي لأن الكفارة متعلقة بالجماع يعني بسبب فعل الجماع م: (وهو) ش: أي الجماع م: (فعله) ش: أي فعل الرجل، م: (وإنما هي محل الفعل، فلا تجب عليها، وفي قول) ش: للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (تجب ويتحمل الرجل عنها) ش: لأنه أوقعها في هذه المؤنة هذا إذا كان موسراً، وأما إذا كان معسراً فلا يتحملها كالتكفير بالصوم م: (اعتبارا بماء الاغتسال) ش: يعني قياساً على ماء الاغتسال، فإنه عليه، لأنه أوقعها فيه والحق التعلق بالجماع ينقسم إلى بدني ومالي، فما كان مالياً، فعلى الزوج، وما كان بدنياً فعليهما كثمن ماء الاغتسال فإنه عليه والاغتسال عليها، وفي تتمتهم فيه تسعة فروع.
أحدها: إذا كانا جميعاً من أهل الإطعام أو العتق يحمل ويتداخلان لأنهما جنس واحد والسبب واحد.
الثاني: إذا كانا جميعاً من أهل الصوم، فعلى كل واحد أن يصوم ولا يتحمل عنها، لأنها عبادة بدنية ولا يجزئ فيها التحمل.
الثالث: إذا كان الرجل من أهل الإعتاق، وهي من أهل الصوم فيه وجهان، أحدهما: عليه الصوم لعدم التحمل فيه، والثاني: يسقط عنها لعتق الرجل.
الرابع: إذا كان هو من أهل العتق وهي من أهل الإطعام يتحمل عنها، وهما يتداخلان؟ فيه وجهان، أحدهما: لا يتداخلان لأنهما جنسان مختلفان، ولا تداخل مع الاختلاف. والثاني: تدخل فيه.
الخامس: لو كان هو من أهل الصوم، وهي من أهل العتق [فوجهان، أحدهما: لا يتحمل عنها، لأنه عاجز، والثاني: يتحمل فتبقى] في ذمته إلى أن يقدر.
والسادس: لو كان هو من أهل الإطعام وهي من أهل الصوم لا يتحمل عنها، لأنه [بدني فلا يتحمل فيه. السابع: لو زنى بامرأة لا يتحمل عنها، لأن] التحمل بسبب الزوجية ولم يوجد، ولهذا لا يلزمه ثمن ماء الاغتسال.
الثامن: إذا كان نائماً فاستدخلت ذكره فعليها الكفارة، لأن الرجل لم يجعلها مفطرة.
التاسع: إذا قدم الرجل من سفر مفطراً فجامعها، فإن ظن أنها مفطرة فلا يتحمل ولو جامعها مع العلم بصومها فيه وجهان، أحدهما: لا يتحمل، والثاني يتحمل.(4/55)
ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر» وكلمة "من" تنتظم الذكور والإناث، ولأن السبب جناية الإفساد لا نفس الوقاع وقد شاركته فيها ولا يتحمل لأنها عبادة أو عقوبة ولا يجري فيهما التحمل،
ولو أكل أو شرب ما يتغذى به أو ما يتداوى به فعليه القضاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر» ش: قال الأترازي: هذا ما رواه أصحابنا في كتبهم وذكره السغناقي ثم تبعه الأكمل مجرداً من غير بيان في حاله ولا نسبه إلى أحد. وقال الكاكي وفي " المبسوط "، واحتج علماؤنا بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر» ، رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال مخرج أحاديثه: هذا حديث غريب لم أجده، واستدل ابن الجوزي في التحقيق لمذهبنا ومذهبه بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
«أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر رجلاً أفطر في رمضان أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكيناً» انتهى قال: ووجهه أنه علق التكفير بالإفطار وهو معنى حسن صحيح.
وقال الكاكي: وما رواه في المتن رواه الدارقطني بمعناه، قلت: روى الدارقطني في " سننه " عن يحيى الحماني حدثنا هشيم عن إسماعيل بن سالم عن مجاهد عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الذي أفطر يوماً في رمضان بكفارة الظهار» .
م: (وكلمة من تنتظم الذكور والإناث) ش: قال الله تعالى {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ} [الأحزاب: 31] [الأحزاب: 31] وفي بعض النسخ تنتظم الذكور والإناث، م: (ولأن السبب) ش: أي سبب الكفارة م: (جناية الإفساد) ش: أي إفساد الصوم م: (لا نفس الوقاع) ش: ولهذا إذا حصل الوقاع ولم يوجد الإفساد لا تجب الكفارة، كما في الوقاع في ليالي رمضان.
م: (وقد شاركته فيها) ش: أي في جناية الفساد فشاركته في الكفارة فتجب عليها كما تجب عليه، وهذا جواب عن قول الشافعي أعني عن قوله الأول.
م: (ولا يتحمل لأنها) ش: أي لأن الكفارة م: (عبادة أو عقوبة) ش: وأيا ما كانت لا تلزمه م: (ولا يجري فيهما) ش: أي في العبادة والعقوبة م: (التحمل) ش: لأن العبادة فعل اختياري، فلو جاز التحمل لحصل الجبر واللازم منتف فينتفي الملزوم، وأما العقوبة فقد شرعت زجراً على الجاني لا على غيره، وهذا جواب عن قوله الثاني.
م: (ولو أكل) ش: أي الصائم م: (أو شرب ما يتغذى به أو ما يداوى به) ش: في نهار رمضان وكان عمداً م: (فعليه القضاء) ش: أي قضاء ذلك اليوم، وقال الأوزاعي: ليس عليه(4/56)
والكفارة وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا كفارة عليه لأنها شرعت في الوقاع بخلاف القياس لارتفاع الذنب بالتوبة، فلا يقاس عليه غيره. ولنا أن الكفارة تعلقت بجناية الإفطار في رمضان على وجه الكمال لا بنفس الوقاع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القضاء، واستدل بحديث الأعرابي، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين حكم الكفارة، ولم يبين حكم القضاء. قلنا: إنه وجب عليه الصوم بشهود الشهر، وقد انعدم الأداء عنه فيلزمه القضاء، وإنما بين للأعرابي ما كان مشكلاً.
م: (والكفارة) ش: أي مع القضاء هو قول جمهور العلماء منهم الشعبي والزهري والثوري والحسن البصري وعطاء ومالك وإسحاق وأبو ثور ومحمد بن جرير الطبري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وكان سعيد بن جبير يقول: لا كفارة على المفطر في رمضان، أي مفطر كان، لأن في آخر حديث الأعرابي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كلها أنت وعيالك» فانتسخ بهذا حكم الكفارة، ولنا ما يأتي عن قريب.
وقال سعيد بن المسيب: عليه صوم شهر، وقال عطاء: عليه تحرير رقبة، فإن لم يجد فبدنة أو بقرة أو عشرون صاعاً من طعام على أربعين مسكيناً، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: عليه أن يصوم اثني عشر يوماً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36] [التوبة: 36] ، وعند إبراهيم النخعي عليه أن يصوم ثلاثة آلاف يوم، رواه عنه حماد بن أبي سليمان وقال أبو عمر بن عبد البر، هذا لا وجه له إلا أن يكون كلامه قد خرج على وجه التغليظ والغضب، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عليه عتق رقبة أو صوم شهر أو إطعام ثلاثين مسكيناً، وعن ابن سيرين يقضي يوماً، وهو رواية عن الشعبي ومذهب ابن جبير، ورواه القاضي بكار عن النخعي، وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقضي يوماً ويطعم مسكيناً واحداً.
وعن الحسن البصري أنه سئل عن رجل أفطر أربعة أيام يأكل ويشرب وينكح. قال: يعتق أربع رقاب، فإن لم يجد فأربعة من البدن فإن لم يجد فعشرون صاعاً من التمر لكل يوم، فإن لم يجد صام لكل يوم يومين، وروي مثله مرسلاً من طريق بن المسيب، وعن علي وابن مسعود رضي عنهما - أنهما قالا: لا يقضيه أبداً، وإن صام الدهر كله، ورفعه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال أبو عمر: وهو ضعيف.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا كفارة عليه) ش: ولكن يعزره السلطان ويجب عليه إمساك بقية يومه، وبه قال أحمد وداود م: (لأنها) ش: أي لأن الكفارة م: (شرعت في الوقاع) ش: أي الجماع بخلاف القياس لارتفاع الذنب بالتوبة فلا يقاس عليه غيره) ش: بيانه أن الأعرابي جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تائباً نادماً، والتوبة رافعة للذنب بالنص، ومع ذلك أوجب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكفارة فعلم أنها تثبت على خلاف القياس، وما كان كذلك لا يقاس عليه غيره.(4/57)
وقد تحققت.
وبإيجاب الإعتاق تكفيرا عرف أن التوبة غير مكفرة لهذه الجناية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا أن الكفارة تعلقت بجناية الإفطار) ش: أي أن وجوب الكفارة في الوقاع تعلق بجناية الإفساد للصوم م: (في رمضان على وجه الكمال لا بنفس الوقاع وقد تحققت) ش: أي الجناية في الأكل والشرب فوجب القول بوجوب الكفارة بطريق الأولى، لأن الكفارة وردت زجراً، والزجر إنما يكون في إتيان حرام تدعو إليه النفس، وداعية النفس في الصوم إلى الأكل والشرب أكثر منها إلى الجماع، فلما وجب في الجماع الزجر، فلأن تجب الكفارة في الأكل والشرب أولى وأحرى، قيل: لا نسلم عدم تعلق الكفارة بنفس الوقاع لأنه حرام في الصوم.
وأجيب بأن وقاع الزوجة من حيث هو ليس بحرام بالنص، فعلم أن الكفارة تعلقت بإفساد الصوم فقيل: لا نسلم تعلقها بإفساد الصوم والفساد حاصل في الإطار بالحصاة والنواة فأجيب نعم لكن لا على وجه الكمال فيما ذكر لعدم فوت معنى الصوم وهو قهر النفس بالتجويع.
م: (وبإيجاب الإعتاق تكفيرا عرف أن التوبة غير مكفرة لهذه الجناية) ش: هذا جواب عن قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الكفارة شرعت في الوقاع بخلاف القياس لارتفاع الذنب بالتوبة، وبيانه أن يقال لا نسلم أن هذه الجناية [ترفع بالتوبة، فإن الشرع لما أوجب الإعتاق كفارة هذه الجناية] ، علم أنها غير مفكرة لها كجناية السرقة والزنا حيث لا يرتفعان بمجرد التوبة بل بالحد، والباقي بإيجاب العتق تتعلق بقوله - عرف - والتقدير عرف بإيجاب الشارع الإعتاق أن التوبة غير مكفرة، وقوله - تكفيراً - نصب على التعليل أي لأجل التكفير.
فإن قال الخصم للجماع مزية في استدعاء الزاجر لغلظه في الجناية ولا يثبت الحكم في غير من زجره، الأول: أن الجماع يوجب الفطر من [الحكم] فكان أشد بخلاف الأكل والشرب.
والثاني: أن الإحرام يفسد بسبب الجماع، ولا يفسد بسائر محظورات الإحرام.
والثالث: أن الشارع أوجب في الوقاع عند عدم الملك ولم يشرع في الأكل عند عدم الملك، فكان أشد.
والرابع: أن تمام الجوع يبيح الفطر عند الضرورة، فكان نقيضه يوجب شبهة الإباحة والكفارة لا تجب بالشبهة، بخلاف الوقاع فإنه لا يباح أصلاً في حق الصائم.
والخامس: أن الوقاع بالمرأة له داعيان من النظر بخلاف الأكل فكان أشد.
وأجيب عن الأول بأنه لا فرق بين جماع الصغير، والكبير والمكرهة والبهيمة على أصله وليس فطراً، ومع ذلك وجبت الكفارة. وعن الثاني خوف الجماع في الحج أقوى حتى لا يرتفع بالحلق إلى أن يطوف طواف الزيارة بخلاف سائر المحظورات حتى ترتفع بالحلق، وهنا كلها سواء. وعن الثالث التسوية بين الأكل والوقاع في الركنية حرمة وإباحة.(4/58)
ثم قال: والكفارة مثل كفارة الظهار لما روينا، ولحديث الأعرابي فإنه قال: «يا رسول الله هلكت وأهلكت، فقال: ماذا صنعت؟، قال: واقعت امرأتي في نهار رمضان متعمدا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أعتق رقبة، فقال: لا أملك إلا رقبتي هذه، فقال: صم شهرين متتابعين، فقال: وهل جاءني ما جاءني إلا من الصوم؟ فقال: أطعم ستين مسكينا، فقال: لا أجد، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن يؤتى بفرق من تمر "ويروى" بعرق فيه خمسة عشر صاعا، وقال: فرقها على المساكين: فقال: والله ليس ما بين لابتي المدينة أحد أحوج مني ومن عيالي، فقال: كل أنت وعيالك يجزيك ولا يجزي أحدا بعدك»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن الرابع: أن تمام الجوع لا يبيح الفطر عند الضرورة، لأن الضرورة عبارة عن خلو المعدة لخوف الهلاك على نفسه بسبب من الجوع، لأن الجوع عبارة عن الاستشهاء ووقوع الحاجة إلى الأكل، وهذا لا يباح بحال، والضرورة عبارة عن خلو المعدة التي يتعلق بها بقاء الطبيعة، وذلك الخلو لا يتصور بعضه ببعض الزاد إذا بقي، ولا يخلو دخول الجوف عما فيه لا يتصور بعضه، وعن الخامس فهو الجواب عن الأول.
[صفة كفارة المفطر عمدا في رمضان]
م: ( [ثم قال] والكفارة مثل كفارة الظهار) ش: أي الكفارة التي تجب بالواقع، مثل كفارة الظهار، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من تمر م: (لما روينا) ش: أراد به قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر» .
م: «ولحديث الأعرابي فإنه قال: يا رسول الله هلكت وأهلكت، فقال: ماذا صنعت؟، قال: واقعت امرأتي في نهار رمضان متعمداً، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أعتق رقبة، فقال: لا أملك إلا رقبتي هذه، فقال: صم شهرين متتابعين، فقال: وهل جاءني ما جاءني إلا من الصوم؟ فقال: أطعم ستين مسكينا، فقال: لا أجد، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يؤتى بفرق من تمر "ويروى" بعرق من تمر فيه خمسة عشر صاعا، وقال: فرقها على المساكين: فقال: والله ليس بين لابتي المدينة أحد أحوج مني ومن عيالي، فقال: كل أنت وعيالك يجزيك ولا يجزي أحدا بعدك» ش: الكلام في هذا الحديث على أنواع:(4/59)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأول: أن هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة من حديث أبي هريرة فقال البخاري: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني حميد بن عبد الرحمن «حدثنا أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بينما نحن جلوس عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ما لك، قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل تجد من رقبة تعتقها؟ قال لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال لا، قال فمكث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبينما نحن كذلك أتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفرق فيها تمر، والفرق المكيل، قال: أين السائل؟ فقال أنا، فقال خذها فتصدق بها، فقال الرجل: أعلى [وجه الأرض] أفقر مني يا رسول الله، فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت أسنانه، قال: أطعمه أهلك» .
وقال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن نمير كلهم عن ابن عيينة، قال يحيى أخبرنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: هلكت يا رسول الله فقال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال هل تجد ما تعتق رقبة قال لا، قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال: لا قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال لا، ثم جلس فأتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرق فيه تمر، فقال: تصدق بهذا فقال أفقر منا؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت أسنانه، ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك» .
وقال أبو داود: حدثنا مسدد ومحمد بن عيسى المعنى قالا: حدثنا سفيان، قال مسدد حدثنا الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: «أتى رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال هلكت، فقال: ما شأنك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال لا، قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟ قال لا، قال اجلس فأتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرق فيه تمر، فقال: تصدق به، فقال: يا رسول الله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا، فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت ثناياه وقال: أطعمهم إياه» .
وقال الترمذي: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وأبو عمار الضبي وأحمد واللفظ لفظ أبي عمار، قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن «عن أبي هريرة ... قال أتاه رجل فقال يا رسول الله هلكت، فقال: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال هل تستطيع أن تعتق رقبة؟ قال لا، قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟ قال لا، فأجلس؟ فجلس فأتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفرق فيه تمر، والفرق المكتل الضخم، قال: فتصدق به، قال: ما بين لابتيها(4/60)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحد أفقر منا، فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت ثناياه، قال: خذه فأطعمه أهلك» .
وقال النسائي: أخبرنا محمد بن نصر النيسابوري ومحمد بن إسماعيل الترمذي، قالا حدثنا أيوب بن سليمان قال حدثني أبو بكر وهو ابن أبي أويس عن سليمان قال يحيى بن سعيد وأخبرني ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة أخبره «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر رجلاً أفطر في رمضان أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً، قال الرجل: يا رسول الله ما أجده، فأتي بفرق من تمر فقال: خذ هذا فتصدق به، قال: ما أحد أحوج يا رسول الله مني فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت أنيابه ثم قال: كله» . ورواه من طريق أخرى.
وقال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل فقال: هلكت فقال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق رقبة قال: لا أجدها قال صم شهرين متتابعين قال: لا أطيق قال أطعم ستين مسكيناً، قال: لا أجد، قال: اجلس فجلس فبينما هو كذلك إذ أتي بمكتل يدعى الفرق، قال: اذهب فتصدق به فقال يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، قال: فانطلق فأطعمه عيالك» .
النوع الثاني: في معناه قوله - بينما - أصله بين فأشبعت فتحة النون فصارت بينا، ثم زيدت فيه الميم فصارت بينما، وتضاف إلى جملة اسمية وفعلية، وتحتاج إلى جواب يتم به المعنى، وجوابه هنا هو قوله - إذ جاء رجل - زعم ابن بشكوال أن هذا الرجل هو سلمة بن صخر البياضي فيما ذكره ابن أبي شيبة في مسنده، وعن ابن الجارود سليمان بن صخر. وفي جامع الترمذي سلمة بن صخر، وهذا في المتن لحديث الأعرابي، والأعرابي نسبة إلى الأعراب، والأعراب ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة. والعرب اسم لهذا الجيل من الناس سواء أقاموا بالبادية أو المدن، والنسبة إليه عربي.
قوله - هلكت - في رواية البخاري وكذا في رواية البقية، وفي متن حديث الباب - هلكت وأهلكت - وليس في الكتب الستة لفظ وأهلكت، وقال الخطابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذه اللفظة غير محفوظة، وأصحاب سفيان لم يرووها عنه، إنما ذكروا قوله - هلكت - فقط غير أن بعض أصحابنا حدثني أن المعلى بن منصور روى هذا الحديث عن سفيان فذكر هذا الحرف فيه وهو غير محفوظ، والمعلى ليس بذاك القوي في الحفظ والإتقان، انتهى.
قلت: أخرجه الدارقطني في " سننه " عن أبي ثور حدثنا المعلى بن منصور حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري به، وفيه هلكت وأهلكت، وفي رواية البيهقي في " سننه " أيضاً جاءه رجل(4/61)
وهو حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله يخير لأن مقتضاه الترتيب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو ينتف شعره ويدق صدره، ويقول هلكت ألا بعد وأهلكت، [وفي رواية ويدعو بالويل، وفي رواية ويلطم وجهه، وفي رواية الحجاج بن أرطاة ويدعو ويله، وفي مرسل سعيد بن المسيب عن الدارقطني ويحثي على رأسه التراب.
قوله - قال مالك - وفي رواية مسلم - وما أهلكك - وكذا في رواية الترمذي وابن ماجه] ، وفي رواية أبي داود - وما شأنك؟ - وفي متن حديث الكتاب ماذا صنعت؟. قوله - بفرق - بفتح الفاء والراء مكيال لستة عشر رطلاً، والعرق بفتح العين والراء، وقال أبو عبيد فتح الراء وهو الصواب عند أهل اللغة، قال وأكثرهم يروونه بسكون الراء. وفي ديوان الأدب - العرق - الزنبيل، وقال أبو عمر - العرق - أكبر من المكتل، والمكتل أكبر من الفرق، والعرقة زنبيل، وفي المحكم الفرق واحدته فرقة.
قوله - لابتي المدينة - تثنية اللابة، قال الأصمعي اللابة الحرة وهي الأراضي التي قد ألبتها حجارة سود، جمعها لابات ولوب. قوله - يجزيك لا يجزي أحداً بعدك - لم يرد في كتاب من كتب الحديث.
النوع الثالث: أن هذا الحديث يدل على بيان كفارة من أفطر في رمضان عمداً على الترتيب المذكور فيه، وفيه كلام كثير لا يحتمل هذا الموضع بيانه، فمن أراد ذلك فعليه بشرحنا للبخاري والذي سميناه عمدة القاري في شرح البخاري.
م: (وهو) ش: أي حديث الأعرابي م: (حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله يخير) ش: أي يخير من عليه الكفارة بين الإعتاق والصوم والإطعام مطلقاً، فأيهما أدى خرج عن العهدة. وقال الكاكي قوله - وهو حجة على الشافعي في قوله يخير - وقع سهواً من الكاتب، فإن الشافعي لا يقول بالتخيير، بل يقول مثل مذهبنا بالترتيب، وبه قال أحمد في أصح الروايتين.
وقال في شرح الموطأ وابن المنذر في الأشراف قالوا هذا مذهب أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأصحابه والأوزاعي، والثوري والحسن بن حي والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وأحمد وأبي ثور، وقال السغناقي: والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقول بالتخيير بل يقول بالترتيب المذكور في حق المظاهر كما هو قولنا، وهو منصوص في كتبهم في الوجيز والخلاصة المسنوبان للغزالي، وكذلك في كتبنا في مبسوط شمس الأئمة وفخر الإسلام.
م: (لأن مقتضاه) ش: أي مقتضى الحديث وجوب م: (الترتيب) ش: ودلالة الحديث على الترتيب ظاهرة، والذي ذهب إلى التخيير استدل بحديث سعد بن أبي وقاص «أن رجلاً سأل(4/62)
وعلى مالك في نفي التتابع للنص عليه. ومن جامع فيما دون الفرج فأنزل فعليه القضاء لوجود الجماع معنى، ولا كفارة عليه لانعدام الصورة.
وليس في إفساد الصوم في غير رمضان كفارة، لأن الإفطار في رمضان أبلغ في الجناية ولا يلحق غيره به. ومن احتقن أو استعط أو أقطر في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني أفطرت في رمضان، فقال: أعتق رقبة أو صم شهرين [متتابعين] أو أطعم ستين مسكيناً» . أجيب بأن حديث الأعرابي مشهور لا يعارضه هذا الحديث، فيحمل على أن المراد به بيان ما تتأدى به الكفارة في الجملة لا التخيير، قلت حديث سعد بن أبي وقاص رواه الدارقطني في " سننه ". م: (وعلى مالك) ش: أي وحجة أيضاً على مالك م: (وفي نفي التتابع) ش: فإنه يجوز الصوم مطلقاً تابع أو فرق، هذا على ما ذكره المصنف، ولكن نسبته إلى مالك سهو أيضاً، فإن القائل بنفي التتابع هو ابن أبي ليلى ومالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يقول إلا بالتتابع كقولنا، وفي " الذخيرة " للمالكية يجب صوم شهرين متتابعين عند مالك، وقال ابن قدامة في المغني لا اختلاف بين من أوجب الصوم أنه شهران متتابعان، وفي السروجي عند ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شهر واحد، وعند ابن أبي ليلى شهرين ولم يوجب فيهما التتابع، ذكره القرطبي وغيره م: (للنص عليه) ش: أي لنص الحديث على التتابع، حيث قال صم شهرين متتابعين، وكل صيام لم يذكره الله في القرآن متتابعاً فالصائم بالخيار إن شاء تابع وإن شاء فرق وكل صوم ذكر في القرآن متتابعاً فعليه التتابع والصيامات المذكورة في القرآن ثمانية، أربعة منها متتابعة، صوم رمضان وكفارة القتل وكفارة الظهار وكفارة اليمين عندنا، وأربعة منها صاحبها بالخيار قضاء رمضان، وصوم المتعة، وصوم كفارة الحلق، وكفارة [جزاء] الصيد، وفي المبسوطين من مشايخنا من قال كل كفارة شرع فيها عتق فصاحبها بالخيار، فحينئذ يدخل فيه كفارة الفطر م: (ومن جامع فيما دون الفرج) ش: أي أراد به الاستعمال في فخذ المرأة، أو في بطنها ولم يرد به اللواطة فإنه فيها تجب الكفارة م: (فأنزل فعليه القضاء لوجود الجماع معنى) ش: وهو الإنزال عن المس بشهوة م: (ولا كفارة عليه) ش: وبه قال الشافعي، وقال مالك وأحمد وأبو ثور تجب الكفارة لوجود هتك حرمة الصوم، ولهذا يجب عليه القضاء بالإجماع م: (لانعدام الصورة) ش: أي صورة الجماع، وهو إيلاج الفرج في الفرج.
[الحقنة والقطرة للصائم]
م: (وليس في إفساد صوم في غير رمضان كفارة) ش: حكي عن قتادة أن الكفارة تجب بإفساد قضاء رمضان اعتباراً بأدائه م: (لأن الإفطار في رمضان أبلغ في الجناية) ش: لأن فيه هتك حرمة الشهر م: (ولا يلحق غيره به) ش: أي غير رمضان برمضان، وهذا بخلاف الكفارة في الحج، حيث يستوي فيه الفرض والنفل، لأن وجوبها لحرمة العبادة، وفي رمضان لحرمة الأمان لا لنفس العبادة، فافترق صوم رمضان وغيره.
م: (ومن احتقن) ش: أي وضع الحقنة في الدبر، والحقن بفتح الحاء كذا في " المغرب " وقال ابن الأثير: الحقنة أن يعطى المريض الدواء من أسفله وهي معروفة عند الأطباء، وفي الحديث أنه(4/63)
أذنه أفطر لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الفطر مما دخل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كره الحقنة، وقال أصحابنا لا بأس بالاحتقان حال الضرورة، وهو قول النخعي، وقال مجاهد والشعبي يكره م: (أو استعط) ش: بفتح التاء أيضاً أي صب السعوط في الأنف، وهو بفتح السين اسم دواء يصب في أنف المريض، واستعطه إياه، ولا يقال استعط على بناء المجهول، والوجور دواء يصب في وسط الفم م: (أو أقطر في أذنه) ش: وقطره مثله، وأقطره، وقطر، وقطر بنفسه قطراً سال.
م: (أفطر) ش: بالفاء جواب من، أي أفطر الصائم بالاحتقان والاستعاط والإقطار في الأذن عند عامة العلماء إلا عند الحسن بن صالح وداود، فإنهما قالا لا يفطر، وقال مالك والأوزاعي في السعوط إن نزل إلى حلقه يفطر وإلا لا، ولمالك في الحقنة، روايتان، وفي " الأجناس " توجب الفطر ولا يقع بها الرضاع، ونقله عن " نوادر هشام "، لأن الرضاع إنما يثبت باللبن الذي يشربه الصغار بمعنى النشء والنمو والتغذية، ألا ترى أنه في حال الكبر لا يوجب والحقنة مفارقة للشرب في هذا المعنى.
م: «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[الفطر مما دخل» ش: هذا الحديث] رواه أبو يعلى الموصلي في " مسنده " حدثنا أحمد بن منيع حدثنا مروان بن معاوية «عن رزين البكري قال حدثتنا مولاة لنا يقال لها سلمى بنت بكر بن وائل أنها سمعت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تقول دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا عائشة هل من كسرة، فآتيته بقرص فوضعه على فيه، فقال يا عائشة هل دخل بطني منه شيء، كذلك قبلة الصائم، إنما الإفطار مما دخل وليس مما خرج» .
وروى عبد الرزاق في " مصنفه " هذا موقوفاً على ابن مسعود فقال أخبرنا الثوري عن وائل ابن داود عن أبي هريرة عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال إنما الوضوء مما خرج وليس مما دخل والفطر في الصوم مما دخل وليس مما خرج ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الطبراني في " معجمه "، ورواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " موقوفاً على ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقال حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال الفطر مما دخل وليس مما خرج. وكذلك رواه البيهقي وقال: وروي من قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يثبت، وذكره البخاري في " صحيحه " تعليقاً، وقال ابن عباس وعكرمة: الصوم مما دخل(4/64)
ولوجود معنى الفطر وهو وصول ما فيه صلاح البدن إلى الجوف ولا كفارة عليه لانعدام الصورة، ولو أقطر في أذنيه الماء أو دخله لا يفسد صومه لانعدام المعنى والصورة بخلاف ما إذا دخله الدهن. ولو داوى جائفة أو آمة بدواء فوصل إلى جوفه أو دماغه أفطر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والذي يصل هو الرطب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وليس مما خرج، ولوجود معنى الفطر
م: (وهو وصول ما فيه صلاح البدن إلى الجوف) ش أي إلى جوف الرأس أو البطن م: (ولا كفارة عليه) ش: لانعدام الصورة أي صورة الفطر، وهو الوصول إلى الجوف من المنفذ المعهود، وهو الفم م: (ولو أقطر في أذنيه الماء أو دخله) ش: أي أو دخل الماء أذنه بنفسه م: (لا يفسد صومه لانعدام المعنى والصورة) ش: أراد بالمعنى صلاح البدن وهو معدوم، لأن الماء الذي يدخل في الأذن يضر ولا ينفع، وأراد بالصورة الوصول إلى الجوف من المنفذ المعهود وهو الفم.
وعند الشافعية لو قطر في أذنه ماء أو دهناً فوصل إلى دماغه فطره في أصح الوجهين.
وقال القاضي حسين والقوزاني والسنجي: لا يفطره، وصححه القرافي، ولو اغتسل فدخل الماء أذنه فلا شيء عليه ولو صبه فيها فعليه القضاء، والمختار لا شيء عليه فيهما، وهو قول مالك والأوزاعي وداود، وفي " خزانة الأكمل " لو صب الماء في أذنه لا يفطره، هكذا عند بعض مشايخنا بخلاف الدهن يفعله فعليه القضاء، وفي " السليمانية ": من تبخر بالدواء فوجد طعم الدخان في حلقه يقضي الصوم، وفي " الخزانة " عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيمن استنشق فوصل الماء دماغه لزمه القضاء م: (بخلاف ما إذا دخله الدهن) ش: يعني أفطره إذا أدخل في أذنه الدهن لوجود صلاح البدن.
م: (ولو داوى جائفة) ش: وهي الطعنة التي تبلغ الجوف م: (أو آمة) ش: بمد الهمزة وبالتشديد وهي الشجة التي تبلغ أم الرأس وأمه يؤمه من آمته إذا ضربته بالعصا إذا ضربت أم رأسه وهي الجلدة التي تجمع الدماغ، وإنما قيل للشجة: آمة على معنى ذات أم كعيشة راضية.
م: (بدواء يصل إلى جوفه) ش: يرجع إلى الجائفة م: (أو دماغه) ش: يرجع إلى الآمة م: (أفطر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - م: (والذي يصل هو الرطب) ش: أشار بهذا إلى أن المراد من قوله: يصل إلى جوفه هو الدواء الرطب، لأن الخلاف فيه، وأما إذا كان يابساً لا يفسد صومه بالإجماع، كذا في " المبسوط " و " تحفة الفقهاء " وغيرهما، وهو ظاهر الرواية.
قال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فرق في ظاهر الرواية بين الرطب واليابس، وأكثر مشايخنا على أن العبرة للوصول حتى إذا علم أن اليابس وصل إلى جوفه فسد صومه.(4/65)
وقالا: لا يفطر لعدم التيقن بالوصول لانضمام المنفذ مرة واتساعه أخرى كما في اليابس من الدواء. وله أن رطوبة الدواء تلاقي رطوبة الجراحة فيزداد ميلا إلى الأسفل فيصل إلى الجوف، بخلاف اليابس، لأنه ينشف رطوبة الجراحة فينسد فمها، ولو أقطر في إحليله لم يفطر عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يفطر. وقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مضطرب فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإذا علم أن الرطب لم يصل لا يفسد، وفي " الأجناس " لا فرق بين الرطب و [اليابس] إذا وصلا إلى الجوف فطر، أو إذا لم يصلا إلى الجوف لم يفطراه، ثم قال: هكذا فسره محمد بن شجاع في " تفسير المجدد "، وما ذكره في الأصل مطلقا في الرطب أنه يفطره فهو بناء على الغالب، لأنه يصل إلى الجوف غالباً، ثم قال: روى: ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إن كان الرطب يصل إلى جوفه
ولم يفرق القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين الرطب واليابس في كتاب التقريب، بل حقق الخلاف فيهما جميعاً بين أبي حنيفة وصاحبيه.
م: (وقالا: لا يفطر لعدم التيقن بالوصول) ش: أي المنفذ الأصلي والمنافي للصوم هو الواصل إلى الجوف من المخارق المعتادة التي خلقها الله تعالى في البدن م: (لانضمام المنفذ مرة واتساعه أخرى) ش: إذا ظهر أن المنفذ إذا انضم وانزوى لا يصل منه شيء إلى الباطن، وإذا اتسع يصل فلا يتيقن ذلك ولا يصل إلى الجوف فلا يفسد الصوم م: (كما في اليابس من الدواء) ش: أي كما لا يفصد في تداويه بدواء يابس لأنه يستمسك، فلا يصل إلى الباطن، وبقولهما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وله) ش: لأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (أن رطوبة الدواء تلاقي رطوبة الجراحة فيزداد ميلا إلى الأسفل) ش: لأن ما كان مبطناً في نفسه وله سبب ظاهر يدار الحكم على السبب الظاهر، والوصول إلى الجوف هو الموجب للفطر، إلا أنه مبطن لا يوقف عليه وله سبب ظاهر وهو كون الدواء مائعاً سائلاً، لأن كل مائع طبعه التحدر والتسفل، وإذا كان الدواء رطباً يصير مائعاً بانضمام رطوبة الجراحة إليه فينحدر إلى الأسفل م: (فيصل إلى الجوف) ش: بانحداره وتسفله.
م: (بخلاف اليابس لأنه ينشف رطوبة الجراحة فينسد فمها) ش: أي من الجراحة فلا ينفذ إلى أسفل.
م: (ولو أقطر في إحليله) ش: وهو مخرج البول من الذكر م: (لم يفطر عند أبي حنيفة) ش: وبه قال مالك وأحمد وأبو ثور وداود وبعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وقال أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يفطر) ش: وبه قال الشافعي م: (وقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مضطرب فيه) ش: أي غير مستقر على وجه، فلذلك ذكر قوله في الأصل مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وذكر الطحاوي في " مختصره " مع أبي يوسف أنه شك في وجود المنفذ من الإحليل إلى الجوف فتوقف.(4/66)
فكأنه وقع عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن بينه وبين الجوف منفذا، ولهذا يخرج منه البول،
ووقع عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المثانة بينهما حائل والبول يترشح منه، وهذا ليس من باب الفقه. ومن ذاق شيئا بفمه لم يفطر لعدم الفطر صورة ومعنى، ويكره له ذلك لما فيه من تعريض الصوم للفساد، ويكره للمرأة أن تمضغ لصبيها الطعام إذا كان لها منه بد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى ابن سماعة عن محمد أنه توقف في آخر عمره فيه م: (وكأنه وقع عند أبي يوسف أن بينه) ش: أي بين الإحليل م: (وبين الجوف منفذا) ش: هذا إشارة إلى أن الخلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهذه المسألة تبتنى على أنه هل بين المثانة والجوف منفذ، والمثانة حائلة بين الجوف وقصبة الذكر أم لا، فأبو حنيفة يقول: لا منفذ بينهما، وإنما ينزل البول إلى المثانة بالترشيح كالجوف [....] ، وأبو يوسف يقول: بينهما منفذ م: (ولهذا) ش: أي لكون المنفذ بينهما م: (يخرج منه البول) ش: من المنفذ.
[ذوق الطعام ومضغ العلك للصائم]
م: (ووقع عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المثانة بينهما حائل) ش: أي بين الإحليل والمنفذ م: (والبول يترشح منه) ش: أي من المنفذ م: (وهذا ليس من باب الفقه) ش: يعني ليس هذا الخلاف لهذه الصورة متعلقاً بباب الفقه، بل هو متعلق باصطلاح أهل تشريح الأبدان من الحكماء، فلذلك توقف محمد لأنه أشكل عليه أمره فاضطرب قوله فيه.
م: (ومن ذاق شيئا بفمه لم يفطر) ش: الذوق معرفة الشيء بفمه من غير إدخال عينه في حلقه، وإنما قيد الذوق بالفم لأنه ليس بمخصوص به، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حتى تذوقي عسيلته» م: (لعدم الفطر صورة ومعنى) ش: أما صورة فلأنه لم يصل إلى الجوف شيء من المنفذ المعهود، وأما معنى فلأنه لم يصل إلى البدن ما يصلحه م: (ويكره له) ش: أي للصائم م: (ذلك) ش: أي ذوق الشيء بالفم م: (لما فيه) ش: أي في الذوق م: (من تعريض الصوم للفساد) ش: لأنه لا يؤمن أن يصل إلى جوفه. وفي " المحيط " لا بأس بذوق العسل أو الطعام [ليعلم] جيده ورديئه كيلا يغبن متى لم يذقه، وكرهه في " فتاوى سمرقند "، وقال الحسن بن حي، وابن حنبل وابن إدريس: لا بأس، وفي فتاوى قاضي خان قال بعضهم: إن كان الزوج سيئ الخلق لا بأس للمرأة أن تذوق المرقة بلسانها، وقيل: الكراهة في صوم الفرض دون النفل.
م: (ويكره للمرأة أن تمضغ لصبيها الطعام إذا كان لها منه بد) ش: أي إذا كان للمرأة من المضغ بد، أي عدم احتياج، بأن وجدت حليباً ونحو ذلك، وقال ابن المنذر: وروينا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لا بأس أن تمضغ الصائمة لصبيها الطعام، وكره الأوزاعي، ومالك ذوق الطعام حتى للطباخ ولمن يشتري، ومضغه للطفل، وكذا أطلق الثوري الكراهة. وفي " الذخيرة " للمالكية يكره ذوق الطعام ووضع الدواء في الفم [....] إن وجد طعمه في حلقه ولم يتيقن بالابتلاع فظاهر المذهب إفطاره خلافاً للجماعة، وفي " المغني " إن وجد طعمه في حلقه(4/67)
لما بينا ولا بأس إذا لم تجد منه بدا صيانة للولد؛ ألا ترى أن لها أن تفطر إذا خافت على ولدها،
ومضغ العلك لا يفطر الصائم؛ لأنه لا يصل إلى جوفه، وقيل: إذا لم يكن ملتئما يفسد؛ لأنه يصل إليه بعض أجزائه وقيل: إذا كان أسود يفسد، وإن كان ملتئما لأنه يتفتت، إلا أنه يكره للصائم لما فيه من تعريض الصوم للفساد، ولأنه يتهم بالإفطار. ولا يكره للمرأة إذا لم تكن صائمة لقيامه مقام السواك في حقهن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أفطر م: (لما بينا) ش: أشار إلى قوله، لما فيه من تعريض الصوم على الفساد. م: (ولا بأس إذا لم تجد منه بدا صيانة للولد) ش: لأنه يباح لها الإفطار عند الضرورة، فالمضغ أولى، ولأن حق الصبي يفوت لا إلى بدل وحق الله يفوت إلى بدل، وهو القضاء لأن حق العبد مقدم، والله عز وجل مستغن عن الحاجة م: (ألا ترى أن لها أن تفطر إذا خافت على ولدها) ش: هذا توضيح لقوله ولا بأس.... إلخ، فإن كان لها الإفطار عند خوفها على الولد إذا صامت فالمضغ أولى كما قلنا.
م: (ومضغ العلك) ش: بكسر العين الذي يمضغ، وأما بالفتح فهو مصدر علك يعلك علكاً إذا لاك م: (لا يفطر الصائم؛ لأنه لا يصل إلى جوفه) ش: وبه قال الشافعي لأنه لا يدور في الفم ولا يصل إلى الجوف م: (وقيل: إذا لم يكن ملتئما) ش: أي مصلحاً [....] ، فإن مضغه غيره حتى انضمت أجزاؤه م: (يفسد؛ لأنه يصل إليه) ش: أي إلى جوفه م: (بعض أجزائه) ش: لأنه إذا لم يكن ملتئماً تفتت فيدخل في حلقه من ذلك شيء فيفسد صومه.
م: (وقيل: إذا كان) ش: أي العلك م: (أسود يفسده) ش: لأن الأسود يذوب ويصل إلى جوفه منه شيء، وإذا كان أبيض ملتئماً لا يفطره م: (وإن كان ملتئماً) ش: واصل بما قبله، أي الأسود يفسد ولو كان ملتئماً م: (لأنه يتفتت) ش: فيدخل منه شيء إلى الحلق.
م: (إلا أنه يكره للصائم) ش: هذا استثناء من قوله: ومن مضغ العلك لا يفطر م: (لما فيه من التعريض للفساد) ش: لأنه يتوهم وصول شيء منه إلى الباطن، فيكون معرضاً لصومه أي على الفساد م: (ولأنه يتهم بالإفطار) ش: وفي بعض النسخ - ولأنه يوهم الإفطار- لأن من رآه من بعيد يظن أنه مفطر، وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إياك وما سبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره، وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أكرهه لأنه يجفف الفم ويعطش، ذكره في " التهذيب " عنه، لكن يدبغ المعدة ويهضم الطعام ويشتهي الأكل، ذكره في " المبسوط "، وأشار في " الجامع الصغير " إلى أنه لا يكره العلك لغير الصائم، ولكن يستحب للرجال تركه إلا من عذر مثل أن يكون في فمه بخر.
م: (ولا يكره للمرأة إذا لم تكن صائمة لقيامه) ش: أي لقيام العلك م: (مقام السواك في حقهن) ش: لضعف أسنانهن ومضغه ينقي الأسنان ويشد اللثة كالسواك، وقال الكاكي: وإنما قال(4/68)
ويكره للرجال على ما قيل إذا لم يكن من علة، وقيل: لا يستحب لما فيه من التشبه بالنساء،
ولا بأس بالكحل ودهن الشارب لأنه نوع ارتفاق، وهو ليس من محظورات الصوم، وقد ندب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الاكتحال يوم عاشوراء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولا يكره، وإن لم يكن موضع التشبه لأن مضغ العلك يورث هزال الجنين م: (ويكره) ش: أي العلك م: (للرجال على ما قيل) ش: ذكره فخر الإسلام م: (إذا لم يكن) ش: أي العلك م: (من علة) ش: أي من أجل علة في فمه، لأن الاشتغال به عند عدم العلة اشتغال بما لا يفيد م: (وقيل: لا يستحب) ش: أي العلك للرجال م: (لما فيه من التشبه بالنساء) ش: وقد ورد النهي عن تشبه الرجال بالنساء.
فإن قلت: قد ذكر قبله، ويكره فقوله ولا يستحب تكرار.
قلت: قال بعضهم لا فرق بينهما، وليس كذلك بل بينهما فرق لأنه يجوز أن يكون الشيء غير مستحب وغير مكروه كالمباحات في المشي والقيام والقعود في الأمر المباح.
[الاكتحال والسواك للصائم]
م: (ولا بأس بالكحل) ش: بفتح الكاف مصدر من كحل يكحل كحلاً مثل نصر ينصر نصراً ويجوز أن يكون بالضم فيكون اسما بمعنى الاكتحال، والأول أولى م: (ودهن الشارب) ش: كذلك يجوز فيه الوجهان وفتح الدال أولى، فيكون بمعنى الادهان م: (لأنه) ش: أي كل واحد من الكحل والدهن [ليس] من ممنوعات الصوم، فإذا لم يمنعا الصوم فلا بأس بهما لأنه نوع ارتفاق [وهو ليس من محظورات الصوم] ، وقد ندب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الاكتحال يوم عاشوراء) ش: لم يتعرض أكثر الشراح إلى ذكر حديث الاكتحال يوم عاشوراء غير أن السروجي قال في " شرحه ": الندب إلى صوم عاشوراء قد صح ولم يرد الندب إلى الاكتحال فيه في ما علمت من كتب الحديث، ثم قال: روى شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوم عاشوراء من بيت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وعيناه مملوءتان كحلاً كحلته أم سلمة،» انتهى.
قلت: روى البيهقي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " شعب الإيمان " من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبداً» ، ثم قال: إسناده ضعيف فجويبر ضعيف والضحاك لم يلق ابن عباس، ومن طريقه، روى ابن الجوزي في " الموضوعات "، ونقل عن الحاكم فيه حديثاً موضوعاً وضعه قتلة الحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - انتهى.
وجويبر، قال فيه ابن معين: ليس بشيء، وقال أحمد: متروك، وأما الضحاك لم يلق ابن عباس فروى ابن أبي شيبة في " مصنفه "، حدثنا أبو داود عن شعبة عن عبد الملك بن ميسرة، قال لم يلق الضحاك ابن عباس إنما لقي سعيد بن جبير فأخذ عنه التفسير.(4/69)
وإلى الصوم فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن أبي داود عن شعبة قال: أخبرني ناس قال: سألت الضحاك هل رأيت ابن عباس، قال: لا.
وروى ابن الجوزي في " الموضوعات " من طريق ابن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من اكتحل يوم عاشوراء لم ترمد عينه تلك السنة كلها» وقال: وفي رجاله من ينسب إلى تفضيل [....] عليه في أحاديث الثقات.
وأما الحديث الذي رواه شمس الأئمة عن ابن مسعود الذي ذكرناه الآن فما رأيت أحدا من أهل هذا الشأن ذكره عن ابن مسعود وإنما الحديث رواه الحارث بن أبي أسامة حدثنا سعيد بن زيد عن عمرو بن خالد عن محمد بن علي عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن حديث ابن أبي ثابت عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «انتظرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخرج في رمضان إلينا فخرج من بيت أم سلمة وقد كحلته وملأت عينه كحلاً» قال شيخنا زين الدين: هذا ليس بصريح في الكحل للصائم إنما ذكر في رمضان فقط، ولعله كان في رمضان في الليل.
وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " باب ما جاء في الكحل للصائم " حدثنا عبد الأعلى بن واصل حدثنا الحسن بن عطية حدثنا أبو عاتكة عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: اشتكت عيني فأكتحل وأنا صائم؟ قال: " نعم» ثم قال الترمذي: حديث [أنس] ليس إسناده بالقوي ولا يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الباب شيء، وأبو عاتكة يضعف، قال البخاري فيه منكر الحديث، وقال أبو حاتم الرازي: ذاهب الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، واسم أبي عاتكة طريف بن سلمان وقيل: سليمان، وقيل سلمان بن طريف، وروى ابن عدي في " الكامل " والبيهقي من طريقه والطبراني في الكبير من رواية حبان بن علي عن محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكتحل بالإثمد وهو صائم» ومحمد هذا، قال البخاري فيه: منكر الحديث، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء.
وروى ابن ماجه من رواية بقية الزبيدي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «اكتحل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صائم» والزبيدي هذا هو سعيد بن [أبي سعد] الزبيدي قال الترمذي: هو من مجاهيل شيوخ بقية ينفرد بما لا يتابع عليه. وقال شيخنا زين الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس بمجهول بل مشهور بالضعف، ضعفه ابن عدي والدارقطني والخطيب.
م: (وإلى الصوم فيه) ش: أي وندب أيضاً إلى الصوم في يوم عاشوراء لما روى البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً من أسلم يوم عاشوراء فأمره أن يؤذن في الناس: " من كان لم يصم فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم(4/70)
ولا بأس بالاكتحال للرجال إذا قصد به التداوي دون الزينة ويستحسن دهن الشارب إذا لم يكن من قصده الزينة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن اليوم يوم عاشوراء» " وروى مسلم عن جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده» ... الحديث وروي فيه أحاديث كثيرة.
م: (ولا بأس بالاكتحال للرجال إذا قصد به التداوي دون الزينة) ش: لأن الزينة للنساء، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعني اكتحال الرجل بالكحل الأسود مباح إذا قصد به التداوي، فأما الزينة فلا. قلت: لم أدر ما فائدة قيد الكحل بالأسود، وليس الكحل إلا الأسود، وقال السروجي: ولا بأس بالاكتحال للرجال في الصوم وغيره لقصد التداوي دون الزينة.
قلت: اختلفوا فيه فذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق إلى كراهة الكحل للصائم، وحكى ابن المنذر عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في جوازه بلا كراهة وأنه لا يفطر به، سواء وجد طعمه في حلقه أم لا، وقال شيخنا زين الدين: وكذا روي عن عطاء والحسن البصري والنخعي والأوزاعي وأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأبي ثور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحكي عن مالك وأحمد أنه إذا وجد طعمه في الحلق أفطر، وحكي أيضاً عن سليمان التيمي وسليمان بن المعتمر وابن شبرمة وابن أبي ليلى أنهم قالوا: يبطل به صومه، وقال قتادة: يجوز بالإثمد ويكره بالصبر.
وقال الثوري وإسحاق: يكره، وفي " سنن " أبي داود عن الأعمش قال: ما رأيت أحداً من أصحابنا يكره الكحل للصائم، وفي المجتبى لو وجد طعم الكحل في حلقه أو دماغه لا بأس به لدخول رائحة المسك والعود والثوم ورائحة الغذاء ودخان النار فإنها غير معتبرة بالإجماع، ولو بزق ورأى أثر الكحل، ولونه في بزاقه لا يفسد عند الأكثر.
فإن قلت: قد ذكر الاكتحال مرة في هذا الباب فما فائدة ذكره ثانياً بعد هذا.
قلت: قال الكاكي أخذاً من " النهاية "، قلنا لكل موضع فائدة، فإنه يستفاد من الأول عدم الفطر به، ولا يلزم منه عدم الكراهة بل يجوز أن يكون الشيء مكروهاً للصائم، وهو غير مفطر كما إذا ذاق شيئا ًبلسانه، وهذه المسألة يعلم أنه مكروه، ثم قد يختلف حكمه بين الرجال والنساء كما في العلك، فعلم [المسألة بالمسألة الثانية أنهما لا يفترقان إذا قصد الرجل شيئاً غير الزينة، مع أن هذا من خواص " الجامع الصغير "، وذلك من مسائل القدوري، والثالث من مسائل الفتاوى.
م: (ويستحسن دهن الشارب) ش: هكذا بفتح الدال قطعاً مصدر من دهن رأسه أو جسده إذا طلاه بالدهن بضم الدال م: (إذا لم يكن من قصده الزينة) ش: قال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - أصل ذلك أن الصوم كف عن الشهوة، وليس في دهن الشارب شهوة لا صورة ولا معنى فلم يكن محظوراً بالصوم وليس يحرم بالصوم الارتفاق ولا يجب به الشعث بخلاف الإحرام، فإنه يحرم(4/71)
لأنه يعمل عمل الخضاب، ولا يفعل لتطويل اللحية إذا كانت بقدر المسنون وهو القبضة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
به دهن الشارب، وقال الأترازي وقد دل هذا على أنه يستحسن دهن شعر الوجه وبذلك جاءت السنة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنه يعمل عمل الخضاب انتهى. قلت: السنة التي جاءت باستحسان دهن شعر الوجه رواه الترمذي، حدثنا يحيى بن موسى قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كلوا الزيت وادهنوا به، فإنه من شجرة مباركة» ".
وقوله: " ادهنوا به " يشمل دهن شعر الوجه وغيره من أعضائه، والسنة التي جاءت بالخضاب ما رواه الترمذي أيضاً، قال حدثنا أحمد بن منيع قال حدثنا حماد بن خالد الخياط قال حدثنا فايد مولى لآل أبي رافع «عن علي بن عبيد الله عن جدته وكانت تخدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: ما كان يكون لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرحة ولا نكبة إلا أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أضع عليها الحناء» .
م: (لأنه يعمل عمل الخضاب) ش: أي لأن دهن شعر الشارب يعمل عمل الخضاب وبالخضاب جاءت السنة ولكن إذا لم يكن لقصد الزينة بل لحاجة أخرى يدل عليه ما رويناه عن الترمذي، وفي " المبسوط " لا بأس بالخضاب لأجل النساء ولأجل الحرب. قلت خضابه لأجل النساء لا يخلو عن الزينة على ما لا يخفى.
م: (ولا يفعل) ش: أي الدهن م: (لتطويل اللحية إذا كانت) ش: أي اللحية م: (بقدر المسنون وهو القبضة) ش: بضم القاف، وقال الكاكي: طول اللحية بقدر القبضة عندنا، وما زاد على ذلك يجب قطعه هكذا روي «عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يأخذ من طولها» أورده أبو عيسى في " جامعه ".
قلت: لفظ الترمذي كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها أخرجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأخذ ... الحديث، وقال: هذا حديث غريب.
قلت: هذا لا يدل على أن الذي كان يأخذه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القبضة، نعم جاء أثران فيه أحدهما: عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رواه أبو داود والنسائي من حديث مروان بن سالم المقنع. قال: رأيت ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقبض على لحيته فيقطع ما زاد على الكف، وذكره(4/72)
ولا بأس بالسواك الرطب بالغداة والعشي للصائم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البخاري تعليقاً، فقال: وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه، وجهل من قال رواه البخاري، وإنما يقال في مثل هذا ذكره، ولا يقال رواه.
والآخر: عن أبي هريرة أخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي زرعة قال: كان أبو هريرة يقبض على لحيته فيأخذ ما فضل عن القبضة، ولكن يعارض هذا حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «احفوا الشارب وأعفوا اللحى» ، أخرجه البخاري ومسلم ويمكن أن يجاب عنه أن المراد بإعفاء [اللحى أن لا تحلق كلها كما يفعله المجوس، والدليل عليه ما جاء في رواية مسلم من] رواية أبي هريرة، قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جزوا الشوارب واعفو اللحى، خالفوا المجوس» فإن المجوس كانوا يحلقون لحاهم ويتركون شواربهم ولا يأخذون منها شيئاً أصلاً ".
وفي " المحيط " اختلف في إعفاء اللحية قال بعضهم: يتركها حتى تكثف وتكبر، والقص سنة فما زاد على قبضة قطعها، ولا بأس بنتف الشيب وأخذ أطراف اللحية إذا طالت، ولا بأس بالأخذ من حاجبه وشعر وجهه ما لم يشبه المخنثين.
[السواك للصائم]
م: (ولا بأس بالسواك الرطب) ش: أي لا بأس للصائم استعمال السواك م: (بالغداة والعشي للصائم) ش: يعني في أول النهار وآخره، وإذا كان بالرطب فلا بأس به فباليابس أولى، وكذلك إذا كان مبلولاً بالماء أو غير مبلول، ولفظ " الجامع الصغير " لا بأس بالرطب بالماء للصائم، في الفريضة بالغداة والعشي] .
وقال الكاكي: اعلم أن محمداً ذكر في الأصول أنه لا بأس أن يستاك بالسواك الرطب، ولم يذكر أن رطوبته بالماء أو بالرطوبة الأصلية التي تكون في الأشجار، ولا ذكر أنه بريقه أو بالماء فلولا رواية " الجامع " لكان لقائل أن يقول: إذا كان رطباً بالريق لا بأس به، أما إذا كان بالماء فيكره لما فيه من الحوم حول الحمى، ولما نص ها هنا بالماء أو لأن ذلك إشكال ولا يعتبر بما قاله أبو يوسف وهو أنه يكره بالمبلول لما فيه من إدخال الماء في الفم، لأن ما يبقى من الرطوبة بعد المضمضة أكثر مما يبقى بعد السواك.
وقد روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يأمر عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ببل السواك بريقها ثم يغسله ويتوضأ» كذا في " الفوائد الظهيرية "، وقال شيخ الإسلام: شرط محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الكتاب الفريضة قيل مراده إذا توضأ للمكتوبة وإلا فيكره، وقيل: أراد الصوم الفرض إبطالاً لقول من زعم أنه يكره في الفرض، وهو المروي عن مالك فإنه قال يكره السواك في الفرض بعد الزوال دون النفل، لأن المستحب في النوافل الإخفاء، ولو ترك السواك لا يؤمن أن تظهر رائحة [من] فمه فيظهر للناس أنه صائم، وقيل أراد الوضوء الفرض وعندنا لا بأس في الأحوال كلها.(4/73)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يكره بعد الزوال في النفل، ويكره في الفرض، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكره السواك الرطب بالغداة والعشي لما فيه من تعريض الصوم على الفساد وبسبب دخول الرطوبة، ولكن ذكر في " شرح الوجيز " عن مالك لا يكره في المشهور عنه، وعندنا يكره بعد الزوال وهو رواية عن أحمد لما روى حبان أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قال «إذا صمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي، فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه إلا كانتا نوراً بين عينيه يوم القيامة» ، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعاً مثل ذلك، إلى هنا كلام الكاكي.
وقوله: وقد روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر ... إلى آخره، وحديث حبان رواه الطبراني والدارقطني والبيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من طريقه في حديث كيسان أبي عمر القصار عن عمرو بن عبد الرحمن عن حبان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إلخ، وكيسان أبو عمر ضعفه ابن معين والساجي وقال الدارقطني: ليس بالقوي.
وقال شيخنا في " شرح الترمذي ": اختلف العلماء في حكم السواك للصائم على ستة أقوال:
الأول: أنه لا بأس به للصائم مطلقاً قبل الزوال وبعده بيابس أو رطب، وهو قول إبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين وأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأصحابه والثوري والأوزاعي وابن علية، ويروى عن علي وابن عمر أنه لا بأس بالسواك الرطب للصائم، وروي ذلك أيضاً عن مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء.
الثاني: كراهته للصائم بعد الزوال واستحبابه قبله برطب أو يابس، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أصح قوليه وأبي ثور، وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كراهة السواك بعد الزوال، رواه الطبراني.
الثالث: كراهته بعد العصر فقط، يروى عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
الرابع: التفرقة بين صوم الفرض وصوم النفل، فيكره في الفرائض بعد الزوال، ولا يكره في النفل لأنه أبعد عن الرياء، حكاه المسعودي وغيره من أصحابنا عن أحمد بن حنبل، وحكاه صاحب " المعتمد " من الشافعية - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن القاضي حسين.
الخامس: أنه يكره للصائم بالسواك الرطب دون غيره سواء أول النهار أو آخره وهو قول مالك وأصحابه.
السادس: كراهته للصائم بعد الزوال مطلقاً وكراهة الرطب مطلقاً، وهو قول أحمد وإسحاق بن راهويه.(4/74)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير خلال الصائم السواك» من غير فصل. وقال الشافعي: يكره بالعشي لما فيه من إزالة الأثر المحمود وهو الخلوف فشابه دم الشهيد. قلنا: هو أثر العبادة، والأليق به الإخفاء، بخلاف دم الشهيد لأنه أثر الظلم، ولا فرق بين الرطب الأخضر وبين المبلول بالماء لما روينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «خير خلال الصائم السواك» ش: هذا الحديث رواه ابن ماجه في " سننه " من حديث مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من خير خلال الصائم السواك» والخلال بكسر الخاء المعجمة جمع خلة بالفتح وهي الخصلة، وقال الجوهري: م: (من غير فصل) ش: يعني الحديث مطلقاً لم يفصل فيه بين حال وحال وينتفي به ما قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الرطب بالماء مكروه.
م: (وقال الشافعي: يكره بالعشي) ش: أي يكره السواك للصائم بالعشي وهو بعد الزوال م: (لأن فيه) ش: أي لأن السواك بالعشي م: (من إزالة الأثر المحمود وهو الخلوف) ش: والخلوف: بضم الخاء المعجمة، قال الأترازي بالضم لا غير، قال الخطابي في " شرح غريب الحديث ": إن أصحاب الحديث يقولون بفتح الخاء، وإنما هو ظرف بضم الخاء مصدر خلف فيه يخلف خلوفاً إذا تغير، فأما الخلوف بفتح الخاء فهو الذي بعدهم الخلف، وقال السروجي: فتح الخاء خطأ، قلت: وقال السغناقي: هما لغتان م: (فشابه دم الشهيد) ش: أي فشابه الخلوف دم الشهداء فإن كل واحد منهما أثر عبادة وصف بالطيب، أما في الخلوف ففي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك» . وأما دم الشهيد فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللون لون الدم والريح ريح المسك» . وما يكون محموداً عند الله فسبيله الاستبقاء كما في دم الشهيد، حيث قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «زملوهم بكلومهم ودمائهم» .
م: (قلنا: هو أثر العبادة) ش: أي خلوف فم الصائم أثر العبادة م: (واللائق به الإخفاء) ش: أي اللائق بأثر العبادة الإخفاء فراراً عن الرياء م: (بخلاف دم الشهيد لأنه أثر الظلم) ش: فيبقى عليه ليكون شهيداً له على خصمه يوم القيامة، فأما الصوم فبينه وبين ربه فلا حاجة إلى الشاهد.
م: (ولا فرق بين الرطب الأخضر وبين المبلول بالماء) ش: هذا نفي لقول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث قال يكره إذا كان مبلولاً بالماء م: (لما روينا) ش: أراد به قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خير خلال الصائم السواك» ، وقد مر عن قريب.(4/75)
فصل ومن كان مريضا في رمضان، فخاف إن صام ازداد مرضه أفطر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل أحكام المريض والمسافر في الصيام] [المفاضلة بين صوم المريض والمسافر وفطرهما]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل، ولا يعرف إلا إذا قدرنا هكذا، لأن الإعراب لا يكون إلا في الجزء المركب، ولما فرغ من مسائل الصوم شرع في هذا الفصل الموجود في بيان وجوه الأعذار المبيحة للفطر في الصوم.
م: (ومن كان مريضا في رمضان) ش: أي في شهر رمضان، والمرض معنى يزول به ويحلو له في بدن الحي اعتذار الطباع الأربع.
فإن قلت: م: (أهذه الواو في قوله - ومن كان مريضاً.
قلت سمعت من الأساتذة الكبار أن هذه الواو التي تذكر في أول الكلام الذي لم يذكر شيء قبله تسمى واو الاستفتاح، ولم يذكر النحاة هذا م: (فخاف إن صام ازداد مرضه أفطر) ش: هذا يشير إلى أن مجرد المرض لا يبيح الإفطار، وقال فخر الإسلام إن المرض لا يوجب إباحة الإفطار بنفسه، بل لعلة المشقة بإجماع عامة العلماء.
وقال أو يوجب الإباحة بنفسه لظاهر الآية. وحكي عن ابن سيرين هكذا، قلنا الآية محمولة على مرض يوجب المشقة بالصوم، بدليل قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] [البقرة: 185] أما السفر فإنه يوجب الإباحة لأنه لا يخلو عن مشقة بخلاف المرض، فإنه نوعان: ما يوجب المشقة، وما لا يوجبها فوجب الفصل، فقلنا كل مرض يضره الصوم يوجب الإباحة، وما لا فلا، وكان خوف ازدياد المرض مرخصاً للفطر كخوف الهلاك.
وذكر الإمام المحبوبي طريق معرفة ذلك إما باجتهاده أو بقول طبيب حاذق، وقال القاضي: إسلام الطبيب شرط، ثم المرض على أقسام سبعة: فخفيف لا يشق معه الصوم وينعقد، وخفيف لا يشق منه ولا ينعقد، وشاق لا يزيد بالصوم، وشاق يزيد به، وشاق لا يزيد به، ولكن يحدث مع الصوم علة أخرى، وشاق يخشى طوله، وصحيح يخشى المرض به، فالأول والثاني كالصحيح الذي لا يضره الصوم فلا يفطر، والثالث يتخير، والرابع والخامس والسادس يفطر، وإن صاموا أجزأهم على الصحيح الذي يخشى المرض به كالمرض الذي تخشى زيادته، وهذا الفرع الأخير في " المغني " للحنابلة.
وفي " المرغيناني " لا يعتبر خوف المرض، وفي " الذخيرة " المرض الذي يبيح الفطر ما يخاف منه الموت أو زيادة المرض. وفي " المحيط " و " البدائع خوف ازدياد المرض كاف، وإليه وقعت الإشارة في " الجامع الصغير " إن لم يفطر يزداد وجعاً وعناء أو حمى شديدة أفطر، وعن أبي(4/76)
وقضى وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يفطر. وهو يعتبر خوف الهلاك أو فوات العضو كما يعتبر في التيمم. ونحن نقول: إن زيادة المرض وامتداده قد يفضي إلى الهلاك فيجب الاحتراز عنه
وإن كان مسافرا لا يستضر بالصوم فصومه أفضل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا كان يجوز له الأداء قاعداً يجوز له الإفطار.
م: (وقضى) ش: لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] .
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يفطر) ش: يعني عند خوف ازدياد المرض م: (وهو) ش: أي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يعتبر خوف الهلاك أو فوات العضو) ش: أي يخاف فوات عضو من أعضائه م: (كما يعتبر في التيمم) ش: يعني لا يجوز عنده ترك استعمال الماء للمريض إلا إذا خاف على نفسه أو عضو منه، فحينئذ يجوز له التيمم وعندنا يجوز له التيمم بمجرد زيادة المرض.
م: (ونحن نقول: إن زيادة المرض وامتداده قد يفضي إلى الهلاك فيجب الاحتراز عنه) ش: أي عن الإفضاء إلى الهلاك، فلو برئ من المرض لكن الضعف باق هل يفطر فسئل القاضي الإمام فقال لا، والمبيح المرض لا الضعف، فلو خاف أن يعود المرض لو صام، قال الخوف ليس بشيء وذكر الإمام التمرتاشي الأمة إذا ضعفت في الطبخ والخبز والغسل فخافت أفطرت وقضت، وفي النصاب وكذا الذي ذهب به موكل السلطان للعمارة فاشتد الحر وضعف فأكل لم يكفر، ولو خاف إن صام يضعف فيصلي قاعداً عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصوم ويصلي قاعداً.
وعن نجم الأئمة البخاري من اشتد مرضه كره صومه ولو خاف نقصان العقل أو زيادة الوجع يفطر، ولو أتعب نفسه في عمل حتى أجهده العطش فأفطر كفر، لأنه ليس بمريض ولا مسافر، وقيل بخلافه وبه قال البقالي، وقال مالك في " الموطأ ": من أجهده الصوم أفطر وقضى ولا كفارة عليه، ولو علم الغازي يقيناً أنه يقاتل العدو وخاف الضعف يفطر قبل الحرب.
م: (وإن كان مسافرا لا يستضر بالصوم فصومه أفضل) ش: وبه قال مالك والشافعي رحمهما الله على ما ذكر في كتبهم. وقال النووي: هو المذهب ولكن نقلت هذه المسألة من كتب أصحابنا على خلاف ما وقعت في كتبهم فإن الغزالي ذكر أن الصوم أحب من الإفطار في السفر لتبرأ ذمته وهو مذهب أنس وعثمان بن أبي العاص الثقفي، وحذيفة وابن عباس وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وبه قال عروة بن الزبير وعمرو بن ميمون وأبو بكر بن عبد الرحمن وطاووس والفضيل بن عياض وابن المبارك وأبو ثور، وأبو وائل والأسود بن يزيد والثوري والنخعي ومجاهد، وعن ابن عمر وابن المسيب والشعبي والأوزاعي وإسحاق: الفطر أفضل في حقه، وعند أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الصوم في السفر مكروه.(4/77)
وإن أفطر جاز؛ لأن السفر لا يعرى عن المشقة فجعل نفسه، عذرا، بخلاف المرض فإنه قد يخف بالصوم، فشرط كونه مفضيا إلى الحرج، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: "الفطر أفضل"، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس من البر الصيام في السفر» ولنا أن رمضان أفضل الوقتين، فكان الأداء فيه أولى، وما رواه محمول على حالة الجهد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذكر في " المغني " عن عمر وأبي هريرة لا يصح الصوم في السفر وعن عبد الرحمن بن عوف الصوم في السفر كالفطر فيه سواء ذكره المنذري في " شرح مختصر سنن أبي داود " وقال أبو عمر بن عبد البر: هو قول ابن علية والشافعي في قول وعنه قال الصوم أحب إلي.
م: (وإن أفطر) ش: أي المسافر م: (جاز) ش: للنص الوارد فيه م: (لأن السفر لا يعرى عن المشقة) ش: لأنه مظنة المشقة بكل حال فأدير الحكم فيه على أصل السفر م: (فجعل نفسه) ش: أي نفس السفر م: (عذرا بخلاف المرض فإنه قد يخف بالصوم) ش: كالهيضة ونحوها م: (فشرط كونه) ش: أي المرض م: (مفضيا إلى الحرج) ش: ولهذا لا يجوز الإفطار بمجرد المرض كما ذكرنا.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: "الفطر أفضل) ش: أي من الصوم م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «ليس من البر الصيام في السفر» ش: هذا الحديث رواه البخاري ومسلم من حديث جابر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر فرأى زحاماً ورجل قد ظلل عليه فقال: " ما هذا؟ " قالوا صائم فقال: " ليس من البر الصوم في السفر» .
وزاد مسلم في لفظ: «وعليكم برخصة الله التي رخص لكم» ، وروي «ليس من امبر امصيام في امسفر» وهي لغة بعض العرب، رواه عبد الرزاق في " مصنفه " وقد ذكرنا أن هذا القول من الشافعي لم يصح ولا حكي عنه، ولكن مذهب أحمد هكذا نقله عنه ابن الجوزي واستدل له بهذا الحديث.
م: (ولنا أن رمضان أفضل الوقتين) ش: أراد بهما خارج رمضان وفي " مبسوط فخر الإسلام " لا شك أن رمضان أفضل الوقتين، ألا ترى أن عدة من أيام أخر كالخلف من رمضان، والخلف لا يساوي الأصل بحال والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اختار لنفسه الصوم ثم ذكر الرخصة عند شكواهم الجهد كما روينا من حديث أبي هريرة، فدل أن الصوم أفضل وهو معنى قوله: م: (فكان الأداء فيه) ش: أي في رمضان أولى وفي " المبسوط " الصوم عزيمة والفطر رخصة والأخذ بالعزيمة م: (أولى، وما رواه) ش: هذا جواب عن الحديث المذكور وهو ما رواه الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: (محمول على حالة الجهد) ش: بفتح الجيم أي المشقة ونحن نقول به ولهذا يكره الصوم في السفر لمن أجهده بالإجماع.(4/78)
وإذا مات المريض أو المسافر وهما على حالهما لم يلزمهما القضاء؛ لأنهما لم يدركا عدة من أيام أخر، ولو صح المريض وأقام المسافر ثم ماتا لزمهما القضاء بقدر الصحة والإقامة؛ لوجود الإدراك بهذا المقدار، وفائدته وجوب الوصية بالإطعام، وذكر الطحاوي خلافا فيه بين أبي حنيفة وأبي يوسف - يرحمهما الله -، وبين محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وليس بصحيح، وإنما الخلاف في النذر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[موت المسافر والمريض المفطران في رمضان]
م: (وإذا مات المريض أو المسافر) ش: أي أو مات المسافر م: (وهما على حالهما) ش: أي والحال أنهما على حالهما يعني مات المريض في مرضه والمسافر في سفره م: (لم يلزمهما القضاء؛ لأنهما لم يدركا عدة من أيام أخر) ش: لأن شرط وجوب إدراك عدة الأيام الأخر بالنص فلم يحصل الإدراك فلم يلزم القضاء.
م: (ولو صح المريض وأقام المسافر ثم ماتا لزمهما القضاء بقدر الصحة) ش: في المرض م: (والإقامة) ش: أي بقدر الإقامة في المسافر م: (لوجود الإدراك) ش: إلى أيام أخر م: (بهذا المقدار، وفائدته) ش: أي وفائدته لزوم القضاء م: (وجوب الوصية بالإطعام) ش: يعني يجب عليه أن يوصي بأن يطعم عنه من ثلث ماله لكل يوم مسكيناً بقدر ما يجب في صدقة الفطر وإن لم يوص وتبرعت الورثة جاز فإن لم يتبرعوا لا يلزمهم الأداء بل يسقط في حكم الدنيا عندنا خلافاً للشافعي على ما يجيء.
م: (وذكر الطحاوي خلافا فيه) ش: أي في المذكور في هذه المسألة وفي وجوب الوصية بالإطعام عن الباقي م: (خلافاً بين أبي حنيفة، وأبي يوسف؛ وبين محمد - رحمهما الله -) ش: فقال عندهما إذا صح يوماً يلزمه قضاء الجميع فتلزمه الوصية عما لم يصح، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تلزمه الوصية بالإطعام عما لم يصح وما قدر على قضائه تجب الوصية بالإطعام عنه إن لم يصح بالاتفاق.
م: (وليس بصحيح) ش: أي هذا الخلاف ليس بصحيح، وقال أبو بكر الجصاص الرازي: هذا الخلاف الذي نقله الطحاوي ولا نعرفه عنهم، بل المشهور من قولهم جميعا ًأنه لا يلزم إلا قضاء ما أدرك، وقال صاحب " التحفة ": ذكر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذه المسألة على الخلاف ثم قال: وهذا غلط، وقال صاحب " الإيضاح ": والصحيح أن لا خلاف هاهنا، وقال المصنف: وليس بصحيح.
م: (وإنما الخلاف في النذر) ش: فإن المريض إذا قال لله علي أن أصوم شهراً فمات قبل أن يصح لم يلزمه وإن صح يوماً واحداً لزمه أن يوصي بجميع الشهر في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يلزمه بقدر ما صح لأن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى فصار كقضاء رمضان.(4/79)
والفرق بينهما، أن النذر سبب فيظهر الوجوب في حق الخلف، وفي هذه المسألة السبب إدراك العدة فيتقدر بقدر ما أدرك وقضاء رمضان إن شاء فرقه، وإن شاء تابعه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والفرق بينهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بين قضاء رمضان والنذر م: (أن النذر سبب) ش: وقد وجد المانع وهو عدم صحة الذمة في التزام أدائه قد زال بالبرء وإذا وجد السبب المقتضي وزال المانع م: (فيظهر الوجوب) ش: لا محالة، وصار كصحيح نذر فمات قبل الأداء، وإذا ظهر الوجوب ولم يتحقق بكماله بل بعضها يتحقق م: ( [في حق الخلف، وفي هذه المسالة السبب إدراك العدة] فيتقدر بقدر ما أدرك) ش: لأن وجوب القضاء مشروط بشرط إدراك العدة فوجب بقدر الإدراك.
وقيل: تعصب إن أرى الطحاوي بأنه لا يهتم في غزارة علمه واجتهاده وورعه وتقدمه ثم ذكر مولده ووفاته ثم مدح كتابه " معاني الآثار " وقال: هل ترى له نظيرا ًفي سائر المذاهب فضلاً عن مذهبنا.
وقال: قد نشأ جماعة بعده بكثير من الزمان، باعتبار أن الخلاف لم يبلغهم، فذلك ليس بحجة لهم عليه، لأن جهل الإنسان لا يعتبر حجة على غيره، وفي آخر كلامه فما أصدق من قال: قد تبين الصبح لذي عينين.
وهذا كله لا يفيد في تعصبه لأن كل من نشأ بعد الطحاوي فقد اعترف بفضله من علماء مذهبه ومذهب غيره، حتى قال حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر: كان الطحاوي كوفي المذهب فكان عالماً بجميع مذاهب العلماء، وقال السمعاني: كان الطحاوي ثقة ثبتاً.
وقال ابن الجوزي في ترجمته في كتاب " المنتظم "، كان الطحاوي ثقة ثبتاً فهماً فقيهاً عاقلاً، واتفقوا على فضله وصدقه وزهده وورعه. وقال ابن كثير في " البداية والنهاية ": وهو أحد الثقات الأثبات والحفاظ الجهابذة، فهو كما ترى إمام عظيم ثبت ثقة حجة كالبخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب " السنن " و " الصحاح " يدل على ذلك اتساع روايته ومشاركته إياهم بل هو أثبت منهم في استنباط الأحكام من القرآن والسنة وأفقه منهم من الفقه، يصدق ذلك من ينظر في كلامه وكلامهم، ولا بينة للأترازي فيما ذكره في حق الطحاوي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنه مثل الذي يمدح الشمس بقوة النور ويذكره المحاق بقوة الظلمة وما كانت [....] إلا في ترجيح كلامه هنا على من رد عليه وتحقيق كلامه بالرد عليهم ولم يفعل شيئاً.
م: (وقضاء رمضان) ش: أي وقضاء صوم شهر رمضان عند فوات الأداء م: (إن شاء فرقه) ش: أي صوم متفرقاً م: (وإن شاء تابعه) ش: أي يصوم متوالياً هذا قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأبي عبيدة بن الجراح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومعاذ بن جبل وعمرو بن العاص ورافع بن خديج وسعيد بن جبير وابن محيريز وأبي قلابة(4/80)
لإطلاق النص،
لكن المستحب المتابعة مسارعة إلى إسقاط الواجب، وإن أخره حتى دخل رمضان آخر صام الثاني؛ لأنه في وقته. وقضى الأول بعده لأنه وقت القضاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومجاهد والحسن وابن سيرين وابن المسيب وعبد الله بن عتبة وطاووس وعطاء وعبيد بن عمير والأوزاعي وابن حي والثوري ومالك والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد وإسحاق وقال أبو عمر كلهم يستحبون التتابع ولا يوجبون وحكي وجوبه عن علي وابن عمر والنخعي والشعبي وعروة بن الزبير.
وقال داود بن علي: يجب ولا يشترط م: (لإطلاق النص) ش: وقَوْله تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وهو مطلق غير مقيد بالتتابع فجاز التتابع والتفريق بحكم الإطلاق.
فإن قلت: وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: نزلت فعدة من أيام أخر متتابعات.
قلت: قالوا لم تثبت صحة هذه الرواية ولو ثبتت كانت منسوخة لفظاً وحكماً، ولهذا لم يقرأ بها أحد من الشواذ.
وفي " المنافع " قرأ بها أبي ولم تشتهر فكانت كخبر الواحد غير مشهور فلا تجوز الزيادة على الكتاب بمثله، بخلاف قراءة ابن مسعود في كفارة اليمين فإنها مشهورة غير متواترة والقراءات السبع متواترة عند الأئمة الأربعة وجميع أهل السنة خلافاً للمعتزلة فإنها [ ... ] عندهم.
فإن قلت: روى ابن المنذر بإسناده عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «من كان عليه صوم رمضان فليسرده ولا يقطعه» .
قلت: في صحته نظر ولئن ثبت فهو خبر واحد فلا يزاد به على النص.
م: (لكن [المستحب المتابعة مسارعة إلى إسقاط الواجب، وإن أخره) ش: أي وإن أخر قضاء رمضان م: (حتى دخل رمضان آخر صام الثاني) ش: أي رمضان الثاني م: (لأنه في وقته) ش: فيصومه م: (وقضى الأول) ش: أي رمضان الأول م: (بعده) ش: أي بعد رمضان الثاني م: (لأنه وقت القضاء) ش: فلا بد من إسقاطه كما في سائر العبادات، وسواء في ذلك التأخير بعذر أو بغير عذر وهو قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والحسن البصري وطاووس وإبراهيم النخعي والشعبي وحماد وداود وأصحابه وفي " المحيط ": ومن أفطر بعذر وقدر على القضاء فعليه القضاء.
وفي " البدائع " أيضاً على التراخي عند عامة مشايخنا ويضيق عليه عند آخر عمره وعند الكرخي على الفور، وحكاه عن أصحابنا، والصحيح الأول، وحكى الكرخي أيضاً عن الأصحاب أنه موقوف بما بين الرمضانين وهو غير سديد.(4/81)
ولا فدية عليه؛ لأن وجوب القضاء على التراخي حتى كان له أن يتطوع والحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما، أو ولديهما أفطرتا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا فدية عليه) ش: فقال الشافعي عليه الفدية، وبه قال مالك وأحمد قالوا عليه لكل يوم مد من الطعام ولو أخر القضاء إلى الرمضان الثاني أثم عندهم، ومذهبهم يروى عن ابن عمر وأبي هريرة وابن عباس مرفوعاً، ومذهبنا عن علي وابن مسعود، وبقولنا قال المزني.
م: (لأن وجوب القضاء على التراخي حتى كان له أن يتطوع) ش: لأنه لو لم يكن وجوب القضاء على التأخير لما كان له أن يتطوع لأن تأخير الواجب عن وقته المضيق بالنفل لا يجوز.
فإن قلت: روى الدارقطني من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «من أدرك رمضان ثم أفطر لمرض ثم صح ولم يقضه حتى دخل رمضان آخر صام الذي أدركه ثم يقضي الذي عليه ثم يطعم عن كل يوم مسكيناً» قلت: في إسناده عمر بن موسى وهو ضعيف جداً، والراوي عنه إبراهيم بن نافع وهو أيضاً ضعيف.
م: (والحامل والمرضع) ش: الواو بمعنى أو لأن الحكم في كل واحد منهما ثابت على الانفراد بدليل ما ذكر في " المبسوط "، إذا خافت الحامل والمرضع على نفسهما أو ولدهما، والحامل التي في بطنها ولد، والمرضع التي لها لبن ولا يدخل في آخرهما التاء كما في حائض وطالق، لأن ذلك صار من الصفة الثابتة لا الحادثة، فصار كالاسم، فقال الخليل: هذا معنى النسب كلابن وتامر بمعنى ذات حمل وذات إرضاع وذات حيض وذات طلاق.
وقال سيبويه: إنسان أو أنثى حامل ومرضع إذا أريد به الحدوث يجوز إدخال التاء يقال: حائضة الآن أو غدا ًوفي " الذخيرة " المراد من المرضع الظئر لأنها إذا كانت أم ولد وللمولودات لا تفطر الأم لأن الصوم واجب عليها والإرضاع غير واجب، قال الكاكي: قال شيخي العلامة: ينبغي أن يشترط أن يكون الأب موسراً ويأخذ الولد ضرع غيرها، أما إذا كان الأب معسراً أو الولد لا يأخذ ضرع غير أمه فحينئذ يجب على أمه الإرضاع.
م: (إذا خافتا على أنفسهما، أو ولديهما أفطرتا) ش: بإجماع أهل العلم م: (وقضتا) ش: وهو قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وأنس وابن عمر وعكرمة ومجاهد وعطاء وسعيد بن المسيب وأبي الزناد والزهري ويحيى بن سعيد وأحمد وإسحاق وسعيد بن جبير وطاووس والأوزاعي والثوري.
وقال مالك: لا يجب عليه شيء، ويروى ذلك عن ربيعة وخالد بن دريد وأبي ثور وداود بن علي الظاهري واختاره الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن المنذر، ويحكى ذلك عن القاسم وسالم(4/82)
وقضتا، دفعا للحرج، ولا كفارة عليهما؛ لأنه إفطار بعذر، ولا فدية عليهما، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا خافت على الولد، هو يعتبره بالشيخ الفاني. ولنا: أن الفدية بخلاف القياس في الشيخ الفاني، والفطر بسبب الولد ليس في معناه؛ لأنه عاجز بعد الوجوب،
والولد لا وجوب عليه أصلا، والشيخ الفاني الذي لا يقدر على الصيام يفطر، ويطعم لكل يوم مسكينا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومكحول وسعيد بن عبد العزيز لأنه عاجز عن الصوم فأشبه المريض إذا مات قبل البرء والمسافر إذا مات قبل الإقامة والصبي والمجنون.
وللشافعي قولان أحدهما، لا تجب الفدية عليهما لعدم وجوب الصوم عليهما، والثاني تجب الفدية لكل يوم مد من طعام وهو الصحيح، وعدم وجوب الفدية هو القديم والوجوب هو الجديد، وقال البويطي: هي مستحبة.
م: (دفعا للحرج) ش: أي لدفع الحرج عنهما في الصوم. قال الله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] م: (ولا كفارة عليهما) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر بأن يقال، ينبغي أن تجب عليهما الكفارة على قياس مذهبكم، لأنكم توجبون الكفارة في الأكل والشرب عمداً فأجاب بقوله م: (لأنه إفطار بعذر) ش: ووجوب الكفارة عند عدم العذر فأشبهت المريض والمسافر.
م: (ولا فدية عليهما خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا خافت على الولد) ش: يعني إذا خافت الحامل أو المرضع على ولدهما وأما إذا خافتا على نفسهما لا تجب الفدية.
م: (هو يعتبره بالشيخ الفاني) ش: أي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر الفطر بفطر الشيخ الفاني أي يقيس عليه وجه الاعتبار أن الفطر حصل بسبب نفس عاجزة عن الصوم خلقة لا علة، فيوجب الفدية كفطر الشيخ الفاني الذي قارب الفناء أو الذي فنيت قوته.
م: (ولنا أن الفدية بخلاف القياس في الشيخ الفاني) ش: لأن الفدية في الشيخ الفاني تشبيع والصوم تجويع (والفطر بسبب الولد ليس في معناه) ش: أي في معنى الشيخ الفاني م: (لأنه) ش: أي لأن الشيخ الفاني م: (عاجز بعد الوجوب) ش: أي بعد وجوب الصوم عليه لتوجه الخطاب عليه فصار إلى حقه وهو الفدية.
م: (والولد لا وجوب عليه أصلاً) ش: فكيف يصار إلى الخلف بدون الأصل فيكون قياساً ضعيفاً لوجود الفارق م: (والشيخ الفاني الذي لا يقدر على الصيام) ش: وفي جامع البرهاني " تفسيره أن يعجز عن الأداء أو لا يرجى له عود القوة، ويكون مآله الموت بسبب الهرم.
م: (يفطر ويطعم لكل يوم مسكينا) ش: وعن مالك والشافعي - رحمهما الله - في قول وأبي ثور ولا تجب عليه الفدية وعن مالك أنها مستحبة وفي وجوبها عنه روايتان م: (كما يطعم في(4/83)
كما يطعم في الكفارات، والأصل فيه قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] [البقرة: الآية 184] قيل: معناه لا يطيقونه، ولو قدر على الصوم يبطل حكم الفداء، لأن شرط الخلفية استمرار العجز.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكفارت) ش: نصف صاع وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الفدية مقدرة بالمد من الطعام وعن أحمد مدان من البر من الشعير والتمر صاع م: (والأصل فيه) ش: أي في هذا الحكم م: (قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] [البقرة: الآية 184] ) ش: نزلت في الشيخ الفاني.
وقال في " الإيضاح " و " شرح الأقطع ": السلف على أن المراد بالآية الشيخ الفاني، وقال الأترازي: وفي دعوى الإجماع نظر عندي وطول الكلام فيه وهذا ما هو مخصوص به حتى يقول: عندي؛ لأن غيره قال في كلام " الإيضاح " نظر لأنه روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، أن الآية في حق الحامل والمرضع.
فإن قلت: روي عن الشعبي أنه قال: لما نزل قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] كان الأغنياء يفطرون [ويطعمون] والفقراء يصومون، على أن في بدء الإسلام كان الرجل مخبراً بين الصوم والفدية ثم نسخت بعد ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] والمنسوخ لا يصح الاستدلال به.
قلت: أجيب بأن الآية وإن وردت في الشيخ الفاني كما ذهب إليه بعض السلف فظاهر، وإن وردت في التخيير فكذلك لأن النسخ إنما يثبت في حق العاجز عن الصوم، فيبقى الشيخ الفاني على حاله، كما كان.
م: (قيل: معناه لا يطيقونه) ش: جاء حذف لا كثيراً قال الله تعالى {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] أي أن لا تضلوا، وقال: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] أي أن لا تميد بكم وعادة العرب الاختصار إذا كان المحذوف مما لا يخفى، وقرأ ابن عباس وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] فلا يطيقونه معناه يكلفون الصوم ولا يطيقونه.
[حكم الشيخ الفاني في رمضان]
م: (ولو قدر) ش: يعني لو قدر الشيخ الفاني م: على الصوم) ش: بعدما أدى الفدية م: (يبطل حكم الفداء) ش: ويجب عليه القضاء كالآيسة إذا اعتدت بالأشهر ثم حاضت بطل حكم اعتدادها بالشهور م: (لأن شرط الخلفية استمرار العجز) ش: أي لأن شرط كون الفدية خلفاً عن الصوم في حق الشيخ الفاني، دوام العجز، فلما قدر على الصوم انتفى شرط الخليفة، ومثل هذا لا يفعل في التيمم لئلا يلزم الحرج بتضاعف الصلاة.
فإن قلت: يلزم الحرج أيضاً في الشيخ الفاني لأنه إذا أطعم لكل يوم مسكيناً نصف صاع ثم قدر على الصوم فأمر بقضاء الصوم وبطلان الفدية يلزم الحرج لأنه تضييع ماله بلا فائدة وهو حرج.(4/84)
ومن مات وعليه قضاء رمضان، فأوصى به أطعم عنه وليه لكل يوم مسكينا نصف صاع من بر، أو صاعا من تمر أو شعير؛ لأنه عجز عن الأداء في آخر عمره فصار كالشيخ الفاني، ثم لا بد من الإيصاء عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعلى هذا الزكاة. هو يعتبره بديون العباد؛ إذ كل ذلك حق مالي تجزئ فيه النيابة. ولنا أنه عبادة، ولا بد فيه من الاختيار، وذلك في الإيصاء دون الوراثة لأنها جبرية ثم هو تبرع ابتداء حتى يعتبر من الثلث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: المعنى فيه: إن الشيخ الفاني قدر على الأصل قبل حصول المقصد بالتخلف وهو استمرار العجز فبطل حكم الخلف هناك قدر على الأصل بعد حصول المقصد بالخلف. فلا يبطل حكم الخلف كمن كفر بالصوم ثم وجد ما يعتق، فإن الوجود لا يظهر في حق ما حصل الفراغ منه.
[حكم من مات وعليه قضاء رمضان فأوصى به]
م: (ومن مات وعليه قضاء رمضان فأوصى به) ش: معناه قرب من الموت فأوصى [بقضاء] رمضان، لأن الإيصاء بعد الموت لا يتصور م: (أطعم عنه وليه لكل مسكينا نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير) ش: روى كذلك سليمان التيمي عن عمر بن الخطاب وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (لأنه عجز عن الأداء في آخر عمره فصار كالشيخ الفاني) ش: في جواز الفدية عنه بسبب العجز الكامل.
م: (ثم لا بد من الإيصاء عندنا) ش: يعني إذا أوصى يلزم الإطعام عنه على الولي من ثلث ماله وبه قال مالك فيجزئه إن شاء الله، وإن لم يوص لا يلزم على الولي الإطعام، ومع هذا لو أطعم جاز إن شاء الله.
م: (خلافا للشافعي) ش: فعنده لا حاجة إلى الإيصاء بل يلزم الولي أن يطعم عنه أوصى أو لم يوص وبه قال أحمد م: (وعلى هذا الزكاة) ش: أي وعلى هذا الخلاف الزكاة وصدقة الفطر، يعني أن الميت إذا أوصى بذلك يلزم على الولي إخراجها عن التركة وإلا فلا، ولكن إذا تبرع الوصي بإخراج الزكاة وصدقة الفطر جاز، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجب الإخراج وإن لم يوص.
م: (هو يعتبره) ش: أي الشافعي يعتبر هذا الدين م: (بديون العباد إذ كل ذلك حق مالي تجزئ فيه النيابة) ش: وكما أن ديون العباد تخرج من جميع المال وإن لم يوص فكذلك هذا م: (ولنا أنه) ش: أي أن الإطعام الذي دل عليه قوله أطعم عنه وليه م: (عبادة، ولا بد فيه من الاختيار) ش: ولم يبق الاختيار بعد الموت.
م: (وذلك) ش: أي الاختيار م: (في الإيصاء دون الوراثة؛ لأنها) ش: أي لأن الوراثة م: (جبرية) ش: لا اختيار فيها م: (ثم هو) ش: أي الإيصاء م: (تبرع ابتداء حتى يعتبر من الثلث) ش: أي من ثلث المال للميت، وعند الشافعي، وأحمد من جميع المال بدون الإيصاء، وقول مالك(4/85)
والصلاة كالصوم باستحسان المشايخ، وكل صلاة تعتبر بصوم يوم هو الصحيح. ولا يصوم عنه الولي ولا يصلي لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كقولنا، ولما كان الموت مسقطاً للعبادة في أحكام الدنيا، واشتراط الإيصاء فجاز من الثلث.
م: (والصلاة كالصوم) ش: يعني حكم الصلاة كحكم الصوم في جواز الإطعام عنها م: (باستحسان المشايخ) ش: لأن القياس عدم الجواز لأن الصلاة لا تؤدى بالمال حال الحياة فكذا بعد الممات إلا أن المشايخ استحسنوا في التجويز لما أنها تشبه الصوم من حيث كونها عبادة بدنية.
م: (وكل صلاة تعتبر بصوم يوم هو الصحيح) .
م: (ولا يصوم عنه الولي ولا يصلي) ش: احترز به عن قول محمد بن مقاتل فإنه قال يجب بصلاة يوم نصف صاع على قياس الصوم ثم رجع فقال كل صلاة فرض على حدة بمنزلة صوم يوم.
وعن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يطعم عن كل صلاة مد، وفي النوازل روي عن محمد بن الحسن أنه قال يتصدق لكل صلاة مدين من حنطة، وبه قال الشافعي في القديم يصوم ويصلي عنه الولي يعني لو فعل يجوز وهو قول الزهري، وأبي ثور ومالك وداود. وهو قول طاووس وقتادة والحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضاً وعند أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يصوم الولي عنه صوم النذر وهو مذهب ابن عباس، ويطعم عنه في يوم رمضان ورواه الأثرم. واختار ابن عقيل أن صوم النذر كرمضان لا يصام عنه وقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا يختص بالولي، بل كل من يصوم عنه يجزئه.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد» ش: هذا غريب مرفوعاً روي موقوفاً عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رواه النسائي في سننه الكبرى في الصوم من رواية عطاء بن أبي رباح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " لا يصلي أحد من أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مد من حنطة ".
وحديث ابن عمر رواه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الوصايا عن ابن عمر قال: " لا(4/86)
ومن دخل في صلاة التطوع، أو في صوم التطوع ثم أفسده قضاه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يصلين أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد " واستدل أصحابنا في هذا الباب بما روى الترمذي عن أشعث بن سوار عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رجل مات وعليه صيام: " يطعم عنه كل يوم مسكيناً» قلت: وقال الترمذي ولا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه والصحيح عن ابن عمر أنه موقوف وضعفه عبد الحق في " أحكامه ".
حدثنا شعيب وابن أبي ليلى وقال البيهقي: لا يصح هذا الحديث قال: محمد بن أبي ليلى كثير الوهم، وروى أصحاب نافع عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قوله.
وروى أبو بكر الرازي في شرحه لمختصر الطحاوي قال حدثنا ابن نافع قال حدثنا محمد بن بشير عن محمد بن عبد الله بن سعيد المستملي عن إسحاق الأزرق عن شريك عن ابن أبي ليلى، عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من مات وعليه رمضان فليطعم عنه مكان كل يوم نصف صاع لمسكين» ".
فإن قلت: روى البخاري من حديث عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «من مات وعليه صوم صام عنه وليه» وروى أيضاً بإسناده إلى مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: " نعم فدين الله أحق أن يقضى» ".
قلت: المراد من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الإطعام الذي يقوم مقام الصوم مجازاً، بدليل حديث ابن عمر.
وأما حديث ابن عباس ففي متنه اضطراب لأنه في رواية عطاء ومجاهد عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «قالت امرأة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أختي ماتت» كذا في الصحيح وفي رواية الحكم عن سعيد عن ابن عباس «قالت امرأة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن أمي ماتت وعليها صوم نذر» كذا في الصحيح أيضاً، ولا يصح الاحتجاج به على أنا نقول إنما ذكر فيه القضاء وذلك يحصل بالإطعام فلا يراد الصيام.
فإن قلت: يرد عليكم الحج حيث يقضي عن الميت.
قلت: لا إيراد لأن كلامنا في العبادة البدنية خالصة والحج عبادة تتعلق بالبدن والمال جميعاً.
[الحكم فيمن دخل في صوم التطوع أو صلاة التطوع ثم أفسده]
م: (ومن دخل في صوم التطوع) ش: يعني شرع فيه م: (أو في صلاة التطوع) ش: أي شرع في صلاة التطوع م: (ثم أفسدها قضاه) ش: وهو قول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن عباس(4/87)
خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - له: أنه تبرع بالمؤدى فلا يلزمه ما لم يتبرع به.
ولنا: أن المؤدى قربة وعمل فتجب صيانته بالمضي عن الإبطال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وإبراهيم النخعي والحسن البصري ومكحول وداود وإسماعيل بن علية م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) ش: وبقوله قال أحمد، وقال مالك يلزمه الإتمام لكن لو أفسدها لعذر كالسفر لا يلزمه القضاء في أحد الروايتين عنه وبه قال أبو ثور م: (له) ش: أي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه تبرع بالمؤدى) ش: بفتح الدال المشددة م: (فلا يلزمه ما لم يتبرع به) ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] وهو محسن فيما يفعل، فلو وجب عليه القضاء يكون عليه سبيل هذا كمن أخرج درهمين، ليتصدق بهما فتصدق بأحدهما، لا يلزمه التصدق بالآخر.
م: (ولنا: أن المؤدى قربة وعمل فتجب صيانته بالمضي عن الإبطال) ش: قال الله تعالى {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] والنهي عن الإبطال يوجب الإتمام فإذا ترك الإتمام الواجب عليه يجب عليه القضاء كالنذر.
فإن قلت: إبطال العمل غير متصور لأنه قبل العمل عدم وبعده متلاش لأنه عرض وحال الموجود غير الموجود على التمام، وأيضاً الإبطال إذا طرأ على الموجود برفعه وإذا قارنه يمنعه، والمنع في الموجود لا يسمى إبطالاً.
قلت: لو لم يتصور إبطال العمل لم يرد به النهي كما في الآية المذكورة، والنهي لا يقتضي التصور لا محالة ومطلقه للتحريم والترديد المذكور غير وارد لأن البطلان في اللغة هو الذهاب والتلاشي فإذا أضيف إلى العمل لا يراد به ذهاب ذاته وتلاشيه بل يراد به فوات الفرض المتعلق [به] ، وهو الثواب هنا.
فإن قلت: روى أبو داود والترمذي والنسائي حديث أم هانئ مرفوعاً «الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر» وقال الأترازي وفي بعض الروايات «إن شئت فاقضه وإن شئت فلا» ثم قال ذلك محمول على عدم وجوب القضاء على الفور.
قلت: قوله وفي بعض الروايات إلخ ليس بمذكور في رواية المذكورين ويكفي هنا أن يقول هذا الحديث مختلف في لفظه وتكلم عليه البيهقي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال النسائي وفيه سماك بن حرب وقد اختلف عليه وليس هو ممن يعتمد عليه إذا انفرد في الحديث.
فإن قلت: روى البخاري عن أبي جحيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال «آخى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين سلمان وأبي الدرداء، الحديث، وفيه فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً فقال: كل فإني صائم فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل وفيه فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر له ذلك فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: صدق(4/88)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سلمان وجعله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -[....] بقوله صدق سلمان ولم يأمره بالقضاء» .
قلت: كان الفطر لعذر الضيافة وقد أمر بالقضاء في غيره من الأحاديث.
وقال الكاكي: وروي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وحفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالتا: " كنا صائمتين متطوعتين فأهدي لنا طعام فأفطرنا فدخل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته حفصة عن ذلك فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقضيا يوماً مكانه» ، ذكره في " الموطأ "، والترمذي، والنسائي انتهى.
قلت: لم أره في الترمذي، ولا النسائي وإنما رواه البزار، والطبراني في " الأوسط "، وفي إسناده حماد بن الوليد. قال فيه أبو حاتم: شيخ، وضعفه الجمهور. وفي الطبراني أيضاً، عن أبي هريرة «أهديت لعائشة وحفصة هدية، وهما صائمتان فأكلتا منها فذكرتا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " اقضيا يوماً مكانه ولا تعودان» ، وفي إسناده محمد بن أبي سلمة المكي ذكره العقيلي في " الضعفاء "، وقال: لا يتابع على حديثه.
وروى ابن حزم هذا الحديث، عن جرير بن حازم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمر، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ثم قال: وقد صح القضاء بالإفطار في ذلك.
ويروى في " الموطأ ": من عدة طرق مرسلاً، وقال الدارقطني: فيه فرج وجرير فخالفهما حماد بن زيد، وعباد بن العوام، ويحيى بن أيوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فرووه عن يحيى بن سعيد على وهم من وصله من العدول الثقات، وقال ابن الحصار أيضاً: هذا سند صحيح، ورجاله رجال الصحيحين، ولا يضره الإرسال، وقال أبو الفرج: لا يقبل طعن الدارقطني، إذا انفرد به لما عرف من عصبيته.
فإن قلت: أخرج مسلم «عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: " دخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم فقال هل عندكم شيء؟ قالت: لا قال: إني إذا صائم " ثم أتى يوماً آخر فقلنا يا رسول الله أهدي لنا حيس فقال أرنيه فلقد أصبحت صائماً فأكل» فعلم أنه غير لازم.
قلت: زاد النسائي فيه ولكن يصوم يوماً مكانه وصحح هذه الزيادة أبو محمد بن عبد الحق.
فإن قلت: روى الدارقطني عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يصبح صائماً وهو يريد الصوم فيقول أعندكم شيء فنقول لعله يصبح صائماً فيقول بلى» ، ولكن لا بأس إن أفطر ما لم يكن نذراً أو قضاء من رمضان.
قلت: في سنده محمد بن عبد الله العذري ولا يحتج به.(4/89)
وإذا وجب المضي وجب القضاء بتركه. ثم عندنا لا يباح الإفطار فيه بغير عذر في إحدى الروايتين لما بينا، ويباح بعذر، والضيافة عذر لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أفطر، واقض يوما مكانه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: روى أبو أحمد من حديث جعفر بن الزبير عن القاسم، عن أبي أسامة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من صام تطوعاً فهو بالخيار ما بينه وبين نصف النهار» .
قلت: جعفر بن الزبير متروك، وكان رجلا صالحا ذكره القرطبي، فلو كان ثابتا لكان بيانا لصحة الشروع في الصوم؛ لأنه لا يصح شروعه بعد نصف النهار.
م: (وإذا وجب المضي وجب القضاء بتركه) ش: لأنه لو لم يلزم القضاء يلزم إبطال العمل واللازم منتف بقوله تعالى {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ، فينتفي الملزوم، وهو عدم لزوم القضاء.
م: (ثم عندنا لا يباح الإفطار [فيه) ش: أي في الصوم وكان هذا بيان لمبنى الاختلاف وهو أن] الإفطار بعد الشروع ليس بمباح. م: (بغير عذر في إحدى الروايتين لما بينا، ويباح بعذر) ش: وذكر الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عن الأًصحاب أنه لا يباح له الفطر إلا بعذر.
م: (والضيافة عذر) ش: أي على الأظهر وفي " المبسوط " و " المجتبى " والأظهر عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الضيافة عذر، وهو رواية هشام عن محمد وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا تكون عذراً، وفي " المرغيناني " الصحيح من المذهب أن صاحب الدعوة إذا كان يرضى بمجرد حضوره لا يفطر ومسألة اليمين على هذا التفصيل.
وفي " المحيط ": إن حلف بطلاق امرأته يفطر في التطوع دون الفرض وهو قول أبي الليث وقال في " الدراية " واختلف المشايخ فيمن حلف بطلاق امرأته أن يطلق قال أبو الليث:
الأولى: أن يفطر وقال نصير وخلف بن أيوب لا يفطر ودعه يحنث وهذا كله قبل الزوال وبعده لا يفطر إلا إذا كان في تركه عقوق الوالدين أو أحدهما، وفي الفرض والواجب لا يفطر إلا بعذر والضيافة ليست بعذر وكذا السفر الذي أنشأه فيه وعذر فيما عداه، والمرض عذر في الأيام كلها ذكر ذلك في " الذخيرة " وروى بشر عن أبي يوسف إذا كان صائماً في ظهار أو نذر أو قضاء رمضان [لا يفطر] وإن أفطر يصوم يوماً مكانه.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «أفطر، واقض يوما مكانه» ش: قال الأترازي:(4/90)
وإذا بلغ الصبي، أو أسلم الكافر في رمضان، أمسكا بقية يومهما قضاء لحق الوقت بالتشبه، ولو أفطرا فيه لا قضاء عليهما؛ لأن الصوم غير واجب فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذا ليس بحديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل هو من كلام الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
قلت: هذا وهم فاحش فقد رواه أبو داود الطيالسي في " مسنده " من حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال «صنع رجل طعاماً ودعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحاباً له، فلما أتي بالطعام تنحى أحدهم، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مالك؟ " قال: إني صائم، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أخوك تكلف وصنع لك طعاماً أفطر واقض يوماً مكانه» وروى نحوه الدارقطني من حديث محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وفي آخره يقول «إني صائم كل وصم يوماً مكانه» .
[الحكم لو بلغ الصبي أو أسلم الكافر في نهار رمضان]
م: (وإذا بلغ الصبي، أو أسلم الكافر في رمضان) ش: أي في يوم من أيام رمضان م: (أمسكا بقية يومهما) ش: وكذلك الحائض إذا طهرت والنفساء والمجنون إذا أفاق والمريض إذا برئ والمسافر إذا أقام فحكم هؤلاء في الإمساك عن المفطرات سواء، وهكذا كل معذور زال عذره بعد طلوع الفجر، أما لو زال قبل طلوع الفجر لزمه الصوم. وبقولنا قال أحمد في أصح الروايتين وبعض أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأبو ثور وهو قول الأوزاعي، والحسن بن حي وإسحاق، وابن الماجشون وقال الشافعي، ومالك وداود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: يستحب الإمساك ولا يلزم لأن هذا شخص لا يلزمه الصوم لا ظاهراً ولا باطناً، فلا يلزمه الإمساك كما في حالة العذر.
م: (قضاء لحق الوقت بالتشبه) ش: يعني لقضاء حق الوقت بالتشبه بالصائمين، ولئلا يعرض نفسه للتهمة، وفي " النهاية ": اختلفوا في إمساك بقية اليوم، أنه على طريق الاستحباب، [لأنه مفطر فكيف يجب عليه الكف عن المفطرات. وقال الشيخ الإمام الزاهد الصفار - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الصحيح أن ذلك على طريق الاستحباب] ، انتهى. وعلى قول ابن شجاع لا خلاف بيننا وبين الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن معه م: (ولو أفطرا) ش: أي الصبي الذي بلغ والكافر الذي أسلم م: (فيه) ش: أي في اليوم الذي بلغ فيه الصبي وأسلم الكافر م: (لا قضاء عليهما؛ لأن الصوم غير واجب فيه) ش:، وقال زفر وإسحاق وأحمد في رواية: يجب القضاء قياساً على الصلاة وإذا بلغ الصبي قبل الزوال يكون صائماً نفلاً إذا نوى الصوم في ظاهر الرواية، لأنه أهل للنفل بخلاف الكافر، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز صومه عن الفرض بخلاف الكافر وقيل الكافر كذلك عنده، ولو أسلم في غير رمضان ونوى قبل الزوال كان صائماً حتى لو أفطر يلزمه قضاؤه. وفي " الخزانة ": لا يصح نفلاً ولا فرضاً بخلاف خروج رمضان حيث يكون نفلاً في حق الصبي ولا يتعلق به اللزوم، وفي " المحيط ": إذا أسلم بعد الطلوع لا يصح صومه لا فرضاً ولا نفلاً.(4/91)
وصاما ما بعده لتحقق السبب، والأهلية، ولم يقضيا يومهما ولا ما مضى لعدم الخطاب، وهذا بخلاف الصلاة، لأن السبب فيها الجزء المتصل بالأداء، فوجدت الأهلية عنده، وفي صوم الجزء الأول، والأهلية منعدمة عنده، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه إذا زال الكفر، أو الصبا قبل الزوال فعليه القضاء؛ لأنه أدرك وقت النية. وجه الظاهر أن الصوم لا يتجزأ وجوبا، وأهلية الوجوب منعدمة في أوله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيل: يصح نفلاً، وفي ظاهر الرواية لا يصح، وإذا قدم المسافر من سفره قبل الزوال وكان قد نوى الإفطار فنوى الصوم أجزأه، وإن كان في رمضان وجب عليه الصوم لزوال المرض في وقت النية، وكذا لو كان مقيماً في أول الوقت فسافر لا يباح له الفطر، ولو أفطر فيهما لا تجب الكفارة.
م: (وصاما ما بعده لتحقق السبب) ش: وهو شهود الشهر م: (والأهلية) ش: الإسلام والبلوغ م: (ولم يقضيا يومهما) ش: الذي بلغ فيه الصبي وأسلم الكافر م: (ولا ما مضى) ش: من الأيام م: (لعدم الخطاب) ش: لأن الخطاب إنما يكون عند الأهلية وكانت منتقية.
فإن قلت: انتفاء الأهلية في أول النهار لا يمنع وجوب القضاء، فإن المجنون إذا أفاق في يوم رمضان قبل الزوال، والأكل ونوى الصوم يقع عن الفرض، ولو أفطر يجب عليه القضاء، مع أن الصوم لم يكن واجباً عليه في ذلك وقت طلوع الفجر.
قلت: لا نسلم أن الوجوب لم يكن ثابتاً عليه في ذلك الوقت بل الوجوب في حقه كان ثابتاً إلا أنه لم يظهر أثره عند الاستغراق، فإذا لم يستغرق ظهر أثر الوجوب.
م: (وهذا بخلاف الصلاة) ش: أي هذا الحكم الذي ذكرنا، وهو عدم وجوب قضاء صوم ذلك اليوم الذي بلغ فيه الصبي أو أسلم الكافر، بخلاف الصلاة يجب قضاؤها إذا بلغ أو أسلم في بعض الوقت م: (لأن السبب) ش: أي السبب في وجوب الصلاة م: (فيها) ش: أي في الصلاة م: (الجزء [المتصل بالأداء، فوجدت الأهلية عنده، وفي صوم الجزء] الأول، والأهلية منعدمة عنده) ش: أي عند الجزء الأول.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه إذا زال الكفر) ش: عن الكافر م: (أو الصبا) ش: أي وإذا زال الصبا عن الصبي م: (قبل الزوال فعليه القضاء؛ لأنه أدرك وقت النية) ش: وهذا كمن أصبح ناوياً للفطر ثم نوى قبل الزوال أن الصوم أجزأه، ولا شك أن نية الفطر منافية للصوم لكنها منافية حكماً لا حقيقة، فلا تمنع نية الصوم قبل الزوال، وكذلك الكفر مناف للصوم حكماً لا حقيقة لا تمنع نية الصوم قبل الزوال م: (وجه الظاهر) ش: أي وجه ظاهر الرواية م: (أن الصوم لا يتجزأ وجوبا) ش: أي من حيث الوجوب م: (وأهلية الوجوب منعدمة في أوله) ش: أي(4/92)
إلا أن للصبي أن ينوي التطوع في هذه الصورة دون الكافر على ما قالوا لأن الكافر ليس من أهل التطوع أيضا، والصبي أهل له. وإذا نوى المسافر الإفطار ثم قدم المصر قبل الزوال فنوى الصوم أجزأه لأن السفر لا ينافي أهلية الوجوب، ولا صحة الشروع، وإن كان في رمضان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في أول اليوم، بيانه أن الصوم لما لم يجب عليه في أول اليوم لعدم أهلية الوجوب في البقية؛ لأن الصوم الواجب، [ ... ] لا يتجزأ فلا يجب القضاء.
م: (إلا أن للصبي أن ينوي التطوع في هذه الصورة) ش: أشار بهذا الاستثناء إلى الفرق بين حكم الصبي وحكم الكافر في هذه الصورة، وهي ما إذا بلغ الصبي قبل الزوال أو أسلم الكافر قبل الزوال وبيان الفرق بينهما أن الصبي إذا نوى التطوع يصح لأنه أهل له قبل البلوغ.
والكافر الذي أسلم ونوى التطوع لا يصح، وهو معنى قوله م: (دون الكافر) ش: لعدم الأهلية م: (على ما قالوا) ش: أشار إلى الاختلاف بين المشايخ فعامة المشايخ على ما ذكر من الفرق، أن الكافر إذا نوى التطوع بعدما أسلم قبل الزوال لا يصح، وأن الصبي إذا نوى كذلك يصح، وذكر في " الجامع الصغير "، الصغير يبلغ والكافر يسلم قال: هما سواء.
وفي " المنتقى ": عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه سوى بينهما، وقال: يكون تطوعاً منهما جميعاً م: (لأن الكافر ليس من أهل التطوع أيضا، والصبي أهل له) ش: هذا التعليل كقول عامة المشايخ الذين فرقوا بينهما، ولا ترد مسألة المجنون؛ لأنه لو أفاق في نهار رمضان، ولم يكن أكل شيئاً فنوى الصوم حيث يقع صومه عن الفرض؛ لأن المجنون إذا لم يستوعب لا ينافي أهلية الوجوب. أما الصبا، والكفر فينافيان أهلية الوجوب.
م: (وإذا نوى المسافر الإفطار) ش: يعني في غير رمضان بدليل قوله فيما بعده: وإن كان في رمضان م: (ثم قدم المصر) ش: أي مصره م: (قبل الزوال فنوى الصوم أجزأه لأن السفر لا ينافي أهلية الوجوب) ش: أي وجوب الصوم، ولهذا يصح أداؤه في السفر م: (ولا صحة الشروع) ش: لأنه لو صام صح م: (وإن كان في رمضان) ش: أي وإن كان المسافر الذي نوى الإفطار وقدم مصره قبل الزوال في رمضان، قال الأترازي: هذا تكرار من المصنف؛ لأن ما قبله أيضاً في مسافر قدم المصر قبل الزوال في رمضان بدلالة التعليل بقوله؛ لأن السفر لا ينافي أهلية الوجوب، ومثل هذا الكلام، لا يستعمل في النفل.
قلت: قال السغناقي: إن المراد من قوله وإن نوى المسافر الإفطار في غير رمضان كما ذكرنا عن قريب فهذا أولى من حمل كلام المصنف على التكرار.
وكذا قال الأكمل؛ أن الأولى في غير رمضان والثانية في رمضان؛ فلا [يلزم] تكرار، وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: وإذا نوى المسافر الإفطار ثم قدم المصر قبل الزوال فنوى الصوم إن كان مراده من هذا الصوم تطوعاً، فيكون المراد من الوجوب في قوله لا ينافي(4/93)
فعليه أن يصوم لزوال المرخص في وقت النية. ألا ترى أنه لو كان مقيما في أول اليوم ثم سافر لا يباح له الفطر ترجيحا لجانب الإقامة فهذا أولى، إلا أنه إذا أفطر في المسألتين لا تلزمه الكفارة لقيام شبهة المبيح.
ومن أغمي عليه في رمضان لم يقض اليوم الذي حدث فيه الإغماء لوجود الصوم فيه وهو الإمساك المقرون بالنية، إذ الظاهر وجودها منه وقضى ما بعده لانعدام النية، وإن أغمي عليه أول ليلة منه قضاه كله غير يوم تلك الليلة لما قلنا. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقضي ما بعده؛ لأن صوم رمضان عنده يتأدى بنية واحدة بمنزلة الاعتكاف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أهلية الوجوب [الثبوت، وإن كان نذراً معيناً فالمراد الوجوب] الاصطلاحي، وإنما قلت كذلك لأنه ذكر بعده وإن كان في رمضان، انتهى.
قلت: يمكن الرد بالشق الأول على تعليل الأترازي في دعواه التكرار في كلام المصنف فليتأمل م: (فعليه أن يصوم لزوال المرخص) ش: وهو السفر م: (في وقت النية. ألا ترى أنه لو كان مقيما [في] أول اليوم ثم سافر لا يباح له الفطر ترجيحا لجانب الإقامة) ش: على جانب السفر لعروضه على الإقامة التي هي الأصل م: (فهذا أولى) ش: يعني ترجيح الإقامة أولى وجه الأولوية أن المرخص وهو السفر قائم في وقت الإفطار في تلك المسألة ومع ذلك لم يبح له الإفطار فلا يباح في هذه المسألة وهو ليس بقائم فيه أولى.
م: (إلا أنه) ش: أي إلا أن الرجل المذكور م: (إذا أفطر في المسألتين) ش: يعني في مسألة المسافر الذي أقام ومسألة المقيم الذي سافر م: (لا تلزمه الكفارة لقيام شبهة المبيح) ش: وهو السفر؛ لأنه في الأصل مبيح للفطر؛ فإذا اقترن بالسبب الموجب للكفارة يكون مورثا ًبشبهة مسقطة للكفارة، وإن لم يصر الفطر مباحاً له بمنزلة النكاح الفاسد يكون مسقطاً للحد وإن لم يكن مبيحاً للوطء.
[أحكام المغمى عليه والمجنون في رمضان]
م: (ومن أغمي عليه في رمضان لم يقض اليوم الذي حدث فيه الإغماء لوجود الصوم فيه وهو الإمساك المقرون بالنية، إذ الظاهر وجودها) ش: أي وجود النية م: (منه وقضى ما بعده لانعدام النية) ش: أي قضى ما بعد ذلك اليوم الذي حدث فيه الإغماء لعدم النية فيه؛ لأن الإغماء يمنع وجود النية ولا يصح الصوم بدونها، ولو كان الرجل الذي أغمي عليه في رمضان منتهكاً قد اعتاد الفطر في رمضان أو كان مسافراً فيه يقضي الكل لعدم النية في الكل، م: (وإن أغمي عليه أول ليلة منه قضاه كله غير يوم تلك الليلة لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله: لوجود الصوم فيه وهو الإمساك المقرون بالنية.
م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقضي ما بعده؛ لأن صوم رمضان عنده يتأدى بنية واحدة بمنزلة الاعتكاف) ش: لأن الله تعالى أوجب الصوم باسم الشهر وأنه شيء واحد وإنما رخص له الفطر بالليالي ليتمكن من الأداء فاعتبر الشهود في حق الشهر النية شيئاً واحداً كالاعتكاف لا يحتاج فيه نية(4/94)
وعندنا لا بد من النية لكل يوم؛ لأنها عبادات متفرقة لأنه يتخلل بين كل يومين ما ليس بزمان لهذه العبادة بخلاف الاعتكاف، ومن أغمي عليه في رمضان كله قضاه؛ لأنه نوع مرض يضعف القوى ولا يزيل الحجى فيصير عذرا في التأخير لا في الإسقاط، ومن جن في رمضان كله لم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لكل يوم.
م: (وعندنا لا بد من النية لكل يوم؛ لأنها) ش: أي لأن صيام الشهر م: (عبادات متفرقة) ش: أي صوم كل يوم عبادة وحدها، ألا ترى أن الفساد في الأصل لا يمنع صحة الباقي، فكانت كصلاة مختلفة فيستدعي لكل نية واحدة م: (لأنه يتخلل بين كل يومين ما ليس بزمان هذه العبادة) ش: وهو الليالي فيبقى صوم كل يوم عبادة طول الشهر فيحتاج إلى تعداد النية بتعداد الأيام ولا عبادة إلا بالنية.
م: (بخلاف الاعتكاف) ش: لأنه لم يتخلل بين كل يومين فيه ما ليس بزمان العبادة، إذ الليل أيضاً وقت الاعتكاف؛ ولهذا يفسد بوجود المفسد في الليل، فكان شيئاً واحداً، فيكفيه نية واحدة.
م: (ومن أغمي عليه في رمضان كله قضاه) ش: أي قضى كل رمضان هذا بالإجماع، إلا ما روي عن الحسن البصري وابن شريح من أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما إذا استوعب لا قضاء عليه كما في المجنون؛ لأن سبب وجوب الأداء وهو شهود الشهر لم يتحقق موجباً في حقه لعدم الفهم، ووجوب القضاء يبنى عليه م: (لأنه نوع مرض) ش: أي لأن الإغماء نوع مرض م: (يضعف القوى ولا يزيل الحجى) ش: بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم مقصوراً وهو العقل، ألا ترى أن الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كانوا يثبتون بالإغماء دون الجنون لأنه منفي عنهم، والفرق بينهما أن العقل يكون في الإغماء مغلوباً وفي الجنون مسلوباً م: (فيصير) ش: أي الإغماء م: (عذرا في التأخير) ش: أي في تأخير الصوم إلى وقت زوال الإغماء م: (لا في الإسقاط) ش: أي لا يكون عذراً في إسقاط بالكلية.
م: (ومن جن في رمضان كله لم يقضه) ش: أي إذا جن قبل غروب الشمس من أول الليلة؛ لأنه لو كان مفيقاً في أول الليلة ثم جن رمضان كله إلى آخر الشهر قضى صوم الشهر كله بالاتفاق غير يوم تلك الليلة.
ذكر شمس الأئمة في أصوله، وفي جامع النوازل إذا أفاق أول ليلة من رمضان ثم أصبح مجنوناً واستوعب الشهر اختلف فيه أئمة بخارى، والفتوى على أنه لا يلزمه القضاء لأن الليلة لا يصام فيها وكذا لو أفاق في ليلة من وسطه أو في آخر يوم من رمضان بعد الزوال كما في " المجتبى ".
وقال الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المراد من قوله كله مقدار ما يمكنه ابتداء الصوم، حتى لو(4/95)
يقضه خلافا لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، هو يعتبره بالإغماء. ولنا أن المسقط هو الحرج، والإغماء لا يستوعب الشهر عادة فلا حرج والجنون يستوعبه فيتحقق الحرج،
وإن أفاق المجنون في بعضه قضى ما مضى من الشهر خلافا لزفر والشافعي - رحمهما الله -، هما يقولان: لم يجب عليه الأداء لانعدام الأهلية، والقضاء يترتب عليه، وصار كالمستوعب، ولنا أن السبب قد وجد، وهو الشهر والأهلية بالذمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أفاق بعد الزوال من اليوم الآخر، من رمضان لا يلزمه القضاء؛ لأنه لا يصح فيه كالليل هو الصحيح، كذا في " فتاوى قاضي خان ".
م: (خلافاً لمالك) ش: فإن عنده يقضيه، وبه قال أحمد في رواية وابن شريح من أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (هو) ش: أي مالك م: (يعتبره) ش: أي يعتبر حكم هذا م: (بالإغماء) ش: لأن الجنون المستوعب لا ينافي أهلية الوجوب قياساً على الإغماء إذا استوعب، فلا يمنع الوجوب كغير المستوعب.
م: (ولنا أن المسقط) ش: أي للوجوب م: (هو الحرج، والإغماء لا يستوعب الشهر) ش: لأن المغمى عليه لا يأكل ولا يشرب وصومه إلى شهر بلا أكل وشرب نادر، فإذا كان كذلك م: (فلا حرج) ش: لندرته م: (والجنون يستوعبه) ش: أي يستوعب الشهر م: (فيتحقق الحرج) ش: والإسقاط يتعلق بالحرج.
[الحكم لو أفاق المجنون في بعض رمضان]
م: (وإن أفاق المجنون في بعضه) ش: أي في بعض شهر رمضان م: (قضى ما مضى من الشهر خلافا لزفر والشافعي) ش: في الجديد وأحمد، وأبي ثور م: (هما يقولان) ش: أي زفر، والشافعي - رحمهما الله - يقولان: م: (لم يجب عليه الأداء لانعدام الأهلية، والقضاء يترتب عليه) ش: أي الأداء، والأداء لا يجب عليه بالاتفاق فكذلك القضاء قياساً عليه كذا، ذكر الإمام علاء الدين السمرقندي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، في طريقة الخلاف أن مذهبهما قياساً ومذهبنا استحساناً م: (وصار كالمستوعب) ش: يعني في إسقاط كل اعتبار للبعض بالكل.
وقوله: بالذمة خبره وهو جواب عن سؤال مقدر تقديره، أن يقال: يجوز أن يمنع من ذلك مانع وهو عدم الأهلية فيما مضى، فأجاب بأن الأهلية للوجوب بالذمة وهي كونه أهلاً للإيجاب، وهي موجودة؛ لأنه بالذمة، والذمة في الأصل العهدة، ولهذا سمي قابل الجزية(4/96)
في الوجوب فائدة، وهو صيرورته مطلوبا على وجه لا يحرج في أدائه بخلاف المستوعب؛ لأنه يحرج في الأداء فلا فائدة،
/ وتمامه في الخلافيات، ثم لا فرق بين الأصلي والعارض، قيل: هذا في ظاهر الرواية، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه فرق بينهما؛ لأنه إذا بلغ مجنونا، التحق بالصبي فانعدم الخطاب، بخلاف ما إذا بلغ عاقلا ثم جن وهذا مختار بعض المتأخرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذمياً لكونه معاهداً، وسمي محل التزام العهد وهو الرقبة بالذمة مجازاً إطلاقاً لاسم الحال على المحل.
ثم قال: هكذا لقائل أن يقول: لو كان ما ذكرتم صحيحاً، لوجب على المستغرق أيضاً فأجاب بقوله: م: (وفي الوجوب فائدة، وهو) ش: أي الفائدة ذكرها باعتبار المذكور.
وفي بعض النسخ: وهي على الأصل م: (صيرورته مطلوباً على وجه لا يحرج في أدائة بخلاف المستوعب؛ لأنه يحرج في الأداء فلا فائدة) ش: ولهذا قلنا في النائم، والمغمى عليه: يجب عليهما القضاء إن استوعب النوم، والإغماء شهراً لعدم الحرج.
فإن قلت: زفر والشافعي استدلاً أيضاً بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» .
قلت: المراد منه رفع تكليف الأداء لا نفي أصل الوجوب، ولهذا يجب على النائم القضاء.
م: (وتمامه في الخلافيات) ش: أي تمام البحث المذكور مذكور في الكتب المتعلقة بذكر الخلافيات م: (ثم لا فرق بين الأصلي) ش: أي بين المجنون الأصلي، وهو أن يدرك مجنوناً.
م: (والعارض) ش: أي الجنون العارض وهو أن يدرك مفيقاً ثم جن يعني لا فرق بينهما حيث يلزمه قضاء ما مضى ثم م: (قيل: هذا) ش: أي عدم الفرق بين الجنونين.
م: (في ظاهر الرواية، وعن محمد أنه فرق بينهما) ش: أي بين الجنونين م: (لأنه) ش: أي لأن الصبي م: (إذا بلغ مجنونا، التحق بالصبي فانعدم الخطاب) ش: في حقه إذا أفاق في بعض الشهر ليس عليه قضاء ما مضى لأن ابتداء الخطاب وجه إليه الآن فكان كصبي [ثم] بلغ.
وروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: القياس هكذا إلا أني أستحسن بأن يقضي ما مضى في الجنون الأصلي إذا أفاق في بعض الشهر كما في الجنون العارض.
م: (بخلاف ما إذا بلغ عاقلا ثم جن) ش: يعني لا يلحق بالصبي، فلزمه قضاء ما مضى.
م: (وهذا) ش: أي المروي عن محمد م: (مختار بعض المتأخرين) ش: منهم الإمام أبو عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجرجاني والإمام الربيعي والإمام الزاهد الصفار، وفي " المبسوط " المحفوظ(4/97)
ومن لم ينو في رمضان كله لا صوما ولا فطرا فعليه قضاؤه وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يتأدى صوم رمضان بدون النية في حق الصحيح المقيم؛ لأن الإمساك مستحق عليه فعلى أي وجه يؤديه يقع عنه، كما إذا وهب كل النصاب من الفقير. ولنا: أن المستحق الإمساك بجهة العبادة، ولا عبادة إلا بالنية، وفي هبة النصاب وجد نية القربة على ما مر في الزكاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن محمد أنه لا يقضي ما مضى في الأصل كالصبي ولا رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختلف فيه المتأخرون على قياس مذهبه، والأصح أنه ليس عليه قضاء ما مضى وبه قال ابن الماجشون المالكي.
وفي " البدائع ": الجنون العارض، إذا أفاق في أوله، أو في وسطه، أو في آخره قضى جميعه، وفي الأصلي روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه سوى بينهما.
[حكم اشتراط النية في صوم رمضان]
م: (ومن لم ينو في رمضان كله لا صوما ولا فطرا فعليه قضاؤه) ش: هذه المسألة من خواص " الجامع الصغير "، ثم لا بد من التأويل لهذه المسألة لما أن دلالة حال المسلم كافية لوجود النية، ألا ترى أن من أغمي عليه بعدما غربت الشمس من الليلة الأولى من رمضان أنه يصير صائماً في يومها ولم يعرف منه نية الصوم ولا الفطر لما أنا حملنا أمره على النية على ظاهر حاله.
قال السغناقي: ثم قال مشايخنا تأويل هذه المسألة أن يكون مريضاً أو مسافراً أو منتهكاً اعتاد الفطر في رمضان حتى لا يصلح حاله دليلاً على العزيمة ونية الصوم، ذكره فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يتأدى صوم رمضان بدون النية في حق الصحيح المقيم) ش: أبو شجاع هو الذي روى هذا القول عن زفر، وروي هكذا عن عطاء ومجاهد واستبعدوا هذا من زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكان الكرخي ينكر أن يكون هذا مذهبه عنه ويقول مذهبه أنه يتأدى كله بنية واحدة، وهو قول مالك وإسحاق ورواية عن أحمد وإنما قيد بالصحيح والمقيم؛ لأن المريض والمسافر لا بد لهما من النية بالاتفاق م: (لأن الإمساك مستحق عليه فعلى أي وجه يؤديه يقع عنه) ش: لأنه متعين بأصله ووصفه بتعيين الله عز وجل، فلما لم يلزم تعيين الوصف لم يلزمه تعيين الأصل لتبعيته م: (كما إذا وهب كل النصاب من الفقير) ش: فإنه تسقط عنه الزكاة.
م: (ولنا: أن المستحق الإمساك بجهة العبادة، ولا عبادة إلا بالنية) ش: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأعمال بالنيات» م: (وفي نية النصاب وجد نية القربة على ما مر في الزكاة) ش: باختيار المحل ووجد معنى القربة لحاجة المحل، ألا ترى أن من وهب لفقير شيئاً لا يملك الرجوع لحصول الثواب له.
فإن قلت: إعطاء النصاب لفقير واحد للزكاة باطل عند زفر فكيف ذكر الجواز ها هنا على مذهبه؟. قلت: قالوا: جاز أن يكون المراد منه أي على مذهبكم، وقيل: تأويله أن يكون الفقير مديوناً فعند ذلك يجوز أداء النصاب زكاة بالاتفاق.(4/98)
ومن أصبح غير ناو للصوم فأكل لا كفارة عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عليه الكفارة؛ لأنه يتأدى بغير النية عنده، وقال أبو يوسف، ومحمد - رحمهما الله - إذا أكل قبل الزوال تجب الكفارة؛ لأنه فوت إمكان التحصيل، فصار كغاصب الغاصب. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الكفارة تعلقت بالإفساد، وهذا امتناع إذ لا صوم إلا بالنية. وإذا حاضت المرأة، أو نفست أفطرت وقضت، بخلاف الصلاة؛ لأنها تحرج في قضائها، وقد مر في الصلاة، وإذا قدم المسافر، أو طهرت الحائض في بعض النهار، أمسكا بقية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[حكم أصبح غير ناو للصوم فأكل]
م: (ومن أصبح غير ناو) ش: أي حال كونه غير ناو م: (للصوم فأكل لا كفارة عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: سواء أكل قبل الزوال أو بعده وكذا لو جامع، وبقول أبي حنيفة قال مالك والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (وقال زفر: عليه الكفارة؛ لأنه يتأدى عنده بدون النية) ش: يعني النية ليست بشرط م: (وقالا) ش: أي قال أبو يوسف، ومحمد - رحمهما الله - م: (إذا أكل قبل الزوال تجب الكفارة؛ لأنه فوت إمكان التحصيل) ش: أي تحصيل الصوم؛ لأن قبل الزوال يجب حكم الإمساك موقوفاً على أن يصير صوماً قبل نصف النهار، فصار بأكله مفوتاً لإمكان تحصيل الصوم، أما بعد الزوال فإمساكه غير موقوف على ذلك فلا يصير مفوتاً، فلا كفارة عليه.
وقال أبو بكر الرازي في " شرحه لمختصر الطحاوي ": المشهور عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فصار كغاصب الغاصب) ش: فإن المغصوب كما يضمن الغاصب الأول لتفويت الأصل يضمن غاصب الغاصب لتفويت إمكان الرد.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الكفارة تعلقت بالإفساد) ش: أي بإفساد الصوم م: (وهذا امتناع) ش: أي عن الصوم لا إفساد له م: (إذ لا صوم إلا بالنية) ش: فلا كفارة عليه لأنه غير صائم.
م: (وإذا حاضت المرأة أو نفست) ش: بضم النون أي صارت نفساء م: (أفطرت وقضت) ش: أي الصوم م: (بخلاف الصلاة) ش: لا تقضي الصلاة م: (لأنها تحرج) ش: يقع فيها الحرج م: (في قضائها) ش: لكثرتها م: (وقد مر في الصلاة) ش: أي بيان الفرق بين الصوم والصلاة في وجوب قضاء الصوم دون الصلاة في باب الحيض.
فإن قلت: هذه المسألة مكررة لأنه ذكرها في باب الحيض.
قلت: ذكر في باب الحيض أن الحائض لا تصوم لكن لم تذكر أن الصائمة إذا حاضت أفطرت.
م: (وإذا قدم المسافر) ش: أي مصره م: (أو طهرت الحائض في بعض النهار، أمسكا بقية(4/99)
يومهما وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجب الإمساك، وعلى هذا الخلاف كل من صار أهلا للزوم، ولم يكن كذلك في أول اليوم، وهو يقول: التشبيه خلف، فلا يجب إلا على من يتحقق الأصل في حقه كالمفطر متعمدا، أو مخطئا. ولنا أنه وجب قضاء لحق الوقت أصلا لا خلفا لأنه وقت معظم، بخلاف الحائض والنفساء والمريض والمسافر، حيث لا يجب عليهم حال قيام هذه الأعذار لتحقق المانع عن التشبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يومهما) ش: عن كل ما يمسك عنه الصائم تعظيماً للوقت م: (وقال الشافعي: لا يجب الإمساك) ش: يعني في بقية يومهما م: (وعلى هذا الخلاف) ش: يعني بيننا وبين الشافعي م: (كل من صار أهلا للزوم) أي للزوم الإمساك م: (ولم يكن كذلك) ش: أي والحال أنه لم يكن أهلاً للزوم الإمساك م: (في أول اليوم) ش: مثل الكافر يسلم والصبي يبلغ والمجنون يفيق في بعض النهار فإنهم يؤمرون بالإمساك بقية يومهم خلافاً للشافعي.
م: (وهو) ش: أي الشافعي م: (يقول: التشبه خلف) ش: أي عن الصوم م: (فلا يجب إلا على من يتحقق الأصل) ش: وهو الصوم م: (في حقه كالمفطر متعمداً) ش: أي كالذي أفطر عمداً م: (أو مخطئاً) ش: أي كالذي أفطر حال كونه مخطئاً كالذي أكل يوم الشك، ثم ظهر أنه من رمضان أو تسحر على ظن أنه ليل وكان الفجر طالعاً، أو كالذي أخطأ في المضمضة ونزل الماء في جوفه لا يفطر عنده.
وفي " الكافي ": الأصل عنده، من كان له الأصل مباحاً في أول اليوم، ظاهراً أو باطناً لا يلزمه الإمساك في بقية يومه ففي الفطر عمداً أو خطأ يلزمه الإمساك إجماعاً وفي الحائض والنفساء لا يجب إجماعاً.
فإن قيل: ما وجه قوله أو مخطئاً وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يتحقق الفطر بالخطأ قلنا: المراد بالمخطئ من لم يصح صومه اليوم عنده لعدم قصده في إفساد صومه كمن أكل يوم الشك ثم ظهر أنه من رمضان فإنه يتحقق منه الإفطار، وها هنا يجب التشبه بالاتفاق.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن التشبيه م: (وجب قضاء لحق الوقت أصلاً) ش: أي من حيث الأصل م: (لا خلفا) ش: أي لا من حيث الخلفية م: (لأنه وقت معظم) ش: ولهذا وجبت الكفارة على المفطر فيه عمدا ًدون غيره وإذا كان معظماً وجب قضاء حقه بالصوم، إن كان أهلاً وبالإمساك، إن لم يكن خلفاً م: (بخلاف الحائض والنفساء والمريض والمسافر، حيث لا يجب) ش: أي الإمساك م: (عليهم حال قيام هذه الأعذار) ش: وهي الحيض، والنفاس، والمرض والسفر.
م: (لتحقق المانع عن التشبه) ش: أما في الحائض والنفساء فإن الصوم عليهما حرام والتشبه بالحرام حرام وما في المريض والمسافر فلأن الرخصة في حقهما باعتبار الحرج، فلو ألزمنا(4/100)
حسب تحققه عن الصوم قال: وإذا تسحر وهو يرى
أن الفجر لم يطلع فإذا هو قد طلع، أو أفطر وهو يرى أن الشمس قد غربت فإذا هي لم تغرب أمسك بقية يومه قضاء لحق الوقت بالقدر الممكن، أو نفيا للتهمة، وعليه القضاء لأنه حق مضمون بالمثل، كما في المريض، والمسافر ولا كفارة عليه؛ لأن الجناية قاصرة لعدم القصد. وفيه قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما تجانفنا لإثم قضاء يوم علينا يسير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التشبيه عاد على موضوعتها له م: (حسب تحققه عن الصوم) ش: أي مثل تحقق المانع عن الصوم أراد أن المانع من التشبيه متحقق كما أن المانع من الصوم متحقق، وذلك لأن ما كان حراماً كان ما يشبهه حراماً كعبادة الصنم فإنها حرام، والصلاة بين يديه أيضاً مكروه لمشابهته عبادة الصنم.
م: (قال: وإذا تسحر) ش: في أكثر النسخ قال: وإذا تسحر أي قال القدوري م: (وهو يرى) ش: بضم الياء وفتح الراء أي والحال أنه يظن وفي بعض النسخ وهو يظن، والمراد من الظن غلبة الظن حتى لو كان شاكاً تجب الكفارة، كذا ذكره الإمام حميد الدين الضرير وحافظ الدين النسفي في " مستصفاه ".
قال الأترازي: وذلك لا يصح على إطلاقه، لأن الرواية في أكل المتسحر الشاك بخلاف ذلك، ألا ترى إلى ما ذكره في شرح الطحاوي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لو شك في طلوع الفجر فالأفضل له أن لا يتسحر فإن تسحر مع الشك لم يفسد صومه ولا قضاء عليه، لأنه في يقين من الليل وشك في النهار، والأصل أن اليقين لا يزول بالشك إلا إذا تسحر وأكبر رأيه أن الفجر طالع وقت السحر وأحب إلينا أن يقضي، ثم قال: كذا ذكر في كتاب الصوم.
[حكم من شك في طلوع الفجر أو غروب الشمس فأكل]
م: (أن الفجر لم يطلع فإذا هو قد طلع، أو أفطر وهو يرى أن الشمس قد غربت فإذا هي لم تغرب أمسك بقية يومه قضاء لحق الوقت بالقدر الممكن، أو نفيا) ش: أي لأجل النفي م: (للتهمة) ش: فإنه إذا أكل ولا عذر به اتهمه الناس بالفسق والتحرز عن مواضع التهمة واجب بالحديث م: (وعليه القضاء) ش: خلافاً لابن أبي ليلى وعطاء والحسن ومجاهد وإسحاق بن راهويه وداود والمزني فإن عندهم لا يجب عليه القضاء، لأن صومه لا يفسد م: (لأنه) ش: أي لأن فوت الأداء م: (حق مضمون بالمثل) ش: شرعاً فإذا فوته قضاه م: (كما في المريض، والمسافر) ش: أي كما يقضي المريض والمسافر بقدر مرضه والمسافر بقدر قدومه مصره.
م: (ولا كفارة عليه، لأن الجناية قاصرة لعدم القصد) ش: خلافاً لبعضهم حيث أوجبوا الكفارة م: (وفيه) ش: أي مثل ما قلنا م: (قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما تجانفنا لإثم قضاء يوم علينا يسير) ش: وقال الأترازي في " شرحه ": هذا ما رواه أبو عبيد في كتاب " غريب الحديث "(4/101)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن أبي معاوية عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه أفطر في رمضان وهو يرى أن الشمس قد غربت ثم نظر فإذا الشمس طالعة فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا نقضيه، ما تجانفنا لإثم أي مايلنا إليه ولا تعديناه ونحن نعلمه وكل مائل فهو متجانف جنف، قال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} [البقرة: 182] أي ميلاً.
أما قوله: لا نقضيه فتأويله قال له قائل كأن الشمس طالعة وقد أثمنا فقال رداً عليه: لا أي ليس الأمر كما ظننت أي نقضي ما ليس مكان يوم ليس علينا غيره، ومثله قَوْله تَعَالَى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 1] (القيامة: الآية 1) ، فأراد من أنكره البعث ومثله قَوْله تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] وهذا الذي ذكرنا عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو الصحيح من الرواية عند الثقات، وما ورد في بعض نسخ الهداية " بعثناك داعياً لا راعياً " فقال: ليس بصحيح.
وقد أورد بعضهم في " شرح الهداية " أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين أفطر مع أصحابه يوماً صعد المؤذن المئذنة وقال: الشمس يا أمير المؤمنين قال: بعثناك داعياً لا راعياً للأذان وإعلام الناس ولا حافظاً للأحوال، ثم قال ما تجانفنا لإثم من الموضوعات فلا ملتفت إليه. إلى هنا كله كلام الأترازي وفيه نظر من وجوه:
الأول: تأويله في قوله لا نقضيه فيما أوله تكلف جداً، لأن ابن أبي شيبة روى في " مصنفه ": حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن ابن زيد بن وهب قال: خرج عباس من بيت حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وعلى السماء سحاب فنظر أن الشمس قد غابت فأفطروا ولم يلبثوا أن تجلى السحاب فإذا الشمس طالعة فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " ما تجانفنا من إثم ".
حدثنا علي بن شهر عن الشيباني عن خالد بن سحيم عن علي بن حنظلة عن أبيه قال: شهدت عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رمضان وقرب إليه شراب فشرب بعض القوم وهم يرون الشمس قد غربت ثم ارتقى المؤذن فقال: والله يا أمير المؤمنين إن الشمس طالعة لم تغرب فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من كان أفطر فليصم يوماً مكانه ومن لم يكن أفطر فليتم حتى تغرب الشمس وادعاه من طريق آخر فزاد فيه فقال له: إنما بعثناك داعياً ولم نبعث راعياً وقد اجتهدنا وقضاء يوم يسير انتهى.
وروى محمد بن الحسن في كتاب " الآثار " أخبرنا أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن حماد ابن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال: أفطر عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأصحابه في(4/102)
والمراد بالفجر الفجر الثاني، وقد بيناه في الصلاة. ثم التسحر مستحب لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تسحروا فإن في السحور بركة» والمستحب تأخيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يوم غيم ظنوا أن الشمس غابت قال: فطلعت الشمس فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما تعرضنا لجنف نتم هذا اليوم ثم نقضي يوماً مكانه.
الثاني: أن هذا الأثر الذي ذكره عن أبي عبيد هو بالإسناد الذي رواه ابن أبي شيبة والاختلاف في المتن والأخذ بالمتن الذي رواه ابن أبي شيبة أولى وأجدر من المتن الذي رواه أبو عبيد، على ما يخفى وإن كان أبو عبيد أيضاً إماماً كبيراً، ولكن ابن أبي شيبة من مشايخ البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه وأحمد بن حنبل وآخرين وكثيرين من الأئمة وأبو عبيد لم يرو له البخاري وذكره في كتاب " القراءة خلف الإمام " وحكى عنه أيضاً في كتاب " أفعال العباد ".
الثالث: أن قوله الذي ذكرنا عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هو الصحيح مجرد دعوى ولم يبرهن عليها، بل الصحيح الذي ذكره غيره وقوله أورده بعضهم في " شرح الهداية " أراد به السغناقي فإنه هو الذي ذكره في " النهاية " وتبعه الكاكي على ذلك ثم الأكمل.
الرابع: أن قوله بعثناك داعياً لا راعياً فذاك ليس بصحيح [....] يظهر لك ما ذكرنا عن ابن أبي شيبة.
الخامس: قوله في آخر كلامه من الموضوعات احتراز قوي حيث ينسب الأئمة المذكورين إلى الوضع وكأنه لم يطلع على " مصنف ابن أبي شيبة " وأوسع كلامه على عادته في غير تأمل ولا نظر كلام المصنف.
م: (والمراد بالفجر) ش: يعني في قوله أن الفجر لم يطلع م: (الفجر الثاني) ش: وهو الفجر الصادق وهو المعتبر في الصلاة والصوم لا الفجر الكاذب م: (وقد بيناه في الصلاة) ش: في باب المواقيت م: (ثم التسحر مستحب) ش: التسحر أكل السحور بفتح السين وهو ما يؤكل وقت السحر وأشار إلى استحبابه بقوله م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «تسحروا فإن في السحور بركة» ش: أي في أكل السحور بركة، وقيل: المراد من البركة زيادة القوة في أداء الصوم بدليل قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «استعينوا بقائلة النهار - أي بقيلولته - على قيام الليل. وبأكل السحور على صيام النهار» ، وجاز أن يكون بها نيل الثواب لاستنانه بسنن المرسلين وعلمه بما هو مخصوص بأهل الإسلام، فإنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «فرق ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكل السحور» .
م: (والمستحب تأخيره) ش: أي تأخير السحور فيكون مستحباً في مستحب لما أن نفس(4/103)
لقوله - عليه الصلاة السلام -: «ثلاث من أخلاق المرسلين: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، والسواك» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السحور وهو أكل السحور مستحب وتأخيره إلى آخر الليل مستحب أيضاً فيكون مستحباً أيضاً في مستحب م: (لقوله عليه الصلاة السلام) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «ثلاث من أخلاق المرسلين تعجيل الإفطار وتأخير السحور والسواك» ش: هذا الحديث أخرجه الطبراني في معجمه، حدثنا جعفر بن محمد بن حرب، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن علي بن أبي العالية، عن مورق العجلي، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث من أخلاق المرسلين تعجيل الفطر وتأخير السحور، والسواك، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة» ، وذكره ابن أبي شيبة في " مصنفه " موقوفاً.
والدارقطني رواه في الأفراد من حديث حذيفة مرفوعاً بنحو حديث أبي الدرداء قال الأترازي: روي عن الحسن البصري أنه قال: «ثلاث من أخلاق المرسلين تعجيل الإفطار وتأخير السحور ووضع اليمين على الشمال في الصلاة» .
ولم يتكلم أحد من الشراح في حال هذا الحديث غير أن كلاً منهم قال: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وهذا الأترازي نسبه إلى البصري وقال السغناقي بعد أن ذكر الحديث مجرداً وفي " المنافع " ذكر وضع اليمين على الشمال في الصلاة مكان السواك ولكن ما ذكر هنا موافق لما ذكر في " المبسوط ".
وروى البيهقي من رواية ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نعجل إفطارنا ونؤخر سحورنا ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة» .
ورواه أيضاً هكذا من رواية ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وفي رواية أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم قال: كلها ضعيفة.
1 -
فإن قلت: على تقدير صحته يدل على أن تأخير السحور واجب وإذا كان تأخيره واجباً يكون السحور أيضاً واجباً.
قلت: الحديث الذي في المتن يدل على أنه مستحب أو سنة والعمل بهذا الحديث، وفي " المحيط ": السحور مندوب إليه وفي " البدائع " سنة فإذا كان نفس السحور مستحباً أو سنة يكون تأخيره كذلك.(4/104)
إلا أنه إذا شك في الفجر، ومعناه تساوي الظنين الأفضل أن يدع الأكل تحرزا عن المحرم، ولا يجب عليه ذلك، ولو أكل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: ما حد تأخيره؟ قلت: آخر الليل وعن الليث هو سدسه الآخر، وقال ابن عباس وعطاء والأوزاعي يأكل حتى يبيض الفجر. وقال السروجي: وهو قول الجمهور وقال النووي: لو شك في طلوع الفجر جاز له الأكل والشرب والجماع حتى يتحقق الفجر قال: ولم يقل أحد بتحريمه إلا مالك فإنه حرمه، وأوجب عليه القضاء، وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤذنان بلال وابن أم مكتوم، قال: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا» . رواه البخاري، ومسلم.
وعن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «تسحرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قمنا إلى الصلاة. قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال خمسين آية» . رواه البخاري ومسلم.
1 -
فإن قيل: ما وجه تأخير السحور من أخلاق المرسلين وهو مخصوص بأهل الإسلام، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب بأكل السحور.
أجيب بجوابين آخرين أيضاً:
أحدهما: أن يقال: لا نسلم أنه لم يكن من علتهم لجواز أن يكون ونحن لا نعلم والآخر أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: ثلاث من سنن المرسلين أي ثلاث خصال لهم فلا يلزم منه أن يكون لكل واحد منهم ثلاث خصال لجواز أن يكون كل واحد منهم مخصوصاً بخصلة كما يقال للعلماء خصال حميدة في البحث، والمناظرة، والتصنيف، فلا يلزم أن تكون الكل مجتمعة في واحد ورأيت حاشية نسبت إلى شيخنا علاء الدين السيراجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهي أنه قال: الأشبه في الجواب أن يقال اللام في المرسلين للجنس إذ لا عهد فيكون من أخلاق نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن الجنس يصدق على الواحد أو يكون ذلك من خواصهم والله أعلم.
م: (إلا أنه إذ شك في الفجر) ش: فحينئذ ترك التسحر هو المستحب للاحتراز عن الوقوع في الحرام، ومع هذا لا يجب عليه ذلك كما يجيء الآن م: (ومعناه) ش: أي معنى الشك م: (تساوي الظنين الأفضل أن يدع الأكل تحرزا عن المحرم) ش:. قيل: هذه العبارة فيها مسامحة لأن الظن رجحان الاعتقاد فكيف يكون بقاء الليل عنده راجحاً على طلوع الفجر، وطلوع الفجر راجحاً على بقاء الليل والظن هو راجح، والمرجوح وهم، وإذ يساويان، ومراده بذلك تساوي الأمارتين، فالأفضل أن يدع الأكل، والشرب. م: (ولا يجب عليه ذلك) ش: أي ترك السحور وروى الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجب عليه ذلك احتياطاً في أمر الدين م: (ولو أكل(4/105)
فصومه تام، لأن الأصل هو الليل. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا كان في موضع لا يستبين الفجر، أو كانت الليلة مقمرة، أو متغيمة، أو كان ببصره علة، وهو يشك لا يأكل، ولو أكل فقد أساء؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وإن كان أكبر رأيه أنه أكل، والفجر طالع، فعليه قضاؤه عملا بغالب الرأي، وفيه الاحتياط، وعلى ظاهر الرواية لا قضاء عليه؛ لأن اليقين لا يزال إلا بمثله، ولو ظهر أن الفجر طالع لا كفارة عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فصومه تام لأن الأصل هو الليل) ش: أي في رواية عن مالك يبطل صومه في الفرض إذا استبان الفجر قد طلع. م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا كان في وضع لا يستبين الفجر، أو كانت الليلة مقمرة، أو متغيمة، أو كان ببصره علة، وهو يشك لا يأكل، ولو أكل فقد أساء) ش: رواه الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ش: قال السغناقي وتبعه الكاكي وعليه «فإن الكذب ريبة وإن الصدق طمأنينة» ولم يذكر من رواه من الصحابة ولا من خرجه من الأئمة، وأما الأترازي، والأكمل فإنهما لم يذكراه أصلاً وليس هذا من دأب الشراح وليس ذلك إلا من العجز.
قلت: هذا الحديث رواه الترمذي في كتاب الطب، والنسائي في كتاب الأشربة، عن أبي الجون السعدي، قال: قلت للحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ما حفظت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حفظت منه «دع ما يريبك إلا ما لا يريبك زاد الترمذي: فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة» وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ورواه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه "، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ورواه الطبراني في الصغير بإسناده إلى عبد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحلال بين والحرام بين، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك» . انتهى قوله ما يريبك من رابه ريباً شككه، والريبة الشك والتهمة أي دع ما يشكك ويحصل فيك الريبة وهي في الأصل قلق النفس [......] سكنت واطمأنت.
م: (وإن كان أكبر رأيه أنه أكل والفجر) ش: أي والحال أن الفجر م: (طالع، فعليه قضاؤه) ش: أي قضاء ذلك اليوم م: (عملا بغالب الرأي، وفيه الاحتياط) ش: لأن قضاء ما ليس عليه أولى من قضاء ما عليه. م: (وعلى ظاهر الرواية لا قضاء عليه) ش: وفي " الإيضاح ": هو الصحيح.
م: (لأن اليقين لا يزال إلا بمثله) ش: لأن الليل هو الأصل فلا ينقل عنه إلا بيقين، وكذا روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وجعل هذا في الكتاب ظاهر الرواية م: (ولو ظهر أن الفجر طالع لا كفارة عليه) ش: أي لو ظهر طلوع الفجر فيما إذا أكل وفي أكبر رأيه أن الفجر طالع(4/106)
لأنه بنى الأمر على الأصل فلا تتحقق العمدية.
ولو شك في غروب الشمس لا يحل له الفطر؛ لأن الأصل هو النهار، ولو أكل فعليه القضاء عملا بالأصل، وإن كان أكبر رأيه أنه أكل قبل الغروب فعليه القضاء رواية واحدة؛ لأن النهار هو الأصل، ولو كان شاكا فيه وتبين أنها لم تغرب، ينبغي أن تجب الكفارة؛ نظرا إلى ما هو الأصل وهو النهار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا تجب عليه الكفارة م: (لأنه بنى الأمر على الأصل) ش: لأن الليل هو الأصل.
م: (فلا تتحقق العمدية) ش: أي لا يتحقق القصد على الإفطار في رمضان بظهور طلوع الفجر، فلا تجب الكفارة، وفي بعض النسخ: العمدية بفتح العين، وسكون الميم، وكسر الدال، وتشديد الياء، والأصح العمدية بضم الدال، وبه الجار والمجرور.
م: (ولو شك في غروب الشمس لا يحل له الفطر؛ لأن الأصل هو النهار، ولو أكل فعليه القضاء عملا بالأصل) ش: وهو النهار م: (وإن كان أكبر رأيه أنه أكل قبل الغروب فعليه القضاء رواية واحدة) ش: إنما قيد بقوله رواية واحدة احترازاً عما إذا كان أكل وفي أكبر رأيه أن الفجر طالع لأن في وجوب القضاء روايتين ولم يتعرض المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -[إلى] وجوب الكفارة في هذا فقال صاحب " التحفة " ليس عليه الكفارة لاحتمال قيام الغروب فتكفي شبهة خلافاً لما قال بعض الفقهاء أنه تجب عليه الكفارة لأنه متيقن بالنهار.
م: (لأن النهار هو الأصل) ش: فيجب عليه القضاء م: (ولو كان شاكاً فيه) ش: أي في غروب الشمس م: (وتبين أنها لم تغرب) ش: أي ظهر أن الشمس لم تغرب م: (ينبغي أن تجب الكفارة) ش: إنما قال: ينبغي؛ لأن في وجوب الكفارة اختلاف المشايخ.
وفي " الخلاصة ": يلزمه القضاء بالاتفاق، وفي وجوب الكفارة اختلاف، في جامع شمس الأئمة تلزمه الكفارة وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يكفر.
م: (نظرا إلى ما هو الأصل هو النهار) ش: يعني بالنظر إلى ما هو الأصل وبالاعتبارية. وفي " النهاية ": يشكل على هذا ما إذا شهد اثنان أن الشمس قد غابت وشهد آخران أنها لم تغب فأفطر، ثم ظهر أنها لم تغب عليه القضاء دون الكفارة بالاتفاق، مع أن تعارض الشهادتين يورث الشك لا محالة فلا تجب الكفارة هناك بالاتفاق مع أن الشك فيه موجود فكيف وجبت هنا بالشك، والجواب: أنه لم يثبت التعارض لأن الشهادة بعدم الغروب ليست بشهادة لكونها على النفي فبقيت الشهادة بالغروب خالية عن المعارضة فتقبل فلم تجب الكفارة.
وفي " المحيط " أمر إنساناً ليطالع الفجر فأخبره بالطلوع فإن كان عدلا ًلا يجوز له الأكل حراً كان أو مملوكاً، ذكراً كان أو أنثى، وإن كان صبياً عاقلاً إن غلب على ظنه لا يأكل ولو أخبره عدل بالطلوع وعدل بعدمه حرية كانا أو عبدين أو أحدهما يتحرى ويأخذ بقول عدلين(4/107)
ومن أكل في رمضان ناسيا، وظن أن ذلك يفطره فأكل بعد ذلك متعمدا عليه القضاء دون الكفارة؛ لأن الاشتباه استند إلى القياس الشبهة، وإن بلغه الحديث وعلمه فكذلك فيظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها تجب، وكذا عنهما؛ لأنه لا اشتباه فلا شبهة. وجه الأول: قيام الشبهة الحكمية بالنظر إلى القياس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إذا عارضه الحران العدلان والعبدان يأخذ بقولين العدلين وإن كان يأكل فأخبره عدل واحد بالطلوع فأتم الأكل، وكذا في الجماع لا كفارة عليه عندنا خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ولو كان ممسكاً فأكل بعده أو استدام الجماع كفر بالإجماع، وقال شمس الأئمة: لا بأس بالتسحر باكراً لرأي إذا لم يخف على مثله وإلا فيدع الأكل والتسحر بضرب طول المسحر إن كان من جوانب البلد، أو أحد يعتمد عدالته يجوز وإن عرف فسقه لا يعتمد عليه، وإن لم يعرف حاله يحتاط واختلف في صياح الديك.
م: (ومن أكل في رمضان) ش: حال كونه م: (ناسيا، وظن أن ذلك يفطره) ش: أي والحال أنه قد ظن أن الأكل ناسياً يفطره بضم الياء وتشديد الطاء م: (فأكل بعد ذلك متعمدا) ش: أي حال كونه قاصداً الأكل م: (فعليه القضاء دون الكفارة؛ لأن الاشتباه استند إلى القياس) ش: والقياس الصحيح يقتضي أن لا يبقى الصوم بانتفاء ركنه بالأكل ناسياً، فإذا أكل بعده لم يلاق فعله الصوم فلا تجب عليه الكفارة لتحقق الشبهة وهو معنى قوله م: (الشبهة) ش: لاستنادها إلى القياس.
م: (وإن بلغه الحديث) ش: وهو ما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نسي أحدكم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» م: (وعلمه) ش: أي وعلم معنى الحديث وهو أنه لا يفسده.
م: (فكذلك) ش: في رواية، أي فكذلك لا تجب عليه الكفارة في رواية عن أبي حنيفة، وهي رواية الحسن عنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في ظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها) ش: أي الكفارة م: (تجب، وكذا عنهما) ش: وكذا روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد أن الكفارة تجب م: (لأنه لا اشتباه) ش: أي في معنى الحديث لأنه لما علم معنى الحديث علم أن القياس متروك به فلم يشتبه عليه الحال م: (فلا شبهة) ش: أي لا يبقى شبهة، وبين الشبهة المؤثرة في إسقاط الكفارة، لأن ظنه مدفوع بالحديث.
م: (وجه الأول) ش: أي وجه المذكور الأول وهو عدم وجوب الكفارة م: (قيام الشبهة الحكمية بالنظر إلى القياس) ش: أي الشرعية وهي شبهة المحل وهو الصوم لأن الشيء لا يبقى مع فوات ركنه، فتساوى في هذا الأصل العالم وغير العالم، فلا تجب الكفارة خصوصاً إذا تأيدت تلك الشبهة باختلاف العلماء، فإن عند مالك وربيعة الرأي وابن أبي ليلى يفسد صومه(4/108)
فلا ينتفي بالعلم كوطء الأب جارية ابنه، ولو احتجم وظن أن ذلك يفطره ثم أكل متعمدا، عليه القضاء والكفارة؛ لأن الظن ما استند إلى دليل شرعي إلا إذا أفتاه فقيه بالفساد؛ لأن الفتوى دليل شرعي في حقه، ولو بلغه الحديث فاعتمده، فكذلك عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالأكل ناسياً، وهو اختيار محمد بن مقاتل الرازي من أصحابنا، واختلاف العلماء يورث الشبهة.
وقال المحبوبي: لا تلزمه الكفارة وإن كان عالماً لأن الشبهة تمكنت في المحل باعتبار انعدام ركن الصوم حقيقة، وفي مثل هذه الشبهة العالم يساوي الجاهل كالأب إذا وطئ جارية ابنه لا يلزمه الحد سواء علم حرمتها أو ظن أنها تحل له وهو معنى قوله:
م: (فلا ينتفي بالعلم كوطء الأب جارية ابنه) ش: يجوز فيما لا ينتفي التذكير باعتبار عود الضمير الذي فيه إلى القياس، ويجوز التأنيث باعتبار عوده إلى الشبهة والتحقيق في سقوط الحد عن الأب في الصورة المذكورة أن قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أنت ومالك لأبيك» يقتضي أن يكون مال الابن ملكاً للأب، لكن انتفى ذلك بدليل آخر فبقيت الإضافة مورثة للشبهة وهي شبهة المحل، فاستوى فيها العلم وعدمه فلم يجب الحد لاستناد الشبهة إلى الأصل.
م: (ولو احتجم وظن أن ذلك) ش: أي الاحتجام م: (يفطره ثم أكل متعمدا) ش: أي قصداً م: (عليه القضاء والكفارة لأن الظن ما استند إلى دليل شرعي) ش: أي لأن ظن المحتجم ما استند إلى دليل شرعي حتى تسقط عنه الكفارة، فإن الحجامة كالفصد في خروج الدم من العرق والفصد لا يفسد وكذا الحجامة وقد صح في البخاري أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم فدل هذا على أن الحجامة لا تفطر الصائم.
م: (إلا إذا أفتاه فقيه بالفساد) ش: استثناء من قوله والكفارة يعني لا تجب الكفارة على المحتجم إذا أكل بعدما أفتاه فقيه بفساد صومه بالحجامة. وقال الكاكي: فقيه من الحنابلة لأن عندهم يفطر الحاجم والمحجوم لظاهر قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أفطر الحاجم والمحجوم» .
وقال المحبوبي: يشترط أن يكون المفتي ممن تؤخذ عنه الفتوى ويعتمد على فتواه في البلدة، ولا يعتبر بغيره، هكذا روى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن رستم عن محمد وبشر بن الوليد عن أبي يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (لأن الفتوى دليل شرعي في حقه) ش: لأن العامي يلزمه الرجوع إلى فتوى الفقيه وقد أفتاه بما اختلف الفقهاء فيه فصار ذلك عذراً في الشبهة م: (ولو بلغه الحديث) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفطر الحاجم والمحجوم» م: (فاعتمده) ش: أي الحديث م: (فكذلك عند محمد) ش: أي لا تجب الكفارة م: (لأن قول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: [بيان] م: (لا ينزل عن قول المفتي) ش: بيان هذا أن قول(4/109)
لأن قول الرسول- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لا ينزل عن قول المفتي، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلاف ذلك لأن على العامي الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة الأحاديث.
وإن عرف تأويله تجب الكفارة؛ لانتفاء الشبهة، وقول الأوزاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يورث الشبهة، لمخالفته القياس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المفتي بالفطر بالحجامة يكون عذراً في سقوط الكفارة، فقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي هو فرق كل قول أولى بأن يكون عذراً في عدم وجوب الكفارة.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلاف ذلك) ش: أي خلاف المذكور عن محمد، وهو ما روى ابن سماعة وبشر عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا أفطر المحتجم. الحديث عليه القضاء والكفارة م: (لأن على العامي الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة الأحاديث) ش: يعني العامي إذا سمع حديثاً ليس له أن يأخذ بظاهره، لأنه لا يهتدي إلى معرفة أحواله، لأنه قد يكون منسوخاً أو متروكاً أو مصروفاً عن ظاهره.
م: (وإن عرف تأويله) ش: أي تأويل الحديث م: (تجب الكفارة لانتفاء الشبة) ش: حاصل المعنى أن العامي إذا بلغه الحديث وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفطر الحاجم والمحجوم» وعرف تأويله ولم يعتمده فأكل بعد ذلك عمداً تجب الكفارة لعدم الشبهة، وتأويله بما ذكر الطحاوي في " شرح الآثار " بإسناده إلى أبي الأشعث الصنعاني، قال: إنما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفطر الحاجم والمحجوم» لأنهما كانا يغتابان حتى حبط أجرهما بالغيبة فصارا كالمفطرين لا أنهما أفطرا حقيقة، والمحجوم هو معقل بن سنان، قيل: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر به وجماعة معه وهما يغتابان آخر، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفطر الحاجم والمحجوم» [أي فطره بما صنع به فوقع عند الراوي أنه قال: أفطر الحاجم المحجوم] بغير الواو على أن المحجوم مفعول فاعتمده، وهذه رواية، والرواية المشهورة بالواو على أن المحجوم عطف على الحاجم.
م: (وقول الأوزاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يورث الشبهة، لمخالفته القياس) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر بأن يقال: لا نسلم أن منشأ الشبهة ذلك وحده، بل قول الأوزاعي بذلك منشأ لها أيضاً، وقوله: إن الحجامة تفطر الصائم، وبه قال أحمد أيضاً، فأجاب بأن قول الأوزاعي لا يورث الشبهة في سقوط الكفارة لمخالفته القياس، فإن الفطر مما يدخل لا مما يخرج، لا يقال في عبارته تناقض، لأنه قال: إلا إذا أفتاه فقيه، وفتواه لا يكون إلا بقوله ثم قال، وقال الأوزاعي: لا يورث الشبهة، [وأيضاً في هذا الباب لا يكون إلا مخالفاً للقياس، فكيف تكون شبهة] من غير الأوزاعي دونه، لأنا نقول ذلك بالنسبة إلى العامي، وهذا بالنسبة إلى من عرف التأويل.
واسم الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من الأوزاع وهم بطن من همدان، وقال الواقدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كان يسكن بيروت وأهله باليمامة ومات ببيروت سنة(4/110)
ولو أكل بعد ما اغتاب متعمدا فعليه القضاء والكفارة كيفما كان؛ لأن الفطر يخالف القياس، والحديث مؤول بالإجماع وإذا جومعت النائمة، أو المجنونة وهي صائمة عليها القضاء دون الكفارة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سبع وخمسين ومائة وهو يومئذ ابن اثنين وسبعين سنة.
م: (ولو أكل بعد ما اغتاب متعمدا فعليه القضاء والكفارة كيفما كان) ش: يعني سواء ظن أن الغيبة فطرته أو استفتى فقيهاً فأفتاه بفساد صومه بالغيبة أو تأول الحديث بأنها تفطره فأكل بعد ذلك عمداً يجب عليه القضاء والكفارة.
م: (لأن الفطر) ش: يعني بالغيبة م: (يخالف القياس) ش: لأن القياس يأبى ذلك م: (والحديث) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الغيبة تفطر الصائم» كذا قاله الأترازي، وقال الكاكي: هو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ثلاث يفطرن الصائم وتنقض الوضوء ويهدمن العقل، الغيبة والنميمة والنظر إلى محاسن المرأة " ولنبين الآن حال هذين الحديثين م: (مؤول بالإجماع) ش: تأويله بأن المراد به ذهاب الثواب، فلم يوجد الدليل النافي للحرمة في ذاته فلا يكون شبهة، بخلاف حديث الحجامة، فإن بعض العلماء أخذ بظاهره من غير تأويل.
وذكر شيخنا زين الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الترمذي " قد اختلف العلماء في الحجامة والفصد للصائم، فذهب من الصحابة أبو موسى الأشعري وعلي بن أبي طالب، ومن العلماء عطاء والأوزاعي وابن المبارك وأحمد وإسحاق وعبد الرحمن بن مهدي وابن المنذر وابن خزيمة من الشافعية وداود الظاهري إلى أنه تفطر الصائم.
قلت: وردت أحاديث في كون الغيبة مفطرة للصائم كلها مدخولة، فإن الحديث الأول أخرجه إسحاق بن راهويه في " مسنده " من حديث يزيد بن أبان الرقاشي عن أنس بن مالك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اغتاب الصائم فقد أفطر» " والحديث الثاني رواه ابن الجوزي عن أنس أيضاً مرفوعاً، ولفظه: «خمس يفطرن الصائم وينقضن الوضوء الكذب والنميمة والغيبة والنظر بشهوة واليمين الكاذبة» ، ثم قال: هذا حديث موضوع.
م: (وإذا جومعت النائمة، أو المجنونة وهي صائمة عليها القضاء دون الكفارة) ش: أما صوم النائمة فظاهر، وأما صوم المجنونة فقد تكلموا في صحته، لأنها لا تجامع المجنون. وحكي عن أبي سليمان الجوزجاني أنه قال: لما قرأت هذه المسألة على محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قلت: كيف تكون المجنونة صائمة، فقال لي: دع هذه، فإنها انتشرت في الآفاق. ومن المشايخ من قال: كأنه كانت في الأصل مجبورة فظن الكاتب أنها مجنونة ولهذا قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دع.(4/111)
وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: لا قضاء عليهما اعتبارا بالناسي، والعذر هنا أبلغ لعدم القصد. ولنا أن النسيان يغلب وجوده، وهذا نادر، ولا تجب الكفارة لانعدام الجناية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأكثر المشايخ: قالوا: تأويله أن العاقلة نوت الصوم ثم جنت في بعض النهار ونامت ثم جامعها ثم أفاقت بعد ذلك واستيقظت وعلمت بفعل الزوج فعليها القضاء والكفارة، كذا في " جامع الأسبيجابي والمحبوبي "، وفي " الفوائد الظهيرية " عن يحيى بن أبان أنه قال: قلت لمحمد هذه مجنونة فقال: لا بل مجبورة، أي المكرهة، فقلت: إلا تجعلها مجبورة، فقال: بلى ثم قال: وكيف وقد سارت بها الركبان؟ دعوها، وبقولنا قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال أحمد: لو جومعت المجبورة يبطل صومه وتجب الكفارة، ولو أكره بالأكل لا يبطل صومه.
م: (وقال زفر والشافعي لا قضاء عليهما) ش: أي على النائمة والمجنونة المذكورتين م: (اعتبارا بالناسي) ش: أي يعتبران اعتبار الناسي م: (والعذر هنا أبلغ) ش: أي العذر في النوم والجنون أبلغ من العذر في النسيان، لأن الناسي قاصد للأكل والنائمة والمجنونة لا قصد منهما أصلاً وهو معنى قوله: م: (لعدم القصد) ش: فيهما لأن الجماع في قصد الناسي بغفلة بخلاف النائمة والمجنونة.
م: (ولنا أن النسيان يغلب وجوده) ش: فيفضي إلى الحرج ولا يصح الجماع بالناسي م: (وهذا) ش: أي جماع النائمة والمجنونة م: (نادر) ش: فالقضاء لا يفضي إلى الحرج م: (ولا تجب الكفارة لانعدام الجناية) ش: لعدم القصد، وبقول زفر والشافعي - رحمهما الله - قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وأبو ثور، وعلى هذا الخلاف إذا صب الماء [في] حلق الصائم.(4/112)
فصل فيما يوجبه على نفسه وإذا قال: لله علي صوم يوم النحر أفطر، وقضى، فهذا النذر صحيح عندنا خلافا لزفر والشافعي - رحمهما الله - هما يقولان: إنه نذر بما هو معصية؛ لورود النهي عن صوم هذه الأيام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل فيما يوجبه على نفسه من الصيام] [حكم نذر صيام يوم النحر]
م: (فصل فيما يوجبه على نفسه) ش: أي هذا فصل في بيان حكم ما يوجبه الشخص على نفسه، ولما فرغ من بيان ما يوجبه الله تعالى شرع في بيان ما يوجبه العباد على أنفسهم، إذ إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، وفي " النهاية " و " الأصل " ما ذكره شيخي أن النذر لا يصح إلا بثلاث شرائط في الأصل إلا إذا قام الدليل على خلافه، أحدها: أن يكون الواجب من جنس ما أوجبه الله تعالى. والثاني: أن يكون مقصوداً لا وسيلة، والثالث: أن لا يكون واجبا عليه في الحال أو بيان الحال، فلذلك لا يصح النذر بعيادة المريض لانعدام الشرط الأول، ولا بالضوء وسجدة التلاوة لانعدام الشرط الثاني، ولا بصلاة الظهر وغيرها من المفروضات لانعدام الشرط الثالث.
فإن قلت: يشكل على هذا النذر بالحج ماشياً. والاعتكاف وإعتاق الرقبة حيث تجب هذه الأشياء بالنذر، مع أن الحج بصفة المشي غير واجب شرعاً، وكذلك نفس الاعتكاف من غير مباشرة بسبب يوجب الاعتكاف غير واجب وكذلك الإعتاق.
قلت: هذه الصور من المستثنى الذي قام الدليل على وجوبه، بخلاف القياس.
م: (وإذا قال: لله علي صوم يوم النحر أفطر) ش: لأن الصوم فيه منهي عنه م: (وقضى) ش: لأن مشروعية الصوم لا تفصل بين صوم وصوم، فالصوم في ذاته عبادة، لأن فيه إظهار الخضوع لله عز وجل وتعظيمه، ولكن تعلق بصوم هذا اليوم نهي يجب امتثاله م: (فهذا النذر صحيح عندنا) ش: لكونه نذراً بما هو مشروع فيجب القضاء صيانة له م: (خلافا لزفر والشافعي - رحمهما الله -) ش: ومالك وأحمد وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية ابن المبارك عنه، وقال مالك لو نذر صوم يوم قدوم فلان، فقدم يوم العيد، قال ابن عبد الملك يقضيه وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرة.
م: (هما) ش: أي زفر والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - م: (يقولان إنه نذر) ش: أي هذا نذر م: (بما هو معصية لورود النهي عن صوم هذه الأيام) ش: وهو يوم العيدين وأيام التشريق، وأشار بهذا إلى حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه البخاري ومسلم «عن عبيد قال: شهدت العيد مع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام هذين اليومين، وأما يوم الأضحى فتأكلون من لحم نسككم، وأما يوم الفطر ففطركم من صيامكم» .(4/113)
ولنا: أنه نذر بصوم مشروع، والنهي لغيره؛ وهو ترك إجابة دعوة الله تعالى فيصح نذره، لكنه يفطر احترازا عن المعصية المجاورة، ثم يقضي إسقاطا للواجب، وإن صام فيه يخرج عن العهدة؛ لأنه أداه كما التزمه. وإن نوى يمينا فعليه كفارة يمين، يعني إذا أفطر. وهذه المسألة على وجوه ستة: إن لم ينو شيئا. أو نوى النذر لا غير. أو نوى النذر ونوى أن لا يكون يمينا يكون نذرا؛ لأنه نذر بصيغته، كيف وقد قرره بعزيمته. وإن نوى اليمين، ونوى أن لا يكون نذرا يكون يمينا؛ لأن اليمين محتمل كلامه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا: أنه نذر بصوم مشروع) ش: بالنظر إلى نفس الصوم، ولكن اقترن به النهي م: (والنهي لغيره) ش: أي لمعنى في غيره م: (وهو ترك إجابة دعوة الله تعالى) ش: لأن الناس أضياف الله تعالى في هذه الأيام م: (فيصح نذره) ش: لأن النهي لغيره لا يمنع صحة من حيث ذاته م: (لكنه يفطر احترازا عن المعصية المجاورة) ش: وهي النهي المذكور م: (ثم يقضي إسقاطا للواجب) ش: أي لأجل إسقاط الواجب وهو النذر.
م: (وإن صام فيه) ش: أي في يوم النحر م: (يخرج عن العهدة) ش: أي عهدة النذر م: (لأنه أداه كما التزمه) ش: كما أنه إذا نذر أن يصلي عند طلوع الشمس فله أن يصلي في وقت آخر، فإذا صلى في ذلك الوقت خرج عن عهدته لأنه أداه كما التزمه.
م: (وإن نوى يميناً) ش: يعني إن نوى يميناً في قوله لله علي صوم يوم النحر م: (فعليه كفارة يمين يعني إذا أفطر) ش: الفرق بين النذر واليمين أن في النذر يلزمه القضاء دون الكفارة، وفي اليمين تجب الكفارة دون القضاء م: (وهذه المسألة على وجوه ستة) ش:
الأول: هو قوله م: (إن لم ينو شيئا) ش: يعني قال لله علي صوم يوم النحر ولم ينو لا نذراً ولا يميناً.
م: (أو نوى النذر لا غير) ش: يعني لم ينو اليمين، هذا هو الثاني من الوجوه الستة.
م: (أو نوى النذر ونوى أن لا يكون يمينا) ش: هذا هو الثالث م: (يكون نذرا) ش: يعني في هذه الوجوه الثلاثة م: (لأنه نذر بصيغته) ش: فتعين النذر في الوجه الأول بلا نية لكونه حقيقة كلام. وفي الوجه الثاني تعين بطريق الأولى، لأنه قد أدى النذر بعزيمة. وفي الثالث أولى وأحرى لكونه مراداً، لأنه قدر النذر بعزيمته، وبقي غيره أن يكون مراداً م: (كيف وقد قرره بعزيمته) ش: أي وكيف لا يكون نذراً والحال أنه قد قرر كلامه بعزيمته أي بنيته.
[م: (وإن نوى اليمين، ونوى أن لا يكون نذرا يكون يمينا) ش: هذا هو] م: (لأن اليمين محتمل كلامه) ش: لأن اللام تجيء بمعنى الباء كقوله تعالى: {آمنتم له} [طه: 71] أي به، ألا ترى إلى قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - دخل آدم الجنة، فلله ما غربت الشمس حتى خرج أي(4/114)
وقد عينه، ونفى غيره. وإن نواهما يكون نذرا ويمينا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكون نذرا. ولو نوى اليمين فكذلك عندهما، وعنده يكون يمينا. لأبي يوسف أن النذر فيه حقيقة، واليمين مجاز حتى لا يتوقف الأول على النية، ويتوقف الثاني فلا ينتظمهما، ثم المجاز يتعين بنيته، وعند نيتهما تترجح الحقيقة، ولهما أنه لا تنافي بين الجهتين؛ لأنهما يقتضيان الوجوب إلا أن النذر يقتضيه لعينه واليمين لغيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فبالله
م: (وقد عينه) ش: أي وقد عين المحتمل بنيته ونفى غيره فصار المحتمل هو المراد م: (ونفى غيره) ش: فلم يلزمه حيث نفاه.
م: (وإن نواهما) ش: هذا هو الوجه الخامس، أي وإن نوى النذر واليمين م: (يكون نذرا ويمينا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -) ش: حتى لو لم يصم يجب القضاء والكفارة، القضاء باعتبار النذر، والكفارة باعتبار اليمين م: (وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكون نذرا) ش: كما يجيء دليله فيه.
م: (ولو نوى اليمين) ش: هو الوجه السادس، أي ولو نوى اليمين فقط في المسألة المذكورة م: (فكذلك) ش: أي فكذلك يكون نذراً ويميناً كما في الوجه الخامس م: (عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -.
م: (وعنده) ش: أي وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يكون يمينا. لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن النذر فيه) ش: أي في قوله " لله علي صوم يوم النحر " يراد به م: (حقيقة) ش: لعدم توقفه على النية م: (واليمين) ش: أي وأراد اليمين م: (مجاز حتى لا يتوقف الأول) ش: أي النذر م: (على النية، ويتوقف الثاني) ش: أي اليمين م: (على النية فلا ينتظمها) ش: أي فلا ينتظم كلامه النذر واليمين معاً، لأنه يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز بلفظ واحد وهو لا يجوز، وذلك كما في قوله لامرأته أنت علي حرام، إن ونوى به الطلاق كان طلاقاً، وإن نوى به اليمين كان يميناً فلا يجتمعان.
م: (ثم المجاز يتعين بنيته) ش: أراد أنه إذا أراد المجاز بتعيين بنيته وتبطل الحقيقة حينئذ لامتناع الجمع بينهما م: (وعند نيتهما) ش: أي وعند نية النذر واليمين معاً م: (تترجح الحقيقة) ش: وهذا النذر فلا يكون المجاز مراداً، فإذا نوى اليمين تعين المجاز بنيته فلا تكون الحقيقة مراده.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (أنه لا تنافي بين الجهتين) ش: أي بين جهة النذر وجهة اليمين م: (لأنهما) ش: أي لأن الجهتين م: (يقتضيان الوجوب) ش: أراد أن كلاً منهما يقتضي الوجوب في ذاته، لكن يختلف من حيث الجهة أشار إليه بقوله: م: (إلا أن النذر يقتضيه) ش: أي يقتضي الوجوب م: (لعينه) ش: ولهذا يجب القضاء بتركه م: (واليمين لغيره) ش: أي يقتضي اليمين الوجوب لغيره وهو صيانة اسم الله عز وجل عن الهتك، ولهذا لا يجب القضاء بل تجب الكفارة، ويجوز أن يكون الشيء واجباً لعينه وواجباً لغيره، كما إذا حلف(4/115)
فجمعنا بينهما عملا بالدليلين، كما جمعنا بين جهتي التبرع والمعاوضة في الهبة بشرط العوض. ولو قال: لله علي صوم هذه السنة أفطر يوم الفطر، ويوم النحر، وأيام التشريق وقضاها؛ لأن النذر بالسنة المعينة نذر بهذه الأيام، وكذا إذا لم يعين لكنه شرط التتابع؛ لأن المتابعة لا تعرى عنها لكن يقضيها في هذا الفصل موصولا تحقيقا للتتابع بقدر الإمكان،
ويتأتى في هذا خلاف زفر، والشافعي - رحمهما الله - للنهي عن الصوم فيها، وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ألا لا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأصلين ظهر هذا اليوم في الوقت فيجب أداء الظهر لعينه ولغيره، حتى يجب القضاء باعتبار وجوب عينه. والكفارة باعتبار وجوب غيره، ولا يسمى هذا مجازاً، ولكل واحد من هذا دليل شرعي يجب العمل به إذا أمكن، والعمل هنا يمكن لعدم التنافي بينهما.
م: (فجمعنا بينهما) ش: أي بين النذر واليمين م: (عملا بالدليلين) ش: اللذين نشأ أحدهما من النذر والآخر من اليمين، يعني نشأ من جهتهما م: (كما جمعنا بين جهتي التبرع والمعاوضة في الهبة بشرط العوض) ش: حيث جعل هبة في الابتداء للفظ الهبة وبيعاً في الانتهاء لدلالة المعاوضة ولهذا يصح الرجوع قبل القبض اعتبارا ًللتبرع وثبتت الشفعة بعد القبض اعتباراً بالبيع، فلم يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز لاختلاف الجهة، فكذا فيما نحن فيه.
م: (ولو قال: لله علي صوم هذه السنة أفطر يوم الفطر، ويوم النحر، وأيام التشريق) ش: وهي ثلاثة أيام بعد عيد النحر م: (وقضاها) ش: أي الأيام الخمسة م: (لأن النذر بالسنة المعينة نذر بهذه الأيام) ش: أي لأن السنة لا تخلو عن هذه الأيام، وصار نذراً لسنة معينة نذراً لهذه الأيام، والنذر بالأيام المنهية صحيح عندنا، لأن النهي لا يعدم المشروعية ولم يجب قضاء رمضان، لأن صومه لم يجب بهذا النذر.
م: (وكذا) ش: أي وكذا يفطر الأيام الخمسة وقضاها م: (إذا لم يعين) ش: السنة يعني لم يقل هذه السنة، بل قال لله علي صوم سنة م: (لكنه شرط) ش: أي لكن الناذر شرط م: (التتابع) ش: بأن قال: صوم سنة متتابعة م: (لأن المتابعة لا تعرى عنها) ش: أي عن الأيام الخمسة المذكورة م: (لكن يقضيها) ش: أي لكن يقضي هذه السنة المذكورة م: (في هذا الفصل موصولاً) ش: أي قضاء موصولاً بانتصابه على أنه صفة لمصدر محذوف م: (تحقيقا للتتابع بقدر الإمكان) ش: أي لأجل تحقيق التتابع، وإن لم يشترط التتابع لم يجزه صوم هذه الأيام ويقضي خمسة وثلاثين يوماً، خمسة للأيام الخمسة، وثلاثين لرمضان، ومبنى جواز هذه الأيام وعدم جوازه إنما وجب كاملاً لا يتأدى ناقصاً وما وجب ناقصاً جاز أن يتأدى ناقصاً.
م: (ويتأتى) ش: [ويتأدى] م: (في هذا) ش: أي في قضاء صوم هذه الأيام م: (خلاف زفر، والشافعي - رحمهما الله -) ش: يعني لا تقضى عندهما م: (للنهي عن الصوم فيها، وهو) ش: أي النهي هو م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «ألا لا تصوموا في هذه الأيام(4/116)
تصوموا في هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب، وبعال» وقد بينا الوجه فيه، والعذر عنه ولو لم يشترط التتابع لم يجزه صوم هذه الأيام؛ لأن الأصل فيما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإنها أيام أكل وشرب وبعال» ش: هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رواه الطبراني في " معجمه " عن عكرمة عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أرسل أيام منى صائحاً يصيح: ألا لا تصوموا هذه الأيام، فإنها أيام أكل وشرب وبعال» والبعال وقاع النساء.
وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه الدارقطني في " سننه " في الضحايا عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى ألا إن الذكاة في الحلق واللبة. ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق وأيام منى أيام أكل وشرب وبعال» . وفي سنده سعيد بن سلام رماه أحمد بالكذب.
وعن عبد الله بن حذافة أخرجه الدارقطني أيضاً بسند الواقدي «قال ابن حذافة بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على راحلته أيام منى أنادي أيها الناس إنها أيام أكل وشرب وبعال» . وقال الدارقطني: الواقدي ضعيف.
قلت: لا يلتفت إليه في هذا.
وعن أم خلدة الأنصارية رواه إسحاق بن راهويه في " مسنده «عن عمر بن خلدة عن أمه قالت بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علينا مناديا ينادي أيام منى إنها أيام أكل وشرب وبعال، يعني النكاح» .
وعن زيد بن خالد الجهني رواه أبو يعلى الموصلي في " مسنده " بإسناده عنه قال: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً فنادى أيام التشريق ألا إن هذه الأيام أيام أكل وشرب ونكاح» .
وعن نبيشة الهذلي رواه مسلم في " صحيحه " عنه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيام التشريق أيام أكل وشرب» ، زاد في طريق: " وذكر الله ". وقال المنذري: هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة مع كثرة طرقها منها ما هو مقصور على الأكل والشرب، ومنها ما هو فيه وذكر الله، ومنها ما فيه وصلاة، وليس في شيء منها وبعال، وهو لفظ غريب.
م: (وقد بينا الوجه فيه) ش: أي في قوله " لله علي صوم يوم النحر " م: (والعذر عنه) ش: أي وبينا العذر عنه، أي عن وجه النهي، وهو ما ذكره في أول الفصل بقوله " ولنا أنه نذر بصوم مشروع والنهي لغيره " وأراد بالعذر الجواب عنه.
م: (ولو لم يشترط التتابع) ش: أي ولو لم يشترط الناذر التتابع في قوله " لله علي صوم سنة " ولم يذكر متابعة م: (لم يجزه صوم هذه الأيام) ش: يعني الأيام الخمسة المذكورة م: (لأن الأصل فيما(4/117)
يلتزمه الكمال، والمؤدى ناقض لمكان النهي، بخلاف ما إذا عينها؛ لأنه التزم بوصف النقصان، فيكون الأداء بالوصف الملتزم. قال: وعليه كفارة يمين، إن أراد به يمينا، وقد سبقت وجوهه. ومن أصبح يوم النحر صائما ثم أفطر لا شيء عليه، وعن أبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله - في " النوادر ": أن عليه القضاء؛ لأن الشروع ملزم كالنذر، وصار كالشروع في الصلاة في الوقت المكروه، والفرق لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو ظاهر الرواية أن بنفس الشروع في الصوم يسمى صائما، حتى يحنث به الحالف على الصوم فيصير مرتكبا للنهي، فيجب إبطاله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يلتزمه الكمال) ش: فلا يتأدى بالنقص لأن ما وجب كاملاً لا يتأدى بالناقص م: (والمؤدى) ش: بفتح الدال م: (ناقض لمكان النهي) ش: فيه بالحديث المذكور.
م: (بخلاف ما إذا عينها) ش: متصل بقوله " لم يجزه صوم هذه الأيام " يعني بخلاف ما إذا عين السنة بأن قال لله علي صوم هذه السنة حيث يجوز صوم هذه الأيام فيه م: (لأنه التزم بوصف النقصان فيكون الأداء بالوصف الملتزم) ش: بفتح الزاي، لأن ما وجب ناقصاً يتأدى بناقص.
م: (قال: وعليه) ش: أي على الناذر المذكور م: (كفارة يمين، إن أراد به يمينا) ش: لأن كلامه يحتمله وقد سبق وجهه أي وجه هذا عند قوله " لله علي صوم يوم النحر " وفي بعض النسخ وقد سبق وجهه من قبل، وفي بعضها م: (وقد سبقت وجوهه) ش: وكذا هو في نسخة الأترازي، وفسره بقوله أي وجوه ما إذا قال لله علي صوم هذه السنة عند قوله " لله علي صوم يوم النحر " وأراد بها الوجوه الستة المذكورة.
م: (ومن أصبح يوم النحر صائما ثم أفطر لا شيء عليه) ش: أي لا قضاء عليه، لأن القضاء إنما يبنى على سلامة الموجب عن شائبة الحرمة، والصوم في يوم النحر حرام، فلا يجب شيء.
م: (وعن أبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله - في " النوادر ": أن عليه القضاء؛ لأن الشروع لزوم كالنذر) ش: يعني قياساً على النذر بصوم هذه الأيام م: (وصار) ش: أي حكم هذا م: (كالشروع في الصلاة في الوقت المكروه) ش: مثل وقت طلوع الشمس ووقت الزوال ووقت الغروب حيث يجب القضاء فيها إذا أفسدها.
م: (والفرق لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يعني بين النذر بصوم يوم النحر، وبين الشروع في الوقت المكروه في الأوقات المكروهة م: (وهو ظاهر الرواية) ش: أي عن أصحابنا، كذا قال الأترازي: والأولى أن يقال وهو ظاهر الرواية عن أبي يوسف، ومحمد، وهذه جملة معترضة بين المبتدأ والخبر، أعني قوله: - والفرق - مبتدأ وخبره هو قوله م: (أن بنفس الشروع في الصوم يسمى صائما) ش: يعني يصح إطلاق اسم الصائم عليه م: (حتى يحنث به الحالف على الصوم) ش: فيما إذا حلف أنه لا يصوم، فصام يوم النحر م: (فيصير مرتكبا للنهي) ش: يبقى النذر الوارد فيه م: (فيجب إبطاله) ش: لأجل النهي.(4/118)
فلا تجب صيانته، ووجوب القضاء يبتني عليه ولا يصير مرتكبا للنهي بنفس النذر، وهو الموجب ولا بنفس الشروع في الصلاة حتى يتم ركعة، ولهذا لا يحنث به الحالف على الصلاة فتجب صيانة المؤدى، ويكون مضمونا بالقضاء،
وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجب القضاء في فصل الصلاة أيضا، والأظهر هو الأول، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فلا تجب صيانته) ش: لكونه معصية.
م: (ووجوب القضاء يبتني عليه) ش: أي على وجوب صيانة المؤدي م: (ولا يصير مرتكبا للنهي بنفس النذر، وهو الموجب) ش: أي النذر هو الموجب لأنه إيجاب في الذمة، وهو أمر عقلي وجاز للعقل أن مجرد الأصل عن الوصف فلم يكن مرتكباً للنهي م: (ولا بنفس الشروع) ش: أي ولا يصير أيضاً مرتكباً بنفس الشروع م: (في الصلاة حتى يتم ركعة) ش: لأن الشروع في الصلاة ليس بصلاة، لأن تمامها بالركوع والسجود.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كون نفس الشروع لا يسمى صلاة م: (لا يحنث به الحالف على الصلاة) ش: أي لا يحنث الحالف بالشروع إذا حلف على أن لا يصلي ما لم يركع ويسجد، فإذا ركع وسجد صارت ركعة فيحنث بها حينئذ م: (فتجب صيانة المؤدى) ش: يعني لما كان شروع فيها صحيحاً يجب عليه صون المؤدى م: (ويكون مضمونا بالقضاء) ش: هذا هو المشهور عن أصحابنا.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجب القضاء في فصل الصلاة أيضاً) ش: يعني إذا دخل في الصلاة عند الزوال ثم أفسدها لا يجب عليه القضاء لأنه ممنوع عن الدخول، وما بعدها مبني عليه م: (والأظهر) ش: أي الأظهر والأشهر من الرواية عن أصحابنا م: (هو الأول) ش: أي المذكور الأول، وهو وجوب القضاء بالشروع في الصلاة في الأوقات الثلاثة إذا أفسدها.
واعلم أن في الوقت لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجوهاً أخرى غير الذي ذكر المصنف.
الأول: أن الشروع في الصلاة بالتكبير للافتتاح وهي ليست من الصلاة عندنا فحصل الشروع بها ولا نهي بخلاف الصوم.
الثاني: أن الصلاة وجوبها بالقول كالنذر بخلاف الشروع في الصوم، فإنه بالنية.
الثالث: أن الصلاة لزومها بالقول والنية بإيجاب الصوم بالنية وحدها، فكان الأول أقوى فلا يلزم من ضمان الأقوى ضمان الأضعف.
الرابع: أن الصوم لا يمكنه فعله إلا على وجه المعصية، والصلاة يمكن أداؤها على غير وجه المعصية، بأن يصبر حتى يخرج وقت الكراهة فيؤديها، على وجه الاستحسان، وكذا لا يكون مرتكباً للنهي بنفس النذر، مع أن النذر ممنوع في رواية أبي يوسف وعبد الله بن المبارك عن(4/119)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ذكرها في " البدائع " وغيره.
وفي " شرح التكملة ": شرع في صوم يوم النحر ثم أفسده لم يقضه. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عليه القضاء، ولم يذكر خلافاً لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي " العيون " جعل قول محمد مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والخلاف لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: يجوز التطوع بالصوم ممن عليه صوم رمضان، وبه قال أهل العلم، وقال أحمد: لا يجوز ممن عليه صوم يوم فرض لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من صام تطوعاً وعليه شيء من رمضان لم يقضه، فإنه لا يقبل منه حتى يصومه» . وفي سنده ابن لهيعة [ ... ] الحال.
وعن أحمد: أنه يجوز مثل قول الجمهور لا بأس بقضاء رمضان في أيام العشر غير يوم العيد، وهو قول سعيد بن المسيب، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وروي استحبابه، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ورويت كراهته، عن علي، والحسن والزهري، وهو رواية عن أحمد.
وفي " المبسوط ": تبع جوازه علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أراد أن يقول لله علي صوم يوم، فجرى على لسانه شهر لزمه شهر، ولو قال لله علي صوم آخر يوم من أول الشهر وأول يوم من آخره يلزمه الخامس عشر والسادس عشر، ولو نذر صوم يوم غد أو نوى كل ما دار الغد لا تصح نيته.
ولو قال: صوم يوم ونوى صوم كل ما دار يوم صحت، ذكره في " جوامع الفقه ": ولو قال صوم الجمعة يلزمه صوم يوم الجمعة لا غير، إلا إذا نوى أيام الأسبوع. وإن نكر الجمعة لزمه الأسبوع كله.
ولو قال لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم ليلاً لا يلزمه شيء، لأن اليوم اسم للبياض، وكذا إن قدم بعد الأكل نهاراً أو الحيض، وعن أبي يوسف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقضيه، وإن قدم بعد الزوال فلا رواية فيه. وقال السرخسي: الأظهر التسوية بينهما وإن قدم قبل الزوال صامه لبقاء وقت النية.
وفي " الواقعات ": قال: لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان شكراً لله تعالى، وأراد به اليمين فقدم في يوم رمضان عليه كفارة يمين، ولا قضاء عليه، ولو قال: لله علي أن أصوم الأبد فضعف عن الصوم، لأجل اشتغاله بالمعيشة له أن يفطر، ويطعم.(4/120)
باب الاعتكاف قال: الاعتكاف مستحب والصحيح أنه سنة مؤكدة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واظب عليه في العشر الأواخر من رمضان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الاعتكاف] [حكم الاعتكاف] [أركان الاعتكاف وشروطه]
م: (باب الاعتكاف) ش: أي هذا باب في بيان كذا أخره عن الصوم، لأنه شرطه والشرط مقدم طبعاً فيقدم وضعاً، والاعتكاف افتعال من عكف، وهو متعد، فمصدره العكف ولازم فمصدره العكوف والمتعدي بمعنى الحبس والمنع، ومنه قَوْله تَعَالَى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا} [الفتح: 25] [الفتح: آية 25] ومنه الاعتكاف في المسجد؛ لأنه حبس النفس ومنه اللازم الإقبال على الشيء بطريق المواظبة ومنه قَوْله تَعَالَى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] [الأعراف: آية 138] ، وهو من ضرب ومن باب طلب، يعني يجوز في مضارعه كسر عين الفعل، وضمها.
وفي الشرع: الاعتكاف هو اللبث في المسجد مع النية، وفي " النهاية " تفسيره شريعة هو اللبث والقرار في المسجد مع نية الاعتكاف، فكان الشرعي مبنياً على التقدير اللغوي مع زيادة اشتراط المسجد وصفته أنه سنة، وركنه هو تفسيره شريعة، وشرطه الصوم ومسجد الجماعة، ومنه الاعتكاف في حق الرجال، وإن كان يجوز للمرأة أن تعتكف في مسجد الجماعة والأفضل لها مسجد بيتها.
وسببه إن كان واجباً فالنذر، وإن كان تطوعاً فالنشاط الداعي إلى طلب الثواب. وحكمه إن كان واجباً ما هو حكم سائر الواجبات وإن كان نفلاً ما هو حكم سائر النوافل، ونقيضه الخروج من المسجد إلا لحاجة لازمة طبعاً أو شرعاً.
ومحظوراته الجماع، ودواعيه، وآدابه أن لا يتكلم إلا بخير، وأن يلازم الاعتكاف عشرين رمضان وأن يختار أفضل المساجد كالمسجد الحرام، والمسجد الجامع.
م: (الاعتكاف مستحب) ش: وفي " المبسوط " قربة مشروعة، وعن بعض المالكية هو جائز.
وقال أبو بكر - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " عارضة الأحوذي ": قول أصحابنا جائز جهل منهم يعني المالكية م: (والصحيح أنه سنة مؤكدة) ش: وكذا ذكره في " المحيط "، و " البدائع "، و " التحفة " وقوله: والصحيح احتراز، عن قول القدوري أنه مستحب.
م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واظب عليه في العشر الأواخر من رمضان) ش: هذا أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف العشر(4/121)
والمواظبة دليل السنة قال: وهو اللبث في المسجد مع الصوم، ونية الاعتكاف، أما اللبث فركنه؛ لأنه ينبئ عنه، فكان وجوده به، والصوم من شرطه عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
والنية شرط في سائر العبادات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأواخر من رمضان، حتى قبضه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده» . إلا ابن ماجه، فإنه أخرجه عن أبي بن كعب قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف الشعر الأواخر من رمضان فسافر عاماً، فلما كان في العام القابل اعتكف عشرين يوماً» .
وأخرجه أبو داود والنسائي أيضاً، ولفظهما ولم يعتكف عاماً م: (والمواظبة دليل السنة) ش: قيل: المواظبة دليل الوجوب.
وأجيب: بأن المواظبة دليل السنة المؤكدة، وهي في قوة الوجوب، والأحسن أن يقال بأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لم ينكر على من تركه، ولو كان واجباً لأنكر، وكأن المواظبة بلا ترك معارضة بترك الإنكار، وذكر في " المبسوط "، و " البدائع " أن الزهري قال: عجباً من الناس كيف تركوا الاعتكاف ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل الشيء ويتركه، [....] الاعتكاف حتى قبض - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، قيل في جوابه إن أكثر الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لم يعتكفوا.
قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يبلغني أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن المسيب ولا أحدا من سلف هذه الأمة اعتكف إلا أبا بكر بن عبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأراهم تركوه لشدته، لأن ليله ونهاره سواء.
وقال في " المجموعة ": تركوه لأنه مكروه في حقهم إذ هو كالوصال المنهي عنه.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وهو اللبث في المسجد مع الصوم، ونية الاعتكاف، أمما اللبث فركنه؛ لأنه ينبئ عنه) ش: أي لأن الاعتكاف يخبر عن اللبث م: (فكان وجوده به) ش: أي فكان وجود الاعتكاف باللبث م: (والصوم من شرطه عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي الصوم الواجب من شرطه، وهو مذهب علي، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد والقاسم بن محمد ونافع وابن المسيب والأوزاعي والزهري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وبه قال مالك، والثوري، والحسن بن حي والشافعي في " القديم ".
وقال الشافعي وأحمد: ليس بشرط، وبه قال داود وأبو ثور، لا في الواجب ولا في النفل، وهو قول عبد الله بن مسعود وطاووس وعمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (والنية شرط في سائر العبادات) ش: يعني في كل العبادات لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -(4/122)
هو يقول: إن الصوم عبادة، وهو أصل بنفسه، فلا يكون شرطا لغيره. ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا اعتكاف إلا بالصوم» . والقياس في مقابلة النص المنقول غير مقبول.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
«الأعمال بالنيات» م: (هو) ش: أي الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (يقول: إن الصوم عبادة، وهو أصل بنفسه، فلا يكون شرطا لغيره) ش: وبه قال أحمد في رواية، وهو مذهب ابن مسعود، كما قلنا، فالقياس مع الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لأن كونه شرطاً يقتضي أن يكون تبعاً، وبين الأصل والتبع منافاة، ولكنا تركنا القياس استحساناً بالحديث الذي أشار إليه بقوله: م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا اعتكاف إلا بالصوم» ش: هذا الحديث رواه الدارقطني ثم البيهقي من حديث عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا اعتكاف إلا بالصوم» ، وفيه سويد بن عبد العزيز.
قال الدارقطني: تفرد به وقال البيهقي: وسويد ضعيف لا يقبل ما تفرد به، وقد روي عن عطاء، عن عائشة موقوفاً.
قلت: روى أبو داود في " سننه " عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري، عن عروة عن عائشة قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا ما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع..
وقال المنذري في " مختصره ": وعبد الرحمن بن إسحاق أخرج له مسلم، ووثقه ابن معين وغيره، ورواه البيهقي في " شعب الإيمان "، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب به، وفيه قالت: السنة في المعتكف أن يصوم، وقال: أخرجاه في " الصحيح " وروى قوله: - والسنة في المعتكف ... إلخ، فقد قيل: إنه من قول عروة.
وروى أبو داود والنسائي عن عبد الله بن بديل عن عمرو بن دينار عن ابن عمر «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوماً عند الكعبة، فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اعتكف وصم» ".
م: (والقياس في مقابلة النص المنقول غير مقبول) ش: هذا ظاهر، ولكن فيه بحث من وجهين.(4/123)
ثم الصوم شرط لصحة الواجب منه رواية واحدة، ولصحة التطوع فيما روى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لظاهر ما روينا، وعلى هذه الرواية لا يكون أقل من يوم، وفي رواية الأصل وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أقله ساعة، فيكون من غير صوم لأن مبنى النفل على المساهلة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما: أن الله تعالى شرع الاعتكاف مطلقاً بقوله: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: آية 187] ، فاشتراط الصوم زيادة عليه بخبر الواحد وهو نسخ لا يجوز.
والثاني: الاعتكاف يتحقق في الليالي، والصوم فيها غير مشروع، وفي ذلك تحقق المشروط دون الشرط وهو باطل، فدل أنه ليس بشرط.
والجواب عن الأول: بأن الإمساك عن الجماع ثبت شرطاً لصحة الاعتكاف بهذا النص القطعي، وهو أحد ركني الصوم فألحق به، والركن الآخر وهو الإمساك عن شهوة البطن بالدلالة لاستوائهما في الحظر والإباحة، كما ألحق الجماع بالأكل والشرب ناسياً في حق بقاء الصوم بالدلالة لهذا المعنى، ثم لما ثبت وجوب الإمساك على المعتكف عن الشهوتين لله تعالى كان صوماً.
والثاني: بأن الشرط إنما يثبت بحسب الإمكان فإن المرأة عليها صوم الشهر متتابعاً ثم ينقطع التتابع بعذر الحيض، والصوم في الليالي غير ممكن.
م: (ثم الصوم شرط) ش: يعني عندنا م: (لصحة الواجب منه) ش: أي من الاعتكاف، والواجب أن يقول: لله علي أن أعتكف يوماً أو شهراً أو يعلقه بشرط فيقول إن شفى الله مريضي، والاعتكاف النفل أن يشرع فيه من غير إجابة بالنذر م: (رواية واحدة) ش: أي ليس فيه اختلاف الروايات، فمعناه في جميع الروايات م: (ولصحة التطوع) ش: أي الصوم شرط أيضاً لصحة الاعتكاف التطوع م: (فيما روى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لظاهر ما روينا، وهو قوله: الاعتكاف بصوم لأنه يشمل الواجب والنفل وعلى هذه الرواية لا يكون) ش: وعلى هذه الرواية أي رواية الحسن عن أبي حنيفة لا يكون أي الاعتكاف م: (أقل من يوم) ش: لأن الصوم مقدر باليوم.
م: (وفي رواية الأصل) ش: أي " المبسوط " م: (وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أقله ساعة) لأن الاعتكاف لبث في مكان فلا يقدر بوقت كالوقوف بعرفة، فإذا لم يقدر بوقت يكون معتكفاً بقدر ما دام، وله ثواب المعتكفين ما دام في المسجد بنية الاعتكاف.
وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قدر أقل الاعتكاف انتقل بأكثر اليوم إقامة للأكثر مقام الكل م: (فيكون من غير صوم) ش: يعني إذا كان أقله ساعة فلا يكون فيه صوم م: (لأن مبنى النفي على المساهلة، ألا ترى أنه يقعد في صلاة النفل مع القدرة على القيام) ش: لأن باب النفل أوسع.(4/124)
ألا ترى أنه يقعد في صلاة النفل مع القدرة على القيام. ولو شرع فيه ثم قطعه لا يلزمه القضاء في رواية الأصل؛ لأنه غير مقدر، فلم يكن القطع إبطالا، وفي رواية الحسن يلزمه؛ لأنه مقدر باليوم كالصوم،
ثم الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد الجماعة؛ لقول حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة. وعن أبي حنيفة: أنه لا يصح إلا في مسجد يصلى فيه الصلوات الخمس؛ لأنه عبادة انتظار الصلاة فيختص بمكان تؤدى فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو شرع فيه) ش: أي في الاعتكاف النفل م: (ثم قطعه لا يلزمه القضاء في رواية الأصل؛ لأنه غير مقدر) ش: لشيء يكون زائداً على ما أتى به الشرع م: (فلم يكن القطع إبطالا) ش: لكون إتمامه غير لازم.
م: (وفي رواة الحسن يلزمه) ش: أي القضاء م: (لأنه مقدر باليوم كالصوم) ش: لضرورة لزوم القضاء في شرطه وهو الصوم.
[مكان الاعتكاف]
م: (ثم الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد الجماعة) ش: أراد به مسجداً تصلى فيه جماعة بعض الصلوات كمساجد الأسواق م: (لقول حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة) ش: هذا رواه الطبراني في " معجمه " حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا أبو عوانة عن مغيرة عن إبراهيم النخعي أن حذيفة قال لابن مسعود: ألا تعجب من قوم بين دارك ودار أبي موسى يزعمون أنهم معتكفون، قال: فلعلهم أصابوا، وأخطأت أو حفظوا ونسيت، قال: أما أنا فقد علمت أنه لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة.
م: (وعن أبي حنيفة) ش: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (أنه لا يصح إلا في مسجد) ش: جماعة م: (تصلى فيه الصلوات الخمس؛ لأنه عبادة انتظار الصلاة فيختص بمكان تؤدى فيه) ش: الصلاة. هذه رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لا يجوز إلا في مسجد له إمام ومؤذن وتصلى فيه الصلوات كلها.
وفي " الفتاوى ": يجوز الاعتكاف في الجامع وإن لم يصلوا فيه بالجماعة، أما إذا كان يصلى فيه الصلوات الخمس بالجماعة فالاعتكاف فيه أفضل. وقال الإمام الأسبيجابي في " شرح الطحاوي ": أفضل الاعتكاف أن يكون في المسجد الحرام ثم في مسجد المدينة وهو مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم في مسجد بيت المقدس ثم في المساجد العظام التي كثر أهلها.
وفي " المنتقى ": عن أبي يوسف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الاعتكاف الواجب لا يجوز أداؤه في غير مسجد الجماعة. وفي " البدائع ": الاعتكاف الواجب، والنفل لا يصحان إلا في(4/125)
أما المرأة تعتكف في مسجد بيتها؛ لأنه هو الموضع لصلاتها فيتحقق انتظارها فيه، ولو لم يكن لها في البيت مسجد تجعل موضعا فيه فتعتكف فيه. ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة الإنسان، أو الجمعة أما الحاجة فلحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «وكان النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان» ؛ ولأنه معلوم وقوعها، ولا بد من الخروج في تقضيتها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المسجد، وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصح في كل مسجد.
وقال الأترازي: والصحيح عندي أنه يصح في كل مسجد.
قلت: هذا قول الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ونسبه إلى نفسه.
[مكان الاعتكاف بالنسبة للمرأة]
م: (أما المرأة فتعتكف في مسجد بيتها) ش: المراد من مسجد بيتها هو المكان المتعين للصلاة م: (لأنه هو الموضع لصلاتها فيتحقق انتظارها فيه) ش: أي انتظارها للصلاة، أي في الموضع الذي تصلي فيه، وبه قال النخعي والثوري وابن علية.
وفي السروجي: ولا تعتكف في مسجد جماعة ذكره في الأصل. وفي " منية المفتي ": لو اعتكفت في المسجد جاز. وفي " المحيط ": روى الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جوازه، وكراهته في المسجد، وفي " البدائع ": وليس لها أن تعتكف في بيتها في غير مسجد بيتها وهو الموضع المعد لصلاتها. وفي المرغيناني: لا يجوز في بيت لا مسجد فيه.
وقال ابن بطال: قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - معتكف المرأة، والعبد، والمسافر حيث شاءوا، وقال النووي: المذهب أن المرأة لا يصح اعتكافها إلا في المسجد كالرجل.
م: (ولو لم يكن لها في البيت مسجد تجعل موضعاً فيه فتعتكف فيه) ش: وفي " المجتبى ": لو لم يكن في مسجد بيتها موضع تجعل فيه مسجدا ًفتعتكف فيه، ولو اعتكفت في مسجد بيتها فليس لزوجها أن يأتيها ولا أن يمنعها من الاعتكاف، لكن لا ينبغي لها أن تعتكف بغير إذن زوجها، وكذا العبد لا يعتكف بغير إذن مولاه، ولو أذن لهما ثم إن منعهما صح [ويلزم] ويأثم، وبه قال الشافعي، وقال مالك: ليس له أن يمنعهما، والمكاتب لو اعتكف بغير إذنه يصح وليس له منعه. وقال مالك: له منعه، ولو طلقت المعتكفة في المسجد أو توفي عنها زوجها جاز لها الرجوع إلى بيتها لتعتد فيه ثم ترجع إلى المسجد على اعتكافها، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - تتم اعتكافها في المسجد.
م: (ولا يخرج) ش: أي المعتكف م: (من المسجد إلا لحاجة الإنسان) ش: وهو التغوط وإراقة البول م: (أو الجمعة) ش: أي أو الجمعة أي يخرج لها.
م: (أما الحاجة فلحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان» ش: هذا الحديث غريب بهذا اللفظ وأخرج الأئمة الستة في كتبهم عن عائشة - رضي(4/126)
فيصير الخروج لها مستثنى،
ولا يمكث بعد فراغه؛ من الطهور لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها. وأما الجمعة فلأنها من أهم حوائجه، وهي معلوم وقوعها. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الخروج إليها مفسد؛ لأنه يمكنه الاعتكاف في الجامع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله عنها - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» م: (ولأنه معلوم وقوعها) ش: أي وقوع الحاجة م: (فلا بد من الخروج في تقضيتها فصير الخروج لها مستثنًى) ش: لأن الضرورات تبيح المحظورات، ثم في خروجه لقضاء الحاجة لا تفاوت بين أن يدخل تحت سقف غير سقف المسجد أو لا فإنه جائز، وكان مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: إذا خرج للحاجة لا ينبغي أن يدخل تحت سقف، فإن أواه سقف غير سقف المسجد فسد اعتكافه لعدم الضرورة فيه، وهذا ليس بشيء، فإنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كان يدخل حجرته إذا خرج لحاجته كذا في " المبسوط ".
م: (ولا يمكث بعد فراغه؛ من الطهور) ش: بفتح الطاء مصدر، وقال المبرد خمسة من المصادر على مفعول بفتح الفاء؛ الطهور، والوضوء، والقبول، والودوع، والركوع، وفي " المغرب ": الطهور بالفتح مصدر بمعنى التطهر، ومنه مفتاح الصلاة الطهور، وقال ابن الأثير الطهور بالضم وبالفتح الماء الذي يتطهر به كالوضوء، والوضوء والسحور والسحور، قال: سيبويه: الطهور بالفتح يقع على الماء والمصدر معاً م: (لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها) ش: أي بقدر الضرورة.
م: (وأما الجمعة فلأنها من أهم حوائجه) ش: لأنها حاجة دينية ولا يمكن من إقامتها إلا بالخروج م: (وهي معلومٌ وقوعها) ش: أي الجمعة معلوم وقوعها، فيكون الخروج إليها مستثنى.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الخروج إليها) ش: أي إلى الجمعة م: (مفسدٌ) ش: للاعتكاف م: (لأنه يمكنه الاعتكاف في الجامع) ش: وبه قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وفي " الذخيرة " للمالكية: يبطل بالخروج للجمعة على المشهور، وروي عنه كقولنا، وقال ابن العربي: إذا خرج للجمعة لا يفسد في الصحيح، وبقولنا قال سعيد بن جبير، والحسن البصري، والنخعي، وأحمد، وعبد الملك، وابن المنذر، وفي " الإكمال ": ومن تلزمه الجمعة لا يعتكف إلا في الجامع، وهو المشهور من مذهب مالك، وهو قول الشافعي، والكوفيين، وقال السروجي: قوله الكوفيين غير صحيح.(4/127)
ونحن نقول: الاعتكاف في كل مسجد مشروع، وإذا صح الشروع فالضرورة مطلقة في الخروج، ويخرج حين تزول الشمس؛ لأن الخطاب يتوجه بعده، وإن كان منزله بعيدا عنه يخرج في وقت يمكنه إدراكها، ويصلي قبلها أربعا، وفي رواية ستا، الأربع سنة، والركعتان تحية المسجد، وبعدها أربعا أو ستا على حسب الاختلاف في سنة الجمعة، وسننها توابع لها فألحقت بها، ولو أقام في مسجد الجامع أكثر من ذلك، لا يفسد اعتكافه؛ لأنه موضع اعتكاف إلا أنه لا يستحب؛ لأنه التزم أداءه في مسجد واحد، فلا يتمه في مسجدين من غير ضرورة.
ولو خرج من المسجد ساعة بغير عذر فسد اعتكافه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ونحن نقول: الاعتكاف في كل مسجد مشروع، فإذا صح الشروع) ش: أي في مسجد غير جامع م: (فالضرورة مطلقةٌ) ش: بضم الميم وسكون الطاء وكسر اللام أي مجوزة على الإطلاق م: في الخروج) ش: إلى الجمعة م: (ويخرج حين تزول الشمس؛ لأن الخطاب يتوجه بعده) ش: أي بعد زوال الشمس عن كبد السماء م: (وإن كان منزله بعيدًا عنه) ش: أي عن الجامع م: (يخرج في وقت يمكنه إدراكها) ش: أي إدراك الجمعة م: (ويصلي قبلها) ش: أي قبل الجمعة م: (أربعًا) ش: أي يصلي أربع ركعات.
م: (وفي رواية ستا، الأربع سنةٌ، والركعتان تحية المسجد، وبعدها أربعًا أو ستا) ش: أي، أو يصلي ست ركعات م: (على حسب الاختلاف في سنة الجمعة) ش: فإن عند أبي حنيفة، ومحمد يصلي أربعاً وعند أبي يوسف يصلي ستا م: (وسننها توابع لها فألحقت بها) ش: كأذكارها.
م: (ولو أقام في مسجد الجامع أكثر من ذلك) ش: أي أكثر من صلاة الجمعة وسنتها م: (لا يفسد اعتكافه؛ لأنه موضع اعتكاف) ش: فلا يضره ذلك م: (إلا أنه لا يستحب) ش: استثناء من قوله: لا يفسد اعتكافه، أي لا يفسد اعتكافه بإقامة المعتكف في الجامع أكثر من صلاة وسنتها، إلا أن يثبت فيه بعد الفراغ لا يستحب بل يكره له ذلك م: (لأنه التزم أداءه في مسجد واحد، فلا يتمه في مسجدين من غير ضرورة) ش: رعاية للمسجد الذي اعتكف فيه بقدر الإمكان.
[خروج المعتكف من المسجد بدون عذر]
م: (ولو خرج من المسجد ساعةً بغير عذر فسد اعتكافه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: العذر الخروج لغائط أو بول أو جمعة لأنه لا بد منه، وكذا إذا انهدم المسجد، وفي السقف يجوز له أن يتحول إلى مسجد آخر في خمسة أشياء.
أحدها: أن ينهدم مسجده.
الثاني: أن يتفرق أهله فلا يجتمعون فيه.
الثالث: أن يخرجه منه سلطان.(4/128)
لوجود المنافي وهو القياس، وقالا: لا يفسد حتى يكون أكثر من نصف يوم وهو الاستحسان؛ لأن في القليل ضرورة. قال وأما الأكل، والشرب، والنوم يكون في معتكفه؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لم يكن له مأوى إلا المسجد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرابع: أن يأخذه ظالم.
الخامس: أن يخاف على نفسه وماله من المكابرين.
وفي المرغيناني: إن خرج لمرض يبطل اعتكافه، لأن وقت المرض غير معلوم فلم يكن مستثنى، وقال الحاكم في " الكافي ": وكذا يبطل لو أخذه غريم فحبسه ساعة. قوله في المتن - ساعة - يعني وإن كان قليلاً، وسواء كان عامداً أو ناسياً، وفي " المبسوط " و " التحفة " قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أقيس.
م: (لوجود المنافي) ش: للبث م: (وهو) ش: أي قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو م: (القياس) ش: وبه قال مالك والشافعي، وأحمد، إلا أن عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخرج لعيادة أبويه ولا يخرج لجنازتهما. م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (لا يفسد حتى يكون) ش: أي الخروج م: (أكثر من نصف يوم) ش: لأن للأكثر منه حكم الكل والأقل منه عفو، وإن كان بغير عذر ولهذا إذا خرج لحاجة الإنسان فتأنى في المشي لا يفسد اعتكافه، وإن كان لا يحتاج إلى التأني في المشي لأنه في حكم اليسير. وفي " الذخيرة ": الاختلاف في الاعتكاف الواجب، أما في النفل فلا بأس بأن يخرج بغير عذر لأن التطوع غير مقدر في ظاهر الرواية، وهو أي قولهما م: (الاستحسان؛ لأن في القليل ضرورةً) ش: والضرورة مستثناة م: (وأما الأكل، والشرب، والنوم يكون في معتكفه) ش: أي في موضع الاعتكاف م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن له مأوى إلا في المسجد) ش: يعني في حال كونه معتكفاً، وهذا معلوم في الأحاديث والنصوص المتطابقة ويقال في غالب أحواله لم يتخذ مأوى إلا المسجد فكان أكله متحققاً فيه فلا ضرورة إلى الخروج، وبه قال مالك وابن شريح من أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو الأظهر عند صاحب " التهذيب ".
وقال المزني وأكثر أصحابه: له الخروج للأكل والشرب لأن في تكلفه الأكل في المسجد مشقة ونوعاً من ترك المروءة أيضاً، فإنه قد يختار أن لا يعرف جنس طعامه لفقره أو لتورعه، فلو كلفناه الأكل يفوت غرضه، وأيضاً قد يكون في المسجد غيره فيشق عليه الأكل دونه، ولو أكل معه لم يكفهما الطعام فجعلنا ذلك عذرا في إباحة الأكل في المنزل، كذا في تتمتهم، وفي " شرح الوجيز ": لو عطش ولم يجد في المسجد ماء يخرج، وإن وجد فيه فوجهان(4/129)
ولأنه يمكن قضاء هذه الحاجة في المسجد فلا ضرورة إلى الخروج.
ولا بأس بأن يبيع ويبتاع في المسجد من غير أن يحضر السلعة لأنه قد يحتاج إلى ذلك بأن لا يجد من يقوم بحاجته، إلا أنهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أصحهما لا يخرج.
م: (ولأنه يمكن قضاء هذه الحاجة) ش: أي حاجة الأكل والشرب م: (في المسجد فلا ضرورة إلى الخروج) ش: قيد بقوله؛ لأنه يمكن لأنه إذا لم يمكن يخرج، وفي " البدائع ": لا يخرج لأكل وشرب، ونوم، ولا عيادة مريض، ولا صلاة جنازة، فإن خرج فسد اعتكافه عامداً أو ناسيا، بخلاف ما لو خرج مكرهاً، وفي " شرح الإرشاد ": لا يخرج لأداء شهادة وإن تعين لأدائها، لأن هذا لا يقع إلا نادراً، فلا عبرة للنادر، وبه قال مالك. وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لو تعين أداؤها عليه لا تبطل بالخروج، وإن لم يتعين تبطل، وفي " الذخيرة " للمالكية: يؤديها في المسجد ولا يخرج.
[ما يجوز للمعتكف]
م: (ولا بأس بأن يبيع) ش: أي المعتكف م: (ويبتاع) ش: أي أو يشتري م: (في المسجد من غير أن يحضر السلعة) ش: وفي " التنجيس " هذا إذا باع أو اشترى لحاجته الأصلية لا للتجارة، فإنه للتجارة مكروه. لأن المسجد بني للصلاة لا للتجارة.
وفي " الذخيرة ": له أن يبيع ويشتري في المسجد الطعام، وما لا بد منه، وإذا أراد أن يتخذ ذلك متجراً يكره له. وقال الكرخي: قوله - من غير أن يحضر السلعة - دليل على أنه لا بأس به مطلقاً، سواء كان له منه بد أو لم يكن.
وقال الشافعي: يبيع ويشتري ولا يكره منه، وقطع الماوردي بكراهة البيع والشراء وعمل الصنائع. وقال في البويطي: أكره البيع والشراء في المسجد، ومثله عن أبي حامد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قال النووي في " شرح التهذيب ": وهو الأصح وكرهه عطاء والزهري، وكان مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: يخرج لشراء الطعام ثم يرجع، وفي " جوامع الفقه ": للمتعكف أن يبيع ويشتري في المسجد من غير إحضار السلعة ويتزوج ويراجع ويحرم بحج وعمرة ويتطيب ويتردد في نواحي المسجد ويصعد المنارة، وبه قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والشافعي.
وقال معمر: لا يتطيب المعتكف، وقال عطاء: لا يتطيب المعتكف وفي " الخزانة " كره التحرز للمعتكف ومنع سحنون من المالكية إمامة المعتكف في أحد قوليه في الفرض والنفل وكذا أذانه في غير المنارة، وفي المنارة منعه مالك مرة وأجازه أخرى مع العلماء.
م: (لأنه) ش: أي لأن المعتكف م: (قد يحتاج إلى ذلك) ش: أي إلى البيع والشراء م: (بأن لا يجد من يقوم بحاجته، إلا أنهم قالوا) ش: استثناء.(4/130)
قالوا: يكره إحضار السلعة للبيع، والشراء؛ لأن المسجد متحرز عن حقوق العباد، وفيه شغله بها،
ويكره لغير المعتكف البيع والشراء فيه؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «جنبوا مساجدكم صبيانكم - إلى أن قال -: وبيعكم، وشراءكم» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (يكره إحضار السلعة للبيع والشراء؛ لأن المسجد متحرز) ش: على بناء المجهول من التحريز بالحاء المهملة، معناه أن بقعة المسجد قد تحرزت م: (عن حقوق العباد) ش: فصارت حقاً لله تعالى م: (وفيه شغله بها) ش: أي وفي إحضار السلعة شغل المسجد بفتح الشين بها أي بالسلعة فيكره شغله بالسلع للتجارة.
م: (ويكره لغير المعتكف البيع والشراء فيه) ش: أي في المسجد م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «جنبوا مساجدكم صبيانكم - إلى أن قال -: وبيعكم، وشراءكم» ش: هذا الحديث رواه جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ واثلة بن الأسقع، روى حديثه ابن ماجه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وشراءكم، وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمروها في الجمع» ، ورواه الطبراني في " معجمه " عن العلاء بن كثير عن مكحول عن أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة، قالوا سمعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول، فذكره وسنده ضعيف.
ومعاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى حديثه عبد الرزاق في " مصنفه " من حديث مكحول عنه، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جنبوا مساجدكم» ... الحديث، باللفظ المذكور، وروى النسائي، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك» .
م: (قال: ولا يتكلم إلا بخير) ش: قال الله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53] [الإسراء: آية 53] ، أي قل للمؤمنين يقولوا للمشركين الكلمة التي هي أحسن وألين، ولا تحاشوهم فالنص يقتضي أن لا يتلكم خارج المسجد إلا بخير، فالمسجد أولى، وله قراءة القرآن والحديث، والعلم، والتدريس، وكتابة أمور الدين، وسماع العلم.
وقال القاضي عياض وأبو بكر بن العربي: منعه مالك من ذلك وهو قول بن حنبل، واعتباره بالطواف والصلاة، وقال أبو الطيب في " المجرد " قال الشافعي في " الأم " و " الجامع(4/131)
قال: ولا يتكلم إلا بخير، ويكره له الصمت؛ لأن صوم الصمت ليس بقربة في شريعتنا لكنه يتجانب ما يكون مأثما.
ويحرم على المعتكف الوطء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187] [البقرة: الآية 187]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكبير ": لا بأس أن يقص في المسجد، لأن القصص وعظ وتذكير. وقال النووي: ما قاله الشافعي محمول على الأحاديث المشهورة والمغازي والرقائق مما ليس فيه وضع ولا ما تحمله عقول العوام ولا ما يذكره أهل التواريخ والقصص من قصص الأنبياء - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وحكاياتهم أن بعض الأنبياء جرى له كذا من فتنة أو نحوها، فإن كل هذا يمنع منه انتهى.
قلت: يمنع من ذلك من كان غير معتكف، ويمنع الطرقية الذين يعملون المواعيد في المساجد ويوردون الأحاديث الموضوعة والأخبار التي ليست لها صحة، وفي " جوامع الفقه ": يكره التعليم فيه بأجر، وكذا كتابة المصحف بأجر والخياطة، وقيل: إن كان الخياط يحفظ المسجد فلا بأس بأن يخيط فيه ولا يستطرقه إلا لعذر، ويكره على سطحه ما يكره فيه.
م: (ويكره له الصمت) ش: أي ترك التحدث مع الناس، قال الإمام حميد الدين الضرير: إنما يكره الصمت إذا اعتقده قربة، أما إذا لم يعتقده قربة فلا يكره لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من صمت نجا» رواه عبد الله بن عمر- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وقال الكاكي: قيل معنى الصمت النذر بأن لا يتكلم أصلا كما كان في شريعة من قبلنا وقيل: أن يسكت ولا يتكلم أصلا، قاله الإمام بدر الدين خواهر زاده.
م: (لأن صوم الصمت ليس بقربة في شريعتنا) ش: قالوا: إن صوم الصمت من فعل المجوس وروى أبو حنيفة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن صوم الوصال وصوم الصمت» وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر رجلاً نذر أن يقوم في الشمس ولا يتكلم ولا يستظل ويصوم، أن يجلس ويستظل ويتكلم» رواه البخاري. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل» . رواه أبو داود، وفي " المغني ": الصمت عن الكلام ليس من شريعة الإسلام، وأجازه أبو ثور وابن المنذر.
م: (لكنه يتجانب ما يكون مأثما) ش: متصل بقوله: يكره له الصمت، يعني يتحدث بما شاء بعد أن لا يكون في كلامه مأثم، والمأثم بمعنى الإثم.
[ما يحرم على المعتكف]
م: (ويحرم على المعتكف الوطء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: الآية 187] ) ش: قيل: كيف [.....] للمعتكف الوطء، أجيب بأنه يجوز له الخروج للحاجة، فعند ذلك أيضاً يحرم الوطء عليه لما أن اسم المعتكف لا يزول عنه بذلك الخروج، وفي " شرح النازلات " كانوا يخرجون ويقضون حاجتهم في الجماع ثم يغتسلون فيرجعون إلى(4/132)
وكذا اللمس، والقبلة، لأنه من دواعيه، فيحرم عليه؛ إذ هو محظوره كما في الإحرام بخلاف الصوم، لأن الكف ركنه لا محظوره، فلم يتعد إلى دواعيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
معتكفهم فنزل {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ} [البقرة: 187] .... الآية وسواء كان الوطء بالليل أو بالنهار عامداً كان أو ناسيا، وبه قال مالك وأحمد وسواء كان في المسجد أو خارجه.
وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن كان ناسياً لاعتكافه أو جاهلاً بتحريمه لم تبطل على المذهب، وبه قال داود، ونقل المزني عن الشافعي أن الاعتكاف لا يفسده الوطء؛ إلا ما يوجب الحد، وقال إمام الحرمين: يقتضي هذا أن لا يفسد بالوطء في الدبر ووطء البهيمة إذ لم يوجب فيهما الحدود، وعلى إمام الحرمين فقال النووي: المذهب المشهور أن الاعتكاف يفسد بكل وطء سواء فيه المرأة أو البهيمة أو اللواط وغيره.
م: (وكذا اللمس والقبلة) ش: أي وكذا يحرم لمس زوجته وقبلته إياها، وفي بعض النسخ ويكره له المس. وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا كان اللمس بغير شهوة لا يمنع.
وفي " خزانة الأكمل ": اللمس والقبلة إن كان معهما إنزال يفسد اعتكافه، وبدون الإنزال لا يفسد، وإن نظر فأنزل أو تفكر فأنزل أو احتلم لا يفسد. وفي " المحيط " و " البدائع " و " التحفة " و " المنافع " قالوا: يحرم عليه اللمس والقبلة إن كان معهما إنزال، ولم يشترطوا فيهما الشهوة، وفي العبد إن نظر إلى امرأته بشهوة فأمنى لا يفسد بل يغتسل ويعود إلى معتكفه.
وفي المرغيناني: يكره للمعتكف المباشرة الفاحشة، وإن أمن على نفسه. ولا يكره للصائم إذا أمن، وهذا يدل على أن اللمس من غير شهوة لا يحرم على المعتكف، وإن أطلقوا الحرمة في الكتب المشهورة، وعن ابن سماعة أنه ذكر عن بعض أصحابنا أن جماع الناسي لا يفسد الاعتكاف، لأنه فرع الصوم.
م: (لأنه) ش: أي لأن في اللمس والقبلة م: (من دواعيه) ش: أي من دواعي الوطء م: (فيحرم عليه إذ هو محظوره) ش: أي إذ الوطء محظور الاعتكاف م: (كما في الإحرام) ش: أي كما هو محظور في حالة الإحرام، والحظر في اللغة المنع، وكثيراً ما يراد به الحرام، يقال حظرت الشيء إذا حرمته م: (بخلاف الصوم) ش: جواب عن سؤال مقدر بأن يقال: الجماع يفسد الصوم، كما أنه يفسد الاعتكاف فأجاب بقوله - بخلاف الصوم -.
م: (لأن الكف) ش: أي عن الجماع م: (ركنه) ش: أي ركن الصوم م: (لا محظوره، فلم يتعد إلى دواعيه) ش: أي فلم يتعد حكم الحرمة من الوطء إلى دواعي الوطء، تقدير هذا الموضع أن الجماع محظور في الاعتكاف بالنص، بخلاف الصوم، فإن التقبيل واللمس لا يحرم بالصوم، لأن الجماع ليس بحرام في الصوم، لكن الكف عن الجماع ركن فيه، وحرمة الجماع(4/133)
فإن جامع ليلا، أو نهارا عامدا، أو ناسيا بطل اعتكافه لأن الليل محل الاعتكاف بخلاف الصوم، وحالة العاكفين مذكرة فلا يعذر بالنسيان. ولو جامع فيما دون الفرج فأنزل، أو قبل، أو لمس فأنزل بطل اعتكافه؛ لأنه في معنى الجماع حتى يفسد به الصوم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إنما ثبت لفوات الركن ضرورة وجوب الكف، فلم تتعد الحرمة إلى دواعيه إلا إذا خاف الوقوع في الجماع، وفي " الأم " اعتكاف الركن هو اللبث لا الكف عن الجماع فكان الجماع من محظورات اللبث، بدليل أن الحرمة تثبت النهي.
بقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] ، وموجب النهي الحرمة أي دواعيه لأنه من توابع المحظورات كما في الإحرام. م: (فإن جامع) ش: أي المعتكف م: (ليلا، أو نهارا) ش: أي في الليل أو النهار حالة كونه م: (عامدا) ش: أي قاصداً م: (أو ناسيا) ش: أي أو جامع حال كونه ناسياً م: (بطل اعتكافه) ش: وبه قال مالك وأحمد، وسواء فيه أنزل أو لم ينزل. وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا جامع ناسياً لا يبطل اعتكافه، روى ابن سماعة عن أصحابنا مثله.
م: (لأن الليل محل الاعتكاف بخلاف الصوم) ش: أراد بهذا بيان أن كل ما كان من محظورات الاعتكاف لا يختلف فيه حكم السهو والعمد، والليل والنهار، ولهذا إذا جامع يفسد اعتكافه سواء جامع ليلاً أو نهاراً أو ناسيا، ولكل ما كان من محظورات الصوم مختلف فيه حكم السهو والعمد، والليل والنهار، ولهذا إذا أكل أو شرب ليلاً عامدا أو ناسيا لا يضره، ولو أكل في النهار ناسيا لا يضره، وكذا لو جامع في النهار ناسيا لا يفسد صومه، وإن أفسد الاعتكاف، ولو أكل في النهار عامدا يفسد الاعتكاف بفساد صومه.
م: (وحالة العاكفين مذكرة فلا يعذر بالنسيان) ش: أشار بهذا الكلام إلى الفرق بين الصوم والاعتكاف، وهو أن المعتكف اقترن به ما يذكره وهو حالة العكوف فلا ينسى بالنسيان عادة، ولا يعذر بالنسيان، والصائم لم تقترن به حالة تذكره فيعذر بالنسيان، وهو أيضاً جواب عن سؤال مقدر، يقال: الاعتكاف فرع على الصوم، والفرع ملحق بالأصل في حكمه فلو جامع ناسياً في رمضان لم يفسد الصوم، فكيف يفسد الاعتكاف، فأجاب بقوله: وحالة العاكفين مذكرة.
م: (ولو جامع) ش: أي المعتكف م: (فيما دون الفرج) ش: مثل البطن والفخذ م: (فأنزل، أو قبل، أو لمس فأنزل بطل اعتكافه؛ لأنه في معنى الجماع حتى يفسد به الصوم) ش: لأنه إنزال بمباشرة فصار كالإنزال بالوطء من حيث قضاء الشهوة، وللشافعي فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه لا يفسد اعتكافه وإن أنزل، كما لا يفسد الإحرام بها وإن أنزل، فإنهما متقاربان في المعنى؛ لأن كل واحد منهما يدوم الليل، والنهار.(4/134)
ولو لم ينزل لا يفسد، وإن كان محرما؛ لأنه ليس في معنى الجماع، وهو المفسد، ولهذا لا يفسد به الصوم.
قال: ومن أوجب على نفسه اعتكاف أيام لزمه اعتكافها بلياليها؛ لأن ذكر الأيام على سبيل الجمع يتناول ما بإزائها من الليالي، يقال: ما رأيتك منذ أيام، والمراد بلياليها، وكانت متتابعة، وإن لم يشترط التتابع؛ لأن مبنى الاعتكاف على التتابع، لأن الأوقات كلها قابلة له بخلاف الصوم؛ لأن مبناه على التفرق، لأن الليالي غير قابلة للصوم فيجب على التفرق حتى ينص على التتابع، وإن نوى الأيام خاصة، صحت نيته لأنه نوى الحقيقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثاني: أن يفسد بها الاعتكاف وإن لم ينزل، وبه قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والثالث: مثل قولنا، وبه قال المزني وأصحاب أحمد.
م: (ولو لم ينزل لا يفسد، وإن كان محرما؛ لأنه ليس في معنى الجماع، وهو المفسد) ش: أي الجماع هو المفسد م: (ولهذا لا يفسد به الصوم) ش: أي ولأجل أن التقبيل أو اللمس من غير إنزال لا يفسد به الصوم، لأنه ليس في معنى الجماع.
[حكم من أوجب على نفسه اعتكاف يومين أو أيام]
م: (ومن أوجب على نفسه اعتكاف أيام) ش: نحو أن يقول: لله علي أن أعتكف ثلاثة أيام م: (لزمه اعتكافها بلياليها؛ لأن ذكر الأيام على سبيل الجمع يتناول ما بإزائها من الليالي، يقال: ما رأيتك منذ أيام، والمراد بلياليها) ش: لأن ذكر أحد العددين على طريق الجمع ينتظم ما بإزائه من العدد، ألا ترى إلى قصة زكريا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، حيث قال: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41] [آل عمران: آية 41] ، وقال: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] [مريم: آية 10] ، والقصة كانت واحدة.
م: (وكانت) ش: أي الأيام م: (متتابعة، وإن لم يشترط التتابع؛ لأن مبنى الاعتكاف على التتابع) ش: لوجوده في اليوم والليلة م: (لأن الأوقات كلها قابلة له) ش: أي للاعتكاف قوله: - كلها - بالنصب لأنه توكيد الأوقات، وخبر أن قوله - قابلة - وبقولنا قال: مالك وأحمد، ولأحمد في نذر الصوم المطلق روايتان في وجوب التتابع. وقال زفر والشافعي: هو بالخيار إن شاء تابع وإن شاء فرق كالنذر بالصوم.
م: (بخلاف الصوم؛ لأن مبناه على التفرق، لأن الليالي غير قابلة للصوم فيجب على التفرق حتى ينص على التتابع) ش: نحو أن يقول: لله علي أن أصوم شهراً متتابعاً يلزمه التتابع، وإذا قال لله عليه أن أصوم شهراً يكون له الخيار إن شاء تابع وإن شاء فرق، لأن التفريق فيه أصل لوجوده في النهار خاصة.
م: (وإن نوى الأيام خاصة صحت نيته؛ لأنه نوى الحقيقة) ش: أي حقيقة كلامه إذ اليوم اسم لبياض النهار.(4/135)
ومن أوجب على نفسه اعتكاف يومين يلزمه بلياليهما. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تدخل الليلة الأولى؛ لأن المثنى غير الجمع، وفي المتوسطة ضرورة الاتصال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: الحقيقة منصرف اللفظ بدون قرينة ونية، فما وجه قوله: لأنه نوى الحقيقة؟
أجيب: كأنه اختار ما ذهب إليه بعضهم أن اليوم مشترك بين بياض النهار، ومطلق الوقت واحد، ومعنى المشترك يحتاج إلى ذلك لتعيين الدلالة لا لنفس الدلالة، وعلى تقدير أن يكون مختاره ما عليه الأكثرون، وهو أنه مجاز في مطلق الوقت، فجوابه أن ذكر الأيام على سبيل الجمع صارف له عن الحقيقة فيحتاج إلى النية دفعاً للصارف عن الحقيقة لا للدلالة.
م: (ومن أوجب على نفسه اعتكاف يومين يلزمه بلياليهما) ش: هذا ظاهر الرواية؛ لأن الليلتين تتناولان يومهما عرفاً، يقال: أرك منذ ليلتين، فيدخل الغروب في اليوم الثاني، ولو نذر اعتكاف [ليلة لا يصح لأنه لا يتناول يومها، والليلة ليست بمحل للصوم، وإذا نذر اعتكاف] يوم صح.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تدخل الليلة الأولى؛ لأن المثنى غير الجمع) ش: كون المثنى غير الجمع ظاهر، ولما كان كذلك كان لفظ المثنى ولفظ المفرد سواء، ولو قال: علي أن أعتكف يوماً لم تدخل ليلته بالاتفاق، فكذا في التثنية.
م: (وفي المتوسطة) ش: أي في الليلة المتوسطة وهي الليلة الوسطى م: (ضرورة الاتصال) ش: يعني اتصال البعض الآخر بالبعض، وهذه الضرورة لم توجد في الليلة الأولى قيل: إن أبا يوسف ترك أصله لأن المثنى له حكم الجمع عنده كما في مسألة الطريق ومحاذاة النساء، وجوابه يحتمل أن يكون روايتان في أن المثنى له حكم الجمع أم لا.
وقال الأكمل: فإن قيل: لما كان المثنى غير الجمع وجب أن لا يكتفى في الجمعة بالاثنين سوى الإمام، وقد اكتفي بالاثنين كما تقدم في باب الجمعة.
أجيب: بأن الأصل ما ذكرت ها هنا بأن العمل فيه بأوضاع الوحدان والجمع، إلا أني وجدت في الجمعة معنى لم يوجد في غيرها، وهو أنه إنما سميت جمعة لمعنى الاجتماع، وفي الجماعة والتثنية ذلك، فإن كانت التثنية في تحقيق معنى الاجتماع كالجمع، فاكتفيت بها، انتهى.
قلت: كلامه بهذه العبارة يوهم أنه هو القائل بما قاله حيث أسنده إلى نفسه وليس كذلك، فإن القائل لهذا هو أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث قال في " النهاية ": وأما أبو يوسف فيقول كان من حق حكم التثنية أن يغاير حكم الجمع في كل موضع، لأن فيه عملاً بالأوضاع وهو وحدان وتثنية وجمع، إلا أني قد وجدت في الجمعة، فذكره إلى آخر ما ذكره الأكمل.(4/136)
وجه الظاهر: أن في المثنى معنى الجمع، فيلحق به احتياطا لأمر العبادة، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال صاحب " النهاية ": قوله: قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تدخل الليلة الأولى كان من حقه أن يقال: عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما هو المذكور بلفظ عن في نسخ شروح " المبسوط " و " الجامع الكبير ".
م: (وجه الظاهر) ش: أشار به إلى أن ما ذكره أبو يوسف خلاف الظاهر م: (أن في المثنى معنى الجمع، فيلحق به) ش: أي بالجمع (احتياطا) ش: أي لأجل الاحتياط م: (لأمر العبادة) ش: أي لأجل أمر العبادة، وفيه إشارة إلى أن أبا حنيفة ومحمدا لم يلحقا المثنى بالجمع في الجمعة لعدم الاحتياط في ذلك؛ لأن الاحتياط في الخروج عن عهدة ما عليه يتعين، وذلك في الإلحاق غير معين لأن الجماعة شرط على حدة بالاتفاق، وفي كون التثنية بمعنى الجمع تردد لتجاذب المفرد والجمع، إذ هي بينهما في اشتراط الجمع لا تردد في الخروج، فكان شرطاً، وأما في الاعتكاف ففي إلحاقه بالجمع خروج عنهما بيقين، لأن إيجاب ليلتين مع يومين أحوط من إيجاب يومين بليلة فافهم.(4/137)
كتاب الحج الحج واجب على الأحرار البالغين العقلاء الأصحاء إذا قدروا على الزاد والراحلة فاضلا عن المسكن، وما لا بد منه، وعن نفقة عياله إلى حين عوده، وكان الطريق آمنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الحج] [حكم الحج]
م: (كتاب الحج) ش: أي هذه كتاب في بيان أحكام الحج، وإنما ذكره آخراً رعاية للترتيب بين العبادات الأربعة، أما الصلاة فإنها عماد الدين، وهي عبادة متكررة فذكرت أولاً وأما الزكاة فلأنها تالية للصلاة، أما الصوم فلأنه عبادة بدنية خاصة كالصلاة، وأما الحج فلأنه عبادة مركبة من البدن والمال، وأخر عن الصوم، لأن الفرد قبل المركب، ولأن الصوم يتكرر دون الحج، والاحتياج إليه أكثر، وذكر الأترازي ها هنا ما ذكره الناس، ثم قال: هذا ما أملاه خاطري في وجه المناسبة في هذا المقام، ونسبة الشخص شيئاً لنفسه مع كونه مسبوقاً به لا يحتج به، والحج في اللغة: القصد بفتح الحاء وكسرها.
وفي الشريعة: عبارة عن قصد مخصوص إلى مكان مخصوص على وجه التعظيم في أوان مخصوص، وذكر بعض العلماء كتاب المناسك عوض الحج؛ منهم الطحاوي والكرخي وصاحب " الإيضاح "، والمناسك جمع منسك بفتح السين بمعنى النسك، وهو كل ما يتقرب به إلى الله تعالى لكنه اختص في العرف بأفعال الحج والعمرة، والحج من الشرائع القديمة.
وروي أن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما حج تلقته الملائكة، وقالت: بر حجك فإننا قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.
وقال تعالى لإبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] الآية م: (الحج: الآية: 27) .
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانت الأنبياء، - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يحجون مشاة حفاة، وإبراهيم وإسماعيل - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حجا ماشيين، وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان النبي من الأنبياء إذا هلك قومه لحق مكة يعبد الله تعالى حتى يموت» ، وكذا من معه فمات فيها نوح وهود وصالح وشعيب - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وقبورهم بين زمزم والحجر، ونوح - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حج قبل الطوفان أيضاً، وكل نبي، بعد إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد حج.
قال م: (الحج واجب على الأحرار البالغين العقلاء الأصحاء إذا قدروا على الزاد والراحلة فاضلا عن المسكن، وما لا بد منه، وعن نفقة عياله إلى حين عوده، وكان الطريق آمنا) ش: هذا كله عبارة القدوري بعينها ذكرها المصنف ثم شرحها كلمة كلمة، وذكر الشراح كلهم أن المصنف ذكرها بلفظ الجمع، فقال: على الأحرار البالغين العقلاء الأصحاء، وذكر في الزكاة بلفظ الواحد، فقال: الزكاة واجبة على الحر العاقل المسلم، ثم أجابوا عن ذلك بناء على عادات الناس أنهم(4/138)
وصفه بالوجوب وهو فريضة محكمة ثبتت فرضيتها بالكتاب وهو قَوْله تَعَالَى: {ولله على النّاس حجّ البيت} [البقرة: 97] [الآية 97 آل عمران] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يؤدون الحج في الغالب بجمع عظيم، وأما الزكاة واجبة فلأن كل واحد يؤدي زكاة ماله بلا اجتماع.
قلت: هذا الجواب والسؤال في عبارة القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - نقل عبارته على هذا الوجه ولم يقل من عنده.
وجواب آخر في عبارة القدوري أن الألف واللام إذا دخلا على الجمع يبطل معنى الجمع، ويراد به الجنس.
م: (وصفه بالوجوب) ش: أي وصف القدوري الحج بلفظ الوجوب والضمير المرفوع في وصفه يرجع إلى القدوري، والمفهوم من كلام الشراح أنه يرجع إلى المصنف، وليس كذلك، وقال وصفه بالوجوب وسكت اكتفاء بما ذكره في أول كتاب الزكاة بقوله - والمراد بالواجب الفرض لأنه لا شبهة فيه - على أنه أشار إلى هذا أيضاً بقوله م: (وهو فريضة محكمة ثبتت فرضيتها بالكتاب) ش: لأن قوله - ثبتت - فيه تلميح إلى أن معنى الوجوب الثبوت بالكتاب، ولا يكون الثابت بالكتاب إلا الفرض.
م: (وهو) ش: أي الكتاب م: (قَوْله تَعَالَى: {ولله على الناس حج البيت} [البقرة: 97] [آل عمران: الآية: 97] ) ش: فيه وجوه من التأكيد منها قوله: على الناس، وكلمة على الإلزام، أي حق واجب في رقاب الناس، ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل من استطاع إليه سبيلاً بدون تكرير العامل، وفي هذا الإبدال من التأكيد، أحدهما: أن الإبدال تنبيه على المراد، والثاني: أنه إيضاح بعد الإبهام، وتفصيل بعد الإجمال.
ومنها قوله {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [البقرة: 97] : م: (آل عمران: الآية: 97) ، فكان قوله ومن لم يحج - تغليظاً على تارك الحج، وكذلك قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من مات ولم يحج» .... الحديث كذا قاله الكاكي.
فإن قلت: روى الترمذي من حديث علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعاً: «من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً» .
وقال الترمذي: غريب، وفي إسناده مقال، وقد روي عن علي موقوفاً.
ومنها ذكر الاستغناء، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان. ومنها قوله: {فإن الله غني عن العالمين} [البقرة: 97] م: (آل عمران: الآية: 97) ولم يقل عنه لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة، وقيل: إنما قال على الناس ولم يقل على المؤمنين، لأن هذا الحج غير(4/139)
ولا يجب في العمر إلا مرة واحدة؛ «لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قيل له: الحج في كل عام أم مرة واحدة؟ فقال: " لا بل مرة فما زاد فهو تطوع» ؛ ولأن سببه البيت، ولأنه لا يتعدد فلا يتكرر الوجوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واجب على الملائكة مع شمول اسم المؤمنين لهم، وليدل على عدم اختصاصه بهذه الأمة بحسب الظاهر.
م: (ولا يجب في العمر إلا مرة واحدة؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: (قيل له: الحج في كل عام أو مرة واحدة؟ فقال: " لا بل مرة واحدة فما زاد فهو تطوع) ش: هذا الحديث رواه أبو داود وابن ماجه في سننهما " عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي سفيان يزيد بن أمية عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن الأقرع بن حابس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقال يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة فقال لا بل مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع» .
ورواه الحاكم في " مستدركه "، وقال حديث صحيح الإسناد، إلا أنهما لم يخرجاه لسفيان ابن حسين وهو من الثقات.
م: (ولأن سببه) ش: أي سبب الحج م: (البيت) ش: أي الكعبة م: (ولأنه لا يتعدد فلا يتكرر الوجوب) ش: وقد علم أن السبب إذا لم يتكرر لا يتكرر المسبب، وإنما كان سببه البيت لإضافته إليه يقال حج البيت والإضافة دليل السببية، وقال الكرماني في " مناسكه " وعن بعض الناس يجب في كل سنة، وهو مردود.
وقال ابن العربي في " العارضة " يجب في العمر مرة واحدة بإجماع الأمة إلا من شذ، فقال يجب في كل خمسة أعوام ومتعلقه ماروي عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «على كل مسلم في خمسة أعوام أن يأتي بيت الله الحرام» . قال ابن العربي: قلنا رواية هذا الحديث حرام فكيف العمل به، وقال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ورد ما يدل على استحباب ذلك دون وجوبه عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال: «قال الله عز وجل: إن من صححته ووسعت عليه ولم يزرني من كل خمسة أعوام عاماً لمحروم» أخرجه أبو ذر الهروي وأبو بكر بن أبي شيبة وسعيد بن منصور، ويروى أربعة أعوام أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولفظه «أن الله تعالى يقول: إن عبداً أصححت له جسمه وأوسعت عليه في المعيشة تمضي عليه أربعة أعوام لا يعود إلي لمحروم» وقال ابن وضاح: يريد في الحج.(4/140)
ثم هو واجب على الفور عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل عليه. وعند محمد والشافعي - رحمهما الله - على التراخي؛ لأنه وظيفة العمر، فكان العمر فيه كالوقت في الصلاة. وجه الأول: أنه يختص بوقت خاص، والموت في سنة واحدة غير نادر فيضيق احتياطا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[شروط وجوب الحج] [البلوغ والحرية من شروط وجوب الحج] [حج العبد والصبي]
م: (ثم هو) ش: أي الحج م: (واجب على الفور عند أبي يوسف) ش: وبه قال أحمد، وفي " البدائع " و " التحفة " عن الكرخي أنه على الفور، والإمام أبو منصور الماتريدي يحمل الأمر المطلق على الفور. ومعنى يجب على الفور يعني عند استجماع شرائط الوجوب يتعين العام الأول عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - حتى يأثم بالتأخير عنه، والمراد من الفور أن يلزم المأمور فعل المأمور به في أول أوقات الإمكان مستعار للسرعة من فارت القدر فوراً إذا غلت.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل عليه) ش: أي وروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل على أنه على الفور مثل قول أبي يوسف، وهو ما قاله ابن شجاع كان أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: من كان عنده ما يحج به وكان يريد التزوج فإنه يبدأ بالحج: لأنه فريضة، وهذا يدل أنه على الفور، وفي " المحيط " و " المرغيناني " و " الكرماني " أن أصح الروايتين عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه على الفور، وفي " قنية المنية " يجب مضيقاً على المختار، وفي الأداء يرتفع الإثم.
م: (وعند محمد والشافعي - رحمهما الله - على التراخي) ش: وبه قال أبو حنيفة في رواية، وذكر الإمام علي بن موسى العمي أنه على التراخي، ولم يعزه إلى أحد وهو من عظماء أصحابنا، وله تصنيف في نقض مذهب الشافعي، وذكر أبو عبد الله البلخي أنه قال على التراخي عن أصحابنا جميعاً، وفائدة الخلاف أنه يأثم بالتأخير عند أبي يوسف ولا يأثم بالتأخير عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومعنى قول محمد على التراخي أن العام الأول يتعين، لكن عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يسعه التأخير بشرط أنه لا يفوته بالموت، وإذا مات عنه أثم، وعند الشافعي لا يأثم، وقال بعض أصحابه يأثم بالتأخير عن السنة الأولى إذا مات فيها.
وقال بعضهم: يأثم بالتأخير عن السنة التي مات فيها.
م: (لأنه) ش: أي لأن الحج م: (وظيفة العمر) ش: ألا ترى أنه لو أداه في السنة الثانية كان مؤدياً لا قاضياً م: (فكان العمر فيه كالوقت في الصلاة) ش: لأنه إذا أخر الصلاة إلى آخر الوقت يجوز، وكذا إذا أخر الحج إلى آخر العمر بشرط أن لا يفوته.
م: (وجه الأول) ش: وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه يختص بوقت خاص) ش: وهو أشهر الحج من كل عام، وكل ما اختص بوقت خاص، وقد فات عن وقته لا يدرك إلا بإدراك الوقت بعينه وإلا لا يكون مختصاً به، وذلك مدة طويلة تستوي فيه الحياة م: (والموت في سنة واحدة) ش: مشتملة على الفصول الأربعة [....] م: (غير نادر فيضيق احتياطا) ش: لا تحقيقاً(4/141)
ولهذا كان التعجيل أفضل، بخلاف وقت الصلاة؛ لأن الموت في مثله نادر، وإنما شرط الحرية والبلوغ؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أيما عبد حج، ولو عشر حجج، ثم أعتق فعليه حجة الإسلام، وأيما صبي حج عشر حجج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام» . ولأنه عبادة، والعبادات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل الاحتياط م: (كان التعجيل أفضل) ش: اتفاقاً.
م: (بخلاف وقت الصلاة) ش: جواب عن قوله: كالوقت في الصلاة م: (لأن الموت في مثله نادر) ش: يعني لأن الموت في مثل وقت الصلاة فجأة نادر م: (وإنما شرط البلوغ والحرية؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «أيما عبد حج، ولو عشر حجج، ثم أعتق فعليه حجة الإسلام وأيما صبي حج ولو عشر حجج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام» ش: هذا الحديث رواه الحاكم في " مستدركه " من حديث محمد بن المنهال، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما صبي حج ثم بلغ الحدث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى» وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
فإن قلت: رواه البيهقي في " سننه " ثم قال: الصواب وقفه، تفرد برفعه محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع عن شعبة، ورواه غيره عن شعبة موقوفاً.
قلت: قال الشيخ: رواه الإسماعيلي في جمعه لحديث سليمان الأعمش عن الحارث بن شريح أبي عمر، ويقال: الخوارزمي عن يزيد بن زريع به مرفوعاً فزال التفرد، وليس في رواية الحاكم عشر حجج، وذكر هذا فيه لبيان الكثرة؛ لأن العشر منتهى الآحاد، لا لبيان انحصار الحكم عليها.
وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم إلا من لا يعتد بخلافه أن الصبي والعبد لا يعتبر حجهما في حجة الإسلام، فإذا بلغ الصبي، وأعتق العبد ووجد إليه سبيلاً يجب عليهما، هكذا قاله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعطاء، والنخعي، والثوري، ومالك، والشافعي، وابن حنبل، وأبو ثور، والأعرابي محمول على أنه حج قبل إسلامه ثم أسلم وهاجر وحج بعده، وإنما أوجب عليه الإعادة لأنه كان جاهلا بأحكام الحج وكانوا يحجون في ذي القعدة ولا يعتد به.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الحج م: (عبادة، والعبادات بأسرها موضوعة عن الصبيان) ش:(4/142)
بأسرها موضوعة عن الصبيان، والعقل شرط لصحة التكليف، وكذا صحة الجوارح؛ لأن العجز دونها لازم،
والأعمى إذا وجد من يكفيه مؤنة سفره ووجد زادا وراحلة لا يجب عليه الحج عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما، وقد مر في كتاب الصلاة،
وأما المقعد، فعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجب عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لارتفاع القلم عنهم إلى وقت البلوغ، وأما العبد فإنه يجب عليه الصلاة والصوم، ولا يجب الحج لأن الحج لا يتأدى بدون المال غالباً، ولا يملك العبد شيئا وإن ملك، وفي الصلاة والصوم نفي عن أصل الحرية م: (والعقل شرط لصحة التكليف) ش: هذا لبيان قوله العقلاء، وقوله: م: (وكذا صحة الجوارح) ش: لبيان قوله: الأصحاء، أي: وكذا صحة الجوارح شرط؛ لأنه لا تكليف بدون الوسع، ولهذا لا يجب على من لا صحة له في جوارحه كما بينته الآن مفصلاً م: (لأن العجز دونها لازم) ش: أي دون الصحة؛ لازم والعاجز لا يجب عليه إلا في ماله إذا كان له مال مقدار ما يحج به وعنه غيره.
[حكم حج الأعمى والمقعد]
م: (والأعمى إذا وجد من يكفيه مؤنة سفره ووجد زادا وراحلة لا يجب عليه الحج عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: وبه قال مالك، وأراد بمؤنة سفره: من يقوده إلى الحج، وأراد بالزاد الذي يكفيه ذهاباً وإياباً، وبالراحلة النجيب أو النجيبة من الإبل، ولا يشترط الراحلة في أهل مكة ومن حولها، وقيل: يشترط لأن المشي إلى عرفة أربعة فراسخ، وفيه: حرج ولا يجب عليه الحج في قوله المشهور، وذكر الحاكم الشهيد في " المنتقى " أنه يلزمه، وفي " فتاوى قاضي خان "، و " الذخيرة "، أما لو وجد الأعمى زاداً وراحلة، ولم يجد قائداً لا يلزمه الحج بنفسه في قولهم، وهل يجب الإحجاج عنه بالمال عند أبي حنيفة لا يجب وعندهما يجب.
م: (خلافا لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد فإنه يجب عليه عندهما، وذكر شيخ الإسلام يلزمه قياساً على الجمعة، وبقولهما قال الشافعي، وأحمد م: (وقد مر في كتاب الصلاة) ش: أي وقد مر الكلام في هذه المسألة في كتاب الصلاة في باب الجمعة.
م: (وأما المقعد، فعن أبي حنيفة أنه) ش: أي الحج م: (يجب عليه) ش: وبه قال الشافعي، وأحمد، وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والمشهور عنه خلاف ذلك، وفي " المفيد ": لا يجب على الصبي، والعبد، والمجنون، والكافر، والمقعد، والزمن، والأعمى، والمريض، والمحبوس، ومن لا يملك الزاد والراحلة، فإن وجد الأعمى قائداً، أو المقعد، والزمن من يحمله إما بملك أو إعارة، أو إجارة لا يجب عليه عند أبي حنيفة، وعندهما يجب على الأعمى دون المقعد والزمن، وفي " مناسك الكرماني ": لا يجب على المعضوب بالعين المهملة، والضاد المعجمة وهو الذي لا يستمسك على الراحلة إلا بمشقة وكلفة عظيمة من كبر سن، أو ضعف بين، أو معللة الشلل والفالج، أو مقطوع اليدين أو الرجلين، أو كان(4/143)
لأنه يستطيع بغيره، فأشبه المستطيع بالراحلة، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجب لأنه غير قادر على الأداء بنفسه، بخلاف الأعمى لأنه لو هدي يؤدي بنفسه فأشبه الضال عنه،
ولا بد من القدرة على الزاد والراحلة، وهو قدر ما يكتري به شق محمل، أو رأس زاملة، وقدر النفقة ذاهبا وجائيا؛ «لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سئل عن السبيل إليه، فقال: الزاد والراحلة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
محبوساً آيساً من الخلاص، وتجب في أموالهم دون أبدانهم.
وفي الوبري: لو أحج صاحب العلة غيره ثم زالت يقع تطوعاً، وإن أحج غيره ثم عجز، ومات، لا يجزئه عن حجة الإسلام، ولو حج الفقير [.....] ماشياً سقط عنه حجة الإسلام، حتى لو استغنى بعد ذلك لا يلزمه ثانيا، ولو أحج غيره لا يسقط عنه، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يجوز، وعن أحمد روايتان.
م: (لأنه يستطيع بغيره، فأشبه المستطيع بالراحلة) ش: أي لأن المقعد يستطيع أن يؤدي أفعال الحج، بأن يحمله شخص فيؤدي المناسك به، فيصير حينئذ كالمستطيع بالراحلة.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجب لأنه غير قادر على الأداء بنفسه، بخلاف الأعمى لأنه) ش: أي لأن الأعمى م: (لو هدي) ش: على صيغة المجهول، أي لو أرشد م: (يؤدي بنفسه فأشبه الضال عنه) ش: أي فأشبه الأعمى الضال، أي التائه عن الطريق والتهدي إلى المشاعر والمواقيت والمطاف، فإنه يجب الحج عليه؛ لأنه قادر لسلامته لكنه يحتاج إلى مرشد، وكذلك الأعمى حاصله لا يسقط عنه، كما لا يسقط عن الضال.
[الاستطاعة من شروط وجوب الحج]
[ما تتحقق به الاستطاعة في الحج]
م: (ولا بد من القدرة على الزاد والراحلة) ش: هذا شرح قوله في أول الكتاب إذا قدر على الزاد والراحلة، ثم فسر الزاد، والراحلة بقوله: م: (وهو قدر ما يكتري به شق محمل) ش: بفتح الميم الأولى، وكسر الثانية، أي جانبيه؛ لأن له جانبين، ويكفي للراكب أحد جانبيه م: (أو رأس زاملة) ش: الزاملة البعير الذي يحمل عليه المسافر متاعه وطعامه، ومن زمل الشيء إذا حمله، يقال لها: بالفارسية - شبد ماري -.
م: (وقدر النفقة) ش: أي ولا بد من قدر النفقة حال كونه م: (ذاهبا وجائيا) ش: يعني ذاهباً إلى مكة وجائياً إلى وطنه حال كونه م: (راكباً) ش: وفي " شرح الطحاوي "، و " روضة الناطفي "، وذاهبا وجائياً وراكباً لا ماشيا بنفقة وسط بلا إسراف ولا تقتير م: (لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «سئل عن السبيل إليه، فقال: الزاد والراحلة» ش: هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، روى(4/144)
وإن أمكنه أن يكتري عقبة فلا شيء عليه، لأنهما إذا كانا يتعاقبان لم توجد الراحلة في جميع السفر. ويشترط أن يكون فاضلا عن المسكن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حديثه الترمذي، وابن ماجه عن إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومي عن ابن عمر قال: «قام رجل فقال: يا رسول الله من الحاج، فقال: " الشعث التفل "، فقام آخر: فقال: أي الحج أفضل؟ فقال: " العج والثج " فقام آخر فقال: ما السبيل يا رسول الله؟. قال: " الزاد والراحلة» ، قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه انتهى.
قال في " الإمام ": وقال النسائي: متروك، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال مرة: ليس بثقة، وقال الدارقطني: متروك الحديث، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - روى حديثه ابن ماجه من حديث عكرمة عنه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الزاد والراحلة، يعني قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [البقرة: 97] » .
وأخرجه الدارقطني من طريق أخرى عن ابن عباس قال: «قيل: يا رسول الله الحج كل عام؟ قال: " لا " قيل: فما السبيل إليه؟ قال: " الزاد والراحلة» وعن أنس روى حديثه الحاكم في " مستدركه " عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس «في قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [البقرة: 97] (آل عمران: 97) ، قيل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: " الزاد والراحلة» قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - روى حديثها الدارقطني، قالت: «سأل رجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [البقرة: 97] ... الآية، قال: " السبيل: الزاد والراحلة» .
وعن جابر روى حديثه الدارقطني أيضاً، من حديث عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله بلفظ حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى حديثه الدارقطني أيضاً من رواية إبراهيم عن حماد بن أبي سليمان، قال: إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود بنحوه، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص بنحوه.
م: (وإن أمكنه أن يكتري عقبة فلا شيء عليه) ش: أي إن أمكن من يريد الحج أن يكتري عقبة، أي ركوبة، وأكثر العقبة أن يكتري رجلان بعيراً واحداً يتعاقبان عليه في الركوب يركب كل واحد مرحلة ويمشي مرحلة، قوله: فلا شيء عليه، أي فلا حج عليه.
م: (لأنهما) ش: أي لأن الرجلين اللذين يريدان الحج م: (إذا كانا يتعاقبان لم توجد الراحلة في جميع السفر) ش: والشرط أن تكون الراحلة في جميع السفر م: (ويشترط أن يكون فاضلا عن المسكن) ش: هذا بيان لقوله في أول الكتاب: إذا قدروا على الزاد والراحلة، فاضلاً عن المسكن، أي يشترط أن يكون ما قدروا به من الزاد والراحلة فاضلاً عن مسكنه الذي يسكن فيه.(4/145)
وعما لا بد منه كالخادم، وأثاث البيت، وثيابه؛ لأن هذه الأشياء مشغولة بالحاجة الأصلية، ويشترط أن يكون فاضلا عن نفقة عياله إلى حين عوده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأكمل: وهو هناك منصوب على الحال من الزاد والراحلة، انتهى.
قلت: أخذ الأكمل هذا من كلام صاحب " النهاية "، ولكن ما كمل كلامه، فإنه قال هناك في أول الكلام: فاضلاً عن المسكن حال من الزاد والراحلة سواء، وكان حقه أن يقال: فاضلين لكن أفرده على تأويل كل واحد منهما، انتهى. قلت: الأحسن أن يكون فاضلاً هناك منصوباً على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره إذا قدروا على الزاد والراحلة أن يكون بطريق الملك أو الاستئجار على وجه يفضل قدر ذلك الملك، والاستئجار عن حاجته الأصلية، فإن المال المشغول بالحاجة الأصلية في حكم العدم، فلا يكون به مستطيعاً.
وفي " التحفة ": وهذا إذا قدر عليهما، أي على الزاد، والراحلة بطريق الملك لا بطريق الإباحة والعارية، سواء كانت الإباحة من جهته لا منة له، كالوالدين، والمولودين، أو من جهة المنة كالأجانب، وبه قال أحمد، وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إن كانت من جهة لا منة له يجب عليه، وإن كان من جهة الأجنبي فله فيه قولان، أما لو وهبه إنسان مالاً ليحج به لا يجب عليه القبول عندنا، وبه قال أحمد والشافعي فيه قولان في " الإيضاح ": ذكر ابن شجاع إذا كان له داراً لا يسكنها، وعبد لا يستخدمه، وما أشبه ذلك يجب عليه أن يبيعه ويحج به ويحرم عليه الزكاة إذا بلغ نصاباً، انتهى.
قلت: فكذلك قيد بقوله: فاضلاً عن المسكن.
م: (وعما لا بد منه) ش: أي يشترط أيضاً أن يكون الزاد والراحلة فاضلتين عما لا بد منه م: (كالخادم، وأثاث البيت) ش: قال الجوهري: الأثاث متاع البيت كالفرش والبسط وآلات الطبخ ونحو ذلك م: (وثيابه) ش: أي الثياب التي يلبسها هو م: (لأن هذه الأشياء مشغولة بالحاجة الأصلية) ش: والمشغول بالحاجة الأصلية في حكم العدم، وذكر في " فتاوى قاضي خان " فاضلاً عن فرسه وسلاحه، وقال بعض العلماء: إن كان الرجل تاجراً يملك ما لو وقع منه الزاد والراحلة لذهابه وإيابه ونفقة أولاده وعياله من وقت خروجه إلى وقت رجوعه ويبقى بعد رجوعه رأس مال التجارة التي كان يتجر بها كان عليه الحج وإلا فلا.
وإن كان حراثاً يملك ما يكفي الزاد والراحلة وتبقى له آلات الحراثين من البقر ونحو ذلك كان عليه الحج، وإلا فلا، هذا كله إذا كان آفاقياً، وأما إن كان مكياً، أو ساكناً بقرب مكة كان عليه الحج، وإن كان فقيرا لا يملك الزاد، والراحلة.
م: (ويشترط أن يكون فاضلا عن نفقة عياله) ش: هذا أيضاً بيان لقوله في أول الكتاب، وعن نفقة عياله م: (إلى حين عوده) ش: العيال جمع عيل، كجياد وجيد، كذا في " المغرب "، وذكره(4/146)
لأن النفقة حق مستحق للمرأة. وحق العبد مقدم على حق الشرع بأمره. وليس من شرط الوجوب على أهل مكة ومن حولهم الراحلة؛ لأنهم لا تلحقهم مشقة زائدة في الأداء فأشبه السعي إلى الجمعة، ولا بد من أمن الطريق؛ لأن الاستطاعة لا تثبت دونه. ثم قيل: هو شرط الوجوب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في باب الواو، فيدل على أنه أجوف واوي، يقال: عيال عال عياله عالهم وأنفق عليهم، وعيال الرجل من عليه نفقته، ولكن قول المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فاضلاً عن نفقة عياله، ثم تعليله بقوله م: (لأن النفقة حق مستحق للمرأة) ش: يدل على أن المراد من عياله هو امرأته.
وأيضاً قال: م: (وحق العبد مقدم على حق الشرع بأمره) ش: يدل على ذلك، ولكن ليس المراد من العيال المرأة وحدها، وقد قال قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فاضلاً عن نفقة عياله، وأولاده الصغار، وإنما كان حق المرأة مقدما على حق الشرع يعني على حق الله تعالى في أحكام الدنيا لحاجة العبد، وغنى الله - عز وجل - قوله: بأمره، أي بأمر الشرع، والباء تتعلق بقوله: مقدم ولم يقدر النفقة بمدة معلومة؛ لأن مدة السفر تختلف باختلاف المواضع فقدروا ذلك مطلقاً قدر مضيه وعوده.
وقال الكاكي: ثم قدر النفقة مرة شهراً، ومرة سنة على حسب اختلاف المسافة، وعن أبي يوسف: ونفقة شهر بعد عوده، قال المرغيناني: ليستريح شهراً عن التكسب، وفي " المحيط ": عن أبي عبد الله، ونفقة يوم بعد رجوعه إلى وطنه؛ لأنه يتعذر عليه التكسب في يوم قدومه، وقال الكرماني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويحسب نفقة الحقارة.
م: (وليس من شرط الوجوب على أهل مكة ومن حولهم الراحلة؛ لأنهم) ش: أي لأن أهل مكة، وأهل من كانوا حولها م: (لا تلحقهم مشقة زائدة في الأداء فأشبه السعي إلى الجمعة) ش: في عدم اشتراط الراحلة م: (ولا بد من أمن الطريق؛ لأن الاستطاعة لا تثبت دونه) ش: هذا بيان قوله في صدر الكتاب، إذا كان الطريق آمناً، والمراد من أمن الطريق أن يكون الغالب فيه السلامة، ولو كان بينه وبين مكة بحر يلزمه الحج عندنا، ولا يلزمه عند أبي يوسف، والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال عامة أصحابنا: لا يلزمه ذكره في قاضي خان وغيره، وقيل: إن كان التجارة هو الغالب يجب، وبه قال أحمد، وإسحاق، والإصطخري من أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والصحيح أنه لا يجب بكل حال، وبه قال بعض أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأن كل أحد لا يقدر على ركوب البحر والفرات والدجلة، وسيحون، وجيحون أنهار، وليست ببحار، وقال بعض أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إن كان الرجل ممن يعتاد ركوب البحر كالملاحين وأهل الجزائر لا يمنع الوجوب، وإلا يمنع لصعوبته عليه، وفي " الحلية ": نص في " الأم " أن البحر مانع من الوجوب.
م: (ثم قيل: هو) ش: أي الأمن م: (شرط الوجوب) ش: عند البعض، وهو رواية أبي شجاع(4/147)
حتى لا يجب عليه الإيصاء، وهو مروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقيل: هو شرط الأداء دون الوجوب، لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة لا غير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن أبي حنيفة أنه شرط الوجوب عند البعض، وهو رواية. وقال الشافعي، والكرخي، وأبو حفص الكبير من أصحابنا م: (حتى لا يجب عليه الإيصاء، وهو مروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: هذا ثمرة هذا القول، يعني لما كان أمن الطريق شرط الوجوب لا تجب عليه الوصية بالحج؛ لأنه لم يجب عليه الحج لعدم الشرط وهو الأمن.
م: (وقيل: هو) ش: أي أمن الطريق م: (شرط الأداء دون الوجوب) ش: وبه قال أحمد، وهو الصحيح م: (لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة لا غير) ش: يعني لمن يذكر أمن الطريق، فلو كان شرطاً لبينه؛ لأن تأخير البيان عن الحاجة لا يجوز. وفي " الإيضاح ": ثم الفرق بين الزاد والراحلة يتحقق، فإذا عدما لم يثبت الاستطاعة، وأما خوف الطريق فيعجزه عن الأداء بمانع ومعارض، فلا تنعدم الاستطاعة به، واعتبر هذا بالمحبوس، فإن المقيد الممنوع عن الشيء لا يكون نظير المريض لا يقدر وعلى هذا القول يجب عليه الإيصاء.
وفي " القنية " و " المجتبى ": قال الوبري: للقادر على الحج أن يمتنع من المكس الذي يؤخذ من القافلة، وبه قال الشافعي ومالك، إن كان يسيراً لزمه، وكذلك لو كان في الطريق خفارة، وقال غير الوبري: يجب الحج، وإن علم أنه يأخذ منه المكس. قال " صاحب القنية "، و " المجتبى ": وعليه الاعتماد، وفي " منية المفتي ": لو قتل بعض الحاج فهو عذر في تركه، وقال نجم الأئمة الحليمي، وأبو الليث: إن كان الغالب في الطريق السلامة تجب، وإن كان خلاف ذلك لا يجب عليه الاعتماد، ذكره في " القنية "، وفي " مناسك الكرماني " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان الغالب الانهزام، والخوف، وقطع الطريق لا يجب.
وفي " البدائع " إن كان بينه وبين مكة بحر حاجز، ولا سفينة ثمة، أو عدو حائل لا يجب. وفي " شرح المهذب " للنووي: شرط الأمن في ثلاثة أشياء، النفس، والمال، والصبغ في حق النساء، ولا يشترط أن يكون كأمن الحضر، بل يشترط أمن يليق بالبادية، ويكره بذل المال للمرصدين في المراصد، ولا يجب الحج مع ذلك، وإن استأجروا من يحضرهم في الطريق وجهان في وجوب الحج.
ويخرج للحج بغير إذن والديه إذا كان الطريق آمناً، وفي ركوب البحر لا يخرج إلا بإذنهما، وبإذن أحدهما لا يخرج، وإذا كانا كافرين، أو أحدهما مسلم وكرها خروجه، أو الكافر منهما إن لم يخف الضياع عليه، فإن خافه لا يخرج، وعند عدم الأبوين: الإذن إلى الجدين من قبل أبويه، والجدة من قبل أمه. وسئل الكرخي عمن وجب عليه الحج إلا أنه لا يخرج إلا أن القرامطة تدل على الناس بالبادية، فقال: ما سلمت البادية عن أحد، يعني أن ذلك(4/148)
قال: ويعتبر في المرأة أن يكون لها محرم تحج به، أو زوج، ولا يجوز لها أن تحج بغيرهما، إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ليس بعذر، والبادية لا تخلو عن الآفات كقلة الماء، وشدة الحر، وهيجان ريح السموم، وبه أفتى بعض أصحابنا.
وقال أبو القاسم الصفار - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أشك في سقوط الحج عن النساء في زماننا، وإنما أشك في سقوطه عن الرجال، والبادية عندي دار الحرب، وعند أبي حنيفة، وأبي عبد الله البلخي: ليس على أهل خراسان حج، وقال أبو بكر الإسكاف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أقول الحج فريضة في زماننا، قاله سنة ست وعشرين وثلاثمائة، وأفتى أبو بكر الرازي ببغداد، قيل: سقط الحج عن الرجال أيضاً في هذا الزمان، وبه قال الوبري، والبرهان الصغير بخوارزم وأبو الفضل الكرماني بخراسان، وعن الشيخ أبي بكر الوراق أنه خرج حاجاً، فلما سافر مرحلة قال لأصحابه: ردوني أرتكب سبعمائة كبيرة في مرحلة واحدة، فردوه.
[اشتراط الزوج أو المحرم للمرأة في الحج]
م: (قال: ويعتبر في المرأة أن يكون لها محرم تحج به، أو زوج) ش: وفي أكثر النسخ، قال: ويعتبر، أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويعتبر في المرأة.. إلخ، وسواء كانت المرأة شابة، أو عجوزة، قاله في قاضي خان، والولوالجي، وصفة المحرم كل من لا تجوز مناكحتها على التأبيد بأي وجه كانت الحرمة بقرابة أو رضاع أو صهرية؛ لأن الحرمة تزيل التهمة، والعبد والحر والذمي فيه سواء، إلا أن يكون مجوسياً يفسد نكاحها فلا يسافر بها معه، ولا يجب عليها أن تتزوج ليحج معها، كما لا يجب على الفقير اكتساب المال لأجل الحج.
وقال محب الدين الطبري: وافق أبو حنيفة في اشتراط المحرم، أو الزوج أصحاب الحديث، وهو قول النخعي، والحسن البصري، وسفيان الثوري، وأبي ثور، وابن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأحد قولي الشافعي، وقال ابن المنذر: والمحرم لها من السبيل، وقال البغوي من الشافعية: المنقول باشتراط المحرم أولى، واتفقوا على أنها لا تخرج بغير محرم في غير الفرض، وقال ابن سيرين: تخرج مع رجل من المسلمين، وقال حماد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس أن تسافر مع قوم صالحين بغير محرم.
م: (ولا يجوز لها أن تحج بغيرهما) ش: أي بغير المحرم والزوج يعني بغير واحد منهما، ولا يشترط كونهما معاً م: (إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام) ش: وقيل أقل من ذلك يجوز على ما يجيء عن قريب.
قيل: لما سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن السبيل فسره بالزاد والراحلة، ولم يذكر المحرم، فلو كان شرطاً لذكره.
وأجيب: بأن السائل كان رجلا.(4/149)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز لها الحج إذا خرجت في رفقة، ومعها نساء ثقات لحصول الأمن بالمرافقة. ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تحجن امرأة إلا ومعها محرم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيل: جاء في الحديث: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» .
وأجيب: بأن المراد به حضور الجماعة، ولم يرد الحج، بدليل سياق الخبر، وبيوتهن خير لهن.
وقيل: جازت لها الهجرة إلى دار الإسلام بلا محرم، فينبغي أن يجوز الحج.
وأجيب: بأن خوفها في القيام في دار الحرب أكثر من خوف الطريق.
م: (وقال الشافعي: يجوز لها الحج إذا خرجت في رفقة، ومعها نساء ثقات لحصول الأمن بالمرافقة) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي " شرح الوجيز ": هل يشترط أن يكون مع واحدة منهن محرم، فيه وجهان، نعم وبه قال القفال، وأصحهما: لا، وإن لم تجد نساء ثقات لم يكن لها الحج، هذا ظاهر المذهب، ورواه قولان: أحدهما: أن تخرج مع المرأة الواحدة، ذكره في " الإملاء "، واختار جماعة من الأئمة أن عليها أن تخرج وحدها إذا كان آمنا، وحكي هذا عن الكرابيسي، وهو قول الأوزاعي.
وأما في حج النفل فالأصح أن لا تخرج مع النساء وحدها، وفي السروجي: وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول تخرج مع نساء ثقات ولا تخرج مع واحدة وإن أمنت. وفي قول: تخرج مع واحدة، وفي قول: تخرج وحدها، وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " المدونة ": تخرج بلا محرم مع رجال مؤتمنين، وفي المرأة الواحدة المأمونة لا يشترط المحرم، ولا الزوج.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا تحجن امرأة إلا ومعها محرم» ش: هذا الحديث رواه البزار في " مسنده "، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع معبداً مولى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحج امرأة إلا ومعها محرم " فقال رجل: يا نبي الله إني اكتتبت في غزوة كذا، وامرأتي حاجة، قال: " ارجع فحج معها» ورواه الدارقطني في سننه " عن حجاج عن ابن جريج به، ولفظه: قال: «لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم» .(4/150)
ولأنها بدون المحرم يخاف عليها الفتنة، وتزداد بانضمام غيرها إليها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى الطبراني من حديث أبي أمامة الباهلي، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحل لامرأة أن تحج إلا مع زوجها أو محرم» ، وأخرج البخاري ومسلم عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تسافر امرأة ثلاثاً إلا ومعها زوج أو ذو محرم» وأخرجا عن أبي هريرة مرفوعا: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله، واليوم الآخر أن تسافر يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها» وفي لفظ لمسلم: " ثلاثاً "، وفي لفظ له: " فوق ثلاث "، وفي لفظ له: " ثلاثة أيام فصاعداً "، وأخرجا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مرفوعاً: «لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم» ولم يوقت فيه شيئاً.
وقال المنذري: ليس في هذه الروايات تباين، ولا اختلاف، فإنه يحتمل أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالها في مواطن مختلفة بحسب الأسئلة، ويحتمل أن يكون ذلك كله تمثيلاً لأقل الأعداد، واليوم الواحد أول العدد، وأقله الاثنان أول الكثير، والثلاث أول الجمع، وكأنه أشار أن مثل هذا في كل الزمن لا يحل لها السفر فيه مع غير محرم، فكيف بما زاد؟ وقد أورد الأترازي بحديث أبي هريرة المذكور سؤالاً وهو: أنه يدل على أن خروجها إلى السفر بغير محرم لا يجوز، ثم أجاب بما تلخيصه بأن الأحاديث إن كانت مؤخرة التزمه نسخ ما دون الثلاث، وإن كانت مقدمة يبقى العمل أيضاً إلى آخر ما ذكر.
قلت: دعوى النسخ لا تصح لعدم العلم بالتاريخ، والجواب ما ذكرناه.
م: (ولأنها بدون المحرم يخاف عليها الفتنة، وتزداد بانضمام غيرها إليها) ش: فإن المبتوتة إذا اعتدت في بيت الزوج بحيلولة جاز لم يكن انضمامها إليها فتنة، أجيب بأن انضمام المرأة إليها يعينها على ما يراد بمباشرتها وتعليمها ما عسى تعجز عنه بفكرها، وإنما لم يكن في المعتدة كذلك؛ لأن الإقامة موضع أمن، وقدرة على دفع الفتنة.
وقال الأكمل: وفيه نظر؛ لأن مثلها لا يعد ثقة، والكلام فيها؛ ولأن جواب المسند يناقض جواب المنع، والأولى أن يقال: من ناقصات دين وعقل لا يؤمن أن تنخدع فيكون عليها في الإفساد، ويتوسط في التطمين، والتمكين فتعجز عن دفعها في السفر، وهذا المعنى معدوم في الحضر لإمكان الاستعانة.
وأورد الكاكي إشكالاً في قوله: يخاف عليها أي الفتنة، وهو أنه يشكل على هذا سفر المهاجرة؛ لأن لها الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام بغير محرم، مع أن الهجرة ليست من أركان الدين والحج منها، فينبغي أن يجوز لها الحج بغير محرم بالطريق الأولى.
قلت: قد مر جوابه عن قريب مختصراً، ونعيده هنا فنقول: المهاجرة لا [....] السفر، ولكنها تقصد النجاة، ألا ترى أنها إذا وصلت إلى حي من المسلمين من دار الحرب صارت آمنة ليس لها بعد ذلك أن تسافر بغير محرم؛ ولأنها مضطرة هناك لخوفها على نفسها، ألا ترى أن(4/151)
ولهذا تحرم الخلوة بالأجنبية، وإن كان معها غيرها، بخلاف ما إذا كان بينها وبين مكة أقل من ثلاثة أيام؛ لأنه يباح لها الخروج إلى ما دون السفر بغير محرم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العدة لا تمنعها من الخروج هناك لو كانت معتدة لم يكن لها أن تخرج للحج، وتأثير فقد المحرم في المنع من السفر كتأثير العدة، فإذا منعت من الخروج لسفر الحج بسبب العدة فكذلك بسبب فقدان المحرم.
م: (ولهذا تحرم الخلوة) ش: أي ولأجل زيادة الفتنة بانضمام المرأة إليها تحرم الخلوة على الزوج م: (بالأجنبية) ش: أي بالمرأة الأجنبية م: (وإن كان معها غيرها) ش: أي مع الأجنبية غير الأجنبية.
فإن قلت: إذا شهد على الزوج بطلاق امرأته ثلاثا، قلتم يحال بينها وبينه بامرأة ثقة حتى تزكي الشهود، وكذا قلتم بالحيلولة بثقة في الطلقات الثلاث إذا اعتدت في بيت الزوج فما جعلتم انضمام المرأة إلى المرأة فتنة؟
أجيب بأن الإقامة بموضع أحسن من الأمنية تقدره على دفعه في مثله، بخلاف السفر فإنه مظنة العجز عن الدفع مع أن النص فرق بينهما.
م: (بخلاف ما إذا كان بينها وبين مكة أقل من ثلاثة أيام) ش: هذا متصل بقوله: ولا يجوز لها أن تخرج بغيرهما، يعني يباح لها الخروج بدونهما، أي بدون الزوج والمحرم م: (لأنه يباح لها الخروج إلى ما دون السفر بغير محرم)
ش: فإن قلت: ما تقول في حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المذكور عن قريب.
أجاب الأترازي: بأن الخبر الذي يكون معمولاً به بوجهين أولى بالأخذ من الخبر الذي يكون معمولاً به من وجه، أراد أن الخبر الذي فيه الثلاث معمول به بالوجهين، يعني في الثلاث وفيما دونه معمول به من وجه، وقيل: فيما دون مسافة القصر اضطراب كثير. وقال المرغيناني: اختلف فيما دون مسافة القصر، قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أكره لها أن تسافر يوماً، وهكذا عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
فإن قلت: روى البخاري من حديث عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا محرم معها، لا تخاف إلا الله " قال عدي: رأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله، ولم يذكر لها محرماً ولا زوجاً» والحيرة بكسر الحاء المهملة قرية بقرب الكوفة، والنسبة إليها حيري، وحاري على غير قياس، والجو بضم الجيم، وكسرها الذمام.
قلت: حديث عدي هذا يدل على الوقوع، ولا يدل على الجواز بوجه من وجوه الدلالة(4/152)
وإذا وجدت محرما لم يكن للزوج منعها، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: له أن يمنعها؛ لأن في الخروج تفويت حقه. ولنا أن حق الزوج لا يظهر في حق الفرائض، والحج منها، حتى لو كان الحج نفلا له أن يمنعها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بمطابقته، ولا بالتزامه؛ لأنه ورد في معرض الثناء على الزمان بالأمن والعدل، وذكر خروج المرأة على ذلك بلا خفير لبيان الاستدلال عليه، ولا يقال: تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ لأنا نقول: ما أخره بل بين حرمة خروجها في عدة أحاديث صحيحة ثابتة؛ ولأن الظعينة هي المودع، والمرأة الراكبة، والغالب أنها لا تسافر في هذا السفر البعيد مع هودجها، وحملها إلا ومعها من يحملها على جملها، ويركبها هودجها، ويخدمها ويخدم جملها، والغالب كالمتحقق.
فإن قلت: احتج الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بما روي عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها قالت: سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فأخبرت أن أبا سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يخبر عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يحل لامرأة أن تسافر ثلاثة أيام إلا ومعها محرم» فالتفتت إلينا عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقالت: ما كلهن لها محرم، وعن ابن عمر أنه سافر مع مولاة ليس هو بمحرم لها، ولا لها محرم، وما ورد من الخبر في نهي المرأة عن السفر محمول على الأسفار المباحة، فإنه لا يجوز السفر المباح لها عندنا بلا محرم في وجه، وفي وجه سفر الحج، والأول أصح عند الراويين من أصحابه.
قلت: قال الكاكي وغيره: والعجب من الشافعي أنه لم يعمل بالأحاديث الصحاح المشهورة، ويعمل بأثر عائشة وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مع شذوذهما، وعدم دلالتهما على عدم اشتراط المحرم، مع أن الأثر غير حجة عنده، وأثر عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يدل على تعجبها، وأثر ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يحتمل أن يكون قبل بلوغ الخبر إليه، وحملهم الحديث على الأسفار المباحة بعيد، لما روي من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " انطلق حج مع امرأتك ".
م: (وإذا وجدت محرما لم يكن للزوج منعها) ش: وبه قال أحمد بن حنبل، وأبو ثور، وإسحاق، وهو قول إبراهيم النخعي، وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يمنعها على القول بالفور، وفي القول بالتراخي قولان. وقال ابن المنذر في " الأشراف ": لا نعلم أنهم يختلفون أنه ليس له منعها.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: له أن يمنعها) ش: في أظهر القولين م: (لأن في الخروج) ش: أي في خروج المرأة إلى سفرها م: (تفويت حقه) ش: أي حق الزوج.
م: (ولنا أن حق الزوج لا يظهر في حق الفرائض) ش: ألا ترى أنه لا يمنعها من صيام رمضان، والصلوات م: (والحج منها) ش: أي من الفرائض م: (حتى لو كان الحج نفلا له أن يمنعها) ش: ولهذا(4/153)
ولو كان المحرم فاسقا، قالوا: لا يجب عليها؛ لأن المقصود لا يحصل به ولها أن تخرج مع كل محرم إلا أن يكون مجوسيا؛ لأنه يعتقد إباحة مناكحتها، ولا عبرة بالصبي والمجنون؛ لأنه لا تتأتى منهما الصيانة. والصبية التي بلغت حد الشهوة بمنزلة البالغة، حتى لا يسافر بها من غير محرم، ونفقة المحرم عليها؛ لأنها تتوسل به إلى أداء الحج. واختلفوا في أن المحرم شرط الوجوب، أو شرط الأداء على حسب اختلافهم في أمن الطريق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان له أن يحللها من ساعته، ولكن لا يؤخر تحليلها إلى ذبح الهدي، ويحللها من ساعته، وعليها هدي لتعجيل الإحلال، وعمرة، وحجة لصحة الشروع، بخلاف حجة الإسلام فإنه هناك لا يتحلل إلا بالهدي، وتحليله لها إن سماها، ويصنع بها ما يحرم عليها في الإحرام من قص ظفرها، ولا يكون التحلل بالنهي، ولا بقوله: حللتك.
م: (ولو كان المحرم فاسقا، قالوا) ش: أي علماؤنا م: (لا يجب عليها) ش: أي لا يجب الحج على المرأة م: (لأن المقصود) ش: حفظها عن الوقوع في سوء، وهو م: (لا يحصل به) ش: أي بالفاسق لاحتمال الفتنة منه م: (ولها) ش: أي للمرأة م: (أن تخرج مع كل محرم) ش: يعني سواء كان حراً أو عبداً، مسلماً أو ذمياً، لأن الذمي يحفظ محارمه، وإن كن مسلمات م: (إلا أن يكون) ش: أي المحرم م: (مجوسيا؛ لأنه يعتقد إباحة مناكحتها) ش: ولا يؤمن عليها.
م: (ولا عبرة بالصبي ولا بالمجنون؛ لأنه لا تتأتى منهما الصيانة) ش: لأنهما لا يصونان أنفسهما، فكيف يصونان غيرهما م: (والصبية التي بلغت حد الشهوة) ش: احترز به عن الصبية التي لا يشتهى مثلها؛ لأنها تسافر بها من غير محرم م: (بمنزلة البالغة، حتى لا يسافر بها من غير محرم) ش: لأنه يطمع فيها، ولا يؤمن من وقوع الفساد عليها.
م: (ونفقة المحرم عليها) ش: أي على المرأة م: (لأنها تتوسل به) ش: أي بالمحرم م: (إلى أداء الحج) ش: وبه قال أحمد، وقال صاحب " التحفة ": إذا لم يخرج المحرم إلا بنفقة منها هل تجب عليها نفقته، ذكر في شرح القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما تجب عليها نفقته؛ لأنها لا تتمكن من الحج إلا بالمحرم، كما لا تتمكن إلا بالزاد والراحلة، وذكر في " شرح الطحاوي " - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما يجب عليها نفقته، ولا يجب عليها الحج. وفي " التجريد ": قال أبو حفص - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجب عليها الحج حين يخرج المحرم بمال نفسه، وفي القدوري: تنفق على محرمها للحج بها، وفي المرغيناني: لا تجب نفقة المحرم، أو الزوج عليها، وفي " المبسوط ": عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تجب نفقة المحرم عليها، وفي " القنية ": كل من قال: المحرم يمنع الوجوب، هو الصحيح لقوله: لا تجب نفقة المحرم عليها، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يجب الحج عليها حتى تجد رفيقاً محرماً أو نسوة ثقات، ولو بأجرة على الأظهر.
م: (واختلفوا في أن المحرم شرط الوجوب، أو شرط الأداء على حسب اختلافهم في أمن الطريق)(4/154)
وإذا بلغ الصبي بعدما أحرم، أو أعتق العبد فمضيا لم يجزهما عن حجة الإسلام؛ لأن إحرامهما انعقد لأداء النفل فلا ينقلب لأداء الفرض. ولو جدد الصبي الإحرام قبل الوقوف، ونوى حجة الإسلام جاز، والعبد لو فعل ذلك لم يجزئه؛ لأن إحرام الصبي غير لازم لعدم الأهلية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي اختلف العلماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فيه، فقال: وجود المحرم، أو الزوج شرط الأداء، فعليها أن تتزوج، ونفقة المحرم عليها، وكذا قال القاضي أبو حازم عبد الحميد: هو شرط الأداء في رواية أبي شجاع عن أبي حفص الكبير، والكرخي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - شرط الوجوب، ذكره في " المحيط "، وفائدة الخلاف تظهر في وجوب الوصية، ومن شرائط وجوب الحج عليها خلوها عن العدة، أي عدة كانت، وعند أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا تخرج في عدتها عن وفاة درجتين، وتخرج في الطلاق البائن.
[حكم بلوغ الصبي وعتق العبد بعد شروعهما في الحج]
م: (وإذا بلغ الصبي بعدما أحرم، أو أعتق العبد فمضيا) ش: على حجهما م: (لم يجزهما عن حجة الإسلام؛ لأن إحرامهما انعقد لأداء النفل فلا ينقلب لأداء الفرض) .
ش: فإن قيل: الإحرام شرط عندنا بمنزلة الوضوء للصلاة والصبي إذا توضأ قبل البلوغ ثم بلغ بالسن تجوز به الصلاة.
قلنا: الإحرام يشبه الوضوء من حيث إنه مفتاح الحج، كما أن الوضوء مفتاح الصلاة، ونية سائر أعمال الحج من حيث إنه يفعل في أعمال الحج فيكون من هذه الوجوه ركنا، والأخذ في العبادات بالاحتياط أصل، كذا في " جامع شمس الأئمة ".
وفي " المبسوط ": لو بلغ بعد الإحرام قبل الوقوف، أو الطواف لم يجزئه عن حجة الإسلام عندنا، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجزئه، وكذا بناء على ما مضى في كتاب الصلاة، إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخره يجزئه عنه، وجعله كأنه بلغ قبل أدائها، وهاهنا أيضاً نجعله كأنه بلغ قبل مباشرة الإحرام فتجزئه عن الفرض.
م: (ولو جدد الصبي الإحرام قبل الوقوف ونوى حجة الإسلام جاز) ش: يعني لو جدد إحرامه بعد البلوغ قبل الوقوف، ونوى حجة الإسلام جاز عن حجة الإسلام م: (والعبد لو فعل ذلك) ش: أي تجديد الإحرام بعد العتق قبل الوقوف م: (لم يجزئه) ش: أي عن حجة الإسلام م: (لأن إحرام الصبي غير لازم لعدم الأهلية) ش: ولهذا لو أحصر لا يلزمه قضاء، ولا دم، ولو تناول شيئاً من محظوراته لا يلزمه شيء، فإذا كان إحرامه غير لازم انفسخ بتجديد الإحرام للفرض لكونه محتملاً للفسخ، كمن باع عبداً بألف ومائة تنفسخ الأولى ضرورة لا محالة، وتجديد الثاني لأن البيع كان محتملاً للفسخ.(4/155)
أما إحرام العبد لازم فلا يمكنه الخروج منه بالشروع في غيره، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أما إحرام العبد لازم) ش: لأنه من أهل اللزوم لكامل الأهلية فلا يقبل إحرامه لفضل الانفساخ م: (فلا يمكنه الخروج منه بالشروع في غيره) ش: للزوم أجزائه، ولهذا لو أصاب صيداً لزمه الصيام لكونه جانياً على إحرامه، فإذا كان كذلك لا يتمكن من بعد العتق من فسخ ذلك الإحرام.(4/156)
فصل والمواقيت التي لا يجوز أن يجاوزها الإنسان إلا محرما خمسة: لأهل المدينة ذو الحليفة ولأهل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل المواقيت المكانية للحج] [دخول الآفاقي مكة بدون إحرام]
م: (فصل) ش: أي: هذا فصل لا يعرب إلا بهذا التقدير؛ لأن الإعراب لا يكون إلا في الركب، ولما فرغ من ذكر من يجب عليه الحج، وذكر شرط الوجوب، وما يتبعها، شرع في بيان أول ما يبدأ به من أفعال الحج، وهي المواقيت التي لا يجوز أن يتجاوزها الإنسان إلا محرماً.
م: (والمواقيت التي لا يجوز أن يجاوزها الإنسان إلا محرما خمسة) ش: الواو في أول المواقيت واو الاستفتاح، وقد ذكرنا مرة، والمواقيت مرفوع بالابتداء، وخبره خمسة أي خمسة مواضع، وهو جمع ميقات أصله موقات، قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها كالموازين جمع ميزان أصله موزان ففعل به ما ذكرناه، والميقات على وزن مفعال وهو الوقت المحدود، فاستعير للمكان، قال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الميقات موضع الإحرام. م: (لأهل المدينة) ش: ويجوز أن يكون التقدير الميقات لأهل المدينة النبوية م: (ذو الحليفة) ش: فيكون ذو الحليفة جزءا وعلى كلا التقديرين لأهل المدينة ظرف مستقر، وقال البكري م: (ذو الحليفة) ش: تصغير حلفة، وهي ما بين بني جشم بن بكر بن هوازن وبين بني خفاجة القبلتين بينه وبين المدينة من ستة أميال وقيل: سبعة، وهو كان منزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج من المدينة أو عمره، وكان ينزل تحت شجرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة اليوم، قال ابن حزم: على أميال من المدينة، وقال عياض: في الأميال على سبعة، وقال النووي: نحو ستة أميال، وقال الصباغ: ميل، وقال محب الدين الطبري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا خطأ ظاهر.
قلت: وذكر الرافعي بينها، وبين المدينة ميل، وهو أيضاً خطأ؛ لأن الحس يرد ذلك، وقال شيخنا في " شرح الترمذي ": بينه وبين مكة عشرة مراحل، وقيل: عشرة أيام بينه وبين المدينة فرسخان ستة أميال، هذا هو الصواب، والميل ثلث فرسخ، والفرسخ اثنتي عشرة ألف خطوة، وقال السروجي: الميل أربعة آلاف ذراع بذراع محمد بن فرح الشاشي، قلت: العوام يسمون ذا الحليفة آبار علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(4/157)
العراق ذات عرق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأهل العراق ذات عرق) ش: بكسر العين، والكلام فيه كالكلام في ذي الحليفة لأهل المدينة، وهذا هو الثاني من المواقيت، وهو ما بين المشرق والشمال من مكة، قال الكرماني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هي ميقات جميع أهل المشرق، بينها وبين مكة اثنان وأربعون ميلاً وقال غيره بينهما مرحلتان، وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الأصل في حقهم، أي في حق أهل المشرق الإحرام من العقيق اسم لذات عرق، وهو سهو منه، وبينهما مرحلة، وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لما فتح هذان المصران أتوا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حد لأهل نجد قرناً، فإنه جوز عن طريقنا، وإن أردنا أن نأتي قرناً شق علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم، قال: فحد لهم ذات عرق، رواه البخاري.
وقال الشيخ تقي الدين في " الإمام ": المصران البصرة، والكوفة، وغيرهما ما يقرب منهما، قال: وهذا الحديث يدل على أن ذات عرق مجتهد فيها لا منصوصة.
قلت: أنكر ذلك عليه، وقد أخرج مسلم في " صحيحه ": من حديث أبي الزبير عن جابر قال: سمعت أحسبه رفع الحديث إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق، ومهل أهل نجد من قرن، ومهل أهل اليمن من يلملم» .
فإن قلت: شك الراوي في رفعه.
قلت: أخرجه ابن ماجه من حديث أبي الزبير عن جابر قال: «خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " مهل أهل الشرق من ذات عرق " ثم أقبل بوجهه إلى الأفق فقال: " اللهم أقبل بقلوبهم» وهذه الرواية ليس فيها شك من الراوي.
فإن قلت: في سنده إبراهيم بن يزيد الخوزي لا يحتج به.
قلت: روى أبو داود في " سننه " عن أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقت لأهل العراق ذات عرق،» ورواه النسائي أيضاً.
فإن قلت: كان أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ينكر هذا الحديث عن أفلح بن حميد، قاله ابن عدي.
قلت: روى عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن مالك عن نافع عن ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقت لأهل العراق ذات عرق» .
فإن قلت: كان الدارقطني يقول: عبد الرزاق لم يتابع على ذلك، ورواه أصحاب مالك عنه ولم يذكروا فيه ميقات أهل العراق.(4/158)
ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: روى البزار في " مسنده " عن مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: «وقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل المشرق ذات عرق،» ورواه الشافعي، أخبرنا سعيد بن سالم أخبرني ابن جريج أخبرني عطاء «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقت لأهل المشرق ذات عرق،» رواه الشافعي، فذكره مرسلاً بتمامه، فلم يتوجه الإنكار على الشيخ تقي الدين فيما قاله؛ لأن الصواب معه.
وقال الأترازي: فإن قلت: كيف وقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات عرق لأهل العراق، ولم يفتح العراق إلا بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ ثم أجاب بأنه مثلما وقت لأهل الشام الجحفة ولم تفتح الشام إلا بعده - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وقد كان يعلم بطريق الوحي أن العراق ستكون دار الإسلام، كان يعلم أن الشام كذلك.
م: (ولأهل الشام الجحفة) ش: الكلام فيه مثل الكلام على ما قبله، وهذا هو الثالث من المواقيت، وهي ميقات أهل مصر، والمغرب، والشام، من طريق تبوك، وهي قرية بين الغرب، والشمال من مكة بينها، وبين مكة اثنان وثمانون ميلاً، وقال النووي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بينهما ثلاث مراحل، أو أكثر، أو أقل. وقيل: أربع مراحل، وقال الغزالي في بسطه: خمسون فرسخاً.
وقال في " المشارق ": بينها وبين البحر ستة أميال، وبينها وبين المدينة ثمان مراحل، ويقال لها: مهيعة بكسر الهاء على وزن معيشة، وضبطت في رواية أبي ذر بإسكان الهاء، وفتح الياء على وزن مفعلة، والأول الصحيح، وإنما سميت الجحفة لأن العماليق أخرجوا إخوة عاد من يثرب فنزلوا مهيعة، فجاء السيل فأجحفهم، أي استأصلهم من قولهم: أجحف بهم الذئب إذا استأصلهم، وقد ذكرت في شرح " الكنز "، أن الجحفة موضع بالقرب من رابغ وهو رسم خال لا يسكن به والعوام يقولون: جحفة هي الرابغ، وليس كذلك، بل هي مثل ما ذكرنا.
م: (ولأهل نجد قرن) ش: هذا هو الرابع من المواقيت، وهو بفتح القاف، وسكون الراء بلا خلاف، ويقال له: قرن المنازل، وقرن الثعالب، وقال الجوهري: القرن بفتح الراء موضع، وهو ميقات أهل نجد، ومنه أويس القرني، قال السروجي: هو مأخوذ عليه من مكانين فيه وفي تحريك الراء، ونسبة أويس إلى قرن بطن مراد، وغلط القاضي وغيره.
وفي " الإكمال "، قيل: هو بالسكون اسم الجبل الشرق على الموضع، وبالفتح مفترق الطرق. ونجد بفتح النون، قال صاحب " المطالع ": هي من عمل اليمامة، وفي " مناسك الطبري ": قرن ميقات نجد اليمن، ونجد الحجاز، ونجد تهامة، ونجد الطائف، وقرن شرقي مكة، بينهما اثنان وأربعون ميلاً، وكانت فيه وقعة الطعان على بني عامر، يقال له: يوم قرن. وفي(4/159)
ولأهل اليمن يلملم هكذا وقت رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هذه المواقيت لهؤلاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" الإمام ": هو تلقاء مكة على يوم وليلة منها.
م: (ولأهل اليمن يلملم) ش: وهذا هو الخامس من المواقيت ويقال له: ألملم بالهمزة موضع الياء، وقال ابن السيد: أرمرم بالراء أيضاً، وهو جنوب مكة وبينه وبين مكة ثلاثون ميلاً، وفي " الإمام ": هو جبل من جبال تهامة على ليلتين من مكة، وهو ميقات المتوجهين من تهامة وبعض اليمن؛ لأن اليمن نجد وتهامة.
وقال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز صرفه وتركه، قلت: على تأويل المكان والبقعة، وأنشد بعضهم يقول:
عرق العراق ويلملم اليمن ... بذي الحليفة يحرم المدني
والشام جحفة إن مررت بها ... ولأهل نجد قرن فاستبن
والآخر، ذكره تاج الشريعة:
قرن يلملم ذو الحليفة جحفة ... بل ذات عرق كلها ميقات
نجد تهامة والمدينة مغرب ... شرق وهي إلى الذي مر قات
وقال الأترازي في " شرحه ":
ومما قلته في المواقيت ... ذات عرق عراقي
يلملم ليماني ... وذو الحليفة مدني
وجحفة للشامي داني ... ثم نظر قرن لأهل نجد
منه للإحرام باني ... قلدوا للموت واتبوا بخراب
م: (هكذا وقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه المواقيت لهؤلاء) ش: أي المواقيت الخمسة المذكورة، قوله: هؤلاء، أي للمذكورين من أهل ذي الحليفة، وأهل العراق، وأهل الشام، وأهل نجد، وأهل اليمن، والأصل فيه ما رواه البخاري، ومسلم من حديث طاووس عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن، من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة» ، ومن كان دون ذلك، فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة، وليس فيه ذكر ذات عرق، وإنما ذكر هذا في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقت لأهل العراق ذات عرق،» وقد مر الكلام فيه آنفاً مستقصى.(4/160)
وفائدة التأقيت المنع عن تأخير الإحرام عنها؛ لأنه يجوز التقديم عليها بالاتفاق،
ثم الآفاقي إذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وفائدة التأقيت) ش: بسكون الهمزة لغة في التوقيت م: (المنع عن تأخير الإحرام عنها) ش: أي عن هذه المواقيت، قيد بالتأخير لأن التقديم ليس بممنوع عندنا، لكن إذا قدم الإحرام قبل أشهر الحج يكون مسيئاً عندنا، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يجوز، كذا صرح به في " شرح الطحاوي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قلت: تقديم الإحرام على هذه المواقيت جائز بالإجماع.
وقال داود الظاهري: إذا أحرم قبل هذه المواقيت فلا حج له ولا عمرة، والأفضل عندنا تقديم الإحرام عن هذه المواقيت، والتأخير إليها رخصة من الله تعالى، ورفق بالناس وكره التقديم مالك وأحمد وإسحاق، قيل: والشافعي، وليس بصحيح؛ لأن النووي ذكر في " المنهاج " الأفضل أن يحرم من دويرة أهله، وفي قول من الميقات، وهو الأظهر، وقال إبراهيم النخعي: كانوا يستحبون لمن لم يحج أن يحرم من بيته، ونقل القرطبي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إتمام الحج، والعمرة أن يحرم بهما من دويرة أهله، وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله، أخرجه البيهقي.
وقال القرطبي في " شرح الموطأ " بإسناده أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أهل من بيت المقدس وقال أبو عمر بن عبد البر: أحرم ابن عمر من بيت المقدس عام الحكمين، وذكر أنه شكر التحكيم بدومة الجندل، فلما اتفق عمرو بن العاص وأبو موسى من غير اتفاق نهض إلى بيت المقدس فأحرم منه، رواه مالك، وسعيد، ويدل على صحة ذلك أن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعمران بن الحصين، وابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أحرموا من المواضع البعيدة قبل المواقيت، وهم فقهاء الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وقد شهدوا إحرام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلموا أن إحرامه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من ميقاته كان تيسيراً على أصحابه ورخصة لهم، وابن عمر كان أشد الناس اتباعاً لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال القرطبي: كان إحرام ابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من الشام، وكان إحرام عمران بن الحصين من البصرة، وابن مسعود من القادسية، وكان إحرام علقمة والأسود، وعبد الرحمن بن يزيد الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من بيوتهم، وإحرام سعيد بن جبير من الكوفة على بغلة، رواه سعيد بن منصور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو قول الثوري، والحسن بن حي، وقال إسماعيل القاضي: والذين أحرموا قبل الميقات من الصحابة، والتابعين كثير.
م: (لأنه يجوز التقديم عليها بالاتفاق) ش: أي لأن الشأن أنه يجوز له تقديم الإحرام على المواقيت بلا خلاف، وقد مر الآن الكلام فيه.
م: (ثم الآفاقي) ش: هو من كان خارج المواقيت، قيل: الصواب يبقى نسبة إلى المفرد، وهو الأفق، والآفاقي واحد، فإن السماء، والأرض وهي نواحيها.(4/161)
انتهى إليها على قصد دخول مكة عليه أن يحرم قصد الحج، والعمرة أو لم يقصد عندنا؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا يجاوز أحد الميقات إلا محرما» . ولأن وجوب الإحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة فيستوي فيه التاجر والمقيم وغيرهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إذا انتهى إليها) ش: أي إلى هذه المواقيت م: (على قصد دخول مكة عليه أن يحرم قصد الحج، أو العمرة أو لم يقصد عندنا) ش: وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز له مجاوزة الإحرام إذا لم يرد النسك، وفي " النهاية ": وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنما يجب الإحرام عند الميقات على من أراد دخول مكة للحج والعمرة، فأما من أراد دخولها لقتال فليس عليه الإحرام عنده قولاً واحداً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخلها يوم الفتح بغير إحرام، فإن أراد دخولها للتجارة أو طلب غريم له فيه قولان.
وفي " المنهاج " للنووي: من قصد مكة غير محرم لا شك أنه يستحب له أن يحرم بحج أو عمرة، وفي قول: يجب إلا أن يتكرر دخولها كحطاب، وصياد، وقال مالك: من دخل مكة غير محرم متعمداً أو جاهلاً فقد أساء، ولا شيء عليه، وفي " النوادر ": يحرم على غير المترددين دخولها، وإن لم يرد نسكاً، وفي " المغني ": قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يدخلها أحد بغير إحرام، وعنه ما يدل على أن الإحرام مستحب.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجاوز أحد الميقات إلا محرما» ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا الحديث رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه "، حدثنا عبد السلام بن حرب عن حصين عن سعيد عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجاوزوا الوقت إلا بإحرام» ورواه الطبراني في " معجمه ".
م: (ولأن وجوب الإحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة فيستوي فيه التاجر والمقيم وغيرهما) ش: أي غير التاجر، والمقيم مثل طلب غريم له في الحرم، أو هارب من أحد، أو طالت حاجته، ونحو ذلك؛ لأن المقصود من الإحرام عند الميقان تعظيم مكة شرفها الله تعالى، والمكي بالاستيطان لها، أو لما حولها جعل نفسه تبعاً لها، فلم يتصور منه القدوم عليها، فلا يلزمه ما يجب بحق القدوم على الآفاقي، فإنهم كالحراس حول الحصن. وقال أبو بكر - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " العارضة ": الدخول بغير إحرام لأجل القتال حلال أبداً، بل واجب حتى لو يغلب فيها كفاراً يجب قتالهم فيها بالإجماع.(4/162)
ومن كان داخل الميقات له أن يدخل مكة بغير إحرام لحاجته؛ لأنه يكثر دخوله مكة وفي إيجاب الإحرام في كل مرة حرج بين فصاروا كأهل مكة حيث يباح لهم الخروج منها، ثم دخولها بغير إحرام لحاجتهم، بخلاف ما إذا قصد أداء النسك؛ لأنه يتحقق أحيانا فلا حرج، فإن قدم الإحرام على هذه المواقيت جاز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وأتمّوا الحجّ والعمرة لله} [البقرة: 196] [196 البقرة] وإتمامها أن يحرم بهما من دويرة أهله، كذا قاله علي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ومن كان داخل الميقات) ش: أي ومن كان وطنه بين الميقات ومكة م: (له أن يدخل مكة بغير إحرام لحاجته) ش: أي لأجل حاجته م: (لأنه يكثر دخوله مكة، وفي إيجاب الإحرام في كل مرة حرج بين) ش: أي ظاهر، والحرج مدفوع شرعاً م: (فصاروا كأهل مكة، حيث يباح لهم الخروج منها، ثم دخولها بغير إحرام لحاجتهم) ش: روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رخص للحطابين أن يدخلوها بغير إحرام» والظاهر أنهم لا يجاوزون الميقات، فدل أنه من كان داخل الميقات.
م: (بخلاف ما إذا قصد أداء النسك) ش: أي الحج والعمرة، حيث لا يجوز دخوله بلا إحرام ولا مجاوزة الميقات بالإحرام إن خرج عن الميقات م: (لأنه يتحقق أحيانا) ش: أي لأن قصد من كان داخل الميقات أن النسك متحقق في بعض الأحيان م: (فلا حرج) ش: حينئذ بخلاف قصده غير، وذلك ليس بحطب وبحشيش وحاجة ونحوها، فإنه يكثر، وفي إيجاب الإحرام حرج.
م: (فإن قدم الإحرام على هذه المواقيت) ش: أي المواقيت المذكورة م: (جاز) ش: وهذا إجماع خلافاً لداود الظاهري، فإنه يجوزه ولا حج له م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: الآية 196] ش: وإتمامها أن يحرم بهما) ش: أي بالحج والعمرة م: (من دويرة أهله، كذا قاله علي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ش: حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه الحاكم في " المستدرك "، في المعتبر من حديث آدم بن أبي إياس، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن أبي سلمة المرادي، قال: سئل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن قول الله - عز وجل -: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) ، قال: أن تحرم من دويرة أهلك، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
ورواه البيهقي في " سننه "، وقال: وروي من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعاً وفيه نظر، وحديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غريب. وقال الأترازي: روي ذلك عن علي، وابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولم يبين حال تخريجه، قال في " النهاية ": كان شيخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كثيراً ما يقول: إن ذكر الدار ها هنا بلفظ التصغير بمقابلة(4/163)
والأفضل التقديم عليها؛ لأن إتمام الحج مفسر به، والمشقة فيه أكثر، والتعظيم له أوفر، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما يكون أفضل إذا كان يملك نفسه أن لا يقع في محظور.
ومن كان داخل الميقات فوقته الحل، معناه الحل الذي بين المواقيت وبين الحرم لأنه يجوز إحرامه من دويرة أهله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعظيم بيت الله تعالى، يعني أن بيت الله يعظم، وغيره من البيوت يصغر.
م: (والأفضل التقديم عليها) ش: أي الأفضل تقديم الإحرام على المواقيت م: (لأن إتمام الحج مفسر به، والمشقة فيه أكثر، والتعظيم أوفر) ش: وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الإحرام من الميقات هو الأفضل؛ لأن الإحرام عنده من الأداء، وبه قال مالك، وأحمد، وهو اختيار المزني، والبويطي، وعن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كقولنا، وفي " شرح الوجيز ": وهو الأظهر، وعن أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «من أحرم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بحج أو عمرة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ووجبت له الجنة» وفي رواية: «وإن كانت أكثر من زبد البحر» رواه أبو داود، وأحمد، وابن ماجه، والدارقطني.
فإن قلت: ما حاله؟
قلت: أبو داود إذا أخرج حديثا، ولم يتكلم في رجاله كان حجة لأن فيه مسارعة إلى الطاعة.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما يكون) ش: أي التقديم م: (أفضل إذا كان) ش: أي الذي يحرم قبل المواقيت م: (يملك نفسه أن لا يقع في محظور) ش: من محظورات الإحرام، وفي " المجتبى ": قال أصحابنا: وكلما قدم الإحرام عليها فهو أفضل إذا ملك نفسه، وعن بعض أصحاب الشافعي: يستحب التقديم عنده قولاً واحداً.
فإن قلت: كيف يكون التقديم أفضل، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم من الميقات؟
قلت: كان ذلك لبيان الجواز لمن لا يأمن على نفسه ارتكاب محظور الإحرام، وشفقته على الضعفاء.
م: (ومن كان داخل الميقات فوقته الحل) ش: أي موضع إحرامه الحل، وقد فسره بقوله: م: (معناه الحل الذي بين المواقيت وبين الحرم؛ لأنه يجوز إحرامه من دويرة أهله) ش: وهذا دليل لما ادعاه في معنى الحل، يعني المراد به الحل الذي بين المواقيت، وبين الحرم لا مطلق الحل، أن لو كان مراده المطلق، فحينئذ يصير هو كالآفاقي، ولما جاز له أن يحرم من دويرة أهله، وحيث جاز له ذلك جاز له أن يحرم من دويرة أهله جاز من أي المواضع شاء من أصل، ومثاله إذا كان من أهل بستان بني عامر، أو نخلة، أو عسفان أو خليص، فالأفضل أن يكون إحرامه من منزله، ويجوز عندنا تأخيره إلى الحرم، ولا معنى لذكر الحل الذي هو قبل منزله إلى المواقيت، ومثله في(4/164)
وما وراء الميقات إلى الحرم مكان واحد. ومن كان مكة فوقته في الحج الحرم، وفي العمرة الحل؛ لأن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أمر أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن يحرموا بالحج من جوف مكة وأمر أخا عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن يعمرها من التنعيم وهو في الحل» ولأن أداء الحج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المواقيت إلى آخر الأرض.
وفي " المحيط "، و " البدائع ": من كان داخل الميقات كأهل بستان بني عامر فميقاته في الحج والعمرة من داره إلى الحرم، ومن داره أفضل، وكذا الآفاقي إذا حل في البستان، والمكي إذا أخرج إليه من الحرم يكون حكمه حكم أهل البستان.
م: (وما وراء الميقات إلى الحرم مكان واحد) ش: في حقه بدليل حل الاصطياد والاحتطاب في هذه الأماكن م: (ومن كان بمكة) ش: أي ومن كان وطنه بمكة م: (فوقته) ش: أي فموضع إحرامه م: (في الحج) ش: يعني في قصده في الحج م: (الحرم) ش: يعني يحرم منه م: (وفي العمرة) ش: أي في قصد العمرة م: (الحل) ش: أي خارج الحرم م: (لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أمر أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن يحرموا بالحج من جوف مكة) ش: هذا الحديث أخرجه مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، قال: فأهللنا من الأبطح» وذكره البخاري تعليقاً، فقال: وقال أبو الزبير: عن جابر: أهللنا من البطحاء.
م: (وأمر أخا عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن يعمرها من التنعيم) ش: أي وأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخا عائشة هو عبد الرحمن بن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وهذا الحديث أخرجه البخاري، ومسلم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موافقين لذي الحجة، فلما كان بذي الحليفة إلى أن قالت: فلما كان ليلة الصدر أمر يعني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الرحمن فذهب بها إلى التنعيم، فأهلت بعمرة مكان عمرتها، فطافت بالبيت فقضى الله عمرتها وحجتها» .
م: (وهو) ش: أي التنعيم م: (في الحل) ش: وهو موضع قريب من مكة عند مسجد عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وسمي تنعيماً؛ لأن عن يمينه جبلاً يقال له نعيم، وعن شماله جبل يقال له: ناعم.
م: (ولأن أداء الحج في عرفة) ش: يعني المحرم للحج من مكة يكره أداؤه في عرفة يعني بوقوفه م: (وهي في الحل) ش: أي والحال أن عرفة في الحل، قال الأترازي: قوله: عرفة وهي في الحل، وفيه نظر؛ لأن اسم الموقف عرفات، سمي بجمع إذا درع، كذا في " الكشاف "،(4/165)
في عرفة وهي في الحل فيكون الإحرام من الحرم ليتحقق نوع سفره، وأداء العمرة في الحرم، فيكون الإحرام من الحل لهذا، إلا أن التنعيم أفضل لورود الأثر به، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعرفة اسم اليوم التاسع من ذي الحجة، والذي في الحل فهو الموقف لا اليوم، انتهى.
قلت: نظره ليس بوارد؛ لأنه اغتر بكلام الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن اسم الموقف ... إلخ، أن إطلاق عرفة مفرداً لا يجوز إطلاقه على الموقف، وليس كذلك فإنه يطلق عليه عرفات أيضاً، قال " صاحب المغرب ": عرفات علم للموقف يقال لها: عرفة أيضاً فافهم؛ لأنها خارجة عن حد الحرم.
م: (فيكون الإحرام من الحرم ليتحقق نوع سفره) ش: لأن الحج عبارة عن سفره م: (وأداء العمرة في الحرم، فيكون الإحرام من الحل لهذا) ش: ليتحقق نوع سفره م: (إلا أن التنعيم أفضل) ش: هذا إشارة من قوله: وفي العمرة الحل، يعني أن إحرام المكي في العمرة الحل، ويجوز له أن يحرم من حيث شاء من الحل، إلا أن إحرامه من التنعيم أفضل م: (لورود الأثر) ش: وهو الخبر الذي مضى م: (به) ش: أي بالإحرام من التنعيم.(4/166)
باب الإحرام قال: وإذا أراد الإحرام اغتسل، أو توضأ، والغسل أفضل لما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اغتسل لإحرامه إلا أنه للتنظيف، حتى تؤمر به الحائض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الإحرام] [تعريف الإحرام وسننه]
م: (باب الإحرام) ش: أي: هذا باب في بيان صفة الإحرام، ولما فرغ من ذكر المواقيت شرع في بيان أن الإحرام كيف يفعل عندها، والإحرام مصدر من أحرم الرجل إذا دخل في حرمة لا تهتك، كما تقول: أشتى إذا دخل في الشتاء، وفي عرف الفقهاء: أن يحرم المباحات على نفسه لأداء هذه العبادة، فإن من العبادات ما لها تحريم وتحليل كالصلاة والحج، ومنها ما ليس لها ذلك كالصوم والزكاة، وفيه من الأمور ما لا يهتدي إليه العقل كلبس غير المخيط، وترك التطيب، وترك النظافة، ورمي الحصيات المعدودة، وهي كلها تشبه بالأموات، وكأن الإشارة إلى أنه مات في سبيل الله.
م: (قال: وإذا أراد الإحرام) ش: الواو فيه للاستفتاح كما سمعته من مشايخي الكبار، أي إذا أراد من قصد الحج م: (اغتسل، أو توضأ، والغسل أفضل لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل لإحرامه» ش: هذا الحديث رواه الترمذي، عن عبد الله بن يعقوب المدني، عن أبي الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه زيد بن ثابت أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه لإهلاله واغتسل، قال: حديث حسن غريب، وأخرجه الطبراني في " معجمه "، والدارقطني في سننه "، ولفظهما: اغتسل لإحرامه، وقد ذكر الأترازي هنا أحاديث في غسل من أراد الإحرام، ولكن كلها أحاديث القول، وليس منه حديث يطابق متن الكتاب، والذي رويناه عن الترمذي هو المطابق.
م: (إلا أنه للتنظيف) ش: أي إلا أن هذا الاغتسال لزيادة تنظيف البدن، وأشار إلى أنه غير واجب خلافاً لداود الظاهري، فإنه واجب عنده، ونقل عن بعض أهل المدينة أن الدم يجب بتركه، وعن الحسن البصري: إذا تركه ناسياً يغتسل إذا تذكره، والجمهور على أن هذا الغسل مستحب للإحرام م: (حتى تؤمر به الحائض) ش: والأمر أمر استحباب.(4/167)
وإن لم يقع فرضا عنها فيقوم الوضوء مقامه كما في الجمعة والعيدين، لكن الغسل أفضل؛ لأن معنى النظافة فيه أتم، ولأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اختاره.
قال: ولبس ثوبين جديدين، أو غسيلين إزارا ورداء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن لم يقع فرضا عنها) ش: أي عن الحائض؛ لأن اغتسالها قبل الطهر لا يخرجها عن الحدث، وإنما هو لقطع الرائحة، ولتنظيف [البدن] وحرمة الإحرام والميقات، وكذا النفساء م: (فيقوم الوضوء مقامه) ش: أي في حق إقامة السنة لا في حق الأفضلية م: (كما في الجمعة والعيدين، لكن الغسل أفضل؛ لأن معنى النظافة فيه أتم) ش: لأنه يشمل البدن، فتعم النظافة ولا يعتبر التيمم عند العجز عن الماء [كالجمعة والعيدين، وبه قال مالك، وأحمد، وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ليس التيمم عند العجز عن الماء] ، وفي " جوامع الفقه ": السنة أن يغتسل قبل إحرامه، فإن أحدث بعده ثم توضأ لم ينل فضل الغسل للإحرام كالجمعة.
م: (ولأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اختاره) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اختار الغسل، كما مر في حديث الترمذي، وروى الطبراني في " معجمه الأوسط " من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج إلى مكة اغتسل حين يريد أن يحرم» .
م: (قال: ولبس ثوبين جديدين، أو غسيلين) ش: أي ولبس ثوبين غسيلين، وقال الشيخ أبو بكر الرازي في " شرحه لمختصر الطحاوي ": إنما ذكر جديدين أو غسيلين؛ لأنه روي عن بعض السلف كراهة لبس الجديد عند الإحرام.
قلت: المفهوم هنا أنه إذا لم يجد جديدين يكونا عتيقين غسيلين م: (إزارا ورداء) ش: كلاهما منصوبان على التمييز؛ لأن في قوله: - لبس ثوبين - أعم من أن يكون الملبوس مخيطاً أو غير مخيط. وقوله: إزاراً أو رداء، بأن المراد من اللبس أن يكون غير مخيط؛ لأن المحرم ممنوع من لبسه، ويرجع المعنى إلى تقدير يلبس ثوباً كالإزار في وسطه، وثوباً آخر يتردى به، والإزار من السترة والرداء كالميت يستتر بالكفن، ولهذا ليس له لبس المخيط؛ لأن لبس المخيط من الزينة.
وهيئة الارتداء أنه يدخله تحت يمينه ويلقيه على كتفه الأيسر، ويبقى كتفه الأيمن مكشوفاً، ولا يزره ولا يحلله بحلال ولا يمسكه ولا يشد إزاره بحبل على نفسه، ولا يعقد الرداء على عاتقه، ولو فعل ذلك يكون مسيئاً ولا شيء عليه. وقال الدارقطني: وهو مذهب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضاً، وعند مالك: عليه الفدية، ولا بأس بالطيلسان إذا لم يزره، وهو قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال ابن أبي ليلى: لا بأس به، وإن زره.(4/168)
لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اتزر، وارتدى عند إحرامه؛ ولأنه ممنوع عن لبس المخيط، ولا بد من ستر العورة، ودفع الحر، والبرد، وذلك فيما عيناه، والجديد أفضل؛ لأنه أقرب إلى الطهارة.
قال: ومس طيبا إن كان له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " البدائع ": وهو قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لأنه ليس بمخيط، وعن الحكم بن عتبة أنه كان لا يرى بأسا أن يتوسخ المحرم بثوبه ويعقده على قفاه، ذكره ابن منصور عنه، وهو قول ابن المسيب أباحه إمام الحرمين والغزالي والمتولي كالإزار وغيره، وعن أبي نصر العراقي أنكر أنه يكره ولا شيء عليه، وبه قال أبو ثور، وابن المنذر، وقال النووي: هو شاذ مردود، ولا معتبر به؛ لأن الأئمة على خلافه، ورأى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - محرماً قد عقد ثوبه، فقال: انزع الحبل ويلك، لكن لم يأمره بالفدية، وقال: إن يتزر في رواية إزاره وقال في " المبسوط "، و " البدائع ": ولا بأس أن يتحرم بعمامته يشتمل بها، ولا يعقدها.
م: (لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اتزر، وارتدى عند إحرامه) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتزر بالهمزة افتعل من الاتزار، لأن أصله ائتزر بهمزتين، وقال في " المغرب ": اتزر بالتشديد يعني لبس الإزار، وألقى على كتفه الرداء، والحديث أخرجه البخاري في " صحيحه " عن كريب، «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، قال: انطلق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المدينة بعدما ترجل وادهن، ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه ... » الحديث بطوله.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن المحرم م: (ممنوع عن لبس المخيط، ولا بد من ستر العورة، ودفع الحر، والبرد، وذلك) ش: أي ستر العورة ودفع الحر والبرد م: (فيما عيناه) ش: أراد به الإزار والرداء م: (والجديد أفضل؛ لأنه أقرب إلى الطهارة) ش: وفي الكفن الجديد والخلق سواء ويستحب أن يكون الإزار والرداء أبيضين، لحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم» وأخرجه الترمذي من حديث سمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البسوا البياض فإنه أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم» وقال: حديث صحيح.
وفي " المبسوط ": يلبس الحر، والبرد إذا لم يكن مصبوغاً بالزعفران والعصفر والورس ولا مخيطاً، وفي " خزانة الأكمل ": يلبس الحر، والبرد العروي، والمروي، وفي " البدائع ": والصوف، والبرد الملون كالعدني، وإن اقتصر على ثوب واحد جاز لحصول ستر العورة به.
م: (قال: ومس طيبا إن كان له) ش: أي إن وجده، وعبارته تشعر بأنه لا يطلب من غيره إن لم يكن عنده شيء من ذلك، واستحباب الطيب عند الإحرام مذهب جمهور أهل العلم من(4/169)
وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يكره إذا تطيب بما تبقى عينه بعد الإحرام، وهو قول مالك، والشافعي - رحمهما الله -، لأنه منتفع بالطيب بعد الإحرام، ووجه المشهور حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنت أطيب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لإحرامه قبل أن يحرم؛ ولأن الممنوع عنه عند التطيب بعد الإحرام، والباقي كالتابع له لاتصاله به بخلاف الثوب؛ لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلف والخلف الفقهاء، وأهل العلم، وأهل الحديث، منهم سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وابن الزبير، والبراء بن عازب، وعبد الله بن جعفر، ومعاوية، وعائشة، وأم حبيبة، ومحمد بن الحنفية، وعروة، والقاسم، وإبراهيم، وابن جريج والشعبي، وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وداود، وأصحابه، والخطابي، وكرهه عطاء، والزهري، ومالك، ومحمد بن الحسن، وزفر، فيما تبقى عينه بعد الإحرام كالغالية، والمسك.
ويجب به الدم عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وزفر، وفي " الوبري ": لا شيء عليه إذا فعل ذلك في قولهم جميعا، وفي ظاهر المذهب: لا فرق بين ما تبقى عينه وما لا تبقى، ويستوي فيه الرجل والمرأة، وكذا يتبخر بالعود والعنبر، ويتطيب أصناف الطيب من البان والزريرة والكافور والصندل والزعفران والورس، ذكرهما النووي، والريحان والنسرين والمرزنجوش، وكذا يدهن بالأدهان الطيبة كدهن البان، والورد، والبنفسج.
م: (وعن محمد أنه) ش: أي عن مس الطيب م: (يكره إذا تطيب بما تبقى عينه بعد الإحرام) ش: أي بما تبقى عينه على بدنه بعد أن أحرم م: (وهو قول مالك، والشافعي) ش: وقول زفر أيضاً م: (لأنه منتفع بالطيب بعد الإحرام) ش: وهو ممنوع من ذلك؛ لأن للبقاء حكم الابتداء وعن مالك منع الطيب مطلقاً.
م: (ووجه المشهور) ش: أي عن أصحابنا م: «حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنت أطيب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لإحرامه قبل أن يحرم» ش:، وفي لفظ: «كأني أنظر وبيض الطيب في مفرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو محرم» .
م: (ولأن الممنوع عنه) ش: أي من الطيب م: (عند التطيب بعد الإحرام) ش: يعني ابتداء م: (والباقي) ش: في أثره م: (كالتابع له لاتصاله به) ش: ولا حكم للتابع، فيكون بمنزلة المعدوم م: (بخلاف الثوب) ش: يعني بخلاف ما إذا لبس ثوباً قبل الإحرام وبقي على ذلك الإحرام، حيث يمنع عنه لأنه لم يجعل تبعاً م: (لأنه مباين عنه) ش: أي عن بدنه، ومن هذا إذا حلف لا يتطيب فدام على طيب كان بجسده لا يحنث، وإذا حلف لا يلبس هذا الثوب فدام على لبسه حنث.(4/170)
مباين عنه. قال: وصلى ركعتين لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صلى بذي الحليفة ركعتين عند إحرامه.»
قال: وقال: «اللهم إني أريد الحج، فيسره لي، وتقبله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: استدل محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بما رواه الطحاوي بإسناده إلى صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه عن جده «أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجعرانة وعليه جبة وهو يصفر لحيته، ورأسه، فقال: يا رسول الله إني أحرمت وأنا كما ترى، فقال: " انزع عنك الجبة، واغسل عنك الصفرة» ورواه أحمد أيضاً.
واستدل أحمد أيضاً بما رواه مالك في " الموطأ " عن نافع عن أسلم أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجد ريح طيب، فقال: ممن ريح هذا الطيب، فقال معاوية: مني يا أمير المؤمنين، فقال: منك لعمري، فقال معاوية: إن أم حبيبة طيبتني يا أمير المؤمنين، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عزمت عليك فلترجع فلتغسله.
قلت: الجواب عن حديث يعلى أن الطيب كان خلوقاً وهو مكروه للرجل لا للإحرام، وعن حديث معاوية أنه أمره بالغسل قطعاً لوهم الحاصل أنه فعله بعد الإحرام، وفي " الذخيرة ": يكره للمحرم شم الريحان، والطيب، والثمار الطيبة، ولا شيء عليه عند مالك، ولا يكره عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وصلى ركعتين) ش: أي في غير الأوقات المكروهة، وفي بعض النسخ: ويصلي ركعتين بلفظ المضارع، وكذا في متن القدوري، وليس في بعض النسخ لفظ: قال وفي الرواية: يستحب أن يصلي.
وفي " السروجي ": هذه سنة وتجزئه المكتوبة كالتحية م: (لما روى جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بذي الحليفة ركعتين عند إحرامه) ش: نسبة هذا الحديث إلى جابر لم تصح، والذي في حديث جابر بغير تعيين عدد على ما رواه جابر في حديث طويل أنه صلى في مسجد ذي الحليفة ولم يذكر عدداً، نعم روى أبو داود عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاجاً فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتين أوجب في مجلسه ... الحديث» .
م: (قال) ش: أي قال القدوري: م: (وقال) ش: الذي يريد الحج، وقال الأكمل: وقال الذي يريد الحج، وفي " النهاية ": في بعض النسخ لم يذكر، قال الأول: وألحقه بحديثه جابر، أي صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذي الحليفة، وقال: أي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحيح الأول؛ لأنه هو المثبت في الكتب المقروءة على الأساتذة.
م: (اللهم إني أريد الحج، فيسره لي وتقبله مني؛ لأن أداءها) ش: أي لأن هذه العبادة، وهو(4/171)
مني» ؛ لأن أداءها في أزمنة متفرقة، وأماكن متباينة، فلا يعرى عن المشقة عادة فيسأل التيسير، وفي الصلاة لم يذكر مثل هذا الدعاء؛ لأن مدتها يسيرة، وأداءها عادة متيسر. قال: ثم يلبي عقيب صلاته لما روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لبى في دبر صلاته. وإن لبى بعدما استوت به راحلته جاز، ولكن الأول أفضل لما روينا. وإن كان مفردا بالحج ينوي بتلبيته الحج؛ لأنه عبادة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعليل لسؤال التيسير؛ لأنه عبادة عظيمة تحصل بأفعال م: (في أزمنة متفرقة، وأماكن متباينة، فلا يعرى عن المشقة عادة فيسأل التيسير) ش: لأنه عبادة عظيمة تحصل بأفعال شاقة فاستحب طلب التيسير، والتسهيل من الله تعالى.
م: (وفي الصلاة لم يذكر مثل هذا الدعاء؛ لأن مدتها يسيرة وأداءها عادة متيسر) ش: وفي " التحفة "، و " القنية " وغيرهما، قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في الصلاة يجب أن يقول: اللهم إني أريد صلاة كذا فيسرها لي، وتقبلها مني، كما في الحج فلا فرق.
[حكم التلبية للمحرم ولفظها]
[رفع الصوت بالتلبية]
م: (قال: ثم يلبي عقيب صلاته لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبى في دبر صلاته) ش: وبه قال مالك، وأحمد، والشافعي في القديم، وهو قول الترمذي، والنسائي عن عبد السلام بن حرب، حدثنا خصيف عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل في دبر صلاته» وقال: حديث حسن غريب.
م: (وإن لبى بعدما استوت به راحلته) ش: قال في " المغرب ": أي قامت مستوية على قوائمها، والراحلة هو النجيب، والنجيبة من الإبل م: (جاز) ش: وبه قال الشافعي في الأصح، وهو قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - م: (ولكن الأول أفضل لما روينا) ش: أشار به إلى قوله - لبى في دبر كل صلاة - وجه الأفضلية أنه أكثر عملاً؛ لأن من يلبي عقب صلاته يلبي إذا استوى على راحلته، وإذا علا شرف البيداء دون العكس، والأحاديث اختلفت في تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال بعضهم: أهل حين صلى، وقال بعضهم: أهل حين استوت به راحلته، وقال بعضهم: حين ارتفع على البيداء.
وبين وجه الاختلاف في " شرح الآثار " مسنداً إلى سعيد بن جبير، قال: قيل لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كيف اختلف الناس في إهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: سأخبركم عن ذلك، «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل في صلاته فشهده قوم فأخذوا بذلك، فلما استوت به راحلته أهل فشهده قوم، فقالوا: أهل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الساعة، وإنما كان إهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مصلاه فشهده قوم فأخبروا بذلك» .
م: (وإن كان مفردا بالحج ينوي بتلبيته الحج؛ لأنه) ش: أي لأن الحج م: (عبادة، والأعمال(4/172)
والأعمال بالنيات، والتلبية أن يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة لك والملك، لا شريك لك. وقوله " إن الحمد " والنعمة لك بكسر الألف لا بفتحها، ليكون ابتداء لا بناء؛ إذ الفتحة صفة الأولى، وهو إجابة لدعاء الخليل صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، على ما هو المعروف في القصة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالنيات) ش: هو لفظ الحديث في رواية م: (والتلبية أن يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ش: لبيك لبيك من المصادر التي يجب حذف فعلها لوقوعه مثنى، واختلفوا في معناه، فقيل: مشتق من ألب الرجل إذا أقام في مكان، فمعنى لبيك: أقيم على عبادتك إقامة بعد إقامة؛ لأن التثنية هناك للتكرير والتكثير، ويقال: معنى لبيك: أنا أقيم على طاعتك، منصوب على المصدر من قولهم: لب بالمكان، وألب إذا أقام به، ولزم، وكان حقه أن يقال: لباً لك، كقولك: حمدا لله.
ولكن ثني للتأكيد، أي لباً لك بعد إلباب، وقيل: مشتق من قولهم: امرأة لبة أي محبة لزوجها فمعناه إخلاص لك من قولهم: لباب، أي خالص، ومنه لب الطعام، وقال الحربي: الألباب القرب، وقيل: خضوعاً لك من قولهم أنا ملب بين يديك، أي خاضع ذكر ذلك في " الإمام ".
م: (وقوله " إن الحمد " والنعمة لك بكسر الألف لا بفتحها، ليكون ابتداء) ش: أي ليكون ابتداء الكلام غير متعلق بما قبله م: (لا بناء) ش: أي لا يكون بناء على ما قبله، فيكون المعنى أثني عليك؛ لأن الحمد لك، ففيه معنى التخصيص، بخلاف الكسرة لأن فيها معنى التعميم، فهذا أولى م: (إذ الفتحة) ش: أي فتحة الألف م: (صفة الأولى) ش: أي كلمة الأولى، وهي قوله: لبيك، ولم يرد به الصفة النحوية، بل أراد به الصفة الحقيقية، وهي القائم بالذات، معناه التعليل معنى؛ لأن الحمد لك، وابتداء الثناء أولى.
وفي " شرح الإرشاد " م: (وهو) ش: أي الكسر اختيار جماعة من أهل اللغة والفقه، وفي " المحيط ": لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كسرها، قلت: لا يعرف ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (إجابة لدعاء الخليل - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -) ش: أي ذكر التلبية، إجابة إبراهيم الخليل - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - م: (على ما هو المعروف في القصة) ش: أي في قصة إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما فرغ من بناء الكعبة أمر بأن يدعو الناس إلى الحج، فصعد أبا قبيس، وقال: إن الله تعالى أمر ببناء البيت له، وقد بني ألا فحجوا، فبلغ الله تعالى صوته الناس في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، فمنهم من أجاب مرة، ومنهم من أجاب مرتين، وأكثروا على حسب جوابهم يحجون.
وبيان هذا في قَوْله تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] الآية (الحج: الآية 27) ، فالتلبية إجابة الداعي بلا خلاف، ولكن الخلاف في الداعي أشار المصنف إلى أن الداعي هو الخليل عليه(4/173)
ولا ينبغي أن يخل بشيء من هذه الكلمات؛ لأنه هو المنقول باتفاق الرواة، فلا ينقص عنه، ولو زاد فيها جاز؛ خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصلاة والسلام، وقيل: الداعي هو الله تعالى، كما قال تعالى: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10] (إبراهيم: الآية 10) ، وقيل: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما قال: «إن سيدا بنى دارا واتخذ فيها مأدبة، وبعث داعياً» وأراد بالداعي نفسه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
م: (ولا ينبغي أن يخل بشيء من هذه الكلمات) ش: لبيك اللهم لبيك ... إلخ، قوله: يخل بضم الياء - من الإخلال، وفاعله هو المحرم، ويجوز أن يكون على صيغة المجهول أيضاً م: (لأنه هو المنقول) ش: أي ذكر التلبية على الهيئة المذكورة هو المنقول م: (باتفاق الرواة) ش: فيه نظر إذ ليس ما ذكره منقولاً باتفاق الروايات، فقد روي حديث التلبية عن عائشة، وعبد الله بن مسعود، وليس فيه: والملك لا شريك لك، فحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجه البخاري في " صحيحه " عن أبي عطية عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «إني لأعلم كيف كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبي: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك لبيك» .
وحديث ابن مسعود أخرجه النسائي في " سننه " عن حماد بن زيد عن أبان بن ثعلب عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن زيد عن عبد الله، قال: «كانت تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك» ، ولم يتعرض الشراح لهذا، وسكتوا عنه غير أن الأترازي تبع المصنف على هذا، حيث قال في تفسير قوله: ولا ينبغي أن يخل بشيء من هذه الكلمات أي لا ينقص من التلبية المذكورة المشهورة باتفاق الرواة عليها. وأخرج مسلم عن ابن عمر قال: «وكان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يهل بإهلال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من هؤلاء الكلمات ويقول: لبيك اللهم لبيك، وسعديك والخير في يديك لبيك، ورغبتي إليك والعمل» . وروى إسحاق بن راهويه في " مسنده ": أخبرنا وهب بن جرير بن حازم قال: سمعت أبي يحدث عن أبي إسحاق الهمداني عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: حججنا في إمارة عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن عبد الله بن مسعود، فذكر حديثاً فيه طول، وفي آخره وزاد ابن مسعود في تلبيته فقال لبيك وعدد التراب، وما سمعته قبل ذلك ولا بعده، وروى النسائي وابن ماجه عن الأعرج عن أبي هريرة، قال كان من تلبية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبيك إله الحق لبيك.
م: (فلا ينقص عنه) ش: أي عن ذكر التلبية المذكورة، وفي الأسبيجابي إن زاد عليها أو نقص أجزأه ولا يضره شيء م: (ولو زاد فيها) ش: أي في التلبية المذكورة م: (جاز خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -(4/174)
في رواية الربيع - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه هو اعتبره بالأذان والتشهد من حيث إنه ذكر منظوم. ولنا أن أجلاء الصحابة كابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - زادوا على المأثور؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في رواية الربيع عنه) ش: أي عن الشافعي في رواية الربيع، والربيع هو ابن سليمان بن الخباز البصري مولاهم المصري المؤذن راوي كتب الأمهات عن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو أحد مشايخ أبي جعفر الطحاوي وأبي داود والنسائي وابن ماجه، وذكره ابن حبان في " الثقات "، مات سنة سبعين ومائتين. قال الطحاوي وكان مؤذن الجامع بفسطاط مصر، وآخر يقال له الربيع بن سليمان الجيزي المصري الأعرج ممن روى عن الشافعي وروى عنه الطحاوي أيضاً، وثقه ابن يونس وقال مات سنة ست وخمسين ومائتين، روى المزني عن الشافعي جواز الزيادة.
وفي " شرح الوجيز " لا تستحب الزيادة على تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل يكررها وبه قال أحمد، وقال أبو حامد ذكر أهل العراق عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه ذكر الزيادة على ذلك، وقال هو غلط لا يكره ولا يستحب، بل يكررها واختاره ابن المنذر.
م: (هو) ش: أي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (اعتبره بالأذان والتشهد) ش: أي اعتبر ذلك التلبية بالأذان والتشهد في الصلاة، م: (من حيث إنه ذكر منظوم) ش: يعني مرتب بألفاظ مخصوصة لا يجوز التغيير فيها كما لا يجوز في الأذان والتشهد.
م: (ولنا أن أجلاء الصحابة) ش: أي أجلائهم وأكابرهم م: (كابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة) ش: وابن مسعود، وهو عبد الله وكذلك ابن عمر عبد الله، وفي اسم أبي هريرة اختلاف كثير، والأكثر على أن اسمه عبد الرحمن بن صخر الدوسي اليماني. وقال الهيثم بن عدي كان اسمه في الجاهلية عبد شمس. وقال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فسماني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الرحمن، وإنما كنيت بأبي هريرة لأني وجدت هرة فحملتها في كمي، فقيل لي أنت أبو هريرة، وقيل رآه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي كمه هرة، فقال يا أبا هريرة.
م: (زادوا على المأثور) ش: يعني في التلبية، أما زيادة ابن عمر ففي الحديث الذي أخرجه الستة عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبيك اللهم لبيك» .. إلخ كما هو المذكور المشهور، ثم قال وكان عبد الله بن عمر يزيد في تلبية لبيك لبيك والخير بيديك والرغبة إليك والعمل، وأخرج مسلم أيضاً هذه الزيادة من قول عمر أيضاً، وقد ذكرناه عن(4/175)
ولأن المقصود الثناء، وإظهار العبودية فلا يمنع من الزيادة عليه.
قال: وإذا لبى فقد أحرم، يعني إذا نوى؛ لأن العبادة لا تتأدى إلا بالنية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قريب، وعن ابن مسعود أنه لبى غداة جمع، فقال رجل ومن هذا الأعرابي، فقال عبد الله لبيك عدد الحصى والتراب، فقيل له ابن مسعود فانساب الرجل في الناس، رواه سعيد بن منصور، وذكره في " الأسرار " والمبسوط ".
وفي " جامع المحبوبي " أجهل الناس أم طال العهد لبيك عدد التراب، وأراد بالعهد عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي رواية لبيك حقاً حقاً تعبدا ورقا، لبيك عدد التراب، لبيك ذا المعارج، لبيك لبيك إله الخلق، لبيك لبيك والرغبة إليك، من عبد آبق لبيك، وأما زيادة أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على التلبية المشهورة فقد ذكرناها عن قريب.
م: (ولأن المقصود به الثناء، وإظهار العبودية فلا يمنع من الزيادة عليه) ش: لأنه كلما زاد من ذلك كان أفضل، أما الأذان فلأنه للإعلام بدخول الوقت، فإذا زاد على المشهور يعتقد أنه ذكر الثناء على الله لا للإعلام بدخول الوقت، وأما التشهد فإنه يدعو في الثاني بما شاء، والزيادة على التشهد الأول إخلال بنظم الصلاة.
فإن قلت: هل ورد أن الأنبياء كانوا يلبون إذا حجوا.
قلت: ذلك ذكر في " مناسك الطبري " عن الأزرقي بتلبية الأنبياء - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مثنى، منهم يونس بن متى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يقول لبيك فراج الكرب، وكان موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لبيك أنا عبدك لديك، لبيك لبيك. وتلبية عيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبيك أنا عبدك وابن أمتك.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإذا لبى فقد أحرم) ش: يعني دخل في الإحرام م: (يعني إذا نوى) ش: لا يصير محرماً بمجرد التلبية فلا بد من النية م: (لأن العبادة لا تتأدى إلا بالنية) ش: للحديث المشهور، وقال الأترازي: والعجب من صاحب الهداية مع جلالة قدره تكلم في هذا الموضع بلا تفكر، حيث فسر قول القدوري بقوله يعني إذا نوى - وطول كلامه فيه، ثم قال: ولقد صدقوا في قولهم لكل جواد كبوة.
حاصل كلامه أن القدوري أشار إلى النية فيما تقدم بقوله - يعني إذا نوى، فإن كان الفرد بالحج نوى بتلبية الحج وصوم بالنية، ومع التصريح كيف يجوز أن يقال لم يذكر النية، وكيف يحتاج من له تمييز إلى تفسير ذلك بقوله يعني إذا نوى.
قلت: سبحان الله هذا كلام لا طعم له؛ فإنه ما ارتكب شيئاً يوجب الإنكار عليه، غاية ما في هذا الباب زيادة إيضاح وتنبيه إلى لزوم النية من كل بد، وربما لا يطلع أحد على قوله فيما مضى واطلع على هذا الموضع وليس فيه الإشارة إلى أن يتوهم أن النية ليست بشرط، فأراد ذلك(4/176)
إلا أنه لم يذكرها لتقدم الإشارة إليها في قوله: " اللهم إني أريد الحج ". ولا يصير شارعا في الإحرام بمجرد النية ما لم يأت بالتلبية، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه عقد على الأداء، فلا بد من ذكر كما في تحريمة الصلاة، ويصير شارعا بذكر يقصد به التعظيم سوى التلبية فارسية كانت أو عربية، هذا هو المشهور عن أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المقصود بقوله - يعني إذا نوى - ولقد اغتر المصنف في ذكره بقوله - يعني إذا نوى - بقوله لأن العبادة لا تتأدى إلا بالنية.
م: (إلا أنه) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لم يذكرها) ش: يعني النية هنا م: (لتقدم الإشارة إليها في قوله: " اللهم إني أريد الحج) ش: حاصل هذا أن الذي فعله القدوري من باب الاكتفاء والذي فعله المصنف من باب الإيضاح والتأكيد ولا سيما هو في طبقة الشراح.
م: (ولا يصير شارعا في الإحرام بمجرد النية ما لم يأت بالتلبية) ش: بدون النية وفي " المحيط " لو أراد الإحرام ينوي بنية الحج والعمرة، ويلبي. وفي " الإيضاح " لا يصير داخلاً في الإحرام بمجرد النية حتى يضم إليها سوق الهدي أو التلبية م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن عنده يصير محرماً بمجرد النية لبى أو لم يلب، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف في رواية، وروى أبو عوانة البصري عنه أن قوله كمذهبنا، وهو اختيار ابن جبير أن ابن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والزبير من أصحابه.
م: (لأنه) ش: أي لأن الحج م: (عقد على الأداء) ش: أي على عبادة تشتمل على أركان مختلفة، وكلما كان كذلك م: (فلا بد من ذكر) ش: يقصد به التعظيم م: (كما في تحريمة الصلاة) ش: حيث اشترط الذكر في الابتداء وهو التكبير م: (ويصير شارعا بذكر يقصد به التعظيم سوى التلبية فارسية كانت أو عربية) ش: ويحتمل أن يكون الضمير فيما كانت راجعاً إلى التلبية.
حاصل الكلام أن كل ذكر فيه تعظيم يصح به الشروع سواء كانت تلبية أو غيرها، عربيا أو فارسياً، وكذا إذا لبى بالفارسية.
م: (هذا هو المشهور عن أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: يعني أنه يصير شارعاً بما يقصد به التعظيم. قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرحه " هو المشهور عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رواه ابن أبي مالك وبشر ومعلى، وروى الحسن بن زياد عنه أنه لا يكون محرماً إلا بالتلبية، وقال في " التحفة ": لو ذكر التهليل أو التسبيح أو التحميد ونوى الإحرام يصير محرماً، سواء كان يحسن التلبية أو لا، وكذلك إذا نوى، أي بلسان آخر سواء كان يحسن العربية أو لا يحسنها، هذا جواب ظاهر الرواية.
وروى الحسن عن أبي يوسف إن كان لا يحسن التلبية جاز وإلا فلا، كما في الصلاة. أما أبو حنيفة فإنه مر على أصله، وهو أن الذكر الموضوع في ابتداء العبادة لا يختص عنده بعبارة(4/177)
والفرق بينه وبين الصلاة على أصلهما أن باب الحج أوسع من باب الصلاة، حتى يقام غير الذكر مقام الذكر، كتقليد البدن، فكذا غير التلبية، وغير العربية.
قال: ويتقي ما نهى الله تعالى عنه من الرفث، والفسوق، والجدال، والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] (197 البقرة) ، فهذا نهي بصيغة النفي، والرفث الجماع، أو الكلام الفاحش، أو ذكر الجماع بحضرة النساء، والفسوق: المعاصي، وهو في حال الإحرام أشد حرمة. والجدال: أن يجادل رفيقه، وقيل: مجادلة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعينها ولا يلقه، كتكبيرات الصلاة، وأما أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقد فرق بين الإحرام والصلاة على ما هو المشهور منها، وهو أن غير الذكر يقوم مقام الذكر، وهو التقليد، فكذلك غير العربية بخلاف الصلاة.
م: (والفرق بينه) ش: أي بين الإحرام م: (وبين الصلاة على أصلهما) ش: أي على أصل أبي يوسف ومحمد م: (أن باب الحج أوسع من باب الصلاة) ش: ألا ترى أنه يصير شارعاً بسوق الهدي م: (حتى يقام غير الذكر مقام الذكر، وكتقليد البدن) ش: أو سوقهما م: (فكذا غير التلبية، وغير العربية) ش: أي فكذا غير التلبية تقوم مقامها غير العربية، كذلك إذا كان بذكر يقصد به التعظيم، ويتقي أي المحرم، أي يجتنب، وفي بعض النسخ
[محظورات الإحرام]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويتقي ما نهى الله تعالى عنه من الرفث، والفسوق، والجدال، والأصل فيه) ش: أي في وجوب الاتقاء عن هذه الأشياء م: (قَوْله تَعَالَى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] ش: (البقرة: الآية 197) قرأ ابن كثير وأبو عمرو - فلا رفث ولا فسوق - بالرفع والتنوين، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر، وحمزة والكسائي - فلا رفث ولا فسوق - بالفتح بدون التنوين، وكلهم اتفقوا على فتح اللام في - ولا جدال - بدون تنوين م: (فهذا نهي بصيغة النفي) ش: وهذا أبلغ في الترك، والمعنى فلا ترفثوا ولا تجادلوا.
م: (والرفث الجماع) ش: هكذا فسره ابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وعطاء ابن أبي رباح وعطاء بن السائب ومجاهد والحسن البصري والزهري والنخعي وقتادة م: (أو الكلام الفاحش) ش: أي الرفث الكلام الفاحش، هكذا فسره أبو عبيد م: (أو ذكر الجماع بحضرة النساء) ش: أي الرفث ذكر الجماع بحضرتهن، وقيل مطلقاً.
م: (والفسوق: المعاصي) ش: وهو الخروج عن طاعة الله تعالى م: (وهو) ش: حرام مطلقاً وهي م: (في حال الإحرام أشد حرمة) ش: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] (التوبة: الآية 36) .
م: (والجدال أن يجادل رفيقه) ش: وهي حالة الإحرام، أي يخاصم معه م: (وقيل: مجادلة المشركين في تقديم وقت الحج وتأخيره) ش: وقال الزمخشري: إن قريشاً كانت تخالف سائر العرب، فتقف بالمشعر الحرام، وسائر العرب يقفون بعرفة، وكانوا يقدمون الحج سنة وهو(4/178)
المشركين في تقديم وقت الحج وتأخيره، ولا يقتل صيدا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] (95 المائدة) ، ولا يشير إليه ولا يدل عليه، لحديث «أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أصاب حمار وحش وهو حلال، وأصحابه محرمون، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صحح لأصحابه: " هل أشرتم؟ هل دللتم؟ هل أعنتم؟ " فقالوا: لا، فقال: " إذا فكلوا» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النسيء فرده الله إلى وقت واحد، والوقوف إلى عرفة فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج.
م: (ولا يقتل صيدا) ش: أي لا يقتل المحرم صيداً. قال الأترازي: أي لا يذبح ولا يقتل لأن القتل يستعمل في الحرام غالباً. وذبح المحرم الصيد حرام.
قلت: لا يحتاج إلى هذا التفسير، لأن القتل حرام، فإن القتل أعم، وفي القرآن أيضاً مذكور بلفظ القتل لا بلفظ الذبح، قوله: - صيدا - يراد به الصيود لا المصدر، إذ لو أريد به المصدر وهو الاصطياد لما صح إسناد الفعل إليه، والمراد صيد البر.
؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] (المائدة: الآية 96) والحرم جمع حرام يعني محرمون، والصيد هو الحيوان المتوحش الممتنع في أصل الخلقة، وصيد البحر حلال للمحرم، وهو ما كان تولده ومثواه في البحر. وصيد البر ما كان تولده ومثواه في البر، أما الذي يكون في البحر ويتولد في البر فهو من صيد البر، والذي يتولد في البحر ويكون في البر فهو من صيد البحر كالضفدع؛ لأن الأصل هو التوالد، والكينونة عارض فتعين الأصل دون العارض.
م: (ولا يشير إليه) ش: أي إلى الصيد م: (ولا يدل عليه) ش: أي على الصيد، الإشارة أن يشير إلى الصيد باليد، والدلالة أن يقول: إن في مكان كذا صيدا، والإشارة تكون في الحضور والدلالة تكون في الغيبة م: (لحديث أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه أصاب حمار وحش وهو حلال، وأصحابه محرمون، فقال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لأصحابه: " هل أشرتم؟ هل دللتم؟ هل أعنتم؟ " فقالوا: لا، فقال: " إذا فكلوا.» ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: " إذا فكلوا ".
هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم «عن أبي قتادة أنهم كانوا في سفر لهم، بعضهم محرم وبعضهم ليس بمحرم، قال: فرأيت حماراً وحشياً فركبت فرسي وأخذت الرمح فاستعنتهم، فأبوا أن يعينوني، فاختلست سوطاً من بعضهم وشددت على الحمار فأصبته، فأكلوا منه، فاستبقوا قال: فسألوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار:؟ " فقالوا لا، قال: " فكلوا ما بقي منها.» وفي لفظ مسلم والنسائي: «هل أشرتم؟ هل أعنتم "، قالوا لا، قال: " فكلوا» ". واسم أبي(4/179)
ولأنه إزالة الأمن عن الصيد؛ لأنه أمن بتوحشه، وبعده عن الأعين.
قال: ولا يلبس قميصا ولا سراويل، ولا عمامة ولا قلنسوة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري، وجه التمسك به أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علق الإباحة بعدم الإشارة والدلالة، فدل على أنها من محظورات الإحرام، ولهذا لو أعطاه سكيناً ليذبحه به، وليس معه سكين أو أراه موضع سكين وموضع السهم ليرميه به، كان ذلك داخلاً تحت الإعانة والإشارة وقيل الإعانة والإشارة من المحرم محرمة، فإن علم المحرم مكانه وكذا أن لو أعطاه سكيناً أو معه سكين، لإطلاق الحديث، قلنا: إذا كان عالماً بمكانه فالموجود من الحلال لغو، فلا اعتبار به، وكذا السكين والسهم، وفي " المبسوط " قال السروجي الأصح عندي أنه لا شيء على معير السكين من الضمان.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن المذكور من الإشارة والدلالة والإعانة م: (إزالة الأمن عن الصيد؛ لأنه أمن بتوحشه، وبعده عن الأعين) ش: لأن إزالة الأمن ربما يتطرق بها إلى القتل، وفي " الذخيرة " لا ضمان على الدال سواء كان محرماً أو حلالاً في صيد الحرم.
م: (قال) ش: أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمن بالدلالة، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يضمن بالدلالة لأنه لا يلزم حفظه م: (ولا يلبس) ش: أي المحرم م: (قميصاً) ش: ولو كان من جلد م: (ولا سراويل) ش: قيل إنه عجمي نكرة مفرد غير منصرف، لأنه وافق بناؤه بناء ما لا ينصرف من العربي نحو قناديل.
قلت: هذا قول سيبويه، وقيل: إنه جمع سروالة في التقدير، وليس فيه عجمة بل هو عربي، وقيل بل هو جمع محقق. قال الشاعر:
عليه من العدم سروالة ... فليس يرق المستضعف
فعلى هذا لا كلام في منع الصرف، ولو لبس السراويل عند عدم الإزار لزمه دم، إلا أن يشقها نصفين ويتزر بهما لتصير بمنزلة الإزار، ولا يشقها ولا شيء عليه.
م: (ولا عمامة ولا قلنسوة) ش: قال صاحب المطالع القلنسوة معروفة إذا فتحت القاف ضمت السين، وكان بالواو، وإن ضمت القاف كسرت السين، وكان بالباء، وهي مشتقة من قلس الشيء إذا أعطاه، النون الزائدة، قاله ابن دريد: وقال ابن الأنباري فيها تسع لغات بلا واو، قلينسه وقلنيسة وقلنسة كلها بالتصغير، وقلنساه وقلساة، وقال في " دستور اللغة " القلسوة - هلاه - يعني بالفارسية وبالعربية القبع، وطول الجوهري فيه الكلام.
حاصله أن جمعه قلانس وقلانيس وقلاسي، وأصله قلنسو، فحذف منه الواو لأنه ليس في الأسماء اسم آخره حرف علة، وقبلها ضمة، يقال قلسه يقلس وقلس يقلس، أي لبست(4/180)
ولا قباء، ولا خفين إلا أن لا يجد نعلين فيقطعهما أسفل من الكعبين، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يلبس المحرم هذه الأشياء، وقال في آخره: «ولا خفين إلا أن يجد نعلين فليقطعهما أسفل الكعبين» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القلنسوة فيهما.
م: (ولا قباء) ش: أي ولا يلبس قباء، المراد به اللبس المعتاد، حتى قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحرم لبس القباء على المحرم إلا إذا أدخل يديه في كمه، وبه قال النووي وأبو ثور والحربي من الحنابلة، وعند الشافعية والمالكية والحنابلة لا يتوقف تحريم لبسه على إدخال اليدين في كميه.
م: (ولا خفين) ش: أي ولا يلبس خفين م: (إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما أسفل من الكعبين) ش: وقال عطاء وأحمد بن حنبل لا يقطعهما استدلالاً «بحديث ابن عباس، قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب بعرفات من لم يجد النعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل» ولم يذكر القطع.
ولنا حديث الكتاب وهو قوله م: (لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يلبس المحرم هذه الأشياء، وقال في آخره: ولا خفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما أسفل من الكعبين) ش: أراد بهذه الأشياء القميص والسراويل والعمامة والقلنسوة والخفين، والحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «قال رجل: يا رسول الله ما تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام، قال: لا يلبس القميص ولا السراويلات ولا العمائم ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أن يكون أحد ليس له نعلان فيلبس الخفين، وليقطع أسفل الكعبين....» الحديث.
والعمل بحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أولى من العمل بحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لأنه لم ينقل عنه صفة لبس الخفين، ونقلها ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن من زاد حفظ ما لم يحفظه الذي اختصر، والعجب من الأخصام أنهم يحملون المطلق على المقيد ولا سيما في حادثة واحدة، وهذا لو أمن ذلك.
فإن قلت: زعمت الحنابلة أن حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - منسوخ بحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لأنه بعرفات، وحديث ابن عمر كان بالمدينة، وكذا ذكره الدارقطني أجيب بأن هذا جهل بأصول الفقه، لأن المطلق والمقيد لا يتناسخان عندهم، مع أن حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رواه أيوب والثوري وابن عيينة وحماد بن زيد وابن جريج وهشام وشعبة كلهم من حديث عمرو بن دينار عن جابر بن زيد، ولم يقل أحد منهم بعرفات غير شعبة وانفراد الواحد عن الثقات يوجب الضرر، فيما انفرد به عندهم.(4/181)
والكعب هنا المفصل الذي في وسط القدم عند معقد الشراك دون الناتئ فيما روى هشام عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -
قال: ولا يغطي وجهه ولا رأسه وقال الشافعي: يجوز للرجل تغطية الوجه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: ذكر الشيخ تقي الدين في شرح العمدة أن ذلك من رواية جعفر بن برقان وقد وهم في موضعين، أحدهما أنه قال نافع ويقطع الخف أسفل من الكعبين، والثاني أنه قال فيه فمن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل، وليس هذا في حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وأخذ به الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن حنبل، وأنكره مالك في الموطأ، وقال أبو عبد الله لا سبيل انفراد حديث السراويل عن جابر بن زيد عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو رجل من أهل البصرة لا يعرف.
قلت: غلط أي غلط من يقدح في رواية الحفاظ الذين رفعوا القطع إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فإن قلت: قال عطاء: في قطعهما فساد، والله لا يحب المفسدين.
قلت: قد ثبت الأمر من صاحب الشرع بقطعهما، وهو [....] على الشارع بحكمه، ولأن حكم الفعل فساد، إنما يعرف من جهة الشرع، وقال: أمر به وهو لا يأمر بالفساد، والأمر بقطعهما مع ما فيه من إتلاف المالية يدل على خلاف ما قالوا، فالشافعي معنا في الخفين، ومع ابن حنبل في السراويل، ومالك وافقنا فيهما، وإذا لبس الخفين من غير قطع تلزمه الفدية. وقال ابن بطال في " شرح البخاري " والطبري في " مناسكه " أن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - تجب الفدية مع قطعهما.
قلت: هذا النقل عنه غير صحيح لا أصل له، ولا تجب الفدية به عندنا مع القطع، وإن وجد النعلين فلبس الخفين مقطوعين فلا شيء عليه عندنا كالمدارس ونحوه، وعند مالك وأحمد يفدى، وللشافعي قولان.
م: (والكعب هنا المفصل الذي في وسط القدم عند معقد الشراك) ش: إنما قال: هنا يعني في باب الحج، احترازاً عن الكعب المذكور في باب الوضوء، فإن الكعب هنا هو الذي نفاه بقوله - م: (دون الناتئ) ش: بالنون والتاء المثناة من فوق النتوء وهو الارتفاع م: (فيما روى هشام عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: هشام بن عبد الله الراوي، فإنه روى عن محمد في الحج أن الكعب هو الناتئ، قالوا: إن ذلك وهم من هشام في نقله عن محمد، لأن محمداً قال ذلك في مسألة الوضوء، وقد مر الكلام فيه هناك.
م: (ولا يغطي رأسه ولا وجهه) ش: وبه قال مالك وأحمد في رواية، وفي بعض النسخ ولا يغطي رأسه ولا وجهه، والأول أصوب على ما لا يخفى.
م: (وقال الشافعي: يجوز للرجل تغطية الوجه) ش: وبه قال مالك وأحمد في(4/182)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها» . ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تخمروا وجهه، ولا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا» قاله في محرم توفي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المشهور عنه م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها) ش: هذا الحديث رواه الدارقطني في " سننه " عن هشام بن حسان عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها قال هذه قسمة تقطع الشركة. م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تخمروا وجهه، ولا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا» قاله في محرم توفي) ش: هذا الحديث رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن «رجلاً أوقصته راحلته فمات، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " غسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه طيباً ولا تخمروا رأسه ولا وجهه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» ورواه الباقون ولم يذكروا فيها وجهاً.
فإن قلت: قال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري ذكر الوجه في هذا الحديث تصحيفاً من الرواة لإجماع الثقات الأثبات من أصحاب عمرو بن دينار ولا تغطوا رأسه، وهو المحفوظ.
قلت: المرجوع في ذلك إلى مسلم لا إلى الحاكم، فإنه كثير الأوهام، وأيضا في التصحيف إنما يكون في الحروف المتشابهة، وأي مشابهة بين الرأس والوجه في الحروف، ومثل هذا بعيد عن التصحيف.
فإن قلت: كيف يستدل أصحابنا بمثل هذا الحديث في مذهبنا على خلاف حكم هذا الحديث في محرم يموت حيث يصنع به ما يصنع بالحلال من تغطية رأسه ووجهه باللبس عندنا، خلافاً للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو يتمثل هناك بمثل هذا الحديث.
قلت: أجيب بأن الحديث فيه دلالة على أن للإحرام تأثيراً في ترك تغطية الرأس والوجه، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل ترك التغطية بأنه يبعث ملبيا، أي محرماً.
ثم الحجة لنا في تغطية رأس المحرم ووجهه إذا مات ما روي عن عطاء أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن محرم مات فقال خمروا رأسه ووجهه ولا تشبهوه باليهود» . وحديث الأعرابي الذي أوقصته راحلته تأويله أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرف بطريق الوحي خصوصية ببقاء إحرامه بعد موته، وقد كان(4/183)
ولأن المرأة لا تغطي وجهها مع أن في الكشف فتنة، فالرجل بطريق الأولى. وفائدة ما روي الفرق في تغطية الرأس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخص بعض أصحابه بأشياء.
قلت: الشراح ذكروا هذا هكذا، وقالوا: عن عطاء أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى آخره، فهذا يدل بظاهره أنه مرسل، وليس كذلك، فإنه متصل أخرجه الدارقطني عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي، حدثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمروا وجوه موتاكم ولا تشبهوا باليهود» .
والعجب من الأترازي أنه ذكر هنا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في جواز تغطية الوجه ما رواه البخاري عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رجلاً كان مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقصته راحلته ... الحديث، وهو الحديث الذي ذكرناه عن مسلم في الاستدلال الذي استدل به المصنف، فذكره الأترازي لاستدلال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وذكر لنا حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين» .
قلت: هذا رواه أبو داود عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال الأترازي: فإذا لم يجز للمرأة تغطية وجهها، مع أن كشف وجهها موجب للفتنة فأولى أن لا يجوز للرجل تغطية الوجه، لأن الإحرام في الرجل آكد منه في المرأة انتهى. ولقد أنصف في هذا حيث قال في حيث ذكرت حديث البخاري للشافعي، وليس فيه ذكر الوجه، ولا يذكر الوجه إلا في رواية مسلم، كما ذكرنا، وترك الحديث الذي ذكره المصنف لاستدلال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في خلافه في وجه الرجل م: (ولأن المرأة لا تغطي وجهها مع أن في الكشف فتنة، فالرجل بالطريق الأولى) ش: يعني أن لا يغطي وجهه م: (وفائدة ما روي الفرق في تغطية الرأس) ش: أي وفائدة ما رواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها» الفرق في تغطية الرأس، يعني يجوز للمرأة أن تغطي وجهها، ولا يجوز للرجل أن يغطي وجهه في الإحرام.
قلت: ذكر في " روضة الشافعية " يغطي أذنيه ولحيته ما دون ذقنه ولا يمسك أنفه بثوب. ولا(4/184)
قال: ولا يمس طيبا؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الحاج الشعث التفل» ، وكذا لا يدهن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بأس في إمساكه بيده ولا يغطي فمه ولا العارضين. وقال أحمد: يغطي وجهه ولا يغطي أذنيه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الأذنان من الرأس» ، وبه قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولو غطى بطيب أو طائبة أو حائبة أو خشب أو حجر أو زجاج أثلل، وهو العفة أو عدل أو جوانق حنطة فلا شيء عليه وبغيره بأجر أو بغير أجر فعليه الفداء.
وفي " شرح المهذب " للنووي لو وضع على رأسه زنبيلاً أو حملاً يجوز في أصح الطريقين وعن عطاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا بأس بالمكيل على رأسه، ويكره أن يمكن وجهه على مخدة بخلاف خديه، وله أن يضع يديه على رأسه، وكذا يد غيره وينغمس في الماء، ولو غطى رأسه بالطين فشده بالحناء فعليه الفدية، وعند الشافعي وأحمد - رحمهما الله - الحناء ليس بطيب، وفي " المجانسة " تسدل على وجهها ثوباً أن أرادت ولا من طيب.
وفي أكثر النسخ م: (قال: ولا يمس طيبا) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والطيب ما رائحته طيبة. وفي " الحلية " الطيب ما يتطيب به، يتخذ منه الطيب كالمسك والزعفران والعنبر والصندل والورد والياسمين والكافور. وفي الريحان الفارسي قولان، وكذا المرزجوش النيلوفر والنرجس عند بعض أصحابنا، وفي تتمتهم التفاح على المحرم شيء من الرياحين. وفي " المحيط " ما له رائحة مستلذة كالزعفران والبنفسج ونحوهما والحناء طيب خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والوسمة ليست بطيب، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هي الحناء والخطمي طيب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، خلافاً لهما، وقيل الخلاف في خطمي العراق.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «الحاج الشعث التفل» ش: هذا الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه عن إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «قام رجل فقال يا رسول الله من الحاج؟ فقال الشعث التفل» ". الشعث بفتح الشين المعجمة وكسر العين المهملة، وبالثاء المثلثة، وهو مغبر الرأس، وأصله من الشعث، وهو إنشاء الغبر وتغبره لقلة العهد، ومنه يقال رجل أشعث وامرأة شعثاء. والتفل بفتح التاء المثناة وكسر الفاء تارك الطيب، وأصله من التفل، وهو الريح الكريهة.
م: (وكذا لا يدهن) ش: أي كما لا يمس طيباً لا يدهن أيضاً، وبه قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وابن حبيب. وفي " شرح المهذب " الزيت والشيرج والسمن ونحوهما من الأدهان لا يحرم استعمالها على المحرم في بدنه إذا لم تكن مطيبة، وتحرم في الرأس، والمطيب منه يمنع في جميع البدن، واستدلوا على الإباحة بحديث فرقد السبخي(4/185)
لما روينا.
ولا يحلق رأسه، ولا شعر بدنه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة: 196] (196 البقرة) الآية. ولا يقص من لحيته؛ لأنه في معنى الحلق؛ ولأن فيه إزالة الشعث، وقضاء التفث،
قال: ولا يلبس ثوبا مصبوغا بورس، ولا زعفران، ولا عصفر؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا يلبس المحرم ثوبا مسه زعفران، ولا ورس إلا أن يكون غسيلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزاهد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم» رواه البيهقي، قال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو ضعيف، وقال: فرقد ليس بشيء، وقال ابن حبان كانت فيه غفلة، وزاده خطأ، وكان يرفع المسند ويسند الموقوف من حيث لا يفهم، فبطل الاحتجاج به، وضعفه يحيى بن معين قوله: غير مقتت أي غير مطيب.
م: (لما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحاج الشعث التفل»
م: (ولا يحلق رأسه، ولا شعر بدنه) ش: مثل شعر إبطه وعانته، وكذا حلق لحيته وأخذ شاربه م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) فيدل بعبارته على النهي لحلق الرأس وبدلالة النهي عن حلق شعر البدن، لأن شعر الرأس استحق الأمن عن الإزالة لكونه نامياً يحصل الارتفاق بإزالته، وهذا المعنى في شعر البدن فتلحق به دلالته.
م: (ولا يقص من لحيته؛ لأن في معنى الحلق) ش: من حيث الارتفاق به م: (ولأن فيه) ش: أي في القص من اللحية م: (إزالة الشعث) ش: قد مر تفسيره عن قريب م: (وقضاء التفث) ش: بفتح التاء المثناة من فوق، والفاء وبالمثلثة، وقال المطرزي: هو الوسخ، والمراد قضاء إزالة التفث وقيل هو فسخ الإحرام وقضاؤه بحلق الرأس والاغتسال، وقال الكاكي: قضاء التفث إزالة بقص الشارب، وقلم الأظافر، ونتف الإبط والاستحداد، وبقولنا قال الشافعي وأحمد ومالك في رواية، وقال أصحاب الظاهر، لا يجب شيء في غير شعر الرأس وبه قال مالك في رواية.
م: (قال: ولا يلبس ثوبا مصبوغا بورس) ش: الورس بفتح الواو وسكون الراء وبالسين المهملة وهو نبت طيب الرائحة، وفي " القاموس ": شيء أحمر، فإنه يشبه نحو الزعفران مجلوب من اليمن، وفي " الصحاح ": الورس نبت أصفر يكون باليمن، وفي " الديوان " صبغ أصفر م: (ولا زعفران) ش: أي ولا ثوباً مصبوغاً بزعفران م: (ولا عصفر) ش: أي ولا ثوباً مصبوغاً بعصفر. قال الجوهري: العصفر صبغ ولم يزد عليه.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا يلبس المحرم ثوبا مسه زعفران، ولا ورس إلا أن يكون غسيلاً» ش: هذا الحديث رواه الحافظ أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي عمران،(4/186)
لا ينفض» ؛ لأن المنع للطيب لا للون. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بلبس المعصفر؛ لأنه لون لا طيب له، ولنا أن له رائحة طيبة.
قال: ولا بأس بأن يغتسل، ويدخل الحمام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حدثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، حدثنا أبو معاوية عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تلبسوا ثوباً مسه ورس أو زعفران إلا أن يكون غسيلاً» ، يعني في الإحرام، قوله: - إلا أن يكون غسيلاً - وقع في حديث ابن عمر في رواية الطحاوي م: (لا ينفض) ش: أي لا يوجد منه رائحة العصفر والزعفران، كذا في " فتاوى قاضي خان "، وعن محمد، أي أن لا يتعدى أثر الصبغ إلى غيره أي لا يخرج منه رائحة طيبة إلى غيره، وقيل النفض التناثر، وهذا لا يصح لأن العبرة للطيب لا للتناثر.
م: (لأن المنع للطيب لا للون) ش: أشار بهذا التعليل إلى أن معنى قوله - لا ينفض - لا يخرج منه رائحة طيبة، لأن المنع لكونه طيباً، أي لأجل كونه طيباً، اعترض على القدوري بسبب قوله: - إلا أن يكون غسيلاً لا ينفض - حيث ذكر على البناء للفاعل، لأنه يقال نفضت الثوب أنفضه نفضاً، إذا حركته ليسقط ما عليه، والثوب منفوض فليس بنافض، هذا خطأ، وإنما هو ينفض على صيغة المجهول.
قلت: هذا اعتراض ساقط لا وجه له، لأن القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما قال: لا ينفض ضبط على بناء الفاعل حتى يتوجه إليه الاعتراض واللفظ يحتمل الوجهين، ولئن سلمنا أنه نقل عنه على بناء المجهول، فله وجه بطريق الإسناد المجازي، وهذا باب واسع.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بلبس المعصفر؛ لأنه لون لا طيب له) ش: عرفاً، ولهذا لا يباع في سوق القطر، وبه قال أحمد.
م: (ولنا أن له رائحة طيبة) ش: فيكون ممنوعا منها كالورس والزعفران، وصحح في " الموطأ " إنكار عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على طلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في لبس المعصفر حالة الإحرام.
[ما يباح للمحرم]
م: (وقال: ولا بأس بأن يغتسل) ش: لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل م: (وهو محرم) ش: رواه مسلم، ولأن ابن عمر رخص فيه، وحكى أبو أيوب الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «اغتسال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو محرم» متفق عليه، وأجمع أهل العلم أن المحرم يغتسل من الجنابة، ورخص جابر وابن عمر وسعيد بن جبير والشافعي وأحمد وأبو ثور، وكره مالك أن يغيب رأسه في الماء لتوهم التغطية، فإن فعل أطعم م: (ويدخل الحمام) ش: لأنه يصب الماء عليه، وروى الشافعي والبيهقي بإسنادهما عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه دخل حماماً بالجحفة وهو محرم، وقال مالك(4/187)
لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اغتسل وهو محرم، ولا بأس بأن يستظل بالبيت والمحمل. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره أن يستظل بالفسطاط، وما أشبه ذلك، لأنه يشبه تغطية الرأس. ولنا أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يضرب له فسطاط في إحرامه؛ ولأنه لا يمس بدنه فأشبه البيت. ولو دخل تحت أستار الكعبة حتى غطته إن كان لا يصيب رأسه ولا وجهه فلا بأس به؛ لأنه استظلال،
ولا بأس بأن يشد وسطه بالهميان. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره إذا كان فيه نفقة غيره؛ لأنه لا ضرورة. ولنا أنه ليس في معنى لبس المخيط فاستوت فيه الحالتان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو دخل الحمام وتدلك افتدى.
م: (لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اغتسل وهو محرم) ش: رواه مالك في " الموطأ " مطولاً م: (ولا بأس بأن يستظل بالبيت والمحمل) ش: بفتح الميم الأولى وكسر الثانية، وفي " المغرب " بالعكس أيضاً وهو الهودج الكبير، وعن مالك وأحمد لو استظل بالمحمل راكباً افتدى، ولو استظل نازلاً لا شيء عليه.
م: (وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يكره أن يستظل بالفسطاط) ش: وهو الخيمة الكبيرة، وبه قال أحمد، حتى لو فعل تجب الفدية في إحدى الروايتين عن أحمد م: (وما أشبه ذلك) ش: نحو أن يرفع ثوباً على عود أو يقيم ثلاثة أعواد مربوطة رأسها ويضع عليها ثوبا ونحو ذلك م: (لأنه يشبه تغطية الرأس) ش: وإن لم يمس رأسه فيكره.
م: (ولنا أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يضرب له فسطاط في إحرامه) ش: روى ابن أبي شيبة في " مصنفه "، حدثنا وكيع حدثنا الصلت عن قتيبة بن طهمان، قال: رأيت عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالأبطح في فسطاط مضروب وسيفه معلق بالشجرة، ذكره في باب المحرم يحمل السلاح م: (ولأنه) ش: أي ولأن الفسطاط م: (لا يمس بدنه فأشبه البيت) ش: فلا يكره، لأن الاستظلال في البيت بالسقف.
م: (ولو دخل تحت أستار الكعبة حتى غطته إن كان لا يصيب رأسه ولا وجهه فلا بأس به؛ لأنه استظلال) ش: فيكون الاستظلال بالثوب، وفي " المغني " يكره ذلك.
م: (ولا بأس بأن يشد وسطه بالهميان) ش: وهو ما يوضع فيه الدراهم والدنانير م: (وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يكره إذا كان فيه نفقة غيره؛ لأنه لا ضرورة) ش: له في ذلك وإن كان فيه نفقته فلا بأس به.
م: (ولنا أنه) ش: أي شد الهميان في وسطه م: (ليس في معنى لبس المخيط فاستوت به الحالتان) ش: يعني نفقته ونفقة غيره، وقال ابن المنذر، ورخص في الهميان والمنطقة للمحرم ابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء وطاووس ومجاهد والقاسم والنخعي والشافعي وأحمد(4/188)
ولا يغسل رأسه، ولا لحيته بالخطمي لأنه نوع طيب، ولأنه يقتل هوام الرأس.
قال: ويكثر من التلبية عقيب الصلوات وكلما علا شرفا، أو هبط واديا، أو لقي ركبانا وبالأسحار لأن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يلبون في هذه الأحوال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإسحاق وأبو ثور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، غير أن إسحاق قال ليس له أن يعقد بل يدخل بسور بعضها في بعض. وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في المنطقة للمحرم أو سويق عليك نفسك، ذكره محب الدين الطبري.
م: (ولا يغسل رأسه، ولا لحيته بالخطمي) ش: بكسر الخاء. وفي " المحيط "، وكذا جسده، وبه قال مالك، وفي " شرح الوجيز " في الجديد لا يكره بالخطمي قال: والسدر، وفي القديم يكره، ولكن لا فدية عليه، وبه قال أحمد م: (لأنه) ش: أي لأن الغسل بالخطمي م: (نوع طيب) ش: هذا في خطمي العراق، لأن له رائحة طيبة م: (ولأنه يقتل هوام الرأس) ش: بتشديد الميم، جمع هامة، وأريد بها القمل ها هنا، ثم إذا غسل رأسه ولحيته بالخطمي يجب عليه الدم عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال تجب عليه الصدقة، وعن أبي يوسف روايتان أخريان أحدهما: أنه لا شيء عليه جملة بمنزلة الأشنان، والثانية: يجب عليه دمان، دم لأنه طيب ودم لأنه يقتل هوام الرأس، وأجمعوا لو غسله بالحرض أو بالصابون أو بالماء القراح لا شيء عليه.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ويكثر من التلبية عقيب الصلاة) ش: وفي بعض النسخ الصلوات، وفي " المحيط " عقيب المكتوبات دون الفائتات، وهو الأفضل في ظاهر الرواية، وعليه الإجماع إلا عند مالك وأحمد قال: لا يلبي عند اصطدام الرفاق م: (وكلما علا شرفا) ش: أي صعد مكاناً مرتفعاً م: (أو هبط واديا، أو لقي ركبانا) ش: بفتح الراء وسكون الكاف، وهم أصحاب الإبل في السفر م: (وبالأسحار) ش: عطف على قوله - عقيب الصلاة - أي يكثر من التلبية، أي أيضاً بالأسحار جمع سحر.
م: (لأن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يلبون في هذه الأحوال) ش: هذا غريب، وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه "، حدثنا أبو خالد الأحمر عن ابن جريج عن ساباط قال: كان السلف يستحبون التلبية في أربعة مواضع: في دبر الصلاة، وإذا هبطوا وادياً أو علوه وعند التقاء الرفاق.
وعن أبي معاوية عن الأعمش عن خيثمة قال كانوا يستحبون التلبية عند دبر الصلاة، وإذا استقبلت بالرجل راحلته وإذا صعد شرفاً أو هبط وادياً وإذا لقي بعضهم بعضاً.
وفي " الإمام «كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبي إذا لقي راكباً، أو صعد، أو هبط واديا، وفي أدبار المكتوبة، وفي آخر الليل» . وقال النخعي كان السلف يستحبون التلبية في هذه الأحوال وهو قول الشافعي(4/189)
والتلبية في الإحرام على مثال التكبير في الصلاة، فيؤتى بها عند الانتقال من حال إلى حال. ويرفع صوته بالتلبية؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أفضل الحج العج والثج» فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج إسالة الدم.
قال: فإذا دخل مكة ابتدأ بالمسجد لما روي «أن النبي عليه الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد، وقال مالك وابن حنبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا يلبي عند اصطدام الرفاق.
م: (والتلبية في الإحرام على مثال التكبير في الصلاة) ش: أولها شرط وآخرها سنة م: (فيؤتى بها عند الانتقال من حال إلى حال ويرفع صوته بالتلبية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «أفضل الحج العج والثج» ش: هذا الحديث رواه جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، منهم ابن عمر، وروى حديثه الترمذي وابن ماجه عن إبراهيم بن يزيد الخوزي قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يحدث عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «قام رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله من الحاج؟ فقال الشعث التفل، فقام آخر فقال، أي الحج أفضل؟ فقال العج والثج» وقد مر الكلام فيه عند قول المصنف: «روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن السبيل إلى الحج، فقال: " الزاد والراحلة.»
م: (والعج: رفع الصوت بالتلبية) ش: قال الجوهري: العج رفع الصوت، وقد عج يعج عجيجاً وعجج إذا صوت، ومضاعفته دليل على التكرير، م: (والثج: إراقة الدم) ش: من ثجت الماء والدم ثجه ثجاً إذا أسلمته، وأتانا الوادي بثجيجه أي بسبيله، ومطر ثجاج إذا انصب جداً، والثج سيلان دم الهدي، وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يرفع صوته في مساجد الجماعات، لأنها لم تبن لها إلا في المسجد الحرام ومسجد منى وخالف الجماعة، وقد لبى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجد ذي الحليفة في دبر صلاته.
[آداب دخول مكة]
م: (قال: فإذا دخل مكة ابتدأ بالمسجد) ش: أي إذا دخل المحرم مكة ابتدأ بالمسجد الحرام، يعني لا يشتغل بعمل آخر قبل أن يدخل المسجد الحرام، لأن المقصود زيارة البيت، أي الكعبة في المسجد م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دخل مكة دخل المسجد الحرام) ش: الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أول شيء بدأ به حين دخل مكة توضأ ثم طاف بالبيت، ويستحب أن يدخله من باب بني شيبة بالإجماع.(4/190)
والسلام لما دخل مكة دخل المسجد الحرام» ولأن المقصود زيارة البيت وهو فيه، ولا يضره ليلا دخلها أو نهارا؛ لأنه دخول بلدة فلا يختص بأحدهما. وإذا عاين البيت كبر وهلل، وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقول: إذا لقي البيت باسم الله، والله أكبر. ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يعين في الأصل لمشاهد الحج من الدعوات؛ لأن التوقيت يذهب بالرقة، وإن تبرك بالمنقول منها فحسن.
قال: ثم ابتدأ بالحجر الأسود فاستقبله، وكبر وهلل؛ لما روي «أن النبي عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن المقصود زيارة البيت وهو فيه) ش: أي البيت في المسجد م: (ولا يضره ليلاً دخلها أو نهاراً) ش: أي ولا يضر الحاج دخل مكة في الليل أو في النهار م: (لأنه دخول بلدة فلا يختص بأحدهما) ش: أي بأحد الليل والنهار، وفي " مبسوط شيخ الإسلام " قال بعض الناس دخولها بالنهار أفضل، لما روي أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يكرهون دخولها ليلاً. قلنا كانوا يكرهون ذلك مخافة السرقة.
م: (وإذا عاين البيت كبر وهلل) ش: أي قال الله أكبر، أي أجل من هذه الكعبة المعظمة وهلل، أي قال لا إله إلا الله، ومعناه التبري عن توهم عبادة البيت، وقد قيل إن الدعاء مستجاب عند رؤية البيت فلا يغفل م: (وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقول إذا لقي البيت: بسم الله والله أكبر) ش: هذا غريب، والذي رواه البيهقي عنه أنه كان يقول ذلك عند استلام الحجر الأسود.
م: (ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يعين في الأصل) ش: أي في " المبسوط " م: (لمشاهد الحج شيئاً) ش: بفتح الميم. أي لأماكن الحج، وهو جمع مشهد م: (من الدعوات، لأن التوقيت يذهب بالرقة) ش: لأنه يصير بمنزلة من يكون على محفوظة م: (وإن تبرك بالمنقول منها) ش: أي من الدعوات م: (فحسن) ش: منها أن يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام، ذكره هشيم عن يحيى بن سعيد عن محمد بن سعيد بن المسيب عن أبيه أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان إذا نظر إلى البيت قال ذلك. وروى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا نظر البيت رفع بصره وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيما وتكريماً ومهابة، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً» .
قلت: هذا مفضل، وعن عطاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا لقي البيت قال: أعوذ برب البيت من الدين والفقر وضيق الصدر وعذاب القبر» . قلت: هذا أيضاً مفضل.
[طواف القدوم]
[حكم طواف القدوم]
م: (قال: ثم ابتدأ بالحجر الأسود فاستقبله وكبر وهلل لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل المسجد فابتدأ(4/191)
الصلاة والسلام دخل المسجد فابتدأ بالحجر فاستقبله وكبر، وهلل؛» قال: ويرفع يديه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن " وذكر من جملتها استلام الحجر» . قال: واستلمه وقبله إن استطاع من غير أن يؤذي مسلما؛ لما روي «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قبل الحجر الأسود، ووضع شفتيه عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالحجر فاستقبله وكبر وهلل) ش: الحجر الأسود في الركن الذي يلي باب البيت من جانب الشر، ويسمى الركن الأسود والركن العراقي عند من يسمي الذي يليه في طواف الركن الشامي والذي بعده الركن العراقي، وارتفاعه من الأرض ثلاثة أذرع إلا سبع أصابع، ويقف بحياله ويستقبله بوجهه، وقوله - كبر - أي قال الله أكبر وهلل، أي قال لا إله إلا الله.
م: (قال: ويرفع يديه) ش: كما يرفع عند افتتاح الصلاة، كذا في المجتبى. وفي التحفة يرفعهما كما في الصلاة ثم يرسلهما ثم يسلم. وفي " البدائع " و " الينابيع " و " الأسبيجابي " يرفع يديه، كما في الصلاة لكن حذو منكبية وهو الصحيح، وفي " الكرماني " حذو أذنيه م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن» وذكر من جملتها استلام الحجر) ش: قد مر الكلام فيه مستقصى في صفة الصلاة، وليس فيه استلام الحجر.
وذكر في " شرح الآثار " مسنداً إلى إبراهيم النخعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ترفع الأيدي في سبعة مواضع في افتتاح الصلاة وفي التكبير للقنوت في الوتر، وفي العيدين وعند استلام الحجر على الصفا والمروة وبجمع وعرفات وعند المقامين وعند الجمرتين. وفي " المجتبى " في كتاب الخصال ترفع الأيدي في سبعة مواطن أربعة منها افتتاح الصلاة والقنوت وتكبيرات العيدين واستفتاح الطواف والخمس الباقيات عند الصفا والمروة وعند الجمرتين والموقفين.
م: (قال: واستلمه) ش: أي الحجر واستلامه تناوله باليدين أو القبلة أو مسحه بالكف من السلمة بفتح السين وكسر اللام، وهي الحجر والاستلام طلبه، وعند الفقهاء الاستلام أن يضع كفيه على الحجر ويقبله بفمه. وقال الأزهري: استلام الحجر من السلام وهو التحية، ولذلك أهل اليمن يسمون الركن الأسود المجتبى، ومعناه أن الناس يجتبونه افتعال من السلام. وقال في " المغني " هو افتعال من السلام بكسر السين، وهي الحجارة، تقول استلمت الحجر إذا لمسته بفم أو يد. وقال ابن الأعرابي: هو مهموز، تركت همزته مأخوذ من المسالمة وهي الموافقة.
م: (وقبله إن استطاع من غير أن يؤذي مسلما، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الحجر الأسود ووضع شفتيه عليه) ش: هذا الحديث رواه بهذا اللفظ ابن ماجه في " سننه " عن محمد بن عون عن نافع(4/192)
وقال لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إنك رجل أيد تؤذي الضعيف، فلا تزاحم الناس على الحجر، ولكن إن وجدت فرضة فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلل، وكبر.» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «استقبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحجر ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلاً ثم التفت فإذا هو بعمر بن الخطاب يبكي، فقال: " يا عمر ها هنا تسكب العبرات» ورواه الحاكم في " مستدركه " وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ولم يتعقبه الذهبي في " مختصره "، ولكنه في " ميزانه " علله بمحمد بن عون، ونقل عن البخاري أنه قال: هو منكر الحديث.
وقال ابن حبان في كتاب " الضعفاء ": هو قليل الرواية فلا يحتج به إلا إذا وافق الثقات وقال في " الإمام ": ومحمد بن عون، هذا هو الخراساني، قال ابن سفيان: هو ليس بشيء، وقال النسائي والأزدي: متروك الحديث.
قلت: الحديث رواه الأئمة الخمسة، وليس فيه ذكر الشفتين أخرجه عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه جاء إلى الحجر فقبله وقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبلك ما قبلتك.» وأخرج البخاري عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أنه سئل عن استلام الحجر، فقال رأيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستلمه ويقبله» وتقبيل الحجر مجمع عليه، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد على الحجر» رواه الدارقطني. وعن ابن عباس أنه قبل الركن وسجد عليه ثلاث مرات وعن الشافعي «وقبله عمر وسجد عليه، ثم قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل هكذا» أخرجه البيهقي، وكره مالك وحده السجود على الحجر، وقال: إنه بدعة. وقال: جمهور أهل العلم على استحبابه ويجمع بين التقبيل والاستلام والسجود إن أمكن وإلا يقبل ويستلم أو استلم إن تعذر التقبيل عليه أو يمس الحجر شيئا من محجن أو عصى على ما يأتي الآن.
م: (وقال لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: م: (إنك رجل أيد تؤذي الضعيف فلا تزاحم الناس على الحجر، ولكن إن وجدت فرضة) ش: ويروى فرجة. أي انفراجاً، أي انكشافاً م: (فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر) ش: هذا الحديث رواه أحمد والشافعي وإسحاق بن راهوية وأبو يعلى الموصلي كلهم عن سفيان عن أبي يعقوب العبدي واسمه وقدان، قال: سمعت إمارة الحجاج يحدث «عن عمر بن الخطاب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: " إنك رجل قوي لا تزاحم الناس على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وكبر وهلل.»(4/193)
ولأن الاستلام سنة والتحرز عن أذى المسلم واجب. قال: وإن أمكنه أن يمس الحجر بشيء في يده كالعرجون، وغيره ثم قبل ذلك فعل لما روي «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طاف على راحلته، واستلم الأركان بمحجنه» وإن لم يستطع شيئا من ذلك استقبله، وكبر وهلل، وحمد الله، وصلى على النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، قال: ثم أخذ عن يمينه مما يلي الباب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الدارقطني: ذكروا أن هذا الشيخ هو عبد الرحمن بن نافع بن عبد الحارث قوله - أيد - بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة وبالدال المهملة، أي قوي وهو صفة مشبهة من الأيد، وهو القوة.
م: (ولأن الاستلام سنة، والتحرز عن أذى المسلم واجب) ش: أي ولأن استلام الحجر سنة، حاصل المعنى لا يأتي بالسنة على وجه يخل بالواجب.
م: (قال: وإن أمكنه أن يمس الحجر بشيء في يده كالعرجون) ش: أي وإن أمكن الطائف إمساس الحجر بشيء كان في يده كالعرجون، بضم العين المهملة، وهو العذق الذي يرجع ويقطع منه الشماريخ فيبقى على النخل يابساً. وقال الزجاج: هو فعلون من الانعراج أي الانعطاف، والعذق [ ... ] عنقود النخل م: (وغيره) ش: مثل المحجن بكسر الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الجيم وبالنون، وهو عود معوج الرأس كالصولجان.
م: (ثم قبل ذلك) ش: إلى الشيء الذي في يده نحو العرجون م: (فعل) ش: جواب الشرط م: (لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (طاف على راحلته واستلم الأركان بمحجنه) ش: هذا الحديث رواه البخاري في " الصحيح " عن ابن عباس قال: «طاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع يستلم الركن بمحجن» وروى مسلم وأبو داود من حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «طاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه» .. الحديث، وقد مر تفسير المحجن آنفاً، قوله: - يستلم الأركان - أراد بالأركان الحجر الأسود والركن اليماني، وإنما جمعه باعتبار تكرر الأشواط.
م: (وإن لم يستطع شيئاً من ذلك) ش: أي من الاستلام للحجر أو إمساس العرجون وغيره م: (استقبله) ش: هذا الاستقبال مستحب غير واجب، لما روى الترمذي من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " يحشر الحجر الأسود وله عينان يبصران ولسان ينطق به فيشهد لمن استلمه أو استقبله.» وهيئة الاستقبال أن يستقبل الحجر ويجعل باطن كفيه نحو الحجر لا إلى السماء ويكون ظهرهما إليه. م: (وكبر وهلل وحمد الله) ش: تعالى م: (وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثم أخذ عين يمينه مما يلي الباب) ش: الضمير في يمينه يرجع إلى الآخذ الطائف دون(4/194)
وقد اضطبع رداءه قبل ذلك فيطوف بالبيت سبعة أشواط، لما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - استلم الحجر، ثم أخذ عن يمينه مما يلي الباب فطاف سبعة أشواط» . والاضطباع أن يجعل رداءه تحت إبطه الأيمن، ويلقيه على كتفه الأيسر، وهو سنة، وقد نقل ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحجر، وقيد به لأنه لو أخذه عن يساره يكون الطواف منكوساً، فإذا طاف منكوساً يعيد به عندنا ما دام بمكة، فإذا رجع قبل الإعادة فعليه دم كذا في " الذخيرة "، وفي " مبسوط " شيخ الإسلام وقال الشافعي وأحمد ومالك: لا يعتد به وفي " المبسوط " لو افتتح الطواف من غير الحجر فلم يذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا الفصل في الأصل، وقد اختلف المتأخرون فيه، فقيل: لا يجوز، وقيل: يجوز.
م: (وقد اضطبع رداءه) ش: الصواب بردائه، وهذا سهو منه، وهذه جملة وقعت حالاً بكلمة قد. لأن الجملة الفعلية الماضية إذا وقعت حالا لا بد فيها من كلمة - قد - ظاهرة أو مقد، نحو قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] [النساء: الآية 90] ، أي قد حصرت صدورهم، واشتقاق الضبع من اضطبع وهو العضد، وهو افتعال منه، قلبت تاؤه طاء لأجل الضاد.
م: (فيطوف بالبيت سبعة أشواط) ش: أي سبع مرات، وهو جمع شوط يقال عدا شوطاً أي طلقاً بفتحتين، وهو الثناء، وهو الغاية م: (لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استلم الحجر ثم أخذ عن يمينه مما يلي الباب ثم طاف سبعة أشواط» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم عن جعفر عن ابن محمد عن أبيه عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «لما قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة بدأ بالحجر الأسود فاستلمه ثم مضى على يمينه فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً» .
م: (والاضطباع أن يجعل رداءه تحت إبطه الأيمن ويلقيه على كتفه الأيسر) ش: أي يبدي كتفه الأيمن ويغطي الأيسر م: (وهو سنة) ش: أي الاضطباع سنة، وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا أعرف الاضطباع وما رأيت أحداً فعله، وعن أحمد يستحب الاضطباع، ولو ترك الاضطباع والرمل لا شيء عليه عند الجمهور، وعليه الإجماع، وعن الحسن البصري والنووي وابن الماجشون عليه دم ولا يضطبع عند السعي عند الجمهور، وعن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يضطبع قياساً على الطواف.
م: (وقد نقل ذلك) ش: أي الاضطباع م: (عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: هذا رواه أبو داود في " سننه " من حديث ابن جريج عن ابن يعلى عن يعلى قال: «طاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مضطبعاً» .(4/195)
قال: ويجعل طوافه من وراء الحطيم وهو اسم لموضع فيه الميزاب، يسمى به؛ لأنه حطم من البيت، أي كسر وسمي حجرا؛ لأنه حجر منه: أي منع، وهو من البيت لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «فإن الحطيم من البيت» فلهذا يجعل الطواف من ورائه، حتى لو دخل الفرجة التي بينه وبين البيت لا يجوز،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: ويجعل طوافه من وراء الحطيم) ش: (أي من خارج الحطيم م: (وهو) ش: أي الحطيم م: (اسم لموضع فيه الميزاب؛ يسمى به لأنه حطم من البيت أي: كسر) ش: على صيغة المجهول، وكذلك حطم وهو من الحطم وهو الكسر، وهو على وزن فعيل بمعنى مفعول، أي محطوم؛ لأن البيت رفع وترك وهو محطوما، وقيل: فعيل بمعنى فاعل، أي حاطم، لأن العرب كانت تطرح فيه ما طاقت به من الباب، فبقي حتى تحطم لطول الزمان. قال المصنف: الحطيم اسم موضع فيه الميزاب أي ميزاب الرحمة، وقال صاحب " النهاية ": الحطيم: اسم لموضع بينه وبين البيت فرجة.
م: (وسمي حجرا) ش: أي وسمي الحطيم حجرا بكسر الحاء وسكون الجيم وبالراء م: (لأنه حجر منه) ش: أي من البيت. وقال تاج الشريعة: هو فعيل بمعنى مفعول من حجره إذا منعه؛ لأنه موضع محجور، وسمي الحجر بالحطيم، وعلى العكس توسع. قال ابن دريد في " الجمهرة ": وفيه قبر هاجر وإسماعيل - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، م: (وهو من البيت) ش: أي الحطيم من جملة البيت م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: فإن الحطيم من البيت) . ش: هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم قالت: «سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمن البيت هو؟ قال: " نعم "، قالت: فما بالهم لا يدخلوه في البيت، قال: " إن قومك قصرت بهم النفقة " قلت: فما شأن بابه مرتفعا، قال: " فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا، ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أن قومك حديثو عهد بكفر، وأخاف أن تنكر قلوبهم لنظر ذلك أدخل الجدار في البيت وألزق بابه بالأرض» . وروى أبو داود والترمذي عن علقمة عن أمه «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: " كنت أحب أن أدخل البيت وأصلي فيه، فأخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي فأدخلني في الحجر فقال: " صلي في الحجر إذا أردت دخول البيت، فإنما هو قطعة من البيت، فإن قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت» انتهى. محوط مدور على صورة نصف دائرة خارج عن جدار البيت من جهة الشام وليس كله من البيت بل مقدار ستة أزرع منه من البيت؛ لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في صحيح مسلم عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ستة أزرع من الحجر من البيت وما زاد ليس من البيت» .
م: (فلهذا يجعل الطواف من ورائه) ش: أي فلكون الحطيم من البيت يجعل الطواف من ورائه أي من خارجه م: (حتى لو دخل) ش: أي الطائف م: (الفرجة التي بينه وبين البيت لا يجوز) ش: أي بين الحطيم وبين البيت لا يجوز، وكان الاحتياط في الطواف أن يكون من وراءه أي يكون(4/196)
إلا أنه إذا استقبل الحطيم وحده لا تجزيه الصلاة؛ لأن فرضية التوجه ثبتت بنص الكتاب، فلا تتأدى بما ثبت بخبر الواحد احتياطا، والاحتياط في الطواف أن يكون وراءه،
قال: ويرمل في الثلاثة الأول من الأشواط، والرمل: أن يهز في مشيته الكتفين كالمبارز يتبختر بين الصفين، وذلك مع الاضطباع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحطيم من البيت م: (إلا أنه إذا استقبل الحطيم وحده لا تجزيه الصلاة) ش: هذا استثناء من قوله: - وهو من البيت - جواب سؤال مقدر بأن يقال: لو كان الحطيم من البيت لجازت الصلاة إذا توجه المصلي إليه، أجاب بأن الصلاة لا تجزئه إذا توجه إليه دون البيت. م: (لأن فرضية التوجه إلى البيت ثبتت بنص الكتاب) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] [البقرة: الآية 144] ، م: (فلا يتأدى بما ثبت) ش: بالنص القطعي فلا يتأدى بما ثبت م: (بخبر الواحد احتياطاً) ش: لأن فيه شبهة م: (والاحتياط في الطواف أن يكون وراءه) ش: أي وراء الحطيم ليستغرق أطراف البيت.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ويرمل في الثلاثة الأولى من الأشواط، والرمل) ش: بفتح الميم، والرملان كذا الهرولة، أشار إليها بقوله م: (أن يهز) ش: أي أن يحول م: (في مشيته الكتفين كالمبارز يتبختر بين الصفين وذلك مع الاضطباع) ش: أي مع كونه مضطبعاً في هذه الحالة وقوله: في مشيته بكسر الميم على وزن فعلة بكسر الفاء، لأن الفعلة للحالة والفعلة بالفتح للمرة، وقال بعضهم: لا رمل اليوم على أهل الآفاق. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لا رمل في الطواف، وإنما فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إظهار الجلادة للمشركين على ما روي في عمرة القضاء أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم مكة للعمرة عام الحديبية صده المشركون عن البيت، فصالحهم على أن ينصرف ثم يأتي في العام الثاني ويدخل مكة بغير سلاح فيعتمر ويخرج، فلما قدم في العام الثاني أخلوا له البيت ثلاثة أيام وصعدوا الجبل، فطاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أصحابه فسمع بعض المشركين يقول لبعض أصنامهم حمى يثرب، أي المدينة، فاضطبع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بردائه ورمل، وقال لأصحابه: «رحم الله امرءاً أظهر من نفسه جلداً» فإذا كان الرمل لإظهار الجلد يومئذ، وقد زال ذلك المعنى الآن فلا معنى للرمل.
قلنا: إنه سنة لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف يوم النحر في حجة الوداع فرمل في الثلاثة الأولى ولم يبق المشركون يومئذ بمكة» . وروي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما أراد الرمل في طوافه فقال: يا غلام أمر كتفي وليس هنا أحد يراه، ولكني مع الحكم مستغن عن بقاء السبب كما في رمي الجمار سببه طرد الشيطان عن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثم بقي ذلك الحكم وإن زال السبب، وقيل: الحكمة في الرمل اليوم إراءة القوة والجلادة في الطاعة فإنه حسن في الطاعة يتحمل فيها المشاق، وقيل: إنما يرى الشيطان بأن السفر ما أضناه حتى ينقطع طمعه في وسوستنا(4/197)
وكان سببه إظهار الجلد للمشركين حيث قالوا: أضناهم حمى يثرب ثم بقي الحكم بعد زوال السبب في زمن النبي لله وبعده. قال: ويمشي في الباقي على هنية على ذلك اتفق رواة نسك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والرمل من الحجر إلى الحجر هو المنقول من رمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن زحمه الناس في الرمل قام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في المناسك. وقال سعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد: لا يرمل فيهما بين الركن اليماني والحجر وإنما يرمل من الجانب الآخر، ويرده ما رواه الطحاوي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مسنداً إلى أبي الطفيل قال: «رمل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الحجر إلى الحجر» .
م: (وكان سببه) ش: أي سبب الرمل م: (إظهار الجلد للمشركين) ش: أي مشركي مكة م: (حيث قالوا: أضناهم) ش: أي أثقلهم وأوهنهم م: (حمى يثرب) ش: أي المدينة م: (ثم بقي الحكم) ش: أي حكم الرمل م: (بعد زوال السبب في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبعده) ش: أي وبعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ذكرناه.
م: (قال: ويمشي في الباقي) ش: أي من الأشواط م: (على هنية) ش: بكسر الهاء أي على السكينة، والوقار تعظيماً وتواضعاً لله تعالى م: (على ذلك) ش: أي على ما ذكرناه م: (اتفق رواة نسك) ش: أي حج م: (رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعاً. رواه البخاري ومسلم، ومنهم جابر قال في حديث طويل «حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً» رواه مسلم، ومنهم عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وروى حديثه أبو داود وابن ماجه عن هشام بن سعد بن زيد بن أسلم عن أبيه، قال: سمعت «عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: يتم الرمل وكشف المناكب، وقد أعز الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله، ومع ذلك فلا ندع شيئاً كنا نفعله مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
م: (والرمل من الحجر إلى الحجر) ش: أي من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود، وخالف فيه سعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد، وقد ذكرناه الآن وروينا عليهم م: (هو المنقول) ش: أي الرمل من الحجر إلى الحجر هو المنقول م: (من رمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: وروى مسلم وأبو داود والنسائي، وابن ماجه عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «رمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الحجر» وفي لفظ لمسلم «أن ابن عمر رمل من الحجر إلى الحجر، ذكر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله» .
م: (فإن زحمه الناس في الرمل قام) ش: يعني وقف إلى أن يجد فرصة للرمل، وإنما قال:(4/198)
فإذا وجد مسلكا رمل؛ لأنه لا بد له، فيقف قائما حتى يقيمه على وجه السنة، بخلاف الاستلام؛ لأن الاستقبال بدل له. قال: ويستلم الحجر كلما مر إن استطاع؛ لأن أشواط الطواف كركعات الصلاة، فكما يفتتح كل ركعة بالتكبير يفتتح كل شوط باستلام الحجر. وإن لم يستطع الاستلام استقبل، وكبر، وهلل على ما ذكرنا، ويستلم الركن اليماني وهو حسن في ظاهر الرواية، وعن محمد أنه سنة، ولا يستلم غيرهما فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستلم هذين الركنين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قام ولم يقل وقف، يشير إلى أنه لا يقعد بل يقف قائماً، وفي " المجتبى " حائنا، فإن وجد فرجة رمل، فإن رمل في كله لا شيء عليه م: (فإذا وجد مسلكاً) ش: يعني فرجة م: (رمل به لأنه لا بد له فيقف قائماً حتى يقيمه على وجه السنة) ش: وهو أن لا يطوف بدون الرمل في تلك الثلاث م: (بخلاف الاستلام) ش: أي استلام الحجر إذا تعذر، لأنه لا يقف إذا ازدحم م: (لأن الاستقبال بدل له) ش: أي للاستلام، وإذا تعذر الاستلام يكتفي بالاستقبال.
م: (قال: ويستلم الحجر كلما مر به إن استطاع، لأن أشواط الطواف كركعات الصلاة " ش: لأنه في كل شوط يفتتح الطواف م: (فكما يفتتح المصلي كل ركعة بالتكبير، كذلك يفتتح الطائف كل شوط باستلام الحجر؛ وإن لم يستطع الاستلام استقبل) ش: وجه السبب هو الافتتاح، فافهم. وإن لم يستطع الاستلام للزحام أو لغيره استقبل الحجر م: (وكبر وهلل على ما ذكرنا) ش: عند قوله: واستلمه إن استطاع من غير أن يؤذي مسلماً.
م: (ويستلم الركن اليماني) ش: وهو خلاف الشامي لأنها بلاد على يمين الكعبة، والنسبة إليه اليماني بالتحقيق على تعويض الألف من إحدى ياء النسبة، والنسبة إليه في الأصل بتشديد الياء م: (وهو) ش: أي استلام الركن اليماني م: (حسن في ظاهر الرواية) ش: قال أبو بكر الرازي في " شرحه لمختصر الطحاوي ": أما الركن اليماني فإن استلمه فحسن، وإن تركه يضره في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -.
م: (وعن محمد أنه سنة) ش: لما روى أبو داود في " سننه " عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوافه» م: (ولا يستلم غيرهما) ش: أي غير الركن الذي فيه الحجر الأسود والركن اليماني، وذلك لأن الركنين الآخرين ليسا من أركان البيت، لأن بعض الحطيم من البيت، فيكون هذان الركنان إذا من وسط البيت وليسا بركنين على الحقيقة، ولهذا يجعل الطواف من وراء الحطيم، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يستلم اليماني بيده ويقبلها ويقبل الركن، وقال: مالك يستلمه بيده، ولا يقبل يديه وبضعها على فيه، وعن أحمد يقبل الركن.
م: (فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستلم هذين الركنين ولم يستلم غيرهما) ش: أي غير الركن اليماني(4/199)
ولا يستلم غيرهما، ويختم الطواف بالاستلام - يعني استلام الحجر -.
قال: ثم يأتي المقام فيصلي عنده ركعتين، أو حيث تيسر من المسجد، وهي واجبة عندنا، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سنة لانعدام دليل الوجوب. ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليصل الطائف لكل أسبوع ركعتين» ؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والركن الذي فيه الحجر، وهذا الحديث أخرجه الجماعة إلا الترمذي عن ابن عمر بلفظ مسلم «كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني» م: (ويختم الطواف بالاستلام، يعني استلام الحجر) ش: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل كذلك في حجة الوداع.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ثم يأتي المقام) ش: يعني بعد فراغه من سبعة الأشواط يأتي مقام إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - م: (فيصلي عنده ركعتين، أو حيث تيسر من المسجد) ش: مقام إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الحجر الذي فيه أثر قدميه والموضع الذي كان فيه الحجر حين وضع قدميه م: (وهي) ش: أي الركعتان المذكورتان م: (واجبة عندنا) ش: وبه قال الشافعي في قوله وبه قال مالك إلا أن عند مالك اتصالهما بالطواف شرط ويجب بتركهما الدم.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سنة لانعدام الدليل على وجوبها) ش: وفي بعض النسخ لانعدام دليل الوجوب.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليصل الطائف لكل أسبوع ركعتين) ش: هذا الحديث غريب وقيل لا أصل له، واستدل بعضهم لهذا بما رواه البخاري ومسلم عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فطاف بالبيت سبعاً ثم صلى خلف المقام ركعتين..» الحديث، وهذا لا يدل على الوجوب، على أن الحافظ الراوي أبا القاسم تمام بن محمد الرازي روى في " فوائده " بإسناده إلى نافع عن ابن عمر قال: «سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكل أسبوع ركعتين» واستدل الأترازي على الوجوب بقوله: ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] [البقرة: الآية 125] ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي بكسر الخاء على صيغة الأمر ومطلقه الوجوب، انتهى.
قلت: هذا أجنبي من كلام المصنف لأن الاستدلال على وجوب الركعتين بهذا الحديث فينبغي أن يكون الكلام فيه. فإن قلت: ذكر صاحب " الإيضاح " لما فرغ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الطواف صلى ركعتين عند المقام وتلا قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] [البقرة: الآية 125] ، رواه الترمذي وغيره وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نسي ركعتي الطواف فقضاهما بذي طوى فدل الأمر والقضاء على الوجوب.(4/200)
والأمر للوجوب، ثم يعود إلى الحجر فيستلمه، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صلى ركعتين عاد إلى الحجر، والأصل أن كل طواف بعده سعي يعود إلى الحجر؛ لأن الطواف لما كان يفتتح بالاستلام فكذا السعي يفتتح به، بخلاف ما إذا لم يكن بعده سعي،
قال: وهذا الطواف طواف القدوم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قال بعضهم: الأمر في الآية باتخاذ البقعة مصلى وليس فيها الأمر بالصلاة ورد عليه بأن حمل الآية على ذلك لا يصح، لأنه كان لا يصلي قبله، ولأن اتخاذ البقعة ليس إلينا، إنما إلينا فعل الصلاة فلا يجوز حمله عليه.
وقال أصحابنا في حديث جابر في " الصحيح " أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعتين بعد طوافه، وتلا هذه الآية فنبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن صلاته كانت امتثالاً لأمر الله تعالى وأمره للوجوب. وقال السدي: وقتادة أمروا أن يصلوا عند المقام، وقال أبو طاهر: الأظهر وجوبها في الطواف الواجب بالدخول في التطوع، قال: ولا خلاف بين أرباب المذاهب أنهما ليسا ركناً، والمذهب أنهما واجبتان يجبران بالدم. قال: وقال به أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: لا يجبران عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه بالدم، بل يصليهما في أي مكان شاء، ولو بعد رجوعه إلى أهله، وهو قول الشافعي وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعند الثوري: يصليهما ما دام في الحرم، وليستا شرطاً لصحة الطواف عند الأئمة الثلاثة مع أصحابهم ولا دم في تركهما عندهم. وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قولان في وجوبهما، وأصحهما أنهما سنة مؤكدة، وعند أحمد سنة مؤكدة، وهو معنى الوجوب عندنا، وتدخلها النيابة فيهما عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإن الأخير يصليهما عن المتأخر عنده، وعندنا لا مدخل للنيابة في الصلاة، وهو قول مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولو طاف وصلى ركعتين ففي وقوعهما عن الصبي وجهان.
م: (والأمر للوجوب) ش: لأن الأمر المطلق المجرد عن القرائن يدل على الوجوب م: (ثم يعود إلى الحجر) ش: أي بعد فراغه من الصلاة يعود إلى الحجر الأسود م: (فيستلمه لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صلى ركعتين عاد إلى الحجر» والأصل أن كل طواف بعده سعي يعود إلى الحجر لأن الطواف لما كان يفتتح بالاستلام، فكذا السعي يفتتح به) ش: أي باستلام الحجر.
وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن السعي للطواف، لأنه يتصل بأشواطه والسنة أن يستلم الحجر بين الشوطين، وكذا بين الطواف والسعي م: (بخلاف ما إذا لم يكن بعده) ش: أي بعد الطواف م: (سعي) ش: لأنه قدم فراغه من الركعتين فلا معنى للعود لما بدأ به الطواف.
م: (قال وهذا الطواف) ش: أي الطواف الذي ذكرنا م: (طواف القدوم ويسمى طواف التحية) ش: ويسمى أيضاً طواف اللقاء وطواف إحداث العهد بالبيت م: (وهو) ش: أي طواف القدوم م:(4/201)
ويسمى طواف التحية، وهو سنة، وليس بواجب. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه واجب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أتى البيت فليحيه بالطواف» . ولنا أن الله تعالى أمر بالطواف، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار به، وقد تعين طواف الزيارة بالإجماع، وفيما رواه سماه تحية، وهو دليل الاستحباب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(سنة وليس بواجب) ش: أي طواف القدوم ليس بواجب عندنا، وبه قال الشافعي وأحمد.
م: (وقال مالك: إنه واجب) ش: وبه قال أبو ثور م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «من أتى البيت فليحيه بالطواف» ش: ومطلق الأمر للوجوب، فإذا كان واجبا يجب الدم بتركه عنده، وفي " الحلية ": وقال مالك: إن تركه تعجلاً فلا شيء عليه، وإن تركه مطيقاً فعليه الدم، وهذا الحديث غريب.
م: (ولنا أن الله تعالى أمر بالطواف) ش: في قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] [الحج: الآية 29] ، م: (والأمر المطلق لا يقتضي التكرار به) ش: ولا يراد به إلا الواحد م: (وقد تعين) ش: بالأمر م: (طواف الزيارة بالإجماع) ش: فلما يبقى غيره مراداً ولا يلزم التكرار، فلا يجوز.
وقال الأترازي: هذا الاستدلال ضعيف، لأن لقائل أن يقول سلمنا أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار، وسلمنا أيضاً أن طواف الزيارة هو المراد بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا} [الحج: 29] لكن لا نسلم أن طواف السنة واجباً بدليل آخر توجبه الزيارة للأمر، فالدليل الآخر من غير الكتاب الذي يوجبه، لأن غيره لا يعلم به لأنه ينافي ما ثبت بالدليل القطعي فلا يعمل به، وقوله: ولهذا قلنا ... إلى آخره - وأراد لأنه يؤتى به بعد تمام التحلل، فلو جعلناه واجباً لا يؤدي إلى تكرار الواجب في الإحرام.
وأما الجواب عن بنيه فقد أشار إليه المصنف بقوله م: (وفيما رواه) ش: أي في الحديث الذي رواه مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (سماه) ش: أي سمى الطواف م: (تحية، وهو دليل الاستحباب) ش: لأن التحية في اللغة اسم الإكرام مبتدأ به على سبيل التبرع فلا يدل على الوجوب، وإن كان على صيغة الأمر كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أكرموا الشهود» .
فإن قلت: يشكل هذا بقوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء: 86] (النساء: الآية 86) ، وجواب السلام واجب، وإن كان بلفظ التحية.
قلت: الجواب المقيد بالأحسن غير واجب فكانت التحية بمعنى الأحسن، فإن لفظ التحية هنا مخرج على طريق المطابقة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} [النساء: 86] فلا يدل على عدم الوجوب.(4/202)
وليس على أهل مكة طواف القدوم؛ لانعدام القدوم في حقهم.
قال: ثم يخرج إلى الصفا فيصعد عليه، وليستقبل البيت، ويكبر، ويهلل، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويرفع يديه، ويدعو الله لحاجته؛ لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صعد الصفا حتى إذا نظر إلى البيت قام مستقبل القبلة يدعو الله؛» لأن الثناء والصلاة يقدمان على الدعاء تقريبا إلى الإجابة كما في غيره من الدعوات، والرفع سنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وليس على أهل مكة طواف القدوم؛ لانعدام القدوم في حقهم) ش: لأنهم حاضرون.
[السعي بين الصفا والمروة]
[حكم السعي بين الصفا والمروة وكيفيته]
م: (قال: ثم يخرج إلى الصفا) ش: من باب بني مخزوم، ويسمى باب الصفا، ولا يتعين، بل هو مستحب، وهو أقرب الأبواب إلى الصفا، والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جعل الخروج منه سنة، والصحيح أنه مستحب، وبه قال مالك. ويقدم رجله اليسرى في الخروج، ويقول بسم الله والسلام على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللهم افتح لي أبواب رحمتك وأدخلني فيها وأعذني من الشيطان الرجيم م: (فيصعد عليه) ش: بقدر ما يرى البيت. والصعود على الصفا مستحب، وقيل سنة، وهو المشهور عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعنه أنه ركن، ذكره الطبري في مناسكه، وعن أحمد: إن لم يصعد عليه فلا شيء عليه، وعن مالك م: (وليستقبل البيت، ويكبر، ويهلل، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويرفع يديه) ش: وكفيه نحو السماء من أول ما يكبر ويهلل م: (ويدعو الله تعالى بحوائجه) ش: من حوائج الدنيا والآخرة م: (لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صعد الصفا حتى إذا نظر إلى البيت قام مستقبل القبلة يدعو الله تعالى» ش: هذا في حديث جابر أخرجه مسلم مطولاً وهو مشهور.
م: (ولأن الثناء) ش: على الله تعالى م: (والصلاة) ش: على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (يقدمان على الدعاء تقريبا إلى الإجابة) ش: أراد بهذا أن الدعاء بحوائجه بعد الثناء على الله والصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه عقبهما أقرب إلى الإجابة لأنهما وسيلة إليها فلا جرم أنهما يقدمان م: (كما في غيره من الدعوات) ش: أي كما يقدم الدعاء والصلاة في غير هذين الوقتين، ألا ترى أن الدعاء في الصلاة يكون بعد قراءة التشهد والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذا في كل موضع يدعو الشخص بحوائجه بعد أن يثني على الله تعالى ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما ذكر الدعاء ها هنا ولم يذكر عند استلام الحجر وفي الطواف لأن حالة الاستلام حالة ابتداء العبادة والطواف يشبه الصلاة والدعاء يؤتى به بعد الفراغ من العبادة، والسعي تتمة ذلك، فأشبه آخر الصلاة فاستقام الدعاء للحاجة فيه.
م: (والرفع سنة الدعاء) ش: أي رفع اليدين سنة.
وروي فيه أحاديث، منها ما أخرجه أبو داود في " سننه " في الدعاء من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما، والإشعار أن تشير بإصبع واحدة، والإهلال أن تمد يديك» ، ثم أخرجه عن ابن(4/203)
الدعاء، وإنما يصعد الصفا بقدر ما يصير البيت بمرأى منه؛ لأن الاستقبال هو المقصود بالصعود، ويخرج إلى الصفا من أي باب شاء. وإنما خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من باب بني مخزوم، وهو الذي يسمى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أيضاً موقوفاً، ومنها ما رواه أبو داود أيضاً من حديث السائب بن يزيد عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دعا رفع يديه فمسح وجهه بيديه» وفي سنده ابن لهيعة وهو معلول به.
ومنها ما رواه أبو داود أيضاً من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم» .
وقال أبو داود روي هذا الحديث من غير وجه كلها واهية، وهذه الطريق أمثلها وهو ضعيف أيضاً، ومنها ما رواه الترمذي، في الدعوات من حديث سليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله حيي كريم يستحي من عبده أن يرفع يديه فيردهما صفراً خائبتين» . وقال الترمذي حسن غريب، وبعضهم لم يرفعه.
ومنها ما رواه الترمذي أيضاً من حديث سالم عن أبيه عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما ثم يمسح بهما وجهه» وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن عيسى، وقد تفرد به، وقال ابن حبان: في كتاب " الضعفاء ": حماد بن عيسى الجعفي يروي المعلولات التي يظن أنها معمولة، لا يجوز الاحتجاج به. وقال النووي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد ثبت أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه في الدعاء، ذكرت من ذلك نحو عشرين حديثاً في " شرح المهذب ". م: (وإنما يصعد الصفا بقدر ما يصير البيت بمرأى منه) ش: أي بمنظر من الحاج الصاعد م: (لأن الاستقبال) ش: إلى البيت م: (هو المقصود بالصعود، ويخرج إلى الصفا من أي باب شاء) ش: من أبواب المسجد م: (وإنما خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من باب بني(4/204)
باب الصفا لأنه كان أقرب الأبواب إلى الصفا لأنه سنة. قال: ثم ينحط نحو المروة ويمشي على هنيته، فإذا بلغ بطن الوادي يسعى بين الميلين الأخضرين سعيا، ثم يمشي على هنيته حتى يأتي المروة ويصعد عليها ويفعل كما فعل على الصفا لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل من الصفا وجعل يمشي نحو المروة وسعى في بطن الوادي، حتى إذا خرج من بطن الوادي مشى حتى صعد المروة وطاف بينهما سبعة أشواط» وهذا شوط واحد فيطوف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مخزوم وهو الذي يسمى باب الصفا، لأنه كان أقرب الأبواب إلى الصفا) ش: روى الطبراني في " الكبير " من حديث نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج من المسجد إلى الصفا من باب بني مخزوم» م: (لأنه سنة) . ش: وإنما كان قربه من الصفا دون سائر الأبواب. م: (وقال: ثم ينحط) ش: أي ينزل من الصفا عامداً م: (نحو المروة) ش: في بعض النسخ قال: ثم ينحط أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ثم ينحط م: (ويمشي على هنيته) ش: أي على سكونه ووقاره م: (فإذا بلغ بطن الوادي) ش: قيل: لم يبق اليوم بطن الوادي لأن السوال سنة ولم يبق له أثر إلا أنه جعل له ميلان أخضر وأصفر ليعلم أنه بطن الوادي فيسعى الحاج بين الميلين، كذا في " المبسوط " م: (يسعى بين الميلين الأخضرين سعيا) ش: إنما ذكر الأخضرين بطريق التغليب، لأن أحدهما أخضر والآخر أصفر كما ذكرنا.
وقال المطرزي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الميلان علامتان لموضع الهرولة من بطن الوادي، وقال العلامة حافظ الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هما علامتان قد ركزا في حائط المسجد الحرام.
وفي " شرح الوجيز " ثم ينزل من الصفا ويمشي على هنيته حتى يبقى بينه وبين الميل الأخضر الملصق ببنيان المسجد وركنه قدر ستة أذرع ويمشي ويسرع ويسعى سعياً شديداً، وكان ذلك الميل موضوعاً على متن الطريق في الموضع الذي يبتدأ منه السعي إعلاماً فكان السيل يهدمه، فرفعوه إلى أعلى ركن المسجد، ولهذا معلقاً، فرفع متأخراً عن مبدأ السعي ستة أذرع، لأنه لم يكن موضع أليق منه، وهذا على يسار الساعي، والميل الثاني متصل بدار العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال الروياني وغيره: هذه الأسامي.
م: (ثم يمشي على هنيته حتى يأتي المروة فيصعد عليها ويفعل كما فعل على الصفا) ش: من استقبال القبلة ورفع اليدين والدعاء لحاجته م: (لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل من الصفا، وجعل يمشي نحو المروة، وسعى في بطن الوادي، حتى إذا خرج من بطن الوادي مشى حتى صعد المروة، وطاف بينهما سبعة أشواط» ش: هذا أخرجه البخاري ومسلم عن عمرو بن دينار عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة فطاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين وطاف بين الصفا والمروة سبعاً» م: (وهذا شوط واحد) ش: أي وهذا الذي ذكرناه شوط واحد.
م: (فيطوف) ش: ورجوعه منها إلى الصفا شوط آخر، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -(4/205)
سبعة أشواط يبدأ بالصفا ويختم بالمروة ويسعى في بطن الوادي في كل شوط لما روينا، وإنما يبدأ بالصفا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومالك وأحمد وأكثر أهل العلم، وذكر الطحاوي أنه يطوف سبعة أشواط من الصفا إلى الصفا ولا يعتبر الرجوع من المروة إلى الصفا، وبه قال ابن جرير الطبري والصيرفي من أصحاب الشافعي، فقال أبو بكر الرازي: هذا غلط لأنه يصير أربعة عشر شوطاً، وإنما عليه م: (سبعة أشواط) ش: لأن رواة نسك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتفقوا على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف بينهما سبعة أشواط لا أربعة عشر، وهي ما قال م: (يبدأ بالصفا) ش: في كتاب بدأ بالصفا.
م: (ويختم بالمروة) ش: أي يبدأ الشوط الأول من الصفا ويختم الشوط السابع بالمروة، ولو كان الأمر كما قاله الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقال: يبتدئ لكل شوط بالصفا، كذا في " المبسوط " وفي " المجتبى " إنما قال: يبدأ بالصفا ويختم بالمروة حتى لا يظن أن كل شوط يبدأ بالصفا ويختم به شوط واحد، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقد ضعفوا قول الطحاوي في عامة كتب أصحابنا بعضهم قالوا: ذلك غلط وبعضهم: ليس بصحيح، وعندي لما قال الطحاوي وجه لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما رقى على الصفا قال: " نبدأ بما بدأ الله به "، وأراد به قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] [البقرة: الآية 158] ، فيفهم منه أن يبدأ بالصفا في كل شوط، لأن الحديث مطلق فيه يبدأ به كل شوط فإن كان البداءة في كل شوط من الصفا يكون المضي من الصفا إلى المروة، والعود من المروة إلى الصفا شوطاً واحداً لا محالة.
إنا نقول: إن أهل الحديث أوردوه في عامة كتبهم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعى بين الصفا والمروة سبعاً ولم يذكروا أن البداءة من الصفا شوط والعود من المروة شوط، ويحتمل أن طواف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما قال الطحاوي يحتمل أن يكون على ما قاله، أو نقول في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبدأ محذوف والمفعول إذا كان محذوفاً يقدر أعم الأشياء لا أخصها، لعدم الألوية، فيكون حينئذ تقدير الكلام نبدأ كل شوط من الأشواط بما بدأ الله به، أي بالصفا، فيكون الأمر على ما قاله الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - انتهى.
قلت: فيه نظر، لأنا لا نسلم أن المفعول فيه محذوف، لأن قوله: بما بدأ الله به، هو المفعول في الحقيقة، لأن كلمة (ما) مصدرية، فالتقدير يبدأ بابتداء الله تعالى، أو موصولة، فالتقدير نبدأ بالذي بدأ الله به وهو الصفا، فمن أين يأتي ما ذكره.
م: (ويسعى في بطن الوادي في كل شوط) ش: المراد من السعي الهرولة م: (لما روينا) ش: أشار به إلى قوله أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل من الصفا وجعل يمشي ويسعى في بطن الوادي م: (وإنما يبدأ(4/206)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه: «ابدأ بما بدأ الله تعالى به» ، ثم السعي بين الصفا والمروة واجب، وليس بركن. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه ركن لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالصفا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي في البداية بالصفا م: «ابدأ بما بدأ الله تعالى به» ش: هذا الحديث روي بصيغة الأمر، كما قاله المصنف، وهذه رواية النسائي والدارقطني ثم البيهقي في تتمتهم، وأما في رواية مسلم من حديث جابر الطويل بصيغة الخبر وهي ابتدأ بما بدأ الله به، وبنون الجمع في رواية أبي داود والترمذي وابن ماجه ومالك في الموطأ. وقد عزا بعض الفقهاء لفظ الأمر لمسلم وهو وهم منه، فسعى بل تجب النية ها هنا، ولو بدأ بالمروة لا يعتد به بالإجماع، وشذ عطاء بن أبي رباح فقال: إن بدأ فيه بالمروة أجزأ.
م: (ثم السعي بين الصفا والمروة واجب، وليس بركن) ش: وهو قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وعبد الله بن الزبير وأنس وعروة بن الزبير والحسن البصري، وعطاء ومحمد بن سيرين ومجاهد، ونقل المروزي والميموني عن ابن حنبل أنه مستحب، واختار القاضي من الحنابلة أنه واجب فيجبر بالدم كقولنا.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه ركن) ش: وبه قال مالك وأحمد في رواية. ويروى عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وإذا كان ركنا لا يصح بدونه م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا» ش: هذا الحديث رواه الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخبرنا عبد الله بن المؤمل العابدي عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة «عن حبيبة بنت أبي تجرأ إحدى نساء بني عبد الدار قالت: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي وهو يقول: " اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي» .
وقال ابن القطان: عبد الله بن المؤمل سيء الحفظ، وفي حديثه اضطراب كبير، وعن يحيى بن معين والنسائي والدارقطني: هو ضعيف، وقال ابن حبان: هو لا يجوز الاحتجاج بحديثه إذا انفرد، وذكره ابن الجوزي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الضعفاء والمتروكين ".(4/207)
ولنا قَوْله تَعَالَى: {فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما} [البقرة: 158] (158 البقرة) ، ومثله أن يستعمل للإباحة فينفي الركنية والإيجاب إلا أنا عدلنا عنه في الإيجاب ولأن الركنية لا تثبت إلا بدليل مقطوع به ولم يوجد، ثم معنى ما روي كتب استحبابا كما في قَوْله تَعَالَى {كتب عليكم إذا حضر أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180] [180 البقرة: الآية] ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: ولهذا رواه الحاكم في " مستدركه " وسكت عنه، وقال السروجي: وقد رواه البيهقي عن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ولم يتعرض له بضعف مع علمه بضعفه، [.....] نظراً إلى عصبيته وعدم إنصافه، وهذا لا يليق بالإنسان في أمر الدين، وتراهم يقولون: الجرح مقدم على التعديل مع وجود التعديل، فكيف مع عدمه.
قوله: حبيبة بنت تجرأ بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الجيم وفتح الراء والهمزة. وقال الذهبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حبيبة بنت تجرأ العبدرية، ويقال حبيبة بالتشديد روت عنها صفية بنت شيبة.
م: (ولنا قَوْله تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] (البقرة: الآية 158) ش: أي بالصفا والمروة وجه الاستدلال به هو قوله م: (ومثله) ش: أي مثل هذا الكلام وهو لفظ لا جناح م: (يستعمل للإباحة) ش: كما في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] [البقرة: الآية 215] ، فإذا كان يستعمل للإباحة م: (فينفي الركنية والإيجاب إلا أنا عدلنا عنه) ش: أي عن ظاهر الآية م: (في الإيجاب) ش: أي في نفي الإيجاب، قال الكاكي: وفي بمعنى إلى لأن: حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، أي عدلنا عن النفي المطلق إلى الإيجاب الثابت بالخبر.
قلت: إن أراد بالخبر ما رواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلا يصح، لأن الخبر ضعيف منكر كما ذكرناه، ولم يذكر ما وجب العدول، واختلف فيه الشارحون، فمنهم من قال عملاً بما رواه لأنه خبر واحد يوجب الإيجاب، ومنهم من قال بأول الآية، وهو قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] [البقرة: الآية 158] ، فإن الشعائر جمع شعيرة، وهي العلامة وذلك يكون فرضاً، فأول الآية يدل على الفرضية وآخرها على الإباحة فعلمنا بهما، وقلنا بالوجوب لأنه ليس بفرض علماً وهو فرض عملاً فكان فيه نوع من كل واحد من الفرض والاستحباب وقيل بالإجماع.
قلت: الذي قال عملاً بما رواه لم يقف على حال الحديث، وكيف يعمل به وهو حديث ضعيف، حتى قال أحمد: أحاديث رواة هذا الحديث منكرة، وقال ابن حبان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لا يجوز الاحتجاج بخبره.
م: (ولأن الركنية لا تثبت إلا بدليل مقطوع به ولم يوجد) ش: يعني فيما رواه الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - م: (ثم معنى ما روي) ش: أي الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (كتب استحبابا كما في قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180] [البقرة: الآية 180] ش: قيل فيه نظر، لأن(4/208)
ثم يقيم بمكة حراما؛ لأنه محرم بالحج فلا يتحلل قبل الإتيان بأفعاله. ويطوف بالبيت كلما بدا له؛ لأنه يشبه الصلاة، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطواف بالبيت صلاة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوصية للوالدين والأقربين كانت فرضاً ثم نسخت فكان كتب دلالة على الفرضية، قالوا وإن ذلك ليس بمجمع عليه، بل قال بعضهم ليست بمنسوخة بل يجمع للوارث من الوصية والميراث، والمانع يكفيه ذلك.
م: (ثم يقيم بمكة حراما) ش: أي ثم بعد فراغه من الطواف والسعي يقيم بمكة محرماً لا يحلق ولا يقصر م: (لأنه محرم بالحج فلا يتحلل قبل الإتيان بأفعاله) ش: أي بأفعال الحج فيقيم محرماً أي يوم النحر، وهو وقت التحلل. قال الكاكي: قوله: ثم يقيم بمكة حراماً، احترازاً عن قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه قال: يحلق أو يقصر ويحل، لما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجة الوداع فمنا من أهل بحجة، ومنا من أهل بعمرة وكنت فيمن أهل بعمرة فدخلنا مكة صبيحة أربعة ذي الحجة، فلما طفنا وسعينا أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أهل بحجة بالإحلال فأحللنا وواقعنا النساء» .
والجواب عنه أنه منسوخ لأنه كان ذلك في الابتداء حين كان الناس يعدون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور فأمرهم أن يحلوا ويجعلوها عمرة تقريراً للحكم الشرعي ودرءاً للحكم الجاهلي في نسخ ذلك.
وإذا فرغ من السعي وهو مفرد بعمرة حلق أو قصر وكذا المتمتع الذي لم يسق الهدي، وبه قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعند مالك والشافعي هما سواء، ويمكث بمكة حلالاً إلى يوم التروية، ثم يحرم بالحج يوم التروية من ميقات أهل مكة وإن قدم إحرامه كان أفضل، وإن كان مفرداً بالحج أو متمتعاً ساق الهدي لا يتحلل بل يبقى محرماً ويؤدي أفعاله إلى أوان التحلل.
م: (ويطوف بالبيت كلما بدا له) ش: أي كلما ظهر له أن يطوف م: (لأنه) ش: أي لأن الطواف م: (يشبه الصلاة) ش: يعني في الثواب دون الحكم، ألا ترى أن الإنحراف والشر فيه لا يفسده. م: (قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطواف بالبيت صلاة» ش: هذا الحديث رواه ابن حبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " صحيحه " من حديث طاوس عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله تعالى قد أحل فيه المنطق فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير» ، وأخرجه الحاكم أيضاً وسكت عنه.(4/209)
والصلاة خير موضوع، فكذا الطواف إلا أنه لا يسعى عقيب هذه الأطوفة في هذه المدة؛ لأن السعي لا يجب فيه إلا مرة، والتنفل بالسعي غير مشروع، ويصلي لكل أسبوع ركعتين، وهي ركعتا الطواف على ما بينا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومعنى قوله صلاة، يعني يشبه الصلاة لأنه ليس بصلاة حقيقة، ولهذا يجوز الكلام فيه، وقد رواه الترمذي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بلفظ الطواف حول البيت مثل الصلاة، ثم قال: وقد روي هذا موقوفاً على ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
م: (والصلاة خير موضوع، فكذلك الطواف) ش: خير موضوع، وفي " شرح الطحاوي " - رَحِمَهُ اللَّهُ - الطواف للغرباء أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل، وهو مذهب عامة أهل العلم، لأن الغرباء يفوتهم الطواف، وأهل مكة لا يفوتهم الأمران، وعند الاجتماع الصلاة أفضل بعينها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [البقرة: 125] [الحج: الآية 125] ، قيل: الغرباء م: (إلا أنه لا يسعى عقيب هذه الأطوفة في هذه المدة) ش: هذا الاستثناء من قوله: ويطوف بالبيت كلما بدا له يعني لا يسعى بين الصفا والمروة عقيب هذه الأطوفة التي يأتي بها في مدة إقامته بمكة إلى أوان التحلل.
م: (لأن السعي لا يجب فيه) ش: أي في المفرد بالحج الموصوف من عند قوله - وإن كان مفرداً بالحج - إلى هنا م: (إلا مرة واحدة، والتنفل بالسعي غير مشروع) ش: لعدم ورود النص به.
فإن قلت: السعي تبع الطواف، ولهذا لا يجوز قبله والتنفل بمتبوعه مشروع فيجب أن يكون التنفل بالسعي أيضاً مشروعاً تبعاً للطواف.
قلت: السعي إنما ثبت كونه عبادة بالنص، بخلاف القياس فيقتصر على النص، والنص ورد بالإتيان مرة فلا يشرع ثانياً بالقياس لأنه لا محل له.
م: (ويصلي لكل أسبوع) ش: أي لكل سبعة أشواط وهو طواف واحد م: (ركعتين) ش: وفيه خلاف أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإن عنده يجوز أن يجمع بين أسبوعين فصاعداً قبل أن يصلي ركعتي الطواف، وبه قال أحمد، ولكن عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينصرف عن وتر ثلاثة أو خمسة أو سبعة وعند أبي حنيفة ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يكره الجمع بين الأسبوعين وبه قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الأفضل الفصل بين كل أسبوعين بركعتين.
م: (وهي ركعتا الطواف على ما بينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يصلي الطائف لكل أسبوع ركعتين» ، ذكره عند قوله: ثم يأتي المقام فيصلي ركعتين.(4/210)
قال: فإذا كان قبل يوم التروية بيوم خطب الإمام خطبة يعلم فيها الناس الخروج إلى منى والصلاة بعرفات والوقوف، والإفاضة، والحاصل أن في الحج ثلاث خطب، أولها ما ذكرنا، والثانية بعرفات يوم عرفة، والثالثة بمنى في اليوم الحادي عشر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[خطب الإمام في الحج] [النفر إلى منى والمبيت بها ليلة التاسع]
م: (قال: فإذا كان قبل يوم التروية بيوم) ش: وهو اليوم السابع من ذي الحجة، لأن يوم التروية الثامن منه، كذا في " المغرب " وإنما سمي يوم التروية بذلك، لأن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى ليلة الثامن كأن قائلاً يقول له: إن الله تعالى يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح رؤي، أي افتكر في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله هذا، أم من الشيطان؟ فمن ذلك سمي يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله تعالى، فمن ثم سمي يوم عرفة ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره، فسمي اليوم العاشر يوم النحر.
وقال أبو بكر الأنباري: في كتاب الزهد إنما سميت التروية لأن الناس يروون من الماء العطش في هذا اليوم، ويحملون الماء بالروايا إلى عرفة ومنى، وإنما سمي يوم عرفة لأن جبريل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المناسك كلها يوم عرفة، فقال: أعرفت في أي موضع تطوف؟ وفي أي موضع تسعى؟ وفي أي موضع تقف؟ وفي أي موضع تنحر وترمي؟ فقال: عرفت فسمي يوم عرفة، وسمي يوم الأضحية، لأن الناس يضحون فيه بقربانهم، وقيل: إن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما هبط بالأرض وقع بالهند، وامرأته حواء - عَلَيْهَا السَّلَامُ - وقعت بالسند، فلم يلتقيا إلا عشية عرفة، فسمي يوم عرفة، لمعرفة كل منهما الآخر.
م: (خطب الإمام خطبة) ش: أي خطبة واحدة من غير جلسة بين الخطبتين بعد صلاة الظهر م: (يعلم الناس فيها الخروج إلى منى) ش: وهي قرية فيها ثلاث سكك بينها وبين مكة فرسخ، وهي في الحرم، لأنها منحر، والمنحر يكون في الحرم، والغالب على منى التذكير والصرف، وقد تكتب بالألف، وسميت بمنى لأن الحيوانات تساق إلى مناياها، وهو جمع منية وهي الموت وقيل لما تمنى من الدماء أي تراق، وقيل: إن جبرائيل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أراد أن يفارق آدم قال له: ماذا تتمنى فقال آدم: الجنة فسمي ذلك الموضع منى.
م: (والصلاة بعرفات) ش: أي يعلم الصلاة بجبل عرفات م: (والوقوف بها والإضافة) ش:.
م: (والحاصل أن في الحج ثلاث خطب أولها ما ذكرناه) ش: وهو الذي ذكر أن الإمام يخطب بمكة يوم التروية م: (والثانية) ش: أي الخطبة الثانية م: (بعرفات يوم عرفة) ش: قبل صلاة الظهر، وهي خطبتان يجلس بينهما جلسة خفيفة، قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يبتدئ الخطبة إذا فرغ المؤذنون من الأذان بين يديه كخطبة الجمعة، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يخطب الإمام قبل الأذان، فإذا مضى صدر من خطبته أذن المؤذنون.
م: (والثالثة) ش: أي الخطبة الثالثة م: (بمنى في اليوم الحادي عشر) ش: يعلم الناس فيها النفر(4/211)
فيفصل بين كل خطبتين بيوم. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخطب في ثلاثة أيام متوالية، أولها يوم التروية، لأنها أيام الموسم ومجتمع الحاج. ولنا أن المقصود منها التعليم ويوم التروية، ويوم النحر يوم اشتغال، فكان ما ذكرناه أنفع، وفي القلوب أنجع، فإذا صلى الفجر يوم التروية بمكة خرج إلى منى فيقيم بها حتى يصلي الفجر من يوم عرفة؛ لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الفجر يوم التروية»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وطواف الصدر، ولا يحتاج يوم النحر إلى خطبة، لأنهم قد علموا ما يحتاجون إليه في خطبة يوم عرفة، وما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يوم النحر، فإنها لم تكن خطبة من خطب الحج، وإنما كانت من خطب الوداع علمهم الأحكام لما علم أنه لا يتحقق مثله بعدها من الاجتماع والكثرة.
م: (يفصل بين كل خطبتين بيوم) ش: أي يفصل الخطيب الذي هو الإمام بين كل خطبتين من الخطب الثلاثة بيوم، وذلك كما ذكره أن الأولى قبل يوم التروية بمكة، والثانية يوم عرفة وبينهما يوم، وهو يوم التروية الثامن من الشهر، والثالثة في يوم الحادي عشر، وبينهما يوم وهو يوم العيد العاشر من شهره.
م: (وقال زفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يخطب في ثلاثة أيام متواليات) ش: أي متتابعات م: (أولها يوم التروية، لأنها أيام الموسم) ش: أي لأن هذه الأيام الثلاثة أيام الموسم، وفي " المغرب " موسم الحاج سوقهم ومجتمعهم مشتق من الوسم وهو العلامة م: (ومجتمع الحاج) ش: أي موضع اجتماعهم م: (وذلك أن المقصود تعليمهم ما يقع في هذه الأيام) ش: فيجب أن تكون الخطب فيها.
م: (ويوم التروية، ويوم النحر يوم اشتغال) ش: جمع شغل، أما يوم التروية فيوم حاجتهم إلى الخروج إلى منى، وأما يوم النحر فلاشتغالهم بالحلق والرمي والطواف فلا تفيد الخطبة فيها، وبقولنا قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يخطب في اليوم السابع م: (فكان ما ذكرناه) ش: أي من التفريق بين كل خطبتين م: (أنفع) ش: مما قاله زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وفي القلوب أنجع) ش: من نجع الوعظ إذا أثر.
م: (فإذا صلى الفجر يوم التروية بمكة خرج إلى منى) ش: يعني بعد طلوع الشمس، وعند عمر ابن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلى منى قبل الزوال، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويستحب أن ينزل عند مسجد الخيف م: (فيقيم بها) ش: أي بمنى م: (حتى يصلي الفجر من يوم عرفة) ش: أي إلى أن يصلي الفجر الذي صبيحة يوم عرفة، وقال الرغيناني: يصلي الفجر بمنى بغلس، وفي مناسك الكرماني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يصلي في وقته، وفي " الوتري " يصلي في وقته المعروف، فإذا طلعت الشمس على ثبير وهو أعلى جبل بمنى راح إلى عرفة مع الناس وعليه السكينة والوقار، وفي خزانة الأكمل يذهب إلى عرفة بعد صلاة الغداة.
م: (لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الفجر يوم التروية بمكة، فلما طلعت الشمس راح إلى منى فصلى(4/212)
«بمكة فلما طلعت الشمس راح إلى منى فصلى بمنى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر ثم راح إلى عرفات» ولو بات بمكة ليلة عرفات، وصلى بها الفجر ثم غدا إلى عرفات ومر بمنى أجزأه؛ لأنه لا يتعلق بمنى في هذا اليوم إقامة نسك، ولكنه أساء بتركه الاقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: ثم يتوجه إلى عرفات فيقيم بها لما روينا، وهذا بيان الأولوية، أما لو دفع قبله جاز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم راح إلى عرفات» ش: هذه قطعة من حديث جابر الذي رواه مسلم مطولاً، وروى الترمذي وابن ماجه عن إسماعيل بن مسلم عن عطاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم غدا إلى عرفات» وقال الترمذي: وإسماعيل بن مسلم تكلموا فيه.
م: (ولو بات بمكة ليلة عرفة ثم صلى بها الفجر ثم غدا) ش: بالغين المعجمة والدال المهملة من الغد، وهو الذهاب أول النهار م: (إلى عرفات ومر بمنى) ش: يعني جازها ولم ينزل بها م: (أجزأه) ش: ولا شيء عليه خلافاً للظاهرية م: (لأنه لا يتعلق بمنى في هذا اليوم إقامة نسك ولكنه أساء بتركه الاقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: إساءة الأدب في تركه اتباعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي ترك العمل بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو أيضاً قوله: «خذوا عني مناسككم» .
[الدفع من منى إلى عرفة]
[الجمع بين الصلاتين بعرفة وخطبة الإمام بها]
م: (ثم يتوجه إلى عرفات) ش: هذا عطف على قوله فيقيم بها حتى يصلي الفجر من يوم عرفة م: (فيقيم بها) ش: أي بعرفات م: (لما روينا) ش: إشارة إلى قوله لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الفجر إلى آخره م: (وهذا) ش: أي الذهاب والتوجه إلى عرفات بعد طلوع الشمس م: (بيان الأولوية) ش: يعني أولى من الذهاب قبل طلوع الشمس، وذكر هذا القيد، أعني طلوع الشمس [....] . وقال تاج الشريعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ينبغي هذا القيد هنا، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كان هذا القيد تركه سهواً من الكاتب، وقال الأكمل: قال بعض الشارحين ترك هذا القيد من الكاتب.
قلت: أراد به الأترازي، فإنه هكذا ذكره كما ذكرنا. م: (أما لو دفع قبله جاز) ش: أي قبل طلوع الشمس إلى عرفات، وقال الأكمل: هذا إضمار قبل الذكر، وكان من حق الكلام أن يقول ثم يتوجه إلى عرفات بعد طلوع الشمس حتى يصبح بناء على قوله - أما لو دفع قبله عليه - وقال الكاكي مثله، ثم قال ولكن اتبع لفظ الإيضاح، فإنه ذكر هنا الضمير بعد طلوع الشمس، حيث قال - وإذا طلعت الشمس إلى أن قال: وإن دفع قبله جاز - انتهى.
قلت: هذا الجواب بطريق الاعتذار لا يحسن على ما لا يخفى، ولكن يمكن أن يقال الإضمار قبل الذكر يقع كثيراً من الكلام إذا دلت عليه قرينة لفظية أو حالية، وها هنا قد مضى(4/213)
لأنه لا يتعلق بهذا المقام حكم، قال في الأصل: وينزل بها مع الناس لأن الانتباذ تجبر، والحال حال تضرع، والإجابة في الجمع أرجى، وقيل: مراده أن لا ينزل على الطريق كي لا يضيق على المارة. قال: وإذا زالت الشمس يصلي الإمام بالناس الظهر والعصر فيبتدئ بالخطبة، فيخطب خطبة يعلم فيها الناس الوقوف بعرفة والمزدلفة ورمي الجمار والنحر والحلق وطواف الزيارة، ويخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة كما في الجمعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله فيما قبل هذا تعليل، فلما طلعت الشمس راح إلى منى، فيكون الضمير في قوله - قبله - يرجع إلى الطلوع الذي يدل عليه لفظ طلعت، كما في قوله سبحانه وتعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] [المائدة: الآية 8] ، فالضمير يرجع إلى العدل الذي يدل عليه اعدلوا.
م: (لأنه لا يتعلق بهذا المقام حكم، قال في الأصل) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المبسوط " م: (وينزل بها) ش: أي في عرفات م: (مع الناس لأن الانتباذ) ش: أي الانفراد والعزلة م: (تجبر) ش: لأنه لا يرى أحد مجاورة من تجبر وتكبر م: (والحال) ش: أي حال الحاج في هذا الوقت م: (حال تضرع) ش: وسكينة م: (والإجابة في الجمع أرجى) ش: لأنه قد يكون فيه من لا ترد دعوته.
م: (وقيل مراده) ش: أي مراد محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - من قوله - وينزل مع الناس - م: (أي لا ينزل على الطريق كيلا يضيق على المارة) ش: بتشديد الراء، أي الناس الذين يمرون في الطريق، وفي " فتاوى الظهيرية " وينزل بعرفات في أي موضع شاء، إلا أنه لا ينزل على الطريق، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله والنزول بقرب جبل الرحمة أفضل. وقال مالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ينزل ببطن نمرة، والنزول فيه أفضل، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول، قالوا نزل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه، قلنا نمرة بعرنة، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارتفعوا عن بطن عرنة» ، ونزوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه لم يكن عن قصد.
م: (وإذا زالت الشمس) ش: أي شمس يوم عرفة، وفي " الإيضاح " وإذا زالت الشمس اغتسل إن أحب، وهو سنة وليس بواجب، كما في الجمعة والعيدين م: (ويصلي الإمام بالناس الظهر والعصر فيبتدئ بالخطبة) ش: أي قبل الصلاة م: (فيخطب خطبة يعلم فيها الناس الوقوف بعرفة، والمزدلفة) ش: هي المشعر الحرام، وقال في " المطالع " من الازدلاف، ولأنها منزلة من الله وقربة وقال الهروي - رَحِمَهُ اللَّهُ - سميت بها لاجتماع الناس في زلفى الليل، وقيل لازدلاف حواء وآدم فيها، أي لاجتماعهما ويسمى الجمع أيضاً لاجتماع الناس فيها. ومزدلفة فوق منى من الجانب الشرقي، وعرفات فوق مزدلفة من الجانب الشرقي أيضاً بميل إلى الجنوب، ومن مزدلفة إلى مسجد عرفات ثلاثة أميال وإلى منى ثلاثة أميال.
م: (ورمي الجمار والنحر والحلق وطواف الزيارة، ويخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة كما في(4/214)
هكذا فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يخطب بعد الصلاة، لأنها خطبة وعظ وتذكير، فأشبه خطبة العيد ولنا ما روينا، ولأن المقصود منها تعليم المناسك والجمع منها، وفي ظاهر المذهب إذا صعد الإمام المنبر فجلس أذن المؤذنون كما في الجمعة. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يؤذن قبل خروج الإمام، وعنه أنه يؤذن بعد الخطبة، والصحيح ما ذكرنا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما خرج واستوى على ناقته أذن المؤذنون بين يديه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجمعة، هكذا فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: يعني في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب بعرفة قبل صلاة الظهر» وصفة الخطبة كما ذكره الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهي أن الإمام يحمد الله تعالى ويثني عليه ويهلل ويكبر ويعظ الناس ويأمرهم بما يجب عليهم، وينهاهم عما نهاهم الله تعالى عنه ويخبر الناس معالم حجهم وتلبيتهم، ثم يدعو الله تعالى بحاجته ثم ينزل، وفي " الذخيرة " ويبدأ بالتكبير كخطبة العيد.
م: (وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يخطب بعد الصلاة، لأنها خطبة وعظ وتذكير، فأشبه خطبة العيد. ولنا ما رويناه) ش: أشار به إلى قوله - هكذا فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (ولأن المقصود منها) ش: أي من الخطبة م: (تعليم المناسك) ش: من الوقوف بعرفة والمزدلفة ورمي الجمار. م: (والجمع منها) ش: أي الجمع بين الصلاتين من المناسك م: (وفي ظاهر المذهب: إذا صعد الإمام المنبر فجلس أذن المؤذنون كما في الجمعة) ش: إنما قال كما في الجمعة، لأن رواية جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تقتضي الأذان بعد الخطبة، ورواية أخرى تقتضي قبلها، فتعارضت، يصير إلى القياس على الجمعة.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يؤذن قبل خروج الإمام) ش: لأن هذا الأذان لأداء الظهر كما في سائر الأيام م: (وعنه) ش: أي وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه يؤذن بعد الخطبة) ش: وبه قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وفي " البدائع " عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثلاث روايات، وظاهر الرواية كقولهما وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا فرغ من الخطبة الأولى يجلس جلسة خفيفة ثم يقوم ويفتتح الخطبة الثانية، والمؤذنون يأخذون في الأذان معه، ويخفف بحيث يكون فراغه من فراغ المؤذنين من الأذان.
م: (والصحيح ما ذكرنا) ش: أي الصحيح من المذهب ما ذكرنا وهو ظاهر المذهب. قال الأكمل: وقال بعض الشارحين: ورواية أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يؤذن بعد الخطبة أصح عندي وإن كان على خلاف ظاهر الرواية لما صح من حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن بلالاً أذن بعد الخطبة ثم أقام. قلت بعض الشارحين هو الأترازي، فإنه قال هذه المقالة.
م: (ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما خرج واستوى على ناقته أذن المؤذنون بين يديه) ش: هذا الحديث غريب جداً، والذي صح من الحديث ما رواه أبو داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " سننه " «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فركب حتى أتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم أذن(4/215)
ويقيم المؤذن بعد الفراغ من الخطبة؛ لأنه أوان الشروع في الصلاة فأشبه الجمعة. قال: ويصلي بهم الظهر، والعصر في وقت الظهر بأذان وإقامتين، وقد ورد النقل المستفيض باتفاق الرواة بالجمع بين الصلاتين، وفيما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاهما بأذان وإقامتين، ثم بيانه أنه يؤذن للظهر، ويقيم للظهر، ثم يقيم للعصر؛ لأن العصر يؤدى قبل وقته المعهود، فيفرد بالإقامة إعلاما للناس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم أقام، فصلى» الحديث رواه عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (ويقيم المؤذن بعد الفراغ) ش: أي بعد فراغ الإمام م: (من الخطبة؛ لأنه أوان الشروع في الصلاة فأشبه الجمعة. قال: ويصلي بهم الظهر والعصر في وقت الظهر بأذان وإقامتين) ش: ويخفي الإمام القراءة فيهما، لأنهما ظهر وعصر، كما في سائر الأيام. وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن شاء صلى بإقامة من غير أذن، وبقولنا قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو ثور والثوري وأبو عبيد والطبري وابن الماجشون، وهو اختيار الأثرم وأبو حامد من الحنابلة. وقال ابن قدامة وهو أول حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصحيح أنه صلى صلاتين بأذان وإقامتين، وهو حجة على مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في اعتبار الأذانين، وفي هذه المسألة ستة أقوال.
الأول: مذهبنا الذي ذكرنا الذي بأذان وإقامتين، وبه قال عطاء والظاهرية والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في قول وأحمد، واختاره الطحاوي، وبه قال زفر وأبو ثور.
والثالث: بأذانين وإقامتين، روي ذلك عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومحمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين وهل بنية وهو رواية ابن مسعود.
والرابع: بإقامتين فقط، وروي ذلك عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وسالم بن عبد الله وهو أحد قولي الثوري وأحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
والخامس: بإقامة واحدة من غير أذان، وبه قال الثوري وأبو بكر بن داود، ورواية مقطع عن أحمد والسادس: بغير أذان ولا إقامة، روي ذلك عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
م: (وقد ورد النقل المستفيض) ش: أي الشائع م: (باتفاق الرواة) ش: أي رواة الحديث م: (بالجمع بين الصلاتين) ش: أي الظهر والعصر م: (وفيما روى جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاهما بأذان وإقامتين) ش: كذا في " صحيح مسلم " كما ذكر الآن م: (ثم بيانه أنه) ش: أي أن المؤذن م: (يؤذن للظهر) ش: أي لأجل صلاة الظهر ثم م: (يقيم للظهر، ثم يقيم للعصر؛ لأن العصر يؤدى قبل وقته المعهود) ش: لأنه يصلى في وقت الظهر م: (فيفرد بالإقامة إعلاما للناس) ش: أي لأجل إعلام الناس من أنه يصلي العصر.(4/216)
ولا يتطوع بين الصلاتين تحصيلا لمقصود الوقوف، ولهذا قدم العصر على وقته، فلو أنه فعل مكروها، وأعاد الأذان للعصر في ظاهر الرواية، خلافا لما روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الاشتغال بالتطوع، أو بعمل آخر يقطع فور الأذان الأول، فيعيده للعصر، فإن صلى بغير خطبة أجزأه؛ لأن هذه الخطبة ليست بفريضة.
قال: ومن صلى الظهر في رحله وحده، صلى العصر في وقته، عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: يجمع بينهما المنفرد؛ لأن جواز الجمع للحاجة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا يتطوع) ش: أي الإمام، وكذا القوم لا يتطوعون م: (بين الصلاتين) ش: أي الظهر والعصر م: (تحصيلا لمقصود الوقوف) ش: أي بعرفة م: (ولهذا) ش: أي ولأجل تحصيل المقصود بالوقوف م: (قدم العصر على وقته) ش: وقال النووي يصلي السنن الراتبة، فيصلي أولاً سنة الظهر التي قبلها ثم يصلي الظهر ثم العصر ثم سنة الظهر التي بعدها، ثم سنة العصر، ولا يتنفلون بعد الصلاتين، ولم يسبح بهما ولا بعد واحدة منها، متفق عليه ولا فرق بين جمع عرفة.
م: (فلو أنه فعل) ش: أي فلو أن الإمام تطوع ذلك اليوم م: (فعل مكروهاً، وأعاد الأذان للعصر في ظاهر الرواية) ش: وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (خلافا لما روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: رواه ابن سماعة عنه أنه لا يعيد الأذان وتجزئه الإقامة، لأن الوقت قد جمعهما فيكتفي بأذان كما في العشاء مع الوتر.
م: (لأن الاشتغال) ش: هذا تعليل وجه ظاهر الرواية، لأن اشتغال الإمام م: (بالتطوع، أو بعمل آخر يقطع فور الأذان الأول) ش: أي اتصال الأذان، يقال فلان فعل ذلك من فوره إذا أوصل الفعل بالآخر لا لبث بينهما م: (فيعيده للعصر) ش: أي لأجل صلاة العصر م: (فإن صلى بغير خطبة أجزأه؛ لأن هذه الخطبة ليست بفريضة) ش: إذ هي ليست تخلف عن ركن بخلاف خطبة الجمعة، فإنها خلف عن الركعتين.
م: (قال: ومن صلى الظهر) ش: وفي أكثر النسخ قال: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومن صلى الظهر م: (في رحله) ش: أي في منزله حال كونه م: (وحده صلى العصر في وقته) ش: يعني لا يجمع العصر مع الظهر م: (وهذا) ش: أي هذا المذكور م: (قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال إبراهيم النخعي والثوري.
م: (وقالا: يجمع بينهما المنفرد) ش: كما يجمع بينهما الإمام، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وهو مروي عن ابن عمر وعائشة - رحمهما الله -، وإليه ذهب عطاء وإسحاق وأبو ثور، وقال ابن حزم لو فاتته مع الإمام يفرض عليه أن يجمع بينهما واحد م: (لأن جواز الجمع للحاجة إلى امتداد الوقوف والمنفرد محتاج إليه) ش: لأن حال الوقوف حال تضرع واشتغال بالدعاء،(4/217)
إلى امتداد الوقوف، والمنفرد محتاج إليه؛ ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المحافظة على الوقت فرض بالنصوص فلا يجوز تركه إلا فيما ورد الشرع به، وهو الجمع بالجماعة مع الإمام، والتقديم لصيانة الجماعة؛ لأنه يعسر عليهم الاجتماع للعصر بعد ما تفرقوا في الموقف لا لما ذكراه إذ لا منافاة، ثم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الإمام شرط في الصلاتين جميعا. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في العصر خاصة؛ لأنه هو المغير عن وقته، وعلى هذا الخلاف الإحرام بالحج.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيحتاج إلى الامتداد مع ذلك المنفرد أيضاً محتاج إليه.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المحافظة على الوقت) ش: أي على وقت الصلاة م: (فرض بالنصوص) ش: قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] [البقرة: الآية 238] وقال {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] [النساء: الآية 103] أي فرضا موقتاً م: (فلا يجوز تركه) ش: أي ترك الفرض الموقت م: (إلا فيما ورد الشرع به) ش: أي بالترك م: (وهو الجمع بالجماعة مع الإمام) ش: أي ما ورد الشرع به هو الجماعة مع الإمام م: (والتقديم لصيانة الجماعة) ش: هذا جواب عن قولهما، تقريره لا نسلم أن جواز الجمع بالتقديم لامتداد الوقوف، بل لصيانة الجماعة.
م: (لأنه يعسر عليهم الاجتماع للعصر بعد ما تفرقوا في الموقف) ش: لأن الموقف موضع واسع ذو طول وعرض، ولا يمكنهم إقامة الجماعة إلا بالاجتماع، وأنه متعذر في العادة فيجعل العصر لئلا تفوتهم فضيلة الصلاة بالجماعة لحق الوقوف، لأن الجماعة تفوت لا إلى خلف، وحق الوقوف ينادي قبل وبعد م: (لا لما ذكره) ش: أي التقديم لأجل الصيانة لا لأجل ما ذكر أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -، وهو الحاجة إلى امتداد الوقوف م: (إذ لا منافاة) ش: أي لأنه لا منافاة بين الصلاة والوقوف، لأن الوقوف لا ينقطع بالاشتغال بالصلاة، كما لا ينقطع بالأكل والشرب والتوضي وغير ذلك.
م: (ثم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الإمام شرط في الصلاتين جميعا. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في العصر خاصة) ش: أي الإمام شرط في العصر خاصة، ولم يذكر قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - لأن عندهما الإمام ليس بشرط أصلاً م: (لأنه هو المغير عن وقته) ش: أي لأن العصر هو الذي غير عن وقته حيث قدم قبل وقته، بخلاف الظهر فإنه في وقته، فجاز له أن يصلي العصر مع الإمام، وأن يصلي الظهر في منزله.
م: (وعلى هذا الخلاف الإحرام بالحج) ش: أي الخلاف الذي قلنا في الإمام أنه شرط في الصلاتين عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وشرط عند زفر في العصر وحده الإحرام بالحج، قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الإحرام بالحج شرط فيهما جميعا حتى إذا صلى الظهر مع الإمام وهو حلال من أهل مكة ثم أحرم للحج فإنه يصلي العصر لوقته، ولا يجوز كقول زفر، كذا في(4/218)
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن التقديم ورد على خلاف القياس عرفت شرعيته فيما إذا كان العصر مرتبة على ظهر مؤدى بالجماعة مع الإمام في حالة الإحرام بالحج فيقتصر عليه، ثم لا بد من الإحرام بالحج قبل الزوال في رواية تقديما للإحرام على وقت الجمع، وفي أخرى يكتفي بالتقديم على الصلاة؛ لأن المقصود هو الصلاة. قال: ثم يتوجه إلى الموقف فيقف بقرب الجبل، والقوم معه عقيب انصرافهم من الصلاة؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - راح إلى الموقف عقيب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" شرح الطحاوي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولأبي حنيفة أن التقديم) ش: أي تقديم العصر قبل وقته م: (ورد على خلاف القياس عرفت شرعيته) ش: أي عرفت مشروعيته، وفي بعض النسخ عرفنا شرعيته م: (فيما إذا كان العصر مرتبة على ظهر مؤدى بالجماعة مع الإمام في حالة الإحرام بالحج فيقتصر عليه) ش: أي على مورد النص، وإنما قيد الإحرام بالحج لما روى محمد عن أبي حنيفة - رحمهما الله - أنه كان حين صلى الظهر مع الإمام محرماً بالعمرة ثم أحرم بالحج قبل العصر لم يجزئه، لأن إحرام العمرة لا تأثير له في جواز الجمع، فوجوده وعدمه سواء.
م: (ثم لا بد من الإحرام بالحج قبل الزوال) ش: أي لا بد في جواز الجمع بين الصلاتين بأن يكون محرماً من قبل الزوال، لأن الإحرام شرط جواز الجمع، وشرط الشيء يسبقه، ولهذا لا يجوز الجمع قبل الزوال، م: (في رواية تقديما) ش: أي لأجل التقديم م: (للإحرام على وقت الجمع) ش: تحقيق وجه هذه الرواية أن بالزوال يدخل وقت الجمع، ويختص بهذا الجمع المحرم بالحج، فيشترط تقديم الإحرام على الحج قبل الزوال.
م: (وفي أخرى) ش: أي وفي رواية أخرى م: (يكتفي بالتقديم) ش: أي بتقديم الإحرام م: (على الصلاة لأن المقصود هو الصلاة) ش: أي لأن المصنف اشترط الإحرام هو لأجل الصلاة لا لأجل الوقت، حتى إن الحلال لو صلى الظهر مع الإمام ثم أحرم فصلى العصر أو المحرم بالعمرة صلى مع الإمام ثم أحرم بالحج فصلى العصر معه لم تجز العصر إلا في وقتها.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ثم يتوجه) ش: أي الإمام م: (إلى الموقف) ش: بكسر القاف م: (فيقف بقرب الجبل) ش: أي الجبل الذي يسمى جبل الرحمة، وهو الجبل الذي بوسط عرفات، يقال له ألال على وزن هلال، والجوهري فتح همزته. وقال النووي المعروف كسرها، وذهب ابن جرير والماوردي إلى أنه يستحب الوقوف على جبل الرحمة الذي هو بوسط عرفات، ويقال له جبل الدعاء، قيل هو موقف الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -. وقال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا أصل له إذ لم يرد به حديث صحيح ولا ضعيف، والصواب الاعتناء بموقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (والقوم معه) ش: أي يتوجه القوم مع الإمام م: (عقيب انصرافهم من الصلاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راح إلى الموقف عقيب الصلاة) ش: كما في حديث جابر الذي رواه مسلم مطولاً.(4/219)
الصلاة، والجبل يسمى جبل الرحمة، والموقف للموقف الأعظم.
قال: وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عرفات كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن وادي محسر» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والجبل يسمى جبل الرحمة والموقف) ش: أي ويسمى الموقف م: (للموقف الأعظم) ش:
[حدود عرفة]
م: (قال: وعرفات كلها موقف) ش: أي موضع منها وقف جاز م: (إلا بطن عرنة) ش: بضم العين المهملة وفتح الراء والنون. قال في " ديوان الأدب " عرنة واد في عرفات، وعامة أهل العلم على هذا الاستثناء، وشذ مالك فجوز الوقوف ببطن عرنة ووجب معه ما قال عياض، روى ابن المنذر عنه أنه لم يثبته في حديث جابر الطويل كما لو أثبت الاستثناء في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو الذي ذكره المصنف بقوله - إلا بطن عرنة - م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «عرفات كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة، والمزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن وادي محسر» ش: هذا الحديث رواه جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وهم ابن عباس وجابر وجبير بن مطعم وابن عمرو وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فحديث ابن عباس أخرجه الطبراني في " معجمه " من حديث ابن أبي مليكة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مرفوعاً نحو ما ذكر في الكتاب.
وحديث جابر عند ابن ماجه ولفظه قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كل عرفة موقف وارتفعوا عن بطن عرنة، وكل المزدلفة موقف وارتفعوا عن بطن محسر، وكل منى منحر إلا ما وراء العقبة» . وفي سنده القاسم بن عبد الله بن عمر العمري متروك.
وحديث جبير بن مطعم عند أحمد ولفظه كل عرفات موقف وارتفعوا عن عرنة، وكل مزدلفة موقف وارتفعوا عن وادي محسر، وكل فجاج منى منحر، وكل أيام التشريق ذبح.
وحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عند ابن عدي في " الكامل " بلفظ حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وحديث أبي هريرة عنده أيضاً، وفي سنده يزيد بن عبد الملك النوفلي، وعن(4/220)
قال: وينبغي للإمام أن يقف بعرفات على راحلته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف على ناقته، وإن وقف على قدميه جاز، والأول أفضل لما بينا. وينبغي أن يقف مستقبل القبلة) لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وقف كذلك، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير المواقف ما استقبلت به القبلة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النسائي أنه متروك.
ومحسر بكسر السين المهملة المشددة، هو بين مكة وعرفات عن يسار الموقف، وقيل رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشيطان في بطن عرنة، فنهى عن الوقوف فيه، فكان هذا نظير النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة الثلاث. وقال بعضهم كانوا ينكرون وينزلون منزلين عن الناس في بطن عرنة وبطن محسر.
[آداب وسنن الوقوف بعرفة]
م: (قال: وينبغي للإمام أن يقف بعرفة على راحلته) ش: وهي من الإبل والبعير القوي على الأٍسفار والأحمال، الذكر والأنثى فيه سواء والهاء فيه للمبالغة وهي التي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة وتمام الخلق وحسن المنظر، فإذا كان في جماعة الإبل عرفت م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف على ناقته) ش: هذا من حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخيرات، وجعل خيل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة» .. الحديث.
يقال ناقة قصوءا إذا قطع طرف أذنها، ولا يقال جمل أقصى، إنما يقال جمل قصوى على خلاف القياس، وقال ابن دريد في " الجمهرة " القصواء اسم ناقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (وإن وقف) ش: أي الإمام م: (على قدميه جاز) ش: لحصول المقصود م: (والأول أفضل) ش: أي للوقوف على الراحلة أفضل م: (لما بينا) ش: أشار به إلى قوله - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف على ناقته - م: (وينبغي أن يقف مستقبل القبلة لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف كذلك) ش: هذا أيضاً في حديث جابر الطويل.
م: (وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير المواقف ما استقبلت» ش: هذا حديث غريب بهذا اللفظ، وأخرج الحاكم في " مستدركه " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن لكل شيء شرفاً، وإن أشرف المجالس ما استقبل» م: (به القبلة) ش: الحديث بطوله وسكت عنه الحاكم وفي سنده هشام بن زياد قال الذهبي في " مختصره " هو متروك، وروى أبو يعلى الموصلي في " مسنده " والطبراني في " معجمه الأوسط " من حديث حمزة بن أبي حمزة النصيبي(4/221)
ويدعو، ويعلم الناس المناسك، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو يوم عرفة مادا يديه، كالمستطعم المسكين» ويدعو بما شاء، وإن وردت الآثار ببعض الدعوات، وقد أوردنا تفاصيلها في كتابنا المترجم " بعدة الناسك في عدة من المناسك " بتوفيق الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أكرم المجالس ما استقبل به القبلة» ، ورواه ابن عدي في " الكامل "، وأعله بحمزة النصيبي، وقال إنه يقف الحديث. ورواه أبو نعيم الأصبهاني في " تاريخ أصبهان " في باب العين المهملة من حديث ابن الصلت عن ابن شهاب عن نافع مرفوعاً «خير المجالس ما استقبل به القبلة» .
م: (ويدعو) ش: وهو بالنصب عطف على قوله - أن يقف - أي يدعو الإمام م: (ويعلم الناس المناسك) ش: بنصب يعلم أيضاً عطفا على المنصوب الذي قبله م: (لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو يوم عرفة مادا يديه، كالمستطعم المسكين» ش: هذا الحديث رواه البيهقي في " سننه «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رأيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو بعرفة مادا يديه كالمستطعم المسكين» ورواه البزار في " مسنده " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن «الفضل رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واقفاً بعرفة ماداً يديه كالمستطعم، أو كلمة نحو المستطعم» وفي تقديم المستطعم الذي هو صفة فائدة، وفي المبالغة في تحقق المد، فإن الشبهة حينئذ إنما تحصل بحالة الاستطعام، وهي حال الاحتياج.
م: (ويدعو بما شاء) ش: من الأدعية بحسب ما تيسر له ويكثر من الدعاء في هذا اليوم إلى أن تغرب الشمس ويلبي ساعة فساعة في أثناء الدعاء ويدعو الله بحاجته الدينية والدنيوية فإنه مستجاب غير مردود ويجتهد أن تقطر من عينه قطرات من الدمع، فإنه دليل القبول والإجابة، ويدعو لأبويه ولأهله ولإخوانه ولأصحابه ومعارفه وجيرانه، ويلح في الدعاء مع قوة الرجاء للإجابة ولا يقتصر فيه. م: (وإن وردت الآثار ببعض الدعوات) ش: كلمة إن واصلة بما قبلها، ذلك لأن كل الناس ما يقدرون على حفظ الدعوات، وهذا الدعاء مبناه على اليسير، ومن الأدعية المأثورة في هذا اليوم ما رواه الترمذي في " جامعه " مسندا إلى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» م: (وقد أوردنا تفاصيلها) ش: أي تفاصيل الدعوات م: (في كتابنا المترجم) ش: أي المسمى م: (بعدة الناسك) ش: بضم العين، الناسك السلاح م: (في عدة) ش: بكسر العين من العدد م: (المناسك بتوفيق الله عز وجل) ش: بين العدة والعدة وبين الناسك والمناسك جناس.(4/222)
قال: وينبغي للناس أن يقفوا بقرب الإمام؛ لأنه يدعو، ويعلم، فيعوا، ويسمعوا، وينبغي أن يقف الحاج وراء الإمام ليكون مستقبل القبلة، وهذا بيان الأفضلية لأن عرفة كلها موقف على ما ذكرنا. قال: ويستحب أن يغتسل قبل الوقوف بعرفة ويجتهد في الدعاء. أما الاغتسال فهو سنة، وليس بواجب، ولو اكتفى بالوضوء جاز كما في الجمعة والعيدين، وعند الإحرام. وأما الاجتهاد فلأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجتهد في الدعاء في هذا الموقف لأمته فاستجيب له إلا في الدماء والمظالم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: وينبغي للناس أن يقفوا بقرب الإمام؛ لأنه يدعو، ويعلم، فيعوا) ش: أي فيحفظوا من الوعي، أصله يوعيوا، حذفت الواو لوقوعها بين الياء والكسرة، واستثقلت الضمة على الياء، فحذفت بعد سلب حركتها إلى ما قبلها م: (ويسمعوا) ش: حذفت النون منه ومن قوله - فيعوا - علامة للنصب، لأنهما معطوفان على قوله - أن يقفوا - الذي سقط منه النون لأجل الناصب.
م: (وينبغي أن يقف وراء الإمام ليكون مستقبل القبلة) ش: لأن وجه الإمام إلى القبلة، فشكل من يقف وراءه أن يكون مستقبل القبلة م: (وهذا) ش: أي وقوف الحاج وراء الإمام م: (بيان الأفضلية لأن عرفة كلها موقف) ش: ففي أي موضع من عرفة وقف جاز م: (على ما ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرفة كلها موقف إلى آخره.
م: (قال: ويستحب أن يغتسل قبل الوقوف ويجتهد في الدعاء. أما الاغتسال فإنه سنة، وليس بواجب) ش: إنما قال أولاً ويستحب أن يغتسل، ثم قال أما الاغتسال فهو سنة، لأنه في صدد الشرح لكلام القدوري، فإنه قال يستحب أن يغتسل فنقله ثم قال: إنه سنة وكل سنة مستحبة من غير عكس، وقيد بقوله - وليس بواجب - لدفع وهم من يتوهم أن الاغتسال سنة مؤكدة، وهي كالواجب في القوة، وما رأيت أحداً من الشراح نبه لمثل هذا الدعاء.
م: (ولو اكتفى بالوضوء جاز كما في الجمعة والعيدين، وعند الإحرام. وأما الاجتهاد فلأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (اجتهد في الدعاء في هذا الموقف لأمته فاستجيب له إلا في الدماء والمظالم) ش: هذا أخرجه ابن ماجه في " سننه " عن عبد القاهر بن السري عن عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداس عن أبيه كنانة عن أبيه عباس بن مرداس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة، فأجيب أني قد غفرت لهم ما خلا المظالم، فإني آخذ للمظالم، قال رب إن شئت أعطيت المظلوم الجنة وغفرت للظالم، فلم يجبه، عشيته، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء، فأجيب بما سأل، فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو قال فتبسم فقال أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بأبي أنت وأمي إن هذه ساعة ما كنت تضحك فيها، فما الذي أضحكك أضحك الله سنك، قال: " إن عدو الله إبليس لما علم أن الله قد استجاب دعائي وغفر لأمتي أخذ التراب فجعل يحثو على رأسه ويدعو بالويل والثبور فأضحكني ما رأيت من جزعه» .(4/223)
ويلبي في موقفه ساعة بعد ساعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه الطبراني في " معجمه " عن ابن أحمد بن حنبل في مسند أبيه وأبي يعلى الموصلي في " مسنده "، ورواه ابن عدي في " الكامل " وأعله بكنانة، وأسند عن البخاري أنه قال: كنانة روى عنه ابنه أنه لم يصح، وقال ابن حبان في كتاب " الضعفاء " كنانة بن العباس بن مرداس السلمي يروي عن أبيه، وروي عنه أنه منكر الحديث جدا، ولا أدري التخليط في حديثه منه أو من أبيه أو من أيهما كان فهو ساقط الاحتجاج بما روى، وذلك لعظم ما أتى من المناكير عن المشاهير.
وروى ابن الجوزي في " الموضوعات " من طريق الطبراني حدثنا إسحاق بن إبراهيم المدبري حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عمن سمع عن قتادة يقول: حدثنا خلاس بن عمرو عن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة: " أيها الناس إن الله تطول عليكم في هذا اليوم فغفر لكم إلا التبعات فيما بينكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى لمحسنكم ما سأل فارفعوا بسم الله، وإبليس وجنوده واقف على جبال عرفات ينظرون ما يصنع الله بهم، فإذا نزلت المغفرة دعا هو وجنوده بالويل والثبور» ثم قال هذا حديث لا يصح، والراوي عن قتادة مجهول.
وخلاس ليس بشيء، قال أيوب لا يروى عنه فإنه ضعيف، قوله - إلا في الدماء - جمع دم، والمظالم جمع ملظمة وهو الظلم المتعلق بحق العباد بها، أما في حق الدم الذي وجب قصاصاً فلعجز صاحبه عن الاستغفار. وأما في حق المظالم التي وجبت لبعضهم على بعض فلعجز صاحبه عن الانتصاب وقيل توقف دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة في الدماء والمظالم إلى المزدلفة فاستجيب له فيها في الدماء والمظالم أيضا.
وفي الروحي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تطول على أهل عرفة فباهى بأهل عرفة يوم عرفة فيقول انظروا يا ملائكتي أي انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً أقبلوا يضربون إلي من كل فج عميق فاشهدوا أني قد غفرت لهم إلا التبعات التي بينهم "، قال ثم إن القوم أفاضوا من عرفات إلى جمع قال يا ملائكتي انظروا إلى عبادي وقفوا وعادوا في الطلب والرغبة والمسألة اشهدوا أني قد وهبت مسيئهم لمحسنهم وتحملت عنهم التبعات التي بينهم» رواه أبو ذر عن ابن أحمد الهروي في " منسكه ".
م: (ويلبي في موقفه ساعة بعد ساعة) ش: قال الأكمل يعني يستديم ذلك إلى أن يرمي أول(4/224)
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يقطع التلبية كما يقف بعرفة لأن الإجابة باللسان قبل الاشتغال بالأركان. ولنا: ما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما زال يلبي حتى رمى جمرة العقبة؛» ولأن التلبية فيه كالتكبير في الصلاة فيأتي بها إلى آخر جزء من الإحرام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حصاة من العقبة.
قلت: ليس المراد أن يستمر على التلبية وحدها، بل يلبي ويكبر ويهلل، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتكون التلبية في أثناء ذلك من غير انقطاع، وذلك لأن التلبية في الإحرام كالتكبير في الصلاة، ولهذا يؤتى في الانتقالات واختلاف الأحوال، كما في التكبير في الصلاة كما يتخلل بين التكبيرات في الصلاة بأشياء، فكذلك ينبغي أن يتخلل بين التلبية بالتكبير والتهليل والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيؤتى بالتلبية إلى آخر جزء من الإحرام، وروى الفضل بن عباس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة» متفق عليه.
م: (وقال مالك: يقطع التلبية كما يقف بعرفة؛ لأن الإجابة باللسان قبل الاشتغال بالأركان) ش: مبنى هذا الكلام أن التلبية إجابة اللسان، والإجابة باللسان قبل الاشتغال بالأركان كتكبيرة الافتتاح في الصلاة.
م: (ولنا: ما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما زال يلبي حتى رمى جمرة العقبة» ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن الفضل بن عباس وقد ذكرناه الآن، وهو قول ابن مسعود وابن عباس وعطاء وطاووس والنخعي وابن أبي ليلى والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وقالوا يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، ويقطعها مع أول حصاة يرميها.
وعند أحمد وإسحاق والظاهرية يقطعها إذا رمى الحصيات السبع بأسرها. وعن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقطعها إذا زاغت الشمس من يوم عرفة.
م: (ولأن التلبية فيه) ش: أي في الحج م: (كالتكبير في الصلاة فيأتي بها) ش: أي بالتلبية م: (إلى آخر جزء من الإحرام) ش: وهو يكون عند رمي جمرة العقبة، وكان القياس أن تكون التلبية إلى آخر الحج، إلا أن القياس ترك فيما بعد الرمي بعد الإجماع، فبقي ما رواءه على أصل القياس، والقارن مثل المفرد بالحج في قطعه التلبية.
وقال الكرخي: يقطع التلبية في أول حصاة في حجه الفاسد، وأما المحرم بالعمرة فإنه يقطع التلبية حين يستلم الحجر الأسود عندنا، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا رأى البيت. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والذي يفوته الحج يتحلل بعمرة ويقطع التلبية حين يأخذ في الطواف الذي يتحلل به، ويقطع المحصر التلبية إذا ذبح هديه، لأنه أبيح له التحلل.(4/225)
قال: وإذا غربت الشمس أفاض الإمام، والناس معه على هينتهم حتى يأتوا المزدلفة لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع بعد غروب الشمس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال القدوري في " شرحه " فإن حلق الحاج قبل أن يرمي جمرة العقبة قطع التلبية لأنه تحلل من الإحرام، والتلبية لا تثبت بعد التحلل، قال: فإن زالت الشمس قبل أن يرمي أو يذبح أو يحلق قطع التلبية في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - رواه هشام. وروى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: يلبي ما لم يحلق، أو تزول الشمس من يوم النحر، وروى ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن من لم يرم قطع التلبية إذا غربت الشمس يوم النحر.
أما إذا ذبح قبل أن يرمي فقد ذكر الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن هشاما روى عن أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - أنه يقطع التلبية لأنه تحلل بالذبح، وروى ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يقطعها ما لم يرم أو يحلق، وقال الحسن عن أبي حنيفة ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقطع التلبية لأنه تحلل بالذبح إنما يقطع التلبية بالذبح، القارن والمتمتع، وأما إذا ضحى المفرد لم يقطعها، لأن تحلله لم يقف على ذبحه.
[الإفاضة من عرفات بعد غروب الشمس]
م: (قال: وإذا غربت الشمس) ش: أي يوم عرفة م: (أفاض الإمام) ش: أي رجع، وإنما قال أفاض اتباعاً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] [البقرة: الآية 198) م: (والناس معه على هينتهم) ش: أي غير مسرعين، بل على السكينة والوقار، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس البر في إيجاف الخيل ولا في إيضاع الإبل، فعليكم بالسكينة والوقار» . الإيجاف بالجيم نوع من سير الخيل والإيضاع انشراح الخيل في السير، وفي " المبسوط " زعم بعض الناس أن الإيضاع سنة، وإنا نقول به، وتأويل ما روي أن راحلته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت في ذلك الموضع فنخسها فانبعثت كعادة الدواب لا أنه قصد الإيضاع.
م: (حتى يأتوا المزدلفة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع بعد غروب الشمس) ش: هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «وقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة، فقال: " هذه عرفة وعرفة كلها موقف "، ثم أفاض حين غربت الشمس» .. الحديث.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، «وفي حديث جابر الطويل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، إلى أن قال ودفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد سبق القصواء» .. الحديث.
وفي حديث أسامة رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل «كنت ردف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما وقعت الشمس دفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .(4/226)
ولأن فيه إظهار مخالفة المشركين. وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمشي على راحلته في الطريق على هينته، فإن خاف الزحام فدفع قبل الإمام، ولم يجاوز حدود عرفة أجزأه؛ لأنه لم يفض من عرفة والأفضل أن يقف في مقامه كيلا يكون آخذا في الأداء قبل وقتها، فلو مكث قليلا بعد غروب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن فيه) ش: أي في الدفع بعد غروب الشمس م: (إظهار مخالفة المشركين) ش: فإنهم كانوا يدفعون من عرفة قبل طلوع الشمس، وقال الأترازي «روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشية يوم عرفة قال: أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر، وإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل غروب الشمس حين يقوم بها رؤوس الجبال، كأنها عام الرحال في وجوههم وإنا ندفع فلا تعجلوا، فدفع بعد غروب الشمس» انتهى.
قلت: هذا الحديث رواه الحاكم في " المستدرك " من حديث المسور بن مخرمة قال: «خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات» .. الحديث، ثم قال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، قال فقد صح بهذا سماع المسور بن مخرمة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا كما يتوهمه رعاع أصحابنا أن له رواية بلا سماع، وهذا رواه الشافعي والبيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضاً، والعجب من الأترازي مع دعواه الفريضة كيف يذكر الحديث بصيغة التمريض.
م: (وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمشي على راحلته في الطريق على هينته) ش: - في الطريق - أي في طريق المزدلفة. وفي حديث جابر الطويل قال: «دفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد شق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله وهو يقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة» ... الحديث.
م: (فإن خاف الزحام) ش: أي وإن خاف الحاج إلحاق الزحام، أي زحمة الناس م: (فدفع قبل الإمام، ولم يجاوز حدود عرفة أجزأه) ش: كذا إذا كان به علة فدفع قبل الإمام م: (لأنه لم يفض من عرفة) ش: بضم الياء وكسر الفاء من الإفاضة، وهو الدفع من عرفات، م: (والأفضل أن يقف في مقامه كيلا يكون آخذا في الأداء قبل وقتها) ش: أي قبل وقت الإفاضة وفيه إشارة إلى أنه إن جاوز عرفة قبل الإمام وقبل غروب الشمس وجب عليه الدم، ولكن إن عاد إلى عرفة قبل الغروب ثم دفع مع الإمام منها بعد الغروب سقط عنه الدم.
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يسقط، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يسقط صححه الكرخي، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، وإن عاد بعد غروب الشمس لم يسقط بالاتفاق، ولو ند بعيره فتبعه حتى خرج من عرفات إذا أخرجه بعيره فعليه دم، ولا يسقط بالعود، كذا في " المحيط " و " خزانة الأكمل "، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا أحفظ فيه شيئاً عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولو مكث قليلا بعد غروب الشمس وإفاضة الإمام لخوف الزحام فلا بأس به) ش: وكذا(4/227)
الشمس، وإفاضة الإمام لخوف الزحام فلا بأس به؛ لما روي أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بعد إفاضة الإمام دعت بشراب فأفطرت ثم أفاضت.
قال: وإذا أتى مزدلفة فالمستحب، أن يقف بقرب الجبل الذي عليه الميقدة يقال له: قزح لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف عند هذا الجبل، وكذا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ويتحرز في النزول عن الطريق كيلا يضر بالمارة فينزل عن يمينه أو يساره، ويستحب أن يقف وراء الإمام لما بينا في الوقوف بعرفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخوف علة من العلل م: (لما روي أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بعد إفاضة الإمام دعت بشراب فأفطرت ثم أفاضت) ش: هذا رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه "، حدثنا أبو خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها كانت تدعو بشراب تفطر ثم تفيض.
[المبيت بالمزدلفة]
[جمع المغرب والعشاء بمزدلفة]
م: (وإذا أتى مزدلفة فالمستحب أن يقف بقرب الجبل الذي عليه الميقدة) ش: بكسر الميم، موضع كان أهل الجاهلية يوقدون عليه النار، يقال لذلك الجبل قزح، بضم القاف كذا في " المغرب "، وقيل إنها كانون آدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (يقال له: قزح) ش: أي يقال لذلك الجبل قزح، بضم القاف وفتح الزاي وبالحاء المهملة، وهو غير منصرف للعدل والعلمية، كذا قاله الكاكي.
قلت: هو عدل تقديري، كأنه معدول عن قازح كزفر عن زافر، وفي الحديث لا يقول قوس قزح من أسماء الشياطين، قيل سمي بقزح لتسويله الناس بحثه إلى المعاصي من القزح وهو الجنين، وقيل من القزح وهو الطريق والألوان التي في القوس الواحدة قزحة، ويمكن هذا أيضاً يسمى الجبل به لكونه ذات طرائق وألوان.
م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف عند هذا الجبل) ش: يعني جبل قزح رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - واللفظ للترمذي قال: «وقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة ... » الحديث، فلما أصبح أتى قزح فوقف عليه، وروى الحاكم في المستدرك عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حين وقف بعرفة هذا الموقف، وكل عرفة موقف» وقيل حين وقف على قزح قال هذا الموقف، وكل المزدلفة موقف.
م: (وكذا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي وكذا وقف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على قزح، وهذا غريب يعني ليس له أصل. م: (ويتحرز في النزول عن الطريق كيلا يضر بالمارة فينزل عن يمينه أو يساره) ش: وقال الكرخي: وإذا جاء الإمام المزدلفة، وهي المشعر الحرام، وهي التي أقصيت من وادي عرفات إلى بطن محسر فانزل بها حيث شئت عن يمين الطريق وعن يساره، ولا تنزل على جادة الطريق فتؤذي الناس، وذلك لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن محسر» وأما النزول على الطريق فهو ممنوع بالمزدلفة وغيرها، لأنه يقطع الناس عن الاجتياز.
م: (ويستحب أن يقف) ش: أي الحاج م: (وراء الإمام لما بينا في الوقوف بعرفة) ش: أشار به(4/228)
قال: ويصلي الإمام بالناس المغرب والعشاء بأذان وإقامة واحدة. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بأذان وإقامتين اعتبارا بالجمع بعرفة. ولنا رواية جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جمع بينهما بأذان، وإقامة واحدة؛» ولأن العشاء في وقته فلا يفرد بالإقامة إعلاما، بخلاف العصر بعرفة لأنه مقدم على وقته، فأفرد بها لزيادة الإعلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى قوله - لأنه يدعو ويعلم فيعوا ويسمعوا - م: (قال: ويصلي الإمام بالناس المغرب والعشاء بأذان وإقامة واحدة) ش: وفي أكثر النسخ قال: ويصلي الإمام، أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مختصره.
م: (وقال زفر: بأذان وإقامتين اعتبارا بالجمع بعرفة) ش: أي قياساً عليه، واختاره الطحاوي وبه قال الشافعي في قول وأبو ثور وابن الماجشون المالكي، وفي قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإقامتين دون الأذان.
م: (ولنا رواية جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بينهما بأذان وإقامة واحدة) ش: أي جمع بين المغرب والعشاء بأذان وإقامة واحدة، يعني في المزدلفة، وهذا رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا حاتم بن إسماعيل عن محمد بن جعفر بن محمد عن جابر بن عبد الله قال: «صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المغرب والعشاء يجمع بأذان واحد وإقامة واحدة ولم يسبح بينهما» وهذا حديث غريب، فإن الذي في حديث جابر الطويل عند مسلم أنه صلاهما بأذان وإقامتين وبلفظه «ثم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً» .. الحديث. وعند البخاري أيضاً عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال «جمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين المغرب والعشاء، يجمع كل واحد بينهما بإقامة ولم يسبح بينهما ولا على أثر واحدة بينهما» وهذا مخالف لرواية ابن أبي شيبة. وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والترجيح لقولنا بأن نقول إن حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مضطرب كما ترى، لأنه حدث في رواية بأذان وإقامتين، وفي رواية بأذان وإقامة.
قلت: إنما يصح الحكم بالاضطراب لو كانت زيادة روايته مخرجتين في " الصحيح "، والرواية التي تخبر بأذان واحد وإقامة واحدة ليست في " الصحيح ".
م: (ولأن العشاء في وقته) ش: أي مؤداة في وقته م: (فلا يفرد بالإقامة إعلاما) ش: أي لأجل الإعلام، لأنه معلوم في جميع أهل الموقف م: (بخلاف العصر بعرفة؛ لأنه) ش: أي لأن العصر م: (مقدم على وقته فأفرد بها) ش: أي بالإقامة م: (لزيادة الإعلام) ش: فإن قلت: يرد عليكم الفوائت لأنه إن شاء أذن وأقام لكل صلاة، وإن شاء اقتصر على الإقامة، فينبغي أن يكون هذا كذلك.(4/229)
ولا يتطوع بينهما؛ لأنه يخل بالجمع، ولو تطوع، أو تشاغل بشيء أعاد الإقامة لوقوع الفصل، وكان ينبغي أن يعيد الأذان أيضا كما في الجمع الأول بعرفة إلا أنا اكتفينا بإعادة الإقامة، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى المغرب بمزدلفة ثم تعشى ثم أفرد الإقامة للعشاء» ولا تشترط الجماعة لهذا الجمع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الفوائت كل واحد منها صلاة على حدة فينفرد كل منهما بالإقامة، بخلاف الصلاتين بالمزدلفة، فإنهما صارتا كصلاة واحدة، بدليل أنه لا يجوز التطوع بهما، فلأجل هذا أفرد كل واحدة بالإقامة.
م: (ولا يتطوع بينهما) ش: أي بين المغرب والعشاء بالمزدلفة م: (لأنه يخل بالجمع) ش: ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتطوع بينهما م: (ولو تطوع) ش: أي بينهما م: (أو تشاغل بشيء) ش: مثل التعشي وافتقار النية ونحو ذلك م: (أعاد الإقامة لوقوع الفصل) ش: فيحتاج إلى إعلام آخر. قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال شيخي العلامة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يسوي بين التطوع والتعشي والتشاغل بشيء آخر في إعادة الإقامة، وهو يوافق ما ذكر في " المبسوط "، ولكن اشترط في " المبسوط " الأسبيجابي، الذي اختصره في " مبسوط " البزدوي إلى إعادة الإقامة، وإلى إعادة الأذان والإقامة في النفس وغيره.
م: (وكان ينبغي أن يعيد الأذان أيضا) ش: لقول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (كما في الجمع الأول) ش: أي كما يعيد الأذان أيضاً في الجمع الأول، وهو الجمع بين الظهر والعصر بعرفة م: (إلا أنا اكتفينا بإعادة الإقامة، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى المغرب بمزدلفة ثم تعشى) ش: أي أكل العشاء م: (ثم أفرد الإقامة بالعشاء) ش: أي بصلاة العشاء، وهذا الحديث غريب، وتمثيله بفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مشكل لأنه قد ذكر أولاً قبل هذا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بأذان وإقامة واحدة، واحتج به على زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - في إفراد الإقامة، وكان ذلك هو الثابت الصحيح عنده ضرورة، وبعد ثبوته لا يمكنه التمثيل بما ذكره بعد، لأنه لم يصح ولم يثبت، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحج إلا مرة واحدة، فكيف يستدل به؟!
فإن قلت: هذه صورة التعارض فيحمل كل واحد على حالته.
قلت: لا يمكن هذا هاهنا لأنا ننفي صحة الحديث الذي ذكره، فمن أين يأتي التعارض حتى يوفق بينهما بذلك. وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا ترجحت، أعني الرواية المروية في " الصحيح " انتفت الأخرى، وحملت على سهو الراوي فلا يصح التمسك به انتهى.
قلت: فلأجل ذلك اختار الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مذهب زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لصحة دليله وترك الرواية الأخرى.
م: (ولا تشترط الجماعة لهذا الجمع) ش: أي الجمع الذي في المزدلفة.(4/230)
عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن المغرب مؤخرة عن وقتها، بخلاف الجمع بعرفة لأن العصر مقدم على وقته. قال: ومن صلى المغرب في الطريق لم تجزئه عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -، وعليه إعادتها ما لم يطلع الفجر. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجزيه، وقد أساء، وعلى هذا الخلاف إذا صلى بعرفات. ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه أداها في وقتها فلا تجب عليه إعادتها كما بعد طلوع الفجر، إلا أن التأخير من السنة فيصير مسيئا بتركه. ولهما ما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في طريق المزدلفة: " الصلاة أمامك»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المغرب) ش: أي صلاة المغرب م: (مؤخرة عن وقتها، بخلاف الجمع بعرفة؛ لأن العصر مقدم على وقته) ش: فروعي منه جمع ما ورد به النص وهو الأداء مع الإمام في حالة الإحرام، وأما الجمع بمزدلفة فلم يخالف القياس، لأن المغرب مؤخرة عن وقتها، وقضاء الصلاة بعد وقتها أمر معقول لوجود المسبب بعد وجود السبب فلم يشترط فيه مراعاة ما ورد به النص وهو الإمام، ولكن الأفضل أن يصلي مع الإمام بالجماعة، لأن الأداء بالجماعة أولى، كذا في " الإيضاح "، وقال الإمام المحبوبي: لا يشترط الإحرام والسلطان أيضاً.
م: (قال: ومن صلى المغرب) ش: أي صلاة المغرب م: (في الطريق) ش: قبل أن يأتي إلى المزدلفة م: (لم يجزئه عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -، وعليه إعادتها ما لم يطلع الفجر) ش: وبه قال زفر والحسن بن زياد - رحمهما الله تعالى - م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجزئه، وقد أساء) ش: لمخالفة السنة، وبه قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي بين أبي حنيفة ومحد وبين أبي يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (إذا صلى) ش: أي المغرب م: (بعرفات) ش: فعندهما لا يجزئه، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - تجزئه، وفي " الإيضاح " وكذا لو صلى العشاء الآخرة بعد دخول وقتها في الطريق، لأنها مرتبة على المغرب فإذا لم تجز المغرب فما رتب عليه أولى بتركه.
م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه أداها في وقتها فلا تجب إعادتها كما في بعد الطلوع) ش: أي كما إذا صلى بعد طلوع الفجر م: (إلا أن التأخير) ش: أي تأخير المغرب ليلة المزدلفة م: (من السنة فيصير مسيئا بتركه) ش: أي بترك التأخير.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: «ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأسامة في طريق المزدلفة: الصلاة أمامك» ش: هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد بن حارثة مولى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان يسمى حب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال أسامة «دفع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء، فقلت له الصلاة فقال الصلاة أمامك» .(4/231)
معناه: وقت الصلاة، وهذا إشارة إلى أن التأخير واجب، وإنما وجب ليمكنه الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة فكان عليه الإعادة ما لم يطلع الفجر ليصير جامعا بينهما. وإذا طلع الفجر لا يمكنه الجمع فسقطت الإعادة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
.. الحديث، م: (معناه) ش: أي معنى قوله أمامك م: (وقت الصلاة) ش: ومكان الصلاة، لأن الصلاة فعل المصلي، وفعله لا يتصور أن يكون أمامه، فإذا أداها في الطريق فقد أداها قبل الوقت الثابت بهذا الخبر فوجبت الإعادة كما إذا صلى الظهر في منزله يوم الجمعة، فإنه يؤمر بالقضاء حتى يأتي على هذا الوجه الأكمل.
م: (وهذا) ش: أي قوله الصلاة أمامك م: (إشارة إلى أن التأخير) ش: أي تأخير صلاة المغرب م: (واجب، وإنما وجب ليمكنه الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة) ش: ما دام وقت العشاء باقياً م: (فكان عليه الإعادة ما لم يطلع الفجر ليصير جامعا بينهما) ش: أي بين الصلاتين م: (وإذا طلع الفجر لا يمكنه الجمع فسقطت الإعادة) ش: وقال القدوري: إذا كان يخشى أن يطلع الفجر قبل أن يصلي إلى المزدلفة صلى المغرب لأنه إذا طلع الفجر فات وقت الجمع، وكذلك إن صلى العشاء الأخيرة في الطريق بعد دخول وقتها لم تجزئه إلا على تقدير خوف طلوع الفجر.
فإن قلت: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام عن الصلاة.. الحديث خبر واحد يوجب الترتيب، وتجب عليه الإعادة وإن ذهب، وها هنا لم تجب الوقت.
قلت بأن وجوب الإعادة هناك لوجوب الترتيب، وهو قائم ما لم يدخل الأكثر، وها هنا وجوب الإعادة لرعاية الجمع فيفوت إن كان الجمع بفوات وقت العشاء.
فإن قلت: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» لا تجب الإعادة لو صلى بدون فاتحة الكتاب ناسياً أو عامداً، وها هنا وجبت ما دام الوقت باقيا.
قلت خبر الواحد يوجب العمل على وجه لا يؤدي إلى إبطال الكتاب، ثم ها هنا الإعادة من باب العلم ما دام الوقت باقياً لما أنه صلى قبل الوقت الثابت بخبر الواحد، وقبل الوقت لا يجوز فتجب الإعادة كما في مسألة الترتيب، وأما خبر الفاتحة فقد علمنا به كما يليق بحاله حيث قلنا يوجب صلاة السهو إذا تركها ساهياً، وبالإثم إذا تركها عامداً، أما لو قلنا بالإعادة كان خبر الواحد مبطلاً لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} [المزمل: 20] (المزمل: الآية 20) ، وذلك لا يجوز.
فإن قلت: ففي حديث أسامة أيضاً القول بوجوب الإعادة في الوقت فوجب الإبطال. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] [النساء: الآية 13] .
قلت: قالوا: الإعادة فيه لنوع فساد اقتضاء خبر الواحد لا لفساد قوي، فلو قلنا بالإعادة بعد الوقت، لكنا قائلين بالفساد لتؤدي فحينئذ كنا مبطلين وجوب قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103](4/232)
قال: وإذا طلع الفجر يصلي الإمام بالناس الفجر بغلس لرواية ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها يومئذ بغلس "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولا نقول به.
فإن قلت: خبر أسامة خبر واحد فلا يجوز تأخير المغرب عن وقته، لأن محافظة الوقت واجبة بالدلائل القطعية، ولو كان من المشاهير تجب الإعادة على الإطلاق، لأنه مؤدي للمغرب قبل الوقت الثابت بالحديث المشهور.
قلت: قال الشيخ الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وجوب التأخير ثبت الجمع بمزدلفة وهو من المشاهير تجوز للزيادة به على الكتاب فصار للعصر بعرفات وللمغرب بمزدلفة وقتان، أحدهما ثابت بالدليل القطعي، والثاني ثابت بالسنة المشهورة إلا أنه مأمور بالأداء في الوقت الثابت بالسنة، فإذا أداها في الوقت الثابت بالكتاب ثبت لها أصل الجواز، وكان مثبتاً لمخالفة السنة المشهورة فيؤمر بالإعادة تحقيقاً للجمع، فإذا فات وقت الجمع فلا فائدة في الأمر بالإعادة بعدما ثبت جواز الأداء والله أعلم.
وأشكل عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأن صلاة المغرب التي صلاها في الطريق، إما إن وقعت صحيحة أو لا، فإن كان الأول فلا تجب الإعادة إلا في الوقت ولا بعده، وإن كان الثاني وجبت فيه وبعده لأنها وقعت فاسدة، فلا تنقلب صحيحة بمضي الوقت.
وأجيب بأن الفساد موقوف لظهور أثره في ثاني الحال، كما مر في مسألة الترتيب.
[صلاة الفجر بغلس في المزدلفة والوقوف بها]
م: (قال: وإذا طلع الفجر) ش: أي في يوم النحر م: (يصلي الإمام بالناس الفجر) ش: أي صلاة الفجر م: (بغلس) ش: بفتحتين، وهو آخر ظلمة الليل، قاله الأترازي ثم قال كذا في الديوان وقال الأكمل الغلس: ظلمة آخر الليل، وفي بعض الشروح ناقلاً عن الديوان آخر ظلمة الليل، وقد وافق على ما نحن فيه على ما سيظهر، انتهى.
قلت: أراد ببعض الشروح شرح الأترازي م: (لرواية ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها يومئذ بغلس» ش: هذا رواه البخاري، ومسلم عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود قال: «ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة إلا لميقاتها إلا صلاتين، صلاة المغرب والعشاء بجمع وصلاة الفجر يومئذ قبل ميقاتها.» قوله - قبل ميقاتها - معناه المعهود المعتاد في كل يوم، لا أنه صلاها قبل الفجر ولكنه غلس بها كثيرا بينه لفظ البخاري، وصلى الفجر حين طلع الفجر، وفي لفظ لمسلم «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع الصلاتين جميعاً، وصلى الفجر حين طلع الفجر» وقائل يقول لم يطلع الفجر، ولهذا يندفع قول من يقول أن الدليل غير مطابق للمدلول، لأن الدليل يدل على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها بغلس،(4/233)
ولأن في التغليس دفع حاجة الوقوف فيجوز كتقديم العصر بعرفة. ثم وقف - أي ووقف معه الناس، فدعا لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف في هذا الموضع يدعو حتى روي في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فاستجيب له دعاؤه لأمته حتى الدماء والمظالم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والمدلول قوله - وإذا طلع الفجر يصلي الإمام بالناس الفجر بغلس.
م: (ولأن في التغليس دفع حاجة الوقوف فيجوز) ش: أي التغليس م: (كتقديم العصر بعرفة) ش: أي كما يجوز تقديم العصر بعرفة قبل وقتها لدفع حاجة الوقوف بها، واعترض عليه أن هذا الدليل العقلي لا يطابق المدلول، بيانه أن تقريره في التغليس دفع حاجة الوقوف، ودفع الحاجة يجوز التقديم للعصر بعرفة، وتقديم العصر كان على وقته، فيكون ها هنا تصحيحاً للتشبيه، وهو خلال المطلوب، وأجيب بأن معناه لما جاز تعجيل العصر على وقتها للحاجة إلى الوقوف بعدها، فلا يجوز التغليس بالفجر وهو في وقتها أولى.
م: (ثم وقف) ش: أي ثم وقف الإمام بعد أن غلس بصلاة الفجر م: (أي ووقف معه الناس، فدعا) ش: بما شاء من الأدعية ويرفع يديه ويستقبل بهما وجهه سبطاً. وفي النوازل ويدعو بالمزدلفة نحو ما دعا بعرفة «اللهم حرم لحمي وشعري ودمي وعظمي وجميع جوارحي من النار يا أرحم الراحمين» .
م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف في هذا الموضع يدعو حتى روي في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فاستجيب له دعاؤه لأمته حتى الدماء والمظالم) ش: فيه حديثان، أحدهما قوله لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف في هذا الموضع، وأشار به إلى المشعر الحرام الذي هو الجبل الذي يقال له قزح، ويدعو لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] (البقرة: الآية 198) ، وهذا في حديث جابر الطويل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث قال: «ثم ركب أي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس» .
الحديث الثاني: هو حديث عباس بن مرداس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وليس هو حديث ابن عباس الذي هو عبد الله وقول المصنف في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهم، ولم ينبه على هذا أحد من الشراح، واعتذر بعضهم بأن المصنف إنما أراد بابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كنانة بن عباس بن مرداس وهذا خطأ من وجهين: أحدهما: أن ابن عباس إذا أطلق لا يراد به إلا عبد الله بن عباس، فلو أراد كنانة لقيده.
والثاني: أن المصنف ليس من عادته أن يذكر الشافعي دون الصحابي عند ذكر الحديث، فلا يليق به ذلك.(4/234)
ثم هذا الوقوف واجب عندنا، وليس بركن حتى لو تركه بغير عذر يلزمه الدم. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه ركن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما حديث ابن عباس بن مرداس فقد ذكرناه عند قوله وأما الاجتهاد فلأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجتهد في الدعاء في هذا الموقف لأمته فاستجيب له، إلا في الدماء والمظالم، وها هنا استجيب له دعاؤه لأمته، حتى الدماء والمظالم بالرفع فيهما، والمظالم جمع مظلمة، وهو الظلم أو اسم مأخوذ ظلماً يعني حتى استجيب له دعاؤه في الدماء والمظالم، والأصل أن تبقى حقوق العباد لكن قالوا إن الله تعالى يرضي الخصوم بالأزدياد في بيوتهم حتى تركوا خصوماتهم في الدنيا والمظالم واستوجبوا المغفرة.
فإن قلت: هذا خاص بالذي يحج أول عام أو لا.
قلت: لا بل هو عام لجميع أمته ولا قرينة للتخصيص، ثم الكلام في إعراب حتى الدماء والمظالم، فقد ذكرنا أنه بالرفع فيهما لأن حتى للعطف كما في قولهم قدم الحاج حتى المشاة، ويجوز الجر فيهما على أن تكون حتى جارة كما في قولك أكلت السمكة حتى رأسها، وها هنا قيل حتى ظهرها قبلها، لأن الرأس داخل في أكله السمكة، وتقدير الكلام استجيب له دعاؤه ولأمته في ذنوبهم حتى الدماء والمظالم.
فإن قلت: الشرط في الرفع أن يكون ما بعدها مجازاً لما قبلها، وفيه الدعاء والمظالم ليس من عين الدعاء.
قلت: لا بد من التأويل، وهو أن قال إن معناه استجيب له كل ذنب لأمته حتى استجيب له في الدماء والمظالم.
م: (ثم هذا الوقوف) ش: أي الوقوف بالمزدلفة م: (واجب عندنا، وليس بركن، حتى لو تركه بغير عذر يلزمه الدم) ش: وإن تركه بعذر لازدحام أو تعجيل السير إلى منى فلا شيء عليه، قاله في " المحيط "، والمبيت بمزدلفة سنة وبه قال مجاهد وعطاء وقتادة والزهري والثوري وإسحاق وأبو ثور.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه ركن) ش: أي أن الوقوف بالمزدلفة ركن، ونسبة هذا القول إلى الشافعي غير صحيحة، لأنه ذكر في " وجيزهم " أن الوقوف بالمزدلفة سنة، قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن صاحب " الهداية " وجد نقلاً صحيحاً عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه ذكر. وقال الشافعي وقال الكاكي - رحمهما الله -: نسبته لهذا القول إلى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقع سهواً من الكاتب لما أنه ذكر في كتبهم أنه سنة، وذكر في " المبسوط " الليث بن سعد مكان الشافعي، وفي " الأسرار " علقمة، وفي " فتاوى قاضي خان " - رَحِمَهُ اللَّهُ - مالكاً مكانه، وذكر في " المحيط " مالكاً والشعبي وعلقمة، ونسبة هذا أيضاً إلى مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سهو، لأن(4/235)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] [198 البقرة] ، وبمثله تثبت الركنية، ولنا ما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قدم ضعفة أهله بالليل، ولو كان ركنا لما فعل ذلك، والمذكور فيما تلا الذكر وهو ليس بركن بالإجماع، وإنما عرفنا الوجوب بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من وقف معنا هذا الموقف وقد كان أفاض قبل ذلك من عرفات فقد تم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصحيح من مذهبه أن الوقوف بها سنة، والنزول بها واجب، وكذا الوقوف مع الإمام سنة عنده. وذهب علقمة بن قيس والشعبي والنخعي والحسن البصري والأوزاعي وحماد بن أبي سليمان إلى أن الحج يفوت بفوات الوقوف بالمزدلفة، ويروى عن ابن عباس والزبير. وفي " المبسوط " وعلى قول الليث بن سعد هذا الوقوف ركن. وقالت الظاهرية: من لم يدرك مع الإمام صلاة الصبح بالمزدلفة بطل حجه إن كان رجلاً، ولو دفع عن عرفة قبل غروب الشمس فلا شيء عليه وحجه تام م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] [البقرة: الآية 198] ، وبمثله) ش: أي وبمثل هذا الأمر الذي في الآية الكريمة م: (تثبت الركنية) ش: لأنه نص قطعي، فأمر بالذكر عند المشعر الحرام والذكر يكون مع الوقوف فيكون فرضاً.
م: (ولنا ما روي «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قدم ضعفة أهله بالليل» ش: هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن عطاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقدم ضعفة أهله بغلس ويأمرهم لا يرمون الجمرة حتى تطلع الشمس» وروى البخاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومسلم عن سالم عن أبيه عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يقدم ضعفة أهله ... الحديث، والضعفة على وزن فعلة، جمع ضعيف ويجمع على ضعفاء أيضا وأراد به النساء والولدان والخدام.
م: (ولو كان) ش: أي الوقوف بمزدلفة م: (ركنا لما فعل ذلك) ش: أي تقديم الضعفة، لأن ما كان ركناً لا يجوز تركه للعود، وفي " الإيضاح " الركن لا يثبت إلا بدليل مقطوع به، وقد أجمعت الأمة أن الوقوف بعرفة وطواف الزيارة من جملة الأركان، وفي الوقوف بمزدلفة لم ينعقد الإجماع بل الحديث ورد به م: (والمذكور فيما تلا الذكر) ش: هذا جواب عن استدلال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالآية، وتقديره أن المأمور به في الآية هو الذكر.
م: (وهو ليس بركن بالإجماع) ش: فكذا ما كان وسيلة إليه، وهو الحضور في الوقوف م: (وإنما عرفنا الوجوب) ش: جواب عن سؤال مقدر ما يقال إذا نفيتم الركنية عن الوقوف بالمزدلفة، فمن أين يقولون بوجوبه، فقال وإنما عرفنا الوجوب، أي وجوب الوقوف بمزدلفة م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وقف معنا هذا الموقف وقد كان أفاض قبل ذلك من عرفات، فقد تم(4/236)
حجه» علق به تمام الحج، وهذا يصلح أمارة للوجوب، غير أنه إذا تركه بعذر بأن يكون به ضعف، أو علة، أو كانت امرأة تخاف الزحام لا شيء عليه لما روينا.
قال: والمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر لما روينا من قبل. قال: فإذا طلعت الشمس أفاض الإمام والناس معه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حجة» هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن عروة بن نصير، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى يدفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك، ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه» وأخرجه ابن حبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه " وقال: وهو الصحيح على شرط كافة أئمة الحديث. قوله - هذا الموقف - أشار به إلى موقف المزدلفة، والواو في - وقد كان - للحال قوله - أفاض - أي رجع ووقع.
م: (علق) ش: أي علق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (به) ش: أي بالوقوف بالمزدلفة م: (تمام الحج، وهذا) ش: أي تعليق تمام الحج بالوقوف م: (يصلح أمارة للوجوب) ش: بفتح الهمزة، أي علامة وجوب الوقوف م: (غير أنه إذا تركه) ش: إشارة من قوله - وهذا يصلح أمارة الوجوب - يعني الوقوف بمزدلفة واجب، إلا أنه إذا تركه، أي الوقوف م: (بعذر كأن) ش: أي بسبب عذر مثل الخوف من الزحام أو عروض علة من العلل، أشار إليه بقوله م: (بأن يكون به ضعف، أو علة، أو كانت امرأة تخاف الزحام لا شيء عليه لما روينا) ش: أراد به أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قدم ضعفه أهله بالليل.
[المزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر لما روينا من قبل) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ومزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن وادي محسر وفي " المحيط " وقت الوقوف بمزدلفة بعد طلوع الفجر من يوم النحر، إلا إن أسفر جداً. وفي " الأسبيجابي " لو جاوز حد المزدلفة قبل طلوع الفجر، فعليه دم إلا لعلة أو ضعف، فخاف الزحمة فدفع منها ليلا أو مر بها من غير أن يقف جاز كالوقوف بعرفة، وفي " التحفة " لو مر في حريم آخر المزدلفة جاز، ومحسر بكسر السين المشددة فاعل من حسر بالتشديد، لأن فيه أصحاب حسر فيه، [....] ، وقيل: من السير وهو واد بين منى والمزدلفة، وسمي وادي النار، يقال: إن رجلاً اصطاد فيه فنزلت نار فأحرقته، وقيل لأنه يحسر سالكيه رؤوسهم، ذكره المنذري، وحد المزدلفة ما بين ماري عرفة، وقرن بمحسر يمينا وشمالا من الشعاب والجبال، ذكره النووي - رحمهما الله - وحكم الإسراع فيه مخالفة النصارى لأنه موقفهم.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (فإذا طلعت الشمس أفاض الإمام والناس معه) ش: على هينهم.(4/237)
حتى يأتوا منى قال العبد الضعيف - عصمه الله تعالى -: هكذا وقع في نسخ المختصر، وهذا غلط، والصحيح: أنه إذا أسفر أفاض الإمام والناس؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دفع قبل طلوع الشمس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (حتى يأتوا منى. قال العبد الضعيف - عصمه الله تعالى -) ش: أي المصنف م: (هكذا وقع في نسخ المختصر، وهذا غلط، والصحيح: أنه إذا أسفر أفاض الإمام والناس) ش: معه. وقال الأترازي: هذا الذي قاله صاحب " الهداية " - رَحِمَهُ اللَّهُ - صحيح، لكن الغلط وقع من الكاتب لا من القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ففسره الأترازي أن الشيخ أبا النصر البغدادي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو من تلامذة الشيخ أبي الحسن القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا الموضع في الشرح بقوله، قال ثم يفيض الإمام من مزدلفة قبل طلوع الشمس والناس معه حتى يأتي منى.
وأثبت الإمام أبو الحسن القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصر الكرخي " مثل هذا، فقال ويفيض الإمام قبل طلوع الشمس فيأتي منى فعلم أن ذكر صاحب " الهداية " منقول في " مختصر " القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فذلك سهو من الكاتب لا من القدوري، والشيخ أبو الحسن القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أجل نصاً من أن تزل قدمه في هذا القدر وهو بحر جار في الفقه، وغيث مدرار في الحديث، وناهيك من دليل على غزارة علمه شرحه لمختصر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإذا طالعته عرفت أن محله في الفقه كان عند العيوب ولا تناله يد كل أحد ويرجع طرف الناظر إلى منزلته من كلال ورمد، انتهى.
قلت: هذا كله لا ينافي وقوع السهو منه لأن تعرض له كبوة، والعالم له زلة، وقد وقع من أكابر العلماء ممن تقدموا من السهو والخطأ، ومع هذا وقوع السهو لا ينافي جلالة قدره وغزارة علمه، ولكن سمعت من أستاذه الكبير يقول إن القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما فرغ من تصنيف مختصره المنسوب إليه حج، وأخذ المختصر معه، ولما فرغ من طوافه سأل الله سبحانه أن يوقفه على خطأ فيه وسهو منه عن قلم.
ثم إنه فتح المختصر وتصفحه ورقة ورقة إلى آخره فوجد فيه خمسة مواضع أو ستة مواضع ممحوة، وهذا يعد من كرامته، وهذا مما يؤيد أن وقوع هذا الغلط من الكاتب لا منه والله أعلم، ومختصر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - الذي عنده يقرؤه أبي وجدي وقرئ على شيخ المشايخ هكذا، والمزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر، ثم أفاض الإمام والناس قبل طلوع الشمس حتى يأتوا منى. قوله والصحيح إذا أسفر ذكره في " المحيط " محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الإسفار يقال إذا لم يبق من طلوع إلا مقدار ما يصلي فيه ركعتان.
م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع قبل طلوع الشمس) ش: هذا الحديث رواه الجماعة إلا سلمان عن «عمرو بن ميمون قال: شهدت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى بجمع الصبح ثم وقف فقال: إن(4/238)
قال: فيبتدئ بجمرة العقبة فيرميها من بطن الوادي بسبع حصيات مثل حصى الخذف؛ «لأن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس» و - ثبير - بفتح الثاء وكسر الباء الموحدة اسم جبل، وكانوا يقولون أشرف نهر كما يغير من الإغارة بالغين المعجمة وهو الإسراع.
[رمي الجمرات]
[عدد الجمرات وصفاتها]
م: (قال: فيبتدئ بجمرة العقبة) ش: وفي بعض النسخ م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيبتدئ بجمرة العقبة - الجمرة - الحجر الصغير، وجمعها الجمار، وبها سمي المواضع التي يرمي جمار أو حجار أو حجرات لما بينهما من الملابسة. وقيل لجمع ما هنالك من الحصى من تجمر القوم إذا اجتمعوا، وسميت جمرة العقبة لأنها جبل في طريق منى كذا في " مبسوط " البكري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وذكر في " مبسوط " شيخ الإسلام إنما سميت جمرة لأن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أمر بذبح الولد جاء الشيطان يوسوسه فكان إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يرمي إليه الأحجار طرداً له، وكان بجمع بين يديه أي يسرع في المشي.
م: (فيرميها من بطن الوادي) ش: أي فيرمي الجمرة من أسفل الوادي إلى أعلاه، هكذا رواه ابن عمر وابن مسعود في " الصحيحين " والترمذي عن ابن مسعود أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لما رمى جمرة العقبة جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه» وفي رواية أنه أسطن، وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة، وإنما خص بسورة البقرة لأن معظم مناسك الحج فيها، ولو رماها من أعلاها جاز، والأول السنة، فإن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رماها من أعلاها للزحام.
وفي " البدائع " و " التحفة " يأخذ الجمار من المزدلفة أو من الطريق، وفي " المحيط " يأخذ من الطريق، وفي " مناسك " جمال الدين الحضرمي قد جرى التواتر بحمل الحصى من جبل على الطريق، فيحمل سبعين حصاة، وفي " مناسك " الكرماني - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرفع من المزدلفة سبع حصاة، لحديث الفضل هو السنة، وقال قوم يأخذ منها سبعين حصاة، ويكره كسر الحجارة إلا عن عذر، ويستحب التقاطها من الطريق والأمر في ذلك واسع لسبع حصيات مثل حصيات الخذف بالخاء والذال المعجمتين الرمي برؤوس الأصابع والحذف بالحاء المهملة الرمي بالقبض.
وقال الحسن البصري في " مناسكه " حصى الحذف مثل النواة وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكون أصغر من الأنملة طولاً وعرضاً، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أتى منى لم يعرج على شيء حتى رمى جمرة العقبة، هذا في حديث جابر الطويل - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فدفع قبل أن تطلع الشمس حتى وصل إلى بطن محسر، فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها.
م: (بسبع حصيات مثل حصى الخذف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أتى منى لم يعرج على شيء حتى رمى(4/239)
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما أتى منى لم يعرج على شيء حتى رمى جمرة العقبة» وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عليكم بحصى الخذف، لا يؤذي بعضكم بعضا» ولو رمى بأكبر منه جاز لحصول الرمي، غير أنه لا يرمي بالكبار من الأحجار كيلا يتأذى به غيره. ولو رماها من فوق العقبة أجزأه؛ لأن ما حولها موضع النسك، والأفضل أن يكون من بطن الوادي لما روينا، ويكبر مع كل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جمرة العقبة) ش: فقوله لم يعرج على شيء، أي لم يقف عنده، يقال مررت به فأعرجت عليه، أي ما وقفت وعرجت بالقاف، م: (وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بحصى الخذف، لا يؤذي بعضكم بعضا» ش: هذا الحديث رواه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " معجمه الأوسط " من حديث نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لما أتى محسراً: " عليكم بحصى الخذف» . وفي رواية ابن ماجه من حديث سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أمه قالت: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرمي الجمرة من بطن الوادي.. الحديث، وفي آخره وإذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف.» م: (ولو رمى بأكبر منه) ش: أي بحجر أكبر من حصى الخذف م: (جاز لحصول الرمي، غير أنه لا يرمي بالكبار من الأحجار كيلا يتأذى به غيره) ش: وفي " المحيط " لا يستحب الكبار، وعند أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لو رمى بحجر كبير لا تجزئه، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه يستحب أن يكون أكبر من حصى الخذف، وأنكر القرطبي والشافعي - رحمهما الله -، وقالا بعدما صح من قول الشارع أنه مثل حصى الخذف لا معنى لأكبر من ذلك.
م: (ولو رماها من فوق العقبة أجزأه) ش: جاز لحصول الرمي، غير أنه لا يرمي بالكبار كيلا يتأذى به غيره أجزأه م: (لأن ما حولها موضع النسك) ش: لأن بعض الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يرمونها من فوق العقبة، ألا ترى أن عبد الرحمن بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن الناس يرمونها من فوقها، وأراد بالناس الصحابة والتابعين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (والأفضل أن يكون من بطن الوادي لما روينا) ش: وهو أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى هكذا.
م: (ويكبر مع كل حصاة) ش: من الحصيات السبع، قال الناطقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الأجناس " - ذكر في مناسك الحسن بن دينار - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يقول عند كل حصاة يرميها بسم الله والله أكبر، ويرمي بيد واحدة بيده اليمنى. وقال في " النوازل " يكبر مع كل حصاة، ويقول اللهم اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً. وقال أبو عمر بن عبد(4/240)
حصاة، كذا روي ابن مسعود، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ولو سبح مكان التكبير أجزأه) لحصول الذكر، وهو من آداب الرمي، ولا يقف عندها؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لم يقف عندها. ويقطع التلبية مع أول حصاة؛ لما روينا عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تأقيت في دعاء الرمي عند الفقهاء، وإنما هو ذكر ودعاء، وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه إذا كان يرمي يقول بسم الله اللهم لك الحمد والشكر، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول كلما رمى حصاة اللهم اهدني بالهدى، وقوني بالتقوى، واجعل الآخرة خيراً لي من الأولى، والمعروف عندنا أن يقول عند كل حصاة بسم الله والله أكبر، رغماً للشيطان وحزبه ويقوم التسبيح والتهليل مقامه.
م: (كذا روي ابن مسعود، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أما حديث ابن مسعود فأخرجه البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن زيد قال عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة الحديث.
وأما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فأخرجه البخاري عن الزهري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سمعت سالماً يحدث عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رمى الجمرة رماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة» .. الحديث.
م: (ولو سبح مكان التكبير أجزأه لحصول الذكر) ش: أي ذكر الله تعالى م: (وهو من آداب الرمي) ش: أي التكبير من آداب الرمي ولهذا لو سبح مكان التكبير جاز لحصول المقصود وهو الذكر م: (ولا يقف عندها) ش: أي عند جمرة العقبة م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقف عندها) ش: كان إذا رمى الجمرة ... الحديث، وفيه: ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات يكبر كلما رماها بحصاة، ثم ينصرف ولا يقف عندها.
م: (ويقطع التلبية مع أول حصاة؛ لما روينا عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أشار به إلى قوله فيما مضى، ولنا ما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما زال يلبي حتى أتى جمرة العقبة» هكذا قال الأترازي، وقال مخرج الأحاديث: كأن المصنف ذهل، فإنه لم يذكر هذا عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأما ما ذكر عند التكبير مع كل حصاة إلا أن يكون مفهوماً، فإنه قوله: يكبر مع كل حصاة، يدل على أنه قطع التلبية مع أول كل حصاة، وصرح به البيهقي في " المعرفة "، فإنه قال بعد أن ذكره من جهة مسلم: وفيه دلالة على أنه قطع التلبية بأول حصاة ثم كان يكبر مع كل حصاة، انتهى، ورمى جمرة العقبة بأول حصاة.(4/241)
وروى جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع التلبية عند أول حصاة رمى بها جمرة العقبة.
ثم كيفية الرمي أن يضع الحصاة على ظهر إبهامه اليمنى، ويستعين بالمسبحة ومقدار الرمي أن يكون بين الرامي، وبين موضع السقوط خمسة أذرع فصاعدا، كذا روى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن ما دون ذلك يكون طرحا، ولو طرحها طرحا أجزأه لأنه رمى إلى قدميه، إلا أنه مسيء لمخالفته السنة. ولو وضعها وضعا لم يجزئه؛ لأنه ليس برمي، ولو رماها فوقعت قريبا من الجمرة يكفيه؛ لأن هذا القدر مما لا يمكن الاحتراز عنه، ولو وقعت بعيدا منها لا يجزئه؛ لأنه لم يعرف قربة إلا في مكان مخصوص.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وروى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع التلبية عند أول حصاة رمى بها جمرة العقبة» ش: هذا الحديث لم يتعرض إليه أحد من الشراح، وهذا مفهوم ما جاء في حديث جابر الطويل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة» ... الحديث.
[كيفية رمي الجمرات ومقداره]
م: (ثم كيفية الرمي أن يضع الحصاة على ظهر إبهامه اليمنى، ويستعين بالمسبحة) ش: أي بالسبابة وهي التي تلي الإبهام. قيل: إن المسبحة اسم جاهلي، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - اختلف المشايخ في كيفية الرمي، قال بعضهم يضع الحصاة على ظهر إبهامه ويستعين بالمسبحة كأنه عاقد سبعين. وقيل يأخذها بطرف إبهامه وسبابته كأنه عاقداً ثلاثين ويرميها، وقال بعضهم يحلق سبابته ويضعها على مفصل إبهامه كأنه عاقد عشرة ويرميها وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وفي " الفتاوي الظهيرية " قال مشايخ بخارى كيفما رمى فهو جائز، والأول أصح، كذا في " المحيط " وقيل يضع رأس الإبهام عند وسط السبابة ويرمي بظفر الإبهام، وفي " البدائع «عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه وضع إحدى سبابتيه على الأخرى كأنه يحذف وكيفما رمى جاز» .
م: (ومقدار الرمي أن يكون بين الرامي، وبين موضع السقوط خمسة أذرع فصاعدا، كذا روى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن ما دون ذلك يكون طرحا) ش: فيكون مسبباً لمخالفة السنة م: (ولو طرحها طرحا أجزأه لأنه رمى إلى قدميه، إلا أنه مسيء لمخالفته السنة. ولو وضعها وضعا لم يجزئه؛ لأنه ليس برمي) ش: حكى القاضي عياض - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن المالكية أن الطرح والوضع لا يجزئ، قال: وقال أصحاب الرأي يجزئ الطرح ولا يجزئ الوضع.
قال: ووافقنا أبو ثور إلا أنه قال: إن كان يسمى الطرح رمياً أجزأه. وحكى إمام الحرمين عن بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يكفي الوضع.
م: (ولو رماها فوقعت قريبا من الجمرة يكفيه؛ لأن هذا القدر مما لا يمكن الاحتراز عنه، ولو وقعت بعيدا منها لا يجزئه؛ لأنه) ش: أي لأن الرمي م: (لم يعرف قربة إلا في مكان مخصوص) ش: وهو الجمرة، لأن نفس الرمي ليس بقربة فلا يقع قربة إلا في المكان المخصوص الذي عينه الشارع.(4/242)
ولو رمى بسبع حصيات جملة، فهذه الجملة واحدة؛ لأن المنصوص عليه تفرق الأفعال، ويأخذ الحصاة من أي موضع شاء، إلا من عند الجمرة فإن ذلك يكره؛ لأن ما عندها من الحصى مردود، هكذا جاء في الأثر فيتشاءم به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو رمى بسبع حصيات جملة، فهذه واحدة) ش: أي رمية واحدة فعليه أن يأتي بالبقية م: (لأن المنصوص عليه تفرق الأفعال) ش: أي لأن المنصوص هو فعل الرمي بسبع حصيات متفرقات لا عين الحصيات. وقال الحاكم الشهيد في " الكافي ": وإن رماها بأكثر من سبع لم تضره تلك الزيادة م: (ويأخذ الحصى من أي موضع شاء، إلا من عند الجمرة، فإن ذلك يكره) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن شعبان المالكي لا يجوز. وقال الحاكم الشهيد في " الكافي " فإن رماها بحصاة أخذها من عند الجمرة أجزأه، وقد أساؤوا.
وقال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرحه "، فإن رمى بحجر من الجمرة جاز، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز. لنا أن الرمي لا يغير صفة الحجر، فجاز الرمي كما جاز في الابتداء بخلاف الماء المستعمل عندنا حيث لا يجوز استعماله ثانياً لأنه انتقلت النجاسة إليه بالاستعمال، وقال القدوري: والعجب من مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث جوز الوضوء بالماء المستعمل وإن كان الاستعمال يغير اسم الماء ومنع الرمي بالحجر وإن كان الرمي لا يغير صفته، انتهى.
قلت: ذكر الكاكي مالكاً والشافعي - رحمهما الله - ينافي هذه المسألة.
م: (لأن ما عندها من الحصى مردود) ش: أي لأن ما عند الجمرة من الحصى مردود لم يقبل الله من راميه م: (هكذا جاء في الأثر) ش: أي بكونه مردوداً جاء الحديث م: (فيتشاءم به) ش: أي فيعد مشئوماً مانعاً إلا به، والأثر أخرجه أبو نعيم في " دلائل النبوة " عن عبد الله بن خراش عن العوام عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما قبل حج امرئ إلا رفع حصاه» ، ورواه إسحاق بن راهويه في " مسنده " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال في حصى الجمار ما قبل منه رفع وما لا يقبل منه ترك، وروى ابن أبي شيبة أيضاً نحوه موقوفاً. وروى الحاكم في " مستدركه " والدارقطني في " سننه " عن يزيد بن سنان عن زيد بن أبي شيبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أبي سعيد الخدري قال: «قلنا يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الجمار التي يرمى بها كل عام فنحسب أنها تنقص فقال إن ما قبل منها رفع ولولا ذلك لرأيتها أمثال الجبال» قال الحاكم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حديث(4/243)
ومع هذا لو فعل أجزأه، لوجود فعل الرمي،
ويجوز الرمي بكل ما كان من أجزاء الأرض عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ويزيد بن سنان ليس بالمتروك. وأعله الشيخ في " الإمام " بأن يزيد بن سنان فيه مقال. وقال صاحب " التنقيح " هذا حديث لا يثبت، فإن أبا فروة يزيد بن سنان ضعفه الإمام أحمد والدارقطني - رحمهما الله - وغيرهما، وتركه النسائي وغيره.
ورواه ابن أبي شيبة في " منصفه " موقوفاً على أبي سعيد، وقال ما تقبل من حصى الجمار رفع، والكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر هنا عند قوله، هكذا جاء الأثر قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من قبلت حجته رفعت جمرته» وعن سعيد بن جبير - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: قلت لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ما بال الجمار ترمى من وقت الخليل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[.....] لسد الأفق، فقال أما علمت أن من تقبل حجته ترفع حصاه، ومن لم تقبل حجته ترك حصاه. قال مجاهد لما سمعت هذا منه جعلت على حصياتي علامة، ثم توسطت الجمرة من كل جانب فلم أجدها، كذا في " المبسوط " وقال الأترازي هنا: ولا يأخذ من الجمار التي رميت عند الجمرة لما قيل إنها حصى من لم تقبل حجته، فإن من قبلت حجته رفعت جمرته، وقال: وقد روي عن سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لابن عباس، فذكر مثل ما ذكره الكاكي إلى قوله [
] ، وقال ابن عباس: أما علمت أن من قبل حجته رفع حصاه، انتهى.
قلت: كل هذا من عدم اطلاعهم على كتب الحديث وما آفة ذاك إلا من التقليد.
م: (ومع هذا) ش: أي وعلى ما ذكرنا من أن أخذه الحصى من عند الجمرة مكروه م: (لو فعل) ش: أي لو أخذ من موضع الجمرة م: (أجزأه لوجود فعل الرمي) ش: لأن المقصود التشبه بإبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إهانة الشيطان وإنه حاصل.
م: (ويجوز الرمي بكل ما كان من أجزاء الأرض عندنا) ش: سواء كان مدراً أو طيناً أو يابساً أو قبضة تراب، وفي السروجي وكذا المغرة والنورة والزرنيخ والأحجار النفيسة كالياقوت والزمرد والبلخش ونحوها والملح الحيلي والكحل والزبرجد والبلور والعقيق والفيروز، بخلاف الحشيش والعنبر واللؤلؤ والذهب والفضة والجواهر وهي كبار اللؤلؤ فإنها ليست من أجزاء الأرض، وبقولنا قال الثوري.
م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإنه عنده لا يجوز إلا بالحجر، وفي " السروجي " وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - المرمر والدام، والكران وحجر النورة قبل أن يطبخ، وحجر الحديد على(4/244)
لأن المقصود فعل الرمي، وذلك يحصل بالطين كما يحصل بالحجر، بخلاف ما إذا رمى بالذهب أو الفضة فإنه لا يجوز، لأنه يسمى نثارا لا رميا.
قال: ثم يذبح إن أحب ثم يحلق أو يقصر لما روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نرمي ثم نذبح، ثم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المذهب الصحيح، ومما يتخذ منه الفصوص كالفيروزج والياقوت والعقيق والبلور والزبرجد في أصح الوجهين، وهو قول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - و [.....] مع أنه نوع من الحجر. وبقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال مالك: وقال القاضي من الحنابلة لا يجوز بالدام والحام والكران، وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز الحجر الكبير، وذهب أبو داود إلى أنه يجوز بكل شيء حتى البعرة والعصفور الميت، وقال ابن المنذر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز إلا بالحصى، ذكره القرطبي.
م: (لأن المقصود فعل الرمي) ش: هذا تعللينا، ولم يذكر تعليل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، هو يقول أن المأثور هو الحجر م: (وذلك) ش: أي المقصود من الرمي م: (يحصل بالطين كما يحصل بالحجر) ش: والمقصود هو إهانة الشيطان وهو يحصل بكل ما كان مهاناً في نفسه من أجزاء الأرض، هكذا ذكره الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال الكاكي: المقصود التشبه بإبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إهانة الشيطان، انتهى.
قلت: في كلام كل منهما نظر، أما كلام الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه قال بكل ما كان مهانا في نفسه، فالياقوت والزمرد والبلخش والزبرجد والبلور والعقيق والفيروزج عزيزة في أنفسها غير مهانة، فعلى تعليله ينبغي أن لا يجوز الرمي بهذه الأشياء، وأما كلام الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه قال: المقصود التشبه بإبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ففي الرمي بهذه الأشياء لا يوجد التشبه.
م: (بخلاف ما إذا رمى بالذهب أو الفضة، فإنه لا يجوز، لأنه يسمى نثارا لا رميا) ش: فيه نظر، لأن فيه الرمي حقيقة، بل قوله - لأنه يسمى نثاراً - صحيح، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأنه نثار لا رمي، فلم يدل على الإهانة، بل على الإعزاز، وفيه أيضاً نظر، لأن الإعزاز في الياقوت ونحوه مما ذكرنا أقوى وأشد وأظهر فعلى كلامه ينبغي أن لا يجوز ومع هذا يجوز.
[ذبح الهدي والحلق والتقصير للحاج]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ثم يذبح) ش: بعد رمي جمرة العقبة م: (إن أحب) ش: أي الذبح، يعني إن شاء، وأما على المحبة باعتبار الدم على المفرد مستحب لا واجب، والكلام في المفرد لا في القارن والمتمتع، فإن الدم واجب عليهما م: (ثم يحلق أو يقصر) ش: إنما تردد بين الحلق والتقصير، لأن أحدهما واجب، سواء كان مفرداً أو قارناً أو متمتعاً، لكن الحلق أفضل، وفي " المبسوط " أنه خير بين الحلق والتقصير إذا لم يكن شعره ملبداً أو معقوصاً أو مصفراً، فإن كان لا يتخير بل يلزمه الحلق، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم وأحمد وقال في الجديد يجوز القصر.
م: (لما روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نرمي، ثم نذبح ثم نحلق ") ش: هذا(4/245)
نحلق» ولأن: الحلق من أسباب التحلل، وكذا الذبح حتى يتحلل به المحصر، فيقدم الرمي عليهما، ثم الحلق من محظورات الإحرام فيقدم عليه الذبح، وإنما علق الذبح بالمحبة لأن الدم الذي يأتي به المفرد تطوع، والكلام في المفرد، والحلق أفضل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رحم الله المحلقين» قاله ثلاثا ... الحديث ظاهر بالترحم عليهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غريب، وأخرجه الجماعة إلا ابن ماجه عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى منى وأتى الجمرة ورماها ثم أتى منزله منى فنحر ثم قال للحلاق خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس» .
م: (ولأن: الحلق من أسباب التحلل، وكذا الذبح حتى يتحلل به المحصر) ش: أي الذبح أيضاً من أسباب التحلل كالحلق، وهكذا يتحلل به المحصر، وليس عليه حلق أو تقصير في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - على ما يجيء بيانه في باب الإحصار م: (فيقدم الرمي عليهما) ش: أي على الذبح م: (ثم الحلق من محظورات الإحرام) ش: أي من ممنوعاته م: (فيقدم عليه الذبح) ش: أي على الحلق، فأخر لذلك م: (وإنما علق الذبح بالمحبة) ش: أي إنما علق القدوري الذبح بقوله إن أحب.
م: (لأن الدم الذي يأتي به المفرد تطوع) ش: لأنه مسافر م: (والكلام) ش: يعني في هذا الباب م: (في المفرد) ش: يعني في الحاج المفرد وقد ذكرنا هذا عن قريب م: (والحلق أفضل) ش: أي من التقصير م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رحم الله المحلقين، قاله ثلاثاً» ... الحديث) ش: هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله» . وفي رواية البخاري «لما كان الرابعة قال: و " المقصرين»
قوله الحديث - بالنصب، أي آخر الحديث إلخ، ويجوز رفعه على أنه مبتدأ محذوف الخبر م: (ظاهر بالترحم عليهم) ش: أي ظاهر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالترحم على المحلقين.
قال الأكمل: أي كرر الترحم عليهم، وقال الكاكي: المراد به ها هنا التلفظ به مراراً، يعني كرر لفظ رحم الله، وهو قريب من الأول، قال تاج الشريعة حيث قال: ثلاث مرات حيث قال رحم الله المحلقين من ظاهر بين الثوبين، إذ ليس أحدهما فوق الآخر.
قلت: ظاهر من باب المفاعلة وأصله للمشاركة بين اثنين، وها هنا ليس كذلك، بل هو بمعنى فعل كما في قَوْله تَعَالَى {وَسَارِعُوا} [آل عمران: 133] أي أسرعوا، وفي الحديث ظاهر بين درعين، أي ظهر بينهما معناه ليس أحدهما فوق الآخر، ومنه بارز علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم بدر، أي نصر وأعان، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله ظاهر الحديث بالترحم عليهم، ورفع لفظ الحديث، فيدل على أن لفظ الحديث هو فاعل، وظاهر فعله، وبالترحم في محل المفعول وليس كذلك، بل فاعل ظاهر هو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ذكرنا فافهم.(4/246)
ولأن الحلق أكمل في قضاء التفث وهو المقصود، وفي التقصير بعض التقصير، فأشبه الاغتسال مع الوضوء، ويكتفى في الحلق بربع الرأس اعتبارا بالمسح، وحلق الكل أولى اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي التقصير أن يأخذ من رؤوس شعره مقدار الأنملة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن الحلق أكمل في قضاء التفث) ش: أي في إزالة الوسخ، لأن قضاء التفث قص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة، والتفث بالفتحات الوسخ، ومادته بالمثناة من فوق وفاء وتاء مثلثة، وكون الحلق أكمل إجماع، واختلف فيمن وجب عليه الحلق، وليس على رأسه شعر، قيل يجب عليه إمرار الموسى على رأسه، وبه قال مالك وبعض أصحاب الشافعي - رحمهما الله -، لأن الواجب عليه إمرار الموسى على رأسه وإزالة الشعر، إلا أنه عجز عن أحدهما وقدر على الآخر، فما قدر عليه بقي وما عجز عنه سقط، وقال بعضهم يستحب وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - م: (وهو المقصود) ش: أي إزالة التفث هو المقصود.
م: (وفي التقصير بعض التقصير) ش: أي في تقصير شعر رأسه بعض التقصير في إقامة السنة وإنما قيد بالبعض لأن كلاً من الحلق والتقصير جائز، ولكن الحلق أفضل من التقصير، وفيه نوع قصور م: (فأشبه الاغتسال مع الوضوء) ش: فإن المغتسل إذا ترك الوضوء واكتفى بغسله فإنه يجوز، ولكن الأفضل أن يتوضأ أولاً ثم يغتسل، فإن في ترك الوضوء نوع قصور.
م: (ويكتفي في الحلق بربع الرأس اعتبارا بالمسح) ش: في الوضوء، لأن الربع يقوم مقام الكل م: (وحلق الكل أولى اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي أفضل، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعنده أقل ما يجزئ ثلاث شعرات أو يقصر بها، وقال مالك وأحمد - رحمهما الله - بحلق الكل أو الأكثر بناء على مسح الرأس، وفي حمل النوازل حلق كله مسنون.
م: (وفي التقصير أن يأخذ من رؤوس شعره مقدار الأنملة) ش: وهذا التقدير مروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعليه إجماع الأمة والمرأة فيه كالرجل. وفي " الولوالجي " تقصر ربع رأسها مقدار الأنملة - وكذا الرجل تأخذ من كل قرن بقدر الأنملة، ولو تنور حتى زال شعره فهو كالحلق، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومن لا شعر له لو أمر موسى لا يأخذ من لحيته أو شاربه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يأخذ استحباباً، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فعل ذلك. قلنا: فعل ذلك اتفاقاً لا قصداً، والحلق من يمين الحالق، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من يمين المحلوق، فاعتبرنا يمين المحلوق، وقال الكرماني ذكره بعض أصحابنا ولم يعزه إلى أحد، بل الأولى اتباع السنة، فإنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بدأ بيمينه.
وقال الكاكي: وقد أخذ أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقول الحجام حين قال أذن الشق الأيمن من رأسه وفيه حكاية معروفة.(4/247)
وقد حل له كل شيء إلا النساء. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإلا الطيب أيضا؛ لأنه من دواعي الجماع. ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه: «حل له كل شيء إلا النساء»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الحكاية هي ما روي عن وكيع قال: قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أخطأت في ستة أبواب من المناسك علمنيها حجام، وذلك حين أردت أن أحلق رأسي وقفت على حجام، فقلت له بكم تحلق رأسي؟ فقال لي: أعرابي أنت، فقلت: نعم، قال النسك لا يشترط عليه، اجلس، فجلست منحرفاً عن القبلة، فقال لي حول وجهك إلى القبلة، فحولت وأردت أن يحلق رأسي من الجانب الأيسر، فقال لي أدر الشق الأيمن من رأسك، فأدرته، فجعل يلحق وأنا ساكت، فقال لي كبر، فجعلت أكبر حتى قمت لأذهب، فقال: رأيت عطاء بن أبي رباح يفعل هذا، أخرجه أبو الفرج في مسير القوم الساكن إلى أشرف الأماكن اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أخرج الجماعة إلا ابن ماجه عن ابن سيرين عن أنس بن مالك قال: «لما رمى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجمرة ونحر نسكه وحلق ناول الحالق شقه الأيمن، فحلقه ثم دعا أبا طلحة الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأعطاه ثم ناوله الآخر، فقال احلق فحلقه أبو طلحة، فقال: " اقسمه بين الناس» ، والتقصير أن يأخذ من رؤوس شعره مقدار الأنملة وقد مر الآن.
[التحلل الأصغر والأكبر للحاج]
م: (وقد حل له) ش: أي لهذا الحاج المفرد م: (كل شيء) ش: من محظورات الإحرام م: (إلا النساء) ش: قال الأترازي: الرواية بنصب - النساء - لأنه مستثنى من الموجب.
م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإلا الطيب أيضاً) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله وقال الليث إلا النساء والصيد، كذا في " شرح مختصر الكرخي " م: (لأنه) ش: أي الطيب م: (من دواعي الجماع) ش: كالمس والقبلة، ولهذا حرم الطيب على المعتدة وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا يحل الطيب. م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (فيه) ش: أي فيمن رمى وحلق وذبح م: (حل له كل شيء إلا النساء) ش: هذا أخرجه الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الآثار " بإسناده إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء» . وروى أبو داود عن حجاج بن أرطاة عن الزهري عن عمرة عن عائشة قالت، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء» ، قال أبو داود: هذا الحديث ضعيف، والحجاج بن أرطاة لم ير الزهري ولم يسمع منه.(4/248)
وهو مقدم على القياس. ولا يحل له الجماع فيما دون الفرج عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه قضاء الشهوة بالنساء فيؤخر إلى تمام الإحلال.
ثم الرمي ليس من أسباب التحلل عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو يقول: إنه يتوقت بيوم النحر كالحلق فيكون بمنزلته في التحليل. ولنا أن ما يكون محللا يكون جناية في غير أوانه كالحلق، والرمي ليس بجناية في غير أوانه، بخلاف الطواف؛ لأن التحلل بالحلق السابق لا به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهو مقدم على القياس) ش: أي الحديث مقدم على القياس الذي قاسه مالك، حيث لم يجوز الطيب بالقياس، وقال الجماع لا يحل له بعد الحلق قبل الطواف، فكذا الطيب. لأنه من دواعي الجماع، وجوابه هو قوله - وهو مقدم على القياس - حاصله لا نسلم بأن الطيب من دواعي الجماع، ولئن سلمنا لكن نقول العمل بخبر الواحد أولى من العمل بالقياس، لأن الشبهة في القياس في أصله وفي خبر الواحد في نقله لا في أصله.
م: (ولا يحل له الجماع فيما دون الفرج عندنا) ش: كالبطن ونحوه م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن عنده في أحد قوليه يحل الجماع فيما دون الفرج والمباشرة م: (لأنه) ش: أي لأن الجماع فيما دون الفرج م: (قضاء الشهوة بالنساء فيؤخر إلى تمام الإحلال) ش: وهو بعد الطواف.
م: (ثم الرمي) ش: أي رمي جمرة العقبة م: (ليس من أسباب التحلل عندنا) ش: وقبل الحلق م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فعنده يتحلل بعد الرمي، ويحل له كل شيء إلا النساء م: (هو) ش: أي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يقول: إنه) ش: أي إن التحلل م: (يتوقت بيوم النحر كالحلق) ش: فإنه يحل له بعد الرمي، وهو من محظورات الإحرام م: (فيكون) ش: أي الرمي م: (بمنزلته) ش: أي بمنزلة الحلق م: (في التحليل) ش: لأن كل ما هو يتوقت بيوم النحر فهو محلل كالحلق.
م: (ولنا أن ما يكون محللا يكون جناية في غير أوانه) ش: لأن كل ما هو يتوقت بيوم النحر فهو محلل، لأن قبل أوانه فيه صفة الحظر كالسلام في الصلاة فإنه في غير أوانه جناية م: (كالحلق والرمي ليس بجناية في غير أوانه) ش: فإن قلت: يشكل على هذا دم الإحصار فإنه للتحلل وهو ليس محظور الإحرام.
قلت: قال في " النهاية ": الأصل فيما شرع هو الذي ذكر في الكتاب، وهو أن يكون محظور الإحرام، وأما دم الإحصار فهو ليس بأصل في التحلل، وإنما صير إليه لضرورة المنع.
م: (بخلاف الطواف) ش: هذا جواب عما يقال الطواف محلل في حق النساء وليس بمحظور الإحرام، وتقديره هو قوله م: (لأن التحلل) ش: في حق النساء إنما وقع م: (بالحلق السابق لا به) ش: أي لا بالطواف، إلا أن الحلق قد يراعى بعض حكمه، وذلك في حق النساء يكون(4/249)
قال: ثم يأتي مكة من يومه ذلك، أو من الغد، أو من بعد الغد، فيطوف بالبيت طواف الزيارة سبعة أشواط، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حلق أفاض إلى مكة فطاف بالبيت ثم عاد إلى منى وصلى الظهر بمنى. ووقته أيام النحر؛ لأن الله تعالى عطف الطواف على الذبح قال: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] (28 الحج) ، ثم قال {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الطواف مؤدى في الإحرام ليظهر كونه ركناً.
فإن قلت: روي في السنن عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء» .
قلت: قد مر هذا الحديث مع جوابه.
[طواف الزيارة]
م: (ثم يأتي مكة من يومه ذلك) ش: وفي بعض النسخ م: (قال: ثم يأتي مكة) ش: قال: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم يأتي الحاج المفرد مكة من يومه ذلك، يعني يوم النحر م: (أو من الغد) ش: أي أو يأتي من يوم الغد، وهو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة م: (أو من بعد الغد) ش: وهو اليوم الثاني عشر من ذي الحجة م: (فيطوف بالبيت طواف الزيارة سبعة أشواط، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حلق أفاض إلى مكة، فطاف بالبيت ثم عاد إلى منى، وصلى الظهر بمنى» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى.»
فإن قلت: في حديث جابر الطويل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه صلى يوم النحر بمكة ولفظه قال ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر ... الحديث.
قلت: قال ابن حزم - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحد الخبرين وهم، إلا أن الغالب أنه صلى الظهر بمكة لوجود ذكرها، وقال غيره يحتمل أنه أعادها لبيان الجواز. وقال أبو الفتح اليعمري في " سيرته ": وقع في رواية ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع في يومه إلى منى فصلى الظهر» وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى الظهر ثم اليوم بمكة، ولا شك أن أحد الخبرين وهم ولا ندري أيهما لصحة الطريق في ذلك.
م: (ووقته) ش: أي وقت طواف الزيارة م: (أيام النحر) ش: وهي ثلاثة أيام العاشر والحادي عشر، والثاني عشر م: (لأن الله تعالى عطف الطواف على الذبح قال: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] (الحج: الآية 28) ش:، ثم قال {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ش: أي قال الله عز وجل {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28](4/250)
فكان وقتهما واحدا، وأول وقته بعد طلوع الفجر من يوم النحر؛ لأن ما قبله من الليل وقت الوقوف بعرفة والطواف مرتب عليه، وأفضل هذه الأيام أولها كما في التضحية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] (الحج: الآية 28) ، والمراد بالذكر والله أعلم التسمية على ما ينحر لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] ليس بأمر لازم، إن شاء أكل من أضحيته، وإن شاء لم يأكل، وهذا الأمر كما في قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] (المائدة: الآية 2) ، فإن مثل هذا الأمر للإباحة سعة لنا، وإذا قلنا بالوجوب يعود علينا.
قوله - البائس - هو الذي له بؤس، وهو شدة الفقر، يقال بئس الرجل، وبئس إذا صار ذا بؤس. قوله تفثهم التفث الأخذ من الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والأخذ من الشعر وكأنه الخروج من الإحرام إلى الإحلال، والبيت العتيق القديم، سمي به لأنه أعتق من الغرق أيام الطوفان، وقيل: إنه أعتق من الجبابرة فلم يغلب عليه جبار، وقيل: لأنه لم يدعه أحد من الناس. قوله ثم قال وليطوفوا بالبيت العتيق فإنه عطف النحر، والنحر مؤقت بأيام النحر.
م: (فكان وقتهما واحداً) ش: أي وقت النحر والطواف، لأن حكم المعطوف حكم المعطوف عليه، إلا أن الأضحية لم تشرع بعد أيام النحر والطواف مشروع بعد ذلك.
فإن قلت: هذا الطواف يجوز أداؤه بعد أيام النحر، ولو كان مؤقتاً لما جاز القضاء بعد الوقت كرمي الجمار والوقوف بعرفة.
قلت: إنما لا يجوز قضاؤهما بعد الوقت لا لأنهما مؤقتان، بل لأن القضاء شرع بالتطوع، والتطوع بهما غير مشروع، بخلاف التطوع بالطواف، فإنه مشروع، كذا في " مبسوط " البكري. م: (وأول وقته) ش: أي أول وقت طواف الزيارة م: (بعد طلوع الفجر من يوم النحر لأن ما قبله من الليل وقت الوقوف بعرفة، والطواف مرتب عليه) ش: أي على الوقوف، وبقولنا قال مالك وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أول وقته إذا انتصف الليل من ليلة النحر، وبه قال أحمد، وآخر وقته اليوم الثاني من أيام التشريق، فإن أخره عنها طاف وعليه دم عند أبي حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: لا شيء عليه، وفي " شرح القدوري ": آخره آخر أيام التشريق عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما آخره غير موقت، وبه قال الشافعي وأحمد وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخره بمضي ذي الحجة، وعن الشافعي وأحمد - رحمهما الله - أول وقته من نصف الليل، وأفضله ضحى نهاره، وآخره غير مؤقت.
م: (وأفضل هذه الأيام) ش: أي أيام النحر م: (أولها كما في الأضحية) ش: فإن التضحية في(4/251)
ففي الحديث "أفضلها أولها". فإن كان قد سعى بين الصفا والمروة عقيب طواف القدوم لم يرمل في هذا الطواف ولا سعي عليه، وإن كان لم يقدم السعي رمل في هذا الطواف وسعى بعده؛ لأن السعي لم يشرع إلا مرة، والرمل ما شرع إلا مرة في طواف بعده سعي. ويصلي ركعتين بعد هذا الطواف؛ لأن ختم كل طواف بركعتين فرضا كان الطواف أو نفلا لما بيناه. قال: وقد حل له النساء، ولكن بالحلق السابق إذ هو المحلل لا بالطواف، إلا أنه أخر عمله في حق النساء. قال: وهذا الطواف هو المفروض في الحج، وهو ركن فيه، إذ هو المأمور به في قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] (29 الحج) ، ويسمى طواف الإفاضة، وطواف الزيارة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أول أيام النحر أفضل م: (ففي الحديث أفضلها) ش: أي وجاء في حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل التضحية أول أيامها، وهذا الحديث غريب جداً، يعني لم يثبت، والأولى أن يقال هذا بالإجماع.
م: (فإن كان قد سعى بين الصفا والمروة عقيب طواف القدوم لم يرمل في هذا الطواف) ش: أي طواف الزيارة م: (ولا سعي عليه) ش: أي بين الصفا والمروة م: (وإن كان لم يقدم السعي) ش: يعني عقيب طواف القدوم م: (رمل في هذا الطواف وسعى بعده؛ لأن السعي لم يشرع إلا مرة، والرمل ما شرع إلا مرة في طواف بعده سعي) ش: والأصل هنا أن السعي الواجب في الحج موضعه طواف الزيارة، لأنه ذكره في الحج، فيتبعه ما هو الواجب، بخلاف طواف القدوم، فإنه سنة فلا يتبعه ما هو الواجب، لأنه أعلى من السنة فلا يصح أن يكون تبعاً لها، إلا أنه جاز تقديم السعي وفعله عقيب طواف القدوم رخصة طلباً للتخفيف، لأن يوم النحر يوم الاشتغال في الأفعال، فإذا لم يترخص بتقديم السعي عقيب طواف الزيارة لأنه هو العزيمة والأصل في الرمل أن كل طواف بعده سعي ففيه رمل، وكل طواف لا سعي بعده فلا رمل فيه.
م: (ويصلي ركعتين بعد هذا الطواف) ش: أي بعد طواف الزيارة م: (لأن ختم كل طواف بركعتين فرضا كان الطواف أو نفلا لما بيناه) ش: أي في طواف القدوم وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وليصل الطائف لكل أسبوع ركعتين " م: (قال: وقد حل له النساء) ش: وفي بعض النسخ قال أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقد حل له النساء، أي بعد الطواف م: (ولكن بالحلق السابق إذ هو المحلل لا بالطواف، إلا أنه أخر عمله في حق النساء) ش: أي إلا أن الشأن أو الحلق آخر عمله في آخر عمله النساء، لأن الطواف لا يصلح للتحلل، وهذا كالطلاق الرجعي فإنه محرم إلا أنه أخر عمله إلى انقضاء العدة، فإن الفرقة بعد انقضائها تضاف إلى الطلاق لا إلى الانقضاء.
م: (قال: وهذا الطواف) ش: أي طواف الزيارة م: (هو المفروض في الحج، وهو ركن فيه) ش: أي في الحج م: (إذ هو المأمور به في قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] (الحج: الآية 28) ش:، ويسمى طواف الإفاضة) ش: عند أهل الحجاز م: (وطواف الزيارة) ش: عند أهل العراق م:(4/252)
وطواف يوم النحر. ويكره تأخيره عن هذه الأيام لما بينا أنه موقت بها
وإن أخره عنها لزمه دم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وسنبينه في باب الجنايات إن شاء الله تعالى. قال: ثم يعود إلى منى فيقيم بها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع إليها كما روينا، ولأنه بقي عليه الرمي وموضعه بمنى،
فإذا زالت الشمس من اليوم الثاني من أيام النحر رمى الجمار الثلاث فيبدأ بالتي تلي مسجد الخيف فيرميها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عندها، ثم يرمي التي تليها من ذلك ويقف عندها، ثم يرمي جمرة العقبة كذلك ولا يقف عندها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وطواف يوم النحر) ش: أي ويسمى أيضاً يوم النحر، ويسمى أيضاً طواف يوم النحر، ويسمى أيضاً طواف الركن م: (ويكره تأخيره عن هذه الأيام) ش: أي عن أيام النحر م: (لما بينا أنه مؤقت بها) ش: أي بأيام النحر، وهو ما ذكره بقوله ووقته أيام النحر.
م: (وإن أخره) ش: أي إن أخر هذا الطواف م: (عنها) ش: أي عن أيام النحر م: (لزمه دم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وسنبينه في باب الجنايات إن شاء الله تعالى. قال) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - م: (ثم يعود) ش: أي من مكة بعد طواف الزيارة م: (إلى منى فيقيم بها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع إليها) ش: أي إلى منى م: (كما روينا) ش: وهو ما ذكره قبل هذا بقوله وروي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حلق أفاض إلى مكة فطاف» قيل هذا كقوله «روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف بالبيت ثم عاد إلى منى وصلى الظهر بمنى» م: (ولأنه) ش: أي ولأن الحاج م: (بقي عليه الرمي وموضعه بمنى) ش: وفي " شرح مختصر الكرخي " قال القدوري، قال أصحابنا: إذا بات بمكة فقد أساء ولا شيء عليه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن بات ليلة فعليه مد، وإن بات ليلتين فعليه مدان، وإن بات ثلاث ليال فعليه دم.
م: (فإذا زالت الشمس من اليوم الثاني من أيام النحر رمى الجمار الثلاث فيبتدئ بالتي) ش: أي بالجمرة التي م: (تلي مسجد الخيف) ش: وهو مسجد إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال في " الديوان " الخيف ما يحد من غلظ الجبل وارتفع عن سبيل الماء، ومنه سمي مسجد الخيف، وفي " المغرب " بالسكون المكان المرتفع نحو خيف منى، أو الذي اختلفت ألوان حجارته، ومنه حديثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نحن نازلون بخيف بني كنانة " يعني المحصب.
قلت: الخيف خيفان، خيف منى، وخيف بني كنانة، قوله - بالجمرة التي تلي مسجد الخيف - المراد بالجمرة موضعها، بدليل قوله م: (فيرميها بسبع حصيات) ش: أي يرمي الجمرة، أي موضعها بسبع حصيات م: (يكبر مع كل حصاة، ويقف عندها) ش: أي عند الجمرة الأولى.
م: (ثم يرمي التي) ش: أي الجمرة التي م: (تليها) ش: أي تلي جمرة مسجد الخيف م: (من ذلك) ش: يعني بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة م: (ويقف عندها) ش: أي عند الجمرة الثانية، وهي التي تلي الجمرة التي تلي مسجد الخيف م: (ثم يرمي جمرة العقبة كذلك) ش: أي حصيات م: (ولا يقف عندها) ش: أي عند جمرة العقبة.(4/253)
هكذا روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما نقل من نسك رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مفسرا،
ويقف عند الجمرتين في المقام الذي يقف فيه الناس، ويحمد الله تعالى، ويثني عليه، ويهلل، ويكبر، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويدعو الله تعالى بحاجته،
ويرفع يديه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (هكذا روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما نقل من نسك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مفسرا) ش: نصب على الحال من قوله - هكذا - من أنه مفعول - روي - ويجوز أن يكون حالاً من الموصول في قوله - فيما نقل - أي فيما نقله، ويجوز حذف الراجع إلى الموصول عند أهل العلم به، ثم الحديث الذي نسبه المصنف إلى جابر غريب عن جابر، والذي روي عن جابر - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حديثه الطويل أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى جمرة العقبة يوم النحر لا غير، وروى أبو داود في " سننه " عن ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «أفاض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها» . قال المنذري في " مختصره ": حديث حسن، ورواه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم " في مستدركه " وقال: صحيح على شرط مسلم.
م: (ويقف عند الجمرتين) ش: أي الجمرة الأولى والوسطى م: (في المقام الذي يقف فيه الناس) ش: وهو أعلى الوادي، كذا في " المحيط " م: (ويحمد الله تعالى ويثني عليه، ويهلل، ويكبر، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويدعو الله تعالى بحاجته) ش: وكان ابن عمر وابن عباس وسعيد بن جبير والأسود وطاوس والنخعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يطلبون القيام عند الجمرتين وقال ابن المنذر ولا شيء عليه في ترك القيام، لأنه سنة لا عند الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإنه قال: يريق دماً.
م: (ويرفع يديه) ش: يعني عند الوقوف في الجمرتين، وفي المرغيناني يرفعهما حذو منكبيه بسطا، وفي " الينابيع " يرفع يديه عقيب كل حصاة ويكبر ويهلل ويسبح ويحمد الله تعالى ويثني عليه ويسأل حاجته ثم يأتي المقام، وقيل: إنه يقول عند كل حصاة يرميها بيمينه بسم الله والله أكبر ثم يرفع يديه ويقول: اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً وعملا مشكوراً، وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال يجب أن يكون بين الرامي وبين المرمى خمسة أذرع، وفي " خزانة الأكمل " إن رماها من بعيد فوقعت الحصاة قريباً من الجمرة أجزأه، وقال الكرماني - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجزئه وهو قول ابن حنبل.
ولو رماها في الهواء فوقعت في المرمى لا يجزئه، ذكره النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويجزئه(4/254)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن» - وذكر من جملتها " عند الجمرتين "، والمراد رفع الأيدي بالدعاء. وينبغي أن يستغفر للمؤمنين في دعائه في هذه المواقف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اللهم اغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاج» ، ثم الأصل أن كل رمي بعده رمي يقف بعده؛ لأنه في وسط العبادة فيأتي بالدعاء فيه، وكل رمي ليس بعده رمي لا يقف لأن العبادة قد انتهت،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الطرح، وإن رمى حصاة فوقعت وطارت أخرى فوقعت الثانية في المرمى دون الأولى لا يجزئه، وإن التقطها طائر قبل وصولها لا يجزئه، وإن وقعت الحصاة على حجر أو أرض صلبة فتدحرجت أو على ثوب إنسان فطارت ووقعت في المرمى أجزأه، وبه قال أحمد والشافعي - رحمهما الله - في الأصح، ولو وقعت في عنق البعير أو على المحمل فتدحرجت إلى المرمى تجزئه، وعند الشافعية لا يجزئه في أظهر الوجهين، ذكرهما النووي. ولو رمى عن القوس أو بالرجل لا يجزئه.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن ") ش: هذا الحديث تقدم في باب صفة الصلاة، ولفظ الحديث في " شرح الآثار " بإثبات الفعل بدون حرف الاستثناء بعده، ولكن الفقهاء ذكروه بنفي الفعل وحرف الاستثناء بعده، وقالوا لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن، ولئن صح ما رواه الفقهاء فهو أبلغ م: (وذكر من جملتها) ش: أي من جملة السبعة م: (عند الجمرتين) ش: الأولى والوسطى م: (والمراد رفع الأيدي بالدعاء) ش: أي المراد من قوله - لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن، رفع الأيدي بالدعاء.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرفع يديه بالدعاء حذو منكبيه، نص عليه محمد، ويجعل بطون كفيه إلى السماء بخلاف الافتتاح، وقال ابن المنذر رفع اليد في الدعاء في المقامين إجماع، ولا نعلم أحداً أنكر ذلك غير مالك، واتباع السنة أولى، وقد ثبت دعاؤه عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المقامين.
م: (وينبغي أن يستغفر للمؤمنين في دعائه في هذه المواقف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اللهم اغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاج» ش: هذا الحديث أخرجه الحاكم في " المستدرك " عن شريك عن منصور عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج» ، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
م: (ثم الأصل أن كل رمي بعده رمي يقف بعده؛ لأنه في وسط العبادة فيأتي بالدعاء فيه) ش: للوقار والسكينة م: (وكل رمي ليس بعده رمي لا يقف لأن العبادة قد انتهت، ولهذا لا يقف؛ بعد(4/255)
ولهذا لا يقف بعد جمرة العقبة في يوم النحر أيضا. قال: وإذا كان من الغد رمى الجمار الثلاث بعد زوال الشمس. كذلك،
وإن أراد أن يتعجل النفر إلى مكة نفر، وإن أراد أن يقيم رمى الجمار الثلاث في اليوم الرابع بعد زوال الشمس؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] (203 البقرة) ، والأفضل أن يقيم لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صبر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جمرة العقبة في يوم النحر أيضاً) ش: لأن العبادة لم تبق.
فإن قلت: الأصل أن الدعاء بعد العبادة كما في الصلاة.
قلت: بل الأصل أن يكون الدعاء مقترنه في العبادة، وإنما أخرت في حق الصلاة لعدم التكلم فيها.
م: (فإن كان من الغد) ش: وفي أكثر النسخ قال أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإذا كان بعد الغد وهو الثالث من أيام النحر، أعني اليوم الثاني عشر من ذي الحجة م: (رمى الجمار الثلاث بعد زوال الشمس. كذلك) ش: أي كما رمى في اليوم الحادي عشر يبتدئ بالجمرة التي تلي مسجد الخيف فيرميها ثم يرمي الجمرة الوسطى ويقف عند الجمرتين ويدعو لحاجته ويرفع يديه ثم يرمي جمرة العقبة ولا يقف عندها ولا يرفع يديه.
م: (وإن أراد أن يتعجل النفر) ش: أي الرجوع من منى إلى مكة نفر إلى مكة م: (وإن أراد أن يقيم) ش: أي بمنى م: (رمى الجمار الثلاث في اليوم الرابع) ش: وهو الثالث عشر من ذي الحجة، والثالث من أيام التشريق، والرابع من يوم النحر م: (بعد زوال الشمس؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] (البقرة الآية: 203) .
ش: المراد من اليومين الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة من نفر بعدما رمى الجمار الثلاث في اليوم الثاني من أيام التشريق فلا إثم عليه وهو النفر الأول، والنفر الثاني في اليوم الثالث وهو آخر أيام التشريق، والحاصل أنه لا إثم عليه في التأجيل، ولا في التعجيل وأنه مخير فيهما، ويجوز التخيير بين التعجيل والتأخير، وإن كان التأخير أفضل، لأنه يجوز التخيير بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار، وإن كان الصوم أفضل.
وقال الزمخشري: قيل: إن أهل الجاهلية كانوا فريقين، منهم من جعل التعجيل إثماً، ومنهم من جعل التأخير إثماً فورد القرآن ينفي الإثم عنهما، ويتعجل يأتي مطاوعاً ومتعدياً، والأول أولى يدل له قوله {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] أي ذلك التأخير ونفي المأثم فيها للحاج الذي يتقي به معاصي الله تعالى.
م: (والأفضل أن يقيم) ش: أي بمنى م: (لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صبر حتى رمى الجمار الثلاث في(4/256)
حتى رمى الجمار الثلاث في اليوم الرابع
وله أن ينفر ما لم يطلع الفجر من اليوم الرابع، فإذا طلع الفجر من اليوم الرابع لم يكن له أن ينفر لدخول وقت الرمي، وفيه خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وإن قدم الرمي في هذا اليوم - يعني اليوم الرابع - قبل الزوال، وبعد طلوع الفجر جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهذا استحسان، وقالا: لا يجوز اعتبارا بسائر الأيام، وإنما التفاوت في رخصة النفر، فإذ لم يترخص التحق بها، ومذهبه مروي عن ابن عباس - رضي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اليوم الرابع) ش: هذا الحديث رواه أبو داود عن ابن إسحاق، وقد ذكرناه عن قريب.
م: (وله أن ينفر ما لم يطلع الفجر من اليوم الرابع) ش: وهو آخر أيام التشريق م: (فإذا طلع الفجر من اليوم الرابع لم يكن له أن ينفر لدخول وقت الرمي) ش: فلا ينفر حتى يرمي م: (وفيه خلاف الشافعي) ش: فإن عنده لا يجوز له النفر إذا غربت الشمس من اليوم الثاني عشر حتى يرمي الجمار الثلاث في اليوم الرابع، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: من أدرك المساء في اليوم الثاني فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس، قلنا: الليل ليس بوقت لرمي اليوم الرابع، لأن ليلة يوم الرابع ملحقة باليوم الثالث في حق الرمي، بدليل أنه لو ترك رمي اليوم الثالث، ورمى في هذه الليلة يجوز بخلاف ما بعد طلوع الفجر، فإنه وقت الرمي فلا يتقي جاره بعد ذلك، وما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غير مشهور، ولو ثبت يحمل على الأفضلية.
م: (وإن قدم الرمي في هذا اليوم - يعني اليوم الرابع - قبل الزوال وبعد طلوع الفجر جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو استحسان، وقالا: لا يجوز) ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (اعتبارا بسائر الأيام) ش: يعني قياساً عليها، وأراد بسائر الأيام اليومين، يوم الثاني والثالث دون اليوم الأول من أيام النحر، فإن رمي جمرة العقبة في ذلك اليوم قبل الزوال جائز بالإجماع م: (وإنما التفاوت في رخصة النفر، فإذ لم يترخص التحق بها) ش: أي بسائر الأيام، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى فيه بعد الزوال، وكون الرمي عبادة لا يعرف إلا بقياس، فيقتصر على مورد النص.
م: (ومذهبه) ش: أي مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (مروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: رواه البيهقي عنه إذا انفتح النهار من يوم النحر فقد حل الرمي والصيد، والانفتاح الارتفاع، وفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محمول على الأفضل بدلالة جواز النفر بحكم الآية، وقياسهما على اليوم الثاني والثالث ضعيف لأنه لا يجوز ترك الرمي فيهما أصلاً، فجاز التقديم أيضاً على الزوال.(4/257)
الله عنهما -؛ ولأنه لما ظهر أثر التخفيف في هذا اليوم في حق الترك؛ فلأن يظهر في حق جوازه في الأوقات كلها أولى، بخلاف اليوم الأول، والثاني، حيث لا يجوز الرمي فيهما إلا بعد الزوال في المشهور من الرواية، لأنه لا يجوز تركه فيهما فبقي على الأصل المروي.
؛ فأما يوم النحر فأول وقت الرمي فيه من وقت طلوع الفجر. وقال الشافعي: أوله بعد نصف الليل لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للرعاء أن يرموا ليلا» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأنه لما ظهر أثر التخفيف في هذا اليوم) ش: يعني اليوم الرابع م: (في حق الترك؛ فلأن يظهر في جوازه في الأوقات كلها أولى، بخلاف اليوم الأول، والثاني، حيث لا يجوز الرمي فيهما إلا بعد الزوال في المشهور من الرواية) ش: إنما قيد بالمشهور، احترازاً عما ذكره الحاكم في " المنتقى " قال: كان أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: الأفضل أن يرمي في اليوم الثاني والثالث بعد الزوال، يعني في اليوم الثاني والثالث من أيام النحر، فإن رمى قبله جاز.
م: (لأنه لا يجوز تركه فيهما) ش: أي لا يجوز ترك الرمي في اليومين م: (فبقي على الأصل المروي) ش: أي بقى حكم الرمي في اليومين على الأصل المروي، يعني لم يجز إلا بعد الزوال وأراد بالمروي ما روي عن جابر قبل هذا، أو أراد بالأصل المروي أن لا يتغير حكم المروي عما كان، والذي روي عن جابر هو «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى جمرة العقبة قبل الزوال يوم النحر ورمى في بعض الأيام بعد الزوال» .
م: (فأما يوم النحر فأول وقت الرمي من وقت طلوع الفجر. وقال الشافعي) ش: - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أوله بعد نصف الليل) ش: وبه قال أحمد وهو قول عطاء م: (لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للرعاء أن يرموا ليلا» ش: هذا رواه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " معجمه " من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للرعاء أن يرموا ليلاً» وروى الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للرعاء أن يرموا ليلاً وأي ساعة يشاءوا من النهار» .
وروى البزار - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده " عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من طريق مسلم ابن خالد الزنجي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(4/258)
ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ترموا جمرة العقبة إلا مصبحين» ويروى " حتى تطلع الشمس "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رخص لرعاء الإبل أن يرموا بالليل» .
وقال ابن القطان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مسلم بن خالد الزنجي شيخ الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ضعفه قوم ووثقه آخرون، وقال البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث، والرعاء بكسر الراء وبالمد جمع راع الغنم، وقد يجمع على رعاة بالضم كقضاة جمع قاض.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا ترموا جمرة العقبة إلا مصبحين» ويروي «حتى تطلع الشمس» ش: الرواية الأولى رواها الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الآثار " حدثنا ابن أبي داود ثنا المقدمي ثنا فضيل بن سليمان حدثني موسى بن عقبة أخبرنا كريب عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر نساءه نقله صبيحة جمع أن يفيضوا مع أول الفجر بسواد ولا يرموا الجمرة إلا مصبحين.» والرواية الثانية رواها الأربعة عن عطاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقدم ضعفة أهله بغلس ويأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس.» فإن قلت: ما وجه الدليل من الحديثين.
قلت: الإصباح يوجد بعد الفجر فيقول ثبت أول الوقت برواية الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ووقت الأفضل بحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
قلت: كأنه ما اطلع في هذا الموضع في كتب الحديث، فالحديثان كلاهما لنا، وما رواه الشافعي يحمل على الليلة الثانية والثالثة.
فإن قلت: احتج الخصم أيضاً بما رواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حديث هشام بن عروة عن أبيه «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت أرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت ففاضت، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - يعني عندها، وروى أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضاً من حديث ابن جريج قال: أخبرنا عطاء - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال أخبرني مخبر «عن أسماء أنها رمت الجمرة، قلت: إنا رمينا الجمرة في ليلة قال: إنما كنا نصنع هذا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.»
قلت: حديث أم سلمة مروي من طرق وليس فيها أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمرها أن ترمي ليلاً، ولأن بين مكة وبين جمرة العقبة ميلين فيجوز أن تكون رمت أول الليل ثم صلت الصبح بمكة. وأما حديث أسماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فمنقطع بروايته عن ابن جريج عن عطاء قال: أخبرني مخبر عن أسماء(4/259)
فيثبت أصل الوقت بالأول، والأفضلية بالثاني. وتأويل ما روي الليلة الثانية، والثالثة؛
ولأن ليلة النحر وقت الوقوف، والرمي يترتب عليه، فيكون وقته بعده ضرورة، ثم عند أبي حنيفة: يمتد هذا الوقت إلى غروب الشمس لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أول نسكنا في هذا اليوم الرمي» جعل اليوم وقتا له، وذهابه بغروب الشمس. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يمتد إلى وقت الزوال، والحجة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فهو منقطع مجهول، ثم إنه لم يذكر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم بذلك فلم يكره.
م: (فيثبت أصل الوقت بالأول) ش: أي يثبت أصل وقت رمي الجمرة بالحديث الأول، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ترموا جمرة العقبة إلا مصبحين» م: (والأفضلية بالثاني) ش: أي وتثبت الأفضلية بالحديث الثاني، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس» . م: (وتأويل ما روي) ش: أي ما روى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (الليلة الثانية، والثالثة) ش: هذا جواب عن الحديث الذي رواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للرعاء أن يرموا ليلاً» وهو أنه محمول على الليلة الثانية والثالثة توفيقاً بين الحديثين، ولئن سلمنا أن المراد منه ليلة العيد، فنقول لا حجة للخصم علينا، لأنه ثبت منه رخصة للرعاء والضعفاء، فلا يعد وهماً؛ لأن الرمي ثابت بخلاف القياس.
م: (ولأن ليلة النحر وقت الوقوف) ش: يعني وقوف المزدلفة م: (والرمي يترتب عليه) ش: أي على الوقوف م: (فيكون وقته بعده ضرورة) ش: أي فيكون وقت الرمي بعد الوقوف، وكون الرمي مرتباً على الوقوف بالإجماع، والقول بأن وقته بعد النصف من الليل يؤدي إلى خرق الإجماع.
م: (ثم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يمتد هذا الوقت إلى غروب الشمس) ش: أي عنده وقت رمي جمرة العقبة من وقت طلوع الشمس إلى غروب الشمس، روى ذلك الحسن عنه، كذا ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «إن أول نسكنا في هذا اليوم الرمي» ش: هذا الحديث قد تقدم عند قوله - ثم يحلق أو يقصر - ومضى الكلام فيه هناك م: (جعل اليوم وقتا له) ش: أي جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليوم وقتاً للرمي، يعني جعله ظرفاً، فجاز في كل جزء من أجزائه إلى غروب الشمس م: (وذهابه) أي ذهاب اليوم م: (بغروب الشمس) ش: لأن اليوم من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه) ش: أي روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن وقت الرمي م: (يمتد إلى وقت الزوال) ش: وما بعده قضاء، لأن الوقت يعرف بتوقيت الشارع، والشرع ورد بالرمي قبل الزوال، فلا يكون ما بعده وقتاً له، وفي " الإيضاح " وأصل محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وقت الرمي كأصل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (والحجة عليه) ش: أي على أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن أول نسكنا هذا اليوم الرمي» ، وفي " مبسوط شيخ الإسلام " الحاصل أن ما بعد طلوع الفجر(4/260)
عليه ما روينا. وإن أخره إلى الليل رماه ولا شيء عليه، لحديث الرعاء. وإن أخر إلى الغد رماه؛ لأنه وقت جنس الرمي، وعليه دم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لتأخيره عن وقته، كما هو مذهبه.
قال: فإن رماها راكبا أجزأه لحصول فعل الرمي. وكل رمي بعده رمي فالأفضل أن يرميه ماشيا، وإلا فيرميه راكبا؛ لأن الأول بعده وقوف، ودعاء على ما ذكرنا فيرمي ماشيا ليكون أقرب إلى التضرع، وبيان الأفضل مروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ويكره أن لا يبيت بمنى ليالي الرمي؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بات بها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من يوم النحر إلى طلوع الشمس وقت الجواز مع الإساءة، وما بعده إلى الزوال وقت مسنون، وما بعده إلى الغروب وقت الجواز من غير إساءة، والليل وقت الجواز مع الإساءة.
م: (وإن أخره إلى الليل) ش: أي وإن أخر رمي جمرة العقبة إلى الليل م: (رماه) ش: أي في الليل م: (ولا شيء عليه، لحديث الرعاء) ش: «لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص لرعاء الإبل أن يرموا ليلاً» م: (وإن أخره إلى الغد) ش: أي وإن أخر الرمي إلى غد يوم النحر م: (رماه؛ لأنه) ش: أي لأن غد يوم النحر م: (وقت جنس الرمي، وعليه دم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لتأخيره) ش: أي لتأخيره الرمي م: (عن وقته، كما هو مذهبه) ش: هو أن تأخير الشك عن وقته يوجب النسك من وقتيه يوجب الدم عنده.
م: (قال: وإن رماها) ش: أي فإن رمى الجمار حال كونه م: (راكبا أجزأه لحصول فعل الرمي) ش: وفي " المبسوط " " والمحيط " قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز الرمي راكباً وماشياً لحصول الرمي، وفي حمل النوازل عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا رمى يوم النحر أفضل وفيما بعده من الأيام راجلاً لأنه كذا روي من فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المستحب أن يرمي يوم النحر وآخر أيام التشريق راكباً، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى فيهما راكباً، كذا ذكره في " الإملاء "، والصحيح أن لا يرمي غير الأول راكباً من أيام التشريق كلها، كما روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - روى «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأتي الجمرات بعد يوم النحر ماشياً» .
م: (وكل رمي بعده رمي فالأفضل أن يرميه ماشيا، وإلا) ش: أي وإن لم يكن بعده رمي كرمي جمرة العقبة م: (فيرميه) ش: حال كونه م: (راكبا لأن الأول) ش: أي الرمي الأول م: (بعده وقوف، ودعاء على ما ذكرناه) ش: عند قوله ثم الأصل إن كان رمي بعده رمي يقف بعده، لأنه في وسط العبادة فيأتي بالدعاء فيه م: (فيرمي ماشيا ليكون أقرب إلى التضرع) ش: وإظهار المسكنة.
م: (وبيان الأفضل مروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي بيان الأفضل في الرمي مروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ماشياً أو راكباً، وهو أن كل رمي بعده رمي، فالأفضل أن يرمي ماشياً، وكل رمي ليس بعده رمي كجمرة العقبة، فالأفضل أن يرمي راكباً.
م: (ويكره أن لا يبيت بمنى ليالي الرمي؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بات بها) ش: وذكرنا فيما مضى «عن(4/261)
وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يؤدب على ترك المقام بها. ولو بات في غيرها متعمدا لا يلزمه شيء عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه وجب ليسهل عليه الرمي في أيامه، فلم يكن من أفعال الحج فتركه لا يوجب الجابر.
قال: ويكره أن يقدم الرجل ثقله إلى مكة ويقيم حتى يرمي لما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يمنع منه، ويؤدب عليه؛ ولأنه يوجب شغل قلبه، وإذا نفر إلى مكة نزل بالمحصب وهو الأبطح وهو اسم موضع قد نزل به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: أفاض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من آخر يوم حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس» م: (وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يؤدب على ترك المقام بها) ش: أي بمنى، وهذا غريب، نعم روى ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا ابن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان ينهى أن يبيت من وراء العقبة وكان يأمرهم أن يدخلوا بمنى.
م: (ولو بات في غيرها) ش: أي في غير منى حال كونه م: (متعمدا لا يلزمه شيء عندنا) ش: وإن كان يكره م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن عنده بالمبيت بمنى قولان: أحدهما أنه يجب حتى وجب بتركها الدم، وبه قال مالك، وأحمد - رحمهما الله - في رواية؛ لأنه نسك والثاني أنه مستحب، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وعن بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو ترك البيتوتة ليلة فعليه مد، ولو ترك ليلتين فعليه مدان، ولو ترك ثلاث ليال فعليه دم م: (لأنه) ش: تعليل لأصحابنا، أي لأن المبيت م: (وجب ليسهل عليه الرمي في أيامه، فلم يكن من أفعال الحج فتركه لا يوجب الجابر) ش: كالبيتوتة بمنى ليلة العيد.
م: (قال: ويكره أن يقدم الرجل ثقله) ش: بفتح الثاء المثلثة وفتح القاف، وهو متاع المسافر وحشمه، كذا في " الديوان " م: (إلى مكة، ويقيم حتى يرمي لما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يمنع منه، ويؤدب عليه) ش: هذا غريب، وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه ": حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن عمارة، قال: قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من قدم ثقله من منى ليلة نفره فلا حج له م: (ولأنه) ش: أي ولأن تقدم الثقل م: (يوجب شغل قلبه) ش: من الاشتغال وذلك لأنه إذا قدمه يحصل له في قلبه أمور من جهة.
م: (وإذا نفر) ش: أي وإذا ذهب متوجهاً م: (إلى مكة نزل بالمحصب) ش: على وزن اسم المفعول من التحصيب وهو الأبطح، وهو اسم موضع ذي حصى بين منى ومكة م: (وهو الأبطح) ش: أي وهو الذي يقال له الأبطح م: (وهو) ش: أي المحصب م: (اسم موضع قد نزل به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: فيه أحاديث: منها ما رواه قتادة عن أنس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ورقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف» .(4/262)
وكان نزوله قصدا، وهو الأصح حتى يكون النزول به سنة على ما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه: «إنا نازلون غدا عند خيف بني كنانة حيث تقاسم المشركون فيه على شركهم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنها ما أخرجه مسلم عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كانوا ينزلون بالأبطح» .
ومنها ما رواه مسلم أيضاً «عن أبي رافع مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لم يأمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أنزل بالأبطح من حين خرج من منى، ولكن جئت فضربت قبة في منزل، قال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان على ثقل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
م: (وكان نزوله قصدا) ش: أي وكان نزول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمحصب قصداً م: (وهو الأصح حتى يكون النزول به سنة) ش: قوله: وهو الأصح احترازاً عما قاله بعض أصحابنا أن النزول بالمحصب ليس بسنة، واحتجوا على ذلك بما روى البخاري، عن عطاء، عن ابن عباس، قال ليس التحصيب بشيء، إنما هو منزل نزله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعن هذا قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التحصيب مستحب، وليس بسنة، وبه قال مالك، وذهب المصنف وآخرون أنه سنة؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نزل به قصداً، رآه المشركون لطيف صنع الله تعالى به من الفتح، والنصر وإهانة لهم، فكان سنة كالرمل في الطواف، ومعنى ليس التحصيب بشيء ليس بنسك مفروض.
م: (على ما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (قال لأصحابه: «إنا نازلون غدا عند خيف بني كنانة حيث تقاسم المشركون فيه على شركهم» ش: هذا الحديث أخرجه الجماعة عن عمرو بن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «عن أسامة بن زيد قال: قلت: يا رسول الله أين ننزل غداً أي في حجه، قال: " هل ترك لنا عقيل منزلاً " قال: " نحن نازلون بخيف كنانة حيث قاسمت قريش على الكفر» وذلك أن بني كنانة خالفت قريشاً على بني هاشم أن لا يناكحوهم، ولا يودوهم، ولا يبايعوهم.
وأخرجه البخاري، ومسلم أيضاً عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن بمنى: «نحن نازلون غدا ًبخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر» وذلك أن قريشاً وبني كنانة تحالفت على بني هاشم، وبني المطلب أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني بذلك المحصب، وقد ذكر الأترازي الحديث أولاً، فقال: وقد روى صاحب " السنن " بإسناده إلى أسامة بن زيد فذكره، ثم قال: وأخرجه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، فكان ما اطلع أولاً على تخريج البخاري، ومسلم ثم استدركه وليس هذا طريقة من له يد في الحديث.
وقال أيضاً: قوله: «خيف بني كنانة» كما ذكرنا في " السنن " بلا تكرار الخيف خيفان، وعلى ما ذكره صاحب " السنن "، يكون الخيف الثاني عطف بيان؛ لأن الخيف خيفان،(4/263)
يشير إلى عهدهم على شركهم على هجران بني هاشم، فعرفنا أنه نزل به إراءة للمشركين لطيف صنع - الله تعالى - به، فصار سنة كالرمل في الطواف،
قال: ثم دخل مكة وطاف بالبيت سبعة أشواط لا يرمل فيها، وهذا طواف الصدر، ويسمى طواف الوداع، وطواف آخر العهد بالبيت لأنه يودع البيت ويصدر به عنه، وهو واجب عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما: خيف منى، وهو الذي فيه المسجد، وهو مشهور، والثاني خيف بني كنانة، وهو المحصب، وسمي خيف بني كنانة لأنهم تحالفوا مع قريش في ذلك الموضع على بني هاشم.
قوله: حيث تقاسم، أي تعاهد، وتحالف، قوله: على شركهم أي مع شركهم، وعلى بمعنى مع، كما يقال: فلان يقول الشعر على صغر سنه، أي مع صغر سنه.
م: (ويشير إلى عهدهم) ش: أي يشير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عهد بني كنانة م: (على هجران بني هاشم) ش: روي أنهم حبسوا بني هاشم في واد سبع سنين م: (فعرفنا أنه) ش: أي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (نزل به) ش: أي بالمحصب م: (إراءة) ش: أي لأجل الإراءة، وهو مصدر من أرى يرى إراءة م: (للمشركين لطيف صنع - الله تعالى - به) ش: حيث فتح له مكة، ونصره عليهم م: (فصار) ش: أي النزول بالمحصب م: (سنة كالرمل في الطواف) ش: حيث كان لإظهار الجد والقوة ليغيظ به المشركين.
م: (قال: ثم دخل مكة) ش: وفي أكثر النسخ قال: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم دخل الحاج مكة بعد نزوله بالمحصب م: (فطاف بالبيت سبعة أشواط لا يرمل فيها) ش: أي في السبعة الأشواط م: (وهذا طواف الصدر) ش: لأنه يصدر به عن مكة، أي يرجع، والصدر بفتحتين وهو الرجوع م: (ويسمى طواف الوداع) ش: لأن وداع البيت يحصل به، والوداع بفتح الواو اسم التويدع كسلام بمعنى التسليم، وكلام بمعنى التكليم م: (وطواف آخر عهده) ش: أي ويسمى أيضاً طواف العهد م: (بالبيت؛ لأنه يودع البيت ويصدر به عنه) ش: أي يصدر بهذا الطواف عن البيت، وفي بعض النسخ: يصدر عنه، أي رجع عن البيت والأول أجود.
م: (وهو) ش: أي طواف الصدر م: (واجب عندنا) ش: وبه قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن عنده يستحب في أحد القولين، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه سنة ولا دم على تاركه، وعلى تارك طواف القدوم دم، وقال ابن قدامة في " المغني ": ووافقه أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيهما، وهذه غفلة، فالمتأخر يوقف المتقدم دون العكس، قال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أوجب الدم على تارك طواف الوداع الحسن البصري، ومجاهد، والثوري، والحكم، وحماد، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ما يدل عليه.(4/264)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف» ، ورخص للنساء الحيض تركه إلا على أهل مكة؛ لأنهم لا يصدرون، ولا يودعون، ولا رمل فيه لما بينا أنه شرع مرة واحدة،
ويصلي ركعتي الطواف بعده لما قدمنا. ثم يأتي زمزم، فيشرب من مائها؛ لما روي «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - استقى دلوا بنفسه فشرب منه، ثم أفرغ باقي الدلو في البئر» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف» ، ورخص للنساء الحيض تركه) ش: يجوز رفع الآخر، ونصب الطواف وبالعكس. قوله: رخص أي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للنساء الحيض، وهو جمع حائض، وتخصيص الحائض برخصة الترك دليل على الوجوب أيضاً، وهذا الحديث رواه البخاري عن طاوس عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض» في لفظ مسلم، قال: «كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» ورواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وزاد في آخره، «فإن آخر النسك الطواف بالبيت» وهذه الزيادة توافق ما في الكتاب.
قال م: (إلا على أهل مكة؛ لأنهم لا يصدرون، ولا يودعون) ش: هذا استثناء من قوله: وهو واجب، أي طواف الصدر واجب، إلا على أهل مكة فإنه ليس بواجب عليهم، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو كان واجباً لوجب على أهل مكة.
قلت: جوابه يفهم من قول المصنف لأنهم لا يصدرون ولا يودعون، فلا يحتاج إلى التطويل م: (ولا رمل فيه) ش: أي في طواف الصدر م: (لما بينا أنه شرع مرة واحدة) ش: أشار بقوله: لما بينا إلى قوله فيما مضى: والرمل ما شرع إلا مرة واحدة في طواف بعده سعي، وفي السروج: ويسقط طواف الوداع عن ستة: عن المكي؛ لأن التوديع شأن المفارق، والمعتمر، وأهل المواقيت فمن دونها ممن نوى الإقامة بمكة قبل النفر الأول، وبعده لا يسقط عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يسقط لعدم مفارقته البيت وعن الحائض والنفساء.
م: (ويصلي ركعتي الطواف بعده) ش: أي بعد طواف الصدر م: (لما قدمنا) ش: أي في أوائل هذا الباب، وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ويصلي الطائف لكل أسبوع ركعتين» ، ويأتي زمزم فيشرب من مائها لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى دلواً بنفسه فشرب منه ثم أفرغ باقي الدلو في البئر» ش: قال الأترازي: قال في " الإيضاح ": روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى.. إلخ. نحوه، والعجب منه: كيف يقنع بهذا المقدار، وقد روى أحمد في " مسنده "، والطبراني في " معجمه " «عن ابن(4/265)
ويستحب أن يأتي الباب، ويقبل العتبة، ثم يأتي الملتزم، وهو ما بين الحجر إلى الباب فيضع صدره ووجهه عليه، ويتشبث بالأستار ساعة يدعو الله تعالى فيها، ثم يعود إلى أهله، هكذا روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فعل بالملتزم ذلك. قالوا: وينبغي أن ينصرف وهو يمشي وراءه، ووجهه إلى البيت متباكيا متحسرا على فراق البيت حتى يخرج من المسجد، فهذا بيان تمام الحج.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: جاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمزم فنزعت له دلواً فشرب منها ثم مج فيها، ثم أفرغناها في زمزم، ثم قال: " لولا أن تعلموا عليها السرعة لبدئ» .
وروي عن ابن سعد في كتاب " الطبقات " في باب حجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يوافق المذكور في الكتاب، قال: أخبرنا عبد الوهاب عن ابن جريج عن عطاء «لما أفاض نزع بنفسه الدلو يعني من زمزم لم ينزع منه أحد فشرب ثم أفرغ باقي الدلو في البئر....» الحديث وهو مرسل.
م: (ويستحب أن يأتي الباب) ش: أي باب الكعبة م: (ويقبل العتبة) ش: أي عتبة الباب م: (ويأتي الملتزم، وهو ما بين الحجر إلى الباب) ش: أي ما بين الحجر الأسود إلى باب البيت م: (فيضع صدره ووجهه عليه، ويتشبث بالأستار) ش: أي يتعلق بأستار الكعبة وهو جمع ستر م: (ساعة يدعو الله تعالى فيها، ثم يعود إلى أهله، هكذا روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فعل بالملتزم ذلك) ش: هذا أخرجه أبو داود في " سننه " عن المثنى بن صالح «عن عمرو بن شعيب عن أبيه شعيب قال: طفت مع عبد الله فلما جئنا دبر الكعبة قلت: ألا تتعوذ، قال: نتعوذ بالله من النار، ثم مضى، واستلم الحجر، وقام بين الركن والباب، فوضع صدره، ووجهه، وذارعيه، وكفيه هكذا، وبسطهما بسطاً، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله.» م: (قالوا) ش: أي مشايخنا: م: (فينبغي أن ينصرف) ش: أي الحاج م: (وهو يمشي وراءه) ش: أي والحال أنه يمشي وراءه يعني ينكص على عقبيه م: (ووجهه) ش: أي والحال أن وجهه م: (إلى البيت) ش: حال كونه م: (متباكيا متحسرا على فراق البيت حتى يخرج من المسجد الحرام) ش: فهذا الذي ذكرنا م: (بيان تمام الحج) ش: أي الذي فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(4/266)
فصل
فإن لم يدخل المحرم مكة وتوجه إلى عرفات ووقف فيها - على ما بينا - سقط عنه طواف القدوم؛ لأنه شرع في ابتداء الحج على وجه يترتب عليه سائر الأفعال، فلا يكون الإتيان به على غير ذلك الوجه سنة، ولا شيء عليه بتركه؛ لأنه سنة، وبترك السنة لا يجب الجابر.
ومن أدرك الوقوف بعرفة ما بين زوال الشمس من يومها إلى طلوع الفجر من يوم النحر فقد أدرك الحج، فأول وقت الوقوف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في بيان مسائل شتى من أفعال الحج]
م: (فصل) ش: أي: هذا فصل في بيان مسائل شتى من أفعال الحج، ذكرها بفصل على حدة لتعلقها بالباب.
م: (فإن لم يدخل المحرم مكة وتوجه إلى عرفات وقف فيها) ش: وفي بعض النسخ ووقف فيها م: (على ما بينا) ش: أي قبل هذا الفصل من أحكام الوقوف بعرفة م: (سقط عنه طواف القدوم؛ لأنه شرع في ابتداء الحج على وجه يترتب عليه سائر الأفعال) ش: أي يأتي الأفعال ومنه السور م: (فلا يكون الإتيان به) ش: أي بطواف القدوم م: (على غير ذلك الوجه سنة، ولا شيء عليه بتركه) ش: أي لترك طواف القدوم م: (لأنه) ش: أي لأن طواف القدوم م: (سنة، وبترك السنة لا يجب الجابر) ش: لأن وقت طواف القدوم في ابتداء الحج قبل الشروع في الأفعال والسنن إذا فاتت عن وقتها لا تقضي، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - طواف القدوم واجب يحتاج تاركه إلى جابر إلا في حق المراهق للوقوف، فإنه يسقط عنه عنده بلا جابر، ذكره في " الذخيرة ".
م: (ومن أدرك الوقوف بعرفة ما بين زوال الشمس من يومها) ش: أي من يوم عرفة م: (إلى طلوع الفجر من يوم النحر فقد أدرك الحج) ش: اعلم أن أول وقت الوقوف من وقت الزوال، هو مذهب الأئمة الثلاثة وأصحابهم، وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أول وقته من طلوع الفجر يوم عرفة، ولم يوافقه أحد على هذا، وأبو حفص الكبير من الحنابلة، قال بما قاله الأئمة الثلاثة، وقد أشار المصنف إلى هذا بقوله: م: (فأول وقت الوقوف بعد الزوال عندنا لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف بعد الزوال) ش: وهذا في حديث جابر الطويل أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى الموقف الحديث م: (وهذا بيان أول الوقت) ش: لأن الكتاب مجمل، فالتحق بفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بياناً به كما في الصلاة.
وقال السروجي: ليس في فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا في قوله أن أول وقت الوقوف من الزوال لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما طلعت الشمس في منى سار إلى عرفة، فنزل بنمرة في العقبة التي ضربت له، فأقام بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فركب حتى أتى بطن(4/267)
بعد الزوال عندنا لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف بعد الزوال، وهذا بيان أول الوقت، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج»
«ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج» ، وهذا بيان آخر الوقت. ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن كان يقول: إن أول وقته بعد طلوع الفجر أو بعد طلوع الشمس فهو محجوج عليه بما روينا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوادي فخطب خطبته الطويلة التي ذكر فيها تحريم دمائهم، وأموالهم عليهم، والوصية بالنساء، ثم صلى الظهر، والعصر في وقت الظهر، ثم ركب القصواء وأتى الموقف، كما في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلم يكن نزوله بعرفة وقت الزوال، ولا وقوفه؛ لأن نمرة ليست من عرفات في الصحيح، مع أن نزوله بنمرة كان قبل الزوال، ووقوفه بعرفة بعد الخطبتين والصلاة ووقت الزوال قبل هذا بكثير، هذا وإن أخذ بقوله، فينبغي أن يكون أول الوقت من طلوع فجر يوم عرفة؛ لأن قوله الأداء يدل على أن النهار محل الوقوف من أوله إلى آخره، وهو أقوى في الدليل، لأن الفعل لو وجد من وقت الزوال لا يدل على أنه أول وقته؛ لأنه يجوز أن يكون الأفضل والأولى هو وقت الزوال مع غيره من أوقات نهار يوم عرفة.
م: (وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " من «أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج» ش: هذا الحديث رواه الأربعة عن سفيان الثوري عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي أن ناساً من أهل نجد أتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بعرفة فسألوه فأمر منادياً فنادى في الناس «الحج عرفة فمن جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج» ... " الحديث، رواه الدارقطني من حديث عطاء ونافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وقف بعرفة بليل فقد أدرك الحج» .
م: (ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج) ش: فيحل بعمرة وعليه الحج من قابل، وفي إسناده - رَحِمَهُ اللَّهُ - من مصعب ضعيف، م: (وهذا بيان آخر الوقت) ش: لأنه يدل على أن وقت الوقوف بعرفة يبقى الليل من يوم النحر ولا يبقى بعد الليل، فيصح قولهم: إن آخر وقت الوقوف قبل طلوع الفجر من يوم النحر.
م: (ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن كان يقول بأول وقته) ش: أي أول وقت الوقوف م: (بعد طلوع الفجر أو بعد طلوع الشمس) ش: من يوم عرفة م: (فهو محجوج عليه بما روينا) ش: وهو «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف بعد الزوال» ونقل هذا غير صحيح عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن مذهبه هنا مثل مذهبنا، وقد ذكر ابن الجلاب المالكي في كتاب " التفريع "، ولا يجزئ الوقوف بعرفة نهاراً قبل الزوال، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما وجدت هذا عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الكتب المعتبرة لبيان الخلاف وقيل:(4/268)
ثم إذا وقف بعد الزوال. وأفاض من ساعته أجزأه عندنا؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذكر بكلمة " أو "، فإنه قال: «الحج عرفة فمن وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه» وهي كلمة التخيير. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجزئه إلا أن يقف في اليوم وجزء من الليل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذا سهو من الكاتب، وليس هو مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قلت: فلأجل هذا ذكر صاحب الكتاب بقوله: وإن كان مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: ذكره بكلمة الشرط.
م: (ثم إذا وقف بعد الزوال. وأفاض من ساعته أجزأه عندنا) ش: يعني يكفي من خروجه من العهدة م: (لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (ذكره بكلمة " أو "، فإنه قال: «الحج عرفة، فمن وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار قد تم حجه» ش: هذا الحديث رواه الطحاوي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من «حديث الشعبي، قال: سمعت عروة بن نضر بن الطحاوي يقول: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمزدلفة، فقلت: يا رسول الله جئت من جبل طيء، والله ما جئت انبعثت وأمضيت راحلتي، وما نزلت جبلاً من هذه الجبال إلا وقد وقفت عليه، فهل لي من حج، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من شهد معنا هذه الصلاة صلاة الفجر بالمزدلفة، وقد كان وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه» ورواه الأربعة أيضاً، وليس في لفظ واحد منهم ذكر ساعة بعد قوله: من وقف بعرفة، قوله: وانصبت راحلتي، أي أنزلتها.
قال: أنصب بقرة ينصبها نصباً إذا أنزلها، ونضر ومادته بنون وضاد معجمة وراء، رأيت الأترازي ضبطه بالنون والصاد والباء الموحدة، ولكن بالحركات لا بالحروف، قال: انتصبت أي تعبت، وليس في رواية المذكورين إلا مثل ما ضبطنا، نعم في رواية الترمذي: أكللت من الإكلال وهو الإلقاب، قوله: ما نزلت حبلاً، بفتح الحاء المهملة، وسكون الباء الموحدة وهو المستطيل من الرمل، وقيل: الضم منه، وجمعه حبال، وقيل: حبال من غير الرمل، وضبطه الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالجيم والباء الموحدة، وهو الجبل المعهود، ولكن بالحركات لا بالحروف، وقال شيخنا زين الدين: وروي جبلاً بالجيم، وهو يؤيد كلام الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولكن في رواية الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما نزلت جبلاً زملاً من هذه الجبال، وهذا يرد على من ضبطه بالجيم. قوله: ذكر كلمة أو يعني في قوله: من ليل أو نهار، ثم قال: م: (وهي كلمة التخيير) ش: لأن كل اليوم، والليلة غير مشروط فيه، فيكون الشرط وقوف ساعة من اليوم أو الليل، فيكون مجملاً، فالتحق فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بياناً له، قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فيكون حجة على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قلت: حتى تصح ما نقل من الذي ذكر فيه.
م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجزئه إلا أن يقف في اليوم وجزء من الليل) ش: قال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قلت: حتى يصح ما نقل من الذي ذكر عنه، وقال مالك - رحمه(4/269)
ولكن الحجة عليه ما رويناه. ومن اجتاز بعرفات نائما أو مغمى عليه، أو لا يعلم أنها عرفات جاز عن الوقوف؛ لأن ما هو الركن قد وجد، وهو الوقوف، ولا يمنع ذلك بالإغماء والنوم، كركن الصوم،
بخلاف الصلاة؛ فإنها لا تبقى مع الإغماء، والجهل يخل بالنية، وهي ليست بشرط لكل ركن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله - لا يجزئه إلا أن يقف في الليل، قال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله في الكتاب، قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إلى آخره سهو، ولم يقل به أحد، وقال الطرطوسي في معرفة قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن من ترك الوقوف بالليل بطل حجه عندنا، وعندهم يلزمه الدم، ولو تركه نهاراً أو وقف ليلاً لا يلزمه شيء، فدل على أن المعتبر الوقوف بالليل دون النهار.
م: (ولكن الحجة عليه) ش: أي على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ما رويناه) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الحج عرفة، فمن وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه» م: (ومن اجتاز بعرفات) ش: حال كونه م: (نائما أو مغمى عليه، أو لا يعلم أنها عرفات جاز عن الوقوف) ش: وكذا من كان مجنوناً أو سكراناً أو هارباً أو طالب غريم أو كان جنباً أو محدثاً أو حائضاً أو نفساء، أو لم ينو الوقوف، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو حصر في جزء يسير من أجزاء عرفات في لحظ يسير من وقت الوقوف ولا يعلم أنها عرفات، ولم يثبت وقوع الغفلة، والنوم، واجتاز بها في طلب غريم له هارب من يديه، أو بهيمة صح وقوفه، بخلاف السكران والمجنون والمغمى عليه، ذكره النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن حنبل، والحسن البصري، وأبو ثور، وقال عطاء في المغمى عليه: يجزئه، وقال الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يبطل حجه، وعن التوقف فيه، وقال أبو ثور: لا يصح من النائم، وقال في " الذخيرة ": عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ومن وقف مغمى عليه حتى وقع أجزأه ولا دم عليه.
م: (لأن ما هو الركن قد وجد، وهو الوقوف، ولا يمنع ذلك بالإغماء والنوم) ش: لأن المقصود من الوقوف حصوله من ذلك المكان، وقد وجد م: (كركن الصوم) ش: أي فعل الصوم، وأفعال الحج، كلاهما اختياري، لوجود النية، فكذا هاهنا إذا اجتاز بعرفات، ونوى، بل أولى لأن هذا الوقوف لو جعل كالمعدوم يلزمه التوقف إلى العام القابل، وفيه ضرر عظيم
م: (بخلاف الصلاة، فإنها لا تبقى مع الإغماء) ش: لأن شرط الصلاة أعني الطهارة تنتفي بالإغماء، فينتفي المشروط م: (والجهل يخل بالنية) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر، وهو أن يقال: ينبغي أن لا يجوز الوقوف بعرفات إذا اجتاز بها، وهو لا يعلم لعدم النية، فأجاب وقال: سلمنا أن الجهل يخل بالنية م: (وهي ليست بشرط لكل ركن) ش: فلأجل هذا جاز الوقوف، وإن كان جاهلاً بالموضع.(4/270)
ومن أغمي عليه فأهل عنه رفقاؤه جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: لا يجوز، ولو أمر إنسانا بأن يحرم عنه إذا أغمي عليه، أو نام فأحرم المأمور عنه صح بالإجماع، حتى إذا أفاق أو استيقظ، وأتى بأفعال الحج جاز. لهما أنه لم يحرم بنفسه، ولا أذن لغيره به، وهذا لأنه لم يصرح بالإذن منه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: يشكل على هذا ما إذا طاف حول البيت خلف غريمه، أو خائف من سبع، ولا ينوي الطواف لا يجزئه، وإن وجدت النية في أصل الإحرام مع أنه ركن.
قلت: الوقوف ركن عبادة، وليس بعبادة مقصودة، ولهذا لا ينتفل به، بخلاف الطواف؛ فلأنه عبادة مقصودة، ولهذا ينتفل به فلا بد من وجود أصل النية فيه.
م: (ومن أغمي عليه فأهل عنه) ش: أي أحرم م: (رفقاؤه جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يعني أحرموا عن أنفسهم بطريق الأصالة، وعن الرفيق بطريق النيابة، حتى لو قتل صيداً عليه دم واحد، كذا في " المبسوط "، وصورة المسألة أن الرفقاء إذا لبسوا الرداء، أو تجنبوا المحظورات صار هو محرماً، ويتداخل الإحرامان، وصار إحرامهم عنه كإحرام الأب عن ابنه الصغير، وإنما قيد بإهلال الرفقاء عنه لأنه إذا أحرم عنه واحد من عرض الناس اختلف المشايخ فيه على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قال الشيخ أبو عبد الله الجرجاني: كان الجصاص يقول: لا يجوز، ثم رجع، وقال: يجوز.
م: (وقالا: لا يجوز) ش: وهو قول عامة الفقهاء، وهذا الخلاف فيما إذا لم يوجد الإذن بالإحرام من المغمى عليه صريحاً، فأما إذا أذن صريحاً جاز بالاتفاق، وأشار إليه بقوله م: (أمر إنسانا) ش: أي فلو أمر رجل رجلاً م: (بأن يحرم عنه إذا أغمي عليه، أو نام فأحرم المأمور صح بالإجماع، حتى إذا أفاق أو استيقظ) ش: الآمر بذلك م: (وأتى بأفعال الحج جاز) ش: أراد بالإجماع عند أصحابنا؛ لأن عند مالك، والشافعي، وأحمد لا يجوزون ذلك. وقال النووي: لا يجوز عند أبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله -، سواء كان أذن له فيه قبل الإغماء أم لا، وهذا النقل غلط.
واعتراض القرافي على الإمام فقال: لو وكل في ذلك لم يصح مع القصد ومع عدمه أولى، ورد عليه بأن قياسه على التوكيل باطل بلا شبهة؛ لأن التوكيل بخلاف الاتفاق على الصحة لا البطلان فليت شعري ما سنده في هذا.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله - م: (أنه) ش: أي الذي أغمي عليه فأهل عنه رفقاؤه م: (لم يحرم بنفسه، ولا أذن لغيره به) ش: أي بالإحرام إذا أغمي عليه م: (وهذا) ش: أي هذا الذي ذكرناه من أنه لم يحرم بنفسه، ولا بإذن منه لغيره، لا يكون محرماً م: (لأنه لم يصرح بالإذن منه) ش: لأنه إما بالصريح، أو بالدلالة، فالصريح منتقلاً في الكلام في عدم(4/271)
والدلالة تقف على العلم، وجواز الإذن به لا يعرفه كثير من الفقهاء، فكيف يعرفه العوام، بخلاف ما إذا أذن غيره بذلك صريحا. وله أنه لما عاقدهم عقد الرفقة فقد استعان بكل واحد منهم فيما يعجز عن مباشرته بنفسه. والإحرام هو المقصود بهذا السفر، فكان الإذن به ثابتا دلالة، والعلم ثابت نظرا إلى الدليل، والحكم يدار عليه.
قال: والمرأة في جميع ذلك كالرجل؛ لأنها مخاطبة كالرجل، غير أنها لا تكشف رأسها لأنه عورة، وتكشف وجهها) لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إحرام المرأة في وجهها» ولو أسدلت شيئا على وجهها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التصريح بالإذن م: (والدلالة تقف على العلم) ش: بجواز الإحرام عن المغمى عليه، والعلم منفوذ م: (وجواز الإذن به) ش: أي بالإحرام عنه م: (لا يعرفه كثير من الفقهاء، فكيف يعرفه العوام، بخلاف ما إذا أذن غيره بذلك) ش: أي بالإحرام إذناً م: (صريحا) ش: ففيه يجوز اتفاقاً.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه) ش: أي أن هذا الرجل المغمى عليه م: (لما عاقدهم) ش: أي الرفقاء م: (عقد الرفقة فقد استعان بكل واحد منهم) ش: أي من الرفقاء م: (فيما يعجز عن مباشرته بنفسه) ش: لأن السفر محل الاستعانة فيما بينهم م: (والإحرام هو المقصود) ش: في سفر هذا الرجل لا رجل مقصود م: (بهذا السفر) ش: هو الإحرام م: (فكان الإذن به) ش: أي بالإحرام م: (ثابتا دلالة) ش: أي من حيث الدلالة، وإن لم يوجد صريحاً م: (والعلم) ش: أي على الرفقاء م: (ثابت نظرا إلى الدليل) ش: وهو عقدهم عقد الرفقة م: (والحكم يدار عليه) ش: أي على الدليل، كمن نصب قدراً على كانون وجعل فيها اللحم، وأوقد تحتها النار، وجاء آخر فطبخه لا يضمن لوجود الإذن دلالة، فكذا هاهنا، ولو أحرم بنفسه ثم أغمي عليه أو مرض فطافوا به حول البيت على بعير ووقفوا به بعرفة والمزدلفة، ووضعوا الأحجار في يده ورموا بها، وسعوا به بين الصفا والمروة، فإن ذلك يجزئه عند أصحابنا جميعاً.
م: (قال: والمرأة في جميع ذلك) ش: أي في جميع المناسك م: (كالرجل) ش: أي تفعل مثل ما يفعل الرجل، إلا في أشياء وهو خمسة عشر موضعاً ويجيء بيانها الآن م: (لأنها مخاطبة كالرجل) ش: لأن أوامر الشرع عامة غير أنها استثناء لبيان أنها تختص بأشياء في المواضع خمسة عشر، أشار إلى المواضع بقوله:
م: (غير أنها) ش: أي غير أن المرأة م: (لا تكشف رأسها لأنه عورة، وتكشف وجهها) لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «إحرام المرأة في وجهها» ش: هذا الحديث رواه البيهقي في " سننه " من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مرفوعاً: «إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها» . م: (ولو أسدلت شيئا على وجهها) ش: أي لو أرخت شيئاً، وفي " المغرب ": سدل الثوب سدلاً من باب: طلبه إذا أرسله من غير أن يضم جانبيه، وقيل: هو أن(4/272)
وجافته عنه جاز هكذا روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ولأنه بمنزلة الاستظلال بالمحمل،
ولا ترفع صوتها بالتلبية لما فيه من الفتنة، ولا ترمل، ولا تسعى بين الميلين؛ لأنه مخل بستر العورة، ولا تحلق، ولكن تقصر؛ لما روي «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى النساء عن الحلق، وأمرهن بالتقصير»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يلقيه على رأسه ويرخيه على منكبيه، والسدل خطأ، وفي كثير من النسخ: استدلت بالهمزة، والأصل رعاية قول أهل اللغة م: (وجافته عنه) ش: بالجيم، أي باعدت الشيء عن وجهها، وهو من باب المفاعلة من جفى جنبيه عن الفراش إذا نبا وارتفع.
م: (جاز) ش: جواب لو م: (هكذا روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) ش: هذا أخرجه ابن ماجه، وأبو داود، عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد «عن عائشة قالت: كانت الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محرمات، فإذا حازوا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفنا» .
م: (ولأنه) ش: أي سدل الشيء على الوجه م: (بمنزلة الاستظلال بالمحمل) ش: فإنه يجوز، فكذلك السدل. والمحمل بفتح الميم الأولى، وكسر الثانية، وبالعكس الهودج الكبير الحجاجي.
م: (ولا ترفع صوتها بالتلبية) ش: هذا هو الثاني من الخمسة عشر م: (لما فيه) ش: أي رفع صوتها م: (من الفتنة) ش: عن عطاء، وسليمان بن يسار: لا ترفع المرأة صوتها بالتلبية، بل تسمع نفسها، رواه عنهما سعيد بن منصور - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال أبو عمر بن عبد البر: أجمع العلماء على أن السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها بالتلبية؛ لأن صوتها عورة، وعند البعض إن لم يكن عورة فهو مشتهى، وقالت الظاهرية: ترفع صوتها كالرجل والتفاوت إليهم.
م: (ولا ترمل) ش: هذا هو الثالث من الخمسة عشر، أي لا ترمل في طوافها؛ لأنها تجد ستر العورة؛ لأنه لا يطلب منها إظهار الجلد؛ لأن بدنها غير صالح للحرب والقتال (ولا تسعى بين الميلين) ش: بين الصفا والمروة م: (لأنه مخل بستر العورة) ش: هو تعليل الرمل والسعي كليهما، وهذا هو الرابع من الخمسة عشر.
م: (ولا تحلق) ش: هو الخامس منها م: (ولكن تقصر) ش: هو السادس منها م: (لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى النساء عن الحلق، وأمرهن بالتقصير» ش: هذا غريب؛ لأنه مركب من حديثين، وفي نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحاديث، منها ما رواه الترمذي في الحج، والنسائي في الزينة من حديث قتادة عن(4/273)
ولأن حلق الشعر في حقها مثلة، كحلق اللحية في حق الرجال.
وتلبس من المخيط ما بدا لها؛ لأن في لبس غير المخيط كشف العورة. قالوا: ولا تستلم الحجر إذا كان هناك جمع؛ لأنها ممنوعة عن مماسة الرجال إلا أن تجد الموضع خاليا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خلاس بن عمرو عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تحلق المرأة رأسها» .
ومنها ما رواه البزار من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى مثله.
ومنها ما رواه البزار أيضا من حديث وهب بن عمير قال: سمعت عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله.
وأما حديث التقصير، فرواه أبو داود في " سننه " من حديث صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني أم عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على النساء الحلق، إنما على النساء التقصير» ، وفي " فتاوى الولوالجي ": تقصر من ربع شعر رأسها قدر الأنملة، وقيل: تأخذ من أطراف شعر رأسها كالأنملة من غير تقدير الربع.
م: (ولأن حلق الشعر في حقها مثلة، كحلق اللحية في حق الرجال) ش: المثلة حرام فلا تجوز: إقامة السنة بارتكاب الحرام، والسنة في حقها التقصير، وقال المطرزي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المثلة قطع بعض الأعضاء، وتسويد الوجه، وتغيير الهيئة.
م: (وتلبس من المخيط ما بدا لها) ش: وهو السابع منها، أي تلبس ما ظهر لها، وما شاءت، ولكن لا تلبس المصبوغ بورس أو زعفران، إلا أن يكون قد غسل؛ لأن هذا يزيد، وهو من دواعي الجماع، وهي ممنوعة من ذلك في الإحرام كالرجل م: (لأن في لبس غير المخيط كشف العورة) ش: وهو حرام م: (قالوا) ش: أي قال أصحابنا المتأخرون م: (ولا تستلم الحجر) ش: هو الثامن م: (إذا كان هناك جمع) ش: من الناس م: (لأنها ممنوعة عن مماسة الرجال إلا أن تجد الموضع خالياً) ش: هذا كما رأيت لم يذكر المصنف إلا ثمانية أشياء من تلك الخمسة عشرة.
التاسع: لا تطلع بخلاف الرجل. العاشر: ليس عليها كفارة في تأخير طواف الإفاضة عن أيام النحر بعذر الحيض، والنفاس، الحادي عشر: لها ترك طواف الوداع بعذر الحيض، والنفاس. الثاني عشر: اشترط المحرم لها أو الزوج في مسافة السفر، الثالث عشر: لها لبس الخفين، الرابع عشر: لها لبس القفازين.
والقفاز شيء تلبسه النساء في أيديهن لتغطية الكف والأصابع؛ لأن سعد بن أبي وقاص -(4/274)
قال: ومن قلد بدنة تطوعا أو نذرا، أو جزاء صيد، أو شيئا من الأشياء، وتوجه معها يريد الحج فقد أحرم؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من قلد بدنة فقد أحرم» ؛ ولأن سوق الهدي في معنى التلبية في إظهار الإجابة؛ لأنه لا يفعله إلا من يريد الحج والعمرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يلبس بناته القفاز وهن محرمات، ورخصت عائشة فيه، وبه قال عطاء والثوري، وحكي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ذكره القرطبي، وقال البغوي: وهو أظهر قولي الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال النووي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أصح قولي الشافعي المنع منه خلاف ما نقله البغوي.
الخامس عشر: لها لبس الحلي، السادس عشر: لها كشف وجهها، وإن كانت مشاركة للرجل فيه، لكن لا يجوز لها ذلك، إلا في الإحرام.
فإن قلت: كيف حكم الخنثى في هذه الأشياء.
قلت: يشترط في حقه ما يشترط في المرأة احتياطاً في المحرمات.
م: (قال: ومن قلد بدنة) ش: وفي بعض النسخ: قال: أي محمد في " الجامع الصغير ": لأن هذا من مسائله م: (تطوعا) ش: أي لأجل التطوع م: (أو نذرا) ش: أي أو لأجل النذر الذي عليه م: (أو جزاء صيد) ش: أي ولأجل جزاء الصيد، بأن قتله حتى وجبت عليه قيمته فاشترى بتلك القيمة بدنة في سنة أخرى، وقلدها أو قتل الحلال صيد الحرم فاشترى بقيمته بدنة م: (أو شيئا من الأشياء) ش: مثل دم المتعة، والقران، والدماء الواجبة، كالحلق وغيره، قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عبر بهذه الأشياء تيسيراً عليه، وقال الأترازي: كان ينبغي أن يقول: أو بشيء من الأشياء كما في " الجامع الصغير "؛ لأن أشياء مفعول له بالعطف على ما قبله وأحد شرائطه أن يكون مصدراً، فإن قصده المصنف فلا بد من اللام في قولك: حد للشيء انتهى. قلت: الذي قاله النحاة بأنه لا بد من اللام إما ظاهرة أو مقدرة، وهاهنا مقدرة، تقديره والشيء من الأشياء. م: (وتوجه معها) ش: أي مع البدنة حال كونه م: (يريد الحج فقد أحرم) ش: أي صار محرماً م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «من قلد بدنة فقد أحرم» ش: هذا حديث غريب مرفوعاً ووقفه ابن أبي شيبة في " مصنفه " على ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: حدثنا ابن نصير، حدثنا عبد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر، قال: «من قلد بدنة فقد أحرم» حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «من قلد أو جلل أو أشعر فقد أحرم» .
م: (ولأن سوق الهدي في معنى التلبية في إظهار الإجابة) ش: أي في إجابة دعاء إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - م: (لأنه) ش: أي لأن التقليد م: (لا يفعله إلا من يريد الحج أو العمرة) ش: وفي " شرح الطحاوي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولو قلد بدنة بغير نية الإحرام يصير محرماً.(4/275)
وإظهار الإجابة قد يكون بالفعل كما يكون بالقول فيصير به محرما لاتصال النية بفعل هو من خصائص الإحرام. وصفة التقليد أن يربط على عنق بدنته قطعة نعل، أو عروة مزادة، أو لحاء شجرة،
فإن قلدها وبعث بها ولم يسقها لم يصر محرما لما روي عن عائشة أنها - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبعث بها، وأقام في أهله حلالا، فإن توجه بعد ذلك لم يصر محرما حتى يلحقها؛ لأن عند التوجه إذا لم يكن بين يديه هدي يسوقه لم يوجد منه إلا مجرد النية، وبمجرد النية لا يصير محرما، فإذا ركبها وساقها أو أدركها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو ساق هدياً قاصداً إلى مكة صار محرماً بالسوق نوى أو لم ينو، وقال صاحب " النهاية ": صيرورته محرماً بمجرد السوق من غير انضمام نية الإحرام لم أجد في الشروح هذه العبارة إلا في شرح الطحاوي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإن في عامة النسخ شرط الهدي، أي كان كما يضم إلى التلبية وسوق هدي المتعة، وتقليد البدنة.
م: (وإظهار الإجابة) ش: قيل: إنه معطوف على اسم إن، قرئ منصوباً، وعلى محل إن قرئ مرفوعاً قاله الأكمل، قلت: فيه تعسف إلا وجه أن يكون مرفوعاً بالابتداء وخبره هو قوله م: (قد يكون بالفعل كما يكون بالقول) ش: ألا ترى إن قال: يا فلان، فأجابه تارة بقول: لبيك، وتارة بالحضور، والامتثال بين يديه م: (فيصير به محرما) ش: أي فيصير بالسوق محرماً. م: (لاتصال النية بفعل هو من خصائص الإحرام) ش: أراد به التقليد مع السوق م: (وصفة التقليد أن يربط على عنق بدنته قطعة نعل أو عروة مزادة) ش: هي المظهرة م: (أو لحاء شجرة) ش: بكسر اللام وبالحاء المهملة، وبالمد، وهو القشر أو قطعة أدم، أو شراك نعل.
م: (فإن قلدها وبعث بها ولم يسقها لم يصر محرما لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبعث بها، وأقام في أهله حلالا» ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الهدي فأفتلت قلائدها بيدي من عهن كان عندنا، ثم أصبح فيها حلالاً يأتي ما يأتي الرجل من أهله» وكان الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مختلفين في هذه المسألة على ثلاثة أقاويل، منهم من قال: إذا قلدها صار محرماً، ومنهم من قال: إذا توجه في إثرها صار محرماً، فأخذنا باليقين، وقلنا: إذا أدركها وساقها صار محرماً لاتفاق الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في هذه الحالة.
م: (فإن توجه بعد ذلك) ش: أي بأن توجه بعدما بعث هديه م: (لم يصر محرما حتى يلحقها؛ لأن عند التوجه إذا لم يكن بين يديه هدي يسوقه لم توجد منه إلا مجرد النية، وبمجرد النية لا يصير محرما) ش: وفي " المحيط ": لا يصير داخلاً في الإحرام بمجرد النية ما لم يضم إليها التلبية أو سوق الهدي م: (فإذا ركبها) ش: أي البدنة م: (وساقها أو أدركها) ش: [.....] بين السوق والإدراك؛ لأنه على رواية " الجامع الصغير " يشترط الإدراك، فحسب لأنه قال: لم يصر محرماً(4/276)
فقد اقترنت نيته بعمل هو من خصائص الإحرام، فيصير محرما كما لو ساقها في الابتداء. قال: إلا في بدنة المتعة فإنه محرم حين توجه، معناه إذا نوى الإحرام، وهذا استحسان. وجه القياس فيه ما ذكرنا. ووجه الاستحسان أن هذا الهدي مشروع في الابتداء نسكا من مناسك الحج وضعا لأنه مختص بمكة ويجب شكرا للجمع بين أداء النسكين، وغيره. قد يجب بالجناية وإن لم يصل إلى مكة فلهذا اكتفي فيه بالتوجه، وفي غيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حتى يلحق البدنة، وعلى رواية الأصل: شرط الإدراك والسوق جميعاً؛ لأنه قال: لم يصر محرماً حتى يلحق الهدي ويسوقه ويتوجه معه، والمصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - جمع بين الروايتين، وقال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فذلك أمر إضافي، وإنما الشرط أن يلحقه ليصير فاعلاً فعلى المناسك على المخصوص.
م: (فقد اقترنت نيته بعمل هو) ش: أي السوق والإدراك م: (من خصائص الإحرام) ش: جمع خصيصة وهي التي تختص بالشيء، ومن خصائص الإحرام سوق الهدي م: (فيصير محرما كما لو ساقها في الابتداء) ش: أي في ابتداء الأمر.
م: (قال: إلا في بدنة المتعة) ش: وفي بعض النسخ قال: إلا في بدنة المتعة، أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": إلا في بدنة المتعة، وهو استثناء من قوله: فإن توجه بعد ذلك لم يصر محرماً حتى يلحقها، يعني أن في بدنة المتعة يصير محرماً بمجرد التوجه، وهاهنا قيد لا بد منه، وهو أنه إنما يصير محرماً بالتقليد أن لو حصل التقليد في أشهر الحج، وإن حصل في غير أشهره لا يصير محرماً ما لم يدركه، ويصير معه هكذا ذكره محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (فإنه محرم حين توجه، معناه إذا نوى الإحرام) ش: يحرم حين توجه إذا وجدت النية، فإذا لم توجد لا يصير محرماً م: (وهذا استحسان) ش: أي كونه محرماً في بدنة المتعة بمجرد التوجه قبل اللحاق استحسان، والقياس أن لا يصير محرماً بمجرد التوجه.
م: (وجه القياس فيه ما ذكرنا) ش: يريد به قوله: لم يوجد منه إلا مجرد النية م: (ووجه الاستحسان أن هذا الهدي مشروع في الابتداء) ش: احترز به عن دم الجناية، والنذر، فإنهما شرعا بناء عليهما لا ابتداء م: (نسكا) ش: أي حال كونه نسكاً، احترز به عما وجب ابتداء م: (من مناسك الحج وضعا) ش: يعني من حيث الوضع الشرعي م: (لأنه مختص بمكة) ش: حيث صار نسكا من مناسك الحج.
م: (ويجب) ش: أي الهدي م: (شكرا للجمع بين أداء النسكين) ش: هذا بيان اختصاصه بمكة لأن الجمع بين النسكين لا يكون إلا بمكة، فكان هدي المتعة مختصاً بمكة م: (وغيره) ش: أي غير دم المتعة م: (قد يجب بالجناية) ش: بأن صاد صيداً قبل وصوله إلى مكة م: (وإن لم يصل إلى مكة) ش: واصل بما قبله م: (فلهذا اكتفي فيه) ش: أي في هدي المتعة م: (بالتوجه وفي غيره) ش: أي وفي(4/277)
توقف على حقيقة الفعل،
فإن جلل بدنة، أو أشعرها، أو قلد شاة لم يكن محرما؛ لأن التجليل لدفع الحر، والبرد، والذباب، فلم يكن من خصائص الحج. والإشعار مكروه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فلا يكون من النسك في شيء. وعندهما إن كان حسنا فقد يفعل للمعالجة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غير هدي المتعة م: (توقف) ش: أصله تتوقف بالتاءين، فحذفت إحداهما للتخفيف، أي توقف الهدي م: (على حقيقة الفعل) ش: وهو السوق واللحاق، حاصله أن الهدي في المتعة أو القران نسك من مناسك الحج، اكتفي بالتوجه وإن لم يسق لتأكده في النسكية، وغيره لما تتأكد نسكيته أم يكتف بالتوجه، بل يتوقف على الإدراك والسوق، أو على الإدراك لتأكد تحققه بالفعل.
م: (فإن جلل بدنة) ش: أي ألقى عليها الجل م: (أو أشعرها) ش: من الإشعار، وهو الإدماء بالجرح، وقال الأكمل: إشعار البدنة إعلامها بشيء أنها هدي من الشعار، وهي العلامة م: (أو قلد شاة لم يكن محرما؛ لأن التجليل لدفع الحر، والبرد، والذباب، فلم يكن من خصائص الحج) ش: الذباب بكسر الذال المعجمة وتشديد الباء الموحدة جمع ذبابة وهو معروف، قال الجوهري: الواحدة ذبابة، وجمع القلة أذبة، والكثير ذباب، مثل غراب وغرابة وغربان.
وفي " جامع العتابي ": وقد يكون الإشعار للزينة، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأحمد، ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يصير محرماً في هذه الصورة بمجرد النية والإشعار، وهو قول إبراهيم النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ورخصت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في تركه، ذكره المنذري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهي لا ترخص في ترك السنن.
م: (والإشعار مكروه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فلا يكون من النسك في شيء) ش: يعني لا يعد من النسك، ولا يعتبر به م: (وعندهما إن كان) ش: أي الإشعار م: (حسنا فقد يفعله للمعالجة) ش: إن فعل الإشعار هو حسن، وإن تركه فلا بأس به؛ لأنه قد يفعل لمعالجة البدنة لأجل [....] . وقال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثلاثة أقوال، قيل سنة عندهما، ويصير به محرماً مع التوجه، ذكره في " البدائع ". وقال الأسبيجابي: عندهما هو سنة وفي " المحيط " و " التحفة " لا يصير محرماً عندهما، وإن كان سنة لأنه من خصائص الإحرام إذ الناس قد تركوه، وعندهما حسن ولا يصير به محرماً، لأنه قد يفعل بغير الإحرام كالتحيل، ذكره في " المبسوط ". وقيل: هو مباح ولا يصير به محرماً بالاتفاق، ذكره في " البدائع " وغيره وقال الشافعي ومالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هو سنة، وأبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول إنه مثلة، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المثلة، وأيضا هو تعذيب(4/278)
بخلاف التقليد، لأنه يختص بالهدي، وتقليد الشاة غير معتاد وليس بسنة أيضا. قال:
والبدن من الإبل والبقر. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من الإبل خاصة؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في حديث الجمعة، فالمتعجل منهم كالمهدي بدنة، والذي يليه كالمهدي بقرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للحيوان، وقال الشيخ أبو منصور الماتريدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحتمل أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كره الإشعار المحدث.
فأما الذي جاءت به السنة فلا. وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما كره أبو حنيفة الإشعار، وإنما كره على وجه يخاف منه هلاكها لسراية الجرح لا سيما في حر الحجاز، فأراد سد الباب على العامة، لأنهم لا يراعون الحد في ذلك، فأما من وقف على الحد فقطع الجلد دون اللحم فلا يكره حكاه عنه في " المبسوط " وغيره.
وتفسير الإشعار عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الطعن بالرمح في أسفل السنام من قبل اليسار، وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من قبل اليمين، وقال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأشبه أن الإشعار من قبل اليسار.
م: (بخلاف التقليد، لأنه يختص بالهدي) ش: يعني لا يكره تقليد البدن بالاتفاق م: (وتقليد الشاة غير معتاد) ش: فإن من عادة العرب أن لا يقلدوا الشاة م: (وليس بسنة أيضا) ش: وبه قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقلد الغنم، لما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدى مرة غنماً وقلده» هكذا نقله الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن كتبهم، ثم قال قلنا: هذا غير ثابت، لأن رواة نسك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما رووه، انتهى.
قلت: كيف يقول بهذا وقد أخرجه الأئمة الستة عن الأسود عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أهدى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرة إلى البيت غنما فقلدها» ولمسلم بهذا الإسناد قالت «لقد رأيتني أقلد القلائد لهدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الغنم فيبعث به ثم يقيم فينا حلالاً» انتهى. ولا يصير بتقليد الغنم محرماً عندنا، وكذا روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه لا يقلد الغنم، وإنما يقلد البدنة فلا يصير محرماً به. وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يصير محرماً بتقليد الشاة والغنم والبدن والبقر.
وفي بعض النسخ م: (قال) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " " الجامع الصغير "
م: (والبدن من الإبل والبقر) ش: والهدي من الغنم والبقر، قلت م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من الإبل خاصة) ش: وبه قال ابن سيرين، وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من الإبل فمن لم يجد فمن البقر م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (في حديث الجمعة، «فالمتعجل منهم كالمهدي بدنة،(4/279)
فصل بينهما. ولنا أن البدنة تنبئ عن البدانة وهي الضخامة، وقد اشتركا في هذا المعنى، ولهذا يجزئ كل واحد منهما عن سبعة، والصحيح من الرواية في الحديث كالمهدي جزورا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والذي يليه كالمهدي بقرة» ش: هذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولفظهما قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من اغتسل يوم الجمعة فراح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» .
وفي لفظ لهما «إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول ومثل المتهجر كمثل الذي يهدي بدنة، ثم كالذي يهدي بقرة ... » إلى آخره، وفي رواية النسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في الخامسة: «كالذي يهدي عصفوراً» وفي السادسة «كالذي يهدي عصفوراً» وفي رواية قال في الرابعة: «كالذي يهدي بطة، ثم كالمهدي دجاجة، ثم كالهدي بيضة» وقال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الخلاصة " وإسنادهما صحيح، إلا أنهما شاذان لمخالفتهما الروايات المشهورة، وذكر الأترازي الحديث الذي ذكره المصنف بصيغة التمريض ولم يسنده إلى أحد. م: (فصل بينهما) ش: أي بين البدنة والبقرة بواو العطف، وهو دليل المغايرة، فثبت أن البدنة غير البقرة. وفي " جامع الفتاوى " وهذا فيما إذا أوجب على نفسه البدنة فهو بالخيار عندنا إن شاء أهدى الإبل، وإن شاء أهدى البقر، ولو أوجب على نفسه الهدي فهو مخير بين ثلاثة أشياء، إما الإبل أو البقر أو الغنم، ولو أوجب على نفسه الجزور فهو الإبل خاصة.
م: (ولنا أن البدنة تنبئ عن البدانة وهي الضخامة) ش: يقال بدن يبدن بدناً فأضخم م: (وقد اشتركا) ش: أي الإبل والبقر م: (في هذا المعنى) ش: أي في الضخامة م: (ولهذا) ش: أي ولأجل اشتراكهما في هذا المعنى م: (يجزئ كل واحد منهما) ش: أي من الإبل والبقر م: (عن سبعة) ش: أنفس والعجب من صاحب الهداية - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، حيث يستدل بالدليل العقلي، والخصم يستدل بالحديث، وقد روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه جعل الهدي من ثلاثة من الإبل والبقر والغنم والبدنة من الإبل والبقر
م: (والصحيح من الرواية في الحديث «كالمهدي جزوراً» ش: يعني في موضع البدنة.
قلت: هذه اللفظة وإن كانت في مسلم، ولكن رواية البدنة باتفاقهم عليها، فليس كما قال المصنف، ولفظ مسلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «على كل باب من أبواب المسجد ملائكة، ويكتب الأول فالأول مثل الجزور ثم نزلهم حيث صغر إلى مثل البيضة، فإذا جلس الإمام طويت الصحف وحضروا الذكر» . وقال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله «كالمهدي جزوراً» لا أصل له، ولفظة البدنة ثابتة متفق عليها، ولم يذكر في كتب الحديث «كالمهدي جزوراً» فيما علمت، انتهى.(4/280)
والله تعالى أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قد حط عليه مخرج الأحاديث حطاً بالغاً، فقال: جهل هذا الجاهل جهلاً فاحشاً في قوله هذا.
قلت: لم يكن من حسن الأدب أن يحط مثل هذا الحط، وكان ينبغي أن يقول وقد ذهل أو لم يطلع عليه، والعجب من الأكمل أيضاً حيث يقول ولئن ثبتت تلك الرواية، يعني رواية «كالمهدي جزوراً» وكيف يتردد وقد أخرجه مسلم على ما ذكرنا، ولو اطلع هو أيضاً على هذه الرواية لم يقل هكذا، ثم أجاب عن تعليل الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بقوله فصل بينهما نافلاً عن النهاية بقوله للتمييز من حيث الحكم بالعطف لا يدل على اختلاف الجنسية، وكذا التخصيص باسم خاص لا يمنع الدخول تحت اسم العام، كما في قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] (البقرة: الآية 98) . والله أعلم.(4/281)
باب القران
"
القران أفضل من التمتع والإفراد، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الإفراد أفضل، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التمتع أفضل من القران؛ لأن له ذكرا في القرآن، ولا ذكر للقران فيه. وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "القران رخصة "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب القران] [تعريف القران]
م: (باب القران) ش: أي هذا باب في بيان أحكام القرآن، وهو لغة مصدر قرنت هذا بذلك، أي جمعت بينهما. وشرعاً الجمع بين الحج والعمرة وفي الصفة التي تأتي. وهو من باب ضرب يضرب، وأقرن الرجل إذا رفع رمحه لئلا يصيب من قدامه. وفي المشارق يقال قرن، ولا يقال أقرن، ولذا يقال أقرن التمرتين في لقمة واحدة وفي الحديث «نهى عن الإقران في التمر» قاله القاضي عياض - رَحِمَهُ اللَّهُ - كذا في أكثر الروايات. قال: وصوابه القرآن في صحيح البخاري في باب التمتع والإقران.
قال السغناقي في " شرحه " الإقران غير ظاهر، لأن فعله ثلاثي، قال وصوابه قرن وإنما الإفراد على القرآن لتقدمه طبعاً على القران؛ ولأن القران إنما عرف بعد معرفة الإفراد، ثم قدم القران على التمتع؛ لأنه أفضل منه، وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حق المقرن يقدم على المفرد في الحج في البيان والذكر إلا أن المفرد قدم، لأن معرفة القران مرتبة على معرفة الإفراد، ومعرفة الذات مقدمة على معرفة الصفات.
[المفاضلة بين القران والتمتع والإفراد]
م: (القران أفضل من التمتع والإفراد) ش: وهو اختيار المزني وأبي إسحاق المروزي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن المنذر من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبه قال الثوري وإسحاق بن راهويه ومحمد بن جرير الطبري وكثير من أهل الحديث واختيار الظاهرية، وروي ذلك عن عمر وعلي وعائشة وأبي طلحة وعمران بن الحصين وسراقة بن مالك وابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جميعاً والبراء بن عازب والهرماس بن زياد الباهلي وسبرة وحفصة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الإفراد أفضل) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التمتع أفضل من القران) ش: وبه قال الشافعي في قول م: (لأن له) ش: أي لأن للتمتع م: (لأن له ذكرا في القرآن، ولا ذكر للقران فيه) ش: أي في القرآن، قال الله عز وجل: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] فإذا كان مذكوراً في القرآن يكون أهم لو لم يكن أهم لم يذكر في القرآن م: (وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " القران رخصة ") ش: هذا غريب جداً، وذكر الكاكي وجه قول الشافعي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " إنما أجرك على قدر تعبك» والقران رخصة، والإفراد عزيمة، فالتمسك بالعزيمة أولى، انتهى.(4/282)
ولأن في الإفراد زيادة التلبية، والسفر، والحلق. ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يا آل محمد أهلوا بحجة، وعمرة معا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يرض بهذا، وإنما استدل بما أخرجه البخاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفرد الحج» وبما أخرجه البخاري ومسلم أيضاً عن نافع «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: أهللنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحج مفرداً» وبما أخرجه الترمذي عن عبد الله بن نافع الصايغ عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفرد بالحج وأفرد أبو بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -» - وبما أخرجه مسلم عن أبي الزبير «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحج» م: (ولأن في الإفراد زيادة التلبية، والسفر، والحلق) ش: لأن القارن يؤدي النسكين بسفر واحد ويلبي لهما بتلبية واحدة ويحلق مرة واحدة والمفرد يؤدي كل نسكه بصفة الكمال، فكان أفضل.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي ولنا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «يا آل محمد أهلوا بحجة، وعمرة معا» ش: هذا الحديث أخرجه الطحاوي عن أم سلمة سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «يا آل محمد أهلوا بحجة وعمرة معاً» ، ولنا أحاديث غير هذا، ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم عن عبد العزيز بن صهيب «عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبي بالحج والعمرة يقول لبيك حجة وعمرة.»
فإن قلت: قال ابن الجوزي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في " التحقيق " مجيباً عنه: إن أنسا حينئذ كان صبياً فلعله لم يفهم الحال.
قلت: رد عليه صاحب " التنقيح "، فقال: بل كان بالغاً بالإجماع، بل كان له نحو من عشرين سنة، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هاجر إلى المدينة ولأنس عشر سنين، ومات وله عشرون سنة، يدل على ذلك ما أخرجه واللفظ لمسلم «عن بكير عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبي بالحج والعمرة جميعاً، قال بكير: فحدثت بذلك ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقال لبى بالحج وحده، فلقيت أنساً فحدثته بقول ابن عمر فقال أنس ما يعدوننا إلا صبياناً، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لبيك عمرة وحجة» .
ومنها ما أخرجه البخاري «عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول وهو بالعقيق " أتاني الليلة آت من ربي عز وجل، فقال صل في هذا الوادي المبارك، وقيل عمرة في حجة» ومنها ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن داود بن عبد الرحمن عن عمرو بن دينار عن عكرمة «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال اعتمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع(4/283)
ولأن فيه جمعا بين العبادتين، فأشبه الصوم مع الاعتكاف والحراسة في سبيل الله مع صلاة الليل، والتلبية غير محصورة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عمر الحديبية وعمرة القضاء في ذي القعدة من قابل، والثالثة من الجعرانة، والرابعة مع حجته» .
وقال ابن حزم - رَحِمَهُ اللَّهُ -: روي القران عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ستة عشر من الثقات، واتفقوا على أن لفظ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إهلالاً بحجة وعمرة معاً، وهم الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي وحميد بن عبد الرحمن الطويل وقتادة ويحيى بن سعيد ويحيى بن إسحاق الأنصاري وثابت البناني وبكر بن عبد الله المزني وعبد العزيز بن صهيب وسليمان التيمي ويحيى بن إسحاق وزيد بن أسلم ومصعب بن أسلم وأبو أسماء وأبو قتادة وأبو قزعة، وهو سويد الباهلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
والجواب عن حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وحديث ابن عمر وحديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هو أن الصحابة قد اختلفوا في أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أين أحرم فبعضهم قالوا من مسجد ذي الحليفة، وبعضهم قالوا من البيداء، فالذين سمعوا تلبيته بالعمرة في المسجد سمعوا تلبيته بالحج بعد أن استقرت راحلته على البيداء قالوا: إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قرن الحج بالعمرة والذين لم يسمعوا تلبيته في المسجد لكونهم غائبين، وسمعوا تلبيته بالحج في البيداء.
قالوا: أفرد بالحج، والذين سمعوا في المسجد ولم يسمعوا تلبيته بالحج بالبيداء، ثم رده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد فراغه من العمرة ففعل به ما يفعله الحاج من الوقوف بعرفة، وغير ذلك قالوا إنه تمتع، وكل منهم شهد بما صح عنده، ثم لما صح هذا الاحتمال ثبت أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قارناً، لأنا أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شهد بالقران بعدما تحقق عنده، وحديث المفرد والمتمتع محتمل والعمل بالمتحقق أولى من المحتمل.
فإن قلت: قد صح عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان ينهي عن القران، فلو كان أفضل لما نهى عنه.
قلت: «روى الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإسناده إلى مروان بن الحكم، قال: كنا نسير مع عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإذا رجل يلبي بالحج والعمرة، فقال عثمان: من هذا؟ فقالوا: علي فأتاه عثمان فقال ألم تعلم أني نهيت عن هذا، فقال بلى ولكن لم أكن أدع قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقولك» فدل إنكار علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - على أن القران هو الأفضل.
م: (ولأن فيه) ش: أي في القران م: (جمعا بين العبادتين) ش: الحج والعمرة م: (فأشبه الصوم مع الاعتكاف والحراسة في سبيل الله مع صلاة الليل) ش: يعني يحمي الغزاة، ويصلي أيضاً. وجه الشبه في هذين الاثنين هو الجمع بين العبادتين م: (والتلبية غير محصورة) ش: هذا جواب عن قوله، ولأن في الإفراد زيادة التلبية، وتقديره أن المفرد كما يكون بالتلبية مرة أخرى فكذلك(4/284)
والسفر غير مقصود، والحلق خروج عن العبادة فلا ترجيح لما ذكر، والمقصود بما روي نفي قول أهل الجاهلية إن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور. وللقران ذكر في القرآن؛ لأن المراد من قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] (196 البقرة) ، أن يحرم بهما من دويرة أهله على ما روينا من قبل. ثم فيه تعجيل الإحرام واستدامة إحرامهما من الميقات إلى أن يفرغ منهما، ولا كذلك التمتع، فكان القران أولى من التمتع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القارن، لأن له أن يأتي منها ما شاء فيجوز أن تكون تلبية القارن أكثر من تلبية المفرد.
م: (والسفر غير مقصود) ش: هذا جواب عن قوله - والسفر - ووجهه أن المقصود هو الحج والسفر وسبيله إليه، فلم يقع الترجيح م: (والحلق خروج عن العبادة فلا ترجيح لما ذكر) ش: يعني فلا تؤثر فيهما ليترجح به، حاصله أنه ليس بعبادة بنفسه، وهو خروج عن العبادة، بخلاف السلام، فإنه عبادة بنفسه.
م: (والمقصود) ش: أي المراد م: (بما روي) ش: أي ما روى الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (نفي قول أهل الجاهلية) ش: هذا جواب عن قوله - القران رخصة - فإنهم قالوا م: (إن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور) ش: أخرج البخاري ومسلم عن طاووس «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفراً ويقولون: أدبر الدبر، وعفى الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر، فقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا يا رسول الله أي الحل، قال: الحل كله» .
قوله: من أفجر الفجور، أي من أشر السيئات، وإنما قالوا ذلك لئلا يخلو البيت عن الزوار في سائر الشهور، فنفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولهم بقوله القران رخصة جائزة وتوسعة من الله تعالى، وليس المراد من الرخصة ما هو أصح، لأن القران عزيمة فسماه رخصة مجازاً، ويجوز أن يراد بها الصلح ويكون كإسقاط شرط الصلاة في السفر، والرخصة مجازاً في مثله عزيمة عندنا.
م: (وللقران ذكر في القرآن) ش: هذا جواب عن قول مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (لأن المراد من قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) ، أن يحرم من دويرة أهله على ما روينا من قبل) ش: يعني ما روي عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في فضل المواقيت م: (ثم فيه) ش: أي في القران، وهذا مشروع في الترجيح بعد تمام الجواب م: (تعجيل الإحرام) ش: لأنه إذا لم يكن قارناً يكن إحرام الحج بعد الفراغ من العمرة، ويحرم من مكة، وإحرام القارن بهما من الميقات م: (واستدامة إحرامهما) ش: أي استدامة إحرام الحج والعمرة م: (من الميقات إلى أن يفرغ منهما، ولا كذلك التمتع) ش: لأن إحرامه بالعمرة ممتنع، وإحرامه بالحج ممكن فيحل قبل إحرام الحج والبقاء في الإحرام نسك وعبادة م: (فكان القران أولى من التمتع) .(4/285)
وقيل الاختلاف بيننا، وبين الشافعي بناء على أن القارن عندنا يطوف طوافين، ويسعى سعيين، وعنده طوافا واحداً، وسعيا واحداً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل الاختلاف بيننا، وبين الشافعي بناء) ش: أي الاختلاف الحاصل بيننا وبين الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مبني م: (على أن القارن عندنا يطوف طوافين، ويسعى سعيين، وعنده طوافا واحداً) ش: أي يطوف طوافاً واحداً م: (وسعياً واحداً) ش: أي ويسعى سعياً واحداً، يعني أن النزاع لفظي، وهكذا الاختلاف في كتبهم، وفي " التحفة " وحاصل الخلاف أن القارن يحرم بإحرامين فلا يدخل إحرام العمرة في إحرام الحج، وعنده يكون محرماً بإحرام واحد وهو قول ابن سيرين والحسن البصري وطاووس ومسلم والزهري ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية وابن راهويه وداود، وفيه قول ثالث، وهو أن يطوف طوافين ويسعى سعيا ًواحداً، وهو قول عطاء ابن أبي رباح، وقولنا قول مجاهد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رجع إليه، وجابر بن زيد وشريح القاضي وعامر الشعبي ومحمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسن بن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإبراهيم النخعي وعبد الرحمن الأوزاعي وعبد الرحمن بن الأسود والثوري والأسود ابن يزيد والحسن بن أبي الحسن وحماد بن سلمة، وحماد بن سليمان والحكم بن عتبة وزياد بن مالك وابن شبرمة وابن أبي ليلى، وهو محكي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعلي بن أبي طالب والحسن والحسين بن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ذكر ذلك ابن حزم في " المحلى " وغيره.
واحتج الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن معه بما رواه الترمذي عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد» . وقال الترمذي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حديث حسن غريب، قال: روي عن عبد الله بن عمر ولم يرفعوه، قال: وهو أصح وقال الطحاوي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رفع حديث ابن عمر خطأ فيه الداودي فرفعه، وإنما هو عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نفسه، قال: هكذا رواه الحفاظ، وهم مع ذلك لا يحتجون بالداودي عن عبد الله أصلاً، فكيف يحتج بحديث ابن عمر في هذا، وصح عنه أنه قال: «تمتع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع» وصح عنه أنه قال: «أفرد الحج والمفرد والمتمتع أتى بطوافين وسعيين» .
واعلم أنه ينبني على هذا الأصل مسائل منها أن القران أفضل، لأنه يجمع بين العبادتين بإحرامين، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بخلافه ويطوف طوافين ويسعى سعيين وتقدم أفعال العمرة على أفعال الحج، وعنده خلاف ذلك، والدم الواجب فيه دم النسك وعنده دم الجبر، حتى لا يحل له الأكل من عنده، وعليه دمان عند ارتكاب محظور الإحرام، وعنده دم واحد وإذا احصر القارن يحل بهديين عندنا، وعنده بواحدتين.(4/286)
قال: وصفة القران أن يهل بالعمرة، والحج معا من الميقات، ويقول عقيب الصلاة: اللهم إني أريد الحج والعمرة فيسرهما لي، وتقبلهما مني؛ لأن القران هو الجمع بين الحج والعمرة، من قولك قرنت الشيء بالشيء إذا جمعت بينهما، وكذا إذا أدخل حجة على عمرة قبل أن يطوف لها أربعة أشواط، لأن الجمع قد تحقق إذ الأكثر منها قائم، ومتى عزم على أدائهما يسأل التيسير فيهما وقدم العمرة على الحج فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[صفة القران]
م: (وصفة القران) ش: وفي بعض النسخ قال أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وصفة القران م: (أن يهل بالعمرة، والحج معا من الميقات، ويقول عقيب الصلاة) ش: وهي الركعتان اللتان يصليهما عند الشروع في الإحرام م: (اللهم إني أريد الحج والعمرة فيسرهما لي، وتقبلهما مني) ش: وذلك بعد أن يأتي بجميع ما ذكر في المفرد من الاغتسال والوضوء والإحرام وغير ذلك م: (لأن القران هو الجمع بين الحج والعمرة، من قولك قرنت الشيء بالشيء إذا جمعت بينهما) ش: القران مصدر من قرن يقرن، من باب نصر ينصر، وقد استوفينا الكلام فيه في أول الباب.
م: (وكذا) ش: أي وكذا يكون قارناً م: (إذا أدخل حجة على عمرة) ش: يعني أحرم بعمرة ثم أدخل على العمرة حجة م: (قبل أن يطوف لها) ش: أي للعمرة م: (أربعة أشواط، لأن الجمع قد تحقق إذ الأكثر منها) ش: أي من العمرة م: (قائم) ش: لأن أكثر الأشواط منها أو فصار كأن الكل باق، وإنما قيد بقوله قبل أن يطوف لها بأربعة أشواط، لأنه لو أدخل الحج عليها بعد أن طاف أربعة أشواط لا يصير قارناً بالإجماع.
وعند الشافعي ومالك - رحمهما الله - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يصير قارناً أيضاً في الصورة الأولى ولو أحرم بحجة ثم أدخل عليها عمرة يصير قارناً، ولكن أساء، لأنه خالف السنة، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم، لأنهما نسكان، فيجوز الجمع بينهما كما لو أحرم بعمرة ثم أدخل عليها الحج. وقال في الجديد: لا يجوز، وبه قال أحمد. وفي " الذخيرة " عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - القران هو اجتماع الحج والعمرة في إحرام واحد أو أكثرهما، فإن أدخل الحج على العمرة كان قارناً، وإن طاف بعمرته شوطاً ثم أردف الحج قال: فقد صار قارناً عند ابن القاسم نوى أن يكمل به أحد ركني العمرة بعده وفي قول يصير قارناً في أثناء السعي ويقطع باقيه.
م: (ومتى عزم على أدائها) ش: أي على أداء الحج والعمرة م: (يسأل التيسير فيهما) ش: أي في الحج والعمرة م: (وقدم العمرة على الحج فيه) ش: أي في أدائهما. وقال الكاكي: أي في القران وقال أيضاً ويجوز أن يرجع الضمير إلى السؤال.
فإن قلت: السؤال الذي دل عليه قوله - يسأل الله تعالى - وقال الأترازي قول - قدم - معطوف على قوله - يسأل الله.(4/287)
وكذلك يقول: لبيك بعمرة وحجة معا، لأنه يبدأ بأفعال العمرة، فكذلك يبدأ بذكرها، وإن أخر ذلك في الدعاء، والتلبية لا بأس به، لأن الواو للجمع،
ولو نوى بقلبه ولم يذكرهما في التلبية أجزأه اعتبارا بالصلاة. فإذا دخل مكة ابتدأ فطاف بالبيت سبعة أشواط يرمل في الثلاث الأول منها، ويسعى بعدها بين الصفا والمروة، وهذه أفعال العمرة، ثم يبدأ بأفعال الحج فيطوف طواف القدوم سبعة أشواط ويسعى بعده كما بينا في المفرد، ويقدم أفعال العمرة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] (196 البقرة) والقران في معنى المتعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: عطف الماضي على المضارع فيه خلاف، إلا إن كان عنده - سأل - بصيغه الماضي وسؤاله التيسير أن يقول: اللهم إني أريد الحج والعمرة فيسرهما لي وتقبلهما مني.
قلت م: (وكذلك يقول) ش: أي بتقديم العمرة على الحج في التلبية يقول م: (لبيك بعمرة وحجة معا، لأنه يبدأ بأفعال العمرة) ش: في التلبية، لأنه يشرع أولاً في أفعال العمرة م: (فكذلك يبدأ بذكرها) ش: أي بذكر العمرة، يقول اللهم إني أريد العمرة كما ذكرنا الآن م: (وإن أخر ذلك) ش: أي وإن أخر ذلك العمرة أولاً م: (في الدعاء) ش: بأن قال: اللهم إني أريد الحج والعمرة إلى آخره م: (والتلبية) ش: بأن قال لبيك بحجة وعمرة.
م: (لا بأس به، لأن الواو للجمع) ش: دون الترتيب، وقال الكرماني - رَحِمَهُ اللَّهُ - تقديم الحج على ذكر العمرة اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح البخاري " قدم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - العمرة على الحج، وروى الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تقديم الحج على العمرة الأول أصح من جهة الرواية، والمعنى لأن أفعالها مقدمة على أفعال الحج وفي " الينابيع " تقديم العمرة على الحج في التلبية أفضل.
[طواف وسعي القارن]
م: (ولو نوى بقلبه ولم يذكرهما في التلبية أجزأه اعتبارا بالصلاة) ش: غير واجب، ولكن ذكر باللسان أن أحوط الذكر فيهما باللسان واجب، بل يكتفي بذكرها عند التلبية غير واجب، ولكن الذكر باللسان أحوط كما في الصلاة م: (فإذا دخل) ش: أي القارن.
م: (مكة ابتدأ فطاف بالبيت سبعة أشواط يرمل في الثلاث الأول منها، ويسعى بعدها بين الصفا والمروة، وهذه أفعال العمرة، ثم يبدأ بأفعال الحج فيطوف طواف القدوم سبعة أشواط ويسعى بعده كما بينا في المفرد) ش: أي في المفرد بالحج م: (ويقدم أفعال العمرة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] (196 البقرة)) بيانه أن الله تعالى جعل الحج غاية ومنتهى إلى التمتع، فيكون المبدأ من العمرة لا محالة، فلما ثبت تقديم العمرة على الحج في التمتع، ثبت أيضاً في القران، لأن القران في معناه وهو معنى قوله م: (والقران في معنى المتعة) ش: لأن في كل منهما جمعاً بين النسكين في سفره. وفي " التحفة " إذا أفرد بالحج ثم قبل الفراغ من أفعال الحج أحرم بالعمرة يصير قارناً أيضاً لكنه أساء لترك السنة.(4/288)
ولا يحلق بين العمرة والحج؛ لأن ذلك جناية على إحرام الحج، وإنما يحلق في يوم النحر كما يحلق المفرد، ويتحلل بالحلق عندنا لا بالذبح كما يتحلل المفرد، ثم هذا مذهبنا. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يطوف طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا يحلق) ش: رأسه م: (بين العمرة والحج؛ لأن ذلك جناية على إحرام الحج، وإنما يحلق في يوم النحر كما يحلق المفرد، ويتحلل بالحلق عندنا لا بالذبح كما يتحلل المفرد) ش: قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحل بالذبح لأنه روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا أحل منهما حتى أنحر» ، ولنا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في رواية: " لا أحل منهما حتى أحلق "، ولأن التحليل يحصل بالحلق كما في المفرد، وتأويل ما رواه حتى أنحر ثم أحلق بعد، انتهى.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قال بعض الشارحين - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتحلل بالذبح، هذا ليس بمشهور عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويحتمل أن يكون ذلك عنه رواية والمشهور عنه أن المحلل هو الرمي انتهى.
قلت: هو لم يجز مذهب الشافعي كما جاز مذهبه حتى قال هذا القول.
م: (ثم هذا مذهبنا) ش: أي إتيان القارن بأفعال الحج والعمرة جميعاً هو مذهبنا، وبه قال جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والتابعين - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وقد ذكرناهم عن قريب.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يطوف) ش: أي القارن م: (طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا) ش: وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - وهو الرواية عنه، وهو قول الزهري والحسن البصري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وطاووس وسالم وابن سيرين م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عن مجاهد عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هذه عمرة استمتعنا بها، فمن لم يكن عنده هدي فليحل كله وقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حسن ومعناه لا بأس بالعمرة في أشهر الحج. وقال أبو داود هذا حديث منكر، إنما هو قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وقال المنذري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفيما قاله نظر.
وقد رواه أحمد بن حنبل - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار وعثمان بن أبي شيبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن محمد بن جعفر عن عتبة مرفوعاً، ورواه أيضاً يزيد بن هارون ومعاذ بن معاذ العنبري وأبو داود الطيالسي وعمر بن مرزوق عن شعبة مرفوعاً وتقصير من قصر من الرواة لا يؤثر فيما أثبته الحفاظ.(4/289)
ولأن مبنى القران على التداخل حتى اكتفي فيه بتلبية واحدة، وسفر واحد، وحلق واحد، فكذلك في الأركان. ولنا أنه لما طاف صبي بن معبد طوافين، وسعى سعيين، قال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: - هديت لسنة نبيك؛ ولأن القران ضم عبادة إلى عبادة، وذلك إنما يتحقق بأداء عمل كل واحد على الكمال؛ ولأنه لا تداخل في العبادات المقصودة، والسفر للتوسل، والتلبية للتحريم، والحلق للتحلل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن مبنى القران على التداخل) ش: أوضح التداخل بقوله م: (حتى اكتفي فيه) ش: أي في القران م: (بتلبية واحدة، وسفر واحد، وحلق واحد، فكذلك في الأركان) ش: أي فكذا يكفي في الأركان وهو الطواف والسعي، حاصل المعنى كما جاء التداخل في الإحرام بالأشياء المذكورة جاء التداخل أيضاً في الطواف والسعي الذين هما من الأركان.
م: (ولنا أنه «لما طاف صبي بن معبد طوافين، وسعى سعيين، قال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: - هديت لسنة نبيك» ش: هذا الحديث لم يقع هكذا، فقد أخرجه أبو داود والنسائي عن منصور وابن ماجه عن الأعمش كلاهما عن بني وائل «عن صبي بن معبد الثعلبي قال: أهللت بهما معاً فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هديت لسنة نبيك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وذكر بعضهم فيه قصة، ورواه ابن حبان في " صحيحة " وأحمد وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي وابن أبي شيبة في " مسانيدهم ".
وقال الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " العلل ": وحديث الصبي بن معبد هذا حديث صحيح، وروى محمد بن الحسين في " المبسوط «أن صبي بن معبد قرن فطاف طوافين وسعى سعيين، فذكر ذلك لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: هديت لسنة نبيك» . وصبي بضم الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة الثعلبي الكوفي ذكره ابن حبان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في التابعين الثقات.
م: (ولأن القران ضم عبادة إلى عبادة) ش: أخرى م: (وذلك) ش: أي ضم عبادة إلى عبادة م: (إنما يتحقق بأداء عمل كل واحد على الكمال) ش: ولا يكون إسقاطاً لحدهما لا قراناً م: (ولأنه لا تداخل في العبادات المقصودة) ش: بخلاف العقوبات.
فإن قلت: هذا منقوض بسجدة التلاوة، فإنها عبادة وفيها التداخل.
قلت: المراد العبادة المقصودة، والسجدة لست كذلك، ولأن التداخل لرفع الحرج على خلاف القياس فلا يقاس عليهما ولا يلحق بهما الحج، لأنه ليس في معناها، أي في وجود الحرج.
م: (والسفر للتوسل) ش: جواب عن قوله - ولسفر بهذا - وقوله م: (والتلبية للتحريم، والحلق للتحلل) ش: وقع تكراراً، لأنه ذكره فيما مضى عن قريب، وهو قوله - وبالتلبية غير(4/290)
فليست هذه الأشياء بمقاصد، بخلاف الأركان، ألا ترى أن شفعي التطوع لا يتداخلان، وبتحريمة واحدة يؤديان، ومعنى ما رواه. دخل وقت العمرة في وقت الحج".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
محصورة ... إلى آخره. قيل ذكر هناك باعتبار الإفراد أفضل، وهاهنا باعتبار إفراد السعي فيحتاج إلى الجواب عنه بالاعتبارين، ومثله في التكرار غير منكر.
قلت: هذا شرح، والتكرار فيه يزيد وضوحاً.
م: (فليست هذه الأشياء) ش: يعني السفر والتلبية والحلق م: (بمقاصد) ش: وإنما هي وسائل، فجاز التداخل فيها، لأن السفر للتوسل إلى أداء الحج والعمرة، فيكتفى بسفر واحد، والمقصود من التلبية الإحرام، ويحصل إحرامهما بتلبية واحدة، والمقصود من الحلق التحلل، فيحصل ذلك بحلق واحد م: (بخلاف الأركان) ش: نحو الطواف والسعي، والطواف ركن، والسعي واجب، فلا يتداخلان.
وأوضح ذلك بقوله م: (ألا ترى أن شفعي التطوع لا يتداخلان، وبتحريمة واحدة يؤديان) ش: لما أن التحريمة غير مقصودة، فيجزئ التداخل فيه م: (ومعنى ما رواه) ش: هذا جواب عن الحديث الذي احتج به الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي معنى الحديث الذي رواه الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (دخل وقت العمرة في وقت الحج) ش: بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ويجوز ذلك عند عدم القياس.
كما في قَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] [يوسف: الآية 82] ، أي اسأل أهلها، وإنما قدر ذلك لأن حقيقة العمرة لا يمكن دخولها في حقيقة الحج، لأن الفرض لا يمكن أن يكون طرفاً لشيء آخر، فتعين المجاز بأن يراد اتحاد الوقت مجازاً، فيكون المعنى يجوز أداء العمرة في أشهر الحج، وذلك لنفي قول أهل الجاهلية أن العمرة لا يجوز أداؤها في أشهر الحج، لا لبيان أن القارن يأتي بطواف واحد وسعي واحد.
فإن قلت: روى الدارقطني عن ابن أبي ليلى عن عطية عن أبي سعيد الخدري «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما بالبيت طوافاً واحداً وبالصفا والمروة طوافاً واحداً» .
قلت: قال ابن الجوزي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو ضعيف، وقال في " التنقيح ": وعطية أضعف منه، وقيل: ولئن سلمنا صحته فمعناه طاف لهما على صفة واحدة بدليل ما روي عن صبي بن معبد وغيره. وأخرج(4/291)
قال: فإن طاف طوافين لعمرته، وحجته، وسعى سعيين يجزئه؛ لأنه أتى بما هو المستحق عليه، وقد أساء بتأخير سعي العمرة، وتقديم طواف التحية عليه، ولا يلزمه شيء. أما عندهما فظاهر؛ لأن التقديم والتأخير في المناسك لا يوجب الدم عندهما. وعنده طواف التحية سنة، وتركه لا يوجب الدم، فتقديمه أولى. والسعي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه الكبرى " في مسند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن حماد بن عبد الرحمن الأنصاري «عن إبراهيم بن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: طفت مع أبي وقد جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين وحدثني أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل ذلك، وحدثني أن رسول الله فعل ذلك» .
م: (فإن طاف طوافين) ش: وفي بعض النسخ قال: فإن طاف طوافين أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في القارن فإن طاف طوافين م: (لعمرته وحجته وسعى سعيين يجزئه) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو قال صاحب " الهداية " في قوله وسعى بلفظ أو بحرف الفاء لكان أولى، لأن صورة المسألة السعيان بعد الطوافين ولا يفهم ذلك من حرف الواو، ولهذا ذكر محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الجامع الصغير " بلفظ ثم حيث قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القارن يطوف طوافين لعمرته ولحجته ثم يسعى سعيين قال: يجزئه وقد أساء، انتهى.
قلت تقديم لفظ - طاف طوافين يشعر أن الطواف كان قبل السعي، وإن كانت الواو للجمع، على أن بعضهم ذكر أنها تجيء للترتيب أيضا وإن كان غير مشهور.
م: (لأنه أتى بما هو المستحق عليه) ش: وهو الطوافان وسعيان م: (وقد أساء بتأخير سعي العمرة، وتقديم طواف التحية عليه) ش: هاهنا مناقشات، الأولى: مع المصنف حيث قال طواف التحية يعني طواف القدوم لأن الظاهر من كلام محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المراد أحد الطوافين، طواف العمرة والآخر طواف الزيارة لا طواف القدوم، ولهذا قال: في جواب المسألة تجزئه. ولمحمد ابن عبادة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عما يكون كافياً في الخروج عن عهدة الفرض ولا يحصل الأجر بإتيان السنة وترك الفرض. المناقشة الثانية: مع محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في هذه المسألة كان ينبغي أن يجزئه، لأنه ترك الترتيب المشروع فيبطل، كما إذا قدم السعي على الطواف م: (ولا يلزمه شيء) ش: أي دم.
م: (أما عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (فظاهر) ش: يعني عدم اللزوم ظاهر م: (لأن التقديم والتأخير في المناسك لا يوجب الدم عندهما وعنده) ش: أي وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (طواف التحية سنة، وتركه لا يوجب الدم، فتقديمه أولى. والسعي(4/292)
بتأخيره والاشتغال بعمل آخر لا يوجب الدم فكذا بالاشتغال بالطواف.
قال: وإذا رمى الجمرة يوم النحر ذبح شاة، أو بقرة، أو بدنة، أو سبع بدنة، فهذا دم القران؛ لأنه في معنى المتعة، والهدي منصوص عليه فيها، والهدي من الإبل، والبقر، والغنم، على ما نذكره في بابه إن شاء الله تعالى، وأراد بالبدنة هنا البعير، وإن كان اسم البدنة يقع عليه. وعلى البقرة على ما ذكرنا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بتأخيره والاشتغال بعمل آخر لا يوجب الدم، فكذا بالاشتغال بالطواف) ش: أي بطواف التحية، لأن عندهما أحدهما طواف التحية، والآخر طواف العمرة.
[دم القران]
م: (وإذا رمى الجمرة يوم النحر) ش: وفي أكثر النسخ قال وإذا رمى، أي قال القدوري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإذا رمى القارن جمرة العقبة يوم النحر، وفي أكثر النسخ قال: وإذا رمى، أي قال القدوري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وإذا رمى القارن جمرة العقبة يوم النحر م: (ذبح شاة، أو بقرة، أو بدنة، أو سبع بدنة، فهذا دم القران) ش: أي فهذا المذكور دم القران.
م: (لأنه) ش: أي لأن القران م: (في معنى المتعة) ش: لأن كلاً منهما يقال في سفرة واحدة والمتعة اسم بمعنى المتمتع م: (والهدي منصوص عليه فيها) ش: أي في المتعة بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) ، أي فعليه ما استيسر من الهدي فإذا كان الهدي واجباً على المتمتع بالنص، فكذلك يجب على القارن، لأنه في معنى التمتع في الجمع بين النسكين.
م: (والهدي من الإبل، والبقر، والغنم) ش: أي من هذه الثلاثة، ولما قال والهدي منصوص عليه في المتعة بين الهدي بقوله - والهدي - أي الهدي المذكور في قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) وإن أهدى. من هذه الثلاثة ثم أحال تفسير الأحكام التي فيه على باب الهدي بقوله م: (على ما نذكره في بابه إن شاء الله تعالى) ش: أي في باب الهدي م: (وأراد بالبدنة هنا) ش: أي أراد القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله - أو بدنة أو سبع بدنة - م: (البعير، وإن كان اسم البدنة يقع عليه) ش: أي على البعير م: (وعلى البقرة) ش: لأن اسم البدنة يطلق عليهما م: (على ما ذكرنا) ش: في آخر الفصل الذي قبل هذا الباب. واعلم أن قوله - وأراد بالبدنة البعير - كأنه جواب عن سؤال مقدر وهو أن يقال أنتم تقولون البدنة تطلق على البعير، فكيف قال القدوري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هاهنا أو بقرة أو بدنة أو سبع بدنة؟ والجواب نحن لا ننكر إطلاق البدنة على كل واحد من نفسه مفرداً، وهاهنا كذلك.
فإن قلت: سلمنا ذلك، لكن المنصوص عليه هدي وهو اسم لما يهدى به إلى الحرم وسبع بدنة ليس كذلك، ولهذا لو قال: إن فعلت كذا فعلي هدي، ففعل كان عليه ما استيسر من الهدي، وهو شاة.
فالجواب: أن القياس ما ذكرتم ولكن ثبت جواز سبع البدنة أو البقرة «بحديث جابر - رضي(4/293)
وكما يجوز سبع البعير يجوز سبع البقرة فإذا لم يكن له ما يذبح صام ثلاثة أيام في الحج آخرها يوم عرفة
وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] [196 البقرة] . فالنص وإن ورد في التمتع فالقران مثله لأنه مرتفق بأداء النسكين، والمراد بالحج - والله أعلم - وقته؛ لأن نفسه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله عنه - قال: أشركنا حين كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البقرة سبعة وفي البدنة سبعة وفي الشاة واحد» وأما الناذر إذا نوى سبع بدنة فلا رواية في، وعلى تقدير التسليم فالفرق أن النذر ينصرف إلى المتعارف كاليمين وبعض الهدي ليس بهدي عرفاً.
[صيام القارن]
م: (وكما يجوز سبع البعير يجوز سبع البقرة) ش: لحديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المذكور م: (فإذا لم يكن له) ش: أي للقارن م: (ما يذبح صام ثلاثة أيام في الحج) ش: أي في وقته يبدأ إن أحرم بالعمرة م: (آخرها) ش: أي آخر الثلاثة الأيام م: (يوم عرفة) ش: يصوم قبل التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة.
قال طاووس والشعبي والنخعي وعطاء والحسن وسعيد بن جبير - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وعلقمة وعمرو بن دينار. وقال شمس الأئمة وهو قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكره صوم يوم عرفة عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الأوزاعي، والثوري - رحمهما الله - يصومهن من أول العشر إلى يوم عرفة ويجوز أن يصومها قبل الإحرام بالحج وهو محرم بالعمرة أو حلال. وبه قال عطاء وأحمد - رحمهما الله - وحكى ابن المنذر عن أبي ثور أنه حكى عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه يجوز قبل أن يحرم بالعمرة قلت: هذا غير صحيح، والنقل عند غيرهما، ولا يجوز إلا بعد الإحرام بالعمرة، وكذا ذكره في " المبسوط " و " المحيط " والبدائع " قال هذا بلا خلاف.
م: (وسبعة أيام) ش: أي صوم سبعة أيام م: (إذا رجع إلى أهله لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] [البقرة الآية 196] . فالنص وإن ورد في التمتع فالقران مثله لأنه) ش: أي لأن القارن م: (مرتفق بأداء النسكين) ش: أي العمرة والحج، وقد مر بيانه.
م: (والمراد بالحج) ش: أي في قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) م: (والله أعلم - وقته) ش: أي وقت الحج م: (لأن نفسه) ش: أي نفس الحج م: (لا يصلح ظرفاً) ش: لأنه عبارة عن الأفعال المعلومة، والفعل لا يصلح أن يكون ظرفاً لفعل آخر، وهو الصوم، فتعين الوقت، وهذا عندنا وعند أحمد في رواية، حتى لو صام بعد إحرام العمرة يجوز. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يصوم الثلاثة إلا بعد إحرام الحج.
لأن الصوم عبادة بدنية فلا يجوز قبل وقتها كالصلاة، قلنا: إنه دم نسك حيث وفقه - الله تعالى - لأداء النسكين في سفرة واحدة، وأثره يظهر في العمرة، فإن الله تعالى من علينا وشرع(4/294)
لا يصلح ظرفا، إلا أن الأفضل أن يصوم قبل يوم التروية بيوم ويوم التروية، ويوم عرفة لأن الصوم بدل عن الهدي، فيستحب تأخيره إلى آخر وقته رجاء أن يقدر على الأصل، وإن صامها بمكة بعد فراغه من الحج جاز، ومعناه بعد مضي أيام التشريق؛ لأن الصوم فيها منهي عنه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لا يجوز لأنه معلق بالرجوع، إلا أن ينوي المقام، فحينئذ يجزيه لتعذر الرجوع. ولنا أن معناه: رجعتم عن الحج، أي فرغتم، إذ الفراغ سبب الرجوع إلى أهله، فكان الأداء بعد السبب فيجوز، وإن فاته الصوم حتى أتى يوم النحر لم يجزئه إلا الدم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العمرة في أشهر الحج رداً لقول الكفرة، فظهر أثره في العمرة فكانت هي الأصل في باب التمتع والقران، فإذا وجد سبب وجوب الهدي جاز الصوم الذي خلفه للعاجز عنه.
م: (إلا أن الأفضل أن يصوم) ش: هذا استثناء من قوله: - المراد بالحج وقته - أي المراد بالمذكور من قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] هو الوقت، لكن الأفضل أن يصوم م: (قبل يوم التروية بيوم ويوم التروية، ويوم عرفة؛ لأن الصوم بدل عن الهدي، فيستحب تأخيره إلى آخر وقته رجاء) ش: أي لأجل رجاء م: (أن يقدر على الأصل) ش: وهو الهدي م: (وإن صامها) ش: أي إن صام سبعة أيام م: (بمكة بعد فراغه من الحج جاز) ش: في أي مكان كان م: (ومعناه) ش: أي معنى هذا الكلام م: (بعد مضي أيام التشريق؛ لأن الصوم فيها) ش: أي في أيام التشريق م: (منهي عنه) ش: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا لا تصوموا في هذه الأيام» ، وقد مر في كتاب الصوم، وإنما قيد هذا الكلام بقوله - ومعناه - لأنه لما يذكر هذا القيد.
ولكن المراد هو المراد فيه فلذلك ذكره لأنه يشرح كلام القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز) ش: أي صوم السبعة بمكة، إلا أن يقيم بها م: (لأنه) ش: أي صوم السبعة م: (معلق بالرجوع) ش: إلى أهله فيكون الرجوع شرطاً، فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط.
م: (ولنا أن معناه: رجعتم عن الحج، أي فرغتم، إذ الفراغ سبب الرجوع إلى أهله فكان الأداء بعد السبب) ش: أي بعد وجود السبب، وهذا من باب ذكر المسبب وهو الرجوع وإرادة السبب وهو الفراغ وكان الأداء بعد السبب م: (فيجوز) ش: وإنما صير إلى المجاز، لأن الرجوع ليس بشرط بالاتفاق ألا ترى أنه إذا نوى الإقامة بمكة جاز له صوم السبعة بمكة وإن لم يوجد الرجوع إلى أهله، وقد قيل معناه إذا رجعتم إلى مكة، وقيل إذا رجعتم إلى الحالة الأعلى معنى إذا فرغتم من أفعال الحج م: (وإن فاته الصوم) ش: أي صوم هذه الأيام الثلاثة م: (حتى أتى يوم النحر لم يجزه إلا الدم) ش: روى ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد والحسن وعطاء - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ووجوب صومها بعد أيام التشريق حماد والثوري وابن المنذر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أحد أقوال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على(4/295)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصوم بعد هذه الأيام لأنه صوم موقت، فيقضي كصوم رمضان. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصوم فيها لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] (196 البقرة) ، وهذا وقته. ولنا النهي المشهور عن الصوم، في هذه الأيام فيتقيد به النص أو يدخله النقص، فلا يتأدى به ما وجب كاملا، ولا يؤدى بعدها؛ لأن الصوم بدل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما يجيء الآن.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصوم بعد هذه الأيام) ش: أي أيام التشريق وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا ستة أقوال: أحدها: لا صوم، وينقل إلى الهدي، الثاني: عليه صوم عشرة أيام مطلقاً، والثالث: عليه صوم عشرة أيام يفرق بيوم، الرابع: يفرق بأربعة أيام. والخامس: يفرق بمدة إمكان السير.
والسادس: بأربعة أيام، ومدة إمكان السير وهو أصحها عندهم ذكر ذلك كله النووي في " شرح المهذب " وقال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأخرج ابن شريح وإسحاق المروزي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قولاً إنه يسقط الصوم ويستقر في ذمته ولا يجب التتابع في الثلاثة ولا في السبعة، وقال ابن قدامة: ولا نعلم فيه خلافاً م: (لأنه صوم موقت، فيقضي) ش: فإذا فات أداؤه يجب قضاؤه.
م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصوم فيها) ش: أي في أيام التشريق م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196)) ش:، وهذا وقته. ولنا النهي المشهور عن الصوم في هذه الأيام) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ألا لا تصوموا في هذه الأيام» ، وقد مر في الصوم، ويعكر عليه حديث أخرجه البخاري «عن عائشة وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يضمن إلا لمن لم يجد الهدي» وقال البيهقي في " المعرفة ": هذا يشبه المسند، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بلغني أن ابن شهاب يرويه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفي التعريض بلفظ المشهور إشارة إلى الجواب عما يقال النص يدل على شرعية الصوم في هذه الأيام بقوله - في الحج - فلا يجوز تقييده بغير أيام التشريق بالخبر، لأنه نسخ بالكتاب، وتقدير الجواب أن الخبر مشهور فيجوز التقييد به.
م: (فيتقيد به النص) ش: أي يتقيد بالخبر المشهور قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) ، وقد علم في الأصول أن تقييد المطلق من كتاب الله عز وجل بالخبر المشهور جائز، فيكون العمل بالمقيد نسخاً للإطلاق م: (أو يدخله النقص) ش: يعني يدخل الصوم لورود النهي عن الصوم في هذه الأيام م: (فلا يتأدى به ما وجب كاملا) ش: أي فلا يتأدى بسبب النقص ما وجب كاملاً، وأراد بما وجب كاملاً صوم ثلاثة أيام.
م: (ولا يؤدي بعدها) ش: أي بعد هذه الأيام م: (لأن الصوم بدل) ش: أي عن الهدي، فلو جاز قضاؤه يلزمه أن يكون للبدل بدل، ولا نظير له في الشرع، وذلك لأن أداء الصوم بدل، ثم(4/296)
والأبدال لا تنصب إلا شرعا، والنص خصه بوقت الحج وجواز الدم على الأصل. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أمر في مثله بذبح الشاة، فلو لم يقدر على الهدي تحلل وعليه دمان، دم التمتع، ودم التحلل قبل الهدي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قضاؤه يدل على البدل م: (والأبدال لا تنصب إلا شرعا) ش: يعني البدل على خلاف القياس، لأنه لا مماثلة بين إراقة الدم والصوم، فلا يثبت إلا بإثبات الشارع م: (والنص خصه بوقت الحج) ش: النص هو قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) قوله - خصه - أي الصوم بوقت الحج، حيث قال في الحج، فإذا فات وقته فات هو أيضاً، فيظهر حكم الأصل وهو الدم على ما كان.
م: (وجواز الدم على الأصل) ش: هذا جواب سؤال وهو أن يقال الدم يجوز في أيام النحر والتشريق، وبعدها ينبغي أن يجوز الصوم، لأنه بدله، فقال وجواز الدم بطريق الأصالة لا بطريق البدل، ولم يقيده الشارع بوقت، حيث قال: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] فبقي مطلقاً، ففي أي وقت أتى به يجوز، بخلاف الصوم؛ لأنه موقت بوقت الحج.
م: (وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أمر في مثله بذبح الشاة) ش: يعني في قارن لم يجد الهدي ولم يصم حتى أتت عليه أيام النحر، وهذا عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غريب، وكذا ذكره في " المبسوط " فنقل عن عمر أنه أتاه رجل يوم النحر فقال: إني تمتعت بالعمرة إلى الحج، فقال: اذبح شاة، قال ما معي شيء، قال: سل أقاربك، قال: ما هنا أحد منهم، فقال: يا فتى أعطه قيمة شاة.
م: (فلو لم يقدر) ش: أي القارن م: (على الهدي تحلل وعليه دمان، دم التمتع، ودم التحلل قبل الهدي) ش: قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما يلزم ذلك لوقوع التحلل قبل أوانه.
فإن قلت: التحلل جناية على إحرامين، فينبغي أن يلزمه دمان.
قلت: إنه خرج بالحلق عن إحرام العمرة، فيكون هذا جناية على إحرام الحج فقط، ولا يلزمه بتأخير الذبح عن الحلق شيء. وفي " المحيط والبدائع " لو قدر على الهدي بعد المال صام ثلاثة أيام قبل يوم النحر لزمه الهدي وبطل صومه، وإن وجده بعدما حلق أو قصر قبل صوم السبعة فلا هدي عليه، وكذا لو لم يحل حتى مضت أيام النحر فلا هدي عليه، وصومه تام.
وفي " المبسوط " وجد الهدي بعد صوم يومين بطل صومه ويجب الهدي، وبعد التحلل لا يجب كالمتيمم إذا وجد الماء بعد فراغه من صلاته، وفي المجرد صام ثلاثة أيام ثم وجد الهدي بعد صومه بطل صومه، وفي قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في نوادر ابن سماعة لا ذبح عليه، وجاز صومه، سواء وجد الهدي في أيام الذبح أو بعدها. وقال(4/297)
فإن لم يدخل القارن مكة وتوجه إلى عرفات فقد صار رافضا لعمرته بالوقوف؛ لأنه تعذر عليه أداؤها؛ لأنه يصير بانيا أفعال العمرة على أفعال الحج، وذلك خلاف المشروع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحسن وقتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إذا دخل في الصوم ثم أيسر مضى في صومه، واختاره ابن المنذر، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وقال الأترازي في هذا الموضع كلامًا كثيراً، حاصله أنه أراد الإشكال بيانه أن قوله - فلو لم يقدر إلى قوله - قبل الهدي - لفظ القدوري بعينه في " شرحه " لمختصر القدوري ولكن القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ساق كلامه في المتمتع وصاحب الهداية نقل ذلك إلى القارن والإشكال أنه هو كيف جعل حكمهما واحداً في الكفارة والمتمتع حكمه في الكفارة حكم المفرد، سواء لأنه محرم بعمرة.
فإذا فرغ منها يجزئه بحجة، وبه صرح في " شرح الطحاوي "، فلما كان كذلك يجب عليه دم واحد للكفارة، كالمفرد إذا جنى، وأما القارن إذا جنى يجب عليه دمان الأجل الجناية إلا أنه لو حلق المفرد قبل الذبح لا يلزمه دم عند أبي حنيفة أيضاً، لأنه لا ذبح على المفرد فلا يتحقق تأخير النسك، فينبغي أن يجب هنا دمان آخران سوى دم النسك بجناية على إحرامين في الحج والعمرة جميعاً، انتهى.
قلت: صاحب الهداية - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم ينقل لفظ التمتع إلى القارن قصد الهدي الذي ذكره حتى يرد عليه إشكال، بل نية ذلك أن مراد القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - من لفظ المتمتع هو القران، لأنه يصح إطلاقه عليه من حيث أن كلاً منهما نسكان في الصورة، وإن كان بينهما فرق في الحكم، ولهذا وقع عند بعض الشراح هنا بعد قوله دم التمتع أو القران.
م: (فإن لم يدخل القارن مكة، وتوجه إلى عرفات فقد صار رافضا لعمرته بالوقوف) ش: هذا لفظ القدوري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في مختصره، وذكر صاحب " الهداية " تعليله بقوله م: (لأنه) ش: أي لأن القارن م: (تعذر عليه أداؤها) ش: أي أداء العمرة م: (لأنه يصير بانيا أفعال العمرة على أفعال الحج، وذلك خلاف المشروع) ش: لأن المشروع أن يكون الوقوف مرتباً على أفعال العمرة. وقال الطحاوي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في مختصره إلى عرفات قبل أن يطوف لعمرته، فإن أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يقول قد صار بذلك رافضاً لعمرته حين توجه وعليه دم وعمرة مكانها، ويمضي في حجه. وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: لا يكون رافضاً لعمرته حتى يقف بعرفات بعد زوال الشمس.
وقال أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرحه لمختصر الطحاوي: هذا الخلاف الذي ذكر أبو جعفر لا نعرفه، وإنما نعرف عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيها روايتين، وأما رواية " الجامع الصغير " و " الأصل " فإنه لا يكون رافضاً بالتوجه حتى يقف بعرفات بعد الزوال وروى صاحب(4/298)
ولا يصير رافضا بمجرد التوجه، هو الصحيح من مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا. والفرق له بينه وبين أن يصلي الظهر يوم الجمعة إذا توجه إليها أن الأمر هنالك بالتوجه متوجه بعد أداء الظهر،
والتوجه في القران والتمتع منهي عنه قبل أداء العمرة فافترقا. قال: وسقط عنه دم القران لأنه لما ارتفضت العمرة لم يرتفق لأداء النسكين، وعليه دم لرفض عمرته بعد الشروع فيها، وعليه قضاؤها لصحة الشروع فيها، فأشبه المحصر، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" الإملاء " عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يكون رافضاً بالتوجه وذكر الحاكم الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الكافي " عن " نوارد ابن سماعة " قال وفي قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو رافض للعمرة حين توجه إلى عرفات، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يصير رافضاً بالتوجه ولا بالوقف، انتهى.
قلت: وقال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يكون رافضاً ما لم يأخذ في التحلل، لأن عنده طواف العمرة يدخل في طواف الحج، فلا يلزمه طواف مقصود وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يكون رافضاً ما لم يركع الطواف.
م: (ولا يصير رافضا بمجرد التوجه، هو الصحيح من مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا) ش: احترز به عن رواية أصحاب الإملاء عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد مر آنفاً م: (والفرق له) ش: أي لأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (بينه) ش: أي بين التوجه إلى عرفات م: (وبين أن يصلي الظهر) ش: في منزله م: (يوم الجمعة إذا توجه إليها أن الأمر هنالك) ش: وفي بعض النسخ هناك هو قوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] (الجمعة: 9) م: (بالتوجه متوجه بعد أداء الظهر) ش: ووجه توجهه أنه مأمور بالتوجه إلى الجمعة وفرض من فروضها بالنص.
م: (والتوجه في القران والتمتع منهي عنه قبل أداء العمرة فافترقا) ش: أي حكم التوجه إلى الجمعة، وحكم التوجه إلى عرفات م: (وسقط عنه دم القران) ش: وفي بعض النسخ قال وسقط أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وسقط وفي بعض النسخ أيضاً وبطل عنه دم القران م: (لأنه لما ارتفضت العمرة لم يرتفق لأداء النسكين) ش: وهما العمرة والحج، وفي بعض النسخ لم يتوقف لأداء النسكين.
م: (وعليه دم لرفض عمرته بعد الشروع فيها، وعليه قضاؤها) ش: أي قضاء العمرة المرفوضة م: (لصحة الشروع فيها) ش: أي في العمرة، لأن الشروع ملزم، ولأن هذا تحليل من إحرامها يعني طوافاً م: (فأشبه المحصر) ش: حيث يجب عليه دم رفضاً «لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أحصر عام الحديبية بعث البدن للنحر ورجع وقضى عمرته من قابل» كذا في " مبسوط شيخ الإسلام " والله أعلم.(4/299)
باب التمتع التمتع أفضل من الإفراد، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإفراد أفضل؛ لأن المتمتع سفره واقع لعمرته، والمفرد سفره واقع لحجته. وجه ظاهر الرواية أن في التمتع جمعا بين العبادتين فأشبه القران، ثم فيه زيادة نسك، وهي إراقة الدم، وسفره واقع لحجته، وإن تخللت العمرة؛ لأنها تبع الحج كتخلل السنة بين الجمعة والسعي إليها. والمتمتع على وجهين متمتع يسوق الهدي ومتمتع لا يسوق الهدي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب التمتع] [تعريف التمتع]
م: (باب التمتع) ش: أي هذا باب في بيان أحكام التمتع، وإنما أخره عن القران، لأنه أفضل من التمتع عندنا، والتمتع من المتاع والمتعة، وهو ما ينتفع به كيف كان، وقال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - المتاع السلعة والمتاع أيضاً لمنفعته، وما تمتعت به، وقد متع به يتمتع تمتعاً، والاسم المتعة ومنه متعة النكاح ومتعة الطلاق ومتعة الحج لأنه الانتفاع. وفي " المشارق " متعة الحج جمع غير المكي بين الحج والعمرة في أشهر الحج في سفر واحد.
وفي المتعة بضم الميم، وعن الخليل كسر ميم متعة الحج دون متعة النكاح، وقال ابن الأثير قد تمتع بالعمرة في أيام الحج، أي يتمتع، لأنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج، فأجازها الإسلام. وفي " مجمع الغرائب " أمتع الله بك، أي أطال الله عمرك حتى يتمتع بك، فالكل يرجع إلى المتعة، وقيل سمى المتمتع متمتعاً لأنهم يتمتعون بالنساء والطيب بين التمتع والعمرة والحج.
[المفاضلة بين التمتع والإفراد] 1
م: (التمتع أفضل من الإفراد) ش: هذا ظاهر الرواية عن أصحابنا، لأن فيه جمعاً بين العبادتين، فكان أفضل كالقران م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإفراد أفضل) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اصح قوليه ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن المتمتع سفره واقع لعمرته، والمفرد سفره واقع لحجته) ش: لأن المتمتع محرم من الميقات للعمرة، ثم يدخل مكة ويبدأ بأفعالها ثم يحرم بالحج، فيكون سفره واقعاً للعمرة، فإن بعد الفراغ من أفعالها يعتبر مقيما ًحكماً كالمكي، ولهذا لا يطوف للتحية كالمكي. م: (وجه ظاهر الرواية أن في التمتع جمعا بين العبادتين فأشبه القران، ثم فيه زيادة نسك، وهي إراقة الدم، وسفره واقع لحجته، وإن تخللت العمرة؛ لأنها تبع للحج كتخلل السنة بين الجمعة والسعي إليها) ش: يعني أن السنة تخللت بين صلاة الجمعة، وبين السعي إلى صلاة الجمعة، ومع هذا لم يكن السعي إلى السنة بل إلى فرض الجمعة م: (والمتمتع على وجهين متمتع) ش: أي أحدهما متمتع م: (بسوق الهدي) ش: وهو ما يهدى إلى الحرم من الإبل والبقر والغنم م: (ومتمتع) ش: أي والآخر متمتع م: (لا يسوق الهدي) ش: وربما يكون بغير(4/300)
ومعنى التمتع الترفق بأداء النسكين في سفر واحد من غير أن يلم بأهله بينهما إلماما صحيحا، ويدخله اختلافات نبينها إن شاء الله تعالى، وصفته أن يبتدئ من الميقات في أشهر الحج، فيحرم بالعمرة ويدخل مكة فيطوف لها، ويسعى لها، ويحلق أو يقصر، وقد حل من عمرته،
وهذا هو تفسير العمرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سوق الهدي، وذلك أن التمتع هو الترفق بأداء النسكين، وربما يكون ذلك بسوق الهدي، وربما يكون بغير سوق الهدي.
[معنى التمتع وصفته]
م: (ومعنى التمتع الترفق) ش: من الرفق، وأراد به الانتفاع م: (بأداء النسكين) ش: وهما العمرة والحج م: (في سفر واحد من غير أن يلم) ش: بضم الياء مصدره الإلمام يقال: ألم م: (بأهله) ش: إذا نزل م: (بينهما إلماما صحيحا) ش: احترز به عن الإلمام الفاسد، فإنه لا يمنع صحة التمتع عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والإلمام الصحيح النزول في وطنه من غير بقاء صفة الإحرام، وعند مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: البلد المساوي لبلده، مثل بلده في ذلك. وعند الشافعي، وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: الاعتبار بمسافة القصر.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قال بعض الشارحين: عرف المصنف التمتع بقوله: ومعنى التمتع الترفق ... إلى آخره، واعترض عليه بأنه غير مانع لدخول من يترفق بهما إذا كان أحدهما في غير أشهر الحج والآخر في أشهر الحج، وكذا إذا وجد النسكان في كل أشهر الحج، لكل أحد فيما حصل في أشهر الحج من هذه السنة في السنة الأخرى، فإنهما ليسا بمتمتعين، وكان الواجب أن يقول التملك التمتع، وهو الجمع بين النسكين في أشهر الحج في سنة واحدة من غير إلمام بأهله إلماماً صحيحاً انتهى.
قلت: أراد بقوله: بعض الشارحين الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه اعترض هكذا في " شرحه " ثم أجاب الأكمل بقوله: والجواب أن ما ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو تفسير، وأما كون الترفق في أشهر الحج في عام واحد فهو شرطه.
م: (ويدخله) ش: أي يدخل الإلمام الصحيح م: (اختلافات نبينها إن شاء الله تعالى) ش: يعني في هذا الباب م: (وصفته) ش: أي صفة المتمتع م: (أن يبتدئ من الميقات في أشهر الحج، فيحرم بالعمرة ويدخل مكة فيطوف لها، ويسعى لها) ش: يعني بين الصفا والمروة سبعة أشواط م: (ويحلق أو يقصر، وقد حل من عمرته) ش: هكذا ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في صفة عمرة المتمتع، أشار إليه المصنف بقوله:
م: (وهذا هو تفسير العمرة) ش: وهي الإحرام، والطواف، والسعي، والحلق، والتقصير، ثم يحرم بالحج من الحرم ويفعل مثلما يفعل المحرم بالحج فإذا حلق يوم النحر فقد حل من إحرامي العمرة والحج جميعاً.(4/301)
وكذلك إذا أراد أن يفرد بالعمرة فعل ما ذكرنا، هكذا فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرة القضاء. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا حلق عليه، إنما العمرة والطواف والسعي، وحجتنا عليه ما روينا. وقَوْله تَعَالَى {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح: 27] (27 الفتح) الآية، نزلت في عمرة القضاء؛ ولأنها لما كان لها تحرم بالتلبية كان لها تحلل بالحلق كالحج.
ويقطع التلبية إذا ابتدأ بالطواف، وقال مالك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: يحلق أو يقصر، هذا التخيير فيمن لم يكن بشعره علة أو مقصوصاً أو مضفوراً، وإنما لم يذكر طواف القدوم؛ لأنه ليس للعمرة طواف الصدر، وعن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن لها طواف الصدر م: (وكذلك إذا أراد) ش: أي المتمتع م: (أن يفرد بالعمرة فعل ما ذكرنا) ش: يعني الإحرام، والطواف، والسعي، والحلق، والتقصير. وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد قوله: أو يقصر ظاهر كلام المصنف وغيره أن التحلل حتم لمن لم يسق الهدي، وذكره الأسبيجابي، والوبري هو بالخيار إن شاء أحرم بالحج بعدما حل من عمرته بالحلق، أو التقصير، وإن شاء أحرم قبل أن يحل من عمرته، ولو ساق الهدي لا يحلق، وبقولنا قال أحمد، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المتمتع يحلق، أو يقصر ساق الهدي أو لا.
م: (هكذا فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرة القضاء) ش: وقصته «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم من المدينة عام الحديبية للعمرة، فلما وصل الحديبية منعه أهل مكة من الدخول فيها وصالح معهم، وحلق ثم جاء السنة الأخرى فأتى بالطواف والسعي ثم حلق قضاء لتلك العمرة» وعام الحديبية كان في سنة ست. م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا حلق عليه) ش: أي على المعتمر م: (وإنما العمرة الطواف والسعي) ش: وقد وجدا، وبه قال إسحاق بن راهويه، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الطواف. وقال ابن بطال في " شرح البخاري ": اتفقت أئمة الفتوى على أن المعتمر يحل من عمرته إذا طاف وسعى وإن لم يكن حلق ولا قصر. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جماعه قبل الحلق مفسد لعمرته، وقال ابن المنذر: لا أعلم أحداً قاله غيره. قال: وقال مالك، والثوري - رحمهما الله - والكوفيون: عليه الهدي.
م: (وحجتنا عليه) ش: أي على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ما روينا) ش: وهو قوله: هكذا فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرة القضاء م: (وقَوْله تَعَالَى {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] (الفتح: الآية 27) نزلت في عمرة القضاء؛ ولأنها) ش: أي ولأن العمرة م: (لما كان لها تحرم بالتلبية كان لها تحلل بالحلق) ش: والآية المذكورة تدل على ذلك. وفي " الذخيرة " للمالكية: التحلل في العمرة بالحلق؛ لأن السعي ركن فيها كالوقوف في الحج، ويقع التحلل منه برمي الجمرة م: (كالحج) ش: أي كما يقع التحلل في الحج بالحلق، وعند المالكية برمي الجمرة.
م: (ويقطع) ش: أي المعتمر م: (التلبية إذا ابتدأ بالطواف) ش: أي بطواف عمرته، وهذا قول الجمهور م: (وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: لما يقع بصره أو يقطعها.(4/302)
- رَحِمَهُ اللَّهُ -: كما وقع بصره على البيت؛ لأن العمرة زيارة البيت وتتم به. ولنا «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرة القضاء قطع التلبية حين استلم الحجر؛» ؛ ولأن المقصود هو الطواف فيقطعه عند افتتاحه، ولهذا يقطعها الحاج عند افتتاح الرمي.
قال: ويقيم بمكة حلالا؛ لأنه حل من العمرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (كما وقع بصره على البيت؛ لأن العمرة زيارة البيت وتتم به) ش: أي وتتم الزيارة بوقوع البصر على البيت.
م: (ولنا «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرة القضاء قطع التلبية حين استلم الحجر» ش: هذا الحديث رواه الترمذي عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر» وقال: حديث صحيح، ورواه أبو داود، ولفظه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر» .
م: (ولأن المقصود) ش: أي من العمرة م: (هو الطواف فيقطعه) ش: أي فيقطع التلبية، وكان ينبغي أن يقول: فيقطعها، ولكنه ذكره على تأويل الإهلال، قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والصواب أن يقال: إنما ذكره باعتبار أن التلبية إن كان مصدراً فيجوز فيه التذكير والتأنيث وإن كان اسماً فباعتبار المذكور م: (عند افتتاحه) ش: أي عند افتتاح الطواف، أي ابتدائه بالاستلام.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل قطع التلبية عند نسك من المناسك م: (يقطعها الحاج عند افتتاح الرمي) ش: يعني عند أول حصاة من حجرة العقبة يوم النحر؛ لأنه نسك، والحاصل أن قطع التلبية إنما يكون عند نسك من المناسك، وافتتاح الطواف باستلام الحجر نسك فيقطعها عنده، وكذلك يقطع المفرد بالحج عند أول حصاة من جمرة العقبة.
فإن قلت: ينبغي أن يقطع المفرد بالحج التلبية إذا ابتدأ بطواف القدوم لأنه نسك أيضاً.
قلت: التعليل في تعارض النص لا يجوز، وقد ثبت في " صحيح البخاري " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أردف الفضل من مزدلفة إلى منى فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة» .
م: (قال) ش: أي القدوري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (ويقيم بمكة حلالاً؛ لأنه حل من العمرة) وقال في " شرح الأقطع ": هذا الذي ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس على وجه الشرط، وإنما معناه إن أراد أن يقيم ليحج من عامه فليقم حلالاً إلى وقت إحرام الحج، وإن لم يرد أن يحج من عامه فلا يقيم.(4/303)
قال: فإذا كان يوم التروية أحرم بالحج من المسجد،
والشرط أن يحرم من الحرم أما المسجد فليس بلازم؛ وهذا لأنه في معنى المكي، وميقات المكي في الحج الحرم على ما بينا وفعل ما يفعله الحاج المفرد؛ لأنه مؤد للحج، إلا أنه يرمل في طواف الزيارة ويسعى بعده؛ لأن هذا أول طواف له في الحج، بخلاف المفرد؛ لأنه قد سعى مرة، ولو كان هذا المتمتع بعدما أحرم بالحج طاف وسعى قبل أن يروح إلى منى لم يرمل في طواف الزيارة ولا سعى بعده؛ لأنه قد أتى بذلك مرة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإذا كان يوم التروية أحرم بالحج من المسجد) ش: أي المسجد الحرام والإحرام يوم التروية ليس بشرط لازم؛ بل تقديمه على يوم التروية أفضل، وفي " المبسوط " و " المحيط ": ولو قدم الإحرام على يوم التروية جاز، بل هو الأفضل لما أنه أشق، وفيه المسارعة إلى العبادة، وهذه الأفضلية ليست بمختصة لسائق الهدي، بل هي تقديم إحرام الحج للمتمتع أفضل مطلقاً، وبه قال مالك، وقال أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لغير واحد: الهدي يستحب أن يحرم به قبل اليوم السادس.
م: (والشرط أن يحرم من الحرم أما المسجد فليس بلازم؛ وهذا) ش: أي عدم لزوم الإحرام من المسجد م: (لأنه في معنى المكي، وميقات المكي في الحج الحرم على ما بينا) ش: أي في آخر فصل المواقيت، وهو قوله: ومن كان بمكة فوقته في الحج الحرم، وفي الحل، وقال الكاكي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يمكن أن يؤول المسجد بالحرم لما أن المراد منه المسجد الحرام، والمسجد الحرام عبارة عن جميع الحرم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] ... [التوبة: الآية 28] ، وقيل: المراد الحرم، لكن ذكر المسجد لما أن الإحرام منه أفضل م: (وفعل) ش: أي هذا الذي فرع من العمرة وحل ثم أحرم بالحج يفعل م: (ما يفعله الحاج المفرد؛ لأنه مؤد للحج) ش: أي لأنه في صدد أداء الحج وتعلق به أفعال المفرد.
م: (إلا أنه) ش: استثناء من قوله: وفعل ما يفعله الحاج المفرد، يعني إلا أن هذا المؤدي م: (يرمل في طواف الزيارة ويسعى بعده) ش: أي يسعى بين الصفا والمروة بعد طواف الزيارة م: (لأن هذا أول طواف له في الحج، بخلاف المفرد؛ لأنه قد سعى مرة) ش: لأن السعي لا يتكرر ولا يرسل في طواف الزيارة لعدم السعي بعده.
م: (ولو كان هذا المتمتع بعدما أحرم بالحج طاف وسعى قبل أن يروح إلى منى لم يرمل في طواف الزيارة ولا يسعى بعده؛ لأنه قد أتى بذلك مرة) ش: فلا يأتي به مرة أخرى، والمصنف لم يذكر في الاستثناء إلا صورة واحدة وشيئان آخران استثنى أحدهما أن لا يطوف طواف القدوم؛ لأنه في معنى المكي، ولا يسن في حق المكي طواف القدوم بخلاف المفرد بالحج والقارن.
فإن طواف القدوم يسن في حقهما، والآخر أنه يجب عليه الهدي، فيكره الجمع بين النسكين، بخلاف المفرد، فإنه لا يجب في حقه الهدي بل يستحب.(4/304)
وعليه دم المتمتع، للنص الذي تلوناه. فإن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع على الوجه الذي بيناه في القران. فإن صام ثلاثة أيام من شوال ثم اعتمر لم يجزه عن الثلاثة؛ لأن سبب وجوب هذا الصوم التمتع؛ لأنه بدل عن الدم وهو في هذه الحالة غير متمتع فلا يجوز أداؤه قبل وجود سببه. وإن صامها بمكة (بعدما أحرم بالعمرة قبل أن يطوف جاز عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. له قَوْله تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] (196 البقرة) ولنا أنه أداه بعد انعقاد سببه، والمراد بالحج المذكور في النص وقته على ما بينا، والأفضل تأخيرها إلى آخر وقتها وهو يوم عرفة لما بينا في القران.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعليه دم المتمتع، للنص الذي تلوناه) ش: وهو قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) أي فعليه ما استيسر من الهدي الذي هو من الإبل والبقر والغنم.
م: (فإن لم يجد) ش: أي الهدي م: (صام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة) ش: أي صام سبعة أيام م: (إذا رجع إلى أهله على الوجه الذي بيناه في القران) ش: عند قوله: وإذا لم يكن له ما يذبح صام ثلاثة أيام في الحج آخرها يوم عرفة وقد مضى الكلام فيه هناك مستقصى م: (فإن صام ثلاثة أيام من شوال ثم اعتمر) ش: أي أحرم للعمرة م: (لم يجزه عن الثلاثة؛ لأن سبب وجوب هذا الصوم التمتع؛ لأنه بدل عن الهدي وهو في هذه الحالة غير متمتع) ش: لا حقيقة ولا حكماً أما حقيقة فظاهر، وأما حكماً فكأنه لم يحرم بها م: (فلا يجوز أداؤه قبل وجود سببه) .
م: (وإن صامها بمكة (بعدما أحرم بالعمرة قبل أن يطوف جاز عندنا) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية عنه يجوز بعد التحلل من العشرة م: (خلافا للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: فإن عنده لا يجوز م: (له) ش: أي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (قَوْله تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196)) وجه الاستدلال به أنه تعالى أخبر أن صيامه يجب أن يكون في الحج وما لم يحرم بالحج لا يجوز.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن المتمتع م: (أداه) ش: أي أدى الصوم م: (بعد انعقاد سببه) ش: لأن السبب ما ذكره الله تعالى وهو التمتع بالعمرة إلى الحج؛ لأنه طريق يتوصل به إلى التمتع وأداء المسبب بعد تحقق السبب جائز م: (والمراد بالحج المذكور في النص وقته على ما بينا) ش: يعني في القران، إذ نفس الحج لا يصلح أن يكون ظرفاً، والمراد وقت الحج م: (والأفضل تأخيرها) ش: أي تأخير صيام ثلاثة أيام م: (إلى آخر وقتها وهو يوم عرفة لما بينا في القران) ش: وقد مر في القران أن الأفضل أن يصوم قبل يوم التروية، ويوم عرفة؛ لأن الصوم بدل عن الهدي، فيستحب تأخيره إلى آخر وقته رجاء أن يقدر على الأصل، وإن صام سبعة أيام بعد فراغه من الحج قبل الرجوع إلى أهله جاز عندنا، وإذا فات صوم ثلاثة أيام حتى أتى يوم النحر لم يجزئه إلا الدم، وفيه(4/305)
وإن أراد المتمتع أن يسوق الهدي أحرم، وساق هديه، وهذا أفضل؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ساق الهدايا مع نفسه؛ ولأن فيه استعدادا أو مسارعة. فإن كانت بدنة قلدها بمزادة أو نعل لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - على ما رويناه، والتقليد أولى من التحليل؛ لأن له ذكرا في القرآن؛ ولأنه للإعلام، والتجليل للزينة، ويلبي، ثم يقلد؛ لأنه يصير محرما بتقليد الهدي والتوجه معه على ما سبق، والأولى أن يعقد الإحرام بالتلبية ويسوق الهدي، وهو أفضل من أن يقودها؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أحرم بذي الحليفة وهداياه تساق بين يديه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خلاف مالك، والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقد مر في القران.
[سوق الهدي وإشعاره وتقليده]
م: (وإن أراد المتمتع أن يسوق الهدي أحرم) ش: أي أحرم بالعمرة لا يحرم بالحج ما لم يفرغ من العمرة م: (وساق هديه، وهذا أفضل) ش: أي هذا الذي يسوق الهدي أفضل من الذي لا يسوق م: «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساق الهدايا مع نفسه» ش: هذا رواه البخاري، ومسلم «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: تمتع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدي ... الحديث» م: (ولأن فيه) ش: أي في سوق الهدي م: (استعدادا) ش: أي تهنئة للخير م: (أو مسارعة، فإن كانت بدنة) ش: هديه بدنة باعتبار الخبر م: (قلدها بمزادة) ش: وهي سفرة السفر م: (أو نعل لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) ش: «فقالت: أنا فتلت قلائد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، رواه الأئمة الستة م: (على ما رويناه) ش: أراد به ما ذكر قبل باب القران.
م: (والتقليد أولى من التحليل؛ لأن له) ش: أي التقليد م: (ذكرا في القرآن) ش: وهو قوله: {وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} [المائدة: 97] [المائدة: الآية 97] ، وفي بعض النسخ: ذكر في الكتاب أي في كتاب الله تعالى م: (ولأنه) ش: أي ولأن التقليد م: (للإعلام) ش: أي أنه هدي م: (والتجليل للزينة) ش: ولدفع الحر، والبرد، ودفع الذباب م: (ويلبي ثم يقلد؛ لأنه يصير محرما بتقليد الهدي والتوجه معه على ما سبق) ش: أي ذكر قبل باب القران، فقوله: ومن قلد بدنة تطوعاً.
م: (والأولى أن يعقد الإحرام بالتلبية) ش: قال الأترازي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الواو في: والأولى للحال.
قلت: فيه ما فيه، بل المعنى أنه إن قلد البدنة وساقها بنية الإحرام يصير محرماً، سواء لبى بعد ذلك أو لم يلب، ولكن الأولى أن يعقد الإحرام بالتلبية ثم قلد البدنة وساقها م: (ويسوق الهدي وهو) ش: أي السوق دل عليه قوله: ويسوق.
م: (أفضل من أن يقودها؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم من ذي الحليفة وهداياه تساق بين يديه» ش: لما روى البخاري، ومسلم «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تمتع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -.. الحديث وقد مضى الآن.(4/306)
ولأنه أبلغ في التشهير إلا إذا كانت لا تنقاد فحينئذ يقودها. قال: وأشعر البدنة عند أبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله -، ولا يشعر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويكره. والإشعار هو الإدماء بالجرح لغة،
وصفته أن يشق سنامها بأن يطعن في أسفل السنام من الجانب الأيمن أو الأيسر قالوا: والأشبه هو الأيسر؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طعن في جانب اليسار مقصودا وفي جانب اليمين اتفاقا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأنه) ش: أي لأن السوق م: (أبلغ في التشهير) ش: بأنه هدي م: (إلا إذا كانت لا تنقاد) ش: هذا استثناء من قوله: وهو أفضل ممن يقودها، وهو ظاهر م: (فحينئذ يقودها) ش: أي حين كونها لا تنقاد، ويقودها م: (وأشعر البدنة) ش: وفي أكثر النسخ قال: أي القدوري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وأشعر البدنة م: (عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومحمد) ش: وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فإن الإشعار عندهم يستحب، لكن عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو من قبل اليمين، وعند غيرهما من قبل اليسار م: (ولا يشعر عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: وفي بعض النسخ: ولا يشعرها أي البدنة م: (ويكره) ش: أي الإشعار.
ثم أشار إلى تفسير الإشعار بقوله: م: (والإشعار هو الإدماء بالجرح) ش: أي إخراج الدم من البدنة بجرحها، وفي " المبسوط " الإشعار الإعلام، سمى هذا الفعل بذلك لأنه إعلام لها م: (لغة) ش: أي من حيث اللغة، يعني الإشعار في اللغة إشعار الدماء بالذبح ونحوه، ومنه حديث مكحول - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لمن أشعر علجاء وقتله، أي طعنه بالرمح حتى دخل السنان جوفه، وأما معناه شرعاً فهو ما أشار إليه بقوله.
م: (وصفته) ش: أي صفة الإشعار م: (أن يشق سنامها) ش: أي سنام البدنة م: (بأن يطعن في أسفل السنام من الجانب الأيمن أو الأيسر) ش: وفي النهاية وصفة الإشعار، وهو أن يضرب بالمنصع في أحد جانبي سنام البدنة حتى يخرج الدم منها، ثم يلطخ بذلك الدم سنامها.
م: (قالوا) ش: أي علماؤنا المتأخرون مثل فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغيره م: (والأشبه) ش: أي الصواب في البدنة م: (هو الأيسر) ش: يعني هو الطعن بالرمح في أسفل السنام من الجانب الأيسر وقد مر بيانه فيما مضى م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طعن في جانب اليسار مقصودا) ش: أي من حيث القصد إليه.
م: (أو في جانب اليمين اتفاقا) ش: أي وقع من حيث الاتفاق لا من حيث المقصد، والمقصود أن ذلك كله روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أما رواية الطعن في اليمين فأخرجها مسلم عن أبي حسان عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا ببدنة فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن.» وأما رواية الطعن في الأيسر فرواها أبو يعلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده " حدثنا زهير حدثنا(4/307)
ويلطخ سنامها بالدم إعلاما، وهذا الصنع مكروه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما حسن، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - سنة؛ لأنه مروي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وعن الخلفاء الراشدين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يزيد بن هارون حدثنا شعبة عن الحجاج عن قتادة عن أبي حسان عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أتى ذا الحليفة اشعر بدنته في شقها الأيسر ثم سلت الدم بأصبعه، فلما علت به راحلته البيداء لبى» انتهى.
وقال ابن عبد البر في كتاب " التمهيد " هذا عندي منكر، والمعروف حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الذي أخرجه مسلم وغيره من الجانب الأيمن لا يصلح فيه غير ذلك، إلا أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يشعر بدنته من الجانب الأيسر.
قلت: هذا رواه مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في موطئه عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وكذلك قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الإشعار من قبل اليمين ووجه القول بالأشبه إلى الصواب هو أن الهدايا كانت مقبلة إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يدخل من كل بعير من قبل الرأس، وكان الرمح بيمنه لا محالة، فكان طعنه يقع عادة أولاً على يسار البعير، ثم كان يطعن عن يمينه ويشعر الآخر من قبل يمين البعير اتفاقاً للأول لا قصداً إليه، فصار الأمر الأصلي أحق باعتبار إذا كان واحدا.
م: (ويلطخ سنامها بالدم إعلاما) ش: أي للإعلام بأنها هدي م: (وهذا الصنع) ش: أي الإشعار م: (مكروه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وقال الخطابي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أعلم أحداً أنكر الإشعار إلا أبا حنيفة، وقال السروجي: مما ليس بحجة وما لا يعلمه كثير، وبه قال إبراهيم النخعي، ومذهبه قبل مذهب أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (وعندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (حسن) ش: وهو أدنى من السنة، وقيل إن معناه إن تركه لا يضره، وفي " جامع الأسبيجابي " الإشعار عندهما وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - سنة، لكن ذكر في " الجامع الصغير " أنه حسن، ولم يذكر أنه سنة.
م: (وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - سنة؛ لأنه) ش: أي لأن الإشعار م: (مروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: وقد مر الآن م: (وعن الخلفاء الراشدين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وقد روى مسلم في صحيحه والأربعة حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلد نعلين وأشعر الهدي» .(4/308)
ولهما أن المقصود من التقليد أن لا يهاج إذا ورد ماء، أو كلأ أو يرد إذا ضل وأنه في الإشعار أتم؛ لأنه ألزم فمن هذا الوجه يكون سنة، إلا أنه عارضه جهة كونه مثلة بحسنه، فقلنا نحن نحسنه ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه مثلة، فإنه منهي عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم يرون إشعاراً لهم، ويدخل في قوله من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وقد ذكرنا غيره مرة أن الهدي من الإبل والبقر والغنم، وأن الإشعار في الإبل.
وقال شيخنا اختلفوا في إشعار البقر، فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والجمهور إلى إشعارها واتفقوا على أن الغنم لا تشعر، واختلفوا في تقليد الغنم، فذهب الشافعي وأحمد - رحمهما الله - والجمهور أنها تقلد ذات القرن، وذهب أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن الغنم لا تقلد.
م: (ولهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله م: (أن المقصود من التقليد أن لا يهاج) ش: يعني أن لا تطرد عن الماء والكلأ، وفي " المغرب " هاجه فهاج، أي هيجه فبعثه يتعدى ولا يتعدى م: (إن ورد ماء، أو كلأ أو يرد إذا ضل) ش: أي إذا أتاه م: (وإنه) ش: أي وإن الإشعار م: (أتم) ش: أي من التقليد م: (لأنه ألزم) ش: أي لأن القلادة ربما تنقطع من عنق البعير وتسقط، والإشعار لا يفارقه م: (فمن هذا الوجه) ش: أي من وجه أن الإشعار أتم وألزم من التقليد م: (يكون سنة، إلا أنه عارضه جهة كونه مثلة) ش: يقال مثلت بالحيوان أمثل به مثلاً إذا قطعت أطرافه وشوهت، وهو من باب نصر ينصر نصراً، والمثلة الاسم م: (فقلنا نحن نحسنه) ش: أي نحسن الإشعار، وفيه تأمل لا يخفى.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه) ش: أي أن الإشعار م: (مثلة فإنه) ش: أي فإن فعل المثلة م: (منهي عنه) ش: وجاءت به في النهي عن المثلة أحاديث منها ما رواه البخاري عن عبد الله ابن يزيد الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النهبة والمثلة» هكذا عزاه عبد الحق للبخاري، ومنها ما رواه أبو داود عن سمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحث على الصدقة وينهى عن المثلة» .
ومنها ما رواه أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن من مثل بالحيوان» ومنها ما رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " «عن عمران بن الحصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحث في خطبته على الصدقة وينهى عن المثلة» ومنها ما رواه أيضاً عن المغيرة بن شعبة قال نهى «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المثلة» ومنها ما رواه الطبراني عن أبي(4/309)
ولو وقع التعارض فالترجيح للمحرم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أيوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النهبة والمثلة» ومنها ما رواه أيضاً عن الحكم بن عمير وعامر بن قرط قالا قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تمثلوا بشيء من خلق الله - عز وجل - فيه روح» .
م: (ولو وقع التعارض فالترجيح للمحرم) ش: وفي بعض النسخ ومتى وقع التعارض وأراد أن القاعدة إذا وقع التعارض بين الحديثين الذي أحدهما يقتضي الإباحة والآخر يقتضي التحريم، فالذي يقتضي التحريم يرجح على الذي يقتضي الإباحة، وهاهنا وقع انتقاض بين كون أن الإشعار سنة، وبين كونه مثلة، وفي كونه حراماً، فالرجحان للمحرم والمعنى الفقهي أن المبيح يوجب جواز الامتناع، والمحرم واجب الامتناع، والواجب أقوى من الجائز، وكان جماعة من العلماء فهموا عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النسخ في ذلك، حتى قال السهيلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الروض الأنف "، فكان النهي عن المثلة بأثر غزوة أحد، وحديث الإشعار في حجة الوداع، فكيف يكون الناسخ متقدما ًعلى المنسوخ انتهى.
قلت: ليس في كلام المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل على أن الإشعار منسوخ بحديث النهي عن المثلة في أول مقدمه للمدينة، وأشعر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الهدايا في آخر أيام حياته عام حجة الوداع، فلو كان الإشعار من باب المثلة لما أشعر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه نهى عنها قبل ذلك، انتهى.
قلت: كلامه مع المصنف حيث قال ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الإشعار مثلة، ولا إشكال هنا، لأن مراد أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس مطلق المثلة، وإنما مراده المثلة التي لا يباح فعلها كقطع عضو من الأعضاء، وفي معناه الإشعار بالرمح والشفرة، وأما الإشعار الذي وصفوه بالمنصع أو بالشيء الذي يقطع الجلد دون اللحم، فلا يكره. وأبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما كره أصل الإشعار، وكيف يكره ذلك مع ما اشتهر فيه من الآثار.
وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإنما كره أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إشعار أهل زمانه، لأنه رآهم يفضون في ذلك على وجه يخاف منه هلاك البدنة لسرايته، خصوصاً في حر الحجاز فرأى الصواب في سد هذا الباب على العامة، لأنهم لا يقفون على الحد.
وفي " المبسوط " وأما من وقف على ذلك بأن قطع الجلد فقط دون اللحم فلا بأس بذلك، والحاصل أن الذي قاله أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يدخل في باب المثلة الحقيقية حتى يرد عليه شيء، والذي ذهب إليه كالمثلة التي أبيح فعلها كالختان وشق أذن الحيوان للعلامة ولا شك أن الختان هو قطع عضو، مع أنه فرض عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد وسنة مؤكدة عندنا فارقة(4/310)
وإشعار النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كان لصيانة الهدي؛ لأن المشركين لا يمتنعون عن تعرضه إلا به. وقيل: إن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كره إشعار أهل زمانه لمبالغتهم فيه على وجه يخاف منه السراية، وقيل: إنما كره إيثاره على التقليد.
قال: فإذا دخل مكة طاف، وسعى، وهذا للعمرة، على ما بينا في متمتع لا يسوق الهدي إلا أنه لا يتحلل حتى يحرم بالحج يوم التروية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بين الإسلام والكفر، حتى لو اجتمع قوم على تركه قوتلوا عليه ولا كذلك الإشعار، فإن الناس تركوه عن آخرهم ولم ينكر على ذلك أحد.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنهما رخصا في تركه، ولا يظن بهما الترخص في تركهما سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مع أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله مرة، وفي " جامع الأسبيجابي " معنى قول الراوي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشعر بدنته أعلمها بعلامة، ويمكن أن يكون ذلك سوى الجرح؛ لأن الإشعار هو الإعلام، كذا ذكره الإمام المحبوبي.
م: (وإشعار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لصيانة الهدي) ش: هذا جواب عما قاله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه مروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتقرير الجواب أن يقال سلمنا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشعر، ولكن لاحتياجه إلى ذلك وهو صيانة الهدي، أي حفظها م: (لأن المشركين لا يمتنعون عن تعرضه إلا به) ش: أي لأن المشركين ما كانوا يمتنعون عن تعريض الهدي إلا بالإشعار.
م: (وقيل: إن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كره إشعار أهل زمانه لمبالغتهم فيه على وجه يخاف منه السراية) ش: أي من الإشعار والمراد إلى هلاك الهدي، وقد ذكرناه الآن م: (وقيل: إنما كره إيثاره على التقليد) ش: أي اختياره وتخصيصه على التقليد، لأنه يحصل من التقليد ما هو الغرض من الإشعار.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فإذا دخل) ش: أي المتمتع م: (مكة طاف) ش: بالبيت سبعة أشواط م: (وسعى) ش: يبن الصفا والمروة سبعة أشواط م: (وهذا) ش: أي هذا الفعل، وهو الطواف والسعي م: (للعمرة) ش: لا للحج م: (على ما بينا في متمتع لا يسوق الهدي) ش: أراد به ما ذكر في أول الباب عند قوله وصفته، أي يبتدئ من الميقات فيبتدئ بالعمرة م: (إلا أنه) ش: أي غير أنه م: (لا يتحلل) ش: بعد فراغه من العمرة، لأنه ساق الهدي بين متمتع يسوق الهدي، ومتمتع لا يسوق، لأنهما يتساويان في نفس الطواف والسعي، ولكن الذي يسوق الهدي لا يتحلل بعد فراغه من العمرة م: (حتى يحرم بالحج) ش: يحرم هنا برفع الميم، لأن حتى هنا ليست للغاية لفساد المعنى، لأن معناه لا يتحلل إلا بعد الإحرام بالحج، وليس كذلك، لأنه لا يتحلل إلا إذا حلق يوم النحر، فحينئذ تكون حتى هنا للحال كما في قولهم مرض حتى لا يرجونه م: (يوم التروية) ش: وفي الجارية هذا ليس بلازم حتى لو أحرم يوم عرفة أو قبل يوم التروية يجوز، ولكن إحرام أهل مكة يوم التروية فلعله خصه بهذا المعنى.(4/311)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة وتحللت منها»
وهذا ينفي التحلل عند سوق الهدي. ويحرم بالحج يوم التروية كما يحرم أهل مكة على ما بينا. وإن قدم الإحرام قبله جاز، وما عجل المتمتع من الإحرام بالحج فهو أفضل لما فيه من المسارعة، وزيادة المشقة، وهذه الأفضلية في حق من ساق الهدي، وفي حق من لم يسق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة وتحللت منها» ش: هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم «عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال خرجنا نصرخ بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نجعلها عمرة، وقال: " لو استقبلت....» الحديث، ومعناه لو علمت أولاً ما علمت آخراً من أن سوق الهدي مانع من التحلل لما سقت الهدي ولجعلت الحجة عمرة بأن اكتفيت بالعمرة بنسخ الحجة بها، ولكني سقت الهدي، فلأجل هذا ما أقدر أن أجعلها عمرة فعلم بهذا أن سوق الهدي مانع من التحلل، وقال الكاكي: قوله من أمري يشعر على أن المراد منه سوق الهدي والتحلل شيء آخر، وكلمة ما في استدبرت بمعنى الذي.
قوله - لجعلتها - أي السفرة أو الحجة أو الحج باعتبار الخبر. قوله - وتحللت منها - أي من العمرة، وإنما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه أن يفسخوا إحرام الحج ويجعلوه عمرة لما بلغوا مكة تحقيقاً لمخالفة المشركين، وكانوا لا يفسخون ولا يحلقون وينتظرون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل يحلق أو لا، فاعتذر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: «لو استقبلت» ... إلى آخره وبقولنا قال أحمد، وقال مالك والشافعي - رحمهما الله: المتمتع الذي ساق الهدي إذا فرغ من أفعال العمرة يتحلل كمن لم يسق الهدي إلا أن عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا ينحر هديه إلا يوم النحر وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينحر عند المروة.
[ما يلزم المتمتع من الدم والصيام]
م: (وهذا) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (ينفي التحلل عند سوق الهدي) ش: أي عند سوق المتمتع الهدي م: (ويحرم بالحج يوم التروية كما يحرم أهل مكة) ش: لأن إحرامه مكي م: (على ما بينا) ش: إشارة إلى ما قال، وعليه دم التمتع للنص الذي تلونا، يعني قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) ، م: (وإن قدم الإحرام قبله) ش: أي قبل يوم التروية م: (جاز) ش: بل هو أفضل، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الأفضل للمتمتع الذي ساق الهدي أن يحرم بالحج يوم التروية قبل الزوال متوجهاً إلى منى، وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يستحب أن يحرم به من أول ذي الحجة عند رؤية الهلال.
م: (وما عجل المتمتع من الإحرام بالحج فهو أفضل لما فيه) ش: أي في التقديم أو في التعجيل م: (من المسارعة) ش: إلى الخير م: (وزيادة المشقة) ش: بزيادة مدة إحرامه، وما كان أشق على البدن كان أفضل م: (وهذه الأفضلية في حق من ساق الهدي، وفي حق من لم يسق) ش: يعني كلاهما(4/312)
وعليه دم وهو دم المتمتع على ما بينا وإذا حلق يوم النحر، فقد حل من الإحرامين؛ لأن الحلق محلل في الحج كالسلام في الصلاة فيتحلل به عنهما.
وليس لأهل مكة تمتع، ولا قران، وإنما لهم الإفراد خاصة خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والحجة عليه قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] (196 البقرة)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سواء في هذه الأفضلية م: (وعليه دم وهو دم المتمتع على ما بينا) ش: أراد به ما ذكره في أول هذا الباب بقوله زيادة نسك، وهو إراقة الدم.
فإن قلت: معنى قوله - وهو دم التمتع - بعد قوله وعليه دم.
قلت: قوله وعليه دم قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفسره بقوله - وهو دم التمتع - لأنه في صدر شرحه، وقال الأترازي: إنما فسره نفياً لوهم بعض الفقهاء، ألا ترى أن صاحب زاد الفقهاء وهم، وقال عليه دم لارتكابه ما هو محظور إحرامه، فظن أن تقديم الإحرام من المتمتع على يوم التروية محظور وهو سهو منه.
م: (وإذا حلق يوم النحر، فقد حل من الإحرامين) ش: أي من إحرام الحج والعمرة جميعا م: (لأن الحلق محلل في الحج كالسلام في الصلاة فيتحلل) ش: أي بالحلق م: (عنهما) ش: أي عن الإحرامين، ويخرج عنه كما أن المصلي يخرج من الصلاة بالسلام، وكان المانع من تحلل إحرام العمرة سوق الهدي، فلما ذبحه زال المانع فتحلل من الإحرامين جميعاً، إلا في حق النساء إلى طواف الزيارة، وهذا لأن إحرام العمرة في حق النساء كإحرام الحج، ولهذا لو جامع القارن من بعد الحلق قبل الطواف يجب عليه دمان، كما سيجيء إن شاء الله تعالى.
[ليس لأهل مكة تمتع ولا قران]
م: (وليس لأهل مكة تمتع، ولا قران، وإنما لهم الإفراد خاصة) ش: وإذا تمتع واحد منهم أو قرن كان عليه دم، وهو دم جناية لا يأكل منه، بخلاف المتمتع والقارن من أهل الآفاق، فإن الدم الواجب عليهما دم نسك فيأكلان منه م: (خلافا للشافعي) ش: فإن عنده لا يكره للمكي ومن كان من جاري المسجد الحرام القران والتمتع، ولكن لا يجب عليه دم، وبه قال مالك وأحمد في القران.
م: (والحجة عليه) ش: أي على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196)) ش: اختلف في حاضري المسجد الحرام، فإن عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - المكي، ومن كان جاء من مسافة القصر من مكة، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - هم سكان مكة وذي طوى.
وعندنا من كان داخل الميقات وأهل الحرم بدليل أنهم يدخلون مكة بغير إحرام قوله - ذلك - إشارة إلى التمتع ودلت الآية أن التمتع مشروع لمن كان من أهل الآفاق. وإنما قلنا إن ذلك إشارة إلى التمتع، لأن موضوعه في كلام العرب للبعيد، والقرآن نزل على لسانهم، والذي ذكره(4/313)
ولأن شرعيتهما للترفه بإسقاط إحدى السفرتين وهذا في حق الآفاقي، ومن كان داخل المواقيت فهو بمنزلة المكي، حتى لا يكون له متعة ولا قران، بخلاف المكي إذا خرج إلى الكوفة وقرن إذا خرج إلى الكوفة وقرن حيث يصح؛ لأن عمرته وحجته ميقاتان، فصار بمنزلة الآفاقي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخصم أنه إشارة إلى الهدي حتى يصح تمتع المكي ومن بمعناه غير موجه؛ لأنه خالف ما استعمله العرب، والذي ذكره قريباً لا يصلح حقيقة له، والتمتع المفهوم من قوله فمن تمتع يصلح لذلك فصار إليه لأن العمل إذا أمكن بالحقيقة لا يصار إلى المجاز بالاتفاق، فتكون الآية حجة عليه.
فإن قلت: سلمنا ما قلتم، ولكن لا يدل ذلك على أن التمتع لا يصح من المكي ومن بمعناه، لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه.
قلت: سلمنا ذلك، ولكن لا نسلم أن يلزم من ذلك ثبوت الحكم في الغير؛ لأن الأصل عدم الحكم في الغير إلى أن يدل الدليل على خلافه.
م: (ولأن شرعيتهما للترفه بإسقاط أحد السفرتين) ش: هذا دليل معقول بيانه أن شرعيتهما أي شرع القران والتمتع الترفه، أي للاستراحة من قوله رجل رافه ومترفه مستريح والترفه بذلك في حق الآفاقي لأن غيره لا يشق عليه هذا السفر لقربه حتى يترفه أن الله شرع القران والمتعة ونسخ ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريمهم العمرة في أشهر الحج، والنسخ ثبت في حق الناس كافة، ورجوع الناس إلى ما ذكرتم ينافي ذلك.
قلت النسخ ثابت عندنا في حق المكي أيضاً، حتى لو اعتمر في أشهر الحج جاز بلا كراهة، ولكن لا يدرك فضيلة التمتع، لأن الإمام قطع تمتعه كما قطع تمتعه الآفاقي إذا رجع بين النسكين إلى أهله، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فيه نظر، لأنه يستدل به على بطلان المتعة لا على إدراك عدم الفضيلة. والصواب أن يقال إن متعته تقتصر عن متعة الآفاقي بصيرورته دم جبر م: (وهذا في حق الآفاقي) ش: أي الترفه بإسقاط أحد السفرين كائن في حق الآفاقي.
م: (ومن كان داخل المواقيت) ش: أي ومن كان مسكنه داخل المواقيت م: (فهو بمنزلة المكي، حتى لا يكون له متعة ولا قران) ش: ومع هذا لو تمتعوا جاز وأساءوا، ويجب عليهم دم الجبر كما ذكرناه م: (بخلاف المكي) ش: متصل بقوله - وليس لأهل مكة تمتع ولا قران - م: (إذا خرج إلى الكوفة، وقرن حيث يصح؛ لأن عمرته وحجته ميقاتان، فصار بمنزلة الآفاقي) ش: أي فصار المكي الخارج إلى الكوفة بمنزلة الآفاقي من حيث صحة القران، وقال المحبوبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا إذا خرج إلى الكوفة قبل أشهر الحج، وأما إذا خرج بعدها فقد منع من القران فلا يتغير بخروجه من الميقات، وإنما خص القران حيث قال وقرن، لأنه إذا خرج المكي إلى الكوفة، وقرن لا يكون تمتعاً.(4/314)
وإذا عاد المتمتع إلى بلده بعد فراغه من العمرة، ولم يكن ساق الهدي بطل تمتعه؛ لأنه ألم بأهله فيما بين النسكين إلماما صحيحا، وبذلك يبطل التمتع، كذا روي عن عدة من التابعين، وإذا ساق الهدي فإلمامه لا يكون صحيحا ولا يبطل تمتعه عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -. وقال محمد: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يبطل تمتعه؛ لأنه أداهما بسفرتين. ولهما أن العود مستحق عليه ما دام على نية التمتع؛ لأن السوق يمنعه من التحلل فلم يصح إلمامه، بخلاف المكي إذا خرج إلى الكوفة وأحرم بعمرة وساق الهدي حيث لم يكن متمتعا؛ لأن العود هنالك غير مستحق عليه فصح إلمامه بأهله. ومن أحرم بعمرة قبل أشهر الحج فطاف لها أقل من أربعة أشواط ثم دخلت أشهر الحج فتممها وأحرم بالحج كان متمتعا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الحكم لو لم يسق المتمتع الهدي حتى عاد لبلده]
م: (وإذا عاد المتمتع إلى بلده بعد فراغه من العمرة، ولم يكن ساق الهدي بطل تمتعه؛ لأنه ألم بأهله فيما بين النسكين إلماما صحيحا، وبذلك يبطل التمتع) ش: أي بالإلمام الصحيح يبطل التمتع باتفاق أصحابنا، قاله الأكمل. وقال الأترازي: خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الكاكي: بطل تمتعه بالإجماع، أما عند الشافعي ومالك - رحمهما الله - بمجرد العود إلى الميقات لإحرام الحج ساق الهدي أو لا يبطل تمتعه ولا دم عليه. وقد قيل إن في أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكون متمتعاً، ويقول لا أعرف الإلمام م: (كذا روي عن عدة من التابعين) ش: وكذا روى الطحاوي في كتاب " أحكام القرآن " عن سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وإبراهيم النخعي أن المتمتع إذا رجع إلى أهله بعد فراغه من العمرة بطل تمتعه، انتهى. وقال الحسن هو متمتع وإن رجع إلى أهله، واختاره ابن المنذر.
م: (وإذا ساق الهدي فإلمامه لا يكون صحيحا فلا يبطل تمتعه عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -. وقال محمد: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يبطل تمتعه لأنه أداهما بسفرتين) ش: فإنه لو بدأ له أن لا يتمتع كان له أن يمكث م: (ولهما) ش: لأبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - م: (أن العود مستحق عليه) ش: أي واجب م: (ما دام على نية التمتع؛ لأن سوق الهدي) ش: أي سوق الهدي م: (يمنعه من التحلل فلم يصح إلمامه) ش: ولا يدخل تمتعه.
م: (بخلاف المكي إذا خرج إلى الكوفة وأحرم بعمرة وساق الهدي حيث لم يكن متمتعا؛ لأن العود هنالك غير مستحق عليه) ش: أي لأن عود المكي من أهله إلى مكة غير مستحق عليه، لأنه في مكة وتحصيل الحاصل محال م: (فصح إلمامه بأهله) ش: فلا يصح تمتعه م: (ومن أحرم بعمرة قبل أشهر الحج فطاف لها أقل من أربعة أشواط ثم دخلت أشهر الحج فتممها وأحرم بالحج كان متمتعا) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم، وقال في الجديد في الأم لا دم عليه، وبه قال أحمد وفي تتمتهم في ظاهر المذهب لا فرق بين أن يكون عبوره على ميقات قبل أشهر الحج أو بعد دخولها. قال ابن شريك: إن عبر على الميقات قبلها لا يكون متمتعاً، ولو عبر في أشهر الحج يكون متمتعاً، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا تحلل إلى العمرة حتى دخلت أشهر الحج صار(4/315)
لأن الإحرام عندنا شرط فيصح تقديمه على أشهر الحج. وإنما يعتبر أداء الأفعال فيها، وقد وجد الأكثر، وللأكثر حكم الكل،
وإن طاف لعمرته قبل أشهر الحج أربعة أشواط فصاعدا ثم حج من عامه ذلك لم يكن متمتعا؛ لأنه أدى الأكثر قبل أشهر الحج، وهذا لأنه صار بحال لا يفسد نسكه بالجماع فصار كما إذا تحلل منها قبل أشهر الحج. ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر الإتمام في أشهر الحج، والحجة عليه ما ذكرناه؛ ولأن الترفق بأداء الأفعال، والمتمتع مترفق بأداء النسكين في سفرة واحدة في أشهر الحج.
قال: وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
متمتعاً، أي يتمم العمرة بأن يأتي سائر الأشواط، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يكون متمتعاً كذا في " شرح الأقطع "، سواء طاف الأقل أو الأكثر.
م: (لأن الإحرام عندنا شرط فيصح تقديمه على أشهر الحج) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذلك كالطهارة لما كانت شرطاً للصلاة جاز تقديمه على وقت الصلاة م: (وإنما يعتبر أداء الأفعال فيها) ش: أي في أشهر الحج م: (وقد وجد الأكثر، وللأكثر حكم الكل) ش: إذا لم يعارضه نص، ولهذا لا يقام ثلاث ركعات من الظهر مقام أربع ركعات إقامة للأكثر مقام الكل لأن النص ناطق بأن فرض المقيم أربع ركعات.
م: (وإن طاف لعمرته قبل أشهر الحج أربعة أشواط فصاعدا) ش: أي أكثر من أربعة أشواط، وانتصابه على الحال م: (ثم حج من عامه ذلك لم يكن متمتعا؛ لأنه أدى الأكثر قبل أشهر الحج وهذا) ش: أي يكون الأكثر في حكم الكل م: (لأنه صار بحال لا يفسد نسكه) ش: أي عمرته م: (بالجماع) ش: لأن ركن العمرة هو الطواف فيتأكد إحرامه بأداء الأكثر كما يتأكد إحرام الحج بالوقوف، ولكن عليه دم عندنا، كذا في " المبسوط " ولكن هذا رد المختلف على المختلف، لأن عدم الفساد بالجماع بعد طواف الأكثر، وعند الشافعي ومالك - رحمهما الله - يفسد بالجماع قبل التحليل.
م: (فصار كما إذا تحلل منها) ش: أي من العمرة م: (قبل أشهر الحج) ش: يعني لا يكون متمتعاً م: (ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر الإتمام) ش: أي إتمام العمرة م: (في أشهر الحج) ش: يعني لو طاف ستة أشواط قبل أشهر الحج وطاف شوطاً واحداً في الأشهر يكون متمتعاً إن حج من عامه ذلك، وقال في " شرح مختصر الكرخي " قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا أتى بالأفعال قبل الأشهر نفى إحرام العمرة حتى دخلت الأشهر، ثم أحرم بالحج فهو متمتع م: (والحجة عليه) ش: أي على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (ما ذكرنا) ش: وهو أن للأكثر حكم الكل م: (ولأن الترفق بأداء الأفعال) ش: يعني أن الترفق بالنسكين يكون بأداء الأفعال العمرة والحج م: (والمتمتع مترفق بأداء النسكين في سفرة واحدة في أشهر الحج) ش: فلا بد من أن توجد الأفعال كلها أو أكثرها في أشهر الحج، يكون متمتعاً.
م: (قال: وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة) ش: وفي أكثر النسخ قال وأشهر(4/316)
كذا روي عن العبادلة الثلاثة وعبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحج.. إلخ أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولما ذكر قبله أشهر الحج احتاج إلى بيانها، فقال: وقال وأشهر الحج، وكذا ذكره الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره " إلا أنه قال والعشر الأولى من ذي الحجة، وهذا هو الميقات الزماني، واتفق أهل العلم على أن أوله مستهل شوال واختلفوا في آخره، المذهب أن آخره غروب الشمس من اليوم العاشر من ذي الحجة وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (كذا روي عن العبادلة الثلاثة وعبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -) ش: العبادلة عند الفقهاء ثلاثة عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وفي اصطلاح المحدثين أربعة فأخرجوا عبد الله بن مسعود وأدخلوا عبد الله بن عمرو بن العاص وزادوا عبد الله بن الزبير، قاله أحمد وغيره وغلطه الجوهري إذ أدخل ابن مسعود وأخرج ابن العاص.
وقال البيهقي: لأن ابن مسعود تقدمت وفاته، وهؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى عملهم، ويلتحق بابن مسعود كل من سمي بعبد الله من الصحابة، نحو من مائتين وعشرين رجلاً، قاله النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
أما حديث ابن مسعود فرواه الدارقطني عن شريك عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود، قال أشهر الحج شوال وذو القعدة والعشر من ذي الحجة.
وأما حديث عبد الله بن عمر فرواه الحاكم في " مستدركه " في تفسير سورة البقرة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر في قوله عز وجل {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] (البقرة: الآية 197) ، قال شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وأما حديث عبد الله بن عباس فرواه الدارقطني عن شريك عن أبي إسحاق عن الضحاك عن ابن عباس قال أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.
وأما حديث عبد الله بن الزبير فرواه الدارقطني عن محمد بن عبيد الله الثقفي عن عبد الله ابن الزبير نحوه، وهكذا روي عن عطاء ومجاهد والشعبي والثوري وقتادة وسعيد بن أبي عروة وابن حبيب المالكي عن مالك.
وقال مالك في المشهور عنه ذو الحجة بتمامها، ويروي ذلك ابن عمر أيضاً وفي رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - تسعة أيام من ذي الحجة وعشر ليال، ذكره في " جوامع أبي يوسف " - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه أخذ الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وحكى الخراسانيون وجهاً أنه لا يصح الإحرام ليلة العيد بل آخرها يوم عرفة. وعنه في الإملاء والقديم آخرها آخر ذي الحجة، ذكر ذلك النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(4/317)
ولأن الحج يفوت بمضي عشر ذي الحجة، ومع بقاء الوقت لا يتحقق الفوات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن الحج يفوت بمضي عشر ذي الحجة، ومع بقاء الوقت لا يتحقق الفوات) ش: هذا دليل عقلي، تقديره أن الحج يفوت بفوات العشر الأول من ذي الحجة، فلو كان الوقت باقياً إلى آخر ذي الحجة، لما فات لأن العبادة لا تفوت ما دام وقتها باقياً إلى آخر ذي الحجة فعلم أن المراد من الأشهر الثلاثة.
وهاهنا أسئلة، الأول: أن قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] (البقرة: الآية 197) ، والشهر يقع على الكامل حقيقة لا على الناقص، كما في العدة؟ والجواب أن الأشهر اسم عام، ويجوز أن يراد من العام الخاص إذا دل الدليل، وقد دل نقلاً، ولهذا أريدت التثنية من الجمع في قَوْله تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] (التحريم: الآية 4) ، لدلالة الدليل عليه، لأن الكل واحد، وينزل بعض الشهر منزلة كله، كما في قولهم رأيتك سنة كذا، وإنما الرؤية حصلت في بعض زمان السنة لا كلها.
السؤال الثاني: إذا كان الحج لا يصح في شوال ولا في ذي القعدة، فكيف سميت أشهر الحج؟
قلت: يجوز فيها بعض أفعال الحج، ألا ترى أن الآفاقي إذا قدم مكة في شوال وطاف القدوم وسعى بعده ينوب هذا السعي عن السعي الواجب في الحج فإنه يجب مرة واحدة في طواف الحج كلها، فإذا لقي به طواف القدوم لا يجب في طواف الزيارة ولا في طواف الصدر، ولو قدم في رمضان وفعل ذلك لم ينب عن السعي، فظهر أن محل البعض أفعال الحج، إلا أنه لا يجوز الوقوف ولا طواف الزيارة وغيرهما من الأفعال في شوال، لا باعتبار أنه ليس بوقت، بل باعتبار أنه مختص بأزمنة مخصوصة، فيجب الإتيان بها على الوجه المشروع كالركوع والسجود، فلا يجوز تقديم السجود عليه، لا باعتبار أنه أتى به في غير وقته، بل باعتبار أنه قدمه على غير الوجه المشروع.
السؤال الثالث: إذا كان موقتاً بالأشهر، كيف جاز تقديم الإحرام عليها؟
قلت: الإحرام شرط وليس من أفعال الحج، ويجوز تقديم الشرط على وقت المشروط، كتقديم الوضوء على الصلاة، وأما كراهية التقديم فلئلا يقع في المحظور بطول الزمان، لا لأنه قدم على وقت الحج.
السؤال الرابع: ما فائدة الخلاف الذي بيننا وبين مالك؟
قلت: قال في " المحيط "، وفائدة هذا الخلاف تظهر في حق أفعال الحج، فإنها لا تصلح إلا فيها وفي حق المتمتع حتى لو طاف أربعة أشواط الحج والباقي فيها لا يكون متمتعاً، وفائدة(4/318)
وهذا يدل على أن المراد من قَوْله تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] شهران وبعض الثالث لا كله.
فإن قدم الإحرام بالحج عليها جاز إحرامه وانعقد حجا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن عنده يصير محرما بالعمرة؛ لأنه الإحرام ركن عنده، وهو شرط عندنا، فأشبه الطهارة في جواز التقديم على الوقت، ولأن الإحرام تحريم أشياء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خلاف مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - تظهر أيضاً في تأخر طواف الحج والزيارة إلى آخر ذي الحجة.
السؤال الخامس: هل للمتمتع اختصاص بقوله أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، والقارن أيضاً له أن يجمع بين النسكين في أشهر الحج.
قلت: قال صاحب النهاية: وجدت رواية في " المحيط " أنه لا يشترط لصحة الفرائض ذلك، قال في البيهقي دخل جمع بين حج وعمرة، أي أحرم ثم قدم مكة وطاف لعمرته في شهر رمضان كان قارناً، ولكن لا هدي عليه.
السؤال السادس: أن قوله الحج أشهر معلومات مبتدأ وخبر، فكيف يصح حمل الخبر على المبتدأ، إلا أن الحج عبارة عن الأفعال المعلومة من الوقوف والطواف وغير ذلك، والأشهر زمان فلا يجوز الوقوف والطواف والسعي ونحوها أشهر؟
قلت: قال الفراء معناه الحج في أشهر معلومات، يعني أن إحرام الحج فيها وقال أبو علي الفارسي معناه الحج حج أشهر معلومات يعني أن أفعال الحج ما وقع في أشهر الحج. وقال الزمخشري أي وقت الحج أشهر، كقولك البرد شهران.
م: (وهذا) ش: أي هذا الذي قلنا من فوات الحج بمضي عشر ذي الحجة م: (يدل على أن المراد من قَوْله تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] شهران وبعض الثالث لا كله) ش: لأنه لو كان وقت الحج باقياً بعد مضي العشر لم يفت الحج لأن العبادة لا تفوت مع بقاء وقته.
م: (فإن قدم الإحرام بالحج عليها) ش: أي على أشهر الحج م: (جاز إحرامه وانعقد حجا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن عنده يصير محرما بالعمرة) ش: هذا قوله الجديد، وهو قول عطاء وطاووس ومجاهد، وبقولنا قال في القديم، وهو قول إبراهيم النخعي والحسن البصري وابن شبرمة والحكم، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله -. وقال داود الظاهري لا ينعقد، وهو قول جابر وعكرمة.
م: (لأنه الإحرام ركن عنده) ش: فلا يجوز تقديمه على الأشهر كسائر الأركان م: (وهو شرط عندنا) ش: فيجوز تقديمه على الوقت م: (فأشبه الطهارة في جواز التقديم على الوقت) ش: فإن الوضوء للصلاة يجوز تقديمه عليها م: (ولأن الإحرام تحريم أشياء) ش: أي يستلزم تحريم أشياء(4/319)
وإيجاب أشياء، وذلك يصح في كل زمان فصار كالتقديم على المكان.
قال: وإذا قدم الكوفي بعمرة في أشهر الحج، وفرغ منها وحلق أو قصر ثم اتخذ مكة أو البصرة دارا وقد حج من عامه ذلك فهو متمتع أما الأول فلأنه ترفق بنسكين في سفر واحد في أشهر الحج من غير إلمام. وأما الثاني فقيل هو بالاتفاق. وقيل هو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعندهما لا يكون متمتعا؛ لأن المتمتع من تكون عمرته ميقاتية وحجته مكية، ونسكاه هذان ميقاتيتان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كقتل الصيد ولبس المخيط وحلق الرأس ونحو ذلك م: (وإيجاب أشياء) ش: كالرمي والسعي ونحوها م: (وذلك يصح في كل زمان) ش: ذلك إشارة إلى أن المذكور من تحريم أشياء وإيجاب أشياء م: (وصار كالتقديم على المكان) ش: أي الميقات.
فإن قلت: هذا تعليل في مقابلة النص، وهو ما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المهل بالحج في غير أشهر الحج مهل بالعمرة» ، وفي ذلك دلالة على أنه ليس بشرط، بحيث لم يصح تقديمه.
قلت: هذا الحديث شاذ جداً، فلا يعتمد عليه.
[الحكم لو قدم الكوفي بعمرة في أشهر الحج وفرغ منها ثم أقام بمكة أو البصرة]
م: (قال: وإذا قدم الكوفي بعمرة في أشهر الحج) ش: وفي أكثر النسخ قال وإذا قدم، أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " وإذا قدم لأجل عمرة في أشهر الحج م: (وفرغ منها) ش: أي من العمرة م: (أو قصر أو وحلق) ش: وحكمهما واحد، لكن اختصر التفسير، لأنه يعلم منه حكم الحلق بالطريق الأولى دون العكس.
م: (ثم اتخذ مكة أو البصرة) ش: أي إذا اتخذ البصرة م: (دارا) ش: يعني أقام بها بعدما فرغ من العمرة وحلق، فاتخاذ الدار من خواص " الجامع الصغير " ولهذا سوى بن اتخاذ الدار وعدمه في " شرح الطحاوي " م: (وقد حج من عامه ذلك فهو متمتع) ش: في الوجهين المذكورين، ولم يذكر في " الجامع الصغير " فيهما خلافاً، فأشار إلى الوجه الأول بقوله:
م: (وأما الأول) ش: أي الوجه الأول، وهو ما إذا حج بعدما اتخذ مكة داراً م: (فلأنه ترفق بنسكين) ش: أي بالعمرة والحج م: (في سفر واحد في أشهر الحج من غير إلمام) ش: بأهله إلماماً صحيحاً م: (وأما الثاني) ش: أي الوجه الثاني، وهو ما إذا حج بعدما اتخذ البصرة داراً م: (فقيل هو بالاتفاق) ش: لم يعلم منه أنه بالاتفاق في كونه متمتعاً أو في كونه غير متمتع، وذكر الجصاص أنه لا يكون متمتعاً على قول الكل، ذكره في " المحيط ".
م: (وقيل هو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ذكره الحاكم الشهيد عن أبي عصمة سعد ابن معاذ م: (وعندهما لا يكون متمتعا) ش: هذا ذكره الطحاوي م: (لأن المتمتع من تكون عمرته ميقاتية) ش: يعني تكون من الميقات م: (وحجته مكية) ش: وهذا ليس كذلك أشار إليه بقوله م: (ونسكاه هذان ميقاتيتان) ش: لأنه بعدما جاوز الميقات حلالاً وعاد يلزمه الإحرام من الميقات فكان الملم(4/320)
وله أن السفرة الأولى قائمة ما لم يعد إلى وطنه، وقد اجتمع له نسكان فيها، فوجب دم التمتع.
فإن قدم بعمرة فأفسدها. وفرغ منها وقصر أو حلق ثم اتخذ البصرة دارا ثم اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه لم يكن متمتعا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: هو متمتع لأنه إنشاء سفر وقد ترفق فيه بنسكين، وله أنه باق على سفره ما لم يرجع إلى وطنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بأهله.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن السفرة الأولى قائمة ما لم يعد إلى وطنه) ش: ويروى إلى أهله الذي ابتدأ السفر منه، ألا ترى أن الرجل ينتقل من بلد على بلد، ويعد ذلك سفراً واحداً م: (وقد اجتمع له نسكان فيه) ش: أي في هذا السفر م: (فوجب دم التمتع) ش: احتياطاً، لأمر العبادة، وإنما قال فوجب دم التمتع ولم يقل فهو متمتع، لأن فائدة الخلاف تظهر في حق وجود الدم.
فقال وجب دم التمتع وهو دم قربة لكونه دم شكر، ولهذا حل له التناول منه فيصار إلى إيجابه باعتبار هذه الشبهة احتياطاً، وبقي هاهنا وجهان أحدهما، هو أن يخرج من مكة ولا يتجاوز الميقات حتى يحج من عامه ذلك فهو متمتع بلا خلاف ولم يذكره المصنف، لأن حكمه يعلم من الوجه الأول، والآخر هو أن يتجاوز يخرج من مكة، ويتجاوز الميقات وعاد إلى أهله ثم حج من عامه ذلك، فهو غير متمتع، لأنه ألم بأهله إلماماً صحيحاً، ومثله لا يكون متمتعاً ولم يذكر المصنف أيضاً لكونه معلوماً مما تقدم.
م: (فإن قدم بعمرة) ش: أي فإن قدم الكوفي مكة مهلاً بعمرة م: فأفسدها) ش: أي فأفسد العمرة يعني بالجماع م: (وفرغ منها) ش: يعني أتمها على فسادها م: (وقصر أو حلق) ش: فحل م: (ثم اتخذ البصرة دارا) ش: يعني خرج إليها وجعلها داراً م: (ثم اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه لم يكن متمتعا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: هو متمتع لأنه) ش: أي لأن خروجه من البصرة م: (إنشاء سفر وقد ترفق فيه بنسكين) ش: فصار كما لو رجع إلى أهله وعاد فقضاها ذبح، فإنه يكون متمتعاً بالاتفاق، فكذا هذا.
والأصل أن خروجه إلى البصرة كخروجه إلى أهله عندهما، وعند خروجه إلى البصرة بمنزلة المقام بمكة، ولو كان بمكة لا يكون متمتعاً، وليس للمكي تمتع ولا قران، لأن المتمتع من تكون عمرته ميقاتية ومكية، كذا في " المبسوط ".
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه باق على سفره) ش: أي على سفره الأول م: (ما لم يرجع إلى وطنه) ش: ولم يحصل له نسكان صحيحان في سفرة واحدة لفساد العمرة، فلم يكن متمتعاً، ولهذا لو لم يخرج من مكة أو في الميقات حتى قضاها أو حج من عامه لا تكون متمتعاً بالإجماع.(4/321)
فإن كان رجع إلى أهله ثم اعتمر في أشهر الحج، وحج من عامه يكون متمتعا في قولهم جميعا؛ لأن هذا إنشاء سفر لانتهاء السفر الأول، وقد اجتمع له نسكان صحيحان فيه. ولو بقي بمكة ولم يخرج إلى البصرة حتى اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه ذلك لا يكون متمتعا بالاتفاق؛ لأن عمرته مكية والسفر الأول انتهى بالعمرة الفاسدة، ولا تمتع لأهل مكة.
ومن اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه فأيهما أفسد مضى فيه؛ لأنه لا يمكنه الخروج عن عهدة الإحرام إلا بالأفعال وسقط دم المتعة؛ لأنه لم يترفق بأداء نسكين صحيحين في سفرة واحدة.
وإذا تمتعت المرأة فضحت بشاة لم تجزها عن المتعة؛ لأنها أتت بغير الواجب، وكذا الجواب في الرجل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن كان رجع إلى أهله ثم اعتمر في أشهر الحج، وحج من عامه يكون متمتعا في قولهم جميعا) ش: أي في قول أبي يوسف وأبي حنيفة ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (لأن هذا إنشاء سفر لانتهاء السفر الأول) ش: أي برجوعه إلى أهله م: (وقد اجتمع له نسكان صحيحان فيه) ش: أي في هذا السفر الذي أنشأه بعدما رجع إلى أهله.
م: (ولو بقي بمكة ولم يخرج إلى البصرة، حتى اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه لا يكون متمتعا بالاتفاق؛ لأن عمرته مكية) ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] [البقرة: الآية 196] ، فكذا هذا السفر.
م: (والسفر الأول انتهى بالعمرة الفاسدة، ولا تمتع لأهل مكة) ش: للآية المذكورة.
م: (ومن اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه فأيهما أفسد) ش: أي النسكين فاسد بالجماع م: (مضى فيه؛ لأنه لا يمكنه الخروج عن عهدة الإحرام إلا بالأفعال) ش: ولا بعدما انعقد صحيحاً لا طريق للخروج عنه إلا بأداء أحد النسكين كما في الإحرام المبهم م: (وسقط دم المتعة؛ لأنه لم يترفق بأداء نسكين صحيحين في سفرة واحدة) ش: لأن دم المتعة وجب شكراً، فإذا حصل العناد، صار عاصياً، فبطل ما وجب شكراً.
م: (وإذا تمتعت المرأة فضحت بشاة لم تجزها عن المتعة؛ لأنها أتت بغير الواجب) ش: لأن دم المتعة واجب، والأضحية غير واجبة عليها، لأنها مسافرة، ولا أضحية على المسافر، وإنما خصت المرأة وإن كان حكم الرجل كذلك لأنها واقعة امرأة سألت أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فأجابها فحفظها أبو يوسف فأوردها أبو يوسف كذلك، كذا في " الكافي "، وقال الإمام الزاهدي العتابي إنما ذكر المرأة، لأن مثل هذا إنما نسبه على النساء، لأن الجهل فيهن غالب ولم يجزئها عن دم المتعة فإن عليها دمان سوى ما ذبحت دم المتعة الذي كان واجباً عليها، ودم آخر، لأنها قد حلت قبل الذبح م: (وكذا الجواب في الرجل) ش: يعني عن الرجل إذا تمتع فضحى شاة لم يجزئه عن دم المتعة.(4/322)
وإذا حاضت المرأة عند الإحرام اغتسلت وأحرمت وصنعت كما يصنعه الحاج، غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حين حاضت بسرف ولأن الطواف في المسجد والوقوف في المفازة، وهذا الاغتسال للإحرام لا للصلاة فيكون مفيدا للنظافة. فإن حاضت بعد الوقوف وطواف الزيارة انصرفت من مكة ولا شيء عليها لترك طواف الصدر لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للنساء الحيض في ترك طواف الصدر. ومن اتخذ مكة دارا فليس عليه طواف الصدر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الحكم لو حاضت المرأة عند الإحرام]
م: (وإذا حاضت المرأة عند الإحرام اغتسلت وأحرمت وصنعت كما يصنعه الحاج، غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حين حاضت بسرف) ش: هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت خرجنا إلى الحج، فلما كنا بسرف حضت فدخلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أبكي فقال " ما لك أنفست "؟ قلت: نعم، قال: " إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، اقضي ما يقضي الحاج، غير أنك لا تطوفين بالبيت حتى تطهري» . وفي لفظ مسلم «حتى تغتسلي» ، والاستدلال إنما هو بقوله: «فاقضي ما يقضي الحاج» ، وليس فيه ما يدل على الاغتسال، ولكن روى أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر بأن تغتسل وتهل» .
وسرف بفتح السين المهملة وكسر الراء وبالفاء، قال الأترازي: سرف اسم موضع بالمدينة.
قلت: ليس كذلك، قال في " المغرب " سرف جبل في طريق المدينة، وقال ابن الأسير سرف بكسر الراء موضع من مكة على عشرة أميال، وقيل أقل وأكثر.
م: (ولأن الطواف في المسجد) ش: والمرأة الحائض منهية عن دخوله م: (والوقوف في المفازة) ش: يعني الوقوف بعرفة في الصحراء وهي غير منهية عنه م: (وهذا الاغتسال للإحرام) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر بأن يقال لا فائدة في هذا الاغتسال، لأنها لا تطهر به مع قيام الحيض، فأجاب بقوله وهذا الاغتسال للإحرام، أي لأجل الإحرام م: (لا للصلاة) ش: أي لا لأجل الصلاة.
م: (فيكون مفيدا. فإن حاضت بعد الوقوف) ش: بعرفة م: (وطواف الزيارة) ش: أي وبعد طواف الزيارة م: (انصرفت من مكة ولا شيء عليها لترك طواف الصدر لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «رخص للنساء الحيض في ترك طواف الصدر» ش: هذا رواه البخاري ومسلم عن طاوس «عن ابن عباس - رحمهما الله - قال أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكون آخر عهدنا بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض» وروى الترمذي والنسائي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «من حج البيت فليكن آخر عهده إلا الحيض، ورخص لهن رسول الله(4/323)
لأنه على من يصدر إلا إذا اتخذها دارا بعدما حل النفر الأول فيما يروى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويرويه البعض عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه وجب عليه بدخول وقته فلا يسقط عنه بنية إلا بنية الإقامة بعد ذلك، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وقال الترمذي حديث حسن صحيح وهذا إجماع، والنفساء كالحائض.
[من اتخذ مكة دارا هل يلزمه طواف الصدر]
م: (ومن اتخذ مكة دارا فليس عليه طواف الصدر، لأنه) ش: أي لأن طواف الصدر م: (على من يصدر) ش: أي على من يرجع إلى وطنه م: (إلا إذا اتخذها دارا بعدما حل النفر الأول) ش: يعني اليوم الثالث من أيام النحر، لأنه وجب بدخول وقته فلا يسقط عنه بنية الإقامة بعد ذلك كمن أصبح وهو مقيم في رمضان ثم سافر لا يحل له الفطر، وأما إذا اتخذها داراً قبل أن يحل النفر الأول، فلا يجب عليه طواف الصدر، لأنه كمقيم سافر قبل أن يصبح، فإنه يباح له الإفطار م: (فيما يروى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويرويه البعض عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه وجب عليه بدخول وقته فلا يسقط بنية إلا بنية الإقامة بعد ذلك) ش: أي بعد دخول الوقت، وإنما قال فيما روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرويه البعض عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أتي بهذه العبارة لأجل الاشتباه والاختلاف في الرواية، فإن الكرخي والقدوري وصاحب " الإيضاح "، قالوا لا يسقط عنه طواف الصدر في قول أبي حنيفة.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يسقط إلا إذا شرع في الطواف، ولم يذكروا لمحمد قولاً. وقال الأسبيجابي وصاحب " المنظومة " وصاحب " المختلف " الخلاف بين أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - فقالوا: يسقط عنه طواف الصدر عند أبي يوسف وعن محمد رحمهما الله - أنه لا يسقط ولم يذكر لأبي حنيفة قولاً.
وقال فخر الإسلام البزدوي في " شرح الجامع الصغير " معناه إذا اتخذها داراً قبل النفر الأول، فأما إذا وجد النفر فقد لزمه الطواف، فلا يبطل باختياره السكنى ولم يذكر خلافاً واحداً من أصحابنا، بل ذكر المسألة على الاتفاق. وذكر الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير " أما إذا دخل النفر الأول فقد لزمه طواف الصدر فلا يبطل باختياره السكنى، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يبطل عنه، وذكر الخلاف بين أبي يوسف وصاحبيه كما ترى، وذكر الإمام العتابي في المسألة، وقال لا يسقط باختياره هذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما يسقط ولا يلزمه ما لم يشرع فيه.(4/324)
باب الجنايات وإذا تطيب المحرم فعليه الكفارة، فإن طيب عضوا كاملا فما زاد فعليه دم، وذلك مثل الرأس والساق والفخذ وما أشبه ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الجنايات في الحج]
م: (باب الجنايات) ش: أي هذا باب في أحكام الجنايات التي تعتري المحرمين،، وهي جمع جناية، والجناية اسم لفعل محرم شرعاً سواء حل بمال أو نفس، ولكن الفقهاء خصصوها بالفعل في النفس والأطراف. وأما الفعل في المال فسموه غصباً، والمراد هنا فعل ليس للمحرم أن يفعله، وإنما جمع لبيان أنها هاهنا أنواع. وفي " المغرب " الجناية ما يجنيه من شيء، أي تحدثه لتسميته بالمصدر من جنى عليه شيء، وهو عام إلا أنه خص ما يحرم من الفعل، وأصله من جني الثمر وهو أخذه من الشجرة.
[استعمال المحرم الطيب أو الخضاب] 1
م: (وإذا تطيب المحرم فعليه الكفارة) ش: أجمل ذكر الطيب وذكر الكفارة، ثم شرع في تفصيل ذلك بقوله م: (فإن طيب عضوا كاملا فما زاد) ش: أي على العضو م: (فعليه دم) ش: أما نفس الطيب فإنه ممنوع منه بإجماع أهل العلم، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المحرم الذي وقصته راحلته: «لا تحنطوه» ، متفق عليه، وأما مقداره فهو ما ذكره من أنه إذا طيب عضواً أو أكثر منه، فإنه يجب عليه دم وهو شاة، ووجوب الشاة في جميع الوقوف على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
م: (وذلك) ش: أي العضو الكامل م: (مثل الرأس والساق والفخذ وما أشبه ذلك) ش: مثل الوجه والعضد، وفي " المحيط " يحتاج إلى معرفة الطيب وإلى معرفة ما يلزمه بالطيب بها فكل ما له رائحة طيبة مستلذة كالزعفران، والبنفسج والياسمين بكسر السين في " البدائع " كالبنفسج والورد والزنبق والبان والخيري وسائر الأدهان. وفي " المرغيناني " كالمسك والغالية والعنبر والبرد والورس والصندل والكلادي.
وأما معرفة ما يلزمه بالتطيب فالتطيب على عضو كامل، وذكر الفقيه أبو جعفر أن الكثرة تعتبر في نفس الطيب لا في العضو، فإن كان كثيرا ًقدر كفين من ماء الورود وكف من الغالية والمسك بقدر ما يستكثره الناس، وإن كان في نفسه كثيراً أو كف من ماء الورد ويكون قليلاً، فالعبرة للعضو لا للطيب حتى لو طيب بالقليل عضواً كاملاً يجب به دم، وفيما دونه صدقة، وإن كان الطيب كثيراً فالعبرة للطيب لا للعضو، حتى لو طيب به ربع عضو يلزمه الدم، وفي " الذخيرة " إن كان الطيب كثيراً. وقال الإمام خواهر زادة إن كان الطيب في نفسه قليلاً، إلا أنه طيب به عضوا ًكاملاً، فهو كثير وإن كان كثيراً لا يعتبر فيه العضو نأخذ بالاحتياط، وإن مسه ولم يلتزق بيده شيء فلا شيء عليه، وإن التزق ففي الكثير دم وفي القليل صدقة.
وفي " مناسك الكرماني " - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو طيب جميع أعضائه فعليه دم واحد لاتحاد(4/325)
لأن الجناية تتكامل بتكامل الارتفاق، وذلك في العضو الكامل، فيترتب عليه كمال الموجب. وإن طيب أقل من عضو فعليه الصدقة لقصور الجناية. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجب بقدره من الدم اعتبارا للجزء بالكل. وفي " المنتقى " أنه إذا طيب ربع العضو فعليه دم اعتبارا بالحلق، ونحن نذكر الفرق بينهما من بعد إن شاء الله تعالى. ثم واجب الدم يتأدى بالشاة في جميع المواضع إلا في موضعين نذكرهما في باب الهدي إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجنس. ولو كان الطيب في أعضائه المتفرقة بجميع ذلك كله، فإن بلغ عضوا ًكاملاً فعليه دم وإلا صدقة وفي " النوادر " إن مس طيباً بأصبعه فأصبها كلها فعليه دم ولا يعتبر قصده ذكره في " الذخيرة " فجعل الأصبع الواحدة عضواً كبيراً.
بخلاف ما ذكره في العين والأنف، وفي " النوادر " عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - طيب شاربه كله أو بقدره من لحيته أو رأسه فعليه دم فجعل الشارب عضواً، وإن طيب بعض الشارب أو بقدره من اللحية فصدقة، ذكره في " المحيط "، وإن دخل بيتاً قد أجمر فعلق بثوبه رائحة فلا شيء عليه لعدم عينه، بخلاف ما لو أجمر ثوبه فإنه يجب في الكثير دم وفي القليل صدقة.
م: (لأن الجناية تتكامل بتكامل الارتفاق) ش: أي الانتفاع م: (وذلك) ش: أي تكامل الارتفاق كائن م: (في العضو الكامل، فيترتب عليه كمال الموجب) ش: بفتح الجيم وهو الدم م: (وإن طيب أقل من عضو فعليه الصدقة لقصور الجناية. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجب بقدره من الدم) ش: يعني ينظر كم قدره من قدر ما يوجب الدم فيكون عليه بحساب ذلك، وإن كان نصف العضو يجب عليه نصف الدم، وإن كان ربع العضو يجب عليه ربع الدم م: (اعتبارا للجزء بالكل) ش: كما في الحساب إذا اشترى شيئا ًبدينار يجب أن يكون نصفه بنصف دينار بالضرورة.
م: (وفي " المنتقى " أنه إذا طيب ربع العضو فعليه دم اعتبارا بالحلق) ش: أي قياساً على حلق ربع الرأس، فإن فيه دما ًفكذلك في تطييب ربع العضو، لأن الربع يحكي حكاية الكل. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب الدم في قليله وكثيره م: (ونحن نذكر الفرق بينهما) ش: أي بين تطييب ربع العضو حيث لا يجب به الدم وبين حلق ربع الرأس واللحية حيث يجب به الدم م: (من بعد إن شاء الله تعالى) ش: أي من بعد ذلك وأشار به إلى قوله - ولنا أن حلق بعض الرأس ارتفاق كامل ... إلى آخره.
م: (ثم واجب الدم) ش: أي ثم واجب الدم يتأدى بالشاة في جميع المواضع يعني في كل موضع يقال يجب الدم م: (يتأدى بالشاة في جميع المواضع) ش: أو تجب به صدقة م: (إلا في موضعين) ش: أحدهما إذا طاف طواف الزيارة جنبا ًوالآخر إذا جامع بعد الوقوف بعرفة لا تجوز فيهما إلا البدنة م: (نذكرهما) ش: أي نذكر الموضعين م: (في باب الهدي إن شاء الله تعالى) ش: وهو آخر أبواب الجنايات.(4/326)
وكل صدقة في الإحرام غير مقدرة فهي نصف صاع من بر، إلا ما يجب بقتل القملة أو الجرادة، هكذا روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قال: فإن خضب رأسه بحناء فعليه دم؛ لأنه طيب، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحناء طيب»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكل صدقة في الإحرام) ش: أي كل لفظ صدقة يذكر في باب الإحرام مثل قوله فعليه صدقة أو تجب به صدقة أو نحوها م: (غير مقدرة) ش: يجوز أن يكون مجروراً على أنها صفة صدقة، ويجوز أن يكون منصوباً على الحال أي كل صدقة نذكر حال كونها غير مقدرة شيء في النصف أو الثلث أو الربع، قوله غير مقدرة احترازاً عن المقدرة، وهي في حلق الرأس بسبب الهوام، فإن الصدقة مقدرة بثلاثة آصع من طعام م: (فهي نصف صاع من بر) ش: أي الواجب فيها نصف صاع، وهذه جملة وقعت خبراً للمبتدأ، أعني وكل صدقة. م: (إلا ما يجب بقتل القملة أو الجرادة) ش: فإن في قتلهما يتصدق بما شاء، قال في " التحفة " فهو كف من طعام، وذكر الحاكم في " الكافي " ويكره له قتل القملة وما تصدق به فهو حرمتها. وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال تمرة خير من جرادة وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى م: (هكذا روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يعني يتصف بما شاء في قتل القملة والجرادة، هكذا روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (قال: فإن خضب رأسه بحناء فعليه دم) ش: وفي أكثر النسخ قال: فإن خضب قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإن خضب رأسه ولحيته بالحناء فعليه دم م: (لأنه طيب) ش: أي لأن الحناء طيب. وقال مالك والشافعي - رحمهما الله - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس بطيب ولا يلزمه شيء، وتعلقوا بما روي أن أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كن يتخضبن بالحناء وهن محرمات. قال النووي: وهو غريب رواه ابن المنذر بغير إسناد فلا يكون حجة، وذلك على أنه كان قبل إحرامهن أوضح.
قلنا م: (قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحناء طيب» ش: هذا الحديث رواه البيهقي في كتاب " المعرفة " في الحج عن ابن لهيعة عن بكر بن عبد الله بن الأشج عن خولة بنت حكيم عن أمها أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تطيبي وأنت محرمة ولا تمسي الحناء فإنه طيب» ، قال البيهقي إسناده ضعيف، فإن ابن لهيعة لا يحتج به.
قلت: قال أبو داود سمعت أحمد يقول ما كان يحدث بمصر إلا ابن لهيعة، وقال أحمد بن صالح كان ابن لهيعة صحيح الكتاب طلاباً للعلم من سفيان، وكان عند عبد الله بن لهيعة الأصول، وعندنا الفروع، وقال مخرج الأحاديث وعزاه السروجي في " الغاية " إلى النسائي يعني عزا تخريج قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى النسائي. وروى أحمد في " مسنده " من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعجبه الفاغية» قال الأصمعي هو نور الحناء عن أبي حنيفة الدينوري(4/327)
وإن صار ملبدا فعليه دمان دم للتطيب ودم للتغطية.
ولو خضب رأسه بالوسمة لا شيء عليه؛ لأنها ليست بطيب، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا خضب رأسه بالوسمة لأجل المعالجة من الصداع فعليه الجزاء باعتبار أنه يغلف رأسه، وهذا هو الصحيح. ثم ذكر محمد في الأصل رأسه ولحيته، واقتصر على ذكر الرأس في " الجامع الصغير " دل أن كل واحد منهما مضمون.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في البستان الحناء من أنواع الطيب.
م: (وإن صار ملبداً) ش: أي فإن صار رأس المحرم ملبدا يقال لبد المحرم رأسه إذا جعل في رأسه من الصمغ أو نحوه لئلا يتشعث في الإحرام م: (فعليه دمان دم للتطيب ودم للتغطية) ش: أي لتغطية الرأس، لأنه جنايتان فيجب دمان، وعلم من هذا أن في المسألة السابقة لم يكن رأسه ملبداً فلهذا يجب دم واحد وقال الحاكم في كافيته وإن خضبت المحرمة بدنها بالحناء فعليها دم إذا كان كثيرا فاحشاً، وإن كان قليلاً فعليها صدقة، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقوم ما يجب فيه الدم فينظر هذا القدر منه فيجعل عليه الصدقة بحساب ذلك.
م: (ولو خضب رأسه بالوسمة فلا شيء عليه) ش: قال الأترازي: الوسمة بكسر السين وسكونها اسم شجرة ورقه خضاب والكسر أفصح، وكذا قال الأكمل أخذاً عن " المغرب " ولكن قال فيه ورقها خضاب يخضب يحذو حذو الحناء م: (لأنها ليست بطيب) ش: لأنها ليس لها رائحة مسلوة، وإنما تغير الشعر، وذلك ليس باستمتاع، وإنما هو زينة، وإذا خاف أن يقتل الدواب فعليه صدقة، لأنه يزيل التفث.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا خضب رأسه بالوسمة؛ لأجل المعالجة من الصداع فعليه الجزاء باعتبار أنه يغلف رأسه) ش: أي يغطي من التغطية م: (وهذا هو الصحيح) ش: أي تأويل أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالتعليق، لأن تغطية الرأس توجب الجزاء. وفي " المنتقى " إن خضب رأسه بالوسمة فعليه دم في قياس قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي قياس قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - صدقة وفيه عن الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا خضب رأسه بالوسمة يطعم مسكيناً نصف صاع، وفي " الينابيع " عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - صدقة في الوسمة.
م: (ثم ذكر محمد في الأصل) ش: أي " المبسوط " م: (رأسه ولحيته) ش: يعني ذكر في " المبسوط " في مسألة الحناء رأسه ولحيته كلاهما بواو العطف م: (واقتصر على ذكر الرأس) ش: بدون ذكر اللحية م: (في " الجامع الصغير " دل) ش: يعني ما ذكره في " الجامع الصغير " م: (أن كل واحد منهما) ش: أي من الرأس واللحية م: (مضمون) ش: بالدم، يعني يلزم لكل واحد منهما دم، ولا يشترط الجمع، لأنه مرتبة الجزاء في " الجامع الصغير " على الرأس، وما اشترط معه خضاب اللحية.(4/328)
فإن ادهن بزيت فعليه دم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: عليه الصدقة وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا استعمله في الشعر فعليه دم لإزالة الشعث، وإن استعمله في غيره فلا شيء عليه لانعدامه. ولهما أنه من الأطعمة إلا أن فيه ارتفاقا بمعنى قتل الهوام وإزالة الشعث فكانت جناية قاصرة. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه أصل الطيب، ولا يخلو عن نوع طيب ويقتل الهوام ويلين الشعر ويزيل التفث والشعث فتتكامل الجناية بهذه الجملة فيوجب الدم، وكونه مطعوما لا ينافيه كالزعفران، وهذا الخلاف في الزيت البحت والخل البحت. أما المطيب منه كالبنفسج والزنبق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن ادهن بزيت فعليه دم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: إنما خص الذكر بالزيت لأنه لو ادهن بشحم أو سمن لا شيء فيه، كذا في " التجريد " و " الإيضاح "، وإليه أشير في " المبسوط " م: (وقالا: عليه الصدقة) ش: ولا فرق بين الرأس وسائر البدن م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا استعمله في الشعر فعليه دم لإزالة الشعث) ش: أي الوسخ. م: (وإن استعمله في غيره) ش: أي في غير الشعر م: (فلا شيء عليه لانعدامه) ش: وبه قال مالك وأبو ثور، وفي أصح الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يوجب الفدية استعمال الدهن، وإن كان في شعر الرأس واللحية، لأنه ليس بطيب، وفي " المحلى " كره ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن يدهن المحرم رأسه بالسمن لصداع أصابه ولم يوجب فيه شيئاً. وعن مجاهد إذا تداوى المحرم بالزيت أو السمن أو البنفسج فعليه الكفارة. م: (ولهما) ش: أي ولأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أنه) ش: أي أن الزيت م: (من الأطعمة إلا أن فيه ارتفاقا بمعنى قتل الهوام) ش: وهي جمع هامة، وهي في الأصل في الدواب ما يقتل من ذوات السموم كالعقارب والحيات، ولكن المراد بها هاهنا القمل على سبيل الاستعارة م: (وإزالة الشعث فكانت جناية قاصرة) ش: فتجب الصدقة لا الدم.
م: (ولأبي حنيفة أنه) ش: أي أن الزيت م: (أصل الطيب) ش: على معنى أن الروائح تلقى فيه، فتصير غالية، والحكم يتعلق بالمعنى لا الرائحة، ولهذا لو شم المحرم الطيب أو الريحان لا شيء عليه، وإن كان يكره م: (ولا يخلو عن نوع طيب) ش: لأن فيه قليل رائحة م: (ويقتل الهوام ويلين الشعر ويزيل التفث والشعث فتتكامل الجناية بهذه الجملة فيوجب الدم) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية م: (وكونه مطعوما لا ينافيه) ش: أي كون الزيت مما يؤكل لا ينافي الطيب، وهذا جواب عن قولهما: إن الزيت من الأطعمة، قياسهما على اللحم والشحم غير مستقيم لما ذكر أنه مثل الطيب، فيكون طيباً من وجه، بخلاف الشحم واللحم م: (كالزعفران) ش: وجه التشبيه أنه مما يؤكل وهو الطيب بلا خلاف. م: (وهذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور بين العلماء م: (في الزيت البحت) ش: بفتح الباء الموحدة وسكون الحاء المهملة وبالتاء المثناة من فوق أي الزيت المطيب، وهو الذي ألقي فيه الطيب م: (والخل البحت، أما المطيب منه كالبنفسج والزنبق) ش: بفتح الزاي وسكون النون وفتح الباء الموحدة، وقال الشراح كلهم هو دهن الياسمين.(4/329)
وما أشبههما يجب باستعماله الدم بالاتفاق لأنه طيب، وهذا إذا استعمله على وجه التطيب، ولو داوى به جرحه أو شقوق رجله فلا كفارة عليه؛ لأنه ليس بطيب في نفسه إنما هو أصل الطيب أو هو طيب من وجه فيشترط استعماله على وجه التطيب، بخلاف ما إذا تداوى بالمسك وما أشبهه،
وإن لبس ثوبا مخيطا أو غطى رأسه يوما كاملا فعليه دم، وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا لبس أكثر من نصف يوم فعليه دم، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: في بلاد الشام وحلب لا يقال زنبق إلا القضبان طوال عليها شماريخ صفر، ولها رائحة طيبة، ولها منظر حسن كل قضيب قدر ذراع أو أكثر م: (وما أشبههما) ش: كدهن البان والورد م: (يجب باستعماله الدم بالاتفاق؛ لأنه طيب) ش: وعن الشافعي: البنفسج ليس بطيب وقال بعض أصحابه: إنه طيب قولا واحدا وبعضهم ليس بطيب قولا واحدا. وقال بعضهم فيه قولان.
م: (وهذا) ش: أي الذي ذكر من الخلاف في ادهان الزيت من وجوب الدم أو الصدقة م: (إذا استعمله) ش: أي الدهن م: (على وجه التطيب) ش: على ما يعتاد الناس فيه م: (ولو داوى به جرحه أو شقوق رجله فلا كفارة عليه) ش: أي لا شيء عليه، وبه صرح في " المبسوط " وإنما ذكر بنفي الكفارة دون الدم لتناول الدم والصدقة م: (لأنه ليس بطيب في نفسه إنما هو أصل الطيب أو هو طيب من وجه) ش: ومطعوم من وجه م: (فيشترط استعماله على وجه التطيب) ش: يعني يشترط قصد التطيب به. م: (بخلاف ما إذا تداوى بالمسك) ش: لأنه طيب بنفسه، فلا يشترط فيه قصد التطيب به م: (وما أشبهه) ش: كالعنبر والكافور والزعفران لأنها بنفسها فيجب الدم وإن استعملت على وجه التداوي.
[تغطية الرأس ولبس المخيط للمحرم]
م: (وإن لبس ثوبا مخيطا) ش: أصله مخيوط، كمبيع أصله مبيوع، استثقلت الضمة على الياء فحذفت فاجتمع ساكنان، فحذفت الواو وكسرت الخاء لأجل الياء م: (أو غطى رأسه يوما كاملا فعليه دم) ش: وفي " الأسرار " و " مبسوط شيخ الإسلام " أو ليلة كاملة أو لبس اللباس كله من القميص والسراويل والعباء والخفين يوماً كاملاً فعليه دم واحد، وكذا لو دام أياما أو كان نزعه من الليل ما لم يعزم على تركه، لأن اللبس قد اتحد، كذا ذكره التمرتاشي والولوالجي م: (وإن كان أقل من ذلك) ش: أي من يوم كامل م: (فعليه صدقة) ش: لنقصان الاستعمال.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا لبس أكثر من نصف يوم فعليه دم) ش: وهذا رواه الحسن بن زياد عن أبي يوسف، وهو غير مشهور م: (وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لولا أي المروي عن أبي يوسف، وهو قول أبي حنيفة أولا) ش: أي كان يقوله أولاً ًثم رجع عنه، فقال: لا يلزمه الدم حتى يكون يوماً كاملاً.(4/330)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجب الدم بنفس اللبس؛ لأن الارتفاق يتكامل بالاشتمال على بدنه. ولنا أن معنى الترفق مقصود من اللبس، فلا يحصل إلا بلبس ممتد فلا بد من اعتبار المدة ليتحصل على الكمال ويجب الدم، فقدر باليوم لأنه يلبس فيه ثم ينزع عادة ويتقاصر فيما دونه الجناية فتجب الصدقة، غير أن أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أقام الأكثر مقام الكل. ولو ارتدى بالقميص أو اتشح به أو اتزر بالسراويل فلا بأس به؛ لأنه لم يلبسه لبس المخيط. وكذا لو أدخل منكبيه في القباء ولم يدخل يديه في الكمين خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن لبس القباء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجب الدم بنفس اللبس) ش: وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - م: (لأن الارتفاق) ش: أي الانتفاع م: (يتكامل بالاشتمال على بدنه) ش: أي باشتمال اللبس على بدن اللابس.
م: (ولنا أن معنى الترفق مقصود من اللبس) ش: وهو رفع الحر والبرد، لأن اللبس أعد لهذا، قال تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] (النحل: الآية 81) ، م: (فلا يحصل) ش: أي اللبس بهذا المعنى م: (إلا بلبس ممتد) ش: لا يلبس ساعة م: (فلا بد من اعتبار المدة ليتحصل) ش: أي اللبس م: (على الكمال، ويجب الدم) ش: بالنصب، لأنه معطوف على قوله ليتحصل م: (فقدر) ش: أي اعتبار المدة م: (باليوم؛ لأنه يلبس فيه) ش: أي في اليوم م: (ثم ينزع) ش: في الليل م: (عادة) ش: فإن من لبس ثوباً يليق بالنهار ينزعه في الليل، وإذا لبس ثوباً يليق بالليل ينزعه بالنهار فقد حصل عند ذلك رفق كامل، فيجب دم م: (ويتقاصر فيما دونه الجناية) ش: أي دون اليوم م: (فتجب الصدقة) ش: لأن الجناية يسيرة في هذا الباب توجب الصدقة، كذا في " المبسوط ".
فإن قلت: لم لا يقاس على اليمين؟ قلت: ليس الرفق مقصوداً في اليمين، لأن الحالف منع نفسه عن اللبس مطلقاً بمجرد اللبس وإن قل. م: (غير أن أبا يوسف أقام الأكثر) ش: أي أكثر النهار م: (مقام الكل) ش: لأن المرتدي يرجع إلى بيته قبل الليل، فينزع ثيابه التي يلبسها للناس، فكان اللبس أكثر اليوم ارتفاق مقصود، لكن هذا لا ينضبط، فإن أحوال رجوع الناس قبل الليل إلى بيوتهم مختلفة بعضهم يرجع في وقت الضحى وبعضهم قبله وبعضهم بعده، فكان الظاهر هو الأول. م: (ولو ارتدى بالقميص) ش: أي جعله رداء م: (أو اتشح به) ش: أي بالقميص من الاتشاح، وهو أن يدخل ثوبه تحت يده اليمنى ويلقيه على منكبه الأيسر م: (أو اتزر بالسراويل) ش: أي اشتمل به مثل ما يشتمل بالفوطة م: (فلا بأس به؛ لأنه لم يلبسه لبس المخيط) ش: أي كلبس المخيط، فيكون غير معتاد، فلا يتحقق الارتفاق م: (وكذا لو أدخل منكبيه في القباء ولم يدخل يديه في الكمين) ش: أي لا بأس به.
م: (خلافا لزفر) ش: والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن لبس القباء) ش: هكذا معتاد، وفي " حاويهم " إن كان من أقبية خراسان قصير الذيل ضيق الكمين، فعليه الفدية، وإن كان من أقبية(4/331)
لأنه ما لبسه لبس القباء، ولهذا يتكلف في حفظه. والتقدير في تغطية الرأس من حيث الوقت ما بيناه،
ولا خلاف أنه إذا غطى جميع رأسه يوما كاملا يجب عليه الدم؛ لأنه ممنوع منه، ولو غطى بعض رأسه فالمروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه اعتبر الربع اعتبارا بالحلق والعورة، وهذا لأن ستر البعض استمتاع مقصود يعتاده بعض الناس، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعتبر أكثر الرأس اعتبارا للحقيقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العراق طويل الذيل واسع الكمين فلا فدية عليه حين يدخل يديه في كميه، والصحيح هو الأول.
م: (لأنه ما لبسه لبس القباء، ولهذا يتكلف في حفظه) ش: حتى لو زر عليه بلا إدخال يديه كان لابساً تجب الفدية.
وقال الأترازي: بخلاف ما إذا زره يوماً كاملاً حيث يجب عليه الدم، لوجود الارتفاق الكامل م: (والتقدير في تغطية الرأس من حيث الوقت ما بيناه) ش: إنما أعاد هذا الكلام ليبني عليه الفروع قوله ما بيناه، وهو قوله أو غطى رأسه يوماً كاملاً.
م: (ولا خلاف أنه إذا غطى جميع رأسه يوما كاملا يجب عليه الدم؛ لأنه ممنوع منه، ولو غطى بعض رأسه فالمروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه اعتبر الربع) ش: أي ربع الرأس فإنه قال: ما يتعلق بالرأس من الجناية، فالرفع فيه حكم الكل م: (اعتبارا بالحلق) ش: أي بحلق ربع الرأس يجب دم، وكذا في حلق ربع اللحية، وإن كان أقل من ربع الرأس تجب صدقة، وفي " المبسوط " إن أخذ ثلث رأسه أو ثلث لحيته، فعليه دم. عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب الدم في حلق عشر رأسه احتياطا.
وفي " المبسوط " لو حلق العضو المقصود قبل أوانه يوجب الدم كالرأس والأذنين والرقبة ويجب الدم بحلق أحدهما وصبغه بالنورة، وفي " البدائع " يجب الدم في حلق الساعد والساق والفصد صدقة، وفي " المحلى " إن حلق بعض رأسه من غير ضرورة عامداً عالماً بتحريمه بطل إحرامه عند الظاهرية م: (والعورة) ش: أي واعتباراً بكشف العورة، فإن الربع فيه يقوم مقام الكل.
م: (وهذا) ش: تنبيه لما أتى بعده م: (لأن ستر البعض استمتاع مقصود يعتاده بعض الناس) ش: فإن الأتراك والأكراد والعراقيين يغطون رؤوسهم بالقلانس الصغار ويقدرون ذلك ارتفاقاً كاملاً، فيجب فيه الدم.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعتبر أكثر الرأس اعتبارا للحقيقة) ش: أي لحقيقة الكثرة، إذ حقيقتها إنما تثبت إذا قابلها أقل منها، والربع والثلث كثير حكما لا حقيقة.(4/332)
وإذا حلق ربع رأسه أو ربع لحيته فصاعدا فعليه دم، فإن كان أقل من الربع فعليه صدقة، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تجب إلا بحلق الكل، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تجب بحلق القليل اعتبارا بنبات الحرم.
ولنا أن حلق بعض الرأس ارتفاق كامل؛ لأنه معتاد فتتكامل به الجناية وتتقاصر فيما دونه بخلاف تطيب ربع العضو؛ لأنه غير مقصود، وكذا حلق بعض اللحية معتاد بالعراق وأرض العرب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[حلق المحرم شعر رأسه أو لحيته ونحوها]
م: (وإذا حلق ربع رأسه أو ربع لحيته فصاعدا فعليه دم، فإن كان أقل من الربع فعليه صدقة) ش: هذا مخالف لما ذكره السرخسي وقاضي خان وشرح الطحاوي حيث ذكر فيها على قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - إن حلق جميع الرأس واللحية، فعليه دم، وإن حلق أقل من ذلك فعليه إطعام. وذكر في " جامع المحبوبي " الصحيح ما ذكره عامة المشايخ، وهو المذكور في " الهداية ".
م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجب إلا بحلق الكل) ش: عملاً بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى} [البقرة: 196] [البقرة: الآية 196] ، وأن الرأس للكل م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تجب بحلق القليل) ش: وهو ثلاث شعرات، وفي " شرح الوجيز " في شعرة واحدة مد من طعام وفي قول درهم، وفي قول ثلث درهم، وفي قول دم كامل م: (اعتبارا بنبات الحرم) ش: يستوي فيه قليله وكثيره، كذا في " جامع البزدوي ".
م: (ولنا أن حلق بعض الرأس ارتفاق كامل؛ لأنه معتاد) ش: فإن الأتراك يحلقون أوساط رءوسهم، وبعض العلوية يحلقون نواصيهم لانتفاء الراحة والزينة وعامة العرب يمسكون رءوسهم بشعورهم، وإنما يحلقون النواصي والأقفية م: (فتتكامل به الجناية) ش: أشار إلى نفي مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وتتقاصر فيما دونه) ش: أشار إلى نفي قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي تتقاصر الجناية فيما دون الربع.
م: (بخلاف تطيب ربع العضو) ش: هذا إشارة إلى بيان الفرق بين حلق الربع وبين تطيب الربع، يعني إذا حلق ربع الرأس أو ربع اللحية يجب الدم، وإذا طيب ربع الرأس أو ربع اللحية لا يجب الدم، بل تجب الصدقة على ظاهر الرواية، وإنما قلنا على ظاهر الرواية، لأنه ذكر في المنتقى أنه يجب فيه الدم.
م: (لأنه) ش: أي لأن تطيب ربع العضو م: (غير مقصود) ش: لأن العادة في التطيب لسبب الاقتصار على الربع فصار العضو الكامل في الطيب كالربع في حلق الكفارة. م: (وكذا حلق بعض اللحية معتاد بالعراق) ش: أي يتعارف فإن الأكاسرة كانوا يحلقون بعض لحى شجعانهم، ومنهم من كان يحلقها كلها م: (وأرض العرب) ش: أي وكذا معتاد بأرض العرب، وإن عامة العرب يحلقون من النواصي والأقفية مقدار الربع، وكذا الأتراك يحلقون من وسط الرأس قدر(4/333)
وإن حلق الرقبة كلها فعليه دم؛ لأنه عضو مقصود بالحلق. وإن حلق الإبطين أو أحدهما فعليه دم؛ لأن كل واحد منهما عضو مقصود بالحلق لدفع الأذى ونيل الراحة، فأشبه العانة. ذكر في الإبطين الحلق هاهنا وفي الأصل النتف وهو السنة. وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - لو حلق عضوا فعليه دم، وإن كان أقل فطعام أراد به الصدر أو الساق وما أشبه ذلك؛ لأنه مقصود بطريق التنور فتتكامل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الربع به يقع ترفقهم عادة، فلحق الربع بالكل احتياطاً لإيجاب الكفارة في المناسك، فإنها مبنية على الاحتياط.
م: (وإن حلق الرقبة كلها فعليه دم؛ لأنه عضو مقصود بالحلق. وإن حلق الإبطين أو أحدهما فعليه دم؛ لأن كل واحد منهما مقصود بالحلق لدفع الأذى ونيل الراحة)
ش: فإن قلت: كان ينبغي في حلق الإبطين أن يجب دمان، إذ كل إبط عضو مقصود بالحلق.
قلت: الأصل في جنايات المحرم إذا كانت من جنس واحد أن يجب ضمان واحد، ألا ترى أنه إذا تنور جميع بدنه يلزمه دم واحد م: (فأشبه العانة) ش: في وجوب الدم، وفي " جامع قاضي خان " إذا كان شعر العانة كثيراً، ففي حلق ربعها دم م: (ذكر في الإبطين) ش: أي ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الإبطين م: (الحلق هاهنا) ش: أي في " الجامع الصغير ".
م: (وفي الأصل) ش: أي وذكر في " المبسوط " م: (النتف) ش: أي نتف الإبطين م: (وهو السنة) ش: أي نتف الإبطين هو السنة، وفي العامل بالسنة أولى، وفي الأصل أنه لا حظر في الحلق وإن كانت السنة هو النتف وفي " شرح الطحاوي " ولو حلق من أحد الإبطين أكثر وجب الصدقة، لأنه ليس له نظير في البدن، وليس لأحدهما حكم الكل.
م: (وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله) ش: قيل قولهما بيان قول أبي حنيفة، لا أنه خالفهما في ذلك، وإنما خصا بالذكر، لأن الرواية محفوظة عنهما، كذا في " الكافي " م: (لو حلق عضوا فعليه دم، وإن كان أقل) ش: أي من العضو م: (فطعام) ش: أي الواجب طعام م: (أراد به) ش: أي أراد محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " بالعضو الكامل م: (الصدر أو الساق وما أشبه ذلك) .
ش: نحو الساعد والعانة والإبط. قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا مخالف لما ذكر في " المبسوط " حيث ذكر فيه الأصل من حلق عضو مقصود بالحلق، فعليه دم. وإن حلق عضواً غير مقصود فعليه صدقة فيهما ليس بمقصود حلق شعر الصدر والساق، ولم يذكر الخلاف فيه م: (لأنه مقصود بطريق التنور) ش: أي باستعمال النورة، يقال تنور إذا طلى بالنورة م: (فتتكامل) ش: أي الجناية م: (بحلق كله وتتقاصر عند حلق بعضه) ش: ولهذا قالوا عبد المحرم خبز فاحترق بعض يديه في(4/334)
بحلق كله وتتقاصر عند حلق بعضه، وإن أخذ من شاربه فعليه طعام حكومة عدل، ومعناه أنه ينظر أن هذا المأخوذ لم يكن من ربع اللحية فيجب عليه الطعام بحسب ذلك، حتى ولو كان مثلا مثل ربع الربع يلزمه قيمة ربع الشاة، ولفظة الأخذ من الشارب تدل على أنه هو السنة فيه دون الحلق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التنور فعليه صدقة إذا عتق، لأنه جناية يسيرة، وإن طلى من غير أذى فعليه دم إذا عتق؛ لأن جنايته غليظة ولا فرق بين الحلق والنتف والتنور في وجوب الفدية عند الأئمة الأربعة.
م: (وإن أخذ من شاربه فعليه طعام حكومة عدل) ش: هذا من مسائل " الجامع الصغير ". وفي " شرح الطحاوي " - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولو حلق شاربه فعليه صدقة، لأنه تبع اللحية، وهو قليل وقليل الشارب عضو مقصود بالحلق، فإن من عادة بعض الناس حلق الشارب دون اللحية فكان الواجب تكامل الجناية لحلقه، وأجيب بأنه مع اللحية في الحقيقة عضواً واحداً، لاتصال البعض بالبعض، فلا يجعل في حكم أعضاء متفرقة كالرأس، فإن من العلوية من عادته حلق مقدم الرأس، وذلك لا يدل على أن كله ليس بعضو واحد.
م: (ومعناه) ش: أي معنى ما ذكر من حكومة العدل م: (أنه ينظر أن هذا المأخوذ لم يكن من ربع اللحية فيجب عليه الطعام بحسب ذلك، حتى ولو كان) ش: أي المأخوذ م: (مثلا مثل ربع الربع) ش: أي ربع ربع اللحية م: (يلزمه قيمة ربع الشاة) ش: فيتصدق به، وعلى هذا القياس سائر الأجزاء، وإنما قال مثلاً لأنه يجوز أن يكون ثلث الربع أو نصف الربع أو غير ذلك، ففي الأول ثلث الشاة، وفي الثالث نصف الشاة.
م: (ولفظة الأخذ من الشارب) ش: يعني ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " لفظة الأخذ من الشارب م: (تدل على أنه) ش: أي أن الأخذ م: (هو السنة فيه) ش: أي في الشارب م: (دون الحلق) ش: في شرح الآثار أن الحلق سنة، وهو أحسن من القص، والقص حسن جائز، وقد بوب الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب الكراهية باب حلق الشارب، ثم ذكر أحاديث فيها لفظ قص الشارب عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الفطرة عشرة "، فذكر قص الشارب» وأخرجه أبو داود بأتم منه، ومنها عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مثله وأخرجه الجماعة ما خلا البخاري.
فلفظ مسلم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عشرة من الفطرة قص الشارب ... " الحديث.» ومنها عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الفطرة خمس» ، ثم ذكر مثله وأخرجه مسلم. ومنها عن المغيرة بن شعبة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلاً طويل الشارب فدعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم دعا بسواك وشفرة فقص شارب الرجل على عود السواك» وأخرجه أبو داود وأحمد ثم قال فذهب قوم من أهل المدينة إلى هذه الآثار واختياره لقص الشارب على إحفائه،(4/335)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
انتهى.
قلت في شرحي الذي شرحته لكتاب الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - المسمى بشرح " معاني الآثار " أراد بالقوم هؤلاء سالماً وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وجعفر بن الزبير وعبد الله بن عبيد الله بن عتبة، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
فإنهم قالوا المستحب هو القص لا الإحفاء، وإليه ذهب حميد بن هلال والحسن البصري ومحمد بن سيرين وعطاء بن أبي رباح وبكر بن عبد الله ونافع بن جبير وعراك بن مالك والإمام مالك، وقال عياض: ذهب كثير من السلف إلى منع الحلق والاستئصال في الشارب، وكان مالك يرى حلقه مثلة، ويأمر بتأديب فاعله، ثم قال الطحاوي وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا بل يستحب إحفاء الشارب ويراه أفضل من قصه، انتهى.
قلت: أراد بهم جمهور السلف منهم أهل الكوفة ومكحول ومحمد بن عجلان ونافع مولى ابن عمر وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنهم قالوا المستحب إحفاء الشارب وهو أفضل من قصه، وروي ذلك عن عبد الله بن عمر وأبي سعيد الخدري ورافع بن خديج وسلمة بن الأكوع وجابر بن عبد الله وأبي أسيد وعبد الله بن عمر.
واحتجوا في ذلك بما رواه الطحاوي من حديث ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أحفوا الشوارب وأعفوا عن اللحى» ، وأخرجه مسلم والترمذي، وبما رواه عن أنس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله، وزاد: «ولا تشبهوا باليهود» ، وأخرجه البزار في " مسنده " ولفظه: «خالفوا المجوس جزوا الشوارب وأوفوا اللحى» ، وبما رواه عن أبي هريرة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جزوا الشوارب أرخوا اللحى» ، وأخرجه مسلم.
والإحفاء الاستئصال، قال الخطابي: يقال أعفى شاربه ورأسه، وقال ابن دريد حفى شاربه حفياً إذا استأصل أخذ شعره، ومنه قوله أحفوا الشوارب، وقال الجوهري الإحفاء مصدر من قولهم أحفى شاربه إذا استقصى في أخذه.
قلت: أراد الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بتبويب باب الحلق الإحفاء، لأن لفظ الحلق لم يرد. والحاصل أن الإحفاء للاستئصال حتى يرى جلده، وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يحفي حتى يرى جلده ويعلم من هذا كله أن الإحفاء أفضل من القص، وهو خلاف ما ذهب إليه المصنف من أن لفظ الأخذ هو السنة، لأن الإحفاء أوفى من الأخذ.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكر الطحاوي في " شرح الآثار " أن حلقه سنة ونسب ذلك إلى العلماء الثلاثة، انتهى.(4/336)
والسنة أن يقص حتى يوازي الإطار. قال وإن حلق موضع المحاجم فعليه دم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: عليه صدقة لأنه إنما يحلق لأجل الحجامة، وهي ليست من المحظورات. فكذا ما يكون وسيلة إليها، إلا أن فيه إزالة شيء من التفث فتجب الصدقة. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن حلقه مقصود لأنه لا يتوصل إلى المقصود إلا به، وقد وجد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لم يذكر الطحاوي كذلك وإنما قال بعد روايته الأحاديث المذكورة والتوفيق بينها أن الإخفاء أفضل من القص، ثم قال نعم باب حلق الشارب. وإنما أراد بذلك الإحفاء حتى يصير كالحلق. وفي " المختار " حلقه سنة وقصه حسن. وفي " المحيط " الحلق أحسن من القص، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه - رحمهما الله -.
م: (والسنة أن يقص شاربه حتى يوازي الإطار) ش: هذا تفسير القص وهو أن يأخذ من الشارب حتى يوازي بالزاي المعجمة من الموازاة، وهي المقابلة والمواجهة والأصل فيه العمرة يقال فيه وازيته إذا حازيته. وقال الجوهري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولا يقف وازيته وغيره أجازه على تخفيف الهمزة وثقلها، والإطار بكسر الهمزة الطرف الأعلى من الشفة العليا وفي " المغرب " إطار الشفة منتهى جلدها ولحمه استقبال من إطار المنجل والدف، وإن حلق موضع المحاجم.
وفي أكثر النسخ م: (قال) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإن حلق المحرم موضع المحاجم) ش: وفي بعض النسخ مواضع المحاجم وفي بعضها موضع المحجم وهي جمع محجمة بكسر الميم وهي قارورة الحجامة، ويقال لها المحجم أيضاً بكسر الميم والمحجم بفتح الميم والجيم اسم مكان الحجم ويجمع على محاجم أيضا، والمراد هو الأول.
وإنما ذكرها بالجمع لاختلاف عادات الناس في مواضع الحجامة، فإن العرب يحتجمون على الرأس والفرس بين الكتفين وأهل الهدر على البطن م: (فعليه دم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال الشافعي وأحمد. وقال ابن حزم وهو قول إبراهيم النخعي وعطاء وقال الحسن البصري من احتجم وهو محرم فعليه دم، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من فعل شيئاً من ذلك، فأما دفع عن نفسه أذى فعليه الفدية.
م: (وقالا: عليه صدقة لأنه) ش: أي لأن موضع الحجامة م: (إنما يحلق لأجل الحجامة، وهي ليست من المحظورات) ش: أي من محظورات الإحرام، أي ممنوعاته م: (فكذا) ش: لا يكون من المحظورات م: (ما يكون وسيلة إليها) ش: أي إلى الحجامة، لأنه وسيلة إلى الأمر المباح م: (إلا أن فيه) ش: أي غير أن في الحلق م: (إزالة شيء من التفث فتجب الصدقة) ش: لأن ليس في كل منهما ترفق ولا نيل راحة.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن حلقه) ش: أي حلق موضع المحاجم م: (مقصود لأنه لا يتوصل) ش: يسار م: (إلى المقصود) ش: وهو الحجامة م: (إلا به) ش: أي بالحلق م: (وقد وجد(4/337)
إزالة التفث عن عضو كامل فيجب الدم
وإن حلق رأس محرم بأمره أو بغير أمره فعلى الحالق الصدقة، وعلى المحلوق دم. وقال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجب إن كان بغير أمره بأن كان نائما؛ لأن من أصله أن الإكراه يخرج المكره من أن يكون مؤاخذا بحكم الفعل والنوم أبلغ منه، وعندنا بسبب النوم والإكراه ينتفي المأثم دون الحكم، وقد تقرر سببه، وهو ما نال من الراحة والزينة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إزالة التفث عن عضو كامل فيجب الدم) ش: قيل لا شك أن حلق موضع المحاجم وسيلة إلى الحجامة، وما كان وسيلة إلى الشيء كيف يصح أن يكون مقصوداً، وأجيب بأنه لا ينافي كونه وسيلة أن يكون مقصوداً، ألا ترى الإيمان وسيلة لصحة جميع العبادات وهو مع هذا من أعظم المقاصد.
م: (وإن حلق رأس محرم) ش: أي وإن حلق المحرم رأس محرم آخر م: (بأمره أو بغير أمره فعلى الحالق الصدقة، وعلى المحلوق دم) ش: وفي " البدائع " حلق رأس محرم أو حلال أو قلم أظافيره، وهو محرم فعليه صدقة، سواء كان نائماً، وفي " شرح الوجيز " إذا حلق حلال أو حرام المحرم بغير أمره ينظر إن كان المحرم نائماً أو مكرهاً أو مغمى عليه، ففيه قولان أصحهما أن الفدية على الحالق، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد، لأنه هو المقصود لا تقصير من جهة المحلوق، والثاني: أنها على المحلوق، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، واختاره المزني لأنه هو المرتفق به. وقد ذكر المزني أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد حط على هذا القول لكن الأصحاب نقلوه عن البويطي ووجدوه غير محطوط عليه، ولو حلقه بأمره فالفدية على المحلوق ولا شيء على الحالق قولاً واحداً، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - لأن فعل الحالق يضاف إليه سواء كان الحالق محرماً أو حلالاً.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجب إن كان بغير أمره بأن كان نائما؛ لأن من أصله) ش: أي من أصل الشافعي م: (أن الإكراه يخرج المكره من أن يكون مؤاخذا بحكم الفعل والنوم أبلغ منه) ش: أي من الإكراه، لأن الإكراه لا بعد قصده وإلا أخذ بالفعل بالنوم بعدما نام م: (وعندنا بسبب النوم والإكراه ينتفي المأثم دون الحكم) ش: يعني ينتفي الإثم الذي هو حكم الآخرة دون الحكم الذي يتعلق بالدماء م: (وقد تقرر سببه) ش: أي سبب وجوب الفدية والواو فيه للحال م: (وهو) ش: أي السبب م: (ما نال من الراحة والزينة) ش: أي ما نال المحلوق من الزينة والراحة بزوال الشعث ومن الزينة بزوال انتشار الشعر.
فإن قلت: ذكر في الديات أن في شعر الرأس دية، لأنه فوق أنه كمال، لأن وجود الشعر جمال وزينة، وجعل هاهنا فوات الزينة.
قلت: شعر الرأس زينة من حيث أصل الخلقة، فكذلك تجب الدية بزواله، والمراد هاهنا من(4/338)
فيلزمه الدم حتما، بخلاف المضطر حيث يتخير؛ لأن الآفة هناك سماوية، وهاهنا من العباد، ثم لا يرجع المحلوق رأسه على الحالق؛ لأن الدم إنما لزمه بما نال من الراحة فصار كالمغرور في حق العقر، وكذا إذا كان الحالق حلالا لا يختلف الجواب في حق المحلوق رأسه، وأما الحالق فتلزمه الصدقة في مسألتنا في الوجهين. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا شيء عليه، وعلى هذا الخلاف إذا حلق المحرم رأس الحلال له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزينة زوال الشعث، وهو أمر عارض يزيد صفرة الوجه، فكان هذا غير زوال، فأطلق هاهنا جمالا ًوهناك زينة للفرق بينهما.
م: (فيلزمه الدم حتما) ش: أي وجوباً، لأن النذر من قبل من ليس له الحق فيغلظ الحكم م: (بخلاف المضطر حيث يتخير) ش: أي بخلاف المحرم المضطر إلى حلق رأسه، فإنه إذا حلق يتخير بين الأشياء الثلاثة إن شاء ذبح شاة وإن شاء تصدق بها على ستة مساكين، وإن شاء صام ثلاثة أيام، وفيه نفي لقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإنه يقول إذا حلق المحرم غير مضطر فهو مخير بين الأشياء الثلاثة كما في حال الضرورة م: (لأن الآفة هناك) ش: أي في الاضطرار م: (سماوية) ش: أي من قبل الله عز وجل م: (وهاهنا) ش: أي في الإكراه م: (من العباد) ش: أي من قبلهم م: (ثم لا يرجع المحلوق رأسه) ش: مما وجب عليه من الدم م: (على الحالق؛ لأن الدم إنما لزمه بما نال من الراحة) ش: وهو الانتفاع م: (فصار) ش: أي المحلوق م: (كالمغرور في حق العقر) ش: حيث لا يرجع بالعقر على مائعه. صورته اشترى جارية فاستولدها، ثم استحقت يغرم قيمة الولد والعقر، ويرجع بقيمة الولد على البائع ولا يرجع بالعقر، لأن العقر بسبب ما كان من الراحة بالوطء، ولهذا قال المصنف على من رفع الساق، وكذا إذا تزوج امرأة فاستحقت لا يرجع على الذي تزوجها لأنها حرة، لأن المغرور هو الذي استوفى منافع البضع، وقال في " شرح مختصر الكرخي " - رَحِمَهُ اللَّهُ - كان أبو حازم يقول يرجع، وعليه الكفارة، لأن الحالق ألجأه إلى التكفير فصار كأنه أخذ من ماله ذلك القدر فأتلفه.
م: (وكذا إذا كان الحالق حلالا لا يختلف الجواب في حق المحلوق رأسه) ش: يعني إذا حلق حلال رأس محرم يجب على المحلوق الدم عندنا لحصول الارتفاق الكامل، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا لم يكن بأمره فلا شيء عليه، وفي السكون وجهان م: (وأما الحالق فتلزمه الصدقة في مسألتنا) ش: يعني فيما إذا كان المحرم حلق المحرم م: (في الوجهين) ش: أي فيما إذا كان الحالق بأمر المحلوق أو بغير أمره.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا شيء عليه) ش: أي الحالق، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي بيننا وبين الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إذا حلق المحرم رأس حلال) ش: فعندنا تجب الصدقة على الحالق، وعند الشافعي لا شيء عليه م: (له) ش: أي(4/339)
أن معنى الارتفاق لا يتحقق بحلق شعر غيره، وهو الموجب.
ولنا أن إزالة ما ينمو من بدن الإنسان من محظورات الإحرام؛ لاستحقاقه الأمان بمنزلة نبات الحرم، فلا يفترق الحال بين شعره وشعر غيره إلا أن كمال الجناية في شعره. فإن أخذ من شارب حلال أو قلم أظافيره أطعم ما شاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن معنى الارتفاق لا يتحقق بحلق شعر غيره، وهو الموجب) ش: بكسر الجيم، أي الموجب للدم هو الارتفاق، ولا يحصل الارتفاق للشخص بحلق شعر غيره.
م: (ولنا أن إزالة ما ينمو من بدن الإنسان من محظورات الإحرام لاستحقاقه الأمان) ش: أي لاستحقاق ما ينمو من الأمان بمنزلة بيان الحرم. قال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا يقتضي أن الحلال إذا حلق رأس حلال في الحرم أن يجب على الحالق الجزاء كما في قطع نبات الحرم ولكن ما وجدت رواية له بل وجدت رواية أنه لا يجب شيء، قيل لا يقتضي لأن شعر الحلال في الحرم لا يصير م: (بمنزلة نبات الحرم) ش: وإنما يصير بالإحرام فلا يلزمه هذا م: (فلا يفترق الحال بين شعره وشعر غيره) ش: أي بين حلق شعر نفسه وبين حلق شعر غيره، لأن الأمان يزول في الصورتين. م: (إلا أن كمال الجناية في شعره) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر بأن يقال لم يفترق الحال بين الصورتين ينبغي أن يجب عليه الدم في حلق شعر غيره، فأجاب بأن كمال الجناية في حلق شعر نفسه لوجود العين إزالة الأمن والارتفاق الكامل ولهذا يجب الدم بخلاف شعر غيره، قلت: فإن حلقه هو الارتفاق الكامل من الراحة والزينة للحالق بل له نوع ارتفاق بأن بدر مع الداري ينفقه، ولهذا وجبت الصدقة لقصور الجناية.
م: (فإن أخذ من شارب حلال) ش: وفي بعض النسخ فإن حلق من شارب حلال، وكذا في نسخة الأترازي وقال وهذه من مسائل " الجامع الصغير " وقد نص في " شرحه " فخر الإسلام البزدوي عن محمد عن يعقوب عن محمد عن أبي حنيفة في المحرم يأخذ من شارب الحلال أو يقص من أظفاره قال يطعم شيئاً.. إلى آخره. وقد قال المصنف بلفظ أحمد تبعاً للفظ محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أو قلم) ش: بالتشديد. وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأن التفضيل للتكثير ما في الفعل كما في حول وطوف، وإما في الفاعل كما في موت الإبل، وإما في المفعول كما في غلقت الأبواب وما نحن فيه من قبيل الثالث انتهى.
قلت: ليس التعليل هاهنا بمعنى ما ذكره ولا معنى من معاني هذه الثلاثة، وإنما فعل بالتشديد هاهنا للتعدية كما في قولك فرحته ولقن ابن الحاجب إن فعل بالتشديد يجيء للتعدية، ثم ذكر المقال المذكور م: (أظافيره) ش: جمع أظفار وهو جمع ظفر، وهو من جموع القلة م: (أطعم ما شاء) ش: في لفظ محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " يطعم شيئاً، وفي لفظ النسفي في " الكنز " وفي أخذ شارب حلال وقلم أظفاره طعام.(4/340)
والوجه فيه ما بينا ولا يعرى عن نوع ارتفاق؛ لأن يتأذى بتفث غيره، فإن كان أقل من التأذي بتفث نفسه فيلزمه الطعام، وإن قص أظافير يديه ورجليه فعليه دم؛ لأنه من المحظورات لما فيه من قضاء التفث وإزالة ما ينمو من بدن الإنسان، فإذا قلمها كلها فهو ارتفاق كامل فيلزمه الدم، ولا يزاد على دم إن حصل في مجلس واحد؛ لأن الجناية من نوع واحد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الشارح أي صدقة بطعام كالفطرة. وقال الأترازي عبارته مشككة جداً، ثم قال ملخصه إنه إن أراد بقوله أطعم ما شاء العموم، يعني قليلاً أو كثيراً كيفما شاء، فلا يجوز لأنه صرح في " شرح الكرخي " بإيجاب الصدقة نصاً عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قلم المحرم أظافير الحلال، وإن أراد الخصوص بإرادة التصديق فنصف صاع من حنطة فلا يجوز أيضاً، لأن إزالة تفث غيره أدنى من إزالة تفث نفسه، انتهى.
قلت: لا اعتراض على محمد أيضاً، لأن معنى قوله يطعم شيئاً من الصدقة، وكذا قول المصنف أطعم ما شاء وهو في معنى ما ذكره محمد ولا اعتراض على محمد أيضاً ولا معنى لقوله يطعم شيئا من الصدقة لأن الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص في إيجاب الصدقة كما ذكرنا، وبين شارح " الكنز " الصدقة بقوله أي صدقة بطعام كالفطرة كما ذكرنا.
م: (والوجه فيه ما بينا) ش: يعني قوله - إن إزالة ما ينمو من بدن الإنسان من محظورات الإحرام - إلى أن قال - فلا يفترق بين شعره وشعر غيره - م: (ولا يعرى عن نوع ارتفاق) ش: هذا جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله لا يجب شيء على المحرم إذا حلق رأس الحلال، لأنه قاسه على ما إذا لبس غيره مخيطاً في عدم ارتفاقه، فكما لا يجب في إلباس غيره شيء، فكذلك هاهنا ورد عليه المصنف بقوله ولا يعرى أي المحرم عن نوع ارتفاق وبين ذلك بقوله م: (لأن يتأذى) ش: أي لأن المحرم الذي حلق للحلال أو أخذ من شاربه أو أظافير يتأذى م: (بتفث غيره، فإن كان أقل من التأذي بتفث نفسه فيلزمه الطعام) ش: أي بأن الصدقة بالطعام كالفطرة كما ذكرنا.
م: (وإن قص) ش: أي المحرم م: (أظافير يديه ورجليه فعليه) ش: أي وأظافر رجليه أراد به قص أظافيره كلها من اليدين والرجلين م: (فعليه دم لأنه) ش: أي لأن قصه هذا م: (من المحظورات) ش: أي من ممنوعات المحرم م: (لما فيه) ش: أي لما في القص المذكور م: (من قضاء التفث) ش: أي من إزالة الوسخ م: (وإزالة ما ينمو من بدن الإنسان، فإذا قلمها كلها) ش: أي كل الأظافير من اليدين والرجلين م: (فهو ارتفاق كامل فيلزمه الدم) ش: لأن قص الأظفار لا يجوز للمحرم، وقال عطاء يجوز ولا خلاف فيه عند الأئمة الأربعة م: (ولا يزاد على دم) ش: أي على دم واحد م: (إن حصل في مجلس واحد لأن الجناية من نوع واحد) ش: أي قص الأظافير الارتفاق من حيث القص، وهو شيء واحد، وبه قال حماد ومالك والشافعي وأحمد.(4/341)
فإن كان في مجالس فكذلك عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن مبناها على التداخل فأشبه كفارة الفطر إلا إذا تخللت الكفارة لارتفاع الأولى بالتكفير. وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - يجب أربعة دماء إن قلم في كل مجلس يدا أو رجلا؛ لأن الغالب فيه معنى العبادة فيتقيد التداخل باتحاد المجلس كما في آي السجدة. وإن قص يدا أو رجلا فعليه دم، إقامة للربع مقام الكل كما في الحلق، وإن كان قص أقل من خمسة أظافير فعليه صدقة، معناه تجب بكل ظفر صدقة. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجب الدم بقص ثلاثة منها، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول استحسانا؛ لأن في أظافير اليد الواحدة دما، والثلاثة أكثرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن كان) ش: أي قص الأظافير كلها م: (في مجالس فكذلك) ش: أي يجب دم واحد م: (عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن مبناها) ش: أي مبنى هذه الكفارة م: (على التداخل) ش: إذا اتحد الجنس م: (فأشبه كفارة الفطر) ش: إذا أفطر في أيام رمضان، فإنه تكفيه كفارة واحدة، وكما تتداخل الكفارة أيضاً إذا ترك الجماع في أيام النحر كلها، وخرج عن هذا سجدة التلاوة، لأنها ليست بكفارة عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا وجدت أفعال متفرقة من جنس واحد في مجلس واحد أو مجلس من غير تكفير، ففي تداخل الكفارة قولان في مثل قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وحكي عن مالك كذلك وفي قول مثل قولهما.
م: (إلا إذا تخللت الكفارة) ش: يعني إن كفر للأولى تجب كفارة أخرى للثانية م: (لارتفاع الأولى) ش: أي الجناية الأولى م: (بالتكفير) ش: فتصير الثانية جناية مبتدأة م: (وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - يجب أربعة دماء إن قلم في كل مجلس يدا أو رجلا؛ لأن الغالب فيه) ش: أي في هذا التكفير م: (معنى العبادة) ش: بدليل أن كفارات الإحرام تجب على المعذورات كالمكره والجاهل والناسي تجب عليه ولا تجب العقوبات، بخلاف كفارات الفطر، فإنها لا تجب على المعذور م: (فيتقيد التداخل باتحاد المجلس) ش: يعني لا يكون التداخل إلا إذا اتحد المجلس لأن لاتحاد المجلس تأثيرا ًفي عدم المتفرقات، وإذا اختلفت المجالس يترجح جانب اختلاف المجالس م: (كما في آي السجدة) ش: إذا تكررت في مجلس واحد تجب سجدة واحدة، فإن كانت في مجالس مختلفة فعليه لكل واحدة سجدة.
م: (وإن قص يدا أو رجلا) ش: أي وإن قص المحرم أظافير رجل واحدة م: (فعليه دم، إقامة للربع مقام الكل كما في الحلق) ش: أي كما إذا حلق ربع رأسه فإنه يجب عليه دم، لأن الربع يحكي حكاية الكل م: (وإن قص أقل من خمسة أظافير فعليه صدقة، معناه) ش: أي معنى قول القدوري في قص الأقل من الخمسة بقوله فعليه صدقة هو أنه م: (تجب بكل ظفر صدقة. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجب الدم بقص ثلاثة منها، وهو) ش: أي قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول استحساناً؛ لأن في أظافير اليد الواحدة دما، والثلاثة) ش: أي الأظافير الثلاثة م: (أكثرها) ش: أي أكثر الأظافير من اليد والرجل، لأن حكم الأكثر حكم الكل.(4/342)
وجه المذكور في الكتاب أن أظافير كف واحد أقل ما يجب الدم بقلمه، وقد أقمناها مقام الكل، فلا يقام أكثرها مقام كلها؛ لأنها تؤدي إلى ما لا يتناهى.
وإن قص خمسة أظافير متفرقة من يديه ورجليه فعليه صدقة عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عليه دم اعتبارا بما لو قصها من كف واحد، وبما إذا حلق ربع الرأس من مواضع متفرقة. ولهما أن كمال الجناية بنيل الراحة والزينة وبالقلم على هذا الوجه يتأذى ويشينه ذلك، بخلاف الحلق،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وجه المذكور في الكتاب) ش: أي القدوري وأراد بالذكر وجوب الصدقة لكل ظفر م: (أن أظافير كف واحد أقل ما يجب الدم بقلمه) ش: باتفاق م: (وقد أقمناها مقام الكل) ش: الواو فيه للحال أي والحال إزالة قد أقمنا أقل ما يجب الدم بقلمه مقام الكل م: (فلا يقام أكثرها) ش: أي أكثر اليد الواحدة م: (مقام كلها؛ لأنها تؤدي إلى ما لا يتناهى) ش: أي إلى ما لا يتعسر اعتباره. وفي " الكافي " المراد من عدم التناهي العسر لا المذكور في أصول الدين في وجود ما لا يتحرى، لأنه لو كان وجوب الدم باعتبار الأكثر لكان يجب دم أو الصدقة في عشر الأصبع، لأن العشر أكثر بالنسبة إلى نصف العشر، وفي العشر لا يجب بالإجماع.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيانه أن بيان المؤدي ما لا يتناهى إن أوجبنا الدم في خمسة أصابع اليد الواحدة أو الرجل الواحدة لحصول الارتفاق الكامل بقص الربع، لأن مجموع الأصابع عشرون والخمسة ربع ذلك، ثم إذا أوجبنا الدم في ثلاثة أصابع إقامة للأكثر مقام الكل يلزمه اعتبار ذلك فيما دون الثلاثة، لأن الأصبعين أكثر الثلاثة فيلزم أن يجب فيهما دم أيضاً، لأنها نصف الأصبعين وما يقابله، فليس بكثير، ويكون كثيراً فيلزم حينئذ بالأكثر في كل أصبع بلا نهاية، فلا يجوز للزوم خرق الإجماع من ذلك فافهم.
م: (وإن قص خمسة أظافير متفرقة من يديه ورجليه فعليه صدقة عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عليه دم) ش: هذه من مسائل القدوري. قوله - متفرقة - بالجر صفة المعدود كما في قَوْله تَعَالَى: {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف: 43] [يوسف: الآية 43] ، م: (اعتبارا بما لو قصها من كف واحد) ش: لأن الخمسة ربع الأصابع فصار قصها متفرقة كقصها من يد واحدة أو من رجل واحدة م: (وبما إذا حلق ربع الرأس من مواضع متفرقة) ش: أي واعتباراً أيضاً بما إذا حلق ربع رأسه من جوانب مختلفة فإنه يضم بعضه إلى بعض كما في النجاسة في مواضع متفرقة.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أن كمال الجناية بنيل الراحة والزينة وبالقلم على هذا الوجه) ش: أي على وجه التفرق م: (يتأذى به) ش: لاختلاف ما ينتفع به م: (ويشينه) ش: أي يريد في المنظر مكروهاً وهو من الشنو، وهو العين، يقال شانه يشينه شيناً، والشين هاهنا من حيث إن البخل لا يكون نقص البغض. وفي " المبسوط " أنه لا يحسن في النظر، فيزداد له شغل القلب م: (ذلك، بخلاف الحلق) ش: كأنه جواب عما يقال من جهة محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -(4/343)
لأنه معتاد على ما مر. وإذا تقاصرت الجناية تجب فيها الصدقة فيجب بقلم كل ظفر طعام مسكين، وكذلك لو قلم أكثر من خمسة متفرقا إلا أن يبلغ ذلك دما فحينئذ ينقص عنه أو عن الطعام ما شاء. قال: وإن انكسر ظفر المحرم فتعلق فأخذه فلا شيء عليه؛ لأنه لا ينمو بعد الانكسار فأشبه اليابس من شجر الحرم. وإن تطيب أو لبس مخيطا أو حلق من عذر فهو مخير إن شاء ذبح شاة، وإن شاء تصدق على ستة مساكين بثلاثة أصوع من الطعام، وإن شاء صام ثلاثة أيام لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ينبغي أن يكون كذلك في الحلق من جوانب الرأس، فأجاب بقوله م: (لأنه) ش: أي لأن الحلق على هذا الوجه م: (معتاد على ما مر) ش: في أن الأتراك والعرب يفعلون ذلك، لأنه معتاد عندهم، وقص البعض دون البعض ليس بمعتاد فافترقا. م: (وإذا تقاصرت الجناية تجب فيها الصدقة) ش: بمقدارها م: (فيجب بقلم كل ظفر طعام مسكين) ش: وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ظفرين فدية، وقال ابن القاسم في الواحد، وفي الموازية لا شيء في الواحد، إلا أن يميط به أذى، وقال أشهب: يطعم مسكيناً، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أوجب الفدية في الثلاثة، وفيما دونها مداً لكل ظفر. م: (وكذلك لو قلم أكثر من خمسة متفرقا) ش: يعني، وكذا الحكم لكل ظفر طعام مسكين عندهما، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - دم إذا قص أكثر من خمسة أصابع متفرقاً وانتصابه على أنه صفة لمصدر محذوف، أي قلماً متفرقاً يعني من الأطراف، وليس من عضو واحد م: (إلا أن يبلغ ذلك) ش: أي الطعام م: (دما) ش: أي تبلغ قيمة الطعام الذي وجب لأجل قص الأصابع المتفرقة دماً م: (فحينئذ ينقص عنه) ش: أي عن الدم م: (أو عن الطعام ما شاء) ش: حتى لو قص ستة عشر ظفراً من كل عضو أربعة فعليه لكل ظفر طعام مسكين، إلا أن يبلغ ذلك طعاماً فينقص منه ما شاء. وفي " شرح المجمع " واختلفوا في كيفية النقصان عن الدم كيلا يبلغ الواجب، وما قيل ينقص من صاع أو نصفه شيء حتى ينقص منه الواجب عن الدم، والأصح أن ينظرا على أصوع من الشعير أو التمر، فإن لم يبلغ ذلك وما إذا أخرج فيكون الواجب أنقص من الدم، وتكون الصدقة بمقدار مقدر شرعاً، وكذا في نصف صاع من بر. م: (قال: وإن انكسر ظفر المحرم وتعلق فأخذه فلا شيء عليه؛ لأنه لا ينمو بعد الانكسار فأشبه اليابس من شجر الحرم) ش: حيث يجب عليه إذا قلعه، وكذلك الشعر المقطوع. وقال ابن المنذر في " الإشراق " أجمع أهل العلم أن له أن يزيل عن نفسه ما كان منكسراً منه كابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومجاهد وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري ومالك والحميدي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. م: وإن تطيب) ش: أي المحرم م: أو لبس مخيطا أو حلق من عذر) ش: أي من أجل عذر.
م: (فهو مخير إن شاء ذبح وإن شاء تصدق على ستة مساكين بثلاثة أصوع من الطعام وإن شاء صام ثلاثة أيام لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196)) ش: أول الآية(4/344)
وكلمة "أو" للتخيير، وقد فسرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما ذكرنا، والآية نزلت في المعذور
ثم الصوم يجزئه في أي موضع شاء؛ لأنه عبادة في كل مكان، وكذلك الصدقة عندنا لما بينا. وأما النسك فيختص بالحرم بالاتفاق؛ لأن الإراقة لم تعرف قربة إلا في زمان أو مكان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] قوله: {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] وهو القمل أو الجراحة، فعليه إذا حلق فدية من صيام ثلاثة أيام أو صدقة على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من بر أو نسك، وهو شاة، والنسك مصدر، وقيل جمع منسكة.
م: (وكلمة "أو" للتخيير) ش: فيدل على أن الذي يحلق بعذر بين هذه الأشياء الثلاثة م: (وقد فسرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي الآية قَوْله تَعَالَى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) ، أطلق على بعض الآية أنه من قبيل ذكر الجزء وإرادة الكل م: (بما ذكرنا، والآية نزلت في المعذور) ش: وهو كعب بن عجرة بضم العين المهملة، وسكون الجيم ابن أمية بن عدي يكنى أبا محمد؛ شهد بيعة الرضوان مات سنة ثلاثة وخمسين بالمدينة وله خمس وسبعون سنة. وأخرج الأئمة الستة حديثه عنه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم يوقد تحت قدرة ناراً والقمل يتهافت على وجهه، فقال: " أيؤذيك هوامك هذه؟ " قال: " نعم، قال: " فاحلق رأسك وأطعم فرقاً بين ستة مساكين "، والفرق ثلاثة أصوع " أو صم ثلاثة أيام أو نسك شاة» .
وأخرج البخاري ومسلم أيضاً «عن عبيد الله بن مغفل حدثنا، قال حدثني كعب بن عجرة أنه خرج مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محرماً فقمل رأسه ولحيته فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأرسل إليه فدعى الحلاق فحلق رأسه، ثم قال: " هل عندك نسك "، قال ما أقدر عليه فأمره أن يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين صاع، فأنزل الله فيه خاصة {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] ثم كانت للمسلمين عامة» وقد فسرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقدره بالصوم ستة أيام إلا لما يقدر الطعام ستة مساكين كان القياس أن يكون الصوم ستة أيام.
م: (ثم الصوم يجزئه في أي موضع شاء) ش: هذا بالاتفاق بين الأئمة الأربعة م: (لأنه) ش: أي لأن الصوم م: (عبادة في كل مكان) ش: فلا يتقيد بمكان معين م: (وكذلك الصدقة عندنا) ش: خلافاً للشافعي فإنه يقول الطعام لا يجزئه إلا في الحرم، وبه قال أحمد م: (لما بينا) ش: هو أنه عبادة في كل مكان م: (وأما النسك) ش: وهو ذبح الشاة م: (فيختص بالحرم بالاتفاق) ش: أي بيننا وبين الشافعي.
م: (لأن الإراقة لم تعرف قربة إلا في زمان) ش: كالأضحية م: (أو مكان) ش: كجميع(4/345)
وهذا الدم لا يختص بزمان فتعين اختصاصه بالمكان. ولو اختار الطعام أجزأه، فيه التغذية والتعشية عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبارا بكفارة اليمين، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجزئه؛ لأن الصدقة تنبئ عن التمليك وهو المذكور.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الهدايا م: (وهذا الدم لا يختص بزمان فتعين اختصاصه بالمكان) ش: وهو الحرم. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا ذبحها في الحرم وفرق لحمها في الحل جاز كقولنا. وقال الحسن البصري كل دم واجب فليس له أن يذبحه إلا بمكة، وعند الظاهرية تجوز الثلاثة في أي موضع شاء، ومثله عن مجاهد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإن هلك المذبوح أو سرق سقط لتعيينه كالزكاة، وفيه خلاف الشافعي.
م: (ولو اختار) ش: الحالق المعذور م: (الطعام أجزأه فيه التغذية والتعشية عند أبي يوسف اعتبارا بكفارة اليمين) ش: ذكر في القرآن بلفظ الإطعام وهو يفيد الإباحة، واعتبر أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لفظ الطعام في الحديث حيث قال أطعم مساكين.
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجزئه؛ لأن الصدقة تنبئ عن التمليك) ش: أي الصدقة المذكورة في قَوْله تَعَالَى {أَوْ صَدَقَةٍ} [البقرة: 196] تنبئ عن التمليك م: (وهو المذكور) ش: في الآية المذكورة، وإنما ذكر الضمير بالنظر إلى الخبر كما في قَوْله تَعَالَى الإطعام لا الصدقة، قال عز وجل {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] قيل لا تدل الصدقة على التمليك، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نفقة الرجل على أهله صدقة» ، ولا تمليك هاهنا، فإنما هو الإباحة.(4/346)
فصل وإن نظر إلى فرج امرأته بشهوة فأمنى لا شيء عليه؛ لأن المحرم هو الجماع ولم يوجد، فصار كما لو تفكر فأمنى.
. وإن قبل أو لمس بشهوة فعليه دم، وفي " الجامع الصغير "، يقول: إذا مس بشهوة فأمنى، ولا فرق بينهما إذا أنزل أو لم ينزل ذكره، في الأصل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في النظر والمباشرة للمحرم]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل مهماً فصل ينون، ومهماً وصل لا ينون، لأن الإعراب لا يكون إلا بالتركيب.
1 -
م: (وإن نظر إلى فرج امرأته بشهوة فأمنى لا شيء عليه) ش: يعني سوى الغسل، وإنما قال امرأته وإن كان الحكم في غير امرأته كذلك إلا أن النظر إلى فرج الأجنبية حرام، ولا يظن بالمسلم ارتكاب الحرام، فراعى الأدب وقال امرأته. وأراد بالفرج موضع البكارة، ولا يمكن النظر إليها إلا إذا كان سكينة، أما النظر إلى ظاهر الفرج فليس بشيء كذا في " الكافي " م: (لأن المحرم عليه هو الجماع ولم يوجد) ش: لأن الجماع هو قضاء الشهوة على سبيل الاجتماع صورة ومعنى. أما الصورة فهو الإيلاج، أما معنى فهو الإنزال ولم يوجد ذلك م: (فصار كما لو تفكر فأمنى) ش: فإنه لا يجب عليه شيء، وكذا لو أطال النظر أو تكرر منه، وعن عطاء لو أطال النظر فأمنى يفسد حجه، ولو دفع فعليه بدنة عند الحسن البصري والحج من قابل، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفي " المغني " لو نظر فصرف بصره فعليه شاة عند أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإن كرر فعليه بدنة وحجة تامة عند الأئمة الثلاثة. وقال الأوزاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الإنزال فيما دون الفرج يفسد الحج، وقال عبد الله بن الحسن: إذا لمس فأنزل بطل حجه.
م: (وإن قبل أو لمس بشهوة فعليه دم) ش: سواء أنزل أو لم ينزل على رواية الأصل كما يذكر م: (وفي " الجامع الصغير "، يقول: إذا مس بشهوة فأمنى) ش: إنما ذكر لفظ " الجامع الصغير " لأنه شرط الإنزال حيث قال فأمنى أي أنزل ولم يشترط القدوري ذلك، كما اشترط في الأصل حيث قال والمس والتقبيل من شهوة والجماع فيما دون الفرج أنزل أو لم ينزل لم يفسد الإحرام، ولكنه يوجب الدم م: (ولا فرق بين ما إذا أنزل أو لم ينزل ذكره، في الأصل) ش: أي ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الفرق بين الإنزال وعدم الإنزال في المس والتقبيل من شهوة في الأصل، وهو في " المبسوط ". وذكر في " شرح الطحاوي " والكرخي كما في الأصل، وفي " شرح المهذب " للنووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحرم اللمس بشهوة والقبلة والمباشرة فيما دون الفرج بشهوة، ولا يفسد بذلك حجة أنزل أو لم ينزل، ولا تجب بدونه فدية الحلق، وأما اللمس والقبلة بغير شهوة فلا يحرم، ولا شيء عليه بلا خلاف، وغلطوا إمام الحرمين والعراقي فيه حيث اعتبراه ينقض الوضوء في الحرمة.(4/347)
وكذا الجواب في الجماع فيما دون الفرج. وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إنما يفسد إحرامه في جميع ذلك إذا أنزل واعتبره بالصوم.
ولنا أن فساد الحج يتعلق بالجماع، ولهذا لا يفسد بسائر المحظورات، وهذا ليس بجماع مقصود فلا يتعلق به ما يتعلق بالجماع إلا أن فيه معنى الاستمتاع والارتفاق بالمرأة وذلك محظور الإحرام فيلزمه الدم بخلاف الصوم؛ لأن المحرم فيه قضاء الشهوة، ولا يحصل بدون الإنزال فيما دون الفرج.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذا الجواب في الجماع فيما دون الفرج) ش: أي تجب الشاة، ولا يفسد به الإحرام أنزل أو لم ينزل، والجماع فيما دون الفرج هو الإدخال بين الفخذ والسرة، فإن الفرج يراد به القبل والدبر م: (وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إنما يفسد إحرامه في جميع ذلك) ش: ذلك إشارة إلى اللمس بشهوة والتقبيل بشهوة والجماع فيما دون الفرج، يعني يفسد إحرامه عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه الصور الثلاث إذا وجد الإنزال، وهو معنى قوله م: (إذا أنزل واعتبره بالصوم) ش: فإن الصوم إنما يفسد بهذه الأشياء إذا أنزل، لأنه مواقعة معنى، وقال السروجي: ولا أصل له، يعني نسبة هذه الرواية إلى الشافعي غير صحيحة، لأن إحرامه لا يفسد في شيء من ذلك من الذي تقدم، إنما قال ذلك عقيب نقله ما ذكرناه الآن من " شرح المهذب " وفي متن " المغني " لأصحابنا لمس امرأته بشهوة قبل الوقوف فأمنى فسد حجه، وكذا إذا لم يمن في رواية وهو شاذ ضعيف، وفي " المنافع " يعني بالفساد النقصان الفاحش لا البطلان، وقال ابن المنذر أجمع أهل العلم أن الحج لا يفسد إلا بالجماع.
م: (ولنا أن فساد الحج يتعلق بالجماع) ش: أي على وجه التغليظ م: (ولهذا لا يفسد بسائر المحظورات) ش: أي لتعلق فساد الحج بالجماع لا يفسد الحج بسائر ممنوعات الإحرام من قبيل التقبيل ولبس المخيط واستعمال الطيب ونحوها م: (وهذا) ش: أي اللمس والتقبيل بلا إنزال م: (ليس بجماع مقصود) ش: لأن الجماع المقصود هو الإيلاج م: (فلا يتعلق به ما يتعلق بالجماع) ش: المقصود من الفساد م: (إلا أن فيه) ش: أي في المس والتقبيل م: (معنى الاستمتاع والارتفاق بالمرأة) ش: أي الانتفاع بها م: (وذلك محظور الإحرام فيلزمه الدم) ش: لما تقدم أن دواعي الجماع ملحقة به فيلزمه الدم، أي ذبح الشاة.
م: (بخلاف الصوم) ش: هذا جواب عن اعتبار الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالصوم تقديره هو قوله م: (لأن المحرم فيه) ش: أي في الصوم م: (قضاء الشهوة، ولا يحصل بدون الإنزال فيما دون الفرج) ش: أي الاستعمال بين الفخذين لا اليدين، لأنه يحصل فيه قضاء الشهوة بدون الإنزال وقال القدوري في " شرح مختصر الكرخي " الوطء في الموضع المكروه لا يفسد الحج في إحدى الروايتين عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأنه وطء في موضع لا يتعلق وجوب المهر بحال، فلا يتعلق به فساد الحج، كالوطء فيما دون الفرج، ويفسد الحج في الرواية الأخرى، لأنه وطء(4/348)
وإن جامع في أحد السبيلين قبل الوقوف بعرفة فسد حجه، وعليه شاة، ويمضي في الحج كما يمضي من لم يفسده، وعليه القضاء والأصل فيه ما روي «أن رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سئل عمن واقع امرأته وهما محرمان بالحج، قال: يريقان دما ويمضيان في حجتهما وعليهما الحج من قابل» وهكذا نقل عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يوجب الاغتسال من غير إنزال، فصار كالوطء في الفرج وهي قولهما.
[بطلان الحج بالجماع قبل الوقوف بعرفة]
[كفارة من أفسد حجه بالجماع]
م: (وإن جامع في أحد السبيلين قبل الوقوف بعرفة فسد حجه) ش: وفسد حج المرأة أيضاً سواء كانت مطاوعة أو مكرهة م: (وعليه شاة، ويمضي في الحج كما يمضي من لم يفسد حجه) ش: وكذا عليها، ويجزئ شرك بقرة أو جزور، وقال الشافعي ومالك وأحمد عليه بدنة على ما يجيء الآن في " الجامع الصغير " يعتبر غيبوبة الحشفة، وكذلك لو استدخلت ذكر حمار أو ذكراً مقطوعاً فسد حجها بالإجماع، ولو لف ذكره بخرقة ثم أدخله إن وجد حرارة الفرج واللذة يفسد، وإلا فلا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول. وفي أصح قوليه يفسد به مطلقاً سواء وجد حرارة الفرج واللذة أو لا.
م: (والأصل فيه ما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عمن واقع امرأته وهما محرمان بالحج، قال: يريقان دما ويمضيان في حجتهما وعليهما الحج من قابل» ش: هذا رواه أبو داود في المراسيل، حدثنا أبو توبة حدثنا معاوية بن سلام عن يحيى بن أبي كثير أنبأنا يزيد بن نعيم أو زيد بن نعيم شك أبو توبة «أن رجلاً من خذام جامع امرأته وهما محرمان فسأل الرجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " اقضيا نسككما واهديا هدياً» ، رواه البيهقي، وقال: إنه منقطع، وهو يزيد بن نعيم بلا شك، وقال صاحب " الجوهر النقي " في الرد على البيهقي: إنه يزيد بلا شك.
وروى أحمد بن حنبل - رَحِمَهُ اللَّهُ - حدثنا إسماعيل بن أيوب عن غيلان بن جرير أنه سمع علياً الأزدي قال سألت ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رجل وامرأة من عمان أقبلا حاجين فقضيا المناسك حتى لم يبق عليهما إلا الإفاضة وقع عليها، فسألت ابن عمر فقال ليحجا عاماً قابلاً، قوله - وهما محرمان - الواو فيه للحال قوله - يريقان دماً - أي يريق كل واحد منهما دماً.
م: (وهكذا نقل عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: يعني هكذا نقل الحكم المذكور قبله فيمن جامع قبل الوقوف عن جماعة من الصحابة، روى مالك في الموطأ أنه بلغه أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - سألوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم بالحج، فقالوا ينفذان بوجوههما حتى يقضيا حجهما، ثم عليهما حج في قابل والهدي وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإذا أهلا بالحج من عام قابل قعدوا حتى يقضيا حجهما.(4/349)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تجب بدنة اعتبارا بما لو جامع بعد الوقوف، والحجة عليه إطلاق ما روينا، ولأن القضاء لما وجب عليه ولا يجب إلا لاستدراك المصلحة معنى الجناية، فيكتفي بالشاة، بخلاف ما بعد الوقوف لأنه لا قضاء عليه. ثم سوى بين السبيلين. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن في غير القبل منهما، لا يفسد لتقاصر معنى الوطء، وكان عنه روايتان. وليس عليه أن يفارق امرأته في قضاء ما أفسداه عندنا، خلافا لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا خرجا من بيتهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال الشافعي: تجب بدنة اعتبارا بالجماع بعد الوقوف) ش: وبه قال مالك وأحمد م: (والحجة عليه) ش: أي على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إطلاق ما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يريقان دماً» ، وذكر الدم مطلقاً، ولم يقيده بشيء، فتناول الشاة، لأنه متيقن.
فإن قلت: المطلق ينصرف إلى الكامل وهو البدنة.
قلت: ينصرف إلى الكامل في الماهية مع حصول التيقن به، والشاة كامل فتجزئه، وعن عطاء يفسد حجه ويستغفر الله تعالى. وعن سعيد بن جبير أربع روايات الأولى شاة، والثانية بقرة، والثالثة يفسد حجه، والرابعة لا شيء عليه فيستغفر الله تعالى.
م: (ولأن القضاء لما وجب عليه) ش: أي على هذا المجامع، وهذه الجملة معترضة بين لما وجوابه، وهو قوله - حقاً - م: (ولا يجب إلا لاستدراك المصلحة حين معنى الجناية) ش: الفائتة بالقضاء لكون الجماع قبل الوقوف للقضاء م: (فيكتفي بالشاة، بخلاف ما بعد الوقوف) ش: أي بخلاف الجماع بعد الوقوف بعرفات م: (لأنه لا قضاء عليه) ش: فتجب البدنة، فتغلظ الجناية وعدم حقها لعدم القضاء م: (ثم سوى بين السبيلين) ش: أي سوى القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين السبيلين القبل والدبر في فساد الحج بالجماع.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن في غير القبل منهما) ش: أي من السبيلين م: (وقيل) ش: أي من الرجل والمرأة م: (لا يفسد) ش: أي الحج م: (لتقاصر معنى الوطء) ش: حتى لا يجب الحد عنده، وقد مر الكلام فيه عن قريب م: (وكان عنه) ش: أي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (روايتان) ش: الأولى أنه لا يفسد حجه قال في " شرح الطحاوي ": لو جامعها في الدبر فعلى قياس قول أبي حنيفة لا يفسد حجه وعمرته، كما قال في " الخزانة " لا يجب، الثانية: أنه يفسد، روى الكرخي عنه أنه تجب الكفارة في رمضان وجعلها كالجماع في الفرج م: (وليس عليه) ش: أي على هذا الرجل الذي جامع م: (أن يفارق امرأته في قضاء ما أفسداه) ش: أي الزوجين ما أفسداه بالجماع.
م: (عندنا، خلافا لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا خرجا من بيتهما) ش: يعني إذا أراد قضاء الحج الفساد بالجماع من عام قابل يفرقان عند مالك من حين خروجهما من بيتهما، قال هاهنا وفي " شرح(4/350)
ولزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا أحرما، وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا انتهيا إلى المكان الذي جامعها فيه. لهم أنهما يتذاكران ذلك فيقعان في المواقعة فيفترقان. ولنا أن الجامع وهو النكاح بينهما قائم فلا معنى للافتراق قبل الإحرام لإباحة الوقاع، ولا بعده؛ لأنهما يتذاكران ما لحقهما من المشقة الشديدة بسبب لذة يسيرة فيزدادان ندما وتحرزا فلا معنى للافتراق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوجيز " وتتمتهم أن قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يفترقان إذا أحرما كما هو مذهب زفر، ويحتمل أن يكون عنه روايتان. وقال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وما ذكر عن مالك لا أصل له.
قلت: فيه ما فيه، لأنه لم يطلع على كتب المالكية كلها، وذكر في " المبسوط " وغيره أن مالكاً في هذا موضع زفر.
م: (ولزفر: إذا أحرما) ش: أي وخلافاً لزفر، فإن عنده يفترقان، إذا أحرما م: (وللشافعي) ش: أي وخلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (إذا انتهيا إلى المكان الذي جامعها فيه) ش: فعنده يفترقان إذا أتيا المكان الذي جامعا فيه، وبه قال أحمد وذكر ابن المنذر قول أحمد مع زفر، وبقول الشافعي قال إسحاق.
وفي " المحيط " و " المبسوط " و " الأسبيجابي " يستحب الافتراق عند خوف المعاودة، وقال سند: والافتراق مستحب كقول الشافعي خلافاً للحنابلة، قال ولو كان واجباً لوجب به دم كسائر واجبات الحج. وقال النووي: يستحب وفي القديم يجب.
فإن قلت: روي عن عمر وعلي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم قالوا يفترقان وقولهم حجة.
قلت: إنما يكون حجة إذا نفر من العصر ولم يوجد الخلاف، وقد روي عن الحسن وعطاء مثل قولنا، وهما قد أدركا عصر الصحابة فيكون خلافاً معتبراً فلا ينعقد الإجماع.
م: (له) ش: أي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيل لمالك والأول أولى لأنه أقرب، وفي بعض النسخ لهم، أي لزفر ومالك والشافعي، وهو الأصح؛ لأنه ذكره دليلاً هو أوقع لأقوالهم م: (أنهما) ش: أي أن الزوجين م: (يتذاكران ذلك) ش: أي الجماع الذي وقع في المكان الذي أتياه م: (فيقعان في المواقعة) ش: أي في المجامعة م: (فيفترقان) ش: حتى لا يقعا فيما وقعا أولا ً.
م: (ولنا أن الجامع وهو النكاح بينهما قائم فلا معنى للافتراق قبل الإحرام) ش: لقيام النكاح، والافتراق ليس بنسك في الأداء، فلا يكون نسكاً في القضاء م: (لإباحة الوقاع) ش: أي الجماع وهو متعلق بقوله قبل الإحرام م: (ولا بعده) ش: أي ولا بعد الإحرام م: (لأنهما يتذاكران ما لحقهما من المشقة الشديدة) ش: وهي السفرة الثانية للقضاء م: (بسبب لذة يسيرة) ش: وهو الجماع الذي يقتضي في ساعة م: (فيزدادان ندما وتحرزا فلا معنى للافتراق) ش: فلا يقبل الأمر به.(4/351)
ومن جامع بعد الوقوف بعرفة لم يفسد حجه، وعليه بدنة. خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا جامع قبل الرمي لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من وقف بعرفة فقد تم حجه» وإنما تجب البدنة لقول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أو لأنه أعلى أنواع الارتفاق فيتغلظ موجبه.
وإن جامع بعد الحلق فعليه شاة لبقاء إحرامه في حق النساء دون لبس المخيط، وما أشبهه فخفت الجناية فاكتفى بالشاة. .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[حكم من جامع بعد الوقوف بعرفة]
م: (ومن جامع بعد الوقوف بعرفة لم يفسد حجه، وعليه بدنة. خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا جامع قبل الرمي) ش: فإن عنده إذا جامع قبل الرمي يفسد حجه، والمراد بالرمي رمي جمرة العقبة وبعد الرمي لا يفسد، لأنه عنده محلل، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «من وقف بعرفة فقد تم حجه» ش: هذا دليل لنا، وليس للشافعي، وأخرج أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم من «حديث عبد الرحمن بن معمر شهدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو واقف بعرفات وأتاه ناس من أهل نجد فقالوا يا رسول الله كيف الحج، قال: عرفة من جاء قبل الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه» لفظ أحمد. وفي رواية لأبي داود: «من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج» . وفي رواية للدارقطني والبيهقي: «الحج عرفة» .
م: (وإنما تجب البدنة لقول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ش: هذا جواب عما يقال إذا لم يفسد الحج بالجماع بعد الوقوف لكونه أثر الغفران، فكان ينبغي أن لا يجب شيء بعد تمامه لا يقبل الجناية فلا يقتضي جزاء، وتقدير الجواب أن وجوب البدنة لقول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو ما رواه مالك في " الموطأ " عن ابن الزبير المكي عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه سئل عن رجل واقع وهو بمنى قبل أن يفيض فأمره أن ينحر بدنة م: (أو لأنه) ش: أي أو لأن الجماع م: (أعلى أنواع الارتفاق فيتغلظ موجبه) ش: بفتح الجيم لوجوب التطابق بين الموجب بمقتضى الحكم.
وقال الأكمل قيل إنما ذكر بكلمة أو ليكون أثر ابن عباس هذا غير مشهور، فأتى بها ليكون متمسكاً بأحدهما، قال وفيه نظر؛ لأن المطلوب إثبات الوجوب وهو ثبت بخبر الواحد، ولا يتوقف على الاشتهار، انتهى.
قلت: إن لم يتوقف على الاشتهار يتوقف على صحة طريقه فإذا اشتهر ثبت صحة الفرض فضلاً عن ثبوت الواجب.
م: (وإن جامع بعد الحلق فعليه شاة لبقاء إحرامه في حق النساء دون لبس المخيط، وما أشبهه فخفت الجناية فاكتفى بالشاة) ش: وفي " المنافع " وإن جامع بعد الحلق هكذا وقع في عامة النسخ، وفي بعض النسخ قبل الحلق فإن كانت الرواية قبل الحلق فلأنه محرم بعد الوقوف، وإن كانت(4/352)
ومن جامع في العمرة قبل أن يطوف أربعة أشواط فسدت عمرته فيمضي فيها ويقضيها وعليه شاة. ومن جامع بعدما طاف أربعة أشواط أو أكثر فعليه شاة ولا تفسد عمرته وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تفسد في الوجهين وعليه بدنة اعتبارا بالحج، إذ هي فرض عنده كالحج. ولنا أنها سنة فكانت أحط رتبة عنه فتجب الشاة فيها والبدنة في الحج إظهارا للتفاوت.
ومن جامع ناسيا كان كمن جامع متعمدا. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جماع الناسي غير مفسد للحج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرواية بعد الحلق فلأنه محرم في حق النساء، وفي المسعودي إن جامع قبل الحلق بعد الوقوف قبل الطواف لم يفسد حجه، وعليه بدنة، وإن جامع بعده فعليه شاة مع البدنة.
[حكم من جامع في العمرة قبل تمامها]
م: (ومن جامع في العمرة قبل أن يطوف أربعة أشواط فسدت عمرته فيمضي فيها) ش: يعني لكمالها م: (ويقضيها وعليه شاة. وإذا جامع بعدما طاف. أربعة أشواط أو أكثر فعليه شاة ولا تفسد عمرته) ش: وكذا بعد السعي قبل الحلق لبقاء إحرام العمرة، ذكره في " المحيط " ووجوب الشاة بالوطء في العمرة قول عطاء والثوري وإسحاق وابن المنذر وأجمعوا على أنه لو وطأ قبل الطواف فسدت عمرته، فإن وطأ قبل الحلق فعليه دم، وهو قول ابن عباس والثوري، واختاره ابن المنذر، وقال أحمد وأبو ثور وعليه هدي، وقال مالك والشافعي عليه بدنة.
م: (وقال الشافعي: تفسد في الوجهين) ش: أي تفسد عمرته سواء كان الجماع قبل أربعة أشواط أو لا م: (وعليه بدنة اعتبارا بالحج) ش: أي قياساً على الحج م: (إذ هي) ش: أي العمرة م: (فرض عنده) ش: أي عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (كالحج) ش: أي كفرضية الحج.
م: (ولنا أنها) ش: أي أن العمرة م: (سنة فكانت أحط البدنة عنه) ش: أي عن الحج م: (فتجب الشاة فيها) ش: أي في العمرة م: (والبدنة) ش: أي تجب البدنة م: (في الحج إظهارا للتفاوت) ش: بينهما، والدليل على سنية العمرة ما رواه جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن العمرة أهي واجبة قال: " لا وأن تعتمر خير لك» .
[حكم من جامع ناسيا في الحج]
م: (ومن جامع ناسيا كان كمن جامع متعمدا) ش: أي في حق إفساد الحج والإحرام لا في حق الإثم، وبه قال مالك والشافعي في القديم، واختاره المزني، وفي الجديد لا يفسد بالنسيان إلا أن يعلم، وفيه دم عليه، وذكر المصنف خلافه بقوله م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جماع الناسي غير(4/353)
وكذا الخلاف في جماع النائمة والمكرهة. هو يقول: الحظر ينعدم بهذه العوارض فلم يقع الفعل جناية.
ولنا أن الفساد باعتبار معنى الارتفاق في الإحرام ارتفاقا مخصوصا، وهذا لا ينعدم بهذه العوارض، والحج ليس في معنى الصوم؛ لأن حالات الإحرام مذكرة بمنزلة حالات الصلاة بخلاف الصوم، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مفسد للحج) ش: ولم يبين أنه قوله الجديد ولا ذكر إلا أن يعلم فيه دم عليه م: (وكذا الخلاف في جماع النائمة والمكرهة) ش: يعني أن جماعها قبل الوقوف بعرفات يفسد الحج عندنا، خلافاً للشافعي، وكذا الخلاف في غير النائمة بالتحريم. وقال ابن أبي هريرة - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أصحاب الشافعي: ولا خلاف بالفساد في المكرهة، لأن إكراه الرجل على الوطء ممتنع.
م: (هو يقول) ش: أي الشافعي يقول م: (الحظر ينعدم بهذه العوارض) ش: أي بالنسيان والنوم والإكراه م: (فلم يقع الفعل جناية) ش: فلا يفسد.
م: (ولنا أن الفساد باعتبار معنى الارتفاق في الإحرام ارتفاقا مخصوصا) ش: هو الارتفاق بالجماع والفساد متعلق به بعين الجماع م: (وهذا) ش: أي هذا الارتفاق المخصوص م: (لا ينعدم بهذه العوارض) ش: لإرادة أن أثر هذه العوارض في انعدام المأثم لا في انعدام أصل الفعل، ولهذا يلزم الاغتسال مع وجود هذه العوارض، وتثبت به حرمة المصاهرة ويستوي فيه الصغير والكبير والعاقل والمجنون، كذا في " المبسوط "، والنوم لا ينافي الجماع، ألا ترى أن النائم يحتلم، ويمكن أن تصل اللذة إليه ولم يعلم.
م: (والحج ليس في معنى الصوم) ش: هذا جواب عن اعتبار الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالصوم وتقديره أن يقال قياس الحج على الصوم غير صحيح م: (لأن حالات الإحرام) ش: أي هيئاته م: (مذكرة بمنزلة حالات الصلاة) ش: وهي الانتقال من القيام إلى الركوع ومن الركوع إلى السجود، ومن السجود إلى القعود، وعلى غير ذلك من الهيئات م: (بخلاف الصوم) ش: لأنه أمر مبطن لا يطلع عليه أحد وليس عند الصائم أيضاً ما يذكره في غالب الأوقات.(4/354)
فصل ومن طاف طواف القدوم محدثا فعليه صدقة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يعتد به لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطواف صلاة، إلا أن الله تعالى أباح فيه النطق» ، فتكون الطهارة من شرطه. ولنا قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] (الحج: الآية 29) ، من غير قيد الطهارة فلم تكن فرضا ثم قيل: هي سنة، والأصح أنها واجبة لأنه يجب بتركها الجابر؛ ولأن الخبر يوجب العمل فيثبت به الوجوب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل فيمن طاف طواف القدوم محدثا]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل في مسائل فصله عن المسائل التي قبله فلأجل المغايرة بينهما ذكر لفظ فصل.
م: (ومن طاف طواف القدوم محدثا) ش: أي حال كونه محدثاً م: (فعليه صدقة) ش: كل موضع وجبت فيه صدقة فهي نصف صاع من بر أو صاع من شعير أو صاع من تمر إلا ما يجب بقتل جرادة أو قمل، أو بإزالة شعرات قليلة من رأسه أو عضو من أعضائه، فإن فيه يتصدق بما شاء م: (وقال الشافعي: لا يعتد به) ش: أي لا يعتد بطواف المحدث ولا ينجبر بالدم ونحوه م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «الطواف صلاة، إلا أن الله تعالى أباح فيه النطق» ش: هذا الحديث تقدم في باب الإحرام، والمصنف استدل به هاهنا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أن الطهارة شرط لصحة الطواف، وبقوله قال مالك وأحمد قوله أباح فيه النطق بالإجماع، أي الكلام م: (فتكون الطهارة من شرطه) ش: أي من شرط الطواف، فلا يصح بدونها كالصلاة.
م: (ولنا قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] (الحج: الآية 29) ، من غير قيد الطهارة فلم تكن فرضا) ش: وجه الاستدلال أن الله تعالى أمر بالطواف وهو الدوران حول الكعبة من غير الطهارة، فلم يكن فرضاً وجه التشبيه في أنه صلاة كمالاً لا حقيقة فهو اقتضاء، ولا عموم للمقتضى عندنا، فثبت كونه صلاة في حق تعلق الجواز والبيت، كما في الصلاة وأما الاستثناء فدل كلام مبتدأ، كأنه، قال ولكن أبيح فيه الكلام لإزالة إشكال الحرمة ألا ترى أنه أبيح فيه المشي والانحراف عن البيت، بخلاف الصلاة، مع أن يحيى بن معين ضعف الحديث، وقال: إنه منقطع.
م: (ثم قيل: هي سنة) ش: القائل بأن الطهارة في الطواف سنة ابن شجاع م: (والأصح أنها واجبة) ش: وهو قول أبي بكر الرازي م: (لأنه يجب بتركها الجابر) ش: فلو لم تكن الطهارة واجبة لما وجب الجابر بتركها م: (ولأن الخبر يوجب العمل فيثبت به الوجوب) ش: أي وجوب الطهارة م:(4/355)
فإذا شرع في هذا الطواف وهو سنة، يصير واجبا بالشروع ويدخله نقص بترك الطهارة فيجبر بالصدقة إظهارا لدنو رتبته عن الواجب بإيجاب الله وهو طواف الزيارة، وكذا الحكم في كل طواف هو تطوع. ولو طاف طواف الزيارة محدثا فعليه شاة لأنه أدخل النقص في الركن فكان أفحش من الأول فينجبر بالدم، وإن كان جنبا فعليه بدنة، كذا روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ ولأن الجنابة أغلظ من الحدث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(فإذا شرع في هذا الطواف) ش: أي طواف القدوم، هذا جواب عن سؤال مقدر، بأن يقال لما كان أصل هذا الطواف سنة وتركه لا يوجب دماً على ما ذكر في " شرح الطحاوي " ويوجب صدقة على ما ذكر في " الإيضاح " ينبغي أن لا يجب في الحدث شيء لأنه يؤدي للتسوية بين تركه وبين الإتيان به محدثاً.
فأجاب بقوله " فإذا شرع في هذا الطواف " م: (وهو سنة) ش: أي والحال أنه سنة م: (يصير واجبا بالشروع) ش: فإذا وجب بالشروع الملزم فيلزمه م: (ويدخله نقص بترك الطهارة فيجبر بالصدقة إظهارا) ش: أي لأجل الإظهار م: (لدنو رتبته) ش: أي لقرب رتبة طواف القدوم م: (عن الواجب بإيجاب الله، وهو طواف الزيارة) ش: وهاهنا سؤالان.
الأول: أن دخول النقص بترك الطهارة على تقدير كونها سنة في جبر النزاع فلا يوجد في الدليل؟ والجواب أن ترك السنة يوجب نقصاً أو ينجبر بالكفارة، إلا ترى أن من أفاض من عرفات قبل الإمام وجب عليه دم، وقال: لأنه ترك سنة الدفع.
الثاني: أنه منقوض بالصلاة النافلة، فإنها إذا دخلها نقص ينجبر بسجدتي السهو ولم يظهر دنو رتبة النفل عن رتبة الفرض فيها فليكن هاهنا أيضاً كذلك، والجواب أن الشارع جعل الجابر في الصلاة نوعاً واحداً فلا يصار إلى غيره، وفي الحج جعله متنوعاً قد يكون بالدم وقد يكون بالفدية وقد يكون بالصدقة ما أمكن المصير إلى ما تبين منه رتبة النفل عن الفرض، وهذا كله على رواية القدوري التي اختارها المصنف، وأما على ما ذكره الطحاوي وشيخ الإسلام أنه إذا طاف طواف التحية محدثاً فلا شيء عليه، لأنه لو تركه أصلاً لم يجب عليه شيء، فكذا إذا أتى به محدثاً فلا يحتاج إلى شيء من هذه الكلمات.
م: (وكذا الحكم في كل طواف هو تطوع) ش: أي المذكور في طواف القدوم، روي الحكم في كل طواف هو تطوع، وعن بعض مشايخ العراق يلزمه الدم م: (ولو طاف طواف الزيارة محدثا فعليه شاة لأنه أدخل النقص في الركن) ش: لأن طواف الزيارة ركن م: (فكان) ش: أي النقص م: (أفحش من الأول) ش: أي من النقص الذي يدخل في الواجب م: (فينجبر بالدم) ش: لأن الدم على حسب الموجب م: (وإن كان) ش: حال كونه م: (جنبا فعليه بدنة، كذا روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ش: هذا غريب عن ابن عباس م: (ولأن الجنابة أغلظ من الحدث) ش: وهو(4/356)
فيجب جبر نقصانها بالبدنة إظهارا للتفاوت، وكذا إذا طاف أكثره جنبا أو محدثا، لأن أكثر الشيء له حكم كله. والأفضل أن يعيد الطواف ما دام بمكة ولا ذبح عليه، وفي بعض النسخ: وعليه أن يعيده،
والأصح أنه يؤمر بالإعادة في الحدث استحبابا، وفي الجنابة إيجابا لفحش النقصان بسبب الجنابة وقصوره بسبب الحدث. ثم إذا أعاده وقد طافه محدثا لا ذبح عليه وإن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجنابة م: (فيجب جبر نقصانها بالبدنة إظهارا للتفاوت) ش: بين الجنابتين.
م: (وكذا إذا طاف أكثره) ش: أي أكثر طواف الزيارة م: (جنبا أو محدثا، لأن أكثر الشيء له حكم كله) ش: أي تركاً وتحصيلاً. وفي " مبسوط شيخ الإسلام " إذا كان للأكثر حكم الكل في الحج، لأن الشرع أقامه مقام الكل في وقوع الأمن عن الغفران احتياطاً أو صيانة أو تخفيفاً ببيانه أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: " من «وقف بعرفة فقد تم حجه» وكذا لا يفسد بالجماع بعد الرمي بالإجماع، ولو حلق أكثر الرأس كان محللاً، ولما كان هذا الأمر على هذا الوجه اليسير جرينا على هذا الأصل فأقمنا الأكثر مقام الكل في باب التحلل وما يجري مجراه صيانة للحج عن الفوات كما أن الطواف أحد سببي التحلل كالحلق.
م: (والأفضل أن يعيد الطواف ما دام بمكة) ش: وجه ذلك أن فيه تحصيل الخير بما هو من جنسه وكان أفضل م: (ولا ذبح عليه) ش: بناء على أن الطواف الأول وإن كان بغير طهارة يعتد به، وإلا لزم الدم على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالتأخير، فإذا كان معتداً به بنقصان، وقد أعاده ولم تبق إلا شبهة النقصان، وهي نقصان الطواف بالحدث وهي لا يوجب شيئاً م: (وفي بعض النسخ) ش: أي وفي بعض نسخ القدوري. وقال الكاكي: أي نسخ " المبسوط "، وما ذكرناه هو الصحيح م: (وعليه أن يعيده) ش: أي الطواف وهو يدل على وجوب الإعادة والنسخة التي فيها الأفضل أن يعيد الطواف بمكة يدل على الاستحباب لا الوجوب، فهذه على ما إذا كان الطواف مع الحدث وتلك تحمل على ما إذا كان مع الجنابة، لأن النقص في الحدث [....] وفي الجنابة.
م: (والأصح أنه يؤمر بالإعادة في الحدث استحبابا، وفي الجنابة إيجابا لفحش النقصان بسبب الجنابة وقصوره بسبب الحدث. ثم إذا أعاده وقد طاف) ش: أي والحال أنه قد طاف م: (محدثا لا ذبح عليه) ش: وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا سهو من صاحب " الهداية " - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن تأخير النسك عن وقته يوجب الدم عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فكيف لا يكون عليه الذبح إذا أعاد طواف الزيارة بعد أيام النحر قد حصل تأخير النسك عن وقته على أن الرواية في كتب من فقه منه بخلاف ذلك، وبهذا صرح في " شرح الطحاوي " - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا أعاد طواف الزيارة بعد أيام النحر يجب عليه الدم لتأخيره سواء كان إعادته بسبب الحدث أو بسبب الجنابة، انتهى.
قلت: يحتمل أنه مشى هنا على مذهب الصاحبين فلا وجه لنسبة صاحب " الهداية " إلى السهو م: (وإن أعاده بعد أيام النحر) ش: واصل بما قبله فلا يحتاج إلى جواب.(4/357)
أعاده بعد أيام النحر؛ لأن بعد الإعادة لا تبقى إلا شبهة النقصان، وإن أعاده وقد طاف جنبا في أيام النحر فلا شيء عليه لأنه أعاده في وقته، وإن أعاده بعد أيام النحر لزمه الدم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالتأخير على ما عرف من مذهبه.
ولو رجع إلى أهله وقد طافه جنبا عليه أن يعود؛ لأن النقص كثير فيؤمر بالعود استدراكا له ويعود بإحرام جديد. وإن لم يعد وبعث بدنة أجزأه لما بينا أنه جابر له، إلا أن الأفضل هو العود. ولو رجع إلى أهله وقد طافه محدثا إن عاد وطاف جاز، وإن بعث بالشاة فهو أفضل لأنه خف معنى النقصان وفيه نفع للفقراء، ولو لم يطف طواف الزيارة أصلا حتى رجع إلى أهله فعليه أن يعود بذلك الإحرام لانعدام التحلل منه وهو محرم عن النساء أبدا حتى يطوف. ومن طاف طواف الصدر محدثا فعليه صدقة لأنه دون طواف الزيارة، وإن كان واجبا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن بعد الإعادة لا تبقى إلا شبهة النقصان) ، ش: أي بسبب التأخير لا حقيقة التأخير، لأنه أداه لكن بالحدث، فيكون تأخيراً بطريق التهمة، لأن النقصان عدم من وجه أو بعض العدم، كذا في " الكافي ".
م: (وإن أعاده وقد طاف جنبا) ش: أي والحال أنه قد طاف حال كونه جنباً م: (في أيام النحر فلا شيء عليه لأنه أعاده في وقته، وإن أعاده بعد أيام النحر لزمه الدم عند أبي حنيفة بالتأخير على ما عرف من مذهبه) ش: أي بتأخيره النسك عن أيامه يجب الدم عنده.
واختلف المشايخ في أن المعتبر طوافه الأول أم الثاني. قال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المعتبر هو الأول، والثاني جبر له. وقال أبو بكر الرازي: المعتبر هو الثاني وهو الأصح، ورجح في " الإيضاح " قول الكرخي، وهو أقرب إلى الفقه.
م: (ولو رجع إلى أهله وقد طاف جنبا) ش: أي والحال أنه قد طاف جنباً م: (عليه أن يعود؛ لأن النقص كثير فيؤمر بالعود استدراكا له) ش: أي تداركاً لما فاته من المصلحة م: (ويعود بإحرام جديد) ش: لكن هذا إذا جاوز الميقات، أما إذا لم يجاوزه فلا حاجة إلى إحرام جديد م: (وإن لم يعد وبعث بدنة أجزأه لما بينا أنه جابر له) ش: ولأن فيه حق معنى النقصان، وفيه نفع للفقراء أيضاً م: (إلا أن الأفضل هو العود) ش: استثناء من قوله وإن لم يعد وبعث بدنة أجزأه يعني لكن الأفضل أن يعود، لأن استدراك الشيء بجنسه، وهو الطواف أولى من استدراكه بغير جنسه، وهو الفدية.
م: (ولو رجع إلى أهله وقد طاف محدثا إن عاد وطاف جاز، وإن بعث بالشاة فهو أفضل لأنه خف معنى النقصان وفيه نفع للفقراء، ولو لم يطف طواف الزيارة أصلا حتى رجع إلى أهله فعليه أن يعود بذلك الإحرام لانعدام التحلل منه وهو محرم عن النساء أبدا حتى يطوف. ومن طاف طواف الصدر محدثا فعليه صدقة لأنه دون طواف الزيارة، وإن كان واجباً) ش: كلمة إن واصلة بما قبلها، أي وإن كان طواف الصدر واجباً.(4/358)
فلا بد من إظهار التفاوت. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه تجب شاة، إلا أن الأول أصح. ولو طاف جنبا فعليه شاة، لأنه نقص كثير، ثم هو دون طواف الزيارة فيكتفي بالشاة.
ومن ترك من طواف الزيارة ثلاثة أشواط فما دونها، فعليه شاة لأن النقصان بترك الأقل يسير فأشبه النقصان بسبب الحدث، فتلزمه شاة فلو رجع إلى أهله أجزأه أن لا يعود ويبعث شاة لما بينا. ومن ترك أربعة أشواط بقي محرما أبدا حتى يطوفها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا بد من إظهار التفاوت) ش: بين الفرض والواجب يعني إذا طاف طواف الزيارة أو أكثره محدثاً تجب الشاة فينبغي أن تلزم الصدقة إذا طاف طواف الصدر أو أكثره محدثاً إظهاراً للتفاوت، وإلا تلزم التسوية بين الفرض والواجب فلا يجوز.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه تجب شاة) ش: أي فيما إذا طاف طواف الصدر محدثاً، وهو رواية الكرخي م: (إلا أن الأول أصح) ش: أي وجوب الصدقة أصح، وهو رواية القدوري م: (ولو طاف) ش: أي طواف الصدر م: (جنبا فعليه شاة، لأنه نقص كثير، ثم هو) ش: أي طواف الصدر م: (دون طواف الزيارة فيكتفي بالشاة) ش: أي إذا أدى من طواف الزيارة فيجب في طواف الزيارة جنباً بدنة بعيراً أو بقرة فيجزئه الشاة في طواف الصدر جنباً لأنه لا يلزم التسوية بين الفرض والواجب.
م: (ومن ترك من طواف الزيارة ثلاثة أشواط فما دونها) ش: أي شوطاً أو شوطين م: (فعليه شاة) ش: وقال الشافعي: يلزمه فعل ما ترك ولا يتحلل حتى يفعله، كذا في " شرح الأقطع " ومذهب الشافعي وأحمد ومالك عدد السبع شوط حتى لو ترك طوفة واحدة أو خطوة لم يجزئه ولا يتحلل من إحرامه، لأن تقدير الطواف بالعدد السبع ثابت بالنصوص المتواترة فكان كالمنصوص في القرآن وما يقدر شرعاً بقدر لا يكون لما دون ذلك القدر، وحكم ذلك القدر كما في الحدود وأعداد الركعات، فإنه لا يقوم الأكثر فيها مقام الكل، وكذا في الطواف.
وأشار إلى دليلنا بقوله م: (لأن النقصان بترك الأقل يسيرا فأشبه النقصان بسبب الحدث، فتلزمه شاة) ش: إنما كان كذلك لجانب الوجود راجح وأفعال الحج متجانسة يقبل بعضها الفضل عن بعض، ولهذا إذا أتى ببعض الأشواط ثم اشتغل بعمل آخر ثم أتى بالباقي جاز، بخلاف الصلاة، فإن أفعالها ليست بمتجانسة، وليس بعضها يقبل الفضل عن بعض، لأنه إذا أفسد جزءاً فيها يفسد الجميع، فلم يجز إقامة الأكثر مقام الكل، ولما ثبت التجانس وقبول الفضل في الطواف بحيث لم يتعلق صحة المؤدى بصحة الباقي أقيم الأكثر مقام الكل.
م: (فلو رجع إلى أهله أجزأه أن لا يعود ويبعث شاة لما بينا) ش: أشار به إلى قوله، لأن النقصان بترك الأقل يسير، وقيل: يرجع إلى قوله، لأنه حق معنى النقصان، وفيه نفع للفقراء.
م: (ومن ترك أربعة أشواط) ش: أي من طواف الزيارة م: (بقي محرما أبدا حتى يطوفها) ش: أي(4/359)
لأن المتروك أكثر فصار كأنه لم يطف أصلا. ومن ترك طواف الصدر أو أربعة أشواط منه فعليه شاة لأنه ترك الواجب أو الأكثر منه، وما دام بمكة يؤمر بالإعادة إقامة للواجب في وقته. ومن ترك ثلاثة أشواط من طواف الصدر فعليه الصدقة، ومن طاف طواف الواجب في جوف الحجر، فإن كان بمكة أعاده لأن الطواف وراء الحطيم واجب على ما قدمناه. والطواف في جوف الحجر أن يدور حول الكعبة ويدخل الفرجتين اللتين بينهما وبين الحطيم، فإذا فعل ذلك فقد أدخل نقصا في طوافه، فما دام بمكة أعاده كله ليكون مؤديا للطواف على الوجه المشروع. وإن أعاده على الحجر خاصة أجزأه لأنه تلافى ما هو المتروك، وهو أن يأخذ عن يمينه خارج الحجر حتى ينتهي إلى آخره ثم يدخل الحجر من الفرجة ويخرج من الجانب الآخر هكذا يفعله سبع مرات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في حق النساء، لأنه حل له كل شيء سوى النساء بالحلق، وإنما ما بقي في حق النساء م: (لأن المتروك أكثر فصار كأنه لم يطف أصلا) ش: فلا يجزئه الدم م: (ومن ترك طواف الصدر أو أربعة أشواط منه) ش: أو ترك أربعة أشواط من طواف الصدر م: (فعليه شاة لأنه ترك الواجب أو الأكثر منه) ش: أي أو ترك الأكثر من الواجب م: (وما دام بمكة يؤمر بالإعادة إقامة للواجب في وقته) ش: أي في مطلق الزمان، وهو طواف الصدر، لأنه ليس بموقت بأيام، ولهذا لا يجب شيء بالتأخير عنهما بالاتفاق ولا ذبح عليه، لأنه تلافى الفائت.
م: (ومن ترك ثلاثة أشواط من طواف الصدر فعليه الصدقة) ش: لأن الأصل إنما يجب في ترك كله دم يجب في أقله صدقة كما في الرمي، والمراد بالصدقة أن يجب لكل شوط نصف صاع من بر م: (ومن طاف طواف الواجب) ش: وفي بعض النسخ ومن طاف الطواف الواجب م: (في جوف الحجر) ش: أي الحطيم م: (فإن كان بمكة أعاده) ش: أي أعاد الطواف م: (لأن الطواف وراء الحطيم واجب على ما قدمناه) ش: أراد به قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الحطيم من البيت» ، وعند الشافعي ومالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الطواف من جوف الحجر لا يعتد به. م: (والطواف في جوف الحجر أن يدور حول الكعبة ويدخل الفرجتين اللتين بينهما وبين الحطيم، فإذا فعل ذلك فقد أدخل نقصا في طوافه فما دام بمكة أعاده كله ليكون مؤديا للطواف على الوجه المشروع وإن أعاده على الحجر خاصة أجزأه لأنه تلافى) ش: بالفاء أي تدارك م: (ما هو المتروك) ش: وهو الطواف بالحطيم م: (وهو أن يأخذ) ش: إنما ذكر الضمير الراجع إلى الإعادة بالنظر إلى الخبر م: (عن يمينه خارج الحجر حتى ينتهي إلى آخره ثم يدخل الحجر من الفرجة ويخرج من الجانب الآخر هكذا يفعله سبع مرات) ش: وعند الأئمة الثلاثة: تفسيره أن سور الحائط فيطوف حول الحطيم خاصة؛ لأن الحائط ليس من الحطيم هكذا ذكره القدوري، والنووي، وغيره من الشافعية، وفي " المغني ": لا يجزئ الطواف عند الحنابلة، إلا خارج الحائط؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هكذا فعله، قلنا: فعله لا يدل على الركنية.(4/360)
فإن رجع إلى أهله ولم يعده فعليه دم؛ لأنه تمكن نقصان في طوافه بترك ما هو قريب من الربع ولا تجزئه الصدقة. ومن طاف طواف الزيارة على غير وضوء وطواف الصدر في آخر أيام التشريق طاهرا فعليه دم، فإن كان طاف طواف الزيارة جنبا فعليه دمان عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا عليه دم واحد لأن في الوجه الأول لم ينقل طواف الصدر إلى طواف الزيارة لأنه واجب، وإعادة طواف الزيارة بسبب الحدث غير واجب، وإنما هو مستحب فلا ينقل إليه. وفي الوجه الثاني ينقل طواف الصدر إلى طواف الزيارة لأنه مستحق الإعادة فيصير تاركا لطواف الصدر مؤخرا لطواف الزيارة عن أيام النحر فيجب الدم بترك الصدر بالاتفاق وبتأخير الآخر على الخلاف، إلا أنه يؤمر بإعادة طواف الصدر ما دام بمكة ولا يؤمر بعد الرجوع على ما بينا.
ومن طاف لعمرته وسعى على غير وضوء حل فما دام مكة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن رجع إلى أهله ولم يعده فعليه دم؛ لأنه تمكن نقصان في طوافه بترك ما هو قريب من الربع ولا تجزئه الصدقة. ومن طاف طواف الزيارة على غير وضوء) ش: قال الكاكي: يحتمل الجنابة.
قلت: لا يعمل لهذا الاحتمال لأن المراد به الحدث الأصغر جزماً م: (وطواف الصدر في آخر أيام التشريق) ش: حال كونه م: (طاهرا فعليه دم) ش: أي دم واحد، وتجزئه شاة لنقصان الحدث م: (فإن كان طاف طواف الزيارة جنبا فعليه دمان عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: لأن الطواف مع الجنابة في حكم العدل، وهذا يؤمر بالإعادة ما دام بمكة وجوباً لا استحبابا، ولما كان في حكم العدل وجب نقل طواف الصدر إليه؛ لأن العزيمة في ابتداء الإحرام حصلت للأفعال على الترتيب التي شرعت فبطلت نيته على خلاف ذلك الترتيب، فانتقل طواف الصدر إلى طواف الزيارة، فيصير كأنه طاف طواف الزيارة في آخر أيام التشريق، ولم يطف للصدر.
م: (وقالا عليه دم واحد لأن في الوجه الأول) ش: وهو ما إذا طاف طواف الزيارة على غير وضوء م: (لم ينقل طواف الصدر إلى طواف الزيارة لأنه واجب، وإعادة طواف الزيارة بسبب الحدث غير واجب وإنما هو مستحب فلا ينقل إليه. وفي الوجه الثاني) ش: وهو ما إذا طاف طواف الزيارة جنباً م: (ينقل طواف الصدر إلى طواف الزيارة لأنه مستحق الإعادة فيصير تاركا لطواف الصدر مؤخرا لطواف الزيارة عن أيام النحر فيجب الدم بترك الصدر بالاتفاق) ش: بين أبي حنيفة وصاحبيه م: (وبتأخير الآخر) ش: وهو طواف الزيارة م: (على الخلاف) ش: بين أبي حنيفة وصاحبيه، فإنه يجب دمان عنده، ودم واحد عندهما م: (إلا أنه يؤمر بإعادة طواف الصدر ما دام بمكة ولا يؤمر بعد الرجوع على ما بينا) ش: أي عند قوله: ترك طواف الصدر أو أربعة أشواط فعليه شاة - إلى قوله -: وما دام بمكة يؤمر بالإعادة.
م: (ومن طاف لعمرته وسعى على غير وضوء وحل) ش: أي حلق أو قصر م: (فما دام بمكة(4/361)
يعيدهما، ولا شيء عليه أما إعادة الطواف فلتمكن النقص فيه بسبب الحدث. وأما السعي فلأنه تبع للطواف، وإذا أعادهما لا شيء عليه لارتفاع النقصان وإن رجع إلى أهله قبل أن يعيد فعليه دم لترك الطهارة فيه، ولا يؤمر بالعود لوقوع التحلل بأداء الركن إذ النقصان يسير، وليس عليه في السعي شيء؛ لأنه أتى به على أثر طواف معتد به، وكذا إذا أعاد الطواف ولم يعد السعي في الصحيح.
ومن ترك السعي بين الصفا والمروة فعليه دم وحجه تام؛ لأن السعي من الواجبات عندنا فيلزم بتركه دم دون الفساد. ومن أفاض قبل الإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يعيدهما) ش: أي يعيد الطواف والسعي جميعاً م: (ولا شيء عليه) ش: بعد الإعادة م: (أما إعادة الطواف فلتمكن النقصان فيه بسبب الحدث. وأما السعي) ش: أي وأما إعادة السعي بين الصفا والمروة م: (فلأنه) ش: أي فلأن السعي م: (تبع للطواف، وإذا أعادهما لا شيء عليه لارتفاع النقصان وإن رجع إلى أهله قبل أن يعيد فعليه دم لترك الطهارة فيه، ولا يؤمر بالعود لوقوع التحلل بأداء الركن) ش: وهو الطواف والسعي م: (إذ النقصان يسير، وليس عليه في السعي شيء) ش: قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: ليس عليه معطوف على قوله: فعليه دم لترك الطهارة، وهذا جواب سؤال، وهو أن يقال: لما قام الدم مقام الطواف عند الرجوع إلى أصله صار كأنه أعاد الطواف، ولو أعاده لا يجب عليه إعادة السعي، ولما لم يعد السعي وجب الدم، كما إذا أعاد الطواف ولم يعد السعي على رواية التمرتاشي وقاضي خان وغيرهما؟ فأجاب عن السؤال في " الفوائد الظهيرية " فقال: إنما لزمه دم لعدم إعادة السعي؛ لأن بالإعادة ارتفع المؤدى فبقي السعي قبل الطواف فلا يقع الاعتداد فيلزم الدم، بخلاف ما إذا لم يعد الطواف وأراق الدم حيث لا يرتفع المؤدي.
م: (لأنه أتى به على أثر طواف معتد به، وكذا إذا أعاد الطواف ولم يعد السعي) ش: أي لا شيء عليه م: (في الصحيح) ش: من الرواية، واحترز به عما ذكره في " جامع التمرتاشي "، وقاضي خان وغيرهما أنه لو أعاد الطواف، ولم يعد السعي كان عليه دم، واختار المصنف، وشمس الأئمة السرخسي، والمحبوبي أن لا شيء عليه؛ لأن الطهارة ليست بشرط للسعي، وإن كانت شرطا ًللطواف لاختصاصه بالبيت، واعتباره بالصلاة من وجه لما جاء في الحديث، وإنما الشرط في السعي أن يأتي به على أثر طواف معتد به وطواف المحدث معتد به، ألا ترى أنه تحلل به.
م: (ومن ترك السعي بين الصفا والمروة فعليه دم وحجه تام لأن السعي من الواجبات عندنا) ش: وعند الشافعي ركن، وعندنا واجب م: (فيلزم بتركه الدم دون الفساد) ش: لأن كل نسك ليس بركن فالدم يقوم مقامه كالرمي، قوله: دون الفساد احترازاً عن قول مالك، وأحمد فإن السعي ركن عندهما فيلزم الفساد بتركه. م: (ومن أفاض قبل الإمام) ش: أي قبل غروب الشمس، قال الأترازي: وإنما قدر بقبل غروب الشمس؛ لأنه إذا غربت الشمس وأبطأ الإمام بالدفع يجوز للناس الدفع قبل الإمام، لأن وقت الدفاع قد دخل، وإذا تأخر الإمام فقد ترك السنة فلا يجوز للناس تركها، وبه صرح في " شرح مختصر الكرخي " ودفع قبل الإمام.(4/362)
من عرفات فعليه دم، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا شيء عليه؛ لأن الركن أصل الوقوف فلا يلزمه بترك الإطالة شيء. ولنا أن الاستدامة إلى غروب الشمس واجبة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فادفعوا بعد غروب الشمس» فيجب بتركه الدم، بخلاف ما إذا وقف ليلا لأن استدامة الوقوف على من وقف نهارا لا ليلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (من عرفات فعليه دم، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا شيء عليه؛ لأن الركن أصل الوقوف فلا يلزمه بترك الإطالة شيء) ش: أي الإطالة إلى جزء من الليل، وهذا المذكور هو أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي قوله الآخر: يجب الدم كقولنا، وبه قال أحمد ومالك، إن لم يجمع بين الليل والنهار في الوقوف لا يكون مدركاً له إذا أدرك النهار، كذا ذكره الكاكي عنه، والجمع بين الليل والنهار ليس بشرط عنده، بل يكفي جزء من الليل لا النهار، وقال السروجي: لم يقل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - باشتراط الوقوف في شيء من النهار، وإنما ركن الوقوف عنده وقوف لحظة من الليل دون النهار، وعند غيره من الفقهاء الركن منه في جزء من ليل أو نهار.
م: (ولنا أن الاستدامة إلى غروب الشمس واجبة لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «فادفعوا بعد غروب الشمس» ش: هذا حديث غريب، وذكر الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا الحديث، ولم يذكر من حاله شيئاً، وأمر بالدفع في الإفاضة من عرفات، وكان ينبغي أن يستدل في هذا بما في حديث جابر الطويل - رَحِمَهُ اللَّهُ -، «فلم يزل - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - واقفاً حتى غربت الشمس» وروى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أفاض منها حين غربت الشمس» ورواة نسك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجمعوا على أنه أفاض من عرفات بعد غروب الشمس، فعلم أن الاستدامة في الوقوف إلى جزء من الليل واجبة، فلزمه بتركه دم، وهو معنى قوله:
م: (فيجب بتركه الدم) ش: قيل: إذا وقف ليلاً، ولم يقف بالنهار لا يلزمه شيء بالاتفاق، فأولى أن لا يلزمه شيء إذا وقف نهاراً، ولم يقف ليلاً؛ لأن الوقوف بالنهار أصل، وبالليل تبع.
وأجيب: بأن الوقوف المعتد به ركناً بأن الوقوف بالنهار، أو بالليل، إلا أن الواجب هو الوقوف بجزء من الليل لا محالة، ثم إذا وقف بالنهار دون جزء من الليل أتى بالركن دون الواجب، فلزمه دم، وإذا وقف بالليل دون النهار لم يجب عليه شيء؛ لأن الجزء الأول من وقوفه اعتبر ركناً، والجزء الثاني اعتبر واجباً، فلما أتى بالركن والواجب لم يلزمه شيء.
م: (بخلاف ما إذا وقف ليلا؛ لأن استدامة الوقوف على من وقف نهاراً لا ليلاً) ش: أي بالإجماع، وهذا متصل بقوله: ولنا أن الاستدامة إلى غروب الشمس واجبة، قيل: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد أدرك الحج» ، يقتضي أن لا تكون الاستدامة(4/363)
فإن عاد إلى عرفة بعد غروب الشمس لا يسقط عنه الدم في ظاهر الرواية؛ لأن المتروك لا يصير مستدركا. واختلفوا فيما إذا عاد قبل الغروب. ومن ترك الوقوف بالمزدلفة فعليه دم لأنه من الواجبات،
ومن ترك رمي الجمار في الأيام كلها فعليه دم لتحقق ترك الواجب، ويكفيه دم واحد؛ لأن الجنس متحد كما في الحلق، والترك إنما يتحقق بغروب الشمس من آخر أيام الرمي؛ لأنه لم يعرف قربة إلا فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شرطاً لا في الليل، ولا في النهار، فكيف جعلتم شرطاً في النهار دون الليل.
وأجيب: بترك ظاهر الحديث في حق النهار بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فادفعوا بعد غروب الشمس» فبقي الليل على ظاهره، هذا أورده الأكمل في " شرحه "، وأعجبني منه كيف يجب بهذا الجواب، إلا أن الحديث الصحيح كيف يترك ظاهره بحديث لا يعرف دلالة أصله عند المحدثين.
م: (فإن عاد إلى عرفة بعد غروب الشمس لا يسقط عنه الدم في ظاهر الرواية؛ لأن المتروك لا يصير مستدركا) ش: احترازاً بظاهر الرواية عما روى ابن شجاع عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعن ما ذكر الحسن بن زياد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مناسكه " أنه يسقط؛ لأنه استدرك ما فاته، فإن الواجب عليه الإفاضة بعد غروب الشمس، وقد أتى به فيسقط عنه الدم، وبه قال الشافعي، وأحمد - رحمهما الله -، وفي " شرح القدوري " وهو الصحيح.
م: (واختلفوا) ش: أي العلماء الثلاثة وزفر م: (فيما إذا عاد قبل الغروب) ش: فعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يسقط، وعند الثلاثة: يسقط، وبه قال الشافعي، وأحمد م: (ومن ترك الوقوف بالمزدلفة فعليه دم؛ لأنه) ش: أي لأن الوقوف بمزدلفة م: (من الواجبات) ش: عندنا، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نفس الوقوف سنة، والمبيت بمزدلفة واجب، واستثني من هذا من جاوزها ليلاً عن علة، أو ضعف، أو خاف الزحام فلا شيء عليه، وقد مرت المسألة.
م: (ومن ترك رمي الجمار في الأيام كلها) ش: وهي الأيام الأربعة آخرها آخر أيام التشريق م: (فعليه دم لتحقق ترك الواجب، ويكفيه دم واحد) ش: يعني في ترك السبعين حصاة كلها م: (لأن الجنس متحد) ش: أي جنس المتروك واحد، وفي قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب عليه دمان لما أن رمي يوم النحر منفرد بنفسه، ورمي أيام التشريق شيء واحد، والأصح أنه يجب أربعة، وما ذكره في " شرح الوجيز " م: (كما في الحلق) ش: أي في حلق الرأس، فإن حلق ربعه في غير أوانه يوجب الدم، ثم حلق جميعه لا يوجب إلا دماً واحداً، كذا في " المبسوط " م: (والترك) ش: أي ترك الرمي م: (إنما يتحقق بغروب الشمس) ش: من أيام التشريق م: (من آخر أيام الرمي) ش: وهو اليوم الرابع م: (لأنه) ش: أي لأن الرمي م: (لم يعرف قربة إلا فيها) ش: أي في هذه الأيام، يعني معنى القربة غير معقول فيه، وإنما عرفناه قربة لا يفعله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في هذه الأيام، فلا يكون قربة في رميها كما لا يكون قربة في إراقة الدم في غير أيام النحر.(4/364)
وما دامت الأيام باقية فالإعادة ممكنة فيرميها على التأليف، ثم بتأخيرها عنه يجب الدم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما.
وإن ترك رمي يوم واحد فعليه دم؛ لأنه نسك تام.
ومن ترك رمي إحدى الجمار الثلاث فعليه الصدقة؛ لأن الكل في هذا اليوم نسك واحد فكان المتروك أقل، إلا أن يكون المتروك أكثر من النصف، فحينئذ يلزمه الدم لوجود ترك الأكثر.
وإن ترك رمي جمرة العقبة في يوم النحر فعليه دم؛ لأنه ترك كل وظيفة هذا اليوم رميا، وكذا إذا ترك الأكثر منها. وإن ترك منها حصاة أو حصاتين أو ثلاثا تصدق لكل حصاة نصف صاع إلا أن يبلغ دما فينقص ما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وما دامت الأيام باقية فالإعادة ممكنة فيرميها على التأليف) ش: يعني على الترتيب، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول. وفي قول: يسقط رمي كل يوم يمضي؛ لأنه فات عن وقته م: (ثم بتأخيرها) ش: أي بتأخير الجمرات م: (عنه) ش: أي عن أيامها م: (يجب الدم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما) ش: أي لأبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله - فإن عندهما لا دم عليه.
م: (وإن ترك رمي يوم واحد فعليه دم؛ لأنه نسك تام) ش: قيل: إنه مخير في اليوم الثالث بين النفر، وبين الإقامة تمضي، أي كونه متطوعاً، فكيف يجب بتركه الدم، وأجيب بأن التخيير قبل طلوع الفجر من اليوم الرابع، فأما بعد طلوعه وجب عليه الإقامة، ويجب بتركه الدم كالتطوع إذا تركه بعد الشروع.
م: (ومن ترك رمي إحدى الجمار الثلاث من يوم واحد فعليه الصدقة) ش: يعني إذا ترك من يوم واحد؛ لأن الجمار الثلاث من يوم واحد نسك واحد، وهو معنى قوله م: (لأن الكل في هذا اليوم نسك واحد، فكان المتروك أقل) ش: وهو سبع حصيات، فتجب صدقة لكل حصاة نصف صاع من بر م: (إلا أن يكون المتروك أكثر من النصف) ش: هذا استثناء من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " فعليه الصدقة "، يعني إذا ترك أكثر من الجمار الثلاث، فإن رمى ثمان حصيات، وترك ثلاث عشرة حصاة م: (فحينئذ يلزمه الدم لوجود ترك الأكثر) ش: منها.
م: (وإن ترك رمي جمرة العقبة في يوم النحر فعليه دم؛ لأنه ترك كل وظيفة) ش: يوم النحر من حيث الرمي، وإنما قيد بقوله: رمياً، احترازاً عن الوارد عليه إذا لم يقل كذلك بأن يقال: كيف قلت إن رمي جمرة العقبة كل وظيفة م: (هذا اليوم) ش: والذبح والحلق والطواف أيضاً من وظائف هذا اليوم، فلما قال: م: (رميا) ش: خرجت الأشياء المذكورة، م: (وكذا إذا ترك الأكثر منها) ش: أي يجب عليه الدم أيضاً إذا ترك الأكثر من جمرة العقبة م: (وإن ترك منها حصاة أو حصاتين أو ثلاثا) ش: أي ثلاث حصيات م: (تصدق لكل حصاة نصف صاع، إلا أن يبلغ دما) ش: استثناء من قوله: تصدق لكل حصاة نصف صاع، يعني إذا بلغ قيمة ما تصدق لكل حصاة قيمة الدم م: (فينقض ما شاء) ش: يعني ينقض من الدم ما شاء حتى لا تلزمه التسوية بين الأقل والأكثر.(4/365)
شاء
لأن المتروك هو الأقل فتكفيه الصدقة. ومن أخر الحلق حتى مضت أيام النحر فعليه دم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكذا إذا أخر طواف الزيارة حتى مضت أيام التشريق فعليه دم عنده وقالا: لا شيء عليه في الوجهين وكذا الخلاف في تأخير الرمي وفي تقديم نسك على نسك كالحلق قبل الرمي، ونحر القارن قبل الرمي، والحلق قبل الذبح، لهما أن ما فات مستدرك بالقضاء ولا يجب مع القضاء شيء آخر. وله حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال «من قدم نسكا على نسك فعليه دم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن المتروك هو الأقل فتكفيه الصدقة. ومن أخر الحلق حتى مضت أيام النحر فعليه دم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكذا إذا أخر طواف الزيارة. وقالا: لا شيء عليه في الوجهين) ش: أي في تأخير الحلق، وتأخير طواف الزيارة، والأصل في هذا أن تأخير النسك هل يوجب الدم أم لا؟ فعند أبي حنيفة يوجب، وعندهما لا.
م: (وكذا الخلاف) ش: أي بين أبي حنيفة وصاحبيه م: (في تأخير الرمي) ش: بأن أخر رمي جمرة العقبة في اليوم الأول إلى الثاني، وكذا إذا أخر رمي الجمار من اليوم الثاني أو الثالث إلى الرابع م: (وفي تقديم نسك على نسك) ش: أي وكذا الخلاف بينهم في تقديم نسك على نسك م: (كالحلق قبل الرمي، ونحر القارن قبل الرمي، والحلق قبل الذبح) ش: بيانه حلق المفرد بالحج أو القارن أو المتمتع قبل الرمي، وذبح القارن أو المتمتع قبل الرمي والذبح، بخلاف ما إذا ذبح المفرد قبل الرمي، أو حلق قبل الذبح حيث لا يجب عله شيء؛ لأن النسك لا يتحقق في حقه؛ لأن المفرد يذبح إن أحب، ولا يجب عليه.
واعلم أنه يفعل في يوم النحر أربعة أشياء، الرمي، والنحر، والحلق، والطواف، وهذا الترتيب واجب أم لا؟ اختلف العلماء فيه، فقال أبو حنيفة، والشافعي - رحمهما الله - في وجه ومالك وأحمد - رحمهما الله -: واجب، وعلى قول آخر للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مستحب، أما لو قدم الحلق على النحر جاز، ولا يجب شيء عنده قولاً واحداً، وكذا عندهما، ولو قدمه على الرمي لزمه دم عند الشافعي وعند مالك. وقال أحمد: لو قدم كل واحد على الآخر ساهياً أو جاهلاً لا شيء عليه، وإن كان عامداً ففي وجوب الدم روايتان، وعند أبي حنيفة التقديم، والتأخير يوجب الدم ساهياً أو جاهلاً، وبه قال زفر، ومالك، وعند أبي يوسف، ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا شيء في التقديم، والتأخير، وإنما يجب في حق قول القارن قبل الذبح دم باعتبار الحلق في أوانه جناية على إحرامه، لا باعتبار التقديم والتأخير، وقولهما أصح قولي الشافعي. م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله - م: (أن ما فات مستدرك بالقضاء) ش: أي بالاتفاق م: (ولا يجب مع القضاء شيء آخر. وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال "من قدم نسكا على نسك فعليه دم) ش: هكذا هو الغالب في النسخ ابن مسعود، وفي بعضها: ابن عباس - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الأصح، رواه(4/366)
ولأن التأخير عن المكان يوجب الدم فيما هو موقت بالمكان كالإحرام، فكذا التأخير على الزمان فيما هو موقت بالزمان،
وإن حلق في أيام النحر في غير الحرم فعليه دم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن أبي شيبة في " مصنفه ": حدثنا سلام بن مطيع أبو الأحوص عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس، قال: من قدم نسكاً في حجه، أو أخره فليهد لذلك دماً، وقال الشيخ في " الإمام "، وإبراهيم بن مهاجر ضعيف، وأخرج عن سعيد ابن جبير، وإبراهيم النخعي، وجابر بن زيد أبي الشعثاء نحو ذلك.
م: (ولأن التأخير عن المكان) ش: كالتجاوز عن المقيات بغير إحرام م: (يوجب الدم فيما هو موقت بالمكان كالإحرام) ش: فإنه موقت بميقات م: (فكذا التأخير عن الزمان فيما هو موقت بالزمان) ش: قوله: لأن التأخير جواب عن قولهما، يعني القياس كما قالا إنه لا يجب شيء مع القضاء إلا أنا تركناه استدلالاً بتأخير الإحرام عن الميقات، والقياس: ترك بدلالة النص، كذا في " المبسوط ".
فإن قلت: معهما أيضاً قياس على سائر ما يستدرك من العبادات بالنص، فكان قياساً في خبر التعارض.
قلت: إن قياساً يرجح بالاحتياط، فإن فيه الخروج عن العهدة بيقين.
فإن قلت: ثبت في " الصحيحين " عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف للناس بمنى يسألونه، فجاء رجل، وقال: نحرت قبل الرمي، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " افعل ولا حرج " فما سئل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمن قدم، أو أخر؛ إلا قال: " افعل ولا حرج» وهذا دليل واضح على أن لا شيء في التقديم والتأخير.
قلت: إنه متروك الظاهر؛ لأنه لا يدل على القضاء أيضاً، ويجوز أن تكون المسائل مفرداً، وتقديم الذبح على الرمي لا يوجب عليه شيئاً. وفي " المستصفى ": كان هذا في ابتداء الإسلام حين لم تستقر أفعال المناسك دل عليه «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل في ذلك الوقت: سعيت قبل أن أطوف، فقال: " افعل ولا حرج» وذلك لا يجوز بالإجماع، واليوم لا يفتى بمثله؛ ولأن نفي الحرج لا يقتضي انتفاء الكفارة، كما لو تطيب، أو حال من عدد.
م: (وإن حلق في أيام النحر في غير الحرم فعليه دم) ش: يعني إن حلق الحاج، لا للحل في أيام النحر خارج الحرم يجب عليه دم، ولم يذكر له في هذه المسألة خلاف أبي يوسف في " الجامع الصغير "، فلأجل هذا قال بعض المشايخ: يجب عليه الدم في هذه المسألة باتفاق، وقال الصدر الشهيد في " شرح الجامع الصغير ": الأصح أنه على الاختلاف، يعني لا شيء عليه عند أبي يوسف، كما لا شيء عليه عنده إذا حلق المعتمر خارج الحرم، خلافاً لهما، وأثبت الخلاف في(4/367)
من اعتمر فخرج من الحرم وقصر فعليه دم عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى -، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا شيء عليه قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ذكر في " الجامع الصغير " قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المعتمر ولم يذكره في الحاج. وقيل هو بالاتفاق؛ لأن السنة جرت في الحج بالحلق بمنى وهو من الحرم. والأصح أنه على الخلاف، هو يقول: الحلق غير مختص بالحرم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أحصروا بالحديبية وحلقوا في غير الحرم. ولهما أن الحلق لما جعل محللا صار كالسلام في آخر الصلاة فإنه من واجباتها، وإن كان محللا، فإذا صار نسكا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" المنظومة "، والمختلف في الحج والعمرة جميعاً، وهذا الخلاف مبنى على أصل، وهو أن الحلق عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يوقت بالزمان دون المكان، حتى إذا حلق بعد أيام النحر في الحرم يجب عليه الدم عند أبي حنيفة، ومحمد، وزفر، خلافاً لأبي يوسف ومحمد، وإذا حلق خارج الحرم في أيام النحر يجب عليه الدم عند أبي حنيفة، ومحمد، وزفر خلافاً لأبي يوسف، ولكن يتحلل في هذه الصورة بالاتفاق.
م: (ومن اعتمر فخرج من الحرم وقصر فعليه دم عند أبي حنيفة ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: لتأخيره عن مكانه، كما يلزمه الدم بتأخيره عن وقته م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا شيء عليه قال: ذكر في " الجامع الصغير ") ش: أي قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذكر - أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (في المعتمر أنه لا شيء عليه، وفي " الجامع ") ش: إذا حلق خارج الحرم م: (وقيل هو بالاتفاق) ش: أي قبل وجوب الدم في الحج بالاتفاق إذا حلق خارج الحرم، ولا خلاف فيه لأبي يوسف م: (لأن السنة جرت في الحج بالحلق بمنى، وهو من الحرم) ش: فبتركه يلزمه الجبر.
م: (والأصح أنه على الخلاف) ش: عندهما يجب الدم، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجب، م: (هو يقول) ش: أي أبو يوسف يقول: م: (الحلق غير مختص بالحرم «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أحصروا بالحديبية وحلقوا في غير الحرم» ش: هذا الحديث أخرجه البخاري، ومسلم عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم قال: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمن الحديبية في بعض عشر مائة من الصحابة.. الحديث، وفيه: فأمرهم بالحلق فحلقوا في الحديبية، وهي خارج الحرم» والحديبية تصغير حدبا اسم موضع قريب من مكة.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة، ومحمد - رحمهما الله - م: (أن الحلق لما جعل محللا) ش: بكسر اللام م: (صار كالسلام في آخر الصلاة فإنه) ش: محلل، ومع هذا هو واجب، ولهذا لو تركه ساهياً يجب سجود السهو وأنه م: (من واجباتها) ش: أي فإن السلام من واجبات الصلاة م: (وإن كان محللا) ش: واصل بما قبله.
م: (وإذا صار نسكا اختص بالحرم) ش: أي عبادة اختص بالحرم؛ لأنه غير معقول المعنى(4/368)
اختص بالحرم كالذبح، وبعض الحديبية من الحرم فلعلهم حلقوا فيه، فالحاصل أن الحلق يتوقت بالزمان والمكان، عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند أبي يوسف: لا يتوقت بهما، وعند محمد: يتوقت بالمكان دون الزمان، وعند زفر: يتوقت بالزمان دون المكان. وهذا الخلاف في التوقيت في حق التضمين بالدم، وأما في حق التحلل فلا يتوقت بالاتفاق. والتقصير، والحلق في العمرة غير موقت بالزمان بالإجماع؛ لأن أصل العمرة لا يتوقت به، بخلاف المكان؛ لأنه موقت به. قال: فإن لم يقصر حتى رجع وقصر فلا شيء عليه في قولهم جميعا، معناه: إذا خرج المعتمر ثم عاد؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيختص بالحرم، وبه قال مالك، وأحمد - رحمهما الله - في رواية م: (كالذبح) ش: حيث يختص بالحرم م: (وبعض الحديبية من الحرم) ش: هذا جواب عن تمسك أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالحديبية المذكور، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأظهر م: (فلعلهم حلقوا فيه) ش: أي في الحرم الذي هو من الحديبية م: (فالحاصل أن الحلق موقت بالزمان والمكان عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف لا يتوقت بهما، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يتوقت بالمكان دون الزمان، وعند زفر: يتوقت بالزمان دون المكان) ش: قد مر الكلام فيه آنفاً.
م: (وهذا الخلاف في التوقيت في حق التضمين بالدم، وأما في حق التحلل فلا يتوقت) ش: بالزمان والمكان، وإن الكلام في وجوب الدم عند من يقول بالتوقيت يجب الدم بتركه م: (بالاتفاق) ش: لكونه معتداً به بالاتفاق م: (والتقصير والحلق في العمرة غير موقت بالزمان بالإجماع) ش: لنفس العمرة حيث لا يتوقت بالزمان. فإن قلت: في أيام النحر مكروهة فكانت موقتة.
قلت: كراهيتها فيها ليست من حيث إنها موقتة به، بل باعتبار أنه مشغول بأفعال الحج فيها، فلو اعتمر فيها ربما أخل بشيء من أفعال الحج، فكرهت لذلك.
م: (لأن أصل العمرة لا يتوقت به) ش: أي بالزمان، وأصل العمرة الطواف والسعي، فلا يتوقت بالزمان بالإجماع م: (بخلاف المكان؛ لأنه موقت به) ش: أي بخلاف مكان العمرة، فإن أصلها موقت به، وهو الحرم، فكذا يتوقت ما يترتب عليه وهو الحلق، والتقصير، حتى لو حلق خارج الحرم للعمرة فعليه دم عند أبي حنيفة، ومحمد - رحمهما الله -، كما في الحج. وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا شيء عليه، كذا في " المبسوط ".
م: (فإن لم يقصر حتى رجع وقصر لا شيء عليه في قولهم جميعاً) ش: وفي أكثر النسخ قال: فإن لم يقصر، أي قال محمد في " الجامع الصغير ": فإن لم يحلق المعتمر حتى عاد إلى الحرم، فلا شيء عليه في قول أبي حنيفة وصاحبيه جميعاً؛ لأنه بدل المتروك في مكان م: (معناه) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": معنى حكم المسألة م: (إذا خرج المعتمر ثم عاد) ش: ذكر العود إلى الحرم من خواص " الجامع الصغير " م: (لأنه) ش: أي لأن المعتمر م: (أتى به) ش:(4/369)
لأنه أتى به في مكانه فلا يلزمه ضمانه. وإن حلق القارن قبل أن يذبح فعليه دمان - عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دم بالحلق في غير أوانه؛ لأن أوانه بعد الذبح , ودم بتأخير الذبح عن الحلق. وعندهما يجب عليه دم واحد، وهو الأول، ولا يجب بسبب التأخير شيء على ما بينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي بالتقصير أو الحلق م: (في مكان فلا يلزمه ضمانه. وإن حلق القارن قبل أن يذبح فعليه دمان - عند أبي حنيفة - دم بالحلق) ش: أي بسبب الحلق م: (في غير أوانه؛ لأن أوانه بعد الذبح، ودم بتأخير الذبح) ش: أي بسبب تأخير الذبح م: (عن الحلق , وعندهما) ش: أي، وعند أبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله - م: (يجب عليه دم واحد، وهو الأول) ش: وهو دم القران؛ لأنه الواجب أولاً بحكم القران، لكن لفظه يوهم أنه أراد به الدم الواجب بالحلق في غير أوانه.
م: (ولا يجب بسبب التأخير شيء على ما بينا) ش: وفي بعض النسخ: على ما قلنا، وأشار به إلى ما قال، قيل: هذا إنما فات مستدرك بالقضاء ولا يجب مع القضاء شيء آخر، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: على هذا تقرير المسألة على ما عليه أصل رواية " الجامع الصغير "، فإن محمداً - رَحِمَهُ اللَّهُ - , قال فيه في القارن حلق قبل أن يذبح فعليه دمان، دم القران، ودم آخر؛ لأنه حلق قبل أن يذحب، يعني على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعلى هذا ما ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - غير مطابق له؛ لأنه قال: دم الحلق في غير أوانه؛ لأنه بعد الذبح، ودم بتأخير الذبح عن الحلق، وهذا كما ترى يشير إلى أنهما دما جناية، ولم يذكر دم القران، وقال: وعندهما عليه دم واحد وهو الأول، يعني الذي يجب بالحلق من غير رواية؛ لأنه لم يذكر أولاً إلا سواه، ولم يذكر أيضاً دم القران، ومع عدم مطابقته فهو متقاصر لقوله قبل هذا. وقالا: لا شيء عليه في الوجهين جميعاً، إلى أن قال: والحلق قبل الذبح على هذا كان الحق أن يقول: فعليه دمان عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - دم بالقران، ودم بتأخير الذبح، فكأنه سهو وقع منه أو من الكاتب، ولا يجب في السهو على الإنسان. انتهى.
قلت: هذا الذي ذكره أوجه من قول الأترازي، وقد حط صاحب " الهداية " لأنه جعل الدمين هاهنا جميعاً للجناية، وجعل في باب القران أحدهما للنسك، والآخر للجناية، انتهى.
قلت: يحتمل أن يكون المصنف ذكر هاهنا عادة بعض المشايخ، وهو أن دم القران واجب إجماعاً، ودم آخر بسبب الجناية على الإحرام؛ لأن الحلق لا يجوز إلا بعد الذبح، وهذا واجب أيضاً إجماعاً، ودم آخر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بسبب تأخير الذبح عن الحلق.
فإن قيل: على ما ذكره محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنه يجب عليه ثلاثة دماء، إلا أن جناية القارن مضمونة بالدمين.
قيل له: إنما يجب على المفرد فيه دم، فعلى القارن دمان، ولو قادم المفرد الحلق على الذبح لم يجب عليه شي، فلا يضاعف على القارن.(4/370)
فصل اعلم أن صيد البر محرم على المحرم، وصيد البحر حلال لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} [المائدة: 96] الآية (96: المائدة) وصيد البر ما يكون توالده، ومثواه في البر، وصيد البحر ما يكون توالده ومثواه في الماء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل صيد البر محرم على المحرم] [المقصود بصيد البر والبحر وحكم قتل الفواسق]
م: (فصل) ش: أي: هذا فصل، فلا يعرب إلا بهذا التقدير، وهذا الفصل في بيان الجناية على الصيد، ولما كان هذا نوعاً خاصاً من أنواع الجنايات ذكره في فصل على حدة.
م: (اعلم أن صيد البر محرم على المحرم، وصيد البحر حلال لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} [المائدة: 96] (المائدة: الآية: 96)) ش: صيد البر كله حرام على المحرم، سواء كان مملوكاً أو مباحاً، وسواء كان مأكول اللحم أو غيره لعموم اسم الصيد إلا ما أباح الشرع قتله من الفواسق الخمس وما في معناها، فلا شيء بقتلها، وكذا إذا قتل الصيد ذاباً عن نفسه إذا صال عليه لا يجب عليه شيء، بخلاف الجمل إذا صال فقتله حيث تجب عليه قيمته، وعن أبي يوسف، والشافعي: لا يضمن، وإذا قتل إنساناً حمل عليه بسلاح ذاباً عن نفسه فلا شيء عليه بالإجماع، قوله: وطعامه أي ما يطعم منه كالسمك، قوله: متاعاً لكم، نصب على أنه مفعول له، أي تمتعاً لكم، لكونه طرياً وللسيارة بين ودونه قديداً، قوله: ما دمتم حرماً: أي محرمين.
م: (وصيد البر ما يكون توالده ومثواه في البر) ش: أي مقامه، وهو اسم مكان من ثوى يثوي ثواً وثوياً إذا قام، والمعتبر المتوالد؛ لأنه الأصل، وفي " البدائع ": الطيور كلها من صيد البر، وما توالده في البر، وما يأوي في البحر من صيد البر، وما يتوالد في البحر، ويأوي في البر كالضفدع من صيد البر.
م: (وصيد البحر ما يكون توالده ومثواه في الماء) ش: ولا فرق بين حيوان البحر الملح، وبين الأنهار والعيون، ثم الحيوان الذي يعيش في الماء على ثلاثة أنواع: أحدها: ما لا يعيش إلا في الماء وهو السمك، وهذا لا جزاء فيه بلا خلاف، وقال الكرماني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مناسكه ": الذي يرخص للمحرم من صيد البحر السمك خاصة؛ لأنه هو الصيد الحلال عندنا، ولا نأخذ ما سواه، وكذا في " خزانة الأكمل ".
والثاني: ما يعيش في الماء وغيره، إلا أنه أكثر مأواه كالسرطان والسلحفاة البحرية، والضفدع لا شيء فيها، وعن عطاء فيها الجزاء، والثالث: ما تكون إقامته في البر، ومعاشه، وكسبه في الماء كالطيور ففيها الجزاء، وقال الشافعي على ما ذكره النووي: صيد البحر ما لا يعيش إلا في البحر، وما يعيش فيهما حرام كالمتولد من مأكول وغيره الطيور المائية التي تعرض في الماء، وتخرج منه محرمة، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في قتل طير الماء الجزاء.(4/371)
والصيد هو الممتنع المتوحش في أصل الخلقة، واستثنى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخمس الفواسق، وهي: الكلب العقور، والذئب والحدأة، والغراب والحية، والعقرب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[جزاء الصيد ومقداره]
م: (والصيد هو الممتنع المتوحش في أصل الخلقة) ش: قيد بالممتنع احترازاً عن الدجاج، والبط الأهلي، وقيد بالمتوحش في أصل الخلقة ليدخل الحمام المسرول، ويخرج البعير المتوحش؛ فإنه لا يدخل في حكم الصيد، ولا يثبت له؛ لأنه عارض إلا في حق الزكاة للضرورة، وأما البط الذي يطير في الهواء جنس آخر، وهو من جملة الطيور، كذا في " الإيضاح ": وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا جزاء في المستأنس كالحمام المسرول، والطيب لخروجه من الامتناع.
م: (واستثنى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخمس الفواسق، وهي: الكلب العقور، والذئب والحدأة، والغراب والحية، والعقرب) ش: روى البخاري، ومسلم عن مالك، عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: العقرب، والفأرة، والكلب العقور، والحدأة» وليس في هذه الرواية من الذئب ولا الحية.
وفي رواية لمسلم ذكر الخمسة، وأما الذئب، ففي رواية الدارقطني في " سننه ": عن حجاج ابن أرطاة، عن وبرة بن عبد الرحمن قال: سمعت ابن عمر يقول: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل الذئب، والفأرة، والحدأة، والغراب» والحجاج لا يحتج به.
قوله: واستثنى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ليس فيه حقيقة الاستثناء لأنه لا يتصور، وإنما معناه بين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عدم دخول الخمس الفواسق في الآية الكريمة المذكورة، وما جاز قتل هذه الخمسة بالحديث خرجت عن حكم حرمة قتل الصيد، استعار لفظ الاستثناء لوجود معناه، وإن لم توجد صورته، والخمس منصوب بلفظ استثنى، والفواسق بالنصب أيضاً صفة، وهو جمع فاسقة، وسميت فواسق بطريق الاستعارة لخبثهن.
وقيل: لخروجهن عن الحرمة، والفسق الخروج من الاستقامة، ومنه قيل للعاصي فاسق لخروجه عما أمر به، وقيل: سميت فواسق لإرادة تحريم أكلها لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3] بعدما ذكر ما حرم من الميتة والدم، وقيل: لخروجهن عن السلامة منهن إلى الأذى، وقيل: لخروجهن عن الانتفاع بهن، ثم تنصيص الخمس بالذكر لا ينافي ما عداه مما هو في معناهن، ألا ترى إلى ما روى الحسن عن مسلم عن سعيد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل الوزغ، وسماه فويسقاً» .
وعم أم شريك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أمر بقتل الأوزاغ» رواه البخاري، ومسلم، وروى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقتل المحرم السبع العادي، والكلب العقور، والفأرة، والعقرب نوالحدأة، والغراب» رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن ورواه أبو داود.(4/372)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأيضاً فهذا فيه ستة، والمذكور في الصحاح خمسة، والذي ذكره المصنف ستة، الأول: الكلب العقور، ذكر أبو عمر أن ابن عيينة قال: الكلب العقور كل سبع يعقر، ولم يخص به، وعن أبي هريرة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الكلب العقور الأسود، وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو كل ما عقر الناس، وعدا عليهم مثل الأسد، والنمر، والفهد، وأما ما كان من السباع لا يعدو مثل الضبع، والثعلب، وشبههما فلم يقتله المحرم، وإن قتله فداه.
وزعم النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العلماء اتفقوا على جواز قتل الكلب العقور للمحرم، والحلال في الحل والحرم، واختلفوا في المراد به فقيل: هو الكلب المعروف، حكاه عياض عن أبي حنيفة، والأوزاعي، والحسن بن جني، وألحقوا به الذئب، وحمل زفر الكلب على الذئب وحده، وفي " المبسوط ": المراد من الكلب العقور الذئب، وقيل: الكلب والذئب واحد، لأن الكلب المعروف أهلي، وليس بصيد، ولا يدخل الأسد وإن صح انه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سماه كلباً لتضمنه إبطال العذر.
قلت: هذا قول ابن ندمي الحصر والصحيح ما ذكرنا أن التنصيص على عدد لا ينافي ما زاد عليه، وقد ذكرت في " شرح الكنز " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الكلب العقور وغيره، والمستأنس، والمتوحش منه سواء.
وقال أبو المعالي: جمع الكلب أكلب، وكلاب، وكليب، وهو جمع عزيز لا يكاد يوجد إلا قليلاً نحو عبد وعبيد وجمع الأكلب أكالب، وفي " المحكم ": ويقال في جمع كلاب: كلابات، وأكالب، كالحامل جماعة الكلاب، والكلبة الأنثى، وجمعها كلبات جمع مكسر، وفي " المحيط "، و " البدائع ": الكلب العقور شأنه الوثوب على الناس، وغيرهم ابتداء، وهذا المعنى موجود في الأسد، والنمر، والفهد، بل أشد، فكان ورود النص في الكلب العقور قد ورد فيما ذكرناه، ويدل عليه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «السبع العادي» في حديث الترمذي الذي ذكرناه.
الثاني من الستة: الذئب، وقد ذكرنا فيه من الكلام، ولكن الظاهر أنه هو الذئب غير الكلب، وهو الذئب المعهود.
الثالث: الحداء بكسر الحاء، وبعد الدال ألف ممدودة بعدها همزة مفتوحة، وجمعها حدد مثل عنب وحداي، كذا في " الدستور "، وقال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حدأة، وفي " المطالع ": الحدأة لا يقال فيها إلا بكسر الحاء، وقد جاء الحداء يعني بالفتح، وهو جمع حدأة، وجاء الحديا على وزن الثريا، ويجوز قتل الحدأة سواء كان للمحرم أو للحلال؛ لأنها تبتدئ بالأذى، وتخطف اللحم من أيدي الناس، وروي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الحدأة والغراب أنه لا(4/373)
فإنها مبتدئات بالأذى. والمراد به الغراب الذي يأكل الجيف. هو المروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قال: وإذا قتل المحرم صيدا أو دل عليه من قتله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يقتلهما المحرم، إلا أن يبتدئا بالأذى، والمشهور من مذهبه خلافه.
الرابع: الغراب، وقد ذكره المصنف على ما يجيء، وقال غيره: الغراب الأبقع الذي في ظهره، وبطنه البياض، والغراب الأورع، والدرعي الأسود والأعصم الأبيض الرجلين، وروي المنع عن ذلك.
وقال مجاهد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يرمي التراب، ولا يقتله، وقال به قوم، واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري - رَحِمَهُ اللَّهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عما يقتل المحرم، قال: " الحية، والعقرب، والفويسقة، ويرمي الغراب ولا يقتله.» الحديث رواه ابن ماجه، وقال أبو عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليس هذا مما يحتج به على حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الذي مر ذكره.
الخامس: الحية.
السادس: العقرب، وذكر أبو عمر عن حماد بن أبي سليمان، والحكم أن المحرم لا يقتل الحية والعقرب، رواه عنهما شعبة قال: وحجتهما أنهما من هوام الأرض، وقال القاضي: لم يختلف في قتل الحية والعقرب، وقال أبو عمر: لا خلاف عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وجمهور العلماء في قتل الحية، والعقرب في الحل، والحرم، وكذلك الأفاعي، ولا شيء في قتل الرتيلا، وأم الأربعة والأربعين.
م: (فإنها مبتدئات بالأذى) ش: أي فإن الستة التي استثناها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنها مبتدئات بالأذى، يعني أن يؤذين ابتداء من غير تعرض أحد إليهن، والمؤذي يقتل م: (والمراد به الغراب الذي يأكل الجيف. هو المروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يعني دون الغراب غراب الزرع والقعقع. وفي " السروجي ": «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل الحية في الحل والحرم» أبدت جوهرها الخبيث حيث خانت آدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأدخلت إبليس الحية بين أيديها، ولو كانت يروه لم يتركها رضوان خازن الجنة أن تدخله، والفأرة أبدت جوهرها بأن عمدت إلى حبال سفينة نوح - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقطعتها، والغراب أبدى جوهره حيث بعثه نوح نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليأتيه بخبر الأرض فترك أمره، وأقبل على جيفة. والوزعة نفخت إلى نار إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بين سائر الدواب فعلنت.
م: (قال: وإذا قتل المحرم) ش: وفي غالب النسخ قال: وإذا قتل، أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا قتل المحرم م: (صيدا أو دل عليه) ش: أي على الصيد م: (من قتله) ش: بأن قال في(4/374)
فعليه الجزاء أما القتل فلقوله تعالى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} [المائدة: 95] الآية (96 المائدة) نص على إيجاب الجزاء. وأما الدلالة ففيها خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. هو يقول: الجزاء تعلق بالقتل، والدلالة ليست بقتل، فأشبه دلالة الحلال حلالا. ولنا ما روينا من حديث أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مكان، كذا صيد فقتله المدلول عليه م: (فعليه الجزاء) ش: أي فعلى الدال المحرم الجزاء، سواء كان المدلول محرماً، أو حلالاً، وسيجيء تفسير الجزاء إن شاء الله تعالى.
م: (أما القتل فلقوله تعالى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} [المائدة: 95] الآية (المائدة: 96) ش: أي أما حكم القتل وهو وجوب الجزاء م: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} [المائدة: 95] (المائدة الآية: 96)) ش: استدل على حرمة قتل المحرم الصيد بهاتين الآيتين الكريمتين إحداهما قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] وقد نهى الله تعالى عن قتل الصيد في حالة الإحرام والواو في قوله: وأنتم للحال أي: وأنتم محرمون، والحرم جمع حرام يعني محرم، وقال النووي، والعراقي: جمع محرم، وليس بصحيح، من جهة الصناعة، ووقع الإجماع على تحريم قتل صيد البر على المحرم، وتحريم اصطياده، وكذا نقل النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الإجماع عليه، ويدل عليه الآية المذكورة، والآية الثانية قوله عز وجل {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] (المائدة: الآية: 96) ، أي فعلية جزاء يماثل المقتول من النعم الوحشي، ومثل الحيوان قيمة؛ لأن المثل المطلق هو المثل صورة ومعنى، فإذا تعذر ذلك حمل على المثل المعنوي، وهو القيمة.
م: (نص على إيجاب الجزاء) ش: أي نص - عز وجل - على القاتل م: (وأما الدلالة) ش: أي وأما حكم دلالة المحرم غيره على قتل الصيد م: (ففيها خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ومالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والقسمة العقلية فيها أربعة أقسام، إما أن يكون الدال والمدلول حلالين أو محرمين، أو الدال حلالاً، والمدلول محرماً، أو بالعكس من ذلك. الأول: ليس مما نحن فيه، والثاني على كل واحد منهما جزاء عندنا، والثالث: على المدلول الجزاء دون الدال، وفي الرابع: عكسه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا شيء على الدال أصلاً.
م: (هو يقول) ش: أي الشافعي م: (الجزاء تعلق بالقتل، والدلالة ليست بقتل، فأشبهت دلالة الحلال حلالا) ش: على صيد الحرام، حيث لا يجب على الدال شيء؛ لأنه لا إيصال للدلالة بالمحل، وهذا بخلاف المودع إذا دل سارقاً على الوديعة التي تحت يده يجب عليه ضمانها؛ لأنه التزم حفظها بإثبات يده عليها.
م: (ولنا ما روينا من حديث أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: حديث أبي قتادة هذا تقدم في أول باب الإحرام عند قوله: ولا يقتل صيداً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] (المائدة:(4/375)
وقال عطاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أجمع الناس على أن على الدال الجزاء؛ ولأن الدلالة من محظورات الإحرام؛ ولأنه تفويت الأمن على الصيد، إذ هو آمن بتوحشه وتواريه، فصار كالإتلاف؛ ولأن المحرم بإحرامه التزم الامتناع عن التعرض، فيضمن بترك ما التزمه كالمودع، بخلاف الحلال؛ لأنه لا التزام من جهته، على أن فيه الجزاء على ما روي عن أبي يوسف وزفر - رحمهما الله -، والدلالة الموجبة للجزاء أن لا يكون المدلول عالما بمكان الصيد، وأن يصدقه في الدلالة، حتى لو كذبه وصدق غيره لا ضمان على المكذب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الآية 95) ، ولا يشير إليه ولا يدل عليه.. الحديث عن أبي قتادة، ومر الكلام فيه هناك م: (وقال عطاء: أجمع الناس على أن على الدال الجزاء) ش: قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو عطاء بن أبي رباح تلميذ ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وقال مخرج الأحاديث: هذا غريب، وكأنه ابن أبي رباح صرح به في " المبسوط "، وغيره، وذكره ابن قدامة في " المغني " عن علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو مروي عن عدة من الصحابة، ولم يرو عنهم خلافه، فكان إجماعاً.
م: (ولأن الدلالة من محظورات الإحرام؛ ولأنه تفويت الأمن عن الصيد، إذ هو) ش: كلمة إذ للتعليل والضمير يرجع إلى الصيد م: (آمن) ش: من التعرض إليه م: (بتوحشه) ش: أي بسبب توشحه وأصل الوحشة خلاف الأمن، وقال ابن الأثير: والوحشة الخلوة، ومنه يقال: مكان وحش إذا كان خالياً لا ساكن فيه م: (وتواريه) ش: أي عن أعين الناس، وبالدلالة يزول ذلك م: (فصار كالإتلاف) ش: أي صار إزالة أمنه كإتلافه م: (ولأن المحرم بإحرامه التزم الامتناع عن التعرض، فيضمن بترك ما التزمه) ش: أي بسبب ترك ما التزمه بعدم التعرض إليه م: (كالمودع) ش: إذا دل سارقاً على الوديعة م: (بخلاف الحلال؛ لأنه لا التزام من جهته) ش: فلا يلزمه شيء.
فإن قلت: كان ينبغي الجزاء على الحلال أيضاً إذا دل؛ لأنه ملتزم أيضاً بترك التعرض لصيد الحرم بالإسلام.
قلت: الإسلام ليس بكاف في إيجاب الضمان؛ بل التزم الأمان بعقد خاص هو المعتبر، ولهذا إذا دل الأجنبي بسرقة الوديعة إنساناً لا يجب على الأجنبي ضمان، وإن كان الإسلام موجوداً.
م: (على أن فيه الجزاء) ش: أي فيما إذا دل الحلال على صيد الحرم الجزاء م: (على ما روي عن أبي يوسف وزفر) ش: ذكره في " مختصر الكرخي " م: (والدلالة الموجبة للجزاء أن لا يكون المدلول عالما بمكان الصيد، وأن يصدقه في الدلالة) ش: أي وأن يصدق المدلول الدال ليكون في معنى الإتلاف م: (حتى لو كذبه) ش: أي حتى لو كذب المدلول الدال م: (وصدق غيره) ش: أي غير الدال م: (لا ضمان على المكذب) ش: بفتح الذال، وفيه إشارة إلى أن الضمان على ذلك الغير إن كان(4/376)
ولو كان الدال حلالا في الحرم لم يكن عليه شيء لما قلنا، وسواء في ذلك العامد والناسي؛ لأنه ضمان يعتمد وجوبه الإتلاف، فأشبه غرامات الأموال. والمبتدئ والعائد سواء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
محرماً، وهاهنا شروط أخر لم يذكرها أن يتصل القتل بهذه الدلالة؛ لأن مجرد الدلالة لا يوجب شيئاً، والثاني: أن يبقى الدال محرماً عند أخذه المدلول؛ لأن فعله إنما [....] جناية إذا بقي محرماً إلى وقت الفعل.
والثالث: أن يأخذه المدلول قبل أن ينقلب فلو صدقه ولم يقتله حتى انقلبت ثم أخذه بعد ذلك، فقتله لم يكن على الدال شيء؛ لأن ذلك بمنزلة جرح الأول.
م: (ولو كان الدال حلالا في الحرم لم يكن عليه شيء لما قلنا) ش: أشار إلى قوله: لأنه لا التزام من جهته م: (وسواء في ذلك) ش: أي سواء في الضمان م: (العامد والناسي) ش: سواء كانا قاتلين أو دالين، ولا خلاف للأئمة الأربعة إلا ما روي عن بعض أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن في وجوب الضمان على الناسي قولين، وكذلك في المخطئ، وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا شيء على المخطئ، وبه أخذ داود الأصبهاني وسالم، والقاسم لظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] (المائدة الآية: 95) ، وروي عن سعيد بن جبير، وأحمد كذلك، وفي الخطأ روايتان.
م: (لأنه) ش: أي لأن الجزاء م: (ضمان يعتمد وجوبه الإتلاف، فأشبه غرامات الأموال) ش: فإن في غرامات الأموال يستوي العامد، والناسي، كالكفارة بقتل المسلم؛ لأنه تعالى حرم قتل الصيد تعمداً بقوله: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] (المائدة: الآية 95) ، وتقييده في الآية بالعمد ليس لأخذ الجزاء بل للوعيد المذكور في آخر الآية بقوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] وليس قتل العمد يدل على نفي الحكم عما عداه، فجاز أن يثبت حكم النسيان بدليل آخر، وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الضبع صيد، وفيه شاة» من غير فصل بين عمد ونسيان، وعن الزهري - رحمه: نزل الكتاب بالعمد، ووردت السنة بالخطأ، وهو مذهب عمر، وعبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وسعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (والمبتدئ) ش: هو الجاني أول مرة م: (والعائد) ش: هو الجاني ثانياً، إلا أن يكون المراد به العود بالقتل م: (سواء) ش: أي مستويات في وجوب الضمان، وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا جزاء على العائد، وبه قال داود وشريح، ولكن يقال: اذهب فينتقم الله منك، فظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] (المائدة: الآية 95) .
قلنا: إن ضمان إيجابه لا يختلف بالابتداء والعود بل جناية العائد أشد، والمراد من الآية: ومن عاد بعد العلم بالحرمة كما في آية الربا {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} [البقرة: 275] (البقرة: الآية 275) ، أي: ومن عاد إلى المباشرة بعد العلم بالحرمة، كذا في " مبسوط الأسبيجابي،(4/377)
لأن الموجب لا يختلف. والجزاء عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - أن يقوم الصيد في المكان الذي قتل فيه، أو في أقرب المواضع منه إذا كان في برية، فيقومه ذوا عدل، ثم هو مخير في الفداء إن شاء ابتاع بها هديا، وذبحه إن بلغت هديا، وإن شاء اشترى بها طعاما وتصدق على كل مسكين نصف صاع من بر، أو صاعا من تمر، أو شعير، وإن شاء صام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والكاكي ".
م: (لأن الموجب لا يختلف) ش: أي لأن الموجب للضمان وهو الإتلاف لا يختلف بالابتداء والعود، فيجب الجزاء في الحالين كالصيد المملوك م: (والجزاء عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -) ش: هذا شروع في تفسير الجزاء، وهو عند أبي حنيفة، وأبي يوسف م: (أن يقوم الصيد) ش: أي يقوم من حيث نفس الصيد لا من حيث الصفة، حتى لو قتل البازي المعلم فعليه قيمة غير معلم؛ لأن كونه معلماً عارض لا مدخل فيه في الصيدية م: (في المكان الذي قتل فيه) ش: أي قتل فيه إن كانت للصيد قيمة في ذلك المكان، وإلا فيقوم في أقرب الأماكن الذي له قيمة فيه، وهو معنى قوله: م: (أو في أقرب المواضع منه) ش: أي من المواضع الذي قتل فيه م: (إذا كان في برية) ش: أي إذا كان القتل في برية، ثم قتل الصيد على ضربين محرم ومباح، فالمحرم قتله بغير سبب يبيحه ففيه الجزاء بالنص، والمباح أنواع، أحدها في حالة الاضطرار، فيباح بلا خلاف، ويضمن قيمته وجد غيره أو لم يجده، كما إذا كان بمال الغير في المخمصة.
وقال الأوزاعي: لا ضمان في حالة الضرورة، والثاني: إذا صار عليه ولم يمكنه دفعه فلا شيء عليه. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - عليه الجزاء كالجمل الصائل، ونقل أبو بكر من الحنابلة وجوب الجزاء عن أبي حنيفة - رحمة الله عليه - وأخطأ في نقل الثالث إذا خلص صيداً من سبع أو شبكة، فتلف بذلك، فلا شيء عليه، وبه قال عطاء. وهو رواية عن أحمد، وعنه أنه يضمن، وهو قول قتادة.
الرابع: لو حفر بئر الماء، أو تنور الطبخ، فوقع في ذلك صيد، فلا جزاء عليه، ولو كان للاصطياد إلا إذا حفر للذئب، أو للاصطياد الذي شرع بإباحة قتله، فوقع فيه غيره، فمات فلا جزاء عليه لعدم التعدي، وكذا رو أرسلر كلبه على [.....] فأخذ غيره لا يضمن ذكر ذلك الأسبيجابي.
م: (فيقومه ذوا عدل) ش: أي يقوم الصيد رجلان عدلان ممن لهم معرفة في قيمة الصيد م: (ثم هو مخير) ش: أي ثم القاتل مخير م: (في الفداء) ش: وفي بعض النسخ في الفدية م: (إن شاء ابتاع بها هديا وذبحه) ش: أي اشترى بها، أي بالقيمة هدياً وذبحه م: (إن بلغت هديا) ش: أي قيمته قيمة ما يهدى به م: (وإن شاء اشترى بها طعاما وتصدق على كل مسكين نصف صاع من بر، أو صاعا من تمر، أو شعير) ش: فإن فعل هذا فهو بالخيار م: (وإن شاء صام) ش: مكانه يوماً كاملاً، وإن شاء(4/378)
على ما نذكر، وقال محمد والشافعي - رحمهما الله -: يجب في الصيد النظير فيما له نظير، ففي الظبي شاة، وفي الضبع شاة، وفي الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة،
وفي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] (95 المائدة) ، ومثله من النعم ما يشبه المقتول صورة؛ لأن القيمة لا تكون نعما. والصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أوجبوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تصدق به؛ لأن صوم نصف النهار لا يجوز م: (على ما نذكر) ش: فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
م: (وقال محمد والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: يجب في الصيد النظير فيما له نظير) ش: أي يجب في قتل الصيد مثله فيما له مثل من حيث القيمة، وبه قال مالك، وأحمد، وأكثر أهل العلم، ثم فسر النظير بقوله: م: (ففي الظبي شاة، وفي الضبع شاة، وفي الأرنب عناق) ش: وهو الأنثى من أولاد المعز، وفي " خزانة الأكمل " عناق، أو جدي، وهو الذكر من أولاد المعز، وهو دون الجذع م: (وفي اليربوع جفرة) ش: وقال الرافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجب أن يكون المراد هاهنا بالجفرة ما دون العناق؛ لأن الأرنب خير من اليربوع، فكيف يستوي في موجبها؟!
قلت: ذكرتم في موجب الطير، والحمام بإيجاب الشاة فيهما، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اليربوع اسم حيوان من الحشرات فوق الجرد، والذكر، والأنثى فيه سواء، وقال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الياء فيه زائدة؛ لأنه ليس في كلامهم بعلول، وأرض مربعة ذات يرابيع، والجفرة بفتح الجيم وسكون الفاء الأنثى من أولاد المعز.
م: (وفي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة) ش: وكذا في بقر الوحش بقرة، وفي الثعلب الجزاء، روي ذلك عن عطاء، وقتادة ومالك، والشافعي، وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في رواية الجزاء هو الشاة، ولا شيء فيه عند الزهري، وعمرو بن دينار، وابن أبي نجيح، وابن المنذر، وروى ابن القاسم عن مالك في الضب قيمته طعاماً، أو صياماً، وفي رواية ابن وهب شاة، وأوجب ابن حبيب في الدب الجزاء، وأوجب الرافعي الجزاء في أم حبين بضم الحاء المهملة، وفتح الباء الموحدة وروى الشافعي والبيهقي بإسناد عن عثمان بحلاب من المغنم بضم الحاء المهملة وتشديد اللام، وهو الحمل أي الحرون، وفي إسناده مطرف بن مازن وهو ضعيف جداً، وقال يحيى بن معين: هو كذاب.
واختلف الشافعية في حل أكل أم حبين، وقال النووي: الأصح حل أكلها، ووجوب الجزاء فيها، وأم حبين دابة على صورة الحرباء، وعن عطاء في القنفذ شاة رواه عنه سعيد بن منصور، وهو شذوذ؛ لأن القنفذ لا يشبه الشاة لا في الصورة ولا في المعنى، ولا في القيمة.
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] (المائدة الآية: 95) ، ومثله من النعم ما يشبه المقتول صورة) ش: لأن من النعم بيان المثل م: (لأن القيمة لا تكون نعما. والصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أوجبوا النظير من حيث الخلقة والمنظر في النعامة والظبي وحمار الوحش والأرنب على ما(4/379)
النظير من حيث الخلقة، والمنظر في النعامة، والظبي، وحمار الوحش، والأرنب على ما بينا.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الضبع صيد وفيه شاة» ، وما ليس له نظير عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تجب فيه القيمة مثل العصفور، والحمام، وأشباههما، وإذا وجبت القيمة كان قوله كقولهما، والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يوجب في الحمامة شاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بيناه) ش: أراد به ما ذكره من قوله: ففي الظبي شاة ... إلى آخره، والمراد من الصحابة جماعة منهم على ما رواه الشافعي، ومن جهة ما رواه البيهقي في " سننه " عن سعيد بن سالم عن ابن جريج عن عطاء الخراساني أن عمر، وعثمان، وعلياً، وزيد بن ثابت، وابن عباس، ومعاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قالوا في النعامة يقتلها المحرم بدنة من الإبل، انتهى.
وقال الشافعي: إنما القول في النعامة بدنة بالقياس لا بهذا الأثر فإن هذا الأثر غير ثابت عند أهل العلم بالحديث، قال البيهقي: وسبب عدم ثبوته أن فيه ضعفاً وانقطاعاً، وذلك لأن عطاء الخراساني ولد سنة خمسين، قال ابن معين وغيره: فلم يدرك عمر، ولا عثمان، ولا علياً , ولا زيد بن ثابت، وكان في زمن معاوية صبياً , ولم يثبت له سماع من ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع احتمال أن ابن عباس توفي سنة ثمان وتسعين، وعطاء الخراساني مع انقطاع حديثه هذا متكلم فيه، وروى مالك في " الموطأ " أخبرنا أبو الزبير عن جابر أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعناق، وفي اليربوع بجفرة.
م: (وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الضبع صيد وفيه الشاة» ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الأربعة أصحاب السنن من «حديث جابر بن عبد الله، قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الضبع أصيد هو، قال: " نعم، ويجعل فيه كبش» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح م: (وما ليس له نظير) ش: أي من حيث الخلقة م: (عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تجب فيه القيمة مثل العصفور، والحمام، وأشباههما) ش: مثل الحمام، والقمري، والفاختة.
م: (وإذا وجبت القيمة كان قوله) ش: أي قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (كقولهما) ش: أي كقول أبي يوسف، وأبي حنيفة في تغريم الصيد، والشراء، بقيمة الهدي، وإن بلغت هدياً , أو اشترى بها طعاماً للمتصدق كما مر عن قريب، وحاصل الخلاف في موضعين، أحدهما أن الخيار إلى القاتل عندهما، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - معهما في هذا، والله أعلم.
م: (والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يوجب في الحمامة) ش: وليس للحكم إلا تعيين القيمة عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الخيار للحكمين، والثاني: تجب القيمة فيما له نظير، أو لم يكن له نظير(4/380)
ويثبت المشابهة بينهما من حيث إن كل واحد منهما يعب ويهدر، ولأبي حنيفة وأبي يوسف أن المثل المطلق هو المثل صورة ومعنى، ولا يمكن الحمل عليه فحمل على المثل معنى لكونه معهودا في الشرع كما في حقوق العباد، أو لكونه مرادا بالإجماع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عندهما، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - معهما في هذا، والله أعلم. الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوجب في الحمامة شاة م: (ويثبت المشابهة بينهما من حيث إن كل واحد منهما يعب) ش: من العب وهو شرب الماء بلا مص، وهو جرعه جرعاً شديداً، كما تجرع الدواب، ويقال: العب أن يشرب الماء مرة من غير أن يقطع الجرع من باب طلب، وقال أبو عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والحمام يشرب هكذا، بخلاف سائر الطيور، فإنها تشرب شيئاً فشيئاً.
م: (ويهدر، ولأبي حنيفة وأبي يوسف) ش: من هدر البعير والحمام إذا صوت من باب ضرب يضرب، والشاة ليست نظيرة للحمامة، لا في الصورة، ولا في المعنى، ولا في القيمة فإن الحمامة تساوي نصف درهم، والشاة تساوي عشرين درهماً , بل وثلاثين وأكثر، والشاة من ذوات الظلف تمشي على أربع، والحمامة من الطيور ولها جناحان، وتمشي على رجلين، ولا اعتبار للعب إذا لم يرد اعتبار أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن المثل المطلق هو المثل صورة ومعنى) ش: أراد أن الله - عز وجل - أطلق المثل في قوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] والمطلق ينصرف إلى الكامل، وهو المثل من حيث الصورة، ومن حيث المعنى م: (ولا يمكن الحمل عليه) ش: أي على مثل صورة، ومعنى الخروج ما ليس له مثل صوري من تأويل النص، وفي ذلك إهمال عن حكم الشرع.
م: (فحمل على المثل معنى لكونه معهودا في الشرع) ش: أي لكون المثل معهوداً في الشرع، كما إذا أتلف إنسان ثوب غيره مثلاً تجب عليه قيمته، أما اعتبار الصورة فلا معنى فليس بمعهود في الشرع، ولو كان من الواجب من حيث الخلقة لم يحتج فيه إلى حكم عدلين لحصول العلم بالحس والمشاهدة.
م: (كما في حقوق العباد) ش: فإن الحكم فيها بالمثل المعنوي، قال الله تعالى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: الآية 194) ، وثمة لما تعذر الحمل على المثل صورة ومعنى حمل على المثل معنى، فكذلك هاهنا م: (أو لكونه) ش: أي أو لكون المثل المعنوي م: (مرادا بالإجماع) ش: فيما لا مثل له صورة كالعصفور، فلا يكون غيره مراداً، وإلا لزم عموم المشترك المعنوي، ولا عموم له في موضع الإثبات، ولما فيه من الجمع بين الحقيقة والمجاز، وكلاهما غير جائز.
فإن قلت: المثل ليس بمشترك بين المثل صورة، وبين المثل معنى، ولا هو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر، حتى يلزم ما ذكرتم، بل هو مطلق يتناول الصورة والمعنى، كما أنه يتناول المؤمنة(4/381)
أو لما فيه من التعميم، وفي ضده التخصيص، والمراد بالنص - والله أعلم - فجزاء قيمة ما قتل من النعم الوحشي،
واسم النعم يطلق على الوحشي والأهلي، كذا قاله أبو عبيدة والأصمعي - رحمهما الله عنه - والمراد بما روي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والكافرة، فيدخل تحت المثل المطلق والمعنوي، كما في قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] دخل ما له مثل صورة ومعنى، كما في المثليات، وما ليس له مثل لا معنى كالقيمات.
قلت: أجيب بأن المطلق ما يتعرض للذات دون الصفات، لا بالنفي، ولا بالإثبات، فهو الدال على الماهية فقط، وذلك يتحقق تحته كل فرد من أفراده المحتملة، فلو كان دالاً على ذلك لوجبت النعامة على النعامة، وليس كذلك بل حقيقة فيه في المطلق، ومجاز في غيره، والمجاز هنا مراد بالإجماع، فلا يكون غيره مراداً، ومثل ذلك قوله في الآية الأخرى.
أما على قول من يقول: يوجب الغصب القيمة، ورد مخلص فظاهر؛ لأن الموجب الأصلي أولى بالإرادة ورد العين ثبتت بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى ترده» ، وأما على قول من يقول بموجب الغصب رد العين وأداء القيمة يخلص فكذلك القيمة ثابتة بالكتاب ورد العين بالسنة وهذا الكلام مبحث من كلام السغناقي، وغيره.
م: (أو لما فيه من التعميم) ش: دليل آخر، أي لما في دليل المثل معنى من التعميم؛ لأنه يتناول ما له نظير، وما ليس كذلك م: (وفي ضده التخصيص) ش: وفي اعتبار المثل صورة التخصيص لتناوله ما له نظير فقط، والعمل بالتعميم أولى؛ لأن النص حينئذ أعم فائدة م: (والمراد بالنص - والله أعلم -) ش: هذا جواب عن قوله: لأن القيمة لا تكون نعماً، تقديره، والمراد بالآية م: (فجزاء قيمة ما قتل من النعم الوحشي) ش: ولما اعترض المعترض بقوله: كيف يقول من النعم الوحشي، والنعم يراد به الأهلي، ولا يجب بقتل الأهلي، فأجاب دفعاً لسؤاله بقوله:
م: (واسم النعم ينطلق على الوحشي والأهلي، كذا قاله أبو عبيدة) ش: واسمه معمر بن المثنى التميمي من تيم قريش مولاهم، وفي بعض النسخ: أبو عبيد بدون التاء في آخره، واسمه القاسم بن سلام البغدادي صاحب كتاب " الحديث "، والأول أصح م: (والأصمعي) ش: واسمه عبد الملك بن قريب، وهما الإمامان في اللغة ثقتان في نقلهما، فقال: النعم كما يطلق على الأهلي يطلق على الوحشي أيضاً.
فإن قلت: ما تصنع بقوله: هدياً، وهو حال من جزاء، فإن كان الجزاء القيمة كيف يمكن أن يكون هدياً بالغ الكعبة، بأن معناه إذا قوم فبلغت قيمته هدياً بالغ الكعبة.
م: (والمراد مما روي) ش: هذا الجواب عما روى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الضبع صيد، وفيه الشاة» لأنه لا مماثلة بين الضبع والشاة من حيث الخلقة، وإنما(4/382)
التقديرية دون إيجاب المعين، ثم الخيار إلى القاتل في أن يجعله هديا، أو طعاما، أو صوما عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -. وقال محمد والشافعي - رحمهما الله -: الخيار إلى الحكمين في ذلك، فإن حكما بالهدي يجب النظير على ما بينا، وإن حكما بالطعام أو بالصوم، فعلى ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف. لهما أن التخيير شرع رفقا بمن عليه، فيكون الخيار إليه كما في كفارة اليمين. ولمحمد والشافعي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المماثلة بينهما قد تكون من حيث القيمة، وهذا نظير ما قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في ولد المعز والغلام بالغلام، والجارية بالجارية، والمراد القيمة، والدليل عليه أنهم أوجبوا في الحمامة شاة، ولا تشابه بينهما في النظر، فدل أنهم أوجبوها بالقيمة م: (التقديرية دون إيجاب المعين، ثم الخيار) ش: يعني بعد حكم الحاكمين يكون الخيار م: (إلى القاتل في أن يجعله) ش: أي في أن يجعل النسك م: (هديا، أو طعاما، أو صوما عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -) ش: كما في كفارة اليمين، حيث يكون بالخيار إلى الحالف، يختار أحد الأشياء الثلاثة من الإطعام، والكسوة، والتحرير؛ لأن الخيار للوقت بالحالف فكذا هنا.
م: (وعند محمد والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الخيار) ش: أحدثه م: (إلى الحكمين في ذلك) ش: أي في تعيين النوع م: (فإن حكما بالهدي يجب النظير على ما بينا، وإن حكما بالطعام أو بالصوم، فعلى ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف) ش: يعني من اعتبار القيمة من حيث المعنى م: (لهما) ش: أي لأبي حنفية، وأبي يوسف - رحمهما الله - م: (أن التخيير شرع رفقا بمن عليه، فيكون الخيار إليه كما في كفارة اليمين) ش: حيث يكون الخيار إلى الحالف، وقد ذكرناه الآن.
م: (ولمحمد والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ش: ذكر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كون الخيار إلى الحكمين المذكور في كتب أصحابه أن الخيار إلى القاتل كما في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف - رحمهما الله - ولم يذكر في " المبسوط " , و " الأسرار " و " شرح التأويلات " قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بل اقتصر فيها على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قال الكاكي: ولم يلزم من عدم ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه الكتب عدم كونه مع محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وذكر في " الحلية " وما حكمت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فيه بالمثل لا يحتاج فيه إلى اجتهاده، وما لم يحكم فيه فلا بد من حكمين، ثم قيل: يجوز أن يكون القاتل أحدهما، وفيه وجهان:
أحدهما: يجوز، وهو المذهب، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بد من الحكمين في الجميع، وفي " تتمتهم ": لا يتعين على قاتل الصيد إخراج المثل من النعم، ولكنه يخير إن شاء ذبح بالمثل، وإن شاء قومه وصرف قيمته إلى الطعام وتصدق به على كل مسكين مداً , وإن شاء صام بدل كل مد يوماً، وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يخرج الطعام، وإنما التقويم بالطعام لمعرفة(4/383)
قَوْله تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا} [المائدة: 95] الآية (95 المائدة) ذكر الهدي منصوبا لأنه تفسير لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهِ} [المائدة: 95] أو مفعول لحكم الحكم، ثم ذكر الطعام، والصيام بكلمة " أو "، فيكون الخيار إليهما. قلنا: الكفارة عطفت على الجزاء لا على الهدي بدليل أنه مرفوع، وكذا قَوْله تَعَالَى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] مرفوع، فلم يكن فيها دلالة اختيار الحكمين، وإنما يرجع إليهما في تقويم المتلف , ثم الاختيار بعد ذلك إلى من عليه، ويقومان في المكان الذي أصابه لاختلاف القيم باختلاف الأماكن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قدر الصيام م: (قَوْله تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا} [المائدة: 95] (المائدة: الآية 95)) ش: ووجه ذلك أنه م: (ذكر الهدي منصوبا لأنه) ش: أي لأن قوله هدياً م: (تفسير لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهِ} [المائدة: 95] ش: فإن ضمير به مبهم يفسره بقوله: هدياً، فكان نصا على التفسير، قيل: بل التمييز فثبت أن المثل إنما يصير مثلياً باختيارهما وحكمهما م: (أو مفعول لحكم الحكم، ثم ذكر) ش: على أن يكون بدلاً عن الضمير محمولاً على محله، كما في قَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا} [الأنعام: 161] (الأنعام: الآية 161) ، وفي ذلك تنصيص إلى أن التعيين إلى الحكمين ثم لما ثبت ذلك في الهدي ثبت في الطعام والصيام لعدم القائل بالفعل.
م: (الطعام، والصيام بكلمة " أو ") ش: التي للتنويع والتخيير عطفاً على هدياً بدليل قراءة عن ابن عمر أو كفارة بالنصب م: (فيكون الخيار إليهما) ش: ويقال: إن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يرى الاستدلال بالقراءة الشاذة وقراءة عيسى شاذة م: (قلنا) ش: جواب عن استدلال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (الكفارة عطفت على الجزاء لا على الهدي) ش: أراد أن ما قالا إنما يصح إذا كانت كفارة معطوفة على الهدايا، وليست معطوفة على هدياً، لاختلاف إعرابها؛ لأن قوله: كفارة معطوفة على الجزاء م: (بدليل أنه) ش: أي أن الجزاء م: (مرفوع به) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: بدليل أنه مرفوع، أي بدليل أن الكفارة مرفوع، وإنما ذكر ضمير الكفارة على تأويل المعطوف، انتهى. وفيه تأمل لا يخفى. م: (وكذا قَوْله تَعَالَى {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] مرفوع) ش: والعدل ما يعادل الشيء من غير جنسه كالصوم والطعام، وذلك إشارة إلى الطعام، وصياماً تمييز للعدل، كقوله: لي مثله رجلاً، فإذا كان الإعراب كذلك م: (فلم يكن فيهما) ش: أي في الآية م: (دلالة اختيار الحكمين) ش: في الطعام والصيام، وإذا لم يثبت الخيار فيها للحكمين لم يثبت للهدي، لعدم القائل بالفضل م: (وإنما يرجع إليهما) ش: أي إلى الحكمين م: (في تقويم المتلف) ش: يعني الحاجة في الرجوع إليهما في تقويم الذي أتلفه القاتل؛ لأن القيمة أمر يقع فيها الاختلاف. م: (ثم الاختيار بعد ذلك) ش: أي بعد التقويم م: (إلى من عليه) ش: الجزاء لا إلى الحكمين م: (ويقومان) ش: يعني الحكمين المتلف م: (في المكان الذي أصابه) ش: أي المحرم م: (لاختلاف القيم) ش: أي قيم الأشياء م: (باختلاف الأماكن) ش: وقال الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقوم بمكة أو بمنى، ومذهب الثلاثة أنه يقوم في موضع الإتلاف؛ لأن الضمان يجب به(4/384)
فإن كان الموضع برية ليس فيه بيع ولا شراء للصيد يعتبر أقرب المواضع إليه مما يباع فيه ويشترى. قالوا: والواحد يكفي، والمثنى أولى؛ لأنه أحوط وأبعد عن الغلط كما في حقوق العباد. وقيل: يعتبر المثنى هاهنا بالنص.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كما في سائر الأموال، وفي " المبسوط " لشيخ الإسلام، وكذلك الزمان الذي فيه أصابه؛ لأن القيمة تختلف باختلاف الزمان أيضًا.
م: (فإن كان الموضع) ش: الذي قتل فيه الصيد. م: (برية ليس فيه بيع ولا شراء للصيد يعتبر أقرب المواضع إليه) ش: أي إلى الموضع الذي قتل الصيد فيه. م: (مما يباع فيه ويشترى) ش: أي مما يباع في أقرب المواضع ويشترى منه. م: (قالوا) ش: أي المشايخ. م: (والواحد يكفي) ش: لأن قوله: ملزم، ولأنه من باب الخبر لا الشهادة فيقبل قول الواحد العدل. م: (والمثنى) ش: أي الاثنان. م: (أولى؛ لأنه أحوط وأبعد عن الغلط) ش: كما قالوا في شهادة النساء، فيما لا يطلع عليه الرجال، فيقبل فيه قول الواحدة، والمثنى أحوط. م: (كما في حقوق العباد) ، م: (وقيل: يعتبر المثنى هاهنا بالنص) ش: أو يعتبر أن يكون الحكم بفتح الكاف اثنين في جزاء الصيد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] قوله: هنا، وفي بعض النسخ: هاهنا، أي في قيمة الصيد، وبه قال الشافعي، ومالك، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، قيل: يشترط عند مالك أن يكونا فقيهين، والفقيه ليس بشرط عند الجماعة بالنص، وقال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الكافي ": وعلى طريقة القياس يكفي الواحد للتقويم، وكان المثنى أحوط، ولكن يعتبر حكومة بالنص، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " الكشاف ": وعن قبيصة أنه أصاب ظبيًا وهو محرم فسأل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فشاور عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم أمره بذبح شاة، فقال قبيصة: والله ما علم أمير المؤمنين، حتى سأل غيره، فأقبل عليه [ ... ] بالدرة، فقال: أبيض القفاء تقتل الصيد وأنت محرم، وقال الله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] (المائدة: الآية 95) ، فأنا عمر وهذا عبد الرحمن بن عوف، وكذا قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قال في " الكشاف ": عن قبيصة
إلى آخره.
قلت: روى مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " موطئه " عن عبد الملك بن يزيد البصري عن محمد بن سيرين أن رجلًا جاء إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال له: إني أصبت ظبيًا، وأنا محرم، فما ترى في ذلك؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه يقال: حتى أحكم أنا، وأنت، قال: فحكما عليه بغير قول الرجل.
وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلا فحكم معه، فلما سمعه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دعاه، فقال له: هل تقرأ سورة المائدة؟ قال: لا، قال: لو أخبرتني أنك تقرؤها لأوجعتك بالضرب، إن الله تعالى يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95](4/385)
والهدي لا يذبح إلا مكة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] (95 المائدة) ، ويجوز الإطعام في غيرها، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، هو يعتبره بالهدي والجامع التوسعة على سكان الحرم ونحن نقول: الهدي قربة غير معقولة، فيختص بمكان أو زمان. أما الصدقة فقربة معقولة في كل زمان ومكان. والصوم يجوز في غير مكة لأنه قربة في كل مكان، فإن ذبح الهدي بالكوفة أجزأه عن الطعام، معناه إذا تصدق باللحم، وفيه وفاء بقيمة الطعام؛ لأن الإراقة لا تنوب عنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فأنا عمر، وهذا عبد الرحمن بن عوف، انتهى، وقال أبو عبيد: يعني قوله: [....] ، وتصغى فيها بالغين المعجمة والصاد المهملة.
م: (والهدي لا يذبح إلا بمكة؛ لقوله عز وجل: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ش: م: (المائدة: الآية 95)) ش: أراد بمكة الحرم؛ لأنه تابع مكة، وبه قال الشافعي، وفي الأصح، وفي قول: لا يختص بالحرم، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يختص ما يجب من الفدية بالإحرام، وقال في القديم: ما أساسه في الحل يجوز ذبحه في الحل، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يختص ما يجب من الفدية بالإحرام بمكان، ولنا قَوْله تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وصفه بكونه بالغ الكعبة، والمراد من الكعبة الحرام؛ لأن عين الكعبة غير مراد بالإجماع؛ لأنها تصان عن إراقة الدماء، فأريد بها ما حولها، وهو الحرم الذي له جزء منها.
م: (ويجوز الإطعام في غيرها) ش: أي في غير مكة. م: (خلافا للشافعي) ش: أي فإن عنده لا يجوز الإطعام على غير فقراء مكة، وبه قال أبو ثور - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو قول عطاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (هو يعتبره بالهدي) ش: أي الشافعي يعتبر الإطعام بالهدي قياسًا عليه. م: (والجامع) ش: أي بين الإطعام والهدي. م: (التوسعة على سكان الحرم) ش: يعني على فقراء مكة. م: (ونحن نقول: الهدي قربة غير معقولة، فيختص بمكان أو زمان. أما الصدقة فقربة معقولة في كل زمان ومكان) ش: فلا يختص بواحدة منها، وقياس الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ضعيف؛ لأن ما ثبت بخلاف القياس، فغيره لا يقاس عليه.
م: (والصوم يجوز في غير مكة؛ لأنه قربة في كل مكان) ش: فيجوز في مكة وغيرها. م: (فإن ذبح بالكوفة) ش: وفي بعض النسخ: فإن ذبحه، أي فإن ذبح الهدي بغير مكة، وقوله: بالكوفة تمثيل لا تقييد لا يجزئه عن الهدي، ولكنه. م: (أجزأه عن الطعام) ش: يعني جاز بدلًا من الطعام، وبين ذلك بقوله. م: (معناه) ش: أي معنى جوازه عن الطعام. م: (إذا تصدق باللحم، وفيه وفاء بقيمة الطعام) ش: يعني إنما يخرج عن العهدة بالتصدق في هذه إذا أصاب كل مسكين من اللحم ما يبلغ قيمته نصف صاع من البر على قياس كفارة اليمين، أو كسي عشرة مساكين ثوبًا واحدًا أجزأه عن الطعام إذا أصاب كل مسكين منه ما قيمته نصف صاع من البر. م: (لأن الإراقة) ش: أي الإراقة الحاصلة بالمكان غير المحرم. م: (لا تنوب عنه) ش: أي لا تجزئ عن الهدي حتى لو سرف المذبوح أو(4/386)
وإذا وقع الاختيار على الهدي يهدي ما يجزيه في الأضحية؛ لأن مطلق اسم الهدي منصرف إليه. وقال محمد والشافعي - رحمهما الله -: يجزي صغار النعم فيها؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أوجبوا عناقا وجفرة. وعند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -: يجوز الصغار على وجه الإطعام، يعني إذا تصدق، وإذا وقع الاختيار على الطعام يقوم المتلف بالطعام عندنا؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ضاع قبل التصدق لا يخرج عن العهدة؛ لأن الإراقة قربة مخصوصة بمكان وزمان.
م: (وإذا وقع الاختيار) ش: أي اختيار القاتل. م: (على الهدي يهدي ما يجزيه في الأضحية) ش: وهو الجذع الكبير من الضأن والثني من غيره. م: (لأن مطلق اسم الهدي منصرف إليه) ش: أي إلى ما يجزئ من الأضحية، وذلك في هدي القربان؛ لأن الهدي الصدقة، فإن هدي الصدقة قد يقع على الثوب، كما في قوله: إن فعلت كذا فثوبي هدي، ولكن لا يقع في هدي الصدقة على الثوب، إلا إذا كان أشار بأن قال: ثوبي أو هذا الثوب، فلو قال: إن فعلت كذا فعلي هدي بلا إشارة يقع على شاة؛ لأن الهدي يقع على الإبل، والبقر، والغنم، والشاة أدناه، كذا في " المبسوط "، و" الأسرار ".
م: (وقال محمد والشافعي - رحمهما الله: يجزي صغار النعم فيها) . ش: أي في أضحية الهدي. م: (لأن الصحابة أوجبوا عناقا وجفرة) ش: يعني حكموا في الأرنب بعناق، وفي اليربوع بجفرة، وكلام صاحب " الهداية "، هذا يدل على أن الخلاف في هذه المسألة بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبين محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأن أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكر في " المبسوط "، و" الأسرار "، و" شرح الجامع الصغير " لفخر الإسلام قاضي خان، وغيرهما قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ} [الأنعام: 146] ؛ فإنه تصدق على الصغير والكبير، والعناق فيهدي ويضحي تبعًا لأمه، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن إراقة الدم ليست بقربة إلا في زمن مخصوص، ومكان مخصوص، وإن لم يوجد شروط كونها قربة لا يكون قربة فلم يكن نسكًا في مقابلة الجناية على الإحرام أو الحرم.
م: (وعند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -: يجوز الصغار على وجه الإطعام، يعني إذا تصدق) ش: يعني إذا تصدق به دون إراقة الدم. م: (وإذا وقع الاختيار) ش: أي اختيار القاتل. م: (على الطعام يقوم المتلف بالطعام عندنا) ش: قال الكاكي: المراد به بقوله: عندنا أبو حنيفة، وأبو يوسف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو قول مالك، فإن عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - المعتبر فيه النظير بناء على أصلهما أن الواجب هو النظير، وقال الأترازي: المراد بقوله: عندنا احترازًا عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لا عن قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ألا ترى إلى ما قال في " شرح مختصر الكرخي " - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله: قال أصحابنا: إن الإطعام بدل عن(4/387)
لأنه هو المضمون، فيعتبر قيمته. وإذا اشترى بالقيمة طعاما تصدق على كل مسكين نصف صاع من بر، أو صاعا من تمر. أو شعير، ولا يجوز أن يطعم المسكين أقل من نصف صاع؛ لأن الطعام المذكور ينصرف إلى الطعام المعهود في الشرع.
وإن اختار الصيام يقوم المقتول طعاما ثم يصوم عن كل نصف صاع من بر، أو صاع من تمر، أو شعير يوما؛ لأن تقدير الصيام بالمقتول غير ممكن؛ إذ لا قيمة للصيام فقدرناه بالطعام، والتقدير على هذا الوجه معهود في الشرع كما في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصيد.
وقال الشافعي: يدل على النظير، وقال في " الإيضاح ": والإطعام بدل عن الصيد بقول الصيد بالطعام، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو بدل عن النظير، تجب شاة، وتقوم الشاة بالطعام، وقال في " شرح الأقطع ": قال أصحابنا: إذا اختار الإطعام أخرج بقيمة المقتول، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بقيمة النظير، وهنا المضمون هو الصيد المقتول، فيعتبر بقيمته لا قيمة نظيره، انتهى.
قلت: اعتمد الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هنا على قول الشيخ الإمام حميد الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرحه " المراد من قوله: عندنا، وعند أبي حنيفة، وأبي يوسف - رحمهما الله -، بناء على أن الجزاء يجب عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - باعتبار الصورة، وعندهما باعتبار المعنى.
م: (لأنه) ش: أي لأن الصيد. م: (هو المضمون، فيعتبر قيمته) ش: وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقوم النظير؛ لأنه حوله إلى الطعام باختياره، فيعتبر قيمة الواجب وهو النظير، وعند الواجب الأصلي قيمة الصيد، فلا يعتبر بتحويله إلى الطعام، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن لم يخرج المثل إلى المثل قوم الصيد إلى المثل؛ لأنه هو الأصل، وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يخرج الطعام وإنما التقويم بالطعام بمعرفة قدره فصيام. م: (وإذا اشترى بالقيمة طعاما تصدق على كل مسكين نصف صاع من بر، أو صاعا من تمر. أو شعير، ولا يجوز أن يطعم المسكين أقل من نصف صاع) ش: أي من بر أو صاع من شعير. م: (لأن الطعام المذكور ينصرف إلى الطعام المعهود في الشرع) ش: وهو نصف صاع من بر، أو صاع من شعير كما في صدقة الفطر، وكفارة اليمين، والظهار، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يتصدق على كل مسكين مدًا منه، وتقدير الطعام عنده بالمد، وعندنا بالصاع، ومذهبهم مروي عن ابن عباس، ومجاهد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ومذهبنا مروي عن ابن عباس، ومجاهد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أيضًا، وإبراهيم، وعطاء، ومقسم، وقتادة.
م: (وإن اختار الصيام يقوم المقتول طعاما ثم يصوم عن كل نصف صاع من بر، أو صاع من تمر، أو شعير يوما؛ لأن تقدير الصيام بالمقتول غير ممكن؛ إذ لا قيمة للصيام فقدرناه بالطعام، والتقدير على هذا الوجه معهود في الشرع) ش: أي تقدير صيام يوم بنصف صاع من بر معهود في الشرع. م: (كما في(4/388)
باب الفدية فإن فضل من الطعام أقل من نصف صاع فهو مخير إن شاء تصدق به، وإن شاء صام عنه يوما كاملا؛ لأن الصوم أقل من يوم غير مشروع، وكذلك إن كان الواجب دون طعام مسكين يطعم قدر الواجب أو يصوم يوما كاملا لما قلنا. ولو جرح صيدا أو نتف شعره أو قطع عضوا منه ضمن ما نقصه اعتبارا للبعض بالكل، كما في حقوق العباد. ولو نتف ريش طائر أو قطع قوائم صيد فخرج من حيز الامتناع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
باب الفدية) ش: فإن الشيخ الفاني يفدي عن صوم كل يوم بنصف صاع من بر.
م: (فإن فضل من الطعام أقل من نصف صاع فهو مخير إن شاء تصدق به، وإن شاء صام عنه يوما كاملا؛ لأن الصوم أقل من يوم غير مشروع) ش: وهذا عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (وكذلك إن كان الواجب دون طعام مسكين) ش: يعني إن كان الواجب في الأصل دون طعام مسكين، بأن كانت قيمة المقتول أقل منه بأن كان قتل يربوعًا أو عصفورًا، ولم تبلغ قيمة إلا مدًا من الحنطة. م: (يطعم قدر الواجب أو يصوم يوما كاملا لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله: لأن الصوم أقل من نصف يوم غير مشروع. م: (ولو جرح) ش: أي المحرم. م: (صيدا أو نتف شعره أو قطع عضوا منه ضمن ما نقصه) ش: يقال بعض الشيء نقصان، ونقصه غيره نقصًا. م: (اعتبارا للبعض بالكل) ش: أي قياسًا لضمان البعض على ضمان الكل، ألا ترى أن من أتلف عضوًا من دابة إنسان يضمن كما إذا أتلف كلها، وفي " المبسوط ": جرح صيدًا، أو نتف شعره، أو ريشه، أو قلع سنه فنبت كما كان، ونبت سنه مكانها، فلا شيء عليه عندهما، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يلزمه صدقة الإثم، وإن غاب الصيد ولم يعلم هل مات أو برئ يضمن النقصان، وعند الأسبيجابي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يلزمه جميع القيمة احتياطًا كمن أخذ صيدًا من الحرم ثم أرسله، ولم يعلم دخوله في الحرم، وفي " الخزانة ": لو قطع المحرم يد الصيد، ثم قطع الآخر رجله فعلى الأول ما نقصه جرحه من قيمته، وبه جرح الأول. وقالت المالكية - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: جرح صيدًا أو اندمل لا شيء عليه.
وقال أشهب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمن النقص وهو قول الشافعي، وأحمد - رحمهما الله: ولو خلص حمامة من سنور، أو سبع، أو شبكة، أو أخذ الصيد فتخلص خيط من رجله فقطعت فلا شيء عليه عند الجمهور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وقال قتادة: يضمن، وفي " المبسوط ": نفر الصيد منه بغير صنعه، فانكسر رجله فلا شيء عليه، ولو نفر تنفيره فوقع في بئر أو صدم على شيء فعليه الجزاء، وكذا لو كان راكبًا أو سائقا أو قائدًا فأتلفت الدابة بيدها أو رجلها أو فيها صيدًا فعليه الجزاء، وكذا لو نفذ السهم منه فقتله آخر يجب عليه جزاؤها، ولو تعلق بطنب فسطاط المحرم، أو حفر بئرًا للماء، أو تنورًا للخبز فعقب فيهما فلا شيء عليه.
م: (كما في حقوق العباد) ش: حيث يعتبر ضمان البعض بضمان الكل. م: (ولو نتف ريش طائر أو قطع قوائم صيد فخرج من حيز الامتناع) ش: فقد يكون بالطيران، وقد يكون بالعدو وقد يكون(4/389)
فعليه قيمته كاملة؛ لأنه فوت عليه الأمن بتفويت آلة الامتناع فيغرم جزاءه.
ومن كسر بيض نعامة فعليه قيمته، وهذا مروي عن علي، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولأنه أصل الصيد، وله عرضية أن يصير صيدا، فنزل منزلة الصيد احتياطا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بدخوله في حجره والحيز أصله الحيوز، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، فصار حيزًا، والحيز الجانب، ومنه حيز الدراهم، وهو ما انضم إليها من جوانبها. م: (فعليه قيمته كاملة؛ لأنه فوت عليه الأمن بتفويت آلة الامتناع فيغرم جزاءه) ش: كما إذا قطع قوائم فرس لآدمي؛ لأن الصيد هو الممتنع المتوحش بأصل الخلقة، ولم يبق بعد نتف ريشه، وقطع قوائمه، كونه ممتنعًا إذا كان بحيث لا يقدر أحد على التصرف، والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أصح قوليه معنًا، وعن ابن شريح من أصحابه أنه يجب عليه قدر النقصان؛ لأنه لم يهلكه بالكلية.
م: (ومن كسر بيض نعامة فعليه قيمته) ش: أي قيمة البيض، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وداود - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجب فيه شيء لأنه لم يكن صيدًا حقيقة، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تضمينه بعشر قيمة الطير الناقص تشبيهًا بجنين الأمة، كذا في " تتمتهم "، وفي " مبسوط " شيخ الإسلام الأسبيجابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كانت البيضة صحيحة غير مذرة يضمن عشر قيمة ما يخرج منه، وهو أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما في جنين الميت يلزمه عشر قيمة الأم. وقال ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عليه درهم. م: (وهذا مروي) ش: أي هذا الذي ذكرنا مروي. م: (عن علي، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) .
ش: أما حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فغريب يعني لا أصل له، وأما حديث عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فرواه عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه " حدثنا سفيان الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عبد الكريم الحروي، عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: في كل بيضتين درهم، وفي كل بيضة نصف درهم، قال: وحدثنا وكيع، وابن نمير عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في بيض النعامة قيمته، وهذا منقطع؛ لأن إبراهيم النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لم يدرك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن بيض النعامة. م: (أصل الصيد، وله عرضية أن يصير صيدا) ش: قوله: وله أي للبيض على أن يصير صيدًا، فصار كالصيد. م: (فنزل منزلة الصيد احتياطا) ش: أي لأجل الاحتياط لئلا يأثم على تقدير كونه صيدًا، والاحتياط في اللغة الحفظ، وفي الاصطلاح: حفظ النفس عن الوقوع في المأثم، وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الموطأ ": أرى في بيض النعامة عشر البدنة، وفي " النعمانية ": وجوب القيمة في بيض النعامة قول عمر بن الخطاب، وعبد الله(4/390)
ما لم يفسد.
فإن خرج من البيض فرخ ميت فعليه قيمته حيا، وهذا استحسان، والقياس أن لا يغرم سوى البيضة؛ لأن حياة الفرخ غير معلومة. وجه الاستحسان أن البيض معد؛ ليخرج منه الفرخ الحي، والكسر قبل أوانه سبب لموته فيحال به عليه احتياطا، وعلى هذا إذا ضرب بطن ظبية فألقت جنينا ميتا وماتت فعليه قيمتهما. وليس في قتل الغراب، والحدأة، والذئب، والحية، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور جزاء؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن مسعود، وابن عباس، والشعبي، والنخعي، والزهري، والشافعي، وأحمد، وأبي ثور، قال أبو عبيدة، وأبو موسى الأشعري: يجب صوم يوم، أو طعام مسكين. وقال الحسن البصري: فيه جنين من الإبل، وقال مالك: فيه عشر البدنة، وقال السروجي: وتجب القيمة في بيض جميع الطيور. م: (ما لم يفسد) ش: أي بيض النعامة، إنما يجب ما لم يكن مذرًا؛ لأن المذرة لا شيء فيها.
م: (فإن خرج من البيض فرخ ميت فعليه قيمته حيا) ش: أي قيمة الفرخ، ولو كان حيًا، وبه صرح في " المبسوط "، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا شيء فيه، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا إذا لم يعلم أن موته بالكسر أم لا، ولو علم أنه كان ميتًا بغير الكسر لا شيء عليه. م: (وهذا استحسان) ش: أي وجوب القيمة استحسان، ووجهه يأتي الآن. م: (والقياس أن لا يغرم سوى البيضة؛ لأن حياة الفرخ غير معلومة. وجه الاستحسان أن البيض معد؛ ليخرج منه الفرخ الحي، والكسر قبل أوانه سبب لموته فيحال به عليه) ش: أي يضاف بالموت على الكسر، والباء صلة واصلة بحال الموت على الكسر. م: (احتياطا) ش: فعليه قيمته.
م: (وعلى هذا) ش: أي على القياس، والاستحسان. م: (إذا ضرب بطن ظبية فألقت جنينا ميتا وماتت فعليه قيمتهما) ش: أي قيمة الظبية وجنينها، ففي القياس: لا يغرم، وفي الاستحسان: يغرم، وعند الشافعي في الأم: المثل، وفي الجنين: ما ينقض من قيمتها بالوضع، وينبغي أن لا يجب قيمة الجنين كما لو ضرب بطن جارية فأسقطت جنينًا ميتًا، ثم ماتت هي كان عليه قيمة الجارية أو دية الحرة لا ضمان الجنين، فكيف وجبت هنا قيمة الجنين.
أجيب: بأن الجنين في حكم الجزء من وجه، وفي حكم النفس من وجه فالضمان الواجب في حق العباد غير مبني على الاحتياط، فلا يجب في موضع النسك، وأما جزاء الصيد فمبني على الاحتياط فيرجع فيه شبهة النفس في الجنين ووجوب الجزاء.
م: (وليس في قتل الغراب، والحدأة، والذئب، والحية، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور جزاء) ش: ذكر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أول هذا الفصل حيث قال: فاستثنى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخمس الفواسق، وعدها ستًا، وأعادها هاهنا مع زيادة الفأرة، فصارت سبعة، وذكرنا الكلام في المستقصى، قلت: الذئب هناك وهاهنا. وقال الأترازي: أما الذئب فلم يذكر في الروايات(4/391)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم: الحدأة، والحية، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقتل المحرم الفأرة، والغراب، والحدأة، والعقرب، والحية، والكلب العقور» وقد ذكر الذئب في بعض الروايات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصحيحة في كتب الأحاديث، ولهذا لم يبح قتله ابتداء على رواية الطحاوي، وعلى رواية الكرخي يباح قتله، ثم قال: محصله أن الذئب لا يباح قتله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر الخمس ما هن، فذكر الخمس يدل على أن غير الخمس حكمه غير حكمها، وإلا لم يكن لذكر الخمس معنى، انتهى.
قلت: ذكر العدد المعين لا ينافي ما زاد عليه، وكل واحد من المزيد والمزيد عليه، معنى باعتبار حال يقتضي ذلك، وقد ذكرنا هناك من روى الذئب من أهل الحديث، وذكرنا ما قالوا فيه، وقال: ذكر المصنف في أول هذا الفصل الستة على رواية أو الدلالة.
قلت: كان هذا جواب عن سؤال مقدر، تقديره أن يقال: لم يذكر الذئب في الأحاديث التي أخرجها الشيخان وغيرهما، وليس فيها ذكر الذئب، فالمصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره زيادة عليهما، فأجاب إنما ذكره من حيث رواية جاءت فيه أو من حيث دلالة النص، فإن في الذئب ما في الكلب مع الزيادة.
وجاء في بعض الروايات أن الكلب العقور هو الذئب، وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره. وأما الفأرة ففيما رواه البخاري، ومسلم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم؛ الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور» وفي لفظ لمسلم: «الحية عوض عن العقرب» وفي لفظ لهما: «خمس من الدواب كلهن فواسق» . وفي لفظ لمسلم: «أربع كلهن فواسق يقتلن في الحل، والحرم: الحدأة، والغراب، والفأرة، والكلب العقور» انتهى، وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها لأذى الناس، وإفساد أموالهم.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: «خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم: الحدأة والحية، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور» ش: هذا الحديث روي بوجوه في " الصحاح " كما ذكرنا، والأقرب لما ذكر المصنف حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وليس فيه الحية وفيه العقرب. م: (وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يقتل المحرم الفأرة، والغراب، والحدأة، والعقرب، والحية، والكلب العقور» ش: هذا الحديث رواه البخاري، ومسلم، عن إحدى نسوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقتل المحرم: الكلب العقور، والفأرة، والعقرب، والحية، والغراب» وهذا كما ترى فيه تقديم وتأخير بين رواية المصنف، وبين رواية البخاري ومسلم.
م: (وقد ذكر الذئب في بعض الروايات) ش: قد ذكرنا في أول الفصل من رواه وما حاله(4/392)
وقيل: المراد بالكلب العقور الذئب، أو يقال إن الذئب في معناه، والمراد بالغراب الذي يأكل الجيف ويخلط؛ لأنه يبتدئ بالأذى، أما العقعق فغير مستثنى؛ لأنه لا يسمى غرابا ولا يبتدئ بالأذى. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الكلب العقور وغير العقور، والمستأنس، والمتوحش، منهما سواء؛ لأن المعتبر في ذلك الجنس، وكذا الفأرة الأهلية والوحشية سواء. والضب واليربوع ليسا من الخمس المستثناة؛ لأنهما لا يبتدئان بالأذى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فليراجع هناك، وفي قوله: ذكر يجوز أن يكون على صيغة المعلوم، وأن يكون على صيغة المجهول، والثاني أقرب.
م: (وقيل: المراد بالكلب العقور الذئب) ش: قد مر الآن أثر روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الكلب العقور الذئب. م: (أو يقال: إن الذئب في معناه) ش: أي في معنى الكلب العقور، وأشار بالقول الأول إلى أن ذكر الذئب يثبت بالرواية وبالقول الكافي إلى أنه بدلالة النص.
م: (والمراد بالغراب) ش: أي المذكور في الحديث. م: (الذي يأكل الجيف) ش: جمع جيفة. م: (ويخلط) ش: أي يخلط الحب بالنجس يعني يأكل الحب تارة، ويأكل النجس أخرى، وقد ذكره المصنف في أول هذا الفصل، والمراد بالغراب: هو الذي يأكل الجيف هو المروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأعاده هنا، وزاد فيه لفظ: ويخلط، وقوله م: (لأنه يبتدئ بالأذى) ش: ويراد بهذا ما قاله الأكمل بأن هذا وقع تكرارًا، وكان هذا مستغنى عن ذكره، والمؤذي يقتل.
م: (أما العقعق فغير مستثنى؛ لأنه لا يسمى غرابا ولا يبتدئ بالأذى) ش: أما عدم تسميته غرابًا فمسلم، وأما عدم ابتدائه بالأذى ففيه نظر؛ لأنه دائمًا يقع على دبر الدابة، فينبغي أن لا يجب فيه الجزاء، انتهى. قلت: هذا عجيب منه؛ لأنه قال: أولًا لا يبتدئ بالأذى نظر. وقال الجوهري: العقعق طائر معروف وصوته العقعقة، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قيل في صوت العقعق سرور.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الكلب العقور وغير العقور، والمستأنس، والمتوحش منهما) ش: أي من الكلب العقور وغير العقور. م: (سواء؛ لأن المعتبر في ذلك الجنس) ش: يعني الحقيقة التي تسمى كلبًا الأفراد دون فرد، وجنسه ليس بصيد، ولهذا يجوز قتل جنسه فيستوي فيه الأهلي، والوحشي، والعقور، وغيره، قيل: فيه نظر لأنه نقص لإبطال الوصف المخصوص عليه وهو كونه عقورًا، وأجيب بأنه ليس للقيد بل لإظهار نوع إذائه، فإن ذلك طبع فيه.
م: (وكذا الفأرة الأهلية والوحشية سواء) ش: لإطلاق الحديث. م: (والضب واليربوع ليسا من الخمس المستثناة؛ لأنهما لا يبتدئان بالأذى) ش: يعني يجب في قتل كل منهما الجزاء لأنهما من الصيود؛ لأنهما يمتنعان وحشيان بأصل الخلقة، ولا يبتدئان بالأذى، بخلاف الفأرة فإنها مستثناة؛ ولأنه ينقب الغرائر ويسرق أموال الناس ويضرم عليهم بيوتهم، ويدخل المضائق،(4/393)
وليس في قتل البعوض والنمل والبراغيث والقراد شيء؛ لأنها ليست بصيود، وليست بمتولدة من البدن، ثم هي مؤذية بطباعها، والمراد بالنمل السوداء، أو الصفراء التي تؤذي، وما لا يؤذي لا يحل قتلها، ولكن لا يجب الجزاء للعلة الأولى.
ومن قتل قملة تصدق بما شاء مثل كف من طعام؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويفسد فسادًا كبيرًا، ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في السمود، والدلف الجزاء؛ لأنهما من الجنس الممتنع المتوحش الذي لا يبتدئ بالأذى.
[قتل المحرم للبعوض والنمل]
م: (وليس في قتل البعوض والنمل والبراغيث والقراد شيء؛ لأنها ليست بصيود) ش: لأنها ليست بمتوحشة عن الأذى، بل هي طالبة للأذى وليست هذه الأشياء من قضاء التفث، م: (وليست بمتولدة من البدن) ش: واحترز به عن القملة على ما يجيء، وذكر علتين، وإن كانا علتين؛ لأنه ذكر في موضع السلب، وفي موضع السلب يكون بعلل كثيرة بمعنى علة واحدة في أن الحكم ينتفي بالجميع كما ينتفي بانتفاء الواحدة. وفي " المحيط ": ليس في قتل القنافذ، والخنافس، والسلاحف، والوزغ، والذباب، والزنبور، والدلمة، وصياح الليل والصرصر وأم جنين، وابن عرس شيء لأنهما من هوام الأرض وحشراتها وليست بصيود، ولا متولدة من البدن، بخلاف القمل، ولم يوجب عمر، وعطاء، وأبو ثور، والشافعي، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فيها شيئًا، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجب الجزاء بقتل القنفذ.
م: (ثم هي) ش: أي البعوض وما ذكر معه. م: (مؤذية بطباعها) ش: فلا يجب الجزاء بقتلها. م: (والمراد بالنمل السوداء، أو الصفراء التي تؤذي) ش: أي مراد محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قوله: وليس في قتل البعوض والنمل إلى آخر ما ذكره في " الجامع الصغير "، ولفظه محرم قتل برغوثة أو بقة أو نملة فلا شيء عليه، ولم يذكر في الأصل البرغوث والبق. م: (وما لا يؤذي لا يحل قتلها) ش: أي النمل التي لا تؤذي لا يحل قلتها، يعني النملة، ولكن لا يحل قتلها، ومع هذا إذا قتلها المحرم. م: (ولكن لا يجب عليه الجزاء للعلة الأولى) ش: وهي أنها ليست بمتولدة من البدن، والعلة الثانية كونها مؤذية بطباعها.
م: (ومن قتل قملة تصدق بما شاء) ش: ذكر في " الجامع الصغير "، وإن قتل قملة أطعم شيئًا، وقال في الأصل: تصدق بشيء، ولفظ شيء يشمل القليل والكثير، وأوضحه المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله. م: (مثل كف من طعام) ش: وكذا ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرحه "، حيث قال: يتصدق بما شاء بكف من طعام، وقال الإمام الأسبيجابي في " شرح الطحاوي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولم يذكر في ظاهر الرواية مقدار الصدقة ثم قال: وذكر الحسن بن زياد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا قتل المحرم قملة، أو ألقاها أطعم كسرة، وإن كانت اثنتين، أو ثلاثة أطعم قبضة من الطعام، وإن كان أكثر أطعم نصف الصاع، ولو ألقاها على(4/394)
لأنها متولدة من التفث الذي على البدن، وفي " الجامع الصغير " أطعم شيئا، وهذا يدل على أنه يجزيه أن يطعم مسكينا شيئا يسيرا على سبيل الإباحة وإن لم يكن مشبعا.
ومن قتل جرادة تصدق بما شاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأرض تصدق بما شاء، ولو كانت ساقطة على الأرض فقتلها، فلا شيء عليه، كما في البرغوث.
وفي " الفتاوى ": محرم وضع ثيابه في الشمس ليقتل حر الشمس القمل فعليه الجزاء، ولو وضع في الشمس، ولم يقصد قتل القمل لا شيء عليه، كما لو فتل الثوب فمات القمل، انتهى. وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو كثر القمل على بدنه، أو ثيابه لم يكره تنحيته، ولو قتله لم يلزمه شيء، ويكره أن يفلي رأسه ولحيته، فإن فعل وأخرج منها قملة وقتلها يتصدق ولو بلقمة، لما فيه من إزالة الأذى عن الرأس، وكذا في " شرح الوجيز ".
وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أطعم شيئًا كثيرًا في قملة قتلها. وفي اثنتين وثلاث كف من طعام، وعن أبي يوسف في القملة كف من دقيق، كذا في " المحيط "، و" قاضي خان "، وفي " عيون المسائل ": ألقى قملة من رأسه أطعم كسرة خبز، وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يتصدق بكسرة، أو قطعة، أو قبضة من طعام، وعن مالك لا يقتله، ولا يطرحه من رأسه، فإن قتله فعليه حفنة من طعام، وقال أحمد: يطعم شيئا كما قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال إسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - تمرة فما فوقها، وقال النووي: يكفر إذا كثر، وعن عطاء، وقتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قبضة من طعام، وقال سعيد بن المسيب، وابن جبير، وطاوس، وأبو ثور: لا شيء فيها، وقال ابن المنذر: ليس لمن أوجب فيها شيئًا حجة، وللمحرم أن يعود لغيره، وهو قول عمر بن الخطاب، وابن عباس، وجابر بن زيد، وعطاء، والشافعي، وابن حنبل، وأكثر أهل العلم، وكرهه ابن عمر، ومالك. وفي " المنتقى ": قال الحلال: [من قال] : ارفع هذا القمل عني فعليه الكفارة، وفي " العيون ": ولو أشار المحرم إلى قملة فقتله المشار إليه يجب على المشير الجزاء، قال السروجي: في هذا بعد؛ لأن القمل ليس بمصيد حتى يجعل بالإشارة مزيلًا للأمن. م: (لأنها) ش: أي لأن القملة. م: (متولدة من التفث الذي على البدن) ش: أي من الوسخ والدرن أي على البدن من قلة الإزالة وعدم التنظيف. م: (وفي " الجامع الصغير " أطعم شيئا) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": إذا قتل قملة أطعم شيئًا من غير تعيين، وقال المنصف: م: (وهذا) ش: أي الذي ذكره في " الجامع الصغير ". م: (يدل على أنه يجزيه أن يطعم مسكينا شيئا يسيرا على سبيل الإباحة وإن لم يكن مشبعا) ش: ككسر خبز ونحوها.
م: (ومن قتل جرادة تصدق بما شاء) ش: قوله: بما يشمل القليل والكثير، وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.(4/395)
لأن الجراد من صيد البر، فإن صيد ما لا يمكن أخذه إلا بحيلة ويقصده الآخذ. وتمرة خير من جرادة؛ لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تمرة خير من جرادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي الجرادة: تمرة أيضًا أنه أمر في جرادات بقبضة من طعام، وعنه التمرة خير من جرادة، وعنه التمرتان أحب إلي من جرادتين، أخرجه سعيد بن منصور - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (لأن الجراد من صيد البر، فإن الصيد ما لا يمكن أخذه إلا بحيلة ويقصده الآخذ) ش: اختلف العلماء في الجراد، فروي أنه من صيد البحر.
وكذا ذكره الترمذي من حديث أبي المهزم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة، أو عمرة فاستقبلنا رجل من جراد، فجعلنا نضربه بأسيافنا أو عصينا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كلوه فإنه من صيد البحر» وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا حديث غريب، وأبو المهزم اسمه يزيد بن سفيان، وقد تكلم فيه شعبة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ورواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - من رواية حبيب المعلم عن أبي الهرم، وقال: المهزم ضعيف، والحديث وهم. قلت: وجه الوهم أن حماد بن سلمة رواه عن ميمون بن جابان عن أبي رافع عن كعب قوله: غير مرفوع، والرجل بكسر الراء، وسكون الجيم الجماعة الكثيرة من الجراد، ولا يقال ذلك إلا للجراد خاصة، وفي رواية الترمذي: وقع أسياطنا جمع سوط، والمشهور أسواط، والصحيح أنه من صيد البر، كما قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيجب الجزاء بقتله، قال شيخنا زين الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو قول عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وعطاء بن أبي رباح، وبه قال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي في قوله الصحيح المشهور، كما حكاه ابن العربي عن أكثر أهل العلم، وقال شيخنا: وفيه قول ثالث، وهو أنه من صيد البر والبحر، ورواه سعيد بن منصور في " سننه " عن هشيم عن منصور.
وعن الحسن قوله: م: (وتمرة خير من جرادة؛ لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تمرة خير من جرادة) ش: وقصة أن أهل حمص أصابوا جرادًا كثيرًا في إحرامهم، وجعلوا يتصدقون مكان كل جرادة بدرهم، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إن دراهمكم كثيرة يا أهل حمص، تمرة خير من جرادة، وروى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الموطأ " أخبرنا يحيى بن سعيد أن رجلًا سأل عمر - رضي الله(4/396)
ولا شيء عليه في قتل السلحفاة؛ لأنه من الهوام والحشرات، فأشبه الخنافس والوزغات، ويمكن أخذها من غير حيلة، وكذا لا يقصد بالأخذ فلم يكن صيدا،
ومن حلب صيد الحرم فعليه قيمته؛ لأن اللبن من أجزاء الصيد، فأشبه كله. ومن قتل ما لا يؤكل لحمه من الصيد كالسباع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه - عن جرادة قتلها وهو محرم، فقال عمر لكعب: يقال: حتى يحكم كعب بدرهم، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لكعب: إنك لتجد الدراهم، تمرة خير من جرادة.
م: (ولا شيء عليه) ش: أي على المحرم. م: (في قتل السلحفاة) ش: بضم السين وفتح اللام وسكون الحاء نوع من حيوان الماء معروف، وقد يكون في البر وجمعها سحالف، وسلاحف، قال الفراء: الذكر من السلاحف العلم والأنثى في لغة بني أسد السلحفاة، وحكى أبو عبيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن بعضهم سلحفة، مثل بالهبة لكنها أي جمع حرة، قال صاحب " الديوان ": هي صغار دواب الأرض. م: (لأنه من الهوام والحشرات، فأشبه الخنافس) ش: وهو جمع خنفساء بضم الفاء، وفي كتاب " الجمهور ": وصححها بالضم والفتح جميعًا، وهو دويبة سوداء منتنة الريح، وجاء في معناها الخنفس والخنفسة بفتح الفاء. م: (والوزغات) ش: جمع وزغة وهي المسماة أم أبرص. م: (ويمكن أخذها) ش: أي أخذ السلحفاة. م: (من غير حيلة، وكذا لا يقصد بالأخذ فلم يكن صيدا) ش: فلا يجب بقتلها الجزاء، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ومن حلب صيد الحرم فعليه قيمته؛ لأن اللبن من أجزاء الصيد) ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21] (المؤمنون: الآية 21) ، وكلمة من للتبعيض، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وقال الروياني - رَحِمَهُ اللَّهُ - من الشافعية والقاضي من الحنابلة: لا يضمنه، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن نقص الصيد ضمنه وإلا فلا. وقال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ونقله عنه غلط. وقال الكرماني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو حلب الصيد فعليه ما نقص بحلبه يرويه قوم به نقص الصيد عن ضمان اللبن. م: (فأشبه كله) ش: أي فأشبه لبنه كله؛ لأنه يتولد من عينه، وتناول الصيد حرام على المحرم، فكذا ما كان منه اعتبارًا للبعض بالكل.
م: (ومن قتل ما لا يؤكل لحمه من الصيد كالسباع) ش: هذا لفظ القدوري بعينه، وقال الإمام حميد الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - أراد بالسباع النمر والأسد والفهد. م: (ونحوها) ش: أراد به القرد والفيل، كذا قاله حميد الدين.
وقال الأترازي فيه؛ لأن السبع اسم لكل مختطف ينتهب قاتل عادي عادة، انتهى.
قلت: في نظره نظر؛ لأن الوصف الذي وصف به السبع، وقال عادة لا يوجد في القرد والفيل عادة، ثم قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويجوز أن يريد بقوله ونحوها أي ونحو السباع ما(4/397)
ونحوها، فعليه الجزاء، إلا ما استثناه الشرع، وهو ما عددناه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجب الجزاء؛ لأنها جبلت على الإيذاء، فدخلت في الفواسق المستثناة، وكذا اسم الكلب يتناول السباع بأسرها لغة. ولنا أن السبع صيد لتوحشه، وكونه مقصودا بالأخذ إما لجلده، أو ليصطاد به، أو لدفع أذاه، والقياس على الفواسق ممتنع لما فيه من إبطال العدد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا يؤكل لحمه من السباع: كالطربان والسمور والدلف والفيل والثعلب، انتهى.
قلت: فيه تأمل لا يخفى، وقال الأكمل ونحوها، أي سباع الطير، وكذلك قاله الكاكي، وهو الأوجه، وقال السروجي: ولا فرق في ذلك بين سباع البهائم وسباع الطير.
م: (فعليه الجزاء، إلا ما استثناه الشرع، وهو ما عددناه) ش: يعني فيما مضى من الخمس الفواسق. م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجب الجزاء) ش: أي في السباع أصلًا، وبه قال أحمد، وقال مالك: السباع المبتدئة بالضرر من الطير والوحش كالفهد والذئب والغراب لا جزاء فيه وفي غيرها يجب.
وفي السروجي قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا شيء فيما لا يؤكل لحمه، ولا في المتولد مما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه كالسمع بكسر السين وسكون الميم، وهو المتولد بين الذئب والضبع. م: (لأنها) ش: أي لأن السباع. م: (جبلت) ش: أي خلقت. م: (على الإيذاء، فدخلت في الفواسق المستثناة) ش: لأنها خلقت مؤذية بطبعها، فكل ما كان في طبعها الإيذاء صار كالخمس الفواسق.
م: (وكذا اسم الكلب يتناول السباع بأسرها) ش: أي بجميعها. م: (لغة) ش: أي من حيث اللغة ألا ترى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين دعا على عتبة بن أبي لهب فقال: «اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك؛ فافترسه الأسد بدعائه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
م: (ولنا أن السبع صيد لتوحشه) ش: وبعده عن أعين الناس. م: (وكونه) ش: أي ولكونه. م: (مقصودا بالأخذ إما لجلده) ش: كما في الأسد والنمر. م: (أو ليصطاد به) ش: أي أو لأجل الاصطياد به كالفهد. م: (أو لدفع أذاه) ش: كما في الخنزير فيجب بقتله الجزاء. م: (والقياس على الفواسق ممتنع) .
ش: هذا جواب عن قياس الشافعي على الفواسق، تقديره أن يقال هذا القياس ممتنع ضعيف لوجود الفارق. م: (لما فيه) ش: أي في قياسه. م: (من إبطال العدد) ش: الذي نص عليه الشارع، ولا يجوز.
فإن قيل: أنتم أبطلتم عدد الخمس حيث ألحقتم بها غيرها.
قيل له: نحن ألحقنا بها ما هو في معناها، أما إلحاق السباع المضرة بقلة الإيذاء غير مستقيم،(4/398)
واسم الكلب لا يقع على السبع عرفا، والعرف أملك. ولا يجاوز بقيمته شاة، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تجب بالغة ما بلغت اعتبارا بمأكول اللحم منه. ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الضبع صيد وفيه الشاة؛» ولأن اعتبار قيمته لمكان الانتفاع بجلده، لا لأنه محارب مؤذ، ومن هذا الوجه لا يزداد على قيمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن إيذاء الفواسق يتعدى إلينا؛ لأنها تسكن بيوتنا، أما السباع فإيذاؤها لا يتعدى إلينا ولا يستكن في بيوتنا ولا في القرب منا، فلم يكن في معنى المنصوص، فلا يلحق بها.
م: (واسم الكلب لا يقع على السبع عرفا، والعرف أملك) ش: هذا جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وكذا اسم الكلب يتناول السباع لغة.
فأجاب عنه: بأنه لا يقع في عرف الناس بخلاف ما قال؛ لأنهم لا يفهمون من إطلاق اسم الكلب المعروف عندهم، والعرف أرجح وأقوى من الحقيقة اللغوية، ولهذا إذا حلف لا يأكل رأسًا فأكل رأس العصفور لا يحنث لعدم العرف فيه وإن كان رأسًا في الحقيقة. م: (ولا يجاوز بقيمته شاة) ش: أي لا يجاوز بقيمة السبع أو بقيمة ما لا يؤكل لحمه من السباع، ولا يجاوز على صيغة المجهول، وشاة بالرفع؛ لأنه أسنده إلى قوله " لا يجاوز " ويجوز النصب على أنه مفعول ثان، وأسند الفعل إلى الجار والمجرور، والمعنى لا يبلغ دمًا.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تجب) ش: أي قيمته. م: (بالغة ما بلغت اعتبارا بمأكول اللحم منه) ش: أي من الصيد، يعني كما إذا كان الصيد مأكول اللحم، وكما إذا كان السبع ملكًا لآدمي. م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: «الضبع صيد وفيه الشاة» ش: هذا غريب جدًا، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولنا ما روى أصحابنا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الضبع صيد، وفيه الشاة» .
قلت: هذا أغرب من الأول، ووجه الاستدلال به أنه لما ورد الشرع بتقدير الشاة، لا يزاد عليها؛ لأن المقادير لا اهتداء للرأي فيها.
م: (ولأن اعتبار قيمته لمكان الانتفاع بجلده) ش: إذ اللحم غير مأكول. م: (لا لأنه محارب مؤذ) ش: يعني اعتبار القيمة لا لأجل الجلد، معنى المحاربة كما في بعض السباع كالفيل يعلمه أهل الهند المحاربة بحيث يهزم العسكر، وهو معنى مطلوب للملوك والسلاطين، وذلك أمر خارج عن الصيدية، فلا يعتبر، ولا لمعنى الإيذاء، يعني لا يقوم له شرعًا، فينتفي اعتبار الجلد باعتبار اللحم على تقدير كونه مأكول اللحم، ولذلك لا يزيد على قيمة الشاة غالبًا؛ لأن لحم الشاة خير من لحم السبع والضبع. م: (ومن هذا الوجه) ش: أي الوجه الذي ذكره دليلًا عقليًا. م: (لا يزداد على قيمة الشاة ظاهرا) ش: أي بحيث ظاهر الحال.(4/399)
الشاة ظاهرا،
وإذا صال السبع على المحرم فقتله لا شيء عليه. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجب اعتبارا بالجمل الصائل. ولنا ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قتل سبعا وأهدى كبشا، وقال: إنا ابتدأناه؛ ولأن المحرم ممنوع عن التعرض لا عن دفع الأذى، ولهذا كان مأذونا في دفع المتوهم من الأذى كما في الفواسق فلأن يكون مأذونا في دفع المتحقق منه أولى، ومع وجود الإذن من الشارع لا يجب الجزاء حقا له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإذا صال) ش: أي وقت. م: السبع على المحرم فقتله فلا شيء عليه) ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وأكثر أهل العلم، وكذا الخلاف في غير السباع، إلا أنه ذكر السبع لما أنه الصياد فيه غالبًا، كذا في " المبسوط ". م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تجب قيمته اعتبارا بالجمل الصائل) ش: وفي " شرح الأقطع " قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عليه الضمان إلا في الذئب، وقاسه على الجلد إذا صال على إنسان فقتله إنسان لا تسقط قيمته وإن كان قتله دفعًا للأذى، فكذا هنا.
م: (ولنا ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قتل سبعا وأهدى كبشا، وقال: إنا ابتدأناه) ش: هذا غريب جدًا، وذكره في " المبسوط "، وجه الاستدلال به أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - علل لإهدائه بأصل نفسه، فعلم به أن المحرم إذا لم يبتدئ بقتله، بل قتله دفعًا لصولته لم يجب عليه شيء، وإلا لم يبق للتعليل فائدة، واعترض أن التخصيص بالذكر لا يدل على نفي الحكم على ما عداه فلا يصح الاستدلال.
وأجيب بأن ذلك في خطابات الشرع، وأما في الروايات.
قيل: فيه نظر؛ لأن قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في هذا المحل بمنزلة خطاب الشرع؛ لأنه في حيز الاستدلال به، فلا يفسده.
والجواب: أن الاستدلال إنما هو بفعل، وقوله رواية مسندة.
م: (ولأن المحرم ممنوع عن التعرض) ش: هذا الاستدلال بدليل حديث الفواسق، ووجهه أن المحرم ممنوع من جهة الشرع عن التعرض إلى الصيد. م: (لا عن دفع الأذى) ش: أي ليس ممنوعًا عن التعرض لأجل دفع أذاه. م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كون امتناعه عن التعرض لأجل أذاه. م: (كان مأذونا) ش: من الشرع. م: (في دفع المتوهم) ش: أي الأذى المتوهم. م: (من الأذى كما في الفواسق) ش: الخمس؛ لأنه لما جاز قتلهن لتوهم الأذى منهن. م: (فلأن يكون مأذونا في دفع المتحقق منه) ش: أي الأذى المتحقق، وهو الصيال. م: (أولى) ش: وأبلغ منه، ولهذا لو أمكنه دفعه بغير سلاح فقتله فعليه الجزاء، ذكره الطحاوي [....] ، فلما صار قتله مأذونًا بدلالة النص لا يكون قتله موجبًا للضمان. م: (ومع وجود الإذن من الشارع لا يجب الجزاء حقا له) ش: أي للشارع.(4/400)
بخلاف الجمل الصائل؛ لأنه لا إذن له من صاحب الحق، وهو العبد.
وإن اضطر المحرم إلى قتل صيد فقتله فعليه الجزاء؛ لأن الإذن مقيد بالكفارة بالنص على ما تلوناه من قبل
ولا بأس للمحرم أن يذبح الشاة، والبقرة والبعير، والدجاجة، والبط الأهلي؛ لأن هذه الأشياء ليست بصيود؛ لعدم التوحش، والمراد بالبط الذي يكون في المساكن، والحياض؛ لأنه ألوف بأصل الخلقة. ولو ذبح حماما مسرولا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بخلاف الجمل الصائل؛ لأنه لا إذن له) ش: موجود. م: (من صاحب الحق، وهو العبد) ش: على أنه روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجب فيه الضمان أيضًا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا يلزم العبد إذا صال بالصيف فقتله المصول عليه، حيث لا يضمن مع أنه لم يوجد الإذن من مالكه كان العبد مضمونًا في الأصل؛ لأنه آدمي مكلف كالحر حقًا له لا حقًا للمولى، لكونه مكلف كمولاه، فإذا جاء المبيح من قبله وهو المحاربة سقط حقه، كما إذا ارتد، وسقوط البتة التي هي ملك المولى إنما كان في ضمن سقوط الأصل، وهو نفسه، فلا يعتبر به، كما إذا ارتد.
م: (وإن اضطر المحرم إلى قتل صيد) ش: أي إن اضطر إلى أكل لحم الصيد، وبه صرح في بعض نسخ " مختصر القدوري ". م: (فقتله فعليه الجزاء؛ لأن الإذن) ش: من الشارع. م: (مقيد بالكفارة بالنص) ش: كما في الحلق، وهو قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] (البقرة: الآية 196) .
وجه الاستدلال بها أن الحلق محظور الإحرام، وقد أذن له الشارع فيه حال الضرورة مقيدًا بالكفارة، وكذا قتل الصيد محظور الإحرام، فيباح لأجل الضرورة مقيدًا بالكفارة، ولا يسقط عنه ما يتعلق به من الكفارة. م: (على ما تلوناه من قبل) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ولو وجد المحرم صيدًا وميتة يأكل الميتة، وبه قال مالك وأحمد والثوري - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وقال أبو يوسف والشعبي - رحمهما الله - يأكل الصيد ويؤدي الجزاء. وفي " الذخيرة " جعل الأقوى رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفي " الخزانة " عن ابن سماعة الغصب أولى من الميتة، واختاره الطحاوي. وعند الكرخي يخير.
م: (ولا بأس للمحرم أن يذبح الشاة، والبقرة والبعير، والدجاجة، والبط الأهلي) ش: وفي بعض نسخ القدوري البط الكسكري، وهو المنسوب إلى كسكر، ناحية من نواحي بغداد، والمراد الأهلي. م: (لأن هذه الأشياء ليست بصيود؛ لعدم التوحش) ش: لأنها مختلطة بالناس بمرأى أعينهم. م: (والمراد بالبط الذي يكون في المساكن، والحياض؛ لأنه ألوف) ش: مستأنس. م: (بأصل الخلقة) ش: وأما البط الذي يطير فإنه جنس آخر لا يجوز للمحرم ذبحه؛ لأنه من جملة الصيود.
م: (ولو ذبح حماما مسرولا) ش: بفتح الواو، وهو ما في رجله ريش، من سرولته إذا ألبسته(4/401)
فعليه الجزاء، خلافا لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. له أنه ألوف مستأنس، ولا يمتنع بجناحيه لبطء نهوضه، ونحن نقول: الحمام متوحش بأصل الخلقة ممتنع بطيرانه، وإن كان بطيء النهوض، والاستئناس عارض فلم يعتبر، وكذا إذا قتل ظبيا مستأنسا؛ لأنه صيد في الأصل فلا يبطله الاستئناس كالبعير إذا ند لا يأخذ حكم الصيد في الحرمة على المحرم.
وإذا ذبح المحرم صيدا فذبيحته ميتة لا يحل أكلها. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحل ما ذبحه المحرم لغيره؛ لأنه عامل له فانتقل فعله إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سرويل فتسرول. م: (فعليه الجزاء) ش: وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -. م: (خلافا لمالك له) ش: أي لمالك. م: (أنه ألوف مستأنس، ولا يمتنع بجناحيه لبطء نهوضه) ش: فخرج عن حد الصيد.
م: (ونحن نقول: الحمام متوحش بأصل الخلقة ممتنع بطيرانه، وإن كان بطيء النهوض، والاستئناس عارض فلم يعتبر) ش: كالظبي وحمار الوحش.
فإن قلت: البراءة لا يحل بذكاة الاضطرار حتى لو رمى سهما إلى برج حمام لا يحل، ولو كان صيدًا حل بذكاة الاضطرار.
قلت: من الأصحاب من قال: يحل بذكاة الاضطرار، ذكره في " المحيط " فذكاة الاضطرار متعلقة بالعجز لا بكونه صيدًا، ألا ترى أن الثوري لو ند فلم يقدر عليه ذكي بذكاة، إلا وهو ليس بصيد.
م: (وكذا إذا قتل ظبيا مستأنسا) ش: أي وكذا يجب الجزاء إذا قتل ظبيًا مستأنسًا في البيوت. م: (لأنه صيد في الأصل فلا يبطله الاستئناس) ش: لأنه عارض. م: (كالبعير إذا ند) ش: أي إذا نفر، ند يند ندودًا، من باب ضرب يضرب. م: (لا يأخذ حكم الصيد في الحرمة على المحرم) ش: لأنه بالندود لا يخرج عن حكمه أهليًا.
م: (وإذا ذبح المحرم صيدا فذبيحته ميتة لا يحل أكلها. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحل ما ذبحه المحرم لغيره؛ لأنه عامل له) ش: أي لأن المحرم عامل لغيره. م: (فانتقل فعله إليه) ش: وهذا التعليل يشير إلى أن اللام في " لغيره " تتعلق بقوله " ذبحه " وهكذا ذكره أيضًا في " الإيضاح " لا لقوله " يحل " ولكن ما ذكره في " المبسوط " يدل على أنه حلال لغيره، وسواء ذبحه لأجل غيره أو لأجل نفسه، وفي تتمتهم ما يدل على هذا، قال: ما ذبحه المحرم ميتة فأكله حرام عليه، وهل هو ميتة في حق غيره، فعنه قولان في الجديد يكون ميتة، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأن ذبحه لا يفيد الحل كذبح المرتد، وفي القديم: يحل لغيره، وفي " السروجي " في " شرح المذهب " للنووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذبيحة المحرم عليه بلا خلاف، وفي تحريمه على غيره قولان الجديد تحريمه وهو الأصح عند أكثرهم، وفي القديم حله وصححه كثير منهم.(4/402)
ولنا: أن الذكاة فعل مشروع، وهذا فعل حرام، فلا يكون ذكاة كذبيحة المجوسي؛ وهذا لأن المشروع هو الذي قام مقام المميز بين الدم واللحم تيسيرا، فينعدم بانعدامه. فإن أكل المحرم الذابح من ذلك شيئا فعليه قيمة ما أكل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: ليس عليه جزاء ما أكل، وإن أكل منه محرم آخر فلا شيء عليه في قولهم جميعا. لهما أن هذه ميتة فلا يلزمه بأكلها إلا الاستغفار، وصار كما إذا أكله محرم غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا: أن الذكاة فعل مشروع، وهذا فعل حرام، فلا يكون ذكاة كذبيحة المجوسي) ش: فإن قلت: يشكل على هذا ذبح الغير بغير أمره، فإنه حرام، ومع ذلك يحل تناولها.
قلت: النهي في معنى عين الذبح ولم يصر المذبوح حرامًا لعينه، بل لصيانة حق الغير، ولهذا يحل ذبحه بإذن المالك، فكان الذبح مشروعًا في نفسه، أما هاهنا نفس الفعل حرام لعينه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} [المائدة: 95] (المائدة: الآية 95) ، فقد وصف الصيد بالحرمة فدل على خروج المحل عن قبول الفعل الحلال.
م: (وهذا) ش: أي كون ذبح المحرم حرامًا. م: (لأن المشروع) ش: أي الذبح المشروع. م: (هو الذي قام مقام المميز بين الدم واللحم تيسيرا) ش: لأن الذبح لا يتبين بخروج كل الدم النجس لغير الخبيث من الطيب؛ لأن الميتة حرام باعتبار الدم المسفوح باللحم؛ لأن الشرع أقام الذبح مقامه تيسيرًا، ولهذا لو ذبح ولم يسل الدم يحل أكله، ولو ذبح المجوسي وسال الدم لم يحل أكله، فينتفي ما لم يكن مشروعًا على أصل القياس. م: (فينعدم) ش: أي الميزان والحل. م: (بانعدامه) ش: أي بانعدام الفعل المشروع، وهو الذكاة؛ لأن الانعدام لعدم المحلية كالانعدام بعدم الأهلية كما في المجوسي. م: (فإن أكل المحرم الذابح من ذلك) ش: أي من الذي ذبحه. م: (شيئا فعليه قيمة ما أكل عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) ش: هذا الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه فيما إذا أكل من الصيد بعدما أدى جزاءه، فعنده يجب ما أكل، وعندهما لا يجب عليه إلا الاستغفار، أما إذا أكل قبل أداء الجزاء دخل ما إذا أكل في ضمان الجزاء بالإجماع، وبه صرح في " المختلف "، وقول الشافعي مثل قولهما، كذا في " الإيضاح "، وقال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أما إذا أكل من المذبوح قبل أداء الجزاء فلا رواية في هذه المسألة، ويجوز أن يقال: يجب فيه الجزاء مضافًا إلى القتل، ويجوز أنهما متداخلان.
م: (وقالا: ليس عليه جزاء ما أكل) ش: وبه قال الشافعي عنه، ومالك، وأحمد، وأكثر أهل العلم. م: (وإن أكل منه محرم آخر فلا شيء عليه في قولهم جميعا) ش: أي لا شيء عليه من قيمة ما أكل بلا خلاف كالحلال إذا قتل صيد الحرم فأكل منه. م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -. م: (أن هذه) ش: أي ذبيحة المحرم. م: (ميتة فلا يلزمه بأكلها إلا الاستغفار) ش: والتوبة لأنه معصية. م: (وصار كما إذا أكله محرم غيره) ش: أي غير الذابح أو أكله حلال.(4/403)
ولأبي حنيفة أن حرمته باعتبار كونه ميتة كما ذكرنا، وباعتبار أنه محظور إحرامه؛ لأن إحرامه هو الذي أخرج الصيد عن المحلية والذابح عن الأهلية في حق الذكاة، فصارت حرمة التناول بهذه الوسائط مضافة إلى إحرامه بخلاف محرم آخر؛ لأن تناوله ليس من محظورات إحرامه.
ولا بأس بأن يأكل المحرم لحم صيد اصطاده حلال، وذبحه إذا لم يدل المحرم عليه، ولا أمره بصيده، خلافا لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا اصطاده؛ لأجل المحرم. له قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا بأس بأكل المحرم لحم صيد ما لم يصده، أو يصاد له» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأبي حنيفة أن حرمته) ش: أي حرمة التناول للآكل المحرم الذابح. م: (باعتبار كونه) ش: أي باعتبار كون المذبوح. م: (ميتة كما ذكرنا) ش: من أن المذبوح ميتة. م: (وباعتبار أنه محظور إحرامه) ش: أي أن المذبوح إحرامه. م: (لأن إحرامه هو الذي أخرج الصيد عن المحلية) ش: أي كونه ممنوعًا اصطياده. م: (والذابح) ش: أي وإخراج الذابح. م: (عن الأهلية في حق الذكاة فصارت حرمة التناول بهذه الوسائط) ش: وهي كونه ميتة، والأصل والأكل من محظورات إحرامه وخروج الصيد عن المحلية والذابح عن الأهلية. م: (مضافة إلى إحرامه) ش: أي إلى إحرام الذابح، فوجب بتناوله الجزاء. م: (بخلاف محرم آخر؛ لأن تناوله ليس من محظورات إحرامه) ش: لأنه لم يضف إلى إحرامه.
م: (ولا بأس بأن يأكل المحرم لحم صيد اصطاده حلال، وذبحه إذا لم يدل المحرم عليه) ش: أي على اصطياده. م: (ولا أمره بصيده، خلافا لمالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما إذا اصطاده؛ لأجل المحرم) ش: فإن عنده لا يجوز له أكل ما اصطاده الحلال لأجل المحرم، وإن لم يكن بإذن المحرم، وقال في " الموطأ ": إذا أكل المحرم من ذلك الصيد الذي صيد لأجله يجب عليه جزاء الصيد كله، وبه قال الشافعي، وأحمد، وأبو ثور.
م: (له) ش: أي لمالك. م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: «لا بأس بأن يأكل المحرم لحم الصيد ما لم يصده أو يصاد له» ش: هذا الحديث رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، ولكن لفظه عندهم «صيد البر لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه، أو يصاد لكم» أخرجوه عن يعقوب بن عبد الرحمن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: صيد البر ... » الحديث، قال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المطلب بن عبد الله بن حنطب لا نعرف له سماعًا من جابر، وقال النسائي: عمرو بن أبي عمرو ليس بالقوي في الحديث، وإن كان قد روى عنه مالك.(4/404)
ولنا ما روي أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تذاكروا لحم الصيد في حق المحرم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لا بأس به "، واللام فيما روي لام تمليك فيحمل على أن يهدى إليه الصيد دون اللحم، أو معناه أن يصاد بأمره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال صاحب " التنقيح ": عمرو بن أبي عمرو تكلم فيه بعض الأئمة، لكن روى عنه مالك، وأخرج له البخاري ومسلم في " صحيحهما ": والمطلب بن عبد الله ثقة، إلا أنه لم يسمع من جابر فيما قيل، والعجب من الأترازي أنه ذكر هذا الحديث في معرض الاستدلال لمالك، ولم يذكر أن لفظه ما ذكره المصنف يخالف ما ذكره أصحاب السنن في صدر الحديث. وأعجب منه أنه قال له قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «صيد البر لكم حلال ... » الحديث، ثم قال: رواه الترمذي، وصاحب السنن، ولم ينبه على صاحب السنن من هو، والترمذي أيضًا صاحب السنن.
م: (ولنا ما روي أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تذاكروا لحم الصيد في حق المحرم، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا بأس به» ش: هذا رواه محمد بن الحسن الشيباني في كتاب " الآثار ": أخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن محمد بن المنكدر، عن عثمان بن محمد، عن طلحة بن عبيد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قال: تذاكرنا لحم الصيد بأكلها لمحرم، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نائم فارتفعت أصواتنا فاستيقظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " فيما تتنازعوا؟ " فقلنا: في لحم الصيد يأكلها المحرم، فأمرنا بأكله ... » انتهى. وهو يخالف لفظ ما ذكره المصنف، فإن قوله: لا بأس به، يخالف قوله فأمرنا من حيث اللفظ، وإن كانا في الحقيقة بمعنى واحد، على أن الفرق بين اللفظين ظاهر من حيث الظاهر على ما لا يخفى.
م: (واللام فيما روي لام تمليك) ش: هذا جواب عن الحديث الذي رواه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأراد باللام في قوله: أو يصيد له، فزعم المصنف أنه لام تمليك. م: (فيحمل على أن يهدى إليه الصيد دون اللحم) ش: لأن تمليك الصيد إنما يتحقق فيما أهداه إلى المحرم لا فيما أهدي إليه اللحم؛ لأن اللحم يسمى صيدًا حقيقة، فاقتضى الحديث حرمة تناول الصيد على المحرم، وبه نقول لإحرامه أكل لحمه إذا لم يكن بإذنه. م: (أو معناه أن يصاد بأمره) ش: أي أو أن يكون بمعنى أو يصيد له بأمره، فحينئذ يحرم.
واعلم أن هذا الحديث روي بالرفع أيضًا، أو يصاد له كما رواه أصحاب " السنن " على ما ذكرناه الآن فحينئذ لا تمسك لمالك بهذه الرواية لا يقتضي الحل إذا صاده غيره لأجله؛ لأنه صار معطوفًا على المعنى لا على الغاية، ومع هذا فهذا الحديث ضعيف ضعفه يحيى بن معين، والنسائي، والترمذي.(4/405)
ثم شرط عدم الدلالة، وهذا تنصيص على أن الدلالة محرمة، قالوا: فيه روايتان. ووجه الحرمة حديث أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد ذكرناه. وفي صيد الحرم إذا ذبحه الحلال تجب قيمته يتصدق بها على الفقراء؛ لأن الصيد استحق الأمن بسبب الحرم. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث فيه طول: «ولا ينفر صيدها» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الترمذي: منقطع، وقد ذكرناه الآن. وقال الشيخ حميد الدين الضرير: والصحيح عندي بالنصب، وأو هاهنا بمعنى إلى أن لا يأتي إلى أن يصاد له، وحكم ما بعد الغاية تخالف حكم ما قبلها، فيستقيم السند به حينئذ؛ لأنه صار تقديره يحل للمحرم أكل لحم الصيد بنفسه حلًا محدودًا إلى غاية اصطياد الغير لأجله، كذا في الخيار.
م: (ثم شرط عدم الدلالة) ش: أي شرط القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله: إذا لم يذكر المحرم. م: (وهذا تنصيص على أن الدلالة محرمة) ش: أي شرط عدم الدلالة عن القدوري نص في رواية على أن المحرم إذا دل حلالًا على صيد الحل، فذبحه الحلال يكون اللحم حرامًا لا يحل له أكله. قوله: محرمة - بكسر الراء وتشديدها. م: (قالوا: فيه روايتان) ش: أي قال المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في تحريم اصطياده حلال بدلالة المحرم روايتان في رواية: يحرم، وفي رواية: لا يحرم، قلت: رواية الحرمة رواية الطحاوي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ورواية عدم الحرمة رواية أبي عبيد الله الجرجاني.
م: (ووجه الحرمة حديث أبي قتادة، وقد ذكرناه) ش: أي في باب الإحرام بقوله: هل أعنتم، هل أشرتم، هل دللتم، وقد مر الكلام فيه، وأبو قتادة اسمه الحارث بن ربعي الأنصاري. م: (وفي صيد الحرم إذا ذبحه الحلال تجب قيمته يتصدق بها على الفقراء) ش: وفي بعض النسخ: عليه قيمته، وقيد بقوله: الحلال؛ لأن المحرم لو قتله تلزمه كفارة واحدة لأجل الإحرام. وفي " المبسوط ": ذبح الحلال صيد الحرم فعليه قيمته عند العلماء إلا على قول أصحاب الظاهر فإنه لا شيء عليه عندهم. م: (لأن الصيد يستحق الأمن بسبب الحرم) ش: فإن قلت: الصيد كما استحق الأمن بسبب الحرم فكذلك بسبب الإحرام، وإذا قتل المحرم صيد الحرم ينبغي أن يجب عليه كفارتان وليس كذلك.
قلت: وجوب الكفارتين وجه القياس، صرح بذلك في " الإيضاح ". ووجه الاستحسان ما ذكره في " شرح الطحاوي " أن حرمة الإحرام أقوى؛ لأن المحرم حرم عليه الصيد في الحل، والحرم جميعًا، فامتنع الأقوى الأضعف.
م: (قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في حديث طويل: «ولا ينفر صيدها» ش: وفي بعض النسخ في حديث فيه طول، والحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لما فتح الله - عز وجل - مكة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: " إن الله(4/406)
ولا يجزيه الصوم؛ لأنها غرامة، وليست بكفارة، فأشبه ضمان الأموال. وهذا لأنه يجب بتفويت وصف في المحل، وهو الأمن، والواجب على المحرم بطريق الكفارة جزاء على فعله؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها أحلت لي ساعة من النهار ثم بقي حرام إلى يوم القيامة، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا يخلى خلاها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد " فقال العباس: إلا الإذخر، فإنه لقبورنا وبيوتنا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إلا الإذخر» .
وأخرج البخاري ومسلم عن طاووس عن ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم فتح مكة ... الحديث، وفيه: «لا ينفر صيدها» وذكر المصنف هذا لأنه هو الأصل، وفي حرمة صيد الحرم على الحلال إذا أحرم يتغير صيد الحرم، فالقتل أولى وإنها خلا، والخلا والخلاء بفتح الخاء المعجمة، وبالقصر الرطب من المرعى، وبالمد المكان الخالي، والحشيش هو اليابس من الكلأ، والعضد القطع من باب ضرب، وعضده ضرب عضده من باب دخل.
م: (ولا يجزئه الصوم) ش: أي ولا يجزئ ذابح صيد الحرم الصوم. م: (لأنها) ش: أي لأن قيمة الصيد. م: (غرامة وليست بكفارة، فأشبه ضمان الأموال) ش: وليس فيه إلا الغرامة.
فإن قلت: لو كان غرامة ينبغي أن يجب على الصبي، والمجنون، والكافر، كما في أموال الناس، وقد نص في " الإيضاح " أنه لا يجب عليهم.
قلت: وإن كان ضمان المحل، لكن فيه معنى الحل أيضًا، حتى لو أخذ حلال صيد الحرم فقتله في يده حلال آخر فعلى كل واحد منهما جزاء كامل؛ لأن كل واحد متلف، فأحدهما بالأخذ والآخر بالقتل والأخذ المفوت للأمن كالاستهلاك ثم يرجع الأخذ على القاتل عما ضمن بالاتفاق.
فإن قلت: فعلى هذا ينبغي أن لا يؤدى في ضمن جزاء الإحرام فيما إذا قتل المحرم صيد الحرم، كما لا يؤدى ضمان حق العبد في ضمن الجزاء فيمن قتل صيدًا مملوكًا في الحرم.
قلت: حرمة الحرم حصلت في حرمة الإحرام فيما نحن فيه؛ لأن حرمة الحرم لإثبات الأمن للصيد، وكذا حرمة الإحرام، فكان الضمان لله تعالى في الحرمتين، فجعل أحدهما تبعًا للأخرى، بخلاف الصيد المملوك بأن مما يجب بأن القتل حق الله تعالى، فلا يمكن أن يقضي به حق العبد، فصار في حق العبد كأن الضمان لم يستوف، كذا في " الأسرار ".
م: (وهذا) ش: يشير به بين قتل المحرم الصيد، وقتل الحلال صيد الحرم في جواز الصوم في الأول دون الثاني بقوله. م: (لأنه) ش: أي لأن وجوب الضمان. م: (يجب بتفويت وصف في المحل) ش: أراد بالوصف الأمن، وبالمحل الصيد. م: (وهو الأمن) ش: أي الوصف هو الأمن. م: (والواجب على المحرم بطريق الكفارة جزاء على فعله؛ لأن الحرمة باعتبار معنى فيه وهو إحرامه) ش: ولهذا لو(4/407)
لأن الحرمة باعتبار معنى فيه وهو إحرامه،
والصوم يصلح جزاء الأفعال لا ضمان المحال. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجزئه الصوم اعتبارا بما وجب على المحرم، والفرق قد ذكرناه،
وهل يجزئه الهدي؟ ففيه روايتان. ومن دخل الحرم بصيد فعليه أن يرسله فيه إذا كان في يده، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يقول: حق الشرع لا يظهر في مملوك العبد لحاجة العبد. ولنا أنه لما حصل في الحرم وجب ترك التعرض لحرمة الحرم، أو صار هو من صيد الحرم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اشترك حلالان في قتله يجب عليهما ضمان واحد، بخلاف المحرمين؛ فإنه يجب على كل واحد منهما قيمة كاملة لا جزاء القتل.
م: (والصوم يصلح جزاء الأفعال لا ضمان المحال) ش: أما صلاحية الصوم جزاء الأفعال فلقوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] ، وأما عدم صلاحيته لضمان المحل فلأنه لا مماثلة بين الصوم، وهو العرض، وبين المحل وهو العين. م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجزئه الصوم اعتبارا بما وجب على المحرم) ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد؛ لأن الواجب هنا كفارة كالواجب على المحرم، فيتأدى بالصوم. م: (والفرق) ش: أي الفرق بين قتل المحرم الصيد وبين قتل الحلال صيد الحرم في جواز الصوم في الأول دون الثاني. م: (قد ذكرناه) ش: هو الذي ذكره بقوله والصوم يصلح جزاء الأفعال لا ضمان المحل.
م: (وهل يجزئه الهدي؟ ففيه روايتان) ش: في رواية يجزئه، وبه قال الشافعي وزفر ومالك وأحمد، حتى لو سرق المذبوح بعد الذبح لا شيء عليه، ويشترط أن تكون قيمته عندنا مثل قيمة الصيد؛ لأن الهدي مال يجعل لله تعالى والإراقة طريق صالح لجعل المال له تعالى خالصًا بمنزلة التصدق، وفي رواية لا يجوز حتى لو سرق المذبوح لا يتأدى الواجب ويشترط أن تكون قيمة اللحم بعد الذبح مثل قيمة الصيد.
م: (ومن دخل الحرم بصيد فعليه أن يرسله فيه) ش: أي في الحرم. م: (إذا كان في يده) ش: قال في " النهاية " يعني وهو حلال حتى يظهر خلاف الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإن المحرم لا يتوقف وجوب الإرسال على أدنى بعضه لا يجب عليه الإرسال على دخول الحرم، فإنه يجب عليه الإرسال بالاتفاق. م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يقول: حق الشرع لا يظهر في مملوك العبد لحاجة العبد) ش: لأن الله تعالى غني والعبد محتاج فلا يجب الإرسال.
م: (ولنا أنه لما حصل في الحرم وجب ترك التعرض لحرمة الحرم) ش: أي ترك التعرض للصيد لأجل حرمة الحرم. م: (أو صار هو من صيد الحرم) ش: تعليل ثان لوجوب الإرسال، وفي نسخة الأترازي بخطة إذ هو من صيد الحرم بكلمة إذ التي هي للتعليل، وقال قوله - إذا صارت من صيد الحرم - تعليل لوجوب ترك التعرض، وكلمة هو راجع إلى الصيد. وقال الأكمل أيضًا ما يقوي كلامه حيث قال: إنه لما صار في الحرم وجب ترك التعرض لحرمة الحرم وبين الملازمة بقوله(4/408)
فاستحق الأمن لما روينا. فإن باعه رد البيع فيه إن كان قائما؛ لأن البيع لم يجز لما فيه من التعرض للصيد وذلك حرام. وإن كان فائتا فعليه الجزاء؛ لأنه تعرض للصيد بتفويت الأمن الذي استحقه. وكذلك بيع المحرم الصيد من محرم أو حلال لما قلنا. ومن أحرم وفي بيته أو في قفص معه صيد فليس عليه أن يرسله. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عليه أن يرسله؛ لأنه متعرض للصيد بإمساكه في ملكه فصار كما إذا كان في يده. ولنا أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إذا صار يعني الصيد من صيد الحرم بالدخول فيه وصيد الحرم مستحق للأمن. م: (فاستحق الأمن لما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ولا ينفر صيدها» .
م: (فإن باعه رد البيع فيه) ش: أي فإن باع الحلال الصيد الذي أدخله من الحل إلى الحرم رد البيع فيه، أي في الصيد. م: (إن كان) ش: أي الصيد. م: (قائما؛ لأن البيع لم يجز لما فيه من التعرض للصيد، وذلك حرام. وإن كان فائتا فعليه الجزاء) ش: يتصدق بقيمته. م: (لأنه تعرض للصيد بتفويت الأمن الذي استحقه. وكذلك بيع المحرم الصيد من محرم أو حلال لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله - لأن البيع في الصيد لم يجز لما فيه من التعرض للصيد - وفي " مناسك الحسن " نقل صاحب " الأجناس " أن أحد متعاقدي البيع في الصيد إذا كان محرمًا لا يجوز البيع سواء كان بيعًا أو هبة أو صدقة، وإن كان المتعاقدان حلالين ينظر إلى موضع الصيد إن كان في الحلال جاز البيع سواء كان المتبايعان في الحل أو الحرم أو أحدهما في الحل، والآخر في الحرم، وإن كان الصيد في الحرم لم يجز البيع، فإن سلمه للمشتري فذبحه كان على المحرم الذي باعه جزاؤه، وعلى المشتري قيمته للبائع إذا كان قد اصطاده وهو حلال ثم أحرم ثم باعه، وللبائع أن يتعين بهذه القيمة في الجزاء الذي عليه، وكذا بيع المحرم الصيد من محرم أو حلال، يعني يرد البيع إن كان الصيد قائمًا، وإن كان فائتًا فعليه الجزاء.
م: (ومن أحرم وفي بيته) ش: أي والحال أن في بيته. م: (أو في قفص معه صيد فليس عليه أن يرسله) ش: ولا يزول ملكه عنه، وهو مذهب الأوزاعي ومجاهد وعبد الله بن الحارث ومالك وأحمد وأبي ثور، لكن يجب إزالة يده عنه إن كان في يده أو رجليه أو جبهته أو في قفص معه، أو كان مربوطًا بحبل معه، وقال أبو ثور - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تلزمه إزالته، وصححه ابن المنذر، وإن كان في بيته أو في قفصه لا يلزمه إرساله.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجب عليه أن يرسله) ش: وبه قال مالك: وأحمد في رواية عن كل منهما. وقال الأزهري: لا يزول ملكه. م: (لأنه متعرض للصيد بإمساكه في ملكه فصار كما إذا كان في يده) ش: وهذا بناء على أن بالإحرام هل يزول الملك عن الصيد المملوك أم لا، فعندنا لا يزول، وعنده يزول.
م: (ولنا أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يحرمون وفي بيوتهم صيود ودواجن) ش: رواه(4/409)
يحرمون، وفي بيوتهم صيود، ودواجن، ولم ينقل عنهم إرسالها، وبذلك جرت العادة الفاشية، وهي من إحدى الحجج. ولأن الواجب ترك التعرض، وهو ليس بمتعرض من جهته؛ لأنه محفوظ بالبيت والقفص لا به، غير أنه في ملكه، ولو أرسله في مفازة فهو على ملكه فلا معتبر ببقاء الملك، وقيل: إذا كان القفص في يده لزمه إرساله، لكن على وجه لا يضيع.
قال: فإن أصاب حلال صيدا ثم أحرم فأرسله من يده غيره يضمن - عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يضمن؛ لأن المرسل آمر بالمعروف ناه عن المنكر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا أبو بكر بن عياش، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث كنا نحج وننزل عند أهلنا [....] من الصيد ما نرسلها. حدثنا عبد السلام بن حرب عن ليث عن مجاهد أن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى مع جماعة داجنا من الصيد وهم محرمون فلم يأمرهم بإرساله والدواجن جمع داجن، وهو الذي تعود المكان وألفه من قولهم بعير داجن، وشاة داجن، إذا كان مقيمًا بالبيت لا يرعى، وأراد بالصيود نحو الصقر والشاهين، وبالدواجن نحو الغزال.
م: (ولم ينقل عنهم إرسالها) ش: أي لم ينقل عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إرسال الدواجن بعد الإحرام. م: (وبذلك جرت العادة الفاشية) ش: أي بكون الدواجن في البيوت وهم محرمون أي جرت العادة المستمرة المشهورة من العشر وهو الظهور. وقال قاضي خان: ألا ترى أن الرجل يحرم وله بيت حمام لا يجب عليه إرسالها. م: (وهي من إحدى الحجج) ش: أي العادة الفاشية من إحدى الحجج التي يحكم بها، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن» . وقال الكاكي: العادة الفاشية مثل الإجماع القولي.
م: (ولأن الواجب) ش: على المحرم، هذا دليل آخر يتضمن الجواب عن دليل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (ترك التعرض) ش: للصيد. م: (وهو) ش: أي المحرم الذي في بيته قفص صيد. م: (ليس بمتعرض) ش: للصيد. م: (من جهته لأنه) ش: أي أن الصيد. م: (محفوظ بالبيت والقفص لا به) ش: أي لا بالمحرم. م: (غير أنه في ملكه) ش: لم يزل عنه.
م: (ولو أرسله في مفازة فهو على ملكه فلا معتبر ببقاء الملك) ش: لأنه ليس يتعرض للصيد فإن وجوب الجزاء لو كان باعتبار الملك ينبغي أن يجب الجزاء أرسل أو لم يرسل ولا يقول به أحد، فإن أرسله لا ينعدم ملكه. م: (وقيل: إذا كان القفص في يده لزمه إرساله، لكن على وجه لا يضيع) ش: أي لا يضيع الملك؛ لأن إضافة المال حرام فيرسله في بيت أو يودعه عنه إنسان.
م: (قال: فإن أصاب حلال صيدا ثم أحرم فأرسله من يده غيره يضمن - عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال مالك وأحمد:. م: (وقالا: لا يضمن؛ لأن المرسل آمر بالمعروف) ش: لأن الإرسال واجب عليه. م: (ناه عن المنكر) ش: لأن الإرسال حرام عليه، فكان مقيمًا للحسنة فلا(4/410)