ومن فاتته صلاة في السفر قضاها في الحضر ركعتين، ومن فاتته في الحضر قضاها في السفر أربعا،
لأن القضاء بحسب الأداء والمعتبر في ذلك آخر الوقت، لأنه هو المعتبر في السببية عند عدم الأداء في الوقت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ومن فاتته صلاة في السفر قضاها في الحضر ركعتين، ومن فاتته في الحضر قضاها في السفر أربعا) ش: أما قضاء الفائتة في السفر فهو ركعتان في الحضر، وهو أيضا قول مالك والشافعي في القديم.
وقال في الجديد: لا يقصر في الحضر، واختاره المزني، وبه قال أحمد وداود؛ لأن المرخص هو السفر وقد زال، فيزول القصر، وأما قضاء الفائتة في الحضر وهو أربع في السفر بالإجماع، وقال: لا أعرف فيه خلافا إلا ما حكي عن الحسن البصري، وروى الأشعث عنه أن الاعتبار بحال الفعل فتقصر.
وفي " المبسوط ": إن خرج بعد دخول وقت الصلاة يصلي صلاة المسافر. وقال ابن شجاع: يصلي صلاة المقيم.
وفي " شرح المهذب " للنووي: إن سافر في أثناء الوقت وقد تمكن من أدائها فله قصرها عند الشافعي، ومالك والجمهور، واختاره ابن المنذر. وقال زفر: إن كان قد بقي من الوقت مقدار ما يؤدي فيه ركعتين يصلي صلاة المسافر، وإن كان دون ذلك يصلي أربعا.
م: (لأن القضاء بحسب الأداء) ش: يعني كل من وجب عليه أداء أربع قضى أربعا، ومن وجب عليه أداء ركعتين قضى ركعتين م: (والمعتبر في ذلك) ش: أي في وجوب القضاء م: (آخر الوقت لأنه) ش: أي لأن آخر الوقت م: (هو المعتبر في السببية عند عدم الأداء في الوقت) ش: قد تقرر في الأصول أن السبب عندنا هو الجزء القائم من الوقت.
ولكن أصحابنا اختلفوا في الوجوب الذي يتعلق بآخر الوقت، فقال أكثرهم: الوجوب متعلق بمقدار التحريمة من آخر الوقت، وهو مختار الكرخي والمحققين من أصحابنا والقاضي أبي زيد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال زفر: متعلق بجزء يؤدي الصلاة فيه، وهو اختيار القدوري، وثمرة الخلاف تظهر في الحائض إذا طهرت في آخر الوقت، والصبي يبلغ، والكافر يسلم، والمجنون والمغمى عليه يفيقان، والمسافر إذا نوى الإقامة، والمقيم إذا نوى السفر، فعند أكثر أصحابنا يجب ويتغير الفرض إذا بقي من الوقت مقدار ما يوجد فيه التحريمة.
وعند زفر ومن تابعه من أصحابنا لا يجب، ولا يتغير الفرض، إلا إذا أدرك من الوقت ما يمكن الأداء فيه. وقال بعض أصحاب الشافعي: إذا مضى من الوقت ما يتمكن من أداء الأربع(3/33)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإنه يجب عليه الإتمام، وإذا مضى من الوقت ما لم يسع إلا أربع ركعات فإنه يقصر. وهذا بناء على أن الصلاة تجب في أول الوقت. وهاهنا اعتراضات ثلاثة:
الأول: أن الأصوليين قالوا: إن الوجوب يضاف إلى كل وقت عند عدم الأداء فيه لا إلى آخره، فكيف قال المصنف: المعتبر في السببية آخر الوقت عند عدم الأداء.
قلت: قال الأكمل: أجيب: بأن بعض المشايخ يقررون السببية على الجزء الأخير، وإن فات الوقت، فجاز أن يكون المصنف قد اختار ذلك، انتهى.
والأحسن أن يقال: أن الذي قاله المصنف هو الصواب، لأن الوجوب يضاف إلى الجزء الذي يتصل به الأداء إذا وجد الأداء، فإذا لم يوجد الأداء تنتقل السببية جزءا فجزءا إلى آخر الأجزاء، فيكون الآخر معتبرا في السببية.
فإن قلت: فعلى هذا كان ينبغي أن يجوز قضاء العصر إلا بصبي إذا أسلم في ذلك الجزء، وإذا قضاها في الجزء الآخر من هذا اليوم.
قلت: إنما لم يجز باعتبار أنه إذا لم يؤد فيه وجبت كاملة خالية عن الفساد، فلم يجز قضاؤها في الوقت الناقص.
الاعتراض الثاني: أن قوله: القضاء يجب الأداء، ينتقض بما إذا دخل المسافر في صلاة المقيم ثم ذهب الوقت ثم أفسد الإمام والمقتدي صلاته على نفسه، فإنه يقضي ركعتين صلاة السفر، وقد وجب عليه أداء الصلاة أربعا.
الجواب: عنه، أن الأربع إنما لزمه متابعة الإمام وقد زال ذلك الإفساد فعاد إلى أصله، ألا ترى أنه لو أفسد الاقتداء في الوقت كان عليه أن يصلي صلاة السفر، فكذلك هاهنا.
الاعتراض الثالث: أنكم اعتبرتم حال الأداء دون القضاء فيرد عليكم ما إذا فاتته صلاة في المرض حيث يقضيها في الصحة قائما بركوع وسجود، وإذا فاتته في الصحة يقضيها في المرض بالإيماء فاعتبرتم حال القضاء دون الأداء.
الجواب عنه أن المرض لا تأثير له في أصل الصلاة، بل له أثر في الوصف حتى يقع الأداء بحسب القدرة، وللسفر تأثير في أصل الصلاة حيث يتغير الحكم من الإكمال إلى القصر، فلما تحقق القصر في آخر الجزء صار ذلك دينا لم يتغير بعد ذلك، ولهذا لا يجوز اقتداء المسافر بالمقيم في القضاء، فافهم.(3/34)
والمطيع والعاصي في سفره في الرخصة سواء. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - سفر المعصية لا يفيد الرخصة، لأنها تثبت تخفيفا فلا تتعلق بما يوجب التغليظ، ولنا إطلاق النصوص ولأن نفس السفر ليس بمعصية، وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره فصلح متعلق الرخصة والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[ترخص العاصي]
م: " والمطيع " ش: هو الذي يخرج للحج، أو الجهاد م: (والعاصي) ش: هو الذي يخرج لقطع الطريق، أو الإباق م: (في سفره في الرخصة سواء) ش: وفي بعض النسخ في سفرهما.
م: (وقال الشافعي: سفر المعصية لا يفيد الرخصة) ش: وبه قال مالك، وأحمد م: (لأنها) ش: أي لأن الرخصة م: (تثبت تخفيفا) ش: أي لأجل التخفيف على المكلف م: (فلا يتعلق بما يوجب التغليظ) ش: أي الذي يوجب التغليظ هو المعصية، المعنى: أن الحكم تنجيز السبب، والمعصية سبب التغليظ فكيف يثبت بها التخفيف؟
م: (ولنا إطلاق النصوص) ش: منها قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] (البقرة: آية 184) .
ومنها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فرض المسافر ركعتان» ، كل ذلك مطلقة فيقتضي ثبوت الأحكام في كل مسافر م: (ولأن نفس السفر ليس بمعصية) ش: لأنه عبارة عن خروج بريد، وهو يقوي المعصية لإمكان المفارقة بينهما م: (وإنما المعصية ما يكون بعده) ش: أي بعدما صار مسافرا كما في قطع الطريق م: (أو يجاوره) ش: أي ويجاور السفر كما في الإباق وعقوق الوالدين م: (فصلح) أي السفر م: (متعلق) ش: أي سبب م: (الرخصة والله أعلم) ش: لأن القبح المجاوز لا يتقدم المشروعية، كالصلاة في أرض مغصوبة، والبيع وقت النداء.
اعلم: أن السفر خمسة: واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، وحرام.
فالواجب: سفر الحج. ومندوب: مثل حج النفل، وطلب العلم، وزيارة قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجده، والصلاة في المسجد الأقصى، وزيارة الوالدين.
والمباح: سفر التجارة، والتنزه، والمكروه: السفر من بلد إلى بلد، لا لغرض صحيح. والحرام: السفر لقطع الطريق، أو الإباق، ونحوهما.
فعندنا يقصر في كل سفر، وفرقت المالكية بين العاصي بسفره، فجوزوا الرخص للثاني دون الأول، وبقولنا قال الأوزاعي، والثوري، وداود، وأصحابه والمزني، وبعض المالكية، وعن زياد بن عبد الرحمن إلا أنه نسي أن العاصي بسفر يقصر ويفطر، لكن المشهور عن مالك المنع بسفر المعصية، وهو قول الشافعي، وأحمد.
وقال النووي: وما يلحق بسفر المعصية أن يتعب نفسه ويعذب دابته بالركض بغير(3/35)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غرض، ولو انتقل من بلد إلى بلد لغير غرض صحيح، لم يترخص، والسفر لمجرد رؤية البلاد ليس بغرض صحيح فلا يترخص.
وعن مالك: لا يقصر الصائد المتلذذ، وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يقصر إلا في السفر الواجب كالحج والجهاد، وقال عطاء: أرى أن لا يقصر إلا في سبيل من سبل الخير، ومنهم من قال: لا يقصر إلا في الخوف، وكان الأدنى من الشافعية يقول: إن العاصي بسفره لا يأكل الميتة، فإذا قيل له في المنع: قتل نفسه وهو حرام، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] (النساء: آية 29) ، يقول: لكن توبة مظهر الانقطاع.
قال أبو بكر الرازي: لا يجوز له قتل نفسه وإن لم يتب، لأن ترك التوبة لا يبيح له قتل نفسه إذ فيه جمع بين معصيتين.
وقال أبو بكر الرازي [.....] : إن العاصي في سفره يأكل الأطعمة المباحة من غير منع، ويتوصل به إلى غرضه المحرم ويتقوى عليه بذلك، وقال ابن العربي: عجبا ممن يبيح ذلك مع التمادي على المعصية، وما أظن أحدا يقوله، فإن قاله فهو مخطئ، قال القرطبي: هذا تحامل، والصحيح خلاف هذا، فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية كما هو فيه، ولعله يتوب في أثناء الحال فتمحو التوبة عنه ما كان منه، وليس أكل الميتة رخصة في حال المخمصة، بل هو عزيمة واجبة حتى لو امتنع من أكلها كان عاصيا.
فروع: الخليفة إذا سافر يصلي صلاة المسافرين كغيره، وقيل: إذا طاف في ولايته لا يصير مسافرا، ذكره في " الذخيرة "، وفي " المنتقى " حمل كل رجل فذهب به ولا يدري أين يذهب به، قال: يتم حتى يسير ثلاثا فيقصر، واعلم أن للباقي بعدها شيئا يسيرا، ولو كان صلى ركعتين من جملة أجزأته، فإن سار به أقل من ثلاث أعاد ما صلى.
وفي " المبسوط ": ولو ترك القراءة فيهما فلا تنقلب صحيحة، ولو ترك القعدة الأولى ثم نوى الإقامة تجوز صلاته، لأنها سنة في الفرائض، ذكره الزهري في "شرحه" يصح سفر الكافر، وكذا الصبي عند أبي إبراهيم، وعند أبي سهيل لا يصح، ولا يصح السفر منهما عند محمد من القصر، ولا يصح من الحائض في الصحيح.
قال السرخسي في " المبسوط " والمرغيناني: لا يقصر في السنن، وتكلموا في الأفضل في حالة الزوال والترك في حالة السير. قال هشام: رأيت محمدا كثيرا لا يتطوع في السفر قبل الظهر، ولا بعدها ولا يدع ركعتي الفجر والمغرب وما رأيته تطوع قبل العصر ولا قبل العشاء ويصلي العشاء ثم يوتر. في " قنية المنية ": تزوج المسافر في بلد لا يصير مقيما به وهو قول الشافعي.(3/36)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " فتاوى خواهر زاده ": يصير به مقيما، ولو كان له أهل ببلدتين فأتاها دخلها صار مقيما فيما ذكر في "جوامع الفقه ".
وفي " المحيط ": فإن ماتت زوجته في إحداهما وبقي له فيها دور وعقار قيل: لا يبقى وطنا له إذ المعتبر الأهل دون الدار كما لو تأهل ببلدة واستوت سكنا له وليس له فيها دار، وقيل يبقى كما إذا حلف لا يسكن هذه الدار، وانتقل عنها بأهله وبقي فيها ثقله، والمسافرة تصير مقيمة بنفس التزوج.
مسافر ومقيم اشتريا عبدا يصلي العبد صلاة المقيم قاله علاء الدين أبو الحسن الضاري وظهير الدين المرغيناني.
وقال علاء الدين الحمالي: الأصح أنه يصلي المسافر، قيل: إن كانت بينهما مهاباة في الخدمة يعتبر حالة بهما فيتم عند المقيم ويقصر عند المسافر، ذكره المرغيناني، المعتبر في الإقامة نية الأصل دون التبع كنية الخليفة والأمير دون الجند، ونية الزوج مع الزوجة والمولى مع عبده، ورب الدين مع مديونه إن كان معسرا، ذكره في " التحفة "، وكذا المحمول مع حامله والأجير مع مستأجره، والتلميذ مع أستاذه، ذكره في " الذخيرة ".
وفي " المحيط ": قيل: إن كانت استوفت مهرها، وفي " قنية المنية ": السفر والإقامة إلى الزوج إن استوفت مهرها وإلا فإليها، وكذا بعد الدخول في حق المعجل وكذا الجندي إن كان يرزق من الأمير وإلا فلا.
وفي " المحيط ": جعله قوله - وكذا الغريم مع مديونه إن كان مفلسا - لأنه يحبسه أو يلازمه، وكذا لو انحصر غيره ظلما لأنه عاد عليه، وكذا الميتة إلى الأعمى إذا قاده أحد وإلا فلا، وفي "الذخيرة ": المطاوع بالجهاد لا يكون تبعا للمولى فيكون حقا على حاله.
قلت: الأليق الوالي بخلاف العبد والمرأة.
وفي " المحيط ": مسافر دخل مصر الجند عزيمة، إن كان معسرا يقصر لأنه لم ينو الإقامة وإن كان موسرا وعزم أن يقضي دينه أو لم يعزم شيئا قصر، وإن عزم أن لا يقضي دينه أتم، فكأنه نوى الإقامة.
وفي " الذخيرة ": ذكر ابن سماعة عن أبي يوسف إذا حبس المسافر بالدين وهو معسر يتم الصلاة، وكذا إن كان موسرا إلا أن يكون وطن نفسه على أدائه فيقصر.
وفي " المنتقى ": مسلم أسره العدو وإن كان مقصده ثلاثة أيام قصر، وإن لم يعلم سأله كأن لم يخبره. وكان العدو مقيما أتم، وإن كان مسافرا يقصر لأنه تحت قهره كالعبد مع سيده فإنه(3/37)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يسأله، فإن لم يخبره أتم.
وفي " الذخيرة ": إن انفلت الأسير من العدو فوطن نفسه على إقامة شهر اختيارا أو نحوه قصر، لأنه محارب العدو، وكذا إذا أسلم فهرب منهم وطلبوه ليقتلوه فخرج هاربا مسيرة السفر، ثم إذا لم يعلم التابع نية المتبوع للإقامة لا يلزم الإتمام حتى يعلم كما في توجه الخطاب، وهو الأصح، وقيل: يلزمه الإتمام لأنه ضمني كعزل الوكيل والمكره بالسفر كالأسير يقصر، وبه قال مالك وأحمد، وقال الشافعي: لا يقصر لعدم النية.
صبي وكافر سافرا، ثم أسلم الكافر وبلغ الصبي، فإن بقي إلى مقصدهما مسيرة سفر قصرا وإن لم يبق فالكافر يقصر دون الصبي، لأن نيته صحيحة، لأنه من أهله، بخلاف الصبي، وقال الفضلي: حكمهما حكم المقيم، وقال بعض المشايخ: حكمهما حكم المسافر، والمختار الأول.
ولو طهرت الحائض في السفر، وبينهما وبين المقصد أقل من مسيرة سفر تتم، هو الصحيح، ارتد في السفر ثم أسلم من ساعته، وبينه وبين المقصد أقل من مسيرة سفر يقصر، وكذا المرأة لو طلقها زوجها بائنا، أو رجعيا، وانقضت عدتها وبينها وبين المقصد أقل من مدة السفر، فأما قبل انقضاء العدة فحكمها في الرخصة حكم الزوج. ولا يكره الخروج للسفر يوم الجمعة قبل الزوال وبعده.
وقال الشافعي: يكره قبل الجمعة. وقبل الزوال له قولان، أصحهما أنه يكره وهو قول أحمد، وقال في " القديم ": لا يكره وهو قول مالك، ولو سافر في رمضان لا يكره من دخل دار الحرب مستأمنا ونوى الإقامة في دارهم في موضع الإقامة صحت نيته.(3/38)
باب صلاة الجمعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب صلاة الجمعة]
م: (باب صلاة الجمعة) ش: أي هذا باب في بيان أحكام صلاة الجمعة، ووجه المناسبة بين البابين من حيث إن في كل منهما سقوط شطر الصلاة، فالأول: بواسطة السفر، والثاني: بواسطة الخطبة. إلا أن الأول شامل من كل ذوات الأربع، والثاني: خاص في الظهر والخاص بعد العام وجود الآن، التخصيص لا يكون إلا بعد التعميم، واشتقاقها من الاجتماع كالفرقة من الافتراق.
وهي بضم الجيم والميم وبفتح الميم مع ضم الجيم، قال الزمخشري: قرئ بينهما بهن جميعا، فالسكون كالصحلة للمصحول منه، ويفتح للوقت الجامع كالصحلة من اللقبة، والضم ثقيل، كالعسر ويسر، وحكاهن الواحدي عن الفراء، والأكثرون أن الإسكان تخفيف كالعتيق، والفتح لغة بني عقيل، وجمعها جمعات، وجمع، سميت بذلك لاجتماع الناس فيها، وقيل: لكثرة ما جمع الله فيها من خصائل الخير وهي اسم شرعي، وقيل: سميت بذلك لأن آدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع فيه خلقه، ويروى ذلك عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقيل: لأن المخلوقات تمت فيها واجتمعت، وعن ابن سيرين أن أهل المدينة سموها الجمعة، وجمعوا قبل أن يقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونزلت سورة الجمعة، ولم تكن بعد فرضت.
وقيل: أول من سمى الجمعة كعب بن لؤي، وكان اسمه في الجاهلية عروبة من الإعراب الذي هو التحسين لمكان تزين الناس فيه. وفضيلتها عظيمة عن أبي هريرة، قال الله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] (البروج: الآية3) ، الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، رواه البيهقي في "سننه الكبرى ". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة وفيه أهبط منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة" رواه مسلم في "صحيحه"، وزاد مالك، وأبو داود: "وفيه تيب عليه، وفيه مات، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حين تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس"، وزاد الترمذي: "وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه إياه".»
وفي ساعة الإجابة ثلاثة عشر قولا: عن أبي هريرة: هي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، الترمذي: بعد صلاة عصر الجمعة إلى غروب الشمس، الحسن وأبو العالية: عند زوال الشمس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: عند أذان الجمعة. مسلم في "صحيحه ": إذ قعد الإمام على المنبر حتى يفرغ، أبو بردة: الساعة التي اختار الله فيها الصلاة، أبو داود عن أبي ذر: هي ما بين الساتر ارتفع شبرا إلى ذراع، طاووس وعبد الله بن سلام: بين العصر إلى غروب الشمس.(3/39)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كعب: لو قسم جمعة في جمع إلا على تلك الساعة. أبو داود: من حين تقام الصلاة إلى حين الانصراف، أبو هريرة: التمسوها في ثلاثة مواطن: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وما بين نزول الإمام إلى أن يكبر، وما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن طلب ساعة يوم سير قرأها أنها أخفيت في اليوم.
وحكى ابن المنذر إجماع المسلمين على وجوبها. وقال الخطابي، وأكثر الفقهاء على أنها من فروض الكافية، قالوا: هذا غلط، وقال النووي: هي فرض على كل مكلف غير أصحاب الأعذار، وحكى أبو الطيب عن بعض أصحاب الشافعي غلط من قال إنها فرض كفاية، وقال ابن العربي: لا نطلب على فرضية الجمعة دليلا؛ لأن الإجماع من أعظم الأدلة، وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: سموها سنة، وتكلموا فيه، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الجمعة على من سمع النداء» رواه أبو داود، والدارقطني، وعن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رواح الجمعة يجب على كل محتلم» رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم، قاله النووي.
وفي " الدراية ": صلاة الجمعة فريضة، حكم جاحدها كافر بالإجماع، وهي فرض عين إلا عند ابن كج من أصحاب الشافعية، فإنه يقول: فرض كفاية وهو غلط، ذكره في " الحلية "، و" شرح الوجيز ".
وفرضيتها بالكتاب، والسنة، والإجماع، ونوع من المعنى.
أما الكتاب، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] (الجمعة: الآية 9) ، والمراد من الذكر في الآية الخطبة باتفاق المفسرين، والأمر للوجوب، فإذا فرض السعي إلى الخطبة التي هي شرط جواز الصلاة فإلى أصل الصلاة كان أوجب، ثم أكد الوجوب بقوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] يحرم البيع بعد النداء، وتحريم المباح لا يكون من(3/40)
لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أجل واجب.
وأما السنة: فحديث جابر، وأبي سعيد، قالا: «خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -....
. الحديث، وفيه: اعلموا أن الله تعالى فرض عليكم صلاة الجمعة» .....الحديث، رواه البيهقي، وقال: وفيه عبد الله بن محمد العدوي وهو منكر الحديث لا يتابع في حديثه، وقال: قاله محمد بن إسماعيل البخاري، وذكر في " المبسوط " أكثر هذا الحديث بمعناه، وبعضه ذكر " صاحب المهذب ".
وأما الإجماع، فأجمعت الأمة على ذلك من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا على فرضيتها من غير إنكار أحد، لكن اختلفوا في أصل الفرض في هذا الوقت، فقال الشافعي في الجديد، وزفر، ومالك، وأحمد، ومحمد في رواية: فرض الوقت الجمعة، والظهر بدل عنها. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، والشافعي في القديم: الفرض هو الظهر، وإنما أمر غير المعذور بإسقاط أداء الجمعة، وقال محمد في رواية: فرض إحداهما غير عين، والتعيين إليه، ولكن رخص في أداء الظهر. وفائدة الخلاف تظهر في حر مقيم، إذ الظهر في أول الوقت يجوز مطلقا، حتى لو خرج بعد أداء الظهر إليها أو لم يخرج إليها لم يبطل فرضه، وعندهم لا يجوز الظهر سواء أدرك الجمعة أو لا، خرج إليها أو لا.
وأما المعنى فلأنا أمرنا بترك الظهر لإقامة الجمعة، والظهر فريضة، ولا يجوز ترك الفرض إلا لفرض هو آكد منه وأولى، فدل أن الجمعة آكد من الظهر في الفريضة.
[شروط صحة الجمعة]
[المكان الذي تصح فيه الجمعة]
م: (لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع) ش: شرائط لزوم الجمعة اثنا عشر، ستة في نفس المصلي، وهي: الحرية، والذكورة، والإقامة، والصحة، وسلامة الرجلين، والبصر، وقال: يجب على الأعمى إذا وجد قائدا، وستة في غير نفس المصلي وهي: المصر الجامع، والسلطان، والجماعة، والخطبة، والوقت، والإظهار، حتى إن الوالي لو أتى على باب المصر، وجمع فيه بحشمه، ولم يأذن للناس فيه بالدخول لم يجز.
كذا ذكره التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكر محمد في " نوادر الصلاة ": أن أميرا لو جمع جنوده في الحصن، وأغلق الأبواب، وصلى بهم الجمعة، فإنه لا يجزئهم، وأشار المصنف إلى(3/41)
أو في مصلى المصر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشرط الأول بقوله: لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع، وسيأتي حد المصر الجامع.
م: (أو في مصلى المصر) ش: نحو مصلى العيد، وفي " الأسبيجابي " و" المفيد ": لا تجب الجمعة عندنا إلا في مصر أو مما هو في حكمه كمصلى العيد، وفي " جوامع الفقه " وأرباض المصر كالمصر، وفي " الينابيع ": لو كان منزله خارج المصر لا يجب عليه، قال: وهذا أصح ما قيل فيه.
وفي قاضي خان عن أبي يوسف هو رواية عنه، وعنه من ثلاثة فراسخ، وعنه إذا شهد الجمعة، فإن أمكنه المبيت بأهله يجب الجمعة، واختاره كثير من مشايخنا، قال ابن المنذر: روي ذلك عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأبي هريرة ونافع مولى ابن عمر والحسن، وبه قال عكرمة والحكم وعطاء والأوزاعي وأبو ثور لحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة على من آواه الليل إلى أهله» وضعفه الترمذي والبيهقي.
وعن أبي حنيفة: تجب إذا كن يجيء خراجها مع المصر، وفي " الذخيرة ": في ظاهر رواية أصحابنا لا يجب شهود الجمعة إلا على من سكن المصر والأرباض دون السفر، وسواء كان قريبا من المصر أو بعيدا عنها.
وعن محمد: إذا كان بينه وبين المصر ميل أو ميلان أو ثلاثة أميال فعليه الجمعة، وهو قول مالك والليث. وفي " منية المفتي ": على أهل السواد الجمعة إذا كانوا على قدر فرسخ، هو المختار، وعنه إذا كان أقل من فرسخين تجب، وفي الأكثر لا، وفي رواية: كل موضع لو خرج الإمام إليه صلى الجمعة تجب، وعن معاذ بن جبل: يجب الحضور في خمسة عشر فرسخا.
وفي " المرغيناني ": يجوز في فناء المصر، وهو الذي أعد لمصالح المصر متصلا به، وقدره بعض المشايخ بالغلوة، وبعضهم بفرسخين، واختاره السرخسي وخواهر زاده، وروي ذلك عن الزهري، وعن أبي يوسف: لو خرج الإمام مع أهل المصر ميلا أو ميلين جاز له أن يصلي بهم الجمعة، لأن فناء المصر كهي. قال أبو الليث: وبه نأخذ.
وفي " الذخيرة": قيل: الجواز بفناء المصر قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد: لا يجوز بناء على اختلافهم في مقداره، وقيل: إنما يجوز في فناء المصر إذا لم يكن بين المصر وبينه مزارع ومراع، وهكذا في " المرغيناني " من غير خلاف، فعلى هذا القول لا تجوز إقامة الجمعة في مصلى(3/42)
ولا تجوز الجمعة في القرى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العيد، لأن بينهما مزارع.
قال في " الذخيرة ": وقد وقعت مرة فأفتى بعض مشايخ زماننا بعدم الجواز، ولكن هذا ليس بصواب، فإن أحدا لم ينكر جواز صلاة العيد فيه لا من المتقدمين ولا من المتأخرين والمصر وفناؤها شرط جواز صلاة العيد والجمعة، وفي المرغيناني: وإن كان بين المصر وبينه مزارع وفرجة فلا جمعة عليهم، وإن كان النداء يبلغهم قال: والغلوة والميل والميلان ليس بشيء، وهو اختيار الحلواني.
وفي " جوامع الفقه " وعن إبراهيم: يجب على كل من كان دون المكان الذي يقصر المسافر إذا وصل إليه. وقال ابن العربي: الوجوب على من سمع النداء عند الشافعي، قال: وعلقه النسفي على سماع النداء، ويسقط عمن كان في المصر الكبير إذا لم يسمعه.
قال ابن المنذر: الوجوب على من سمع النداء، يروى ذلك عن ابن عمر وابن المسيب وعمرو بن شعيب، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال ابن المنذر: يجب عند محمد بن المنكدر والزهري وربيعة من أربعة أميال، وقول "المصنف" لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع أو في مصلى العيد قول علي بن أبي طالب وحذيفة وعطاء والحسن وإبراهيم النخعي ومجاهد وابن سيرين والثوري وعبيد الله بن الحسن وسحنون المالكي.
[صلاة الجمعة في القرى]
م: (ولا تجوز الجمعة في القرى) ش: إنما قال: لا يجوز في القرى مع أنه مستعار من قوله: لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع نفيا لمذهب الشافعي، فإنه لا يشترط المصر بل يجوزها في كل موضع إقامة سكنه أربعون رجلا أحرارا لا يظعنون منه شتاء ولا صيفا، وبه قال أحمد.
وقال مالك: تقام بأقل من أربعين، واحتجوا بحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجد عبد القيس، بجواثا من البحرين، رواه البخاري، وفي لفظ أبي داود: بجواثا قرية من قرى البحرين، وبقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الجمعة على من سمع النداء» .
روى أبو داود وابن ماجه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك وكان قائد أبيه بعدما ذهب بصره عن أبيه كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة يترحم على أسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت على أسعد بن زرارة قال: لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يعرف بنقيع الخضمان.
وفي " سنن البيهقي ": فإن أسعد أول من جمع بالمدينة قبل مقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قلت له: كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا، وكتب أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى عمر - رضي الله(3/43)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه- يسأله عن الجمعة [....
... ] فكتب إليه: أن جمع بها حيثما كنت.
ولنا ما ذكره "المصنف" من الحديث على ما نبينه إن شاء الله تعالى، ولا حجة لهم في قصة أسعد بن زرارة، لأنه كان قبل مقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما رواه البيهقي في "سننه الكبرى" وأيضا نحن نقول بجوازها بالأربعين، ولا يدل ذلك على عدم الجواز بدون الأربعين، وقال المزني: لا ينسخ ما احتج به الشافعي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بالأربعين حين قدم المدينة، لأن المسلمين كانوا قد تكاثروا وقالوا أيضا إنه كان أكثر عددا.
فإن قلت: روي عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال: «مضت السنة أن في كل ثلاثة إماما، وفي أربعين فما فوق ذلك جمعة وأضحى وفطر» قال ابن قدامة: إذا قال الصحابي مضت تنصرف إلى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: قال في " شرح المهذب ": حديث جابر هذا ضعيف، رواه البيهقي ثم قال: هو حديث لا يحتج به. وأما جواثا فقد قال الجوهري وابن الأثير: هي اسم لحصن في البحرين.
وفي " المبسوط " هي مدينة، والمدينة تسمى قرية كما قال الله تعالى: {أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75] (النساء: الآية 75) وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حيثما كنتم. أي من مثل جواثا من الأمصار، وهي بضم الجيم وبالثاء المثلثة.
قوله - في هزم النبيت - بضم الهاء وفتح الزاي المعجمة وهو موضع بالمدينة، وقال ابن الأثير: هزم، بني بياضة موضع بالمدينة وضبطها بفتح الهاء وسكون الزاي ونقيع الخضمات قرية لبني بياضة، والنقيع بالنون، والخضمات بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين، وهي أودية يدفع سلبها إلى المدينة، والحرة بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء من بين جبلين ذوات حجارة سود.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع") » ش: قال الزيلعي: هذا مرفوع غريب، وإنما وجدناه موقوفا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه عبد الرزاق في "مصنفه"، أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: «لا جمعة ولا تشريق ولا صلاة فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع أو مدينة عظيمة» ، وأخرجه عبد الرزاق أيضا، والبيهقي في "المعرفة" عن شعبة عن زبيد الأيامي به، ثم قال: وكذلك رواه الثوري عن زبيد به، وهذا إنما يروى عن علي موقوفا، فأما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه لا يروى عنه في ذلك شيء.(3/44)
والمصر الجامع: كل موضع له أمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال ابن حزم في " المحلى ": وذلك عن علي.
وعن حذيفة: ليس على أهل القرى جمعة، إنما الجمع على أهل الأمصار مثل المدائن.
قلت: قول الزيلعي: وجدناه موقوفا، وقول البيهقي لم يرو عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يستلزم عدم وقوف غيره على كونه مرفوعا، والإثبات مقدم على النفي، وقد ذكر الإمام خواهر زاده في "مبسوطه" أن أبا يوسف ذكره في " الإملاء " مسندا مرفوعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبو يوسف إمام في الحديث حجة، ولم يثبت عنده كونه مرفوعا لما قال: إنه مسند مرفوع، ولئن سلمنا أنه موقوف فهو موقوف صحيح، وهو محمول على السماع، لأنه لا يدرك بالعقل وهو مقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حجة.
م: (والمصر الجامع كل موضع له أمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود) ش: هذا تفسير المصر الجامع، وقد اختلفوا فيه، فعن أبي حنيفة: هو ما يجتمع فيه مرافق أهله دنيا ودينا.
وعن أبي يوسف: كل موضع فيه أمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود فهو مصر تجب على أهله الجمعة، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة في كتاب صلاته وفيه أيضا، قال سفيان الثوري: المصر الجامع: ما يعده الناس مصرا عند ذكر الأمصار المطلقة كبخارى وسمرقند.
وقال الكرخي: المصر الجامع ما أقيمت فيه الحدود، ونفذت فيه الأحكام، وهو اختيار الزمخشري، وعن أبي عبد الله البلخي أنه قال: أحسن ما سمعت إذا اجتمعوا في أكبر مساجدهم فلم يسعهم فهو مصر جامع، وعن أبي حنيفة: هو بلدة كبيرة فيها سكك وأسواق ولها رساتيق، ويرجع الناس إليه فيما وقعت لهم من الحوادث، وهو اختيار صاحب " التحفة ".
وقال أبو يوسف في " نوادر ابن شجاع ": إذا كان في القرية عشرة آلاف فهو مصر، وعن بعض أصحابنا: المصر ما يعيش فيه كل صانع بصناعته ولا يحتاج إلى التحول إلى صنعة أخرى.
وفي " المستصفى ": أحسن ما قيل فيه إذا وجدت فيه حوائج الدين وهو القاضي والمفتي والسلطان فهو مصر جامع، وعن أبي حنيفة: المصر كل بلدة فيها سكك وأسواق ووال ينصف المظلوم من ظالمه وعالم يرجع إليه في الحوادث وهو الأصح.
ذكره في " المفيد " و" التحفة "، وعن محمد: كل موضع مصره الإمام فهو مصر حتى إنه لو بعث إلى قرية نائبا إلى إقامة الحدود والقصاص يصير مصرا، فإذا عزله ودعاه تلحق بالقرى، ويؤيد قول محمد هذا ما صح أنه كان لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسود أنزله على الربذة يصلي خلفه أبو ذر وغيره من الصحابة الجمعة وغيرها، ذكره ابن حزم في " المحلى "، وقال قاضي خان: والاعتماد على ما روي عن أبي حنيفة في " المحلى ": كل موضع بلغت أبنيته أبنية منى،(3/45)
وهذا عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعنه أنهم إذا اجتمعوا في أكبر مساجدهم لم يسعهم،
والأول اختيار الكرخي وهو الظاهر، والثاني اختيار الثلجي، والحكم غير مقصور على المصلى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفيها مفت وقاض يقيم الحدود وينفذ الأحكام فهو مصر جامع، وقيل: الجامع أن يوجد فيه عشرة آلاف مقاتل، وقيل: أن يكون بحال لو قصدهم عدو غلبهم دفعه، ذكرهما في " الينابيع ".
وفي " الدراية ": ظاهر المذهب ما حده "المصنف" بقوله له أمير، المراد من الأمير الوالي الذي يقدر على إنصاف المظلوم من الظالم، وإنما قال: ويقيم الحدود بعد قوله وينفذ الأحكام، لأن تنفيذ الأحكام لا يستلزم إقامة الحدود، فإن المرأة إذا كانت قاضية تنفذ الأحكام وليس لها إقامة الحدود، وكذلك حكم نفي ذكر الحدود عن القصاص، لأنهما يقترنان في عامة الأحكام، فذكر أحدهما كان مغنيا عن ذكر الآخر.
م: (وهذا عند أبي يوسف) ش: إشارة إلى قوله - والمصر الجامع كل موضع..... إلخ. م: (وعنه) وعن أبي يوسف. م: (أنهم) ش: أي أن من تجب عليهم الجمعة من الرجال البالغين الأحرار، لا من يكون هناك من الصبيان والنساء والعبيد. م: (إذا اجتمعوا في أكبر مساجدهم لم يسعهم) ش: فإذا كان كذلك يكون مصرا جامعا.
م: (والأول) ش: وهو قوله: والجامع كل موضع له أمير إلى آخره. م: (اختيار الكرخي) ش: كرخ سامرى وكرخ بغداد وكرخ حدان وكرخ البصرة. انتهت إليه رياسة الأصحاب بعد أبي حازم وأبي سعيد البردعي، وعنه أخذ أبو بكر الرازي وأبو عبد الله الدامغاني وأبو علي الشامي وأبو حفص بن شاهين وآخرون.
وتوفي ليلة النصف من شعبان سنة أربعين وثلاثمائة. م: (وهو الظاهر) ش: أي الذي اختاره الكرخي، وهو ظاهر المذهب.
م: (والثاني) ش: وهو الذي روي عن أبي يوسف أنهم إذا اجتمعوا إلى آخره. م: (اختيار الثلجي) ش: وهو الإمام محمد بن شجاع أحد أصحاب أبي حنيفة، ونسبته إلى ثلج بالثاء المثلثة ابن عمر بن مالك بن عبد مناف، وليس هو منسوبا إلى بيع الثلج، وذكر في كتاب " الطبقات "، ويقال له ابن الثلجي، وهو من أصحاب الحسن بن زياد اللؤلئي حدث عن وكيع وأبي أسامة والواقدي وغيرهم، وله تصانيف كثيرة، قال السغناقي: مات فجأة في صلاة العصر، وهو ساجد في سنة ست وستين ومائتين.
م: (والحكم غير مقصور على المصلى) ش: يعني جواز إقامة الجمعة ليس بمنحصر في المصلى - بفتح اللام- وهو الموضع الذي فيه يصلى العيد لا الموضع الذي يصلى فيه الجمعة، وفي الجوامع(3/46)
بل يجوز في جميع أفنية المصر؛ لأنها بمنزلته في حوائج أهله ويجوز بمنى إن كان الأمير أمير الحجاز أو كان الخليفة مسافرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التي في المصر. م: (بل يجوز في جميع أفنية المصر) ش: الأفنية جمع فناء بكسر الفاء، وفناء الدار سعة أمامها.
وكذلك فناء البيت، وفي " الفتاوى الصغرى ": يجوز صلاة الجمعة والعيدين في فناء المصر، وهو أن يكون على قدر غلوة متصلا بربض المصر كما هو المعتاد في صلاة العيد، لكن إذا خرج رجل من المصر بنية السفر يصلي في هذا الموضع صلاة المسافرين، وكذا لو انتهى المسافر في هذا الموضع نقله في آخر باب الجمعة من " نوادر شمس الأئمة الحلواني ".
م: (لأنها) ش: أي لأن الأفنية م: (بمنزلته) ش: أي بمنزلة المصر م: (في حوائج أهله) ش: أي أهل المصر، لأنه أعد لحوائجهم، وقال شمس الأئمة الحلواني في "نوادره": اختلفوا في فناء المصر وتقدير الحد فيه، فقدره محمد هاهنا بغلوة، وبعضهم بفرسخ، وبعضهم بفرسخين، وبعضهم بمنتهى حد صوت مؤذنهم إذا أذن، كذا في " تتمة الفتاوى ".
وفي "شرح الطحاوي " عن أبي يوسف أن الإمام إذا خرج يوم الجمعة مقدار ميل أو ميلين وحضرته الصلاة فصلى جاز. وقال بعضهم: لا يجوز الجمعة خارج المصر منقطعا عن العمران. وقال بعضهم: يجوز على قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يجوز، كما اختلفوا في منى، وقد مر الكلام في هذا الفصل مستقصى عن قريب.
م: (ويجوز بمنى) ش: أي يجوز إقامة الجمعة في منى وهي قرية بين مكة وعرفات، يذبح بها الهدايا والضحايا، سمي ذلك الموضع بمنى لوقوع الأقذار فيه على الهدايا، من منى كمني منيا، أي قذر، ومنه المنية، لأنها مقدرة على [.....] وهي منصرفة إذا جعلت علما لموضع، وتمنع من الصرف إذا جعلت علما للبقعة، فتوجد علتان العلمية والتأنيث.
م: (إن كان الأمير أمير الحجاز) ش: الحجاز بين تهامة ونجد، سمي حجازا، لأنه يحجز بينهما، والتهامة الناحية الجنوبية من الحجاز، وما وراء ذلك إلى مكة، وحده تهامة، وفي " شرح الطحاوي ": إن كان الأمير أمير الحجاز أو أمير العراق أو أميرا لمكة أو الخليفة معهم مقيمين كانوا أو مسافرين جاز إقامة الجمعة عندهما، وإن كان أمير الموسم إن كان مقيما جاز وإن كان مسافرا لم يجز.
وذكر فخر الإسلام أن أمير الموسم ليس له حق إقامة الجمعة إنما له نيابة الحجاج. وقال في " المختلف ": أمير الحجاج ليس له ولاية إقامة الجمعة إلا إذا ولاه الخليفة أو من له ذلك وهو مقيم.
م: (أو كان الخليفة مسافرا) ش: قيد به، إما للتنبيه على أنه لو كان مقيما كان الجواز بالطريق(3/47)
عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله-.
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا جمعة بمنى لأنها من القرى حتى لا يعيد بها، ولهما لأنها تتمصر في أيام الموسم وعدم التعييد للتخفف،
ولا جمعة بعرفات في قولهم جميعا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأولى، وإنما تبقى شبهة وهي أن الخليفة إذا كان مسافرا لا يقيم الجمعة، كما إذا كان أمير الموسم مسافرا، فذكره ليعلم أن حكم الخليفة على خلاف حكم أمير الموسم، وفي هذا دليل على أن الخليفة أو السلطان إذا كان يطوف في ولايته كان عليه الجمعة في كل مصر يكون فيه يوم الجمعة، لأن إقامة غيره بأمره يجوز، فإقامته أولى، وإن كان مسافرا، كذا في " الفوائد الظهيرية " و" الجامع الصغير " لقاضي خان. م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله-) ش: متعلق بقوله ويجوز بمنى.
[الجمعة بمنى وعرفات]
م: (وقال محمد: لا جمعة بمنى) ش: وبه قال الشافعي وأحمد، وهو قول عطاء ومجاهد. م: (لأنها) ش: أي لأن منى، والتأنيث على تأويل القرية أو البقعة. م: (من القرى) ش: ولا جمعة في القرية، وهو منزل من منازل الحاج كعرفات م: (حتى لا يعيد بها) ش: نتيجة قوله: لا جمعة بمنى، لأنها من القرى، حتى لا يصلي فيها صلاة العيد فلا يصلي فيها الجمعة.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف. م: (لأنها) ش: أي لأن منى. م: (تتمصر) ش: أي تصير مصرا. م: (في أيام الموسم) ش: لما يكون فيها أسواق وفيها سلطان أو نائبه وقاض في أيام الموسم، فتصير كسائر الأمصار. م: (وعدم التعييد للتخفيف) ش: هذا جواب عن قول محمد لا يعيد بها.
وتقرير الجواب: إنما لا يعيد فيها يعني لا يصلي صلاة العيد لأجل التخفيف على الناس، لأنهم مشتغلون بأمور المناسك، ولأن منى من أفنية مكة وتوابعها، لأنها في الحرم وتوابع الشيء يقوم مقام ذلك الشيء. وأما عرفات فإنها من الحل وليست من فناء مكة، وبينها وبين مكة أربعة فراسخ.
م: (ولا جمعة بعرفات في قولهم جميعا) ش: أي في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وهو قول الزهري، وزعم ابن حزم أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى الجمعة بعرفات، قال: ولا خلاف أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خطب وصلى ركعتين، وهذه صفة صلاة الجمعة، قال: وما روى أحد أنه ما جهر فيها، والقاطع بذلك كاذب على الله، وعلى رسوله، ولو صح أنه ما جهر لم يكن لهم به تعلق، لأنه ليس بفرض، قال: ولجاء بعضهم إلى دعوى الإجماع على ذلك، وهذا مكان تبين فيه الكذب على مدعيه.
قلت: هذا رجل قد سل لسانه على الأئمة الثلاثة الأجلاء أبي حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم وكلامه متناقض لا يلتفت إليه، حتى يوجب الجمعة على العبد والمسافر ويجيز(3/48)
لأنها فضاء وبمنى أبنية، والتقييد بالخليفة وأمير الحجاز؛ لأن الولاية لهما، أما أمير الموسم فيلي أمور الحج لا غير، ولا يجوز إقامتها إلا للسلطان أو لمن أمره السلطان، لأنها تقام بجمع عظيم، وقد تقع المنازعة في التقدم والتقديم، وقد تقع في غيره فلا بد منه تتميما لأمره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إقامتهما في البراري والقفار باستدلالات باطلة.
م: (لأنها) ش: أي لأن عرفات. م: (فضاء) ش: لا أبنية فيها. م: (وبمنى أبنية) ش: تقام فيها الأسواق خصوصا في أيام الموسم، يكون فيها نائب السلطان والقاضي كما ذكرنا. م: (والتقييد بالخليفة وأمير الحجاز، لأن الولاية لهما) ش: أراد بالتقييد تقييد جواز الجمعة بمنى عند أبي حنيفة وأبي يوسف بالخليفة وأمير الحجاز، لأن الولاية لهما في إقامة الجمعة.
م: (أما أمير الموسم) ش: أي أمير الحاج. م: (فيلي أمور الحاج لا غير) ش: يعني ليس له ولاية غير الحاج، وليس له إقامة الجمعة إلا إذا كان الخليفة كما ذكرنا. م: (ولا يجوز إقامتها) ش: أي إقامة الجمعة. م: (إلا للسلطان) ش: أراد بالسلطان الخليفة، لأنه أراد به الوالي الذي ليس فوقه وال وهو الخليفة. م: (أو لمن أمره السلطان) ش: يعني إن لم يكن السلطان يكون إقامتها لمن أمره السلطان وهو الأمير أو القاضي أو الخطباء.
م: (لأنها) ش: أي لأن الجمعة. م: (تقام بجمع عظيم) ش: من الناس. م: (وقد تقع المنازعة في التقدم) ش: تشديد الدال المضمومة من باب التفعل بأن يقول واحد: أنا أصلي بالناس، ويقول آخر: أنا أصلي بهم. م: (والتقديم) ش: بأن تقول طائفة: يصلي بالناس فلان، ويقول الآخرون: ويصلي بهم فلان الآخر فتقع الخصومة بينهم. م: (وقد تقع) ش: أي المنازعة. م: (في غيره) ش: أي في غير ما ذكر من التقدم والتقديم، بأن تقول طائفة: يصلي في مسجدنا، ويقول الآخرون: يصلي في مسجدنا فتكثر الخصومة والنزاع. م: (فلا بد منه) ش: أي إذا كان الأمر كذلك، فلا بد من السلطان أو من أمره السلطان. م: (تتميما لأمره) ش: أي لأمر الجمعة، وتذكير الضمير باعتبار المذكور، وانتصاب تتميما على التعليل، وكذلك اللام في لأمره.
ومن التتميم أمر السلطان لقطع المنازعة وحسم مادة الخلاف، وعند الشافعي: السلطان يؤم ليس بشرط لصحة الجمعة، ولكن السنة أن لا تقام إلا بإذن السلطان، وبه قال مالك وأحمد في رواية.
وعن أحمد أنه شرط كمذهبنا، واحتجوا في ذلك بما روي أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين كان محصرا بالمدينة صلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجمعة بالناس، ولم يرو أنه صلى بأمر عثمان وكان الأمر بيده، فلا يشترط لإقامتها السلطان كسائر الصلوات.
قال الأترازي: ولنا ما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "واعلموا أن الله(3/49)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كتب عليكم الجمعة في يومي هذا في مقامي هذا في شهري هذا، فريضة واجبة إلى يوم القيامة، فمن تركها جحودا لها واستخفافا بحقها في حياتي أو بعد موتي وله إمام عادل أو جائر، فلا جمع الله شمله ولا أتم له أمره، ألا لا صلاة له، ألا لا زكاة له، ألا لا صوم له، إلا أن يتوب، ومن تاب تاب الله عليه» .
قلت: لم يبين ما حال هذا الحديث، ومن رواه عن جابر، وذكر في " شرح الأقطع " عن سعيد بن المسيب عن جابر، ورواه ابن ماجه في "سننه"، وقال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، ثنا الوليد بن بكير، حدثني عبد الله بن محمد العدوي عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب «عن جابر بن عبد الله، قال: خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة في السر والعلانية ترزقوا وتنصروا وتجبروا، واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، في عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعدي، وله إمام عادل أو جائر استخفافا بها أو جحودا لها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا حج له ولا صوم له ولا بر له حتى يتوب. فمن تاب تاب الله عليه، ألا لا تؤم امرأة رجلا، ولا يؤم أعرابي مهاجرا، ألا ولا يؤم فاجر مؤمنا إلا أن يقهره السلطان يخاف سيفه وسوطه» .
وأخرجه البزار من وجه آخر، وروى الطبراني في " الأوسط " من حديث ابن عمر نحوه.
فإن قلت: في سند ابن ماجه عن عبد الله بن محمد قالوا: إنه واهي الحديث، و [في] سند البزار علي بن زيد بن جدعان، قال الدارقطني: كلاهما غير ثابت، وقال ابن عبد البر: هذا الحديث واهي الإسناد.
قلت: هذا الحديث روي من طرق ووجوه مختلفة، فحصل له بذلك قوة فلا تمنع من الاحتجاج به، واحتجاجهم بما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ساقط، لأنه يحتمل أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل ذلك بأمره أو لم يتوصل إلى عثمان، وعندنا إذا لم يتوصل إلى إذن الإمام، فللناس أن يجتمعوا ويقدموا من يصلي بهم، كذا ذكره الشيخ أبو نصر البغدادي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فمن أين يعلم أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل ذلك بلا إذن عثمان وهو حيث يتوصل إلى إذنه؟ وفي " الأجناس " عن " نوادر ابن سماعة " عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو غلب على مصر متغلب فصلى بهم الجمعة جاز، فكذلك إذا أجمع جميع الناس على رجل يصلي بهم الجمعة جازت.(3/50)
ومن شرائطها الوقت، فتصح في وقت الظهر ولا تصح بعده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: فبالنظر إلى ذلك كانت صلاة علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أولى وأحق بالجواز، ونقل ذلك عن الحسن البصري، لأن الصحابة صلوا وراء علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ورضوا به، سواء كان معه إذن أو لم يكن.
وفي " فتاوى الكردي ": صلاة الجمعة خلف المتغلب الذي لا منشور له من الخليفة يجوز إن كانت سيرته سيرة الأمراء. وفي " فتاوى العتابي ": لكن الأنكحة لا تجوز بتزويجه، وفيه اجتماع الناس على رجل يجمع لهم بغير أمر القاضي وصاحب الشرط لا يجوز. وفي " المجتبى " قال أبو بكر: لا يعرف جواز الجمعة خلف المتغلب عن أصحابنا، وإنما هو شيء ذكره الطحاوي، لكن السلطان إذا كان فاسقا جاز أن يجتمعوا على رجل واحد يجمع لهم بعد موته.
وقال أصحابنا: لو مات سلطان بلدة فولَّى أهلها أميرا ينفذ الأحكام والحدود جاز، أو كان قاضيا حكم وصار سلطانا وقاضيا في جماعتهم، ولو غلب عليه الخوارج فولوا رجلا من أهل العدل للقضاء جازت أحكامه.
وفي " الفتاوى الظهيرية ": الإمام إذا منع أهل المصر أن يجمعوا لم يجمعوا، قال الهندواني: هذا إذا منع لسبب من الأسباب، أما إذا منعهم تعنتا أو إضرارا بهم يجوز أن يجتمعوا على رجل يصلي بهم الجمعة، وقياسهم على سائر الصلوات فاسد، لأن الجمعة يشترط لها ما لم يشترط لغيرها من الصلوات مثل الخطبة والجماعة.
فإن قلت: هذا عبادة على البدن فلا يكون السلطان شرطا فيها كما في الحج والصوم.
قلت: هذا مبطل بإقامة الحد وانفراد الواحد بالحج لا يفوت على غيره، وانفراد طائفة بإقامة الجمعة يفوت [على] الباقين فافهم.
[دخول الوقت من شرائط الجمعة]
م: (ومن شرائطها) ش: أي ومن شرائط الجمعة. م: (الوقت، فتصح في وقت الظهر ولا تصح بعده) ش: أي بعد وقت الظهر، وكان مالك يقول: يجوز إقامتها في وقت العصر، بناء على تداخل الوقتين على مذهبه. وعند أحمد: يجوز إقامتها قبل الزوال. وقال بعض أصحابه: أول وقتها وقت صلاة العيد. وقال بعضهم: يجوز في الساعة السادسة لما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقام الجمعة ضحى.
وقال أبو بكر بن العربي: اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن الجمعة لا تجب حتى تزول الشمس، ولا يجزئه قبل الزوال إلا ما روي عن ابن حنبل أنه يجوز قبل الزوال ونقله ابن المنذر عن عطاء وإسحاق والماوردي عن ابن عباس في السادسة، احتج ابن حنبل بحديث جابر، قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حتى تزول الشمس» رواه(3/51)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا مالت الشمس فصل بالناس الجمعة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مسلم. قال البيهقي: يعني النواضح.
«وعن سلمة بن الأكوع قال: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به» رواه البخاري ومسلم. «وعن سهل بن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة على عهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.»
وقال أبو سهل: إنا كنا نرجع فنقيل قائلة الضحى، ولأنها عيد لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قد اجتمع في يومكم هذا عيدان» ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن هذا يوم جعله الله عيدا للمسلمين» فصار كالفطر والأضحى. واتفق أصحابنا أن وقتها وقت الظهر، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا مالت الشمس فصل بالناس الجمعة» ش: واحتجوا في ذلك بحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس» رواه البخاري، «وعن سلمة بن الأكوع قال: كنا نجمع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء» متفق عليه.
فإن قلت: روي عن عبد الله بن سيدان أنه قال: شهدت الخطبة مع أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، وشهدتها مع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول قد انتصف النهار، ومثله عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فما رأيت أحدا عاب ذلك.
قلت: قال ابن بطال: لا يثبت هذا، وعبد الله بن سيدان لا يعرف.
قلت: روى هذا الحديث الدارقطني وغيره وهو حديث ضعيف. وقال النووي في " الخلاصة ": اتفقوا على ضعف ابن سيدان، وقد قال الشافعي: وقد صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعثمان والأئمة بعدهم كل جمعة بعد الزوال، فدل على أنه لا اعتبار بهذا. قلت: والجواب عن حديث جابر: أنه إخبار عن أن الصلاة والرواح إلى جمالهم كانا حين الزوال وبدايته، وحديث سلمة حجة عليهم، لأن معناه ليس للحيطان فيء كثير بحيث يستظل به المار، وأصح منه الرواية الأخرى نتتبع الفيء، وهو تصريح بوجوده، لكنه قليل، ومعلوم أن حيطان المدينة كانت قصيرة والشمس فوقها فلا يظهر الفيء الذي يستظل به هنالك عند الزوال إلا بعد زمان طويل.
ومعنى حديث سهل: أنهم كانوا يؤخرون القيلولة والغداء في هذا اليوم إلى ما بعد صلاة الجمعة، لأنهم ندبوا في هذا اليوم إلى التبكير إليها، والاشتغال بغيره كان يفوته، لقوله -عليه(3/52)
ولو خرج الوقت وهو فيها استقبل الظهر ولا يبنيه عليها لاختلافهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلام-: «إذا مالت الشمس فصل بالناس الجمعة» . قال السروجي: لم أجد هذا في كتب الحديث، وقال الزيلعي: غريب، وقال السغناقي: لما روي «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما بعث مصعب بن عمير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى المدينة قبل هجرته، قال له: "إذا مالت الشمس فصل بالناس الجمعة» وتبعه الأكمل ونقله من شرحه، وكذا نقله صاحب " الدراية ". ثم قال: قيل: هذا الحديث ما وجد في كتب الحديث، ثم قال: وأجيب عن وجدانه في كتب الحديث ليس بشرط، ويجوز النقل بالمعنى.
قلت: سبحان الله، هذا كلام عجيب يصدر من هؤلاء، فأي حديث أصله حتى نقل عنه بالمعنى، وأصل الحديث ما رواه الدارقطني عن ابن عباس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى مصعب بن عمير يأمره بإقامة الجمعة» وفي إسناده غرابة، وقد روى البيهقي عن ابن إسحاق أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما بعث مصعبا حين كتب الأنصار إليه أن يبعث إليهم، قال: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنه كان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤم بعضا، وكان قدوم وفود الأنصار في السنة الثانية عشرة من النبوة، ولما قدموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه السنة رجعوا إلى قومهم فدعوهم إلى الإسلام وأرسلوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معاذ بن عفراء ورافع بن مالك أن ابعث إلينا رجلا يفقهنا، فبعث إليهم مصعب بن عمير، فنزل على أسعد بن زرارة وكان الذين قدموا في هذه السنة ثمانية، وفيهم معاذ بن عفراء، ورافع بن مالك وأسعد بن زرارة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال أهل السير والتواريخ: قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى نزل بقباء على بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى، فأقام - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقباء يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجدا، وكانت هذه الجمعة أول جمعة جمعها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإسلام فخطب في هذه الجمعة وهي أول خطبة خطبها بالمدينة فما قبلها وبعدها أول جمعة جمعت في الإسلام بقرية يقال لها جواثا من قرى البحرين.
م: (ولو خرج الوقت) ش: أي وقت الظهر. م: (وهو فيها) ش: أي والحال أنها، أي أن الإمام في صلاة الجمعة. م: (استقبل الظهر) ش: أي صلاة الظهر. م: (ولا يبني عليها) ش: أي على الجمعة. م: (لاختلافهما) ش: أي لاختلاف الظهر والجمعة من حيث الكمية والشرائط، وهذا لأن الظهر أربعة، والجمعة ركعتان، ويخص الجمعة بشروط لا تشترط للظهر، والظهر يخفى فيه، والجمعة يجهر فيها، واسم أحدهما الظهر واسم الآخر جمعة فيثبت اختلافهما قدرا وحالا واسما.(3/53)
ومنها الخطبة: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما صلاها بدون الخطبة في عمره وهي قبل الصلاة بعد الزوال، به وردت السنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال السغناقي: لأنهما يختلفان بدليل تخير العبد إذا أذن له مولاه بأن يصلي الجمعة بين أن يصلي الظهر والجمعة مع تعين الوقت في الجمعة بالعلة، ولو لم يكونا مختلفين لما خير العبد كما في جناية المدبر حيث يجب الأقل على مولاه من الأرش، والقيمة من غير خيار لاتحادهما في المالية، ثم إنه لو دخل وقت العصر وهو في الجمعة وقد تشهد يجزئه الجمعة عند أبي يوسف وأحمد ومحمد، وتبطل جمعته عند أبي حنيفة، ويستقبل قضاء الظهر، وعند الشافعي يصليها ظهرا.
وقال ابن القاسم: يصليها جمعة ما لم تغب الشمس بناء على أن وقت الظهر والعصر واحد، وفي " الواقعات ": لو قام المؤتم ولم ينتبه حتى خرج وقت الظهر فسدت الجمعة، لأنه لو أتمها صار قاضيا في غير وقتها، وإن انتبه قبل خروج الوقت جازت صلاته، وعند الشافعية لو سلم الإمام والقوم في الوقت ثم خرج الوقت وعلى المسبوق ركعة ففي أحد الوجهين لا تصح جمعته لوقوع بعض صلاته خارج الوقت، والثاني تصح تبعا للإمام.
[الخطبة من شرائط الجمعة]
[شروط الخطبة وسننها]
م: (ومنها الخطبة) ش: أي من شرائط الجمعة الخطبة، وهو مذهب عطاء والنخعي وقتادة والثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قصرت الصلاة لأجل الخطبة، وعن عائشة مثله، وعن سعيد بن جبير قال: كانت الجمعة أربعا فجعلت الخطبة، فكان ركعتين، وقال ابن قدامة: لا نعلم في هذا مخالفا إلا الحسن البصري، فإنه قال: يجزئهم جمعتهم خطب الإمام أو لم يخطب. وذكر النووي معه داود وعبد الملك المالكي. وقال القاضي عياض: وروي ذلك عن مالك، وقال ابن حزم في " المحلى ": الخطبة ليست بفرض، تجوز الجمعة بدونها.
م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما صلاها بدون الخطبة في عمره) ش: ذكره البيهقي، وذكر أيضا عن الزهري أنه قال: بلغنا أنه قال: "لا جمعة إلا بخطبة "، واستدل أيضا بحديث ابن عمر: «كان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يخطب يوم الجمعة خطبتين بينهما جلسة» .
قلت: هذا استدل بمجرد الفعل فلا يتم إلا إذا ضم إليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، رواه البخاري، فلو لم تكن واجبة لتركها مرة تعليما للجواز.
م: (وهي) ش: أي الخطبة. م: (قبل الصلاة بعد الزوال) ش: لأنها شرط فتقدم كسائر الشروط، بخلاف العيد فإنه لو لم يخطب فيه أصلا يجوز، ولو خطب فيه يجوز. م: (وبه وردت السنة) ش:(3/54)
ويخطب خطبتين يفصل بينهما بقعدة وبه جرى التوارث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي بكون الخطبة قبل الصلاة وردت السنة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يمكن أخذ هذا في حديثين، أحدهما حديث السائب بن زيد، رواه البخاري عنه قال: «كان الأذان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يوم الجمعة حين يجلس الإمام، فلما كان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكثر الناس أمر بالأذان الثاني على الزوراء،» ووجهه أن الأذان لا يكون إلا قبل الصلاة، فإذا كان حين يجلس الإمام على المنبر للخطبة دل على أن الصلاة بعد الخطبة.
والآخر «حديث أبي موسى الأشعري أخرجه مسلم عنه قال لي ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أسمعت أباك يحدث عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شأن ساعة الجمعة، قال: قلت: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن يقضي الصلاة» ، قال أبو بردة: يعني على المنبر.
م: (ويخطب خطبتين يفصل بينهما بقعدة) ش: مقدار ثلاث في ظاهر الرواية، وقال الطحاوي مقدار ما سمي موضع جلوسه على المنبر. م: (وبه جرى التوارث) ش: أي بالفصل بين الخطبتين بقعدة جرى التوارث، يعني هكذا فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأئمة من بعده إلى يومنا هذا، ولفظ التوارث إنما يستعمل في أمر له خطر وشرف، يقال توارث المجد كابرا عن كابر، أي كبيرا عن كبير في القدر والشرف، وقيل: هي حكاية العدل عن العدل، فإن القيام فيها، والفصل بين الخطبتين بقعدة متوارث.
وقال ابن المنذر: اختلفوا فيه، «وكان عطاء بن أبي رباح يقول: ما جلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر حتى مات، وما كان يخطب إلا قائما» وأول من جلس عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في آخر عمر زمانه حين كبر، فكان يجلس هنيهة ثم يقوم، وكان المغيرة بن شعبة إذا فرغ المؤذن قام فخطب ولا يجلس حتى ينزل.
قال: والذي عليه عمل الناس ما تفعله الأئمة اليوم، ثم هذه القعدة عندنا للاستراحة وليست بشرط، وقال الشافعي: إنها شرط. وقال شمس الأئمة السرخسي: الدليل على أنها للاستراحة لا للشرط حديث جابر بن سمرة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب قائما خطبة واحدة، فلما أسن جعلها خطبتين بينهما جلسة» ففي هذا دليل على أنها للاستراحة لا للشرط.
قلت: هذا الحديث غريب، وهو عن ابن عباس برواية الحسن بن عمارة، وقال ابن العربي: وهو ضعيف.
ثم الخطبة الواحدة تجوز عندنا وهو مذهب عطاء ومالك والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور. وقال ابن المنذر: أرجو أن تجزئه خطبة واحدة، وقال أحمد: لا تكون الخطبة إلا كما خطب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(3/55)
ويخطب قائما على طهارة؛ لأن القيام فيهما متوارث
ثم هي شرط الصلاة فيستحب فيها الطهارة كالأذان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الشافعي: يجب أن يخطب خطبتين قائما يجلس بينهما مع القدرة عليها، وحكى الرافعي وجها آخر أنه لو خطب قائما كفاه الفصل بسكتة من غير جلوس. قال النووي: وهذا شاذ مردود، وقال النووي: القيام والجلوس بينهما سنة عند جمهور العلماء، حتى إن الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: لم يقل أحد باشتراط الجلوس بينهما غير الشافعي.
م: (ويخطب قائما على طهارة) ش: أي ويخطب الإمام حال كونه قائما وحال كونه على الطهارة، أما القيام فإنه سنة عندنا، وعند الشافعي لا تصح الخطبة قاعدا، وبه قال مالك في رواية، وعنه كقولهما، وبه قال أحمد، وأما الطهارة سنة عندنا لا شرط، خلافا لأبي يوسف والشافعي، حتى إذا خطب على غير طهارة يجوز عندنا ويكره، وعندهما لا يجوز، وقال الشافعي في القديم كقولهما، وبه قال مالك وأحمد.
م: (لأن القيام فيها) ش: أي الخطبة. م: (متوارث) ش: أي من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن الأئمة بعده إلى يومنا هذا، والجواب عما يقال إنه إذا كان كذلك ينبغي أن يكون فرضا، كما قال الشافعي: وهو قول المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ثم هي) ش: أي الخطبة. م: (شرط الصلاة فيستحب فيها) ش: أي في الخطبة. م: (الطهارة) ش: أي عن الجنابة والحدث. م: (كالأذان) ش: وجه التشبيه بالأذان أن الخطبة ذكرها شبه بالصلاة من حيث إنها أقيمت مقام شطرها. وتقام بعد دخول الوقت والأذان أيضا مقام بعد دخول الوقت، لا يقال ليس بينهما مشابهة، بل بينهما مخالفة، فإذا أذن الجنب تستحب فيها الإعادة طاهرا ولم يذكر خطبة الجمعة هاهنا، لأنا نقول لا فرق بينهما في الحقيقة، غير أن الأذان لا يتعلق به حكم الجواز، فذكر استحباب الإعادة، والخطبة يتعلق بها حكم الجواز فذكر الجواز هاهنا، واستحباب الإعادة هاهنا كهو في الأذان.
ولم يذكر المصنف أنه هل يعيد الخطبة أو لا، فذكر في "نوادر أبي يوسف " أنه يعيدها وإن لم يعدها جاز، لأنه ليس من شرط استقبال القبلة بخلاف الأذان، فإنه يعيد، لأن الأذان أشبه بالصلاة من الخطبة، ألا ترى أنه شرع استقبال القبلة بخلاف الخطبة، ولكن يكون مسيئا إذا تعمد ذلك، لأنها الصلاة حتى أقيمت مقام الشفع في الظهر، ولأن فيه دخول المسجد جنبا، وهو مكروه.
وقال الأترازي: قوله "كالأذان" فيه نظر، لأنه يفهم من هذا التركيب أن الأذان شرط الصلاة وليس كذلك، لأنه سنة.(3/56)
ولو خطب قاعدا أو على غير طهارة جاز، لحصول المقصود، إلا أنه يكره لمخالفته التوارث، وللفصل بينهما وبين الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لا نسلم بذلك، لأن قوله: "كالأذان" يتعلق بقوله تستحب فيها الطهارة ولا بقوله هي شرط الصلاة.
م: (ولو خطب قاعدا أو على غير طهارة جاز لحصول المقصود) ش: وهو الذكر والوعظ، وفي " المحيط " و" المبسوطين " الخطبة ذكر والمحدث والجنب يمنعان ما خلا قراءة القرآن في حق الجنب، وليست الخطبة كالصلاة ولا كشطرها، بدليل أنها تؤدى غير مستقبل القبلة ولا يفسدها الكلام. م: (إلا أنه يكره) ش: استثناء من قوله "جاز" والضمير في أنه يرجع إلى كل واحد من الخطبة قاعدا ومن الخطبة على غير الطهارة، ويذكر الضمير باعتبار المذكور. م: (لمخالفته التوارث) ش: يتعلق بقوله: "ولو خطب قاعدا" أو أراد بالتوارث ما نقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن الأئمة بعده من القيام في الخطبة.
م: (وللفصل بينهما وبين الصلاة) ش: متعلق بقوله: " أو على غير طهارة" وأراد أن الطهارة في الخطبة على غير طهارة لأجل وقوع الفصل بين الخطبة وبين الصلاة، فإنه إذا خطب على غير طهارة يحتاج إلى وضوء لأجل الصلاة، فوضوءه يكون فصلا بينهما.
فروع: لو خطب نفر الناس وجاء آخرون أجزأهم، لأنه خطب والقوم حضور، وصلى والقوم حضور، وكبر للجمعة والناس لم يكبروا حتى ركع، ثم كبر والقوم معه، يجزئهم، ولو رفع رأسه قبل أن يركعوا لا يجزئهم، ولو كبروا معه ثم خرجوا من المسجد ثم جاءوا وكبروا قبل رفع الإمام رأسه من الركوع أجزأهم، كذا في " المحيط ".
وفي المرغيناني: كبر الإمام والقوم حضور لم يشرعوا إن كان شروعهم قبل رفع الإمام من الركوع صحت الجمعة وإلا استقبلها، قيل: هذا قول محمد، وعن أبي حنيفة: إن شرعوا قبل أن يقرأ آية قصيرة جازت، وإلا استقبلها، وقال أبو يوسف: إن كبروا قبل أن يقرأ ثلاث آيات أو آية طويلة صحت وإلا استقبلها.
وفي " الواقعات ": أحدث الإمام وقال لواحد: اخطب ولا يصلي بهم أجزأه أن يخطب ويصلي بهم، وفي الأصل قدم وإن بعد ما خطب الأول وصلى بهم القادم لا يجوز إلا أن يعيد الخطبة، وكذا إذا أمر الثاني الأول أن يصلي بهم، فإن الأول مستأنف ثم أمر من يصلي بهم جاز، ولو خطب وحده لا يجوز، وإن كان بحضرة النساء، وعن أبي حنيفة يجوز، والصحيح الأول عن أبي يوسف لو خطب ولم يسمع الرجال جاز ولا يضر تباعدهم، ولو خطب والقوم نيام أو صم جازت. ذكره في " الذخيرة ".
ولو خطب بحضرة الإمام بغير إذنه لم يجز والإذن بالخطبة إذن بالصلاة، وكذا الإذن(3/57)
فإن اقتصر على ذكر الله جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالصلاة إذن بالخطبة أو شهدها جاز، وإن تقدم من غير أن يقدمه الإمام إن كان بعد الشروع يجوز.
وقيل: لا يجوز إلا إذا كان قاضيا أو صاحب شرط أو ذا سلطان، ولو خطب ثم ذهب فتوضأ في منزله ثم جاء فصلى جاز، ولو تغدى فيه أو جامع فاغتسل فاستقبل الخطبة، ذكره في " الواقعات " و" منية المفتي ".
وفي المرغيناني: لو رجع إلى منزله فتغدى أجزأه، ولو خطب وهو جنب فاغتسل استقبل.
وفي " قنية المنية ": خطب وفي يده منشور الوالي وصلى بالناس بالغ جاز. وقال القاضي عبد الجبار ومجد الأئمة الترجماني: لا يجوز ولا تصح صلاتهم بالبالغ، وفي صلاة الجلاتي: ويشترط في الخطبة أهلية الإمام في الجمعة، وعند الشافعي في المحدث والجنب قولان، الجديد اشتراط الطهارة، وكذا طهارة البدن والثوب والمكان وستر العورة، ولم يشترط الطهارة، وأحمد وداود في " الواقعات " لو أحدث الإمام وأمر من لم يحضر الخطبة أن يجمع بهم لم تصح جمعتهم، وإن أمر من حضر الخطبة أو بعضها فجمع بهم جاز.
وفي الأصل: لا يجوز، بخلاف ما لو شرع في الصلاة ثم استخلف من لم يشهدها جاز، ولو أحدث الإمام بعدما خطب قبل الشروع في الجمعة وأمر رجلا لم يشهد الخطبة أن يصلي بهم فأمر المأمور من شهد الخطبة من أهل الصلاة أن يصلي بهم جاز، وذكر الحاكم في "مختصره" أنه لا يجوز، ولو كان المأمور الأول ذميا ولم يعلم به الآمر فأمر الذمي مسلما لم يجز، لأنه ليس من أهل الصلاة.
وكذا لو كان مريضا يصلي بالإيماء أو أخرس أو أميا أو صبيا فأمروا غيرهم لم يجز، ولو أسلم الذمي وبرئ المريض وتكلم الأخرس وتعلم الأمي فصلى بهم أو أمر غيرهم جاز، ولو أمر نصرانيا أو صبيا فأسلم النصراني وبلغ الصبي لا يصليان حتى يؤمران بعد ذلك إذا استقضاه، ولو قال للنصراني: إذا أسلمت فصل بالناس أو اقض جاز، وكذا الصبي.
م: (فإن اقتصر على ذكر الله جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: إطلاق كلامه يقتضي أن يجوز بمجرد قول الله من غير أن يقرن به شيئا كالحمد وسبحان الله، لأنه ذكر الله، ولكن الرواية في " المبسوط " وغيره أنه إذا خطب بتسبيحة واحدة أو بتهليل أو بتحميد أجزأه في قوله.
وفي " المحيط ": ويجزئ في الخطبة قليل الذكر نحو قوله - الحمد لله- ونحو قوله "سبحان الله" وقال ابن المنذر: روينا عن الشعبي أنه قال: يخطب بما قل أو كثر، وفي "قاضي خان " التسبيحة الواحدة تجزئ في قول أبي حنيفة. وهو قول أبي يوسف الأول، وكان القول أولا لا يجزئ، وهو قول محمد وقول أبي يوسف الآخر إلا أنه يكون مسيئا بغير عذر كترك(3/58)
وقالا لا بد من ذكر طويل يسمى خطبة
لأن الخطبة هي الواجبة والتسبيحة أو التحميدة لا تسمى خطبة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تجوز حتى يخطب خطبتين اعتبارا للمتعارف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السنة.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يخطب خطبة خفيفة يحمد الله ويثني عليه ويتشهد ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويعظ الناس ويذكرهم، ويقرأ سورة، ذكره المرغيناني، وقال مالك: الخطبة كل كلام ذي بال، وروى مطرف عنه في " مختصر ابن عبد الحكم ": أو سبح أو هلل أو صلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا إعادة عليه، ثم اشترط عند أبي حنيفة أن يكون قوله الحمد لله على قصد الخطبة، حتى لو قال يريد الحمد لله على إعطائه لا ينوب عن الخطبة. وقيل: ينوب، والأول أصح، ونظيره التسمية على الذبيحة إنما تحل إذا كان قاصدا للذبح. وفي " الكافي": التكرار شرط في الحمد لله لتسمى خطبة.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد. م: (لا بد من ذكر طويل يسمى خطبة) ش: وبه قال عامة العلماء. وقال الإمام أبو بكر: أقل ما سمي خطبة عندنا مقدار التشهد من قوله التحيات لله إلى قوله عبده ورسوله.
وفي "التجنيس " مقدار الجلوس بين الخطبتين، وعند الطحاوي مقدار ما يمس موضع جلوسه المنبر، وفي ظاهر الرواية مقدار ثلاث آيات، وعند الشافعي تجب، وبه قال أحمد ومالك في رواية.
وفي " الخلاصة الغزالية ": في الخطبة الأولى أربع فرائض: التحميد، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والوصية بتقوى الله تعالى، وقراءة الآية، وكذا في الخطبة الثانية، إلا أن الدعاء للمؤمنين والمؤمنات في الثانية يدل على أن قراءة الآية في الأولى. وفي " الحلية " قيل: تجب القراءة في الخطبتين، قيل: ولا تجب فيهما، وقيل: تجب في إحداهما في أيتهما قرأ جاز، والقراءة في الثانية مستحبة، وقيل: واجبة وبقول أحمد أخذ.
م: (لأن الخطبة هي الواجبة) ش: يعني بالإجماع. م: (والتسبيحة) ش: الواحدة. م: (أو التحميدة) ش: الوحدة. م: (لا تسمى خطبة) ش: فوجب ما يسمى خطبة.
م: (وقال الشافعي: لا تجوز حتى يخطب خطبتين؛ اعتبارا للمتعارف) ش: أي للعادة، لأن الذي يخطب بأقل من ذلك لا يسمى خطبة في عادة الناس، ولا يخطب بها خطيبا، وصورة الخطبتين عنده: ما قد ذكرناه الآن، وعلل الأترازي للشافعي بقوله: "إن ذكر الله مجمل" لا يدري أي ذكر هو، وقد فسره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخطبتين، بفعله صار بيانا للكتاب.
ثم أجاب عن ذلك بقوله: لا نسلم أن ذكر الله مجمل، لأن المجمل ما لا يمكن العمل به إلا ببيان من المجمل، والعمل بالآية قبل البيان، لأن ما سمي ذكر الله معلوم عند الناس وفعل(3/59)
وله قَوْله تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] (الجمعة: الآية 9) ، من غير فصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لبيان السنة، ولا نسلم أن الجواز معلق بالخطبة، بل الجواز معلق بذكر الله، وقد حصل، ولئن سلمنا لكن لا نسلم أن القدر القليل لا يسمى خطبة، وكيف لا يسمى خطبة والخطبة موجودة في ذلك القدر؟
قلت: قوله: "لا نسلم أن الجواز معلق بالخطبة" فيه نظر، وكيف لا يعلق بالخطبة؟ والمراد من ذكر الله في قوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] (الجمعة: الآية9) ، هو الخطبة، فإذا كان المراد بالذكر الخطبة ما هو مضاد الخطأ، ولم يجز لهم عادوا بالقدر القليل، وقوله وحقيقة الخطبة موجودة في ذلك القدر غير مسلم، لأن المراد هو الخطبة الشرعية التي جرى عليها التوارث، وليس المراد الحقيقة اللغوية.
ثم سأل الأترازي بقوله:
فإن قلت: ذكر رأيت يقدم على الصلاة فوجب أن لا يقصر على الكلمة الواحدة كالأذان؟
قلت: لا نسلم أن القياس صحيح، لأن المقصود من الأذان الإعلام وهو لا يحصل بكلمة واحدة، بخلاف الخطبة، فإن المقصود منها ذكر الله وهو يحصل بكل ما يسمى ذكر الله.
قلت: وفيها أيضا إعلام بأن هذا يوم فيه قامت الخطبة مقام الركعتين، على ما روي عن عمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما قالا: إنما قصرت الصلاة لمكان الخطبة، ومعلوم أن قصر الصلاة لا يكون بما يسمى ذكر الله.
م: (وله) ش: أي لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (قَوْله تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] (الجمعة: الآية 9)) .
م: (من غير فصل) ش: يعني بين قليل الذكر وكثيره، والمراد بذكر الله الخطبة باتفاق المفسرين وقد أمر الله تعالى بالسعي إلى ذكره مطلقا، من غير قيد بذكر طويل ولا بخطبتين، فاشتراطه زيادة على النص بالفعل المنقول بخبر الواحد، فيحمل ذلك على السنة وكمال الذكر، وأصل الذكر حاصل بقولنا الحمد لله وسبحان الله، ولا إله إلا الله والله أكبر، ونحو ذلك، فما زاد على ذلك فهو شرط الكمال.
ثم قوله: "الحمد لله أو سبحان الله" كلام وخبر وتحته معان جليلة جمة، فالمتكلم بهذا اللفظ الوجيز كالذاكر لتلك المعاني الكثيرة بلفظ وجيز، فتكون خطبة وجيزة قصيرة، وقصر الخطبة مندوب إليه، وروي «طول الصلاة وقصر الخطبة مئنة من فقه الرجل» .
فإن قلت: ما حال هذا الحديث؟(3/60)
وعن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال الحمد لله فارتج عيه فنزل وصلى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قال ابن العربي: خرج في الصحيح، ولكن المشهور أنه من قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومعنى مئنة أي علامة على تفهمه، وجعل الجوهري الميم أصلية، وقيل هي فعلية، ونقل الأزهري عن أبي عبيد أن وزنها مفعلة فتكون الميم زائدة.
وقال ابن الأثير: وحقيقتها أنها مفعلة، من معنى أن التي للتخفيف والتأكيد غير مشتقة من لفظها، لأن الحروف لا تشتق منها، وإنما ضمت حروفها؛ دلالة على أن معناها فيها، ولو قيل: إنها اشتقت من لفظها بعدما جعلت اسما، لكان قولا، ومن أغرب ما قيل فيها: إن الهمزة بدل من الطاء في الخطبة، والميم في ذلك كلمة زائدة.
م: (وعن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: الحمد لله فأرتج عليه فنزل وصلى) ش: هذا غريب ولكن اشتهر في كتب الفقه أن عثمان قال على المنبر الحمد لله فأرتج عليه، فقال: إن أبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يعدان لهذا المقام مقالا، وإنكم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قوال، وسيأتي في الخطبة بعد هذا والسلام.
وذكره الإمام القاسم بن ثابت السرقسطي في كتاب " غريب الحديث " من غير سند، فقال: روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه صعد المنبر فأرتج المنبر عليه، فقال: الحمد لله إن أول كل مركب صعب وإن أبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كانا يعدان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قائل، وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها، ويعلم الله إن شاء الله، انتهى.
قال السراج: فنزل وصلى الجمعة ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فدل أنه يكتفي بهذا القدر، ومراده من قوله وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قوال، أن الخطباء الذين يأتون بعد الخلفاء الراشدين يكونون على كثرة المقال مع قبح الفعال، وإن لم أكن مثلهم فأنا على الخير دون الشر، فأما أن يريد بهذه المقالة تفضيل نفسه على الشيخين فلا، كذا في " المحيط ".
وروي أن الحجاج لما أتى العراق وصعد المنبر أرتج عليه، فقال: "يا أيها الناس قد هالني كبر رءوسكم وإحداقكم إلي بأعينكم، وإني لا أجمع عليكم بين الشيخ والصبي في نعماء بني فلان، فإذا قضيتم الصلاة فانتهبوها فنزل، وصلى معه أنس بن مالك وغيره من الصحابة، كذا في " المبسوط ".
وقال تاج الشريعة: وصلى معه ابن عمر وأنس والحسن وغيرهم من علماء التابعين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وقال السروجي: وروي عنه أنه كتب إلى الوليد بن عبد الملك يشكو إليه الحصر في الخطبة وقلة شهوة الأكل وضعف شهوة الجماع، فكتب إليه الوليد أنك إذا خطبت انظر إلى أخريات الناس ولا تنظر إلى من يكون تقرب منك، وأكثر ألوان الأطعمة، فإنك لو أكلت من(3/61)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كل لون شيئا يسيرا كفيت، وأكثر السراري فإن لكل جديد لذة.
قوله " فأرتج عليه": بضم الهمزة وسكون الراء وكسر التاء المثناة من فوق وتخفيف الجيم. وقال الجوهري: أرتج على القارئ على ما لم يسم فاعله إذا لم يقدر على القراء وأرتج الرجل في منطقة إذا استغلق عليه الكلام، وأرتجت الباب أي أغلقته.
وفي " النهاية" لابن الأثير: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإرتاج الباب أي بإغلاقه.
وفي " مجمع الغرائب ": يقال للرجل الذي لم يحضره منطق قد أرتج عليه كأنه قد أغلق عليه باب النطق. وقال المريد: قول العامة أرتج إليه بالتشديد ليس بشيء.
وفي " المغرب ": الكلام العربي بالتخفيف.
فإن قلت: روي عن أبي عبيدة أنه قال: يقال أرتج يعني بالتشديد، ومعناه وقع في وجه أي اختلاط.
قلت: هذا المعنى بعيد جدا.
فروع: الخطبة تشتمل على فروض وسنن، أما الفرض فشيئان الوقت وهو ما بعد الزوال وقبل الصلاة، حتى لو خطب قبل الزوال أو بعد الصلاة لا يجوز.
وأما السنن فخمسة عشر: الطهارة حتى كره من الجنب والمحدث. وقال أبو يوسف والشافعي: لا يجوز منهما. والقيام واستقبال القوم بوجهه، والقعود قبل الخطبتين، قال أبو يوسف: والبداية بالحمد لله والثناء عليه بما هو أهله، وكلمتا الشهادة والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والموعظة والتذكرة وقراءة القرآن، وتاركها مسيء، وقال الشافعي: لا يجوز، وقدرها ثلاث آيات والجلوس بين الخطبتين، وإعادة التحميد والثناء على الله تعالى في الخطبة الثانية؛ وزيادة الدعاء للمسلمين والمسلمات في الثانية وتخفيف الخطبتين بقدر سورة من طوال المفصل.
وأما الخطيب فمن السنة فيه طهارته واستقباله بوجهه إلى القوم وترك السلام من وقت خروجه إلى دخوله في الصلاة وترك الكلام، وبه قال مالك. وقال الشافعي وأحمد: السنة إذا صعد المنبر أن يسلم على القوم إذا استقبلهم بوجهه، وكذا روى ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: هذا الحديث أورده ابن عدي من حديث ابن عمر في ترجمة عيسى بن عبد الله الأنصاري وضعفه، وكذا ضعفه ابن حبان.
وقال الأثرم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن الشعبي قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس فقال: "السلام عليكم" ... » الحديث،(3/62)
ومن شرائطها الجماعة لأن الجمعة مشتقة منها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو مرسل فلا يحتج به عنده. وقال عبد الحق في " الأحكام الكبرى ": هو مرسل.
وإن أسنده أحمد من حديث عبد الله بن لهيعة فهو معروف بالضعف فلا يحتج به. وقال البيهقي: ليس بقوي، يعني الحديث.
وفي " الدراية ": والحجة عليه أي على الشافعي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام» .
وما رواه يحتمل أن يكون قبل هذا القول. وفي "المبسوط ": يستحب للقوم أن يستقبلوا الإمام عند الخطبة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، وقال ابن المنذر: وهذا كالإجماع. وقال النووي: يكره في الخطبة أن يفعل الخطيب ما يفعله الجهال من الخطباء من الدق بسيف على درج المنبر، وكذا المجازفة في أوصاف السلاطين في الدعاء لهم، انتهى.
ويستحب أن يتوكأ الخطيب في خطبته على نحو قوس وغيره، «وروى أبو داود عن رجل له صحبة في حديث طويل أنه قال: شهدنا الخطبة مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقام يتوكأ على عصا أو قوس.» وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن ابن حبان عن يزيد بن عبد البر عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبهم يوم عيد وفي يده قوس أو عصا» .
وعن طلحة بن يحيى قال: رأيت عمر بن عبد العزيز يخطب وبيده قضيب، وذكر البقالي: يخطب بالسيف في بلدة فتحت بالسيف.
[الجماعة من شرائط الجمعة]
[العدد الذي تصح به صلاة الجمعة]
م: (ومن شرائطها) ش: أي ومن شرائط الجمعة. م: (الجماعة، لأن الجمعة مشتقة منها) ش: فلا يتحقق بدونها، كالضارب لما كان مشتقا من الضرب لم يتحقق بدونه، وكذا في سائر المشتقات، واجتمعت الأمة على أنها لا تصح من المنفرد إلا ما ذكره ابن حزم في " المحلى " عن بعض الناس أن الفذ يصلي الجمعة كالظهر.(3/63)
وأقلهم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثلاثة سوى الإمام، وقالا اثنان سواه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وأقلهم) ش: أي أقل الجماعة في انعقاد الجمعة. م: (عند أبي حنيفة ثلاثة) ش: أي ثلاثة رجال. م: (سوى الإمام) ش: وبه قال زفر والليث بن سعد، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وأبي ثور والثوري في قول واختاره المزني.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد. م: (اثنان سواه) ش: أي سوى الإمام، وبه قال أبو ثور وأحمد في رواية والثوري في رواية، وهو قول الحسن البصري، واعلم أن في العدد الذي تصح به الجمعة أربعة عشر قولا، الأول والثاني ذكرناهما الآن.
والثالث: إنما تنعقد بواحد سوى الإمام، وهو قول النخعي والحسن بن حي وأبي سليمان وجميع الظاهرية.
والرابع: بسبعة رجال، وهو مروي عن عكرمة.
والخامس: بتسعة.
والسادس: باثني عشر رجلا. وهو قول ربيعة.
والسابع: بثلاثة عشر رجلا، ذكره في " المحلى ".
والثامن: بعشرين.
والتاسع: بثلاثين، رواه ابن حبيب، ذكره في " المحلى ".
والعاشر: بأربعين سواك، ذكره ابن شداد عن عمر بن عبد العزيز.
والحادي عشر: بأربعين رجلا أحرارا بالغين عقلاء مقيمين لا يظعنون صيفا ولا شتاء إلا ظعن حاجة. وهو قول الشافعي، وظاهر قول أحمد ولم يوافقه على جميع شروطه.
والثاني عشر: بخمسين رجلا، حكاه في " المحلى " عن عمر بن عبد العزيز، ورواه عن أحمد.
والثالث عشر: ثمانين، ذكره المازري.
والرابع عشر: بغير تحديد.
واحتج الشافعي بقصة أسعد بن زرارة، رواها أبو داود عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة: قلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة قال: لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت في حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات، قلت: كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون، رواه ابن ماجه والبيهقي أيضا. وقد ذكرناه في أول الكتاب مشروحا، ولا حجة له فيه بوجهين: أحدهما: أنه(3/64)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان قبل أن يقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما رواه البيهقي في "سننه الكبرى". والثاني: أنه يجوز مع الأربعين ولا يدل على عدم الجواز بدون الأربعين، ونحن نجوزه بدون الأربعين وبأقل من الأربعين وبأكثر منها.
واحتج الشافعي أيضا بما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة» .
وبما روي عن أبي هريرة أنه أقام الجمعة بجواثا بإذن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفيها أربعون رجلا، وبما روي عن أبي أمامة أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «لا جمعة إلا بأربعين» .
وبما روي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «إذا اجتمع أربعون فعليهم الجمعة» وأيضا لم ينقل على عهد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والخلفاء بعده الجمعة بأقل من أربعين رجلا.
والجواب عما روى جابر:
إن قلت: إنه لا يدل على نفي الجواز بما دون الأربعين.
قلت: في قول الصحابة: مضت السنة، خلافا بين العلماء، وقال النووي: حديث جابر هذا ضعيف، رواه البيهقي وغيره بإسناد ضعيف، وقال: هو حديث لا يحتج بمثله.
والجواب عن حديث أبي هريرة: كالجواب عن حديث جابر.
والجواب عن حديث أبي أمامة: أنه لا أصل له، والجواب عما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اجتمع أربعون فعليهم الجمعة» أن صاحب الوجه ذكره ولم يثبت عند أهل النقل.
والجواب عن قولهم ينقل على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.... إلخ: أنه يرده ما رواه البخاري ومسلم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من حديث جابر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائما يوم الجمعة فقدم عير من الشام فنفر الناس وبقي معه اثنا عشر رجلا فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] (الجمعة: الآية 11) » ، قال أبو بكر الرازي: ومعلوم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يترك الجمعة منذ قام بالمدينة، ولم يذكر رجوع القوم، فوجب أن يكون قد صلى باثني عشر رجلا، فبطل اشتراط الأربعين كما قال الشافعي وابن حنبل رحمهما الله، ولأن أول جمعة كانت بالمدينة صلاها مصعب بن عمير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باثني عشر رجلا قبل الهجرة، فبطل بذلك اشتراط الأربعين.(3/65)
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والأصح أن هذا قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وحده له أن في المثنى معنى الاجتماع، وهي منبئة عنه، ولهما أن الجمع الصحيح إنما هو الثلاث؛ لأنه جمع تسمية ومعنى، والجماعة شرط على حدة، وكذا الإمام فلا يعتبر منهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: روى البيهقي والدارقطني أنهم انفضوا فلم يبق إلا الأربعون.
قلت: هذا ليس بصحيح، والصحيح ما رواه الشيخان.
فإن قلت: انفضوا في الخطبة أم في الصلاة؟
قلت: في روايات مسلم أنهم انفضوا في الخطبة، وفي رواية البخاري في الصلاة.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (والأصح أن هذا قول أبي يوسف وحده - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي الأصح أن كون الاثنين سوى الإمام شرطا لانعقاد الجمعة، هو قول أبي يوسف وحده - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد مع أبي حنيفة - رحمهما الله-، والمذكور في عامة نسخ " المختصر " أن محمدا مع أبي يوسف، واحترز المصنف بقوله والأصح أن هذا. م: (له) ش: لأبي يوسف. م: (أن في المثنى معنى الاجتماع) ش: لأن فيه اجتماع واحد مع آخر. م: (وهي) ش: أي الجمعة. م: (منبئة) ش: أي مخبرة. م: (عنه) ش: أي عن الاجتماع لما ذكر أن الجمعة مشتقة من الجماعة وفي الجماعة اجتماع لا محالة.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله-. م: (أن الجمع الصحيح) ش: يعني لغة ومعنى. م: (إنما هو الثلاث) ش: ولهذا يقال رجال ثلاثة، ولا يقال رجال اثنان. م: (لأنه) ش: أي لأن الثلاث. م: (جمعة تسمية) ش: أي من حيث التسمية في اللغة. م: (ومعنى) ش: أي ومن حيث المعنى أيضا، ولهذا صح تقسيم أهل الصنعة بين المفرد والمثنى والمجموع ونفي الجمع عن التثنية في قول القائل، هذا مثنى وليس بمجموع.
وهذا تثنية وليس بجمع، فإذا صح أن الجماعة مشروطة في الجمع وجب حملها على الجمع المطلق وهو الثلاث فما فوقها، حتى يقوم الدليل على إرادة الاثنين، كما في قَوْله تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بشهود» ولما قال القائل فيما قاله أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - كذلك لأنه يقبل مع الإمام ثلاثة، أجاب المصنف بقوله. م: (والجماعة شرط على حده) ش: أي وحدها دون الإمام.
م: (وكذا الإمام) ش: شرط على حدة. م: (فلا يعتبر منهم) ش: أي من الجماعة، لأن الله تعالى قال: {فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] وهو يقتضي ثلاثة، لأنها أقل الجمع وقوله: {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] يقتضي ذاكرا، فذلك أربعة، ومن وجه خمسة، لأن قوله: {إِذَا نُودِيَ} [الجمعة: 9] يقتضي المنادي، وهو المؤذن، وقوله: {فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] يقتضي ثلاثة، لأنها أقل الجمع، وقوله: {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] يقتضي الذاكر، وهو الإمام، وعلى كل حال يجب أن يكون لهم من يصلح إماما، حتى إذا كان صبيا أو مجنونا لا(3/66)
وإن نفر الناس قبل أن يركع الإمام ويسجد، ولم يبق إلا النساء والصبيان استقبل الظهر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا إذا نفروا عنه بعدما افتتح الصلاة صلى الجمعة، فإن نفروا عنه بعدما ركع وسجد سجدة بنى على الجمعة في قولهم جميعا خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يجوز.
م: (وإن نفر الناس) ش: يعني إذا اقتدى الناس بالإمام في صلاة الجمعة، ثم عرض للناس عارض إذا هم إلى النفور فنفروا وبقي الإمام وحده إن كان ذلك. م: (قبل أن يركع الإمام ويسجد) ش: يعني بعد الشروع، لأنهم إن نفروا قبل شروعهم مع الإمام لا يصلي الجمعة بلا خلاف، والخلاف في النفور بعد الشروع قبل الركوع والسجود لما نذكره، وقوله. م: (ولم يبق إلا النساء والصبيان) ش: يعني لم ينفروا فلا يعتبر لبقائهم، لما يجيء عن قريب. م: (استقبل الظهر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ولو بقي معه رجلان أو صبيان أو نساء. وقال الثوري: إن بقي معه رجلان صلى الجمعة، وبه قال أبو ثور، وإن بقي معه واحد يصلي الجمعة.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله-. م: (إذا نفروا عنه) ش: أي عن الإمام. م: (بعدما افتتح الصلاة صلى الجمعة) ش: وإن بقي وحده. وبه قال المزني في قول. م: (فإن نفروا عنه) ش: أي عن الإمام. م: (بعدما ركع وسجد سجدة بنى على الجمعة في قولهم جميعا) ش: أي في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (خلافا لزفر) ش: فعنده يصلي الظهر، وعند مالك إن انفضوا بعد الإحرام ويسر رجوعهم بنى على إحرامه أربعا وإلا جعلها نافلة وانتظرهم، وإن انفضوا بعد ركعة، قال أشهب وعبد الوهاب - رحمهما الله: يتمها جمعة، وهو اختيار المزني، وقال سحنون: هو كما بعد الإحرام فيشترط إلى الانتهاء.
وقال إسحاق: إن بقي معه اثنا عشر صلى الجمعة. وظاهر كلام أحمد استدامة الأربعين. وقال النووي: لو أحرم بالأربعين المشروطة ثم انفضوا فعنه خمسة أقوال، أصحها يتمها ظهرا كالابتداء، وللمزني تخريجان: أحدهما: يتمها جمعة واحدة كقولهما.
والثاني: إن صلى ركعة سجد فيها أتمها جمعة، وقيل: إن بقي معه واحدة أتمها جمعة، ونص عليه في القديم، وذكر ابن المنذر إن بقي معه اثنان لا يتمها جمعة وهو رواية البويطي.
وقال صاحب " التقريب ": يحتمل أن يكتفي بالعبد والمسافر، وأقام الماوردي الصبي والمرأة مقامهما، فالحاصل بقاء الأربعين في كل الصلاة، هل هو شرط أم لا؟ قولان. فإن قلنا: لا، فهل شرط بقاء عدد أم لا؟ قولان، فإن قلنا، فهل يفصل بين الركعة الأولى والثانية أم لا؟ قولان. فإن قلنا: نعم. فلم يشترط؟ قولان: أحدهما ثلاثة والآخر اثنان، فإذا أردت اختصار ذلك(3/67)
وهو يقول إنها شرط فلا بد من دوامها كالوقت، ولهما أن الجماعة شرط الانعقاد فلا يشترط دوامها كالخطبة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: في المسألة خمسة أقوال: أحدها: يتمها ظهرا كيفما كان وهو الصحيح. والثاني: جمعة كيفما كان. والثالث: إن بقي معه اثنان أتمها جمعة وهو الأظهر. والرابع: إن بقي معه واحد أتمها جمعة. والخامس: إن انفضوا أو بعضهم بعد تمام الركعة يسجد فيها أتم جمعة، وإلا أتمها ظهرا.
م: (وهو يقول) ش: أي يقول زفر فيما ذهب إليه. م: (إنها) ش: أي إن الجمعة عنه. م: (شرط فلا بد من دوامها) ش: كما في سائر الشروط. م: (كالوقت) ش: فإن دوامه شرط لصحة الجمعة، فكذلك دوام الجماعة.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله-. م: (أن الجماعة شرط الانعقاد) ش: أي انعقاد الجمعة لا شرط الأداء. م: (فلا يشترط دوامها) ش: والدليل على ذلك أن المقتدي إذا أدرك ركعة من الجمعة يقضي الجمعة بالاتفاق، وكذا إذا أدرك التشهد عندهما، خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم حاجة المقتدي إلى الإمام فوق حاجة الإمام إلى المقتدي، لأن الإمام أصل، والمقتدي تبع، ودوام الإمام لم يحصل شرطا لصحة صلاة المقتدي حتى صح صلاة المسبوق في الجمعة، مع أن حاجة المقتدي أكبر، فلأن لا يجعل دوام المقتدي شرطا لصحة الإمام أولى.
م: (كالخطبة) ش: وجه التشبيه هو كون كل واحد من الجماعة والخطبة شرطا لانعقاد الجمعة، ولكن دوام الخطبة ليس بشرط. فكذلك دوام الجماعة، ألا ترى أن الإمام بعدما كبر وسبقه الحدث فاستخلف من لم يشهد الخطبة أتم الجمعة، فكان استخلافه إياه بعد التكبير كاستخلافه بعد أداء ركعة، فهذا مثله، وفي " التجنيس ": خطب وفرغ منها فذهب القوم كلهم وجاء آخرون وصلى بهم أجزأه، لأنه خطب والقوم حضور، وصلى والقوم حضور فتحقق شرط جواز الخطبة.
وعند الشافعي: يجب استئناف الخطبة ولو عاد بعد ذلك القوم ولم يطل الفصل لم يجب استئنافها، ولو طال الفصل ففيه خلاف بين أصحابه، قيل: يجب، وقيل: لا يجب، كذا في " شرح الوجيز " وفي " الأجناس ": لو خطب وحده أو بحضرة النساء لم يجز، وبه قال الشافعي، وعن أبي حنيفة - رحمهما الله: يجوز، والصحيح الأول، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو خطب ولم يسمع الرجال جاز، ولا يضر تباعدهم، ولو خطب والقوم نيام أو صم جازت، ذكره في " الذخيرة "، ولو خطب بحضرة الإمام بغير إذنه لم يجز، والإذن بالخطبة إذن بالصلاة، وكذا الإذن بالصلاة إذن بالخطبة وقد سبق هذا ونظائره فيما سبق.(3/68)
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الانعقاد بالشروع في الصلاة، ولا يتم ذلك إلا بتمام الركعة، لأن ما دونها ليس بصلاة، فلا بد من دوامها إليها بخلاف الخطبة لأنها تنافي الصلاة فلا يشترط دوامها، ولا معتبر في بقاء النسوان وكذا الصبيان لأنه لا تنعقد بهم الجمعة فلا تتم بهم الجماعة،
ولا تجب الجمعة على مسافر ولا امرأة ولا مريض ولا عبد ولا أعمى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الانعقاد بالشروع في الصلاة) ش: تقديره: أن أبا حنيفة يقول: المقدمة الأولى صحيحة، وهي كون الجماعة شرط الانعقاد، والانعقاد إنما هو بالشروع في الصلاة. م: (ولا يتم ذلك) ش: أي الشروع في الصلاة. م: (إلا بتمام الركعة، لأن ما دونها ليس بصلاة) ش: لكونه في محل الرفض، لأن ما دون الركعة معتبر من وجه دون وجه، فالأول فيما إذا يحرم ثم قطع يلزمه القضاء.
والثاني: فيما إذا أدرك الإمام في السجود لا يصير مدركا للركعة، وصلاة الجمعة تغيرت من الظهر إلى الجمعة، فلا تغير إلا بتعين ولا تعين إلا بوجود الركعة، والذي يأتي بركعة يأتي بأركان الصلاة ولا يبقى عليه إلا الركن المكرر، والمصلي ما لم يقيد بالسجدة مستفتح لكل ركن، مكان ذهاب الجماعة، قيل: قيدها بالسجدة كذهابهم قبل التكبير، بخلاف ما بعد تقييدها بالسجدة، فإنه مقيد للأركان لا يفتتح، فافهم، فإنه موضع دقيق.
م: (فلا بد من دوامها إليها) ش: أي فلا بد من دوام الجماعة إلى الركعة أي إلى تمام الركعة، والفاء فيه نتيجة قوله: لأن ما دونها ليس بصلاة، وفي الحقيقة الفاء جواب شرط محذوف، تقديره: إن لم يكن ما دون الركعة صلاة فلا بد من دوام الجماعة إلى تمام الركعة.
م: (بخلاف الخطبة) ش: جواب عن سؤال مقدر تقديره بأن يقال: سلمنا أن الجماعة شرط دوام الخطبة إلى تلك الغاية، وتقدير الجواب هو قوله. م: (لأنها) ش: أي لأن الخطبة. م: (تنافي الصلاة) ش: لأنه حين توجد الخطبة لا توجد الصلاة، وحين توجد الصلاة لا توجد الخطبة، والمنافاة بين الشيئين عبارة عن عدم الاجتماع بينهما في محل واحد، في زمان واحد. م: (فلا يشترط دوامها) ش: أي دوام الخطبة إلى الركعة، والفاء فيه مثل الفاء فيما قبلها.
م: (ولا معتبر في بقاء النسوان) ش: لأنه لا ينعقد بهن الجماعة، وهو متعلق بقوله إلا النساء والصبيان، بخلاف بقاء المسافرين وأصحاب الأعذار، ومن لم يشهد الخطبة. م: (وكذا الصبيان) ش: وكذا لا يعتبر بقاء الصبيان، وقد علل هذين الصنفين بقوله. م: (لأنه لا تنعقد بهم الجمعة فلا تم بهم الجماعة) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد، بخلاف ما إذا بقي خلفه من العبيد والمسافرين ثلاثة، حيث يصلي بهم الجمعة عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد، فعندهما يصلي الإمام الظهر، لأنهما يشترطان أربعين رجلا أحرارا مقيمين كما ذكرنا.
[من لا تجب عليه الجمعة]
م: (ولا تجب الجمعة على مسافر ولا امرأة ولا مريض ولا عبد ولا أعمى) ش: أما المسافر فلما(3/69)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
روى البيهقي من حديث جابر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا على امرأة أو مسافر أو عبد أو مريض» وفي إسناده ضعف، ولكن له شواهد ذكرها البيهقي وغيره.
وروى الحافظ في "سننه " عن تميم الدارمي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الجمعة واجبة إلا على خمسة: امرأة أو صبي أو مسافر أو عبد» . وقال ابن المنذر: وفي صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر بعرفة، وكان يوم الجمعة دليل على أن لا جمعة على مسافر.
قلت: هذا وهم منه، فإن عرفات مفازة، ولا تقام الجمعة في المفازة عند الأئمة الأربعة خلافا للظاهرية ولا يعتد بخلافهم، وحكي عن النخعي والزهري الوجوب على المسافر، وهو قول الظاهرية، وأما المرأة فلما روى أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "سننه" من حديث طارق بن شهاب - رحمهما الله- عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض» ، وقال أبو داود: وطارق بن شهاب - رحمهما الله - قد رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يسمع منه شيئا.
قلت: هذا غير قادح في صحة الحديث فإنه يكون مرسل صحابي وهو حجة، وكذا قال النووي في " الخلاصة "، والحديث قال على شرط الشيخين، انتهى.
ورواه الحاكم في "مستدركه " عن هريم بن سفيان به، عن طارق بن شهاب عن أبي موسى مرفوعا، فقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد احتجا بهريم بن سفيان، ورواه ابن عيينة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر فلم يذكر فيه أبا موسى، وطارق بن شهاب يعد في الصحابة، وذكر الذهبي في "تجريد الصحابة ": وطارق بن شهاب البجلي الأحمسي له رؤية ورواية، وقد صرح ابن الأثير في "جامع الأصول " بسماعه من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي " التهذيب " عن الزهري أنه صحابي أدرك الجاهلية، وصحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعقد له المزني في أطراف "سننه ". وذكر له عدة أحاديث.(3/70)
لأن المسافر يحرج في الحضور، وكذا المريض والأعمى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما المريض والعبد فللأحاديث المذكورة، وقال ابن المنذر: وجمهور أهل العلم على أنه لا جمعة على مسافر ولا عبد، وهو قول الحسن وعطاء وعمر بن عبد العزيز والشعبي والثوري وأهل المدينة والشافعي وأحمد - رحمهما الله- في إحدى الروايتين في العبد وإسحاق بن راهويه وأبي ثور. وعن الحسن أنها تجب على العبد الذي يؤدي الضريبة، وقال في " الذخيرة ": في رواية ابن سفيان الوجوب على العبد عند مالك، وقال صاحب " الذخيرة ": وهي مردودة بالحديث.
وأما الأعمى فلا تجب عليه الجمعة، سواء وجد قائدا أو لا، وكذا على المقعد والعاجز عن الوضوء والتوجه مع مساعد، وعندهما يجب عليهم مع وجود القائد والمساعد، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وذكر المرغيناني: العبد لو أذن له مولاه في الجمعة مخير، وفي " منية المفتي ": يجب عليه، وفي " المرغيناني ": في العبد الذي حضر باب الجامع مع مولاه يحفظ الدابة خلاف، والأصح أنه يصلي إذا لم يخل بحفظ دابته، والمكاتب يجب عليه، وقيل: لا يجب عليه، ومعتق البعض في حال سعايته، كذلك في " جوامع الفقه " والأجير يوما لا يذهب إلى الجمعة والجماعة إلا بإذن المستأجر، وكذا قاله أبو حفص الكبير. وقال أبو علي الدقاق: ليس له منعه في المصر عن حضور الجماعة، لكن يسقط الأجر بقسطه.
وفي " المجتبى ": ولا تجب الجمعة على الأجير إلا بإذن المستأجر، أما العبد لو أذن له مولاه، فهو مخير بين الجمعة والظهر، والمختفي من السلطان الظالم يباح له أن لا يخرج إلى الجمعة والجماعة، وتسقط بعذر المطر والوحل. وفي " الذخيرة ": للمولى منع عبده من الجمعة والعيدين.
م: (لأن المسافر يحرج في الحضور) ش: هذا إلى قوله: "فإن حضروا" - تعليل عقلي، ولم يذكر المصنف شيئا من الحجج النقلية، قوله: يحرج، من حرج يحرج، من باب علم يعلم، فقال: حرج فلان في أمره إذا استدل عليه، ويقال حرج أيضا إذا ضاق صدره، ويقال: مكان حرج بكسر الراء وفتحها أي ضيق كثير الشجر لا تصل إليه الراعية، والحرج بفتح الراء أيضا الإثم، وقال ابن الأثير: الحرج في الأصل الضيق، ويقع على الإثم والحرام، وقيل: الحرج أضيق الضيق، والحرج الذي يلحق المسافر، إما عدم وجدان أجير يحفظ رحله إذا ذهب إلى الجمعة أو خوف انقطاعه عن رفقته.
م: (وكذا المريض والأعمى) ش: وكذا يحرج الأعمى والمريض في الحضور إلى الجمعة، والحرج مرفوع شرعا.(3/71)
والعبد مشغول بخدمة المولى، والمرأة بخدمة الزوج، فعذروا دفعا للحرج والضرر، فإن حضروا وصلوا مع الناس أجزأهم عن فرض الوقت؛ لأنهم تحملوه فصاروا كالمسافر إذا صام،
ويجوز للمسافر والعبد والمريض أن يؤم في الجمعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " قنية المنية ": إن وجد المريض ما يركبه فهو كالأعمى على الخلاف إذا وجد قائدا، وقيل: لا يجب عليه اتفاقا كالمقعد، وقيل: وهو كالقادر على المشي، فيجب في قولهم، وهو الصحيح.
قلت: ينبغي أن يكون الصحيح عدم الوجوب، لأن في إلزامه الركوب والذهاب إلى الجمعة زيادة المرض فلا يلزم بالحضور، والممرض قيل كالمريض والأصح أنه أن يبقى ضائقا بخروجه فهو عذر.
م: (والعبد مشغول بخدمة المولى) ش: فإذا ألزم الحضور يحصل الضرر لمولاه بترك الخدمة، فصار كالحج والجهاد، بخلاف الصلاة المفروضة لأنه يؤديها بنفسه في زمان يسير فلا يلزم الضرر بالمولى، وكذا الصوم لأنه قادر على الجمع بينه، وبين خدمة المولى. م: (والمرأة بخدمة الزوج) ش: أي والمرأة مشغولة بخدمة الزوج، فإذا ألزمت بالحضور حصل الضرر. م: (فعذروا) ش: أي إذا كان كذلك فهم عذروا وهو على صيغة المجهول المبني للمفعول، والضمير فيه يرجع إلى المسافر والمرأة والمريض والعبد والأعمى. م: (دفعا للحرج والضرر) ش: أي لدفع المشقة، وهو نصب على التعليل. قوله: والضرر، يجوز أن يكون تفسيرا للحرج أو يكون الحرج في بعض هؤلاء، والضرر في بعضهم.
م: (فإن حضروا) ش: أي فإن حضر هؤلاء المذكورين في يوم الجمعة إلى الصلاة. م: (وصلوا مع الناس أجزأهم عن فرض الوقت) ش: أي أجزأتهم الجمعة عن الظهر. وقال ابن قدامة: لا نعلم في هذا خلافا. وقال ابن المنذر: أجمع من يحفظ عنه من أهل العلم على أن النساء لو صلين الجمعة يجزئهن عن الظهر، مع إجماعهم على أن لا جمعة عليهن، انتهى.
وعن الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان نساء المهاجرين يصلين الجمعة مع رسول الله يحتسبن بها من الظهر، ولأن هؤلاء من أهل الفرض والرخصة لهم في ترك السعي للعذر، فلما حضروا زال العذر وسقط الفرض.
م: (لأنهم) ش: أي لأن هؤلاء المذكورين. م: (تحملوه) ش: أي الحرج. م: (فصاروا كالمسافر إذا صام) ش: في رمضان يسقط عنه الفرض، فكذا هؤلاء يسقط عنهم الفرض بحضورهم وصلاتهم الجمعة.
[إمامة المسافر والعبد والمريض في الجمعة]
م: (ويجوز للمسافر والعبد والمريض أن يؤم في الجمعة) ش: أي لكل واحد أن يؤم، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أصح قوليه، وفي قول: إن كان صاحب العذر أحدا من أربعين رجلا(3/72)
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجزئه؛ لأنه لا فرض عليه، فأشبه الصبي والمرأة. ولنا أن هذه رخصة، فإذا حضروا يقع فرضا على ما بيناه، أما الصبي فمسلوب الأهلية، والمرأة لا تصلح لإمامة الرجال. وتنعقد بهم الجمعة، لأنهم صلحوا للإمامة فيصلحون للاقتداء بطريق الأولى، ومن صلى الظهر في منزله يوم الجمعة قبل صلاة الإمام ولا عذر له كره له ذلك وجازت صلاته.
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجزئه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا يجوز. وقال مالك: لا تصح إمامة العبد. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز خلف العبد والمسافر، وفي الحل منع ذلك من جواز إمامة المسافر في الجمعة، قيل: هو خطأ.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجزئه) ش: أي لا يجزئ كل واحد منهم أن يؤم. م: (لأنه لا فرض عليه) ش: أي فرض صلاة الجمعة. م: (فأشبه الصبي والمرأة) ش: في عدم جواز إمامتهما. وفي " جوامع الفقه " روى عن أبي يوسف مثل قول زفر.
م: (ولنا أن هذه رخصة) ش: أي سقوط الجمعة عن المذكورين رخصة، وتأنيث الإشارة باعتبار الخبر، وإنما كان السقوط رخصة لهم دفعا للحرج. م: (فإن حضروا يقع فرضا) ش: يعني إذا تركوا الرخصة وحضورا وصلوا يقع ما صلوا عن فرض الوقت، لأن الإسقاط عنهم لدفع الحرج، والقول بعدم الجواز يؤدي إلى الحرج، وفيه فساد الوضع. م: (على ما بيناه) ش: أشار به إلى قوله: لأنهم تحملوه.
م: (أما الصبي فمسلوب الأهلية) ش: جواب عن قول زفر: فأشبه الصبي، وتقريره: أن الصبي لا أهلية له لعدم البلوغ، فالقياس عليه لا يجوز. م: (والمرأة لا تصلح لإمامة الرجال) ش: هذا أيضا جواب عن قول زفر: فأشبه المرأة، وهو ظاهر.
م: (وتنعقد بهم الجمعة) ش: هذه مسألة متبرأة، أي تنعقد بالمسافر والعبد والمريض الجمعة. م: (لأنهم صلحوا للإمامة فيصلحون للاقتداء بطريق الأولى) ش: لأن من جازت إمامته في الجمعة يعتد به في العدد، وفيه إشارة إلى رد قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن هؤلاء لا تصلح إمامتهم، فلا يعتد بهم في العدد الذي تنعقد بهم الجمعة.
م: (ومن صلى الظهر في منزله يوم الجمعة قبل صلاة الإمام) ش: أي قبل أن يصلي الإمام الجمعة، قيد به لأنه إذا صلى الظهر في منزله بعدما صلى الإمام الجمعة جاز بالاتفاق. م: (ولا عذر له) ش: أي والحال أنه لا عذر له، قيد به لأن المعذور إذا صلى الظهر قبل صلاة إمام الجمعة يجوز بالاتفاق، والمعذور مثل المسافر والعبد والمريض والمرأة. م: (كره له ذلك) ش: أي ما فعله من صلاته في منزله قبل صلاة إمام الجمعة، وجه الكراهة مخالفة إمام الجمعة. م: (وجازت صلاته) ش: عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور وابن نافع والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في القديم.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجزئه) ش: وبه قال مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -(3/73)
لأن عنده الجمعة هي الفريضة أصالة، والظهر كالبدل عنها، ولا مصير إلى البدل مع القدرة على الأصل. ولنا أن أصل الفرض هو الظهر في حق الكافة، هذا هو الظاهر. إلا أنه مأمور بإسقاطه بأداء الجمعة، وهذا لأنه متمكن من أداء الظهر بنفسه دون الجمعة لتوقفها على شرائط لا تتم به وحده، وعلى التمكن يدور التكليف،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في الجديد، وقال ابن المنذر: والفرض هو الذي في بيته إذا كان الإمام يؤخر الجمعة، وقال الحكم بن عيينة: يصلي معهم ويصنع الله ما يشاء. م: (لأن عنده) ش: أي لأن عند زفر. م: (الجمعة هي الفريضة أصالة) ش: أي من حيث الأصالة، لأنه مأمور بالسعي إليها منهي عن الاشتغال بالظهر ما لم يتحقق فوت الجمعة، وهذا صورة الأصل. م: (والظهر كالبدل عنها) ش: أي عن الجمعة. م: (ولا مصير إلى البدل مع القدرة على الأصل) ش: كالتيمم مع القدرة على الماء، وإنما قال: والظهر كالبدل عنها، ولم يقل: والظهر بدل عنها؛ لأن الأربع لا تكون بدلا عن الركعتين حقيقة. م: (ولنا أن أصل الفرض هو الظهر، في حق الكافة) ش: أي في حق الناس كافة. م: (هذا هو الظاهر) ش: أي كون أصل الفرض هو الظهر، ظاهر المذهب عند أصحابنا الثلاثة، وأشار به إلى أن في هذا اختلاف الرواية، ففي " الذخيرة ": فرض الوقت الظهر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول، وفي قوله الآخر: الفرض أحدهما غير معين، وإنما يتعين بالفعل إلا أن الجمعة آكد من الظهر، وفي " الينابيع ": وقيل: الفرض أحدهما أو فرضها الجمعة، حتى لو صلاهما فالفرض هو الجمعة تقدمت أو تأخرت.
وفي " المرغيناني " و" الولوالجي ": وقيل: الواجب كلاهما، ويسقطان بأداء الجمعة، وفي " المفيد " قال أبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله-: فرض الوقت الظهر، لكن أمر غير المعذور بإسقاطه بالجمعة حتما والمعذور رخصة. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فرض الوقت الجمعة، لكن رخص له بإسقاطها بالظهر، ومثله في " المحيط "، وفي " الينابيع ": هو أصح أقواله، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: لا أعلم فرض الوقت ما هو، وإنما الفرض ما استقر عليه فعله.
م: (إلا أنه مأمور بإسقاطه) ش: أي إسقاط الظهر. م: (بأداء الجمعة) ش: عند وجود شرائطها. م: (وهذا) ش: أي ما ذكرنا من كون الظهر هو الأصل وكونه مأمورا بإسقاطه بأداء الجمعة. م: (لأنه) ش: أي لأن المكلف. م: (متمكن من أداء الظهر بنفسه) ش: أي وحده. م: (دون الجمعة) ش: أي غير متمكن من أداء الجمعة. م: (لتوقفها على شرائط) ش: خارجة عن قدرته؛ هي الإمام والخطبة والجماعة والمصر. م: (لا تتم) ش: تلك الشرائط. م: (به) ش: أي بالمكلف.
م: (وحده) ش: من عدم قدرته عليهما. م: (وعلى التمكن يدور التكليف) ش: لأن مدار التكليف على الوسع بالنص، فدل ذلك أن الظهر هو فرض الوقت، لكن عليه إسقاطه بالجمعة عند وجود شرائطها كما ذكرنا، ألا ترى أن الجمعة إذا لم تصل حتى خرج الوقت يُقضى الظهر لا(3/74)
فإن بدا له أن يحضرها فتوجه إليها والإمام فيها بطل ظهره عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالسعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجمعة، فلو لم يكن فرض الوقت الظهر لم يقض الظهر بل الجمعة.
وثمرة الخلاف بين محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وصاحبيه على غير ظاهر الرواية، فظهر فيمن تذكر أن عليه فجر يومه يخاف فوت الجمعة إن اشتغل بالفجر فعندهما لا تجزئه الجمعة، لأن فرض الوقت هو الظهر، فإذا ترك الجمعة أمكنه فعل الظهر من غير فوات، وعند محمد يصلي الجمعة لأن فرض الوقت هي الجمعة، فصار كالذي يذكر فجر يومه في آخر وقت الظهر، حيث يصلي الظهر لئلا يفوت فرض الوقت.
م: (فإن بدا له أن يحضرها) ش: أي فات ظهر لهذا الذي صلى الظهر في منزله يوم الجمعة قبل صلاة الإمام ولا عذر له أن يحضر للجمعة. م: (فتوجه إليها) ش: إلى الجمعة. م: (والإمام فيها) ش: أي والحال أن الإمام في صلاة الجمعة لم يفرغ منها. م: (بطل ظهره) ش: الذي صلاه في منزله. م: (عند أبي حنيفة بالسعي) ش: أي بمجرد سعيه، سواء أدرك الإمام أو لا.
وهاهنا قيدان: الأول: قوله: فإن بدا له أن يحضرها؛ لأنه إذا خرج لا يريد الجمعة لا يرتفض ظهره بالاتفاق.
الثاني: قوله: فتوجه والإمام فيها لأنه إذا توجه بعد فراغ الإمام لا يرتفض ظهره بالاتفاق، وقد اختلفت عبارات كتب أصحابنا في هذا الباب. ففي " المحيط " لو توجه إليها والإمام لم يؤدها إلا أنه لا يُرْجَى إدراكها لبعد المسافة لم يبطل ظهره في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عند العراقيين، ويبطل عند البلخيين، وهو الصحيح.
ولو توجه إليها ولم يصلها الإمام بعذر أو بغير عذر، اختلفوا في بطلان ظهره، والصحيح أنه لا يبطل، وعن الحلواني لو لم يخرج من البيت ولكن أداها قبل الخروج إذا كان البيت واسعا لم يبطل ما لم يجاوز العتبة، وقيل: يبطل إذا خطا خطوتين، وفي " التحفة ": هو على وجهين: الأولى: إن صلى معه أو أدركه في الصلاة بعدما فاته يبطل ظهره بلا خلاف. والثاني: حين سعى كان الإمام في الجمعة، لكن عند حضوره كان قد فرغ منها، فكذلك عنده، وعندهما لم ينقض ما لم يشرع معه.
وفي " الأسبيجابي ": لو صلى الظهر في بيته ثم خرج إلى الجمعة وقد فرغ الإمام لا يرتفض الظهر في قولهم، ولو أنه حين خرج كان الإمام فيها، فلما انتهى إليه فرغ منها يرتفض عنده، خلافا لهما. وفي " المحيط " ذكر الطحاوي أنه إذا كان خروجه وفراغ الإمام معا لم ينقض ظهره، وفي " الينابيع": إذا توجه والإمام فيها أو لم يشرع بعد بطل ظهره. وفي " المبسوط ": يعتبر سعيه بعد انفصاله من داره. وفي " قنية المنية ": يرتفض الظهر عنده بأداء بعض الجمعة، وعندهما لا يرتفض ما لم يؤدها، هكذا روى الحسن، ومثله في " المحيط".(3/75)
وقالا: لا يبطل حتى يدخل مع الإمام؛ لأن السعي دون الظهر فلا ينقضه بعد تمامه، والجمعة فوقها فينقضها، وصار كما إذا توجه بعد فراغ الإمام، وله أن السعي إلى الجمعة من خصائص الجمعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " التحفة " و "المختلف ": لو صلى المعذور الظهر ثم أدرك الجمعة لا يبطل ظهره عند زفر، لأنه قدر على الأصل بعد حصول المقصود بالبدل، وعندنا ينقض لأنه إذا أدى الجمعة كانت هي الفرض عليه فلا يبقى الظهر ضرورة للتنافي. وفي " خزانة الأكمل " عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - صلى بقوم الظهر يوم الجمعة ثم دخل مع الإمام في صلاة الجمعة فصلى بعضها ثم أفسدها أجزأته الظهر في منزله، ولو أتمها مع الإمام انقلبت ظهره تطوعا وبقي للقوم فريضة، وكذا في " المحيط ".
م: (وقالا: لا يبطل حتى يدخل مع الإمام) ش: كذا ذكروا قولهما في شرح " الجامع الصغير " وكذا ذكر أبو بكر الرازي، والأسبيجابي في شرحيهما " لمختصر الطحاوي "، وكذا ذكر القدوري في شرح " مختصر الكرخي " حيث قال: وقالا: يبطل الظهر حتى يكبر للجمعة، وهذا كله يدل على أن الظهر ينقض عندهما بمجرد الشروع مع الإمام، وذكر خواهر زاده في "مبسوطه" أن قولهما لا يرتفض الظهر ما لم يؤد الجمعة كلها، حتى إذا شرع في الجمعة مع الإمام ثم إنه تكلم قبل أن يتم الجمعة، فإنه يرتفض عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما لا يرتفض، ثم قال: هكذا ذكر الحسن في كتاب صلاته.
م: (لأن السعي دون الظهر) ش: لأنه ليس مقصود بنفسه والظهر مقصود بنفسه. م: (فلا ينقضه بعد تمامه) ش: أي فلا ينقض السعي الظهر بعد تمام الظهر لأن الأعلى لا ينتقض بالأدنى. م: (والجمعة فوقها) ش: أي فوق الظهر، وإنما أنث الظهر باعتبار الصلاة. م: (فينقضها) ش: أي إذا كانت الجمعة فوق صلاة الظهر فتنقض صلاة الظهر، لأنا أمرنا بإسقاط الظهر بالجمعة فجاز أن ينقضه.
م: (وصار) ش: أي هذا الذي بدا له أي يتوجه والإمام فيها ولم يدخل معه. م: (كما إذا توجه بعد فراغ الإمام) ش: من صلاة الجمعة فإنه لا يبطل ظهره بالاتفاق.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (أن السعي إلى الجمعة من خصائص الجمعة) ش: لأنه من الفروض المختصة بالجمعة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] (9: الجمعة) ، وقد نُهِيَ عن السعي في سائر الصلوات، لما روي عن أبي هريرة أنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها تمشون، عليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» ، رواه الأئمة الستة وغيرهم.
وذكر في " الأسرار " أن وجه كون السعي من خصائص الجمعة هو أن صلاة الجمعة صلاة خصت بمكان، لا يمكن الإقامة إلا بالسعي إليها، فصار السعي مخصوصا به دون سائر(3/76)
فينزل منزلتها في حق ارتفاض الظهر احتياطا، بخلاف ما بعد الفراغ منها لأنه ليس بسعي إليها.
ويكره أن يصلي المعذورون الظهر بجماعة يوم الجمعة في المصر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصلوات، فإنه يصح أداؤها في كل مكان، فإذا صار من خصائص الجمعة شرعا أشبه الاشتغال به الاشتغال بركن منها، والشخص إذا تشاغل بالجمعة بطل الظهر.
فإن قلت: كيف لا يبطل الظهر إذا توضأ يريد الجمعة والطهارة من فروضها.
قلت: سلمنا أنها من فروضها ولكن ليست من الفروض المختصة بها، واعترض على أصل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بمسألة القارن، فإنه إذا وقف بعرفات قبل أن يطوف بعمرته يصير رافضا لها، ولو سعى إلى عرفات لا يصير به رافضا للعمرة. وأجيب بأن في العمرة روايتان ذكرهما أبو بكر الرازي: أحدهما: رافضا لعمرته بمجرد التوجه كما في السعي إلى الجمعة فلا يرد الاعتراض، والأخرى: أنه لا يكون رافضا لعمرته حتى يقف بها وهي الرواية المشهورة، ووجه الفرق أن الأمر وارد برفض الظهر بخلاف رفض العمرة، فإنه حرام، فلم تجز إقامة التوجه مقام الوقوف.
فإن قلت: الظهر قوي؛ لأنه حسن لمعنى في نفسه، والسعي ضعيف؛ لأنه بمعنى في غيره، فلا ينقض الضعيف القوي.
قلت: لما قام السعي مقام الجمعة اعتبر فيه صفة الجمعة لا صفة نفسه، كالتراب لما قام مقام الماء اعتبر فيه صفة الماء لا صفة نفسه، فلما قام مقام القوي صار هو قويا في نفسه.
فإن قلت: السعي الموصل إلى الجمعة مأمور به، والسعي الذي لا يدرك به الجمعة غير موصل فيجب أن لا تبطل به الظهر. قلت: الحكم به دائر بين الإمكان لكون الإمام في الجمعة، والإدراك ممكن في الجمعة بإنذار أهل إياه بالإدراك.
م: (فينزل منزلتها) ش: أي فإذا كان الأمر كذلك فنزل السعي منزلة الجمعة. م: (في حق ارتفاض الظهر احتياطا) ش: أي لأجل الاحتياط، إذ الأقوى يحتاط في إثباته، ما لا يحتاط في إثبات الأضعف. م: (بخلاف ما بعد الفراغ منها) ش: هذا جواب عن قياسهما، أي بخلاف إدراكه بعد فراغ الإمام من الجمعة. م: (لأنه ليس بسعي إليها) ش: أي إلى الجمعة فلا يبطل الظهر، وما قيل أن السعي المذكور في النص نفس الشيء لا المشي بصفة العدو والإسراع لا يخلو عن نظر، وهو موضع التأمل. وفي " العتبية ": سرعة المشي والعدو غير واجب عندنا وعامة الفقهاء، واختلف في استحبابه، والأصح أن يمشي على السكينة والوقار.
[صلاة المعذورين الظهر بجماعة يوم الجمعة في المصر]
م: (ويكره أن يصلي المعذورون الظهر بجماعة يوم الجمعة في المصر) ش: وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يكره لهم ذلك، بل هو أفضل كما في سائر الأيام، ولكنهم يخفونها حتى إن من رآهم لا يظنهم راغبين عن الإمام. وفي " الحلية " قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المستحب لأصحاب(3/77)
وكذا أهل السجن، لما فيه من الإخلال بالجمعة، إذ هي جامعة للجماعات، والمعذور قد يقتدي به غيره بخلاف أهل السواد؛ لأنه لا جمعة عليهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأعذار أن يؤخروا الظهر بجماعة إلى فوات الجمعة ثم يصلونها، ولكن يجب عليهم إخفاؤها لئلا يتهموا بالرغبة عن صلاة الإمام.
وفي " شرح الوجيز " فيه وجهان: أحدهما: لا يستحب، لأن الجماعة في هذا اليوم الجمعة، وهو قول مالك وأبي حنيفة -رحمهما الله- وأصحهما أنه يستحب، وبه قال أحمد والثوري، ولو صلى المعذور ظهره في بيته ثم حضر وصلى الجمعة فجمعته تطوع في الجديد، وبه قال زفر. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم: يحتسب الله تعالى بأيتها شاء.
وفي " الغاية ": ولو صلى المعذورون الظهر أجزأهم، وكرهه الحسن وأبو قلابة كقولنا، وقال قوم: يصلون جماعة، روي ذلك عن ابن مسعود. وقال الثوري: وربما فعلته أنا والأعمش، وبه قال إياس بن معاوية وأحمد وإسحاق.
م: (وكذا أهل السجن) ش: أي وكذا يكره لأهل السجن إذا صلوا الظهر يوم الجمعة بجماعة، ورخص مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأهل السجن والمسافرين والمرضى أن يجمعوا، واختلف قوله في القديم: تفوتهم الجمعة، فحكى ابن القاسم عنه أنهم يصلون أفرادا أربعا. وفي " جوامع الفقه ": أصحاب الأعذار، ومن لا تجب عليه الجمعة إذا صلوا الظهر بلا أذان ولا إقامة فرادى من غير جماعة كان أحسن. وفي " خزانة الأكمل ": يصلي المعذور بأذان وإقامة في بيته. وفي " الولوالجي ": لا يؤذن ولا يقيم في السجن وغيره كصلاة الظهر. وفي " المبسوط ": لو صلى الإمام الظهر بأهل المصر جازت صلاتهم وقد أساءوا. وفي " المرغيناني ": إذا منع الإمام أهل المصر أن يجمعوا لا يجمعون، وقال أبو جعفر: هذا إذا منعهم باجتهاد، وأراد أن يخرج تلك البقعة أن تكون مصرا، فأما إذا نهاهم تعنتا أو إضرارا بهم، فلهم أن يجمعوا على من يصلي بهم، وزعم أبو إسحاق المروزي من الشافعية - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أنها تصح على كلا القولين ولم يوافقوا عليه.
م: (لما فيه) ش: أي لما في الفعل المذكور وهو صلاة المعذورين الظهر بجماعة، وصلاة أهل السجن كذلك. م: (من الإخلال بالجمعة إذ هي جامعة للجماعات) ش: كلمة إذ للتعليل، وهي ترجع إلى الجمعة.
م: (والمعذور قد يقتدي به غيره) ش: أي غير المعذور فلا يذهب إلى الجمعة فيخل بالجمعة. م: (بخلاف أهل السواد) ش: وهم أهل القرى. م: (لأنه لا جمعة عليهم) ش: وكذا أهل المفاوز الذين يسقط عنهم شهود الجمعة، لأن يوم الجمعة في حقهم كسائر الأيام، وَيَعْرَى صُنْعُهُمْ عَنْ شُبَهِ مخالفة الإمام والسواد الأعظم. م: (وإن فعلوا ذلك) ش: أي وإن فعل المعذورون الصلاة بالجماعة.(3/78)
ولو صلى قوم أجزأهم لاستجماع شرائطه.
ومن أدرك الإمام يوم الجمعة صلى معه ما أدركه وبنى عليها الجمعة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» ، وإن كان أدركه في التشهد أو في سجود السهو بنى عليها الجمعة عندهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو صلى قوم أجزأهم) ش: فعليهم ذلك. م: (لاستجماع شرائطه) ش: الضمير في شرائطه يرجع إلى الفعل الذي دل عليه قوله- فإن فعلوا - المراد بالفعل هو صلاتهم بالجماعة.
[حكم المسبوق في صلاة الجمعة]
م: (ومن أدرك الإمام يوم الجمعة صلى معه ما أدركه) ش: سواء أدركه في الركعة الأولى أو في الثانية.
م: (وبنى عليها الجمعة) ش: أي على ما أدركه كسائر الصلوات. م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» ش: هذا الحديث رواه الأئمة الستة في كتبهم عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها تمشون عليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا"، ولفظ الجميع فيه "فأتموا» ، ولفظ المصنف أخرجه أحمد في (مسنده) وابن حبان في (صحيحه) عن سفيان بن عيينة عن الزهري وغيره، وقال أبو داود: قال فيه ابن عيينة وحده: فاقضوا، وقال البيهقي: لا أعلم أحدا روى عن الزهري "فاقضوا" إلا ابن عيينة وحده وأخطأ.
قلت: في كل ما قالوا نظر، فقد رواه أحمد في (مسنده) عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري به، وقال: فاقضوا، ورواه البخاري في كتابه المفرد في الأدب من حديث الليث عن الزهري به، وقال: فاقضوا، ومن حديث سليمان عن الزهري به نحوه، ومن حديث الليث عن يونس عن الزهري عن أبي سلمة وسعيد، وعن أبي هريرة كذلك، ورواه أبو نعيم في " المستخرج " عن أبي داود الطيالسي عن ابن أبي ذئب عن الزهري به نحوه، فقد تابع ابن عيينة جماعة.
فإن قلت: هل فرق بين "أتموا" وبين "فاقضوا" في الاستدلال.
قلت: استدل ب "أتموا" من قال: إن الذي يدركه المأموم هو أول صلاته، واستدل ب "فاقضوا" من قال: إن الذي يدركه هو آخر صلاته.
وقال صاحب " التنقيح ": والصواب عدم الفرق، فإن القضاء هو الإتمام في عرف الشارع، قال الله تعالى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] [البقرة الآية: 200] ، وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} [الجمعة: 10] .
م: (وإن كان أدركه في التشهد) ش: أي وإن أدرك الإمام حال كونه في التشهد. م: (أو في سجود السهو) ش: أي إذا أدرك الإمام حال كونه في سجود السهو. م: (بنى عليها الجمعة) ش: أي بنى على صلاة الإمام الجمعة، معناه يصلي ركعتين. م: (عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- وقال ابن المنذر: وهو قول النخعي، والحكم بن عتيبة وحماد وداود.(3/79)
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن أدرك معه أكثر الركعة الثانية بنى عليها الجمعة وإن أدرك أقلها بنى عليها الظهر؛ لأنه جمعة من وجه، ظهر من وجه، لفوات بعض الشرائط في حقه، فيصلي أربعا اعتبارا للظهر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن أدرك معه) ش: أي مع الإمام. م: (أكثر الركعة الثانية) ش: أراد بأكثر الركعة الثانية، أدرك في الركوع. م: (بنى عليها الجمعة) ش: أي على صلاة الإمام الجمعة، يعني يصلي ركعتين. م: (وإن أدرك أقلها) ش: أي أقل الركعة الثانية بأن أدرك بعد ركوع الثانية. م: (بنى عليها الظهر) ش: يعني بنى على الجمعة التي صلاها الإمام صلاة الظهر، يعني يصلي أربع ركعات، وبقول محمد قال الزهري وزفر والشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وجعل النووي قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - معهم، وهو غلط.
وقال النووي في "شرح المهذب ": وإن أدركه بعدما رفع الإمام رأسه لم يدرك الجمعة بلا خلاف عندهم، وفي كيفية نيته وجهان، أحدهما ينوي الظهر لأنه الذي يؤديه به وأصحهما، وبه قطع الروياني في " الحلية " ينوي الجمعة موافقة للإمام. قلت: يبعد أن يصلي الظهر بنية الجمعة، وهذا لو نوى الظهر في الابتداء لا يصح، وعند أحمد على ما اختاره الحربي ينوي ظهرا، ولو نوى الجمعة لا يجزئه. وقيل: ينوي جمعة حتى يخالف الإمام.
فإن قلت: ذكر في المنافع والحواشي أنه ينوي الجمعة بالإجماع.
قلت: هو محمول على اتفاق أصحابنا، فكيف يكون إجماعا، وفيه خلاف للشافعية والحنابلة.
فإن قلت: كيف جعل الركوع أكثر الركعة الثانية؟
قلت: لأن الأصل في الصلاة الأفعال وأكثرها هو الركوع والسجود.
فإن قلت: لم يقل المصنف وإن أدرك معه الركعة الثانية.
قلت: لئلا يتوهم أنه إذا أدرك القيام يبني عليه الجمعة، وإلا فلا، فيكون هذا بيانا لثلاث مسائل، وهي إدراكه في القيام قبل القراءة، وفيه بعد القراءة، وفي الركوع وبيان أنه لو أدركه في القومة لا يبني على الجمعة لعدم إدراك الأكثر، والسجود الذي يأتي به مع الإمام لا يعتد به.
م: (لأنه جمعة من وجه، ظهر من وجه) ش: أما كونه جمعة من وجه فباعتبار ما وجد من شرائط الجمعة فيما أدرك التحريمة والجماعة والإمام، وأما كونه ظهرا من وجه فباعتبار ما عدم من الشرائط فيما يقضى كالجماعة والإمام. م: (لفوات بعض الشرائط في حقه) ش: أي في حق هذا الذي أدرك أقل الجمعة وهو الجماعة، والإمام كما ذكرنا. م: (فيصلي أربعا) ش: أي إذا كان كذلك يصلي أربع ركعات. م: (اعتبارا للظهر) ش: أي يعتبر اعتبارا لجانب الظهر.(3/80)
ويقعد لا محالة على رأس الركعتين اعتبارا للجمعة،
ويقرأ في الأخريين لاحتمال النفلية، ولهما أنه مدرك للجمعة في هذه الحالة، حتى يشترط نية الجمعة وهي ركعتان، ولا وجه لما ذكره؛ لأنهما مختلفان فلا يبنى أحدهما على تحريمة الأخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ويقعد لا محالة) ش: بفتح الميم، معناه هنا لا بد، والميم زائدة، فعلى هذا يجوز أن يكون المحيلة وهو الحيلة وأن يكون الحول وهو القوة والحركة، وعلى كل حال وزنها مفعلة. م: (على رأس الركعتين) ش: وهما اللتان الكاملتان للإمام. م: (اعتبارا للجمعة) ش: أي نظرا لجانب الجمعة، والحاصل أنه يعمل بالشبهين ولزوم القعدة الأولى، رواه الطحاوي عن محمد كما هو لازم للإمام، وفي رواية المعلى عنه لا تلزمه القعدة الأولى لأنها ظاهر من وجه فلا تكون القعدة الأولى واجبة. وقيل وجوبها للاحتياط.
قلت: فقال السرخسي: هذا الاحتياط لا معنى له، فإنه إن كان ظهرا فلا يمكنه بناؤها على تحريمة عقدها للجمعة، ولهذا لو دخل وقت العصر وهو في الجمعة يستقبل الظهر، ولا يبنيه على تحريمة الجمعة، وإن كان جمعة فالجمعة لا تكون أربعا، وفي " المرغيناني " روي عن الشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير أنه قال لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصير مؤديا للظهر بتحريمة الجمعة وقد جاءت به الآثار. وفي " المنتقى " مسافر أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد صلى أربعا بالتكبير الذي دخل معه ولم يجده خلافا، وقالت طائفة: من لم يدرك الخطبة صلى أربعا، روي هذا القول عن عطاء وطاووس ومكحول ومجاهد، محكي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لفوات الشرط وهو الخطبة في حقه، قيل لابن سيرين: إن من لم يدرك الخطبة صلى أربعا وهو قول أهل مكة، فقال: ليس لهذا معنى.
م: (ويقرأ في الأخريين) ش: أي ويقرأ ما تجوز به الصلاة في الركعتين الأخريين اللتين يصليهما هذا المسبوق للاحتياط. م: (لاحتمال النفلية) ش: أي لاحتمال كون ما بين الركعتين نفلا؛ لأنا ذكرنا أن فيه شبهين، فكان في ذلك إعمال الدليلين، وهو أولى من إهمال أحدهما.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. م: (أنه) ش: أي أن هذا المدرك لأقل الركعة الثانية. م: (مدرك للجمعة في هذه الحالة) ش: وهي الحالة التي أدرك الإمام فيها. م: (حتى يشترط نية الجمعة) ش: حتى لو نوى غيرها لا يصح. م: (وهي ركعتان ولا وجه لما ذكره) ش: أي لا وجه لما ذكره محمد من قوله؛ لأنه جمعة من وجه ظهر من وجه ... إلى آخره. م: (لأنهما) ش: أي لأن الجمعة والظهر. م: (مختلفان) ش: حقيقة وحكما، لأن الجمعة ركعتان، فيشترط فيها ما لا يشترط في الظهر، والظهر أربع ركعات، فالأربع خلاف الاثنين، فإذا كان كذلك. م: (فلا يُبنى أحدهما على تحريمة الأخرى) ش: للاختلاف بينهما.
فإن قلت: فيما ذكراه تحريمة الجمعة مع عدم شرطها، وذلك فاسد. قلت: وجوده في حق(3/81)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإمام جعل وجودها في حق المسبوق، كما في القراءة.
فإن قلت: ذكر المصنف قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» .
قلت: وهو حديث صحيح في معرض الاستدلال لأبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- فما وجه قوله بعد ذلك، ولهما أنه مدرك للجمعة إلخ.
قلت: لا مانع من ذلك؛ لأنه يجوز الاستدلال على مطلوب واحد بالمنقول والمعقول، بل هو أقوى، أو نقول: كان الأول استدلالا على ما إذا كان الذي أدركه أكثر، وذلك متفق عليه، فحينئذ ليس الاستدلال لهما فقط بل لهم جميعا، وكون الحديث يدل على المطلوب الثاني لهما أيضا لا ينافيه.
وهاهنا بحث ذكره الشراح، فقال السغناقي: واحتج من خالف، أراد من خالف أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبا يوسف في المسألة المذكورة بما روي عن الزهري بإسناده عن أبي هريرة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى، فإن أدركهم جلوسا صلى أربعا» . وقال الأترازي: قال الشيخ أبو نصر البغدادي: ذكر الدارقطني أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك الإمام جلوسا قبل أن يسلم فقد أدرك الصلاة» . وقال صاحب " الدراية ": لهم -أي: لمحمد ومن تبعه- في المسألة المذكورة ما روى الزهري بإسناده عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها ركعة أخرى، وإن أدركهم جلوسا صلى أربعا» .
وقال الأكمل أيضا: يعني ما ذكره صاحب " الدراية "، ثم أجاب السغناقي بقوله، قلنا: لا يصح التعليق بهذا الحديث، لأن لفظ الجمعة مع قوله وإن أدركهم جلوسا صلى أربعا، إنما نقله ضعفاء أصحاب الزهري، هكذا قاله الحاكم الشهيد، وأما الثقات من أصحابه كمعمر والأوزاعي، ومالك روى عن الزهري: من أدرك ركعة من صلاة فقد أدركها، فأما إذا أدرك ما دونها، فما حكمه؟ فهو مسكوت عنه، فكان موقوفا على قيام الدليل، وقد قام، وهو ما روي من قوله- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما أدركتم فصلوا» ... " الحديث.
وأجاب الأترازي بما قاله السغناقي وزاد قوله والحديث مذكور في السير هكذا، وقال معمر عن الزهري: ما أرى الجمعة إلا من الصلاة، إن أدرك منها ركعة فقد أدركها، وإن أدرك ما دونها(3/82)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صلى أربعا، ولو كان عنده نص في الجمعة لم يحتج إلى الرأي، ولئن صح عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قوله: «وإن أدركهم جلوسا» فمعناه أدركهم جلوسا بعد الصلاة قبل الانصراف، لأنه لم يقل في الصلاة، وأجاب الأكمل وصاحب " الدراية " أيضا بما ذكره السغناقي، وكل منهم لم يحرر الحديث، وقلد بعضهم بعضا، وليس هذا دأب شراح الكتب الموضوعة على الأحاديث النبوية، فنقول وبالله التوفيق: هذا الحديث له طرق:
منها ما رواه الدارقطني من حديث ياسين بن معاذ عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك الركوع من الركعة الأخيرة يوم الجمعة فليضف إليها أخرى، ومن لم يدرك الركوع من الركعة الأخيرة فليصل الظهر أربعا» ، وياسين ضعيف متروك.
ومنها ما رواه الدارقطني أيضا من حديث سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: «إذا أدرك أحدكم الركعتين يوم الجمعة فقد أدرك، فإذا أدرك ركعة فليركع إليها أخرى، وإن لم يدرك ركعة فليصل أربع ركعات» ، وهذا أيضا من رواية ياسين.
ومنها ما رواه الدارقطني أيضا من حديث سليمان بن أبي داود الحراني عن الزهري عن سعيد وحده مثل اللفظ الأول، وسليمان متروك.
ومنها ما رواه الدارقطني أيضا من حديث صالح بن أبي الأخضر عن أبي سلمة وحده نحو الأول، وصالح ضعيف.
ومنها ما رواه ابن ماجه: حدثنا محمد بن الصباح، أنبأنا عمر بن حبيب، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى» ، وعمر بن حبيب متروك، ورواه الدارقطني أيضا من رواية الحجاج بن أرطاة، وعبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة كذلك، ولم(3/83)
وإذا خرج الإمام يوم الجمعة ترك الناس الصلاة والكلام حتى يفرغ من خطبته. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يذكروا كلهم الزيادة التي فيه من قوله «ومن لم يدرك الركعة الأخيرة فليصل الظهر أربعا» إلا لبدئه بإدراك الركوع، وأحسن طرق هذا الحديث رواية الأوزاعي على ما فيها من تدليس الوليد. وقد قال ابن حبان في "صحيحه": إنها كلها معلولة، وقال ابن أبي حاتم في " العلل " عن أبيه: لا أصل لهذا الحديث وله طرق أخرى من غير طريق الزهري، رواه الدارقطني من حديث داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وفيه يحيى بن راشد البراء وهو ضعيف. وقال الدارقطني في " العلل ": حديثه غير محفوظ.
وقد روي عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه بلغه عن سعيد بن المسيب، قوله: وهو أشبه بالصواب، وفي هذا الباب عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رواه النسائي وابن ماجه والدارقطني من حديث شعبة، حدثني يونس بن الزبير عن الزهري، وأما قوله «من صلاة الجمعة» فوهم، وذكر الأترازي وقال: وروى خواهر زاده في "مبسوطه" عن أبي الدرداء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أدرك الإمام في التشهد يوم الجمعة فقد أدرك الجمعة» ، انتهى
قلت: هذا ليس له أصل ولا ذكره أحد من أئمة الحديث، والعجب من الأترازي أن هذا طريق مظلم كيف يمشي عليه.
م: (وإذا خرج الإمام يوم الجمعة) ش: يعني إذا خرج من منزله أو من بيت الخطابة لأجل الخطبة، ويقال: المراد بخروجه صعوده على المنبر. م: (ترك الناس الصلاة والكلام حتى يفرغ من خطبته) ش: وبه قال مالك، وقيد بالكلام لأن الصلاة في هذين الوقتين تكره بالإجماع أي صلاة التطوع.
م: (قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قال "المصنف": إذا خرج الإمام، إلى هنا من كلام القدوري، وأشار "المصنف" بأن هذا قول أبي حنيفة، وقال. م: (وهذا) ش: القول. م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي وهذا الذي ذكره من كراهة الصلاة والكلام وقت خروج الإمام عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختلفوا على قوله، فقال بعضهم: يكره كلام الناس، أما التسبيح وأشباهه فلا يكره.
وقال بعضهم: يكره ذلك، والأول أصح، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصلي تحية المسجد في حال الخطبة، وبه قال أحمد.(3/84)
وقالا: لا بأس بالكلام إذا خرج الإمام قبل أن يخطب، وإذا نزل قبل أن يكبر؛ لأن الكراهة للإخلال بفرض الاستماع، ولا استماع هنا، بخلاف الصلاة، لأنها قد تمتد. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال ابن المنذر: اختلفوا فيمن دخل المسجد والإمام يخطب، فقال الحسن: يصلي ركعتين، وبه قال مكحول وابن عيينة والمغيرة والشافعي وابن حنبل - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وإسحاق وأبو ثور وطائفة من المحدثين، وعندنا يجلس ولا يصلي.
قال ابن المنذر: وبه قال عطاء وصالح وعروة وقتادة والنخعي، وقال ابن حنبل - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إن شئت ركعت، وإن شئت جلست.
وقال الأوزاعي: إن كان ركعها في بيته ثم دخل المسجد والإمام يخطب قعد ولم يركع، وإن لم يكن، ركعها إذا دخل المسجد.
وقال ابن بطال في " شرح البخاري ": والمنع قول الجمهور من أهل العلم، وذكره ابن أبي شيبة عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (وقالا: لا بأس بالكلام إذا خرج الإمام قبل أن يخطب) ش: وبه قال الشافعي وأحمد -رحمهما الله- وفي "جوامع الفقه " عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يباح الكلام عند جلوسه إذا مكث، وعند محمد لا يباح، وقوله: "قبل أن يخطب" يتعلق بقوله: "لا بأس بالكلام"، لا بقوله: "خرج" لفساد المعنى.
م: (وإذا نزل قبل أن يكبر) ش: أي ولا بأس بالكلام أيضا إذا نزل الخطيب من المنبر قبل أن يكبر للصلاة.
م: (لأن الكراهة للإخلال بفرض الاستماع) ش: أي لأن كراهة الكلام لأجل الإخلال بفرض استماع الخطبة، وعند خروجه قبل الشروع في الخطبة، وعند نزوله قبل شروعه في الصلاة لا يلزم ذلك. م: (ولا استماع هنا) ش: أي ولا استماع للخطبة في الحالتين المذكورتين.
م: (بخلاف الصلاة لأنها قد تمتد) ش: أي قد تطول فيفضي إلى الإخلال ولا يمكن قطعها بخلاف الكلام، لأنه يمكن قطعه متى شاء.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله- عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام» ش: لم يتعرض أحد من الشراح لحال هذا الحديث غير أن الأترازي قال: روى خواهر زاده في "مبسوطه" عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام» . "
قلت: هذا غريب مرفوعا، ولهذا قال البيهقي: رفعه وَهْمٌ فاحش، إنما هو من كلام الزهري، رواه مالك في " الموطأ " عن الزهري، قال: خروجه يقطع الصلاة وكلامه يقطع(3/85)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكلام، وعن مالك رواه محمد بن الحسن في "موطئه".
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن علي وابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم كانوا يكرهون الصلاة والكلام بعد خروج الإمام. وأخرج عن عروة قال: إذا قعد الإمام على المنبر فلا صلاة. وعن الزهري قال في الرجل يجيء يوم الجمعة والإمام يخطب يجلس ولا يصلي.
وقال في " المبسوط ": استدل أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المساجد يكتبون القوم الأول فالأول، إلى أن قال: فإذا خرج الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر، وإنما يطوون الصحف إذا طوى الناس الكلام، فأما إذا كانوا يتكلمون فهم يكتبون، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] [سورة ق، الآية: 18] » انتهى.
وروى الطحاوي من حديث عوف بن قيس «عن أبي الدرداء أنه قال: "جلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم الجمعة على المنبر يخطب الناس، فتلا آية وإلى جنبي أبي بن كعب - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقلت له: يا أبي متى أنزلت هذه الآية؟ فأبى أن يكلمني حتى نزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المنبر، قال: ما لك من جمعتك إلا ما لغوت، ثم انصرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجئته فأخبرته، فقلت: يا رسول الله إنك تلوت آية وإلى جنبي أبي بن كعب، فسألته: متى نزلت هذه الآية؟ فأبى أن يكلمني حتى إذا نزلت زعم أنه ليس لي من جمعتي إلا ما لغوت، فقال: صدق، فإذا سمعت إمامك يتكلم فأنصت حتى ينصرف» .
وأخرجه أحمد أيضا في "مسنده" نحوه، غير أن في لفظه «فأنصت حتى يفرغ".» وأخرج البيهقي من حديث عطاء بن يسار «عن أبي ذر، قال: "دخلت المسجد يوم الجمعة والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب فجلست قريبا من أبي بن كعب فقرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سورة براءة، فقلت لأبي: متى نزلت هذه السورة؟ فحصر ولم يكلمني، فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاته، قلت لأبي: إني سألتك فنجهتني ولم تكلمني، فقال أبي: ما لك من صلاتك إلا ما لغوت، فذهبت إلى النبي، فقلت: يا نبي الله كنت بجنب أبي وأنت تقرأ براءة، فسألته: متى أنزلت هذه السورة؟ فنجهني ولم يكلمني ثم قال: ما لك من صلاتك إلا ما لغوت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صدق أبي» .(3/86)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم قال البيهقي: ورواه عبد الله بن جعفر عن شريك عن عطاء عن أبي الدرداء عن أبي بن كعب، وجعل القصة بينهما، ورواه حرب بن قيس عن أبي الدرداء وجعل القصة بينه وبين أبي، ورواه عيسى بن جارية عن جابر بن عبد الله، فذكر معناها بين ابن مسعود وبين أبي بن كعب، ورواه الحكم عن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، فجعل معنى هذه القصة بين رجل غير مسمى وبين ابن مسعود، انتهى.
قلت: هذا مرسل؛ لأن عطاء بن يسار لم يدرك أبا ذر، وأخرجه ابن ماجه بوجه آخر من حديث عطاء بن يسار «عن أبي بن كعب أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ يوم الجمعة تبارك وهو قائم فذكر بأيام الله، وأبو الدرداء وأبو ذر يغمزني، فقال: متى أنزلت هذه السورة، إني لم أسمع بها إلا الآن، فأشار إليه أن اسكت، فلما انصرفوا، قال: سألتك متى أنزلت هذه السورة فلم تخبرني، فقال أبي: ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت، فذهب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر له ذلك وأخبره بالذي قال أبي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صدق أبي» .
وأخرج الطحاوي من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب يوم الجمعة فقرأ سورة، فقال أبو ذر لأبي بن كعب: متى نزلت هذه السورة؟ فأعرض عنه، فلما قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاته قال أبي لأبي ذر: ما لك من صلاتك إلا ما لغوت، فدخل أبو ذر على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بذلك، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدق أبي» .
وأخرجه الطيالسي في "مسنده" والبيهقي في "سننه" من طريقه، وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" من حديث الشعبي «أن أبا ذر والزبير بن العوام سمع أحدهما من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه يقرأ وهو على المنبر يوم الجمعة، قال: فقال لصاحبه: متى أنزلت هذه الآية؟ قال: فلما قضى صلاته قال له عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا جمعة لك، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر ذلك له فقال: "صدق عمر ". - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.»
فإن قلت: يشكل على مسألة الصلاة حديث سليك الغطفاني، أخرجه الأئمة الستة عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله «أن رجلا جاء يوم الجمعة والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال: أصليت يا فلان؟ قال: لا، قال: صل ركعتين وتجوز فيهما، وزاد فيه مسلم وقال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب فليركع ركعتين، ويتجوز فيهما، وزاد فيه ابن حبان في "صحيحه "، وقال له: لا تعذر لمثل ذلك» قال ابن حبان: يريد الإبطاء لا الصلاة، بدليل أنه جاز في الجمعة الثانية نحوه، فأمره بركعتين مثلهما.(3/87)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: أجيب عنه بأجوبة: أحدهما: أن حديث سليك هذا محمول على ما قبل النهي عن الكلام في الخطبة، وكان الكلام مباحا في الصلاة والخطبة أيضا. والثاني: أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان إماما وخطيبا، فلا بأس له أن يتكلم، لأنه يخطب والخطبة من أولها إلى آخرها كلام. الثالث: أنه كان قبل الأمر بالاستماع والإنصات المأمورين.
الرابع: يحتمل أنه كان أمره بذلك بعد قطع الخطبة لإرادة تعليمه الناس كيف يفعلون إذا دخلوا المسجد، ثم استأنف خطبته بعد ذلك.
فإن قلت: روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه كان إذا نزل عن المنبر يسأل الناس عن حوائجهم وعن أسعار السوق ثم يصلي» وعن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما كانا إذا صعدا المنبر يسألان الناس عن أسعار السوق.
قلت: حديث أنس كان في ابتداء الإسلام حين كان الكلام مباحا في الصلاة، وأما حديث عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فمعارض بحديث ابن عمر وابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا نمير عن حجاج عن عطاء عن ابن عباس وابن عمر أنهما كانا يكرهان الكلام والصلاة يوم الجمعة بعد خروج الإمام، وقال ابن عبد البر: كان ابن عباس وابن عمر يكرهان الكلام والصلاة بعد خروج الإمام، ولا مخالف لهما.
فإن قلت: جاء في الحديث أن الدعاء يستجاب وقت الإقامة في يوم الجمعة، فكيف يسكت عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قلت: يقرأ الدعاء بقلبه لا بلسانه، ثم إذا اشتغل الإمام بالخطبة ينبغي للمستمع أن يجتنب بما يجتنب في الصلاة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] [الأعراف، الآية: 204] وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت» وهذا الحديث رواه أبو هريرة وأخرجه عنه الأئمة الستة ما خلا الترمذي، فإذا كان كذلك يكره له رد السلام وتشميت العاطس، إلا في القول الجديد للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يرد ويشمت، قال شيخ الإسلام: والأصح أنه يشمت، والاستماع من أول الخطبة إلى آخرها وإن كان فيها ذكر الولاة والديوان من الإمام.
وفي "المجتبى": قيل: وجوب الاستماع مخصوص بزمان الوحي، وقيل: في الخطبة الأولى دون الثانية لما فيها من مدح الظلمة. وعن أبي حنيفة: إذا سلم عليه يرد بقلبه، وعن أبي يوسف: يرد السلام ويشمت العاطس فيها، وعن محمد: يرد ويشمت بعد الخطبة، وقيل: الإشارة بيده ورأسه عند رؤية المنكر يكره، والأصح أنه لا بأس به، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند ذكره- عَلَيْهِ السَّلَامُ - في قلبه.
واختلف المتأخرون فيمن كان بعيدا لا يسمع الخطبة، فقال محمد بن سلمة: المختار السكوت(3/88)
من غير فصل، ولأن الكلام قد يمتد طبعا فأشبه الصلاة،
وإذا أذن المؤذنون الأذان الأول ترك الناس البيع والشراء وتوجهوا إلى الجمعة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] (الجمعة: الآية 9)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو الأفضل، وبه قال بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال نصر بن يحيى: يسبح ويقرأ القرآن، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأجمعوا على أنه لا يتكلم، وقيل: الاشتغال بالذكر وقراءة القرآن أفضل من السكوت، وأما رواية الفقه والنظر في كتب الفقه وكتابته، فقيل: يكره، وقيل: لا بأس به.
وقال شيخ الإسلام: الاستماع إلى خطبة النكاح والختم وسائر الخطب واجب، وفي " الكامل ": ويقضي الفجر إذا ذكره في الخطبة، ولو تغدى بعد الخطبة أو جامع فاغتسل بعد الخطبة، وفي الوضوء في بيته لا يعيد، ولو صلى ركعتين فالأحسن أن يعيدهما، ويستحب ذكر الخلفاء الراشدين. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يستقبل الإمام فإذا استقبل بالخطبة انحرف إليه واستقبله، ويستحب أن يقعد فيها كما يقعد في الصلاة لقيامها مقام ركعتين، ولا بأس بأن يقعد محتبيا لأنه ينتظر الصلاة، وقيل يقعد كيف شاء، والنوم مكروه فيها إلا إذا غلبت عيناه.
م: (من غير فصل) ش: أي بين أن يكون ترك الصلاة والكلام إذا خرج قبل أن يخطب وبين أن يكون تركهما بعد أن يخطب. م: (ولأن الكلام قد يمتد طبعا) ش: هذا دليل من جهة العقل، وجواب عما قالا إن الصلاة قد تمتد والكلام لا يمتد لأنه يمكن قطعه، وتقريره أن الكلام قد يمتد من حيث طبيعة الإنسان وإن كان في نفس الأمر يقدر على قطعه. م: (فأشبه الصلاة) ش: يعني عند امتداده طبعا يشبه امتداد الصلاة شرعا فصار في المنع سواء.
[البيع والشراء بعد أذان الجمعة الأول]
م: (وإذا أذن المؤذنون الأذان الأول) ش: ذكر المؤذنين بلفظ الجمع، وإن كان لا يحتاج إليه إخراجا للكلام مخرج العادة، فإن المتوارث اجتماع المؤذنين لتبليغ أصواتهم إلى أطراف المصر الجامع، وأراد بالأذان الأول الأذان الذي يؤذن على المئذنة، وهو الأذان الذي أحدث على الزوراء في عهد عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولم ينكره أحد من المسلمين، وفي " المحيط ": الزوراء المئذنة، وفي " البدائع ": اسم المنارة، قال: وقيل: اسم موضع بالمدينة.
وقال ابن بطال: الزوراء حجر كبير عند باب المسجد. وقال البخاري: الزوراء موضع بالسوق في المدينة، وفي " المغرب ": الأزور من الرجال الذي مال أحد شقي صدره وبمؤنثه سميت دار عثمان بالمدينة، ومنه قولهم: حديث الأذان بالزوراء.
م: (ترك الناس البيع والشراء، وتوجهوا إلى الجمعة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] [الجمعة الآية: 9] ) ش: في " تفسير المنتقى ". {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] فامضوا إليه واعملوا(3/89)
وإذا صعد الإمام المنبر جلس وأذن المؤذنون بين يدي المنبر، بذلك جرى التوارث ولم يكن على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا هذا الأذان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
له وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سمعت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقرأ: "فامضوا إلى ذكر الله"، وعنه: ما سمعت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قط يقرأها إلا "فامضوا إلى ذكر الله"، وروى الأعمش عن إبراهيم: كان عبد الله يقرأها: "فامضوا إلى ذكر الله"، ويقول: لو قرأتها فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي وهي قرابة أبي العالية، وعن الحسن ليس السعي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا المسجد إلا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع.
وعن قتادة أن تسعى بقلبك وعملك وهي المشي إليها. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: السعي في هذا الموضع هو العمل، قال الله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] [الليل، الآية: 4] وقال الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] [النجم، الآية: 39] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] [الجمعة، الآية: 9] ، إلى موعظة الإمام، وقيل: إلى الخطبة والصلاة.
قوله {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] [الجمعة، الآية: 9] ، يعني البيع والشراء، لأن البيع يتناول المعنيين، وإنما خص البيع من بين ما يذهل عن ذكر الله من سوى على الدنيا، لأن يوم الجمعة تهبط الناس فيه من قراهم وبواديهم وينصبون إلى المصر من كل أوب فيوقت هبوطهم واجتماعهم واعتضاض الأسواق بهم إذا انفتح النهار وتعالى الضحى وفي وقت الظهيرة، وحينئذ تجر التجارة، ويتكاثر البيع والشراء، فلما كان ذلك الوقت يبطله الذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى مسجد الله، قيل لهم أدوا تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، واسعوا إلى ذكر الله لا شيء أنفع منه وأربح وذروا البيع الذي نفعه يسير وربحه مقارب، قوله "ذروا" من يذر الدعوى من يدع، وأما ثور يذر ويدع إلا ما جاء في قراءة شاذة "وما ودعك ربك" بالتخفيف.
م: (وإذا صعد الإمام المنبر جلس) ش: بكسر الميم من المنبر وهو الارتفاع، والقياس فيه فتح الميم على ما عرف في موضعه. م: (وأذن المؤذنون بين يدي المنبر) ش: هذا هو الأذان الأصلي الذي كان في زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من بعده، ثم حدث الأذان الآخر وهو الأذان الأول في عهد عثمان كما ذكرنا. م: (بذلك) ش: أي بالأذان بين يدي المنبر بعد الأذان الأول على المنارة.
م: (جرى التوارث) ش: من زمن عثمان بن عفان إلى يومنا هذا. م: (ولم يكن على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا هذا الأذان) ش: أي الأذان الذي يؤذن بين يدي المنبر حين صعد الإمام المنبر، لما روى البخاري من حديث السائب بن يزيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال «: كان البداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فلما أن كان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكثر الناس زاد النداء على الزوراء» كما ذكرناه، وعن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو أذان المنارة؛ لأنه لو اشترطوا الأذان عند المنبر يفوته أداء السنة وسماع الخطبة، وربما يفوته أداء الجمعة إذا كان المصر بعيد الأطراف.(3/90)
ولهذا قيل هو المعتبر في وجوب السعي وحرمة البيع، والأصح أن المعتبر هو الأول إذا كان ذلك بعد الزوال لحصول الإعلام به، والله أعلم. وإذا فرغوا من خطبته أقاموا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهذا قيل: هو المعتبر في وجوب السعي وحرمة البيع) ش: أي ولكن الأذان الأصلي الذي كان على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين يدي المنبر، قال بعضهم - وهو الطحاوي - هو المعتبر في وجوب السعي إلى الجمعة على المكلف، وفي حرمة البيع والشراء، وفي " فتاوى العتابي " هو المختار، وبه قال الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأكثر فقهاء الأمصار، ونص في المرغيناني و" جوامع الفقه " أنه هو الصحيح.
وقال ابن عمر: الأذان الأول بدعة، ذكر ابن أبي شيبة في "سننه" عنه، وقال الأترازي: قوله في وجوب السعي وحرمة البيع فيه نظر، لأن البيع وقت الأذان جائز لكنه يكره، وبه صرح في " شرح الطحاوية "، وهذا لأن النهي في معنى لغيره لا يعدم المشروعية.
قلت: فيه اختلاف العلماء، فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف ومحمد وزفر والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يجوز البيع مع الكراهة، وهو قول الجمهور، وقال مالك وأحمد والظاهرية - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - البيع باطل.
وفي " المحلى " يصح البيع إلا أن.... الصلاة ولا يصح بخروج الوقت، ولو كان بين كافرين ولا يحرم نكاح ولا إجارة ولا سلم، وقال مالك: كذلك في البيع الذي فيه سلم، وكذا في النكاح والإجارة والسلم، وأباح الهبة والقرض والصدقة، وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا يصح البيع يوم الجمعة حين ينادى للصلاة، وفي بقية العقود غير البيع وجهان عند الحنابلة.
وذكر أبو بكر الرازي عن مسروق والضحاك ومسلم بن يسار أن البيع يحرم بزوال الشمس، قال مجاهد والزهري بالنداء، واعتبار الوقت أولى إذ يجب عليهم الحضور بدخول الوقت فلا يسقط عنهم تأخير النداء، ولهذا لم يكن للنداء قبل الزوال معنى. وقال السروجي: ينبغي أن يحرم البيع والشراء قبل الزوال أيضا إذا كان منزله بعيدا عن الجامع بحيث تفوت عليه صلاة الجمعة.
م: (والأصح أن المعتبر هو الأول) ش: أي الأذان الأول. م: (إذا كان ذلك بعد الزوال لحصول الإعلام به) ش: أي بالأذان الأول، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي وإسحاق بن زياد، وفي " المبسوط ": الأصح أن كل أذان يكون قبل الزوال فذلك غير معتبر، والمعتبر أول الأذان بعد زوال الشمس، سواء كان على المنبر أو على النور. قلت: هذا الذي ذكره موافق رواية "الهداية "، وهذا أوفق وأحوط.
م: (وإذا فرغ من خطبته أقاموا) ش: أي فإذا فرغ الإمام من خطبته أقاموا الصلاة كسائر الصلوات المفروضة، ولو سمع النداء قبل العشاء إذا خاف فوت الجمعة يتركه بخروج وقت(3/91)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المكتوبة بخلاف الجماعة في سائر الصلوات.
فروع: لو خطب واحد وصلى غيره جاز عندنا، وهو قول مالك وأحمد -رحمهما الله- وأحد قولي الشافعي وأحمد -رحمهما الله- وصلى غيره جاز عندنا، وعندهما لا يصح، لو استدبروا الإمام في الخطبة صح، وقد أساءوا. لا يصح في أحد الوجهين للحنابلة، وكذا لو كان عكس كلمات الخطبة بأن صلى على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثم وعظ ثم حمد وأثنى على الله في أحد الوجهين عندهم.
وفي " المبسوط " يستحب للقوم أن يستقبلوا الإمام عند الخطبة، وعن أبي حنيفة أنه كان إذا فرغ المؤذن من أذانه أدار وجهه إلى الإمام وكان ابن عمر وأنس يستقبلان الإمام إذا خطب وهو قول شريح وعطاء وبه قال مالك والأوزاعي والثوري وسعيد بن جبير والشافعي وأحمد وإسحاق، قال ابن المنذر: وهذا كالإجماع.
قلت: لكن اليوم يستقبلون القبلة للحرج في تسوية الصفوف لكثرة الزحام، وقال النووي: يكره في الخطبة ما يفعله الخطباء من الدق بالسيف على درج المنبر في صعوده، فإنه بدعة لا أصل له، وكذا الدعاء على المنبر قبل جلوسه، وكذا المجازفة في السلاطين والدعاء لهم، وكذا كذبهم في قولهم السلطان العالم العادل.
وأجمعوا أن القراءة بالحمد في الجمعة، وفي " التحفة " وغيرها: لا يقرأ فيها قدر ما يقرؤه في الظهر؛ لأنها بدل منه، وإن قرأ في الجمعة " {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] " كان حسنا تبركا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمواظبة عليها مكروهة لهجران باقي القرآن وإيهام العامة أن ذلك بطريق الحتم والوجوب. وفي " الواقعات " والمرغيناني: لا بأس بالتخطي والدنو من الإمام إذا لم يضر الناس، وقال الفقيه أبو جعفر: لا بأس به إذا لم يأخذ الإمام في الخطبة، ويكره إذا أخذ فيها وهو قول مالك. وقال قتادة: يتخطاهم إلى مجلسه، وقال الأوزاعي: يتخطاهم إلى البعيد، وقال الشافعي: الخطى إليها بواحد أو اثنين لا بأس به، وأكره الكثير إلا أن لا يجد السبيل إلى المصلى إلا بالتخطي فيسعه، ومنهم من أباحه بإذنهم.
وقال ابن المنذر: لا يجوز شيء من ذلك؛ لأن الثقيل من الأذى والكثير مكروه، وكره ذلك أبو(3/92)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هريرة وابن المسيب وعطاء، واختلفوا في الدنو من الإمام أفضل أو التباعد، قيل: التباعد أفضل لئلا يسمع الظلمة والدعاء لهم، قال الحلواني: الصحيح أن الدنو منه أفضل، اختلفوا في الصف الأول، كان أصحاب ابن مسعود يرون أن الصف الأول ما يلي المقصورة؛ لأنهم كانوا يمنعون العامة من دخول المقصورة، فكان في ذلك احتراز فضيلة الصف الأول في حق العامة، أما في زماننا فلا يمنع، ومن الصف الذي يلي الإمام ذكره في " خزانة الأكمل " وغيره.
اختلفوا فيمن لم يقدر على السجود على الأرض من الزحام، فكان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: يسجد على ظهر أخيه، رواه البيهقي بإسناد صحيح، وبه قال أصحابنا والثوري والشافعي، وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال عطاء والزهري: يمسك عن السجود، فإذا رفعوا سجد، وعندنا لو فعله جاز، وعند الشافعية سجوده على ظهر أخيه واجب في الصحيح.
ونقله النووي عن أبي حنيفة وهو وهم، وقال مالك: تفسد الصلاة إن فعل ذلك، وقال نافع: يومئ إيماء، وفي المرغيناني: ينظر حتى يقوم الناس، فإذا وجد فرجة سجد، ولو سجد على ظهر رجل ساجد على ظهر رجل ساجد آخر لم يجز، وكذا لو وجد فرجة، ومع هذا سجد على ظهر رجل لم يجز، ولو ركع ركوعين مع الإمام فيها ولم يسجد بكثرة الزحام حتى فرغ الإمام.
قال أبو حنيفة: يسجد سجدتين للركعة الأولى ويلغي الثانية ويقضيها، وإن نواها عن الثانية بطلت نيته وكانت للركعة الأولى. قال أبو جعفر: على أحد الروايتين عن علمائنا، وعلى الرواية الأخرى تكون السجدتان للثانية.
وقال أبو جعفر: إن ركع مع الإمام في الأولى ولم يسجد وركع معه في الثانية وسجد، فالثانية تامة ويقضي الأولى ركوعا وسجودا.
اختلفوا فيمن زحم في الجمعة عن الركوع والسجود متى فرغ الإمام، فعندنا يصلي ركعتين؛ لأنه أدرك أول الصلاة فهو الأحق، كما لو نام خلفه وهو قول الحسن البصري والأوزاعي والنخعي وأحمد، وقال قتادة وأيوب السجستاني والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وأبو ثور: يصلي أربعا. وقال مالك: أحب إلي أن يصلي أربعا.
وفي " المبسوط ": الصحيح عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد جواز الجمعة في مصر واحد في موضعين وأكثر، وفي "جوامع الفقه " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان، والأظهر عنه عدم الجواز في الموضعين، فإن فعلوا فالجمعة للأوليين، وإن وقعتا معا أو جهلت فسدتا. وفي " قنية المنية ": لما ابتلي أهل مرو بإقامة الجمعتين بها مع اختلاف العلماء في جوازهما أمر.... بأداء الأربع بعد الجمعة احتياطا.
واختلفوا في نيتها، قيل: ينوي ظهر يومه، وقيل: آخر ظهر عليه، والأحسن وقيل الأحوط(3/93)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن يقول نويت آخر ظهر أدركت وقته ولم أصله بعد، وقال الحسن: اختياري أن يصلي الظهر بهذه النية ثم يصلي أربعا بنية السنة. ثم اختلفوا في القراءة، قيل: يقرأ الفاتحة والسورة في الأربع، وقيل: في الأوليين كالظهر.
اختلفوا في سبق الجمعة بما إذا يعتبر إذا اجتمعتا في مصر واحد، فقيل بالشروع، وقيل بالفراغ، وقيل بهما، والأول أصح، وعند المالكية والحنابلة قيل بالإحرام، وقيل بالسلام، ذكرهما في " الذخيرة " و" شرح الهداية " لأبي البقاء، وقال: فإذا بطلتا يندب إلى أن يجتمعوا في مكان واحد فصلوا الجمعة، قال: وقيل الظهر وهو ضعيف ويكره بعد الزوال يوم الجمعة ولا يكره قبله، وفي " شرح الأقطع ": لا يكره قبله وبعده، وفي " النوادر " أن يسافر يوم الجمعة قبل الصلاة من غير فصل، وفي " المبسوط ": لا يجوز السفر بعد الزوال يوم الجمعة عند الشافعية، وكذا عند المالكية ذكره في " الذخيرة" للقرافي.
قال أبو مطيع: لا يحل للرجل أن يعطي سؤال المسجد، وفي " فتاوى قاضي خان " قال أبو نصر: من أخرجهم من المسجد أرجو أن يغفر له، وقال بعض العلماء: من تصدق بفلس في المسجد ثم تصدق بعد ذلك بأربعين، قلنا لم يكن كفارة لذلك الفلس، وعن خلف بن أيوب أنه قال: لو كنت قاضيا لا أقبل شهادة من تصدق على هؤلاء في المسجد الجامع، وعن أبي بكر بن إسماعيل أنه قال: هذا فلس يحتاج إلى سبعين مثله كفارة له، ولكن تصدقوا قبل أن تدخلوا المسجد أو بعد الخروج منه. وعن ابن المبارك قال: يعجبني أن السائل إذا سأل لوجه الله تعالى لا يعطى له شيئا؛ لأن الدنيا ومتاعها حقير فإذا سأل بوجه الله فقد عظم ما حقره فلا يعطى له زجرا، وقال الصدر الشهيد: إن السائل إذا كان لا يمر بين يدي المصلي ولا يتخطى رقابا ولا يسأل إلحافا ولا يسأل لأمره لا بد له منه فلا بأس بالسؤال والإعطاء خير.
وفي "المجتبى": يستحب لمن حضر الجمعة أن يغتسل ويدهن ويمس طيبا إن وجده، ويلبس أحسن ثيابه إن كان له، ويستحب الثياب البيض، وكره الغزالي وأبو طالب المكي لبس السواد، وخالفهما الماوردي «لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خطب وعليه عمامة سوداء.» «ودخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء» وعلى علي بن أبي طالب وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عمامة سوداء يوم قتل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأحدث بنو العباس لبس السواد شعارا لهم لأن الراية التي عقدت للعباس يوم الفتح ويوم خيبر كانت سوداء.(3/94)
باب صلاة العيدين قال: وتجب صلاة العيدين على كل من تجب عليه صلاة الجمعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب صلاة العيدين] [حكم صلاة العيدين وعلى من تجب]
م: (باب صلاة العيدين) ش: أي هذا باب في بيان صلاة العيدين الفطر والأضحى، وفي بعض النسخ باب العيدين على حذف المضاف لعدم اللبس، ووجه المناسبة بين البابين من حيث إنهما يصليان بجمع عظيم يجهر فيهما بالقراءة، ويشترط لأحدهما ما يشترط للآخر سوى الخطبة فإنها شرط في الجمعة لا تجوز الصلاة بدونها مستحبة في العيد تجوز صلاة العيد بدونها، لكن تنسب إلى الإساءة بتركها السنة، وأيضا خطبة الجمعة تقدم على الصلاة وتؤخر خطبة العيد عنها، فلو قدمت جاز ولا تعاد بعد الصلاة، وأيضا ليس في العيدين أذان ولا إقامة، ويشتركان في حق التكليف، فإن صلاة العيد تجب على من تجب عليه صلاة الجمعة.
وأما وجه تقديم الجمعة على العيد فظاهر وهو قوله الجمعة في نفسها بالفريضة، وكثرة وقوعها، ثم أصل العيد عود، لأنه مشتق من عاد يعود عودا، وهو الرجوع. قلبت الواو ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها كالميزان والميقات من الوزن والوقت، ويجمع على أعياد، وكان من حقه أن يجمع على أعواد؛ لأنه من العود كما ذكرنا، ولكن جمع بالياء للزومها في الواحد، أو جمع بالياء للفرق بينه وبين أعواد الخشبة، وسميا عيدين لكثرة عوائد الله فيهما، وقيل: لأنهم يعودون إليه مرة بعد أخرى، وهو من الأسماء الغالبة على يوم الفطر والأضحى.
والأصل فيه حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قدمت عليكم ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية، وقد أبدلكم الله خيرا منهما يوم النحر ويوم الفطر» رواه أبو داود والنسائي والبيهقي، قال البغوي: حديث صحيح، وأول عيد صلاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة، وفيها فرض زكاة الفطر، ونزلت فريضة رمضان في شعبان وحولت القبلة وبنى بعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في شوال وتزوج علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
م: (وتجب صلاة العيدين على كل من تجب عليه صلاة الجمعة) ش: أشار بهذا إلى أن صلاة العيد واجبة، كما رواه الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر هذه الرواية في " المبسوط " وذكر الكرخي أنها تجب على من تجب عليه الجمعة، وفي " العتبية " هي واجبة في أصح الروايات عن أصحابنا، قال قاضي خان: هو الصحيح، وفي " المحيط ": الأصح أنها واجبة، وفي المرغيناني كذلك، وفي " جوامع الفقه " و" منية المفتي " أنها واجبة، وفي " المفيد " هي واجبة. وفي " البدائع " هو الصحيح، وفي " مختصر أبي موسى الضرير " هي فرض كفاية، وفي " الغزنوي " قيل هي فرض(3/95)
وفي " الجامع الصغير "
عيدان اجتمعا في يوم واحد، فالأول سنة والثاني فريضة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كفاية. وفي " العتبية " قيل هي فرض، وأطلق، وقال مالك والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - هي سنة مؤكدة، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا تجب صلاة العيد على كل من تجب عليه الجمعة، وهذا منه يقتضي أن تكون فرض عين، لأن الفرض والواجب عنده في غير الحج واحد، وهو خلاف الإجماع ولهذا تكلموا فيه، وقال ابن العربي في المعارضة: لا أعلم أحدا قال إنها فرض كفاية إلا الإصطخري من الشافعية.
قلت: ظاهر مذهب أحمد أنها فرض كفاية، ذكر عنه في " المغني "، وقال في " جوامع الفقه " هو قول ابن أبي ليلى، وقال إمام الحرمين قال به طائفة مع الإصطخري، قوله- على من تجب عليه الجمعة - مشير إلى أنها لا تجب على العبد والمسافر والمريض كالجمعة.
فإن قلت: ينبغي أن تجب عليه الجمعة مع إذن مولاه لقيام الظهر مقام الجمعة، وهاهنا ليس كذلك.
قلت: نعم، كذلك إلا أنها لا تجب عليه مع الإذن أيضا، لأن المنافع بالإذن لا تصير مملوكة للعبد، فبقي الحال في الإذن كهي قبله، كما في الحج، فإنه لا يقع من حجة الإسلام، وإن حج بإذن مولاه، وكذلك العبد إذا حنث في يمينه يكفر بالمال بإذن مولاه فإنه لا يجوز، لأنه لم يملكه بالإذن.
وقال الشافعي: لا يشترط لها ما يشترط للجمعة، حتى يجوز أن يصلي العبد العيد والمسافر والمرأة والمنفرد حيث شاء، وأهل القرى لأنها نافلة، فأشبهت صلاة الاستسقاء والخسوف، وقال في القديم وهو رواية عن أحمد كقولنا. وفي " الجامع الصغير " عيدان اجتمعا في يوم واحد فالأول سنة والثاني فريضة ولا يترك واحد منهما لما ذكر "المصنف" - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن صلاة العيدين واجبة أراد به بلفظ الجامع الصغير ليدل على أنها سنة عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قال شمس الأئمة السرخسي: اشتبه المذهب فيها هل هي واجبة أم سنة، فالمذكور. م: (في الجامع الصغير) ش: أنها سنة لأنه قال.
م: (عيدان اجتمعا في يوم واحد فلأول سنة والثاني فريضة) ش: وهو تنصيص على السنة.
قال: والأظهر أنها سنة ولكنها من معالم الدين إقامتها هدى وتركها ضلالة، وقال شيخ الإسلام: والصحيح أنها سنة مؤكدة. وقال السغناقي: كل موضع فيه نوع مخالفة بين روايتي القدوري و" الجامع الصغير "، ويفيد لفظ " الجامع الصغير "، ومخالفته هنا ظاهرة وهي إطلاق الواجب على صلاة العيد في لفظ القدوري وإطلاق السنة في " الجامع الصغير "، وتبعه في هذا الكلام صاحب " الدراية " ثم الأكمل كذلك.(3/96)
ولا يترك بواحد منهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لم يتعرض القدوري في "مختصره" إلى الوجوب ولا إلى السنة، وإنما قال ويصلي الإمام بالناس ركعتين يكبر في الأولى تكبيرة الافتتاح وليس ذكر لفظ " الجامع الصغير " إلا لما ذكرنا، ثم المراد من اجتماع العيدين هاهنا اتفاق كون يوم الفطر أو يوم الأضحى في يوم الجمعة، وتغلب لفظ العيد على لفظ الجمعة، إما لعلة الحروف كما في العمرين، أو التغليب المذكور كما في القمرين، أو لأن يوم الجمعة عيد المؤمنين باعتبار ما لهم من وعد المغفرة والكفارة.
قوله: م: (ولا يترك بواحد منهما) ش: أي من العيد والجمعة، أما الجمعة فلأنها فريضة، وأما العيد فلأن تركها بدعة وضلال، وقال فخر الإسلام: ومن الناس من قال: بأنه إذا شهد الأولى منهما لم يلزمه شهود الأخرى؛ لما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال في يوم عيد وجمعة «إنكم يا أهل العوالي شهدتم معي العيد وإنما مجمعون فمن شاء فليرجع»
وفي " المحلى " و" الأشراف ": صلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - العيد ثم خطب فقال: إنه قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظر، ومن أحب أن يرجع إلى أهله فليرجع فقد أذنت له.
قوله- وإنما مجمعون - دليل على أن تركها لا يجوز، وإنما أطلق لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخيرهم عثمان، لأنهم كانوا أهل أبعد قرى المدينة، وإذا رجع أهل القرى قبل صلاة الجمعة لا بأس به.
فإن قلت: كيف قال محمد ولا يترك واحد منها، ومعلوم أن صلاة الجمعة فرض عين، وفرائض الأعيان لا تترك.
قلت: احترز به عن قول بعض العلماء فإنه روي عن عطاء أنه يجزئ لصلاة العيد عن الجمعة ومثله عن علي وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وعنه يجزئ أحدهما عن الأخرى.
وقال ابن عبد البر: سقوط الجمعة والظهر بصلاة العيد متروك مهجور، ولا يقول عليه وتأويل ذلك في حق أهل البادية ومن لا يجب عليه الجمعة، ويستحب تأخير صلاة العيد في الفطر، وتعجيلها في النحر لتعجيل الأضاحي وخروج الوقت في أثنائها يفسدها كالجمعة.
وفي " قنية المنية " يقدم صلاة العيد على صلاة الجنازة وصلاة الجنازة على الخطبة، ولو أفسدها قضاها ركعتين عندهما، وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا قضاء عليه، وفي " منية المفتي ": لا قضاء عليه ولم يجد خلافا، وقال أبو حفص الكبير: يقضي ركعتين لا يكبر فيهما(3/97)
قال: وهذا تنصيص على السنة، والأول على الوجوب وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجه الأول: مواظبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها من غير ترك. ووجه الثاني: «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث الأعرابي عقيب سؤاله قال: هل علي غيرهن؟ فقال: لا إلا أن تطوع»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإقامتها في الرساتيق يكره كراهة تحريم. قال شرف الأئمة والقاضي عبد الجبار، وقال الكرابيسي فسخ وكان يغضب لذلك غضبا شديدا.
م: (قال) ش: أي "المصنف". م: (وهذا) ش: أي قوله عند أبي حنيفة.. إلخ. م: (تنصيص على السنة) ش: لأنه صرح بها. م: (والأول على الوجوب) ش: أراد بالأول قوله- وتجب صلاة العيد - أي الأول تنصيص على وجوب صلاة العيد. م: (وهو رواية) ش: أي الوجوب رواية. م: (عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: رواه عنه الحسن كما ذكرناه.
م: (وجه الأول) ش: أي الوجوب. م: (مواظبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها) ش: أي على صلاة العيد. م: (من غير ترك) ش: ومواظبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير ترك يدل على الوجوب، ولأنها صلاة تختص بجماعة وضع لها خطبة فكانت واجبة كالجمعة.
فإن قلت: يلزم عليه الأذان والإقامة والجماعة في سائر الصلوات فإنها من الشعائر وتقام على سبيل الإجهار مع أنها سنة.
قلت: صلاة العيد شعار شرعت مقصودة بنفسها، وهذه الأشياء شرعت تبعا لغيرها وهو الصلاة، فانحطت درجتها عن درجة صلاة العيد، كذا ذكر شيخ الإسلام.
واستدل شيخ الإسلام على وجوبها بقوله تعالى {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37] [البقرة: 185] قيل المراد صلاة العيد والأمر للوجوب، وفي " الفوائد الظهيرية " الأمر باللام إنما يكون للغائب، وهذا مخاطب، لكن روي في قراءة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فبذلك فلتفرحوا"، بالخطاب فيحمل هذا على ذلك أو جعل الأخبار من الأمر مجازا، لأنه مستأنف، ومعنى الوجوب من الأخبار أيضا، وفيه تأمل، لأنه روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن المراد تكبيرة ليلة الفطر بدليل عطفه على إكمال رمضان. وقيل: المراد بالآية التعليم، وقيل: المراد تكبيرات صلاة العيد، وقيل في قَوْله تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] [الكوثر، الآية: 2] المراد صلاة عيد النحر فيجب بالأمر.
م: (ووجه الثاني) ش: وهو كونه سنة. م: (قوله- عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث الأعرابي عقيب سؤاله هل علي غيرهن، فقال: لا، إلا أن تطوع) ش: حديث الأعرابي أخرجه البخاري ومسلم في الإيمان عن طلحة بن عبيد الله قال: «جاء رجل إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال له: هل علي غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوع(3/98)
والأول أصح، وتسميته سنة لوجوبه بالسنة،
ويستحب في يوم الفطر أن يطعم الإنسان قبل الخروج إلى المصلى ويغتسل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وصيام شهر رمضان، قال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع، وذكر له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزكاة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أفلح إن صدق.»
قوله- عقيب سؤاله- أي عقيب سؤال الأعرابي. قوله- إلا أن تطوع - بتشديد الطاء والواو كلتيهما، لأن أصله تتطوع بتائين، فأدغمت أحد التائين في الطاء.
م: (والأول أصح) ش: أراد بالأول وجوب صلاة العيد، وأشار هذا إلى أنه أيضا ممن يقول بالوجوب. م: (وتسميته سنة لوجوبه بالسنة) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال إذا كانت صلاة العيد واجبة فكيف تقول إنها سنة، وتقرير الجواب أن تسمية محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - صلاة العيد سنة مع كونها واجبة لأجل أنها تثبت بالسنة وهي مواظبته- عَلَيْهِ السَّلَامُ - عليها من غير ترك، وفي " المحيط " عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها سنة واجبة أي وجوبها طريقة مستقيمة.
[ما يسن للمصلي في يوم الفطر]
م: (ويستحب في يوم الفطر أن يطعم الإنسان قبل أن يخرج إلى المصلى) ش: وبه قال مالك والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لما روى البخاري في -صحيحه- عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تغدوا يوم الفطر حتى تأكلوا تمرات» ، وقال أنس قيل «ما خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الفطر حتى يأكل تمرات ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أقل أو أكثر بعد أن يكون وترا» وهو قول فقهاء الأمصار، وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يأكل يوم الفطر حتى يغدو.
وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل ومثله عن النخعي، وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «من السنة أن يأكل يوم الفطر قبل أن يخرج إلى المصلى» وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجب عليه. وعن سعيد بن المسيب: كان الناس يؤمرون بالأكل قبل الغدو في يوم الفطر.
م: (ويغتسل) ش: بنصب اللام، أي يستحب في يوم الفطر أن يغتسل، وبه قال عطاء وعلقمة وعروة والنخعي والشعبي وإبراهيم التيمي وقتادة، ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر، وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه سنة كالجمعة ذكره في " المهذب " و" نهاية المطلب "، وفي " المدونة " غسل العيدين مطلوب دون غسل الجمعة. وفي " الذخيرة " لما كان العيد منخفض عن الجمعة في الوجوب وهو في وقت البرودة وعدم انتشار روائح الأعراف انحط غسله عن غسلها، وفي " الجواهر " يغتسل بعد الفجر، فإن فعل قبله أجزأه.
فإن قلت: جعل المصنف الاغتسال هاهنا مستحبا، وفي الطهارة سنة.(3/99)
ويستاك ويتطيب، لما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يطعم في يوم الفطر قبل أن يخرج إلى المصلى» وكان يغتسل في العيدين ولأنه يوم اجتماع فيسن فيه الغسل والتطيب كما في الجمعة ويلبس أحسن ثيابه؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له جبة فنك أو صوف يلبسها في الأعياد»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: اختلفت عبارات المشايخ، ففي بعضها جعله مستحبا، وفي بعضها سنة والصحيح أنه سنة، وسماه مستحبا لاشتمال السنة على المستحب.
م: (ويستاك) ش: بالنصب أيضا، لأن العلة التي لأجلها ندب الاغتسال والسواك والتطيب في الجمعة في صلاة العيد، وفي " السنن "عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الغسل يوم الجمعة على كل محتلم والسواك، ويمس من الطيب ما قدر له".» م: (ويتطيب) ش: بالنصب أيضا، أي يستحب في يوم الفطر أن يتطيب بطيب له رائحة ولا لون له كالبخور والمسك حلال للرجل، وقد غلط من قال بنجاسته.
م: (لما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كان يطعم في يوم الفطر قبل أن يخرج إلى المصلى» ش: هذا دليل لقوله ويستحب في الفطر أن يطعم قبل أن يخرج إلى المصلى، وقد رويناه عن البخاري من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات» وقد ذكرناه عن قريب. م: «وكان يغتسل في العيدين» ش: هذا حديث آخر دليل لقوله ويغتسل، رواه ابن ماجه من حديث الفاكه بن سعد، وكانت له صحبة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل يوم الفطر ويوم النحر» والفاكه بن سعد يأمر أهله بالغسل في هذه الأيام، ولا يعرف لفاكه بن سعد غير هذا الحديث، وروى ابن ماجه أيضا من حديث ابن عباس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل يوم الفطر ويوم الأضحى» .
م: (ولأنه) ش: أي ولأن يوم العيد. م: (يوم اجتماع، فيسن فيه الغسل والتطيب كما في الجمعة) ش: أي كما سن في يوم الجمعة. م: (ويلبس) ش: بالنصب أيضا، أي: ويستحب له أن يلبس. م: (أحسن ثيابه) ش: جديدا كان أو غسيلا. م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كانت له جبة فنك أو صوف يلبسها في الأعياد» ش: هذا الحديث غريب، لكن روى البيهقي من طريق الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد الأسلمي، أخبرني جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلبس برد حبرة في كل عيد» . وروى البيهقي من حديث جابر بن عبد الله، قال: «كان للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - برد أحمر(3/100)
ويؤدي صدقة الفطر إغناء للفقير ليتفرغ قلبه للصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يلبسه في العيدين والجمعة» .
قوله - جبة فنك- بالإضافة، ويجوز أن يكون بالصفة، وكذا الكلام في برد حبرة، والفنك بفتح الفاء والنون: حيوان يتخذ من جلده الفراء السنجاب، والحبرة بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة برد يمان، والجمع حبر، ويقال برد حبر وحبرة بالإضافة، والصفة عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه خرج في يوم الفطر أو أضحى في ثوب قطن يمشي.
م: (ويؤدي صدقة الفطر) ش: بالنصب أيضا عطفا على قوله: أن يطعم. م: (إغناء للفقير) ش: أي لأجل إغنائه، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم» ، ويروى عن الطلب، رواه الدارقطني والبيهقي من رواية أبي عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وفي رواية البيهقي: «أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم» .
وروى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من «حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الفطر أن نؤديها قبل خروج الناس إلى الصلاة.» م: (ليتفرغ قلبه للصلاة) ش: أي لصلاة العيد، لأن الفقير يشتغل بالسؤال ويطوف ويشتغل قلبه بالتحصيل، فإذا أعطي شيئا من ذلك يفرغ قلبه لأجل الصلاة.
ثم إن "المصنف "- رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر هاهنا استحباب ستة أشياء وهي قوله - في يوم الفطر - إلى قوله - ويتوجه إلى المصلى - وفي " قنية المنية " يستحب يوم الفطر للرجل اثني عشر شيئا: الغسل، والسواك، ولبس أحسن الثياب المباحة والتطيب والتختم والتبكير وهو سرعة الانتباه والابتكار وهو المسارعة إلى المصلى، والإفطار على حلو قبل الصلاة، وأداء صدقة الفطر قبلها، وصلاة الغداة في مسجد حيه، والخروج إلى المصلى ماشيا، والرجوع من طريق أخرى، والأضحى كالفطر غير أنه يترك الأكل حتى يصلي العيد، وهو سنة، قال: وكانت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يمنعون صبيانهم من الأكل وأطفالهم من الرضاع إلى أن يصلوا.
وقال بعضهم: هذه سنة لمن أراد أن يضحي بعد الأضحى حتى يكون أول أكله من لحم الأضحية، فأما من لم يضح فقبل الصلاة وبعدها في حقه سواء، ثم الخروج للجبانة سنة، وهي المصلى في طرف البلد، وإن كان يسعهم المسجد الجامع، وعليه عامة المشايخ، وقيل: ليس بسنة، وإنما يفعل لضيق الجامع، والصحيح هو الأول، وقال ابن المنذر: قد ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج يوم الفطر ويوم الأضحى إلى المصلى، والسنة ذلك، فإن ضعف يوم عنه أمر الإمام من يصلي بهم في المسجد، وهو الأفضل، روي ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واستحسنه(3/101)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأوزاعي، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي ثور.
والمستحب أن يجيء ماشيا لما ذكرنا عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «من السنة أن يأتي العيد ماشيا» . رواه الترمذي وابن المنذر. وبه قال عمر بن عبد العزيز، وكره النخعي الركوب، واستحب المشي الثوري، والشافعي - رحمهما الله- وأحمد كقولنا، وهو أقرب إلى التواضع وموافقة السنة، والركوب مباح، وفي المرغيناني: لا بأس بالركوب في الجمعة والعيدين، والمشي أفضل، ومثله في " الذخيرة، «وكان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول عند خروجه: اللهم إني خرجت إليك مخرج العبد الذليل» .
فإن قلت: ما أصل اختلاف الطريق يوم العيد عند الخروج إلى المصلى.
قلت: روي عن عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ يوم العيد في طريق، ثم رجع في طريق آخر» رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم، وروى البخاري من حديث جابر أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كان يعدو يوم الفطر والأضحى في طريق ويرجع الأخرى.»
فإن قلت: ما الحكم فيه قلت ذكر فيه وجوه الأول أنه إنما فعل ذلك ليكون للطريق الآخر حظا من العبادة والثاني لأن الناس يسألون عن الشرائع وما كانوا يقدرون على الوقوف له في طريق واحد الثالث أن كل واحد الثالث أن كل واحد كان يتمنى النظر إلى وجهه ولا يتيسر له في طريق واحد. الرابع: ليبين أن ذلك كله حسن مختار. الخامس: أنه كان يفعله احتياطا وتحرزا عن كيد الكفار. السادس: أن ذلك لكثرة الزحمة، يروى عن ابن عمر السابع: لأجل الغبار. الثامن: للتسوية بين أهل الطريقين في التبرك به. التاسع: لتعم الصدقة مساكين الطريقين، العاشر: لإظهار كثرة أهل الإسلام وانتشارهم. وفي "التجنيس" الحكمة في ذلك أن مكان القربة يشهد لصاحبها، ففي اختلاف الطريقين كثرة الشهود.(3/102)
ويتوجه إلى المصلى ولا يكبر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في طريق المصلى ويكبر عندهما اعتبارا بالأضحى، وله أن الأصل في الثناء الإخفاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ويتوجه إلى المصلى) ش: بالرفع لا بالنصب أي يتوجه من يريد صلاة العيد إلى مصلى العيد. م: (ولا يكبر) ش: يجوز أن تكون الواو للعطف، ويجوز أن تكون للحال، يعني ولا يكبر جهرا. م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في طريق المصلى) ش: إنما قيدنا بالجهر، لأن التكبير خير موضوع، لا خلاف في جوازه بصفة الإخفاء، وذكر الطحاوي أنه يغدو إلى الصلاة جاهرا بالتكبير في العيدين، ولم يذكر الخلاف.
وقال أبو بكر الرازي في شرح " مختصر الطحاوي " ويحكى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يكبر في الأضحى دون الفطر وعليه مشايخنا بما وراء النهر، وفي عامة الكتب الخلاف في الجهرية في طريق المصلى لا في نفس التكبير، ومعنى قوله - ولا يكبر - أي جهرا به عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما ذكرنا، ويأتي به سرا كما في سائر الأيام، وهو رواية المعلى عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره المرغيناني.
وقال الأسبيجابي مثلما قال الطحاوي ثم إنه يقطع التكبير إذا انتهى إلى المصلى، وفي رواية: لا يقطعها ما لم يفتتح الإمام صلاة العيد، ذكره في " المحيط ".
واختلف أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في انقطاع هذا التكبير، فقال المزني: يكبرون حتى يخرج الإمام، وقال البويطي: حتى يفتتح الصلاة، وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم: حتى ينصرف من الصلاة، ومثله في الأضحى، ويجهر به في الطريق إجماعا. وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يرفع صوته بالتكبير في العيدين، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأبي أمامة الباهلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (ويكبر عندهما) ش: أي يكبر جهرا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد في عيد الفطر. م: (اعتبارا بالأضحى) ش: أي قياسا على عيد الأضحى، فإنه يكبر فيه جهرا بلا خلاف، وبه قال النخعي؛ وسعيد بن جبير وابن أبي ليلى، وابن عبد العزيز وأبان بن عثمان، والحكم وحماد ومالك والشافعي ومحمد وإسحاق وأبو ثور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - واحتجوا بقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] [البقرة، الآية: 185] وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هذا ورد في عيد الفطر بدليل عطفه على قوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185] والمراد بإكمال العدة إكمال صوم رمضان.
م: (وله) ش: أي لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (أن الأصل في الثناء الإخفاء) ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205] [الأعراف: 205] ، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خير الذكر الخفي» ، ولأنه أقرب من الأدب والتطوع، وأبعد من الرياء وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(3/103)
والشرع ورد به في الأضحى لأنه يوم تكبير ولا كذلك يوم الفطر
ولا يتنفل في المصلى قبل صلاة العيد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
«خير الذكر الخفي، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا» ، وذكر ابن المنذر عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنه سمع الناس يكبرون، فقال: أيكبر الإمام؟ قيل: لا، قال: مجانين الناس، وفي " الحاوي ": سئل النخعي عن ذلك، قال: ذاك تكبير الحاكم.
قلت: هذا خلاف ما مر عنه آنفا أنه يكبر، وقال أبو جعفر: والذي عندنا أنه لا ينبغي أن يمنع العامة من ذلك لقلة رغبتهم في الخيرات، وقال: وبه نأخذ.
م: (والشرع ورد به) ش: أي بالجهر بالتكبير. م: (في الأضحى) ش: أي في عيد الأضحى. م: (لأنه) ش: أي لأن عيد الأضحى. م: (يوم تكبير) ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] [البقرة: 203] جاء في التفسير: المراد به التكبير في هذه الأيام. م: (ولا كذلك يوم الفطر) ش: لأنه لم يرد به الشرع، وليس في معناه أيضا لأن عيد الأضحى اختص بركن من أركان الحج، والتكبير شرع علما على وقت أفعال الحج، وليس في شوال ذلك.
فإن قلت: لا نسلم أن الشرع لم يرد به، فإن الله تعالى قال: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185] [البقرة: 185] وقد ذكرنا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما قاله فيه.
قلت: المراد بما في الآية التكبير في صلاة العيد، والمعنى صلوا صلاة العيد، وكبروا الله فيها.
فإن قلت: روى نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج يوم الفطر ويوم الأضحى رافعا صوته بالتكبير حتى يأتي المصلى» رواه الحاكم والبيهقي.
قلت: في إسناده الوليد بن محمد وهو متروك الحديث أيضا، وصحح البيهقي رفعه، ورواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا موقوفا.
فروع: قال أبو بكر الرازي، قال مشايخنا: التكبير جهرا في غير هذه الأيام لا يسن إلا بإزاء العدو واللصوص معينا له، وقيل: وكذا في الحريق والمخاوف كلها، وفي جمع النوازل ويكبر كلما لقي جمعا أو هبط واديا كالتلبية.
[التنفل في المصلى قبل صلاة العيد]
م: (ولا يتنفل في المصلى قبل صلاة العيد) ش: وفي بعض النسخ قبل العيد، أي قبل صلاة العيد، وفي " الذخيرة ": ليس قبل صلاة العيدين صلاة، كذا ذكر محمد في الأصل، وإن شاء(3/104)
لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعل ذلك مع حرصه على الصلاة، ثم قيل: الكراهة في المصلى خاصة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تطوع بعد الفراغ من الخطبة. وقال أبو بكر الرازي: معناه ليس قبلها صلاة مسنونة لا أنها تكره، إلا أن الكرخي نص على الكراهة قبل العيد حيث قال: يكره لمن حضر المصلى التنفل قبل صلاة العيد.
وفي " التجريد": إن شاء تطوع بعد الفراغ، من الخطبة ولم يذكر أنه تطوع في الجبانة أو في بيته، فإنه قال: لأنه يشبه السنة، فلو أراد أن يفعل ذلك فليفعله في منزله، وكان محمد بن مقاتل الرازي يقول: لا بأس بصلاة الضحى قبل الخروج إلى المصلى، وإنما يكره في الجبانة. وعامة المشايخ على الكراهة مطلقا، وعن علي وابن مسعود وجابر وابن أبي أوفى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم كانوا لا يرونها قبلها ولا بعدها، وهو قول ابن عمر ومسروق والشعبي والضحاك والقاسم وسالم والزهري ومعمر وابن جريج ومالك وأحمد. وقال أنس والحسن وعروة والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يصلي قبلها وبعدها، وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غير الإمام.
وقال أبو مسعود البزدوي: لا يصلي قبلها ويصلي بعدها، وبه قال علقمة، والأسود، ومجاهد، والثوري، والنخعي، والأوزاعي وابن أبي ليلى، وفي "الجواهر " للمالكية: لا يتنفل قبلها ولا بعدها في هذا اليوم، حكى ذلك عن ابن حبيب المالكي، وهو مردود بالإجماع، وعند أشهب لا يتنفل قبلها في المسجد ويتنفل بعدها، وفي " المغني ": قال أحمد: أهل الكوفة لا يتطوعون قبلها ولا بعدها.
م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يفعل ذلك مع حرصه على الصلاة) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل قبل العيد مع حرصه على فعل الصلاة، وقد روى الأئمة الستة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج فصلى بهم العيد ولم يصل قبلها ولا بعدها.»
وروى ابن ماجه في "سننه " من حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يصلي قبل العيد شيئا، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين» .
م: (ثم قيل الكراهة في المصلى خاصة) ش: قائله محمد بن مقاتل الرازي، وأشار بقوله خاصة إلى أنه لا يكره في غير المصلى، وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رأى في المصلى أقواما يصلون قبل الإمام، فقال: ما هذه الصلاة؟ لم نكن نعرفها على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقيل له: ألا تنهاهم؟ فقال: أكره أن أكون من الذي قال الله تعالى في حقهم: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى - عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9 - 10] وقال واحد منهم: إني أعلم أن الله لا يعذب عبدا على الصلاة، قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنا أعلم أن الله لا يثيب على مخالفة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قوله "خاصة" منصوب على الحال من الكراهة، والعامل فيه "قيل"، وكذلك الكلام في عامة.(3/105)
وقيل فيه وفي غيره عامة؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعله، وإذا حلت الصلاة بارتفاع الشمس دخل وقتها إلى الزوال،
فإذا زالت الشمس خرج وقتها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي العيد والشمس على قيد رمح أو رمحين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل فيه وفي غيره عامة) ش: أي قيل الكراهة في المصلى وغير المصلى، وهو قول عامة المشايخ، كما ذكر، ثم إذا أراد أن يصلي بعدها صلى أربعا، وفي "زاد الفقهاء ": إن أحب أن يصلي بعدها صلى أربعا، إلا أن مشايخنا قالوا: المستحب أن يصلي أربعا بعد الرجوع إلى منزله، كيلا يظن ظان أنه هو السنة المتوارثة، ولكن ذكر في " فتاوى" قاضي خان جواز التطوع في الجبانة بغير كراهة إذا كان بعد صلاة العيد من غير ذكر عدم الاستحباب، وكذلك أطلق الجواز في " التحفة "، فقال: أما لو فعل بعد الفراغ من الخطبة فلا بأس به.
م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يفعله) ش: أي لم يفعل الصلاة، أي لم يصل في المصلى قبل صلاة العيد ولا بعدها، وعدم فعله دليل الكراهة، وفي فتاوى الكردي والولوالجي وعليه الفتوى وفي " الصحيحين " عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أنه خرج يوم الأضحى فصلى ركعتين ولم يصل قبلهما، ولا بعدهما، وقال أبو داود: ويوم الفطر» .
م: (وإذا حلت الصلاة) ش: قال السغناقي: من الحل لا من الحلول، لأن الصلاة قبل ارتفاع الشمس كانت حراما، كما جاء في الحديث: ثلاث أوقات نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... الحديث، وقال تاج الشريعة: يحتمل أن يكون من الحلول يعنى الوجوب، ويحتمل أن يكون من الحل؛ لأن قبل ارتفاع الشمس لا تحل الصلاة.
قلت: الصواب ما قاله على ما لا يخفي. م: (بارتفاع الشمس) ش: ارتفاعها عند ابيضاضها، وذكر في " المحيط " أن أول وقتها حين تبيض الشمس، وآخر وقتها حين نزولها. وفي " الينابيع " فإذا صليت الصلاة بارتفاع الشمس يريد به إذا حل الوقت بالمباح للصلاة وذلك إذا ارتفعت الشمس وابيضت، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله- وأكثر أهل العلم.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أول وقتها طلوع الشمس، ويستحب تأخيرها قدر رمح. م: (دخل وقتها إلى الزوال) ش: أي إلى زوال الشمس عن كبد السماء.
[وقت صلاة العيدين]
م: (وإذا زالت الشمس خرج وقتها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يصلي العيد والشمس على قيد رمح أو رمحين» ش: قال الزيلعي: هذا حديث غريب، وقال السروجي: قال شمس الدين سبط بن الجوزي: متفق عليه.
وروى أبو داود، ثنا أحمد بن حنبل، ثنا أبو المغيرة، ثنا صفوان، ثنا يزيد بن خمير الرحبي، قال: «خرج عبد الله بن بسر صاحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع الناس في يوم عيد فطر أو أضحى فأنكر إبطاء الإمام، وقال: إن كنا قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح» أي وقت جواز التسبيح أي صلاة(3/106)
ولما شهدوا بالهلال بعد الزوال أمر بالخروج إلى المصلى من الغد،
ويصلي الإمام بالناس ركعتين يكبر في الأولى للافتتاح وثلاثا بعدها، ثم يقرأ الفاتحة وسورة ويكبر تكبيرة يركع بها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجمعة وهي صلاة الضحى، قوله: على قيد رمح بكسر القاف وسكون الياء يقال بينهما قيد رمح وقاد رمح، أي قدره.
م: (ولما شهدوا بالهلال بعد الزوال أمر بالخروج إلى المصلى من الغد) ش: هذا دليل خروج وقت صلاة العيد بزوال الشمس، بيانه أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر بالخروج إلى المصلى من الغد بعد شهادة الشهود، ولو جاز الأداء بعد الزوال لم يكن للتأخير معنى، إذ لا يجوز تأخيرها بدون العذر السماوي، ولا عذر هاهنا يجوز التأخير سوى أنه خرج الوقت، والضمير في - شهدوا - يرجع إلى الركب الذين جاءوا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشهدوا برؤية الهلال في اليوم المكمل للثلاثين من رمضان بعد الزوال، فعند ذلك أمر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالخروج من الغد.. إلى آخر ما ذكرناه الآن.
وأصل الحديث ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه واللفظ لابن ماجه من حديث أبي بشر جعفر بن وحشية «عن أبي عمير بن أنس: حدثني عمومتي من الأنصار من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: أغمي علينا هلال شوال، فأصبحنا صياما، فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يفطروا وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغد» وبهذه اللفظة رواه الدارقطني في " سننه "، وقال: إسناده حسن، ولفظ أبي داود والنسائي «أن ركبا جاءوا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم أن يفطروا وإذا أصبحوا يغدوا إلى مصلاهم»
[كيفية صلاة العيدين]
م: (ويصلي الإمام بالناس ركعتين) ش: أي يصلي الإمام صلاة العيد بالناس ركعتين. م: (يكبر في الأولى للافتتاح) ش: أي يكبر في الركعة الأولى لأجل الافتتاح، وهي تكبيرة الإحرام. م: (وثلاثا بعدها) ش: أي يكبر ثلاث تكبيرات بعد تكبيرة الافتتاح، ولكن بعد الثناء والتعوذ ويرفع يديه في كل تكبيرة.
م: (ثم يقرأ الفاتحة) ش: أي بعد الفراغ من التكبيرات الثلاث يقرأ فاتحة الكتاب. م: (وسورة معها) ش: أي ويقرأ سورة مع الفاتحة أو آية طويلة أو ثلاث آيات قصيرة. م: (ويكبر تكبيرة) ش: أي بعد الفراغ من القراءة يكبر تكبيرة واحدة لأجل الركوع وهو معنى قوله. م: (يركع بها) ش: أي بهذه التكبيرة وهذه الجملة في محل النصب، لأنها صفة لقوله - تكبيرة - فتكون التكبيرات الزوائد في هذه الركعة ثلاث تكبيرات قبل القراءة، ومع تكبيرات الافتتاح وتكبيرة الركوع(3/107)
ثم يبتدئ في الركعة الثانية بالقراءة، ثم يكبر ثلاثا بعدها ويكبر رابعة يركع بها، وهذا قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو مذهبنا. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يكبر في الأولى للافتتاح وخمسا بعدها، وفي الثانية يكبر خمسا ثم يقرأ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خمسة.
م: (ثم يبتدئ في الركعة الثانية بالقراءة) ش: كما في سائر الصلوات. م: (ثم يكبر ثلاثا بعدها) ش: أي ثم يكبر ثلاث تكبيرات بعد الصلاة. م: (ويكبر الرابعة) ش: أي يكبر تكبيرة رابعة بعد التكبيرات الثلاث لأجل الركوع، وهو معنى قوله. م: (يركع بها) ش: أي بهذه التكبيرة الرابعة في الركعة الثانية أيضا الزوائد ثلاث تكبيرات كما في الأولى، فالجملة ست تكبيرات زوائد ولا يرفع يديه في تكبير الركوع.
م: (وهذه قول عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي وهذا الذي ذكرنا بالكيفية المذكورة قول عبد الله بن مسعود، وبقوله قال أبو موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان وعقبة بن عامر وابن الزبير وأبو مسعود البدري، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين والثوري وعلماء الكوفة، وهو رواية عن أحمد وهو رواية عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو قول ابن مسعود، هذا رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " ثنا هشيم ثنا مجالد عن الشعبي عن مسروق قال: كان عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يعلمنا التكبير في العيدين تسع تكبيرات خمس في الأولى وأربع في الآخرة ويوالي بين القراءتين في الأولى تكبيرة الافتتاح والتكبيرات الزوائد وتكبيرة الركوع والأربع في الركعة الأخيرة؛ التكبيرات الثلاث الزوائد وتكبيرة الركوع. وروى محمد بن الحسن في كتاب " الآثار " أنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان قاعدا في مسجد الكوفة ومعه حذيفة بن اليمان وأبو موسى الأشعري فخرج عليه الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أمير الكوفة يومئذ، فقال: إن غدا عيدكم فكيف أصنع؟ فقال: أخبره يا أبا عبد الرحمن، فأمره عبد الله بن الزبير أن يصلي بغير أذان ولا إقامة وأن يكبر في الأولى خمسا وفي الثانية أربعا وأن يوالي بين القراءتين وأن يخطب بعد الصلاة على راحلته.
م: (وهو مذهبنا) ش: أي قول ابن مسعود مذهبنا، وهو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين على ما ذكرناه آنفا.
م: (وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يكبر في الأولى للافتتاح) ش: أي يكبر في الركعة الأولى لأجل الافتتاح، وهي تكبيرة الإحرام (وخمسا بعدها) أي يكبر خمس تكبيرات أخرى بعد تكبيرة الافتتاح. م: (وفي الثانية يكبر خمسا) ش: أي يكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات. م: (ثم يقرأ) ش: أي بعد التكبيرات الخمس يشرع في قراءة القرآن.(3/108)
وفي رواية يكبر أربعا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فتكون الجملة ثلاثة عشر تكبيرات، سبعة في الأولى الزوائد خمسة، والثنتان تكبيرة الافتتاح والركوع، وفي الركعة الثانية خمس تكبيرات زوائد، واحدة أصلية، فالجملة ثلاث عشرة، ثلاث أصليات وعشر زوائد، فالخلاف بين قول ابن مسعود، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في موضعين: أحدهما: في عدد التكبيرات الزوائد، فعند ابن مسعود: ست، وعند ابن عباس: عشر، والآخر: أن التكبيرات الزوائد عند ابن مسعود بعد القراءة، وعند ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قبلها.
وهذه الرواية عن ابن عباس، رواها ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا يزيد بن هارون ثنا حميد عن عمار بن أبي عمار أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة، سبعا في الأولى وخمسا في الثانية.
م: (وفي رواية يكبر أربعا) ش: أي في رواية أخرى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه يكبر أربع تكبيرات في الركعة الثانية فتكون الجملة اثنتي عشرة تكبيرة، منها سبع في الأولى وهي تكبيرة الإحرام، وخمس بعدها الزوائد وتكبيرة الركوع وأربع في الركعة الأخرى زوائد وواحدة أصلية، فالجملة ثنتي عشرة.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رواية أخرى يكبر في العيدين تسعا تسعا ويروى ذلك عن المغيرة وأنس وسعيد بن المسيب والنخعي، وعن ابن عباس أيضا أنه يكبر في عيد الفطر ثلاث عشرة تكبيرة، سبع في الأولى منهن تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع، وست في الثانية، منهن تكبيرة الركوع قبل القراءة وواحدة بعدها، وعن ابن عباس أيضا في رواية أخرى أنه تسع يوم الفطر ويوم الأضحى، وإحدى عشرة وثلاث عشرة.
وعنه أيضا كمذهبنا رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا هشيم أبو خالد الحداد عن عبد الله بن الحارث قال: صلى ابن عباس يوم عيد فكبر تسع تكبيرات، خمسا في الأولى وأربعا في الآخرة، ووالى بين القراءتين، ورواه عبد الرزاق أيضا في " مصنفه "، وزاد فيه: ونقل المغيرة بن شعبة مثل ذلك.
وهاهنا مسائل أخرى:
الأولى: يكبر في الأولى ستا وفي الثانية خمسا ويقرأ فيهما بعد التكبير، وهو مذهب الزهري والأوزاعي ومالك وأبي ثور وأحمد، في ظاهر قوله.
الثانية: يكبر في الأولى خمسا وفي الثانية ثلاثا سوى تكبيرتي الركوع، قاله الحسن البصري.(3/109)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثالثة: يكبر في الأولى أربعا غير تكبيرة الصلاة، وفي الثانية ثلاثا بعد القراءة، سوى تكبيرة الركوع، وهو مذهب جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
الرابعة: يكبر ثلاثا في الأولى سوى تكبيرة الافتتاح ثم يقرأ في الثانية بعد القراءة ثم يكبر في الركوع وهو رواية عن الحسن البصري.
الخامسة: التفرقة بين الفطر والأضحى، وهي أن يكبر في الفطر تكبيرة الافتتاح ثم يقرأ ثم يكبر خمسا يركع بآخرهن ثم يقوم فيقرأ ثم يكبر خمسا ثم يركع بآخرهن وتقدم القراءة على التكبيرات، وفي الأضحى يكبر خمسا غير تكبيرة الافتتاح، ثم يقرأ ثم يكبر ثنتين يركع بإحداهما ثم يقوم فيقرأ ثم يكبر ثنتين يركع بإحداهما، وهو مذهب علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبه قال شريك بن عبد الله وابن جني.
السادسة: عن علي أيضا في رواية يكبر إحدى عشرة تكبيرة في الفطر والأضحى جمعا ثلاث أصليات وثمان زوائد ثلاث في الأولى واثنتان في الأخرى.
الثامنة: يكبر تكبيرتين ثم يقرأ، وكذا في الثانية وفي الفطر كقول أصحابنا، وهو مذهب يحيى بن أحمد.
التاسعة: ليس فيه شيء مؤقت، وهو مذهب حماد بن أبي سليمان، شيخ أبي حنيفة.
العاشرة: يأخذ بأي هذه التكبيرات شاء وهو مذهب ابن أبي ليلى، ورواية عن أبي يوسف.
الحادية عشرة: يكبر خمس عشرة تكبيرة، ثلاث أصليات واثنتا عشرة تكبيرة زائدة في ركعة، ست منها وهو مذهب أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
الثانية عشرة: عن أبي بكر أيضا يكبر ست عشرة تكبيرة، ثلاث أصليات، وثلاث عشرة زوائد، سبع في الأولى وست في الثانية.
وقد ذكرنا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ست روايات فتصير الجملة ثمانية عشر قولا، ومع قول أصحابنا تسعة عشر قولا، ثم الاختلاف محمول على أن كل ذلك فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأحوال المختلفة، لأن القياس لما لم يدل عليه حمل على أن كل واحد من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - روى قوله عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكل واحد من التابعين روى قوله عن صحابي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلا أن أصحابنا رجحوا قول ابن مسعود لوجوه: الأول: هو كون جماعة من الصحابة مع ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما ذهب إليه على ما ذكرناه.
الثاني: لما روى أبو داود في " سننه " مسندا إلى مكحول، قال: أخبرني أبو عائشة جليس لأبي(3/110)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هريرة «أن سعيد بن العاص سأل أبو موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان: كيف كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى: كان يكبر أربع تكبيرات على الجنائز، فقال حذيفة: صدق، فقال أبو موسى: كذلك كنت أكبر في البصرة حيث كنت عليهم، وقال أبو عائشة: وأنا حاضر سعيد بن العاص» . ورواه أحمد أيضا في " مسنده ". قوله: تكبيره على الجنائز، أي كتكبيره على الجنائز، واستدل به ابن الجوزي في " التحقيق " لأصحابنا ثم أعله بعبد الرحمن بن ثوبان الذي في سنده فقال: قال ابن معين: وهو ضعيف، وقال أحمد: لم يكن بالقوى، وأحاديثه مناكير. وفي " التنقيح ": عبد الرحمن بن ثوبان وثقه غير واحد. وقال ابن معين: ليس به بأس، ولكن أبو عائشة قال ابن حزم فيه: مجهول، وقال ابن القطان: لا نعرف حاله.
قلت: أبو داود أخرج له وسكت عنه، وأدنى المرتبة أن يكون حديثه حسنا.
فإن قلت: قال البيهقي: خولف، وإنه في موضعين رفعه، وفي جواب أبي موسى والمشهور أنهم أسندوه إلى ابن مسعود فأفتاهم بذلك، ولم يسنده إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قلت: سكوت أبي داود يدل على أنه مرفوع، لأن مذهب المحققين أن الحكم للرافع لأنه زاد، وأما جواب أبي موسى فيحتمل أنه قارب مع ابن مسعود فأسند الأمر إليه مرة، وكان عنده حديث فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره مرة أخرى.
وقال أبو بكر الرازي: حديث الطحاوي مسند إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه صلى يوم عيد وكبر أربعا، أقبل بوجهه حين انصرف، فقال: لا تشبهوا بتكبير الجنائز، وأشار بأصابعه، وقبض إبهامه» وفيه قبول وفعل وإشارة إلى أصل وتأكيد، والأخذ به أولى، وأراد بالأربع أربع تكبيرات متوالية.
فإن قلت: ما تقول فيما أخرجه الترمذي وابن ماجه عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده عمرو بن عوف المزني «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة، وفي الآخرة خمسا قبل القراءة.» قال الترمذي: حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب. وقال في " علله الكبرى ": سألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: ليس في(3/111)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذا الباب شيء أصح منه، وبه أقول.
قلت: قال ابن القطان في كتابه: هذا ليس بصريح في الصحيح، فقوله: ليس في هذا الباب شيء أصح منه، يعني أقل ضعفا، وقوله: وبه أقول، يحتمل أن يكون من كلام الترمذي، أي: أنا أقول، أنا محمد، الحديث أحسن ما في الباب، قال: ونحن وإن خرجنا عن ظاهر اللفظ، ولكن كثير بن عبد الله: متروك، قال أحمد: لا يساوي شيئا وضرب على حديثه في المسند ولم يحدث به، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء.
وقال أبو زرعة: واهي الحديث. وقال الشافعي: هو ركن من أركان الكذب.
وقال ابن حبان: يروي عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب إلا على سبيل التعجب.
وقال ابن ماجه في كتابه " العلم المشهور ": وقد حسن الترمذي في كتابه من أحاديث موضوعة وأسانيد واهية منها هذا الحديث، فإن الحسن عندهم ما نزل عن درجة الصحيح ولم يرد عليه إلا من كلامه، فإنه قال في علله التي في كتابه " الجامع ": والحديث الحسن عندنا ما روي من غير وجه، ولم يكن شاذا ولا في إسناده من يتهم بالكذب.
الوجه الثالث: أن قول ابن مسعود لم يضطرب وقد ساعده جماعة من الصحابة الذين ذكرناهم، وفي قول غيره اضطراب، فصار الأخذ بقوله أولى، على أنه قد نقل عن أحمد أنه ليس يروى في التكبير في العيدين حديث صحيح، قال أبو بكر بن المولى: لم يثبت في التكبير شيء يصح.
فإن قلت: ذكر البيهقي في " سننه " أحاديث محتجا بها لمذهب إمامه وصحح بعضها، ولم يتعرض للتضعيف. منها: حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
قالت: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبر في العيدين في الأولى بسبع تكبيرات، وفي الثانية بخمس قبل القراءة سوى تكبيرتي الركوع» رواه أبو داود وابن ماجه. ومنها: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الثانية والقراءة بعد كلتيهما» رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني.(3/112)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنها: حديث عمرو بن عوف المزني وقد ذكرناه الآن.
ومنها: حديث عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد مؤذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يكبر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة، وفي الثانية خمسا قبل القراءة» رواه ابن ماجه.
ومنها: حديث عبد الله بن محمد بن عمار عن أبيه عن جده، قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبر في العيدين في الأولى سبع تكبيرات وفي الأخرى خمسا» رواه الدارقطني. ومنها: حديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التكبير في العيدين في الأولى سبع تكبيرات وفي الأخرى خمس تكبيرات» ، رواه الدارقطني أيضا.
قلت: حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: في سنده عبد الله بن لهيعة وأمره ظاهر.
وقال الدارقطني في " علله ": فيه اضطراب، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص ضعفه جماعة، منهم ابن معين.
فإن قلت: صححه البخاري والنووي.
قلت: فيه عبيد الله بن عبد الرحمن الطائفي، وقد ضعفه أحمد، وضعفه ابن الجوزي أيضا، وذكره في الضعفاء والمتروكين مع كونه موافقا لمذهبه، وحديث عمرو بن عوف ذكرنا حاله عن قريب. وحديث مؤذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحديث عبد الله بن محمد بن عمار، ضعفه أحمد به، وقال ابن معين: ليس بشيء. وحديث عبد الله بن عمر فيه الفرج بن فضالة، قال البخاري: وهو ذاهب الحديث.
الوجه الرابع: في قول ابن مسعود، فرجح، لأنه أثبت ولا تردد فيه ولا اضطراب، ولأن قوله يُبقي الزيادة وأقوال غيره.
قلت: والنفي موافق القياس، إذ القياس على غيرها من الصلوات ينفي إدخال زيادة الأذكار فيها، والإثبات يخالفه، وإذا ترجح قوله في العدد ترجح في الموضع إذ الرواية واحدة.(3/113)
وظهر عمل العامة اليوم بقول عبد الله بن عباس لأمر بينه الخلفاء، فأما المذهب فالقول الأول لأن التكبير ورفع الأيدي خلاف المعهود، فكان الأخذ بالأقل أولى، ثم التكبيرات من أعلام الدين حتى يجهر بها فكان الأصل فيه الجمع، وفي الركعة الأولى يجب إلحاقها بتكبيرة الافتتاح لقوتها من حيث الفرضية والسبق، وفي الثانية لم يوجد إلا تكبيرة الركوع فوجب الضم إليها، والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أخذ بقول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلا أنه حمل المروي كله على الزوائد فصارت التكبيرات عنده خمس عشرة أو ست عشرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وظهر عمل العامة اليوم بقول عبد الله بن عباس لأمر بينه الخلفاء) ش: أي ظهر عمل الناس كافة بقول ابن عباس لأجل أن بينه الخلفاء لما انتقلت إليهم الخلافة أمروا الناس بالعمل في التكبيرات بقول جدهم وليتولى مناشيرهم ذلك. وعن هذا صلى أبو يوسف بالناس حين قدم بغداد صلاة العيد وكبر تكبير ابن عباس، فإنه صلى خلفه هارون الرشيد وأمره بذلك، وكذلك روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذلك لأن المسألة مجتهد فيها وطاعة الإمام فيها ليس فيه معصية واجبة، وهذا ليس بمعصية، لأنه قول بعض الصحابة.
م: (فأما المذهب فالقول الأول) ش: أي فأما مذهب أصحابنا فالقول الأول، وهو قول عبد الله بن مسعود وهو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين على ما ذكرنا. م: (لأن التكبير) ش: غير تكبير الافتتاح والتكبيرات التي يتخلل في الصلاة.
م: (ورفع الأيدي) ش: في الصلاة. م: (خلاف المعهود، فكان الأخذ بالأقل أولى) ش: أي بأقل التكبيرات وهي الست الزوائد أولى، لأن الأخبار تواترت فيه، فيكون ثبوته بيقين. م: (ثم التكبيرات من أعلام الدين حتى يجهر بها) ش: فكان كتكبيرة الافتتاح، وإنما أنث الضمير بتأويل التكبير. م: (فكان الأصل فيه الجمع) ش: أي فكان الأصل في التكبير الزوائد الجمع مع التكبير الأصلي لأن الجنسية علة الضم. م: (وفي الركعة الأولى يجب إلحاقها بتكبيرة الافتتاح لقوتها من حيث الفرضية والسبق) ش: تقريره أن تكبيرات العيد لم تؤخر في الركعة الأولى عن القراءة إلحاقا لها بتكبيرة الركوع، كما هو قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بل قدمت على القراءة إلحاقا لها بتكبيرة الافتتاح، لأن تكبيرة الافتتاح أقوى من حيث إنها فرض، ومن حيث إنها سابقة.
م: (وفي الثانية) ش: أي وفي الركعة الثانية. م: (لم يوجد إلا تكبيرة الركوع فوجب الضم إليها) ش: لوجود الجنسية. م: (والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أخذ بقول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: وهو الأكثر احتياطا. م: (إلا أنه حمل) ش: التكبير. م: (المروي كله على الزوائد) ش: إلا أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حمل التكبير المروي كله على التكبيرات الزوائد. م: (فصارت التكبيرات عنده خمس عشرة أو ست عشرة) .
ش: لأن الزوائد لما كانت عنده ثلاث عشرة أو ثنتي عشرة، وضمت إلى الأصليات وهي(3/114)
قال: ويرفع يديه في تكبيرات العيدين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثلاثة، تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع في الركعتين تصير الكل ست عشرة، والمراد بالمروي هو الذي روي عن ابن عباس؛ لأنه روي عنه سبع أو خمس فهي مع تكبيرة الافتتاح وتكبير في الركوع ست عشرة تكبيرة، واعترض على المصنف بأن المراد بالمروي إن كان ما ذكره فيما مضى من قوله.
وقال ابن عباس: يكبر في الأولى للافتتاح إلى آخره لا تجيء التكبيرات هذا المقدار، لأن الزوائد فيه عشرة أو تسعة، وبالأصليات يكون ثلاث عشرة أو ثنتي عشرة، وإن كان غير ما ذكره يكون في كلامه القياس، وتعقيد يعلو قدره عن ذلك.
وأجيب عنه: بأن ابن عباس روي عنه روايتان: أحدهما: أنه يكبر في العيدين ثلاث عشرة تكبيرة، والأخرى: أنه يكبر بثنتي عشرة تكبيرة، ففسر علماؤنا روايته بأن ذلك إنما هو بإضافة الأصليات لأنها ثلاثة، تكبيرة الافتتاح وتكبير في الركوع في الركعتين، فإذا أضيفت إلى خمسة وخمسة كانت ثلاثة عشرة، وإذا أضيفت إلى خمسة وأربعة كانت ثنتي عشرة.
قلت: ظهر من تفسير علمائنا روايتي ابن عباس أن عمل اليوم وقع عليه لا على تفسير الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعلى هذا قول من قال: العمل اليوم في التكبيرات على مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - غير مستقيم، ولهذا قال المصنف: وظهر عمل العامة اليوم بقول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وفي " المحيط ": ثم اعملوا برواية الزيادة في عيد الفطر، وبرواية النقصان في عيد الأضحى ليكون عملا بالروايتين، وإنما اختاروا النقصان في عيد الأضحى لاستعجال الناس بالقرابين فيه، وفي " المبسوط " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه سكت بين كل تكبيرتين بقدر ثلاث تسبيحات، لأن صلاة العيد تقام بجمع عظيم، فهو والى بين التكبيرات يشبه على من كان ناويا عن الإمام، والاشتباه يزول بهذا القدر من الكسب، ثم قال: هذا القدر ليس بلازم، بل يختلف ذلك بكثرة الزحام وقلته.
[رفع اليدين في تكبيرات العيدين]
م: (قال: ويرفع يديه في تكبيرات العيدين) ش: وبه قال الشافعي وأحمد وهو مذهب عطاء والأوزاعي، وقال الثوري وابن أبي ليلى ومالك: لا يرفع، وهو مذهب الظاهرية أيضا.
وقال الإمام حميد الدين الضرير: روي عن أبي يوسف رواية شاذة أنه لا يرفع يديه في تكبيرات العيد.
قلت: هذه ليست برواية شاذة، فإن الكرخي قال في " مختصره ": قال أبو حنيفة ومحمد: يرفع يديه في التكبيرات الزوائد في العيدين، وقال ابن أبي ليلى: لا يرفع يديه، وهو قول أبي(3/115)
يريد به ما سوى التكبير في الركوع لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن» وذكر من جملتها تكبيرات الأعياد، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يرفع، والحجة عليه ما رويناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يوسف، وكذا ذكر القدوري في " شرح مختصر الكرخي " وأبو بكر الرازي وأبو نصر البغدادي وصاحب " التحفة " والحاكم الشهيد في " مختصر الكافي " عن أبي يوسف كذلك، ومع نقل هذه الأئمة الثقات عن أبي يوسف عدم رفع اليدين فيها كيف تكون شاذة.
م: (ويريد به ما سوى التكبير في الركوع) ش: أي يريد القدوري برفع اليدين فيما سوى تكبيرتي الركوع، لأن تكبير الركوع لا ترفع فيه الأيدي عندنا.
فإن قلت: قد قلتم إن تكبيرة الركوع في الركعة الثانية واجبة إلحاقا لها بأخواتها، فهلا قلتم ترفع اليد إلحاقا لها بتكبيرات العيدين.
قلت: القول بوجوب تكبيرة الركوع نوع احتياط، بخلاف القول بالرفع، فإنه عمل على خلاف القياس فلا يتحقق بها.
م: «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن» ش: تقدم الكلام في هذا الحديث في باب صفة الصلاة مستوفى، وإنما قال في سبعة مواطن بتأويل البقاع. م: (وذكر من جملتها تكبيرات الأعياد) ش: أي ذكر في الحديث من جملة السبعة المواطن تكبيرات العيدين.
م: (وعن أبي يوسف أنه لا يرفع) ش: أي روي عن أبي يوسف أنه لا ترفع اليد في تكبيرات العيد، رواها عنه أبو عصمة.
م: (والحجة عليه ما رويناه) ش: أي الحجة على أبي يوسف ما رويناه، وهو الحديث المذكور.
فإن قلت: استدل أبو يوسف ومن ذهب إلى ما ذهب إليه بعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال: «أراكم رافعي أيديكم كأذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة» وبحديث البراء «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه عند الافتتاح ثم لا يرفع» ولأن السنة رفع يديه عند الافتتاح، وهذه التكبيرات ما لا يفتتح بها، ألا ترى أن تكبيرة الركوع فيها ولا رفع إليها وهي أصلية، ففي الزوائد أولى.
قلت: القياس متروك بالأثر، والحديث ليس على عمومه بالاتفاق، وحديث البراء يحتمل عدم الرفع في غير صلاة العيد، والحديث محكم، فكان أولى لا خلاف أنه يأتي بالثناء بعد الافتتاح قبل القراءة، فيقدم على الزوائد.
وقال محمد وأبو حنيفة - رحمهما الله- في رواية الشافعي وأحمد رحمهما الله: يأتي به بعد الزوائد عند افتتاح القراءة، وعند مالك لا يعود، ولا يرد في " المبسوط "، لا ذكر بين التكبيرات مسنون ولا مستحب؛ لأنه لم ينقل، وبه قال الكرخي التسبيح أولى، ذكره في " القنية ".(3/116)
وقال: ويخطب بعد الصلاة خطبتين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " يحمد ويهلل بين كل تكبيرتين مقدار آية لا طويلة ولا قصيرة، ولو قال الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا فحسن، وقد روي عن ابن مسعود نحوه: أدرك الإمام وقد كبر بعض التكبيرات يتابعه فيما أدرك ويقضي ما فاته في الحال ثم تابع إمامه، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم ومالك وأحمد.
وقال في الجديد: لا يقضي ما فاته، ولو أدرك بعد الفراغ من التكبيرات لا يأتي في الجديد، وفي القديم يأتي بها ثم يفعل بالقراءة كذلك في تتمتهم، ولو أدركه في القراءة كبر على رأي نفسه، وكذا لو أدركه في الركوع ولم يخف فوته يأتي بها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد خلافا لأبي يوسف والشافعي - رحمهما الله- وأحمد.
ولو كبر بعد الفاتحة قبل السورة يعيد الفاتحة والمسبوق بركعة يكبر فيما مضى على رأي نفسه كالمنفرد واللاحق يتبع رأي الإمام فيها، ولو قرأ " {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] " والغاشية تبركا بقراءة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحسن كذا في " المبسوط " وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يستحب أن يقرأ في زمان الأولى سورة " ن " وفي الثانية " {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] ".
وقال مالك وأحمد: يقرأ بسبح والغاشية، وتكبيرات العيد واجبة حتى يجب السهو بتركها، وعند الشافعي لا سهو عليه، يتابع الإمام في التكبير من الإمام، فإن كان يسمع من المنادي فلا ينبغي أن يدع شيئا وإن كثرت.
[الخطبة بعد الصلاة في العيدين]
م: (قال: ويخطب بعد الصلاة خطبتين) ش: كما في الجمعة، لكنها تخالف خطبة الجمعة من وجهين، أحدهما أن الجمعة لا تجوز بلا خطبة، بخلاف العيد، والثاني أنها في الجمعة متقدمة على الصلاة، بخلاف العيد، ولو قدمها في العيد أيضا جاز، ولا تعاد الخطبة بعد الصلاة.
وبتقديم الصلاة على الخطبة قال أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي والمغيرة وابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وهو قول الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبي ثور وإسحاق وجمهور أهل العلم، وعن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لما كثر الناس خطب قبل الصلاة، ومثله عن ابن الزبير ومروان بن الحكم، ذكر ذلك ابن المنذر في " الإشراق "، قال أبو بكر بن العربي: هذا غلط من عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وفي " المفيد " عن الزهري: أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة معاوية.
وفي " المحيط ": والخطبة فيها سنة، وهي بعد الصلاة. وفي " الذخيرة ": يجوز تركها ويغيرها(3/117)
فبذلك ورد النقل المستفيض،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن محلها، ويجوز قاعدا كما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ناقته العضباء والراكب قاعد، وذكر ركن الدين الصيادي أن الكلام لا يكره عند هذه الخطبة. وفي " السامع " فيشترط بصلاة العيد ما يشترط للجمعة الخطبة، فإنها سنة فيها.
وفي " الولوالجي ": شروط العيد مثل شروط الجمعة في المصر، والقوم والسلطان والوقت إلا الخطبة، وعن عطاء عن عبد الله بن السائب قال: «لما قضى رسول الله الصلاة، قال: إنا نخطب، فمن أحب أن يذهب فليذهب» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وهذا دليل على أن الخطبة فيها سنة، ولو كانت واجبة لوجب الجلوس لها وإسماعها.
وفي " الذخيرة ": ولا يخرج المنبر يوم العيد، وذكر شيخ الإسلام في شرحه أن في زماننا لا بأس بإخراجه، قال: وكره بعضهم بناءه في الجبانة، وهذا إنكاره بقول يخطب الإمام قائما على الأرض أو على دابته، ولم يكرهه آخرون.
وفي " جمع النوازل " يبدأ بالتحميد في خطبة الجمعة والاستسقاء والنكاح، وبالتكبيرات في خطبة العيدين، ويستحب أن يفتتح الخطبة الأولى بتسع تكبيرات وفي الثانية سبع، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " النتف ": التوارث في الخطبة افتتاحها بالتكبير ويكبر من حين أن ينزل من المنبر أربع عشرة، وإذا صعد المنبر لا يجلس عندنا، وعند بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وفي رواية عن مالك: أن الجلوس لانتظار المؤذن أن يفرغ من الأذان، والأذان غير مشروع في العيد فلا حاجة إلى الجلوس، وقال بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك في رواية يجلس كما في الجمعة.
م: (فبذلك ورد النقل المستفيض) ش: أي بخطبتين بعد الصلاة ورد النقل الشائع، فروى البخاري عن نافع عن ابن عمر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يصلون العيد قبل الخطبة» وأخرج الطحاوي ومسلم أيضا عن عطاء هو ابن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال: «قام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الفطر فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم خطب....» الحديث. رواه البخاري ومسلم أيضا قال: «شهدت العيد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فإنهم كانوا يصلون العيد قبل الخطبة» .
وأخرج الجماعة إلا البخاري عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة ... الحديث» وأخرج ابن ماجه عن جابر(3/118)
ويعلم الناس فيها صدقة الفطر وأحكامها، لأنها شرعت لأجله،
ومن فاتته صلاة العيد مع الإمام لم يقضها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فطر أو أضحى فخطب قائما ثم قعد قعدة ثم قام» .
وقال النووي في " الخلاصة ": وروي عن ابن مسعود أنه قال: «السنة أن يخطب في العيدين خطبتين يفصل بينهما بجلوس خفيف غير متصل» ولم يثبت في تكرير الخطبة شيء، ولكن المعتمد فيه القياس على الجمعة.
م: (ويعلم الناس فيها) ش: أي ويعلم الخطيب في خطبة عيد الفطر. م: (صدقة الفطر) ش: أنها واجبة. م: (وأحكامها) ش: أي ويعلم أيضا أحكام صدقة الفطر كيف يخرج، ومن أي شيء يخرج، وكم يخرج، وفي أي وقت يخرج، وغير ذلك مما يتعلق بها. م: (لأنها شرعت لأجله) ش: أي لأن خطبة صلاة عيد الفطر شرعت لأجل تعليم أحكام صدقة الفطر، والضمير في "لأجله" يرجع إلى التعليم الذي يدل عليه، قوله: يعلم الناس، كما في قَوْله تَعَالَى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] (المائدة: الآية 8) أي العدل.
[حكم من فاتته صلاة العيد مع الإمام]
م: (ومن فاتته صلاة العيد مع الإمام لم يقضها) ش: كلمة مع متعلقة بالصلاة لا بقوله فاتته، أي فاتت الصلاة عنه بالجماعة، وليس معناه فاتت الصلاة عنه وعن الإمام، حاصله أدى الإمام صلاة العيد ولم يؤدها هو، وأما إذا فاتت الإمام أيضا فائتة يصليها مع الجماعة في اليوم الثاني إذا كان الفوات بعذر.
وفي " جوامع الفقه " و " قاضي خان " إذا تركها بغير عذر لا يقضيها أصلا، وبعذر يقضيها في اليوم الثاني في وقتها، وبه قال الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق، وقال ابن المنذر: وبه أقول، وفي " جوامع الفقه ": العذر مثل أن يظهر أنهم صلوها بعد الزوال في يوم غيم، وعلى قول ابن شجاع: لا يجوز في اليوم الثاني، وبه قال مالك، فإن تركها في اليوم الثاني بعذر أو بغير عذر لا يصليها.
وقال الشافعي: من فاتته صلاة العيد يصلي وحده كما يصلي مع الإمام، وهذا بناء على أن المنفرد هل يصلي صلاة العيد، عندنا لا يصلي، وعنده يصلي.
وقال السروجي: وللشافعي قولان الأصح قضاؤها، فإن أمكن جمعهم في يوم صلى بهم، وإلا صلاها من الغد، وهو فرض قضاء النوافل عنده، وعلى القول الآخر هي الجمعة يشترط الجماعة والأربعين ودار الإقامة، وفعله من الغد إن قلنا إذا لا يصليها في بقية اليوم، وإلا صلاها في نفسه وهو الصحيح عندهم.(3/119)
لأن الصلاة بهذه الصفة لم تعرف قربة إلا بشرائط لا تتم بالمنفرد،
فإن غم الهلال وشهدوا عند الإمام برؤية الهلال بعد الزوال صلى العيد من الغد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وتأخيرها عنه قيل لا يسقط أنه لو قيل إلى آخر الشهر، وقال السروجي في الذي تفوته صلاة العيد مع الإمام: لكنه إن أحب أن يصلي إن شاء صلى ركعتين وإن شاء أربعا كصلاة الضحى كسائر الأيام، ومثله في البدائع، وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يصلي أربعا، وبه قال أحمد، لكن إن شاء بتسليمة واحدة، وإن شاء بتسليمتين، واستحبه الثوري، وعند الأوزاعي يصلي ركعتين ولا يجهر فيهما بالقراءة ولا يكبر تكبير الإمام.
وقال إسحاق: إن يصلي في الجبانة صلاها ركعتين وإلا صلاها أربعا.
وقال السغناقي: فإن أحب أن يصلي فالأفضل أن يصلي أربع ركعات لما روي عن ابن مسعود أنه قال: من فاتته صلاة العيد صلى أربع ركعات يقرأ في الركعة الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] (الأعلى: الآية 1) وفي الثانية {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] (الشمس: الآية 1) وفي الثالثة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] (الليل: الآية 1) وفي الرابعة {وَالضُّحَى} [الضحى: 1] (الضحى: الآية 1) وروي في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعدا جميلا وثوابا جزيلا، كذا في " المحيط ".
قلت: قال ابن المنذر: لا يصح فيه حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (لأن الصلاة بهذه الصفة) ش: أراد بها التكبيرات المخصوصة بها. م: (لم تعرف قربة إلا بشرائط لا تتم بالمنفرد) ش: أراد بالشرائط هي الشرائط المخصوصة بها، نحو الجماعة والسلطان والمصر والمنفرد عاجز عن ذلك، فلا يجب عليه صلاتها.
وفي " نهاية المطلب " تصح صلاة العيد من المنفرد والمسافر والنساء في الدور وراء الخدور كالنوافل، غير أن الجماعة فيها مستحبة، وقال ابن المنذر: يصليها المسافر ومن لا تجب عليه الجمعة والمرأة في بيتها والعبد، وهو قول الحسن البصري.
وقال الأوزاعي: ليس على المسافر صلاة الأضحى ولا الفطر، وبه قال مالك وإسحاق، وهو قول على بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[الحكم لو غم هلال شوال وشهدوا برؤيته عند الإمام بعد الزوال]
م: (فإن غم الهلال) ش: بضم الغين المعجمة على ما لم يسم فاعله، معناه إذا ستره عنهم غيم أو غيره فلم ير. م: (وشهدوا عند الإمام برؤية الهلال) ش: من الأمس. م: (بعد الزوال صلى العيد من الغد) ش: أي صلى الإمام العيد من الغد، ذكر الطحاوي في شرح " الآثار " أن هذا قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أصح قولي الشافعي وأحمد رحمهما الله.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا فات في اليوم الأول لم يقض، وهو أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(3/120)
لأن هذا تأخير بعذر وقد ورد فيه الحديث،
فإن حدث عذر يمنع من الصلاة في اليوم الثاني لم يصلها بعده، لأن الأصل فيها أن لا تقضى كالجمعة إلا أنا تركناه بالحديث وقد ورد بالتأخير إلى اليوم الثاني عند العذر،
ويستحب في يوم الأضحى أن يغتسل ويستاك ويتطيب لما ذكرناه، ويؤخر الأكل حتى يفرغ من الصلاة لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يطعم في يوم النحر حتى يرجع فيأكل من أضحيته» ويتوجه إلى المصلى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن هذا تأخير بعذر) ش: لأن تركهم الصلاة كان لعدم رؤية الهلال وهو عذر. م: (وقد ورد فيه الحديث) ش: أي والحال أنه قد ورد في الصلاة من الغد، الحديث المذكور عند قوله ولما شهدوا بالهلال..... إلخ، والقياس في صلاة العيد أن لا يقضي، لأنها صلاة تختص بجماعة كالجمعة إلا أن القياس ترك فيما إذا تركت بعذر للحديث المذكور، بخلاف القياس فبقي ما ترك بلا عذر على أهل القياس فلم يجز قضاؤها في اليوم الثاني إذا تركت.
م: (فإن حدث عذر يمنع من الصلاة في اليوم الثاني) ش: الذي هو وقتها عند العذر. م: (لم يصلها بعده، لأن الأصل فيها) ش: أي في صلاة العيد. م: (أن لا تُقضى كالجمعة) ش: فإنه إذا فات وقتها لا يَقضي وينقلب إلى الظهر. م: (إلا أنا تركناه) ش: أي إلا أنا تركنا الأصل الذي هو القياس. م: (بالحديث) ش: وهو الحديث المذكور. م: (وقد ورد) ش: أي الحديث المذكور. م: (بالتأخير) ش: أي بتأخير صلاة العيد. م: (إلى اليوم الثاني عند العذر) ش: وعند عدم العذر يقتصر على القياس.
[ما يسن للمصلي يوم الأضحى]
م: (ويستحب في يوم الأضحى أن يغتسل ويستاك ويتطيب لما ذكرناه) ش: أراد به عند قوله: وكان يغتسل في العيدين، أي كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: (ويؤخر الأكل) ش: بالنصب عطف على ما قبله، أي يستحب أيضا أن يؤخر أكله. م: (حتى يفرغ من الصلاة) ش: أي من صلاة العيد. م: (لما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان لا يطعم في يوم النحر حتى يرجع فيأكل من أضحيته» .
ش: هذا الحديث رواه عبد الله بن بريدة عن يزيد، قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يرجع» رواه ابن ماجه والترمذي وابن حبان في "صحيحه" والحاكم في " مستدركه " وزاد الدارقطني وأحمد في " مسنده " «فيأكل من أضحيته» وصحح هذه الرواية ابن القطان في كتابه.
والناس في هذا اليوم أضياف الله يستحب أن يكون أول تناولهم من لحوم الأضاحي التي هي ضيافة الله، فاستحب تأخير الأكل إلى ما بعد الصلاة، وهذا في حق المصري، أما القروي فإنه يذوق من حين أصبح ولا يمسك كما في عيد الفطر، لأن الأضاحي تذبح في القرى من الإصباح، بخلاف المصر، حيث لا يذبح فيه إلا بعد الفراغ من الصلاة. م: (ويتوجه إلى المصلى(3/121)
وهو يكبر، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر في الطريق، ويصلي ركعتين كالفطر، كذلك نقل،
ويخطب بعدها خطبتين، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذلك فعل، ويعلم الناس فيها الأضحية وتكبير التشريق؛ لأنه مشروع الوقت والخطبة ما شرعت إلا لتعليمه، فإن كان عذر يمنع من الصلاة في يوم الأضحى صلاها من الغد وبعد الغد، ولا يصليها بعد ذلك؛ لأن الصلاة مؤقتة بوقت الأضحية فيتقيد بأيامها لكنه مسيء في التأخير من غير عذر لمخالفة المنقول.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو يكبر) ش: أي والحال أنه يكبر طول الطريق بلا توقف، فإذا انتهى إليه يترك كذا في " التحفة " وفي " الكافي " لا يقطعه حتى يشرع الإمام في الصلاة.
فرع: ولو قال يوم العيد تقبل الله منا ومنك، في " القنية " اختلف الناس فيه ولم يذكروا الكراهة عن أصحابنا، قال مالك: يكره لأنه من فعل الأعاجم.
وقال أحمد: لا بأس به، لأن أبا أمامة الباهلي وواثلة بن الأسقع كانا يقولان ذلك. وقال الأوزاعي: بدعة، وقال الحسن: حديث، وقال أحمد: حديث أبي أمامة جيد، وروي مثله عن ليث بن سعد.
م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يكبر في الطريق) ش: هذا غريب، ولم يتعرض إليه أحد من الشراح ولكن روى البخاري في " الصحيح " وقال: كان ابن عمر وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. م: (ويصلي ركعتين كالفطر كذلك نقل) ش: أي جماعة من الصحابة، وهم عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري وحذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وآخرون، وقد ذكرنا فيما مضى أحاديث في ذلك عن ابن عمر وجابر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (ويخطب بعدها خطبتين، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذلك فعل ويعلم الناس فيها الأضحية) ش: من كونها واجبة أو سنة وما يتعلق بها من أحكامها. م: (وتكبير التشريق) ش: أي ويعلم أيضا كيف يكبر التشريق. م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من الأضحية وتكبير التشريق أيام الأضحية. م: (مشروع الوقت والخطبة ما شرعت إلا لتعليمه) ش: أي ليعلم مشروع الوقت، ومعنى مشروع الوقت أن كلا من الأضحية وتكبير التشريق ما يشرع إلا في أيام الأضحى.
م: (فإن كان عذر يمنع من الصلاة في يوم الأضحى صلاها من الغد وبعد الغد) ش: يعني ثلاثة أيام. م: (ولا يصليها بعد ذلك) ش: يعني في اليوم الرابع وما بعده. م: (لأن الصلاة مؤقتة بوقت الأضحية) ش: ووقت الأضحية هو ثلاثة أيام. م: (فيتقيد بأيامها لكنه مسيء في التأخير من غير عذر لمخالفة المنقول) ش: أراد بالمنقول أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عيد الأضحى في اليوم العاشر من ذي الحجة، ولم يرد غير ذلك، وقوله لمخالفة المنقول يصح أن يكون جوابا عن سؤال مقدر، وهو أن يقول: لما كانت الصلاة مؤقتة بوقت، فلو أخرها بغير عذر فكيف يكون مسيئا، فأجاب بقوله: لكنه مسيء(3/122)
والتعريف الذي يصنعه الناس ليس بشيء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لمخالفة ما نقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (والتعريف الذي يصنعه الناس ليس بشيء) ش: التعريف مصدر مبتدأ، وخبره قوله: " ليس بشيء "، وإنما قيد بقوله: " الذي يصنعه الناس " لأن التعريف يجيء لمعان: للإعلام وللتطيب من العرف وهو الريح، وإنشاد الضالة والوقوف بعرفات والوقوف بغيرها شبها بأهلها، وهذا المعنى هو المراد هاهنا على ما يجيء الآن، وفي " المغرب " التعريف المحدث هو التشبه بأهل عرفة في غير عرفة، وهو أن يخرجوا إلى الصحراء فيدعوا ويتضرعوا، وقال الأترازي: التعريف في اللغة الوقوف بعرفات.
قال الفرزدق:
إذا ما التقينا بالمحصب من منى ... صبيحة يوم النحر من حيث عرفوا
قلت: ليس معنى هذا اللفظ الوقوف بعرفات فقط، وإنما هو مستعمل في اللغة لمعان كثيرة كما ذكرنا الآن.
قوله: م: (ليس بشيء) ش: أي ليس بشيء في حكم الوقوف كقول محمد في الأصل: دم السمك ليس بشيء، أي ليس بشيء في حكم الدماء، وهذا لأنه شيء حقيقة لكونه موجودا، إلا أنه لما لم يكن معتبرا نفى عنه اسم الشيء، ويقال: ليس بشيء معتبر، يعني غير مسنون ولا مستحب يتعلق به الثواب، وسئل مالك عن ذلك، قال: وإنما مفاتيح هذه الأشياء البدع.
وفي " المحيط ": ولم يرد به محمد نفي مشروعيته أصلا، لأنه دعاء وتسبيح، بل أراد نفي وجوبه كما قيل في سجدة الشكر عند أبي حنيفة. وعن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله- في غير رواية الأصول: لا يكره، وبه قال أحمد؛ لما روي أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه فعل ذلك بالبصرة.
قلنا: ذلك محمول على أنه ما كان للتشبيه بل كان للدعاء والتضرع، وهذا لو طاف حول مسجد سوى الكعبة يخشى عليه الكفر، حتى لو اجتمعوا لشرف ذلك اليوم لا للتشبيه جاز، كذا في " جامع قاضي خان " والتمرتاشي وفي " جمع التفاريق " عن أبي يوسف: يكره أن يجتمع قوم فيعتزلون في موضع يعبدون الله - عز وجل - ويفرغون أنفسهم لذلك، وأهل كان معهم أهلوهم.
وفي " الكافي ": قيل: يستحب ذلك؛ لأنه سبب لأهل الطاعة، فيكون لهم ثوابهم، ولهذا فعله ابن عباس، وخروجهم إلى الجبانة سنة وإن وسعهم الجامع.
وقال السروجي: روي عن عمرو بن حريث وثابت ومحمد بن واسع ويحيى بن معين مثل(3/123)
وهو أن يجتمع الناس يوم عرفة في بعض المواضع تشبها بالواقفين بعرفة؛ لأن الوقوف عرف عبادة مختصة بمكان مخصوص، فلا يكون عبادة دونه كسائر المناسك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غير رواية الأصول أنه لا يكره، وعن أحمد لا بأس به، وقيل له: أنت تفعل ذلك؟ قال: أما أنا فلا، وقال عطاء الخراساني: إن استطعت أن تخلو بنفسك عشية عرفة فافعل.
وقال شمس الأئمة السرخسي: ولو فعلوا ذلك، أي التعريف تشبها بالواقفين لزمهم أن يكشفوا رءوسهم أيضا، تشبها بالمحرمين، وهذا لا يقول به أحد، لأنه تشبه بالنصارى في كنائسهم ومتعبداتهم.
قال: ولو فعلوا ذلك لطافوا أيضا حول مساجدهم أو بنوا بيتا آخر يطوفون حوله تشبها بالطائفين حول البيت ويسعون في أسواقهم تشبها بالساعين بين الصفا والمروة.
قلت: والملازمة في الوجهين ممنوعة، لأن التشبه لا يستدعي العموم.
م: (وهو) ش: أي التعريف المذكور. م: (أن يجتمع الناس يوم عرفة في بعض المواضع تشبها بالواقفين بعرفة) ش: وهذا تعريف التعريف الذي يصنعه الناس، وهو الذي عليه أنه ليس بشيء، وقال الأترازي: وحقه أن يقال بعرفات، لأن عرفة اسم اليوم، وعرفات اسم المكان.
قلت: معناه بالواقفين يوم عرفة والواقفين بعرفات، وأدى بحقه على أنه يقال جبل عرفة، كما يقال جبل عرفات، وذلك شائع في ألسنة الناس.
م: (لأن الوقوف) ش: هذا تعليل لقوله: ليس بشيء؛ أي لأن الوقوف بعرفات. م: (عرف عبادة مختصة بمكان مخصوص) ش: أي بعرفات. م: (فلا يكون عبادة دونه) ش: أي لا يكون الوقوف عبادة دون الوقوف، وفي بعض النسخ دونها، أي دون عرفات. م: (كسائر المناسك) ش: أي كيفية مناسك الحج مثل الطواف والسعي بين الصفا والمروة، فإن الناس لا يسعون في الأسواق مكشوفي الرأس تشبها بالساعين في هذه الأيام بين الصفا والمروة.(3/124)
فصل في تكبيرات التشريق ويبدأ بتكبير التشريق بعد صلاة الفجر من يوم عرفة ويختم عقيب العصر من يوم النحر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يختم عقيب صلاة العصر من آخر أيام التشريق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في تكبيرات التشريق]
م: (فصل في تكبيرات التشريق) ش: أي هذا فصل في بيان تكبيرات التشريق، ولما فرغ من بيان صلاتي العيد وإحداهما صلاة الأضحى شرع في بيان التكبيرات التي هي مختصة بأيامها، فلذلك أفردها بالفصل، والتشريق مصدر من شرق اللحم إذا بسطه في الشمس ليجف، وسميت بذلك أيام التشريق، لأن لحم الأضاحي كانت تشرق فيها بمنى، وقيل: سميت به، لأن الهدي والضحايا لا تنحر حتى تشرق الشمس، أي تطلع، وكان المشركون يقولون أشرق ثبير كيما نغير، ثبير بفتح الثاء المثلثة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره راء، جبل بمنى، أي ادخل أيها الجبل في الشروق، وهو ضوء الشمس، كيما نغير أي ندفع للنحر.
وذكر بعضهم أن أيام التشريق سميت بذلك، وقيل: التشريق صلاة العيد، لأنها تؤدى عند إشراق الشمس وارتفاعها، كما جاء في الحديث «لا جمعة ولا تشريق» ، وفي حديث آخر «لا ذبح إلا بعد التشريق» ، والمراد بالتشريق فيهما صلاة العيد، كذا في " المبسوط ".
وفي " الخلاصة ": أيام النحر ثلاثة وأيام التشريق ثلاثة، ويمضي ذلك في أربعة أيام، فإن العاشر من ذي الحجة نحر خاص، والثالث عشر تشريق خاص، واليومان فيما بينهما للنحر والتشريق، وقال العلامة شمس الأئمة الكردري: هذه الإضافة -يعني إضافة التكبير إلى التشريق- مستقيم على قولهما، لأن بعض التكبيرات يقع في أيام التشريق عندهما، وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقع شيء منهما في أيام التشريق، ولكن أدنى الملابسة كاف للإضافة.
م: (ويبدأ) ش: أي المصلي. م: (بتكبير التشريق بعد صلاة الفجر من يوم عرفة ويختم) ش: التكبير. م: (عقيب العصر) ش: أي صلاة العصر. م: (من يوم النحر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وهو قول عبد الله بن مسعود وعلقمة والأسود والنخعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد رحمهما الله. م: (يختم عقيب صلاة العصر من آخر أيام التشريق) ش: وهو قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وبه قال سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وأبو ثور وأحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في قول. وفي " التحرير " ذكر عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - معهم. وفي " المفيد " وأبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعليه الفتوى، ذكره في " الكامل " و " التحرير " وهاهنا تسعة أقوال، وقد ذكرنا القولين.(3/125)
والمسألة مختلفة بين الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فأخذا بقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذا بالأكثر؛ إذ هو الاحتياط في العبادات،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثالث: يختم بعد ظهر يوم النحر، وروي ذلك عن ابن مسعود فعلى هذا يكبر في سبع صلوات، وعلى قولهما في ثلاث وعشرين صلاة.
الرابع: يكبر في ظهر يوم النحر ويختم في صبح آخر أيام التشريق وهو قول مالك والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المشهور ويحيى الأنصاري، وروي ذلك عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو رواية عن أبي يوسف رجع إليه، حكاه في " المبسوط " و " شرح الأقطع ".
الخامس: من ظهر عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، حكي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير.
السادس: يبدأ من ظهر يوم النحر إلى ظهر يوم النحر الأول، وهو قول بعض أهل العلم.
والسابع: حكاه ابن المنذر عن ابن عيينة، واستحسنه أحمد أن أهل منى يبتدئون من ظهر يوم النحر، وأهل الأمصار من صبح يوم عرفة، وإليه مال أبو ثور.
والثامن: من ظهر عرفة إلى ظهر يوم النحر، حكاه ابن المنذر.
والتاسع: من مغرب ليلة النحر عند بعضهم، قاله قاضي خان وغيره.
م: (والمسألة) ش: أي مسألة تكبيرات التشريق. م: (مختلفة بين الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: وهم الشيوخ منهم والصبيان، فالشيوخ عمر وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والشباب عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعائشة أم المؤمنين. م: (فأخذا) ش: أي أبو يوسف ومحمد رحمهما الله. م: (بقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذا بالأكثر، إذ هو الاحتياط) ش: أي الأخذ بالأكثر هو الاحتياط. م: (في العبادات) ش: والأكثر هو تكبيرات علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو أكثر من تكبيرات ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والعبادات يحتاط فيها بالأكثر، واحتجا أيضا بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] (البقرة: الآية 203) ، والمراد منها أيام التشريق بالنقل عن أئمة التفسير.
فإن قلت: فعلى هذا يلزمهما تكبيرات العيد؟
قلت: لا نسلم، لأنه ثمة دلت شواهد الأصول على ترجيح قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بخلاف تكبيرات التشريق، فإن الترجيح لما لم يكن لاتفاق مذهب الصحابة في الثبوت والرواية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ بالأكثر احتياطًا.(3/126)
وأخذ بقول ابن مسعود أخذا بالأقل؛ لأن الجهر بالتكبير بدعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وأخذ بقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي أخذ أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقول عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. م: (أخذا بالأقل) ش: أخذا على أنه مفعول مطلق لقوله أخذ. م: (لأن الجهر بالتكبير بدعة) ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] (الأعراف: الآية 55) .
واحتج أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] (البقرة: الآية 203) ، والمراد منه أيام التشريق بالنقل عن أهل التفسير، فكان ينبغي أن يكون التكبير واجبا في جميع أيام العشر إلا أن ما قبل يوم عرفة خص بالإجماع من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وفيما بعد يوم الأضحى لا نص ولا إجماع فكان الاقتصار على تكبير ابن مسعود أولى.
فإن قلت: لا نسلم عدم النص في أيام التشريق، ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] ؟
قلت: لا نسلم أن المراد منه الذكر المفعول عقيب الصلوات، بل المراد منه الذكر عند رمي الجمار بدليل سياق الآية {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] لأن ذلك الحكم يختص برمي الجمار. وقالت الشافعية: الأخذ بالأكثر أولى احتياطا، لأن هذا باب لا يعرف بالرأي والزيادة في الأخبار عن الثقات مقبولة، ولأن هذه التكبيرات منسوبة إلى أيام التشريق واتفقنا أنه يكبر في غير أيام التشريق، وهو يوم عرفة والنحر، فلأن يكبر في أيام التشريق أولى.
وفي " شرح الوجيز ": أما تكبير الأضحى فالناس فيه قسمان حاج وغيرهم، فالحاج يبدءون به عقيب ظهر يوم النحر، ويختمون عقيب الصبح آخر أيام التشريق، وأما غيرهم ففيه طريقان أصحهما على ثلاثة أقوال أظهرها أنهم كالحاج، والثاني أنهم يبدءون عقيب عرفة من الصبح ويختمون عقيب العصر من آخر أيام التشريق، وقال الصيدلاني وغيره: وعليه العمل في الأمصار والطريق الثاني القطع بالقول الأول، إذ هو الاحتياط.
وفي " شرح المهذب " للنووي: الحاج يبدأ به من ظهر يوم النحر ويختم في صبح آخر أيام التشريق بلا خلاف، وأما غير الحاج فللشافعي فيه نصوص ثلاثة، أحدها: كالحاج وهو المشهور، ونصه في " مختصر المزني والبويطي والإمام والقديم "، قال الحاوي: نصه في " القديم " و " الجديد ". وقال صاحب " الشامل ": هو نصه في أكثر كتبه.
الثاني: يبدأ به خلف المغرب ليلة النحر كليلة الفطر على أصله.
الثالث: من صبح يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، كقولهما فالقول الأول خمس(3/127)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عشرة صلاة، والقول الثاني ثماني عشرة صلاة.
وقال أبو إسحاق المروزي: لا خلاف في المذهب أنه يكبر من صبح يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، وإنما ذكره ليلة النحر للقياس على ليلة الفطر وظهر يوم النحر على قياس الحجيج، واختارته طائفة منهم كابن شريح والمزني والروياني والبيهقي.
قال النووي: هو الذي اختاره وقرره بما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبر من يوم عرفة من صلاة الغداة إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق» .
قال البيهقي: يرويه عمرو بن شمر عن جابر الجعفي، ولا يحتج بهما، وروى الحاكم في " المستدرك «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجهر ب " {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] " ويقنت في صلاة الفجر ويكبر يوم عرفة من صلاة الصبح، ويقطعها صلاة العصر آخر أيام التشريق» قال: هذا حديث صحيح لا أعلم في رواته منسوبا إلى الجرح.
قلت: روى البيهقي هذا الحديث بإسناد الحاكم، ثم قال: هذا الحديث مشهور بعمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن أبي الطفيل، وكلا الإسنادين ضعيف، وقال النووي: والبيهقي أشد تحريا من نسخة الحاكم وأتقن.
قلت: هذا الذي هو أشد تحريا يروي عن الضعفاء، وتكلف في التصحيح إذا وافق مذهبه، وإذا كان حديثهم عليه ضعفه، وذكر من تكلم فيهم، فإذا كان دأب التحري فما ترى ظنك بغيره كالحاكم وأمثاله من المتحرين الشافعية.
وفي " جامع الأسبيجابي " و " المجتبى " و " فتاوى العتابي " و " التحرير " و " الخلاصة " الفتوى على قولهما، أي على قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله- وعليه عمل الأمصار في أغلب الأعصار. وعن الفقيه أبي جعفر أن مشايخنا يرون التكبير في الأسواق في الأيام العشر، كذا في " الفتاوى الظهيرية ".
وفي " جامع التفاريق " قيل لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينبغي لأهل الكوفة وغيرها أن(3/128)
والتكبير أن يقول مرة واحدة: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يكبروا أيام التشريق في الأسواق والمساجد؟ قال: نعم، قال أبو الليث: وكان إبراهيم بن يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يغني بالتكبير في الأسواق في الأيام العشر. وقال الهندواني: وعندي أنه لا ينبغي أن يمنع العامة من ذلك لقلة رغبتهم في الخير، وبه نأخذ؛ كذا في " المجتبى ".
[صيغة التكبير]
م: (والتكبير أن يقول مرة واحدة: " الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد ") ش: وهو قول عمر بن الخطاب وابن مسعود، وبه قال الثوري وأحمد وإسحاق، وفيه أقوال أخر، الأول قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يكبر ثلاثا معا، وهو قول ابن جبير والحسن.
وفي " المحيط " قال الشافعي: التكبير أن يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاث مرات أو خمسا أو سبعا أو تسعا، لأن التنصيص عليه في القرآن التكبير، قال الله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] (الحج: الآية 37) ، والتكبير قوله: " الله أكبر "، وأما قوله: " لا إله إلا الله " فتهليل، وقوله: " الحمد لله " تحميد فمن شرط هذا فقد زاد على الكتاب. قال صاحب " الدراية ": فعلم أن قول المصنف والتكبير....إلخ احترازا عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضعين وفي المدة وتعيين الكلام.
الثاني: قول لمالك أنه يقف على الثانية ثم يقطع فيقول الله أكبر لا إله إلا الله، حكاه الثعلبي عنه.
الثالث: عن ابن عباس: الله أكبر الله أكبر أجل الله أكبر ولله الحمد.
الرابع: هو: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
الخامس: عن ابن عباس: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الحي القيوم يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
السادس: عن ابن عباس عن عبد الرحمن: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر الحمد لله، ذكره في " المحلى ".
السابع: أنه ليس فيه شيء موقت، قاله الحاكم وحماد.
وقول أصحابنا أولى، لأن عليه جماعة من الصحابة والتابعين. قوله: م: (مرة واحدة) ش: وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول ثلاثا معا، وهو قوله في " الجديد "، وفي " القديم " يكبر مرتين، وقال مالك: إن شاء يكبر ثلاثا، وإن شاء مرتين، وقولنا هو مذهب عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو قول الثوري وإسحاق وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.(3/129)
وهذا هو المأثور عن إبراهيم الخليل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهو عقيب الصلوات المفروضات على المقيمين في الأمصار في الجماعات المستحبة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا هو المأثور عن إبراهيم الخليل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي هذا الذي ذكرناه من كيفية التكبير هو المأثور عن إبراهيم الخليل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال الزيلعي: لم أجده مأثورا عن الخليل، ولكنه مأثور عن ابن مسعود، رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " بسند جيد، حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن الأسود قال: كان عبد الله يكبر في صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وقال أيضا: حدثنا يزيد بن هارون ثنا شريك قال: قلت لأبي إسحاق: كيف كان يكبر علي وعبد الله؟ قال: كانا يقولان الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد.
وذكر في " المفيد " هو المأثور عن الخليل وإسماعيل وجبريل - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - فإنه لما تله للجبين وتناول المدية باليمين، وجاء جبريل بالفداء، ونادى في الهواء الله أكبر الله أكبر فسمعه الخليل فقال: لا إله إلا الله والله أكبر فسمعه إسماعيل أو إسحاق حسبما اختلفوا في الذبيح، فقال: الله أكبر ولله الحمد.
وفي " المبسوط " و " قاضي خان " أصله أن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما اشتغل بمقدمات ذبح ولده وجاء جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالفداء من السماء خاف العجلة فنادى الله أكبر الله أكبر، فلما سمع إبراهيم ذلك رفع رأسه إلى السماء فعلم أنه جاء بالفداء فقال: لا إله إلا الله والله أكبر فسمعه الذبيح، فقال الله أكبر ولله الحمد، فصار ذلك سنة إلى يوم القيامة.
م: (وهو) ش: أي التكبير م: (عقيب الصلوات المفروضات على المقيمين في الأمصار في الجماعات المستحبة عند أبي حنيفة) ش: وهو مذهب ابن مسعود، وكان ابن عمر إذا صلى وحده لا يكبر، وبه قال الثوري، وهو المشهور عن أحمد.
وقوله: م: (عقيب الصلوات) ش: إشارة إلى أنه لا يجوز أن يخلل ما يقطع به حرمة الصلاة حتى لو قام وخرج من المسجد أو تكلم لم يكبر، وإنما قيد بالمفروضات ليخرج الوتر وصلاة العيدين والسنن والنوافل، وقيد بالمقيمين ليخرج المسافرين، وقيد في الأمصار ليخرج المقيمين بالقرى، وقيد بالجماعة ليخرج المنفرد، وقيد بالمستحب ليخرج جماعة النساء وحدهن.
وفي " المبسوط " و " جوامع الفقه " و " العدنوي " و " شرح أبي نصر " لا يكبر بعد الوتر وصلاة العيدين والجنائز والسنن والنوافل ويكبر بعد الجمعة، لأنها مكتوبة، وقال مالك وأحمد وسائر الفقهاء لا يكبر عقيب النوافل خلافا للشافعي فإنه عنده يكبر في النوافل والجنائز على الأصح.(3/130)
وليس على جماعة النساء إذا لم يكن معهن رجل ولا على جماعة المسافرين إذا لم يكن معهم مقيم، وقالا: هو على كل من صلى المكتوبة، لأنه تبع للمكتوبة. وله ما روينا من قبل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الدراية " وللشافعي خلف النوافل طريقان أحدهما أنه يكره قولا واحدا، والثاني فيه قولان. وفي " الحاوي " طريقة ثالثة أنه لا يكبر خلفها قولا واحدا. وقيل: ما سن له الجماعة من النوافل يكبر له وما لا فلا يكبر خلفه.
واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه هل يشترط للإقامة الحرية أم لا؟
والأصح أنها ليست بشرط عنده، والسلطان ليس بشرط عنده، وقول المصنف على المقيمين يدل على وجوب هذه التكبيرات، وكذا قولهما على كل من صلى المكتوبة.
ونص في " المفيد " و " المزيد " و " قاضي خان " و " جوامع الفقه " على وجوبها، وذكر في " فتاوى المرغيناني " في [....
..] أنها سنة، وبه قال مالك والشافعي رحمهما الله - وأحمد، والصحيح الوجوب، لأنها من الشعائر كتكبيرات العيدين.
[التكبير للنساء والمسافرين]
م: (وليس على جماعة النساء إذا لم يكن معهن رجل) ش: يعني إذا لم يكن إمامهن رجلا، فإذا كان يجب عليهن بطريق التبعية م: (ولا على جماعة المسافرين إذا لم يكن معهم مقيم) ش: أي وليس التكبير على جماعة المسافرين إذا لم يكن إمامهم مقيما، وإذا صلى المسافرون جماعة في مصر فيه روايتان، الأصح أنه لا يجب عليهم.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد م: (هو) ش: أي التكبير م: (على كل من صلى المكتوبة) ش: وبه قال مالك والشافعي - رحمهما الله - والأوزاعي، والمشهور عن أحمد أن المنفرد لا يكبر كقول أبي حنيفة، وقوله: م: (كل من صلى المكتوبة) ش: أي الفرض سواء كان مصريا أو مقيما أو مسافرا جماعة أو منفردا. م: (لأنه تبع للمكتوبة) . ش: أي لأن التكبير تبع للمفروضة يكبر كل من صلاها.
قلنا: التبعية عرفت شرعا بخلاف القياس، لأنه لم يشرع في غير هذه الأيام فتراعى لهذه التبعية جميع ما ورد به النص، والنص جعل من إحدى شرائطه المصر فوجب أن يشترط القوم الخاص والجماعة، كما في الجمعة والعيد والمسلمون يكبرون عقيب صلاة العيد، لأنها تؤدى بالجماعة فأشبهت الجمعة، وعند غيرهم لا يكبرون، لأن صلاة العيد في الأصل غير مكتوبة.
م: (وله) ، ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (ما روينا من قبل) ش: وهو الذي ذكره في أول باب صلاة الجمعة ولا تشريق ولا فطر إلا في مصر جامع.
فإن قلت: هذه التكبيرات شرعت تبعا للمكتوبات، فكيف يشترط لها ما لم يشترط للمتبوع؟(3/131)
والتشريق هو التكبير، كذا نقل عن الخليل بن أحمد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: النص على خلاف القياس.
واختلف المشايخ في اشتراط الحرية على قوله فمنهم من شرطها قياسا على الجمعة والعيد ومنهم من لم يشترطها قياسا على سائر الصلاة، وفائدته تظهر فيما إذا أم العبد صلاة المكتوبة في هذه الأيام، فمن شرطها لم يوجب التكبير، ومن لم يشترط أوجبه.
م: (والتشريق هو التكبير) . ش: أشار بهذا إلى أن المراد من قوله في الحديث المذكور آنفا لا جمعة ولا تشريق، أي ولا يكبر، وإن كان متعددا كما ذكرناه في أول الفصل، وأشار إلى صحة مجيء التشريق بمعنى التكبير بقوله، م: (كذا نقل عن الخليل بن أحمد) ، ش: وهو من أئمة اللغة، وكذا نقل عن النصر بن سهيل.
وقال تاج الشريعة: فإن صح النقل عنهما فظاهر وإلا فلا بد من التحمل لقول الفقهاء، فيقول: إن التشريق في اللغة تقديد اللحم في الشمس، والمطلق من الشرع لصلاة العيد مأخوذ من شروق الشمس، أي طلوعها أو إشراقها أي إضاءتها، لأن ذلك وقتها، وتسمية أيام التشريق، إما أنها توابع ليوم النحر، أو لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها.
إذا عرفت ذلك نقول التكبير يصح مرادا بالتشريق مجازا فيحمل النص عليه، وإنما قلنا إنه يصح مرادا، لأنه وصلاة العيد مشتركان في الوقت، ويكون كل واحد منهما شعارا يجهر به من شعائر الإسلام وملازمته بينهما من حيث إنهم يجهرون بالتكبير في الخروج إلى المصلى وهو مسنون في عيد الأضحى بلا خلاف، وفي عيد الفطر في رواية، وإطلاق اسم أحد الملزمين أو المتلازمين على الآخر مجازا شقص صحيح كإطلاق الأسد على الجريء والصلاة غير معينة به في الحديث، لأن حكمها قد أفيد بقوله: " لا فطر ولا أضحى "، فإن المراد بها صلاة العيدين وهو ظاهر، أو بقول التشريق، وإن كان على حقيقته فإنه أراد بقوله: " ولا تشريق " ولا تكبير تشريق فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. انتهى.
قلت: ولهذا يجاب لمن قال: إذا كان التشريق هو التكبير بقوله: كأنه قال: تكبير التكبير، وهذا ممتنع، لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه فافهم.
واعلم أن الخليل بن أحمد بن عمرو بن حتم الفراهيدي، ويقال الفرهودي الأزدي التحمدي كان إماما في علم النحو واللغة، وله تصانيف فيهما، وسيبويه أخذ عنه علوم الأدب، مات في سنة خمس وسبعين ومائة، وقيل: عاش أربعا وسبعين سنة، ومن تلامذته النضر بن شميل بن خرشة التميمي المازني النحوي البصري وله تصانيف، مات في سلخ ذي الحجة سنة أربع ومائتين بمدنية مرو من بلاد خراسان وبها ولد، ونشأ في البصرة فكذلك نسب إليها.(3/132)
ولأن الجهر بالتكبير خلاف السنة، والشرع ورد به عند استجماع هذه الشرائط إلا أنه يجب على النساء إذا اقتدين بالرجال، وعلى المسافرين عند اقتدائهم بالمقيم بطريق التبعية، قال يعقوب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: صليت بهم المغرب يوم عرفة فسهوت أن أكبر فكبر أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، دل أن الإمام وإن ترك التكبير لا يتركه المقتدي وهذا لأنه لا يؤدى في حرمة الصلاة، فلم يكن الإمام فيه حتما وإنما هو مستحب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن الجهر بالتكبير خلاف السنة) ، ش: لأن الأصل في الدعاء الإخفاء، فلا تكون سنة إلا في موضع النص أو الإجماع ولم يوجدا فيما ذكرناه. م: (والشرع ورد به) ، ش: أي بالجهر. م: (عند استجماع هذه الشرائط) ، ش: أشار به إلى الفرض والإقامة والمصر والجماعة والذكورية. م: (إلا أنه) ، ش: أي إلا أن التكبير. م: (يجب على النساء إذا اقتدين بالرجال وعلى المسافرين) ، ش: أي ويجب أيضا على المسافرين. م: (عند اقتدائهم بالمقيم بطريق التبعية) ، ش: أي الإمام، وفي النحر غير أن المسافر يكبر جهرا والمرأة لا تكبر جهرا.
م: (قال يعقوب) ، ش: أي أبو يوسف، م: (صليت بهم المغرب) ، ش: أي بالمسافرين، م: (يوم عرفة) ، ش: هذا مجاز لقرب المغرب من النهار، أو لأن ليلة النحر ملحقة باليوم الذي قبلها في حكم الوقت، لأن مدركها مدرك الحج، م: (فسهوت أن أكبر) ، ش: أي عن التكبير فكلمة أن مصدرية، م: (فكبر أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - دل) ، ش: أي تكبير أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (أن الإمام وإن ترك التكبير لا يتركه المقتدي) ، ش: كالذي يتلو آية السجدة إذا تركها وهو إمام السامعين لا يترك السامعون.
م: (وهذا) ، ش: توضيح لما قبله، م: (لأنه) ، ش: أي لأن التكبير، م: (لا يؤدى في حرمة الصلاة) ، ش: بل يؤدى في أثرها، م: (فلم يكن الإمام فيه حتما) ، ش: أي واجبا، بخلاف سجود السهو إذا تركها الإمام يتركه المقتدي أيضا، م: (وإنما هو) ، ش: أي الإمام، م: (مستحب) ، ش: أي وجوده في التكبير فيكبر إذا تركه إمامه، ولكن إنما يكبر قبله إذا وقع إلباس عن تكبير إمامه بأن قام، وفي ذكر هذه المسألة فوائد.
منها: بيان منزلة أبي يوسف عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث قدمه واقتدى به، ومنها بيان حشمة أستاذه حيث ذكره بسهوه فكبر ليتذكر هو ويكبر.
ومنها: أن الأستاذ إذا تفرس في بعض أصحابه الخير يقدمه ويعظمه عند الناس حتى يعظموه كما فعل أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ومنها: أن التلميذ لا ينبغي أن ينسى حرمة أستاذه وإن قدمه أستاذه وعلمه، ألا ترى أن أبا يوسف شغله ذلك حتى سها.(3/133)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فروع: فاتته صلاة في غير أيام التشريق فقضاها في أيام التشريق أو على العكس أو قضاها في أيام التشريق من العام القابل لا يكبر، ولو قضاها في أيام التشريق من العام من هذه السنة يكبر.
اختلفوا في المسبوق متى يكبر، قال الجمهور: يقضي ما فاته ثم يكبر عقيب سلامة برأيه.
وقال الحسن البصري: يكبر ثم يقضي. وعن مكحول ومجاهد: يكبر ثم يقضي [....
..] ، قال ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - محل هذا التكبير دبر كل صلاة ما لم يتخلل قاطع من حديث عمل أو قهقهة أو كلام أو خروج من المسجد، فمن نسيه فتذكر قبل وجود القاطع كبر وبعده لا يكبر.
وقال الشافعي: لا يكبر ليلة عيد الفطر عند الجمهور، وإنما يكبر عند الغدو إلى صلاة العيد، وعن سعيد بن المسيب وعروة وداود: وجوب التكبير في عيد الفطر، ووقته غروب الشمس ليلة العيد عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومذهب الجمهور قول علي وابن عمر وأبي أمامة وآخرين من الصحابة. وبه قال عبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير والنخعي وأبو الزناد وعمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن محمد وحماد والحكم ومالك وإسحاق وأبو ثور.(3/134)
باب صلاة الكسوف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب صلاة الكسوف] [عدد ركعات صلاة الكسوف وكيفيتها]
م: (باب صلاة الكسوف) ش: أي هذا باب في بيان صلاة الكسوف، وجه المناسبة بين البابين من حيث إنهما يؤديان بالجماعة في النهار بغير أذان ولا إقامة، وآخرها من العيد، لأن صلاة العيد واجبة على الأصح كما ذكرناه فيما مضى، والتناسب بين هذه الأبواب الثلاثة أعني باب صلاة العيد والكسوف والاستسقاء ظاهر وأوردها حسب رتبها، وقدم العيد لكثرة وقوعها، وكذلك قدم الكسوف على الاستسقاء لهذا، ولأن للإنسان حالتين حالة السرور والفرح، وحالة الحزن والفزع، فقدم حالة السرور على حالة الفزع.
يقال: كسفت الشمس والقمر، بفتح السين فيهما، وكسفا على ما لم يسم فاعله، وانكسفا الكسوف اللازم، والكسف المتعدي، وأخسفا وانخسفا فهي ست لغات في الشمس والقمر وقيل الكسوف أوله والخسوف آخره فيهما، لأنه يقال انخسفت الأرض إذا ساحت ما عليها، وهو أقوى من الكسف.
قال النووي: وقد جاءت اللغات الست في " الصحيحين " والأشهر في سنة الفقهاء تخصيص الكسوف بالشمس والخسوف بالقمر وهو الأفصح، وقيل: لا يقال في الشمس إلا خسف، وفي القمر إلا كسف، والقرآن يرده، وقيل الخسوف في الكل، والكسوف في القمر فقط، وقال الليث: الخسوف فيهما والكسوف في الشمس فقط، وقال ابن دريد: خسف القمر وانكسفت الشمس، وقال الفراء في " الأجود ": كسفت الشمس وخسف القمر، وقيل العكس، وقيل: هما سواء، وقيل: الكسوف تغير لونها والخسوف تغيبها في السواد.
وأصل الكسوف التغير، ومنه كسف البال أي تغير الحال، والخسوف الذهاب بالكلية، ومنه قَوْله تَعَالَى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81] ، ولما كان القمر يذهب ضوؤه كان أولى بالخسف.
قال شمس الأئمة السرخسي في " المبسوط ": عاب أهل الأدب على محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في لفظه كسوف على القمر، وقالوا: إنما يقال خسوف القمر، كقوله وخسف القمر، قال: قلنا الكسوف ذهاب دائرته، والخسوف ذهاب دون دائرته، وقيل: الكسوف والخسوف تغيره والخسوف ذهاب لونه.
قلت: قد مر أن الكسوف والخسوف فيهما لا يعاب عليه، وقال السغناقي: كسفت الشمس كسوفا ويكسفها الله كسفا يتعدى ولا يتعدى، قال الشاعر:
الشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمر(3/135)
قال: وإذا انكسفت الشمس صلى الإمام بالناس ركعتين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي ليست تكسف ضوء النجوم مع طلوعها، ولكن لقلة ضوئها وبكائها عليك لم يظهر لها نور، وكذلك كسف القمر، إلا أن الأجود فيه أن يقال خسف القمر، وذكر الإمام جمال الدين الأديب في شرح الأبيات يرثي جريرة هذا عمر بن عبد العزيز، ومعنى قوله " تبكي ": أي تغلبت النجوم في البكاء، يقال بكيته فبكيته، أي غلبته في البكاء، وروي " النجوم " بالرفع والنصب، فعلى تقدير الرفع كان الواو في والقمر بمعنى مع والألف للإشباع.
م: (قال: وإذا انكسفت الشمس صلى الإمام بالناس ركعتين) ، ش: أصل مشروعية صلاة الكسوف بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] (الإسراء: الآية 59) ، والكسوف آية من الآيات المخوفة، والله تعالى يخوف عباده ليتركوا المعاصي ويرجعوا إلى الطاعة التي فيها فوزهم.
وأما السنة فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رأيتم شيئا من هذا الإفزاع فافزعوا إلى الصلاة» .
وأما الإجماع فإن الأمة قد اجتمعت عليها من غير إنكار أحد ثم يحتاج بعد هذا إلى معرفة ستة أشياء، سبب شرعيتها وهو الكسوف، لأنها تضاف إليه ويتكرر بتكرره وشرط جوازها ما اشترط لسائر الصلاة. وصفتها وهي سنة وليست بواجبة على الأصح، وقال بعض مشايخنا إنها واجبة للأمر بها، ونص في " الأسرار " على وجوبها وكيفية أدائها بالجماعة، ولكن اختلفوا فيها كما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
وموضع صلاته أنه يصلي في المسجد الجامع أو في مصلى العيد ووقتها هو الوقت الذي يستحب فيه سائر الصلاة دون الأوقات المكروهة، وبه قال مالك. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يكره في الأوقات المكروهة، فقوله ركعتين. وفي " المحيط " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن شاءوا صلوا ركعتين، وإن شاءوا صلوا أربعا.
وفي " البدائع " و " المفيد " و " التحفة " و " العتيبة ": إن شاءوا صلوها ركعتين وإن شاءوا أربعا، وإن شاءوا أكثر من ذلك، هكذا روى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والجماعة فيها أفضل، فلذلك قال: يصلي الإمام بالناس، ويجوز فرادى، ذكره في " المحيط "، وفي " الذخيرة " الجماعة فيها سنة ويصلي بهم الإمام الذي يصلي الجمعة والعيدين. وفي المرغيناني: يؤمهم فيها إمام حيهم بإذن السلطان، لأن اجتماع الناس ربما أوجب فتنة وضلالا ولا يصلون في مساجدهم بل يصلون جماعة واحدة.(3/136)
كهيئة النافلة في كل ركعة ركوع واحد. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ركوعان، له رواية عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (كهيئة النافلة) ش: بغير أذان ولا إقامة، م: (في كل ركعة ركوع واحد) ، ش: مثل صلاة الفجر والجمعة، وبه قال النخعي والثوري وابن أبي ليلى، وهو مذهب عبد الله بن الزبير، رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس.
م: (وقال الشافعي: ركوعان) ، ش: أي في كل ركعة ركوعان، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وعن أحمد وإسحاق يركع في كل ركعة ثلاث ركوعات، وحكى ابن المنذر عن حذيفة وابن عباس في كل ركعة ثلاث ركوعات.
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خمس ركوعات، وعن إسحاق يجوز في كل ركعة ركوعات ثلاثة وأربعة، لأنه ثبت ذلك كله عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال العلاء بن زياد: لا يزال يركع ويقوم ويراقب الشمس حتى تنجلي. وفي " البدائع " قال أبو منصور: اختلاف الروايات محمول على النسخ دون التخيير لاختلاف الأئمة، ولو كان على التخيير لما اختلفوا.
م: (له) ، ش: أي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (رواية عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) ، ش: حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «خسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المسجد فقام فكبر فصف الناس وراءه فقرأ قراءة طويلة ثم ركع فركع ركوعا طويلا، ثم رفع رأسه، فقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم قام فقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعا طويلا هو أدنى من الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك فاستكمل أربع ركعات وأربع تحيات فانجلت الشمس قبل أن ينصرف، ثم قام فخطب الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة» .
وأخرج البخاري ومسلم أيضا عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: «انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - فذكر نحو حديث عائشة، وأخرجا أيضا نحوه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
وحديث الثلاث ركعات في كل ركعة أخرجه مسلم عن عطاء عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى ست ركعات بأربع سجدات» وأخرجه أيضا عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وعن ابن عباس بنحوه.
وحديث الأربع ركعات في كل ركعة، أخرجه مسلم عن طاووس «عن ابن عباس أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى في الكسوف فقرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع ثم سجد» . وعن علي مثل(3/137)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك.
وحديث الخمس ركعات في كل ركعة، أخرجه أبو داود في " سننه " من حديث أبي بن كعب أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم في كسوف الشمس، فقرأ سورة من الطوال وركع خمس ركعات وسد سجدتين وفعل في الثانية مثل ذلك، ثم جلس يدعو حتى ينجلي كسوفها» وفي إسناده أبو جعفر الرازي، واسمه عيسى بن عبد الله بن هامان فيه مقال، وذكر أبو عمر وابن حزم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في كسوف عشر ركعات في أربع سجدات، وروى أبو داود «عشر ركعات في كل ركعة» .
ثم صورة هذه الصلاة عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما ذكره في " شرح الوجيز " أقل هذه الصلاة أن يحرم بنية صلاة الكسوف ويقرأ الفاتحة ويركع ثم يرفع رأسه ويقرأ الفاتحة ثم يركع ثم يسجد ثم يفعل كذلك في الركعة الثانية، وكلاهما أن يقرأ في القيام الأول بعد الفاتحة سورة البقرة أو بقدرها ثم يركع ويسبح بقدر مائة آية ثم يرفع رأسه ويقرأ في القيام الثاني مقدار مائتي آية من سورة البقرة، ثم يركع ويسبح بقدر ثمانين آية، ثم يرفع رأسه ويقرأ ويسجد كما يسجدها في غيرها.
وقال ابن شريح: يطيل السجود على حسب ما قبله من الركوع، وقال غيره: لا يطيل بل هو كالسجود في سائر الصلاة والأول أصح ثم يقرأ في الركعة الثانية بعد الفاتحة مائة وخمسين آية، ثم يركع ويسبح بقدر سبعين آية ثم يرفع رأسه ويقرأ بعد الفاتحة بقدر مائة آية ثم يركع ويسبح بقدر خمسين آية، ثم يركع ويسجد، وهذا اختيار المزني وقول صاحب " الحلية ".
وقال السغناقي: في صورة صلاة الكسوف عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يقوم في الركعة الأولى ويقرأ فيها بفاتحة الكتاب وسورة البقرة إن كان يحفظها، وإن كان لا يحفظها يقرأ غير ذلك مما بعدها، ثم يركع ويمكث في ركوعه مثلما يمكث في قيامه، ثم يرفع رأسه ويقوم ويقرأ سورة آل عمران إن كان يحفظها، وإن كان لا يحفظها يقرأ غير ذلك مما بعدها ثم يركع ثانيا ويمكث في ركوعه مثلما يمكث في قيامه هذا، ثم يرفع رأسه ثم يسجد سجدتين ثم يقوم فيمكث في قيامه ويقرأ فيه ما يقرأ في القيام الثاني في الركعة الأولى فيمكث في ركوعه مثلما يمكث في هذا القيام ثم يقوم ويمكث في مقامه مثلما يمكث في الركوع ثم يرفع رأسه ويقوم مثل ثلثي قيامه في القيام الأول من هذه الركعة الثانية، ثم يسجد سجدتين وتتم الصلاة، كذا في " المحيط ".(3/138)
ولنا رواية سمرة وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذكر في " الخلاصة الغزالية ": فإذا كسفت الشمس في وقت مكروه أو غير مكروه يؤدي الصلاة جماعة وصلى الإمام بالناس في المسجد ركعتين وركع في كل ركعة ركوعين أوائلها أطول من أواخرها، ثم ذكر قراءة الطوال الأربع، ثم قال: وسبح في الركوع الأول قدر مائة آية، وفي الثانية قدر ثمانين، وفي الثالثة قدر سبعين، وفي الرابع قدر خمسين آية.
م: (ولنا رواية سمرة وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ، ش: في أكثر النسخ، ولنا رواية ابن عمر ولم يذكر سمرة - أما حديث سمرة بن جندب، فما أخرجه أبو داود حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا الأسود بن قيس حدثني ثعلبة بن عباد العبدي ثم من أهل البصرة أنه شهد خطبة يوما لسمرة بن جندب قال: «قال سمرة بن جندب: بينما أنا وغلام من الأنصار نرمي غرضين لنا حتى إذا كانت الشمس قيد رمح أو رمحين أو ثلاثة في عين الناظر من الأفق اسودت حتى آضت كأنها تَنُّومَة، فقال أحدنا لصاحبه انطلق بنا إلى المسجد، فوالله ليحدثن شأن هذه الشمس لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمته حدثا قال: فدفعنا فإذا هو بارز فاستقدم فصلى فقام بنا كأطول ما قام بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتا. قال: ثم ركع بنا كأطول ما ركع بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتا، ثم سجد بنا كأطول ما سجد بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتا، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك، قال: فوافق تجلي الشمس جلوسه في الركعة الثانية، قال: ثم سلم ثم قام فحمد الله وأثنى عليه وشهد أن لا إله إلا الله وشهد أنه عبده ورسوله» ثم ساق أحمد بن يونس خطبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأخرجه النسائي أيضا مطولا ومختصرا.
وأخرجه ابن ماجه والترمذي مختصرا. وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا والطحاوي، وفي لفظهما نرمي غرضا لنا. قوله: غرضين مثنى غرض بفتح الغين والراء وهو الهدف. قوله " قيد رمحين " بكسر القاف أي قدر رمحين. آضت: أي رجعت، من آض يئيض أيضا، قوله " تنومة " بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد النون وضمها بعدها واو ساكنة ثم ميم مفتوحة وفي آخره هاء، وهو نوع من نبات الأرض، فيه وفي ثمره سواد قليل، ويقال هو شجر له ثمر كمد اللون، قوله " فإذا هو بارز " من البروز وهو الظهور، وقال الخطابي: هذا تصحيف من الراوي [....
.....] بهم لكثرتهم.
وأما حديث ابن عمر بدون الواو في عمر لم نجده، وإنما المروي حديث ابن عمرو، هو: عبد الله بن عمرو بن العاص، ولعل الخطأ من الناسخ، وحديث ابن عمرو أخرجه أبو داود(3/139)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والنسائي والترمذي في " الشمائل " عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: «انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يكد يركع ثم ركع فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، ثم رفع وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك، ثم نفخ في آخر سجوده، فقال أف أف، ثم قال رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم، ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون، ففرغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلاته وقد أمحصت الشمس» . وأخرجه الحاكم أيضا وقال: صحيح ولم يخرجاه من أجل عطاء بن السائب.
قلت: قد أخرج البخاري عن عطاء حديثا مقرونا لأبي بشر، وقال أيوب ثقة، ولنا حديث أخرجه النسائي، عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا خسفت الشمس والقمر فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة» ورواه أحمد في " مسنده " والحاكم في " مستدركه "، وقال على شرطهما، ورواه أبو داود ولفظه «كسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسأل عنها حتى انجلت» .
وأخرجه ابن ماجه أيضا، وقال البيهقي: هذا مرسل، أبو قلابة لم يسمع من النعمان.
قلت: صرح في الكمال بسماعه من النعمان، وقال ابن حزم: وأبو قلابة أدرك النعمان وروى هذا الخبر عنه، وصرح ابن عبد البر بصحة هذا الحديث، وقال من أحسن حديث ذهب إليه الكوفيون حديث أبي قلابة عن النعمان يظهر من البيهقي دعوى بلا دليل، والعجب من النووي حكمه بصحة هذا الحديث، ثم قال إلا أنه روي بزيادة رجل بين أبي قلابة والنعمان، ثم اختلف في ذلك الرجل، واسم أبي قلابة عبد الله بن زيد الحربي.
ومنها حديث أخرجه أبو داود عن قبيصة الهلالي قال: «كسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخرج فزعا يجر ثوبه وأنا معه يومئذ بالمدينة فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام، ثم انصرف وانجلت فقال: إنما هذه الآيات يخوف الله بها، فإذا رأيتموها فصلوا، كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة» .(3/140)
والحال أكشف على الرجال لقربهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرجه النسائي أيضا والحاكم في " المستدرك " وقال: حديث صحيح على شرائط الشيخين ولم يخرجاه، ورواه البيهقي أيضا، ثم قال: يسقط بين أبي قلابة وقبيصة رجل وهو هلال بن عامر. وقال النووي في " الخلاصة ": وهذا لايقدح في صحة الحديث.
ومنها حديث أخرجه البخاري في " صحيحه " عن الحسن عن أبي بكر قال «خسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخرج يجر رداءه حتى انتهى إلى المسجد وبادر الناس فصلى بهم ركعتين مثل صلاتكم» ووهم النووي في " الخلاصة " فعزا هذا الحديث للصحيحين، وإنما انفرد به البخاري.
ومنها حديث أخرجه مسلم عن عبد الرحمن بن سمرة وفيه فصلى ركعتين، فظاهر هذا الحديث والحديث الذي قبله: أن الركعتين بركوع واحد، وقد اختلفوا في الجواب عنهما لأجل أنهما عليهم، فقال النووي: قوله: " صلى ركعتين " يعني في كل ركعة قيامان وركوعان.
وقال القرطبي: يحتمل أنه إنما أخبر عن حكم ركعة واحدة وسكت عن الأخرى.
قلت: في هذين الجوابين إخراج اللفظ عن ظاهره، فلا يجوز إلا بدليل. وأيضا فلفظ النسائي كما تصلون، وابن حبان مثل صلاتكم يرد ذلك، وفي " العارضة " روى الكسوف عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبعة عشرة رجلا.
م: (والحال أكشف على الرجال لقربهم) ، ش: هذا جواب عن حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الذي احتج به الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما ذهب إليه أن حال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي الهيئة التي كان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عليها في صلاة الكسوف أكشف على الرجال من النساء بقرب الرجال منه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لأنهم يقومون قبل صف النساء.
ومن هذا أخذ محمد بن الحسن في " الآثار " فقال: يحتمل أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطال الركوع زيادة على قدر ركوع سائر الصلوات فرفع أهل الصف الأول رؤوسهم ظنا منهم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع رأسه من الركوع من خلفهم ورفعوا رؤوسهم، فلما رأى أهل الصف الأول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكعا ركعوا ثمة خلفهم ركعة، فلما رفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأسه من الركوع رفع القوم رؤوسهم ومن خلف الصف الأول ظنوا أنه ركع ركوعين، فرووه على حسب ما رفع عندهم.
ومثل هذا الاشتباه قد يقع لمن كان آخر الصفوف وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كانت واقعة في صف النساء، وابن عباس في صف الصبيان في ذلك الوقت، فنقلا كما وقع عندهم فيحمل(3/141)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على هذا توفيقا بين الروايتين.
قلت: هذا الاحتمال لا يجدي شيئا، لأنا وإن سلمنا هذا في ركوعين، فماذا يقال في ثلاث ركوعات في رواية وأربع ركوعات في أخرى كما ذكرنا.
وقال الأترازي في قوله: " والحال أكشف على الرجال ": فيه نظر، لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يتمسك بما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وحدها حتى يلزم ترجيح رواية الرجال على رواية النساء، بل يتمسك بروايتها ورواية ابن عباس فلا يتأتى الترجيح إلا بما قلنا من القياس.
قلت: ابن عباس في ذلك الوقت كان في صف الصبيان، فتكون روايته ورواية عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - على السواء على هذا.
قال الأكمل: فإن قيل روى حديثها من الرجل ابن عباس، وقد كان في صفهم.
أجيب: بأنه كان في صف الصبيان في ذلك الوقت.
قلت: هذا أيضا لا يجوز، وكل منهما حام حول الحمى فلم ينجيا، لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يتعلق بحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وحده، في الاحتجاج لمذهبه، بل يتعلق به وبحديث جابر وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما، بل الصواب ها هنا أن يقال اختلفوا في صلاة الكسوف، بل يقال تحروا الكل، وكل واحد منهم تعلق بحديث، ورآه أولى من غيره بحسب ما أدى اجتهاده إليه في صحته وموافقته للأصل المعهود في أبواب الصلاة.
وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعلق بأحاديث موافقة للقياس في أبواب الصلاة، لأن في سائر الصلوات من المكتوبات والتطوع مع كل ركعة سجدتان، فكذلك ينبغي أن تكون صلاة الكسوف كذلك.
وقال أبو إسحاق المروزي وأبو الطيب وغيرهما: تحمل أحاديثنا على الاستحباب وأحاديثهم على الجواز، وقال السروجي: فلم ينقل ذلك بالمدينة إلا مرة واحدة، فإذا حصل هذا الاضطراب الكثير من الركوع واحد إلى عشرة ركوعات يعمل بما له أصل في الشرع، انتهى.
قلت: فيه نظر، لأن بعضهم قالوا: صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الكسوف غير مرة، وفي غير سنة فروى كل واحد ما شاء هذه من صلاته وضبطه من فعله.
وذكر النووي في " شرح المهذب " أن عند الشافعية - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا تجوز الزيادة على ركوعين، وبه قطع جمهورهم، قال: وهو ظاهر نصوصه.
قلت: الزيادة من العدل مقبولة عندهم، وقد صحت الزيادة على الركوعين ولم يعلموا بها،(3/142)
فكان الترجيح لروايته،
ويطول القراءة فيهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فكل جواب لهم عن الزيادة على الركوعين، فهو جواب لنا عما زاد على ركوع واحد. وقال السرخسي: وتأويل الركوعين فيما زاد أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - طول الركوع فيها، لأنه عرض عليه الجنة والنار فمل بعض القوم وظنوا أنه رفع رأسه فرفعوا رءوسهم إلى آخر ما ذكرنا عن محمد عن قريب فيه ما قيد ما ذكرنا، وقيل رفع رأسه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[ليتحقق] حال الشمس هل انجلت أم لا؟ وهكذا قيل في كل ركوع وفيه نظر أيضا.
وقد قال مناظر محمد بن الحسن ألم يعلم أن الحديث إذا جاء من وجهين، واختلفا وكانت فيه زيادة كان الأخذ بالزيادة أولى، لأن الآتي بها أثبت من الذي يقص الحديث؟ قال: نعم، قال المناظر: ففي حديث من الزيادة ما ينبغي أن يرجع إليه، قال محمد: فالنعمان بن بشير لا يذكر في كل ركعة ركوعين، قال المناظر: قلت: فالنعمان يزعم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعتين ثم نظر فلم تنجل الشمس، فقام: فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين أفتأخذ به؟ قال: لا، قلت: فأنت إذا تخالف قول النعمان وحديثه، انتهى.
قلت: لقائل أن يقول له كما قال لمحمد سواء أنت تأخذ بحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وجابر وابن عباس، فإن قال: نعم قيل له قد صح عنهم ما ذكر من ثلاث ركعات في كل ركعة ست ركعات، فهذه زيادة أتأخذ بها؟ فإن قال: لا، قيل له: فأنت إذا تخالف ما ذكرت، لأنك اعتمدته وتخالف أيضا ويخالفه أيضا ما ذهبنا إليه بحجتنا [....
... ] . وأما حديث أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حدثنا فيه زيادة، رواه الحاكم من حديث أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: «انكسفت الشمس فصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقرأ سورة من الطوال وركع خمس ركعات وسجد سجدتين» . وهذا الحديث فيه ألفاظ زائدة، ورواته صادقون وصححه أيضا أبو محمد الأصيلي، وأقره الحافظان ابن القطان وابن [
..] فكان ينبغي أن يعمل بها لأن خبر الزيادة من الثقة.
م: (فكان الترجيح لروايته) ، ش: الفاء فيه جواب شرط محذوف، أي إذا كان الحال أكشف للرجال من النساء يؤمهم من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان الترجيح لرواية ابن عمرو بن العاص، وقد ذكرنا أنه وقع في الكتاب ابن عمر بدون الواو وليس كذلك كما بينا.
[القراءة في صلاة الكسوف]
م: (ويطول القراءة فيهما) ، ش: أي ويطول الإمام القراءة في ركعتي الكسوف لما مر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام في الأولى مقدار البقرة، وفي الثانية بقدر آل عمران، وفي " المرغيناني " يقرأ فيهما بما أحب كالمكتوبة، ولو طول القراءة خفف الدعاء أو على العكس، وروى الحسن بن زياد عن أبي(3/143)
ويخفي عند أبي حنيفة، وقالا: يجهر. وعن محمد مثل قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أما التطويل في القراءة فبيان الأفضل ويخفف إن شاء؛ لأن المسنون استيعاب الوقت بالصلاة والدعاء، فإذا خفف أحدهما طول الآخر، وأما الإخفاء والجهر فلهما رواية عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهر فيها، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية ابن عباس وسمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في كسوف الشمس أنهم إن شاؤوا صلوا ركعتين وإن شاؤوا أربعا، وإن شاؤوا أكثر من ذلك، وإن شاؤوا سلموا في كل ركعتين، وإن شاؤوا في كل أربعة؛ لأنها نافلة.
م: (ويخفي) ، ش: أي القراءة. م: (عند أبي حنيفة) ، ش: وبه قال الشافعي ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (وقالا) ، ش: أي قال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (يجهر) ، ش: بالقراءة، وبه قال أحمد ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية. م: (وعن محمد مثل قول أبي حنيفة) ش: أي روي عن محمد أنه لا يجهر بالقراءة كمثل قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفي " التحفة " عن محمد روايتان فيه. وفي " البدائع " وفي عامة الرواية مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (أما التطويل في القراءة فبيان الأفضل) ، ش: لا بيان الوجوب، لأن قوله: " ويطول القراءة فيهما " قول القدوري، وروي في " مختصره " وهو يحتمل الوجوب وغيره. فأشار بقوله أما التطويل إلى آخره إلى أن التطويل غير واجب، ولو قال: وأما التطويل في القراءة فبيان السنة لكان أولى على ما لا يخفى. م: (ويخفف) ، ش: القراءة. م: (إن شاء، لأن المسنون استيعاب الوقت) ، ش: أي استغراقه. م: (بالصلاة والدعاء فإذا خفف أحدهما طول الآخر) ، ش: يعني إذا خفف الصلاة طول الدعاء وهو بالخيار في هذا الدعاء إن شاء جلس فدعا ويستقبل القبلة، وإن شاء قام ودعا واستقبل الناس بوجهه.
م: (وأما الإخفاء والجهر فلهما) ، ش: أي فلأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -. م: (رواية عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهر فيها) ، ش: حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجه البخاري ومسلم عن عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «جهر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الخسوف بقراءته» الحديث. والمراد بالخسوف كسوف الشمس والدليل عليه ما رواه البخاري أيضا من حديث أسماء بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «جهر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الكسوف» ورواه أبو داود، ولفظه: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ قراءة طويلة فجهر بها يعني في صلاة الكسوف» ورواه الترمذي، ولفظه: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الكسوف فجهر فيها بالقراءة» وحسنه، ورواه ابن حبان أيضا في " صحيحه " قالوا: وفي هذه الألفاظ ما يدفع قول من فسر لفظ " الصحيحين " بخسوف القمر.
م: (ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواية ابن عباس وسمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -)(3/144)
والترجيح قد مر من قبل، كيف وأنها صلاة النهار، وهي عجماء، ويدعو بعدها حتى تنجلي؛ الشمس لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئا فارغبوا إلى الله بالدعاء»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: حديث ابن عباس روه أحمد في " مسنده " عن عكرمة عن ابن عباس قال: «صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكسوف فلم أستمع منه فيها حرفا من القراءة» ورواه أبو يعلى الموصلي أيضا في " مسنده " وأبو نعيم في " الحلية " والطبراني في " معجمه " والبيهقي في " المعرفة ".
وحديث سمرة بن جندب، رواه الأربعة عن ثعلبة بن عباد العبدي قال: «قال سمرة بن جندب: بينما أنا وغلام من الأنصار نرمي غرضين لنا.. الحديث وفيه: " صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكسوف لا نسمع له صوتا» وقد مر هذا الحديث في هذا الباب بتمامه.
م: (والترجيح قد مر من قبل) ، ش: أراد به قوله: " والحال أكشف على الرجال لقربهم "، م: (كيف وأنها صلاة النهار وهي عجماء) ، ش: كيف اسم، وعن سيبويه أنه ظرف، ومعناه كيف يجهر بالقراءة في صلاة الكسوف والحال أنها صلاة النهار عجماء، أي ليس فيها قراءة مسموعة، أخذ من العجماء التي هي البهيمة، سميت به لأنها لا تتكلم، وكل من لا يقدر على الكلام فهو أعجم. م: (ويدعو بعدها) ، ش: أي ويدعو الإمام بعد صلاة الكسوف. م: (حتى تنجلي الشمس) ، ش: أي حتى تنكشف، لأن الصلاة كانت الدعاء، فإذا فرغوا من الصلاة يجب أن يدعوا.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخطب خطبتين بعد كما في العيدين، وبه قال أحمد، واحتجا بما روى البخاري ومسلم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف وقد انجلت الشمس فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا..» الحديث.
ولنا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب خطبتين أمر بالصلاة ولم يأمر بالخطبة ولو كانت مسنونة فيهما لبينهما ولم ينقل عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه خطب خطبتين، فليس عليهما دليل ولا القياس، وحديث ابن مسعود وابن عمر وعائشة في " الصحيحين " ولم يذكر الخطبة.
والجواب عن الحديث المذكور أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب ليردهم عن قولهم: إن الشمس كسفت لموت إبراهيم بن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «إن الشمس والقمر ... » الحديث هو محمول على الدعاء.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئا فارغبوا إلى الله بالدعاء» ، ش: هذا اللفظ غريب وهو في " الصحيحين " من حديث المغيرة بن شعبة: «فإذا رأيتموها فارغبوا إلى ذكر الله» .(3/145)
والسنة في الأدعية تأخيرها عن الصلاة، ويصلي بهم الإمام الذي يصلي بهم الجمعة، فإن لم يحضر صلى الناس فرادى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرجه أيضا عن عائشة: «فإذا رأيتموها فكبروا وادعوا» ، وروى أبو سليمان في كتاب الصلاة قريبا من لفظ المصنف عن محمد عن أبي يوسف عن أبان عن ابن أبي عباس عن الحسن البصري عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئا فافزعوا إلى الصلاة» .
قلت: هذا مرسل وهو حجة عندنا، قوله: " فافزعوا " بالزاي المعجمة، أي التجئوا إليه، يقال فزع إليه، أي التجأ، والمفزع الملجأ.
[الدعاء في صلاة الكسوف]
م: (والسنة في الأدعية تأخيرها عن الصلاة) ، ش: لما روى الترمذي في " جامعه " في كتاب الدعوات والنسائي في كتاب اليوم والليلة عن عبد الرحمن بن سابط «عن أبي أمامة قيل: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الدعاء أسمع؟ قال: " جوف الليل الأخير، ودبر الصلاة المكتوبة» قال الترمذي: حديث حسن، ورواه عبد الرزاق في " مصنفه "، وقال ابن القطان: وعبد الرحمن بن سابط لم يسمع من أبي أمامة.
وروى أبو داود والنسائي «عن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: " يا معاذ والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ لا تدع عن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» .
واحتج البخاري في " تاريخه الأوسط " عن المغيرة بن شعبة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه كان يدعو دبر كل صلاة» .
م: (ويصلي بهم الإمام الذي يصلي بهم الجمعة) ، ش: يعني يصلي صلاة الكسوف بالقوم الإمام الذي يصلي بهم الجمعة والعيدين، وفي " التحفة " أو غيره بإذن الإمام، كما في الجمعة والعيدين، وفي " المرغيناني " ويؤمهم فيها إمام حيهم بإذن السلطان في مساجدهم بل يصلون جماعة واحدة، ولو لم يقمها الإمام صلى الناس فرادى.
وفي " مبسوط بكر " عن أبي حنيفة في غير رواية الأصول لكل إمام مسجد أن يصلي بجماعته في مسجده. وذكر في " المحيط " وقال الأسبيجابي: يمكن بإذن الإمام الأعظم.
م: (فإن لم يحضر) ، ش: أي الإمام الذي يصلي بهم الجمعة. م: (صلى الناس فرادى) ، ش: أي(3/146)
تحرزا عن الفتنة،
وليس في كسوف القمر جماعة لتعذر الاجتماع في الليل أو لخوف الفتنة، وإنما يصلي كل واحد بنفسه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا رأيتم شيئا من هذه الأهوال فافزعوا إلى الصلاة» وليس في الكسوف؛ خطبة لأنه لم ينقل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منفردين، وانتصابه على الحال. م: (تحرزا عن الفتنة) ، ش: في التقديم والتقدم.
[الصلاة لكسوف القمر جماعة]
م: (وليس في كسوف القمر جماعة) ، ش: هذا لفظ محمد في " المبسوط "، وقد عيب عليه بأن لفظ الكسوف لا يستعمل إلا في الشمس، ورد بأن كلا من لفظ الكسوف والخسوف مستعمل في كل واحد من الشمس والقمر، وقد حققنا الكلام فيه في أول الباب، ووقع في بعض النسخ وليس في خسوف القمر جماعة، والأول أصح، وقيل الجماعة جائزة لكنها ليست بسنة. م: (لتعذر الاجتماع بالليل) ، ش: أي لتعذر اجتماع الناس بالليل، وكان في زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كسوف القمر كما كان كسوف الشمس، فلو كان فيه جماعة كما في كسوف الشمس لنقل، وأما نفس الصلاة فبالأحاديث المذكورة عن قريب. م: (أو لخوف الفتنة) ، ش: لأن اجتماع الناس بالليل من أطراف البلد لا يكاد يسلم عن وقوع فتنة منهم، إما من جهة وقوع الزحام وإما من جهة اختيار الإمام.
م: (وإنما يصلي كل واحد بنفسه) ، ش: يعني منفردين، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصلي صلاة الخسوف بالجماعة كما في الكسوف، وقال مالك: لا صلاة فيه. وفي " المغني " لابن قدامة، وعن مالك: ليس في كسوف القمر سنة ولا صلاة، وانفرد به من بين أهل العلم. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصليها جماعة بركوعين وبالجهر بالقراءة وبخطبتين بينهما جلسة ككسوف الشمس، وهو قول أحمد وإسحاق إلا في الخطبة.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رأيتم شيئا من هذه الأهوال فافزعوا إلى الصلاة» ، ش: في هذا الموضع نظر من وجهين: الأول: أن هذا الحديث بهذا اللفظ غريب، وإنما الذي صح ما رواه البخاري ومسلم وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة» .
والثاني: أن هذا الحديث لا يطابق مرآه، يظهر ذلك بالتأمل ولا ينكر ذلك إلا المعاند. م: (وليس في الكسوف خطبة) ، ش: وقال الأكمل: أي في كسوف الشمس والقمر خطبة.
قلت: ليس في خسوف القمر جماعة فضلا عن الخطبة فلا يحتاج إلى ذكر القمر، وإنما عرفوا قول السغناقي من قول المصنف، وليس في الكسوف خطبة، هذا راجع إلى كسوف الشمس والقمر وليس كذلك، لأن المعنى كسوف الشمس خاصة كما ذكرنا، لأن الخسوف فيه جماعة، فكيف يكون فيه الخطبة حتى ينفي.
م: (لأنه لم ينقل) ش: أي لأن كون الخطبة في كسوف الشمس لم ينقل، وهذا غير صحيح، لما روى البخاري ومسلم من حديث أسماء: «ثم انصرف بعد أن انجلت الشمس والقمر فقام(3/147)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن يخوف الله بهما عباده، ما من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار. ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم مثل وقريبا من فتنة الدجال..» الحديث.
وأخرجا أيضا من حديث ابن عباس فقال: «إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرا قط» الحديث.
وأخرجا أيضا «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " يا أمة محمد؛ ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته..» الحديث. وأخرج مسلم عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «ولقد جيء بالنار وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها ... » الحديث.
وأخرج أحمد من حديث سمرة بن جندب «فحمد الله وأثنى عليه وشهد أنه عبد الله ورسوله ثم قال: " يا أيها الناس أنشدكم الله إن كنتم تعلمون أني قصرت في شيء من تبليغ رسالات ربي ... » الحديث بطوله، وأخرجه الحاكم أيضا في " مستدركه "، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأخرج ابن حبان في " صحيحه " من حديث عمرو بن العاص: «فقام فحمد الله وأثنى عليه
.» الحديث.
وقال الأكمل: ولنا أنه لم ينقل، وذلك دليل على أنه يفعل. وقال صاحب " الدراية " ولنا ما روي من الحديث في المتن وعدم النقل. وقال السغناقي: معنى قوله " لأنه لم ينقل " أي بطريق الشهرة.
قلت: أما كلام الأكمل فإنه غير وارد على منهج الصواب؛ لأن قوله " لم ينقل " غير صحيح؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فعله، وكذلك قوله وذلك دليل على أنه لم يفعله غير صحيح؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فعله، وأما كلام صاحب " الدراية " ففيه نظر من وجهين:
الأول: أن قوله ولنا ما روي من الحديث في المتن غير سديد، ولا يوجد، لأن الحديث الذي في المتن لا يدل على نفي الخطبة في الكسوف.
الثاني: أن قوله: " وعدم النقل " غير صحيح لما ذكرنا. وأما قول السغناقي: " أي بطريق الشهرة ": فإقرار منه أن النقل موجود، وأما قوله: " أي بطريق الشهرة ": فغير صحيح، وكيف لا يكون مشهورا، وقد رواه غير واحد من الصحابة، وكما ذكرناه الآن؟
ثم أجاب الأكمل بعد اعترافهم بالنقل بأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقصد الخطبة، وإنما قال ذلك دفعا لقول من قال: إن الشمس انكسفت لموت إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وإخبارا عما رآه من الجنة والنار.(3/148)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: سبحان الله. كيف لا يكون خطبة، ومقاصد الخطبة لا تنحصر في شيء معين، ولا سيما ورد أنه صعد المنبر وبدأ بما هو المقصود من الخطبة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر فضل الخطبة وغير ذلك، وصعود المنبر رواه النسائي وأحمد في " مسنده " وابن حبان في " صحيحه "، ولفظهم «ثم انصرف بعد أن انجلت الشمس، فقام وصعد المنبر فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: " إن الشمس والقمر ... » الحديث.
فروع: لو طلعت مكسوفة لم يصل حتى تحل النافلة، وبه قال مالك وأحمد وآخرون، وقال ابن المنذر وبه أقول، خلافا للشافعي.
ووقتها الوقت المستحب كسائر الصلوات. وفي " المبسوط ": ولا يصلي الكسوف وفي الأوقات الثلاثة، وبه قال الحسن وعطاء بن أبي رباح وعكرمة وعمرو بن شعيب وقتادة وأيوب وإسماعيل بن علية وأحمد.
وقال إسحاق: يصلون بعد العصر ما لم تصفر الشمس وبعد صلاة الصبح ولو كسفت في الغروب لم يصل إجماعا من جنس الكسوف مثل الريح الشديد والظلمة الهائلة بالنهار والثلج والأمطار الدائمة والصواعق والزلازل وانتشار الكواكب والضوء الهائل بالليل وعموم الأمراض وغير ذلك من النوازل والأهوال والأفزاع، إذا وقعت صلوا وحدانا، واسألوا وتضرعوا، وكذا في الخوف الغالب من العدو، وعند الشافعي كذلك.
ولا يصلي عنده جماعة في غير الكسوفين، وروى الشافعي أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى في زلزلة جماعة، قال: إن صح هذا الحديث قلت به.
وقال النووي: هذا الأمر لم يثبت عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وفي " الجواهر " لا يصلى للزلازل وغيرها من الآيات عند مالك، وحكى اللخمي عن أشهب الصلاة، واختاره. وعند أحمد يصلي للزلزلة ولا يصلي للرجفة والريح الشديدة وغيرهما كما ذكرناه الآن، وقال الآمدي: منهم من يصلي لجميع ما ذكرناه حكاه عن ابن أبي موسى.(3/149)
باب الاستسقاء قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة، فإن صلى الناس وحدانا جاز،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الاستسقاء] [عدد وكعات صلاة الاستسقاء وكيفيتها]
م: (باب الاستسقاء) ش: أي هذا باب في بيان حكم الاستسقاء، والمناسبة بين البابين من حيث إن كلا منهما يؤدى بجمع عظيم، إلا أن صلاة الكسوف أقوى لكونها تؤدى بجماعة بلا خلاف، وفي أداء الاستسقاء بالجماعة خلاف.
والاستسقاء على وزن استفعال، وهو طلب السقيا، بضم السين وهو المطر يقال سقى الله عباده الغيث وأسقاهم واستقيت فلانا إذا طلبت منه أن يسقيك، وفي " المطالع " يقال سقى وأسقى بمعنى واحد، وقرئ: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21] بالوجهين، وكذا ذكر الخليل سقى الله الأرض وأسقاها. وقال آخرون: سقيته ناولته ليشرب، وأسقيته جعلت له سقيا يشرب منه، ويقال سقيته بشفة وأسقيته لما سقيته لماشيته وأرضه، والاسم السقي بالكسر.
م: (قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة) ، ش: وبه قال إبراهيم النخعي وأبو يوسف في رواية. وقال النووي: لم يقل أحد غير أبي حنيفة هذا القول.
قلت: هذا ليس بصحيح، وقد روى ابن أبي شيبة في " مصنفه " بسند صحيح وقال: حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم أنه خرج مع المغيرة بن عبد الله السقفي ليستسقي قال فصلى المغيرة فرجع إبراهيم حيث رآه يصلي، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال ابن أبي شيبة: ثنا وكيع عن عيسى بن حفص بن عاصم عن عطاء بن أبي مروان الأسلمي عن أبيه قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ليستسقي فما زاد على الاستغفار.
وقد تجرأ بعض المتعصبين بمن لا يبالي بما لا يترتب عليه في تعصبه بالباطل فقال: قال أبو حنيفة: إن صلاة الاستسقاء بدعة لما قال: ليست بسنة، ولا يلزم من نفي السنة إثبات البدعة؛ لأن عدم السنة يحتمل الجواز، ويحتمل الاستحباب، وفي المنافع مطلق الفعل لا يدل على كونه سنة.
م: (فإن صلى الناس وحدانا) ش: بضم الواو جمع واحد، كركبان جمع راكب، وانتصابه على الحال، أي منفردين، م: (جاز) ، ش: يعني لا يمنع، وفي " شرح مختصر الكرخي "، قال أبو حنيفة: إن صلوا وحدانا فلا بأس بها، وقال صاحب " الروضة ": يصلون وحدانا عنده، وفي " البدائع ": في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة لا صلاة بجماعة في الاستسقاء. وقال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن الاستسقاء هل فيه صلاة بجماعة ودعاء مؤقت وخطبة، فقال: أما الصلاة بجماعة فلا، ولكن فيها الدعاء والاستغفار فإن صلوا وحدانا فلا بأس.(3/150)
وإنما الاستسقاء والدعاء والاستغفار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " مختصر الكرخي ": السنة عند تأخر الغيث الاستغفار والصلاة في جماعة عنده ليست بمسنونة، ولو لم يخرج الإمام وأمر الناس بالخروج فلهم أن يخرجوا ولا يصلون جماعة إلا أن يأمر من يصلي بهم في جماعة، ذكره في " التحفة "، وإن خرجوا بغير إذنه جاز، لأنه لطلب الرزق والمنفعة فلا يتوقف على الإذن، إلا أنهم لا يصلون جماعة.
م: (وإنما الاستسقاء والدعاء والاستغفار) ، ش: الدعاء التضرع إلى الله تعالى والطلب منه، والاستغفار طلب المغفرة، وليس فيه دعاء مؤقت، وإنما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء أعرابي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله....
. ثم قال: " اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا مريعا طبقا غدقا عاجلا غير رائث "، ثم ترك فما يأتيه أحد من الوجوه إلا قالوا قد أحيينا» رواه ابن ماجه، وذكره الشافعي في " الأم ".
وروى ابن عيينة بإسناده في غريب الحديث عن أنس «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج للاستسقاء فصلى بهم ركعتين جهر بالقراءة فيهما وقرأ ما كان يقرأ في العيدين والاستسقاء في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وفي الثانية بفاتحة الكتاب و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] فلما قضى صلاته استقبل القوم بوجهه وقلب رداءه، ورفع يديه وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي، ثم قال: " اللهم اسقنا وأغثنا غيثا مغيثا وسقيا جدا طبقا غدقا مغدقا موسقا هنيئا مريئا مريعا سائلا مسيلا مجللا دائما دررا نافعا غير ضار عاجلا غير رائث، اللهم لتحيي به البلاد وتسقي به العباد وتجعله بلاغا للحاضر منا والباد، اللهم أنزل في أرضنا زينتها وأنزل علينا في أرضنا سكنها، اللهم أنزل علينا من السماء ماء طهورا فأحيي به بلدة ميتا واسقه مما خلقت إنسا وأنعاما وأناسي كثيرا» .
فقوله: " غيثا " أي مطرا. قوله: " مغيثا " بضم الميم من الإغاثة، وهي الإعانة. قوله: " هنيئا " هو الذي لا ضرر فيه. قوله: " مريئا " بالهمزة، وهو المحمود العاقبة المسمن للحيوان والمسمن له. قوله: " مريعا " بفتح الميم وكسر الراء من المراعاة، وهي الخصب، وروي " مربعا " بضم الميم وسكون الراء وكسر الباء الموحدة من الربيع، وروي " مرتعا " بالتاء المثناة من فوق من ماء يرتع فيه الإبل، ويروى بالثاء المثلثة بمعنى الأول.
قوله " طبقا " بفتح الطاء والباء الموحدة. قال الأزهري: هو الذي طبق الأرض والبلاد مطره كالطبق عليها. قوله: " غدقا " بفتح الدال. قال الأزهري: هو كثير الماء والخير. قوله: " غير رائث " أي غير بطيء. قوله: " حيا مقطورا " المطر العام، وكذلك " الجد " بالجيم وتخفيف الدال، والسابل بالباء الموحدة المطر.(3/151)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] (نوح: الآية 10) ، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى ولم ترو عنه الصلاة. وقالا يصلي الإمام ركعتين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] (نوح: الآية 10، 11) ، ش: علق نزول الغيث بالاستغفار لا بالصلاة، فكان الأصل فيه الدعاء والتضرع دون الصلاة.
ولما روى البخاري ومسلم من طرق عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه قال: «دخل المسجد يوم الجمعة رجل من باب كان نحو دار القضاء، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائم يخطب فاستقبله ثم قال: يا رسول الله هلكت المواشي والأموال وانقطعت السبل فادع الله يغثنا، قال: فرفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه، ثم قال: " اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا " قال أنس: فلا والله ما نرى من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال أنس: فلا والله ما رأينا الشمس سبعا، ثم دخل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائم يخطب فاستقبله قائما، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا فرفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه ثم قال: " اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر " قال: فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس» قال شريك: فسألت أنس بن مالك أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري، فقد استسقى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يصل له، وهو معنى قوله: م: (ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى ولم يرو عنه الصلاة) ش: يعني في هذا الحديث الذي ذكرناه، ونبه عليه بقوله: " ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى ولا يظن أن قوله ولم يرو عنه الصلاة على الإطلاق، فإنه رويت أحاديث كثيرة بأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى صلاة الاستسقاء على ما نذكره إن شاء الله تعالى في قوله نحو دار القضاء سميت دار القضاء لأنها بيعت في قضاء ابن عمر الذي كتبه على نفسه كبيت مال المسلمين، وهي ثمانية وعشرون ألفا من معاوية، وهي داره.
وإن قوله في هذا الحديث " لا قزعة " بفتح القاف والزاي قطعة من السحاب، و " السلع " بفتح السين المهملة وسكون اللام وبالعين المهملة جبل بالمدينة. قوله " حوالينا " أي اجعله حوالينا، يقال: رأيت الناس حوله وحواليه. و " الآكام " جمع أكمة وهو الرابية، وقيل المرتفع من الأرض، و " الظراب " بكسر الظاء المعجمة جمع الظرب، وهي الروابي والجبال الصغار.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد، م: (يصلي الإمام ركعتين) ش: وبه قال مالك والشافعي وأحمد، إلا أن عندهما ومالك يكبر، وعن أحمد لا يكبر، وعند الشافعي وأحمد في رواية يكبر كما في الجمعة والعيد، ثم إنه لم يذكر في ظاهر الرواية قول أبي يوسف مع محمد، وذكر عن محمد يصلي الإمام أو نائبه فيه ركعتين بجماعة، كما في العيد، وذكر في مواضع قول أبي(3/152)
لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فيه ركعتين كصلاة العيد، رواه ابن عباس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يوسف مع أبي حنيفة، وكذا ذكره في " المبسوط "، وذكر في رواية بشر بن غياث مع محمد، وكذا ذكره الطحاوي مع محمد، وهو الأصح، والمرغيناني قال أبو حنيفة: ليس في الاستسقاء صلاة، وهو قول أبي يوسف. قال علاء الدين الكاشاني معناه بجماعة.
قال الولوالجي: فإن صلى عندهما لا يجهر بالقراءة، وعند محمد يجهر كصلاة الجمعة والعيدين وعن محمد في رواية لا يجهر، ذكرها في " القنية ".
وفي " البدائع " و " التحفة ": الأفضل أن يقرأ فيهما ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] في الأولى و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] في الثانية، كما ورد في العيدين ولا يكبر فيهما زوائد العيد في المشهور، ويكبر في رواية ابن كاس عن محمد، ذكرها القدوري في " شرحه "، وقال الشافعي: يكبر خمسا في الأولى وخمسا في الثانية. وقال النووي: والحديث فيه ضعيف.
م: (كصلاة العيدين) ش: يعني من حيث إنه يصلي بالنهار بالجمع ويجهر فيهما بالقراءة، ومن حيث إنه يصلي بلا أذان ولا إقامة، ولكن لا يكبر فيه التكبيرات الزوائد في العيد، ثم الاستسقاء لا يختص بوقت صلاة العيدين ولا بغيره ولا بيوم، وفي " تهذيب زوائد الروضة " قال أبو حامد والمحاملي: يختص بوقت صلاة العيد، قال: والصحيح أنه لا يختص بوقت كما لا يختص بيوم، وفي " المدونة " يصلي ركعتين ضحوة فقط، ولو اقتصر المصنف على قوله يصلي الإمام ركعتين ولم يذكر كصلاة العيد لكان أولى، لأن الشافعي احتج بقوله كصلاة العيد على أنه يكبر فيها تكبيرات التشريق، لأنه جاء مصرحا عن ابن عباس.
ورواه الحاكم والدارقطني والبيهقي «عن طلحة قال: أرسلني مروان إلى ابن عباس أسأله عن سنة الاستسقاء، فقال: سنة الاستسقاء سنة الصلاة في العيدين، إلا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلب رداءه فجعل يمينه على يساره، ويساره على يمينه وصلى ركعتين، كبر في الأولى سبع تكبيرات، وقرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وقرأ في الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] وكبر فيها خمس تكبيرات» قال الحاكم: هذا صحيح الإسناد.
وأجيب عنه: بأنه ضعيف، فإن فيه محمد بن عبد العزيز بن عمر، قال البخاري فيه: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث، ويقال: إنه معارض بحديث روي عن أنس، أخرجه الطبراني في " الأوسط «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى فخطب قبل الصلاة واستقبل القبلة، وحول رداءه، ثم نزل فصلى ركعتين لم يكبر فيهما إلا تكبيرة» .
م: (رواه ابن عباس) ، ش: أخرج الأئمة الأربعة رواية ابن عباس عن عبد الله بن كنانة قال: «أرسلني الوليد بن عقبة وكان أمير المدينة إلى ابن عباس أسأله عن استسقاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مبتذلا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى فلم يخطب خطبتكم هذه، لكن(3/153)
قلنا فعله مرة وتركه أخرى فلم يكن سنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد» وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأخرجه الحاكم في " مستدركه " وسكت عنه.
م: (قلنا: فعله مرة وتركه أخرى لم يكن سنة) ، ش: هذا جواب عن أبي حنيفة عن رواية ابن عباس التي احتجا بها، أي فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ذكره من الصلاة في الاستسقاء مرة واحدة وترك مرة أخرى.
وقال الأكمل: قلنا: إن ثبت ذلك دل على الجواز، ونحن لا نمنعه، وإنما الكلام في أنها سنة أم لا، والسنة مواظبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وها هنا فعله مرة وتركه أخرى فلم يكن فعله أكثر من تركه حتى يكون مواظبة، فلا يكون سنة. انتهى.
قلت: فيه نظر من وجوه، الأول: قوله " إن ثبت ذلك " غير سديد، لأنه ثبت، نص عليه الترمذي كما ذكرنا عنه الآن.
والثاني: قوله " والسنة ما واظب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " ليس كذلك، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا واظب على شيء يكون واجبا.
والثالث: وارد عليه وعلى المصنف أيضا، وهو قوله: فعله مرة، وتركه أخرى، فلم يكن فعله أكثر من تركه حتى يكون مواظبة، لأنه لم يدل الدليل على أنه فعله مرة.
وقال الأترازي في الجواب فيما ذهب إليه الشافعي في أنه يكبر في الاستسقاء كتكبيرات الزوائد من صلاة العيد أنه لم ينقل عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها التكبيرات كما نقلت في العيد.
قلت: هذا أيضا غير سديد، لأن ما ذكر الآن أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر كتكبيرات العيد في صلاة الاستسقاء، ولو اطلع عليه كأن يقول لأنه نقل، ولكنه ضعيف.
وقال الأكمل: فإن قيل كلام المصنف متناقض، لأنه قال أولا ولم يرو عنه الصلاة، ثم قال لما روي عنه فالجواب أن المروي لما كان شاذا فيما تعم به البلوى جعله كأنه غير مروي.
قلت: لا نسلم أن المروي شاذ، لأن الشاذ عند أكثر المحدثين أن يروي الراوي ما لا يرويه الثقات سواء خالفهم أو لا، والمروي رواه غير واحد من الصحابة منهم عم عباد بن تميم، قال: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستسقي وصلى ركعتين....» الحديث، رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي، وعم عباد بن تميم هو عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري المازني.(3/154)
وقد ذكر في الأصل قول محمد وحده ويجهر فيهما بالقراءة اعتبارا بصلاة العيد، ثم يخطب لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب ثم هي كخطبة العيد عند محمد. وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خطبة واحدة، ولا خطبة عند أبي حنيفة؛ لأنها تبع للجماعة ولا جماعة عنده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنهم عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «شكى الناس إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قحوط المطر ... الحديث، وفيه فصلى ركعتين» رواه أبو داود. ومنهم ابن عباس وقد مضى حديثه عن قريب. ومنهم أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستسقي فصلى ركعتين
» الحديث، أخرجه ابن ماجه والطحاوي.
م: (وقد ذكر في الأصل) ، ش: أي في " المبسوط ". م: (قول محمد وحده) ، ش: أشار بهذا إلى أن الخلاف المذكور في صلاة الاستسقاء بين محمد وبين أبي حنيفة وبين أبي يوسف، كذا ذكره في " المبسوط " و " المحيط "، وذكر في " الأسرار " و " التحفة " أن محمدا مع أبي يوسف فيه، وأبو حنيفة وحده.
م: (ويجهر فيهما بالقراءة) ، ش: أي في ركعتي صلاة الاستسقاء م: (اعتبارا بصلاة العيد) ، ش: والجمعة، وعند محمد للجهر، ذكرها في " القنية " م: (ثم يخطب) ، ش: أي بعد الصلاة يخطب الإمام، م: (لما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خطب) ، ش: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في " سننه " عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوما فاستسقى فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ودعا الله وحول وجهه نحو القبلة رافعا يديه، ثم قلب رداءه، فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن» ورواه البيهقي في " سننه "، وقال: تفرد به النعمان بن راشد عن الزهري. قال البخاري: هو صدوق، لكن في حديثه وهم كثير.
م: (ثم هي) ، ش: أي خطبة الاستسقاء، م: (كخطبة العيد عند محمد) ش: يعني يطمئن بخطبتين يفصل بينهما بجلسة، وبه قال الشافعي، م: (وعند أبي يوسف خطبة واحدة) ، ش: لأن المقصود منها الدعاء، فلا يقطعها بالجلسة، وفي " التحفة " بالجلوس بينهما روايتان عن أبي يوسف، م: (ولا خطبة عند أبي حنيفة، لأنها تبع للجماعة) ، ش: أي لأن الخطبة والتكبير باعتبار المذكور. وفي غالب النسخ لأنها على الأصل، م: (ولا جماعة عنده) ش: أي عند أبي حنيفة، به قال مالك وأحمد، وفي " الحلية " لم يذكر أحمد الخطبة لعدم النقل.
قلت: فيه نظر، لأن النقل موجود، وقال ابن عبد البر، وعلى الخطبة جماعة الفقهاء، وفيه أربع روايات، والرواية المشهورة أن فيها الخطبة.
والثانية: يخطب قبل الصلاة، روي ذلك عن عمر وابن الزبير وأبان بن عثمان وهشام بن(3/155)
ويستقبل القبلة بالدعاء لما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استقبل القبلة وحول رداءه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إسماعيل وأبي بكر محمد بن عمر بن مخزوم، وذهب إليه الليث بن سعد وابن المنذر.
والثالثة: أنه سجدتان [و] الخطبة قبل الصلاة وبعدها.
والرابعة: أنه لا يخطب وإنما يدعو ويتضرع.
[الدعاء في صلاة الاستسقاء]
م: (ويستقبل القبلة بالدعاء لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استقبل القبلة) ش: لما روى أبو داود عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد أخبره «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى المصلى يستسقي وأنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة، ثم يحول رداءه» . وفي " المبسوط " و " المحيط " عن أبي يوسف إن شاء رفع يديه بالدعاء وإن شاء أشار بإصبعيه، لأن رفع اليد بالدعاء سنة، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو بعرفات باسطا يديه كالمستطعم المسكين. وفي " النهاية " علم بهذا أن رفع اليدين في الأدعية كلها جائز سوى المواضع السبعة، لأن الاستسقاء غيرها، ولو أشار بظهر كفه إلى السماء يجوز، لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى وأشار بظهر كفه» .
وفي " شرح الوجيز " قال العلماء: وهذه السنة لمن دعا لدفع البلاء، وإذا سأل شيئا من الله يجعل باطن كفه إلى السماء، وكذا في " المبسوط ".
م: (وحول رداءه) ، ش: وفي بعض النسخ ويقلب رداءه، والتحويل أعم من التقليب وصفة ما قاله في " المبسوط " إن كان مربعا جعل أعلاه أسفله، وإن كان مدورا جعل الجانب الأيمن على الأيسر.
وفي " المحيط ": ما يمكن أن يجعل أعلاه أسفل جعل، وإلا جعل يمينه على يساره عند أبي يوسف. وفي الأسبيجابي، و " التحفة ": فإن كان أعلاه وأسفله واحدا كالطيلسان والخميصة حول يمينه على شماله، وشماله على يمينه. وروى محمد بن الحكم عن مالك أنه قال: جعل ما على ظهره منه على شماله يلي السماء، وما كان يلي السماء على ظهره، وبه قال أحمد وأبو ثور.
وفي " الذخيرة " للمالكية: والتحويل أن يأخذ يمينه ما على عاتقه الأيسر، ويمر من ورائه على الأيمن، وما على الأيمن على الأيسر.
وفي " المحيط " إنما قلب - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رداءه ليكون أثبت على عمامته عند رفع يديه في الدعاء أو عرف بالوحي تغير الحال من الجدب إلى الخصب عند تغير الرداء، قلت: جاء ذلك مصرحا في " مستدرك " الحاكم من حديث جابر وصححه، وقيل وحول رداءه ليتحول القحط؛(3/156)
ويقلب رداءه لما روينا. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا قول محمد أما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلا يقلب رداءه لأنه دعاء فيعتبر بسائر الأدعية وما رواه كان تفاؤلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكذلك رواه الدارقطني في " سننه "، وفي " السؤالات " للطبراني من حديث أنس وقلب رداءه لكي يقلب القحط إلى الخصب، وفي " مسند " إسحاق بن راهويه لتتحول السنة من الجدب إلى الخصب، وذكره من قول وكيع.
م: (لما روينا) ، ش: أراد به قوله روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - استقبل القبلة وحول رداءه» - م: (قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ، ش: أي قال المصنف، م: (وهذا قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ، ش: أي قلب الرداء قول محمد، وبه قال مالك والشافعي وأحمد والأكثرون، م: (أما عند أبي حنيفة فلا يقلب رداءه لأنه) ، ش: أي لأن الاستسقاء، م: (دعاء فيعتبر بسائر الأدعية) ، ش: وسائر الأدعية لا يقلب فيها الرداء فكذلك الاستسقاء ولم يذكر قول أبي يوسف، ونقله في " منتقى البخاري شرح المنظومة "، وفي " المبسوط " إذا مضى صدر خطبته قلب رداءه، ولم يحك خلافا في المرغيناني، ذكر قوله مع أبي حنيفة، وهكذا ذكره الحاكم، وذكر الكرخي مع محمد والطحاوي ذكره مع أبي حنيفة في موضع، ومع محمد في موضع.
وقال في " الذخيرة ": اختلف المتأخرون على قول أبي يوسف، وفي " جوامع الفقه " لم يذكر قلب الرداء إلا على قول أبي يوسف. وفي " المحيط " و " البدائع " و " التحفة " و " الفقيه " ذكر قوله مع محمد وفي " مبسوط " شيخ الإسلام ثم إذا دعي لا يقلب رداءه عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: يقلب رداءه.
واحتجوا بما روي من حديث عبد الله بن زيد، وقد مر عن قريب ووقت إليه بسبب عندنا عند مضي صدر الخطبة، وبه قال ابن الماجشون من المالكية، وفي رواية ابن القاسم بعد تمامها، وقيل قبل تمامها عند أصبغ، وقيل بين الخطبتين، وهذه الثلاثة عن مالك والمشهور عنه بعد تمامها، وبه قال الشافعي.
م: (وما رواه كان تفاؤلا) ، ش: أي وما رواه محمد من الحديث الذي احتج به كان لأجل التفاؤل ليقلب حالهم من الجدب إلى الخصب، فلم يكن لبيان السنة، وفي " المبسوط "، ولا تأويل لما رواه سوى أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يتفاءل بتغير الهيئة ليغير الهواء يعني ما كان عليه فغير اللهم الحال.
وفي الجنازية يحتمل أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يحول رداءه فأصلحه فظن الراوي أنه قلبه وفيه وجهان آخران ذكرناهما عن قريب، قيل في كلام المصنف نظر من وجهين، الأول: أنه تعليل في مقابلة النص وهو غير جائز. والثاني: أنه كان ينبغي أن يتأسى بالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إن كان فعله تفاؤلا.(3/157)
ولا يقلب القوم أرديتهم، لأنه لم ينقل أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم بذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأجيب عن الأول أنا لا نسلم أنه تعليل في مقابلة النص، بل هو من باب العمل بالقياس لتعارض النصين بالنفي والإثبات وذلك لأن ما احتج به محمد مثبت، وما احتج به أبو حنيفة ناف، وهو حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا شكى إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هلاك المال وجهد العيال، فدعا الله واستسقى» قال البخاري: ولم يذكر أنه حول رداءه، وفيه نظر لأن المصنف لم يذكر ما احتج به أبو حنيفة من الحديث، وإنما ذكر ما احتج به من القياس، ووجه النظر أنه عمل بالقياس مع وجود الحديث الصحيح.
وأجيب عن الثاني بأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يجوز أن يكون علم بالوحي أن الحال ينقلب إلى الخصب من قلب الرداء، وهذا مما لا يتأتى من غيره، فلا فائدة في التأسي ظاهرا فيما ينفيه القياس، وفيه نظر، لأنه لا يلزم أن يعلم الحكمة فيما فعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، حتى يأتي به فيه، وكيف يقال لا فائدة في التأسي ظاهرا، ومجرد التأسي عين الفائدة لوجود صورة الاتباع به - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولو كان في أمر غير واجب التأسي بفعل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كيف يترك بالقياس، وهو في الدرجة الرابعة.
م: (ولا يقلب القوم أرديتهم) ، ش: لا يقلب بالتشديد، لأنه للتكثير بخلاف قوله - ويقلب رداءه - فإنه بالتخفيف والأردية جمع رداء، وعدم تقليبهم أرديتهم نحو قولنا قول سعيد بن المسيب وعروة والثوري والليث بن سعد وابن عبد الحكم وابن وهب من المالكية وعند مالك والشافعي وأحمد القوم كالإمام فيه، م: (لأنه لم ينقل أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمرهم بذلك) ، ش: أي لأن الشأن لم ينقل أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر أصحابه بذلك، أي بتقليب الأردية حين كانوا معه في صلاة الاستسقاء.
قيل فيه نظر، لأنه استدلال بالمنع وهو غير جائز، لأنه احتجاج بلا دليل، وأجيب بأن الاستدلال بالنفي إنما لا يجوز إذا لم تكن العلة متعينة، أما إذا كانت فلا بأس به، لأن انتفاء العلة الشخصية تستلزم انتفاء الحكم، ألا ترى إلى قول محمد في ولد المغصوب أنه لا يضمن، لأن اسم المغصوب لم يرد عليه.
فإن قيل: إن القوم قلبوا أرديتهم حين قلب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رداءه، ولم ينكر عليهم أجيب بأن قلبهم هذا كخلعهم النعل حتى رأوه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خلع نعليه، في صلاة الجنازة، فلم يكن ذلك حجة، فكذا هذا.
قلت: لقائل أن يقول لم ينقل عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه عرف ذلك منهم. بل الظاهر أنه لم يعرفهم، لأنه كان مستدبرا لهم، فإذا كان كذلك فلا يصح قياس ذلك على خلع النعال.(3/158)
ولا يحضر أهل الذمة الاستسقاء، لأنه لاستنزال الرحمة، وإنما تنزل عليهم اللعنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[حضور أهل الذمة الاستسقاء]
م: (ولا يحضر أهل الذمة الاستسقاء لأنه) ، ش: أي لأن الاستسقاء، م: (لاستنزال الرحمة) ، ش: أي لطلب نزول الرحمة، م: (وإنما تنزل عليهم اللعنة) ، ش: فلا يستجاب دعاؤهم، أي لطلب نزول الرحمة، قال تعالى: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14] [الرعد: 14] ، وهم أهل السخط واللعنة المطلوب ذلك، وهذا لا خلاف فيه بين أصحابنا ومنع أصبغ خروجهم دفعا للعنة عن شفعاء المسلمين، وبه قال الزهري والشافعي، ولم ير مكحول بخروجهم بأسا.
وقال إسحاق: ولا يؤمرون به ولا ينهون عنه، وجوز القاضي من المالكية والظاهرية والشافعي خروجهم منفردين إخفاء لشعارهم، ومنعه ابن حبيب كيلا يحصل السقي في يومهم فيفتن الناس، ولو خرجوا مع أنفسهم إلى بيعهم أو كنائسهم أو إلى الصحراء لم يمنعوا من ذلك، وفي " المرغيناني " يخرجون ثلاثة أيام، وفي " المحيط " و " البدائع " و " التحفة " متتابعات مشاة في ثياب خلق أو مرقعة أو غسيلة متذللين متواضعين منه ناكسي رءوسهم ويقدمون الصدقة في كل يوم قبل خروجهم.
وذكر النووي أنهم يصومون ثلاثة أيام ويدعون في يومهم الرابع، وفي " تهذيب زوائد الروضة " إذا تأخرت الإجابة، هل يخرجون من الغد؟ نقل المزني الجواز، وفي القديم الاستحباب، وفي خزانة الأكمل عن أبي يوسف أنه قال أحسن سماعنا فيه أن يصلي الإمام ركعتين جاهرا بالقراءة مستقبلا القبلة بوجهه قائما على الأرض دون المنبر متكئا على قوس يخطب بعد الصلاة بخطبتين، فإن خطب خطبة واحدة فحسن، فإذا مضى صدر خطبته حول رداءه، وفي " منية المفتي " إن اتكأ على عصى أو قوس كان حسنا، وفي الأسبيجابي: متنكبا قوسه، معناه يجعلها على منكبيه، قال وذكر الكرخي أنه يعتمد على قوسه، وفي " مختصر الكرخي " يعتمد على قوس أو سيف أو عصى، لأنه يعينه على طول القيام.
وفي " الذخيرة " للمالكية لا يخرج المنبر، ولكن يتوكأ على عصى، وأول من أحدث المنبر من طين عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وفي " البدائع " ولا يصعد المنبر ولو كان في موضع الدعاء، وفي " الجواهر " يستحب أن يأمرهم الإمام قبلها بالقربة ورد المظالم وتحليل الناس بعضهم من بعض، لأن الذنوب سبب المصائب، وفي " الدراية " والمستحب أن يصلي صلاة الاستسقاء في مصلى العيد، ويستحب إخراج الأطفال، والشيوخ الكبار، والعجائز اللاتي لا هيئة لهن. وفي " المحيط " لا يخرج المنبر، بل يقوم الإمام والناس قعود، وإن أخرج لاستسقاء الإمام جاز.(3/159)
باب صلاة الخوف إذا اشتد الخوف جعل الإمام الناس طائفتين: طائفة إلى وجه العدو، وطائفة خلفه، فيصلي بهذه الطائفة ركعة وسجدتين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب صلاة الخوف] [مشروعية صلاة الخوف وكيفيتها]
م: (باب صلاة الخوف) ش: أي هذا باب في بيان صلاة الخوف، والمناسبة بين البابين من حيث إنهما شرعا بالعارض لكن قدم الاستسقاء لأن العارض فيه سماوي وهو انقطاع المياه، وهاهنا اختياري وهو الجهاد الذي بسبب كفر الكافر.
م: (إذا اشتد الخوف جعل الإمام الناس طائفتين) ، ش: هذه العبارة للقدوري، والمصنف تبعه واشتداد الخوف ليس بشرط عند عامة العلماء من أصحابنا، فإنه جعل في " التحفة " و " المبسوط " و " المحيط " سبب جوازها نفس قرب العدو من غير ذكر الاشتداد، وفي " مبسوط شيخ الإسلام " المراد بالخوف حضرة العدو لا حقيقة الخوف، لأن حضرة العدو أقيم مقام الخوف، كما في تعلق الرخص بنفس السفر، فعلى هذا إذا رأوا سوادا فظنوا أنه العدو وصلوا صلاة الخوف، فإن بين أنه العدو فصلاتهم جائزة، وإن بين أنه سواد إبل أو بقر أو غنم فصلاتهم غير جائزة.
قوله - جعل الإمام الناس طائفتين - هذا إنما يحتاج إليه إذا تنازع القوم في الصلاة خلف إمام واحد، أما إذا لم يتنازعوا فالأفضل للإمام أن يجعل القوم طائفتين، فيصلي كل طائفة بإمام، فطائفة يقومون بإزاء العدو، وطائفة يصلي بهم إمامهم تمام صلاتهم ثم يقومون بإزاء العدو، ويصلي رجل من الطائفة التي كانوا بإزاء العدو صلاتهم تمامها.
م: (طائفة إلى وجه العدو) ، ش: ويجوز في طائفة النصب والرفع، أما النصب فعلى تقدير جعل طائفة، وأما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير أحدهما طائفة إلى وجه العدو، م: (وطائفة خلفه) ، ش: بالوجهين أيضا نحوه.
م: (فيصلي) ، ش: أي الإمام، م: (بهذه الطائفة) ، ش: وهم الذين جعلهم خلفه، م: (ركعة وسجدتين) ، ش: قيد بهذا احترازا عن قول بعض العلماء أنه إذا سجد سجدة واحدة سجد معه الصف الأول، ويحرسهم الصف الثاني من العدو، ثم يتأخر هذا الصف، ويتقدم الصف الثاني فيسجد بهم السجدة الثانية، ويحرسهم الصف الأول من العدو، ثم يصلي الركعة الثانية على هذا الوجه ويتشهد ويسلم بهم وتمسكوا بظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] [النساء: 102] قلنا: السجدة المطلقة تنصرف إلى الكامل المعهود وهو السجدتان.
فإن قلت: قوله - ركعة - كان يكفي، لأن الركعة يتم سجدة، ولم يحتج إلى ذكر السجدتين.(3/160)
فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية مضت هذه الطائفة إلى وجه العدو وجاءت تلك الطائفة فيصلي بهم الإمام ركعة وسجدتين وتشهد وسلم، ولم يسلموا وذهبوا إلى وجه العدو، وجاءت الطائفة الأولى فصلوا ركعة وسجدتين وحدانا بغير قراءة؛ لأنهم لاحقون وتشهدوا وسلموا ومضوا إلى وجه العدو وجاءت الطائفة الأخرى وصلوا ركعة وسجدتين بقراءة لأنهم مسبوقون وتشهدوا وسلموا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: ذكر سجدتين تأكيدا لرفع هذا الاحتمال.
م: (فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية مضت هذه الطائفة) ، ش: وهم الذين صلى بهم ركعة وسجدتين، م: (إلى وجه العدو) ، ش: بحيث لا يلحقهم سهام العدو، م: (وجاءت تلك الطائفة) ، ش: وهم الذين كانوا واقفين تجاه العدو، م: (فيصلي بهم الإمام ركعة وسجدتين وتشهد وسلم ولم يسلموا) ، ش: لأنه بقيت عليهم ركعة وسجدتان، م: (وذهبوا إلى وجه العدو) ، ش: ويقفون تجاههم.
م: (وجاءت الطائفة الأولى) ، ش: وهم الذين صلى بهم أولا ركعة وسجدتين، م: (وصلوا ركعة وسجدتين وحدانا) ، ش: يعني منفردين، وانتصابه على الحال، م: (بغير قراءة) ، ش: يعني لا يقرءون، م: (لأنهم لاحقون) ، ش: واللاحق ليس عليه قراءة، م: (وتشهدوا وسلموا ومضوا إلى وجه العدو) ، ش: ويقفون تجاههم، م: (وجاءت الطائفة الأخرى وصلوا ركعة وسجدتين بقراءة؛ لأنهم مسبوقون) ، ش: وللمسبوق عليه القراءة، لأنه في حكم المنفرد فيما عليه من الصلاة.
م: (وتشهدوا وسلموا) ، ش: فتمت صلاة الطائفتين بهذا الوجه.
وقال مالك: إذا صلى بالطائفة الأولى ركعة وسجدتين وقف حتى تتم هذه الطائفة صلاتها ويسلموا قبل إمامهم ويذهبون إلى وجه العدو، وتأتي تلك الطائفة التي لم تصل فيصلي بهم الإمام الثانية وتسلم وتذهب إلى وجه العدو. وقول الشافعي وأحمد مثله، إلا أنه لا يسلم الإمام عندهما، بل يقف منتظرا حتى تتم الطائفة الثانية صلاتها فيسلم بهم.
وقال النووي: ثم إذا قام الإمام إلى الثانية يقرأ ويطيل القراءة حتى تأتي الطائفة الثانية ولا يعتد بهذه القراءة الطويلة، حتى إذا جاءت الطائفة الثانية يقرأ معها الفاتحة وسورة قصيرة في أحد القولين، وهو في " الإملاء "، وقال في إمام لا يقرأ بل يسبح ويذكر الله حتى تأتي الطائفة الثانية، والطائفة الثانية إذا صلى بهم الركعة الثانية فارقوه ليتموا الركعة الباقية عليهم ولا ينوون مفارقته.
واتفقوا على أن الطائفة الأولى إذا صلت الركعة الأولى مع الإمام تنوي مفارقة الإمام وتمت صلاتها وتذهب إلى وجه العدو، وفي " المستصفى " للشافعية ثلاثة أقوال في قول مثل قولنا، وفي قول يصلي بالطائفة التي معه تمام الصلاة ثم تجيء الطائفة الأخرى فصلى بهم مرة أخرى، فإن عنده اقتداء المفترض بالمتنفل جائز، وفي قول وهو المشهور منه يصلي بالطائفة الأولى ركعة(3/161)
والأصل فيه رواية ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الخوف على الصفة التي قلنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيقوم ويقف ولا يقرأ، ويمد القيام في انتظار الطائفة الأخرى كذا ذكره المزني، ويصلي بهذه الطائفة تمام صلاتهم، لكن ينبغي أن ينووا مفارقته ويسلمون حتى تجيء الطائفة الأخرى، فيصلي بهم ركعة ولا يسلم، بل يمكث جالسا حتى تصلي هذه الطائفة تمام صلاتهم من غير نية المفارقة، ثم يسلم الإمام ويسلمون معه، كذا في خلاصتهم والوجيز.
وقال أبو بكر بن العربي في " العارضة ": قد رويت عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في صلاة الخوف روايات كثيرة، أصحها ست عشرة رواية مختلفة، وفي " القبس شرح الموطأ "، صلاها رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أربعا وعشرين مرة، وذكر بعضهم أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -[صلاها] في عشرة مواضع.
والذي استقر عند أهل السير والمغازي أربعة مواضع؛ ذات الرقاع عند البخاري ومسلم، عن سهل بن حثمة، وبطن نخلة عند النسائي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعسفان عن أبي داود والنسائي عن جابر أيضا. وذي قرد عن النسائي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وروى الواقدي في " المغازي " حديث سعيد بن عثمان عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله قال: أول ما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف [في] غزوة ذات الرقاع، ثم صلاها بعد بعسفان بينهما أربع سنين، قال الواقدي: وهذا عندنا أثبت من غيره، قيل وأغربها ما رواه مسلم عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى بكل طائفة ركعتين، فكانت للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أربعا ولهم ركعتان ركعتان.
ومن أغربها ما رواه أبو داود عن حذيفة بن اليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى بكل طائفة ركعة ثم يسلم ولم يقضوا» . وروي عن ابن عباس والحسن وإسحاق بن راهويه أن صلاة الخوف ركعة، ونقل عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وطاوس والضحاك مثله، لكن نقل أبو حامد عن هؤلاء أن الفرض على الإمام ركعتان، وعلى المأمومين ركعة والذي نقله الجمهور عنهم أن الواجب على الكل ركعة.
قال النووي: مذهب العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن الخوف لا يوجب القصر، وقال الأسبيجابي: الخوف لا يوجب قصر الصلاة، ويجوز المشي والانتقال، وقال الحسن البصري: يصلي الإمام المغرب ستا والقوم ثلاثا.
م: (والأصل فيه) ش: أي في هذا الباب م: (رواية ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى صلاة الخوف» على الصفة التي قلنا) ش: يعني أنه جعل الناس طائفتين، طائفة خلفه وطائفة في وجه العدو إلى آخر ما ذكرناه، وحديث ابن مسعود رواه أبو داود، وحدثنا عمران(3/162)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن مسيرة، ثنا ابن فضيل، ثنا خصيف عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود، قال: «صلى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلاة الخوف فقاموا صفا خلف رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وصفا يستقبل العدو، فيصلي بهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ثم جاء الآخرون فقاموا مقامهم واستقبل هؤلاء العدو فصلى بهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ركعة، ثم سلم فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبل العدو، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا» .
وروى البيهقي أيضا، وقال أبو عبيدة: لم يسمع من أبيه، وخصيف ليس بالقوي.
قلت: أبو عبيدة اسمه عامر بن عبد الله ثقة، أخرج له البخاري محتجا به في غير موضع. وروى له مسلم وغيره، وخصيف بضم الخاء المعجمة ابن عبد الرحمن وثقه أبو زرعة، وابن مغيرة وابن سعد. وقال النسائي: صالح.
وفي " المبسوط " روى سالم عن ابن عمر «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى بالطائفتين» كما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قلت: حديث ابن عمر أخرجه الأئمة الستة في كتبهم، واللفظ للبخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، قال: «غزوت مع رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قبل نجد فوازينا العدو فصاففنا لهم فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بنا فقامت طائفة معه، فصلى وأقبلت طائفة على العدو وركع رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بمن معه وسجد سجدتين ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاءوا فركع رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بهم ركعتين وسجد سجدتين ثم سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه وسجد سجدتين» وقال القرطبي في شرح مسلم: والفرق بين حديث ابن عمر وحديث ابن مسعود أن في حديث ابن عمر كان قضاؤهم، في حالة واحدة، ويبقى الإمام كالحارس وحده. وفي حديث ابن مسعود كان قضاؤهم متفرقا عل صيغة صلاتهم.
واستدل السروجي لأصحابنا بحديث ابن عمر هذا، وفي حديث ابن عمر لم يذكر كيفية قضائهم، فحمل على تفسير ابن مسعود، فإنه نص في الكيفية، وهكذا نص أشهب من المالكية على تفسيره، واختاره موافقا لمذهبهم، وقال ابن حبيب: قضوا معا، وهو باطل.
واحتج الشافعي وأحمد بحديث صالح بن خوات بن جبير عن سهل بن أبي حثمة «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلاهما» كمذهبهما، في غزوة ذات الرقاع في صحيحي البخاري ومسلم، ورواه مالك مرفوعا، ورجح موقوفه على سهل بن أبي حثمة على مرفوعه، [....
..] ،(3/163)
وأبو يوسف وإن أنكر شرعيتها في زماننا فهو محجوج عليه بما روينا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال النووي: صالح تابعي، وخوات صحابي، وذات الرقاع بكسر الراء موضع قبل نجد من أرض غطفان، وقيل سميت باسم شجر هناك، وقيل اسم جبل فيه بياض وحمرة وسواد، وقيل: الرقاع كانت في ألويتهم. وقال النووي: ولو فعل [....
..] رواية ابن عمر، ففي صحته قولان، والصحيح المشهور صحته، وقال الغزالي: قال بعض أصحابنا بعيد. وقال النووي أيضا: وغلط في شيئين، أحدهما نسبته إلى بعض الأصحاب، بل نص عليه الشافعي في الجديد وفي الرسالة، والثاني تضعيفه.
قلت: هم يقولون قال الشافعي إذا صح الحديث فهو مذهبي، وأي شيء يكون أصح من حديث ابن عمر، وقد خرجته الجماعة. وقال الغزالي في " الوسيط ": له رواية خوات بن جبير وهو غلط، وإنما الراوي ابنه صالح عن سهل حيثما خرجه الشيخان. وجعل المازري حديث ابن عمر قول الشافعي وأشهب، وحديث جابر قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هكذا في العلم وهو سهو فيهما، ثم قال: ولا معنى للأخذ به إلا إذا كان العدو بينهم وبين القبلة.
قلت: بل أخذ أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأصحابه وأشهب برواية ابن عمر والشافعي برواية سهل بن أبي حثمة. وقال القدوري في " شرح مختصر الكرخي " وأبو نصر البغدادي في " شرح مختصر القدوري " الكل جائز، وإنما الخلاف في الأولى، ثم الركوب في حالة الذهاب والمجيء، إذا كانوا نزولا، ولا يجوز بأن كان قريبا من العدو.
وفي " التحفة " فإن انصرفوا ركبانا لا تصح صلاتهم سواء كانوا من القبلة إلى العدو أو من العدو إلى القبلة، وهو جواب ظاهر الرواية عن أصحابنا. وفي " المرغيناني " إن ركب واحد منهم عند انصرافه إلى العدو فسدت صلاته، وفي " المبسوط " من ركب منهم عند انصرافه إلى وجه العدو فسدت صلاته، لأن الركوب عمل كثير، بخلاف المشي إلى العدو للضرورة.
م: (وأبو يوسف وإن أنكر شرعيتها في زماننا فهو محجوج عليه بما روينا) ش: الكلام هنا في موضعين. الأول: في معنى التركيب، وهو أن قوله وأبو يوسف..إلخ جملة معطوفة على ما قبلها، لأن قوله أبو يوسف مبتدأ وخبره الجملة، أعني قوله فهو محجوج عليه بما روينا ودخول الفاء فيها لتعلق الجملة الشرطية بالمتبدأ، والواو في قوله وإن أنكر عطف على مقدر تقدير الكلام: وأبو يوسف لم ينكر شرعية صلاة الخوف وإن أنكر فهو محجوج عليه بما روينا، ولكن كلامه لا يخلو عن نظر، لأن أبا يوسف لم ينكر مشروعية صلاة الخوف في زمان الرسول حتى يكون حديث ابن مسعود حجة عليه، لأن مراده بما روينا هو حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي قال والأصل فيه رواية ابن مسعود بل يمكن أن يقال هو محجوج عليه بأحاديث مذكورة في غير هذا الموضع:(3/164)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منها: حديث سعيد بن العاص، رواه أبو يعلى وأبو داود [....
..] ثنا يحيى عن سفيان حدثني الأشعث بن سليم عن الأسود بن هلال «عن ثعلبة بن زهدم، قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقام فقال: أيكم صلى مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا وأخرجه أيضا النسائي،» وسعيد بن العاص كان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - استعمله على الكوفة وغزا بالناس بطبرستان ففتحها، وهي بلاد كثيرة المياه والأشجار شرقي كيلان.
ومنها: ما رواه أبو داود وغيره عن عبد الرحمن بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ثنا مسلم بن إبراهيم ثنا عبد الصمد بن حبيب قال: أخبرني أبي أنهم غزوا مع عبد الرحمن بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كابل، فصلى بنا صلاة الخوف، وكابل بضم الباء الموحدة ناحية من ثغور طخارستان متاخم للهند.
ومنها: ما رواه البيهقي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه صلاها بصفين وغيرها، وقال: ويذكر جعفر بن محمد بن أبيه أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - صلى المغرب صلاة الخوف ليلة الهرير.
ومنها: ما رواه أيضا من طريق قتادة عن أبي العالية عن أبي يوسف أنه صلى صلاة الخوف، فهؤلاء الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أقاموها بعد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من غير إنكار أحد، فحل محل الإجماع.
1 -
الموضع الثاني: أن العلماء اختلفوا في مشروعية صلاة الخوف بعد رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فالجمهور على مشروعيتها، وذهب الحسن بن زياد اللؤلؤي والمزني وأبو يوسف في رواية أنها غير مشروعة الآن، أما الحسن فالحجة عليه ما ذكرنا من حديث حذيفة مع سعيد بن العاص، وأما المزني فعلل بالنسخ في زمان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حيث أخرها يوم الخندق، وهو مردود بما روي عن هؤلاء الصحابة ويوم الخندق متقدم على المشهور، فكيف ينسخ المتأخر، ذكره النووي وغيره.
وأما أبو يوسف فإنه علل بقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102] [النساء: 102] ، فقد شرط كونه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيهم لإقامتها، ولأن الناس كانوا يرغبون في الصلاة خلفه ما لا يرغبون خلف غيره، فشرعت بصفة الذهاب والمجيء على خلاف القياس، لينال كل فريق فضيلة الصلاة خلفه، وقد ارتفع هذا المعنى بعده، فلا يجوز أداؤها بصفة الذهاب والمجيء.(3/165)
فإن كان الإمام مقيما صلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالطائفة الثانية ركعتين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأجاب الجمهور في الرد عليه بما فعله الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - بعده - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأن سببها الخوف، وهو يتحقق بعده - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كما في حياته، ولم يكن ذلك دليلا لنيله فضيلة الصلاة خلفهن لأن ترك المشي وترك الاستدبار فريضة، والصلاة خلفه فضيلة فلا يجوز ترك الفريضة لإحراز الفضيلة، ثم الآن يحتاجون إلى فضيلة تكثير الجماعة، فإنها كلما كانت أكثر كانت أفضل.
ومعنى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] ... إلخ، أنت أو من يقوم مقامك في الإقامة، كما في قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] [التوبة: 103] ، وقد يكون الخطاب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يختص به كما هو في قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] (الطلاق: الآية1) كذا في " المحيط "، و " المبسوط " مع أن الأصل عندنا أن تعليق الحكم بالشرط لا يوجب عدمه عند عدم الشرط، بل هو موقوف على قيام الدليل، وقد قام الدليل، وهو فعل الصحابة بعد وفاته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على وجود الحكم، أو نقول لما جاز للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بعذر فجاز لغيره بذلك العذر، كصلاة المريض.
ثم اختلف الأصحاب في نقل هذا القول عن أبي يوسف فقال في " المبسوط "، و " ملتقى البحار " إنه قوله الثاني وقد رجع إليه، وفي " المحيط " و " زيادات الشهيد "، وفي " المرغيناني " أطلقت الرواية عنه من غير تعرض إلى كونه قوله الأول والثاني، وفي " المفيد " و " المزيد " و " شرح مختصر الكرخي " و " شرح مختصر القدوري " لأبي نصر البغدادي أن هذا قوله الأول وقد رجع عنه، ثم اعلم أن الخوف لا يؤثر في نقصان عدد الركعات إلا عند ابن عباس والحسن البصري وطاوس، حيث قالوا: إنها ركعة، وقد ذكرناه.
م: (فإن كان الإمام مقيما صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وبالطائفة الثانية ركعتين) ش: وإنما اختص الإمام لأنه لو كان مقيما تصير صلاة من اقتدى به أربعا، ولأن الإمام هو الخليفة أو السلطان، وفي الأداء يعبتر نيته لا نية الجند، وبقولنا قال الشافعي وأحمد ومالك في المشهور، وعن مالك لا تجوز صلاة الخوف في الحضر، وقال أصحابه يجوز، خلافا لابن الماجشون، فإنه قال: لا يجوز. ونقل النووي عن مالك عدم جوازها في الحضر على الإطلاق غير صحيح، فإن المشهور عنده الجواز كما ذكرنا، وقال ابن حزم: يصلي في الحضر بكل طائفة أربع ركعات، وفي المغرب يصلي بكل طائفة ثلاثا.
والثانية للإمام تطوع، ولو جعلهم في العصر أربع طوائف يصلي بكل طائفة ركعة فسدت صلاة الطائفة الأولى والثانية، لأنها انصرفت في غير أوان الانصراف، فلا مرخص لها فيه، وصحت صلاة الثالثة، والرابعة.(3/166)
لما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر بالطائفتين ركعتين ركعتين»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أما الثالثة: فلأنها من الطائفة الأولى لإدراكها الشفع الأول، فقد انصرفت في أوانه.
وأما الرابعة: فلأنها من الطائفة الثانية لأنها أدركت الشفع الثاني فقد انصرفت أيضا في أوانه.
[ما يفعل المسبوق في صلاة الخوف] 1
ومن صلى صلاته ثم قام يقضي ما فاته خلف الإمام يقرأ فيما سبق، لأنه منفرد فلا يقرأ فيما لحق، لأنه خلف الإمام حكما، وتقدم ما لحق على ما سبق، وإذا لم يقرأ اللاحق يقف بقدر قراءة الإمام، وإن وقف أقل أو أكثر فلا بأس به، وفي " المنافع " يقوم بقدر ما يطلق عليه اسم القيام. وقال النووي في " شرح المهذب ": إذا صلى بكل فرقة ركعة وانتظر فراغها، ويجيء التي بعدها، ففي جوازها قولان، ويبنى عليها صحة صلاة الإمام، ووجه البطلان زيادة الانتظار.
وفي " المغني " لابن قدامة: لا تصح صلاة الأولى والثانية، لأنهما فارقتاه بعذر، وبطلت صلاة الثالثة والرابعة إذا علمنا ببطلان صلاتهما، وفي " المرغيناني ": لو كان الإمام مسافرا والقوم مقيمين، صلى بالطائفة الأولى التي معه ركعة، فانصرفوا إلى جهة العدو، وصلى بالطائفة الثانية ركعة وسلم، ثم جاءت الطائفة الأولى، فصلى ثلاث ركعات بغير قراءة، أما الركعة الثانية فلا شك في أنهم لا يقرءون فيهما لأنهم خلف الإمام حكما، وفي الآخرتين منفردين فيهما، وذكر الحسن في " المجرد " أنهم يقرءون فيهما.
وذكر السرخسي بأن المقيم خلف المسافر لا تلزمه القراءة فيما يقضي رواية واحدة، وإن كان القوم فيهم مسافرا أيضا يصلي بالأولى ركعة، فمن كان مسافرا بقي له ركعة، ومن كان مقيما بقي له ثلاث ركعات، ثم ينصرفون إلى جهة العدو وترجع الطائفة الأولى إلى مكان الإمام، فمن كان منهم مسافرا يصلي ركعة بغير قراءة، ومن كان مقيما يصلي ثلاثا بغير قراءة في ظاهر الراوية وفي رواية الحسن يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب، ولا يقرأ في الأولى، فإذا أتمت الطائفة الأولى صلاتها ذهبت إلى وجه العدو، وتجيء الثانية إلى مكان صلاتها، فمن كان منهم مسافرا يصلي ركعة بقراءة، ومن كان مقيما يصلي ثلاث ركعات، الأولى بفاتحة الكتاب وسورة والأخريين بفاتحة الكتاب على الروايات كلها. م: (لما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى الظهر بالطائفتين ركعتين ركعتين» ش: هذا الحديث رواه مسلم «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: أقبلنا على رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حتى إذا كنا بذات الرقاع.. الحديث وفيه: ثم نودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، قال: فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع ركعات، وللقوم ركعتان، وليس فيه ذكر الظهر» وهو عند أبي داود وأخرجه بسند صحيح عن الحسن عن أبي بكر. قال: «صلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في خوف الظهر، فصلى بعضهم خلفه، وبعضهم(3/167)
ويصلي بالطائفة الأولى من المغرب ركعتين وبالثانية ركعة واحدة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بإزاء العدو، فصلى ركعتين، ثم سلم فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه، فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعا، ولأصحابه ركعتين ركعتين» .
واعلم أن هذا الحديث صريح في أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سلم في ركعتين، وحديث جابر ليس صريحا فلذلك حمله بعضهم على حديث أبي بكرة، ومنهم النووي، ومنهم من لم يحمله عليه، ومنهم القرطبي، وقال المنذري في " مختصره ": قال بعضهم: كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في بعض سفر غير حكم سفر وهم مسافرون. وقال بعضهم: هذا خاص بالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لفضيلة الصلاة خلفه، وقيل: فيه دليل على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل واعترض بأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لم يسلم في الفرض كما في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقيل: إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كان مخيرا بين القصر والإتمام في السفر، فاختار الإتمام واختار لمن خلفه القصر. وقال بعضهم: كان في حضر ببطن نخلة على باب المدينة، وكان خائفا فخرج منه محترسا. وقيل قد يتقوى هذا بحديث أخرجه البيهقي في " المعرفة " من طريق الشافعي: أخبرنا الفقيه ابن علية أو غيره عن يونس عن الحسن عن جابر «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن نخلة فصلى بطائفة ركعتين، ثم سلم. ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم» . وأخرج الدارقطني عن عتيبة عن الحسن عن جابر «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان محاصرا يحارب فنودي بالصلاة، فذكره نحوه» والأول أصح إلا أن فيه شائبة الانقطاع، قال: شيخ الشافعي مجهول.
وأما الثانية ففيه عيينة بن سعيد القطان الواسطي ضعفه غير واحد وقيل لم يحفظ عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه صلى صلاة الخوف قط في حضر، ولم يكن له حرب قط في حضر إلا يوم الخندق، ولم تكن آية الخوف نزلت بعد، ولما ذكر الطحاوي حديث أبي بكرة المذكور، قال محمد: إن يكن ذلك كان وقت كانت الفريضة تصلى مرتين، فإن ذلك كان يفعل أول الإسلام، حتى نهي عنه، ثم ذكر حديث ابن عمر «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى أن يصلى فريضة في يوم مرتين» قال: والنهي لا يكون إلا بعد الإباحة.
م: (ويصلي بالطائفة الأولى، ركعتين من المغرب، وبالثانية ركعة واحدة) ش: وهذا قول عامة أهل العلم. وقال الثوري: يصلي بالطائفة الأولى ركعة، وبالثانية ركعتين، وهو أحد قولي الشافعي، وأصحهما الأول، وصلاها هكذا علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليلة الهرير، بفتح الهاء وكسر الراء من ليالي صفين، سميت بذلك لأنهم كانت لهم هرير عند حمل بعضهم على بعض،(3/168)
لأن تنصيف الركعة الواحدة غير ممكن فجعلها في الأولى أولى بحكم السبق، ولا يقاتلون في حال الصلاة، فإن فعلوا بطلت صلاتهم؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذكر شيخ الإسلام، وقال الشافعي: الإمام في المغرب بالخيار إن شاء صلى مثل مذهبنا، وإن شاء صلى مثل مذهب الثوري، فلو أخطأ الإمام فصلى الأولى ركعة، وبالثانية ركعتين جازت صلاة الإمام، لأنه لم يبرح مكانه.
وقال سحنون: فسدت صلاته، لأنه ترك سنتها، وهو قول الشافعي، وفسدت صلاة الطائفتين، أما الطائفة الأولى فلأنهم انصرفوا في غير أوان انصرافهم وهو مفسد لوجود المشي من غير حاجة، وأما الطائفة الثانية فلأنهم في الأولى لإدراكهم الشطر الأول وقد انصرفوا بعد الثالثة وهو أوان عودهم إليها، فانصرافهم مفسد للإعراض عن العبادة من غير حاجة وعودهم إليها لا يفسد للإقبال على الطاعة، ولو جعلهم ثلاث طوائف، فصلى بالأولى ركعة فانصرفوا، وبالثانية الثانية فانصرفوا، وبالثالثة الثالثة فصلاة الطائفة الأولى فاسدة وصلاة الثانية جائزة ويقضون ركعتين بقراءة والثالثة بغير قراءة لأنه لا حق فيها، والأولى بقراءة لأنه مسبوق فيها، ولو أنه صلى بثلاث طوائف بكل طائفة ركعة، فصلاة الإمام تامة، وصلاة الطائفة الأولى فاسدة، وصلاة الطائفة الثانية والثالثة صحيحة.
م: (لأن تنصيف الركعة الواحدة غير ممكن) ش: تعليل لما قبله، وتقرير هذا أن الأصل إن صلى الإمام بكل طائفة شطر الصلاة وشطر المغرب ركعة ونصف، فيثبت حق الطائفة الأولى في نصف ركعة وتنصيفها غير ممكن، لأنها لا تتجزأ، فيثبت حقهم في كلها م: (فجعلها في الأولى أولى بحكم السبق) ش: هذا كأنه جواب عن سؤال مقدر، تقديره أن يقال إذا كان الأمر كذلك فما وجه تخصيص الطائفة الأولى بركعتين، فأجاب بقوله فجعلها، أي جعل الركعة الواحدة التي هي الركعة الثانية في الأولى، أي في الطائفة الأولى أحق بحكم السبق، وفيه مدرك آخر وهو أن الركعة الثانية أعطيت حكم الركعة الأولى في وجوب القراءةوضم السورة والجهر بالقراءة دون الركعة الثالثة، والطائفة الأولى هي المختصة بالركعة الأولى دون الطائفة الثانية.
م: (ولا يقاتلون في حال الصلاة) ش: وبه قال ابن أبي ليلى، وقال الشافعي: يقاتلون وعليهم الإعادة. وقال ابن سريج: لا إعادة عليهم، وفي " الغاية " وللشافعية ثلاثة أوجه: الأول: تبطل، رجحه صاحب المهذب والبندنيجي، ووافقهما في الترجيح كثير من العراقيين.
الثاني: لا تبطل، الثالث: إن كرر في شخص تبطل. وقراءة الحاضر في " اشتراط الجواهر " للمالكية في صلاة المسابقة خوف فوات الوقت وجوازها مع القتال والمطاردة، واختاره ابن المنذر.
م: (فإن فعلوا) ش: أي فإن فعلوا القتال في الصلاة م: (بطلت صلاتهم) ش: وقال الشافعي(3/169)
لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شغل عن أربع صلوات يوم الخندق، ولو جاز الأداء مع القتال لما تركها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومالك: ولا تبطل لظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] [102 النساء] ، والأمر بأخذ السلاح لا يكون إلا للقتال، ولهذا يجب أخذ السلاح في صلاة الخوف عند الشافعي في قول إن كان في وضعه خطر، وإن كان الظاهر السلامة يستحب، وبه قال أحمد وداود.
واحتج المصنف لأصحابنا بقوله م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شغل عن أربع صلوات يوم الأحزاب ولو جاز الأداء مع القتال لما تركها) ش: أي لما ترك أربع صلوات مع القتال، وفيه نظر، لأن صلاة الخوف ما شرعت بعد يوم الأحزاب.
فإن قلت: روي عن ابن إسحاق والواقدي أن غزوة ذات الرقاع كانت قبل غزوة الخندق، وقد صلى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، وقال الأترازي: فثبت أن صلاة الخوف كانت شرعت قبل الخندق، فلما ترك رسول الله عليه الصلاة السلام يوم الخندق لأجل القتال، دل أن القتال يمنع الصلاة.
قلت: قال البيهقي: لا حجة لهم، لأن صلاة الخوف إنما شرعت بعد الخندق، وقد جاء التصريح في طريق الحديث، بأن صلاة يوم الأحزاب كانت قبل نزول صلاة الخوف، رواه النسائي في سننه وابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما، والبيهقي في سننه والشافعي وأبو يعلى والدارمي في مسانيدهم كلهم عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري «عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال: جئنا يوم الخندق، فذكره إلى أن قال: وذلك قبل أن ينزل {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] [البقرة: 239] » .
1 -
وقال القاضي عياض في " الشفاء ": والصحيح أن حديث الخندق كان قبل نزول الآية فهي ناسخة، ويمكن أن يعتذر عن المصنف في احتجاجه بالحديث المذكور بأنه اعتد ما روي عن الواقدي، لأن هذا مختلف فيه، فعن هذا قال النووي: قيل إنها أي أن صلاة الخوف شرعت في غزوة ذات الرقاع، وهي سنة خمس من الهجرة. وقيل: إنها شرعت في غزوة بني النضير، والحديث المذكور تقدم في باب قضاء الفوائت ويوم الأحزاب هو يوم حفر الخندق في المدينة، والأحزاب هم الذين ذكرهم الله في قوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب: 10] [الأحزاب: الآية10] وذلك أن أهل مكة جمعوا الأعراب وأتوا المدينة من فوق الوادي من قبل المشرق بنو غطفان، ومن أسفل الوادي من قبل المغرب قريش فتحزبوا وقالوا: سنكون جملة واحدة حتى نناضل محمدا، فأرسل الله عليهم ريح الصبا في ليلة شاتية فسفت التراب في وجوههم وقلعت الملائكة الأوتاد وقطعت الأطناب، وأطفئت النيران وأكفئت القدور، وماجت الخيل بعضها في بعض، وقذف في قلوبهم الرعب، وكبرت الملائكة في جوانب عدتهم فانهزموا من غير قتال.(3/170)
فإن اشتد الخوف صلوا ركبانا فرادى يومئون بالركوع والسجود إلى أي جهة شاؤوا إذا لم يقدروا على التوجه إلى القبلة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] (البقرة: الآية 239] ، وسقط التوجه للضرورة. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنهم يصلون بجماعة، وليس بصحيح لانعدام الاتحاد في المكان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحين سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة - أشار عليه بذلك سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واشتد الخوف، وظن المؤمنون كل الظن، وقال بعض المنافقين كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر، ولا يقدر أن يذهب إلى الغائط، وكانوا ثم قريبا من شهر حتى أنزل الله النصر، وذلك قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} [الأحزاب: 9] أي ريح الصبا {وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] أي جنود الملائكة، إلى قَوْله تَعَالَى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] [الأحزاب: 25] أي بالريح والملائكة، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» .
م: (فإن اشتد الخوف) ش: يعني إذاكان الخوف أشد من الأول، بحيث لا يتهيأ لهم النزول عن الدابة لأجل هجوم العدو عليهم م: (صلوا ركبانا) ش: أي حال كونهم راكبين م: (فرادى) ش: أي منفردين م: (يومئون بالركوع والسجود إلى أي جهة شاؤوا) ش: ويجعلون السجود أخفض من الركوع م: (إذا لم يقدروا على التوجه إلى القبلة) ش: هذا قيد إلى قوله إلى أي جهة شاؤوا.
وفي " الذخيرة ": إذا اشتد الخوف صلوا رجالا قياما على أقدامهم، أو ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبيلها، وقال القاضي عياض في " الإكمال ": لا يجوز ترك استقبال القبلة فيها عند أبي حنيفة، وهو غلط منه، ولا يجوز في جماعة عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وبه قال ابن أبي ليلى.
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] (البقرة: 239) ش: أي فإن كان بكم خوف من عدو فصلوا رجالا، أي راجلين، وهو جمع راجل، وهو الماشي لا جمع رجل، قوله {أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] يجوز بالإيماء م: (وسقط التوجه) ش: أي إلى القبلة م: (للضرورة) ش: أي لأجل الضرورة م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أنهم) ش: أي أن الركبان م: (يصلون بجماعة) ش: يعني عند محمد يجوز، وبه قال الشافعي م: (وليس بصحيح) ش: أي ما قاله محمد ها هنا، بخلاف ظاهر الراوية وهو غير صحيح م: (لانعدام الاتحاد في المكان) ش: أي في مكان الصلاة، وهذا لا يلزم الفصل بين المقتدي وبين الإمام بما ليس بمكان للصلاة، فلا يجوز كما لو كان بينهما نهر أو طريق أو حائط.
وإن صلوا ركبانا والدابة تسير تجوز، والأصل أن كل صلاة تجوز راكبا تجوز مع السير كالنفل، وفي " المحيط " ولأن السير فعل الدابة حقيقة، وإنما أضيف إليه بمعنى فإذا جاء العدو(3/171)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
انقطعت الإضافة إليه، بخلاف ما إذا صلى وهو يمشي حيث تفسد صلاته، لأن المشي فعل حقيقة، وهو مناف، بخلاف الذاهب إلى وجه العدو، لأنه ليس بمصل في تلك الحال، بل هو في حرمة الصلاة.
وفي " زيادات الشهيد ": لا تجوز بالإيماء في المصر عند أبي حنيفة، وعن أبي يوسف تجوز في حالة المشي بالإيماء، وبه قال مالك والشافعي، ويصلون ركبانا ومشاة في جماعة، والخوف من العدو والسبع سواء، فالخائف من السبع إذا لم يستطع النزول عن دابته يصلي بالإيماء، كالخائف من العدو، وكذلك السابح في البحر، لأن فعلهما ينافي الصلاة فصار كالأكل.
والراكب لا يصلي في حال السير إذا كان طالبا، لعدم الضرورة، وإن كان مطلوبا يصلي للضرورة، وإذا رأوا سوادا ظنوا أنه عدو فصلوا صلاة الخوف فإذا هو إبل أو بقر أو غنم فعليهم الإعادة، وبه قال الشافعي في قول أحمد. واختاره المزني، وفي قول لا يجب عليهم الإعادة، وبه قال مالك. ولو كان ماشيا هاربا من العدو فحضرته الصلاة ولم يمكنه الوقوف لا يصلي ماشيا، وعند الشافعي يصلي بالإيماء في تلك الحالة ثم يعيد. والفرض على الدابة بعذر المطر واللص، وفي البادية تجوز إذا لم يقدروا على صلاة الخوف على ما وصفن آخرها، ولا يصلون صلاة غير مشروعة، وعن مجاهد وطاوس والحكم والحسن وقتادة والضحاك يصلون صلاة الخوف لركعة واحدة يومئون إيماء.
وروي هذا عن جابر أيضا، وقال الضحاك: فإن لم يقدروا يكبرون تكبيرتين، حيث كان وجههم، وقال إسحاق: إن لم يقدروا فتكبيرة واحدة.
أخذ الأسلحة ليس بواجب، وأخذها لا يفسد صلاته بالنص، وبه قال مالك وأحمد وداود، وعند الشافعي في وجوب أخذ السلاح قولان، والأصح استحبابه وعدم وجوبه، وفي " الوسيط " وكيف ما كان لا تبطل الصلاة بتركه.
ذهب فقهاء الأمصار إلى أن صلاة الخوف تصح بثلاثة أنفس، إمام ومأموم وآخر تجاه العدو. ونقل أبو بكر بن أبي داود عن الشافعي أن كل طائفة أن كل طائفة بثلاثة، ونقل عنه القرافي مثله، وفي " المغني " للحنابلة كل طائفة ثلاثة، وقال ابن حزم: يصليها من خاف من كافر أو مسلم باغ أو سبع أو سيل أو نار أو مجنون، أو حيوان عاد أو خوف عطش أو فوت رفقة أو متاع أو ضلال طريق. قال النووي: هي جائزة في كل قتال ليس بحرام واجبا كقتال الكفار، والبغاة وقطاع الطريق، وكذا الصائل على الإنسان إذا أوجبنا الدفع أو كان مباحا كقتال من قصد أخذ ماله أو مال غيره.(3/172)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولا يجوز في الحرم كقتال أهل العدل، وقتال أهل الأموال لأخذها، وقتال القبائل عصبية، ويجوز للمنهزمين إذا زاد الكفار على الضعف أو كانوا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة، وإلا فلا.
ولو كان عليه القصاص يرجو العفو إذا سكن غضبه فهرب يصلي صلاة الخوف، واستبعده إمام الحرمين، وهذا عند شدة الخوف، وعند مالك وأحمد لا يترخص في كل قتال هو حرام.
وفي " فتاوي المرغيناني " في صلاة الخوف ليست مشروعة في حق العاصي في السفر.
وفي " الزيادات ": لا يجوز الانحراف بعد ذهاب العدو، ولزوال سبب الرخصة، ولو شرعوا فيها ثم حضر العدو جاز الانحراف في أوانه، ولو انحرفوا على ظن العدو، ثم بان أنه إبل بنوا ما لم يجاوزوا الصفوف استحسانا، وفي " المبسوط " لو سها الإمام في صلاة الخوف سجد للسهو وتابعه الطائفة الأولى يسجدون في إتمام صلاتهم.(3/173)
باب الجنائز إذا احتضر الرجل وجه إلى القبلة على شقه الأيمن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الجنائز] [ما يفعل بالمحتضر]
م: (باب الجنائز) ش: أي هذا باب في بيان أحكام الجنازة. وجه المناسبة بين البابين من حيث إن السابق في بيان حالة الخوف، وهذا الباب في أمور الموت والخوف قد يفضي إلى الموت أو الباب السابق في بيان حالة صلاة الحياة، وهذا في صلاة حالة الموت.
وأما تأخير هذا الباب عن الأبواب السابقة في بيان الصلوات المطلقة أي الكاملة، وهذا الباب في الصلاة المعدة والأبواب السابقة في الصلوات التي هي حسن بمعنى في نفسها وهذا الباب في صلاة حسن بمعنى في غيرها، فالأول مقدم على الثاني. والجنائز جمع جنازة، وهي بفتح الجيم، اسم للميت المحمول، وبكسرها اسم للنعش الذي يحمل عليه الميت، ويقال عكس ذلك، حكاه صاحب المطالع. ويقال الجنازة بكسر الجيم وفتحها، والكسر أفصح، واشتقاقها من جنزه، إذا ستره، ذكره ابن فارس وغيره، ومضارعه يجنز بكسر النون.
م: (إذا احتضر الرجل) ش: بضم التاء وكسر الضاد المعجمة. قال في " المغرب ": احتضر الرجل: مات لأن الوفاة حضرته أو ملائكة الموت. ويقال فلان يحتضر، أي قريب من الموت. قال: ومنه إذا احتضر الرجل. وفي " النهاية " حضر الرجل واحتضر على ما لم يسم فاعله إذا دنا موته، وروي بالخاء المعجمة، وقيل تصحيف. وفي " المحيط " احتضر الرجل، أي دنا موته، وعلاماته أن يسترخي قدماء فلا ينتصبان، ويتعوج أنفه ويتخسف صدغاه، وتمتد جلدة الخصية؛ لأن الخصبة تنشمر بالموت وتدلى جلدتها.
م: (وجه إلى القبلة على شقه الأيمن) ش: وعليه نص الشافعي وأكثر أصحابه، وبه قال مالك وأحمد، وكرهه مالك وفي رواية ابن القاسم، لأن سعيد بن المسيب أنكر على من فعل ذلك.
وللجمهور ما رواه البيهقي «عن أبي قتادة أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين قدم المدينة سأل عن البراء بن معرور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقالوا: توفي وأوصى بثلثه لك يا رسول الله وأوصي أن يوجه إلى القبلة لما احتضر، فقال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " أصاب الفطرة، وقد رددت ثلثه على ولده " ثم ذهب فصلى عليه، وقال: " اللهم اغفر له وارحمه وأدخله جنتك وقد فعلت» . وقال الحاكم: هذا الحديث صحيح، ولا أعلم في توجيه المحتضر إلى القبلة غيره.
قلت: هذا ليس بمساعد له على الصفة المذكورة، وإنما فيه مجرد الإيصاء بالتوجيه إلى القبلة، وأما مجرد التوجيه ففيه حديث عمر بن قتادة، وكانت له صحبة «أن رجلا سأل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما الكبائر، قال هي تسع، الشرك بالله والسحر، وقتل النفس التي حرم الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وعقوق(3/174)
اعتبارا بحال الوضع في القبر لأنه أشرف عليه، والمختار في بلادنا الاستلقاء، لأنه أيسر لخروج الروح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا» .
أخرجه أبو داود في الوصايا، والنسائي في المحاربة وذكر أبوحفص بن شاهين في كتاب الجنائز له بابا في توجيه المحتضر، ولم يذكر فيه غير أثر عن إبراهيم النخعي قال: يستقبل بالميت القبلة. وعن عطاء بن أبي رباح نحوه بزيادة على شقه الأيمن، ما علمت أحدا تركه في سنته م: (اعتبارا بحال الوضع في القبر) ش: يعني يعتبر توجيه من أشرف على الموت إلى القبلة على شقه الأيمن اعتبارا بحال وضع الميت في قبره فإنه في قبره يوجه إلى القبلة على شقه الأيمن.
وقال الأترازي لأنه السنة، ولم يبين السنة كيف هي! وقال السغناقي الاضطجاع على ستة أنواع: اضطجاع في حالة المرض، فإنه يضطجع على شقه الأيمن عرضا للقبلة. واضطجاع في حالة صلاة المريض، وقد ذكر اضطجاعه في حالة النزع، فإنه يوضع كما يوضع في حالة المرض. واضطجاع في حالة الغسل بعدما قضى نحبه فلا رواية فيه عن أصحابنا كيف يوضع على التخت، إلا أن العرف فيه يضطجع مستلقيا على قفاه طولا نحو القبلة كما في حالة الصلاة. واضطجاع في حالة الصلاة عليه، فإنه يضطجع معترضا للقبلة على قفاه. واضطجاع في حالة الوضع في اللحد، فإنه يوضع على شقه الأيمن، كما في حالة المرض.
قلت: هذا كله بالعرف والقياس، ولم يذكر فيه أثرا، ولا حديثا، مع أن المصنف قاس اضطجاع من أشرف على الموت على اضطجاع الميت في قبره، وهذا الشارح ذكر عكس هذا. وذكر صاحب الدراية هنا حديث البراء بن معرور المذكور آنفا، وقد استوفى الكلام فيه.
م: (لأنه أشرف عليه) ش: هذا تعليل قوله: اعتبارا بحال الوضع في القبر؛ أي لأن المحتر أشرف على القبر، والإشراف على الشيء الدنو منه وما قرب من الشيء يأخذ حكمه م: (والمختار في بلادنا) ش: أراد بها ما وراء النهر م: (الاستلقاء) ش: أي استلقاء المحتضر على قفاه م: (لأنه الأيسر لخروج الروح) ش: أي لأن الاستلقاء أيسر لخروج الروح، وبه قال الشافعي في قول، وفي " شرح الوجيز ": ويلقى على قفاه.
وفي " المحيط " و " الأسبيجابي " وغيرهما أن العرف أنه يوضع مستلقيا على قفاه وقدماه إلى القبلة، قالوا هو أيسر لخروج الروح، ولم يذكروا وجه ذلك، ولا يمكن معرفته بالتجربة، وهو أسهل لتغميضه وشد لحييه عقيب الموت، وأمنع لتقوس أعضائه ويرفع رأيه قليلا ليصير وجهه إلى القبلة دون السماء، وبه قطع الجوسي والغزالي من الشافعية، قال إمام الحرمين: وعليه عمل(3/175)
والأول هو السنة، ولقن الشهادة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقنوا مواتكم شهادة أن لا إله إلا الله»
والمراد الذي قرب من الموت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الناس. وقال أبو بكر الرازي: هذا إذا لم يشق عليه، فإن شق ترك على حاله، والمرجوم لا يوجه.
م: (والأول هو السنة) ش: أي توجيهه إلى القبلة على شقه الأيمن هو السنة، ولم يبين السنة ما هي م: (ولقن الشهادة) ش: كذا بالإفراد، ولفظ القدوري ولقن الشهادتين بالتثنية، وقال السغناقي: لقن الشهادة، ولفظ " المختصر " ولقن الشهادتين، وهوالمراد أيضا هنا. وفي نسخة الأترازي بخطه، ولقن الشهادتين، ثم فسره بقوله لا إله إلا الله، وقوله أشهد أن محمدا رسول الله. وذكر السروجي بلفظ الإفراد، ثم قال: ومثله في " المحيط " و " البدائع "، و " الأسبيجابي "، و " شرح مختصر الكرخي " و " التجريد " و " جوامع الفقه " و " خير مطلوب " و " القنية ".
وفي " المفيد " و " المزيد " و " التحفة " و " الينابيع " و " المنافع " ولقن الشهادتين، وهو الصواب. واكتفي فيما تقدم بشهادة التوحيد، لأن الشهادة بالرسالة تبع لها، ولا يقبل دون الشهادة الثانية، ولهذا لم يذكر الثانية في الحديث الذي يأتي بعده، وكذا اختلفت كتب الشافعية، وفي " الذخيرة " للمالكية و " المغني " للحنابلة: لقن قوله لا إله إلا الله ووجههم أنه موجه، ويلزم من اعترافه بالتوحيد اعترافه بالشهادة الأخرى. قلت: فيه نظر لا يخفى، وعلم من هذا كله أن نسخة المصنف بالإفراد، والأترازي أصلح وأثبته بالتثنية، فافهم.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله» ش: هذا الحديث روي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وجابر بن عبد الله وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عمر وواثلة بن الأسقع وابن عباس ومسعود وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وحديث الخدري عند الجماعة ما خلا البخاري. وحديث أبي هريرة عند مسلم نحوه سواء. وحديث جابر عند الطبراني في كتاب الدعاء له مرفوعا نحوه. ورواه العقيلي في الضعفاء، وأعله بعبد الوهاب بن مجاهد. وحديث عبد الله بن جعفر عند البزار في " مسنده "، وحديث عبد الله بن عمر عند ابن شاهين في كتاب الجنائز ل وحديث واثلة بن الأسقع عند أبي نعيم في " الحلية " وحديث ابن مسعود وابن عباس عند الطبراني، وحديث عائشة عند الطبراني أيضا مرفوعا، وعند النسائي أيضا، «لقنوا هلكاكم» بدل موتاكم.
م: (والمراد به الذي قرب من الموت) ش: بطريق المجاز، باعتبار ما يؤول إليه، وذلك لأن(3/176)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التلقين حقيقة، ما يطاوعه التلقن، وحصول ذلك من الميت محال، فالأمر به حقيقة يكون أمرا للعاجز عنه، والعقل يأباه فوجب حمله على هذا المعنى.
فإن قلت: عند أهل السنة، هذا على حقيقته لأن الله تعالى يحييه على ما جاءت به الآثار فلم يحمله على المجاز.
قلت: لأن المقصود من ذلك أن يكون آخر كلام الميت كلمة الشهادة، فالتلقين في قبره لا يساعده المقصود، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من كان آخر كلامه قول لا إله إلا الله دخل الجنة» رواه أبو هريرة وأخرجه ابن حبان، وعزاه ابن الجوزي للبخاري، وليس كذلك، فإنه ليس فيه وجعله المحب الطبري من المتفق عليه، وليس كذلك، ومعنى التلقين أن تذكر بين يديه، وإذا قال مرة لا تعاد عليه إلا أن يتكلم، ولا يقال له قل.
وفي شرح " الوجيز " ولا يلح عليه ولا يواجهه، بل يذكر بين يديه، وهذا التلقين مستحب بالإجماع.
وأما التلقين بعد الموت فلا يلقن عندنا في ظاهر الرواية، وعند الشافعي يستحب أن يلقن بعد الدفن، فيقال يا عبد الله أو يا أمة الله اذكر ما خرجت عليه من الدنيا من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن الجنة حق، والنار حق والبعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنك رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبيا ورسولا، وبالقرآن إماما، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانا، لظاهر قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لقنوا موتاكم» كذا في " شرح الوجيز ".
قلت: روى الطبراني «عن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن نصنع بموتانا، أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم ليقل يا فلان بن فلان، فإنه يسمعه ولا يجيبه، ثم يقول: يا فلان بن فلان، فإنه يستوي قاعدا ثم يقول يا فلان بن فلان فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله ولكن لا تشعرون فليقل اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما، فإن منكرا ونكيرا يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه، ويقول انطلق بنا ما يقعدنا عند من لقن حجته.
قال: فقال رجل يا رسول الله فإن لم يعرف أبيه قال ينسبه إلى أمه حواء - عَلَيْهَا السَّلَامُ - يا فلان بن حواء» إسناده صحيح، وقد قواه الضياء في أحكامه، كذا قيل، ولكن الراوي عن أبي(3/177)
فإذا مات شد لحياه وغمض عيناه، بذلك جرى التوارث ثم فيه تحسينه فيستحسن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أمامة سعيد الأزدي وقد بيض له ابن أبي حاتم. وفي " خيرة الفقهاء "، و " فتاوى الظهيرية " جوز بعض المشايخ التلقين بعد الدفن، ولا أراه يفعل.
قلت: وكيف لا يفعل! وقد روي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أنه أمر بالتلقين بعد الدفن، فيقول يا فلان بن فلان، أو يا فلانة بنت فلانة دينك الذي كنت عليه» إلى آخر ما ذكرناه في " شرح الوجيز ".
وقال الحلواني: لا نهي ولا يؤمر به: قال قاضي خان: إن كان التلقين لا ينفع لا يضر أيضا فيجوز، وحكي عن ظهير الدين المرغيناني أنه لقن بعض الأئمة من السلف بعد دفنه، وأوصى أن يلقن هو أيضا بعد دفنه، كذا في " عباب المفتي ".
[ما يفعل بالميت عقب موته]
م: (فإذا مات) ش: أي المحتضر م: (شد لحياه) ش: بفتح اللام تثنية لحي، وهو الحنك م: (وغمض عيناه) ش: يعني أطبق جفناه م: (بذلك) ش: أي شد اللحيين وتغميض العينين م: (جرى التوارث) ش: من الأئمة على ذلك، وفي تغميض البصر أحاديث: منها ما أخرجه مسلم في صحيحه «عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ... » الحديث.
ومنها ما رواه ابن ماجه في " سننه " عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر، فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرا، فإن الملائكة تؤمن على ما يقول أهل الميت» ، ورواه أحمد في " مسنده "، وأعله ابن حبان بقزعة بن سويد، أحد رواته، «ويقول مغمضه بسم الله وعلى ملة رسول الله، وروي وعلى وفاة رسول الله، اللهم يسر عليه أمره وسهل عليه ما بعده وأسعده بلقائك، واجعل ما خرج إليه خيرا مما خرج عنه» .
م: (ثم فيه تحسينه فيستحسن) ش: أي فيما ذكر من شد اللحيين وتغميض العينين تحسين صورة الميت، لأنه إذا ترك التغميض يبقى فظيع المنظر في أعين الناس، وفي ترك شد اللحيين كاف من دخول الهوام في جوفه، والماء عند غسله، ويشد بعصابة عريضة من فوق رأسه.
وفي " المنتقى " يصنع بالميت عشرة أشياء: يوجه إلى القبلة على قفاه أو على يمينه، ويمد أعضاءه، ويغمض عيناه، ويقرأ سورة يس عنده، ويوضع عنده من الطيب، ويلقن كلمة الشهادة، ويخرج من عنده الحائض والنفساء والجنب، ويوضع على بطنه سيف أو مرآة لئلا ينتفخ، ويقرأ عنده القرآن إلى أن يرفع، وهكذا في كتب أصحاب الشافعي.
وكره مالك قراءة القرآن عنده، وأصحابنا كرهوا القراءة بعد موته حتى يغسل، ويجعل(3/178)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على سرير أو لوح، حتى لا تغيره نداوة الأرض. وفي " فتاوى قاضي خان ": ولا بأس بجلوس الحائض والجنب عند موته، ثم المستحب أن يعجل في جهازه ولا يؤخر، ويستحب أن يلي المريض أرفق أهله به، وأعلمهم بسياسته وأتقاهم، ويذكره بالتوبة من المعاصي والمظالم، وبالوصية، وإذا رآه قد نزل به [....] بل حلقه بأن يقطر في فيه ماء أو شرابا، ويندى بفيه بقطنة ونحوها.(3/179)
فصل في الغسل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في غسل الميت] [كيفية غسل الميت]
م: (فصل في الغسل) ش: أي هذا فصل في بيان غسل الميت، وهو بفتح الغين، وفي بعض النسخ فصل في غسل الميت، ولما بين ما يفعل بالمحتضر وقت احتضاره، شرع يبين ما يفعل به بعد موته، فبدأ بالغسل، لأنه أول ما يفعل بالميت، ثم ذكر فصل التلقين ثم فصل الصلاة، ثم فصل حمله، ثم فصل الدفن على الترتيب الخارجي، ليوافق الترتيب الوضعي.
وقال الشيخ أبو نصر البغدادي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الأصل في وجوب غسل الميت أن الملائكة - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - غسلوا آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وقالوا لولده: هذه سنة موتاكم، وغسل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين مات، وفعل ذلك المسلمون بعده، وقال صاحب الدراية: هو واجب على الأحياء بالسنة وإجماع الأمة، وتفرغ من المعنى.
أما السنة: فما روي عن أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال «إن آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما حضرته الوفاة نزلت الملائكة بحنوطه وكفنه من الجنة، فلما مات غسلوه بالماء والسدر ثلاثا، وكفنوه في وتر من الثياب، وصلوا عليه عند البيت، وأمهم جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقال هذه سنة ولد آدم من بعده» .
وما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «قال لأم عطية حين توفيت ابنته رقية اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو أكثر إن رأيتن ذلك، وقال بماء وسدر» وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «للمسلم على المسلم ستة حقوق، وذكر منها إذا مات أن يغسله» وأجمعت الأمة على هذا.
وأما المعنى أن الميت في الصلاة بمنزلة الإمام، حتى لا تجوز الصلاة بدونه، وهذا شرط تقديمه على القوم، وطهارة الإمام شرط لصلاة القوم، ولأن ما بعد الموت حال العرض على الرب والرجوع عليه، فوجب تطهيره بالغسل تعظيما للرب، وفي " شرح الوجيز " الغسل والتلقين والصلاة فرض الكفاية بالإجماع. انتهى.
قلت: حديث أبي بن كعب رواه عبد الله بن أحمد في " المسند " ولفظه «أن آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غسلته الملائكة ولقنوه وحنطوه وحفروا له وألحدوا وصلوا عليه، ثم دخلوا قبره فوضعوه فيه ووضعوا عيه اللبن، ثم خرجوا من قبره، ثم حثوا عليه التراب، ثم قالوا: يا بني آدم هذه سنتكم» رواه البيهقي بمعناه.
وحديث أم عطية أخرجه البخاري ومسلم، واختلف المشايخ في سبب وجوب غسل الميت، قال بعضهم هو الحدث، فإن الموت سبب لاسترخاء مفاصله، والنهي عن غسل الأعضاء الأربعة في الحياة لتكرر سببه، والموت لا يتكرر، وقال الشيخ أبو عبد الله الجرجاني وغيره من(3/180)
وإذا أرادوا غسله وضعوه على سرير لينصب الماء عنه، وجعلوا على عورته خرقة إقامة لواجب الستر ويكتفى بستر العورة الغليظة هو الصحيح تيسيرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مشايخ العراق: يقولون إنما وجب لنجاسة الموت، إذ الآدمي له دم مسفوح كسائر الحيوانات، ولهذا تنجس البئر بموته فيها.
وفي " المحيط " و " البدائع ": لو دفع فيها بعد غسله لا يتنجس، ولو حمل ميتا وصلى به قبل غسله لا تصح صلاته، بخلاف المحدث، وفي " البدائع " عن محمد بن شجاع البلخي، أن الآدمي لا ينجس بالموت كرامة له، لأنه لو نجس لما حكم بطهارته بالغسل كسائر الحيوانات التي حكم بنجاستها بالموت، وقول أبي عبيد الله هو قول العامة وهو الأظهر، وعند كل واحد من مالك والشافعي وأحمد، خلاف في تنجس المؤمن بالموت، وقال بعض الحنابلة: يتنجس بالموت ولا يظهر بالغسل، ويتنجس الثوب الذي ينشف به كسائر الميتات، وهذا باطل بلا شك.
م: (وإذا أرادوا غسله) ش: بفتح الغين، أي غسل الميت م: (وضعوه على سرير لينصب الماء عنه) ش: أي لينزل الماء عنه إلى أسفل، واختلف في كيفية الوضع. قال الأسبيجابي وصاحب شرح الطحاوي: يوضع مستلقيا على قفاه نحو القبلة كالمحتضر، ومثله قال بعض أئمة خراسان، واختاره بعض أصحابنا أنه يوضع مستلقيا عرضا، كما يوضع في القبر، وقال شمس الأئمة: الأصح أنه يوضع كما تيسر، وفي " التحفة " يوضع على شقه الأيسر حتى يبدأ بشقه الأيمن في الغسل، ثم على الأيمن، وقال الأسبيجابي: لا رواية عن أصحابنا في ذلك، والعرف أن يوضع على التخت على قفاه طولا نحو القبلة.
م: (وجعلوا على عورته خرقة) ش: لأن ستر العورة واجب على كل حال، والآدمي محترم حيا وميتا، ألا ترى أنه لا يحل للرجال غسل النساء، ولا للنساء غسل الرجال الأجانب بعد الوفاة، وقد عرف فيما مضى حد العورة أنها من السرة إلى الركبة والركبة عورة عندنا، وهذا هو الأصل.
ولكن ظاهر الرواية خلاف هذا، أشار إليه بقوله: م: (ويكتفى بستر العورة الغليظة) ش: وهي القبل والدبر، وعليه الفتوى أشار إليه بقوله: م: (هو الصحيح) ش: من المذهب، وبه قال مالك أيضا، ذكره أيضا في " المدونة "، واحترز به عن رواية النوادر، فإنه قال فيه ويوضع على عورته خرقة من السرة إلى الركبة.
وفي " المبسوط " وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يؤزر بإزار سابغ، كما يفعله بحياته إذا أراد الاغتسال، وفي ظاهر الراوية قال يشق عليهم غسل ما تحت الإزار فيكتفى ستر العورة الغليظة بخرقة، م: (تيسيرا) ش: أي لأجل التيسير على الغاسل.(3/181)
ونزعوا ثيابه ليمكنهم التنظيف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " البدائع " يغسل عورته تحت الخرقة بعد أن يلف على يده خرقة وينجى عند أبي حنيفة، كما كان يفعله في حال حياته، وعندهما لا ينجى، وفي " المحيط " و " الروضة " لا ينجى عند أبي يوسف ويغسل سرته بخرقة يلقها على يده، وقيل يجعل الغاسل عل إصبعه خرقة يمسح أسنانه ولهاته ولبته ويدخلها في منخريه أيضا.
م: (ونزعوا ثيابه ليمكنهم التنظيف) ش: أي تنظيف الميت، وعن مالك مثله، وهو ظاهر قول أحمد وقول ابن سيرين.
وقال الشافعي وأحمد في رواية: المستحب أن يغسل في قميص واسع الكمين، وإن كان ضيق الكمين خرقهما، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غسل في قميص فما كان سنة في حقه فهو سنة في حقنا. قلت: نص الشافعي أنه يستحب أن يغسل الميت في قميص يلبس عند إرادة غسله، وصرح به المسعودي والرافعي، ويدخل الغاسل يده في كمه، ويصب الماء من فوق القميص ويغسل من تحته، واستدل على ذلك بحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غسلوه وعليه قميصه يصبون الماء عليه ويدلكونه من فوق القميص» رواه أبو داود، وقال النووي: إسناده صحيح.
قلت: قيل إنه ضعيف، ولئن سلمنا صحته فنقول كان ذلك من خصائصه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، يدل على ذلك ما رواه أبو داود «عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: سمعت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تقول: لما أرادوا غسل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من ثيابه كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو، اغسلوا رسول الله وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فغسلوه وعليه قميص، يصبون الماء فوق القميص دون أيديهم» .
وكانت «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه» يعني لو علمنا أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يغسل بعد الوفاة، ما غسله إلا نحن، وهذا يدل على أن عادتهم كانت تجرد موتاهم، كان في زمان رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عند غسلهم، وخص من ذلك النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأجل احترامه وتعظيمه، ولأنه إذا غسل في قميصه ينجس القميص بما يخرج منه، وقد لا يطهر بصب الماء عليه، فيتنجس الميت به، بخلاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه كان مأمونا في حقه؛ لأنه كان طيبا حيا وميتا، على أن مذهبهم خلاف ما فعل رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فإنه لم يلبس قميصا عند غسله، بل غسل في قميصه الذي مات فيه إن صح الحديث به.(3/182)
ووضؤوه من غير مضمضة واستنشاق، لأن الوضوء سنة الاغتسال، غير أن إخراج الماء منه متعذر فيتركان، ثم يفيضون الماء عليه اعتبارا بحال الحياة، ويجمر سريره وترا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[وضوء الميت من غير مضمضة واستنشاق]
م: (ووضؤوه من غير مضمضة واستنشاق) ش: بتشديد الضاد من وضأ بالتشديد، وفي " المبسوط " ويبدأ بالميامن في وضوئه.
وقال صاحب " المغني ": ولا يدخل الماء فاه ولا منخريه. وفي قول أكثر أهل العلم وهو قول سعيد بن جبير والنخعي والثوري وأحمد، وقال الشافعي: يمضمض ويستنشق كما يفعله الحي.
قلنا: المضمضمة إدارة الماء في داخل الفم، والاستنشاق إدخال الماء في الأنف وجذبه إلى الخياشيم، وهذا كله متعذر، وقال النووي: المضمضة جعل الماء في فيه.
قلت: هذا خلاف ما قاله أهل اللغة. وقال الجوهري: المضمضة تحريك الماء في الفم، وإمام الحرمين لم يصوب [....
.] .
وفي " المحيط " و " الروضة " فرق بين الميت والجنب في الغسل في خمسة أشياء: لا يمضمض بخلاف الجنب، والميت لا يستنشق بخلاف الجنب، والميت يبدأ بغسل وجهه، والجنب يغسل يديه، وفيه خلاف الثلاث، والميت لا يمسح برأسه. هكذا روي عن محمد في " النوادر "، ومثله في " الإيضاح ".
وقال خواهر زاده في " شرح المبسوط ": الصحيح أن الميت كالجنب في مسح الرأس، والميت لا يؤخر غسل رجليه، بخلاف الجنب.
وفي " مبسوط شيخ الإسلام ": الصحيح أن الجواب في غسل الرجلين واحد. وقال الحلواني: هذا الذي ذكر في حق البالغ والصبي العاقل، أما في الصبي الغير عاقل لا يوضأ وضوء الصلاة. لأنه كان في حياته لا يصلي.
م: (لأن الوضوء سنة الاغتسال، غير أن إخراج الماء منه) ش: من الفم والأنف م: (متعذر فيتركان) ش: أي المضمضة والاستنشاق م: (ثم يفيضون الماء عليه اعتبارا بحال الحياة) ش: أي يفيضون الماء على الميت ثلاث مرات كما في حالة الحياة م: (ويجمر سريره وترا) ش: أي ويبخر.
وفي " المغرب ": جمر ثوبه وأجمره إذا بخره وفي طلبه فيطيب بعود إذا، وفي تجميره يفعل هذا عند إرادة غسله، إخفاء للرائحة وإكراما للميت، وقيل: المراد من التجمير إدارة المجمر حول السرير وترا، يعني واحدة أو ثلاثا أو خمسا.
وقال الأسبيجابي: لا يزاد عليها، وتعيين الوتر لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله وتر يحب(3/183)
لما فيه من تعظيم الميت، وإنما يوتر لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله وتر يحب الوتر» ، ويغلي الماء بالسدر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوتر» رواه البزار في " مسنده " من حديث نافع عن ابن عمر مرفوعا وسكت عنه وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسو الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدة، من أحصاها دخل الجنة، إنه وتر يحب الوتر» .
وروى الأربعة وأحمد عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر» . قال الترمذي: حديث حسن، ورواه ابن خزيمة في " صحيحه "، وروى البزار عن أبي سعيد الخدري نحو روايته عن ابن عمر.
فإن قلت: ما المراد من السرير.
قلت: ذكر في " المجتبى " أن المراد من السرير الجنازة، فيجمر السرير والكفن، وقد ترك الناس التجمير على الجنازة في ديارنا، وبقي التجمير مقصورا على الكفن. وفي " الكافي " معنى قوله: ويجمر [....
....] وقال صاحب " الدراية ": وسياق كلام المصنف يدل على أن المراد من السرير التخت الذي يغسل عليه الميت، وقد صرح في " المجمع " بقوله: وغسل على سرير مجمر.
م: (لما فيه) ش: أي في التجمير، دل عليه قوله: ويجمر م: (من تعظيم الميت) ش: وإكرامه بالرائحة الطيبة ولدفع الرائحة الكريهة م: (وإنما يوتر) ش: يعني وإنما يجمر وترا م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إن الله وتر يحب الوتر» ش: وقد مر الكلام فيه آنفا.
م: (ويغلي الماء بالسدر) ش: يغلي من الإغلاء لا من الغلي والغليان، لأنه لازم، والسدر ورق شجر النبق، وهو عود، وكرهت الشافعية وبعض الحنابلة الماء المسخن وخيره مالك ذكره في " الجواهر " وفي " المحلى " من كتب الشافعية قيل: المسخن أولى بكل حال، وهو قول إسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي " الدراية " وعند الشافعي وأحمد - رحمهما الله - الماء البارد أفضل إلا أن يكون عليه وسخ أو نجاسة لا تزول إلا بالماء الحار، أو يكون البرد شديدا، إلا أن البارد يشد البدن والحار يرخيه، والميت استرخى، فلو غسل بالماء الحار ازداد استرخاؤه فيفضي إلى النجس فتتنجس الأكفان، فكان البارد أولى. قلت: الحار أولى؛ لأن المقصود منه غاية التطهير.(3/184)
أو بالحرض مبالغة في التنظيف، فإن لم يكن فالماء القراح لحصول أصل المقصود، ويغسل رأسه ولحيته بالخطمي ليكون أنظف له، ثم يضجع على شقه الأيسر فيغسل بالماء والسدر حتى يرى أن الماء قد وصل إلى ما يلي التخت منه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أو بالحرض) ش: بضم الحاء المهملة وسكون الراء بعدها الضاد المعجمة وهو الأشنان م: (مبالغة في التنظيف) ش: أي لأجل المبالغة في تنظيف الميت م: (فإن لم يكن) ش: أي السدر والأشنان م: (فالماء القراح) ش: بفتح القاف وهو الخالص. وقوله الماء مبتدأ والقراح صفته، والخبر محذوف، أي فالماء القراح متعين م: (لحصول أصل المقصود) ش: وهو التطهير، لأن الماء هو الأصل في باب التطهير، وهذا الترتيب الذي ذكره يوافق مبسوط شمس الأئمة ولا يوافق مبسوط فخر الإسلام و " المحيط " لأنه ذكر فيها أولا بالماء القراح، ثم بالماء الذي يطرح فيه السدر، ثم في الثالثة يجعل الكافور في الماء ويغسل في المرة الأولى، والثانية بالماء القراح، والثالثة بالسدر، وقال الشافعي: يختص السدر بالأولى، وبه قال ابن الخطاب من الحنابلة. وعن أحمد: يستعمل السدر في الثلاث كلها، وهو قول عطاء والنخعي وإسحاق وسليمان بن حرب - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
[غسل رأس الميت ولحيته بالخطمي]
م: (يغسل رأسه ولحيته بالخطمي) ش: بكسر الخاء المعجمة، وهو خطمي العراق، لأنه مثل الصابون في التنظيف، وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في استعمال السدر والخطمي في غسل لحيته ورأسه وجهان. وقال أبو إسحاق المروزي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المقصود من الغسل التنظيف، فيجب أن يستعان بما يزيد فيه التطهير، وأظهرهما أنه لا استعمال بهما، لأنهما سالبان للطهورية.
قلت: لا نسلم ذلك بل يزيد في التطهير، وبقولنا قال أحمد، وكره ابن سيرين الخطمي، إلا أن لا يجد سدرا.
م: (ليكون أنظف له) ش: أي ليكون غسل رأسه ولحيته بالخطمي أنظف له، أي للميت م: (لم يضجع على شقه الأيسر) ش: أي على جانبه الأيسر، وذلك ليكون بداية الغسل من الميمنة، لأنها هي السنة م: (فيغسل بالماء والسدر حتى يرى أن الماء قد وصل إلى ما يلي التخت منه) ش: بالخاء المعجمة، لأن بالمهملة توهم أن غسل ما يلي التخت يجب في الجانب لا الجانب المتصل بالتخت أما بالمعجمة يفهم الجانب المتصل منه، أي من الميت. وقال ابن سيرين: يغسل شق وجهه الأيمن ثم الأيسر ثم منكبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جنبه الأمين ثم الأيسر، ثم فخذه اليمنى، ثم اليسرى، ثم الساقان كذلك، ولو فعل كذلك أجزأه.
ولا يكب الميت على وجهه فيغسل ظهره، وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في غير رواية الأصول أنه يقعده ويمسح بطنه أولا، وهو قول الشافعي ثم يغسله بعد ذلك، وفي " الذخيرة " للمالكية: يغسل جنبه الأيمن، والأيسر غسلة واحدة، فيغسل مثله ثلاثا.(3/185)
ثم يضجع على شقه الأيمن فيغسل حتى يرى أن الماء قد وصل إلى ما يلي التخت منه، لأن السنة هو البداية بالميامن ثم يجسله ويسنده إليه ويمسح بطنه مسحا رفيقا تحرزا عن تلويث الكفن، فإن خرج منه شيء غسله ولا يعيد غسله ولا وضوءه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ثم يضطجع على شقه الأيمن فيغسل حتى يرى أن الماء قد وصل إلى ما يلي التخت منه، لأن السنة هي البداية بالميامن) ش: فيه حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعجبه التيمن في كل شيء حتى تنعله وترجله» رواه الجماعة، وحديث أم عطية رواه الجماعة أيضا، واللفظ للبخاري، قالت: «لما غسلنا ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لنا ونحن نغسلها: " ابدأوا بميامنها ومواضع الوضوء منها» " وهذه الأبنة هي زينب زوج ابن أبي العاص، وهي أكبر بناته، وصرح به في رواية مسلم عن أم عطية قالت: «لما ماتت زينب ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " اغسلنها وترا ... » الحديث.
وقد جاء في " سنن أبي داود " و " مسند أحمد " و " تاريخ البخاري الأوسط " أنها أم كلثوم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجوه عن ابن إسحاق وقال المنذري في " مختصره " فيه محمد بن إسحاق وفيه من ليس بمشهور. والصحيح أن هذه القصة في زينب، لأن أم كلثوم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - توفيت ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غائب ببدر والله أعلم.
م: (ثم يجلسه) ش: أي ثم يجلس الغاسل الميت م: (ويسنده إليه ويمسح بطنه مسحا رفيقا) ش: بالفاء من رفق به، أي مسحا لينا بغير عنف م: (تحرزا عن تلويث الكفن) ش: أي احترازا عن تلويث الكفن إذا مسح بالعنف. قال أبوبكر الرازي: ويمسح بطنه في الثانية مسحا خفيفا، وفي " البدائع " ويمسح بطنه بعد غسله مرتين، وروي أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مسح بطن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فلم يخرج منه شيء، فقال: طبت حيا وميتا. وفي " المبسوط ": عزاه إلى العباس، وروي أنه لما مسح بطنه فاح من رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ريح المسك في البيت. وفي " المبسوط ": لم يذكر في ظاهر الرواية سوى مسحه، وفي " المحيط " ذكر مسحه وغسله.
م: (وإن خرج منه شيء غسله) ش: أي غسل ذلك الخارج م: (ولا يعيد غسله ووضوءه) ش: وبه قال الثوري ومالك والمزني، وللشافعية ثلاثة أوجه، أصحها كقولنا، لأن الميت خرج بالموت من التكليف ينقض الطهارة، وضعف المحاملي وآخرون إعادة غسله، ونقل صاحب " البيان " تضعيفه عن أبي حامد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وصحح المحاملي والرافعي وآخرون عدم وجوب إعادة غسله ووضوئه، وأجمعوا على أنه لو خرج منه شيء بعد إدراجه في الكفن لا يجب غسله ولا وضوؤه بلا خلاف، وصرح به المحاملي في " التجريد "، وأبو الطيب في " المجرد "، والسرخسي في " الأمالي " وصاحب " العدة "، وجزموا بالاكتفاء بغسل النجاسة بعد الإدراج، وذكر في(3/186)
لأن الغسل عرفناه بالنص وقد حصل مرة،
ثم ينشفه بثوب كيلا تبتل أكفانه، ويجعله في أكفانه، ويجعل الحنوط على رأسه ولحيته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" الروضة " لا يغسل منه شيء بعده عندنا، الوجه الثاني يعاد الوضوء، والثالث يعاد الغسل.
ثم الغسل المسنون ثلاث مرات. هكذا في " المبسوط " و " المحيط "، وفي " البدائع " الواجب فيه مرة واحدة وما زاد سنة، ومثله في " المفيد " وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك مع الدلك. وقال ابن حزم في " المحلى ": وغسله ثلاثا فرض. وقال ابن المسيب والحسن البصري والنخعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: يغسل ثلاثا، وكذا غمسه في الماء يكفي، ولو غرق في الماء أو أصابه المطر بعد موته لا يجزئه، لأن الواجب فعلنا.
وفي " البدائع ": إن كان المخرج حركة في الماء كما يحرك الشيء بقصد تطهيره سقط غسله، وفي " المحيط " عن أبي يوسف: يجزئه مرة في الماء ويغسل مرتين، وإن مات في سفينة غسل وكفن ثم يرمى في البحر. وذكره البيهقي عن الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن غرق وتفيح في الماء صب عليه الماء، وكذا إن احترق، ذكره في " الروضة "، والنية ليست بشرط عندنا، وفي " الينابيع " يحركه في الماء فيكون ذلك غسلا له، ولم يشترط النية.
م: (لأن الغسل) ش: بضم الغين وفتحها، وقال السغناقي: كذا وجدته مقيدا بخط شيخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: الفرق بينهما ظاهر، وكل واحد منهما يصلح ها هنا، ولا يحتاج إلى الرواية م: (عرفناه بالنص وقد حصل مرة) ش: أي وقد حصل الغسل مرة، فلا يحتاج إلى الإعادة.
[تنشيف الميت بعد الغسل]
م: (ثم ينشفه بثوب) ش: أي يأخذ ما عليه من بلل، وهو من باب علم يعلم، كذا في " الدستور ". وقال السغناقي: أي يأخذ ما عليه من بلل بثوب حتى يجف من الماء، أخذه بخرقة من باب ضرب يضرب، الأصح ما ذكره في " الدستور "، وقال ابن الأثير: يقال نشفت الأرض الماء تنشفه نشفا شربته، ونشف الثوب العرق وتنشف م: (كيلا تبتل أكفانه) ش: لأنها إذا ابتلت تصير كالمثلة.
م: (ويجعله في أكفانه) ش: أي بعد الفراغ من الغسل والتنشف يدرج في أكفانه م: (ويجعل الحنوط على رأسه ولحيته) ش: والحنوط ما يخلط من الطيب لأكفان الموتى ولأجسامهم خاصة.
ومنه الحديث أن ثمود لما استيقنوا بالعذاب تكفنوا بالأنطاع، وتحنطوا بالصبر لئلا يجيفوا وينتنوا.
وفي " المحيط ": لا بأس بسائر الطيب في الحنوط غير الزعفران والورس في حق الرجال، ولا بأس بهما في حق النساء، فيدخل فيه المسك، وأجازه أكثر العلماء وأمر به علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، واستعمله أنس وابن عمر وابن المسيب، وبه قال مالك والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -(3/187)
والكافور على مساجده، لأن التطيب سنة، والمساجد أولى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإسحاق، وكرهه عطاء والحسن، ومجاهد، وقالوا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إنه سنة، واستعماله في حنوط النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حجة عليهم، وفي " الروضة " ولا بأس بأن يجعل المسك في الحنوط، وفي " الصحاح ": الحنوط ذريرة، وهو طيب الميت.
[وضع الكافور على مساجد الميت]
م: (والكافور على مساجده) ش: أي ويجعل الكافور على مساجده، وهو جمع مسجد، بفتح الجيم وهي الجبهة والأنف واليدان والركبتان والقدمان، رواه البيهقي عن ابن مسعود، وهو قول النخعي، والمساجد أولى لهذه الكرامة، وعن زفر: يذره على عينيه وأنفه وفمه إبعادا للدود عنها، وقال إمام الحرمين: وذراعيه على الجملة لطرد الهوام، وبالكافور يجعل طيب الرائحة، ويندفع مكروهها عن المصلين عليه، وفيه تبريك وتخفيف وحفظ للميت من إسراع التغير والفساد وتعويقه ويزيد الإمساك ومنع الهوام، وكرهه أحمد، وقال: يتلف العضو، وما سمعناه إلا في المساجد، وقال النخعي: يوضع الحنوط على الجبهة والراحتين والركبتين والقدمين، وفي " المفيد " وإن لم يفعل لم يضر.
قال ابن الجوزي والقرافي: يستحب في المرة الثالثة شيء من الكافور، قالا: وقال أبو حنيفة: لا يستحب.
قلت: نقلهما ذلك عنه خطأ.
م: (لأن التطيب سنة) ش: أي تطيب الميت أو التطيب مطلقا سنة، والأول هو الأظهر هنا، والسنة هنا حديث أم عطية المخرج في الكتاب والسنة، قال لهن - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اغسلنها ثلاثا أو خمسا، واجعلن في الآخرة كافورا» .
وفي حديث عبد الله بن مغفل: " «إذا أنا مت فاجعلوا في آخر غسلي كافورا وكفنوني في ثوبين وقميص» . أخرجه الحاكم وسكت عنه.
وفيه حديث أبي بن كعب المتقدم في قصة آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه " عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان عنده مسك، فأوصى أن يحنط به، وقال: هو فضل حنوط رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورواه الحاكم أيضا وسكت عنه.
والمساجد أولى بزيادة الكرامة، هذا كأنه جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال لما كان الطيب سنة فما بال تخصيص المساجد دون سائر البدن؟. فأجاب عنه بقوله م: (والمساجد أولى)(3/188)
بزيادة الكرامة،
ولا يسرح شعر ميت ولا لحيته ولا يقص ظفره ولا شعره لقول عائشة رضي الله عنها علام تنصون ميتكم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: يعني من غيرها م: (بزيادة الكرامة) ش: لأنها الأعضاء التي عليها قوام البدن. وفي " الروضة ": ولا بأس بأن يحشى مخارقه كأنفه وفمه ومسامعه بالقطن، وأن يجعل القطن على وجهه، وجوز الشافعي ذلك في دبره واستقبحه مشايخنا. وفي " الأسبيجابي " عن أبي حنيفة: لا بأس بأن يحشى مخارقه كالدبر والقبل والأذنين والفم. وفي " المرغيناني ": قال بعضهم: ولا بأس بأن يجعل القطن في صماخ أذنيه.
[تسريح شعر الميت ولحيته]
م: (ولا يسرح شعر الميت ولا لحيته) ش: التسريح تخليص بعض الشعر عن بعض، وقيل تخليله بالمشط. وقال الشافعي: سرح شعره ولحيته بمشط واسع إذا كان ملبدا م: ولا يقص ظفره ولا شعره) ش: ولا تحلق عانته ولا ينتف إبطه ولا يختن، وبه قال محمد بن سيرين ومالك.
وقال ابن المنذر: هذا أحب إلي. وقال الأوزاعي: يقص الأظفار إذا طالت ولا يمس غير ذلك، وفيها خلاف الشافعي، وذكر في " البيان " في ختانه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يختن، الثاني: يختن، والثالث: يختن الكبير لا الصغير، وله قولان في غير الختان، القديم كقولنا، والجديد يفعل ذلك.
وقال الرافعي: لا خلاف أن هذه الأمور لا تستحب، وإنما القولان في الكراهة ورد عليه، وصححوا الكراهة. قال النووي: وهو المختار نقله البندنيجي عن بعض الشافعية. وفي " مختصر المزني ": قال الشافعي: تركه أعجب إلي.
م: (لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - علام تنصون ميتكم) ش: أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه "، أخبرنا سفيان الثوري عن حماد عن إبراهيم عن عائشة " رأيت امرأة تكدون رأسها بمشط. فقالت: علام تنصون ميتكم "، ورواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم النخعي به. ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام وإبراهيم الحربي في كتابيهما وفي غريب الحديث. وقال أبو عبيد: هو مأخوذ من نصوت الرجل أنصوه نصوا إذا مددت ناصيته. فأرادت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن الميت لا يحتاج إلى تسريح الرأس، وذلك بمنزلة الأخذ بالناصية.
وفي " المغرب " وجعل اشتقاقه من منصت العروس خطأ، قوله: م: (علام) ش: أم أصله على ما دخل حرف الجر على ما الاستفهامية فأسقط ألفها للتخفيف، كما في قَوْله تَعَالَى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] .
فإن قلت: ذكر الرافعي في كتابه، وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «افعلوا بميتكم ما تفعلون بعروسكم» وذكره الغزالي في " الوسيط " أيضا، ولفظه: «افعلوا بموتاكم ما تفعلون بأحيائكم» .(3/189)
ولأن هذه الأشياء للزينة، وقد استغنى الميت عنها.
وفي الحي كان تنظيفا لاجتماع الوسخ تحته، وصار كالختان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قال ابن الصلاح: بحثت عنه فلم أجده ثابتا. وقال أبو حامد في كتاب السواك: هذا الحديث غير معروف.
م: (ولأن هذه الأشياء للزينة، وقد استغنى الميت عنها) ش: لأنه فارقها وفارق أهلها، ولأن من حكم الميت أن يدفن بجميع أجزائه، فلا معنى لفصل بعض أجزائه ثم دفنه معه
م: (وفي الحي كان تنظيفا لاجتماع الوسخ تحته) ش: قال صاحب " الدراية ". هذا جواب قول الشافعي أنه تنظيف له كالحي.
وقال السغناقي: هذا جواب إشكال، أي لا يشكل علينا الحي، حيث يسرح شعره ويقص ظفره، لأنه يخرج إلى الزينة، ولا يعتبر في حقه زوال الجزء، بخلاف الميت فإنه لا يسن فيه إزالة الجزء.
قلت: الذي ذكره السغناقي هو الصواب، لأن خلاف الشافعي لم يذكر في الكتاب حتى يجاب عنه، والضمير في كان يرجع إلى كل واحد من قص الظفر والشعر، وكذلك الضمير في قوله تحته، أي تحت كل واحد من قص الظفر والشعر.
قلت: هذا ليس معنى هذا التركيب، وهو ظاهر، فإذا علم مرجع الضمير في صار يحل التركيب كما ينبغي، والضمير يرجع إلى مقدر تقديره وصار الفرق أو الحكم بين الميت والحي في إزالة الجزء من حيث إنه لا يعتبر في حق الحي، لأنه يحتاج إلى الزينة، كما في الختان، ويعتبر في حق الميت فلا يسن في حقه إزالة الجزء، كما في الختان فإنه لا يختن بالاتفاق.
فروع: يغسل الرجال الرجال، والنساء النساء، إلا أن يكون الميت صغيرا لا يشتهى، أو صغيرة لا تشتهى فلا بأس أن يغسلها الرجال والنساء.
وقال ابن المنذر حكاية عنه تغتسل المرأة الصغير ما لم يتكلم، والرجل الصغيرة ما لم تتكلم.
قلت: ذكره في " المبسوط " والصحيح الأول. وقال الحسن: يغسله النساء إذا كان فطيما أو فوقه بشيء يسير. وقال الأوزاعي وإسحاق: إذا كان ابن أربع أو خمس.
وقال مالك وأحمد: ابن سبع، وهو قريب من قول أصحابنا، وكذا الجارية في حق الرجل وفيمن قال تغسل المراة الصغيرة، ويغسل الرجل الصغيرة الحسن وابن سيرين والأوزاعي وأحمد وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، ونقل ابن المنذر في كتاب " الإجماع " [....
....] الإجماع(3/190)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على جواز غسل المرأة زوجها. وعن أحمد منفردا في رواية ذكرها عنه النووي، وأما غسله زوجته فغير جائز عندنا، وهو قوله، وهو قول الثوري والأوزاعي وكرهه الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك وأحمد وآخرون - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يجوز، قال النووي: احتجوا بحديث «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قلت: وارأساه لصداع في رأسي، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بل أنا وارأساه يا عائشة ما ضرك لومت قبلي فغسلتك وكفنتك..» الحديث رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني والدارمي والبيهقي بإسناد ضعيف، وفيه محمد بن إسحاق كذبه مالك وغيره.
وقال ابن الجوزي: رواه البخاري ومسلم ولم يقل غسلتك، إلا ابن إسحاق، واحتجوا أيضا بما رواه البيهقي وابن الجوزي عن فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت لأسماء بنت عميس يا أسماء إذا مت فاغسليني أنت وعلي بن أبي طالب، فغسلاها. قال ابن الجوزي: في إسناده عبد الله بن نافع. قال يحيى: ليس بشيء. وقال النسائي: متروك، والبيهقي رواه في " سننه الكبرى " ولم يتكلم عليه، وظن أنه يخفى.
وقال صاحب " المبسوط " و " المحيط " و " البدائع " وجماعة غيره أن ابن مسعود أنكر على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذلك، فقال له إنها زوجته في الدنيا والآخرة، يعنون أن الزوجية باقية بينهما لم تنقطع.
قلت: وفيه نظر، لأنه لو بقيت الزوجية بينهما لما تزوج أمامة بنت زينب بعد موت فاطمة وقد مات عن أربع حرائر، ولو مات الرجل في السفر ومعه نساء إن كانت فيهن امرأته غسلته وكفنته وصلين عليه، وتقوم إمامهن وسطهن. وعند مالك والشافعي النساء وحدهن يصلين عليه منفردات ثم يدفنه، وإن لم يكن فيهن امرأته ومعهن كافر يعلمنه الغسل والتكفين ثم يخلين بينهما ثم يصلي عليه النساء ويدفنه، ويروى جواز غسل الكافر للمسلم عن مكحول وسفيان وعلقمة وغيرهم.
وإن لم يكن معهن كافر، وكانت معهن صبية لا تشتهي وتطيق غسله، عليها الغسل والتكفين، ثم يصلي عليه النساء ويدفنه، وإن لم يكن ييممنه وإن ماتت ولي سمعه مسلمات ومعها رجل كافر أو كافرة أو صبي لم يبلغ حد الشهوة فالرجل يعلمها كما تقدم، وكذا المرأة تيمم عندنا، وبه قال ابن المسيب والنخعي وحماد بن أبي سليمان ومالك وأحمد.(3/191)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الحسن البصري وقتادة والزهري وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يصب عليها الماء من فوق ثيابها. وعن ابن عمر ونافع تغمس في ثيابها. وقال الأوزاعي: تدفن كما هي ولا تيمم.
وقال ابن المنذر: بالتيمم أقول.
وعند الشافعية في أحد الوجهين تغسل الأجنبية بخرقة وتستر بثوب. وقال القاضي حسين: وتصح بغير خرقة بلا خلاف. وييمم المحرم بغير خرقة، وغير المحرم بخرة، وكذا الأمة تيمم الرجل، والرجل ييمم الأمة بغير خرقة، ذكره في " البدائع ". وقال أبو قلابة: يغسل الرجل ابنته. وقال مالك: لا بأس بأن يغسل أمه وأخته عند الضرورة، وقال الأوزاعي: يصب عليها الماء، وأنكر أحمد فعل أبي قلابة، وينظر إلى وجهها دون ذراعيها.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الرجل ييممها إلى الكوعين، والمرأة إلى المرفقين. ولو كانت زوجته حاملا فوضعت لا تغسله، خلافا لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ولو بانت منه قبل موته وارتدت قبله أو بعده أو قتلت ابنه أو أباه أو وطئت بشبهة، قال في " المحيط " في رواية الحسن عنه، وهي الأصح يحرم عليه غسله، خلافا لزفر، والمطلقة الرجعية تغسله، وبه قال أحمد، وعند الشافعي: لا يغسل أحدهما الآخر كالبائن والفسخ، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الرجعي كالمذهبين. وفي " المبسوط " و " المحيط ": لو كانت مجوسية وهو مسلم لا تغسله إلا أن تسلم، ولو ارتدت ثم أسلمت لا تغسله، ولو وطئت بشبهة ثممات وانقضت عدتها من ذلك الوطء لا تغسله خلافا لأبي يوسف، ولو طلق إحد امرأتيه ثلاثا وقد دخل بها لم تغسله واحدة منهما. وفي " المحيط ": إذا ظاهر منهما ثم مات الأصح أنها تغسله، ولا تغسله أمته، لأنه مثل الغير، ولا مديرته ولا أم ولده. وفي " البدائع " في أم الولد روايتان، في رواية تغسله لقول زفر ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - والثانية لا تغسله. وقال النووي: الأصح أنه ليس لأم الولد أن تغسل سيدها، وله غسلها.
وقال المرغيناني: الخنثى ييمم، وقيل: يغسل في ثيابه. وقال الحلواني: يجعل في كوارة ويغسل. وعند الشافعية يغسل المحرم وإن لم يكن، قيل يغسل من فوق بثوب، وقيل ييمم.
لا غسل على من غسل ميتا، وهو قول عامة أهل العلم كابن عباس وابن عمر وعائشة والحسن البصري والنخعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وحكاه أبو بكر ابن المنذر وقال: لا شيء عليه، وليس فيه حديث يثبت.
وعن علي وأبي هريرة أنهما قالا من غسل ميتا فليغتسل، وبه قال ابن المسيب وابن سيرين والزهري. وقال النخعي وأحمد وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يتوضأ. وقال مالك: أحب له(3/192)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الغسل، واستحبه الشافعي. وقال في " البويطي ": إن صح الحديث قلت بوجوبه. والأول أصح.
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل ميتا فليغتسل» رواه أبو داود وغيره.
وقال البيهقي: الصحيح أنه موقوف على أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقال الترمذي عن البخاري أنه قال: إن أحمد وعلي بن المديني قالا: لا يصح في الباب شيء، وكذا قال محمد بن يحيى شيخ البخاري، ورواه البيهقي أيضا من رواية حذيفة مرفوعا، وإسناده ساقط.
وأما «حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه غسل أباه أبا طالب فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يغتسل» ورواه البيهقي من طريق فهو حديث باطل.
وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل من الجنابة ويوم الجمعة ومن الحجامة وغسل الميت» رواه أبو داود وغيره بإسناد ضعيف، وهكذا الحديث في الوضوء من حمل الميت ضعيف. وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ» وقال الترمذي: حديث حسن، قال النووي: بل عليه قوله حسن بل هو ضعيف، بين ضعفه البيهقي وغيره.
وقال المزني: هذا الغسل غير مشروع، وكذا الوضوء من مس الميت وحمله، لأنه لم يصح فيها شيء. وقال في " المختصر ": لو مس خنزيرا فليس عليه شيء من الوضوء ولا الغسل، فالمؤمن أولى. قال النووي: هذا قوي.
وقال أصحابنا: هذا إذا ثبت محمول على غسل ما أصابه من غسالة الميت. والوصي إذا حمله ليصلي عليه، والمحرم وغير المحرم فيه سواء عندنا. وقال مالك مثله. وقال الشافعي وأحمد وعطاء وداود لا يغطى رأسه، وإن كان امرأة لا يغطى وجهها، ولا يلبس المخيط ولا يقرب الطيب.(3/193)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولنا عموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غطوا رؤوس موتاكم ولا تشبهوا باليهود» ، ويستحب أن يكون الغاسل أقرب الناس إلى الميت، فإن لم يكن أو كان لا يعلم الغسل يغسله أهل الأمانة والورع. ولو كان الغاسل جنبا أو حائضا أو كافرا جاز، ولكن يكره.
ولو اختلط موتى المسلمين بموتى الكافرين يغسلون إن كان المسلمون أكثر. وقال مالك والشافعي - رحمهما الله -: يصلى عليهم بالتحري، ومن لا يدري أنه مسلم أوكافر إن كان عليه شبه المسلمين، أو في متاع دار الإسلام يغسل، وإلا فلا. ولو سبي صبي مع أحد أبويه ثم مات لا يغسل حتى يقر بالإسلام أو يعقل. وفي الكل اختلاف. ولو سبي وحده غسل وصلي عليه تبعا للدار.
ولو وجدت أكثر الميت أو نصفه مع الرأس غسل وصلي عليه وإلا فلا، وبه قال مالك. وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -: يغسل القليل أيضا ويصلى عليه. وقال ابن جبير: لا غسل إلا على البدن الكامل، والأفضل أن يغسل الميت مجانا، ولو طلب الغاسل الأجر فإن كان في البلدة غيره يجوز له أخذ الأجرة، وإن لم يكن لا يجوز، وأما أجرة خائطة الكفن وأجرة الحامل والدفان من رأس المال.(3/194)
فصل في التكفين السنة أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب، إزار وقميص ولفافة، لما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في التكفين] [ما يجزئ في الكفن بالنسبة للرجل]
م: (فصل في التكفين) ش: أي هذا فصل في بيان أمور التكفين. ولما فرغ من بيان غسل الميت، شرع في بيان كفنه على الترتيب. والتكفين مصدر من كفن بالتشديد. وقال الجوهري: الكفن غزل الصوف. يقال: كفن يكفن يعني من باب نصر ينصر، ثم قال: والكفن معروف، يقال: كفنت الميت تكفينا.
م: (السنة أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب) ش: ذكر لفظ السنة هنا لبيان كيفية التكفين لا في أصله، لأن أصل التكفين واجب بدليل أنه يقدم على الدين والوصية والإرث، وبدليل أن الميت إذا لم يترك شيئا، أو لم يكن له من يجب عليه نفقته يفترض على الناس أن يكفنوه إن قدروا عليه، وإلا سألوا الناس. وأما قول صاحب " التحفة " عن تكفين الميت بعد الغسل، لأنه سنة ففيه تسامح، وقد نص في " البدائع " وغيره على أنه واجب وقيل فرض كفاية كالصلاة والغسل.
م: (إزار وقميص ولفافة) ش: يجوز جر هذه الأشياء ورفعها، أما الجر فعلى أنها بدل من أثواب، وأما الرفع فعلى أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي إزار وقميص ولفافة، وسيأتي بيانها عن قريب م: (لما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية» ش: هذا الحديث رواه الأئمة الستة في كتبهم من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة» .
وفي رواية أبي داود «ثلاثة أثواب يمانية بيض» . وفي رواية النسائي فذكر لعائشة قولهم في ثوبين وبرد حبرة، فقالت: قد أتى بالبرد، ولكنهم ردوه. وفي رواية لمسلم: «أما الحلة فإنها شبه على الناس فيها أنها اشتريت له ليكفن فيها فتركت الحلة» .
قيل: استدلال المصنف بهذا الحديث لا يتم، لأنه حجة عليه في عدة القميص.
قلت: استدلاله لا يتم إلا بحديث جابر بن سمرة فإنه قال: «كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أثواب قميص وإزار ولفافة» رواه ابن عدي في " الكامل ". وهذا هو المناسب في الاستدلال وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يناسب، لأنه صرح فيه بعدم القميص، والشافعي أخذه بظاهره واحتج به على أن الميت يكفن في ثلاث لفائف، وبه قال أحمد. وقال النووي: في إ زار ولفافتين ليس فيها قميص، والإزار من السرة، واستحب مالك القميص كقولنا.(3/195)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال النووي: إن شاء كفنه بقميص ولفافتين، وإن شاء بثلاثة لفائف. وقال ابن المنذر: وممن قال يكفن في ثلاثة أثواب طاوس والأوزاعي، ومالك يجيز اثنين إذا لم يوجد غيرهما، قال: وقال النعمان: ويكفن الرجل في ثوبين.
قلت: السنة عنده ثلاثة كما هو مذكور في كتب أصحابنا، ونقله عنه خطأ، ولكن يجزئه ثوبان. وفي " المحيط " و " جوامع الفقه " ثلاثة أثواب قميص وإزار ورداء، فذكر الرداء موضع اللفافة.
فإن قلت: إذا لم يتم الاستدلال بالحديث المذكور، فما دليل أصحابنا أن الثلاثة فيها قميص، والحديث ليس فيها قميص؟ قلت: أكثر أصحابنا احتجوا بالحديث المذكور بناء على أن نقلهم بعض الحديث الذي يوافق لما ذهبوا إليه غير أن صاحب " الدراية " قال: ولنا حديث ابن عباس «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في ثلاثة أثواب فيها قميص» . وروى عبد الله بن مغفل «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في قميصه الذي مات فيه» .
وروى البخاري ومسلم «أن عبد الله بن أبي بن سلول سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعطيه قميصه ليكفن فيه أباه، فكفن فيه» .
وروى البزار «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في سبعة أثواب» يعني ثلاثة سحولية وقميصه وعمامته وسراويله وقطيفته التي جعلت تحته.
قلت: هذا الشارح نقل هذه الأحاديث نقلا مجردا من غير تعرض لحالها. وأما حديث ابن عباس، فرواه أبو داود، وأحمد بن حنبل وعثمان بن أبي شيبة قالا: ثنا ابن إدريس عن يزيد يعني ابن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس قال: «كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أثواب نجرانية الحلة ثوبان، وقميصه الذي مات فيه» . قال عثمان: «في ثلاثة أثواب، حلة حمراء وقميصه الذي مات فيه» .
وأما حديث عبد الله بن مغفل، وأما حديث البزار فرواه عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ورواه أحمد وابن أبي شيبة أيضا.
فإن قلت: في سند حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف،(3/196)
ولأنه أكثر ما يلبسه عادة في حياته، فكذا بعد مماته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولا يحتجون بحديثه.
قلت: لا نسلم ذلك، فإن مسلما قد أخرج له في المتابعات، وفي " الكمال " روى له مسلم وأبو داود والترمذي، ولما أخرج أبو داود حديثه هذا سكت عنه، وذلك دليل رضاه بصحته.
فإن قلت: في سند حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو سيء الحفظ.
قلت: قالوا إن حديثه يصلح للمتابعات، وإذا انفرد فحسن، وإذا خالف فلا يقبل، وروى الحاكم من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما يعضد رواية ابن عقيل هذه.
ولنا في هذا الباب حديث آخر، رواه ابن عدي في " الكامل " عن ناصح بن عبد الله الكوفي عن سماك عن جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أثواب، قميص وإزار ولفافة» . وروى محمد بن الحسن في كتاب " الآثار " أخبرنا أبو حنيفة عن حماد ابن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في حلة يمانية وقميص» . وأخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " وأخرج عن الحسن نحوه.
قوله: " ثلاثة أثواب " الأثواب جمع ثوب. وقوله: " بيض " بكسر الباء جمع أبيض. وقوله: " سحولية " بفتح السين ثياب منسوبة إلى السحول، وهو القشر، لأنه يسحلها أي يقشرها، أو سحول قرية باليمن، وبالضم جمع سحل، وهو الثوب الأبيض من القطن، وعلى هذا ذكرها مع البيض للتأكيد، وفيه شذوذ من حيث نسبتها إلى الجمع، وتجمع على سحل أيضا، وقيل بالضم أيضا اسم القرية. وفي " المغرب " الفتح هو المشهور.
وقال الهروي: بفتح السين وهي ثياب منسوبة إلى قرية باليمن، وعن الأزهري بالضم. وجاء في رواية " ثلاثة أثواب سحول " بالضم، بدل من الأثواب جمع سحل أو وصف معناه بيض.
م: (ولأنه أكثر ما يلبسه عادة في حياته، فكذا بعد مماته) ش: هذا دليل عقلي، أي ولأن الميت أكثر ما يلبس الثياب الثلاث عادة في حياته فكذلك ينبغي أن يكون كفنه ثلاثة أثواب بعد مماته اعتبارا بحال الحياة.
وفي " المبسوط " وغيره: لأنه كان يخرج في ثلاثة أثواب في العادة قميص وسراويل وعمامة، وفيه نظر، لأن عادة الخارج من بيته أن يكون في أربعة أثواب يلبس فوق القميص قباء أو جبة أو نحوهما، ثم الزيادة على الثلاثة فقد ذكر في " الذخيرة " في كتاب الحي لو صام يكفن(3/197)
فإن اقتصروا عل ثوبين جاز. والثوبان إزار ولفافة، وهذا كفن الكفاية لقول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اغسلوا ثوبي هذين وكفنوني فيهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرجل زيادة على الثلاثة إلى خمسة أثواب، مثل كفن النساء فلا يكره، ولا بأس به.
وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال مالك: يستحب إلى الخمسة للرجال والنساء، وإلى التسعة مباحة، وما زاد فسرف، ذكره في " الذخيرة " للمالكية، وكره أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الزيادة على الثلاثة والنقص عنها، عنه رواية أخرى كقولنا.
ولنا أن ابن عمر كفن ابنه واقدا في خمسة أثواب، قميص وعمامة وثلاث لفائف وأدار العمامة غل تحت حنكه، رواه سعيد بن منصور، وأوصى أنس إلى ابن سيرين - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يغسله فغسله وكفنه في خمسة أثواب، أحدها العمامة وطلاه بالمسك من فوقه إلى قدمه، رواه ابن حرب في " مسائله ".
وفي " المبسوط ": وكره بعض مشايخنا العمامة، لأنه يصير شغفا، واستحسنه بعض المشايخ لحديث ابن عمر المذكور، وكان يعمم الميت، ويجعل دفنها على الوجه، بخلاف الحي، لأنه للزينة في الحي.
وفي " المرغيناني ": قال بعض المشايخ: إن كن عالما معروفا أو من الأشراف يعمم، وإن كان من الأوساط لا يعمم.
م: (فإن اقتصروا على ثوبين جاز، والثوبان إزار ولفافة) ش: أي الثوبان اللذان اقتصروا عليهما إزار ولفافة، وهذا ذكر في " المفيد " و " المزيد " و " التحفة " والدليل عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المحرم الذي وقصته دابته «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين» رواه البخاري وغيره في السنة من حديث ابن عباس م: (وهذا كفن الكفاية) ش: أي الاقتصار على الثوبين كفن الكفاية، لأن الأكفان على ثلاثة أقسام كفن السنة، وكفن الكفاية، وكفن الضرورة، وقد ذكر كفن السنة في حق الرجل، وهذا كفن الكفاية، وسيأتي بيان كفن الضرورة عن قريب.
م: (لقول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اغسلوا ثوبي هذين وكفنوني فيهما) ش: هذا أخرجه أحمد في كتابه " الزهد ": ثنا يزيد بن هارون أنا إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله التيمي مولى الزبير بن العوام عن عائشة بأطول منه، وفيه: انظروا ثوبي هذين فاغسلوهما ثم كفنوني فيهما، فإن الحي أحوج إلى الجديد منهما.
وروى ابنه عبد الله بن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في كتاب " الزهد " أيضا ثنا هارون بن معروف ثنا حمزة عن جابر بن أبي سلمة عن عباد بن نسي قال: لما حضرت أبا بكر والوفاة قال لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: اغسلوا ثوبي هذين ثم كفنوني فيهما، فإنما أكون أحد رجلين إما(3/198)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مكسو أحسن الكسوة أو مسلوب أسوأ السلب.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لثوبيه الذي كان مرض فيهما: اغسلوهما وكفنوني فيهما، فقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: ألا نشتري لك جديدا؟ قال: لا، إن الحي أحوج إلى الجديد من الميت.
وروي أيضا عن جريج عن عطاء، قال: سمعت عبيد بن عمير يقول: أمر أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إما عائشة وإما أسماء بنت عميس بأن يغسل ثوبين كان مرض فيهما ويكفن فيهما، فقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أو ثيابا جددا؟ قال: الأحياء أحق بذلك.
ورواه ابن سعد في " الطبقات " أنا الفضل بن دكين أنا سيف بن أبي سليمان، قال: سمعت القاسم بن محمد قال: قال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين حضره الموت: كفنوني في ثوبي هذين اللذين كنت أصلي فيهما واغسلوهما فإنها للمهل والتراب.
ورواه أيضا عن الواقدي عن معمر بسند عبد الرزاق ومتنه، وذكره محمد بن الحسن في كتاب " الآثار " بلاغا، فقال: بلغنا عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: اغسلوا ثوبي هذين وكفنوني فيهما.
قلت: العجب من السروجي كيف يقول في الكتاب لقول أبي بكر الصديق اغسلوا ثوبي هذين وكفنوني فيهما لا أصل له.
نعم روى البخاري خلاف هذا أخرج عن عائشة أن أبا بكر قال لها: في كم كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالت: في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، قال: في أي يوم توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قلت: يوم الاثنين، قال: فأي يوم هذا؟ قال: يوم الاثنين، قال: أرجو فيما بيني وبين الليل فنظر إلى ثوب كان مرض فيه به ردع من زعفران، فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين، فكفنوني فيهما، قالت: إن هذا أخلق، قال: إن الحي أحق بالجديد من الميت، إنما هو للمهلة، فلم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء ودفن قبل أن يصبح، انتهى.
الردع بفتح الراء اللطخ والأثر، والمهلة بضم الميم وكسرها وفتحها هي دم الميت وصديده.
والجواب عن قولها ليس فيها قميص أن معناه لم يتخذ قميص جديد أو قميص كامل له كمان ودخاريص، ويقال معناه لم يكن فيها قميص الأحياء، وأيضا حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - معارض بما روي عن عبد الله بن المغفل وابن عباس، والأولى أن يعمل بروايتهما، لأنهما حضرا تكفين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعائشة لم تحضر، والحال أكشف على الرجال، لأنهم هم المباشرون،(3/199)
ولأنه أدنى لباس الأحياء، والإزار من القرن إلى القدم، واللفافة كذلك، والقميص من أصل العنق إلى القدم، وإذا أرادوا لف الكفن ابتدؤوا بجانبه الأيسر فلفوه عليه ثم بالأيمن كما في حال الحياة وبسطه أن يبسط اللفافة أولا ثم يبسط عليها الإزار ثم يقمص الميت ويوضع على الإزار ثم يعطف الإزار من قبل اليسار ثم من قبل اليمين، ثم اللفافة كذلك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومع ذلك الميت أولى من الباقي.
م: (ولأنه أدنى لباس الأحياء) ش: هذا دليل عقلي، والضمير في لأنه يرجع إلى الاقتصار الذي يدل عليه قوله: " فإن اقتصروا على ثوبين " أي لأن الاقتصار على ثوبين أدنى لباس الأحياء، فيقتصر أيضا في التكفين على ثوبين، لأنهما كسوته بعد الوفاة، فيعتبر بكسوته في الحياة، ولهذا تجوز صلاته فيهما بلا كراهة.
م: (والإزار من القرن إلى القدم) ش: هذا دليل حد الإزار الذي هو أحد الثياب الثلاثة، وأراد بالقرن الرأس، يقال الأول ما تطلع الشمس قرن الشمس وقرنا الرأس، أي ناحيتاه. وقال الأترازي: القرن ها هنا بمعنى الشعر.
قلت: كل ضفيرة من ضفائر الشعر تسمى قرنا. والقرن يأتي لمعان كثيرة م: (واللفافة كذلك) ش: أي من القرن إلى القدم.
م: (والقميص من أصل العنق إلى القدم) ش: لكن بلا جيب ولا دخريص وفي " مغني الحنابلة " يلبس القميص ويكون مثل قميص الحي له كمان ودخاريص وأزارر [......] .
قلنا: الحي يحتاج إلى هذه الأشياء ليتمكن له المشي فيه، بخلاف الميت.
م: (وإذا أرادوا لف الكفن ابتدؤا بجانبه الأيسر، فلفوه ثم بالأيمن) ش: هذه صفة لف الكفن على الميت، وإنما يقدم الابتداء بالجانب الأيسر، لأن لليمين فضلا على اليسار، فإذا أخر لف اليمين فوق اليسار، أشار إليه بقوله " ثم بالأيمن " أي ثم ابتدأوا بالجانب بالجانب الأيمن ليكون على الأيسر م: (كما في حال الحياة) ش: أي كما يبتدأ في حالة الحياة في لبس القباء بالجانب الأيسر، ليكون الجانب الأيمن عليه، وحالة الموت تعتبر بحالة الحياة. م: (وبسطه) ش: أي وبسط الكفن، وهو مبتدأ وخبره قوله: م: (أن بسط اللفافة أولا) ش: يعني بغير شيء.
م: (ثم يبسط عليها الإزار) ش: أي على اللفافة، فيكون الإزار بين اللفافة والقميص م: (ثم يقمص الميت) ش: أي ثم يلبس الميت قميصه م: (ويوضع على الإزار ثم يعطف الإزار من قبل اليسار، ثم من قبل اليمين) ش: وذلك كما ذكرنا ليكون الجانب الأيمن على الأيسر م: (ثم اللفافة كذلك) ش: أي ثم يعطف اللفافة كما يعطف الإزار في الابتداء من الجانب الأيسر، ليكون الأيمن فوقه.(3/200)
وإن خافوا أن ينتشر الكفن عنه عقدوه بخرقة صيانة عن الكشف، وتكفن المرأة في خمسة أثواب درع وإزار وخمار ولفافة وخرقة تربط فوق ثدييها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[ما يجزئ في الكفن بالنسبة للمرأة]
م: (وإن خافوا أن ينتشر الكفن عقدوه بخرقة صيانة) ش: أي لأجل صيانة الميت م: (عن الكشف) ش: ولا سيما في المرأة م: (وتكفن المرأة في خمسة أثواب) ش: هذا كفن السنة في حقها على ما يأتي عن قريب م: (درع وإزار وخمار ولفافة تربط فوق ثدييها) ش: يجوز في درع وما بعده الجر على البدلية والرفع على أنه خبر مبتدأ، أي درع.... إلخ، ويجوز النصب أيضا على تقدير أعني درعا وإزارا وخمارا ولفافة وخرقة، وقوله تربط فوق ثدييها في محل الرفع أو الجر أو النصب على أنه صفة لخرقة.
وقال ابن المنذر في " الأشراف " كل من يحفظ عنه يرى أن تكفن المرأة في خمسة أثواب كالشعبي والنخعي والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وعن ابن سيرين: تكفن المرأة في خمسة أثواب درع وخمار ولفافتين وخرقة.
وعن النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تكفن في خمسة، درع وخمار ولفافة ومبطن ورداء وعن الحسن: في خمسة، درع وخمار وثلاثة لفائف. وعن عطاء: تكفن في ثلاثة أثواب درع وثوب تحته وثوب فوقه. وقال سليمان بن موسى الأشدق الدمشقي: تكفن في درع وخمار ولفافة تدرج فيها.
وقال الشافعي: تكفن في خمسة: ثلاث لفائف وإزار وخمار، وفي " القديم " قميص ولفافتان وهو الأصح، واختاره المزني: وقال أحمد: تكفن في قميص ومئزر ولفافة ومقنعة وخامة تشد بها فخذها.
وفي " المنافع ": الخرقة ثوب واحد من بين ركبتيها إلى صدرها، وتكون فوق الأكفان على الثديين والبطن حتى لا يشد الكفن عنها. وفي " المبسوط " و " المجتبى " والخرقة تشد فوق الأكفان على القدمين والمبطن لئلا ينتشر الكفن. وقيل: على الثديين إن عظمتا وإلا على البطن.
وعند زفر: على فخذها كيلا يضطرب إذا حملت على السرير، والصبي المراهق كالبالغ، والمراهقة كالبالغة، وأدنى ما يكفن به الصبي الصغير ثوب واحد، والصغيرة ثوبان، وفي " المبسوط " والطفل الذي لم يتكلم إن كفن في خرقتين إزار ورداء فحسن، ويجوز في إزار واحد، والسقط والمولود ميتا يلف في خرقة.
وقال ابن المسيب: يكفن الصبي في ثوب. وقال النووي: يجزئه ثوب. وقال أحمد وإسحاق: يكفن في خرقة، وإن كفنوه في ثلاثة فلا بأس. وعن الحسن يكفن في ثوبين. وقال الشافعي: وأقله ما يستر العورة، وعنهم ثوب يعم البدن، وأكثرهم صحح الأول، وإمام الحرمين والغزالي والبغوي والسرخسي من الشافعية قطع بالثاني وحسين صححه، وحكى(3/201)
لحديث أم عطية «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى اللوائي غسلن ابنته خمسة أثواب»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البندنيجي وجها ثالثا، وهو وجوب الثلاثة.
وقال النووي: وهو شاذ مردود، ثم المستحب في الكفن البياض جديدا كان أو غسيلا. وفي " البدائع " هما سواه إن كان خلقا، وقال حسين والبغوي من الشافعية: الغسيل أفضل من الجديد. وفي " الروضة " ويكفن في القطن والكتان والبرود إن كان لها أعلام ما لم يكن فيها تماثيل.
وفي " شرح المهذب " للنووي: ويجوز بالكتان والقطن والصوف والوبر والشعر على لبسه عادة، ويكره للرجال المزعفر والمعصفر، والحرير، والإبريسم، ذكرها في " المحيط " و " الإيضاح " وغيرهما، ولا يكره للنساء. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكره تكفينها في الحرير والمعصفر والمزعفر، ومن يكره تكفين الموتى في الحرير الحسن البصري وابن المبارك وإسحاق.
وقال ابن قدامة في تكفين المرأة في الحرير احتمالان، أقيسهما الجواز، وكره مالك المعصفر في " المدونة "، ومنع الحرير فيه للرجال والنساء، وروي جوازه للرجال والنساء، وكره في " الذخيرة " وجوزه ابن حبيب للنساء خاصة، وذكره مالك الخز لأن سداه حرير.
ولنا أن حالها بعد موتها في حق الكفن معتبرة بحال الحياة، والمرأة لا يكره في حقها في حال حياتها ذلك فكذا بعد موتها بخلاف الرجل، وإن لم يوجد إلى حرير يجوز الكفن به ولا يزاد على ثوب واحد.
1 -
م: (لحديث أم عطية أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى اللوائي غسلن ابنته خمسة أثواب» ش: اسم أم عطية نسيبة بنت الحارث، وقيل بنت كعب الغاسلة، وحديثها بهذا اللفظ غريب، وبغير هذا اللفظ أخرجه الجماعة، ولفظ البخاري قالت: «لما غسلنا ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي زينب زوج أبي العاص،» وهي أكبر بناته -، ومصرح به في لفظ مسلم: عن أم عطية قالت: «لما ماتت زينب بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لنا ونحن نغسلها: اغسلنها وترا....» الحديث.
وفي " سنن أبي داود " و " مسند أحمد " و " تاريخ البخاري الأوسط " أنها أم كلثوم أخرجوه عن ابن إسحاق حدثني نوح بن حكيم الثقفي وكان قارئا للقرآن عن رجل من بني عروة بن مسعود يقال له داود قد ولدته أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عن ليلى بنت قانف الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحقاء ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس عند الباب ومعه كفنها يناولناها ثوبا ثوبا» .
وقال المنذري في " مختصره " فيه محمد بن إسحاق، وفيه من ليس بمشهور، والصحيح أن(3/202)
ولأنها تخرج فيها حالة الحياة، فكذا بعد الممات. هذا كفن السنة. وإن اقتصر على ثلاثة أثواب جاز وهي ثوبان وخمار وهو كفن الكفاية، ويكره أقل من ذلك، وفي الرجل يكره الاقتصار على ثوب واحد إلا في حالة الضرورة، لأن مصعب بن عمير حين استشهد كفن في ثوب واحد، وهذا كفن الضرورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذه القضية في زينب. لأن أم كلثوم توفيت ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غائب ببدر، قوله " الحقاء " بكسر الحاء هو الحقو بالفتح والكسر، وهو المئزر، و " قانف " بالنون.
م: (ولأنها تخرج فيها حالة الحياة، فكذا بعد الممات) ش: أي ولأن المرأة تخرج من بيتها في خمسة أثواب، درع وخمار وإزار وملاءة ونقاب، فكذا يكون بعد موتها، وفي " المبسوط " ويجوز لها أن تخرج فيها وتصلي، فكذا بعد الموت.
م: (هذا كفن السنة) ش: أشار بهذا إلى أن ما ذكره في خمسة أثواب في كفن المرأة، هو كفن السنة، للحديث المذكور، م: (وإن اقتصر) ش: على صيغة المجهول م: (على ثلاثة أثواب جاز، وهي ثوبان وخمار) ش: المراد من الثوبين: (الإزار واللفافة، صرح بذلك في " الينابيع ".
م: (وهو كفن الكفاية) ش: أي الاقتصار على الثلاثة هو كفن الكفاية في حق المرأة م: (ويكره أقل من ذلك) ش: أي يكره الاقتصار على أقل من الثلاثة في حق المرأة إذا كان بغير عذر.
م: (وفي الرجل يكره الاقتصار على ثوب واحد) ش: لأنه لا يستركما ينبغي، ولهذا أجمعوا على أنه لا يكفن في ثوب يصف ما تحته ولا يستر، وقال ابن تيمية: ولا يجزئ ستر العورة وحدها، خلافا للشافعي م: (إلا في حالة الضرورة) ش: أي حالة الضرورة مستثناة في الشرع م: (لأن «مصعب بن عمير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين استشهد كفن في ثوب واحد» ش: هذا أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه «عن خباب بن الأرت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: هاجرنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نريد وجه الله.
فوقع أجرنا على الله فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد وترك نمرة، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا بها رجليه بدت رأسه، فأمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه شيئا من الإذخر» أخرجه الترمذي في " المناقب " والباقي في الجنائز.
«وكفن حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في ثوب واحد، وأمرنا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بتغطية رجليه بالإذخر» دليل ذلك على أن ستر العورة وحدها لا تجزئ، خلافا للشافعي. والنمرة بفتح النون وكسر الميم كساء ملون، والإذخر على مثال الإثمد نبت بمكة، كذا قاله الأترازي وليس بمخصوص بمكة.
م: (وهذا كفن الضرورة) ش: أي الثوب الواحد كفن الضرورة. وفي " المبسوط " ولو كفنوه في ثوب واحد فقد أساؤوا، لأن في حياته تجوز صلاته في إزار واحد مع الكراهة، فكذا بعد(3/203)
وتلبس المرأة الدرع أولا، ثم يجعل شعرها ضفيرتين على صدرها فوق الدرع، ثم الخمار فوق ذلك ثم الإزار تحت اللفافة، وتجمر الأكفان قبل أن يدرج فيها الميت وترا؛ «لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بإجمار أكفان ابنته وترا» والإجمار هو التطيب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الموت إلا عند الضرورة بأن لم يوجد غيره.
م: (وتلبس المرأة الدرع أولا ثم يجعل شعرها ضفيرتين على صدرها فوق الدرع) ش: وقال الشافعي: يسرح شعرها ويجعل ثلاثة ضفائر، ويجعل خلف ظهرها، لأن التي غسلت ابنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلت كذلك، والظاهر أنها فعلت ذلك بأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلنا: هذا للزينة، والميت مستغن عنها، وما رواه يحتمل والحكم لا يثبت به. م: (ثم الخمار فوق ذلك) ش: أي ثم تلبس الخمار فوق الدرع تحت الإزار م: (ثم الإزار) ش: أي تلبس الإزار م: (تحت اللفافة) ش: يعني تبسط اللفافة، ثم يبسط الإزار فتوضع المرأة في الإزار، ويكون الخمار تحت الإزار واللفافة، وتربط فوق عند الصدر، وقد ذكرنا الروايات فيه.
م: (وتجمر الأكفان قبل أن يدرج فيها الميت وترا) ش: أي قبل أن يدرج الميت في الأكفان وانتصاب وترا على أنه صفة للتجمير الذي يدل عليه قوله أي تجميرا وترا، يعني مرة أو ثلاثا أو خمسا، ولا يزاد على ذلك، وفي " الإمام " عن أبي يعلى الموصلي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جمرتم الميت فأوتروا» والتجمير هو إحراق عود في المجمرة لتبخر به الأكفان، وفي " المجتبى " قيل: يحتمل بالتجمير جمع الأكفان وترا ها هنا قبل الغسل، يقال أجمر كذا إذا جمعه، والأول هو الأظهر.
وفي " الذخيرة " للمالكية: وللتجمير أربع أحوال عند خروج روحه كرهه مالك، واستحسنه ابن حبيب، وعند غسله يستحب بقطع الروائح كتجمير ثيابه، وهو متفق عليه، وخلف الجنازة متفق على كراهته، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار» رواه أبو داود، ولما فيه من التشاؤم بالنار: وفي " المبسوط " يكره الإجمار في القبر واتباع الميت بها. قال النخعي: أكره أن يكون آخر زاده من الدنيا نارا.
م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر بإجمار أكفان ابنته وترا) ش: هذا غريب لم يرد هذا الوجه، ولكن روى ابن حبان في " صحيحه " من حديث جابر مثلما ذكر عن أبي يعلى آنفا، ولكن لفظه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثا» وفي لفظ له «فأوتروا» وفي لفظ للبيهقي «جمروا كفن الميت ثلاثا» قال النووي: وسنده صحيح.
م: (والإجمار هو التطيب) ش: يقال: ثوب مجمر، أي مبخر بالطيب، ويقال من باب التفعل، ومن باب الإفعال يعني مجمر ومجمر، وجمرت الثوب، وأجمرته، والذي يتولى ذلك يقال له مجمر من التجمير.(3/204)
فإذا فرغوا عنه صلوا عليه، لأنها فريضة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإذا فرغوا عنه) ش: أي عن تكفين الميت م: (صلوا عليه، لأنها) ش: أي لأن الصلاة على الميت م: (فريضة) ش: أراد به فرض الكفاية، وهذا مجمع عليه. وقال أصبغ من المالكية: هي سنة، قاله ابن القاسم في المجموعة، وقال مسند صاحب " الطراز " وهو المشهور، بل قال مالك: هي أخفض من السنة والجلوس في المسجد والنافلة أفضل منها إلا جنازة من ترجى بركته أوله حق قرابة أو غيرها، واستدلوا بانتقاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة الكسوف عن الصلاة على ولده، ولو كانت واجبة لقدمت. قال النووي: هذا قول مردود لا يلتفت إليه.
قلت: لا تعلق لهم به، فإنه أخرها حتى يجهز فأمكن الجمع بينهما.
وفي " البدائع " و " التحفة ": هي فريضة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على كل بر وفاجر» ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على من قال لا إله إلا الله» رواه الدارقطني، وهو ضعيف. وقال صاحب " المحيط ": وهي فرض كفاية كالجهاد لكي لا ينبغي الاجتماع على الترك كالجهاد.
فروع: تكفين الميت واجب، وقيل: سنة، والأول هو الصحيح، نص على وجوبه في " البدائع " وغيره، وعلى ورثته أن يكفنوه من جميع ماله قبل الدين والوصية والميراث، ويستثنى منه ما إذا كانت التركة عبدا جانيا أو كانت مرهونة، فإنهما يقدمان على التكفين، وفي " المحلى " والدين مقدم على الكفن، وتكفينه حينئذ واجب على من حضر من المسلمين من غريم وغيره، انتهى.
وقال خلاس بن عمرو: التكفين من الثلث، وقال طاوس: إن كان ماله كثيرا فمن رأس ماله، وإلا فمن ثلثه، ولو أوصى بزيادة على كفن المثل يعتبر من ثلث ماله ويقدم على وصاياه، وتبطل بالدين [....
... ] فإن لم يكن له مال يجب على من تجب عليه نفقته في حياته من أقاربه إلا الزوجة، فإنه يجب على زوجها عند أبي يوسف، وعليه الفتوى، وهكذا في الملتقطات و " منية المفتي " وعامة كتب الفقه. وفي " شرح الفرائض السراجية " لمصنفها جعله قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو الأصح في قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وبه قال مالك.
وقال محمد: الزوج كالأجنبي وهو قول الشعبي وأحمد. وفي " جوامع الفقه ": ويجب على ولدها عند محمد، ثم قال: الأقارب فالأقرب فالأقرب، ثم على بيت المال. وفي " الجوامع " أيضا: فإن لم يكن شيء من ذلك سألوا من الناس بما يواريه، وإن لم يوجد غسل ودفن، وجعل [ ... ] على قبره.
ولا يجب على الزوجة كفن الزوج بالإجماع لنفقته. وقال ابن الماجشون: كفنها عليه، إن كان لها مال، وهو رواية عن مالك. وفي " المرغيناني " و " الروضة " وغيرهما: يجب الكفن على قدر المواريث، كما إذا ترك أبا أو ابنا فعلى الأب السدس وعلى الابن خمسة الأسداس، فإن ترك(3/205)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بنتا وأختا لأب فعليهما نصفان، ولو كانت له خالة موسرة ومولاه الذي أعتقه قال محمد: كفنه على خالته. ومن لا يجب عليه نفقته لا يجب عليه الكفن وإن كان وارثا كابن العم، ذكره المرغيناني.
ولو كفنه من يرثه يرجع به في تركته، ون كفنه من أقاربه لا يرجع به في التركة، سواء أشهد بالرجوع أو لا، نص عليه في " الهارونيات ". وفي " جوامع الفقه ". ليس لصاحب الدين أن يمنع من كفن السنة، وهو ثلاثة أثواب في الرجل، وخمسة في المرأة مثل ثيابهما في العيدين والجمعة.
وقال الفقيه أبو جعفر: كفن المثل يعتبر بما يلبسه غالبا، ومثل ثيابه. وفي " المرغيناني ": لو كان في المال كثرة وفي الورثة قلة فكفن السنة أولى، وإن كان على العكس فكفن الكفاية أولى، ويجوز كفن السنة مع وجود الأيتام ولا يمنعه تحسين الكفن.
وفي " الذخيرة " للمالكية: ليس للغرماء منع الورثة من ثلاثة، وإن استغرقت الدين. وقال النووي في " شرح المهذب " عند الدين المستغرق يكفن في ثوب واحد في أصح الوجهين، وفي الوجه الثاني في ثلاثة كالمفلس يترك له الثياب اللائقة.
1 -
وإن نبش قبره يكفن ثانيا من رأس المال وبعد قسمة التركة ووفاء الديون تجب على الورثة دون الغرماء وأصحاب الوصايا، وإن نبش بعدما يفتح يلف في خرقة، ولو كفنه أجنبي ثم أكله سبع أو غيره فالكفن للأجنبي، لأنه لم يخرج عن ملكه بعدم التمليك، إذ الميت ليس من أهله. وفي " الذخيرة " جعله قول أبي يوسف ومحمد.
ولو وهبه لوارثه ليكفنه به فهو له، ولو جمعت دارهم تكفنه ثم فضلت فضلة ردت على أصحابها إن علموا وإن لم يعلم معطيها صرفت إلى كفن ميت آخر، فإن تعذر تصدق بها، وهو قول الحنابلة، ذكره ابن تيمية.
حي عريان وميت وبينهما ثوب أو ثوب [....
..] ، فالحي أولى به، وإن كان الحي وارثا. فإن كان الميت كفن وبحضرته مضطر إليه لبرد أو ثلج أو سبب آخر يخشى منه التلف يقدم الحي على الميت، كما لو كان للميت ماء وهناك مضطر إليه لعطش، قدم به على غسله.
بخلاف ما لو كان حاجة الحي إلى السترة للصلاة أو إلى الماء للطهارة، فإن الميت يستر به وبمائه أحق، لأنه باق على ملكه، والحي يمكنه أن يصلي عريانا أو متيمما لوجود العذر، وقالت الشافعية والحنابلة. ويجمع بين الاثنين والثلاثة في كفن واحد عند الضرورة، وعندنا لا يجمع بينهما في كفن واحد فلا ساتر عورة أحدهما عورة الآخر.(3/206)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " قاضي خان " اشترى الوصي من التركة تابوتا وثوبا عليه، وأعطى القراء والشعراء والنوائح الحضار في التعزية، وبنى في القبر بناء منكرا، أو حظيرة، أو مقبرة لا يجوز، ويضمن جميع ذلك إلا التابوت، ولو اشترى بعض الورثة من التركة تابوتا للميت من غير إذن البقية، والأرض يقبر فيها بغير تابوت، يجب عليه دونهم.
مات رجل وله أثواب هو لابسها، وعليه ديون يكفن فيها ولا يباع ثوباه للدين، كما في حال الحياة. مات في السفر وأخذ صاحبه ماله وأنفقه في التجهيز والتكفين لا يضمن استحسانا.(3/207)
فصل في الصلاة على الميت وأولى الناس بالصلاة على الميت السلطان إن حضر، لأن في التقدم عليه ازدراء به، فإن لم يحضر فالقاضي، لأنه صاحب ولاية، فإن لم يحضر فيستحب تقديم إمام الحي لأنه رضيه في حال حياته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الصلاة على الميت] [حكم الصلاة على الميت وأولى الناس بالصلاة عليه]
م: (فصل في الصلاة على الميت) ش: أي هذا فصل في بيان الصلاة على الميت، ولما فرغ من بيان تكفينه شرع في بيان الصلاة عليه على الترتيب.
م: (وأولى الناس بالصلاة على الميت) ش: أي بإقامة الصلاة على الميت م: (السلطان إن حضر، لأن في التقدم عليه ازدراء به) ش: أي استخفافا به، والواجب تعظيمه وتوقيره م: (فإن لم يحضر السلطان فالقاضي) ش: أي فإن لم يحضر السلطان فالقاضي أولى الناس بالصلاة عليه م: (لأنه صاحب ولاية) ش: فيكون أولى من غيره.
م: (فإن لم يحضر) ش: أي القاضي م: (فيستحب تقديم إمام الحي، لأنه رضيه في حال حياته) ش: أي لأن الميت رضيه إماما في حال حياته، فكذا بعد مماته، وهذا الذي ذكره ترتيب القدوري، وروى الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في كتاب الصلاة عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الإمام الأعظم وهو الخليفة أولى بالصلاة عليه إن حضر، فإن لم يحضر فإمام المصر، وهو سلطانها، لأنه في معنى الخليفة، وبعده القاضي، وبعده صاحب الشرط، وبعده خليفة الوالي، وبعده خليفة القاضي، وبعده هو إمام الحي، فإن لم يحضروا فالأقرب من ذوي قرابته، وبهذه الرواية أخذ كثير من المشايخ.
وفي " الذخيرة " ذكر محمد في كتاب الصلاة أن إمام الحي أولى بالصلاة على الميت. وفي " البدائع " ذكر في الأصل أن إمام الحي أولى بالصلاة عليه. وفي " الذخيرة " وإنما قدم إمام الحي في كتاب الصلاة، لأن الخليفة والسلطان لا يوجدان في كل بلد ولا يحضران في الجنائز.
وقال الكرخي في كتابه: وتقديم إمام الحي ليس بواجب، ولكنه أصل، أما تقديم الإمام الأعظم والسلطان فواجب. وقال تاج الشريعة: أولى الناس بالإمامة السلطان الأعظم إن حضر، فإن لم يحضر فسلطان كل مصر، فإن لم يحضر فإمام المصر أو القاضي، فإن لم يحضر أحدهما فإمام الحي.
وفي " الخلاصة ": ولو حضر والي المصر والقاضي فالوالي أولى، فإن لم يحضر الوالي لكن حضر خليفته فخليفته أحق من القاضي وصاحب الشرط. والمختار أن الإمام الأعظم أولى، فإن لم يحضر فسلطان المصر، وإن لم يكن فإمام المصر أو القاضي، فإن لم يكن فإمام الحي،(3/208)
قال: ثم الولي والأولياء على الترتيب المذكور في النكاح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الإمام العتابي: إمام مسجد الجامع أولى من إمام مسجد المحلة.
م: (قال: ثم الولي) ش: أي قال القدوري: ثم الولي أحق بالصلاة عليه. وقال النووي في " شرح المهذب " إن اجتمع الوالي والولي فقولان مشهوران، القديم: الوالي ثم إمام المسجد ثم الولي. والجديد: والولي مقدم. ومثله عن الضحاك، وبالأول قال علي وابن مسعود وأبو هريرة وزيد بن ثابت والحسن والحسين وعلقمة والأسود والحسن البصري وسويد بن غفلة ومالك وأحمد وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
قال ابن المنذر: وهو قول أكثر أهل العلم، قال: وبه أقول. وجه قوله الجديد قَوْله تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] (الأنفال: الآية 75) ، مطلقا من غير فصل بين الحياة والممات، والاعتبار بولاية النكاح، ولأن معظم الفرض هاهنا الدعاء للميت، فمن يختص بالشفقة فدعاؤه أقرب إلى الإجابة، بخلاف سائر الصلوات.
وأما ما روي أن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لما مات خرج الحسين والناس معه لصلاة الجنازة فقدم الحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سعيد بن العاص، وكان أميرا على المدينة من قبل معاوية، فأبي سعيد أن يتقدم، فقال له الحسين تقدم وصل، ولولا السنة ما قدمتك، ولأن هذه صلاة تقام بالجماعة غالبا، فيكون السلطان أولى، ولأن الوالي نائب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الذي كان أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فينوب نائبه منابه في التقدم، ولأن ولايته وولاية القاضي عامة، والآية محمولة على المواريث وعلى ولاية الإنكاح، وليس ولاية الإمامة كولاية الإنكاح، ولأن ولاية الإنكاح مما لا يتصل بالجماعة، فكان القريب أولى كالتكفين والغسل.
وأما قوله دعاء القريب أولى بالإجابة، فقلنا: لا بل دعاء الإمام أقرب لما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «ثلاثة لا يحجب دعاؤهم " وعد منهم الإمام» كذا في " مبسوط شيخ الإسلام " و " المحيط ". م: (والأولياء على الترتيب المذكور في النكاح) ش: أي الترتيب المذكور في النكاح كالترتيب في الإرث والأبعد محجوب بالأقرب، وها هنا كذلك يعتبر الأقرب فالأقرب من ذوي الأنساب، فإن تساويا في القرابة فأسنهما أولى مثل ولدين أو أخوين لأب وأم أو عمين هما متساويان في القرابة وأحدهما أكبر سنا من الآخر، ولو اجتمع الأب والابن ذكر في كتاب الصلاة أن الأب أولى، ومن مشايخنا من قال: هذا قول محمد، وأما على قول أبي حنيفة الابن أولى، وبه قال مالك. وقال أبو يوسف: الولاية لهما لكن الابن يقدم تعظيما له، كما في النكاح. وقيل: لا بل الأب أولى، وبه قال الشافعي وأحمد، وفي " المحيط " وهو الأصح.(3/209)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو اجتمع أخوان لأب وأم أو لأب فأكبرهما سنا أولى كما ذكرنا، وبه قال الشافعي في قول.
ولو أراد الأسن أن يقدم الأجنبي ليس له ذلك إلا برضى الآخر، لأن الحق لهما، لكن قدمناه بالسنة ولا سنة في تقديم من قدمه. وفي قول للشافعي الأتقى مقدم، لأنه أولى. وفي فتاوى العتابي الزوج كالأجنبي، وبه قال الشافعي ومالك. وعن أصحابنا أن الزوج أولى من الأجنبي، وكذا الجار.
وفي " المحيط " ابن عم المرأة أولى من زوجها إذا لم يكن لها ابن من الزوج، وإذ كان للزوج من ولد فالزوج أولى، خلافا للشافعي ومالك، وقال القدوري: سائر القرابات أولى من الزوج، وكذا مولى العتاقة وابنه لأنهما عصبته.
وقال الشافعي: الزوج أولى منهما. وحكى ابن المنذر في " الأشراف " عن أبي بكر الصديق وابن عباس والشعبي وعطاء وعمر بن عبد العزيز وإسحاق وأحمد، أن الزوج أولى بالصلاة على زوجته من الولي. وقال عمر بن الخطاب وسعيد بن المسيب والزهري وبكير بن الأشج والحكم، وقتادة وأصحابنا ومالك والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا ولاية للزوج لانقطاع الزوجية بالموت. قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في امرأته أنتم أحق بها بعد موتها. وقال الأوزاعي والحسن البصري: الأب أحق، ثم الزوج ثم الابن ثم الأخ، وعند الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقدم الأب على الابن، وكذا الجد وعند الشافعي.
وعند مالك الابن أولى، وعن محمد أبو الميتة أولى من ابنها إن كان من غير زوجها، فإن كان منه فالأب أولى ثم الزوج، وفي " شرح الأسبيجابي " ابن ابنها أولى من أبيها، لأنه عصبة لكن يقدم الجد وهو أبو الميتة، ولا يقدم أباه وهو زوجها إلى برضى الجد ثم الأب يقدم على الجد، لكن يقدم أباه، وكذا المكاتب إذا مات ابنه أو عبده فالولاية للمكاتب، وله أن يقدم سيده.
وإن مات المكاتب من غير وفاء وله أب أو ابن وهما حران فالمولى أحق، فإن ترك وفاء فأديت كتابته أو كان المال حاضرا لا يخاف التوى، فالأب أحق، عبد مات فاختصم في الصلاة عليه المولى وابن العبد وأبوه وهما حران، فالمولى أحق، وقيل أبوه الحر أوأخوه الحر أولى لانقطاع الملك بالموت، والفتوى على الأول ذكره في " الملتقطات ".
وفي المجنونة: الأب أحق من الابن عند الكل، هكذا قاله بعض المشايخ، ونص هشام، عن محمد، عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " النوادر ": أن الأب أولى، ولو تشاجر الوليان فتقدم أجنبي، إن صلى الأولياء خلفه جازت، وإلا تعاد، وإلا للولي إعادتها، وإن دفن أعاد على قبره، ولا يعيد من صلى مع الأجنبي من غير الأولياء.(3/210)
فإن صلى غير الولي أو السلطان أعاد الولي، يعني إن شاء لما ذكرنا أن الحق للأولياء، وإن صلى الولي لم يجز لأحد أن يصلي بعده لأن الفرض يتأدى بالأولى والتنفل بها غير مشروع، ولهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن صلى غير الولي أو السلطان أعاد الولي) ش: قيد بالسلطان لأنه لو صلى السلطان فلا إعادة لأحد، لأنه هو المقدم على الولين ثم هو ليس بمنحصر على السلطان، بل كان من كان مقدما على الولي في ترتيب الإمامة في صلاة الجنازة فصلى هو لا يعيد الولي ثانيا، كذا في " فتاوى الولوالجي ". وفي " الظهيرية ": وكذا لو صلى إمام مسجد الجامع لا تعاد. وفي " التجنيس ": للقوم الإعادة ولو اقتدى بعض الأولياء مع رجل وصلى ليس للباقين الإعادة.
م: (يعني إن شاء) ش: أي الولي، وإنما قيد به لأنه لو لم يقيد كان يفهم الوجوب، ولما كان الحق له إن شاء أجاز فعله، وإن شاء لم يجز م: (لما ذكرنا أن الحق للأولياء) ش: فيكون لهم الخيار في ذلك.
م: (وإن صلى الولي لم يجز لأحد أن يصلي بعده) ش: وبه قال النخعي والثوري والليث والحسن بن حي ومالك. وقال الشافعي والأوزاعي يصلي عليه، وعند أحمد إلى شهر.
وقال النووي: فيه أربعة أوجه، أصحها باتفاق الأصحاب لا تستحب الإعادة بل المستحب تركها، وفي وجه يكره إعادتها، وبه قطع الفوراني وصاحب " العدة " وغيرهما، وعند الحنابلة فيها وجهان، واستدلوا بصلاة الصحابة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفرادا. قال ابن عبد البر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " مجمع عليه عند أهل السير والنقل. وقال ابن دحية: أنا أستعجب من قوله مع اتساع علمه، فإن الخلاف منصوص عليه هل صلوا عليه صلاتنا على موتانا أم لا؟ حكى ابن القصار قولين، وهل صلوا عليه أفرادا أو جماعة؟ على الاختلاف.
واختلف فيمن أم، قيل: أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ذكره ابن القصار ولا يصح لضعف روايته، وحكى البزار والطبراني أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أول من صلى علي رب العزة» وهو موضوع، قاله الأزدي والبزار. وقيل صلوا عليه بصلاة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وهو معلول، والصحيح أنهم صلوا أفرادا لا يؤمهم أحد، وهذا مخصوص به. وروي أنه أوصى بذلك، ذكره البزار والطبري، وفي حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «انتهى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى قبر رطب وصفوا خلفه فكبر أربعا» متفق عليه.
وحجتنا ما أشار إليها المصنف بقوله: م: (لأن الفرض يتأدى بالأولى) ش: أي فرض الصلاة على الميت يتأدى بالصلاة الأولى، لأنها فرض كفاية ولا معنى للثانية م: (والتنفل بها غير مشروع) ش: هذا كأنه جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: لم لا يجوز أن يصلي ثانية وكانت نافلة كما في غيرها من الفرائض، فأجاب عن ذلك بقوله " والتنفل بها " أي بالصلاة على الميت غير مشروع، يعني لم يرد به الشرع، ثم أوضح ذلك بقوله: م: (ولهذا) ش: أي ولعدم مشروعية(3/211)
رأينا الناس تركوا عن آخرهم الصلاة على قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو اليوم كما وضع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النفل بالصلاة على الميت م: (رأينا الناس تركوا عن آخرهم الصلاة على قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو اليوم) ش: أي والحال أنه اليوم م: (كما وضع) ش: لأن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -.
1 -
فإن قلت: الاقتصار على صلاة غير الولي جائز، وذلك دليل على سقوط الفرض، ومع هذا لو أعاد الولي جاز فعلم أن التنفل بها مشروع.
قلت: صلاة غير الولي إنما تعتبر عند عدم تعرض الولي، فإذا تعرض بالإعادة زال حكم صلاة غيره، فكان للميت بغير صلاة عليه، فإذا صلى الولي يكون ما صلاه هو الفرض، فإذا كان هو الفرض فكيف يكون نفلا.
فإن قلت: ترك الناس الصلاة على قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان خوفا من أن يتخذ قبره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسجدا أو لم يكن ذلك لأجل عدم مشروعية التنفل بها.
قلت: لا يلزم من الصلاة على قبره اتخاذه مسجدا، ألا ترى أنهم جوزوا أن يصلى عند قبور أهل العلم والأولياء مع مزيد اعتقاد العامة في التعظيم لهم الخارج عن الشرع.
فإن قلت: حق الميت وإن كان مقضيا بالصلاة مرة فلا يوجب سقوطه أولا، لأن الصلاة في الحقيقة دعاء، وهو باق كالوضوء، شرع لإقامة الفرض، والفرض يسقط بواحد، لكن لو أعاده لكل صلاة كان حسنا.
قلت: الأصل أن الميت لا ينتفع بالصلاة عليه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] (النجم: الآية 39) ، ولكن عرف هذا شرعا بخلاف القياس، فإذا كان كذلك سقط بالمرة الواحدة فلم يتصور الثاني قضاء من عندنا بلا توقيف، بخلاف الدعاء فإن التوقيف فيه باق كما بقي بالأمر بالصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هذه على سبيل الدعاء.
فإن قلت: صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سبعين مرة، وكان الفرض قد تأدى بالأولى؟ قلت: أجيب عنه بجوابين: الأول: أنه كان موضوعا بين يديه فيؤتى بواحد واحد من الذين استشهدوا وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على كل واحد صلاة، فظن الراوي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على حمزة في كل مرة، فقال: صلى على حمزة سبعين مرة. الثاني: يجوز أن يكون المراد من قول الراوي صلى على حمزة سبعين مرة للمعنى اللغوي، وهو الدعاء، أي دعا سبعين مرة.
فإن قلت: قد صلى كل واحد من الصحابة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة منفردة، فدل على جواز التكرار.(3/212)
وإن دفن الميت ولم يصل عليه صلي على قبره، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر امرأة من الأنصار»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: يحتمل أن الصلاة كانت فرض عين على الصحابة لتعظيم حقه كالدعاء اليوم على المسلمين مرة واحدة لقوله صلوا، وكانت تكرار الصلاة عليه من كل أحد لأداء الفرض عليه.
وأما الجواب عن حديث ابن عباس فلأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان هو الولي، قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] (الأحزاب: الآية6) ، ومن العلماء من جعل الصلاة على القبر من خصائص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بدليل ما روي من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وإني أنورها بصلاتي عليهم» .
فإن قلت: ابن حبان يتبع هذا الوجه، فقال: ليس الأمر كما توهموه، بدليل أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى الناس خلفه، فلو كان من خصائصه لزجرهم عن ذلك.
قلت: يجوز أن يكون صفهم خلفه لأجل أن يدعو لا للصلاة حقيقة.
[الحكم لو دفن الميت ولم يصل عليه]
م: (وإن دفن الميت ولم يصل عليه صلي على قبره) ش: ولا يخرج منه لأنه قد سلم إلى الله تعالى، وفي إخراجه انكشافه، ويصلى عليه ما لم يعلم أنه تمزق، هكذا في " المبسوط "، وهذا يشير إلى أنه إذا شك في تفرقة وتفسخه يصلى عليه، وقد نص الأصحاب على أنه لا يصلى عليه مع الشك في ذلك، ذكره في " المزيد " و " المفيد " و " جوامع الفقه " وعامة الكتب وبقولنا قال الشافعي وأحمد وهو قول ابن عمر وأبي موسى وعائشة وابن سيرين والأوزاعي، ثم هل يشترط في جواز الصلاة على قبره كونه مدفونا بعد الغسل، فالصحيح أنه يشترط. وروى ابن سماعة عن محمد أنه لا يشترط.
م: (لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صلى على قبره امرأة من الأنصار» ش: أخرج ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من حديث خارجة بن زيد بن ثابت «عن عمه زيد بن ثابت - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وكان أكبر من يزيد، قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما وردنا البقيع إذا هو بقبر، فسأل عنه فقالوا: فلانة، فعرفها، فقال: ألا آذنتموني بها، قالوا كنت قائلا صائما..» الحديث، ثم أتى القبر فصففنا خلفه وكبر عليه أربعا.
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة «أن رجلا أسود كان يقم المسجد، فمات فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه فقالوا: مات، قال: أفلا آذنتموني به، دلوني على قبره، فأتى قبره فصلى عليه» . قوله: يقم المسجد بضم القاف وتشديد الميم أن يكنسه ويخرج منه القمامة، وهي الكناسة.
فإن قلت: كيف يصلي عليه وهو غائب عن أعين الناس بالتراب؟ قلت: نعم، ولكن هذا لا يمنع جواز الصلاة، ألا ترى أنه قبل الدفن كان غائبا بالكفن، ولم يمنع ذلك عن جواز الصلاة، وهذا إذا دفن بعد الغسل قبل الصلاة عليه.(3/213)
ويصلى عليه قبل أن يتفسخ والمعتبر، في معرفة ذلك أكبر الرأي في الصحيح لاختلاف الحال والزمان والمكان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإذا دفنوه بعد الصلاة عليه ثم تذكروا أنهم لم يغسلوه، فإن لم يهل التراب عليه يخرج ويغسل، ويصلى عليه، وإن هالوا التراب عليه لم يخرج، وهل يصلى عليه ثانيا في القبر، ذكر الكرخي أنه يصلى عليه، وفي " النوادر " عن محمد: القياس أن لا يصلى عليه. وفي " الأسبيجابي ": أن يصلى عليه، لأن تلك الصلاة لم يعتد بها لترك الطهارة مع الإمكان، والآن زال الإمكان وسقطت فريضة الغسل، فيصلى عليه في قبره.
وأما إذا صلى عليه قبل الغسل وهو لم يدفن بعد فإنه يغسل وتعاد الصلاة عليه بعد الغسل، وكذا لو غسلوه وبقي عضو من أعضائه أو قدر لمعة، كذا في " المبسوط " و " المحيط "، وفي المحيط أيضا لو صلى عليه من لا ولاية له عليه يصلى على قبره.
م: (ويصلى عليه قبل أن يتفسخ) ش: يعني إنما تجوز الصلاة على الميت في قبره أن يتفسخ الميت ويتمزق، ثم أشار إلى معرفة الطريق فيه بقوله: م: (والمعتبر في معرفة ذلك) ش: أي في كونه قبل التفسخ م: (أكبر الرأي) ش: أي غالب الظن، فإن كان غالب الظن أنه يتفسخ لا يصلى عليه، وإن كان غالب الظن أنه لم يتفسخ فيصلى عليه، وإذا شك لا يصلى عليه، رواه ابن رستم عن محمد م: (في الصحيح) ش: احترز به عما روي عن أبي يوسف أنه يصلى عليه إلى ثلاثة أيام وبعدها لا يصلى عليه، وهذا رواية ابن رستم في " نوادره " عن محمد عن أبي حنيفة، لأن الصحابة كانوا يصلون على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ثلاثة أيام.
وللشافعية ستة أوجه، أولها: إلى ثلاثة أيام، لقول أبي يوسف: إنه يصلى عليه إلى ثلاثة أيام. ثانيها: إلى شهر، كقول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ثالثها: ما لم يبل جسده. رابعها: يصلي عليه من كان من أهل الصلاة عليه يوم موته. خامسها: يصلي عليه من كان من أهل فرض الصلاة عليه يوم موته. واتفقوا على تضعيفه، وممن صرح به: الماوردي، والمحاملي، والفوراني، والبغوي، وإمام الحرمين، والغزالي، وقال إسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصلي القادم من السفر إلى شهر، والحاضر إلى ثلاثة أيام، وقال سحنون من المالكية: لا يصلى على القبر؛ سدا للذريعة في الصلاة على القبور.
م: (لاختلاف الحال) ش: أي لأجل اختلاف حال الميت بالسمن والهزال، فإنه إذا كان سمينا ينفسخ عن قريب، وإن كان مهزولا يبطئ في التفسخ م: (والزمان) ش: أي ولاختلاف الزمان، فإنه يتفسخ في الشتاء عن قريب لحرارة ما تحت الأرض في الشتاء، وفي الصيف يبطئ فيه لبرودة ما تحت الأرض م: (والمكان) ش: أي ولاختلاف المكان، فإنه يبقى في الأرض الصلبة أكثر مما يبقى(3/214)
والصلاة أن يكبر تكبيرة......إلخ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في الأرض الرخوة، فلما اختلفت هذه الأشياء فوض الأمر إلى رأي المبتلى به.
فإن قلت: روى البخاري عن عقبة بن عامر «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين» .
قلت: أجاب السرخسي في " المبسوط " وغيره أن ذلك محمول على الدعاء، ولكنه غير سديد، لأن الطحاوي روى عن عقبة بن عامر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوما فصلى على قتلى أحد صلاته على الميت» .
والجواب السديد: أن أجساده لم تبل، ولما أراد معاوية أن يجري العين التي تؤخذ عند قبور الشهداء أصابت المسحاة إصبع حمزة سيد الشهداء فانفطرت دما، ولما سقط حائط قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زمن الوليد أخذوا في بنائه فثبت لهم قدم ففزعوا، وقالوا: هذه قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال عروة: لا والله هذه قدم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولم تبل بعد ثمانين سنة والمدينة سبخة تأكل الميت الملح ونفسه السبخي وتحيله إلى نفسها، وشرف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فما ظنك به، ذكره ابن دحية في العلم المشهور.
وفي " الموطأ ": أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين كان السيل قد حفر قبرهما وهما ممن شهد أحدا، فوجدا لم يتغيرا، كأنهما ماتا بالأمس، وكفنهما ستة وأربعون سنة.
[كيفية صلاة الجنازة]
م: (والصلاة أن يكبر تكبيرة) ش: وهذا شروع في بيان كيفية الصلاة على الميت، وبينها بقوله: م: (والصلاة) ش: أي الصلاة على الميت م: (أن يكبر تكبيرة ... إلخ) ش: ولم يبين كيف ينوي، وهي أن يقول نويت أن أصلي لله وأدعو لهذا الميت، ذكره في " منية المفتي " وغيره، وذكر في " البدائع " وغيره أنه يقول سبحانك اللهم وبحمدك
إلخ، بعد التكبير.
وفي " المحيط " جعله رواية الحسن عن أبي حنيفة، وذكر في " البدائع " ذكر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا استفتاح فيه، كما يستفتحون في سائر الصلوات، وفي " الروضة " يقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله الذي يحيي الخلائق ويميتهم، وهو حي قيوم، أبدي لا يزول أبدا، سبحان رب الأرباب، ومسبب الأسباب، ومالك الرقاب، الغني عن خلقه الذي لا إله إلا هو.
وإن قرأ الفاتحة على نية الدعاء جاز، وليس في صلاة الجنازة قراءة القرآن عندنا: قال ابن بطال: وممن كان لا يقرأ في الصلاة على الجنازة وينكر عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عمر وأبو هريرة ومن التابعين عطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وابن سيرين وابن جبير والشعبي والحكم. وقال ابن المنذر ومجاهد وحماد وبه قال الثوري، وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:(3/215)
ويحمد الله عقيبها، ثم يكبر تكبيرة ويصلي فيها على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يكبر تكبيرة يدعو فيها لنفسه وللميت وللمسلمين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قراءة الفاتحة ليست معمولا بها في بلدنا في صلاة الجنازة، وعند مكحول وعطاء والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يقرأ الفاتحة في الأولى.
وقال ابن حزم: يقرأها في كل تكبيرة عند الشافعي، وهذا النقل عنه غلط. وقال الحسن بن علي: يقرأها ثلاث مرات. وقال الحسن البصري: يقرأها في كل تكبيرة، وهو قول شهر ابن حوشب، وعن المسور بن مخرمة: يقرأ في الأولى فاتحة الكتاب وسور قصيرة.
م: (ويحمد الله عقبيها) ش: أي عقيب التكبيرة الأولى، قال الأترازي: يعني يقول: سبحانك اللهم وبحمدك..إلخ.
قلت: الحمد لله أعم من قراءة سبحانك اللهم وغيرها، ولكن قال شمس الأئمة السرخسي: اختلف المشايخ فيه، فقال بعضهم يحمد الله كما في ظاهر الرواية، وقال بعضهم يقرأ سبحانك اللهم إلى آخره، كما في الصلوات كلها، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة.
وفي دعاء الاستفتاح للشافعي قولان، أحدهما: يسن كسائر الصلوات. والثاني لا يسن. وقراءة الفاتحة واجبة عنده، وهو قول أحمد لما روى جابر «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ فيها بأم القرآن.» وقرأ ابن عباس الفاتحة وجهر، ثم قال: عمدا فعلت ليعلم أنه سنة.
قلنا: كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ على سبيل الثناء لا على وجه القراءة، وقال الترمذي: حديث جابر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إسناده ليس بقوي.
م: (ثم يكبر تكبيرة) ش: ثانية م: (ويصلي فيها على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: الصلاة المعروفة في التشهد، وقيل: يقول في الثانية: اللهم صل على النبي الأمي البشير النذير عبدك ورسولك، سيد الأنبياء والمرسلين وخير الخلائق أجمعين، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم اجعل نوامي صلاتك وفواضل بركاتك، وتحيتك ورحمتك ورأفتك على عبدك ونبيك الأمي وسلم تسليما كثيرا.
م: (ثم يكبر تكبيرة) ش: ثالثة م: (يدعو فيها لنفسه وللميت وللمسلمين) ش: الدعاء فيها أن يقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا، صغيرنا وكبيرنا، ذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان. رواه أبو داود، وأحمد. وخصص هذا الميت بالروح والراحة والرحمة والمغفرة والرضوان، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه ووفه الندى والكرامة والزلفى برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لي ولوالدي ولجميع المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأ حياء منهم والأموات،(3/216)
ثم يكبر الرابعة ويسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وتابع بيننا وبينهم بالخيرات. إنك مجيب الدعوات، منزل البركات، ورافع السيئات، مقيل العثرات، إنك على كل شيء قدير. {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] (آل عمران: الآية 7) .
وزاد في بعض شروح القدوري: اللهم اجعل قلوبنا قلوب أخيارنا، اللهم آنس وحدته، وارحم غربته، وبرد مضجعه، ولقنه حجته، ووسع مدخله وأكرم منزله، وتقبل حسنته، وامح بعفوك سيئاته، اللهم كن له بعد الأحباب حبيبا، وبعد الأهل والأقارب قريبا، ولدعاء من دعا له سميعا مجيبا، اللهم إنه نزل بك وأنت خير منزول به فإنه يفتقر إلى عفوك وغفرانك وجودك وإحسانك وأنت غني عن عذابه، اللهم اقبل شفاعتنا فيه وارحمنا ببركته يا أرحم الراحمين.
وفي " صحيح مسلم " عن عوف بن مالك «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على جنازة رجل فقال: اللهم عافه واعف عنه وأكرم نزله وأوسع مدخله واغسله بالثلج والماء والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار يا أرحم الراحمين» .
م: (ثم يكبر الرابعة) ش: أي التكبيرة الرابعة ولا يدعوا بعدها. وفي " البدائع ": ليس في ظاهر المذهب بعد التكبيرة الرابعة دعاء سوى السلام، وهو قول مالك وأحمد - رحمهما الله - وقد اختار بعض مشايخنا ما يختم به سائر الصلوات وهو: " اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ". زاد في " المبسوط ": وقنا برحتمك عذاب النار وعذاب القبر وسوء الحساب.
وقال النووي: اتفقوا على أنه يجب الذكر بعد الرابعة، واستحب في أحد الوجهين، والوجه الثاني إن شاء قاله وإن شاء تركه، والذي يقوله: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده. وزاد المحاملي وصاحب " التنبيه ": واغفر لنا وله.
وفي " المجتبى ": قيل: هو مخير بين الدعاء والسكوت، وقيل: يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة....إلخ، وقيل: يقول: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] (آل عمران: الآية 8) ، وقيل: يقول: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} [الصافات: 180] (الصافات: الآية 180) إلخ.
م: (ويسلم) ش: عن يمينه وعن يساره. والمشهور عن الشافعي أيضا تسليمتان. قال الفوراني هو أيضا في " الجامع الكبير ". ومن الناس من قال: تسليمة واحدة، وبه قال أحمد وآخرون، لأن مبناها على التخفيف. وهل يرفع صوته بالتسليم؟ قال في " البدائع ": لم يتعرض له في ظاهر الرواية، وذكر الحسن بن زياد أنه لا يرفع صوته، لأن رفعه للإعلام، فلا(3/217)
«لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر أربعا في آخر صلاة صلاها»
فنسخت ما قبلها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حاجة إليه بالتسليم عقيب الرابعة، لأنه مشروع، والأفضل عقيب التكبير. قال: ولكن العمل في زماننا يخالف ما ذكره الحسن. وفي " المحيط ": ويسلم تسليمتين ويخافت في الكل إلا في التكبير. وفي " المرغيناني " لا ينوي الإمام الميت فيهما، بل ينوي من عن يمينه في الأولى ومن عن يساره في الثانية. وفي " الأسبيجابي " وينوي الميت في التسليمة الأولى لا غير، ومن عن يساره في الثانية. وفي " الذخيرة ": من مشايخ بلخ يقولون: السنة أن يسمع الصف الثاني من الصف الأول، والثالث من الثاني. وعن أبي يوسف لا يجهرون كل الجهر ولا يسرون كل الإسرار.
م: «لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر أربعا في آخر صلاة صلاها» فنسخت ما قبلها) ش: لما ذكر أن التكبيرات على الجنازة أربع، استدل في ذلك بقوله «لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر أربعا» هذا روي عن ابن عباس وعمر بن الخطاب وابن أبي خيثمة وأنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
أما حديث ابن عباس فله طرق. الأول: عند الحاكم في " المستدرك " والدارقطني في " سننه " عن الفرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن عبد الله بن عباس - رضي اله عنهم - قال: «آخر ما كبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجنائز أربع تكبيرات، وكبر عمر على أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أربعا، وكبر ابن عمر على عمر أربعا، وكبر الحسن بن علي على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أربعا، وكبر الحسين بن علي على الحسن أربعا، وكبرت الملائكة على آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أربعا» وسكت الحاكم عنه. وقال الدارقطني: الفرات بن السائب متروك.
الطريق الثاني: عند البيهقي في " سننه " والطبراني في " معجمه " عن النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس قال: «آخر جنازة صلى عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر عليها أربعا» . قال البيهقي: تفرد به النضر بن عبد الرحمن أبو عمر الخزاز عن عكرمة، وهو ضعيف، وقد روي هذا من وجوه أخر، كلها ضعيفة إلا أن إجماع أكثر الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على أربع كالدليل على ذلك الطريق.
الثالث: عند أبي نعيم الأصبهاني عنه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر على أهل بدر سبع تكبيرات وعلى بني هاشم سبع تكبيرات، ثم كان آخر صلاته أربع تكبيرات إلى أن خرج من الدنيا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.»
الطريق الرابع: عند ابن حبان في كتاب " الضعفاء " من حديث محمد بن معاوية أبي علي النيسابوري عن أبي المليح بن مهران عن ابن عباس، وأعله بمحمد بن معاوية وقال:(3/218)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إنه يأتي عن الثقات بما لا يتابع عليه، فاستحق الترك إلا فيما وافق الثقات، فإنه كان صاحب حفظ وإتقان قبل أن يظهر منه ما ظهر.
وأما حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعند الدارقطني من حديث يحيى بن أبي أنيسة عن جابر عن الشعبي عن مسروق قال: «صلى عمر على بعض أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسمعته يقول: لأصلين عليها مثل آخر صلاة صلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على مثلها، فكبر عليها أربعا ... » ويحيى وجابر الجعفي ضعيفان.
وأما حديث ابن أبي حثمة فرواه أبو عمر في " الاستذكار " قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وسبعا فثمانيا، حتى جاء موت النجاشي فخرج إلى المصلى فصف الناس وراءه وكبر عليه أربعا، ثم ثبت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أربع حتى توفاه الله عز وجل» .
وأبو حثمة هذا ابن حذيفة بن غانم القرشي العدوي، والد سليمان وأخو أبي جهم، ذكره الذهبي هكذا في " تجريد الصحابة "، ثم قال: له رواية بلا رواية، ولم يذكر له اسم، ومنهم أبو حثمة آخر واسمه عبد الله، وقيل عامر بن ساعدة الأوسي الحارثي والد سهل.
وأما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فرواه الحارث بن أبي سلمة [....] قال «آخر: ما كبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكر بلفظ حديث ابن عباس، وزاد: وكبر على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يزيد بن المكفف أربعا، وكبر ابن الحنفية على ابن عباس بالطائف أربعا» .
وأما حديث أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعند الحازمي في كتاب " الناسخ والمنسوخ «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر على أهل بدر سبع تكبيرات وعلى بني هاشم سبع تكبيرات، وكان آخر صلاة صلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعا حتى خرج من الدنيا» ثم قال: وإسناده واه.
قوله: م: (فنسخت ما قبلها) ش: أي نسخت تكبيراته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأربع التكبيرات التي كبرها خمسا أو ستا أو سبعا أو ثمانيا قبل ذلك. ويؤيد ما قاله المصنف قول أبي عمر بن عبد البر -(3/219)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - انعقد الإجماع على الأربع، ولا نعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال خمسا إلا ابن أبي ليلى.
وقال صاحب " المبسوط " وغيره من الأصحاب: قد ثبت ما زاد على الأربع بفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أما قول أبي عمر ففيه نظر، لأن ابن المنذر ذكر في " الأشراف " أن الخمس قول ابن مسعود وزيد بن أرقم. وأما قول صاحب " المبسوط " فيه نظر: لأنه يمكن أن يحمل الكل على الجواز مع أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قد فعلوا ذلك بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروى ابن حزم عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بإسناد صحيح أنه كان يكبر على الجنازة ثلاثا، وكذا روي عن أنس. وقال ابن سيرين: إنما كانت التكبيرات ثلاثا فزادوا واحدة. وعن جابر بن زيد أنه أمر يزيد بن المهلب أن يكبر على الجنازة ثلاثا، قال: هي أسانيد في غاية الصحة، وكبر زيد بن أرقم على الجنازة خمسا بعد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كبر على سهل بن حنيف ستا ثم التفت إلينا وقال: إنه بدري، وذكر ابن بطال عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يكبر على البدري ستا وعلى سائر الصحابة خمسا وعلى غيرهم أربعا، وكبر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على قتادة سبعا، ولكن ما رواه محمد بن الحسن في كتاب " الآثار " في كفاية الاحتجاج على استقرار الأمر على الأربع.
قال أبو حنيفة: عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - «أن الناس كانوا يصلون على الجنائز خمسا وستا وأربعا حتى قبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم كبروا كذلك في ولاية أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثم ولي عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ففعلوا ذلك، فقال لهم عمر: إنكم معشر أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متى تختلفون تختلف الناس بعدكم والناس حديث عهد بالجاهلية فأجمعوا على شيء يجمع عليه من بعدكم، فأجمع رأي أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ينظروا آخر جنازة كبر عليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى قبض فيأخذونها ويرفعون ما سواها، فنظروا فوجدوا آخر جنازة كبر عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعا» .
قلت: فيه انقطاع بين إبراهيم وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن «آخر صلاة صلاها على النجاشي كبر أربعا، وثبت عليها حتى توفي» . وذكر ابن بطال عن همام بن الحارث أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جمع الناس على الأربع إلا أهل بدر، فإنهم كانوا يكبرون عليهم خمسا وستا وسبعا.
وقال ابن حزم في " المحلى ": كبر عمر أربعا وعلي أربعا وزيد بن ثابت كبر أربعا على أمه، وعبد الله بن أبي أوفى كبر أربعا على ابنته، وزيد بن أرقم كبر أربعا، وكذا البراء بن عازب وابن عمر وأبو هريرة وعقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وصح أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(3/220)
ولو كبر الإمام خمسا لم يتابعه المؤتم، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه منسوخ لما روينا، وينتظر تسليمة الإمام في رواية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكبر أربعا، وصلى صهيب على عمر فكبر أربعا، وصلى الحسن على علي فكبر أربعا، وصلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على خباب فكبر أربعا.
[الحكم لو كبر الإمام خمسا في صلاة الجنازة]
م: (ولو كبر الإمام خمسا لم يتابعه المؤتم خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يقول زفر: قال أحمد وابن أبي ليلى والظاهرية والشيعة، وفي " المجتبى " قال أبو يوسف: يتابعه. وفي " النهاية ": وهو رواية عن أبي يوسف. وحكى أحمد عن الشافعي قولا فقال: إذا كبر خمسا يتابعه المأموم، ولا تبطل بها الصلاة عندنا وعند الشافعي في الأظهر، وعند أصحابه وجد أنها تبطل، وعن أصحاب أحمد كذلك.
وفي " الذخيرة " لو زاد الإمام خامسة صحت صلاته، وروى ابن القاسم عن مالك لا يتبع فيها، لأنها من شعار الشيعة، وينظر تسليم الإمام، وهو المختار. وفي " المحيط " وهو الأصح. وفي رواية عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسلم ولا ينتظره، وهو قول الثوري ومالك في رواية ابن المنذر وابن القاسم.
وفي " الذخيرة " قال ابن القاسم: يسلمون بسلامه، وجه قول زفر ومن معه أنه مجتهد فيه كما قلنا فيتابعه المقتدي كما في تكبيرات العيد.
ووجه قول أبي حنيفة وأصحابه ما أشار إليه المصنف بقوله: م: (لأنه منسوخ) ش: أي لأن الزائد على أربع تكبيرات منسوخ، ولا متابعة في المنسوخ. وقال الأكمل: قلنا: ثبت أن الصحابة تشاوروا، فرجعوا إلى آخر صلاة صلاها، صار ذلك منسوخا بإجماعهم.
قلت: فيه نظر، لأنا قد ذكرنا عن جماعة من الصحابة والتابعين، أنهم كبروا أكثر من أربع بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف يكون إجماعا؟ وكيف يكون النسخ بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟.
وقال الأترازي: لم يجز الاقتداء في التكبير الزائد على الأربع، كما لم يجز الاقتداء في تكبيرات العيد إذا زاد الإمام خارجا عن أقاويل الصحابة. قلت: إذا زاد الإمام على الأربع في الجنازة، فعلى كلامه ينبغي أن يتابعه المقتدي ما لم يجاوز عن فعل الصحابة، وقد ذكرنا عن جماعة منهم أنهم كبروا أكثر من أربع بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (لما روينا) ش: وهو قوله لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر أربعا م: (وينتظر تسليمة الإمام في رواية) ش: أشار بهذا إلى أنه إذا لم يتابعه المقتدي في الزيادة ماذا يصنع، فقال: ينتظر تسليم الإمام، يعني لا يتابعه في الزيادة، ولكنه ينتظر تسليم الإمام فيسلم معه ليصير متابعه فيما وجب المتابعة فيه.
وفي " الواقعات " وعليه الفتوى. وبه قال مالك في رواية، وفي " الحلية " في الانتظار(3/221)
وهو المختار،
والإتيان بالدعوات استغفار للميت، والبداية بالثناء ثم بالصلاة سنة الدعاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجهان.
وفي " روضة الزيدوسي " لم يتابعه إذا كان يسمع من الإمام، أما إذا كان يسمع من المنادي يكبر كما في تكبيرات العيد م: (وهو المختار) ش: أي انتظار تسليم الإمام في الزيادة، وهو المختار في رواية عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا ينتظر تحقيقا للمخالفة.
م: (والإتيان بالدعوات استغفار للميت والبداية بالثناء ثم بالصلاة سنة الدعاء) ش: أشار بهذا إلى بيان المقصود من إتيان الدعوات للميت بعد التكبيرة الثالثة، وهو أن المقصود من ذلك استغفار للميت، أي طلب المغفرة له، ولكن هذا الدعاء هل سنة يعمل بها حتى يستجيب الله تعالى هذا الدعاء منه، وهو أن يبدأ أولا بالثناء ثم بالصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد التكبيرة الثانية، ثم يأتي بالدعاء بعد التكبيرة الثالثة، وذلك لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أراد أحدكم أن يدعو فليحمد الله وليصلي على النبي ثم يدعو» كذا ذكره صاحب " الدراية " ولم يبين من حاله شيئا.
قلت: هذا الحديث، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وحديث فضالة بن عبيد قال: «سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يدعو لم يحمد الله ولم يصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " عجل هذا " ثم دعاه فقال له: " إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ثم يصلي عل النبي ثم يدعو بعد بما شاء» قال الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه ابن حبان في " صححيه "، والحاكم في " المستدرك " واعتبر ذلك بالتشهد في الصلاة.
وفي " التجنيس " ولا يجهر بشيء من الحمد والثناء والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والدعاء للميت، لأن هذه الأفعال ذكر كلها، والذكر فيه الإخفاء أولى.
وقال بعض المشايخ أن السنة أن يسمع الصف الثاني ذكر الصف الأول، ويسمع الثالث ذكر الصف الثاني. وعن أبي يوسف أنهم لا يجهرون كل الجهر، ولا يسرون كل الإسرار، وينبغي أن يكون بين ذلك.
وقال الكرخي: وليس مما ذكر من الثناء على الله تعالى ولا في الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا في الدعاء للميت شيء موقت يقرأ من ذلك ما حضره وتيسر عليه، وذلك لما روى عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ما وقت لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الجنازة قولا ولا قراءة، كبر ما كبر الإمام، واختر من أطيب الكلام ما شئت.
وقد بسطنا الكلام فيه فيما مضى عن قريب.(3/222)
ولا يستغفر للصبي، ولكن يقول اللهم اجعله فرطا واجعله لنا أجرا وذخرا واجعله لنا شافعا ومشفعا. ولو كبر الإمام تكبيرة أو تكبيرتين لا يكبر الآتي حتى يكبر الإمام أخرى بعد حضوره عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكبر حين يحضر لأن الأولى للافتتاح والمسبوق يأتي به. ولهما أن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الاستغفار للصبي في صلاة الجنازة]
م: (ولا يستغفر للصبي، ولكن يقول: اللهم اجعله لنا فرطا، واجعله لنا أجرا وذخرا واجعله لنا شافعا ومشفعا) ش: لأن الصبي مرفوع القلم عنه، ولا ذنب له فلا حاجة إلى الاستغفار.
وفي " البدائع ": إذا كان الميت صبيا يقول: اللهم اجعله فرطا وذخرا وشفعه فينا، كذا روي عن أبي حنيفة، وهو مروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي " المحيط " إذا كان الميت صبيا أو مجنونا يقول: اللهم اجعله لنا فرطا، اللهم اجعله لنا ذخرا، اللهم اجعله لنا شافعا ومشفعا.
وفي " المفيد " ويدعو لوالديه وللمؤمنين. وقيل: يقول اللهم ثقل به موازينهما وأعظم به أجورهما، اللهم اجعله في كفالة إبراهيم، وألحقه بصالح المؤمنين، وأبدله دارًا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، اللهم اغفر لسلفنا وفرطنا ومن سبقنا بالإيمان.
قوله " فرطا " بفتح الفاء والراء، قال الأصمعي: الفرط والفارط المتقدم في طلب الماء، والمراد هاهنا المتقدم في أمر الآخرة، ومنه قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنا فرطكم على الحوض» أي متقدمكم. قوله: ذخرا بضم الذال المعجمة، أي خيرا باقيا مدخرا. قوله: شافعا من شفع له. قوله: مشفعا بتشديد الفاء المفتوحة، أي مقبول الشفاعة.
م: (ولو كبر الإمام تكبيرة أو تكبيرتين لا يكبر الآتي حتى يكبر الإمام أخرى) ش: أي تكبيرة أخرى م: (بعد حضوره) ش: أي حضور الثاني م: (عند أبي حنيفة ومحمد) ش: ثم إذا كبر الإمام يكبر معه، فإذا فرغ الإمام كبر هذا الآتي ما فاته قبل أن ترفع الجنازة. وهذا الحكم، سواء أدرك الإمام بعد التكبيرة الأولى أو الثانية أوالثالثة. قال ابن المنذر: وهو قول الحارث بن يزيد والثوري ومالك وإسحاق وأحمد في رواية.
م: (وقال أبو يوسف: يكبر حين يحضر، لأن الأولى) ش: أي التكبيرة الأولى م: (للافتتاح) ش: أي افتتاح الصلاة، كما في سائر الصلوات م: (والمسبوق يأتي به) ش: أي بتكبير الافتتاح بل انتظار، كما في غير صلاة الجنازة، وبقوله قال الشافعي وأحمد في رواية، وعن أحمد أنه يكبر.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (أن كل تكبيرة) ش: من التكبيرات الأربع م: (قائمة مقام ركعة) ش: فلا يجوز للمسبوق أن يقضي الفائت قبل أن يشرع مع الإمام، والدليل على أن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة أنه لو ترك واحدة منها لا تجوز صلاته، كما لو ترك ركعة، ولهذا قيل أربع كأربع الظهر، ثم إن عندهما يقضيها بعد السلام ما لم ترفع(3/223)
والمسبوق لا يبتدئ بما فاته إذ هو منسوخ، ولو كان حاضرا مع الإمام فلم يكبر مع الإمام لا ينتظر الثانية بالاتفاق؛ لأنه بمنزلة المدرك، ويقوم الذي يصلي على الرجل أو المرأة بحذاء الصدر لأنه موضع القلب، وفيه نور الإيمان، فيكون القيام عنده إشارة إلى الشفاعة لإيمانه. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقوم من الرجل بحذاء رأسه، ومن المرأة بحذاء وسطها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجنازة، ولو رفعت بالأيدي ولم توضع على الأكتاف يكبر في ظاهر الرواية، وعن محمد: إن كانت إلى الأرض أقرب يكبر، وإن كانت إلى الأكتاف أقرب لا يكبر، وقيل: لا يقطع حتى يتباعد.
وعند الشافعي قولان، وقد أشار الشافعي إلى ترجيح التكبيرات معا بغير دعاء في " البويطي ". وفي " الأشراف ": قال ابن المسيب وعطاء والنخعي والزهري وابن سيرين والثوري وقتادة ومالك وأحمد في رواية، وإسحاق والشافعي: المسبوق يقضي ما فاته متتابعا قبل أن ترتفع الجنازة، فإذا ارتفعت سلم وانصرف كقول أصحابنا، قال ابن المنذر: وبه أقوال، وقال ابن عمر: لا يقضي ما فاته من التكبير، وبه قال الحسن البصري والسختياني والأوزاعي وأحمد، ولو جاء وكبر الإمام أربعا ولم يسلم لم يدخل معه، وفاتته الصلاة.
وعند أبي يوسف والشافعي - رحمهما الله - دخل معه ويأتي بالتكبيرات معا إن خاف رفع الجنازة. وفي " المحيط ": وعليه الفتوى. وعند الشافعي: يقرأ الفاتحة أيضا، سواء صار مسبوقا بأربع أو أقل، وظاهر مذهبه أنه أتم الصلاة بالصفة المشروعة وإن رفعت الجنازة.
[أحكام المسبوق في صلاة الجنازة]
م: (والمسبوق لا يبتدئ بما فاته إذ هو منسوخ) ش: هذا جواب عن قول أبي يوسف والمسبوق يأتي به، وتقريره أن المسبوق ليس له أن يبتدئ أولا بما فاته من الإدراك مع الإمام، لأنه إذا ابتدأ به يقع في قضاء ما فاته قبل أداء ما أدركه مع الإمام، وأنه منسوخ كان ذلك في صدر الإسلام، ثم نسخ، وكلمة إذ في قوله: إذ هو للتعليل، يعني أن الابتداء بما فاته منسوخ.
م: (ولوكان) ش: أي الرجل الذي يريد الصلاة وقد فاتته التكبيرة الأولى م: (حاضرا مع الإمام فلم يكبر مع الإمام لا ينتظر الثانية) ش: أي التكبيرة الثانية م: (بالاتفاق) ش: بين الأئمة الثلاثة م: (لأنه بمنزلة المدرك) ش: لتلك التكبيرة ضرورة العجز عن المفارق م: (ويقول الذي يصلي على الرجل أو المرأة بحذاء الصدر) ش: أي بحذاء صدر المرأة م: (لأنه) ش: أي لأن الصدر م: (موضع القلب وفيه نور الإيمان) ش: قال الله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22] (المجادلة: الآية 22) ، م: (فيكون القيام عنده) ش: أي عند الصدر م: (إشارة إلى الشفاعة لإيمانه) ش: يعني إشارة إلى أن يشفع لإيمانه. وقال في " المبسوط ": وأحسن مواقف الإمام من الميت بحذاء الصدر. قال في " جوامع الفقه ": هو المختار، واختاره الطحاوي.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقوم في الرجل بحذاء رأسه ومن المرأة بحذاء وسطها) ش:(3/224)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبه قال ابن أبي ليلى، وهو قول النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وفي " البدائع " وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب الصلاة أنه يقوم بحذاء وسط الرجل وعند رأس المرأة، وفي " المبسوط " الصدر هو الوسط، فإن فوقه يديه ورأسه، وتحته بطنه ورجلاه.
قال صاحب " النهاية ": الوسط بسكون السين لأنه اسم مبهم لداخل الشيء، يعني ما بين طرفي الشيء، وليس بمراد، هكذا نقل الأكمل عن صاحب النهاية وهو السغناقي. وقال صاحب " الدراية ": وضبطها بسكون السين هكذا كان معربا بخط شيخ شيخي العلامة، لأنه بالسكون اسم لداخل الشيء، والمتحرك اسم لما بين طرفيه، والمراد بالوسط في الحديث الوسط المعنوي لا اللغوي، والوسط المعنوي هو الصدر، فإن فوقه الرأس مع اليدين، وتحته البطن مع الرجلين. وهذه قسمة عادلة كما ترى.
وأورد بالحديث ما رواه الأئمة الستة في كتبهم من حديث «سمرة بن جندب، قال: صليت وراء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على امرأة ماتت في نفاسها فقام عليها للصلاة وسطها.» وأما الأترازي فإنه ضبط بخطه الوسط بتحريك السين في مواضع عديدة، ومن عادته ضبط الألفاظ في تصانيفه بخطه، وهو يحتاط فيه.
قلت: الصواب معه من وجه، لأن الوسط بالسكون، يقال فيما كان متفرق الأجزاء غير متصل كالناس والدواب وغير ذلك، فإذا كان متصل الأجزاء كالدار والرأس، فهو بالفتح، فعلى هذا هنا بالفتح، ويقال: كل منهما يرفع الأجزاء، فعلى هذا يجوز فيه الوجهان، وعلى الصواب الفريقان.
ونقل القاضي عياض عن أبي يحيى وغيره سكون السين في الحديث المذكور، وكذا ضبطه الجبائي. وأجاز ابن دينار الوجهين، وذكر عن بعضهم فتحها.
وفي " التحفة " و " المفيد ": المشهور من الروايات عن أصحابنا في الأصل وغيره أن يقوم من الرجل والمرأة بحذاء الصدر، وعن الحسن بحذاء الوسط منهما إلا أنه يكون في المرأة إلى رأسها أقرب، وعن أبي يوسف أنه يقوم بحذاء الوسط من المرأة، وبحذاء الرأس من الرجل.
ذكره في " المفيد "، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في " المحيط ". وفي ظاهر الرواية يقوم منها بحذاء صدرها، وقال مالك: يقوم في الرجل عند وسطه، ومن المرأة عند منكبيها.
وقال أبو علي الطبري من الشافعية يقوم الإمام عند صدره، واختاره إمام الحرمين والغزالي، وقطع به السرخسي، قال الصيدلاني: وهو اختيار أئمتنا، وقال الماوردي: قال أصحابنا البصريون يقوم عند صدره، وهو قول الثوري. وقال البغداديون عند رأسه وقالوا ليس(3/225)
لأن أنسا فعل كذلك، وقال هو السنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في ذلك نص، وممن قاله المحاملي في " المجموع " و " التحرير " وصاحب " الحاوي " والقاضي حسين وإمام الحرمين. وفي " المغني " لا يختلف المذهب في أن السنة أن يقوم الإمام في صلاة الجنازة عند صدر الرجل وعند عجيزة المرأة، وروى حرب عن أحمد كقول أبي حنيفة.
م: (لأن أنسا فعل كذلك) ش: أي قام من المرأة بحذاء وسطها م: (وقال هو السنة) ش: أي قال أنس: القيام من المرأة بحذاء وسطها وهو السنة. وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه «عن نافع أبي غالب قال: كنت في سكة المريد فمرت جنازة معها ناس كثير، قالوا: جنازة عبد الله بن عمير فتبعتها، فإذا أنا برجل عليه كساء رقيق على رأسه خرقة تقيه من الشمس فقلت: من هذا الدهقان؟ فقالوا: هذا أنس بن مالك، قال: فلما وضعت الجنازة قام أنس فصلى عليها وأنا خلفه لا يحول بيني وبينه شيء، فقام عند رأسه فكبر أربع تكبيرات لم يطل ولم يسرع ثم ذهب يقعد، فقالوا: يا أبا حمزة المرأة الأنصارية فقربوها وعليها نعش أخضر، فقام عند عجيزتها فصلى عليها نحو صلاته على الرجل ثم جلس فقال العلاء بن زياد: يا أبا حمزة هكذا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي علىالجنازة كصلاتك يكبر عليها أربعا ويقوم عند رأس الرجل، وعجيزة المرأة؟ قال: نعم، إلى أن قال أبو غالب: فسألت عن صنيع أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قيامه على المرأة عند عجيزتها، فحدثوني أنه إنما كان لأنه لم تكن النعوش، فكان يقوم الإمام حيال عجيزتها يسترها من القوم» هذا لفظ أبي داود.
ولفظ الترمذي «عن أبي غالب قال: صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل فقام حيال رأسه، ثم جاءوا بجنازة امرأة من قريش، فقال: يا أبا حمزة صل عليها، فقام حيال وسط السرير، فقال العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، صل عليها، فقام حيال وسط السرير، فقال العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجنازة مقامك منها ومن الرجل مقامك منه، قال: نعم، فلما فرغ قال: احفظوا» .
ولفظ ابن ماجه «عن أبي غالب قال: رأيت أنس بن مالك صلى على رجل، فقام حيال رأسه فجيء بجنازة أخرى، فقالوا: يا أبا حمزة صل عليها، فقام حيال وسط السرير، فقال العلاء بن زياد: يا أبا حمزة هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام في الجنازة مقامك من الرجل وقام من المرأة مقامك من المرأة، قال: نعم، فقام، فأقبل علينا العلاء بن زياد، فقالوا: احفظوا» وهذا اللفظ رواه أحمد وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى الموصلي في " مسانيدهم " وأبو غالب اسمه نافع، وقيل: رافع الباهلي الخياط البصري، قال يحيى بن معين: صالح، وقال أبو حاتم: شيخ.(3/226)
قلنا تأويله أن جنازتها لم تكن منعوشة، فحال بينها وبينهم فإن صلوا على جنازة ركبانا أجزأهم في القياس لأنها دعاء، وفي " الأسبيجابي " لا تجزئهم، لأنها صلاة من وجه لوجود التحريمة، فلا يجوز تركه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: " المربد " بكسر الميم وسكون الراء وفتح الباء الموحدة وهو الموضع الذي يحبس في الإبل والغنم، وبه سمي مربد المدينة والبصرة، والمربد أيضا الموضع الذي يجعل فيه التمر لينشف، والسكة الطريقة المصطفة من النخل، ومنها قيل: للأزقة السكة، لاصطفاف الدور فيها. قوله " تقيه " أي تحفظه من وقى يقي، والدهقان بكسر الدال وفتحها رئيس القرية ومقدم الساسة وأصحاب الزراعة، وهو معرب، ونونه أصلية، وقيل زائدة، وأبو حمزة كنية أنس.
قوله: " المرأة الأنصارية " وفي رواية الترمذي " امرأة من قريش " قال النووي: لعلها كانت من قريش وبالحلف من الأنصار، وعكسه. قوله: " عليها نعش أخضر " النعش بفتح النون وسكون العين المهملة، وفي آخره شين معجمة، وهو مثل المحفة توضع على السرير، وتغطى بثوب يسرتها عن أعين الناس، وهي كالقبة على السرير.
م (قلنا: تأويله أن جنازتها لم تكن منعوشة، فحال بينها وبينهم) ش: هذا التأويل غير صحيح، لأن في رواية أبي داود فقربوها وعليها نعش أخضر، فيكف يقال إن جنازتها لم تكن منعوشة.
فإن قلت: الماوردي يكون قد اعتمد على رواية الترمذي، فإنها لم يذكر فيها النعش.
قلت: الحديث واحد في قضية واحدة، والراوي عن أنس هو أبو غالب فيحتمل أن الراوي عن أبي غالب قد اقتصر فيه عن ذكر النعش، ولكن يمكن أن يقال: إن المرأة التي صلى عليها أنس كانت جنازتها منعوشة ولا يلزم من ذلك أن يكون النساء اللاتي صلى عليهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جنائزهن منعوشات، فيصح التأويل. قوله: (فحال بينها وبينهم) أي بين المرأة التي صلى عليها أنس وبين القوم الذين كانوا صلوا معه ليسترها من القوم.
والعجب من الشراح مع نفض أياديهم لم يحوموا حول هذا المكان، ولم يتعرضوا لتحقيقه بالاتفاق، وخصوصا الأترازي يقول: قيل في تأويله لأنه حيث لم تكن النعوش وكان يقوم الإمام حيال عجيزتها، لأنه يسترها من القوم.
قلت: كيف يقال لأنه لم تكن النعوش، وقد حكى البندنيجي أن أول ما اتخذ لزينب بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه أمر بذلك.
[الحكم لو صلوا على الجنازة ركبانا]
م (فإن صلوا على جنازة ركبانا أجزأهم في القياس لأنها دعاء) ش: ولا يشترط فيها القيام، فلهذا تجوز بلا ركوع وسجود ولا قراءة، والقهقهة فيها ليست بحدث، وبه قال بعض المالكية م: (وفي " الأسبيجابي " لا يجزئهم، لأنه صلاة من وجه لوجود التحريمة، فلا يجوز تركه) ش: أي ترك(3/227)
من غير عذر احتياطا،
ولا بأس بالإذن في صلاة الجنازة، لأن التقدم حق الولي، فيملك إبطاله بتقديم غيره. وفي بعض النسخ لا بأس بالأذان أي الإعلام وهو أن يعلم بعضهم بعضا ليقضوا حقه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القيام م: (من غير عذر احتياطا) ش: أي لأجل الاحتياط، وبه قال الشافعي، وأحمد وأشهب وآخرون، وقال ابن قدامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا أعلم فيه خلافا، وأراد بالتحريمة التكبيرة الأولى، فإنها ركن فيها، وكذلك يشترط فيها استقبال القبلة والطهارة وسترة العورة وإزالة النجاسة.
م: (ولا بأس بالإذن في صلاة الجنازة) ش: أي لا بأس بإذن الولي لغيره بالإمامة إذا أحسن ظنه شخص في تقديمه من به خير وثواب وشفاعة أرجى له م: (لأن التقدم حق الولي) ش: أي لأن التقدم على الغير في الصلاة على الميت حق الولي م: (فيملك إبطاله) ش: أي يملك الولي إبطال حقه، أي تركه بغيره م: (بتقديم غيره) ش: في الصلاة عليه، وقيل أراد به أن يأذن الأقرب للأبعد أن يقدم في الصلاة عليه.
وقيل أراد به إذن أولياء الميت للمصلين في الانصراف قبل دفن الميت فإنه لا ينبغي لهم أن ينصرفوا قبل دفنه إلا بإذنهم لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «أميران، وليسا بأميرين: ولي الميت قبل الدفن، والمرأة تكون في الركب» .
وعن أبي هريرة: قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن كان له قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مل الجبلين العظيمين» متفق عليه. وفي مسلم «حتى توضع في اللحد " ويورى القيراط مثل أحد» .
م: (وفي بعض النسخ) ش: أي نسخ الجامع الصغير م: (لا بأس بالاذان، أي الإعلام، وهو أن يعلم) ش: الناس م: (بعضهم بعضا ليقضوا حقه) ش: أي ليؤدوا حق الميت، لما روي عن أبي هريرة أنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس» أخرجه البخاري ومسلم.
وفي " المحيط " وكره بعض المشايخ النداء في الأسواق لأنه سنة عن الجاهلية، والأصح أنه لا بأس به، لأن فيه تكثير الجماعة من المصلين عليه والمستغفرين له. وفي " البدائع " و " جوامع الفقه " يكره النداء في المحال والأسواق، وفي " قاضي خان " وقد استحسن بعض المتأخرين النداء في الأسواق للجنازة إلى ترغيب الناس في الصلاة عليها، ذكر بعضهم ذلك، والأول أصح. وفي " الذخيرة " ذكر بعض مشايخ بلخ ذلك، وذكر الكرخي عن أبي حنيفة أنه لا ينبغي أن يؤذن بها إلا أهلها وجيرانها، وكثير من مشايخ بخارى لم يروا به بأسا، كالنداء الخاص.(3/228)
ولا يصلى على ميت في مسجد جماعة لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من صلى على جنازة في المسجد فلا أجر له»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[صلاة الجنازة في المسجد]
م: (ولا يصلى على ميت في مسجد جماعة) ش: احترز به عن المسجد الذي بني لأجلها، وبه قال مالك وابن أبي ذئب، وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لا بأس بها إذا لم يخف تلويثه، واحتجوا بما روي «أن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما توفي أمرت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بإدخال جنازته المسجد حتى صلى عليها أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قالت لبعض من حولها: هل عاب الناس علينا ما فعلنا؟ فقيل لها نعم، فقالت: ما أسرع ما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جنازة سهيل بن البيضاء إلا في المسجد» رواه مسلم.
وأشار إلى دليلنا بقوله م: (لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من صلى على جنازة في المسجد فلا أجر له» ش: هذا الحديث رواه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى على ميت في المسجد فلا شيء له» ، هذا لفظ أبي داود، ولفظ ابن ماجه «فليس له شيء» .
وقال الخطيب: المحفوظ، «فلا شيء له» وروي «فلا أجر له» . وقال ابن عبد البر: رواية «فلا أجر له» خطأ فاحش، والصحيح «فلا شيء له» ورواه ابن أبي شيبة في مصفنه بلفظ «فلا صلاة له» .
فإن قلت: روى ابن عدي في " الكامل " هذا الحديث وعده من منكرات صالح، ثم أسند إلى شعبة أنه كان لا يروي عنه، وينهى عنه، وإلى مالك لا يأخذوا عنه شيئا فإنه ليس بثقة، وإلى النسائي أنه قال فيه ضعف. وقال ابن حبان في كتاب " الضعفاء "، واختلط بآخره ولم يتميز حديث حديثه من قديمه فاستحق الترك، ثم ذكر له هذا الحديث، وقال البيهقي: صالح مختلف في عدالته كان مالك يجرحه.
وقال النووي: أجيب عن هذا بأجوبة أحدها: أنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به، قال أحمد بن حنبل: هذا حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوأمة، وهو ضعيف.
والثاني: أن الذي في النسخ المشهورة المسموعة من سنن أبي داود «فلا شيء عليه» فلا حجة فيه.
والثالث: أن اللام فيه بمعنى على لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] [الإسراء: 7] أي فعليها، جمعا بين الأحاديث. قلت: الجواب عما قالوه من وجه.(3/229)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأول: أن أبا داود روى هذا الحديث وسكت عنه، فهذا دليل رضاه به، وأنه صحيح عنده.
الثاني: أن يحيى بن معين الذي هو فيصل في هذا الباب، قال: صالح ثقة، إلا انه اختلط قبل موته، فمن سمع منه قبل ذلك فهو ثبت حجة، ومن سمع منه قبل الاختلاط ابن أبي ذئب، وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث وأسكت ابن أبي ذئب.
الثالث: قال ابن عبد البر: منهم من يقبل عن صالح ما رواه عنه ابن أبي ذئب خاصة.
الرابع: أن غالب ما ذكر منه تحامل، من ذلك قول النووي أن الذي في النسخ المشهورة والمسموعة من سنن أبي داود «فلا شيء عليه» فإنه يرده قول الخطيب المحفوظ فلا شيء له، وقول السروجي وفي " الأسرار " فلا صلاة له، وفي " المرغيناني " فلا وجه له، ولم يذكر ذلك في كتب الحديث، يرده ما ذكرناه من رواية ابن أبي شيبة في مصنفه «فلا صلاة له» وقال الخطيب: وروي «فلا أجر له» فلعدم اطلاعه في هذا الموضع جازف فيه. ومن تحاملهم جعل اللام بمعنى على بالتحكم من غير دليل ولا داع إلى ذلك. ولا سيما أن المجاز عندهم ضروري لا يصار إليه إلا عند الضرورة، ولا ضرورة ها هنا، وأقوى ما يرد كلامه هذا رواية ابن أبي شيبة، وهي «فلا صلاة له» فلا يمكن له أن يقول ها هنا اللام بمعنى على لفساد المعنى.
الخامس: أن قول ابن حبان هذا باطل جرأة منه على تعطيل الصواب، فكيف هذا القول، وقد رواه أبو داود وسكت، فأقل الأمر أنه يدل على حسنه عنده، وأنه رضي به، وحاشى منه أن يرضى بالباطل.
السادس: ما قاله الجهبذ النقاد الإمام أبو جعفر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ملخصا، وهوأن الروايات لما اختلفت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث يحتاج إلى إلى الكشف ليعلم المتأخر منها فيجعل ناسخا لما تقدم، فحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إخبار عن فعل رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الذي تقدم على الإباحة، فصار ناسخا لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وإنكار الصحابة عليها مما يؤيد ذلك.
فإن قلت: من أي قبيل يكون هذا النسخ؟ قلت: من قبيل النسخ بدلالة التاريخ، وهو أن يكون أحد النصين موجبا للخطر، والآخر موجبا للإباحة، والحظر طارئ عليها، فيكون متأخرا.
فإن قلت: لما لا يجعل بالعكس؟(3/230)
ولأنه بني لأداء المكتوبات،
وفيما إذا كان الميت خارج المسجد اختلاف المشايخ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لئلا يلزم النسخ مرتين، وهذا ظاهر.
فإن قلت: ليس بين الحديثين منافاة، فلا تعارض فلا حاجة إلى التوفيق.
قلت: ظهر لك صحة حديث أبي هريرة بالوجوه التي ذكرناها، فثبت التعارض.
فإن قلت: مسلم أخرج حديث عائشة ولم يخرج حديث أبي هريرة.
قلت: لا يلزم من ترك مسلم تخريجه عدم صحته، لأنه لم يلزم إخراج كل ما صح عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وكذلك البخاري، ولئن سلمنا ذلك فإن حديث أبي هريرة لا يخلو من كلام، فكذلك حديث عائشة لا يخلو من كلام، لأن جماعة من الحفاظ مثل الدارقطني وغيره عابوا على مسلم تخريجه إياه سندا، لأن الصحي أنه مرسل كما رواه مالك والماجشون عن أبي النضر عن عائشة مرسلا، والمرسل ليس بحجة عند الخصم، وقد أول بعضهم حديث عائشة بأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنما صلى في المسجد بعذر المطر، وقيل بعذر الاعتكاف، وعلى كل تقدير الصلاة على الجنازة خارج المسجد أولى وأفضل، بل أوجب للخروج عن الخلاف لا سيما في باب العبادات.
م: (ولأنه بني لأداء المكتوبات) ش: أي ولأن المسجد بني لإقامة الصلوات المكتوبات، فيكون غيرها في خارج المسجد أولى وأفضل م (ولأنه يحتمل تلويث المسجد) ش: أي ولأن فعل صلاة الجنازة في المسجد يحتمل تلويثه، وقد أمرنا بتنظيفه، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم» فإذا أمروا أن يجبنوا الصبيان والمجانين المساجد فالميت أولى لأنه لا [......] له، فلا يؤمن منه تلويث المسجد.
م: (وفيما إذا كان الميت خارج المسجد اختلاف المشايخ) ش: قوله اختلاف المشايخ مبتدأ وخبره قوله فيما إذا كان الميت وانتصاب خارج المسجد على التوسع، يعني في خارج المسجد، وذكر في تتمة الفتاوى ناقلا عن فتاوى الإمام نجم الدين إذا كانت الجنازة والقوم والإمام في المسجد فالصلاة مكروهة باتفاق أصحابنا، وإذا كانت الجنازة والإمام وبعض القوم خارج المسجد وباقي القوم في المسجد فالصلاة غير مكروهة بالاتفاق.
وإن كانت الجنازة وحدها خارج المسجد فقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا يكره، منهم السيد الإمام أبو شجاع لما أن المسجد بني لأداء المكتوبات، وقال بعضهم لا يكره، لأن المعنى الموجب للكراهة وهو احتمال تلويث المسجد مفقود، ولا يقال يلزم على ما ذهب إليه السيد الإمام أبو شجاع أن لا يجوز التطوع في المسجد، لأنا نقول أن التطوع تبع للمكتوبة، فألحق بها، بخلاف صلاة الجنازة لأنها جنس آخر. وقال إسماعيل المتكلم: الصلاة عليه في(3/231)
ومن استهل بعد الولادة سمي وغسل وصلي عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المسجد مكروهة كراهة تحريم، وقال شرف الأئمة العقيلي كراهة تنزيه، ذكره في " قنية المنية ".
[حكم الصلاة على من استهل بعد الولادة ثم مات]
م: (ومن استهل بعد الولادة سمي وغسل وصلي عليه) ش: - استهل - بفتح التاء على بناء الفاعل، لأن المراد ها هنا رفع الصوت لا الإبصار، ففي " المغرب " أهلوا الهلال، استهلوا رفعوا أصواتهم عند رؤيته وأهل واستهل على بناء المفعول إذا أبصر، والمراد رفع الصوت بالبكاء عند ولادته، وفي " الإيضاح " الاستهلال أن يكون منه ما يدل على حياته من بكار أو تحريك عضو وأن يطرف بعينه، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال مالك: لا يصلى عليه إلا أن يطول ذلك فيتحقق حياته. وعن مالك وأحمد في رواية الاستهلال أن يستهل صارخا.
وفي " شرح مختصر الكرخي " ومن ولد حيا ثم مات فعلوا به ذلك كله، يعني التسمية والغسل والصلاة، وكذا إذا استهل، وفي " التحفة " وغيرها إذا لم يستهل لا يغسل ولا يورث ولا يسمى، لأن هذه الأمور من أحكام الأحياء.
وروى الطحاوي أن الجنين الميت يغسل، ولم يحك خلافه، وعن محمد في سقط استبان خلقه يغسل ويكفن ويحنط ولا يصلى عليه، وقال النووي: إذا استهل يصلى عليه لحديث ابن عباس أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إذا استهل السقط صلي عليه وورث» وهو غريب، ومن رواية جابر. رواه الترمذي والحاكم والبيهقي وإسناده ضعيف.
ونقل ابن المنذر الإجماع على وجوب الصلاة على الطفل، وعن أبي حنيفة لا يصلى عليه حتى يبلغ. وخالف العلماء كافة، وحكى العبدري عن بعض العلماء أنه إن صلى صلي عليه، وهو مردود شاذ، وعن المغيرة بن شعبة أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها، والطفل يصلى عليه» رواه النسائي والترمذي وأحمد، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ومن لا ذنب له يصلى عليه كالنبي والكافر إذا أسلم ومات عقيب إسلامه قبل أن يحدث ذنبا والمجنون الذي استمر جنونه من حين البلوغ حتى مات. وعن ابن عمر يصلى عليه وإن لم يستهل، وبه قال ابن سيرين وإسحاق، وقال أحمد وداود: يصلى عليه إذا كان له أربعة أشهر.
وفي " المحيط " قال أبو حنيفة: إذا خرج أكثر الولد وهو يتحرك صلي عليه، وإن خرج أقله لا يصلى عليه. وقال ابن حزم في " المحلى ": يستحب أن يصلى عليه استهل أو لم يستهل، ولا يجب(3/232)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واستدل بحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يصل على ولده إبراهيم وهو ابن ثمانية عشر شهرا. وقد جاء حديثان مرسلان.
قلت: أخرج أبو داود في " سننه " من طريق ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت: «مات إبراهيم ابن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وهو ابن ثمانية عشر شهرا فلم يصل عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -، ورواه أيضا أحمد والبزار وأبو يعلى الموصلي في " مسانيدهم "، وأما الحديثان المرسلان فرواهما أبو داود أيضا.
الأول: قال حدثنا هناد بن السري ثنا محمد بن عبيد عن وائل بن داود قال: سمعت البهي قال: «لما مات إبراهيم ابن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المقاعد» .
الثاني: قال قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني حدثكم ابن المبارك عن يعقوب بن القعقاع عن عطاء «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى على ابنه إبراهيم، وهو ابن سبعين ليلة.» وقال الخطابي إن مرسل عطاء أولى الأمرين، وإن كان حديث عائشة أحسن اتصالا، واعتل هو وغيره ممن سلم ترك الصلاة عليه بعلل ضعيفة منها نقل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن الصلاة صلاة الكسوف ومنها أنه استغنى بفضيلة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن الصلاة كما استغنى الشهداء بفضيلة الشهادة، ومنها أنه لا يصلى على نبي وقد جاز أنه لو عاش لكان نبيا، ومنها أنه لم يصل عليه هو بنفسه وصلى عليه غيره.
قلت: قد جاء في صلاته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على إبراهيم عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وهم ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدري، فحديث ابن عباس عند ابن ماجه قال: «لما مات إبراهيم ابن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى عليه رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقال: إن له مرضعا في الجنة، ولو عاش لكان صديقا نبيا، ولو عاش لعتقت أخواله القبط وما استرق قبطي» .
وحديث البراء عند أحمد في " مسنده «قال: صلى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على ابنه إبراهيم ومات وهو ابن ستة عشر شهرا» .
وحديث أنس عند أبي يعلى الموصلي «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى على ابنه إبراهيم وكبر أربعا» ورواه ابن سعد في " الطبقات ".(3/233)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا استهل المولود صلي عليه، وإن لم يستهل لم يصل عليه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحديث الخدري عند البزار في " مسنده " بلفظ أبي يعلى الموصلي، وقال البيهقي: وكونه صلى عليه وهو أشبه بالأحاديث الصحيحة.
قلت: الصلاة عليه مستحبة، ولا يظن به - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ترك المستحب مع أن الإثبات مقدم على النفي، وقال النووي: رواية الإثبات أصح من رواية النفي. قوله البهي بفتح الباء الموحدة وكسر الهاء وتشدد الياء اسمه عبد الله بن يسار مولى مصعب بن الزبير تابعي يعد في الكوفيين. قوله في المقاعد هي مواضع قعود الناس من الأسواق وغيرها.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا استهل المولود صلي عليه، وإن لم يستهل لم يصل عليه» ش: روي هذا عن جابر وعلي وابن عباس والمغيرة بن شعبة وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فحديث جابر رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل» هذا لفظ الترمذي.
قال: وقد اضطرب الناس فيه فرواه بعضهم عن أبي الزبير مرفوعا، وبعضهم موقوفا، وكأنه أصح، وسنده رواه الحاكم في " المستدرك " وسكت عنه. ولفظ النسائي: «إذا استهل الصبي صلي عليه وورث» ، ولفظ ابن ماجه كلفظ النسائي.
«وحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه ابن عدي في " الكامل " قال: سمعت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول في السقط: لا يصلى عليه حتى يستهل، فإذا استهل صلي عليه وعقل وورث، وإن لم يستهل لم يصل عليه ولم يورث ولم يعقل» وحديث ابن عباس أخرجه ابن عدي أيضا عنه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا استهل الصبي صلي عليه وورث» .
وحديث المغيرة بن شعبة أخرجه الترمذي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» وقال حديث حسن صحيح وحديث أبي هريرة عند ابن ماجه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على أطفالكم، فإنهم من أفراطكم» ، وضعفه الدارقطني، وتحمل الأطفال ها هنا والسقط في حديث المغيرة على من استهل، والإفراط جمع فرط بتحريك الراء وهو الذي يتقدم لتهيئة التركة، والسقط مثلث السين.(3/234)
ولأن الاستهلال دلالة الحياة فيتحقق في حقه سنة الموتى ومن لم يستهل أدرج في خرقة كرامة لبني آدم ولم يصل عليه لما روينا، ويغسل في ظاهر الرواية، لأنه نفس من وجه، وهو المختار، وإذا سبي صبي مع أحد أبويه ومات لم يصل عليه لأنه تبع لهما، إلا أن يقر بالإسلام وهو يعقل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن الاستهلال دلالة الحياة فيتحقق في حقه سنة الموتى) ش: أي إكراما لبني آدم، وانتصابه على التعليل م: (ولم يصل عليه لما روينا) ش: إشارة إلى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا استهل المولود ... » الحديث.
م: (ويغسل في ظاهر الرواية) ش: وهي رواية عن أبي يوسف ومحمد أنه فيه يغسل، وبه أخذ الطحاوي م: (لأنه نفس من وجه) ش: بدليل ثبوت الاستيلاد به وانقضاء العدة به، ولا يلزم من سقوط الصلاة سقوط الغسل كما في الكافر م: (وهو المختار) ش: أي غيرظاهر الرواية وهو المختار. وعن محمد لا يغسل ولا يصلى عليه، وهو ظاهر الرواية، وبه أخذ الكرخي، وعند الشافعي لو لم تظهر فيه علامة الحياة ولم يكن له أربعة أشهر لف في خرقة ودفن بلا غسل، وإن كن قد بلغ أربعة أشهر ففيه قولان، القديم يغسل ويصلى عليه، وفي الحديث لا يغسل ولا يصلى عليه.
م: (وإذا سبي صبي مع أحد أبويه فمات لم يصل عليه، لأنه تبع لهما) ش: أي للأبوين، وفي بعض النسخ تبع له، أي لأحد أبويه فمات لم يصل عليه الذي سبي الصبي معه، وإنما لا يتبع دار الإسلام لأن تبعية أحد الأبوين أولى، لأن الولد جزؤه، والتبعية على مراتب.
أقواها تبعية الأبوين أو أحدهما، ثم الدار إن لم يكن معه أحد أبويه يكون مسلما تبعا للدار لأن للدار تأثيرا في الاستتباع كما في لقيط يوجد في الدار حيث يجعل على دين أهل الدار ثم بعد الدار تعتبر اليد، حتى لو وضع في الغنيمة صبي في سهم رجل في دار الحرب فمات يصلى عليه ويجعل مسلما تبعا لصاحب اليد.
وفي " المغني ": لا يصلى على أطفال المشركين إلا أن يسلم أحد أبويه أو يموت مشركا فيكون ولده مسلما أو يسبى منفردا مع أحد أبويه، فإنه يصلى عليه، وقال أبو ثور: إذا سبي مع أحد أبويه لا يصلى عليه إلا أن يسلم. وفي " الأشراف " وقال أبو ثور: إذا سبي مع أبويه أو أحدهما أو وحده ثم مات قبل أن يجاوز الإسلام يصلى عليه.
م: (إلا أن يقر بالإسلام وهو يعقل) ش: الاستثناء من قوله لم يصل عليه؛ يعني إذا أقر بالإسلام، والحال أن يعقل صفة الإسلام وصفة الإسلام هي التي ذكرت في حديث جبريل -(3/235)
لأنه صح إسلامه استحسانا أو يسلم أحد أبويه لأنه يتبع خير الأبوين دينا،
وإن لم يسب معه أحد أبويه صلي عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله، وقيل: معناه يعقل المنافع والمضار وأن الإسلام هدى، واتباعه خير، والكفر ضلالة واتباعه شر، وكذا لو اشترى جارية واستوصفها صفة الإسلام فلم تعلم لا تكون بذلك مؤمنة، وإنما يصلى عليه عند الإقرار بالإسلام.
م: (لأنه صح إسلامه استحسانا) ش: وبه قال بعض أصحاب الشافعي، وفي القياس لا يصح إسلامه، وهو ظاهر مذهب الشافعي م: (أو يسلم أحد أبويه) ش: ينصب الميم عطف على قوله أن يقر؛ يعني يصلي عليه إذا أسلم أحد أبويه وإن لم يقر الصبي بالإسلام م: (لأنه) ش: أي لأن الصبي م: (يتبع خير الأبوين دينا) ش: أي من حيث الدين حتى إن الصبي إذا كان بين اليهودية والنصرانية يتبع النصرانية، لأن اليهودي شر من النصراني وكذلك بالعكس.
م: (وإن لم يسب معه أحد أبويه صلي عليه) ش: وبه قال بعض أصحاب الشافعي تبعا للسابي حتى لو مات في دار الحرب بعدما وقع في يد مسلم يصلى عليه. وقال بعضهم هو على حكم الكفر وهو ظاهر مذهب الشافعي، وبه قال مالك، وكذا لو دخل دارنا، ولكن بعض مشايخنا جعل تبعية الدار بعد تبعية السابي وجعل تبعية اليد مقدما على تبعية الدار كما في اللقيط، يعني لو وجد في دار يجعل تبعا لأهل تلك الدار كما يجيء إن شاء الله تعالى.
قلت: ذكر في " المحيط " عند انعدام أحد الأبوين يكون تبعا لصاحب اليد، وعند انعدام صاحب اليد يكون تبعا للدار، جعل الإمام قاضي خان تبعية الدار مقدمة على تبعية صاحب اليد.
وفي جامع أبي اليسر: أولاد المسلمين إذا ماتوا حال صغرهم قبل أن يعقلوا يكونون في الجنة، فإن فيهم أحاديث كثيرة، روي عن أبي حنيفة الوقف فيهم، وهذه الرواية غير صحيحه، وإنما وقف أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أولاد الكفار إذا ماتوا في صغرهم قبل أن يعقلوا ووكل أمرهم إلى الله، واختلف أهل السنة في هذا فعن محمد أنه قال: أعرف أن الله لا يعذب بغير ذنب، وقال بعضهم: يكونون خداما للمسلمين في الجنة، وقال بعضهم: إن كان قال يوم أخذ الميثاق بلى عن اعتقاد، يكون في الجنة، وإن كان قال من غير اعتقاد يكون في النار.
وفي " الفتاوى الظهيرية " يحشر السقط، وعن أبي جعفر الكبير إذا نفخ فيه الروح يحشر وإلا فلا، والذي يقتضيه مذهب علمائنا أنه يحشر إذا استبان بعض خلقه، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن سيرين، وفي " الإحياء " وينبغي أن يسمى السقط.
قال عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية بلغني أن السقط وراء أبيه يوم القيامة يقول ضيعتني(3/236)
لأنه ظهرت تبعيته للدار فيحكم بإسلامه كما في اللقيط، وإذا مات الكافر وله ولي مسلم فإنه يغسله ويكفنه ويدفنه، بذلك أمر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حق أبيه أبي طالب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأنت تركتني لا اسم لي اليوم! فقال عمر بن عبد العزيز: كيف ولا ندري أغلام هو أم جارية؟ فقال عبد الرحمن: من الأسماء ما يجمعهما كحمزة وعمارة وطلحة.
[تغسيل وتكفين القريب الكافر]
م: (لأنه ظهرت تبعيته للدار) ش: بعدم سبيه مع أحد أبويه م: (فيحكم بإسلامه) ش: بتبعية الدار م: (كما في اللقيط) ش: يوجد في الدار يكون تبعا لأهل الدار م: (وإن مات الكافر وله ولي مسلم) ش: أي قريب مسلم لأن حقيقة الولاية منفية. وإطلاق الولي شارك كل قريب له من ذوي الفروض والعصبات وذوي الأرحام، وهذا الإطلاق لفظ الجامع الصغير، وذكر في الأصل كافر مات وله ابن مسلم ويغسله ويكفنه ويدفنه إذا لم يكن هناك من أقربائه الكفار من يتولى أمره، فإن كان ثمة أحد منهم فالأولى أن يخلي المسلم بينه وبينهم ليصنعوا به ما يصنعون بموتاهم.
م: (فإنه يغسله ويكفنه ويدفنه بذلك أمر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حق أبيه أبي طالب) ش: أخرج ابن سعد حديث علي هذا في الطبقات مطابقا لما في المتن، فقال: أخبرنا محمد ابن عمر الواقدي حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما أخبرت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بموت أبي طالب بكى ثم قال لي: اذهب فاغسله وكفنه وواره، قال: ففعلت ثم أتيته فقال لي: اذهب فاغتسل، قال: وجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستغفر له أياما ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بهذه الآية: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] الآية (التوبة: 113) .»
وأخرج أبو داود والنسائي عن سفيان عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب «عن علي لما مات أبوه أبو طالب قال: انطلقت إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقلت له: إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال اذهب فوار أباك ثم لا تحدثن شيئا حتى تأتيني، فذهبت فواريته فأمرني فاغتسلت ودعا. لي» . ورواه أحمد وإسحاق بن راهويه وابن أبي شيبة وأبو يعلى والبزار في مسانيدهم وليس فيه التعرض إلى الغسل والتكفين.
واستدل به البيهقي وغيره من الشافعية على الاغتسال من غسل الميت، مع أن البيهقي روى هذا الحديث في " سننه " من طرق، ثم قال إنه حديث باطل، وأسانيده كلها ضعيفة وبعضها منكرا، واستدل ابن الجوزي بهذا الحديث لمن يرى بجواز غسل قريبه الكافر إذا مات وتكفينه ومواراته، ثم أجاب بأنه كان في ابتداء الإسلام، وهذا ممنوع ليس عليه دليل.
واعلم أن أبا طالب وخديجة بنت خويلد زوج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ماتا في عام واحد، قاله(3/237)
لكن يغسل غسل الثوب النجس ويلف في خرقة وتحفر له حفيرة من غير مراعاة سنة التكفين واللحد ولا يوضع فيه، بل يلقى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن إسحاق، وقال البيهقي: بلغني أن خديجة توفيت بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام، وزعم الواقدي أنهما ماتا قبل الهجرة بثلاث سنين عام خرجوا من الشعب، وأن خديجة توفيت قبل موت أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة، وقال بعضهم: الصحيح أن أبا طالب توفي في شوال سنة عشر من النبوة بعد خروج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من الحضر بثمانية أشهر وإحدى وعشرين يوما، وكان عمره بضعا وثمانين سنة، ثم توفيت خديجة بعد أبي طالب بثلاثة أيام وكان موتها قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين، وقال ابن كثير: مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء.
وأبو طالب اسمه عبد مناف، وهو أخو عبد الله لأمه، وكان له من الولد: طالب مات كافرا وجعفر وعلي وأم هانئ اسمها فاختة، وقيل هند، وقيل فاطمة، وهو الذي كفل رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بعد وفاة جده عبد المطلب، وذهب بعض الشيعة إلى أنه مات مسلما، والذي صح في البخاري يخالفه.
م: (لكن يغسل غسل الثوب النجس ويلف في خرقة) ش: بإفاضة الماء عليه وبغير الوضوء، وغير البداية بالميامن، وغير التثليث، ويلف في خرقة من غير مراعاة اعتبار التكفين من اعتبار عدد وغير حنوط وكافور م: (وتحفر له حفيرة) ش: من غير مراعاة ترتيب القبر، وأشار إلى ذلك كله بقوله: م: (من غير مراعاة سنة التكفين واللحد) ش: وهذا يتعلق بالمسألتين، مسألة اللف في الخرقة، ومسألة حفر القبر م: (ولا يوضع فيه) ش: أي في اللحد، يعني لا يجعل له لحد حتى يوضع فيه م: (بل يلقى) ش: في الحفيرة كما تلقى الجيفة، وبقولنا قال الشافعي.
وقال مالك وأحمد: ليس لولي الكافر غسله ولا دفنه، ولكن قال مالك بل لو مواراته، ولم يبين في الكتاب أن ابن المسلم إذا مات وله أب كافر هل يمكن أبوه من القيام بغسله وتجهيزه؟ ينبغي أن لا يمكن من ذلك، بل يفعله المسلمون لأن «ابن اليهودي لما آمن برسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عند موته قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه: ادفنوه» كذا في " المبسوط " و " الذخيرة "، ولم يحل بينه وبين والده اليهودي.
ويكره أن يدخل الكافر في قبر قريب المسلم ليدفنه، لأن موضع الكافر موضع اللعن، والمسلم يحتاج إلى نزول الرحمة، فيستنزه قبره من ذلك، كذا في " المبسوط " و " المحيط "، وذكر التمرتاشي لو كان هناك من يقوم بذلك من أقاربه الكفرة فالأولى للمسلم أن يدع ذلك لهم، ولكن يتبع الجنازة إن شاء، إلا إذا كان معها كفار ينبغي أن يمشي على ناحية منهم أو أمام الجنازة، ليكون معتزلا عنهم وذكر الإمام الكسائي والمحبوبي أن الكافر إنما يغسل لأنه سنة في عامة بني(3/238)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
آدم ولأنه حال رجوعه إلى الله تعالى يكون ذلك حجة عليه لا تطهيرا، حتى لو وقع الماء أفسده، بخلاف المسلم إذا غسل ثم وقع فيه فإنه لا يفسده. وقيل الغسل يفسده.
وكذا لو صلى وهو حامل ميت مسلم إن كان قبل الغسل لا تجوز صلاته، وبعد الغسل يجوز، بخلاف الكافر حيث لا يجوز قبل الغسل وبعده، غير أن الكافر لا ينجس في حال حياته لحمله أمانة الله تعالى ولاحتمال الإسلام، فلما ختم له بالشقاوة صار شرا من الخنزير.
وفي " الخلاصة " وأما المرتد إذا قتل يحفر له حفيرة ويلقى فيها كالكلب ولا يدفع إلى من انتقل إلى دينهم ليدفنوه، بخلاف اليهودي والنصراني، وذكر في " النوازل " أنه يدفع إلى من يدين بدينهم، وقال أبو يوسف لا يدفع كما ذكرناه إذا اختلط موتى المسلمين وموتى المشركين إن وجدت علامة المسلمين وسيماهم، وهي أربع: الختان، والخضاب، وحلق العانة، ولبس السواد يصلى عليهم، هكذا ذكر في " البدائع " وغيرها. قلت: في الختان نظر لأن اليهود وبعض النصارى يختتنون.
وإن لم يوجد، وكان المسلمون أكثر غسلوا كلهم وكفنوا وصلي عليهم وينوى بها المسلمون، وإن كان الكفار أكثر غسلوا ولا يصلى عليهم، وقال الشافعي: يغسلون ويكفنون ويصلى عليهم وإن كان موتى الكفار أكثر يعينون بالصلاة المسلمين، وبه قال مالك وأحمد، وألزمنا ابن قدامة في " المغني " بما اختلطت الميتة بالذكيات أو ذكية بالميتات حيث لا اعتبار بالأكثر، وهو إلزام باطل، فإن الميتة إذا كانت أكثر فإنه لا يتحرى، وحكم الكل حكم الميتات، وإن كانت الذكية أكثر يتحرى، وأما إذا اختلطت أخته بالأجنبيات فالتحري إنما يكون فيها مباحا عند الضرورة، والبضع لا يستباح إلا بالضرورة فلا يجوز التحري، وإن كانوا سواء يغسلون.
وهل يصلى عليهم؟ قيل: لا يصلى عليهم، وقيل: يصلى عليهم وينوي بالصلاة، الدعاء للمسلمين، وأما الدفن فلا رواية فيه في " المبسوط "، وذكر الحاكم الجليل في " مختصره " أنهم يدفنون في مقابر المشركين، وقيل في مقابر المسلمين، وقيل يتخذ لهم مقبرة على حدة وتسوى قبورهم، ولا تسنم، وهو قول أبي جعفر الهندواني.
وأصل الاختلاف في كتابية تحت مسلم ماتت حبلى لا يصلى عليها بالإجماع، لكنها تغسل وتكفن، واختلف الصحابة في دفنها، قال بعضهم: تدفن في مقابر المسلمين ترجيحا للولد المسلم، وقيل: في مقابر المشركين، وقال عقبة بن عامر وواثلة بن الأسقع: يتخذ لها قبر على حدة، وهذا أحوط، وفي بعض كتب المالكية: يجعل ظهرها إلى القبلة لأن وجه الجنين إلى ظهرها، وهو حسن.(3/239)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فروع أخرى: وجد قتيل في دار الإسلام إن كان عليه سيما المسلمين يغسل ويكفن ويصلى عليه وإن لم يكن ففيه روايتان، والصحيح أنه مسلم بحكم الدار، وإن وجد في دار الحرب، فإن كان عليه سيما المسلمين فكذلك بالإجماع، وإن لم يكن ففيه روايتان والصحيح أنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عيه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ويعمل بالسيما وحدها بالإجماع، وفي الدار وحدها روايتان، والصحيح العمل بها بغلبة الظن.
وفي " القنية ": حضرت صلاة في وقت صلاة المغرب قيل تقدم على سنة المغرب، وقيل تقدم السنة عليها، ولا خلاف في تقديم صلاة المغرب عليها، وتقدم صلاة العيد عليها، وتقدم هي على الخطبة ولو جهز الميت صبيحة يوم الجمعة، يكره تأخير الصلاة عليه ودفنه إلى وقت صلاة الجمعة، ولو خافوا فوات وقت الجمعة بسبب دفنه أخروا دفنه.
اتباع الجنائز أفضل من النوافل إذا كانوا بجوار أو قرابة أو صلاح مشهور وإلا فالنوافل أفضل، يكره الصلاة على الجنازة قبل طلوع الشمس وزوالها وغروبها، وإن صلوا فيها جازت، وكرهها في هذه الأوقات عطاء والنخعي والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق، ورخص فيه مالك بعد العصر ما لم تصفر، وبعد الصبح ما لم يسفر، وقال الشافعي: يصلى عليها في أي ساعة كانت من ليل أو نهار. وفي " مختصر الزعفراني " تعاد الصلاة عليها في وقت آخر، وفي الأصل لا تعاد ولا تكره بعد صلاة الفجر قبل طلوع الشمس ولا بعد صلاة العصر قبل تغير الشمس.(3/240)
فصل في حمل الجنازة / 50 وإذا حملوا الميت على سريره أخذوا بقوائمه الأربع بذلك وردت السنة، وفيه تكثير الجماعة وزيادة الإكرام والصيانة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: السنة أن يحملها رجلان يضعها السابق على أصل عنقه والثاني على صدره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في حمل الجنازة] [كيفية حمل الجنازة]
م: (فصل في حمل الجنازة) ش: أي هذا فصل في بيان حمل الجنازة يعني في بيان كيفية حملها، ولما فرغ من بيان كيفية الصلاة عليها شرع في بيان كيفة حملها على الترتيب.
م: (وإذا حملوا الميت على سريره أخذوا بقوائمه الأربع) ش: معناه يرفعونه أخذا باليد لا وضعا على العنق كما تحمل الأثقال، كذا قال الفقيه أبو الليث في شرح " الجامع الصغير ". وقال السغناقي: ولأن عمل الناس اشتهر بهذه الصفة، وهو أيسر عل الحاملين المتداولين بينهم، وأبعد عن تشبيه حمل الجنازة بحمل الأثقال، وقد أمرنا بذلك، ولهذا كره حملها على الظهر أو على الدابة م: (بذلك وردت السنة) ش: أي بأخذها بقوائم السرير الأربع جاءت السنة، وهو ما رواه أبو داود والطيالسي وابن ماجه والبيهقي من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها، فإنها من السنة، ثم إن شاء فليبطئ، وإن شاء فليسرع» هذا لفظ ابن ماجه.
وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن أبي الدرداء نحوه، وفي " العلل " لابن الجوزي مرفوعا عن ثوبان وأنس نحوه، وإسنادهما ضعيف. وروى الطبراني في " الأوسط " عن أنس مرفوعا «من حمل جوانب السرير الأربع كفر الله عنه أربعين كبيرة» .
وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " وعبد الرزاق أيضا من طريق الأزدي قال: رأيت ابن عمر في جنازة يحمل بجوانب السرير الأربع. وروى عبد الرزاق من طريق ابن المهزم عن أبي هريرة من حمل الجنازة بجوانبها الأربع فقد مضى الذي عليه.
م: (وفيه تكثير الجماعة) ش: أي وفي الأخذ بقوائمه الأربع تكثير الجماعة حتى لو لم يتبعها أحد كان هؤلاء جماعة م: (وزيادة الإكرام) ش: حيث لم يحمل مثلما يحمل الأثقال م: (والصيانة) ش: أي وصيانة الميت عن السقوط والانقلاب.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: السنة أن يحملها رجلان يضعها السابق على أصل عنقه والثاني) ش: أي الذي يتلو السابق م: (على صدره) ش: فتكون محمولة على رجلين، وقال النووي التربيع جائز، وفي الأفضل ثلاثة أوجه، والصحيح الذي قطع به أكثرهم الحمل بين العمودين، والثاني التربيع أفضل حكاه إمام الحرمين، وقال وهو ضعيف لا أصل له، والثالث(3/241)
لأن جنازة سعد بن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هكذا حملت. قلنا: كان ذلك لازدحام الملائكة عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هما سواء في الفضيلة، حكاه الرافعي، والأفضل مطلقا الجمع بين الوجهين، وهو أن يحملها خمسة واحد بين العمودين، وأربعة من جوانبها، وقيل: أن تحمل تارة بين العمودين وتارة بالتربيع، ولا يحصل بين العمودين إلا بالثلاثة في الصحيح، وقال الدارمي وأبو إسحاق المروزي: يحصل باثنين.
وقال النووي: وهذا ضعيف شاذ مردود، وحملها بين العمودين هو أن يجعل الحامل رأسه بين عمودي مقدمة النعش، ويجعلها على كاهله، ويحمل مؤخرة النعش رجلان أحدهما من الجانب الأيمن والآخر من الجانب الأيسر، ولا يتوسط المؤخرتين أحد، لأنه لا يرى ما بين قدميه، بخلاف المقدمين، وفي " الحلية " الحمل بين العمودين أفضل، وقال أحمد: التربيع أفضل، وقال النخعي: يكره الحمل بين العمودين، وهو قول أبي حنيفة.
وقال في " المغني ": التربيع أخذهما بجوانب السرير الأربعة، وهو سنة في حمل الجنازة، وقال في " ذخيرة المالكية ": هو أفضل من حملها بين العمودين، قال: وبه قال أكثرهم كالحسن والنخعي والثوري وأحمد وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: وكرهوا حملها بين العمودين، وهو قول ابن مسعود وابن عمر وابن جبير، وعن أحمد روايتان.
وفي " شرح مختصر الكرخي " يكره أن يحمل بين عمودي السرير من مقدمه أو مؤخره، لأن السنة فيه التربيع، وفي " الذخيرة " قال محمد رأيت أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل هكذا، وذلك دليل قوله ضعه. وقال في " قاضي خان " قال يعقوب: رأيت أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل ذلك لتواضعه.
قلت: أو لزيادة الأجر، والحاصل أن السنة عندنا أن يحملها أربعة من جوانبها الأربعة، وقالوا: ينبغي أن يحملها الإنسان من كل جانب عشر خطوات، لما روي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من حمل الجنازة أربعين خطوة كفرت عنه أربعين كبيرة» رواه أبو بكر النجاد.
م: (لأن جنازة سعد بن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هكذا حملت) ش: يعني بين العمودين، رواه الشافعي عن بعض الصحابة «عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين» ورواية ابن سعد عن الواقدي عن ابن أبي حبيبة عن شيوخ من بني عبد الأشهل وسعد ابن معاذ بن النعمان أبو عمرو الأنصاري الأزدي سيد الأوس شهد بدرا والمشاهد ورمي يوم الخندق بسهم فعاش شهرا، ثم انتقض جرحه ومات، رماه حبان بن العرقة العامري.
م: (قلنا كان ذلك لازدحام الملائكة عليه) ش: هذا جواب عما رواه الشافعي بطريق التسليم، وتقريره أنه كان ذلك بسبب الطريق بازدحام الملائكة، حتى كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -(3/242)
ويمشون به مسرعين دون الخبب لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين سئل عنه قال: ما دون الخبب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يمشي على رؤوس وصدور قدميه، وعندنا في حالة الضرورة، لضيق الطريق أو لقلة الحاملين لا بأس بأن يحمل الجنازة رجلان.
وأما الجواب بطريق المنع فهو أي الذي رواه الشافعي ضعيف لا يصلح للحجة ضعفه البيهقي وغيره، حتى قال النووي: ليس في حمل الجنازة بين العمودين نص ثابت عن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وقال الشافعي: الحمل عبادة، وما قلنا أوثق على الندب فكان أفضل، والجواب عما ذكر أن ما قلنا راجع إلى أصل العبادة، وما قاله راجع إلى وصف العبادة فكانت الصيانة أولى من الاكتساب زيادة المشقة، كذا ذكره شيخ الإسلام والمحبوبي.
[الإسراع بالجنازة]
م: (ويمشون به مسرعين) ش: أي الذين يحملون الميت يمشون به حال كونهم مسرعين، لما روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخبر تقدمونها، وإن يك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» ولما كان الإسراع يتناول الخبب وما دونه قيده بقوله: م: (دون الخبب) ش: بفتح الخاء المعجمة، والباء الموحدة وهو ضرب من العدو، يقول خبب الفرس يخبب بالضم خب خبا وخببا وخبيبا، قاله الجوهري، وفي " المغرب ": الخبب ضرب من العدو دون العنق، والعنق خطو مع سرعة.
وفي " المغني " لا خلاف بين الأئمة في استحباب الإسراع بها، وقال بعض الحنابلة يخب ويرمل، وروي عن النخعي: بطئوا بها ولا تدبوا دبيب اليهود والنصارى.
وفي " المبسوط " ليس في المشي بالجنازة شيء مؤقت غير أن العجلة أحب إلي من الإبطاء، وفي " التحفة " الإسراع بالميت سنة ويكون دون الخبب.
وفي " البدائع " و " جوامع الفقه " يسرع بالميت لا يضطرب على الجنازة، وهو قول جمهور العلماء.
م: (لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حين سئل عنه قال: ما دون الخبب» ش: أي سئل عن المشي بالجنازة فقال ما دون الخبب، رواه أبو داود والترمذي «عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: سألنا نبينا عن المشي بالجنازة، فقال ما دون الخبب إن يكن خيرا تعجل إليه، وإن يكن غير ذلك فبعدا لأهل النار» وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث عبد الله بن مسعود إلا من هذا الوجه، وقال: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يضعف حديث ابن ماجه هذا.
وقال البيهقي: هذا حديث ضعيف. قلت: راوي هذا الحديث عن ابن مسعود هو أبو(3/243)
وإذا بلغوا إلى قبره يكره للناس أن يجلسوا قبل أن يوضع عن أعناق الرجال لأنه قد تقع الحاجة إلى التعاون والقيام أمكن منه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ماجدة الحنفي ويقال العجلي، قال الحميدي عن ابن عيينة قلت ليحيى بن عبد الله الجابر: الذي روى هذا الحديث أبو ماجدة من أبو ماجدة؟ قال: شيخ طرأ علينا، وهو منكر الحديث. وقال الدارقطني: مجهول متروك، وقال الترمذي: مجهول. وقال أبو أحمد الكرابيسي: حديثه ليس بالقائم.
فإن قلت: روى البخاري ومسلم من رواية عطاء قال: حضرن مع ابن عباس جنازة ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بسرف، فقال ابن عباس: هذه ميمونة إذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوه، ولا تزلزلوه، وارفقوا. وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن محمد بن فضيل عن بنت أبي بردة عن أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال «مر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بجنازة وهي تمحض كما يمحض البرق، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عليكم بالفضل في جنائزكم» وهذا يدل على استحباب الرفق في الجنازة، وترك الإسراع، فكيف الجمع بين ذلك وبين ما تقدم من الحديث؟ قلت: أما قول ابن عباس فإنه أراد بالرفق في كيفية الحمل لا في كيفية المشي، فإنه خشي أن يسقط أو ينشكف النعش عنها أو نحو ذلك، أو أن هذا رأي لابن عباس، والحديث المرفوع أولى بالاتباع.
وأما حديث أبي موسى، فإنه منقطع بين بنت أبي بردة وبين أبي موسى، ومع ذلك فظاهره أنه كان يفرط في الإسراع بها.
[الجلوس قبل وضع الجنازة عن الأعناق]
م (وإذا بلغوا إلي قبره يكره للناس أن يجلسوا قبل أن يوضع عن أعناق الرجال، لأنه قد تقع الحاجة إلى التعاون) ش: في الحمل لأن فيه إظهار العناية لأمر الميت. وكره الجلوس قبل وضعها الحسن بن علي وأبو هريرة وابن الزبير وابن عمر والنخعي والشعبي، والأوزاعي وأحمد وإسحاق، وقال مالك والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لا بأس بالجلوس قبل أن يوضع، وقال ابن شعبان: لا ينزل الراكب حتى يوضع.
ولنا ما روى أبو داود، ثنا أحمد بن يونس ثنا زهير ثنا سهيل بن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا تبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع» قال أبو داود: وروى الثوري هذا الحديث عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: «حتى توضع بالأرض» . ورواه أبو معاوية عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة «حتى توضع في اللحد» وسفيان أحفظ من أبي معاوية واسمه محمد بن حازم الضرير.
م: (والقيام أمكن منه) ش: أي من الجلوس، يعني أن التعاون في حال القيام أمكن من التعاون في حال الجلوس، فلا جرم كره الجلوس قبل وضع الجنازة عن أعناق الرجال.(3/244)
قال: وكيفية الحمل أن تضع مقدم الجنازة على يمينك، ثم مؤخرها على يمينك ثم مقدمها على يسارك، ثم مؤخرها على يسارك إيثارا للتيامن، وهذا في حالة التناوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال وكيفية الحمل أن تضع مقدم الجنازة على يمينك ثم مقدمها على يسارك ثم مؤخرها على يسارك إيثارا للتيامن) ش: هذا لفظ " الجامع الصغير " بلفظ الخطاب خاطب به أبو حنيفة أبا يوسف - رحمهما الله -، قال في " الذخيرة ": مقدم الجنازة على يمينك ثم مؤخرها على يمينك نحو ما في المتن، ثم قال: هو السنة عند كثرة الحاملين إذا تناوبوا في حملها، وإليه أشار بقوله: م: (وهذا في حالة التناوب) ش: يعني حملها على الوجه المذكور إذا تناوب الحاملون، وإنما بدأ بالمقدم لأن المقدم بالأولى، والابتداء بالأول أولى، وإنما بدأ بالميامن لأن الله يحب التيامن.
وفي " الفتاوى الصغرى " ويبدأ في حمل الجنازة بالميامن، والمراد بالميامن يمين الميت لا يمين الجنازة، لأن يمين الميت على يسار الجنازة، ويساره على يمين الجنازة، وفي " النهاية " ثم اعلم أن في حمل الجنازة سنن، هذا بعد السنة وكمالها، أما نفس السنة هي أن تؤخذ الجنازة بقوائمها الأربع على طريق التعاقب، بأن تحمل في كل جانب عشر خطوات، جاء في الحديث: «من حمل جنازة أربعين خطوة كفرت له أربعين كبيرة» .
قلت: قد ذكرنا فيما مضى أن الطبراني أخرج هذا عن أنس مرفوعا قال: وهذا يتحقق في حق الجميع، وأما كمال السنة فلا يتحقق إلا في حق الواحد فلذلك لا تكون البداية بها إلا للواحد، فافهم.(3/245)
فصل في الدفن ويحفر القبر ويلحد لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللحد لنا والشق لغيرنا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الدفن] [المفاضلة بين اللحد والشق]
م: (فصل في الدفن) ش: أي هذا فصل في بيان دفن الميت، ولما فرغ من بيان حمل الميت شرع في بيان دفنه على الترتيب المقصود منه ستر سوءة الميت، وإليه الإشارة في قَوْله تَعَالَى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] [المائدة: 31] ، وهو واجب إجماعا.
م: (ويحفر القبر ويلحد) ش: كلاهما مجهولان لكن يلحد يحتمل أن يكون مجهول الثلاثي المجرد وهو لحد، ويحتمل أن يكون من المزيد فيه وهو ألحد وكلاهما متعد، يقال لحد القبر وألحده وقبر ملحود وملحد، وألحد الميت وألحد له لحدا، ولحد الميت وألحده جعله في اللحد.
وذكر النووي أن اللحد بفتح اللام وضمها وصفة اللحد أن تحفر حفيرة في القبر في جانب القبلة، ويوضع الميت فيها، ويقال اللحد طول الإنسان أو أكثر قليلا في جانب القبر من جهة القبلة.
واختلفوا في عمق القبر ففي " الروضة " عمقه قدر نصف قامة، وفي " الذخيرة " إلى صدر الرجل وسط القامة قال: فإن زاد فهو أفضل، وإن عمقوا مقدار قامة هو أحسن، وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يعمق القبر إلى صدر الرجل، ذكره في " الذخيرة "، وبه قال الحسن وابن سيرين، وعن عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لما مات ابنه إبراهيم أوصى أن يحفروا قبره إلى السرة، ولا يعمقوا قال: ما على ظهر الأرض أفضل مما أسفل منها، وعنه احفروا ولا تعمقوا، فإن خير الأرض أعلاها وشرها أسفلها، ذكره في " الذخيرة " للمالكية، وفي " المغني " يحفر إلى صدر الرجل والمرأة سواء. وقال مالك: ليس بمحدد [....
... ] ، وقال الشافعي: قامة.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اللحد لنا والشق لغيرنا» ش: هذا الحديث روي عن ابن عباس وجرير بن عبد الله البجلي وعائشة وابن عمر وجابر، فحديث ابن عباس رواه الأئمة الأربعة حدثنا أبو داود عن إسحاق بن إسماعيل، والترمذي عن أبي كريب وغيره، والنسائي عن عبد الله بن محمد الأذرمي، وابن ماجه عن محمد بن عبد الله بن نمير كلهم عن حكام بن سلم عن علي بن عبد الأعلى عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اللحد لنا والشق لغيرنا» ، وقال الترمذي: حديث ابن عباس حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وحديث جرير عند ابن ماجه وحديث عائشة وابن عمر عند ابن أبي شيبة في " مصنفه " وحديث جابر عند أبي حفص بن شاهين، وورد في اللحد للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن جماعة من(3/246)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصحابة، وهم سعد بن أبي وقاص وأنس بن مالك وأبو طلحة، وبريدة بن الحصيب والمغيرة بن شعبة وابن عباس، «فحديث سعد عن مسلم والنسائي، وابن ماجه عنه قال في مرضه الذي هلك فيه ألحدوا لي لحدا، وأنصبوا علي اللبن نصبا كما فعل برسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» -.
وحديث أنس عند ابن ماجه من رواية مبارك بن فضالة عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: «لما توفي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان في المدينة رجل يلحد، وآخر يضرح، فقالوا نستخير ربنا، ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه، فأرسل إليهما فسبق صاحب اللحد، فلحدوا للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» -.
وحديث أبي طلحة عند ابن سعد في " الطبقات "، قال: أنا محمد بن عمر قال: ثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة «عن أبي طلحة، قال: اختلفوا في الشق واللحد للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقال المهاجرون: شقوا كما تحفر أهل مكة، وقالت الأنصار: ألحدوا كما نحفر بأرضنا، فلما اختلفوا في ذلك قالوا: اللهم خره لنبيك، ابعثوا إلى أبي عبيدة، وإلى أبي طلحة فأيهما جاء قبل الآخر فيعمل عمله، قال: فجاء أبو طلحة فقال: والله إني لأرجو أن يكون الله قد جاز لنبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه كان يرى اللحد فيعجبه» .
وحديث بريدة عند البيهقي من حديث علقمة بن يزيد عن بريدة عن أبيه قال: «أدخل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قبل القبلة، وألحد له لحدا، ونصب عليه اللبن نصبا» قال البيهقي وأبو بردة، هذا هو عمرو بن يزيد التميمي الكوفي، وهوضعيف في الحديث، ضعفه يحيى بن معين وغيره.
وحديث المغيرة عند ابن أبي شيبة في " مصنفه " قال: لحدنا النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وحديث ابن عباس عند ابن ماجه قال: «لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بعثوا إلى أبي عبيدة ابن الجراح وكان يضرح بضريح أهل مكة، وبعثوا إلى أبي طلحة وكان هو الذي يحفر لأهل المدينة وكان يلحد، فبعثوا إليهما رسولين، فقالوا: اللهم خره لرسولك، فوجدوا أبا طلحة، فجيء به ولم يوجد أبو عبيدة، فلحد لرسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» -.
قوله اللحد لنا يعني لأجل أموات المسلمين والشق لهم، يعني لأجل أموات الكفار، ولو(3/247)
ويدخل الميت مما يلي القبلة خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن عنده يسل سلا لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سل سلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شقوا لمسلم يكون تركا للسنة، اللهم إلا إذا كانت الأرض رخوة لا تحمل اللحد، فإن الشق حينئذ يتعين، والشق أن يحفر حفرة في وسط القبر ويوضع فيها الميت.
وفي " المبسوط ": وصفة الشق أن يحفر حفيرة كالنهر في وسط القبر ويبنى جانباه باللبن أو غيره، ويوضع الميت فيه، وقال فخر الإسلام في " الجامع الصغير ": وإن تعذر اللحد فلا بأس بتابوت يتخذ للميت، لكن السنة أن يفرش فيه التراب، واللحد أفضل عند الأئمة الأربعة من الشق، وقال صاحب " المبسوط " و " المحيط " و " البدائع " وغيرهم عن الشافعي أن الشق أفضل عنده، وهكذا نقله القرافي في " الذخيرة " عنه، وقال النووي في " شرح المهذب ": أجمع العلماء على أن اللحد والشق جائزان، لكن إن كانت الأرض صلبة لا ينهار ترابها، فاللحد أفضل، وإن كانت رخوة ينهار فالشق أفضل.
قلت: ينبغي أن يتعين الشق حينئذ. وقال صاحب " المنافع " اختاروا الشق في ديارنا لرخاوة الأرض فيتعذ اللحد فيها حتى أجازوا الآجر ودفون الخشب واتخاذ التابوت ولو كان من حديد، ومثله في " المبسوط "، ويكون التابوت من رأس المال إذا كانت الأرض رخوة أو ندية منع كون التابوت في غيرها مكروها في قول العلماء قاطبة، وقال أحمد: إن كانت الأرض رخوة جعل له من الحجارة شبه اللحد، قال: ولا أحب الشق، وفي " قاضي خان " ينبغي أن يفرش فيه التراب ويطين الطبقة العليا مما يلي الميت، ويجعل اللبن الخفيف على يمين الميت ويساره ليصير مثل اللحد وفي " المحيط " واستحسن مشايخنا اتخاذ التابوت للنساء، فإنه أقرب إلى الستر والحرز عند الوضع في القبر.
[كيفية الدفن]
م: (ويدخل الميت مما يلي القبلة) ش: يعني موضع الجنازة في جانب القبلة من القبر، ويحمل منه الميت فيوضع في اللحد وهو مذهب علي بن أبي طالب ومحمد بن الحنفية وإسحاق بن راهوية وإبراهيم التيمي وابن حبيب م: (خلافا للشافعي) ش: يعني خالفنا في ذلك خلافا للشافعي، وانتصاب خلافا بالفعل الذي ذكرناه م: (فإن عنده يسل سلا) ش: أي فعند الشافعي يسل الميت سلا، وهو أن يوضع رأس الميت عند رجل القبر وهو طرفه الذي يكون فيه رجل الميت ثم سل من قبل رأسه سلا، والسل إخراج الشيء من الشيء بجذب، وأريد هنا إخراج الميت من الجنازة إلى القبر، ومنه سل سيفه إذا نزعه من غمده، وبقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال أحمد: لا بأس بذلك كله، ومالك خير بين ذلك، وبه قالت الظاهرية.
م: (لما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سل سلا) ش: روى الشافعي في " مسنده " أنا الثقة عن عمر ابن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس قال: «سل رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قبل رأسه» أنا مسلم(3/248)
ولنا أن جانب القبلة معظم فيستحب الإدخال منه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بن خالد الزنجي وغيره عن ابن جريج عن عمران بن موسى «أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سل من قبل رأسه، والناس بعد ذلك» أنا بعض أصحابنا عن أبي الزناد وربيعة وأبي النضر لا خلاف بينهم في ذلك أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «سل من قبل رأسه» وكذلك أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ومن طريق الشافعي رواها البيهقي وقال: هذا هو المشهور فيما بين أهل الحجاز.
م: (ولنا أن جانب القبلة معظم فيستحب الإدخال به) ش: هذا دليل عقلي، ولم يذكر دليلا نقليا، غير أن أجاب عن احتجاج الشافعي في السل فيقول رويت أحاديث، وأشار بذلك على ما ذهب إليه أصحابنا، فمن الأحاديث ما رواه ابن ماجه في " سننه " حدثنا هارون بن إسحاق ثنا المحاربي عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد أن «رسول الله أخذ من قبل القبلة واستقبل استقبالا» .
ومنها ما رواه الترمذي حدثنا أبو كريب ومحمد بن عمرو السواق قالا: حدثنا يحيى بن اليمان عن المنهال بن خليفة عن الحجاج بن أرطاة عن عطاء عن ابن عباس «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دخل قبرا ليلا فأسرج له سراج، فأخذه من قبل القبلة، وقال: رحمك الله إن كنت لأواها تلاء للقرآن " وكبر عليه أربعا» وقال: حديث حسن.
ومنه ما رواه الجلال في " جامعه " عن عبد الله بن مسعود أنه سمع رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهو في قبر عبد الله ذي البجادين، [.....] وهو يقول أدنيا مني أخاكما حتى أسنده في لحده وأخذه من قبل القبلة، ومن الآثار ما رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن عمر بن سعد أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كبر على يزيد بن المكفف أربعا وأدخله من قبل القبلة.
وأخرج أيضا عن ابن الحنفية أنه ولي أمر ابن عباس فكبر عليه أربعا وأدخله من قبل القبلة، وأخرج عن إبراهيم النخعي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أدخل من قبل القبلة وقال أخبرني من رأى أهل المدينة يأخذون بالميت من القبلة ثم رجعوا على السل لضعف أرضهم: قوله جانب القبلة معظم، لأن جهتها أشرف الجهات فكانت أفضل فحينئذ المستحب إدخال الميت من جانب القبلة. فإن قلت روى أبو داود عن عبد الله بن زيد الخطمي الأنصاري الصحابي أنه صلى على الجنازة ثم أدخله القبر من قبل رأسه وقال إنه من السنة، وقال البيهقي: إسناده صحيح. قلت: ما روينا من الآثار يعارض هذا، فلا يتم به الاستدلال على أن إبراهيم التيمي أنكر السل، وقال ابن حزم في " المحلى ": حديث السل لا يصح، فإن صح ففيه أجوبة على ما نذكرها عن قريب إن شاء الله تعالى.(3/249)
واضطربت الروايات في إدخال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا وضع في لحده يقول واضعه بسم الله وعلى ملة رسول الله، كذا قاله رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: حين وضع أبا دجانة في القبر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (واضطربت الروايت في إدخال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: إضافة إدخال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من إضافة المصدر إلى المفعول أي في إدخال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قبره، ووجه الاضطراب ما روي «أنه سل سلا» وما روي «أنه أدخل من قبل القبلة» فلما تعارضت الروايات لا يكون المحتمل حجة للخصم، على أنا نقول أحاديث السل غير صحيحة، ولئن سلمنا فالجواب عنها من وجوه.
الأول: أن ما رواه الخصم ما فعل الصحابة أو قوله: وما رويناه فعل رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وليس لأحد كلام معه:
الثاني: أنه يحتمل ما رواه فعل خوفا فمن إقامتها لرخاوة الأرض.
الثالث: لم يكن من جهة القبلة ما يسع فيه وضع الجنازة لقرب الحائط.
وفي " الدراية ": وإن صح ما رواه قائما كان ذلك لأجل الضرورة، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مات في حجرة عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - من قبل الحائط، وكانت السنة في دفن الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - أن يدفنوا في الموضع الذي قبضوا فيه، فلم يتمكنوا من وضع السرير قبل القبلة لأجل الحائط فلهذا سل، ولا يدخل الميت من جانب القبلة لما روي عن ابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إن الميت يدخل من قبله القبلة» وفي " الإيضاح " روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «شهد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على جنازة رجل وقال: يا علي استقبل به القبلة استقبالا وقولوا جميعا بسم الله وعلى ملة رسول الله، وضعوه لجنبه ولا تكبوه بوجهه، ولا تلقوه بظهره» .
م: (فإذا وضع) ش: أي الميت م: (في لحده يقول واضعه: بسم الله على ملة رسول الله) ش: أي بسم الله وضعناك، وعلى ملة رسول الله سلمناك، وروى الحسن عن أبي حنيفة بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله.
م: (كذا قاله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين وضع أبا دجانة في القبر) ش: هذا وهم فاحش، فإن أبا دجانة قتل شهيدا يوم اليمامة سنة اثنتي عشرة في خلافة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذكره ابن أبي خيثمة في " تاريخه ".
وفي " معجم الطبراني " ترجمة أبي دجانة استدعى محمد بن إسحاق قال في تسمية من استشهد يوم اليمامة من الأنصار أبو دجانة واسمه سماك بكسر السين المهملة ابن خرشة بفتح الخاء(3/250)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المعجمة والراء والشين المعجمة.
واليمامة بفتح الياء آخر الحروف مدينة بالبادية، يعني مقام مسيلمة الكذاب، وهي بلاد بني حنيفة وهي أكثر نخلا من سائر الحجاز، ولما تنبأ بها أرسل إليه أبو بكر خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ووقع بينه، وبين قومه قتال طويل.
وآخر الأمر تقدم إليه وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم قاتل حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فرماه بحربة فأصابته وخرجت من الآخر وسارع إليه أبو دجانة فضربه بالسيف فسقط واستشهد أبو دجانة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأقر هذا الوهم التقليد، فإن شيخ الإسلام ذكر هكذا في " المبسوط ".
وكذا ذكره صاحب " البدائع " والذي وضعه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في قبره هو ذو البجادين واسمه عبد الله، وكان اسمه عبد العزى، فسماه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عبد الله، ولما أسلم عند قومه جردوه وألبسوه بجادا وهو الكساء الغليظ فهرب منهم، مات في غزوة تبوك، والبجاد بكسر الباء الموحدة وبالجيم.
قال ابن الأثير: لما أراد المصير إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قطعت أمه بجادا لها فقيل: فارتدى إحداهما واتزر بالأخرى.
وقد روي في هذا الباب حديث ابن عمر من طريق فروى ابن ماجه من حديث الحجاج بن أرطاة عن نافع عن ابن عمر قال: كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا دخل الميت القبر قال: " بسم الله وعلى ملة رسول الله» ، ورواه الترمذي، وزاد لفظ «بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله» وقال: حسن غريب من هذا الوجه.
ورواه أبو داود في " سننه " من حديث همام عن قتادة عن أبي الصديق الناجي عن ابن عمر نحوه بلفظ «بسم الله وعلى سنة رسول الله» وبهذا الإسناد رواه ابن حبان في " صحيحه ".
ورواه الحاكم في " المستدرك " بلفظ: «إذا وضعتم موتاكم في قبوركم فقولوا: بسم الله، وعلى ملة رسول الله» ، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وهمام بن يحيى ثبت مأمون إذا أسند مثل هذا الحديث لا يعلل بأحد إذا أوقفه شعبة، ورواه البيهقي، وقال: تفرد برفعه همام بن يحيى بهذا الإسناد وهو ثبت إلا أن شعبة وهشاما(3/251)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدستوري روياه عن قتادة موقوفا على ابن عمر، وقال الدارقطني في الموقوف هو المحفوظ.
قلت: روه ابن حبان في " صحيحه " من حديث شعبة عن قتادة به مرفوعا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا وضع الميت في قبره قال: «بسم الله وعلى ملة رسول الله» ، روى الطبراني في " الأوسط " من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر مرفوعا بلفظ الحاكم.
وروى الطبراني أيضا من «حديث عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه قال: قال لي أبو اللجلاج بن خالد يا بني إذا أنا مت فالحد لي، فإذا وضعتني في اللحد فقل بسم الله وعلى ملة رسول الله، ثم سن على التراب سنا ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمها فإني سمعت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول ذلك» .
قلت: الحلاج أبو العلاء العامري صحابي نزل دمشق روى عنه ابناه العلاء وخالد.
1 -
فروع: إذا انتهوا بالميت إلى قبره فلا يضر وتر دخله أو شفع، لأن المعتبر حصول الكفاية. وفي " الذخيرة " وقد صح أنه دخل قبره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أربع علي والعباس وابنه الفضل، واختلفوا في الرابع.
ذكر شمس الأئمة الحلواني: أن الرابع صالح مولى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده: أن الرابع صهيب، وذكر شمس الأئمة السرخسي: أن الرابع المغيرة بن شعبة، أو أبو رافع، وفي رواية أبي داود «دخل قبره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علي، والفضل، وأسامة، وابن عبد الرحمن بن عوف معهم، فصاروا أربعة» .
وفي بعض روايات البيهقي، «عن علي، ولي دفنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أربع علي والعباس والفضل، وصالح مولى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» - كما ذكره الحلواني، وعن ابن عباس، أنهم كانوا أربعة، علي، والفضل، وقثم بن عباس، وشقران مولى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وهو بضم الشين لقب صالح مولاه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وفي " المعارضة ": وقد أدخل قبره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أربعة رجال كبراء علي والفضل ابنا عمه وعبد الرحمن بن عوف وأسامة مولاه، وقال الشافعي: يستحب في ذلك الوتر، فإن تعذر فواحد، وإلا فثلاثة، والحجة عليه ما ذكرناه، وذو الرحم المحرم أولى بوضع المرأة في القبر، وفي " الواقعات ": فأهل الصلاح من جوانبها تلي دفنها وإن لم يكن لها محرم يضعها الأجانب.
ذكر في " المحيط " أو المحرم من غير رحم ولا يدخل القبر امرأة ولا كافر وإن كانا قريبين ذكره(3/252)
/
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القدوري في " شرحه "، والعتابي في " جوامع الفقه "، وقال مالك كذلك، إلا أن يوجد من قواعد النساء، من تطيق ذلك من غير كلفة، والأصح من قول أحمد لا يباشرها فيها النساء.
وفي " شرح المهذب " للنووي الأولى أن يتولى الدفن الرجال، سواء كان الميت رجلا أو امرأة، وهذا لا خلاف فيه، وقال " صاحب البيان " قال الصيدلاني: ويتولى النساء حمل المرأة من المغتسل إلى الجنازة وتسلمها إلى رجل في القبر.
قال صاحب " البيان " ولم أر هذا لغير الصيدلاني، قالوا: وقد نص الشافعي على مثلما قاله الصيدلاني في " الأم ".
وفي " الينابيع ": السنة أن يفرش في القبر التراب، وفي كتب الشافعية والحنابلة يجعل تحت رأسه لبنة أو حجر، قال السروجي: ولم أقف عليه عن أصحابنا، وفي " المبسوط " و " البدائع " وغيرهما: لو وضع في قبره لغير القبلة أو على شقه الأيسر أو جعل رأسه في موضع رجليه وهيل عليه التراب لا ينبش قبره لخروجه من أيديهم، فإن وضع اللبن ولم يهل التراب عليه نزع اللبن، وتراعى السنة في وضعه ويغسل إن لم يكن غسل، وقول أشهب، ورواه ابن نافع عن مالك.
وقال الشافعي: يجوز نبشه إذا وضع لغير القبلة، وإن وقع متاع القوم في القبر لا ينبش بل يحفر من جهة المتاع ويخرج، كذا في " المبسوط ".
وفي " جوامع الفقه ": لا بأس بنبشه وإخراجه، وعن المغيرة بن شعبة أنه سقط خاتمه في قبره - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فما زال بالصحابة حتى رفع اللبن وأخذ خاتمه وقبله بين عينيه، وكان يفتخر بذلك ويقول: أنا آخر عهدا برسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولو بلي الميت وصار ترابا يجوز دفن غيره في قبره وزرعه والبناء فيه وسائر الانتفاعات به، وكره أن يكون تحت رأس الميت في القبر مخدة ونحوها، هكذا ذكره " المرغيناني "، وكره ابن عباس أن يلقى تحت الميت شيء في قبره، رواه الترمذي.
وعن ابن موسى: لا يجعل بينه وبين الأرض شيء، وقد جعل في قبره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قطيفة حمراء، قال: قال شقران: طرحت القطيفة تحت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في القبر، رواه الترمذي ولم يكن ذلك عن اتفاق، وقيل إنما جعلت القطيفة تحته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأن المدينة سبخة.
وقال في " المعارضة ": قد روي أن العباس وعليا تنازعوا في القطيفة فبسطها شقران تحته ليرفع الخلاف وينقطع التنازع في الميراث، قاله ابن أبي حنيفة، وقال عياض: كان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يلبسها ويفرشها، فقال شقران: والله لا يلبسك أحد بعده أبدا فألقاها في القبر، ويسند(3/253)
ويوجه إلى القبلة، بذلك أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتحل العقدة لوقوع الأمن من الانتشار ويسوى اللبن على اللحد لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل على قبره اللبن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الميت بالتراب أو نحوه حتى لا ينقلب ويسوى اللبن على اللحد، أي يسند اللحد من جهة القبر ويقام اللبن فيه.
وفي " البدائع " ذكر شريح: وهو الإقامة، وفي " المفيد " وينصب سدا حاميا كيلا ينزل التراب على الميت، واستعمال اللبن فيه بإجماع، وقال ابن حبيب من المالكية أفضل ما يسند به اللبن ثم اللوح ثم القرامد ثم الآجر ثم الحجارة ثم القصب، وكل ذلك أفضل من التراب، والتراب أفضل من التابوت.
م: (ويوجه إلى القبلة) ش: أي ويوجه الميت واضعه إلى جهة القبلة م: (بذلك أمر رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي بتوجيه الميت إلى القبلة، أمر رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وورود الأمر بذلك من رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يثبت.
ولكن يستأنس له بحديث رواه أبو داود والنسائي عن عبد الحميد بن شيبان عن عبيد بن عمير بن قتادة الكتبي عن أبيه وكانت له صحبة «أن رجلا قال: يا رسول الله ما الكبائر، قال: هي التسع، فذكرها [.....] البيت الحرام، ثم قال قبلتكم أحياء وأمواتا» وروى ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخذ من قبل القبلة وأسند به القبلة، وقد ذكرناه.
م: (وتحل العقدة) ش: أي ويحل واضع الميت في قبره العقدة التي كان عقدها عند التكفين خوفا من الانتشار م: (لوقوع الأمن من الانتشار) ش: بوضعه في القبر م: (ويسوى اللبن عليه، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جعل على قبره اللبن) .
ش: هذا الحديث رواه ابن حبان في صحيحه عن جابر «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ألحد ونصبنا عليه اللبن نصبا ورفع قبره من الأرض نحو شبر» وأخرج أيضا عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كفن في ثلاثة أثواب سحولية وألحد له ونصب عليه اللبن» . وأخرج الحاكم في " مستدركه «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: غسلت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى أن قال: وألحد لرسول الله عيه السلام لحدا، ونصب عليه اللبن نصبا» وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه منه غير اللحد.
قلت: هو وهم منه، فقد أخرج مسلم نصب اللبن أيضا «عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه قال في مرضه الذي مات فيه: ألحدوا إلي لحدا، وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» -: وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن الشعبي «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جعل على قبره طنا من قصب» .(3/254)
ويسجى قبر المرأة بثوب حتى يجعل اللبن على اللحد ولا يسجى قبر الرجل، لأن مبنى حالهن على الستر، ومبنى حال الرجال على الانكشاف، ويكره الآجر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ويسجى قبر المرأة بثوب حتى يجعل اللبن على اللحد) ش: أي يغطى قبر المرأة بثوب إلى أن يجعل اللبن على لحدها. يقال سجى يسجي تسجية، أي غطى تغطية، والمسجى المغطى، وثلاثيه سجى، يقال سجى الليل، إذا أظلم، قال الله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 2] [الضحى: 2] وذكر في تفسير النسفي إذا أقبل بظلامه، وعن الضحاك غطى كل شيء، وعن قتادة إذا سكن بالخلق واستقر ظلامه، وقال الجوهري: سجى يسجو سجوا سكن ودام، وقَوْله تَعَالَى: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 2] إذا دام وسكن، ومنه البحر الساجي، وسجيت الميت تسجية إذا مددت عليه ثوبا.
م: (ولا يسجى قبر الرجل) ش: وبه قال مالك وأحمد، والمشهور من مذهب الشافعي أن يسجى قبر الرجل والمرأة آكد، وتعلق بحديث ضعيف، وهو ما رواه البيهقي من حديث ابن عباس قال: «جلل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبر سعد بثوبه» ثم قال: لا أحفظه إلا من حديث يحيى بن عقبة بن أبي عيزار وهو ضعيف، وحكى الرافعي وجها في اختصاصه بالمرأة، واختاره أبو الفضل، وحكى ابن المنذر عن عبد الله بن زيد وشريح كراهة ذلك للرجل. وروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتاهم وقد دفنوا ميتا وبسطوا على قبره ثوبا فجذبه، وقال: إنما يصنع هذا بالنساء.
وشهد أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دفن أبي زيد الأنصاري فخمر القبر بثوب فقال عبد الله بن أنس: ارفعوا الثوب، إنما يخمر النساء وأنس شاهد على شفير القبر ولا ينكر، ولأن فيه تشبها بالنساء ولهذا لا تنعش جنازته، والمرأة عورة مستورة حتى زيد في كفنها والستر يليق بالنساء إلا لضرورة، وهي الحر الشديد والمطر والثلج على الداخلين في القبر، وقد أول بعضهم حديث سعد إنما سجي لأن كفنه لم يكن ستر بدنه فسجي حتى لا يقع اطلاع أحد على شيء من أعضائه وفيه تأمل.
م: (لأن مبنى حالهن) ش: أي حال النساء م: (على الستر) ش: لأنهن عورة مستورة م: (ومبنى حال الرجال على الانكشاف) ش: ولهذا إذا انشكف رأس الرجل وهو في الصلاة، أو ظهره، أو بطنه لا تبطل صلاته، بخلاف المرأة فكذلك اختصت المرأة بالنعش على جنازتها، وقد صح أن قبر فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سجي بثوب ونعش على جنازتها وأوصت قبل موتها أن تستر جنازتها واتخذوا لها نعشا من جريد النخل فبقي سنة في حق النساء.
م: (ويكره الآجر) ش: بضم الجيم وتشديد الراء، قال الجوهري: الآجر الذي يبنى به فارسي معرب، ويقال أيضا آجور على فاعول.(3/255)
والخشب، لأنهما لإحكام البناء، والقبر موضع البلى
ثم بالآجر أثر النار يكره تفاؤلا
ولا بأس بالقصب، وفي " الجامع الصغير " ويستحب اللبن والقصب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الآجر هوالطوب المسوى بالنار، وقال له الغرسد بالدال المهملة، وقال الجوهري الغرسد الآجر، والجمع الغراسد م: (والخشب) ش: يعني كره الآجر والخشب واللحد.
م: (لأنهما) ش: أي لأن الآجر والخشب م: (لإحكام البناء والقبر موضع البلى) ش: بكسر الباء الموحدة من بلى الثوب يبلى بلى بالكسر، فإن فتحت الباء مددته.
وقال الأترازي: وعند الشافعي لا يكره الآجر، ولنا أن الآجر لإحكام البناء ويقصد به البقاء، والقبر ليس بموضع البقاء، وعند بعض مشايخنا إذا جعل الآجر خلف اللبن على اللحد لا بأس به.
وفي " المغني " ذكر الإمام أحمد الخشب، وقال إبراهيم النخعي: كانوا يتسحبون اللبن ويكرهون الخشب ولا يستحبون الدفن في التابوت، لأنه لم ينقل عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولا عن أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (ثم بالآجر أثر النار فيكره تفاؤلا) ش: أي لأجل التفاؤل، وهذا إشارة إلى أن بعضهم قد فرق بين الآجر والخشب في التعليل، فكره الآجر لمناسبة النار دون الخشب لعدم الجامع فيه، ورده بعضه بأن مساس النار لا تصلح عليه الكراهة، فإن السنة أن يغسل الميت بالماء الحار وقد مسته النار، وأجيب عنه بجوابين، الأول: أن الماء الحار مست الحاجة إليه لزيادة النظافة، ولهذا استحب الإجمار بالنار عند غسل النجاسة إلى دفع الروائح الكريهة.
الثاني: أن المكروه إدخال ما مسته النار في القبر للتفاؤل بالنار، والقبر محل الجنة والعذاب بالنار وأول منزل من منازل الآخرة، ولهذا يكره الإجمار بالنار عند القبر واتباع الجنائز بها، وقال شمس الأئمة السرخسي: التعليل بإحكام البناء أوجب لأنه جمع في كتاب الصلاة بين استعمال الآجر [....] ولا يوجد معنى النار فيها، وقال التمرتاشي: هذا إذا كان حول الميت، فإن كان فوقه لا يكره لأنه يكون عصمة من السبع، وهذا كما اعتادوا التسنيم باللبن صيانة عن النبش ورأوا ذلك حسنا.
م: (ولا بأس بالقصب) ش: أي في اللحد، ويستحب اللبن والقصب في اللحد، وذلك لأن القصب لا يقصد به البقاء وهو سريع الذهاب.
م: (وفي " الجامع الصغير " ويستحب اللبن والقصب) ش: إنما صرح بلفظ " الجامع الصغير " لمخالفة روايته رواية القدوري لأن رواية القدوري لا تدل على الاستحباب، بل على نفي المدة لا غير، حيث قال ولا بأس بالقصب، ورواية " الجامع الصغير " تدل عليه، ولأن رواية القدوري لا(3/256)
لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل على قبره طن قصب، ثم يهال التراب
ويسنم القبر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تدل على جواز الجمع بينهما، ورواية " الجامع الصغير " تدل، كذا قاله الأكمل. قلت: ما ادعاه إنما يصح إذا كان لفظ " الجامع الصغير " ويستحب اللبن والقصب بواو العطف، وأما إذا كان بلفظ أو كما في الأصل، فلا يدل على ذلك، ثم قال: الأكمل بعد قوله ورواية الجامع الصغير تدل؛ «لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جعل على قبره طن قصب» . قلت: إن أوقع الحديث دليلا على جواز الجمع بينهما فلا يدل على ذلك أصلا على ما لا يخفى.
م: «لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل على قبره طن قصب» ش: هذا رواه الشعبي مرسلا، أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه " حدثنا مروان بن معاوية عن عثمان بن الحارث عن الشعبي «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جعل على قبره طن قصب» .
وفي " المغرب " الطن بالضم الحزمة من القصب، وحكي عن شمس الأئمة الحلوائي أنه قال: هذا في قصب لم يعمل، وأما القصب المعمول فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يكره؛ لأنه قصب كله، وقال بعضهم: يكره لأنه لم يرد السنة بالمعمول. م: (ثم يهال التراب) ش: أي يصب التراب عليه بعد تسوية اللبن، يقال: أهلت الدقيق في الجراب صببته من غير كيل، وكل شيء أرسلته إرسالا من رمل أو تراب أو طعام ونحوه.
قلت: هلته أهيله هيلا وإيهالا، أي جرى وانصب. ومنه يهال التراب، أي يصب، وفي [....
... ] هال التراب، وأهاله: إذا صبه، ثم إذا صب التراب على اللبن لا يزاد على التراب الذي خرج من القبر، وفي " التحفة " يكره الزيادة، وعن محمد لا بأس بأن يزاد على تراب القبر.
والأول رواية الحسن عن أبي حنيفة، ذكره في " المحيط "، ولا ينقل تراب قبر إلى قبر آخر، وفي استحباب حثي التراب عليه رواية أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى على جنازة، ثم أتى القبر فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثا» رواه ابن ماجه.
وفي " شرح الوجيز " روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حثى على قبر ثلاث حثيات» وهو المستحب [....
....
] ، وفي " التتمة " ويستحب أن يقول مع الأولى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه: 55] وفي الثانية: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه: 55] وفي الثالثة: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] [طه: 55] .
[تسنيم القبر]
م: (ويسنم القبر) ش: من التسنيم، وتسنيم القبر رفعه من الأرض مقدار شبر أو أكثر قليلا. وفي " ديوان الأدب " يقال: قبر مسنم أي غير مسطح، وبه قال موسى بن طلحة وزيد بن أبي حبيب، والثوري، والليث، ومالك، وأحمد. وفي " المغني ". واختار التسنيم أبو علي الطبري، وأبو علي بن أبي هريرة والجويني والغزالي والروياني والسرخسي، وذكر القاضي حسين اتفاقهم عليه، وخالفوا(3/257)
ولا يسطح أي لا يربع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشافعي في ذلك، فإن عنده يسطح على ما يجيء.
وقال القاضي عياض في " الإكمال ": واختار أكثر العلماء التسنيم وجماعة أصحابنا وأبي حنيفة والشافعي، وفي " المحيط ": وتسنيم القبر قدر أربع أصابع أو شبر. وفي " قاضي خان " قدر شبر، وفي " المهذب ": يشخص القبر بقدر شبر.
م: (ولا يسطح أي لا يربع) ش: وقال الشافعي يسطح، ومثله عن مالك، واحتج بما رواه عن إبراهيم بن محمد عن أبيه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «سطح قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه الحصى» وبما رواه الترمذي عن أبي الفتاح الأسدي واسمه حبان، قال لي علي: «ألا بعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلى طمسته» .
وبما رواه أبو داود عن القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقلت: يا أماه اكشفي لي عن قبر رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا طن مسطوح ببطحاء العرصة الحمراء، فرأيت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مقدما وأبا بكر رأسه بين كتفي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وعمر رأسه عند رجل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
ولنا ما أخرجه البخاري " في صحيحه " عن أبي بكر بن أبي عياش أن سفيان التمار حدثه أنه رأى قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسنما. وهو من مراسيل البخاري، ولم يرو البخاري عن ابن دينار ولا التمار هذا وقد وثقه ابن معين وغيره.
ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه " ولفظه عن سفيان قال: دخلت البيت الذي فيه قبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فرأيت قبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وقبر أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مسنما.
والجواب: عما رواه الشافعي أنه ضعيف ومرسل، وهولا يحتج بالمرسل، وعما رواه الترمذي أن المراد من المشرفة المذكورة فيه هي المبنية التي تطلب بها المباهاة، وعما رواه أبو داود أن رواية البخاري تعارضها.
فإن قلت: قال البيهقي والبغوي رواية القاسم بن محمد أصح وأولى أن تكون محفوظة.
قلت: قال صاحب " اللباب ": هذه كبوة منهما من عارمة، وفيه من باب التعصب والعناد، ولا أحد يرجح رواية أبي داود على رواية البخاري في صحيحه. وقال صاحب " المغني " رواية البخاري أصح وأولى، وأسند البخاري عن النخعي أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سنم قبره، وعن محمد بن علي أن قبر رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مسنم، وعن الشعبي قال: رأيت قبور(3/258)
«لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن تربيع القبور» ومن شاهد قبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخبر أنه مسنم..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال شمس الأئمة السرخسي: التربيع من شعار الرافضة. وقال ابن قدامة: التسطيح هو شعار أهل البدع، فكان مكروها.
م: (لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن تربيع القبور) . ش: هذا النهي رواه محمد بن الحسن في " كتاب الآثار " قال: أخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: حدثنا شيخ لنا يرفعه إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أنه نهى عن تربيع القبور وتجصيصها» . وقال السروجي: قوله في الكتاب أنه نهى عن تربيع القبور لا أصل له.
قلت: العجب منه كيف يقول هذا الكلام، وقد رواه مثل الإمام محمد، عن أبي حنيفة، وأعجب منه أمر الشراح، حيث لم يتعرض أحد منهم، إلى هذا النهي، م: (ومن شاهد قبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخبر أنه مسنم) ش: كلمة - من - موصولة في محل الرفع على الابتداء، وخبره قوله: أخبر بالنظر إلى لفظ المبتدأ. وروى أبو حفص بن شاهين في كتاب " الجنائز " بإسناده إلى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سألت ثلاثة كلهم له أب في قبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، سألت أبا جعفر محمد بن علي، وسألت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وسألت سالم بن عبد الله. قلت: أخبروني عن قبور آبائكم في بيت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فكلهم قالوا: إنها مسنمة، وقد مر مرسل البخاري في هذا.
[تجصيص القبر وتطيينه] 1
فروع: في " المحيط ": لا يجص القبر ولا يطين، في رواية الكرخي، وكره التجصيص الحسن والنخعي، والثوري، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأباح أحمد التطيين.
وفي " منية المفتي ": المختار أنه لا يكره، وكره أبو حنيفة أن يبنى على القبر أو يوطأ عليه، أو يجلس عليه، أو ينام عليه، أو يقضى عليه حاجة الإنسان من بول أو غائط، أو يعلم بعلامة، أو يصلى إليه، أو يصلى بين القبور.
وحمل الطحاوي الجلوس المنهي عنه على الجلوس لقضاء الحاجة وكره أبو يوسف أن يكتب عليه. وفي " قاضي خان " ولا بأس بكتابة شيء، أو بوضع الأحجار؛ ليكون علامة. وفي " الميحط ": لا بأس بالكتابة عند العذر.
ولا بأس برش الماء عليه حفظا للتراب على القبر حتى لا يندرس، وكرهه أبو يوسف؛ لأنه يجري مجرى التطيين ولا بأس بحجر أو آجر يضعه عليه، وعن الحسن عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يزال الميت يسمع الأذان، ما لم يطين قبره» . ذكره في " المغني ".(3/259)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويكره أن يدفن رجلان في قبر واحد، وقال القدوري في شرحه، والسرخسي في " المبسوط "، والمرغيناني في " الذخيرة ": إن وقعت الحاجة إلى الزيادة فلا بأس بأن يدفن الاثنان، والثلاثة في قبر واحد.
وفي " المرغيناني " أو خمسة، وهو إجماع. وفي " البدائع ": ويقدم أفضلهما ويجعل بين كل اثنين حاجر من التراب فيكون في حكم قبرين، ويقدم الرجل في اللحد، وفي صلاة الجنازة، تقدم المرأة على الرجل إلى القبلة، ويكون الرجل إلى الرجل أقرب، والمرأة عنه أبعد. وفي " الميحط ": ويجعل الرجل مما يلي القبلة ثم خلفه الغلام ثم المرأة ثم الصبية. وفي " الوبري ": ولا بأس بتعزية أهل الميت وترغيبهم على الصبر، وعلى المعزى الرضى بقضاء الله عز وجل؛ لينال ثواب الصابرين، والدعاء للميت بالرحمة والمغفرة.
وفي " المرغيناني " التعزية لصاحب المصيبة حسن فلا بأس بأن يجلسوا في البيت أو المسجد والناس يأتونهم ويعزونهم، ويكره الجلوس على باب الدار، وما يصنع في بلادهم العجم من فرش البسط، والقيام على قوارع الطرق من أقبح القبائح.
أما التعزية فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عزى مصابا فله مثل أجره» رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود. قال النووي: إسناده ضعيف.
وعن أبي بردة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عزى ثكلى كسي بردا في الجنة» ، رواه الترمذي وضعفه. ويقول للمعزى: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك.
وأكثرهم أنه يعزى إلى ثلاثة أيام، ثم يترك كيلا يتجدد عليه الحزن، ولا يدفن الميت في داره، وإن كان صغيرا، بل يدفن في مقابر المسلمين، كما كان يفعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأصحابه، وخصت الأنبياء بذلك، وخص أبو بكر وعمر من ذلك بشرف جوار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يسع إخراج الميت من القبر بعد الدفن إلا إذا كان بعذر، قلت المدة أو كثرت، والعذر: مثل أن يظهر للأرض مستحق أو أخذ الشفيع له بالشفعة، ذكرها في " الواقعات " وغيرها.
وفي " جوامع الفقه ": امرأة مات ولدها في القرية ودفن هناك، والأم لا تصير عنه لا ينبش ولا ينقل إلى بلدها، وعليها أن تصبر.
ويستحب أن يدفن حيث مات في مقابرهم، وإن حمل ميلا أو ميلين فلا بأس به. وقيل:(3/260)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما دون السفر، وقيل: لا يكره السفر أيضا، وعن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أمر بقبور كانت عند المسجد أن تحول إلى البقيع، وقال: توسعوا في مساجدكم. وقيل: لا بأس في مثله.
وعن محمد أنه إثم ومعصية. وقال المارزي: ظاهر مذهبنا جواز نقل الميت من بلد إلى آخر، وقد مات سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بالعقيق ودفنا بالمدينة، وفي " الحاوي " قال الشافعي: لا أحب نقله إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس، فأختار أن ينقل إليها لفضل الدفن فيها.
وقال البغوي، والبندنيجي: يكره نقله. وقال القاضي حسين، والدارمي: يحرم نقله. قال النووي: هذا هو الأصح، ولم ير أحمد بأسا أن يحول الميت من قبره إلى غيره. قال: قد نبش معاذ امرأته، وحول طلحة. وخالف الجماعة في ذلك.
[الدفن ليلا] 1
ولا يكره الدفن ليلا، والمستحب النهار، وهو قول أهل العلم من فقهاء الأمصار، منهم عقبة بن عامر، وسعيد بن المسيب، وشريح، وعطاء، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وكرهه الحسن البصري والظاهرية، لحديث جابر قال: «زجر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك» رواه مسلم.
ولما روى جابر بن عبد الله قال: «رأى ناس نارا في القبر فأتوها، فإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القبر، وإذا هو يقول: ناولوني صاحبكم وهو الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر» رواه أبو داود على شرط البخاري ومسلم. ودفنت عائشة، وفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وغيرهما من الصحابة ليلا.
والنهي في حديث جابر عن دفنه قبل الصلاة عليه والمشي بالنعلين لا بأس به في القبور إذا لم يدركها كالماشي وهو المشهور من مذهب الشافعي، وكره النعلين أحمد ومنع ابن حزم النعال السبتية دون غيرها.
ويكره للنساء زيارة القبور، وهو قول الجمهور؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لعن الله زوارات القبور» رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه ابن ماجه، وأحمد.
وفي " القنية "، قال أبو الليث: لا نعرف وضع اليد على القبور سنة، ولا مستحبا، ولا نرى به بأسا. وقال علاء الدين التاجري: هكذا وجدناه، من غير نكير من السلف. وقال شرف الأئمة: بدعة، قال: [....
....
....] ينكرون ذلك، ويقولون: إنه عادة أهل الكتاب. وفي [
....
.] : هو عادة النصارى.
وقال أبو موسى الحافظ الأصبهاني قال: الفقهاء الخراسانيون: لا يمسح القبر، ولا يقبله، ولا يمسه، فإن كل ذلك من عادة النصارى، قال: وما ذكروه صحيح.(3/261)
..
....
....
....
..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الزعفراني: لا يستلم القبر بيده ولا يقبله، قال: وعلى هذا مضت السنة، وما يفعله العوام الآن من البدع المنكرة شرعا. وفي " جوامع الفقه ": يزار القبر من بعد، ولا يقعد الزائر، وعند الدعاء للميت يستقبل القبلة، وكذا عند قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو اختيار الزعفراني من الشافعية أيضا.
[قلع الحشيش الرطب من القبور]
ويكره قلع الحشيش الرطب من القبور؛ لأنها تسبح، وربما يستأنس به الميت، ولا بأس باليابس منه، وعن هذا قالوا: قلع الحشيش الرطب من غير حاجة لا يستحب. وفي " القنية " يكره أن يتخذ لنفسه تابوتا قبل موته، وتكره الصلاة فيه.
ماتت وفي بطنها ولد حي يشق بطنها ويخرج، وبه أفتى أبو حنيفة في زمانه، ولو علم بعد الدفن نبش وشق بطنها، ويخرج. وبه قال ابن شريح من أصحاب الشافعي. وقال بعض أصحابه: لا يشق، ولكن القابلة تمس بطنها فربما يخرج.
وقال أحمد: تعطاه للقوابل فإن خرج، وإلا ترك حتى يموت ثم يدفن. والسؤال في القبر، فإن مات ولم يدفن أياما بأن جعل في تابوت ليحمل من مصر إلى مصر، فمن لم يدفن لا يسأل، والسؤال لكل ذي روح حتى إن الرضيع يسأل ويلقنه الملك، ويلهمه الله تعالى. وهل الأنبياء يسألون في القبر؟ قال الإمام الزاهد الصفار: ليس في هذا نص ولا خبر. وقال غيره: يسألون. والسؤال لا يختص بهذه الأمة في قول عامة العلماء. وقال الشيخ الحكيم الترمذي: يختص بهذه الأمة.
وفي " فتاوى الظهيرية ": وهل يعذب الميت ببكاء أهله؟ قال عامة العلماء: لا يعذب، والحديث محمول على الوصية. ويكره نقل الطعام إلى المقبرة في الأعياد وإسراج السرج وغيرها، واتخاذ الدعوة لقراءة القرآن وختم القرآن، وقراءة سورة الأنعام وسورة الإخلاص ألف مرة، وجمع الصبيان والصلحاء لذلك. وكذا صياح أهل الفطر لستة أيام بعد رمضان، ولا بأس بقراءة القرآن عند القبور، ولكن لا يجلس على القبر، ولا يدخل في المقبرة للقعود ويدخل لقراءة القرآن.
وفي " الخلاصة ": ولا يكسر عظم اليهود إذا وجدوا في قبورهم. وفي " جمع العلوم ": لا يجوز النظر إلى عظام النساء في المقابر. قال بعض مشايخنا لا ينظر إلى عظم ما لاحتمال أنه للمرأة.(3/262)
باب الشهيد الشهيد من قتله المشركون أو وجد في المعركة وبه أثر أو قتله المسلمون ظلما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الشهيد] [تعريف الشهيد]
م: (باب الشهيد) ش: أي هذا باب في بيان أحكام الشهيد، وإنما أفرد هذا الباب عما قبله وإن كان الكل في حكم الموتى؛ لأن حكم الشهيد يخالف حكم غيره من الموتى في حق التكفين، والغسل.
وقال " صاحب المنافع ": لما كان المقتول ميتا بأجله يليق ذكر باب الشهيد عقيب باب الجنائز، ويحتمل وجها آخر، وهو أنه لما فرغ من بيان حال من يموت حتف أنفه، أعقبه بباب من يموت بسبب من جهة العباد.
وقال الأكمل: إنما بوب للشهيد بحياله لاختصاصه بالفضيلة. وكان إخراجه من باب الجنائز بباب على حدة، كإخراج جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من الملائكة. وفيه تأمل لا يخفى واختلفوا في تسميته بالشهيد، فقيل: لأن الملائكة يشهدون موته فكان مشهودا. وقيل: مشهود بالجنة، فعلى هذا يكون على وزن فعيل بمعنى مفعول. وقيل: لأنه حي عند الله حاضر، ويشهد حضرة القدس ويحضرها، وقيل: لأنه شهد ما أعد الله له من الكرامة، وقيل: لأنه ممن يستشهد مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يوم القيامة على سائر الأمم المكذبين، فعلى هذه المعاني الشهيد بمعنى فاعل.
م: (الشهيد) ش: مبتدأ، وقوله م: (من قتله المشركون) ش: جملة في محل الرفع على أنها خبر، والشهداء على ما ذكره ثلاثة أنواع.
الأول: هذا.
والثاني: قوله: م: (أو وجد في المعركة) ش: وهو موضع القتال م: (وبه أثر) ش: جملة وقعت حالا، أي والحال أنه وجد به أثر جراحة ظاهرة أو باطنة، وسيجيء تفسيره من المصنف عن قريب. م: (أو قتله المسلمون) ش: هذا النوع الثالث، وكذلك لو قتله أهل الذمة أو المستأمنون، وإنما قيد بقوله م: (ظلما) ش: احترازا به عما قتله المسلمون رجما أو قصاصا؛ وانتصابه على أنه صفة لمصدر محذوف، أي قتلا ظلما، ويجوز أن يكون تمييزا، أي من حيث الظلم.
وفي " المحيط ": أو قتل مدافعا عن نفسه أو أهله أو ماله أو عن المسلمين أو أهل الذمة بأي آلة قتل؛ بحديد، أو نحاس، أو صفر، أو رصاص، أو حجر، أو خشب.
وفي " البدائع ": لو قتل في المصر نهارا بزجاجة، أو ليطة قصب، أو طعنة برمح لازج له، أو رماه بنشابة لا نصل لها، أو أحرقه بالنار أو بكل شيء يعمل عمل الحديد من جرح أو(3/263)
ولم يجب بقتله دية فيكفن ويصلى عليه، ولا يغسل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بضع أو طعن لا يغسل.
وإن قتل فيها بغير سلاح كالحجر الكبير، والخشبة الكبيرة، أو بحدقة القصار، أو بخنق، أو بغريق، أو إلقاء من جبل، يغسل عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه شبه العمد، وبالحجر الصغير والخشبة الصغيرة، يغسل اتفاقا؛ لوجوب الدية، أو مات بوكزة، أو لكزة، أو وجد مقتولا في محلة، ولم يعرف قاتله، أو افترسه سبع، أو تردى من جبل، أو سقط عليه حائط، وكذا المبطون، والمطعون، والغريق، والحريق، وصاحب ذات الجنب، وصاحب الهدم، والمرأة تموت بجمع الذين عدهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الشهداء فهم شهداء في الآخرة، وأحكام الآخرة.
وفي " المحيط ": وإن وجد غريقا، أو حريقا في المعركة، ولا يدري كيف حاله لا يغسل، وإن لم يكن كذلك فهو ميت حتف أنفه فيغسل، كذلك النازل من رأسه. وعند الشافعي لا يغسل من مات في قتال أهل الحرب فهو شهيد سواء كان به أثر أو لا، ومن قتل ظلما في غير قتل الكفار، أو خرج في قتالهم، ومات بعد انفصال القتال، وكان بحيث يقطع ثوبه ففيه قولان: في قول: لم يكن شهيدا، وبه قال مالك وأحمد.
وفي " المغني ": إذا مات في المعترك فإنه لا يغسل رواية واحدة، وهو قول أكثر أهل العلم، ولا يعلم فيه خلافا إلا عن الحسن وابن المسيب، فإنهما قالا: يغسل الشهيد، ولا يعمل به.
[الشهيد يكفن ويصلى عليه ولا يغسل]
م: (ولم يجب بقتله دية فيكفن ويصلى عليه ولا يغسل) ش: يعني أن قتله لم يكن موجبا للدية حال المباشرة، واحترز به عن شبه العمد والخطأ صورة الخطأ ما إذا قصد مباحا فأصاب محظورا.
وصورة شبه العمد ما إذا قتله بعصا صغيرة، أو سوط، أو وكزه بيده، أو لكزه برجله فمات، ولو سقط القصاص بعارض الأبوة ووجبت الدية كان شهيدا، والقصاص ليس بعوض عن المحل، بل عقوبة يوجبها الله تعالى جزاء للقتل، ولهذا تجري بين الصغير والكبير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، والدية عوض مالي.
والصلح على الدية بعد القتل لا يخرجه عن الشهادة، وكذلك قتل الأب ابنه لا يخرجه عن الشهادة، وكذا لو قتلت زوجها ولها منه ولد؛ لأن الواجب الأصلي وجوب القصاص فكيفن ويصلى عليه، ولا يغسل. هذا حكم الشهيد المذكور في الفصول الثلاثة، وفي هذا أيضا ثلاثة أشياء.
الأول: التكفين، وليس فيه خلاف على ما سيجيء.(3/264)
لأنه في معنى «شهداء أحد، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهم: زملوهم بكلومهم ودمائهم ولا تغسلوهم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثاني: الصلاة عليه، وفيه خلاف، وسيجيء أيضا.
الثالث: الغسل، وليس فيه خلاف معتبر إلا ما روي عن الحسن وابن المسيب على ما ذكرناه.
م: (لأنه) ش: أي لأن الشهيد الموصوف المذكور م: (في معنى شهداء أحد) ش: وشهداء أحد قتلوا ظلما، ولم يرتثوا ولم يجب بقتلهم دية، فمن كان على صفتهم فهو شهيد، ومن لا فلا.
وفي " الذخيرة ": الشهيد كل مسلم مكلف طاهر قتل ظلما في قتال ثلاثة: مع أهل الحرب، أو البغي، أو قطاع الطريق بأي آلة قتل. ولم يحمل حيا للتمريض ولم يأكل ولم يشرب ولم يعش في المصرع يوما أو ليلة، ولم يجب عن دمه عوض مالي حتى لو حمل للتمريض ومات في أثنائه، أو على أيدي الناس يغسل، وإن حمل كيلا يطأه الخيل، لا للتمريض، فهو شهيد، انتهى.
ويوم أحد كان يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة ثلاث للهجرة، وأحد جبل على باب المدينة، دون الفرسخ، ويقال له: ذو عبتين، وكانت عدة المشركين فيه ثلاثة آلاف، وعدة الخيل مائتا فرس، وقتل منهم اثنان وعشرون رجلا، وعدة المسلمين ألفا، وانحرف عبد الله بن أبي المنافق بثلث العسكر فرجع إلى المدينة.
م: (وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهم: «زملوهم بكلومهم ودمائهم ولا تغسلوهم» ش: قال الزيلعي: هذا حديث غريب.
قلت: أخرج أحمد في مسنده، عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشرف على قتلى أحد. فقال: إني شهيد على هؤلاء زملوهم بكلومهم ودمائهم» ، وأخرجه النسائي، عن معمر عن الزهري، قال عبد الله بن ثعلبة: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زملوهم بدمائهم» ، الحديث. وأخرج البخاري في صحيحه، وأصحاب السنن الأربعة، عن الليث بن سعد، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، ويقول: أيهما أكثر أخذا للقرآن، فإذا شهد له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلهم» ، وزاد البخاري، والترمذي: «ولم يصل عليهم» .(3/265)
فكل من قتل بالحديدة ظلما وهو طاهر بالغ ولم يجب به عوض مالي فهو في معناهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرج أبو داود في سننه عن ابن عباس قال: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم» .
وأخرج أيضا عن جابر قال: «رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات، وأدرج في ثيابه كما هو، ونحن مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» قال النووي: سنده على شرط مسلم.
قوله: زملوهم أي لفوهم فيها، يقال: تزمل بثوبه، إذا التف فيه.
[كل من يدخل في معنى الشهيد]
م: (وكل من قتل بالحديدة ظلما وهو طاهر بالغ ولم يجب به عوض مالي فهو في معناهم) ش: أي في معنى شهداء أحد، وهاهنا قيود.
الأول: أن يكون القتل ظلما، احترازا عن القتل بحق على ما ذكرناه.
والثاني: القتل بالحديدة، وإنما يشترط هذا القيد إذا كان القتل من المسلمين، وأما من أهل الحرب والبغي وقطاع الطريق، فليس بشرط فبقتلهم شهيد بأي شيء قتل، لا يقال احترز بالحديدة عن القتل بالمثقل على قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأن الاحتراز عنه يحصل بقوله ولم يجب به عوض مالي؛ لأن على قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجب العوض المالي في القتل بالمثقل، فلا حاجة إلى قيد الحديدة.
والقيد الثالث: أن يكون طاهرا فلا يكون جنبا وحائضا.
والقيد الرابع: أن يكون بالغا ولا يكون صبيا، وفي هذين خلاف بين أبي حنيفة وصاحبه على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
والقيد الخامس: أن لا يجب بقتله عوض مالي احترز به عن شبه العمد والخطأ، فإن الواجب فيهما المال، والشرط فيه أن يكون ذلك حالة القتل، فإن القصاص إذا وجب ثم انقلب مالا بالصلح فإنه لا يمنع الشهادة، وكذلك الحكم في قتل الوالد ولده، فإنه يجب بالمال فيه حالة القتل، ولا يمنع الشهادة كما ذكرناه. وهاهنا قيدان آخران، لم يذكرهما المصنف.
الأول: أن يكون مسلما.
والثاني: أن يكون غير مرتث. وما ذكره في " الذخيرة ": الذي ذكرناه عن قريب هو الجامع الأحسن.(3/266)
فيلحق بهم، والمراد بالأثر الجراحة؛ لأنه دلالة القتل، وكذا خروج الدم من موضع غير معتاد كالعين ونحوها، والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا في الصلاة، ويقول: السيف محاء للذنوب فأغنى عن الشفاعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فليحق بهم) ش: أي بشهداء أحد، ومن لم يكن بمعناهم فلا يلحق بهم م: (والمراد بالأثر الجراحة) ش: أي المراد من قوله: أو وجد في المعركة وبه أثر، هو الجراحة. وعبارة القدوري: وبه أثر الجراحة.
وفي " الينابيع " يريد بالأثر علامة تدل على قتله كالذبح والطعن والجرح والرض وسيلان الدم من عينه أو أذنه، ولا يكون ذلك إلا بجرح في الباطن، وإن كان يسيل من دبره أو ذكره أو أنفه لا يكون شهيدا؛ لأن الدم يخرج من هذه المخاريق من غير ضرب في العادة، إذ صاحب الباسور يخرج الدم من دبره؛ والجبان يبول دما من الخوف، وتسيل الأسنان بالرعاف، وكذا إذا وجد ميتا وليس به أثر؛ إذ الجبان يبول دما من الخوف وقد يموت من الفزع، وكونه في المعركة ليس بسبب لقتله، بدون الإصابة، فإن القتل لا يكون إلا بالأثر.
م: (لأنه دلالة القتل) ش: أي لأن الأثر الذي هو الجراحة دلالة القتل؛ لأن الحكم يضاف إليه في الظاهر م: (وكذا خروج الدم من موضع غير معتاد) ش: أي وكذا دلالة القتل خروج الدم منه ليس في العادة خروج الدم منه م: (كالعين ونحوها) ش: مثل الأذن والسرة. وفي " الزيادات ": دلالة القتل جراحة توجد أو دم يخرج من عينه، أو أذنه، أو يصعد من جوفه إلى فيه، فأما ما يخرج من أنفه أو دبره أو ذكره أو ينزل من رأسه شيء من دمه فلا يصلح دليلا على القتل؛ لأنه قد يوجد ذلك من غير ضرب عادة.
م: (والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا في الصلاة) ش: ويقول: لا يصلى على الشهيد وبه قال مالك وإسحاق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو قول أهل المدينة. وقال النووي في " شرح المهذب ": المذهب الجزم بتحريم الصلاة عليه. وقال ابن حزم في " المحلى ": إن شاءوا صلوا عليه، وإن شاءوا تركوها، ومذهبنا هو قول ابن عباس وابن الزبير، وعقبة بن عامر، وعكرمة، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري، ومكحول، والثوري، والأوزاعي، والمزني، وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رواية. واختاره الخلال، وقال في موضع آخر يصلى عليه، وفي رواية المروزي الصلاة عليه أجود.
م: (ويقول) ش: أي قال الشافعي م: (السيف محاء للذنوب فأغنى عن الشفاعة) ش: تقريره إذا كان السيف محاء للذنوب لا يبقى للشهيد ذنب فيستغنى عن الشفاعة التي كانت الصلاة لأجلها، وقوله: محاء على وزن فعال، مبالغة ماحي من محا يمحو محوا، ومحى يمحيه محيا. ومحا(3/267)
ونحن نقول: الصلاة على الميت لإظهار كرامته، والشهيد أولى بها،
والطاهر من الذنوب لا يستغني عن الدعاء كالنبي والصبي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يمحاه أيضا فهو ممحو وممحي، صارت الواو بالكسرة ما قبلها فأدغمت في الياء التي هي لام الفعل.
م: (ونحن نقول: الصلاة على الميت لإظهار كرامته والشهيد أولى بها) ش: أي بهذه الكرامة، ولهذا اختص المسلمون بهذه الكرامة، والشهيد من جملة أموات المسلمين والصلاة عليهم فرض من فروض الكفاية عليهم فلا يسقط من غير فعل أحد بالتعارض، بخلاف غسله؛ إذ النص في سقوطه لا معارض له.
م: (والطاهر من الذنوب لا يستغني عن الدعاء) ش: هذا جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - السيف محاء للذنوب، وتقريره أن العبد وإن تطهر من الذنوب لم يبلغ درجة عن الاستغناء عن الدعاء م: (كالنبي والصبي) ش: فإن النبي مطهر من الذنوب مع أنه صلي عليه، ومع هذا لا يبلغ أحد درجة الأنبياء، وكذلك الصبي مطهر من الذنوب، وقد صلي عليه.
فإن قلت: روى البخاري عن جابر «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل على قتلى أحد،» وروى أبو داود عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم» .
قلت: روى البخاري أيضا عن أبي الخير عن عقبة بن عامر الجهني «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوما فصلى على شهداء أحد صلاته على الميت، ثم انصرف، قال عقبة: فكانت آخر ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر» وزاد ابن حبان: «ثم دخل بيته فلم يخرج حتى قبضه الله عز وجل» .
والميت أولى في باب التراجيح، على أن جابرا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يومئذ مشغولا، فقد قتل أبوه وأخوه وخاله في ذلك، فرجع إلى المدينة ليدبر حالهم، وكيف يحملهم فلم يكن حاضرا حتى صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على شهداء أحد، وقد روى ما روى. وذكر الواقدي أيضا في غزوة أحد قال جابر بن عبد الله: «كان أول قتيل قتل من المسلمين يوم أحد، قتله سفيان بن عبد شمس فصلى عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الهزيمة» .
وروى النسائي عن شداد بن الهاد «أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -....
.» الحديث، وفيه أنه استشهد فصلى عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروى البخاري في "صحيحه «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات» وعن أبي مالك الغفاري قال: «كان يجاء بقتلى أحد تسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيدفنون التسعة ويدعون حمزة، ثم يجاء بتسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم فيدفنون التسعة ويدعون حمزة،» رواه الطحاوي والدارقطني.(3/268)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى الطحاوي عن ابن عباس وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على شهداء أحد مع حمزة، وكان يؤتى بتسعة لتسعة، وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم، وكبر يومئذ سبع تكبيرات» . قال: وقد صلى على غيرهم، كما روى بشير بن الهاد «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى أعرابيا أسلم نصيبه، وقال: قسمته لك، فقال: ما على هذا اتبعتك، ولكن ابتعتك على أن أرمى هاهنا - وأشار إلى حلقه - بسهم فأموت فأدخل الجنة، ثم أتي بالرجل قد أصابه سهم حيث أشار فكفن في جبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى عليه، فكان من صلاته أن هذا عبد خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا، أنا أشهد عليه فلم يغسله وصلى عليه» ورواه النسائي أيضا.
وأخرج الطحاوي هذا الحديث لمعنيين أحدهما: لأنه شاهد لما ذكره من الدلائل في إثبات الصلاة على الشهيد. والثاني: ردا على من زعم أنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلى على أحد ممن قتل في المعركة في غير غزوة أحد.
فإن قلت: لم لا يجوز أن تحمل الصلاة في الأحاديث التي ورد فيها الصلاة على الدعاء؟ وممن قال ذلك ابن حبان والبيهقي.
قلت: يدفع هذا قوله في الحديث الذي رواه عقبة بن عامر المذكور صلاته على الميت.
فإن قلت: أنتم لا ترون الصلاة على القبر بعد ثلاثة أيام، فكيف يحملون عليه على معنى الصلاة العرفية، وقد كانت واقعة أحد في سنة ثلاث من الهجرة، وصلاته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على شهداء أحد حين خروجه من الدنيا بعد وقعة أحد في سبع سنين.
قلت: المذهب عندنا الصلاة على القبر يجوز ما لم يتفسخ، والشهداء لا يلحقهم تفسخ، أحياء عند الله؛ فإذا لا يجوز حمل الصلاة عليهم على معنى الدعاء، وكيف يجوز هذا وقد أكد قوله صلاته على الميت لنفي احتمال المحال.
فإن قلت: قال ابن قدامة: حديث عقبة مخصوص بشهداء أحد، فإنه صلى عليهم في القبور وهم لا يرون الصلاة على القبر أصلا، ونحن فيما بعد الشهر.
قلت: إذا ثبت أنه صلى على شهداء أحد صحت الصلاة عليهم بعدم القائل بالفرق، وقوله: "وهم لا يرون الصلاة على القبر" غير صحيح، فإذا دفن الميت ولم يصل عليه صلى على قبره ما لم يتغير كما ذكرناه.
فإن قلت: الصلاة على الميت لا تصح بلا غسل فما لم يغسل الشهيد لا تصح الصلاة عليه.
قلت: وكذا لا يدفن بلا غسل، فلما دفن الشهيد بلا غسل دل على أنه في حكم المغسولين، فكانت الصلاة عليه صلاة على المغسول حكما، وهو مغسول بصب رحمة الله تعالى.(3/269)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: الشهداء أحياء عند الله، والصلاة إنما شرعت على الموتى.
قلت: هم أحياء في حكم الآخرة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] (آل عمران: 169) ، لا في أحكام الدنيا والصلاة عليهم من أحكام الدنيا كسائر الموتى، ولهذا يقسم ميراثهم بين ورثتهم ويتزوج نساؤهم وتحل ديونهم المؤجلة ويعتق أمهات الأولاد ومدبروهم وينفذ وصاياهم، ثم هم يدفنون، فدل ذلك كله أن الحياة لهم عند الله بعد الموت.
فإذا قلت: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لعل ترك الصلاة لاستغنائهم مع التخفيف على من بقي من المسلمين.
قلت: هذا التعليل لا يقبل؛ لأن الصلاة على الميت دعاء له، ولا يستغني أحد عن الدعاء كما ذكرناه، وكذلك التعليل بالتخفيف، فإنهم يتممون إلقاءهم ويحضرون قبروهم ويكلفون دفنهم.
فإن قلت: الصلاة على الميت من باب الشفاعة، والشهداء يشفعون للناس ولا يحتاجون إلى من يشفع لهم.
قلت: الصلاة عليهم زيادة كرامة لهم، وقضاء لحق الميت، وقد أشار المصنف إلى هذا المعنى بقوله: والصلاة على الميت لإظهار كرامته، وقد استوفينا الكلام هناك، وقد ظهر من هذا أن ما ذهبنا إليه أرجح من وجوه عديدة؛ الأول: أن الخبر المثبت في هذا أولى من النافي.
الثاني: أن أحاديثنا أكثر فكانت أولى، قال محمد في " السير الكبير ": أخذنا بما أجمع عليه أهل العراق دون ما انفرد به أهل المدينة، فرجح بالكثرة.
فإن قلت: هذا خلاف ظاهر مذهبكم، فإن الترجيح بالكثرة لا يعتبر عندكم.
قلت: قد ذكر بعض مشايخنا الترجيح بكثرة الرواة؛ إذ الظن بصدق خبر الاثنين أقوى منه بخبر الواحد.
الثالث: أن الصلاة على الموتى أصل في الدنيا وفرض من فروض الكفاية على المسلمين، فلا يسقط من غير فصل أحد.
الرابع: لو كانت الصلاة عليهم غير مشروعة، كما في عموم تنبيهه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عدم مشروعيتها، وعلة سقوطها كما نبه على علة سقوط غسلهم.
الخامس: يجوز أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يصل عليهم، وصلى عليهم غيره لما كان به من الجراحات، وكسور رباعيته وما أصابه يومئذ من المشركين.(3/270)
ومن قتله أهل الحرب أو أهل البغي أو قطاع الطريق فبأي شيء قتلوه لم يغسل؛ لأن شهداء أحد ما كان كلهم قتيل السيف والسلاح،
وإذا استشهد الجنب غسل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يغسل؛ لأن ما وجب بالجنابة سقط بالموت، والثاني: لم يجب للشهادة. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الشهادة عرفت مانعة غير رافعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السادس: إن لم يكن صلى عليهم في ذلك اليوم صلى عليهم في يوم آخر؛ لأنه لا يعتبر عليهم بمرور السن كما ذكرناه.
السابع: قد ثبت أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على غيرهم من الشهداء، ويقولون: لا تشرع الصلاة على شهيدنا.
الثامن: أن الذي ذهبنا إليه أحوط في الدين، وفيه تحصيل الأجر والثواب العظيم، وقد ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من صلى على ميت فله قيراط» ، ولم يفصل بين ميت وميت. م: (ومن قتله أهل الحرب أو أهل البغي أو قطاع الطريق فبأي شيء قتلوه لم يغسل) ش: عندنا، خلافا للشافعي ومالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في غير أهل الحرب وقالت الشافعية: قتيل أهل البغي يغسل ويصلى عليه في أصح القولين. وفي قتيل قطاع الطريق طريقان، وكذا في قتيل اللصوص طريقان. ولو أمر الكافر مسلما وقتلوه صبرا ففي غسله والصلاة عليه وجهان: أصحهما أنه ليس بشهيد، وعندنا شهيد، وبه قال مالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولما كان في قتال أهل الحرب ليتمم الآلة، فكذا في قتال أهل البغي وقطاع الطريق؛ لأنهم في حكم القتال كأهل الحرب حتى لا يضمنون ما أتلفوا.
م: (لأن شهداء أحد ما كان كلهم قتيل السيف والسلاح) ش: لأن منهم من دفع بالحجر، ومنهم من قتل بالعصا، وغير ذلك، وعمم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حق ترك غسلهم.
[تغسيل الشهيد الجنب]
م: (وإذا استشهد الجنب غسل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال أحمد وسحنون. ومن المالكية ابن شريح وابن أبي هريرة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - من الشافعية، وهو قول الأوزاعي.
م: (وقالا: لا يغسل) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد: لا يغسل، وبه قال الشافعي وأشهب م: (لأن ما وجب بالجنابة) ش: الذي هو الغسل م: (سقط بالموت) ش: للعجز عنه م: (والثاني) ش: أي الغسل الثاني م: (لم يجب للشهادة) ش: أي لأجل كونه شهيدا، إذا للشهادة تمنعه؛ لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زملوهم بكلومهم ودمائهم» لا يفصل بين الشهيد الجنب وغيره.
م: (ولأبي حنيفة أن الشهادة عرفت مانعة) ش: وجوب غسل الميت م: (غير رافعة) ش: لقد وجب عليه قبل موته، ألا ترى أنه لو كان في ثوب الشهيد نجاسة تغسل تلك النجاسة ولا يغسل عنه الدم؟(3/271)
فلا ترفع الجنابة، وقد صح أن حنظلة لما استشهد جنبا غسلته الملائكة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: لو لم يكن رافعا لوضوء الحدث إذا استشهد، واللازم باطل، فكذا الملزوم، قلت: لا يلزم من أن لا يكون رافعا للأعلى أن يكون رافعا للأدنى.
م: (وقد صح أن حنظلة لما استشهد جنبا غسلته الملائكة) ش: روي هذا من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه الطبراني في "معجمه " عنه، قال: أصيب حمزة بن عبد المطلب، وحنظلة بن الراهب وهما جنبان، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إني رأيت الملائكة تغسلهما ". وحديث ابن الزبير رواه ابن حبان في "صحيحه " والحاكم في " المستدرك " من حديث يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عبد الله عن جده قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد قتل حنظلة بن عامر الثقفي أن صاحبكم حنظلة غسلته الملائكة، فسألوا صاحبته، فقالت: خرج وهو جنب لما سمع الهاتفة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لذلك غسلته الملائكة» . قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم وليس عنده فاسألوا صاحبته.
قال السهيلي في " الروض الأنف ": وصاحبته هي زوجته جميلة بنت أبي ابن سلول أخت عبد الله بن أبي، وكان قد بنى بها تلك الليلة فرأت في منامها كأن بابا من السماء فتح فدخل وأغلق دونه، فعرفت أنه مقتول من الغد، فلما أصبحت دعت برجال من قومها وأشهدتهم أنه دخل بها خشية أن يقع في ذلك نزاع، ذكره الواقدي، وذكر غيره أنه وجد بين قتلى يقطر رأسه ماء؛ تصديقا لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال ابن سعد في " الطبقات ": قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء نزل في صحاف الفضة» .
وحديث محمود بن لبيد رواه ابن إسحاق في " المغازي " أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن صاحبكم - يعني حنظلة بن أبي عامر - لتغسله الملائكة " فسألوا أهله ما شأنه؟ فقالت: إنه خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة» بالتاء المثناة من فوق والفاء، ويقال: الهايعة بالتاء آخر الحروف وبالعين المهملة، والهيعة الصوت الشديد عند الفزع. وحنظلة بن أبي عامر عمرو بن صيفي بن زيد الأنصاري الأوسي، يعرف أبوه بالراهب في الجاهلية، فسماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفاسق؛ لأنه يروح من المدينة إلى مكة، ثم قدم قريش يوم أحد محاربا، وكان بمكة إلى أن فتحت، فهرب إلى هرقل فمات هناك كافرا سنة تسع أو عشر، وأولاد حنظلة يسمون أولاد غسيل الملائكة.
فإن قلت: الواجب غسل بني آدم دون الملائكة، ولو كان ذلك واجبا لأمر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بإعادة(3/272)
وعلى هذا الخلاف الحائض والنفساء إذا طهرتا، وكذا قبل الانقطاع في الصحيح من الرواية،
وعلى هذا الخلاف الصبي. لهما أن الصبي أحق بهذه الكرامة. وله أن السيف كفى عن الغسل في حق شهداء أحد بوصف كونه طهرة عن الذنوب، ولا ذنب على الصبي فلم يكن في معناهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غسله.
قلت: الواجب هو الغسل، وأما الغاسل فيجوز كائنا من كان، ألا ترى أن الملائكة لما غسلوا آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأدي به الواجب ولم يعد أولاده غسله.
م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور بين أبي حنيفة وصاحبيه م: (الحائض والنفساء إذا طهرتا) ش: عندهما لا يغسلان؛ لأن الغسل الأول سقط بالموت، والثاني أنه لم يجب بالشهادة، وعنده يغسلان؛ لأن الشهادة عرفت مانعة غير رافعة م: (وكذا قبل الانقطاع) ش: أي وكذا يغسلان إذا قتلتا قبل انقطاع الدم م: (في الصحيح من الرواية) ش: عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهي رواية الحسن عنه، واحترز به عن رواية المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما لا يغسلان؛ لأنه لم يكن الغسل واجبا حالة الحياة قبل الانقطاع، فلم يجب بالموت غسل آخر.
وجه الصحيح من الرواية أن حكم الحيض انقطع بالموت، فصار كأن انقطاع الحيض قبل الموت. وعندهما لا يغسلان بكل حال. وفي الجنازية هذا الحديث في النفساء يجري على إطلاقه؛ لأن أقل النفساء لا حد له. أما الحائض فتصور فيه فيما إذا استمر بها الدم ثلاثة أيام، ثم قتلت قبل الانقطاع، أما لو رأت يوما أو يومين، ثم قتلت لا تغسل بالإجماع، ذكره التمرتاشي بعدم كونها حائضا.
م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور م: (الصبي) ش: إذا استهل يغسل عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلافا لهما وللشافعي أيضا م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن الصبي أحق بهذه الكرامة) ش: وهي سقوط الغسل؛ لأن سقوط الغسل لإبقاء أثر مظلوميته في الغسل وكان إكراما له، والمظلومية في حق الصبي أشد، فكان أحق بهذه الكرامة.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن السيف كفى عن الغسل في حق شهداء أحد بوصف كونه طهرة عن الذنوب، ولا ذنب على الصبي، فلم يكن في معناهم) ش: أي في معنى شهداء أحد، فإذا لم يكن في معناهم يغسل، وكذلك الخلاف في المجنون إذا استشهد. وفي " المبسوط ": الصبي غير مكلف ولا يخاصم بنفسه في حقوقه، والخصم عنه في حقوقه في الآخرة هو الله تعالى، فلا حاجة إلى بقاء أثر الشهادة لعلهم يدلونه.(3/273)
ولا يغسل عن الشهيد دمه، ولا ينزع عنه ثيابه، لما روينا
وينزع عنه الفرو والحشو والقلنسوة والسلاح والخف؛ لأنها ليست من جنس الكفن،
ويزيدون وينقصون ما شاءوا إتماما للكفن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: ذكر ابن قدامة في " المغني " أن حارثة بن النعمان، وعمير بن أبي وقاص أخا سعد كانا من شهداء أحد وهما صغيران.
قلت: هذا غلط؛ لأن عمير بن أبي وقاص قتل يوم بدر قبل أحد، وهو ابن ست عشرة ذكره ابن سعد في " الطبقات ".
وأما حارثة بن النعمان فتوفي في خلافة معاوية وشهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها، وأما حارثة المستشهد غلاما هو حارثة بن الربيع الأنصاري قتل يوم بدر، كذا في "الصحيحين" وغيرهما، وليس في قتلى أحد من اسمه جارية، قال: ذكر ذلك تميمة في " شرح الهداية ".
[كيفية تغسيل الشهيد]
م: (ولا يغسل عن الشهيد دمه، ولا ينزع عنه ثيابه لما روينا) ش: وأشار به إلى ما ذكره من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «زملوهم بكلومهم ودمائهم ولا تغسلوهم» وهذا يدل على عدم غسل الدم عن الشهيد، ولكن لا يدل على عدم نزع الثياب، وإنما الدليل على ذلك ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتلى أحد أن تنزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم» . أخرجه أبو داود وابن ماجه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
م: (وينزع عنه الفرو والحشو) ش: أريد بالحشو الثوب المحشو بالقطن وهو بحسب اصطلاح الناس لا بحسب اللغة م: (والقلنسوة) ش: أريد بها القبع، وفي تفسيره أقوال م: (والسلاح والخف؛ لأنها) ش: أي لأن هذه الأشياء م: (ليست من جنس الكفن) ش: وفي " المبسوط " وكفن الشهيد ثيابه وينزع عنه ما ليس من جنس الكفن كالفرو والسلاح والجلود والحشو والخفين والقلنسوة.
وفي " الذخيرة " والسراويل. وقال الشافعي: ينزع ما ليس من غالب لباس الناس كالجلود والفرو والخفاف والدرع والبنصر والجبة والمحشوة، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال مالك: لا تنزع الفرو والجلود والقلنسوة، وقال مطرف: لا ينزع المنطقة ولا الخاتم إلا أن يكثر ثمنها. وفي الأسبيجابي: ويكره أني ينزع عنهم جميع ثيابهم ويجدد لهم الكفن. وفي " التحفة ": ولا يكفن ابتداء في ثياب أخر دون ثيابه التي كانت عليه عند قتله.
م: (ويزيدون وينقصون ما شاءوا) ش: إذا كان ناقصا عن عدد المسنون، والضمير في يزيدون وينقصون يرجع إلى أولياء القتيل، لدلالة القرينة عليه، ولا اشتباه فيه حتى يقال: إنه إضمار قبل الذكر، قيل: وقد استدلوا بهذه اللفظة على أن عدد الثلاثة ليس بلازم، وأكثرهم على مراعاة الوتر والكفن.
قلت: ما ذكرنا أو في التعليل الذي ذكره في الكتاب م: (إتماما للكفن) ش: أي لأجل إتمام(3/274)
قال: ومن ارتث غسل. وهو من صار خلقا في حكم الشهادة لنيل مرافق الحياة؛ لأن بذلك يخف أثر الظلم فلم يكن في معنى شهداء أحد، والارتثاث: أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يداوى، أو ينقل من المعركة حيا؛ لأنه نال بعض مرافق الحياة، وشهداء أحد ماتوا عطاشا، والكأس تدار عليهم، فلم يقبلوا خوفا من نقصان الشهادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكفن، قيل: هو يرجع إلى قوله يزيدون.
قلت: لا مانع من أن يرجع إلى اللفظين معا؛ لأنه إذا نقص من الزائد على العدد المسنون يكون إتماما للكفن المسنون. فإذا لم ينقص لا يسمى كفن السنة. وأشار في " المبسوط " في نزع الأشياء المذكورة إلى أن هذه الأشياء كانت لدفع بأس العدو، وقد استغني عن ذلك، ولأن هذه عادة أهل الجاهلية؛ لأنهم كانوا يدفنون أبطالهم بما عليهم من الأسلحة، وقد نهينا عن التشبه بهم.
م: (ومن ارتث غسل) ش: على صيغة المجهول، بالتاء المثناة من فوق المضومة، ثم الثاء المثلثة، وهو من قولهم: ثوب رث أي خلق. وفي " المغرب ": ارتث الجريح إذا حمل من المعركة وبه رمق؛ لأنه حينئذ يكون ملقى كرثة المتاع، وقال الجوهري: اترث فلان على ما لم يسم فاعله، أي حمل من المعركة رثبة، أي جريحا وبه رمق. ومراد الفقهاء من ذلك مما أشار إليه المصنف بقوله م: (وهو) ش: أي المرتث دل عليه قوله: "ارتث" كما في قَوْله تَعَالَى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] (المائدة: الآية 8) ؛ م: (من صار خلقا) ش: بفتح اللام، يقال: ثوب خلق أي بلي، يستوي فيه المذكر والمؤنث؛ لأنه في الأصل مصدر من خلق يخلق.
قال الجوهري: وقد خلق الثوب بالضم خلوقه أي بلي إذا خلق الثوب، مثله وأخلقه إنما متعد ولا يتعدى م: في حكم الشهادة لنيل مرافق الحياة) ش: وهي راحة الحياة.
م: (لأن بذلك) ش: أي بذلك النيل م: (يخف أثر الظلم، فلم يكن في معنى شهداء أحد) ش: لأنهم ماتوا على الحالة التي وقعت فيها الجراحة، ولم ينالوا من مرافق الحياة شيئا م: (والارتثاث) ش: الذي يوجب غسل القتيل م: (أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يداوى أو ينقل من المعركة حيا) ش: أو يصلي أو يتكلم بكلمة في رواية ابن سماعة عن أبي يوسف. وفي رواية عنه أنه يزيد على كلمة. وفي " البدائع " أو باع أو ابتاع أو تكلم بكلام طويل، وذكر ابن سماعة أن إكثار الكلام بمنزلة الأكل م: (لأنه نال بعض مرافق الحياة) ش: بمباشرة شيء من الأشياء المذكورة.
م: (وشهداء أحد ماتوا عطاشا والكأس) ش: أي كأس الماء م: (تدار عليهم فلم يقبلوا) ش: قال الجوهري: والكأس كل إناء فيه شراب وهي مؤنثة م: (خوفا من نقصان الشهادة) ش: شرب الماء الذي هو من لوازم الأحياء حتى لا ينالوا من مرافق الدنيا. وفي " شرح المصطفى " لعبد الملك بن محمد النيسابوري عن خارجة بن زيد عن أبيه «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد أرسلني إلى سعد بن(3/275)
إلا إذا حمل من مصرعه كيلا تطأه الخيول؛ لأنه ما نال شيئا من الراحة، ولو آواه فسطاطا أو خيمة كان مرتثا لما بينا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الربيع، وقال: إن رأيته أقرئه السلام: وقل له: يقول لك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كيف تجدك؟ " قال: جعلت أطوف بين القتلى حاصبة، وهو في آخر رمق وبه سبعون ضربة بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم، فقلت له: يا سعد: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ قال: على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليك السلام، قل له: يا رسول الله أجد رائحة الجنة. وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم إن وصل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيكم عين تطرف، وفاضت عيناه» .
وقال العلامة الكردري في قوله: "خوفا من نقصان الشهادة": قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] (التوبة: الآية 111) ، أخذ الشهيد بعض مرافقه للحياة، فكان هذا تصرفا في البيع قبل التسليم لتحقق النقصان في تسليم المبيع كما لو تصرف البائع في المبيع قبل التسليم، فإنه يسقط بعض الثمن أو يثبت للمشتري الخيار، ولهذا لو استشهد الصبي يغسل؛ لعدم أهليته للبيع عنه، وروى البيهقي في " شعب الإيمان " عن أبي جهيم بن حذيفة العدوي، قال: انقطعت يوم الرسول ابن عمي ومعي سقية ماء، فقلت: إن كان به رمق سقيته من الماء فوجدته ومسحت وجهه، فإذا به ينشع، فقلت: أسقيك؟ فأشار إلى جانبه فنظرت فإذا رجل يقول: آه، فأشار هشام ابن عمي أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاص، فأتيته فقلت: أسقيك؟ فسمع آخر يقول: آه، فأشار هشام أن انطلق به إليه فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
م: (إلا إذا حمل من مصرعه كيلا تطأه الخيول؛ لأنه ما نال شيئا من الراحة) ش: الاستثناء من قوله بمن ارتث غسل، يعني لا يغسل في هذه الصورة فهو شهيد: قال الأترازي: فيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن الحمل من المصراع ليس بنيل راحة.
قلت في نظره نظر؛ لأن الحمل من المصراع إنما يكون نيل راحة إذا كان لصرم القتال، ألا ترى إلى ما قال في " الذخيرة " ولو كانوا في معمعة القتال، فوجدوا جريحا فحملوه والقوم في القتال ثم مات فهو شهيد. قال الحاكم الشهيد: ومجرد حمله ورفعه من المعركة والقتال على حاله بعد لا يجعله مرتثا وإنما ارتثاثه بذلك بعدم تصرم القتال، وفي " التحفة " وفي " المحيط " و" المفيد " أو بقي يوما وليلة في المعركة.
م: (ولو آواه) ش: بالمد، أي لو ضمه، م: (فسطاط) ش: وهي الخيمة الكبيرة فيه ست لغات، ضم الفاء وكسره، وبالباء مكان الطاء الأولى، وتشديد السين بغير الطاء والباء مع ضم الفاء وكسرها، ذكرها ابن قتيبة م: (أو خيمة كان مرتثا) ش: فيغسل م: (لما بينا) ش: أراد به قوله؛ لأنه(3/276)
ولو بقي حيا حتى مضى عليه وقت صلاة وهو يعقل فهو مرتث؛ لأن تلك الصلاة صارت دينا في ذمته وهو من أحكام الأحياء، قال: وهذا مروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولو أوصى بشيء من أمور الآخرة كان ارتثاثا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه ارتفاق، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يكون؛ لأنه من أحكام الأموات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نال مرافق الحياة.
م: (لو بقي حيا حتى مضى عليه وقت صلاة وهو يعقل فهو مرتث) ش: أي والحال أنه يعقل، واحترز به. أما إذا بقي مغمى عليه؛ لأنه لا يكون مرتثا، كذا روي عن أبي يوسف.
وفي " الذخيرة ": ذكر ابن سماعة أو مضى عليه وقت صلاة كاملة.
وفي " التحفة " أو مضى عليه وقت صلاة وهو يعقل، ويقدر على أدائها بالإيماء، حتى يجب القضاء بتركها.
وفي " المجتبى " والمراد بوقت الصلاة قدر ما تجب عليه الصلاة وتصير دينا في ذمته، وهو رواية عن أبي يوسف. وعندنا يوم وليلة، ولو كان مغمى عليه يوما وليلة لم يكن مرتثا. وعن محمد لو بقي في المعركة حيا يوما وليلة فهو مرتث وإن لم يعقل. وفي " نواد بشر " عن أبي يوسف إذا مكث الجريح في المعركة أكثر من يوم حيا والقوم في القتال وهو يعقل أو لا يعقل، فهو بمنزلة الشهيد.
قال الأترازي: إنه لو تأمل اليوم كله ثم خر ميتا من جراحه أصابته في أول النهار كان شهيدا، وإن تصرم القتال بينهم فهو جريح في المعركة فمكث وقت صلاة لا يكون شهيدا، وذكر الكرخي في "مختصره ": إن عاش في مكانه وهو لا يعقل لا يغسل، وإن زاد على يوم وليلة؛ لأنه لا ينتفع بحياته فكان كالميت.
م: (لأن تلك الصلاة صارت دينا في ذمته وهو) ش: أي كون الدين في ذمته م: (من أحكام الأحياء) ش: فيكون مرتثا فيغسل.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وهذا مروي عن أبي يوسف) ش: وروي عن محمد مثل قول أبي يوسف، إلا أنه قال: إن عاش في مكانه يوما كان مرتثا، سواء كان عاقلا أو لم يكن، وإن كان أقل من ذلك، لم يكن مرتثا م: (ولو أوصى بشيء من أمور الآخرة كان ارتثاثا عنده) ش: أي عند أبي يوسف م: (لأنه ارتفاق) ش: بحصول الثواب.
م: (وعند محمد لا يكون ارتثاثا؛ لأنه من أحكام الأموات) ش: أي لا يعبأ بشيء من الأمور الآخرة من أحكام الأموات، وقال الصدر الشهيد في " الجامع الصغير ": قيل: الاختلاف فيما إذا أوصى بشيء من أمور الآخرة، أما إذا أوصى بشيء من أمور الدنيا كان ارتثاثا بالإجماع.(3/277)
ومن وجد قتيلا في المصر غسل؛ لأن الواجب فيه القسامة والدية فخف أثر الظلم إلا إذا علم أنه قتل بحديدة ظلما؛ لأن الواجب فيه القصاص وهو عقوبة، والقاتل لا يتخلص عنها ظاهرا إما في الدنيا وإما في العقبى، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما لا يلبث بمنزلة السيف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال في " شرح الطحاوي ": قيل: إنه لا اختلاف فيما بينهما في الحقيقة. فجواب أبي يوسف خرج في الذي أوصى بأمور الدنيا. وجواب محمد خرج في الذي أوصى بأمور الآخرة، وقال أبو بكر الرازي: وإن كان أكثر من كلامه في وصيته، فطال غسل؛ لأن الوصية شيء من أمور الموت، فإذا طالت أشبهت أمور الدنيا.
م: (ومن وجد قتيلا في المصر غسل) ش: قيد بالمصر؛ لأنه لو وجد في مفازة ليس بقربها عمران لا يجب فيه قسامة ولا دية ولا يغسل لو وجد به أثر القتل م: (لأن الواجب فيه القسامة والدية فخف أثر الظلم) ش: فلم يكن في معنى شهداء أحد فيغسل م: (إلا إذا علم أنه قتل بحديدة ظلما) ش: هذا الاستثناء من قوله "غسل" يعني لا يغسل القتيل في المصر إذا علم أنه قتل بحديدة ظلما مظلوما، ولكن هذا فيما إذا علم قاتله لوجوب القصاص.
أما إذا لم يعلم قاتله فيغسل، وإن قتل بحديدة؛ لأنه ليس فيه معنى شهداء أحد، لأنه إذا لم يعمل قاتله يجب القسامة والدية. وعند الشافعي: يغسل القتيل في المصر، وإن قتل بحديدة وإن عرف قاتله لوجوب القصاص، وهو بدل الدم كالدية وكذا ما قاله المصنف بقوله:
م: (لأن الواجب فيه القصاص وهو عقوبة) ش: إما في الدنيا إن وجد، وإما في الآخرة إن لم يوجد م: (والقاتل لا يتخلص عنها) ش: أي عن العقوبة م: (ظاهرا) ش: من حيث ظاهر الأمر م: (إما في الدنيا) ش: إن وجد م: (وإما في العقبى) ش: إن لم يوجد كما ذكرنا، والقصاص عقوبة وليس بعوض حتى يخفف أثر الظلم، وإن كان عوضها لكن نفعه يعود إلى الورثة لا له فلم ينتفع الميت به، بخلاف الدية، فإن نفعها يعود إليه حتى يقضي منها ديته وينفذ وصاياه، كذا في " مبسوط فخر الإسلام "، والسر فيه أن وجوب المال دون القصاص دليل صفة الحياة، بدلالة أن المال يثبت بالشبهة، والقصاص دليل صفة الجناية؛ لأن المال يثبت بالشبهة والقصاص يجب الشبهة.
م: (وعنده أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - ما لا يلبث بمنزلة السيف) ش: أراد بهذا أنه لا يشترط في القتيل وجد في المصر أن يقتل بالحديد عندهما، بل ما لا يلبث في الباب مثل الثقل من الحجر، والخشب مثل السيف عندهما؛ حتى لا يغسل القتيل ظلما في المصر إذا علم قاتله، وعلم أنه قتل بالمثقل لوجوب القصاص عندهما، وعند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يجب القصاص في القتل بالمثقل؛ لأنه لو وجب فلا يخلو إما أن يستوفي دما أو جرحا فلا يجوز الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا بالسيف» ولا يجوز المال في اللزوم لزيادة، والقصاص مبناه على المماثلة م:(3/278)
ويعرف في الجنايات إن شاء الله تعالى،
ومن قتل في حد أو قصاص غسل وصلي عليه؛ لأنه باذل نفسه لإيفاء حق مستحق عليه، وشهداء أحد بذلوا أنفسهم لابتغاء مرضاة الله تعالى فلا يلحق بهم.
ومن قتل من البغاة أو قطاع الطريق لم يصل عليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(ويعرف ذلك في الجنايات إن شاء الله تعالى) ش: أي يعرف حكم عدم القصاص عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلافا لهما في كتاب الجنايات على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
[تغسيل من قتل في حد أو قصاص]
م: (ومن قتل في حد أو قصاص غسل وصلي عليه) ش: هذا بالإجماع، إلا أن مالكا يقول: لم يصل الإمام على المرجوم والمقتول قصاصا، وصلى على غيره؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل على عاص وصلى عليه غيره. وقال الزهري: لا يصلى على المرجوم أصلا م: (لأنه) ش: أي لأن المقتول في الحد أو القصاص م: (باذل نفسه لإيفاء حق مستحق عليه) ش: أي واجب عليه م: (وشهداء أحد بذلوا أنفسهم لابتغاء مرضاة الله تعالى) ش: أي بطلب رضى الله من غير أن يكون عليهم حق م: (فلا يلحق بهم) ش: أي بشهداء أحد في ترك الغسل، وأما ماعز ففي رواية البخاري أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليه، وفي " الصحيح " أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على المرجومة في الزنا، ومن قتل في تعزيز، أو عدا على قوم فقتلوه يغسل؛ لأنه ظلم نفسه فلا يكون شهيدا.
[تغسيل من مات من البغاة]
م: (ومن قتل من البغاة) ش: بضم الباء الموحدة جمع باغ كقضاة جمع قاض، وهو الذي يخرج عن طاعة الإمام، وأصل البغي مجاوزة حد م: (أو قطاع الطريق لم يصل عليه) ش: وفي " الذخيرة " عن محمد قاطع الطريق لا يصلى عليه سواء قتل في الحرب أو قتله الإمام حدا، وفي " الملتقطات ": أو قتلوه بعد ما وضعت الحرب أوزارها صلي عليهم، يعني البغاة، وكذا قطاع الطريق إذا قتلوا بعد ثبوت يد الإمام عليهم. وإنما لا يصلى عليهم إذا قتلوا في حال المحاربة والحرب. وفي " الذخيرة " ذكر الصدر الشهيد في " الواقعات " إن قتلوا في الحرب لا يصلى عليهم، وإن قتلوا بعدما وضعت الحرب أوزارها صلي عليهم، وكذا قطاع الطريق مثلما ذكر في " الملتقطات ".
قال أبو الليث: وبه نأخذ، ولم يذكر أنهم هل يغسلون. وذكر نجم الدين النسفي اختلاف المشايخ قيل: يغسلون للفرق بينهم وبين الشهداء. وحكم المقتول بالمعصية حكم الباغي ومن قتل أبويه لا يصلى عليه؛ إهانة له، ذكره في " جوامع الفقه ". ومن قتل نفسه خطأ بأن قصد رجلا من العدو ليضربه بالسيف فأخطأ، وأصاب نفسه يغسل ويصلى عليه بلا خلاف. ومن قتل نفسه بحديدة ظلما ذكر الصدر الشهيد في " الجامع الصغير " أنه يغسل ويصلى عليه عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومحمد بخلاف الباغي.
وفي " شرح السير " أن فيه اختلاف المشايخ، قال شمس الأئمة الحلوائي: الأصح أنه يصلى عليه. وقال القاضي أبو الحسن السعدي: إنه لا يصلى عليه؛ لأنه باغ على نفسه، وذكر(3/279)
لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يصل على البغاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السروجي ومن قتل نفسه أو قتل من المغنم يغسل ويصلى عليه. وقال مالك والشافعي وداود وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا يصلي عليه الإمام؛ لأنه باغ على نفسه، وذكر السروجي ويصلي عليه بقية الناس. وقال الأوزاعي وعمر بن عبد العزيز: لا يصلى عليه، وهو رواية عن أصحابنا ويغسل، وكذا الزنا ويصلى عليه عند جميع أهل العلم خلافا لقتادة وأهل البغاة، فعند الشافعي يغسلون ويصلى عليهم.
واختلف أصحاب أحمد في ذلك، ودليلنا فيه ما أشار إليه المصنف بقوله م: (لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يصل على البغاة) ش: ذكر ابن سعد في " الطبقات " قضية أهل النهروان وليس فيها ذكر الصلاة، ولفظه قال: لما كان بين علي ومعاوية ما كان وقع بصفين في صفر سنة سبع وثلاثين، ورجع علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الكوفة خرجت عليه الخوارج عن أصحابه بحروراء؛ لذلك سموا الحرورية، فأرسل إليهم عبد الله بن عباس فخاصمهم وحاجهم فرجع منهم كثير، وثبت آخرون على رأيهم، وساروا إلى نهروان، وقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت فسار إليهم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقاتلهم بالنهراون، وقتل ذا الثدية، وذلك سنة ثمان وثلاثين، ثم رجع علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الكوفة فلم يزالوا يخافون عليه من الخوارج حتى قتل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال السروجي: ولنا أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يغسل أهل النهروان ولم يصل عليهم فقيل له أكفار هم؟ فقال: لا؛ إخواننا بغوا عينا فقاتلناهم، ذلك عقوبة لهم ليكون زجرا لغيرهم كالمصلوب يتحرك على خشبة عقوبة له وزجرا لغيره.
1 -
فروع: إذا قتل الباغي في المعركة للكافر لا يغسل ولا يصلى عليه. وكذا الذي يقتل بالحتف عليه، رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وفي " الخلاصة ": حكم من قتل بالبغي في الأرض بالفساد، كالمكابرين، والخناق الذي خنق غيره مرة، والمقتولين بالمعصية حكم أهل البغي وقطاع الطريق، وحكم من قتل مسمى لا يوصف بالظلم، كما إذا افترسه السبع أو سقط عليه البناء، أو سقط من شاهق جبل، أو سال عليه الوادي وغرق في الماء حكم المقتول برجم أو قصاص، ومن قتل في المصر ليلا بسلاح أو غير سلاح نهارا، أو خارج المصر بسلاح أو غيره ولم يجب دية فيكون شهيدا عندنا، وإلا فلا.(3/280)
باب الصلاة في الكعبة الصلاة في الكعبة جائزة فرضها ونفلها، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الصلاة في الكعبة] [حكم الصلاة في الكعبة]
م: (باب الصلاة في الكعبة) ش: أي هذا باب في بيان أحكام الصلاة في الكعبة، وهي اسم للبيت الحرام، وسمي البيت الحرام بذلك لتربعه من قولهم: برد مكعب إذا كان فيه شيء مربع. ولما كانت الصلاة فيها مخالفة لسائر الصلوات من حيث جواز الصلاة فيها بالتوجه إلى الجهات الأربع قصدا، بخلاف غيرها، وصارت كأنها جنس آخر أجزأها عنهما، كذلك لقلة دورها بالنسبة إلى غيرها، ولكون مساس الحاجة إلى غيرها أكثر.
وأما وجه المناسبة في ذكرها عقيب باب الجنائز هو أن البيت ضامن الأمن من دخله بالنص، فكذلك القبر ضامن الميت.
م: (الصلاة في الكعبة جائزة فرضها ونفلها) ش: ارتفاع فرضها ونفلها بالبدلية من الصلاة بدل الاشتمال، وبقولنا: قال جماعة من السلف: منهم الثوري والشافعي أيضا، وقول المصنف م: (خلافا للشافعي فيهما) ش: أي في الفرض والنفل ليس كما ينبغي. قال السغناقي: كأن هذا اللفظ وقع سهوا من الكاتب، فإن الشافعي يرى جواز الصلاة في الكعبة فرضها ونفلها، كذا أورده أصحابه في كتبهم عن " الوجيز " و" الخلاصة " ," والذخيرة " وغيرها، ولم يرد أحد من علمائنا أيضا هذا الخلاف فيما عندي من الكتب " كالمبسوط " و" الأسرار " و" الإيضاح " و" المحيط " و" شروح الجامع الصغير " وغيرها ما خلا أنه يشترط السترة المتصلة بالأرض اتصال قرار إذا كان المصلي في عرصة الكعبة كالحجر والشجر.
قلت: ذكر في " الوجيز " لو انهدمت الكعبة -والعياذ بالله- تصح صلاته خارج الكعبة متوجها إليها كمن صلى على جبل أبي قبيس والكعبة تحته، ولو صلى فيها لم يجز إلا أن يكون بين يديه شجرة أو يقيه حائط، والواقف على سطحها كالواقف في العرصة، فلو وضع شيئا لا يجزئه، ولو غرز خشبة فيه وجهان وفي " الخلاصة " للغزالي: تجوز الصلاة في الكعبة إلى بعض ثباتها. وقال الإمام برهان السمرقندي في جواب ما قاله السغناقي: بأن تزاد أصحاب الشافعي في كتبهم جواز الصلاة فيها لا يدل على أن عدم الجواز ليس قوله كما في كثير من المسائل، وعدم إيراد أصحابنا علمائنا لا يدل على ذلك أيضا، ومن له أدنى مسكة من العقل إذا تأمل ذلك لاح له بلا ريب بطلان قول هذا القائل.
وقال الشيخ الإمام عبد العزيز في الرد عليه: الصحيح ما ذكره السغناقي؛ فإن اتفاق أصحابه على إيراد الجواز في كتبهم وتعريفاتهم، واتفاق أصحابنا على عدم إيراد الخلاف في كتبنا يدل على عدم الخلاف مع اجتهاد كل فريق في بيان الخلاف، وجهدهم في بيان الأقوال لدفع شبهة(3/281)
ولمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الفرض؛ «لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في جوف الكعبة يوم الفتح»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخصوم بقدر الإمكان. وقال السروجي نصرة للمنصف: وما ذكر في الكتاب عن الشافعي محمول على ما إذا توجه إلى الباب وهو مفتوح، فإن كان الباب مردودا أو له عتبة قدر ثلثي ذراع يجوز. قال النووي: هذا هو الصحيح. وفي وجه يقدر بذراع. وقيل: كفى بحوجها. وقيل: يشترط قدر ما قامته طولا وعرضا، ولو وضع بين يديه متاعا واستقبله لم يجز، وأخذ الأكمل من كلامه فقال: وأجيب بأن مراده إذا توجه إلى الباب وهو مفتوح وليست العتبة مرتفعة قدر مؤخرة الرحل، وهو خير من الحمل على السهو.
قلت: كل هذا لا يخلو من تأمل ونظر [....
.....] عليه البيت.
م: (ولمالك في الفرض) ش: يعني خلافا لمالك في صلاة الفرض، فإنها لا تجوز في الكعبة، ويجوز النفل. وفي " الذخيرة " القرافية؛ فإن مالكا لا يصلي في البيت والحجر فريضة ولا ركعتا الطواف الواجبتان ولا الوتر ولا ركعتا الفجر، وذكر القرطبي في تفسره عن مالك أنه لا يصلي فيها الفرض ولا السنن، ويصلي التطوع، فإن صلى فيها مكتوبة أعاد في الوقت كمن صلى إلى القبلة بالاجتهاد. وعن ابن حبيب، وأصبغ يعيد أبدا، ويقول مالك: قال أحمد: وقال أبو عبد الحكم: لا يصلي فيه ومنع محمد بن جرير الطبري الجميع فيها. وجه قول مالك أن المصلي فيها مستدبر ومستقبل بوجه. فاجتمع ما يوجب الجواز وما يوجب عدمه، فعملنا على ما يوجب عدم الجواز في الفرض وعلى ما يوجب في النفل احتياطا وهو القياس في النفل أيضا، لأن بابه أوسع، ولهذا يجوز قاعدا وراكبا بلا عذر؛ ولأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: " إن الطواف في جوفها لا يصح " فكذا الصلاة.
ولنا ما أشار إليه المصنف بقوله م: (لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في جوف الكعبة يوم الفتح) ش: أخرجه البخاري ومسلم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: «لما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الفتح بمكة ونزل بفناء الكعبة وأرسل إلى عثمان بن طلحة، فجاء بالمفتاح ففتح الباب، قال: ثم دخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبلال، وأسامة بن زيد، وعثمان بن طلحة، وأمر بالباب فأغلق عليه فلبثوا فيه مليا» وللبخاري «فمكثوا فيه نهارا طويلا، ثم فتح الباب قال عبد الله: فبادرت الباب فنفلت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خارجا، وبلال على أثره، قلت لبلال: وهل صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه؟ قال: صلى فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قلت: أين؟ قال: بين العمودين تلقاء وجهه، ونسيت أن أسأله كم صلى» .
وأخرجه عن سالم عن ابن عمر قال: «أخبرني بلال أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في جوف الكعبة بين العمودين اليمانيين» وأخرج البخاري «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل الكعبة قال ابن عمر فأقبلت والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد خرج، ووجد بلالا قائما بين البابين فسألت بلالا. قلت: هل صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكعبة، قال: نعم ركعتين بين الساريتين على يساره إذا دخلت ثم خرج من الكعبة.(3/282)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فصلى في وجه الكعبة ركعتين» .
فإن قلت: أخرج البخاري ومسلم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دخل الكعبة قام عند سارية ودعا ولم يصل» وبه عن ابن عباس أخبرني أسامة بن زيد «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دخل البيت دعا فيه حتى خرج، فلما خرج ركع في قبل البيت ركعتين، وقال: هذه القبلة» .
قلت: أخذ الناس بحديث بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنه ثبت، وقدموه على حديث ابن عباس؛ لأنه نُفي، وإنما يؤخذ بشهادة المثبت ومن تأول قول بلال أنه صلى، أي دعا فليس بشيء؛ لأن في حديث ابن عمر أنه صلى ركعتين. رواه البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ولكن رواية بلال ورواية ابن عباس صحيحتان، ووجهها أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخلها يوم النحر فلم يصل، ودخلها من الغد، وذلك في حجة الوداع، وهو حديث مروي عن ابن عمر، أخرجه الدارقطني في "سننه " بإسناد حسن عن يحيى بن جعدة عن ابن عمر قال: «دخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البيت ثم خرج وبلال خلفه، فقلت لبلال: هل صلى؟ قال: لا. فلما كان من الغد دخل، فسألت بلالا: هل صلى؟ قال: نعم. صلى ركعتين» .
وأخرج الدارقطني أيضا، والطبراني في "معجمه " عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: «دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البيت فصلى بين الساريتين ركعتين، ثم خرج فصلى بين الباب والحجر ركعتين، ثم قال: هذه القبلة ثم دخل مرة أخرى، فقام فدعا ثم خرج ولم يصل» . وأما حديث أسامة بن زيد فروى عنه خلافه أحمد في "مسنده "، وابن حبان في "صحيحه "، عن ابن عمر أخبرني أسامة بن زيد «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في الكعبة بين الساريتين» .
قلت: حاصل الكلام في هذا الباب أن المخلص بين هذه الروايات المختلفة ما ذكرناه أولا. مع أنه روي عن ابن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن السائب أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في الكعبة، فحديث عمر رواه أبو داود في "سننه " من حديث مجاهد، عن عبد الرحمن بن صفوان، قال: «قلت لعمر بن الخطاب: كيف صنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين دخل الكعبة؟ قال: صلى ركعتين» . وفي إسناده(3/283)
ولأنها صلاة استجمعت شرائطها لوجود استقبال القبلة؛ لأن استيعابها ليس بشرط،
فإن صلى الإمام بجماعة فيها، فجعل بعضهم ظهره إلى ظهر الإمام جاز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يزيد بن أبي زياد، وفيه مقال، قاله الخصم.
قلت: روى له مسلم مقرونا بغيره، واحتجت له الأربعة والطحاوي، وحديث عبد الله بن السائب رواه ابن حبان في "صحيحه " قال: «حضرت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الفتح وقد صلى في الكعبة، فخلع نعليه فوضعها على يساره، ثم افتتح سورة المؤمنون، فلما بلغ ذكر موسى وعيسى أخذته سعلة، فركع» .
وأما الجواب عن قول مالك فنقول: إنه استقبل شطر المسجد الحرام وهو المأمور، قال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] (البقرة: الآية 144) ، فيجزئه قياسا على ما لو صلى خارجها، فإنه حينئذ لا يتوجه إلى الكل، واستدبار البعض مع استقبال البعض لا يضر؛ لأنه ما أمر بالتوجه إلى الكل في حالة واحدة؛ لأنه غير ممكن، وإلا ينصرف إلى ما في الوسع، وفي وسعه توجه البعض، فيكون مأمورا بذلك لا غير، وليست الصلاة كالطواف؛ لأن الطواف بالبيت مأمور فيه، والطواف بالكل ممكن، فيجب الطواف خارج البيت؛ ليقع الكل، ألا ترى أن الطواف خارج المسجد الحرام لا يجوز، بخلاف الصلاة والاستدبار خارج البيت مفسد؛ لعدم استقبال ما هو مأمور لا الاستبدار، فوقع الفرق بين الاستدبارين، كذا في " المبسوط " و" الأسرار ". م: (ولأنها صلاة) ش: دليل عقلي، أي ولأن الصلاة في الكعبة صلاة م: (استجمعت شرائطها) ش: من الطهارة عن الحدثين، وطهارة الثوب والمكان والنية م: (لوجود استقبال القبلة) ش: لأنه استقبل جزءا من الكعبة، واستقبال الكل ليس بممكن، ولا هو شرط، وهو معنى قوله م: (لأن استيعابها ليس بشرط) ش: أي استيعاب أجزاء الكعبة.
م: فإن صلى الإمام بجماعة فيها) ش: أي في الكعبة م: (فجعل بعضهم) ش: أي بعض الجماعة م: (ظهره إلى ظهر الإمام جاز) ش: أي جاز فعله ذلك يعني صلاته. وفي " المرغيناني " و" جوامع الفقه " لو صلوا فيها بجماعة جازت صلاتهم، سواء كان المقتدي وجهه إلى ظهر الإمام أو إلى وجهه أو إلى جنبه أو ظهره أو إلى ظهره إلى جنبه، لكن يكره إذا كان وجهه إلى وجه الإمام، لاستقبال الصورة إلا بحائل، ولا يجوز صلاة ثلاثة من كان ظهره إلى وجه الإمام والثاني من كان وجهه إلى الجهة التي وجه الإمام إليها وهو عن يمينه. ويقدم عليه بأن كان أقرب إلى الحائط من الإمام، والثالث: عن يساره مثله لتقدمه على الإمام بذلك أو لم يعلم.(3/284)
لأنه متوجه إلى القبلة، ولا يعتقد إمامه على الخطأ، بخلاف مسألة التحري، ومن جعل منهم ظهره إلى وجه الإمام لم تجز صلاته؛ لتقدمه على إمامه،
وإذا صلى الإمام في المسجد الحرام فتحلق الناس حول الكعبة، وصلوا بصلاة الإمام، فمن كان منهم أقرب إلى الكعبة من الإمام جازت صلاته إذا لم يكن في جانب الإمام؛ لأن التقدم والتأخر إنما يظهر عند اتحاد الجانب،
ومن صلى على ظهر الكعبة جازت صلاته،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأنه متوجه إلى القبلة، ولا يعتقد إمامه على الخطأ) ش: أي والحال أن لا يعتقد على الخطأ قال الأترازي: هذا التعليل ليس بكاف؛ لجواز صلاة من جعل ظهره إلى ظهر الإمام. لأن هذه العلة وهي توجه القبلة وعدم الاعتقاد خطأ الإمام. حاصله فيما إذا جعل ظهره إلى وجه الإمام، ومع هذا صلاته فاسدة، وكان ينبغي أن يزاد فيه قيد آخر بأن يقال: لأنه متوجه إلى القبلة غير متقدم على إمامه ولا يعتقد إمامه على الخطأ، وأجاب عنه الأكمل بأنه لما علل عدم الجواز في الوجه الرابع بالتقدم على الإمام، دل على أنه مانع، فاقتصر عن ذكره في الأول اعتمادا على أنه يفهم من الثاني: " بخلاف مسألة التحري) ش: يعني إذا صلوا في ليلة مظلمة، فجعل بعضهم ظهره إلى ظهر الإمام وقد علم حال إمامه لا تجوز صلاته؛ لأنه اعتقد إمامه على الخطأ.
م: (ومن جعل منهم) ش: أي من القوم م: (ظهره إلى وجه الإمام لم تجز صلاته لتقدمه على إمامه) ش: قيد به؛ لأنه إذا كان وجهه إلى وجه الإمام جازت صلاته كما ذكرنا، وفي " الإيضاح " ينبغي لمن يواجه الإمام أن يجعل بينه وبين الإمام سترة؛ احترازا بالتشبيه بعابد الصورة.
[الحكم لو صلى الإمام في المسجد الحرام فتحلق المأمومون حول الكعبة]
م: (وإذا صلى الإمام بالمسجد الحرام فتحلق الناس حول الكعبة وصلوا بصلاة الإمام) ش: لفظ تحلق الناس جملة وقعت حالا. والجملة الفعلية الماضية إذا وقعت حالا يجوز إثبات الواو وحذفه، ولكن لا بد من قد ظاهرة أو مقدرة، والعجب من الأكمل حيث قال: فقال بعضهم أن يحلق حال بتقدير قد. فكأنه استغرب هذا، وأسنده إلى البعض مع أن معنى التركيب على هذا، وليست بجواب إذا.
وجواب إذا هو قوله م: (فمن كان منهم) ش: أي من القوم م: (أقرب إلى الكعبة من الإمام جازت صلاته إذا لم يكن في جانب الإمام) ش: لأنه مستقبل الجزء من الكعبة وليس بمتقدم على إمامه، فصار كمن صلى خلفه وهذا م: (لأن التقدم والتأخر إنما يظهر عند اتحاد الجانب) ش: لأنهما من الأسماء الإضافية فلا يظهر إلا عند اتحاد الجهة، بخلاف ما إذا كان من جهة الإمام؛ لأنه حينئذ يكون مستدبر الكعبة متقدما عليه في ذلك يخرجه من حكم الاقتداء.
م: (ومن صلى على ظهر الكعبة) ش: أي على سطحها، ولعل اختيار لفظ الظهر لورود الحديث به م: (جازت صلاته) ش: ولكن يكره، وكذا على جدارها إذا كان متوجها إلى ظهرها الذي هو سطحها، وإن حمل السطح إلى ظهرها لا تصح صلاته، ذكره في " جوامع الفقه "، وقال مالك: لو صلى على ظهر الكعبة يعيد أبدا. وقال أشهب: يعيد في الوقت. وقال ابن عبد الحكم لا يعيد. وقال صاحب " الجلاب ": تكره المكتوبة على ظهر الكعبة، وفيها وفي(3/285)
خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الكعبة هي العرصة والهواء إلى عنان السماء عندنا دون البناء؛ لأنه ينقل، ألا ترى أنه لو صلى على جبل أبي قبيس جاز، ولا بناء يبن يديه. إلا أنه يكره لما فيه من ترك التعظيم وقد ورد النهي عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحجر م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإنه لم يجوزها على سطح الكعبة، إلا إذا كان بين يديه سترة متصلة، وإن كان بين يديه عصا مغروزة غير مبنية ولا مستمرة فوجهان، ولو جمع تراب السطح أو العرصة وحفر حفرة فوقف فيها أو استقبل شجرة نابتة، ولو استقبل حشيشا نابتا أو خشبة فوجهان، وقال ابن شريح: يصح في الكل، وإن وقف على طرف سطح الكعبة واستدبرها لا يجوز بلا خلاف.
م: (لأن الكعبة هي العرصة) ش: بسكون الراء م: (والهواء إلى عنان السماء) ش: بفتح العين، وفي " ديوان الأدب " العنان السحاب م: (عندنا دون البناء؛ لأنه ينقل) ش: وفي " المحيط " و" الوبري " وغيرهما القبلة هي موضع الكعبة، والعرصة مع الهواء إلى عنان السماء؛ لأن الجدران مؤلفة من الحجارة والطين والجير ونحوها، وكل ذلك مما ينقل ويحول م: (ألا ترى أنه لو صلى على جبل أبي قبيس جاز ولا بناء بين يديه) ش: وكذا لو صلى على غيره من المواضع العالية، وفي " شرح المهذب " لو انهدمت الكعبة - والعياذ بالله - فوقف خارج العرصة واستقبلها في صلاته جازت بلا خلاف، أما إذا توقف على وسط العرصة وليس بين يديه شيء شاخص لم تصح صلاته على المنصوص، وقال ابن شريح تصح صلاته. م: (إلا أنه يكره) ش: استثناء من قوله: جازت صلته ويتذكر الضمير في أنه تأويل فعل الصلاة أو أدائها م: (لما فيه) ش: أي في المصلي على ظهر الكعبة م: (من ترك التعظيم وقد ورد النهي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي عن ترك التعظيم، وقيل: عن أداء الصلاة على ظهرها وجب النهي، رواه ابن عمر، وأخرجه الترمذي وابن ماجه عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، ومعاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله» قال الترمذي: حديث حسن ليس إسناده بالقوي.
1 -
فروع: امرأة وقعت بحذاء الإمام وقد نوى إمامة النساء فاستقبلت الجهة التي استقبلها الإمام فسدت صلاة الكل، وإن استقبلت جهة أخرى لا تفسد، ذكره المرغيناني. وقال القرافي في " الذخيرة ": هل المشروط في الاستقبال بعض هوائها أو بعض بنائها أو جميع بنائها، فالأول: قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. والثاني: قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. والثالث: قول مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وعليه توكلي ورجائي.(3/286)
كتاب الزكاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الزكاة]
م: (كتاب الزكاة) ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الزكاة وقرنها بالصلاة تناسيا وإقتداء بما ذكر الله تعالى في آي من القرآن في قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] (البقرة: الآية 43) . وكذلك في السنة: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة....» .
وأما تقدم الصلاة عليها فلأنها جنس لمعنى في نفسها بدون الواسطة، والزكاة ملحقة بها في أنها جنس لمعنى في نفسها لكن بالواسطة، فكانت هي أحط رتبة من الصلاة، ويقال: وجه مقارنتها بالصلاة: هو أن سبب وجوب العبادة نعم الله تعالى، والنعمة بدنية ومالية، والنعمة البدنية أعظهما وأتمها فكان صرف عناية المكلف إلى تعميمها أحق، والعبادة المالية بذريعة المال، ولهذا سمى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة عماد الدين، والزكاة فطرة الإسلام، فاقتضت حكمة الله تعالى تقديم الصلاة على الزكاة، وجعلت الزكاة ثانية الصلاة للآية المذكورة.
ثم لفظ الزكاة اسم المصدر - أعني التزكية - يقال: زكى ماله تزكية إذا أدى عنه زكاته، وأصل مادته يأتي لمعان بمعنى الطهارة، قال الله تعالى: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً} [مريم: 13] (مريم: الآية 13) ، أي طهارة، وقال الله تعالى: {وَتُزَكِّيهِمْ} [التوبة: 103] (التوبة: الآية 103) أي تطهرهم، وبمعنى النماء يقال: زكى الزرع إذا نمى، وقال الجوهري: زكى الزرع يزكو زكاة ممدودة أي نما، وأزكاه الله تعالى.
وبمعني النعم، قال الأموي: زكى الرجل يزكو زكا زكوا إذا تنعم وكان في خصب. وبمعنى آخر يقال: هذا الأمر لا يزكو بفلان، أي لا يليق به، وبمعنى آخر يقال: تزكى الرجل أي تصدق، وبمعنى هذا المدح يقال: زكى نفسه، قال الله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] (النجم: 32) ، وبمعنى الثناء الجميل ومنه زكى الثناء فمخرج الزكاة يحصل للثناء الجميل، وزكاة الناقة بولدها إذا أدبرت به بين رجليها، وسميت صدقة؛ لدلالتها على صدق العبد في العبودية إذا أداها لأنها على النفس أشق.
وأما معناه الشرعي فقد قال الشيخ قوام الدين الكاكي: وشرعا عند المحققين من أصحابنا إيتاء جزء مقدر من النصاب الحولي إلى الفقير لله تعالى.
قلت: هذا يحتاج إلى قيد آخر وهو أن يقال: إلى الفقير غير الهاشمي، وقيل: الزكاة اسم للمال المؤدى؛ لأنه تعالى أمرنا بإيتاء الزكاة، والمراد بالإيتاء إخراجها من العدم إلى الوجود. وقال السغناقي: قال المحققون من أصحابنا: إن الزكاة في عرف الشرع اسم لفعل الأداء بدليل(3/287)
الزكاة واجبة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قولنا: الزكاة واجبة، والوجوب من صفات الأفعال لا من صفات الأعيان. كذا في " المبسوط ". ثم قال: يجوز أن يقال: إن الزكاة في اصطلاح الشرع عبارة: عن إخراج الحر البالغ المسلم العاقل إذا ملك نصابا ملكا تاما طائفة من المال إلى المصرف؛ لرضا الله تعالى لإسقاط الفرض عن وجه ينقطع نفع المؤدى من المؤدي.
وقال تاج الشريعة: الزكاة في الشرع عبارة عن إيتاء جزء من النصاب الحولي إلى الفقير؛ لأنها توصف بالموجود الذي هو من صفات الفعل، ثم أطلقت على القدر المخرج إلى الفقير مجازا؛ إما لأنه يوصف بطهر المخرج من الذنوب، أو لأنه ينمي ماله ويبارك له ويقع مدفعا لتلف أصل المال المذكور في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما خالطت الصدقة مالا إلا أهلكته» .
والأحسن في هذا: ما قاله الشيخ حافظ الدين النسفي: الزكاة تمليك المال من فقير مسلم غير هاشمي ولا مولاه، بشرط قطع المنفعة عن المالك من كل وجه لله تعالى.
قلت: ولو قال: تمليك جزء من المال لكان حسنا. وبقي الكلام في صفتها وسبب وجوبها وشروطها وحكمها.
أما صفتها: فهي فريضة محكمة يجب تكفير جاحدها على ما يجيء بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى، وفي السنة الثانية من الهجرة فرضت الزكاة.
وأما سبب وجوبها فالمال، ولهذا تضاف إلى المال، فيقال: زكاة المال والواجبات تضاف إلى أسبابها، ولكن المال سبب باعتبار غنى المالك، والغنى لا يحصل إلا بمال مقدر وهو النصاب، وأما شروطها فسبعة: أربعة في المالك: وهو أن يكون حرا بالغا عاقلا مسلما وليس عليه دين، وثلاثة في الملوك: وهو أن يكون النصاب كاملا، حوليا، ومساما أو منجزا تعلقه أو نفلا.
وأما حكمها فالخروج عن عهدة التكليف في الدنيا، والنجاة عن العقاب، ووصول الثواب في الآخرة، كذا في " المبسوط ".
[حكم الزكاة وشروط وجوبها]
م: (الزكاة واجبة) ش: قال الكاكي: أراد بالوجوب الفرض، وفي " الكافي " و" البدرية " وصفت بالوجوب مع أنها فريضة؛ لأنه أريد به الثبوت والإلزام، فيكون واجبا قطعا، أو لأن أصلها ثبت بالدليل القطعي، ولكن مقدارها ثبت بأخبار الآحاد، فإن قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] (البقرة: الآية 43) ، مجمل في حق المقدار، ولعل صاحب الكتاب نظر إلى هذا وعدل عن لفظ الفرض، والواجب والفرض يلتقيان في حق العمل، فيصح إطلاق أحدهما على الآخر مجازا.
وقال السغناقي: وفي عكسه والوتر فرض، وبدأ بذكره كما أن الأصح من مذهب أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الوتر واجب، والأولى أن يقال فيه: أراد بالوجوب اللزوم(3/288)
على الحر العاقل البالغ المسلم
إذا ملك نصابا كاملا ملكا تاما، وحال عليه الحول،
أما الوجوب فلقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] (البقرة: الآية 43) ؛ ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أدوا زكاة أموالكم» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثبوت؛ لأنه ينبني عنه لغة. وقال السروجي: وفي " البدائع " و" التحفة " وغيرها: إنهما فريضة، ثم أراد بالوجوب التحقق والثبوت، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "وجبت" أي ثبتت وتحققت، أو لأنه لو قال: فرضا لتبادر الذهن إلى الفرض الذي هو التقدير، وهو الغالب في باب الزكاة؛ لأنها جزء مقدر في جميع أصناف الأموال.
م: (على الحر العاقل البالغ المسلم) ش: الجار والمجرور يتعلقان بقوله: واجبة، ذكر أربعة أشياء. الأول: الحرية فلا تجب على العبد.
والثاني: العقل فلا تجب على المجنون.
والثالث: البلوغ، فلا تجب على الصبي.
والرابع: الإسلام فلا تجب على الكافر.
وسيجيء بيان كل واحد منها عن قريب؛ لأن هذا الكتاب شرح القدوري في نفس الأمر.
م: (إذا ملك نصابا كاملا ملكا تاما وحال عليه الحول) ش: الملك بالاختصاص المطلق الحاجز، وقيل: هو القدرة على التصرف على وجه لا يتعلق بذلك تبعة في الدنيا ولا غرامة في الآخرة. والنصاب الأصل، وهو كل مال لا تجب فيما دونه الزكاة، والملك التام الذي يكمل جميع آثار الملك، واحترز به عن مال المديون، والمكاتب، ومال الضمان، وبدل الخلع، والمهر قبل القبض.
وقال السغناقي: صاحب الدين يستحقه عليه ويأخذه من غير قضاء ولا رضا، وذلك لأنه عدم الملك كما في الوديعة والمغصوب، قال: ولا يلزم على هذا الواهب فيما وهب، حيث كان له الرجوع في هبته، وهو لم يمنع تمام الملك للموهوب له حتى تجب عليه الزكاة، لأنا نقول: إنه لا يتملكها عليه إلا بقضاء أو رضا.
وأما الصداق قبل القبض، فإن بالعقد يحصل أصل الملك، وتمام المقصود لا يحصل إلا بالقبض، وصيرورته نصابا للزكاة بناء على تمام المقصود، لا على حصول أصل الملك، حتى لا تجب الزكاة في مال الضمان، وإن وجد أصل الملك وكذا في " المبسوط ". وقيل: يحتمل أن يكون قوله: "ملكا تاما"، احترازا عن البيع قبل القبض حيث لا زكاة فيه؛ لأن ملكه لم يتم، ولهذا لا يجوز تصرفه فيه، والملك: عبارة عن مطلق التصرف فيكون الملك فيه ناقصا، فلا يلزم عليه مال ابن السبيل؛ لأن يده ثابتة.
م: (أما الوجوب فلقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أدوا زكاة أموالكم» ش: أي أما وجوب الزكاة فلقوله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] (البقرة: الآية 43) ، وقد أمر(3/289)
وعليه إجماع الأمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله تعالى بإيتاء الزكاة، والأمر المطلق للوجوب على المختار عند الأصوليين والفقهاء. وقال المروزي وغيره من الشافعية: الآية مجملة. قال البندنيجي: هو المذهب وبينتها السنة لكن أصل الوجوب ثابت بها. وقال بعضهم: ليست مجملة بل كل ما يتناول اسم الزكاة. فالآية تقتضي وجوبه والزيادة عليه تعرف بالسنة، والأمر المطلق موقوف على البيان عند بعض الشافعية ذكره السرخسي.
قوله: "وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أدوا زكاة أموالكم» . أي ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.. إلخ، وهذا جزء من حديث أخرجه الترمذي في آخر أبواب الصلاة عن سليم بن عامر قال: سمعت أبا أمامة يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب في حجة الوداع فقال: «اتقوا الله ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم» . وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ورواه ابن حبان في "صحيحه "، والحاكم في "مستدركه "، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ولا نعرف له علة ولم يخرجاه.
وقد احتج مسلم بأحاديث سليم بن عامر وسائر رواته متفق عليهم، وروي هذا أيضا عن أبي الدرداء رواه الطبراني في كتاب " مسند الشاميين " أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أخلصوا عبادة ربكم، وصلوا خمسكم، وأدوا زكاة أموالكم، وصوموا شهركم، وحجوا بيت ربكم، تدخلوا جنة ربكم» وفيه قصة.
م: (وعليه إجماع الأمة) ش: أي على وجوب الزكاة إجماع أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصدر الأول إلى زماننا حتى كفروا جاحدها، وفسقوا تاركها، وكذا في " شرح المبسوط ". وقال الكاساني في " البدائع ": الدليل على فرضية الزكاة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
واعترض عليه بأن السنة لا يثبت بها الفرض، إلا أن تكون متواترة أو مشهورة لا سيما فرضا يكفر جاحده، والزكاة جاحدها يكفر، والسنة الواردة فيها أخبار آحاد صحاح وبها يثبت الوجوب دون الفرض، والعقل لا يثبت به وجوب الزكاة والصلاة وغيرها من الأحكام الشرعية، وإن أراد بالمعقول المقاييس المستنبطة لا يثبت بها الفرضية.
وقال الكاساني: أما المعقول فمن وجوه ثلاثة: الأول أنه من باب إعانة الضعيف وتقويته على أداء ما فرض الله تعالى عليه من التوحيد والعبادة، والوسيلة إلى أداء المفروض مفروض. ورد بأنه يمكن حصول التوحيد وغيره بغير هذه الوسيلة فلا يكون فرضا.(3/290)
والمراد بالواجب الفرض لأنه لا شبهة فيه، واشتراط الحرية؛ لأن كمال الملك بها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: الثاني: إنها تطهير نفس المؤدي وتزكية أخلاقه، والتخلق بالجود والكرم، ورد بأنه أبعد.
قال: والثالث: فيه شكر نعمة المال، وشكر المنعم فرضٌ عقلا، ورد بأنه لا يخفى.
[حكم مانع الزكاة] 1
فروع: إذا امتنع من أداء الزكاة ولم يجحد وجوبها أخذت وعزر ولا يأخذ زيادة على الواجب، وهذا قول أكثر أهل العلم مثل مالك والشافعي - رحمهما الله - وأظهر قولي أحمد بن حنبل وأصحابه.
وقال إسحاق وعبد العزيز وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية، والشافعي في قوله "القديم": يأخذها الإمام وينظر ما له، وهي رواية عن إسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - يؤخذ معها مثلها.
فإن قلت: روى أبو داود والنسائي - رحمهما الله - من حديث بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: «في كل سائمة إبل في كل أربعين بنت لبون، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا، لا يحل لآل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها شيء» .
قلت: كان ذلك في ابتداء الإسلام حيث كانت العقوبات بالمال ثم نسخ.
م: (والمراد بالواجب الفرض؛ لأنه لا شبهة فيه) ش: أي المراد من قولنا في أول الكتاب: الزكاة واجبة، الفرض؛ لأنه ثبت بدليل لا شبهة فيه وهو الكتاب والسنة المتواترة، وإجماع الأمة، وقد مضى الكلام فيه هناك.
م: (واشتراط الحرية) ش: مرفوع بالابتداء وخبره محذوف أي اشتراط الحرية في وجوب الزكاة م: (لأن كمال الملك بها) ش: أي بالحرية إذ العبد قد يملك البيع والتصرف بالكتابة والإذن، وقد قال الكاكي: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق» ، فلما لم تجب في مال المكاتب مع أنه حر من وجه، وقن من وجه، ففي غير المكاتب أولى؛ لأنه قن من كل وجه، والزكاة وظيفة مالية ولا مال للعبد، فشرطت الحرية بالإجماع.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما شرطت الحرية لما ذكر الشيخ أبو بكر الجصاص الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الطحاوي " بإسناده إلى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق» .
وقال السروجي: العبد المأذون له إن كان عليه دين يحيط كسبه فلا ملك لسيده عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما يستحق الصرف إلى غير ماله، وإن لم يكن عليه دين تجب الزكاة فيه على مولاة، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا تجب الزكاة في مال العبد لا عليه ولا على سيده. قال ابن المنذر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول ابن عمر، وجابر، والزهري، وقتادة، وأبي عبيدة، وأحمد - رضي الله(3/291)
والعقل والبلوغ لما نذكره والإسلام؛ لأن الزكاة عبادة فلا تتحقق من الكافر،
ولا بد من ملك مقدار النصاب؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدر السبب به،
ولا بد من الحول؛ لأنه لا بد من مدة يتحقق فيها النماء وقدرها الشارع بالحول.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنهم -، وقال ابن المنذر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا: وأوجبها طائفة على العبد وجوزوا له أخذ الصدقة مع حرمتها على الغني وهو قول عطاء وأبي ثور وداود - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (والبلوغ والعقل لما نذكره) ش: أي واشتراط البلوغ والعقل لما نذكره عن قريب وهو قوله: وليس على الصبي والمجنون زكاة م: (والإسلام) ش: أي واشتراط الإسلام في وجوب الزكاة م: (لأن الزكاة عبادة فلا تتحقق من الكافر) ش: لأن الأمر بأداء العبادات لينال به المؤدي الثواب في الآخرة، والكافر ليس بأهل الثواب للعبادة عقوبة له على كفره حكما من الله تعالى.
وبدون الأهلية لا يثبت وجوب الأداء ووجوب العقوبات عليهم للزجر، وهو أليق بهم بخلاف الجنب والمحدث؛ لأن أهليتهما غير معدومة بسبب الجنابة والحدث؛ لأنهما مباحان، لكن الطهارة منهما شرط صحة الأداء وبعدم الشرط لا تعدم الأهلية.
م: (ولا بد من ملك مقدار النصاب؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدر السبب به) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدر سبب وجوب الزكاة بالنصاب، وهو ما ذكر في " صحيح" البخاري عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمسة ذود من الإبل صدقة» .
م: (ولا بد من الحول) ش: أي ولا بد في وجوب الزكاة من حولان الحول. وقال الجوهري: وقولهم: لا بد من كذا كأنه قال: لا فرار منه.
قلت: هذا من الأسماء المبنية على الفتح، وأصله من البدو وهو للتفريق، ومعناه لا مفارقة من هذا، ونحوه لا محالة.
م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (لا بد من مدة يتحقق فيها النماء) ش: أي نماء المال من نمى المال وغيره نماء، وربما قالوا: ينمو نموا وأنماه الله إنماء، وحكى أبو عبيدة نما ينمو وينمي.
م: (وقدرها الشارع بالحول) ش: أي قدر المدة المذكورة الشارع بحولان الحول، قال شهاب الدين القرافي: سمي الحول حولا؛ لأن الأحوال تحول فيه، كما تسمى سنة لتسنية الأشياء فيها، والتسنية: التغير، وتسمى عاما؛ لأن الشمس عامت حتى قطعت جملة الفلك؛ لأنها تقطع الفلك كله في السنة مرة، وتقطع من كل شهر برجا من البروج الاثني عشر، فلذلك قال الله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] (يس: الآية 40) ، وفي " المغرب ": حال الحول دار ومضى، وحالت النخلة حملت عاما وعاما لا، وأحالت لغة، وحال الشيء تغير عن حاله، ومنه قال أستاذنا: وقد جعل حول الزكاة من الدوران والمضي، لا من التغير، فالأول مردود، وفي " الصحاح ": الحول(3/292)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السنة، والحيلة القوة.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يقال إنه إضمار قبل الذكر؛ لأن القرائن تدل عليه، والحديث رواه علي وابن عمر وأنس وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
أما حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "سننه " من رواية الحارث الأعور - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيه عاصم بن ضمرة والحارث الأعور وعاصم، وثقه ابن معين وابن المديني والنسائي، وتكلم فيه ابن حبان وابن عدي، فالحديث حسن قال النووي في " الخلاصة ": حديث صحيح أو حسن لا يقدح فيه، ضعف الحارث لمتابعة عاصم له.
وأما حديث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فرواه الدارقطني عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مرفوعا: «ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول» ، وإسماعيل بن عياش - رَحِمَهُ اللَّهُ - ضعيف.
وفي رواية عن نمير بن معين قال الدارقطني: ورواه معمر وغيره عن عبيد الله موقوفا، قال: والصواب أنه موقوف وله طرق أخرى.
وأما حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا في "سننه" عن حسان بن سياه عن ثابت عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا، ورواه ابن عدي في " الكامل " وأعله بحسان بن سياه، وقال: لا أعلم أنه يرويه عن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غيره. وقال ابن حبان: حسان بن سياه منكر الحديث جدا، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد.
وأما حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فرواه ابن ماجه في "سننه " عن حارثة بن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» ، وحارثة هذا ضعيف، وقال ابن حبان: تركه أحمد ويحيى -(3/293)
ولأنه المتمكن به من الاستنماء؛ لاشتماله على الفصول المختلفة، والغالب تفاوت الأسعار فيها فأدير الحكم عليه،
ثم قيل: هي واجبة على الفور،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رحمهما الله - م: (ولأنه المتمكن به من الاستنماء) ش: أي ولأن الحول هو الممكن على وزن اسم الفاعل من التمكين، والاستنماء طلب النماء.
م: (لاشتماله على الفصول المختلفة) ش: أي لاشتمال الحول على الفصول المختلفة، وهي: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء، فإن التجارات ما يتهيأ الاسترباح فيها في الصيف دون الشتاء، وقد يكون على العكس وكذلك في الربيع والخريف؛ فلذلك علق الاستنماء بحولان الحول، ثم لما أقيم حولان الحول مقام الاستنماء فبعد ذلك لم يعتبر حقيقة الاستنماء حتى إذا ظهر النماء أو لم يظهر يجب الزكاة كالسفر لما أقيم مقام المشقة لم يعتبر حينئذ وجود المشقة فكذلك هاهنا. م: (والغالب تفاوت الأسعار فيها فأدير الحكم عليه) ش: هذا كله جواب عن سؤال مقدر، وهو أن يقال: لم اعتبر اشتمال الحول على الفصول المختلفة؟ فأجاب بقوله: إن الغالب تفاوت الأسعار أي أسعار الأشياء فيها، أي في الفصول، فأدير الحكم عليه أي على الغالب، وشرط حولان الحول شرط الوجوب في الحجرين، وأموال التجارة والسوائم بخلاف زكاة الزرع.
والسرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جعل الحول وصفا للسبب ولم يجعله شرطا، وقال: وكلمة حتى في قوله: حتى يحول عليه الحول ليست للشرط. وقال مالك والشافعي - رحمهما الله - إذا تم النصاب بالربح عند آخر الحول تجب الزكاة، وإن لم يكن نصابا في أوله، فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
[وجوب الزكاة على الفور أم التراخي]
م: (ثم قيل هي واجبة على الفور) ش: قائله هو الكرخي، فإنه قال: هو واجب أي أداء الزكاة واجب على الفور، والمراد به أن يجب الفعل في أول أوقات الإمكان أي على الحال، كذا قال في ": المغرب " وهو في الأصل مصدر: فارت القدر إذا غلت، فاستعير للسرعة، ثم سميت به الحالة التي لا ريب فيها ولا لبث، فقيل: جاء فلان وخرج من فوره أي من ساعته، قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - المراد به أن يجب الفعل في أول أوقات الإمكان وهو أيضا قول عامة أهل الحديث.
وكذا روي عن محمد، ففي " المنتقى " عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا كان له مائتا درهم فحال عليها حولان ولم يزك فقد أساء، لا يحل له ما صنع، وعليه زكاة حول واحد، وعنه إن لم يؤد زكاته لا تقبل شهادته، وأن التأخير لا يجوز ذكره في المحيط، ومن اختار من أصحابنا أن مطلق(3/294)
لأنه مقتضى مطلق الأمر، وقيل: على التراخي؛ لأن جميع العمر وقت الأداء، ولهذا لا تضمن بهلاك النصاب بعد التفريط، وليس على الصبي والمجنون زكاة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأمر على الفور، الإمام أبو منصور الماتريدي، وفي" الميزان " عنه لا يعتقد فيه الفور ولا التراخي إلا بدليل زائد وراء الأمر، وفي " الوتري " لم يذكر في ظاهر الرواية هل يجب وجوبا موسعا أو مضيقا؟
م: (لأنه مقتضى مطلق الأمر) ش: أي لأن الفور مقتضى مطلق الأمر؛ لأن الأمر لحاجة تأخيره وهو دفع حاجة الفقير، والدليل عليه أنه إذا أدي في أول أوقات الإمكان يخرج من العهدة.
م: (وقيل على التراخي) ش: القائل هو محمد بن شجاع البلخي، وكذا روي أيضا عن أبي بكر الجصاص الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وروى هشام عن أبي يوسف أنه يسعه التأخير وفرق بينها وبين الحج أن الحج يختص بوقت يأتي في السنة مرة.
وفي التأخير تفويت وليس ذلك في الزكاة، وفي " الوتري ": لو منع السائمة عن المصدق قيل: يضمن بالهلاك كبيع الوديعة والعارية، وقيل: لا يضمن وهو الصحيح. ويمنع الزكاة على الفقير لا يضمن؛ لعدم تعينه فإن له أن يدفعها إلى غيره، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الفور ويضمن بالتأخير بعد التمكن وبإتلافه قبل التمكن وفي إتلاف الأجنبي قولان.
م: (لأن جميع العمر وقت الأداء) ش: أي وقت أداء الزكاة فلا يجوز تقييده بأول أوقات إمكان الأداء.
م: (ولهذا لا يضمن بهلاك النصاب بعد التفريط) ش: أي ولكون جميع العمر وقت الأداء لا يضمن المزكى بهلاك النصاب، أي نصاب كان بعد التفريط، أي التقصير بعدم الأداء في وقت التمكن.
وقال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يضمن كما في الاستهلاك؛ لأنه صار دينا في ذمته. قلنا: الواجب جزء من النصاب فلا يتصور بقاء الجزء بعد هلاك النصاب بخلاف ما إذا استهلكه؛ لأنه دخل في ضمانه فيبقى دينا في ذمته.
م: (وليس على الصبي والمجنون زكاة) ش: وبه قال أبو وائل، وسعيد بن جبير، والنخعي، والشعبي، والثوري، والحسن البصري - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وحكي عنه أنه إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وقال سعيد بن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا تجب الزكاة إلا على من وجبت عليه الصلاة والصيام.
وذكر حميد بن زنجويه النسائي أنه مذهب ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفي " المبسوط ":(3/295)
خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا، وعن جعفر بن محمد عن أبيه مثله، وبه قال ابن شريح - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره النسائي، وقال سائر أهل العراق: لا يرون الزكاة على الصبي ولا على وصيه، وقالوا: لا تجب الزكاة إلا على من وجبت عليه الصلاة، وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا بلغ إن شاء زكى وإن شاء ترك. وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز: تجب الزكاة في ماله ولا يخرجها الوصي، ولكن يحصيها، فإذا بلغ أعلمه حتى يزكيه بنفسه، وقال ابن أبي ليلى: الزكاة في ماله، فإن أداها الوصي ضمن، وقال ابن شبرمة: لا أزكي الذهب والفضة، ولكن أزكي الإبل والبقر والغنم وما ظهر وما غاب لم أطلبه، ذكره ابن المنذر في " الأشراف ".
م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: انتصاب خلافا على أنه مصدر فعل محذوف والتقدير: خالفنا خلافا كائنا للشافعي، وبقوله قال مالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقالوا: تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون، ويطالب الوصي والولي بالأداء، ويأثم بالترك وإن لم يخرج الولي وجب عليهما بعد البلوغ والإقامة إخراجها لما مضى من السنين.
قال السروجي: وعبارة الشافعية: لا تجب الزكاة عليهما بل تجب في مالهما. وعند الحنابلة الوجوب عليهما، ذكره في" المغني " واحتجوا في ذلك بما رواه الترمذي عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب الناس فقال: «من ولي يتيما له مال فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة» . قال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما يروى هذا الحديث من هذا الوجه وفي إسناده مقال؛ لأن المثنى يضعف في الحديث.
وقال صاحب " التنقيح ": قال مهنى: سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال: ليس بصحيح وله طريق آخر أخرجه الدارقطني في "سننه " عن عبيد الله بن إسحاق حدثنا مندل، عن أبي إسحاق الشيباني، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه.
قال الدارقطني: الصحيح أنه من كلام ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
طريق آخر أخرجه الدارقطني عن محمد بن عبيد الله العرزمي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه(3/296)
فإنه يقول: هي غرامة مالية فتعتبر بسائر المؤن، كنفقة الزوجات وصار كالعشر والخراج.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في "مال اليتيم زكاة» .
قال الدارقطني: العرزمي ضعيف، وعبيد الله بن إسحاق أيضا ضعيف، وقال صاحب " التنقيح ": هذه الطرق الثلاثة ضعيفة، واحتجوا أيضا بحديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة» . أخرجه الطبراني في " الأوسط "، حدثنا علي بن سعيد الرازي، حدثنا الفرات بن محمد القيرواني، حدثنا شجرة بن عيسى المغافري، عن محمد بن عبد الملك بن أبي كريمة، عن عمارة بن غزية يحيى بن سعيد عن أنس، وقال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن أنس إلا بهذا الإسناد.
وقال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأجاب شمس الأئمة وغيره من الأصحاب عن أحاديثهم مع أنها غير ثابتة أن المراد من الصدقة النفقة ويؤيده أنه أضاف الأكل إلى جميع المال والنفقة هي التي تأكل جميع المال.
وقال ركن الدين إمام زاده: معني فليترك ماله بالتمييز في التجارة؛ لأن الزكاة هي الزيادة وهي الثمرة، والصدقة هي النفقة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نفقة المرء على عياله صدقة» . وكذلك المراد من الزكاة زكاة الفطر ثم هو منقوض بمال الجنين فإنه لا تجب الزكاة فيه على المذهب عندهم، ذكره النووي في " شرح المهذب " فصار كالحرية والعقل فإنه لا يجب على الصبي.
م: (فإنه يقول: هي غرامة فتعتبر بسائر المؤن) ش: أي فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: هي أي الزكاة، غرامة مالية، أي حق وجب بسبب المال، والصغر لا يمنع وجوبه فيعتبر بسائر المؤن. وقال السغناقي: غرامة مالية أي وجوب شيء مالي، استعار لفظ الغرامة إلى الوجوب لما أن حقيقة الغرامة هي أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه.
م: (كنفقة الزوجات) ش: هذا من شأن المؤن، المعنى أن الزكاة لما كانت مؤنة مالية تجب عليهما كما تجب سائر المؤن، كنفقة الأبوين ونفقة الزوجات والغرامات المالية م: (وصار كالعشر والخراج) ش: أي وصار وجوب الزكاة عليهما كوجوب العشر والخراج فإنهما يؤخذان من مالهما.
فإن قلت: الزكاة واجبة فاستوى فيها الصغير والكبير كصدقة الفطر.
قلت: صدقة الفطر أجريت مجرى حقوق الآدميين، ولهذا تلزم الإنسان عن غيره وحقوق(3/297)
ولنا أنها عبادة فلا تتأدى إلا بالاختيار تحقيقا لمعنى الابتلاء، ولا اختيار لهما لعدم العقل، بخلاف الخراج؛ لأنه مؤنة الأرض،
وكذلك الغالب في العشر معنى المؤنة، ومعنى العبادة تابع
ولو أفاق في بعض السنة، فهو بمنزلة إفاقته في بعض الشهر في الصوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الآدميين يجوز أن تلزم الصبي، ولأن الفطرة تجب على رقبة الحر لا على طريق البدل فجاز اعتبارها في حق الصبي، والزكاة حق مالي لا يجب على رقبة الحر، فإن افتقر إلى النية فلا تجب على الصبي كالحج. م: (ولنا أنها عبادة مالية فلا تتأدى إلا بالاختيار تحقيقا لمعنى الابتلاء) ش: أي الحجة لنا أن الزكاة عبادة مالية؛ لأن الإسلام بني عليها، كما ورد في الحديث، قوله: فلا تتأدى، أي فلا تتحقق العبادة إلا باختيار صحيح أو باختيار ثابت يثبت ثباته عن اختيار صحيح؛ ليتحقق معنى الابتلاء، يعني أنا ابتلينا بالعقل ليظهر المطيع من العاصي، وذلك لا يكون إلا بفعل على سبيل الاختيار دون الجبر.
م: (ولا اختيار لهما لعدم العقل) ش: أي ولا اختيار للصبي والمجنون لعدم عقلهما، ولا صحة لاختيار الصبي العاقل فلا تجب عليهما الزكاة، ولهذا لو أدى الصبي العاقل بنفسه لا يصح عند الخصم، فعلم أن اختياره غير صحيح.
فإن قلت: الزكاة عبادة تجزئ فيها النيابة، فلم لا يجوز أداء الولي عنهما بسبيل النيابة؟ قلت: النيابة تثبت باختيار المنوب عنه، أو بإقامة الشرع النائب مقام المنوب عنه جبرا ولم يوجد.
أما صدقة الفطر فالقياس أن لا تجب وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي الاستحسان تجب وهو قولهما؛ لأنها مؤنة، ومعنى العبادة فيها وكذا العشر، والأمر في الخراج أظهر لأنه مؤنة فيها معنى العقوبة.
م: (بخلاف الخراج لأنه مؤنة الأرض) ش: هذا جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وصار كالعشر والخراج، أراد أن القياس عليه لا يصح؛ لأن الخراج مؤنة الأرض، لأن سبب وجوبه الأرض النامية لا الخارج فباعتبار الأصل فهو الأرض النامية مؤنة.
م: (وكذلك الغالب في العشر معنى المؤنة ومعنى العبادة تابع) ش: هذا أيضا جواب عن قول الشافعي، وصار كالعشر - يعني القياس عليه غير صحيح-؛ لأن الغالب في العشر معنى المؤنة، ولهذا لا يشترط النصاب والحول ولا يسقط بالدين قوله: ومعنى العبادة تابع؛ لأن العشر يثبت إلى الأرض لأنها أصله، ومعنى العبادة باعتبار المصرف وكون الواجب جزءا من النماء.
م: (ولو أفاق في بعض السنة، فهو بمنزلة إفاقته في بعض الشهر في الصوم) ش: أي لو أفاق المجنون في بعض الشهر، معنى هذا إذا كان مفيقا في جزء من السنة بعد ملك النصاب في أولها أو في آخرها قل ذلك أو كثر تلزمه الزكاة، كما لو أفاق في جزء من شهر رمضان في يوم أو ليلة يلزمه صوم الشهر كله. ثم الجنون على نوعين: أصلي: وهو أن يدرك مجنونا، فحكمه حكم(3/298)
وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعتبر أكثر الحول، ولا فرق بين الأصلي والعارضي وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا بلغ مجنونا يعتبر الحول من وقت الإفاقة بمنزلة الصبي إذا بلغ.
وليس على المكاتب زكاة؛ لأنه ليس بمالك من كل وجه لوجود المنافي وهو الرق، ولهذا لم يكن من أهل أن يعتق عبده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصبي، ويعتبر ابتداء الحول من حين الإفاقة؛ لأن التكليف لم يسبق هذه الحالة، فصارت الإفاقة كالبلوغ، وعارض: وهو أن يدرك مفيقا ثم يجن فحكمه أنه إذا أفاق في شيء من السنة، وإن قلت: تجب الزكاة لتلك السنة، كذا ذكره محمد في نوادر الزكاة؛ لأن المعتبر أول الحول لكونه وقت الانعقاد وآخره؛ لأنه وقت الوجوب، فكان مكلفا فيهما ولا يضره زوال العقل فيما بين ذلك.
- م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعتبر أكثر الحول ولا فرق بين الأصلي والعارضي) ش: هذا رواه هشام عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعتبر الإفاقة في أكثر الحول، وإن كان مفيقا في أكثر الحول تجب وإلا فلا؛ لأن الأكثر يقوم مقام الجميع، فإن كان مفيقا في الأكثر فقد غلب الصحة الجنون، فصار كجنون ساعة، فوجبت الزكاة، فإذا كان مجنونا في الأكثر صار كأنه جن في جميع الحول. وقال الكرخي: والذي يجن ويفيق بمنزلة الصحيح؛ لأن هذا الجنون لا يستحق به الحجر فهو كالنوم.
وأما المغمى عليه فهو كالصحيح، وفي" الأسرار ": عند زفر والشافعي إذا جن وقت صلاة أو يوما في رمضان لا تلزمه صلاة ذلك الوقت ولا صوم ذلك اليوم. قوله- ولا فرق بين الأصلي- أي بين الجنون الأصلي والجنون العارضي، يعني في ظاهر الرواية، يعني تجب الزكاة إذا أفاق في بعض السنة، ولا يعتبر ابتداء أول الحول من حين الإفاقة؛ لأن الحول مدة العبادة فإذا أفاق في جزء منه تعلق به الوجوب كما في رمضان. وأما على غير ظاهر الرواية فبين الأصلي والعارضي فرق، وقد ذكرناه.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا بلغ مجنونا يعتبر الحول من حين الإفاقة بمنزلة الصبي إذا بلغ) ش: هذا يوهم أنه رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وليس كذلك، بل هو مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه قال: إذا بلغ الصبي مجنونا يعتبر الحول من حين إفاقته عن الجنون بمنزلة الصبي إذا بلغ حيث يعتبر التكليف عليه من حين البلوغ.
[زكاة مال المكاتب]
م: (وليس على المكاتب زكاة؛ لأنه ليس بمالك من كل وجه) ش: لأنه مالك يدا لا رقبة؛ لأن رقبة للمولى م: (لوجود المنافي وهو الرق) ش: المنافي هو كونه مالكا من كل وجه وهو الرق؛ لأنه عبد ما بقي عليه درهم بالحديث على ما يأتي في بابه.
م: (ولهذا) ش: أي ولكونه غير مالك من كل وجه م: (لم يكن من أهل أن يعتق عبده) ش: لأن ملكه ناقص وهو يمنع وجوب الزكاة. وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل(3/299)
ومن كان عليه دين يحيط بماله فلا زكاة عليه، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تجب لتحقق السبب وهو ملك نصاب كامل تام، ولنا أنه مشغول بحاجته الأصلية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العلم على أن الزكاة في مال المكاتب حتى يعتق وهو قول جابر بن عبد الله، وابن عمرو، وعطاء، ومسروق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، والثوري، ومالك، والشافعي، وابن حنبل - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وقال أبو ثور وأبو عبيد وابن حزم من الظاهرية: تجب الزكاة في مال المكاتب انتهى.
وأما العبد المأذون فإن كان عليه دين يحيط بكسبه فلا زكاة فيه على أحد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن المولى يملك كسبه، وعندهما إن كان يملك فهو مشغول بالدين، والمال المشغول بالدين لا يكون نصابا بالزكاة، وإن لم يكن عليه دين فكسبه لمولاه، وعلى المولى فيه الزكاة إذا تم الحول كذا في " المبسوط ".
[زكاة المدين]
م: (ومن كان عليه دين يحيط بماله فلا زكاة عليه) ش: هو قول عثمان بن عفان، وابن عباس، وابن عمر، وطاوس، وعطاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، والحسن، وإبراهيم، وسليمان ابن يسار، والزهري، وابن سيرين، والثوري، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يمنع وجوب الزكاة في الذهب والفضة لا في الماشية. م: (وقال الشافعي: تجب) ش: أي الزكاة وللشافعية ثلاثة أقوال أصحها عنده: عدم المنع وهو نصه في معظم كتبه الجديدة قاله النووي في " شرح المهذب ".
والثاني: أنه يمنع وهو نصه في القديم وفي اختلاف العراقيين من كتبه الجديدة.
والثالث: يمنع في الأموال الباطنة كالذهب والفضة والعروض، ولا يمنعها في الأموال الظاهرة، وهي المواشي والزروع والثمار والمعادن، وسواء كان الدين حالا أو مؤجلا، ويستوي دين الآدميين ودين الله في ذلك.
م: (لتحقق السبب) ش: أي سبب وجوب الزكاة م: (وهو ملك نصاب كامل تام) ش: لأن المديون مالك لماله، فإن دين الحر الصحيح تجب في ذمته ولا تعلق له بمال، ولهذا يملك التصرف فيه كيف شاء، ثم الدين مع الزكاة حقان اختلفا محلا وسببا ومستحقا فوجوب أحدهما لا يمنع وجوب الآخر كالدين مع العشر.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن المال م: (مشغول بحاجته الأصلية) ش: لأنه صاحبه يحتاج إليه لأجل قضاء الدين، وقضاؤه لا يكون إلا من المال العين والحاجة وإن كانت صفة محض غير أنها. تستدعي محتاجا إليه وهو المال، فاستقام وصف المال به، وفي " المنافع ": مال المديون مستحق لحاجته وهي دفع المطالبة والملازمة والحبس في الدنيا والعذاب في الآخرة، وقد تعين هذا المال لقضاء هذه الحاجة فأشبه ثياب البذلة والمهنة وعبيد الخدمة ودور السكنى(3/300)
فاعتبر معدوما كالماء المستحق بالعطش وثياب البذلة والمهنة،
وإن كان ماله أكثر من دينه زكى الفاضل إذا بلغ نصابا؛ لفراغه عن الحاجة والمراد به دين له مطالب من جهة العباد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فاعتبر معدوما) ش: يعني إذا كان الأمر كذلك فاعتبر هذا المال في حكم العدم فلا تجب فيه الزكاة م: (كالماء المستحق بالعطش) ش: أي لأجل نفسه ولأجل دابته، فإنه يعد معدوما حتى يجوز التيمم مع وجوده م: (وثياب البذلة والمهنة) ش: أي وكثياب البذلة، بكسر الباء الموحدة. قال الجوهري: البذلة ما يمتهن من الثياب أي ما يستخدم، وابتذال الثوب امتهانه.
وقال ابن الأثير: التبذل ترك التزين على جهة التواضع، والمهنة بكسر الميم وفتحها الخدمة. وقال تاج الشريعة: وكأنهما أي البذلة والمهنة لفظان مترادفان، ورأيت في بعض الحواشي أن ثياب البذلة ما يلبس في أيام الجمع والأعياد، وثياب المهنة ما يلبسها في كل يوم ولم أعتمد عليه.
م: (وإن كان ماله أكثر من دينه زكى الفاضل) ش: أي عن الدين م: (إذا بلغ نصابا لفراغه عن الحاجة) ش: أي عن الحاجة المذكورة؛ لأن ملكه فيه قام ويتحقق فيه معنى الغنى، والزكاة إنما تجب على الغني.
م: (والمراد به) ش: أي المراد من قولنا ومن كان عليه دين يحيط بماله فلا زكاة عليه م: (دين له مطالب) ش: ارتفع دين على أنه خبر المبتدأ وهو قوله: والمراد، وقوله: -له مطالب- جملة من المبتدأ والخبر وقعت صفة لقوله دين، والمطالب بكسر اللام م: (من جهة العباد) ش: حال من المطالب مثل ثمن البيع والأجرة والقروض وضمان الاستهلاك ونفقة الزوجة بعد القضاء ونفقة المحارم بعد القضاء؛ إذ نفقة المحارم تصير دينا بالقضاء.
وذكر في كتاب النكاح أن نفقتهم لا تصير دينا بالقضاء حتى تسقط بمضي المدة للاستغناء عنها وقدروها بالشهر، وفي " جوامع الفقه ": الشهر طويل. وفي " الحاوي ": نفقة الصغير لا تسقط بالتأخير بعد القضاء بخلاف الكبير. وفي" المحيط " مهر المرأة يمنع مؤجلا كان أو معجلا، وقيل: المؤجل لا يمنع، وقيل: إن كان الزوج على عدم قضائه يمنع وإلا فلا؛ إذ لا يعد دينا في زعمه.
ودين العشر والخراج يمنع وغير العشر لا يمنع، ودين الزكاة مانع حال قيام النصاب وكذا بعد الاستهلاك خلافا لزفر فيهما، ولأبي يوسف في الاستهلاك، قال المرغيناني: هذا الخلاف في الأموال الباطنة، وأما الأموال الظاهرة فعينها ودينها مانعان.
وفي " التجريد ": دين الزكاة وعينها سواء في الأموال الباطنة لا يمنع وجوب الزكاة، بخلاف زكاة الأموال الظاهرة حكاه عن زفر ويمنع العشر أيضا في رواية عبد الله بن المبارك، عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي ظاهر الرواية لا يمنعه وضمان الدرك قبل الاستحقاق، وضمان الغصب الأول لرجوعه على الثاني.(3/301)
حتى لا يمنع دين النذر والكفارة
ودين الزكاة مانع حال بقاء النصاب؛ لأنه ينتقص به النصاب، وكذا بعد الاستهلاك خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيهما. ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الثاني على ما روي عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (حتى لا يمنع دين النذر والكفارة) ش: لأنه لا مطالب له من جهة العباد، وكذا صدقة الفطر ووجوب الحج، وهدي المتعة والأضحية. وفي " الجامع ": دين النذر لا يمنع، ومتى استحق من جهة الزكاة بطل النذر فيه، بيانه: له مائتا درهم نذر أن يتصدق بمائة منها وحال الحول سقط النذر بقدر درهمين ونصف؛ لأن في كل مائة استحق لجهة الزكاة درهمان ونصف، ويتصدق للنذر بسبعة وتسعين ونصف، ولو تصدق بمائة منها للنذر يقع درهمان ونصف عن الزكاة؛ لأنه متعين بتعيين الله، فلا تبطل بتعيينه ولو نذر بمائة مطلقة لزمته؛ لأن محل المنذور به الذمة، فلو تصدق بمائة منها للنذر يقع درهمان ونصف للزكاة، ويتصدق بمثلها عن النذر لأنه ينقص به النصاب.
م: (ودين الزكاة مانع حال بقاء النصاب) ش: قال تاج الشريعة: لكن الزكاة تمنع الوجوب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد في الأموال الظاهرة والباطنة سواء كان في العين أو في الذمة باستهلاك النصاب. وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تمنع. وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن كان في العين يمنع وإن كان في الذمة لا يمنع، وصورته: رجل له ألف دينار أبقاه بعد حولان الحول حتى وجبت عليه خمسة وعشرون دينارا زكاة، ثم حصل له أربعون دينارا وحال عليه الحول فعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - زكاة الألف المستهلك لا تمنع الوجوب في بقية الأربعين. وعندهما [ ... ] زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: إن هذه عبادة محضة فظهر أثر الوجوب في أحكام الآخرة فصار كالنذور والكفارات، وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: دين زكاة النصاب المستهلك لا يطالب هو به فلا يمنع بخلاف دين النصاب القائم لجواز أن يمر على العاشر فيطالبه بحق.
م: (وكذا بعد الاستهلاك) ش: أي وكذا مانع بعد استهلاك النصاب، وذلك مثل أن تجب عليه الزكاة في النصاب ثم استهلكه ثم ملك نصابا آخرا لا تجب الزكاة في ذلك النصاب م: (خلافا لزفر فيهما) ش: أي في دين الزكاة والاستهلاك أراد أن دين الزكاة ودين الاستهلاك لا يمنع وجوب الزكاة عند زفر.
م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الثاني) ش: أي في المال والذي وجب فيه دين الاستهلاك أراد أن أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا في دين الاستهلاك دون دين الزكاة، حيث يقول: إن دين الزكاة يمنع الزكاة، ودين الاستهلاك لا يمنع، وقد مر عن قريب.
م: (على ما روي عنه) ش: أي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولما لم يكن هذا جواب ظاهر الرواية لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: على ما روي عنه، وكلمة على هاهنا تصلح أن تكون(3/302)
لأن له مطالبا وهو الإمام في السوائم ونائبه في أموال التجارة، فإن الملاك نوابه،
وليس في دور السكنى، وثياب البدن، وأثاث المنازل، ودواب الركوب، وعبيد الخدمة، وسلاح الاستعمال زكاة؛ لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية، وليست بنامية أيضا،
وعلى هذا كتب العلم لأهلها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للتعليل نحو {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] (البقرة: الآية 185) ، أي لهدايته إياكم، والمعنى هاهنا لما روي عنه.
م: (لأن له) ش: أي للنصاب القائم م: (مطالبا) ش: من جهة العباد م: (وهو الإمام) ش: أي الذي له أخذ الزكاة م: (في السوائم) ش: لأنه يجوز أن يمر به فيطالبه حينئذ؛ لأن له ولاية المطالبة م: (ونائبه) ش: أي ونائب الإمام له المطالبة م: (في أموال التجارة) ش: ولكن لما أقيمت الملاك مقام النواب عن الإمام في مطالبة الزكاة عمن وجبت عليه قاموا مقام الإمام أشار إليه بقوله م: (فإن الملاك نوابه) ش: أي نواب الإمام.
وأصل هذا أن ظاهر قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] (التوبة: الآية 103) ، يثبت للإمام حق الأخذ من كل مال، ولم يفرق في الحكم بين الدينين، فلذلك كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخليفتان من بعده كانوا يأخذون إلى أن فرض عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في خلافته أداء الزكاة عن الأموال الباطنة إلى أرباب الأموال لمصلحة، فرآها في ذلك وهي أن النقد مطمع كل طامع فكره تفتيش السعاة على التجار مستور أموالهم، ففرض الأداء إليهم.
[الزكاة دور السكنى والثياب وأثاث المنازل ونحوها]
م: (وليس في دور السكنى، وثياب البدن، وأثاث المنازل، ودواب الركوب، وعبيد الخدمة، وسلاح الاستعمال زكاة؛ لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية) ش: الحاجة الأصلية ما يدفع الهلاك عن الإنسان تحقيقا أو تقديرا كالنفقة والثياب التي يحتاج إليها لدفع الحر والبرد، وكذا إطعام أهله وما يتجمل به من الأواني إذا لم تكن من الذهب والفضة، وكذا الجواهر واللؤلؤ والياقوت والبلخش والزمرد ونحوها إذا لم تكن للتجارة، وكذا لو اشترى فلوسا للنفقة ذكره في " المبسوط ".
م: (وليست بنامية أيضا) ش أي وليست هذه الأشياء المذكورة بنامية أيضا، والنماء على نوعين: خلقي كالذهب والفضة، وفعلي: بإعداده للتجارة وكلاهما معدوم في الأشياء المذكورة. وبقولنا قال الشافعي وأحمد وأبو ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
[زكاة كتب العلم وآلات الحرفيين]
م: (وعلى هذا كتب العلم لأهلها) ش: أي وعلى ما ذكرنا من عدم وجوب الزكاة حكم كتب العلم لأهلها، قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما قيد بقوله - لأهلها - لأنها إذا كانت للبيع تكون فيها الزكاة لوجود النماء بالتجارة. وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله لأهلها قيد غير مفيد؛ لما أنه لو لم يكن من أهلها وليست هي للتجارة لا تجب فيها الزكاة أيضا وإن كثرت؛ لعدم النماء، وإنما يفيد ذكر الأهل في حق مصرف الزكاة؛ لأنه إذا كانت له كتب تبلغ النصاب وهو محتاج إليها للتدريس وغيره يجوز له أخذ الزكاة، أما إذا بلغت النصاب ولم يكن محتاجا إليها لا يجوز صرف(3/303)
وآلات المحترفين لما قلنا،
ومن له على آخر دين فجحده سنين ثم قامت له بينة، لم يزكه لما مضى، معناه صارت له بينة بأن أقر عند الناس وهي مسألة مال الضمار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزكاة إليه كذا في " النهاية ".
م: (وآلات المحترفين لما قلنا) ش: إشارة إلى قوله: لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية وليست بنامية، وآلات المحترفين مثل قدور الطباخين والصباغين وقوارير العطارين. وآلات النجارين، وظروف الأمتعة، وفي" الذخيرة " لو اشترى جوالق بعشرة آلاف درهم يؤجرها فلا زكاة فيها، ولو أن نحاسا اشترى دواب ليبيعها فاشترى جلالا ومقاور وبراقع ونحوها فلا زكاة فيها إلا أن تكون في نيته أن يبيعها معها.
وإن كان من نية أن يبيعها آخر فلا عبرة بهذه النية، والآخر إذا اشترى أعيانا لا يبقى لها أثر في المعمول كالصابون والقلى والأشنان والعفص لا تجب فيها الزكاة؛ لأن ما يأخذه الأجير هو بإزاء عمله لا بإزاء تلك الأعيان، وكذا الخباز إذا اشترى حطبا وملحا للخبز فلا زكاة فيها، ولا زكاة في الشحوم والأدهان التي يدبغ بها.
وفي " المحيط ": يدهن بها، وإن كان يبقى أثرها في المعمول كالعصفر والزعفران والصبغ ففيه الزكاة، وكذا لو اشترى الخباز سمسما يجعله على وجه الخبز ففيه الزكاة، قال أبو نصر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الأصل في هذا أن ما سوى الأثمان من الأموال لا تجب فيه الزكاة حتى ينضم إلى الملك طلب النماء بالتجارة أو بالسوم.
[زكاة المال المضمار والمفقود والمغصوب]
م: (ومن له على آخر دين فجحده سنين ثم قامت له بينة لم يزكه لما مضى) ش: أي لما مضى له السنين ومعنى قوله: -ثم قامت به بينة- أي بالدين بينة ما كانت له بينة أولا، ثم صارت م: (بأن أقر) ش: المديون م: (عند الناس) ش: أو كان شهوده غائبين فحضروا بعد سنين، أو تذكروا بعد ما نسوا وإنما قيد بقوله: -ثم قامت به بينة- لأنه إذا كانت له بينة تجب عليه الزكاة.
وفي مبسوط شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولو كانت له بينة عادلة تجب الزكاة فيما مضى؛ لأنه لا يعد ناويا لما أن حجة البينة فوق حجة الإقرار، وهذه رواية هشام عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي رواية أخرى عنه قال: لا يلزمه الزكاة لما مضى وإن كان يعلم أن له بينة؛ إذ ليس كل شاهد يعدل ولا كل قاض يعدل.
م: (وهي) ش: أي هذه المسألة م: (مسألة مال الضمار) ش: المال الضمار المال الغائب الذي لا يرجى، فإذا رجي فليس بضمار عند أبي عبيد، وأصله من الضمار وهو التغييب والإخفاء، ومنه أضمر في قلبه شيئا، واشتقاقه من الضمير الضمائر. وقال ابن الأثير: الضمار: على وزن الفعال بمعنى فاعل أو مفعل، وفي " الفوائد الظهيرية ": وقيل الضمار: ما يكون الأسير عينه قائما ولكن لا يكون منتفعا به، مشتق من قولهم: بغيره ضامر وهو الذي يكون فيه أصل الحياة ولكن لا ينتفع به(3/304)
وفيه خلاف زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومن جملته المال المفقود، والآبق،
، والضال والمغصوب إذا لم يكن عليه بينة،
والمال الساقط في البحر، والمدفون في المفازة إذا نسي مكانه،
والذي أخذه السلطان مصادرة ووجوب صدقة الفطر بسبب الآبق والضال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لشدة هزله.
م: (وفيه) ش: أي وفي الضمار م: (خلاف زفر والشافعي -رحمهما الله-) ش: فعند زفر والشافعي -رحمهما الله- في الجديد وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية يجب عليه إخراج ما مضى من السنين. وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تجب عليه زكاة حول واحد؛ لأن في الزيادة ضررا عليه.
م: (ومن جملته) ش: أي ومن جملة الضمار م: (المال المفقود) ش: لأنه كالهالك لعدم قدرته عليه م: (والآبق) ش: أي والعبد الآبق أي الهارب؛ لأنه صار كالناوي لهذا لا تجب صدقة الفطر عنه.
فإن قلت: لو أعتق الآبق عن كفارة يجوز، ولو كان كالناوي لما جاز كالأعمى والزمن.
قلت: يجوز إعتاق المكاتب مع نية الملك يدا لما أن التحرير محل الرق دون اليد، والرق لا ينتقض بالإباق ولا بالكتابة.
م: (والمغصوب إذا لم يكن عليه بينة) ش: فإن كانت عليه بينة تجب، وفي" المحيط ": عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا زكاة في المغضوب والمجحود وإن كانت له بينة، إذ ليس كل شاهد يعدل وقد يفسق العدل، وفي " عدة المغني ": وإن أقر به الغاصب، وفي المرغيناني، إلا في السائمة واستبعد الرافعي وجوب الزكاة على الغاصب لعدم ملكه. قال: والجاري على القياس أن تجب على المالك ثم يغرم له الغاصب.
م: (والمال الساقط في البحر) ش: لأنه في حكم العدم م: (والمدفون في المفازة إذا نسي مكانه) ش: قيد بالمفازة احترازا عن المدفون في أرض له أو كرم أو غيط أو بيت. وقال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والمدفون في البيت نصاب عند الكل، وإن كان في أرض أو كرم اختلف المشايخ فيه وكذا في الدار الكبيرة ذكره في " البدائع ". وفي" خزانة الأكمل ": ما دفنه في غير حرزه فهو ضمار بخلاف المدفون في الحرز. وقال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا ينتقص بالدار الكبيرة لإمكان الوصول إليه.
[زكاة المال الذي صادره السلطان]
م: (والذي أخذه السلطان مصادرة) ش: هذا عطف على قوله المال المفقود، قال في " ديوان الأدب ": صادره على ماله أي فارقه، وانتصاب مصادرة على التمييز أي من حيث المصادرة. م: (ووجوب صدقة الفطر) ش: هذا مبتدأ م: (بسبب الآبق) ش: أي بسبب العبد الآبق م: (والضال)(3/305)
والمغصوب على هذا الخلاف، لهما أن السبب قد تحقق وفوات اليد غير مخل بالوجوب كمال ابن السبيل. ولنا قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا زكاة في المال الضمار ولأن السبب هو المال النامي ولا نماء إلا بالقدرة على التصرف، ولا قدرة عليه،
وابن السبيل بقدر بنائبه، والمدفون في البيت نصاب لتيسير الوصول إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي وسبب الضال، أي التائه وهو يشمل الضال من العبيد ومن الحيوان الذي تجب فيه الزكاة م (المغصوب) ش: أي وسبب المغصوب م: (على هذا الخلاف) ش: خبر المبتدأ أي على هذا الخلاف المذكور، يعني لا تجب عندنا خلافا لزفر والشافعي -رحمهما الله- م: (لهما) ش: أي لزفر والشافعي -رحمهما الله- م: (أن السبب قد تحقق) ش: أي سبب الوجوب وهو ملك النصاب النامي، وقد تحقق م: (وفوات اليد) ش: أي فوات يد المالك م: (غير مخل بالوجوب) ش: أي بوجوب الزكاة (كمال ابن السبيل) ش: لقيام ملكه وفوات يده لا يخرجه عن ملكه.
م: (ولنا قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا زكاة في المال الضمار) ش: قال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: روي هذا موقوفا ومرفوعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنقل الأصحاب، كصاحب " المبسوط " و" المحيط " و" البدائع " وغيرهم - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وقال الزيلعي: هذا غريب.
قلت: أراد أنه لم يثبت مطلقا، ثم قال: وروى أبو عبيد في كتاب " الأموال " في باب الصدقة، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا هشام بن حسان، عن الحسن البصري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا حضر الوقت الذي يؤدي الرجل فيه زكاته أدى عن كل مال وعن كل دين إلا ما كان منه ضمارا لا يرجوه.
م: (ولأن السبب هو المال النامي) ش: أي سبب وجوب الزكاة هو المال النامي، أي ملك النصاب النامي م: (ولا نماء إلا بالقدرة على التصرف ولا قدرة عليه) ش: أي على التصرف فلا زكاة، وذلك لأن النماء شرط لوجوب الزكاة، وقد يكون النماء تحقيقا، كما في عروض التجارة، أو تقديرا كما في التقدير والمال الذي لا يرجى عوده لا يتصور تحقق الاستنماء فيه، فلا يقدر الاستنماء أيضا كذلك.
م: (وابن السبيل يقدر بنائبه) ش: هذا جواب عن قول زفر والشافعي، حيث قاسا المال الضمار على ابن السبيل، وتوجيه السؤال أن ابن السبيل يقدر على الانتفاع به بنائبه بدليل تمكنه من بيعه وجواز بيعه دليل القدرة على التسليم. م: (والمدفون في البيت نصاب) ش: يعني ينعقد نصابا وقيد البيت اتفاقي؛ لأن المدفون في الحرز إذا نسي مكانه، ثم علم بعد الحول تجب فيه الزكاة سواء كان مدفونا في البيت أو في الدار هو ونحوها م: (لتيسير الوصول إليه) ش: لثبوت القدرة(3/306)
وفي المدفون في أرض أو كرم اختلاف المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -
ولو كان الدين على مقر مليء أو معسر تجب الزكاة؛ لإمكان الوصول إليه ابتداء أو بواسطة التحصيل، وكذا لو كان على جاحد وعليه بينة أو علم به القاضي لما قلنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عليه بواسطة حفر جميع البيت م: (وفي المدفون في أرض أو كرم اختلاف المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: أي مشايخ بخارى - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وأراد بالأرض المملوكة؛ لأن حكم المدفون في المغارة قد علم قبل هذا. وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وجه من قال بالوجوب أن حفر جميع الأرض ممكن فلا يتعذر الوصول إليه فيصير بمنزلة البيت والدار. ووجه من قال بعدم الوجوب أن حفر جميعها إن لم يتعذر يتعسر ويخرج، والحرج منفي حتى لو كانت دارا عظيمة والمدفون فيها ضمار فلا ينعقد نصابا.
م: (ولو كان الدين على مقر مليء) ش: أي غني مقتدر، كذا في " المغرب " وقال ابن الأثير: المليء بالهمزة: الثقة الغني، وقد ملي فهو مليء بين الملا والملأ بالمد، وقد أوقع الناس فيه بترك الهمزة وتشديد الياء.
قلت: هو من باب فعل يفعل بالضم فيهما. م: (أو معسر) ش: أي أو كان على معسر من أعسر إذا افتقر م: (تجب الزكاة لإمكان الوصول ابتداء) ش: أي لإمكان الوصول إلى الدين ابتداء بلا واسطة؛ لوجود الغنى م: (أو بواسطة التحصيل) ش: يعني في المعسر الكسب، ولأنه يمكن أن يرث مالا في الحال أو يهبه آخر.
وقال الحسن بن زياد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإن كان الدين على معسر مقر به، فمضى عليه حول، ثم قبضه فلا زكاة فيه؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به فهو كالناوي.
م: (وكذا لو كان على حاجد وعليه بينة) ش: أي وكذا تجب الزكاة لو كان الدين على جاحد، أي منكر، والحال أن عليه بينة لإمكان الوصول. وروى هشام عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الدين المجحود إذا كان لصاحبه بينة فلم يقمها حتى مضى الحول فلا زكاة فيه. وقال في " تحفة الملوك ": والصحيح رواية هشام - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن البينة قد تقبل وقد لا تقبل، فلم يمتنع ذلك من نوى المال.
م: (أو علم به القاضي) ش: أي أو علم بالدين القاضي فإنه تجب الزكاة؛ لأن القاضي يقضي بعلمه في الأموال فصاحبه قصر في الاسترداد فلا يعذر م: (لما قلنا) ش: وهو إمكان الوصول.
وروى المعلى عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الغريم إذا كان يقر في السر ويجحد في العلانية فلا زكاة في الدين؛ لعدم الانتفاع به. وروى ابن رستم عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن أودع رجلا لا يعرفه مالا فنسيه سنتين، ثم تذكره ففيه الزكاة قال القدوري: هذا صحيح.(3/307)
ولو كان على مقر مفلس فهو نصاب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن تفليس القاضي لا يصح عنده وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تجب لتحقق الإفلاس عنده بالتفليس وأبو يوسف مع محمد -رحمهما الله- في تحقق الإفلاس ومع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حكم الزكاة رعاية لجانب الفقراء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو كان على مقر مفلس) ش: أي ولو كان الدين على رجل معترف بالدين مفلس بضم الميم وفتح الفاء وفتح اللام المشددة، قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هكذا الرواية وهو الذي فلسه الحاكم، أي ناداه بإفلاسه. قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في بعض النسخ: مفلس من الإفلاس، يعني بسكون الفاء وكسر اللام الخفيفة، قال: والمعنى والحكم مختلفان باختلاف اللفظ، أما المعنى فيقال: أفلس الرجل صار مفلسا أي صارت دراهمه فلوسا كما يقال: أخبث الرجل إذا صار أصحابه خبثا، وأما أفلسه القاضي، أي نادى عليه أنه أفلس، وأما الحكم فقال بعض المشايخ -رحمة الله عليهم-: الخلاف في التفليس لا في الإفلاس؛ فإن في الإفلاس الدين عليه نصاب بالاتفاق فيزكيها إذا قبض، وأما بعد التفليس فنصاب عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما هو أصله. وتعليل الكتاب بقوله: لأن تفليس القاضي يدل على أن اللفظ بالتشديد.
م: (فهو نصاب عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: يعني تجب الزكاة فيه قبل القبض م: (لأن تفليس القاضي لا يصح عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأن المال غاد ورائح، فذمته بعد التفليس صحيحة كما هي قبله.
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تجب) ش: أي الزكاة م: (لتحقق الإفلاس عنده بالتفليس) ش: أي عند تفليس القاضي؛ لأنه يصير بمنزلة المال الناوي، والمحجود بمنزلة ما ضاع من ماله بحيث لا يقدر عليه، كذا ذكره الجصاص - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغيره م: (وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع محمد في تحقق الإفلاس) ش: حتى تسقط المطالبة إلى وقت اليسار م: (ومع أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حكم الزكاة) ش: يعني تجب الزكاة لما مضى عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- م: (رعاية لجانب الفقراء) ش: أي لأجل رعاية جانبهم.
وذكر أبو اليسر - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول أبي يوسف، مع قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في عدم الوجوب مطلقا من غير اختلاف الرواية بناء على اختلافهم في تحقق الإفلاس.
وفي " جامع الكردري ": وهذا في المفلس الذي فلسه القاضي؛ لأن عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يتحقق الإفلاس خلافا لهما، وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ترك أصله احتياطا لأمر الزكاة ورعاية لجانب الفقراء.
وقال الكاكي: وعلى هذا الخلاف وجوب صدقة الفطر بسبب العبد الآبق والضال والمفقود والمغصوب إذا لم يكن للمالك بذلك بينة وحلف. وذكر التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولم(3/308)
ومن اشترى جارية للتجارة ونواها للخدمة بطلت عنها الزكاة؛ لاتصال النية بالعمل وهو ترك التجارة، وإن نواها للتجارة بعد ذلك لم تكن للتجارة حتى يبيعها؛ فيكون في ثمنها زكاة؛ لأن النية لم تتصل بالعمل إذ هو لم يتجر فلم تعتبر، ولهذا يصير المسافر مقيما بمجرد النية ولا يصير المقيم مسافرا إلا بالسفر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يذكر وجوب الأضحية على قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وينبغي أن لا يجب؛ لأن نفس الملك لا يدفع إمكان الوصول، لا يكفي لوجوب الأضحية كما في ابن السبيل بخلاف الزكاة، فإن الملك مع إمكان الوصول يكفي لوجوبها.
[حكم من اشترى جارية أو شيئا للتجارة ثم نواه للخدمة أو القنية]
م: (ومن اشترى جارية للتجارة ونواها للخدمة بطلت عنها الزكاة لاتصال النية بالعمل وهو ترك التجارة) ش: لأن النية إذا كانت مقرونة بالعمل كانت واجبة الاعتبار؛ لأن النية لتمييز ما اختلف من أنواع الفعل فلا تتصور مع عدم الفعل، والتجارة عمل مخصوص، والاستخدام ترك ذلك العمل، ولما نواها للخدمة وترك التجارة فيها اتصل المنوي بالعمل الذي هو إمساك الاستخدام فيعتبر فتبطل الزكاة. وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تصير للخدمة بمجرد النية [وقال السغناقي بعد قوله: وإن اشترى جارية إلى آخره: ولو ورث مالا فنوى به التجارة لا يكون للتجارة بالإجماع على ما يأتي.
وفي " شرح المهذب " للنووي: وإن ملكه بعقد فيه عوض كالبيع والإجارة والخلع، ولم ينو عند العقد أن يكون للتجارة لم يكن للتجارة، وإن نوى التجارة عنده صار للتجارة، وإن زوج أمته به أو ملكته الحرة بالنكاح ففي أصح الوجهين يكون للتجارة بالنية، وإن ملكه بإرث أو وصية بغير عوض لا يصير للتجارة بالنية كذا في الاحتطاب والاحتشاش والاصطياد والرد بالعيب] .
م: (وإن نواها للتجارة بعد ذلك) ش: أي بعد أن نواها للخدمة، م: (لم تكن للتجارة حتى يبيعها فيكون في ثمنها زكاة؛ لأن النية) ش: أي لأن النية للتجارة م: (لم تتصل بالعمل إذ هو لم يتجر فلم تعتبر) ش: أي لأن نيته التجارة؛ لأن التجارة تصرف فلا يحصل إلا بالفعل، بخلاف الخدمة فإنها ترك التصرف فيحصل بمجرد النية.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل اعتبار النية عند اتصالها بالعمل وعدم انفصالها عن العمل م: (يصير المسافر مقيما بمجرد النية ولا يصير المقيم مسافرا إلا بالسفر) ش: لأن الإقامة ترك السفر فيوجد ذلك بمجرد النية، والصائم لا يكون مفطرا بمجرد النية للإفطار، ويصير صائما بمجرد النية في وقته، والمسلم يصير كافرا بنية الكفر إذا اعتقده، والكافر لا يصير مسلما بمجرد النية ما لم يسلم بلسانه، والعلوفة لا تصير سائمة بمجرد نية الإسامة، بخلاف ما لو كانت سائمة فنوى أن تكون علوفة.
وفي " المبسوط ": لو نوى أن تكون سائمة علوفة أو عوامل فمضى عليها الحول تجب فيها(3/309)
وإن اشترى شيئا ونواه للتجارة كان للتجارة؛ لاتصال النية بالعمل، بخلاف ما إذا ورث ونوى التجارة لأنه لا عمل منه،
ولو ملكه بالهبة أو بالوصية أو النكاح أو الخلع أو الصلح عن القود ونواه للتجارة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزكاة؛ لأن نيته لم تتصل بالعمل كنية التجارة والسفر وهي نية بالسفر ولا كذلك نية الخدمة.
م: (وإن اشترى شيئا ونواه للتجارة كان للتجارة لاتصال النية بالعمل) ش: وهو الشراء بنية التجارة قال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذكره مطلقا ولم يقيده بشيء، وهو ليس بمجرد على إطلاقه بل هو في الشيء الذي تصح فيه التجارة، وأما إذا اشترى شيئا لم تصح فيه نية التجارة لا يصير للتجارة، بأن اشترى أرضا عشرية أو خراجية بنية التجارة فإنه لا يجب فيها زكاة التجارة؛ لأن نية التجارة لا تصح فيها، لأنها لو صحت يلزم فيها اجتماع الحقين بسبب واحد وهو الأرض، وهذا لا يجوز، فإذا لم يصح بقيت الأرض على ما كانت، وكذا لو اشترى بذورا للتجارة وزرعه في أرض عشرية استأجرها كان فيه العشر لا غير، كذا في " مبسوط شيخ الإسلام " " وفتاوى قاضي خان " - رحمهما الله - انتهى.
وقال النووي: لو نوى التجارة بعد العقد لم يصيره للتجارة، وقال الكاربيسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من الشافعية تصير للتجارة، وهو مذهب أحمد وإسحاق وابن راهويه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وفي " الذخيرة ": للمالكية لو اشترى عرضا فنوى به القنية سقطت الزكاة عنه. وقال أشهب: لا تبطل التجارة بنية القنية إذا اشترى للتجارة أقوى من القنية.
وفي " الجلابي ": لو اشترى عرضا للقنية ثم نوى به التجارة لا يصير للتجارة بل يستقبل حولا بعد البيع، كقول أبي حنيفة والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
م: (بخلاف ما إذا ورث ونوى التجارة؛ لأنه لا عمل منه) ش: يعني لا يكون للتجارة بالإجماع؛ لأن النية تجردت عن العمل، وهو معنى قوله -لا عمل- لأن الميراث يدخل في ملكه بغير عمله وصنعه، حتى إن الجنين يرث وإن لم يكن له فعل، وكذا إذا ورث الرجل قريبه ونوى به عن كفارة يمينه لا تجوز إجماعا.
م: (ولو ملكه) ش: أي ولو ملك الشيء م: (بالهبة) ش: بأن وهبه له شخص م: (أو بالوصية) ش: أي أو ملكه بالوصية بأن أوصى شخص له به م: (أو بالنكاح) ش: أو ملكه بالنكاح، والمراد به المهر الذي كان دينا.
فإذا كانت المرأة تملك منه ما فرض الله له م: (أو بالخلع) ش: أي أو ملكه بالخلع بأن خالع امرأة على شيء م: (أو بالصلح عن القود) ش: أي أو ملكه بالصلح عن القصاص. م: (ونواه للتجارة) ش: أي ونوى ذلك الشيء الذي ملكه في الصور المذكورة للتجارة.(3/310)
كان للتجارة عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لاقترانها بالعمل، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يصير للتجارة؛ لأنها لم تقارن عمل التجارة وقيل الاختلاف على عكسه،
ولا يجوز أداء الزكاة إلا بنية مقارنة للأداء أو مقارنة لعزل مقدار الواجب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (كان للتجارة عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لاقترانها بالعمل) ش: أي لاقتران النية بالعمل، لأن التجارة عقد اكتساب المال فيما لا يدخل في ملكه إلا بقوله فهو كسبه فصح اقتران النية به فكان للتجارة كالمشتراة.
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يصير للتجارة لأنها) ش: أي لأن النية م: (لم تقارن عمل التجارة) ش: لأن هذه العقود ليست من عقود التجارة، ألا ترى أن الإذن في التجارة، لا يتضمن هذه العقود ولا يملكها المضارب ولا العبد المأذون وهما يملكان التصرف في عقود التجارات.
م: (وقيل: الاختلاف) ش: أي الاختلاف المذكور بين أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (على عكسه) ش: أي على عكس الاختلاف المذكور وهو ما نقله الأسبيجابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الطحاوي " عن القاضي الشهيد أنه ذكر في المختلفة هذا الاختلاف على عكس هذا وهو أن عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمة الله عليهما- لا يكون للتجارة وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكون للتجارة، والاختلاف المذكور أولا هو الذي ذكره الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كان عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكون للتجارة وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يكون كالموروثة.
[اشتراط النية في الزكاة]
م: (ولا يجوز أداء الزكاة إلا بنية مقارنة للأداء) ش: اشتراط النية بالإجماع إلا الأوزاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: لا يفتقر إخراج الزكاة إلى النية، كالعتق والوقف والوصية للفقراء مع أنها عبادة وقلنا: إن الزكاة فرض مقصود لعينه فلا بد من النية كالصلاة والصوم، ثم إذا وجدت النية مقارنة للأداء فلا إشكال؛ لأنه هو الأصل لأن العبادة لا تمتاز بالنية المقارنة إلا أنه اكتفى بوجود النية عند العزل أشار إليه بقوله: م: (أو مقارنة لعزل مقدار الواجب) ش: لأن اشتراط النية مع تفريق الدفع في كل مرة فيه حرج وذلك مدفوع شرعا، واكتفى بالنية عند العزل.
فإن قلت: يرد على هذا ما ذكره الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن من امتنع عن أدائها فأخذها الإمام منه كرها، فوضعها في أهلها أجزأت عنه، وفي هذه الصورة لم توجد النية.
قلت: للإمام ولاية أخذ الصدقات فقام دفعه مقام دفع المالك كالأب يعطي صدقة الفطر جائز مع عدم نية الصغير لوجود نية من له ولاية الإعطاء.
وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله - مقارنة للأداء عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أو(3/311)
لأن الزكاة عبادة، فكان من شرطها النية، والأصل فيها الاقتران إلا أن الدفع يتفرق فاكتفى بوجودها حالة العزل تيسيرا كتقديم النية في الصوم،
ومن تصدق بجميع ماله لا ينوي الزكاة سقط فرضها عنه استحسانا، لأن الواجب جزء منه فكان متعينا فيه فلا حاجة إلي التعيين، ولو أدى بعض النصاب سقط زكاة المؤدى عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مقارنة للعزل عن محمد - وللشافعي فيما إذا عزل مقدار الواجب بالنية ثم دفعه للفقير بلا نية وجهان أظهرهما أنه يجوز.
وفي " الإيضاح ": لو نوى أن يؤدي الزكاة فجعل يؤدي إلي آخر السنة ولا تحضره النية لا يجوز لأن النية لم تقترن بالعزل، وفي " المجرد " عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو قال: تصدقت إلى آخر السنة فقد نويته من الزكاة، فجعل يتصدق بدون النية أرجو أن يجزئه. وفي " العيون ": وعنه خلاف هذا. وعند مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يشترط قران النية بالأداء وعند أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يستحب ويجوز التقديم بزمان يسير، وفي " منية المفني ": قال أبو جعفر الهندواني: لا تجوز الزكاة إلا بنية مخالطة لإخراجها، وعن محمد بن سلمة البلخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا تصدق ولم تحضره النية ينظر إن كان وقت التصدق بحال لو سئل عما يتصدق أمكنه الجواب من غير فكرة تجزيه ويكون ذلك نية منه.
م: (لأن الزكاة عبادة) ش: مستقلة بذاتها م: (فكان من شرطها النية) ش: لأن الأعمال بالنية م: (والأصل فيها) ش: أي في النية م: (الاقتران) ش: أي اقترانها بالأداء م: (إلا أن الدفع) ش: أي دفع الزكاة م: (يتفرق) ش: لأنه ربما لا يؤديها دفعة واحدة ويدفع شيئا بعد شيء م: (فاكتفى بوجودها) ش: أي بوجود النية م: (حالة العزل) ش: أي حال عزل المقدار الواجب م: (تيسيرا) ش: أي لأجل التيسير للمزكي لدفع الحرج م: (كتقديم النية في الصوم) ش: فإنه يجوز للفجر عن اقتران النية بأول الصبح.
[حكم من تصدق بمال لا ينوي به الزكاة]
م: (ومن تصدق بجميع ماله لا ينوي الزكاة) ش: أي حال كونه لم ينو الزكاة م: (سقط فرضها عنه) ش: أي سقط فرض الزكاة عنه يعني ليس عليه زكاة بعد ذلك م: (استحسانا) ش: لا قياسا لأن القياس عدم السقوط وهو قول زفر ومالك والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ورواية عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن النفل والفرض كلاهما مشروعان فلا بد من نية التعيين وجه الاستحسان وهو قوله. م: (لأن الواجب جزء منه) ش: أي من جميع المال م: (فكان) ش: أي الجزء منه م: (متعينا فيه فلا حاجة إلى التعيين) ش: لأن التعيين إنما شرط لمزاحمة سائر الأجزاء، فلما أدى الجميع على وجه القربة زالت المزاحمة فسقط الفرض لوجود أداء الجزاء الواجب ضرورة، وهذا كالصوم في رمضان لأنه نصاب بمطلق الاسم لتعيينه فلا يحتاج إلى التعيين. م: (ولو أدى بعض النصاب سقط زكاة المؤدى) ش: بفتح الدال م: (عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن(3/312)
الواجب شائع في الكل، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تسقط لأن البعض غير متعين لكون الباقي محلا للواجب بخلاف الأول والله أعلم بالصواب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الواجب شائع في الكل) ش: فلو تصدق بالجميع أجزأه عن زكاته، وكذا إذا تصدق بالبعض أجزأه عن قدره وعن أبي حنيفة كقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يسقط لأن البعض غير متعين لكون الباقي محلا للواجب) ش: أي لواجب الزكاة لمزاحمة سائر الأجزاء م: (بخلاف الأول) ش: وهو التصدق بالجميع لعدم المزاحمة فيه.
[فروع في اشتراط النية في الزكاة] 1
فروع: في " الإيضاح "، تصدق بخمسة ونوى بها الزكاة بالتطوع يقع عن الزكاة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الفرض أقوى، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كفت نيته وبه قال مالك والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وفي " الروضة ": دفع إلى فقير بلا نية ثم نواه عن الزكاة، إن كان قائما في يد الفقير أجزأه وإلا فلا، ولو أعطى رجلا مالا ليتصدق تطوعا فلم يتصدق المأمور حتى نوى الأمر عن الزكاة ولم يقل شيئا ثم تصدق به المأمور يقع عن الزكاة، وكذا لو قال له تصدق عن كفارة يمين ثم نواه عن الزكاة، ولو دفع زكاته إلى رجل ليدفعها إلى المصدق عن نصاب الشاة، ثم حول منه إلى الإبل فهو على الأول بخلاف أموال التجارة، فإنها عن الزكاة، ولو خلط الوكيل دراهم المزكي ثم تصدق بها عن زكاتهم فهو ضامن.
وفي " المحيط ": وهب دينه مائتي درهم ممن عليه بعد الحول والمديون غني لم تسقط الزكاة وضمنها.
وفي النوادر: لا يضمن ولو كان فقيرا ولم ينو الزكاة أجزأه عن زكاة هذا الدين استحسانا، ولو تصدق به أجزأه قياسا واستحسانا، وقيل: هما سواء.
وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمن زكاته ولو وهب كل الدين ممن عليه الدين وهو فقير بنية الزكاة عين أو دين آخر على غيره لا يجزئه قياسا واستحسانا ونية زكاة هذا الدين يجزئه استحسانا لا قياسا.
وقال السروجي: أداء العين عن الدين يجوز لأن العين خير من الدين وأداء الدين عن العين لا يجوز وهو أن يكون له على رجل مائتا درهم وحال عليها الحول وله على آخر خمسة دراهم جعلها من المائتين لا يجوز.
وفي " المغني ": أداء الدين عن العين في الزكاة لا يجوز لأنه إسقاط والواجب فيها التمليك وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولو دفع دراهم إلى وكيله ليتصدق بها تطوعا ثم نوى عن(3/313)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
زكاة ماله فتصدق بها المأمور جاز، ذكره في " منية المفتي " ومثله في " شرح المهذب "، ولو أدى الزكاة عن مال غيره فأجاز المالك وهو قائم في يد الفقير يجوز وإلا فلا.
ولو أدى زكاة غيره من مال نفسه بغير أمره فأجازه لا يجوز وبأمره يجوز. له مائة دين، ومائة عين تجب فيها الزكاة ذكر هذه المسائل في " منية المفتي "، وتعتبر نية الموكل في الزكاة دون الوكيل، ولو لم يعلم المسكين أنه زكاة يجزئه؛ لأن النية للمزكي قاله شيخ الإسلام، وفي جميع العلوم عن أصحابنا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن من أعطى مالا بنية الصدقة والمتصدق عليه لا يعلم أنه يعطيه صدقة لم يكن صدقة، ولم يجزئه عن الزكاة.
نوى الزكاة بما يدفع لصبيان أقاربه في العيدين، أو لمن يأتي بالبشارة، أو لمن يأتي بالباكورة أجزأه عن الزكاة؛ لأن شيئا من ذلك ليس بواجب.
ولو نوى المعلم الزكاة بما يدفع إلى خليفته ولم يستأجره إن كان الخليفة بحال لو لم يدفعه يعلم الصبيان أجزأه وإلا فلا، وكذا ما يدفع إلى الخدم من الرجال والنساء الذين لم يستأجرهم في الأعياد وغيرها بنية الزكاة كذا في " المجتبى ".(3/314)
باب صدقة السوائم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب صدقة السوائم] [حكم صدقة السوائم]
م: (باب صدقة السوائم) ش: أي هذا باب في بيان حكم صدقة السوائم، وأراد بالصدقة الزكاة كما في قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] (التوبة: آية 60) ، والسوائم: جمع سائمة وهي المال الراعي، كذا قال صاحب " الديوان " - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قولهم: سامت الماشية إذا رعت، وأسامها صاحبها إسامة، وعن الأصمعي: كل إبل ترعى ولا تعتلف في الأهل فهي سائمة كذا في " المغرب ".
وفي " التحفة ": السائمة: هي التي تسام في البراري لقصد الدر والنسل لا لقصد الحمل والركوب والبيع، وفي التي تسام لقصد البيع زكاة تجارة، ثم الشرط أن تسام في غالب السنة لا في جميع السنة، وإنما اعتبر السوم ليتحقق النماء، والنماء يحصل بالزيادة فيها سمنا أو بالتوالد، وإنما يعد زيادة إذا خفت المؤنة، فإذا تراكمت عليه المؤنة بالعلف لا يحصل معنى، وإذا اعتبر السوم اعتبر الأعم والأغلب؛ لأن الحكم للغالب.
فإن قلت: ما وجه البداءة بصدقة المواشي، ثم البداءة بذكر الإبل؟
قلت: لأن قاعدة هذا الأمر كانت في العرب وهم أرباب المواشي، والبداءة بذكر الإبل؛ لأن كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كتبه لأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكتبه أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان هكذا.
وفي " المبسوط ": بدأ محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كتاب الزكاة بذكر زكاة المواشي إقتداء بكتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه بدأ فيها بزكاة المواشي، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لأن زكاة الماشية السائمة مجمع عليها خصوصا في حق الإبل، فإن الأحاديث اتفقت إلى مائة وعشرين، وعليه اجتمعت الأمة إلا ما شذ عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه قال: في خمس وعشرين خمس شياه، وفي ست وعشرين بنت مخاض.
قال سفيان الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا غلط وقع من رجال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأما علي فإنه أفقه من أن يقول هكذا؛ لأن هذا موالاة بين الواجبين لا وقص بينهما، وهو خلاف أصول الزكاة، فإن مبنى الزكوات على أن الوقصة يتلو الوجوب، وسيجيء مزيد الكلام فيه إن شاء الله تعالى.(3/315)
فصل في الإبل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في زكاة الإبل] [نصاب زكاة الإبل والقدر الواجب فيها]
م: (فصل في الإبل) ش: أي هذا فصل في بيان زكاة الإبل، وقد علم أن الكتاب يجمع الأبواب، والباب يجمع الفصول، والفصل منها وصل ينون ومنها قطع لا ينون؛ لأن الإعراب لا يكون في المفردات والإبل بكسر الهمزة والباء ويجوز تسكين الباء تخففا وهو فعل، ومثله في الصفات البلز: وهي المرأة القصيرة العظيمة الجثة.
وقال ابن الحاجب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا ثالث لهما، وذكر الميداني - رَحِمَهُ اللَّهُ - أربعة وزاد علها أطلا: وهو الحاضر، وأبدا للوحشية من الحيوان التي تلد كل عام، وقال الجوهري: الإبل على وزن الإبل المولود من أمه أو أتان. وقال ابن عصفور في المقنع فيما زعم سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يأت فعل، والإبل الإبلز لا حجة فيه؛ لأن الأشهر فيه بلز بالتشديد، فيمكن أن يكون تخفيفا ولا حجة في أطل؛ لأنه لم يأت إلا في الشعر نحو قول امرئ القيس في - شعر-:
له أطل ظبي وساق نعامة
فيجوز أن يكون فيما التقت الطاء والهمزة للضرورة، وجاونة: لغة في الوتد، وجه للفلج عن الأسنان، وأبط، وحلج، وحلب. والإبل: جنس يقع على الذكور والإناث ولفظهما مؤنث تقول: إبل سائمة، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع ": الإبل الجمل والبعير والجزور أجناس، والناقة للأنثى، وفي " الصحاح ": الإبل اسم جمع لا واحد لها من لفظها ولكن مؤنثة، ولا تدخلها أنثاه إلا في التصغير، والجمل زوج الناقة والبعير بمنزلة الإنسان، ويقال للجمل: بعير وللناقة بعير، وشربت من لبن بعيري، ولا يقال له بعير إلا إذا أجزع، ولا جمل إلا إذا أربع، والجزور يقع على الذكر والأنثى وهي مؤنثة.
وقال النووي: يقول أهل اللغة: يقال لولد الناقة إذا وضعته ربع بضم الراء، وفتح الباء الموحدة، والأنثى ربعة ثم هيع وهيعة.
وفي " الصحاح ": الربع الفصيل ينتج في الربيع وهو أول النتاج، فإذا أنتج في آخره هيع وهيعة، وناقة مربع تنتج في الربيع فهي مرباع أيضا.
وفي " الذخيرة ": الهيع الذي يولد لغير حينه، فإذا فصل عن أمه فهو فصيل، وهو في جميع السنة حوار. وقيل: أول ما يخرج يسمى سليلا، ثم حوارا إلى أن يفصل، ثم فصيلا إلى تمام الحول، فإذا دخل في السنة الثانية فهو مخاض، والأنثى بنت مخاض مضافا إلى النكرة، وقد يضاف إلى المعرفة يسمى بذلك؛ لأن أمه حملت بعده وهي ماخض.(3/316)
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ليس في أقل من خمس ذود صدقة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يقال: مخضت الحامل مخاضا أي أخذها وجع الولادة، ومنه قَوْله تَعَالَى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 23] (مريم: آية 23) ، أو لأنها ألحقت بالمخاض من النوق، والمخاض أيضا النوق الحامل، واحدتها خلفة، فإذا دخل في السنة الثالثة فهو ابن لبون والأنثى ابنة لبون.
سمي بذلك؛ لأن أمه وضعت غيره فصارت ذات لبن بالباء غالبا، وإذا دخل في الرابعة فهو حق، والأنثى حقة؛ لأنه استحق أن يحمل، ويركب، واستحقت ضراب الفحل، وتحمل منه إذا كانت أنثى، ولهذا جاء في الحديث طروقة الفحل وطروقة الحمل؛ يعني مطروقة كحلوبة، وركوبة ثم إذا طعن في الخامسة فهو جذع بفتح الذال المعجمة، والأنثى جذعة، وهي آخر الأسنان المنصوص عليها في كتاب الزكاة وما فوقها من الكرائم.
وإذا طعن في السادسة فهو ثني والأنثى ثنية، سمي بذلك لإلقائه ثنيتيه وهو أول الأسنان المجزئة في الأضحية من الإبل. وفي السابعة رباع ورباعية، قال المطرزي: بفتح الراء والباء.
وقال النووي: رباع بضم الراء ولا يزال رباعا أو رباعية حتى تدخل السنة الثامنة فهو سدس، فإذا دخل في التاسعة فهو بازل الذكر والأنثى؛ لأنه بذل نابه أي طلع، وفي العاشرة مخلف للذكر والأنثى، فإذا كبر فهو عود والأنثى عودة، ومنه وافق العود بالعود يهرم، فإذا هرم فهو قحم بفتح القاف وكسر الحاء المهملة، والاثنان ناب وشارف.
وقال الأزهري: الشارف: المسنة الهرم، والبكر: الصغير من ذكور الإبل، والمهاري الإبل منسوبة إلى مهرة بن حيدان قوم من أهل اليمن، والأرحبية من إبل اليمن، وكذا النجدية والفصلية بها صلابة الكرام بلغ الواحد منها مائة دينار والقونلية إبل الترك، والعرايج فحول سندية ترسل في الضراب فتنتج البخت، والواحد بختي، كروم ورومي وتركي، [....
... ] والفالج قيل: هو الجمل الضخم ذو سنامين.
م: (قال: ليس في أقل من خمس ذود من الإبل السائمة صدقة) ش: إضافة الخمس إلى الذود من قبيل إضافة العدد إلى تمييزه، كما في قَوْله تَعَالَى {تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل: 48] والذود بفتح الذال المعجمة وسكون الواو من الإبل من الثالثة إلى العشرة، وقيل: من اثنين إلى تسعة وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها.
قوله: صدقة أي زكاة، كما في قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] (التوبة: آية 60) . وفي " المبسوط ": إنما وجبت الزكاة في الخمس من الإبل؛ لأنها مال كثير لا يمكن إخلاؤه من الواجب، ولا إيجاب واحد منها للإجحاف بالملاك ولا إيجاب جزئها؛ لأن الشركة في العين عيب، فكان إيجاب الشاة فيها كإيجاب الخمسة في المائتين؛ لأن الغالب أن بنت(3/317)
فإذا بلغت خمسا سائمة، وحال عليها الحول ففيها شاة إلى تسع، فإذا كانت عشرا ففيها شاتان إلى أربع عشرة، فإذا كانت خمس عشرة ففيها ثلاث شياه إلى تسع عشرة. فإذا كانت عشرين ففيها أربع شياه إلى أربع وعشرين، فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض وهي التي طعنت في الثانية إلى خمس وثلاثين، فإذا كانت ستا وثلاثين ففيها بنت لبون وهي التي طعنت في الثالثة إلى خمس وأربعين، فإذا كانت ستا وأربعين ففيها حقة، وهي التي طعنت في الرابعة إلى ستين، فإذا كانت إحدى وستين ففيها جذعة، وهي التي طعنت في الخامسة إلى خمس وسبعين، فإذا كانت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون إلى تسعين، فإذا كانت إحدى وتسعين ففيها حقتان إلى مائة وعشرين، بهذا اشتهرت كتب الصدقات من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المخاض قيمتها أربعون درهما، والمأمور به ربع العشر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هاتوا ربع عشر أموالكم» ، والشاة تقرب ربع عشر الإبل، فإن الشاة كانت تقوم بخمسة دراهم هناك.
م: (فإذا بلغت خمسا سائمة وحال عليها الحول ففيها شاة إلى تسع، فإذا كانت عشرا ففيها شاتان إلى أربع عشرة، فإذا كانت خمس عشرة ففيها ثلاث شياه إلى تسع عشرة، فإذا كانت عشرين ففيها أربع شياه إلى أربع وعشرين، فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض) ش: على هذا اتفقت الآثار وأجمع العلماء، إلا ما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: في خمس وعشرين خمس شياه، وفي ست وعشرين بنت مخاض.
وروي ذلك عن الشعبي وشريك بن عبد الله، ذكره السغناقي في " شرح البخاري " عنه، وبه قال ابن أبي مطيع البلخي وقد مر الكلام في أوائل الباب م: (وهي التي طعنت في الثانية) ش: أي ابنة المخاض هي التي دخلت في السنة الثانية م: (إلى خمس وثلاثين، فإذا كانت ستا وثلاثين ففيها بنت لبون، وهي التي طعنت في الثالثة إلى خمس وأربعين، فإذا كانت ستا وأربعين ففيها حقة، وهي التي طعنت في الرابعة إلى ستين، فإذا كانت إحدى وستين ففيها جذعة، وهي التي طعنت في الخامسة إلى خمس وسبعين، فإذا كانت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون إلى تسعين، فإذا كانت إحدى وتسعين ففيها حقتان إلى مائة وعشرين) .
ش: اعلم أن الشرع جعل الواجب في نصاب الإبل الإبلَ الصغار دون الكبار، بدليل أن الأضحية لا تجوز بها وإنما تجوز بالثني فصاعدا من السدس، والبازل، وإنما اختار ذلك تيسيرا لأرباب المواشي، وجعل الواجب أيضا من الإناث لا الذكور حتى لا يجوز الذكر إلا بالقيمة، ولهذا لم يجز الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أخذ ابن المخاض؛ لأنه لا يجوز دفع القيمة، بل قال: يؤخذ مكان بنت مخاض ابن لبون؛ لأن الأنوثة تعد فضلا في الإبل، وقد جاءت السنة بتعيين الوسط، فلم يعين الأنوثة في البقر والغنم؛ لأن الأنوثة فيهما لا تعد فضلا. م: (بهذا اشتهرت كتب الصدقات عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي بما ذكر القدوري من كيفية زكاة الإبل اشتهرت، أي(3/318)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بلغت إلى الشهرة حتى عدت من الأخبار المشاهير التي هي قسم من المتواتر، فيها كتاب أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رواه البخاري في "صحيحه "، وفرقه في ثلاثة أبواب متوالية، عن ثمامة أن أنسا حدثه أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب له هذا الكتاب لما أرسله إلى البحرين:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المسلمين، والتي أمر الله تعالى بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين فليعطها على وجهها، ومن سئل فوقه فلا يعطي: في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها جذعة، فإذا بلغت هي ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الفحل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقه، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيه صدقة إلا أن يشاء بها، فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة.
وجاءنا كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، واللفظ للترمذي، عن سفيان بن حصين، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، فقرنه بسيفه، فلما قبض عمل به أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حتى قبض، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حتى قبض.
وكتابه فيه: في خمس من الإبل شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض إلى خمس وثلاثين، فإذا زادت ففيها بنت لبون إلى تسعين، فإذا زادت ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون» . الحديث.
وهو مرسل، ورفعه سفيان بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال المنذري: سفيان بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج له مسلم في مقدمة كتابه، واستشهد به البخاري، إلا أن حديثه عن الزهري فيه مقال.
وقد تابع سفيان بن حصين على رفعة سليمان بن كثير - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو ممن اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه، وقال الترمذي في كتاب " العلل ": سألت محمد بن إسماعيل - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن هذا الحديث فقال: أرجو أن يكون محفوظا، وسفيان بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صدوق.(3/319)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مسنده" والحاكم في "مستدركه "، وقال: سفيان بن حسين وثقة يحيى بن معين - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أحد أئمة الحديث، إلا أن الشيخين لم يخرجا له، وله شاهد صحيح، وإن كان فيه إرسال.
وقال ابن عدي: وقد وافق سفيان بن حسين على رفعه: سليمان بن كثير، أخو محمد بن كثير: حدثناه ابن صاعد، عن يعقوب الدورقي، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سليمان بن كثير - رَحِمَهُ اللَّهُ - بذلك، وقد رواه جماعة عن الزهري عن سالم، عن أبيه فوقفوه، وسفيان بن حسين، وسليمان بن كثير -رحمهما الله- رفعاه.
ومنها كتاب عمرو بن حزم - رَحِمَهُ اللَّهُ - أخرجه النسائي في الديات، وأبو داود في " مراسيله " عن سليمان بن أرقم، عن الزهري، عن أبي بكر محمد بن الفضل، عن عمرو بن حزم، عن أبيه عن جده، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم فقرئت على أهل اليمن وهذه نسختها:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال، [ونعيم بن عبد كلال، والحارث بن عبد كلال] » ، قيل: ذي رعين ومعافر وهمدان ... الحديث، وفيه طول ويناسب هذا مذهبنا، وقال النسائي: سليمان بن أرقم متروك.
قلت: رواه عبد الرزاق في "مصنفه ": أخبرنا معمر عن عبد الله بن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعن عبد الرزاق أخرجه الدارقطني في "سننه "، ورواه الدارقطني أيضا عن إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر به، ورواه كذلك ابن حبان في "صحيحه "، والحاكم في "مستدركه " كلاهما عن سليمان بن داود، وحدثنا الزهري به قال الحاكم: إسناده صحيح، وهو من قواعد الإسلام.
وقال ابن الجوزي في " التحقيق ": قال أحمد بن حنبل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كتاب عمرو بن حزم في الصدقات صحيح. قال بعض الحفاظ من المتأخرين: نسخة كتاب عمرو بن حزم تلقاها الأئمة بالقبول وهي متواترة. وقال يعقوب بن سفيان الفسوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة أصح منه، كان أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتابعون يرجعون إليه ويدعون آراءهم.(3/320)
ثم إذا زادت على مائة وعشرين تستأنف الفريضة فيكون في الخمس شاة مع الحقتين، وفي العشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه وفي خمس وعشرين بنت مخاض إلى مائة وخمسين فيكون فيها ثلاث حقاق، ثم تستأنف الفريضة فيكون في الخمس شاة وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض، وفي ست وثلاثين بنت لبون، فإذا بلغت مائة وستا وتسعين ففيها أربع حقاق إلى مائتين، ثم تستأنف الفريضة أبدا كما تستأنف في الخمسين التي بعد المائة والخمسين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ثم إذا زادت على مائة وعشرين تستأنف الفريضة) ش: أي عند أصحابنا، وتفسير الاستئناف أن لا يجب على ما زاد على مائة وعشرين حتى تبلغ الزيادة خمسا فإذا بلغت خمسا م: (فيكون في الخمس شاة مع الحقتين، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه) ش: أي مع الحقتين.
م: (وفي العشرين أربع شياه) ش: أي مع الحقتين م: (وفي خمس وعشرين بنت مخاض) ش: أي مع الحقتين (إلى مائة وخمسين فيكون فيها ثلاث حقاق ثم تستأنف الفريضة) ش: أي بعد المائة والخمسين م: (فيكون في الخمس شاة وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه وفي خمس وعشرين بنت مخاض) ش: أي مع ثلاث حقاق، م: (وفي ست وثلاثين بنت لبون) ش: أي مع ثلاث حقاق.
م: (فإذا بلغت مائة وستا وتسعين ففيها أربع حقاق إلى مائتين) ش: وفي " المبسوط "، و" قاضي خان ": ثم هو مخير إن شاء أدى فيها أربع حقاق من كل خمسين حقة، وإن شاء أدى بنات لبون من كل أربعين بنت لبون. فإن قلت: هذا الذي ذكرته إنما يصح إذا بلغ النصاب إلى مائتين أربع حقاق. قلت: إن لم يصح فيها قبل المائتين فيصح في المائتين. م: (فله الخيار) ش: في تأخير الزكاة إلى أن تبلغ الإبل مائتين فله الخيار في أربع حقاق أو خمس بنات لبون م: (ثم تستأنف الفريضة أبدا كما تستأنف في الخمسين التي بعد المائة والخمسين) ش: قيل بهذا الاحتراز عن الاستئناف الذي بعد المائة والعشرين فإن في ذلك الاستئناف ليس عليه إيجاب بنت لبون، ولا إيجاب أربع حقاق لانعدام وجوب نصابها؛ لأنه لما زاد خمس وعشرون على المائة والعشرين صار كل النصاب مائة وخمسة وأربعين فهو نصاب بنت المخاض مع الحقتين، فلما زاد عليها خمس صارت مائة وخمسين فوجب ثلاث حقاق؛ لأن في الاستئناف الأول تغير الواجب من الخمس إلى الخمس إلى أن بلغ النصاب إلى مائة وخمسين، ثم استؤنفت الفريضة وفي الاستئناف الثاني تغير الواجب من خمس وعشرين إلى ست وثلاثين، أي من مائة وخمس وسبعين إلى مائة وست وثمانين فيكون العفو في الاستئناف الأول خمسة، والثاني عشرة، ثم تغير الواجب في الاستئناف الثاني من ست وثلاثين إلى مائة وست وتسعين، وليس هو الاستئناف الأول.(3/321)
وهذا عندنا، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا زادت على مائة وعشرين واحدة ففيها ثلاث بنات لبون، فإذا صارت مائة وثلاثين ففيها حقة وبنتا لبون، ثم يدار الحساب على الأربعينات والخمسينات، فتجب في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة؛ لما روي «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كتب: إذا زادت الإبل على مائة وعشرين ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون من غير شرط عود ما دونها»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا عندنا) ش: أي هذا المذكور في الصورة المذكورة هو مذهب أصحابنا وهو قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا، وحكي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أيضا، وبه قال إبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وأهل العراق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. م: (وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا زادت على مائة وعشرين واحدة ففيها ثلاث بنات لبون) ش: لأنها أربعينتان وخمسون، م: (فإذا صارت مائة وثلاثين ففيها حقة وبنتا لبون، ثم يدار الحساب على الأربعينات والخمسينات فيجب في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة) ش: فالشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوافقنا إلى مائة وعشرين، فإذا بلغت مائة وإحدى وعشرين يدور الحكم عنده على الأربعينات والخمسينات، وبه قال الأوزاعي، وأبو ثور، وإسحاق، وأحمد في رواية.
وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية أخرى: لا يتغير الفرض بالزيادة على مائة وعشرين حتى يبلغ عشرا فتجب فيها حقة وبنتا لبون، وعنه في رواية ثالثة: لو زادت واحدة على المائة والعشرين يتغير الفرض ويتخير الساعي بين حقتين وثلاث بنات لبون، والأصح عن أحمد مثل مذهب الشافعي.
وقالت الظاهرية وأبو سعيد الإصطخري: إذا زادت على عشرين ومائة ربع بعير، أو ثمنه، أو عشره ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون. وقال السروجي: هذا قول باطل بلا شبهة، إذ لم يرد الشرع بجعل السائمة نصابا بربع بعير، أو ثمنه، أو عشرة وتعلقوا بقوله: - فإن زادت- وقالوا: الزيادة تحصل بالثمن والربع.
م: (لما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كتب إذا زادت الإبل على مائة وعشرين، ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون من غير شرط عود ما دونهما) ش: قال السغناقي: أي ما دون الأربعينات والخمسينات وما دون ذلك شاة، أو بنت مخاض، يعني أوجب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة من غير أن يوجب في الخمس شاة، ومن غير أن يوجب في خمس وعشرين بنت مخاض.
وقال تاج الشريعة: قوله - ما دونها- ذكره بتوحيد الضمير، ثم قال: أي ما دون بنت لبون فإنها هي المذكورة من قبل، وكذا قال الأترازي لكنه ثم قال: وأرد بما دونها الشاة وبنت المخاض.(3/322)
ولنا «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كتب في آخر ذلك في كتاب عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فما كان أقل من ذلك ففي كل خمس ذود شاة» فنعمل بالزيادة، والبخت والعراب سواء في وجوب الزكاة؛ لأن مطلق الاسم يتناولهما، والله أعلم بالصواب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم الذي استدل به الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو في حديث أبي بكر المذكور، ونحن نعلم به أيضا، ألا ترى أن في تسعين ومائة تجب ثلاث حقاق وبنت لبون، لكن علل الغنم بحديث عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأشار إليه بقوله م: (ولنا أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كتب في آخر ذلك) ش: أشار به إلى آخر قوله في الحديث المذكور إذا زادت الإبل ... إلخ.
م: (في كتاب عمرو بن حزم) ش: بن زيد بن لوذان الخزرجي الأنصاري من بني مالك ابن النجار لم يشهد بدرا، وأول مشاهده الخندق، واستعمله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على نجران، وهم بنو الحارث بن كعب، وهو ابن سبع عشرة سنة؛ ليفقههم في الدين، ويعلمهم القرآن، ويأخذ صدقاتهم وذلك سنة عشر بعد أن بعث إليهم خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأسلموا، وكتب له كتابا، وهو الذي مضى في حديثه، مات بالمدينة سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة أربع وخمسين.
م: (فما كان أقل من ذلك) ش: أي من خمس وعشرين م: (ففي كل خمس ذود شاة فنعمل بالزيادة) ش: وهو ما كتب في آخر كتاب عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما رواه الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحن نعمل به وقائلون به؛ لأنا نوجب في الأربعين بنت لبون؛ لأن الواجب فيها ما هو الواجب في ستة وثلاثين، وفي الخمسين حقه، وهذا الحديث لا يتعرض لنفي الواجب عما دونه، وإنما هو عمل مفهوم بالنص، ونحن عملنا بالنص، وأعرضنا عن مفهومه؛ لما روينا وهو نقله في " الإيضاح ".
م: (والبخت) ش: بضم الباء الموحدة وسكون الخاء المعجمة جمع بختي، وهو الذي يولد من العربي والعجمي، وقد مر مرة م: (والعراب) ش: بكسر العين المهملة جمع عربي نسبة إلى العرب، وهم الذين استوطنوا المدن والقرى، والأعراب أهل البادية، واختلف في نسبهم، والأصح أنهم نسبوا إلى عربة بفتحتين وهي تهامة؛ لأن أباهم إسماعيل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يسمى بها، كذا في " المغرب ".
م: (سواء في وجوب الزكاة) ش: مرفوع على الخبرية وإنما كان سواء م: (لأن مطلق الاسم) ش: المذكور في الحديث م: (يتناولهما) ش: واختلافهما في النوع لا يخرجهما من الجنس.(3/323)
فصل في زكاة البقر
وليس في أقل من ثلاثين من البقر السائمة صدقة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في زكاة البقر] [حكم زكاة البقر]
م: (فصل في زكاة البقر) ش: أي هذا فصل في بيان حكم زكاة البقر، قدم فصل البقر على فصل الغنم؛ لقربها من الإبل في الضخامة والقيمة. وذكر صاحب كتاب " الزينة " أن لفظ البقر من البقر، وهو الشق لأنه يبقر الأرض أي يشقها، والبقر جنس، وأنواعه الجاموس، والعراب، والدراسة، وهي التي يحمل عليها.
وفي " الصحاح ": البقرة للذكر والأنثى، والهاء للإفراد كالتمر والتمرة، والبيقور والبقر، والياء والواو زائدتان، وأهل اليمن يسمون البقرة الباقورة، والباقر: اسم جمع للبقر مع رعاته، كالجامل لجماعة الجمال، وفي " شرح النووي ": البقر جنس وأنواعه: بقرة وباقورة، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: البقرة للأنثى.
[نصاب زكاة البقر والقدر الواجب فيها]
م: (وليس في أقل من ثلاثين من البقر السائمة صدقة) ش: قال الأترازي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا خلاف بين الأمة في هذا.
قلت: فيه خلاف بين الأمة، فقالت الظاهرية: لا زكاة في أقل من خمسين من البقر، فإذا ملك خمسين بقرة عاما قمريا متصلا ففيها بقرة، وفي المائة بقرتان، ثم في كل خمسين بقرة بقرة، ولا شيء في الزيادة حتى تبلغ خمسين.
وقال آخرون: في خمس من البقر شاة، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بقرة إلى خمس وسبعين، فإذا زادت واحدة ففيها بقرتان إلى مائة وعشرين، فإذا زادت واحدة ففي كل أربعين بقرة مسنة.
قال ابن حزم، وابن المنذر - رحمهما الله-: هذا قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحكمه، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبد الرحمن بن خلدة، وقتادة، والزهري، وفقهاء المدينة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال ابن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فلزم مالكا اتباعهم على أصله، وما يروى فيه من الأمر موقوف ومنقطع، واعتبروه بالإبل كما في الأضحية، إذ كل منهما يجزئه عن سبعة، ويرد عليهم أن خمسا من الإبل بخمس وثلاثين من الغنم، ولا يجب فيها ما يجب في خمس من الإبل. وعن مصدق أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أخذ من كل عشر بقرات بقرة.
ومذهبنا قول علي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري، والشعبي، وطاوس، وشهر بن حوشب، وعمر بن عبد العزيز، والحكم بن عيينة، وسليمان بن موسى الدمشقي، والحسن، ومالك، والشافعي،(3/324)
فإذا كانت ثلاثين سائمة وحال عليها الحول، ففيها تبيع أو تبيعة، وهي التي طعنت في الثانية،
وفي أربعين مسن أو مسنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وحكى ابن المنذر، عن أبي قلابة في خمس وعشرين خمس شياه، وفي ثلاثين تبيع.
م: (فإذا كانت) ش: أي البقر م: (ثلاثين سائمة، وحال عليها الحول ففيها تبيع أو تبيعة، وهي التي طعنت في الثانية) ش: لحديث معاذ: قال: «بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة، ومن كل حالم دينارا أو عدل معافر» رواه الترمذي من حديث مسروق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: هذا حديث حسن، ورواه أيضا بقية الأربعة.
وروى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن بكتاب» ... الحديث، وفيه: «في كل ثلاثين باقورة تبيع جذع أو جذعة، وكل أربعين باقورة بقرة» . واختلفوا في صحة هذا الحديث، فصححه ابن حبان والحاكم -رحمهما الله- واختلف النقل فيه عن أحمد.
وروى أبو داود من حديث الحارث الأعور عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «هاتوا ربع العشر» .... الحديث، وفيه «وفي البقر في كل ثلاثين تبيع» .
م: (وفي أربعين مسن أو مسنة) ش: وليس على العوامل شيء، وفي الباب عن أنس، وأبي ذر، وأبي هريرة، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قوله: - معافر - وهي ثياب باليمن منسوبة إلى معافر قبيلة، واستدل به ابن العربي على أن البقر لا يؤخذ منها إلا مسنة أنثى، وإن كانت ذكورا كلها كلف رب المال أن يأتي بأنثى. وقال بعض الشافعية: يجزئه. وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن كانت كلها إناثا جاز فيها مسن ذكر.
وقال شيخنا زين الدين العراقي في هذا الحديث: لو أخرج عن الأربعين تبيعين لم يجزئه، وهو اختيار البغوي، كما لو أخرج عن ست وثلاثين بنتي مخاض لا يجوز، وقال: الذي اختاره البغوي حكاه الرافعي وجها، وقال أيضا: استدل بعموم ذكر البقر فيه على أن بقر الوحش إذا ملك تجب فيه الزكاة كغيرها. وعن أحمد روايتان: أحدهما الوجوب، والأخرى المنع، وهو قول مالك والجمهور.(3/325)
وهي التي طعنت في الثالثة، بهذا أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معاذا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإذا زادت على أربعين وجب في الزيادة بقدر ذلك إلى ستين عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ففي الواحدة الزائدة ربع عشر مسنة، وفي الاثنتين نصف عشر مسنة، وفي الثلاثة ثلاثة أرباع عشر مسنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهي التي طعنت في الثالثة) ش: أي التبيعة هي التي دخلت في السنة الثالثة، سمي التبيع تبيعا؛ لأنه يتبع أمه. وقيل: لأن قرنه يتبعان أذنيه، وسمي المسن والمسنة بذلك لزيادة سنهما، وقال الخطابي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن العجل ما دام يتبع أمه فهو تبيع إلى تمام سنة، ثم هو جذع، ثم ثني، ثم رباع، ثم سديس، ثم ضالع وهو المسن، وفسرت الشافعية التبيع والمسنة مثل ما فسر أصحابها، وشذ الجرجاني حيث قال في " البحرين ": التبيع: ما له دون سنة، وقيل: ما له سنة، والمسنة: ما لها سنة، وقيل: سنتان، وكذا قول الفورابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الإبانة ": التبيع ما استكمل سنة، وقيل: الذي يتبع أمه وإن كان له دون سنة.
وقال الرافعي: إن جماعة حكوا في التبيع ما له ستة أشهر، وفي المسنة: ما لها سنة، ولم ير الأصحاب هذا الخلاف معدودا من المذهب.
وقال ابن حزم - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن التبيع والتبيعة ما له سنتان، وأن المسنة ما لها أربع سنين وهو المشهور عند المالكية.
م: (بهذا أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معاذا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي بهذا الذي ذكرنا كيفية صدقة البقر أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين وجهه إلى اليمن، وقد ذكرناه الآن.
م: فإذا زادت) ش: أي البقر م: (على أربعين وجب) ش: أي الأداء م: (في الزيادة بقدر ذلك إلى ستين عند أبي حنيفة) ش: وبه قال إبراهيم وحماد، ومكحول م: (ففي الواحدة الزائدة ربع عشر مسنة، وفي الاثنتين نصف عشر مسنة، وفي الثلاثة ثلاثة أرباع عشر مسنة) ش: الفاء تفسيرية تفسيرها حكم الزائد على الأربعين وهو ربع عشر مسنة:
وهو جزء من أربعين جزءا من مسن أو مسنة أو جزء من ثلاثين جزءا من تبيع أو تبيعة، وهو ثلث عشرها مع المسنة، وهو الثنتين الزائدتين على الأربعين جزآن من أربعين جزءا من مسن أو مسنة، وهما نصف عشرها، أو جزآن من ثلاثين جزءا من تبيع أو تبيعة، وهما ثلثا عشر تبيع أو تبيعة، وفي الثلاث الزوائد على الأربعين ثلاثة أجزاء من أربعين جزءا من مسن أو مسنة، وهي ثلاثة أرباع عشرها أو ثلاثة أجزاء من تبيع أو تبيعة، وهي عشر تبيع أو تبيعة.
وفي الأربعة الزائدة على الأربعين أربعة أجزاء من أربعين جزءا من مسن أو مسنة، وهي عشرها أو أربعة أجزاء من ثلاثين جزءا من تبيع أو ببيعة، وهي عشر تبيعة، وثلث عشرها، وفي الخمسة الزائدة على الأربعين خمسة أجزاء من أربعين جزءا من مسن أو مسنة أو خمسة أجزاء من ثلاثين جزءا من تبيع أو تبيعة، وهي سدس تبيع أو تبيعة، وهكذا زيد الواجب على حسب(3/326)
وهذه رواية الأصل؛ لأن العفو ثبت نصا بخلاف القياس، ولا نص هنا، وروى الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عنه أنه لا يجب في الزيادة شيء حتى تبلغ خمسين، ثم فيها مسنة وربع مسنة أو ثلث تبيع؛ لأن مبنى هذا النصاب على أن يكون بين كل عقدين وقص،
وفي كل عقد واجب. وقال أبو يوسف، ومحمد -رحمهما الله-: لا شيء في الزيادة حتى تبلغ ستين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزيادة إلى الستين.
م: (وهذا رواية الأصل) ش: أي هذا المذكور هو رواية الأصل أي " المبسوط " رواها أبو يوسف عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - هكذا ذكره أبو بكر الجصاص الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو ظاهر الرواية. م: (لأن العفو) ش: أي عدم الوجوب م: (ثبت نصا) ش: أي من جهة النص م: (بخلاف القياس) ش: لما فيه من إخلاء المال عن الواجب مع قيام أهلية الوجوب وهو الغنى م: (ولا نص هنا) ش: في العفو، فلا يثبت نصب النصاب بالرأي لا يكون، وإما طريق معرفته النص، ولا نص فيما بين الأربعين إلى الستين، فإذا تعذر اعتبار النصاب فيه أوجبنا الزكاة في قليله وكثيره بحسب ما سبق.
م: (وروى الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عنه) ش: أي وروى الحسن بن زياد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (أنه لا يجب في الزيادة شيء حتى تبلغ خمسين ثم فيها مسنة وربع مسنة أو ثلث تبيع) ش: لأن الزيادة على الأربعين عشرة وهي ثلاث وثلاثين، وربع أربعين، فيخير بين إعطاء ربع المسنة، وبين إعطاء ثلث التبيع إلى ستين، قال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن ابن شجاع: هي أصح الروايات.
م: (لأن مبنى هذا النصاب) ش: أشار به إلى نصاب البقر م: (على أن يكون بين كل عقدين وقص) ش: بفتح الواو وفتح القاف، وبالصاد المهملة ما بين الفريضتين في الماشية، وفتح القاف أشهر عند أهل اللغة، وصنف ابن بري جزءا في تخطئة الفقهاء ولحنهم في إسكان القاف، وليس كما قال. وجاء فيه الوقس بالسين المهملة، والنسق مثله بفتح النون، ويقال: الوقص في البقر خاصة، والنسق في الإبل خاصة، والعفو في الغنم، وقيل: الوقص يطلق على ما لا تجب فيه الزكاة، ويجمع على أوقاص كجمل وأجمال، وقيل: ولو كانت القاف ساكنة بجمع أفعل نحو فلس وأفلس، ولا يرد حول وأحوال وهول وأهوال؛ لأن معتل العين بالواو يجمع هكذا.
م: (وفي كل عقد واجب) ش: غير عفو كما قبل الأربعين وبعد الستين م: (وقال أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله- لا شيء في الزيادة) ش: أي على الأربعين م: (حتى تبلغ ستين) ش: فإذا بلغت ستين ففيها تبيعان أو تبيعتان، وبه قال مالك والشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وفي " المحيط ": وهو أوفق الروايات عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " جوامع الفقه " وهو المختار.(3/327)
وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لا تأخذ من أوقاص البقر شيئا» وفسروه بما بين أربعين إلى ستين، قلنا: قد قيل: إن المراد منها هاهنا الصغار،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهو) ش: أي قولهما م: (رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وهو رواية أسد بن عمرو، فصار عن أبي حنيفة ثلاث روايات م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لا تأخذ من أوقاص البقر شيئا» ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ حين وجهه إلى اليمن.
قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذكر الشيخ أبو يحيى القدوري في شرح " الكرخي " أن معاذا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سئل عما بين الأربعين والستين، فقال: تلك أوقاص لا شيء فيها، انتهى.
قلت: العجب منه مع دعواه كيف ذكر الموقوف من حديث معاذ، وترك المرفوع الذي دل عليه كلام المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقد روى الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "معجمه " حديث عثمان بن عمر الضبي: حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن رجل، عن معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في الأوقاص شيء» .
ورواه ابن شيبة موقوفا حدثنا عبد الله بن إدريس عن ليث، عن طاوس، عن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ليس في الأوقاص شيء» .
وروى أبو عبيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " كتاب الأموال " من حديث سلمة بن أسامة أن معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصدق أهل اليمن» .... الحديث، وفيه أن الأوقاص لا فريضة فيها.
م: (وفسروه بما بين أربعين إلى ستين) ش: أي فسر أهل اللغة: الوقص بالذي يكون بين الأربعين من البقر إلى الستين، وقيل: فسره الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (قلنا: قد قيل: إن المراد منها هاهنا الصغار) ش: أي المراد من الأوقاص الصغار من البقر، وهي العجاجيل، وبه نقول: إنه لا شيء فيها، أي والمراد بها إن أريد به العفو فله العدد في الابتداء، وأن الوقص في الحقيقة اسم لما لم يبلغ نصابا، وذلك في الابتداء كذا في " المبسوط ".(3/328)
ثم في الستين تبيعان أو تبيعتان، وفي سبعين مسنة وتبيع، وفي ثمانين مسنتان، وفي تسعين ثلاثة أتبعة، وفي المائة تبيعان ومسنة، وعلى هذا يتغير الفرض في كل عشر من تبيع إلى مسنة ومن مسنة إلى تبيع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسن أو مسنة»
والجواميس والبقر سواء؛ لأن اسم البقر يتناولهما إذ هو نوع منه، إلا أن أوهام الناس لا تسبق إليه في ديارنا لقلته، فلذلك لا يحنث به في يمينه لا يأكل لحم بقر، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ثم في الستين تبيعان أو تبيعتان) ش: أي ثم الواجب في ستين من البقر تبيعان أو تبيعتان م: (وفي سبعين مسنة وتبيع، وفي ثمانين مسنتان، وفي تسعين ثلاثة أتبعة) ش: الأتبعة جمع تبيع، وفي تسعين ثلاثة أتبعة في كل ثلاثين تبيع م: (وفي المائة تبيعان ومسنة) ش: أي الواجب في المائة من البقر تبيعان ومسنة، وفي الستين تبيعان، وفي الأربعين مسنة.
م: (وعلى هذا) ش: أي وعلى هذا الوجه المذكور م: (يتغير الفرض في كل عشر من تبيع إلى مسنة) ش: ففي مائة وعشرة تبيع ومسنتان، وفي المائة والعشرين إن شاء المالك دفع ثلاث مسنات، وإن شاء أربعة أتبعة، والخيار للمالك عندنا وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعند مالك وبعض الشافعية الخيار للمصدق، وعلى هذا حكم ما زاد على ذلك.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسن أو مسنة» ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد مر هذا في حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه الطبراني، وفي حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[الجواميس والبقر سواء في الزكاة]
م: (الجواميس والبقر سواء) ش: يعني في وجوب الزكاة، في كل واحد منهما، وفي ضم أحدهما إلى الآخر ليكمل النصاب، والجواميس جمع جاموس، وهو معرب: كوميس، وهو نوع من أنواع البقر، واسم البقر يطلق عليهما، إلا أن الجاموس أخص.
وفي " المحيط ": والجاموس كالبقر إلا أنه بقر حقيقة حتى لو حلف أنه لا يشتري بقرا يحنث بشراء الجاموس، وأنكروا على القدوري في قوله- والجواميس والبقر سواء- فجعلهما نوعين للبقر، فكيف يكون أحد نوعي البقر، ثم صوابه- والجواميس والعراب سواء.
م: (لأن اسم البقر يتناولهما إذ هو نوع منه) ش: أي الجاموس نوع لصحة إطلاق اسم البقر عليهما م: (إلا أن أوهام الناس لا تسبق إليه) ش: يعني إلى الجاموس في ذكر البقر م: (في ديارنا) ش: هي إقليم مرغينان من العجم م: (لقلته) ش: أي لقلة الجواميس م: (فلذلك لا يحنث به) ش: أي يأكل لحم الجاموس م: (في يمينه لا يأكل لحم بقر) ش: لعدم العرف؛ لأن مبنى اليمين على العرف حتى لو تكرر في موضع ينبغي أن يحنث كذا في " المبسوط ".
فإن قلت: اسم البقر يتناول الوحشي، ولا تجب فيها زكاة.(3/329)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الجاموس أهلي وذلك وحشي، والوحشيات من البقر والغنم وغيرهما لا يعتد به في النصاب، وكذا المتولد بين أهلي ووحشي، كذا قاله الكاكي، وفي " مغني الحنابلة ": تجب الزكاة في بقر الوحش ولم يقل به أحد، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تجب مطلقا، وبه قال داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندنا إن كانت الأم أهلية تجب، وإن كانت وحشية لا تجب، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(3/330)
فصل في صدقة الغنم ليس في أقل من أربعين من الغنم السائمة صدقة، فإذا كانت أربعين سائمة وحال عليها الحول ففيها شاة إلى مائة وعشرين، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه، فإذا بلغت أربعمائة ففيها أربع شياه، ثم في كل مائة شاة شاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في صدقة الغنم] [نصاب زكاة الغنم والقدر الواجب فيها]
م: (فصل في صدقة الغنم) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام صدقة الغنم، والغنم اسم جنس لا واحد له من لفظه، وهي مؤنثة ولهذا يقال في التصغير: غنيمة وكأنه مأخوذ من الغنيمة. وقال الجوهري: الغنم اسم مؤنث موضوع للجنس يقع على الذكور والإناث وعليهما جميعا، فإذا صغرتها لحقتها الهاء.
قلت: غنيمة لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين فالتأنيث لها لازم، فيقال: لها خمس من الغنم ذكور فيؤنث العدد، وإن عنيت الكباش إذا كان ثلاثة من الغنم؛ لأن العدد يجري في تذكيره وتأنيثه على اللفظ لا على المعنى.
م: (ليس في أقل من أربعين من الغنم السائمة صدقة) ش: أي زكاة، قد مر وجه هذا في أول الكتاب م: (فإذا كانت أربعين سائمة وحال عليها الحول ففيها شاة) ش: الشاة من الغنم تذكر وتؤنث، وفلان كثير الشاة والبقر، وهي في معنى الجمع؛ لأن الألف واللام للجنس، وأصل الشاة شاهه؛ لأن تصغيرها شويهة، والجمع: شياه بالهاء في العدد تقول: ثلاث شياه إلى العشر، فإذا جاوزت فبالتاء م: (إلى مائة وعشرين، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه، فإذا بلغت أربعمائة ففيها أربع شياه، ثم في كل مائة شاة شاة) ش: أي في كل مائة بعد أربعمائة شاة، وهذا قول جمهور أهل العلم منهم مالك والشافعي، وأحمد وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وهو قول الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا.
وقال النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والحسن بن صالح - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن زادت الغنم على ثلاثمائة واحدة وجب فيها أربع شياه إلى أربعمائة، فإذا زادت واحدة تجب فيها خمس شياه، وهو رواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وروى الشعبي عن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الغنم إذا بلغت مائتين لم يغيرها حتى تبلغ أربعين ومائتين، فيؤخذ منها ثلاث شياه، فإذا بلغت ثلاثمائة ولم يغيرها حتى تبلغ أربعين وثلاثمائة فيؤخذ منها أربع شياه.
وفي " المغنى " رواية عن أحمد: إذا زادت على ثلاثمائة واحدة ففيها أربع شياه، ثم لا يتغير الفرض حتى تبلغ خمسمائة فيكون في كل مائة شاة.(3/331)
هكذا ورد البيان في كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي كتاب أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعليه انعقد الإجماع،
والضأن والمعز سواء؛ لأن لفظة الغنم شاملة للكل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " شرح الهدية " لأبي الخطاب: في أربعمائة وواحدة خمس شياه، وفي خمس مائة وواحد ست شياه، وهكذا حتى تنتهي. وقال أبو بكر في " العارضة " هذا مصادمة للحديث لفظا ومجازفة بغير معنى فلا يعتبر به.
م: (هكذا ورد البيان في كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي كتاب أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي مثل المذكور في كيفية صدقة الغنم ورد البيان في كتابه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
أما كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرواه الترمذي من حديث الزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن سالم، عن أبيه «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب كتاب الصدقة إلى عماله، فلم يخرجه حتى قبض فقرنه بسيفه، فلما قبض عمل به أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حتى قبض، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حتى قبض» وقد مر قريب ومر الكلام فيه.
وأما كتاب أبي بكر لأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرواه البخاري وقد مر أيضا.
واحتج شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المبسوط " برواية أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن أبا بكر كتب له كتاب الصدقات.... الحديث، وكذلك احتج به المصنف.
وقال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أصحابنا لم يعلموا بجميع ما في كتاب أنس، والعمل ببعض ما فيه وترك باقيه ليس بصواب، وكان الاستدلال في هذا بكتاب عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو الأوجه.
م: (وعليه انعقد الإجماع) ش: أي وعلى وجوب صدقة الغنم على الوجه المذكور انعقد الإجماع.
[الضأن والمعز سواء في الزكاة]
م: (والضأن والمعز سواء) ش: الضأن مهموز، ويجوز تخفيفه بالإسكان كما في رأس وهو جمع ضأنة بهمزة قبل النون كراكب وركب، ويقال أيضا: ضأن بفتح الهمزة في الجمع، كحارس وحرس، ويجمع أيضا على ضؤون كعار وعري، وقيل: هذه كلها ليست بجمع على الأصح، بل هي كلها اسم جمع.
والمعز بفتح العين وإسكانها: اسم جنس، والضأن والمعز نوعان، ويضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب. وهذا لا خلاف فيه والواحد ماعز، ومعزة، والمعيز بفتح الميم، والأمعوز بضم الهمزة: بمعنى المعز قوله سواء أي في تكميل النصاب لا في أداء الواجب فإن ذكره يأتي بعده. م: (لأن لفظة الغنم شاملة للكل) ش: لأن لفظ الغنم جنس، والضأن والمعز نوعان، ويضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب وهذا لا خلاف فيه.(3/332)
والنص ورد به، ويؤخذ الثني في زكاتها، ولا يؤخذ الجذع من الضأن إلا في رواية الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
والثني منها ما تمت له سنة والجذع ما أتى عليه أكثرها، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قولهما: إنه يؤخذ الجذع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والنص ورد به) ش: أي بلفظ الغنم وهو ما كتب في كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله: «في أربعين من الغنم شاة» م: (ويؤخذ الثني في زكاتها) ش: أي في زكاة الغنم م: (ولا يؤخذ الجذع من الضأن إلا في رواية الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: بفتحتين والذال المعجمة، قال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أول ولد الغنم سخلة، قال ابن قدامة في " المغني ": بفتح السن وكسرها ذكرا كان أو أنثى من الضأن أو المعز، ثم بهيمة الذكر والأنثى، فإذا بلغ أربعة أشهر فصل عن أمه، فولد المعز جفرة وجمعها جفار بالكسر.
وإذا أرعى وقوي فهو عريض وعتود، وهو في ذلك كله جدي، والأنثى عناق وجمعها عنوق على غير قياس، وأعنق ما لم يأت الحول عليه، فإذا أتى الحول عليه فالذكر تيس، والأنثى عنز، وفي الثانية: الذكر جذع، والأنثى جذعة، وفي الثالثة: ثني والأنثى ثنية، وفي الرابعة: رباع، وفي الخامسة: سديس، وفي السادسة: ضالع ولا يوجد له بعد ذلك اسم.
م: (والثني منها ما تمت له سنة) ش: أي الثني من الغنم ما قد أتى عليه سنة م: (والجذع ما أتى عليه أكثرها) ش: أي أكثر السنة، وفي " المبسوط ": الجذعة التي تمت لها سنة وطعنت في الثانية، والثني الذي تمت له سنتان وطعن في الثالثة.
وذكر النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في الضأن والمعز، وكذا في الصحاح. وفي" مجمع الغرائب ": الجذع التي تمت له سنة ودخل في الثانية وهو الذي يجزئ في الأضحية.
قال الحربي: إنما يجزئ في الأضحية؛ لأن الجذع من الضأن ينزو فيلقح، والمعز لا يلقح حتى يصير ثنيا.
وفي " البدائع " و" الأسبيجابي " و" الوتري " و" جوامع الفقه "، وغيرها من كتب الفقه: الجذع ما أتى عليه ستة أشهر، وفي بعضها أكثر السنة مثل ما ذكر هاهنا، والثني ما تم له سنة ودخل في الثانية.
وفي " الذخيرة " للمالكية: الجذع ابن سنة. وقيل: ابن عشرة أشهر، وقيل: ابن نصف سنة، وجمع الثني: ثنايا وثنيان، وجمع الثنية ثنيات، وجمع الجذع جذعان وجذاع، وجمع الجذعة جذعات، ويقال لولد الشاة في السنة الثانية: جذع، ولولد البقرة في الحافر السنة الثالثة، وللإبل في السنة الخامسة.
م: (وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو قولهما أنه يؤخذ الجذع) ش: روى الحسن بن(3/333)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما حقنا الجذعة والثني» ولأنه يتأدى به الأضحية فكذا الزكاة، وجه الظاهر حديث علي - رَحِمَهُ اللَّهُ - موقوفا ومرفوعا لا يؤخذ في الزكاة إلا الثني فصاعدا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
زياد عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه يؤخذ الجذع من الضأن وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال مالك: الجذع من الضأن والمعز ما تم له سنة يجوز لإطلاق النص. وقال الشافعي وأحمد -رحمهما الله-: الجذع من المعز لا يجوز.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنما حقنا الجذعة والثني» ش: لم يتعرض إليه أحد من الشراح وهو غريب لا يعرف من رواه ولا من أخرجه، وقال السروجي: هذا في حق الإبل بعيد؛ لأن الجذعة من الإبل لا يؤخذ في الزكاة إذ الذكر لا يجزئ فيها، والثني من الإبل لا يؤخذ؛ لأنه لا يجاوز الجذعة من الإبل.
وقال صاحب التخريج: وبمعناه أخرجه أبو داود وابن ماجه في الضحايا عن عاصم بن كليب عن أبيه قال: كنا مع رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقال له: مجاشع من بني سليم فعزت الغنم فأمر مناديا ينادي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الجذع يوفى مما يوفى منه للثني» .
ورواه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مسنده"، حدثنا محمد بن جعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - حدثنا شعبة عن عاصم بن كليب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أبيه، عن جده عن رجل من مزينة أو جهينة قال: كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان قبل الأضحى بيوم أو بيومين أعطوا جذعين وأخذوا ثنيا، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن الجذعة تجزئ فيما يجزئ عنه الثنية» ، وعاصم بن كليب أخرج له مسلم.
م: (ولأنه يتأدى به الأضحية فكذا الزكاة) ش: وفي " الإيضاح ": باب الأضحية أضيق، ألا ترى أن التضحية بالتبيع والتبيعة لا يجوز، ويجوز أحدهما في الزكاة، فإذا كان للجذع مدخل في باب التضحية، ففي الزكاة أولى.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد أن قال: ذكره الشيخ أبو الحسين القدوري عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا يجزئ في الزكاة إلا الثني فصاعدا على ما يجيء الآن في كلام المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وتأويل الحديث، أي الحديث الذي ذكره المصنف الجذع من الإبل توفيقا بينه وبين ما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قلت: الحديثان المذكوران كلاهما لم يصح فلا يحتاج إلى التوفيق.
م: (وجه الظاهر حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - موقوفا ومرفوعا لا يؤخذ في الزكاة إلا الثني فصاعدا) ش: أي وجه ظاهر الرواية حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهذا الحديث لم يثبت لا(3/334)
ولأن الواجب هو الوسط وهذا من الصغار ولهذا لا يجوز فيها الجذع من المعز، وجواز التضحية به عرف نصا، والمراد بما روي الجذعة من الإبل
ويؤخذ في زكاة الغنم الذكور والإناث؛ لأن اسم الشاة ينتظمهما، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «في أربعين شاة شاة» والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مرفوعا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا موقوفا على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والعجب من صاحب " التحفة " أنه قال: لم يرو عن غير علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلافه، فكان كالإجماع. وروى إبراهيم الحربي في كتابه " غريب الحديث "، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لا يجزئ في الضحايا إلا الثني فصاعدا.
م: (ولأن الواجب هو الوسط وهذا من الصغار ولهذا لا يجوز فيها الجذع من المعز) ش: أي ولأن الواجب في الأخذ هو الوسط بالنص كما يجيء، قوله: وهذا أي الجذع من الضأن من الصغار ولهذا لا يجوز الصغار.
قوله: م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كونه من الصغار م: (لا يجوز فيها) ش: أي في الأخذ في الزكاة م: (الجذع من المعز) ش: بالاتفاق م: (وجواز التضحية به عرف نصا) ش: هذا جواب عن قوله: ولأنه تتأدى به الأضحية، فكذا الزكاة ففيه نظر، ولأن جواز التضحية بالجذع من الضأن نصا لا يمنع قياس جواز الزكاة عليه قوله: به أي بالجذع قوله: نصا، أي من جهة النص، وقال الكاكي: النص هو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «نعمت الأضحية الجذع من الضأن» .
قلت: أحسن الأوجه: أن يقال النص هو ما رواه مسلم، عن أبي الزبير، عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» .
وأما الحديث الذي ذكره الكاكي: فرواه الترمذي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: حديث غريب.
م: (والمراد بما روي الجذعة من الإبل) ش: هذا جواب عن قوله: «إنما حقنا الجذع والثني» وقد مر الكلام فيه عن قريب.
م: (ويؤخذ في زكاة الغنم الذكور والإناث لأن اسم الشاة ينتظمهما) ش: أي يتناولهما، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا تجوز الزكاة، إلا إذا كانت كلها ذكورا، كذا ذكر في " شرح مختصر الكرخي "، وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يؤخذ الثني من الضأن، الذكر، والأنثى فيه سواء، وفي المعز يؤخذ الأنثى، وقال الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تجوز الجذعة من الضأن والثنية من المعز، وعند مالك يجزئ الجذعة منهما.
م: (وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل أربعين شاة شاة» ش: ذكر هذا الحديث؛ لأن المذكور فيه الشاة(3/335)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهي تعم الذكور والإناث، وروى هذا الحديث أبو داود والترمذي من رواية سالم عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ورواه الطبراني في " الأوسط " من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى عماله في سنة الصدقات: «في كل أربعين شاة شاة» .
ورواه كذلك أبو داود، عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والشاة الأولى نصبت على التمييز، والثانية مرفوعة على أنه مبتدأ تقدم خبره.(3/336)
فصل في صدقة الخيل إذا كانت الخيل سائمة ذكورا وإناثا فصاحبها بالخيار، إن شاء أعطى عن كل فرس دينارا، وإن شاء قومها وأعطى عن كل مائتين خمسة دراهم، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول زفر وقالا: لا زكاة في الخيل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في صدقة الخيل] [كيفية إخراج زكاة الخيل]
م: (فصل في صدقة الخيل) ش: أي هذا الفصل في بيان أحكام صدقة الخيل، وهو اسم جمع للعراب والبرازيين؛ ذكروها وإناثها، كالركب ولا واحد لها من لفظها، وواحدها فرس، وقال الجوهري: يذكر ويؤنث ويصغر بغير تاء، وهو شاذ والخيل الفرسان، قال الله تعلى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ} [الإسراء: 64] (الإسراء: آية 46) ، والخيل أيضا الخيول.
والثاني: جمع اسم الجمع كالقوم والأقوام، والخيالة: أصحاب الخيل، وقال ابن الأثير في " النهاية ": "يا خيل الله اركبي" أي يا فرسان خيل الله اركبي، بحذف المضاف. قيل: لا حاجة إلى حذف المضاف؛ لأن الخيل هي الفرسان كما قال الجوهري، ويدل عليه قوله: اركبي، وإنما ذكر فصل الخيل إلحاقا بفصل السوائم؛ إذ هي سائمة أيضا، وأخره عن الفصول الثلاثة؛ لأن الاحتياج إليها أكثر من فصل الخيل، وتقدم الخلاف فيها بخلاف فصل الخيل.
م: (إذا كانت الخيل سائمة ذكورها وإناثها فصاحبها بالخيار إن شاء أعطى عن كل فرس دينارا، إن شاء قومها وأعطى عن كل مائتي درهم خمسة دراهم) ش: إنما قال: صاحبها بالخيار احترازا عن قول الطحاوي فإنه جعل الخيار إلى العامل في كل ما يحتاج إلى حماية السلطان، ولم يذكر نصاب الخيل كم هو، ولا ذكره في أكثر كتب الأصحاب غير أن صاحب " تحفة الملوك " قال: إن نصاب الخيل قيل: اثنان، وقيل ثلاثة. وعن الطحاوي: خمسة، هذا على قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والأصح أن لا تقدير لعدم النقل به.
م: (وهذا) ش: أي هذا المذكور هو م: (عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) ش: وبه قال حماد بن أبي سليمان، واسمه سليم، وهو شيخ أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وبه قال النخعي: حكاه عنه في " الروضة " وهو قول زيد بن ثابت من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ذكره شمس الأئمة السرخسي كما ذكره في الكتاب م: (وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قول زفر بن الهذيل هو قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (لا زكاة في الخيل) ش: وبه قال عطاء بن أبي رباح ومالك والشافعي وأحمد، ويروى ذلك عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -(3/337)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة» وله قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «في كل فرس سائمة دينارا أو عشرة دراهم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واختاره الطحاوي، وقال الخطابي: اختلف الناس في زكاة الخيل، وذكر عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا زكاة فيها، وقال ابن المنذر وابن قدامة من الحنابلة: الخلفاء الراشدون لم يكونوا يأخذون منها صدقة.
وقال السروجي: هذا باطل ذكر أبو عمر بن عبد البر بإسناده أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال ليعلى بن أمية: تأخذ من كل أربعين شاة شاة، ألا تأخذ من الخيل شيئا، خذ من كل فرس دينارا، فضرب على الخيل دينارا دينارا، فقرر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الخيل دينار دينارا.
وقال أبو عمر: الخبر في صدقة الخيل عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صحيح من حديث الزهري عن السائب بن زيد أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمر أن يؤخذ عن الفرس شاتان أو عشرون درهما، وقال ابن رشد المالكي في " القواعد ": قد صح عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يأخذ الصدقة عن الخيل.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليس على المسلم في عبده، ولا في فرسه صدقة» ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا الذي أخرجه الأئمة الستة في كتبهم، عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة» .
وأخرجه ابن حبان أيضا في "صحيحه " وزاد فيه: إلا صدقة الفطر، وهذه الزيادة عند مسلم أيضا، وقال ابن حبان: ففيه دليل على أن العبد لا يملك؛ إذ لو ملك لوجبت عليه صدقة الفطر، وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه روايات ستأتي، وقال الأترازي: والمشهور عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لا يجب فيها شيء.
وفي " فتاوى قاضي خان " و" الخلاصة " والفتوى على قولهما، ورجح في الأسرار قولهما فقال: لا يجب في عينهما شيء، ومبنى زكاة السائمة على أن الواجب جزء من العين وللإمام فيه حق الأخذ، ولا يأخذ الإمام صدقة الخيل بالإجماع.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: في كل فرس سائمة دينارا أو عشرة دراهم) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هذا الحديث أخرجه الدارقطني ثم البيهقي في "سننهما" عن الليث بن حماد الإصطخري: حدثنا أبو يوسف عن غورك بن الحصرم أبي عبد الله، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخيل السائمة: «في كل فرس دينار» ، وقال الدارقطني: تفرد به غورك وهو ضعيف جدا ومن دونه ضعفاء، وقال البيهقي: ولو كان هذا الحديث صحيحا عند أبي يوسف لم يخالف، وقال ابن(3/338)
وتأويل ما رويناه فرس الغازي وهو المنقول عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القطان في كتابه: وأبو يوسف هذا هو أبو يوسف يعقوب القاضي وهو مجهول عندهم.
قلت: غورك معروف؛ مولى جعفر بن محمد، يعرفه أهل المعرفة بالرجال، وقول ابن القطان لم يصدر عن عاقل، وهل يقال في مثل أبي يوسف مجهول؟ وهو أول من سمي بقاضي القضاة، وعلمه شاع في ربع الدنيا الذي هو محل الإسلام، وهو إمام ثقة حجة، ونحن نترك الاستدلال بالحديث المذكور عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ونستدل بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر الخيل فقال: «رجل ربطها تغنيا تعففا، ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا في ظهورها، فهي لذلك ستر» .
فإن قلت: قالوا: حقها إعارتها، وحمل المنقطعين عليها إذا كان واجبا، ثم نسخ بدليل قوله: «قد عفوت لكم عن صدقة الخيل» ؛ إذ العفو لا يكون إلا عن شيء لازم.
قلت: ثبت أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ولم ينس حق الله في رقابها» ، وهي الزكاة؛ لأنهم اتفقوا على سقوط سائر الحقوق غير الزكاة، وأنه لا حق في المال غير الزكاة، وما ورد فيها من إطراق فحولها، وإعارة ذكورها وغيرهما، منسوخ بالزكاة عند الجمهور، وقد ذكرنا عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما يساند قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (وتأويل ما رويناه فرس الغازي وهو المنقول عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: هذا جواب من جهة أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الحديث الذي رواه أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله- من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المذكور ولا فرسه، وأن تأويله أن المراد منه فرس الغازي؛ لأن الخيل كانت عزيزة في ذلك الوقت لقلتها وما كانت إلا معدة للجهاد، ثم كثرت بعد ذلك، ولا سيما في غير بلاد العرب خصوصا في بلاد الدشت، فإن الخيل عند أهلها سائمة في البراري ترعى ولا يعرفون العلف، فمنهم من يملك منها ألف رأس وأقل وأكثر، فصارت كالإبل والبقر والغنم؛ لأن الرقيق إذا كان للتجارة تجب فيه الزكاة، فكذلك الخيل إذا كانت سائمة؛ لأن التجارة والإسامة يؤثران في معنى النماء، وسبب وجوب الزكاة هو المال النامي، وأيضا لما قرن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفرس بالعبد كان ذلك قرينة على أن المراد عبد الخدمة وفرس الركوب، فإنهما إذا كانا للتجارة تجب فيهما الزكاة بالإجماع.
وفي " المبسوط ": نص على أنه لا يؤخذ من عينها؛ لأن مقصود الفقير لا يحصل بذلك لأن عينها غير مأكول اللحم عنده، ولم يثبت أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للإمام ولاية الأخذ؛ لأن الخيل مطمع كل واحد من أهل الطمع فإنها سلاح، والظاهر أن الأئمة إذا علموا به لا يتركوه،(3/339)
والتخيير بين الدينار والتقويم مأثور عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
وليس في ذكورها منفردة زكاة؛ لأنها لا تتناسل وكذا في الإناث المنفردات في رواية وعنه الوجوب فيها؛ لأنها تتناسل بالفحل المستعار، بخلاف الذكور
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لصاحبه.
قوله: هو المنقول عن زيد بن ثابت الصحابي وهذا غريب، وقد ذكره أبو زيد الدبوسي في كتاب " الأسرار " فقال: إن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما بلغه حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: صدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما هذا فرس الغازي، ومثل هذا لا يعرف بالرأي، [بل] إنه مرفوع.
وروى أحمد بن زنجويه في كتاب " الأموال " حدثنا علي بن الحسن، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه، أنه قال: سألت ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَوَفِيهَا صدقة؟ فقال: ليس على فرس الغازي في سبيل الله صدقة.
م: (والتخيير بين الدينار والتقويم مأثور، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: هذا الأثر غريب، وأخرجه الدارقطني في "سننه "، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، قال: جاء ناس من أهل الشام إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقالوا: إنا أصبنا أموالا: خيلا ورقيقا، وإنا نحب أن نزكيها فقال: ما فعله صاحباي قبلي فأفعله أنا، ثم استشار أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: حسن، وسكت علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فسأله فقال: هو حسن لو لم يكن جزية راتبة يؤخذ بها بعدك، فأخذ عن الفرس عشرة دراهم ثم أعاده قريبا منه بالسند المذكور والقصة، وقال فيه: يوضع على كل فرس دينار، وقيل: هذا في أفراس العرب؛ لتفاوت قيمتها، وأما في أفراسنا فالتقويم والأداء عن كل مائتي درهم خمسة دراهم.
م: (وليس في ذكورها منفردة) ش: أي وليس في ذكور الخيل حال كونها منفردة م: (زكاة لأنها لا تتناسل) ش: هذا على الرواية المشهورة وذلك لعدم النماء بالتناسل والتوالد.
وفي " المبسوط ": لا تجب في الذكور، إلا في رواية شاذة، وفي " المحيط ": المشهور عدم الوجوب.
م: (وكذا في الإناث المنفردات في رواية) ش: أي وكذا لا تجب الزكاة في الخيل الإناث المنفردات في رواية عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لعدم النماء بالتوالد.
م: (وعنه الوجوب فيها) ش: أي وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الوجوب للزكاة في الإناث المنفردات م: (لأنها تتناسل بالفحل المستعار) ش: أي لأنها يوجد فيها النماء بالفحل المستعار، فيكون النماء لصاحبها م: (بخلاف الذكور) ش: المنفردة، لعدم التناسل.(3/340)
وعنه أنها تجب في الذكور المنفردة أيضا، ولا شيء في البغال والحمير لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينزل علي فيهما شيء والمقادير تثبت سماعا إلا أن تكون للتجارة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعنه أنها) ش: أي عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الزكاة م: (تجب في الذكور المنفردة أيضا) ش: لإطلاق الحديث، وفي " الإيضاح ": باعتبار أنها سائمة م: (ولا شيء في البغال والحمير لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لم ينزل علي فيهما شيء» ش: أي في البغال والحمير.
والحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولكن ليس فيه ذكر البغال، ولفظ الحديث طويل فأوله: الخيل ثلاثة، وفي آخره فسئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحمر فقال: «ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] » (الزلزلة: آية 7، 8) .
قوله: الفاذة بتشديد الذال المعجمة أي المنفردة في معناها، والفذ الواحد، وقد أفذ الرجل عن أصحابه إذا شذ عنهم وبقى منفردا. وقيل: معناه جامعة لاشتمال اسم الخير على أنواع الطاعات والشر على أنواع المعاصي، ودلالة الآية على الجواب من حيث إن سؤالهم كان الحمار له حكم الفرس أم لا؟
فأجاب: بأنه إن كان بخير فلا بد أن يرى خيره وإلا فبالعكس، والدليل الصريح في عدم وجوب الزكاة في الحمير ما رواه البيهقي من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفوت لكم عن صدقة الجبهة والكسعة والنخة» .
قال بقية أحد رواته: الجبهة الخيل، والكسعة البغال والحمير، والنخة المربيات في البيوت.
والحديث ضعيف؛ لأن فيه سليمان بن أرقم، هو متروك الحديث، لا يحتج به، قاله البيهقي، وقال في " ديوان الأدب ": الجبهة: الخيل، والكسعة: الحمير، والنخة: البقر العوامل.
قلت: الكسعة بضم الكاف، وسكون السين المهملة، وقال ابن الأثير: النخة بفتح النون وضمها هي الرقيق، وقيل: الحمير، وقيل: البقر العوامل، وقيل: هي كل دابة استعملت، وقيل: البقر العوامل بالضم وغيرها بالفتح، وقال الفراء: النخة أن يأخذ المصدق دينارا بعد فراغه من الصدقة.
م: (والمقادير تثبت سماعا) ش: كان ينبغي أن يقال والمقدرات تثبت من جهة السماع؛ لأن القياس لا دخل له في جهة المقدرات الشرعية م: (إلا أن تكون للتجارة) ش: استثناء من(3/341)
لأن الزكاة حينئذ تتعلق بالمالية كسائر أموال التجارة، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: ولا شيء في البغال والحمير، يعني إذا كانت للتجارة يجب فيها الزكاة.
م: (لأن الزكاة حينئذ) ش: أي حين كونها للتجارة م: (تتعلق بالمالية كسائر أموال التجارة) ش: لوجود النماء بالتجارة كما في عروض التجارة، وغير ذلك من الأحكام.(3/342)
فصل وليس في الفصلان والحملان، والعجاجيل صدقة عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أن يكون معها كبار، وهذا آخر أقواله، وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكان يقول: أو لا يجب فيها ما يجب في المسان، وهو قول زفر ومالك - رحمهما الله - ثم رجع وقال: فيها واحدة منها، وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل وليس في الفصلان والحملان والعجاجيل صدقة]
م: (فصل) ش: هاهنا فصل ينون وإذا وصل لا ينون.
م: (وليس في الفصلان والحملان والعجاجيل صدقة عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: لما فرغ من بيان أحكام الكبار، شرع في بيان أحكام صغار الفصلان، بضم الفاء جمع فصل، وكذا الناقة: من فصل الرضيع عن أمه والحملان بضم الحاء وفي " مهذب الديوان ": بكسرها جمع الحمل بفتحتين. قال الجوهري في باب اللام: الحمل البرق، وقال في باب القاف: البرق الحمل فارسي معرب، وفي " المغرب " الحمل بفتحتين ولد الضأنة في السنة الأولى والجمع الحملان، والعجاجيل: جمع عجول بمعنى عجل، كأبابيل: جمع أبول، كذا حكي عن الكسائي، وفي " المغرب ": العجل من أولاد البقر حين تضعه أمه إلى شهر والجمع العجلة، وأما العجال في جمعه فلم أسمعه، والعجول مثله والعجاجيل الجمع، قوله: صدقة أي زكاة عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (وهذا آخر أقواله) ش: أي آخر أقوال أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (وهو قول محمد) ش: وبه قال الثوري والشعبي، وأبو سليمان، وداود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (وكان يقول أولا: يجب فيها ما يجب في المسان) ش: أي كان أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول في أول الأمر: يجب في الفصلان، والحملان، والعجاجيل ما يجب في المسان، وهو جمع مسنة وهي ذات السن من الجذع، والثنية م: (وهو قول زفر ومالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ش: وبه قال داود وأبو بكر من الحنابلة م: (ثم رجع، وقال: فيها واحدة منها) ش: أي، ثم رجع أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن هذا القول وقال: تجب فيها واحدة منها وهذا قوله الثالث.
م: (وهو قول أبي يوسف والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ش: في الجديد وبه قال الأوزاعي وإسحاق وذكر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اختلاف العلماء عن أبي يوسف، قال دخلت على أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فقلت: ما تقول فيمن ملك أربعين حملا؟ فقال: فيها شاة مسنة، فقلت: ربما تأتي قيمة الشاة على أكثرها أو جميعها؟ فتأمل ساعة ثم قال: لا ولكن تؤخذ واحدة منها.(3/343)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فقلت: أَوَيُؤْخَذ الحمل في الزكاة؟ فتأمل ساعة، ثم قال: لا، إذا لا يجب فيها شيء وأخذ بقوله الأول زفر، وبقوله الثاني أبو يوسف، وبقوله الثالث محمد، وعد هذا من مناقبه حيث تكلم في مسألة في مجلس ثلاثة أقاويل فلم يضع شيئا من أقاويله كذا في " المبسوط "، وقال محمد بن شجاع: لو قال قولا رابعا لأخذت به، انتهى.
قلت: وجاء فيه قول رابع: وهو أن يأخذ المصدق مسنة ويرد على صاحب المال فضل ما بين المسنة والصغيرة التي هي في ماشيته وهو رواية عن الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ووجه للحنابلة وجاء فيه قول خامس، وهو ضعيف جدا لم ينقل عن غير الحنابلة أنه يجب في خمس وعشرين من الفصلان واحدة منها، وفي ست وثلاثين واحدة منها سنها كسن واحدة منها مرتين، وفي ست وأربعين منها واحدة مثل سن واحدة منها ثلاث مرات، وفي إحدى وستين واحدة مثل سنها أربع مرات.
والحاصل عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هنا ثلاث روايات كما ظهر من كلام الطحاوي، ومن المشايخ من رد هذا وقال: إن مثل هذا من الصبيان محال فما ظنك بأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟ وقال بعضهم: لا معنى لرده فإنه مشهور مستفيض، لكن يجب أن يوجه على ما يليق بحال أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقيل: إنه استجس أبا يوسف هل يهتدي إلى طريق المناظرة، فلما عرف أنه يهتدي إليه قال قولا يعول عليه، كذا في " الفوائد الظهيرية ".
وقال صاحب " التحفة ": تكلم الفقهاء في صورة المسألة فإنها مشكلة؛ لأن الزكاة لا تجب بدون مضي الحول، وبعد الحول لم يبق اسم الحملان والفصلان والعجاجيل.
وقال بعضهم: الخلاف في هذا؛ لأن الحول هل ينعقد على هذه أم لا؟ ويعتبر انعقاد الحول من حين الكبر.
وقال بعضهم: الخلاف فيمن كانت له أمهات فمضت ستة أشهر فولدت أولادا، ثم ماتت الأمهات وبقيت الأولاد، ثم تم الحول وهي صغار وعلى هذا إذا استفاد صغارا في وسط الحول، ثم هلكت المسنات، وفي " الجامع الصغير ": هلكت الأمهات بعد عشرة أشهر وبقيت الأولاد.
وقيل: كان له نصاب هو مسنات فاستفاد قبل حوله صغارا بشراء أو هبة أو نحوهما ثم هلك المسان وبقي المستفاد.(3/344)
وجه قوله الأول أن الاسم المذكور في الخطاب ينتظم الصغار والكبار. ووجه الثاني: تحقيق النظر من الجانبين
كما يجب في المهازيل واحد منها، ووجه الأخير أن المقادير لا يدخلها القياس فإذا امتنع إيجاب ما ورد به الشرع امتنع أصلا،
وإذا كان فيها واحدة من المسان جعل الكل تبعا له في انعقادها نصابا دون تأدية الزكاة منها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وجه قوله الأول: إن الاسم المذكور) ش: من اسم الشاة والإبل والبقر م: (في الخطاب) ش: يعني في النص في قوله: خذ من الإبل م: (ينتظم الصغار والكبار) ش: ولهذا لو حلف لا يأكل لحم الإبل فأكل فصيلا يحنث.
م: (ووجه الثاني) ش: أي في القول الثاني وهو قوله: فيها واحدة منها م: (تحقيق النظر من الجانبين) ش: أي من جانب الفقير والغني، وهذا لأن في إيجاب الكبير إضرارا بالغني، وفي عدم إيجاب شيء إضرار بالفقير فوجب واحدة من الصغار.
م: (كما يجب في المهازيل واحد منها) ش: المهازيل جمع: مهزول من الهزال وهو خلاف السمن، وجه التشبيه هو وجوب الواحد من نصاب الإبل أو البقر أو الغنم المهزولة تحقيقا للنظر من الجانبين، وفي " الأسرار " اختار قول أبي يوسف؛ لأنه أعدل فإنا رأينا النقصان بالهزال رد الوجوب الأصلي إلى واحد منها، ولم يبطل أصلا فكذلك النقصان بالسمن مع قيام الإسامة واسم الإبل، وفي " النهاية ": ونقصان الوصف لا يسقط الزكاة أصلا حتى إن في العجاف والمهازيل تجب الزكاة بحبسها فكذلك نقصان السن.
م: (ووجه الأخير) ش: أي القول الأخير، وفي بعض النسخ الآخر وهو قوله: ليس في الحملان والفصلان والعجاجيل دقة وقوله -ووجه الأخير- مبتدأ وقوله م: (أن المقادير لا يدخلها القياس) ش: خبره م: (فإذا امتنع إيجاب ما ورد به الشرع) ش: وهو بنت مخاض في خمس وعشرين من الإبل والثني من الغنم م: (امتنع أصلا) ش: أي امتنع الوجوب بالكلية؛ لأن أخذه من الصغار أخذ خيار المال وذلك لا يجوز.
م: (وإذا كان فيها) ش: أي في الصغار م: (واحدة من المسان جعل الكل تبعا له) ش: أي الكل من الصغار تبعا للواحد من المسان م: (في انعقادها نصابا) ش: أي في انعقاد الصغار يعني ينعقد النصاب بالصغار م: (دون تأدية الزكاة منها) ش: أي من الصغار، حتى إذا دفع واحدا منها لا يجوز بل يجب ما ورد به الشرع حتى لو هلك المسان بعد حولان الحول سقطت الزكاة عن الكل عند أبي حنيفة ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هذا نتيجة كون الصغار تبعا لواحد من المسان.
صورته: رجل له تسعة وثلاثون حملا ومسنة واحدة، فإذا كانت المسنة وسطا أخذت، وإن كانت جيدة لم تؤخذ ويؤدي صاحب المال شاة وسطا، وإن كان دون الوسط لم تجب إلا هذه؛(3/345)
لأن الواجب يتعلق بالمال وقد فات وعند أبي يوسف لا يجب في الباقي، ثم عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجب فيما دون الأربعين من الحملان وفيما دون الثلاثين من العجاجيل شيء، ويجب في خمس وعشرين من الفصلان واحد، ثم لا يجب شيء حتى تبلغ مبلغا لو كانت مسان يثنى الواجب، ثم لا يجب فيها شيء حتى تبلغ مبلغا لو كانت مسان، يثلث الواجب
ولا يجب فيما دون خمس وعشرين في رواية وعنه أنه يجب في الخمس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن هلكت الكبيرة بعد الحول بطل الواجب كله عند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله-. م: (لأن الواجب) ش: أي وجوب الزكاة م: (يتعلق بالمال وقد فات) ش: بالهلاك.
م: (وعند أبي يوسف لا يجب في الباقي) ش: في تسعة وثلاثين جزءا من أربعين جزءا من حمل؛ لأن الفصيل على الحمل إنما وجب باعتبار الكبيرة فبطل بهلاكها، وإذا هلكت الكل إلا الكبيرة فإن فيها جزءا من أربعين جزءا من شاة مسنة، لأن كل الواجب لم يكن فيها بل كان فيها وفي الصغار تبعا، فكانت الصغار كأنها كبار، فإذا هلكت الصغار بقيت الكبيرة بقسطها.
م: (ثم عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجب فيما دون الأربعين من الحملان وفيما دون الثلاثين من العجاجيل، ويجب في خمس وعشرين من الفصلان واحد) ش: اختلفت الرواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كيفية أداء الزكاة عن الفصلان، ففي رواية بشر بن إسماعيل، قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا بلغ الفصلان عددا وهو خمس وعشرون يجب فيها فصيل واحد منها م: (ثم لا يجب فيها شيء حتى تبلغ مبلغا لو كانت مسان يثنى الواجب) ش: يعني لا يجب شيء حتى تبلغ مبلغا لو كانت كبارا يثنى الواجب فيه وهو ستة وسبعون إذ فيها يجب بنتا لبون. م: (ثم لا يجب فيها شيء حتى تبلغ مبلغا لو كانت مسان يثلث الواجب) ش: أي ثم لا يجب شيء آخر حتى تبلغ مبلغا أي عددا وهو مائة وخمسة وأربعون لو كانت كبارا يثلث الواجب ويثلث على صيغة المجهول من التثليث.
ومعنى يثلث الواجب هو أن يجب فيها ثلاثة من الفصلان؛ لأنه مبلغ يثلث به الواجب من الكبار حيث تجب حقتان وبنت مخاض. وقد اعترض محمد على أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال: إنما أوجب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جنس الإبل بصفة مخصوصة، وهي وجوب الزكاة من خمسة إلى خمسة وعشرين، ومن خمسة وعشرين إلى ستة وسبعين وما لا يجب في هذين الموضعين كذلك في غيره وجب من جهة أو الفرض يتغير بالسن والعدد في الإبل ولا سن في الفصلان فوجب اعتبار التغيير بالعدد.
م: (ولا يجب فيما دون خمسة وعشرين في رواية) ش: أي في رواية عن أبي يوسف رواها عنه الحسن بن مالك م: (وعنه) ش: أي وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية رواها ابن شجاع عنه م: (أنه) ش: أي أن الشأن م: (يجب في الخمس) ش: بفتح الخاء يعني في خمس(3/346)
خمس فصيل، وفي العشر خمسا فصيل على هذا الاعتبار، وعنه أنه ينظر إلى قيمة خمس فصيل وفي الخمس، وإلى قيمة شاة وسط فيجب أقلهما، وفي العشر إلى قيمة شاتين وإلى قيمة خمسي فصيل على هذا الاعتبار. قال: ومن وجب عليه مسن فلم توجد أخذ المصدق أعلى منها،
ورد الفضل أو أخذ دونها أو أخذ الفضل، وهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فصلان م: (خمس فصيل) ش: بضم الخاء م: (وفي العشر خمسا فصيل) ش: أي ويجب في العشرة من الفصلان خمسان من فصيل م: (على هذا الاعتبار) ش: يعني يجري على هذا القياس إلى خمس وعشرين فيجب فيها واحدة منها فكأنه اعتبر البعض بالكل.
م: (وعنه) ش: أي وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه ينظر إلى قيمة خمس فصيل) ش: بضم الخاء م: (وفي الخمس) ش: بفتح الخاء أي في الخمسة من الفصلان ش: (وإلى قيمة شاة وسط فيجب أقلهما) ش: أي أقل القيمتين: قيمة خمس الفصيل، وقيمة الشاة، وذلك لأن الأقل متيقن.
م: (وفي العشر إلى قيمة شاتين وإلى قيمة خمسي فصيل) ش: أي ينظر في العشرة من الفصلان إلى القيمتين من قيمة شاتين وقيمة خمسين من الفصيل م: (على هذا الاعتبار) ش: أي يجري على هذا القياس فينظر، وفي خمسة عشرة إلى قيمة ثلاث شياه وقيمة ثلاث أخماس فصيل، وفي العشرين إلى قيمة أربع شياه وأربعة أخماس فصيل، وفي الخمس والعشرين تجب واحدة منها، ثم لا شيء حتى تبلغ عددا يثلث الواجب فيه في الكبار فيجب ثلاثة فصلان وقد مر بيان ذلك.
م: (قال: ومن وجب عليه مسن) ش: أي ذات سن على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أو سمي بها كما سمي المسنة من النوق بالتاء؛ لأن المسن مما استدل به على المسن من الدواب م: (فلم توجد أخذ المصدق) ش: بكسر الدال المشددة، وهو عامل الزكاة التي يستوفيها من أربابها، يقال: صدقهم يصدقهم فهو متصدق م: (أعلى منها) ش: أي أعلى من المسن.
م: (ورد الفضل) ش: أي فضل القيمة مثلا، إذا كانت قيمة المسن المتعينة للوجوب ثلاثين درهما، وقيمة الأعلى منها أربعون درهما، أخذ المصدق الأعلى، ويرد عشرة دراهم لصاحب المال م: (أو أخذ دونها) ش: أي دون المسن م: (أو أخذ الفضل) ش: مثلا، إذا كانت قيمة المسن ثلاثين، وقيمة الذي أخذه عشرون يأخذ من رب المال عشرة دراهم.
وقال أبو يوسف: إذا وجبت بنت مخاض، ولم توجد أخذ ابن لبون، وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وعندهما لا يجوز ذلك إلا بطريق القيمة.
م: (وهذا) ش: أي وهذا المذكور من أخذ الأعلى ورد الفضل أو أخذ الأدنى واسترداد(3/347)
مبني على أن أخذ القيمة في باب الزكاة جائز عندنا، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، إلا أن في الوجه الأول له أن لا يأخذ ويطالب بعين الواجب أو بقيمته؛ لأنه شراء، وفي الوجه الثاني يجبر؛ لأنه لا بيع فيه بل هو إعطاء بالقيمة،
ويجوز دفع القيمة في الزكاة عندنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الفضل م: (مبني على أن أخذ القيمة في باب الزكاة جائز عندنا على ما نذكره إن شاء الله تعالى) ش: وأصل ذلك ما رواه البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله أَنَا أبي، حدثنا ثمامة أن أنسا، حدثه أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب له فريضة الصدقة التي أمر الله رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة، وعنده حقه فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين....» الحديث، ثم المعتبر ما بين القيمتين في الرد والاسترداد أي شيء كان؛ لأن القيمة تتفاوت باختلاف الرخص من الغلاء، وتقدير العشرين في الحديث ليس بلازم؛ لأنه كان بحسب الغالب في ذلك الزمان.
م: (إلا أن في الوجه الأول) ش: وهو قوله: أخذ المصدق أعلاها ورد الفضل م: (له) ش: أي للمصدق م: (أن لا يأخذ) ش: أي الأعلى م: (ويطالب صاحب المال بعين الواجب أو بقيمته؛ لأنه شراء) ش: ولا شراء في الشراء.
قال الأترازي: وفيه نظر عندي؛ لأنهم قالوا: الخيار لصاحب المال حتى يكون رفقا به؛ لأن الزكاة وجبت بطريق اليسر، فإذا كان للمصدق ولاية الامتناع من قبول الأعلى لزم العشر وفيه عود على الموضوع بالنقص فلا يجوز.
قلت: قيل: إن الخيار للمصدق ذكره صاحب " التجريد ".
م: (وفي الوجه الثاني) ش: هو قوله أو أخذ دونها م: (يجبر) ش: أي المصدق م: (لأنه لا بيع فيه بل هو إعطاء بالقيمة) ش: فإذا امتنع يجبر؛ لأن دفع القيمة جائز.
[إخراج القيمة في الزكاة والكفارات ونحوها]
م: (ويجوز دفع القيمة في الزكاة عندنا) ش: وهو قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابنه، وابن مسعود، وابن عباس، ومعاذ، وطاوس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال الثوري: يجوز إخراج العروض في الزكاة إذا كانت بقيمتها وهو مذهب البخاري، وإحدى الروايتين عند أحمد، ولو أعطى عرضا عن ذهب وفضة، وقال أشهب: يجزئه، وقال الطرطوسي: هذا قول بين في جواز إخراج القيم في الزكاة.
قال: وأجمع أصحابنا على أنه لو أعطى فضة عن ذهب أجزأه، وكذلك إذا أعطى ذهبا عن فضة عند مالك، وقال سحنون: لا يجزئه، وهو وجه للشافعية، واختار ابن حبيب دفع القيمة إذا رآه أحسن للمساكين.(3/348)
وكذا في الكفارات، وصدقة الفطر، والعشر، والنذر، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز اتباعا للمنصوص كما في الهدايا والضحايا، ولنا أن الأمر بالأداء إلى الفقير إيصال للرزق الموعود إليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذا في الكفارة وصدقة الفطر والعشر والنذر) ش: أي وكذا يجوز دفع القيمة في الكفارة، وأراد بالكفارة المالية وإذا أدى نصف قفيز تمر جيد عن قفيز تمر رديء، وقل في النذر فإنه يجوز عند محمد وزفر، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله-.
وفي صدقة الفطر لو أدى نصف صاع من تمر عن صاع من شعير بطريق القيمة لا يجوز، وإذا غير المنصوص عن المنصوص يجوز في غير الربويات ذكره في " الجامع "، وكذا يجوز الاستبدال بالثمن والمنذور ولو عينه.
م (وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يجوز) ش: وبه قال داود، وأحمد، وبه قال مالك، إلا أنه قال: يجوز إخراج الذهب عن الفضة، والفضة عن الذهب.
م: (اتباعا للمنصوص) ش: يعني اتبع الشافعي اتباعا لعين النصوص وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في خمس من الإبل شاة» ، في أربعين شاة شاة، وهذا بيان لما هو مجمل في الكتاب، فإن الإيتاء منصوص عليه والمأتي غير مذكور فيه، فالتحق الحديث بيانا لمجمل الكتاب، وكأنه قال: وآتوا الزكاة في أربعين شاة شاة، ولا يجوز التعليل لإبطال حق الفقير في العين؛ لأن الحق المستحق مراعى بصورته ومعناه، كما في حقوق العباد م: (كما في الهدايا والضحايا) ش: أي كما يتبع المنصوص في الهدايا والضحايا؛ لأنها مقدرة بأعيان معلومة شرعا فلا تتأدى بالقيمة.
م: (ولنا أن الأمر بالأداء إلى الفقير) ش: أي الأمر بأداء الزكاة إلى الفقير م: (إيصال) ش: أي لأجل الإيصال م: (للرزق الموعود إليه) ش: أي إلى الفقير؛ لقوله عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] (سورة هود: الآية: 6) .
ولما أمر الغني بأدائها وهو حق الله إلى الفقير الذي هي حقه بحكم الوعد علم أن المقصود من الأمر بأدائها إيصال لذلك الرزق الموعود وكفاءته للفقير، فكما يحصل رزق الفقير وكفاءته بعين الشاة، يحصل بقيمتها بل هي أولى؛ لأنه يتوصل بعين الشاة إلى نوع من الكفاية وهو الأكل، وبقيمتها يتوصل إلى أنواع من الكفاية.
قلت: هكذا ذكر الشراح خصوصا الأترازي، فإنه أطنب في هذا الموضع، فللخصم أن يقول: في أخذ عين الشاة تحصل كفاية الأكل، وبيعها بعد الأخذ يحصل كل الأنواع بالكفاية، والأحسن أن يقول: إن التقييد على الكتاب بخبر الواحد لا يجوز بالاتفاق، ألا ترى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في خمس من الإبل شاة» وكلمة في حقيقة الظرف وعين الشاة لا توجد في الإبل فعرف أن المراد قدره من المال.(3/349)
فيكون إبطالا لقيد الشاة فصار كالجزية، بخلاف الهدايا؛ لأن القربة فيها إراقة الدم وهو لا يعقل، ووجه القربة في المتنازع فيه سد خلة المحتاج وهو معقول،
وليس في العوامل، والحوامل والعلوفة صدقة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فيكون إبطالا لقيد الشاة) ش: أي فيكون الأمر بإيصال الرزق إبطالا لقيد الشاة المنصوص عليه، لا يقال ما قلتم فيه تقييد الشاة المنصوص عليها بالتعليل؛ لأنا نقول: لا نسلم ذلك، وإنما أراد بالنص القطعي الذي يوجبه أداء الرزق الموعود له بالآية المذكورة. م: (وصار كالجزية) ش: أي وصار الحكم كما ذكرنا كأداء القيمة في الجزية، فإنه يجوز بالاتفاق؛ لأنه أدى مالا متقوما عن الواجب فكذا تجوز القيمة في الزكاة لهذا المعنى.
م: (بخلاف الهدايا؛ لأن القربة فيها إراقة الدم) ش: هذا جواب عن قياس الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عدم جواز أخذ القيمة في الزكاة عنده على عدم جواز أخذ القيمة في الهدايا والضحايا فإنه متفق عليه. والجواب أن معنى القربة في الهدايا والضحايا فإنه إراقة الدم وهي لا تتقوم، فلا يقم شيء آخر مقام ذلك م: (وهو لا يعقل) ش: أي إراقة الدم غير معقولة ولا متقومة، فالمستحق إراقة الدم حتى لو هلك بعد الذبح قبل التصدق به لا يلزمه شيء. م: (ووجه القربة في المتنازع فيه) ش: وهو حكم أخذ القيمة في الزكاة م: (سد خلة المحتاج) ش: يعني سد احتياج الفقير م: (وهو معقول) ش: أي يدرك بالعقل فيتأتى فيه الضرر بالقيمة؛ لأن المقصود كفاءة الفقير. فإن قلت: لا نسلم ذلك، ولهذا لا يجوز أداؤها إلى الفقير الكافر وإلى الوالدين والولد، وإن كانوا فقراء. قلت: الشرع لم يأمر بالأداء إليهم.
فإن قلت: المراد بكفاية الفقير كفاية العمر أو كفاية الحال وكل منهما ممنوع أما الأول فظاهر، وأما الثاني فأداؤها يجوز إلى من له كفاية الحال، كمن له خادم ودار ومائتا درهم إلا درهم.
قلت: المقصود الكفاية الحاصلة بقدر الزكاة لا ذاك ولا ذاك فافهم.
م: (وليس في العوامل والحوامل والعلوفة صدقة) ش: أي زكاة الحوامل جمع حامل: وهي التي أعدت لحمل الأثقال كذا قاله الكاكي، وقال تاج الشريعة: جمع عاملة قال في " الطلبة ": العوامل المعدة للأعمال، والمعلوفة: بفتح العين ما يعلف من الغنم وغيرها، فالواحد والجمع سواء، والمعلوفة بالضم: جمع علف كذا قاله المطرزي يقال: علفت الدابة ولا يقال علفتها، والدابة معلوفة وعليف، كذا في " الجمهرة "، وعدم الزكاة في هذه المذكورات في مذهبنا، وهو قول عطاء، والحسن، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وسعيد بن جبير، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وأبي ثور، وأبي عبيد، وابن المنذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ويروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في " الإمام "، وقال قتادة ومكحول ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: تجب الزكاة في المعلوفة والنواضح، واحتج بالعمومات وهي مذهب معاذ وجابر بن عبد الله وسعيد بن عبد(3/350)
خلافا لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - له ظواهر النصوص، ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في الحوامل والعوامل ولا في البقرة المثيرة صدقة» ولأن السبب هو المال النامي، ودليله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العزيز، والحسن بن صالح - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (خلافا لمالك) ش: فإنه أوجب الزكاة فيها لما ذكرنا م: (له) ش: أي لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ظواهر النصوص) ش: لأن ظاهر قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] (التوبة: الآية 103) ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل خمس ذود شاة» يقتضي وجوب الزكاة.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في الحوامل والعوامل ولا في البقرة المثيرة صدقة» ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا الحديث بهذا اللفظ غريب، وفي العوامل أحاديث منها ما رواه أبو داود من حديث زهير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حدثنا أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة، والحارث عن علي قال زهير: وأحسبه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «هاتوا زكاة ربع العشر» الحديث، وقال فيه «وليس على العوامل شيء» ورواه الدارقطني مجزوما، قال: ليس فيه: قال زهير: وأحسبه. وقال ابن القطان: هذا سند صحيح وكل من فيه ثقة معروف.
ورواه عبد الرزاق في "مصنفه " موقوفا فقال: قال أخبرنا الثوري، ومعمر، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ليس في العوامل البقر صدقة» .
ومنها ما رواه الدارقطني من حديث طاوس عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا: «ليس في البقر العوامل صدقة» وفي إسناده سوار بن مصعب نقل ابن عدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تضعيفه عن البخاري والنسائي وابن معين ووافقهم، وقال: عامة ما يرويه غير محفوظ.
ومنها رواه الدارقطني أيضا، عن غالب بن عبيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرفوعا نحوه، وغالب لا يعتمد عليه. قال يحيى: ليس بثقة، وقال الرارزي: متروك.
وأما حديث المغيرة فرواه الدارقطني من حديث أبي الزبير أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في المثيرة صدقة» قال البيهقي: إسناده ضعيف والصحيح أنه موقوف، ورواه عبد الرزاق في "مصنفه " عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر موقوفا، وقد مضى تفسير الحوامل والعوامل. وأما البقرة المثيرة فهي التي تثار بها الأرض أي تحرث، من الإثارة وهي التحريك والرفع.
م: (ولأن السبب) ش: أي سبب وجوب الزكاة م: (هو المال النامي ودليله) ش: أي دليل(3/351)
الإسامة أو الإعداد للتجارة، ولم يوجد ولأن في العلوفة تتراكم المؤنة فينعدم النماء، معنى
ثم السائمة: هي التي تكتفي بالرعي في أكثر الحول حتى لو علفها نصف الحول أو أكثر كانت علوفة؛ لأن القليل تابع للأكثر ولا يأخذ المصدق خيار المال ولا رذالته، ويأخذ الوسط.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المال النامي م: (الإسامة) ش: بكسر الهمزة يقال: أسمت الماشية فسامت أي رعيتها فرعت، وبالإسامة تزداد الماشية سمنا، ولهذا أجل السوم بالحول؛ لأن النمو إنما يتحقق ذكرا ونسلا بالحول م: (أو الإعداد للتجارة) ش: بكسر الهمزة من أعددت الشيء، إذا هيأته، والمعنى أو دليله يهيأ المال للتجارة للأرباح م: (ولم يوجد) ش: أي واحد من الإسامة والإعداد للتجارة، فلم تجب الزكاة؛ لأن الحكم يدار على الدليل وهو معدوم.
م: (ولأن في العلوفة) ش: بفتح العين كما ذكرنا عن قريب م: (تتراكم المؤنة) ش: أي تتكاثر م: (فينعدم النماء معنى) ش: فلا تجب الزكاة، وفي " البدائع ": إن أسيمت للحمل أو للركوب أو اللحم فلا زكاة فيها، وإن أسيمت للتجارة ففيها زكاة التجارة، حتى لو كانت أربعا من الإبل أو أقل تساوي مائتي درهم تجب فيها خمسة، وإن كانت خمسة لا تساوي مائتي درهم لا تجب فيها الزكاة.
وإن أسيمت للدر والنسل ففيها زكاة السائمة. وفي " الذخيرة ": اشترى إبلا سائمة بنية التجارة وحال عليها الحول، تجب فيها زكاة التجارة دون زكاة السائمة، وأجمعوا على أنه لا يجمع بين زكاة السائمة وزكاة التجارة وهو قول الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (ثم السائمة هي التي تكتفي بالرعي في أكثر الحول حتى لو علفها نصف الحول أو أكثر كانت علوفة؛ لأن القليل تابع للأكثر) ش: لأن أصحاب السوائم لا يجدون بدا من أن يعلفوا سوائمهم في البرد والثلج، فجعل الأقل تابعا للأكثر، ولا خلاف أن السائمة في جميع الحول تجب فيها الزكاة، والعلوفة في جميع السنة لا تجب فيها الزكاة، وإنما الخلاف في الإسامة في أكثر الحول، فعندنا وأحمد وبعض أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -: لو علفت في نصف السنة أو أكثر كانت علوفة.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح: إن السوم شرط في جميع السنة، حتى لو ترك الإسامة في زمان لو لم يعلف فيه الحيوان يموت ينقطع السوم، وإذا ترك العلف في يوم أو يومين هل ينقطع أم لا؟ اختلف أصحابه فيه، فمنهم من قال: لا ينقطع لقلة المدة، ومنهم من قال: ينقطع كيفما يوجد العلف، ومنهم من قال: لو قصد العلف وقطع الإسامة ينقطع الحول، ولو كان العلف ساعة واحدة.
م: (ولا يأخذ المصدق) ش: وهو آخذ الزكاة م: (خيار المال ولا رذالته) ش: الرذالة: بضم الراء وتخفيف الذال المعجمة اسم جمع لرذل، وهو الدون من كل شيء م: (ويأخذ الوسط) ش: هذا(3/352)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تأخذوا من حرزات أموال الناس، أي كرائمها، وخذوا من حواشي أموالهم» أي أوساطها ولأن فيه نظرا من الجانبين.
قال: ومن كان له نصاب فاستفاد في أثناء الحول من جنسه ضمه إليه وزكاه به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مجمع عليه من أهل العلم، فقال الزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا جاء المصدق قسم المال أثلاثا: ثلث خيار، وثلث أوساط، وثلث شرار، ويأخذ المصدق من الوسط رواه أبو داود، قوله -الشاة- جمع شياه، والمراد من الشرار المهازيل المغيرة، ومن الخيار السمان الجياد.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تأخذوا من حرزات أموال الناس أي كرائمها، وخذوا من حواشي أموالهم، أي أوساطها) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هذا الحديث بهذا اللفظ غريب، وروى البيهقي بعضه مرسلا عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمصدقه: "لا «تأخذ من حرزات أموال الناس شيئا، خذ الشارف والبكر وذوات العيب» ، ورواه ابن أبي شيبة عن حفص عن هشام به.
ورواه أبو داود في " المراسيل ": حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد عن هشام به.
قوله: من حرزات أموال الناس جمع حرزة بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي وبالراء، وهي خيار مال الرجل سميت حرزة؛ لأن صاحب المال يحرزها في نفسه، سميت به المرأة الواحدة من الحرز ولهذا أضيفت إلى النفس في حديث البيهقي.
قوله: الشارف، هي الهرمة، والبكر: بالفتح هو الصغير من الإبل بمنزلة الغلام من الناس. قوله: أوساطها، جمع وسط، وفي " المنتقى ": الأوساط على الأدون، وأدون الأعلى، وقيل: إذا كان عشرون من الضأن وعشرون من المعز أخذ الوسط، ومعرفته أن يقوم الوسط من المعز والضأن فتؤخذ شاة تساوي قيمة نصف كل واحد منهما، مثلا الوسط من المعز يساوي عشرة دراهم، والوسط من الضأن يساوي عشرين فتؤخذ شاة قيمتها خمسة عشر، ولو لم يكن فيها إلا واحدة وسط يجب فيها ما يجب في الأوساط، وإن لم يكن فيها وسط يعتبر أفضلها فيكون الواجب بقدره، وفي " الجامع الكبير ": ولو أخذ شاة سمينة تبلغ قيمتها شاتين وسطين يجوز؛ لأن الجودة في الحيوان مسقوطة، المنصوص عليه هو الوسط.
وفي " المجتبى ": لو كان في السوائم العمياء والعرجاء والعجاف تعد من النصاب لإطلاق الاسم، ولكن لا تؤخذ في الصدقة إلا أن تكون قيمة المعيب مثل قيمة الصحيح. م: (ولأن فيه نظرا من الجانبين) ش: أي ولأن في أخذ الوسط نظرا لجانبي الفقير وصاحب المال.
[كيفية زكاة المال المستفاد أثناء الحول]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ومن كان له نصاب فاستفاد في أثناء الحول من جنسه ضمه إليه) ش: أي ضم الذي استفاده إلى النصاب الذي معه م: (وزكاه به) ش: أي زكى الذي استفاده بالنصاب الذي معه والمستفاد على نوعين؛ الأول: أن يكون من جنسه كما إذا كانت له إبل فاستفاد إبلا في أثناء الحول يضم المستفاد إلى الذي عنده فيزكي عن الجميع.(3/353)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يضم؛ لأنه أصل في حق الملك فكذا في وظيفته، بخلاف الأولاد والأرباح، لأنها تابعة في الملك حتى ملكت بملك الأصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثاني: أن يكون من غير جنسه كما إذا كان له إبل واستفاد بقرا أو غنما في أثناء الحول لا يضم إلى الذي عنده بالاتفاق بل يستأنف له نوع آخر. والنوع الأول على نوعين أيضا، أحدهما: أن يكون المستفاد من الأصل كالأولاد والأرباح فإنه يضم بالإجماع. والثاني: أن يكون مستفادا بسبب مقصود كالموروث والمشترى والموهوب ونحوها فإنه يضم عندنا.
م: (وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يضم) ش: وبه قال أحمد، وقال النووي في " شرح المهذب ": إن المستفاد في أثناء الحول بشراء أو هبة أو إرث أو نحوها مما يستفاد لا يضم إلى ما عنده في الحول بلا خلاف، ويضم إليه في النصاب على المذهب. وفيه وجه أنه لا يضم كالحول، وإذا كان المستفاد دون النصاب ولا يبلغ النصاب الثاني ما تعلق به الزكاة وإن كان دون نصاب وبلغ النصاب الثاني، بأن ملكت ثلاثين بقرة ستة أشهر ثم اشترى عشرا فعليه بعد تمام الحول في الثلاثين تبيع، وعند تمام حول العشرة ربع مسنة.
وعند ابن شريح: لا ينعقد حول العشرة حتى يتم حول الثلاثين ثم يستأنف حول الجميع انتهى.
وقال مالك: إذا كمل النصاب بالأولاد قبل مجيء الساعي زكى، والوجوب عنده بمجيء الساعي لا بحولان الحول، وخالفه الأئمة، وإن استفاد من غير الأمهات لا يضم، وقال ابن حزم: لا حكم للشافعي في الوجوب ردا على مالك وأبي ثور.
ونص الشافعي في " الأم " والقديم، قال: ثم تناقضوا قالوا: إن أبطأ عاما أو عامين لم يسقط الفرض ووجب أخذها لكل عام، وحكى العبدري عن الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ - والنخعي أن السخال لا تضم إلى الأمهات، بل حولها من وقتها لولادتها، وقال الشعبي وداود: لا زكاة في السخال، ولا ينعقد عليها الحول.
م: (لأنه أصل في حق الملك) ش: أي ولأن المستفاد أصل لأنه ملك بغير السبب الذي ملك النصاب الآتي م: (فكذا وظيفته) ش: وهي وجوب الزكاة م: (بخلاف الأولاد والأرباح) ش: يعني تضم الأولاد والأرباح؛ (لأنها تابعة في الملك حتى ملكت بملك الأصل) ، وملكت على صيغة المجهول، والأصل هو الأمهات والمال الذي حصل منه الربح.
فإن قلت: ما تقول في الحديث الذي استدل به الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواه الترمذي وقال: حدثنا يحيى بن موسى، حدثنا هارون بن صالح الطلحي المديني، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استفاد مالا فلا(3/354)
ولنا أن المجانسة هي العلة في الأولاد والأرباح؛ لأن عندها يتعسر التمييز فيتعسر اعتبار الحول لكل مستفاد وما شرط الحول إلا للتيسير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
زكاة عليه حتى يحول عليه الحول» . وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه من حديث عمرة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» .
قلت: أما حديث ابن عمر فإنه ضعيف؛ لأن فيه عبد الرحمن بن زيد، قال الترمذي: وهو ضعيف في الحديث ضعفه أحمد بن حنبل - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعلي بن المديني وغيرهما من أهل الحديث وهو كثير الغلط. وقال الترمذي أيضا: وروى أيوب وعبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وغير واحد عن نافع عن ابن عمر موقوفا.
قلت: انفرد الترمذي بإخراج هذا الحديث، وانفرد أيضا بالموقوف.
وأما حديث ابن ماجه ففيه حارثة بن محمد، وقال أحمد: ليس بشيء، وقال يحيى: ثقة ولو ثبت لما كان مخالفا لمذهبنا؛ لأن حول الأصل حول الزيادة حكما. قالوا: في الأولاد والأرباح والزيادة في البدن بالسمن.
م: (ولنا أن المجانسة هي العلة في الأولاد والأرباح) ش: يعني في الضم وهو موضع الإجماع
م: (ولأن عندها) ش: أي عند المجانسة م: (يتعسر التمييز فيتعسر اعتبار الحول لكل مستفاد، وما شرط الحول إلا للتيسير) ش: لأن المستفاد مما يكثر وجوده ولا يمكن مراعاة الحول عند كل مستفاد إلا بعد ضبط أحوال ذلك في الكمية والكيفية والزمان، وفي ضبط هذه الجملة عند الكثرة حرج؛ خصوصا إذا كان النصاب دراهم وهو صاحب غلة يستفيد كل يوم درهما أو درهمين أو غير ذلك، كذا في " مبسوط شيخ الإسلام ".
وفي " المستصفى ": اعتبار الحول في المستفاد يؤدي إلى العسر فيعود على موضوعه بالنقص واستدل الأترازي لأصحابنا بقوله: قلنا إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض إلى خمس وثلاثين، فإذا زادت واحدة ففيها بنت لبون ولم يفصل بين الزيادة في أول الحول أو في أثنائه وأطال الكلام فيه.
قلت: الذي يتصدى لشرح كتاب ينبغي أن يتتبع متن هذا الكتاب كله كلمة كلمة حتى يستفيد الناظر في هذا الشرح، وإلا لا يستفيد شيئا أصلا، ويحير؛ لأن المتن في ناحية والشرح في(3/355)
قال: والزكاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- في النصاب دون العفو، وقال محمد وزفر -رحمهما الله- فيهما حتى لو هلك العفو، وبقي النصاب بقي كل الواجب عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله-، وعند محمد وزفر -رحمهما الله- يسقط بقدره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ناحية.
ثم قال الأترازي:
فإن قلت: قد صح في الحديث وقد ذكر الحديث الذي ذكرناه عن ابن عمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ثم طوى الكلام من تعرض لمتن الكتاب فسبحان الله كيف قال: قد صح، والحال أنه لم يصح كما ذكرناه. واحتج السروجي بقوله: ولنا ما رواه الترمذي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن من السنة شهرا تؤدون فيه زكاة أموالكم، فما حدث بعد ذلك فلا زكاة فيه حتى يجيء رأس الشهر» ، ثم قال: وقال سبط ابن الجوزي: رواه الترمذي بمعناه، وقيل: إنه موقوف على عثمان.
وقال الكاكي: أيضا ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اعلموا أن من السنة شهرا تؤدون فيه زكاة أموالكم» الحديث، ثم قال: رواه الترمذي، وجزم بذلك ولم أره في الترمذي، والعجب من هؤلاء يستدلون بحديث فيما يتعلق بالمذهب، ولا يذكرون غالبا من رواه من الصحابة ولا يكشفون حاله، ولا من أخرجه مع دعاوي بعضهم علم الحديث.
ثم اعلم أن مذهبنا في هذا الباب هو قول عثمان وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والحسن البصري، والثوري، والحسن بن صالح، قال في " المغني ": وهو قول مالك في السائمة.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (والزكاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- في النصاب دون العفو) ش: يعني إذا اجتمع في المال نصاب وعفو يتعلق الوجوب بالنصاب دون العفو عندهما، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الجديد ومالك وأحمد، واختاره المزني.
م: (وقال محمد وزفر فيها) ش: أي الزكاة في النصاب والعفو جميعا، وبه قال الشافعي في القديم م: (حتى لو هلك العفو وبقي النصاب بقي كل الواجب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: هذا نتيجة قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وكان ينبغي أن يذكر هذا قبل قوله - وقال محمد وزفر فيهما-: والعفو هو الذي يزيد بين نصاب ونصاب؛ لأنه لا يخلو عن الوجوب.
م: (وعند محمد وزفر يسقط بقدره) ش: أي بقدر العفو، صورته: رجل له ثمانون شاة، فحال الحول عليها، فهلك أربعون بقيت الشاة الواجبة عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- صرفا للهلاك إلى العفو، وعند محمد وزفر -رحمهما الله- يبقى نصف الواجب صرفا للهلاك إلى الكل شائعا.(3/356)
لمحمد وزفر -رحمهما الله- أن الزكاة وجبت شكرا لنعمة المال والكل نعمة، ولهما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «في خمس من الإبل السائمة شاة وليس في الزيادة شيء حتى تبلغ عشرا» وهكذا قال في كل نصاب، ونفي الوجوب عن العفو، ولأن العفو تبع للنصاب فيصرف الهلاك أولا إلى التبع، كالربح في مال المضاربة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لمحمد وزفر أن الزكاة وجبت شكرا لنعمة المال والكل نعمة) ش: فيتعلق الوجوب بالكل؛ لأن الشارع أخبر في قوله: في خمس من الإبل شاة إلى تسع أن الواجب في الكل؛ لأنه حد الوجوب إلى التسع.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- م: (قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في خمس من الإبل السائمة شاة وليس في الزيادة شيء حتى تبلغ عشرا» ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد تقدم في كتاب عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب كتاب الصدقة، وكان فيه: «في خمس من الإبل شاة» ، أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وتقدم في كتاب أنس عند البخاري: «في خمس ذود شاة» .
قوله- وليس في الزيادة شيء حتى تبلع عشرا- ليس من الحديث المذكور، وإنما روى معناه أبو عبيد القاسم بن سلام، حدثنا يزيد بن هارون، عن حبيب، عن عمرو بن حزم، عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري أن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الصدقات أن الإبل إذا زادت على عشرين ومائة فليس فيما دون العشرين شيء، يعني حتى تبلغ ثلاثين ومائة.
م: (وهكذا قال في كل نصاب) ش: لم يثبت هذا من الحديث المذكور، ولا من غيره، وهذا إنما ذكره جمال الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تخريجه ببعض موضعه م: (ونفي الوجوب عن العفو) ش: أي نفى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجوب الزكاة عن العفو وهو الوقص. وفي " الذخيرة ": الوقص لا شيء فيه، وذكر سنده في الطبراني لمالك والشافعي في تعلق الزكاة بالوقص قولان، والأصح عند الشافعية والمالكية تعلقها بالنصاب دون الوقص، وهذا نصه في القديم وأكثر كتبه الجديدة.
وقال البويطي من كتبه الجديدة: يتعلق بالجميع، وقال في " مغني الحنابلة ": يتعلق بالنصاب دون الوقص عند أصحابنا م: (ولأن العفو تبع للنصاب فيصرف الهلاك أولا إلى التبع) .
ش: ولأن العفو زائد على النصاب وتبع له، والأصل هو النصاب فيصرف الهالك فيه إلى التبع الزائد م: (كالربح في مال المضاربة) ش: فإن الهالك منه أولا يصرف إلى الربح، ثم إلى رأس المال، ووجه الشبه كون النصاب ومال المضاربة أصلين وإلا العفو والربح تبعان، فصرف الهالك إلى التابع أولى.(3/357)
ولهذا قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصرف الهلاك بعد العفو إلى النصاب الأخير، ثم إلى الذي يليه إلى أن ينتهي؛ لأن الأصل هو النصاب الأول، وما زاد عليه تابع. وعند أبي يوسف يصرف إلى العفو أولا، ثم إلى النصاب شائعا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهذا قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي ولكون النصاب أصلا والعفو الذي هو الوقص تبعا م: (يصرف الهلاك بعد العفو إلى النصاب الأخير، ثم إلى الذي يليه إلى أن ينتهي) ش: أي النصاب الأول، وثمرة الخلاف تظهر فيمن ملك تسعا من الإبل فحال عليها الحول، فهلك منها أربع تجب شاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- ويصرف الهلاك إلى الأربع والوقص.
وعند محمد وزفر -رحمهما الله-: تجب خمسة أتساع الشاة الواجبة، ويسقط أربعة أتساعها، وهكذا فرضت الشافعية والمالكية والحنابلة في كتبهم، وفيه تفصيل عندهم فإن هلكت خمس فعندهما سقط خمس شياه، وعند محمد وزفر تسقط خمسة أتساع شاة، ولو حال على ثمانين شاة فهلك منها أربعون تجب شاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد وزفر تجب نصف شاة.
ولو كانت مائة وعشرين فهلك منها ثمانون تجب شاة عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، كأن الحول حال على ما بقي، وعند محمد، وزفر تجب ثلث شاة، ويسقط ثلثاها بهلاك الثمانين، ولو كانت مائة وإحدى وعشرين شاة فهلكت الأربعين تجب شاة عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، ويصرف الهلاك إلى النصاب الأخير، ثم وثمَّ حتى ينتهي إلى النصاب الأول، كذا ذكره محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولم يذكر قول نفسه ولا قول زفر، وقياس قولهما أن يجب أربعون جزءا من مائة وإحدى وعشرين جزءا من شاتين.
وذكر أبو يوسف قول نفسه في الأمالي مثل قول محمد وزفر، ومن مشايخنا من ذكر قول أبي يوسف مع قول أبي حنيفة في هذه المسألة كما ذكره في الجامع، والأول أصح، وإليه مال الكرخي، والقاضي، وأبو حازم.
م: (لأن الأصل هو النصاب الأول وما زاد عليه تابع) ش: أي لأن الأصل في وجوب الزكاة هو النصاب الأول، ولهذا لو عجل الزكاة عن نصب كثيرة، وفي ملكه نصاب واحد جاز، فثبت أن النصاب الأول هو الأصل فيصرف الهالك إلى التابع.
م: (وعند أبي يوسف يصرف إلى العفو أولا، ثم إلى النصاب شائعا) ش: أي ثم يصرف إلى النصب من حيث الشيوع، أما الصرف إلى العفو أولا فلصيانة الواجب عن السقوط. وأما الصرف إلى النصب شائعا؛ لأن الملك سبب، وليس في صرف الهلاك إلى البعض صيانة الواجب بيانه: أن من له خمسة وثلاثين من الإبل حال عليها الحول فهلك منها خمسة فعند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الباقي أربع شياه، وما هلك صار كأن لم يكن، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في(3/358)
وإذا أخذ الخوارج الخراج وصدقة السوائم لا يثني عليهم؛ لأن الإمام لم يحمهم والجناية بالحماية، وأفتوا بأن يعيدوها دون الخراج فيما بينهم وبين الله عز وجل؛ لأنهم مصارف الخراج لكونهم مقاتلة.
والزكاة مصرفها الفقراء فلا يصرفونها إليهم، وقيل: إذا نوى بالدفع التصدق عليهم سقطت عنه، وكذا ما دفع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الباقي أربعة أخماس ابنة مخاض، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الباقي أربعة أسباع ابنة مخاض؛ لشيوع الواجب في الكل.
[الحكم لو أخذ الخوارج الخراج وصدقة السوائم]
م: (وإذا أخذ الخوارج الخراج) ش: هم قوم مسلمون خرجوا عن طاعة الإمام العدل، بحيث يستحلون قتل غير العادل وماله بتأويل القرآن ودانوا ذلك، وقالوا: من أذنب صغيرة أو كبيرة فقد كفر بالله عز وجل وحل قتله إلا أن يتوب، وتمسكوا بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [الجن: 23] الآية (سورة الجن الآية: 23) ، كذا في " الفوائد الظهيرية ".
م: (وصدقة السوائم) ش: أي وأخذوا زكاة السوائم من الإبل والبقر والغنم م: (لا يثني عليهم) ش: أي لا يؤخذ منهم ثانيا م: (لأن الإمام لم يحمهم) ش: لأنها يؤخذ، باعتبار الحمأة.
ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للساعي: إن كنت لم تحمهم فلا تجبهم، وقد ضيعهم الإمام حيث لم يحمهم عن أهل البغي فلا تؤخذ منهم ثانيا م: (والجباية بالحماية) ش: أي جباية السعاة بسبب حمايتهم أي حفظهم، والجباية من جبي المال أي جمعه ومنه سمي جباية الأوقاف، وهذا الذي ذكره في حق أصحاب السوائم، وأما التاجر إذا مر على عاشر من أهل البغي فعشره، ثم مر على عاشر أهل العدل فعشره ثانيا؛ لأن صاحب المال هو الذي عرض ماله عليه فلم يعذر.
م: (وأفتوا) ش: على صيغة المجهول، وأصله أفتيوا من الإفتاء استثقلت الضمة على الياء، فنقلت إلى ما قبلها بعد سلب حركة ما قبلها، فالتقى ساكنان: الياء والواو فحذفت الياء لدلالة الواو على الجمع والمعنى المفتي، يقول لهم م: (بأن يعيدوها) كلمة أن مصدرية أي بإعادتها م: (فيما بينهم وبين الله عز وجل) ش: لأنهم لا يصرفونها مصارف الصدقات م: (دون الخراج) ش: يعني لا يفتون بإعادة الخراج م: (لأنهم) ش: أي لأن الخوارج م: (مصارف الخراج لكونهم مقاتلة) ش: لأنهم يقاتلون أهل الحرب.
م: (والزكاة مصرفها الفقراء) ش: هذا كأنه جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: ما معنى تعين لهم بإعادة الزكاة دون الخراج؟ فأجاب بقوله: والزكاة مصرفها الفقراء م: (فلا يصرفونها إليهم) أي إلى الفقراء.
م: (وقيل) ش: قائله الفقيه أبو جعفر فإنه قال م: (إذا نوى بالدفع التصدق عليهم سقطت عنه) ش: أي سقطت الزكاة عن الدافع م: (وكذا ما دفع) ش: وكذا الحكم في دفع الزكاة بالسقوط(3/359)
إلى كل جائر لأنهم بما عليهم من التبعات فقراء والأول أحوط،
وليس على الصبي من بني تغلب في سائم شيء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إلى كل جائر) ش: أي ظالم من الملوك وأصحاب الشوكة م: (لأنهم بما عليهم من التبعات) ش: أي المظالم والحقوق التي عليهم كالديون والغصب ونحوها، جمع تبعة بفتح التاء وكسر الباء.
م: (فقراء) ش: لأن ما في أيديهم أموال الناس، ولو ردوا ما عليهم إلى أربابها لم يبق في أيديهم شيء فهم بمنزلة الفقراء حتى قال محمد بن سلمة: يجوز أخذ الصدقة لعلي بن عيسى بن يوسف بن هامان والي خراسان، وكان أمير بلخ وجبت عليه كفارة يمين، فسأل الفقهاء عما يكفر به، فأفتوا له بالصيام ثلاثة أيام.
م: (والأول أحوط) ش: أي القول الأول وهو إعادة الصدقة دون الخراج هو الأحوط؛ لما أن فيه الخروج عن العهدة بيقين، وكذلك كلما يؤخذ من الجبايات إذا نوى عند الدفع من عشره وزكاته جاز.
وفي " الجامع الصغير " لقاضي خان: وكذا السلطان إذا صادر رجلا وأخذ منه أموالا فنوى صاحب المال الزكاة عند الدفع سقطت عنه الزكاة، وكذلك إذا أوصى بثلث ماله للفقراء فدفع للسلطان الظالم جاز.
وقال الشهيد: هذا في صدقات الأموال الظاهرة.
وأما إذا صادره السلطان ونوى مراد الزكاة إليه فعلى قول طائفة يجوز، والصحيح أنه لا يجوز؛ لأنه ليس للظالم ولاية أخذ زكاة الأموال الباطنة.
[بني تغلب هل تلزمهم الزكاة]
م: (وليس على الصبي من بني تغلب في سائم شيء) ش: قيد بقوله في سائمة؛ لأن العشر يؤخذ منهم مضاعفا. وتغلب بفتح التاء المثناة من فوق، وسكون الغين المعجمة، وكسر اللام، وبني تغلب من نصارى العرب بقرب الروم فلما أراد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يوظف عليهم الجزية، قالوا: نحن من العرب نأنف أداء الجزية، فإن وظفت علينا الجزية لحقنا بأعدائك من الروم، وإن رأيت أن تأخذ شيئا مما يأخذ بعضكم من بعض فضعفه علينا. فشاور عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصحابة، وكان الذي بينه وبينهم كردوس التغلبي، فقال: يا أمير المؤمنين صالحهم، فصالحهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ذلك وقال: هذه جزية فسموها ما شئتم فوقع الصلح على ضعف ما يؤخذ من المسلمين، ولم يتعرض لهذا الصلح بعده عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلزم أول الأمة وآخرها.
وقال محمد في " النوادر ": وكان صلحه ضعيفا ولكن بابه كالإجماع، وبقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا إن ملكا ينطق على لسان عمر» - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أينما دار عمر الحق(3/360)
وعلى المرأة منهم ما على الرجل؛ لأن الصلح قد جرى على ضعف ما يؤخذ من المسلمين، ويؤخذ من نساء المسلمين دون صبيانهم، وإن هلك المال بعد وجوب الزكاة سقطت الزكاة، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمن إذا هلك بعد التمكن من الأداء؛ لأنه الواجب في الذمة فصار كصدقة الفطر، ولأنه منعه بعد الطلب فصار كالاستهلاك، ولنا أن الواجب جزء من النصاب؛ تحقيقا للتيسير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
معه يدور» ثم إن الصبي التغلبي إذا كانت له سائمة من الإبل والبقر والغنم لا يجب عليه فيها شيء؛ لأنها من جملة العهد، على أن يضعف عليهم ما يؤخذ من المسلمين، فالصبيان من المسلمين لا تؤخذ منهم زكاة، فكذلك لا تؤخذ من صبيانهم.
م: (وعلى المرأة منهم ما على الرجل) ش: أي يجب على المرأة من الزكاة بالضعف مما على الرجل منهم م: (لأن الصلح قد جرى على ضعف ما يؤخذ من المسلمين ويؤخذ من نساء المسلمين دون صبيانهم) ش: وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لا يؤخذ من نسائهم، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وزفر وهو قول الثوري أيضا.
وقال الكرخي: وهو الأقيس؛ لأنها بدل الجزية ولا جزية على النساء.
وقال أبو بكر الرازي: لا يحفظ عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيهم شيء، ويجب العشر مضاعفا على صبيانهم؛ لأنه مؤنة. م: (وإن هلك المال بعد وجوب الزكاة سقطت الزكاة) ش: وبه قال الثوري، وأبو ثور، وداود، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية إذا لم يمنعها.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمن إذا هلك بعد التمكن من الأداء؛ لأنه الواجب في الذمة فصار كصدقة الفطر) ش: لأنه إذا تمكن يتقرر الوجوب عليه، فإذا تلف فقد عجز عن الأداء، فبقي عليه كما في ديون العباد وصدقة الفطر م: (لأنه منعه بعد الطلب) ش: لأنه مطالب شرعا. م: (فصار كالاستهلاك) ش: لأنه لما كان مطلوبا ومنعه فصار كأنه استهلكه.
م: (ولنا أن الواجب) ش: أي الواجب عليه في الزكاة م: (جزء من النصاب) ش: أي يتعلق الوجوب بعين النصاب لا بالذمة، وهذا بناء على أن الزكاة تجب في العين أو في الذمة، فعندنا تجب في العين وهو المشهور من مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي قوله الآخر: تجب في الذمة والعين مرتهنة بها.
م: (تحقيقا للتيسير) ش: أي لأجل تحقيق التيسير بأن يكون الواجب من غير النصاب؛ إذ الإنسان إنما يخاطب بما يقدر عليه وهو قادر على أداء الزكاة عن النصاب لا عن مال مطلق؛ لجواز أن لا يكون له غير ذلك لا سيما أرباب المواشي، فإنهم يسكنون في المفاوز ولا يقدرون على تحصيل الذهب والفضة؛ لبعدهم عن البلاد ونزوحهم عن الأسواق، وإذا كان الواجب جزءا من(3/361)
فيسقط بهلاك محله كدفع العبد الجاني بالجناية يسقط بهلاكه، والمستحق فقير يعينه المالك ولم يتحقق منه الطلب، وبعد طلب الساعي قيل: يضمن وقيل: لا يضمن لانعدام التفويت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النصاب فيسقط بهلاك النصاب؛ لفوات الجزاء بفوات العمل.
م: (فيسقط بهلاك محله) ش: لأن المأمور به إخراج الجزء فلا يتصور بدون محله وهو النصاب م: (كدفع العبد الجاني بجنايته يسقط بهلاكه) ش: هذا تمثيل لسقوط الحق بفوات محله، كما إذا جنى عبد جناية فقبل دفع مولاه إياه فمات العبد يسقط حق ولي الجناية لموت العبد لفوات محله.
وكذلك العبد المديون إذا جنى، والشقص الذي فيه الشفعة، ولو صار بحرا بطل حق الشفيع وتثبت البراءة عندنا، لا لعجز المأمور به عن الأداء ولكن لفوات المحل الذي أضيف إليه فلا يبقى بدونه فلا يضمن.
م: (والمستحق فقير) ش: هذا جواب عن قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولأنه منعه بعد الطلب يعني المستحق للزكاة فقير؛ لأنه من المصارف لكنه هو الفقير الذي يعينه المالك م: (للدفع) ش: يعني ليس المستحق كل فقير، وإنما يتعين بتعيين المالك م: (ولم يتحقق منه الطلب) ش: أي من الفقير الذي يعينه ولم يكن الهلاك بعد طلب المستحق فلا يكون تعديا، فلا يضمن بخلاف ما إذا استهلكه؛ لأنه دخل في ضمانه فصار دينا في ذمته فلا يسقط.
م: (وبعد طلب الساعي قيل يضمن) ش: يعني إذا هلك النصاب بعد طلب الساعي قيل: يضمن الزكاة، والقائل به هو الشيخ أبو الحسن الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه أمانة عنده وقد هلكت بعد طلب من يملكه المطالبة فيضمن، كما إذا طلب صاحب الوديعة فمنعها المودع مع إمكان الأداء.
م: (وقيل لا يضمن) ش: القائل بعدم الضمان أبو طاهر الدباس وأبو سهل الزجاجي، وفي " المبسوط " مشايخنا يقولون: لا يضمن وهو الأصح.
وفي " المفيد والمزيد ": هو الصحيح، وفي " البدائع " ومشايخ ما وراء النهر قالوا: لا يضمن وهو الأصح. وجه عدم الضمان هو قوله م: (لانعدام التفويت) ش: لأن المالك كان مخيرا في إعطاء العين أو قيمتها فله أن يؤخر الدفع لتحصيل الفرض.
وفي " المبسوط " إذا حبس سائمة بعدما وجبت الزكاة حتى ماتت لم يضمنها، وليس مراده بهذا الحبس أن يمنعها العلف والماء فإن ذلك استهلاك وبه يصير ضامنا، إنما مراده أنه حبسها ليؤدي من محل آخر؛ لأنه مخير بين الأداء من السائمة أو من غيرها فلا يصير ضامنا.(3/362)
وفي الاستهلاك وجه التعدي، وفي هلاك البعض يسقط بقدره اعتبارا له بالكل،
وإن قدم الزكاة على الحول وهو مالك للنصاب جاز؛ لأنه أدى بعد سبب الوجوب فيجوز كما إذا كفر بعد الجرح، وفيه خلاف مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وفي الاستهلاك وجه التعدي) ش: هذا جواب عن قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فصار كالاستهلاك أراد أن قياسه الهلاك على الاستهلاك غير صحيح؛ لأنه في الاستهلاك متعد بخلاف الهلاك م: (وفي هلاك) ش: أي وفي هلاك القدر م: (البعض يسقط بقدر) ش:.
أي وفي هلاك بعض النصاب يسقط من الزكاة بقدر الهالك م: (اعتبارا له بالكل) ش: يعني اعتبار الهالك الجزء بهلاك الكل، أراد أنه إذا هلك كل النصاب كأن يسقط كل الواجب فكذلك إذا هلك بعض النصاب يسقط بعض الواجب اعتبارا للبعض بالكل. ولو أزال النصاب بغير عوض كالهبة أو بعوض ليس بمال كالأمهار، وبدل الصلح عن دم العمد، والخلع، ونحوها صار مستهلكا ضامنا. بقي العوض في يده أولا، ولو رجع في الهبة بقضاء زال الضمان وكذا بغير قضاء على الأصح، ولو اشترى بالمال الحولي عبدا للخدمة، ثم رده بالعيب بقضاء أو بغير قضاء، واسترده لا يزول الضمان.
[حكم تقديم الزكاة على الحول]
م: (وإن قدم الزكاة على الحول وهو مالك للنصاب جاز) ش: بأن قدم المالك الزكاة قبل حولان الحول والحال أنه مالك لقدر النصاب جاز تقديمه م: (لأنه أدى بعد سبب الوجوب فيجوز) ش: سبب الوجوب هو النصاب ولأنه حق يؤجل كالدين المؤجل، وبقولنا: قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وهو قول الحسن البصري، والنخعي، والزهري، والثوري، والشعبي، ومجاهد، والحاكم، وابن أبي ليلى، وسعيد بن جبير، والحسن بن حي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (كما إذا كفر بعد الجرح) ش: قيد الموت لوجود السبب وهو الجرح.
م: (وفيه خلاف مالك) ش: أي وفي تقديم الزكاة قبل حولان الحول خلاف لمالك، فإن عنده لا يجوز، وبه قال ربيعة وداود وابن المنذر والليث بن سعد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وحكي عن محمد بن سيرين، والحسن البصري، وعند المالكية قول آخر، وهو التعجيل به على السنة فعن بعضهم يجوز التعجيل بيومين، وعن ابن حبيب بعشرة أيام.
وعن ابن القاسم - رَحِمَهُ اللَّهُ - بشهر، وقيل: بخمسة عشر يوما؛ لأن الأداء إسقاط الواجب ولا يتصور الإسقاط قبل الوجود، كأداء الظهر قبل وقته، وبهذا استدل الشراح لأصحابنا، فقال الأترازي: لنا ما روى الشيخ أبو الحسين القدوري أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: استسلف من العامل زكاة عامين.
وقال الكاكي: ولنا ما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - استسلف من العباس زكاة سنتين، وهو ما روى الترمذي، وأبو داود، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سأل(3/363)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تعجيل زكاته قبل أن يحول الحول مسارعة إلى الخير، فأذن له في ذلك» وقال السغناقي: ولنا ما روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه استسلف من العباس صدقة العامين.
قلت: أما الأترازي فإنه أحال الأحاديث على القدوري، ولم يذكر شيئا غير ذلك. وأما الكاكي فإنه ذكر الحديث ونسبه إلى الترمذي وأبي داود ولفظهما ليس كذلك.
أما لفظ الترمذي فإنه قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن قال: أنا سعيد بن منصور قال: حدثنا إسماعيل بن زكريا عن الحجاج بن دينار، عن الحكم بن عيينة، عن عبيد بن عدي، عن علي «أن العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك.»
وروي أيضا بإسناد آخر عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام» .
وأما لفظ أبي داود فكلفظ الترمذي.
وأما الذي ذكره السغناقي فأخرجه البزار والطبراني في " الكبير والأوسط " بإسناده عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعجل من العباس صدقة سنتين» وفي إسناده محمد بن ذكوان ضعفه البخاري والنسائي والدارقطني، وقواه ابن حبان، وقال السغناقي: عندنا يجوز التعجيل ولكن بين الأداء معجلا وبين الأداء في آخر الحول فرق، وهو أن في المعجل يشترط أن لا ينقص النصاب في آخر الحول وفي الأداء، في آخر الحول لا يشترط بيانه أنه إذا عجل شاة من أربعين فحال عليها الحول وعنده تسعة وثلاثون فلا زكاة عليه حتى إنه إذا كان صرف للفقراء وقعت نفلا.
وإن كانت قائمة في يد الإمام أو الساعي أخذها، وإن باعها الإمام ضمنها، وأما إذا كان أدركه في آخر الحول فتقع عن الزكاة وإن انتقص النصاب بأدائه، وفي " الإيضاح ": لو انتقص النصاب في آخر الحول فلصاحب المال أن يأخذها من الساعي إن كان قائما، وكذا إن باعه الساعي إن كان قائما وإن أداه إلى الفقير يقع نفلا، وكذا في " الزيادات " وفيه لو باعه للفقراء ثم لم يتصدق بثمنه ورد عليه الثمن، ولو دفعه الإمام إلى فقير فأيسر قبل الحول أو مات أو ارتد جاز عن الزكاة.
وقال الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: يسترجع ما أدى من الساعي إن كان باقيا وإن كان هالكا لطالبه بقيمته ولو دفعه الساعي إلى الفقير استرجع من الفقير إن كان باقيا وإن كان هالكا لزم الساعي قيمته يوم الدفع في أظهر الوجهين وهو قول أحمد، وفي وجه لزمته قيمته يوم التلف، ولو عجل الزكاة بنفسه إلى فقير فمات الفقير أو ارتد قبل تمام الحول لم يجز عن الزكاة(3/364)
ويجوز التعجيل لأكثر من سنة لوجود السبب، ويجوز لنصب إذا كان في ملكه نصاب واحد، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن النصاب الأول هو الأصل في السببية، والزائد عليه تابع له والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويسترجع ما دفع إليه ولو استغنى الفقير من جهة الزكاة قبل الحول يسترجع.
وإن استغنى من جهة الزكاة لا يسترجع كذا في " الحلية "، وفي " الزيادات ": لو كان عنده دراهم ودنانير وعروض فجعل زكاة جنس منها سنين فهلك جاز التعجيل عن الباقين؛ لأن الجميع جنس واحد، ولهذا يكمل نصاب أحدهما بالآخر، وأما في السوائم المختلفة لا يقع عن الآخر، وعن أبي يوسف جاز تعجيل العشر بعد الزراعة، وهو قول علي بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز حتى ينبت.
م: (ويجوز التعجيل لأكثر من سنة) ش: وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في وجه، وفي وجه لا يجوز. وقال صاحب الوجيز: والوجه الأول أصح م: (لوجود السبب) ش: وهو النصاب وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز أكثر من سنتين وفي السنتين عنه روايتان. م: (ويجوز) ش: أي التعجيل م: (لنصب) ش: بضمتين وهو جمع نصاب يعني إذا عجل عن نصب كثيرة يجوز عندنا م: (إذا كان في ملكه نصاب واحد خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبقوله قال الشافعي وأحمد -رحمهما الله.
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز التعجيل إلا عن النصاب الموجود في ملكه حتى إذا كان له خمس من الإبل فعجل أربع شياه ثم تم الحول وفي ملكه عشرون من الإبل عندنا يجوز التعجيل عن الكل، وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز إلا عن زكاة الخمس؛ لأنه عجل زكاة ما ليس في ملكه فلا يجوز.
م: (لأن النصاب الأول هو الأصل في السببية والزائد عليه تابع له) ش: أي النصاب الأول فيكون حكم التابع كحكم المتبوع؛ لأن الأداء بعد تقرر الوجوب جائز كالمسافر إذا صام رمضان والرجل إذا صلى في أول الوقت جائز لوجود سبب الوجوب.(3/365)
باب زكاة المال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب حكم زكاة المال]
م: (باب حكم زكاة المال) ش: أي هذا باب في حكم زكاة المال، ولما فرغ من الكلام على زكاة الماشية، شرع في بيان زكاة المال وقدم الناطق لفضله على الصامت، وإنما قال: باب زكاة المال؛ لأنه نوع من أنواع كتاب "الزكاة" والكتاب يجمع الأبواب، وأراد بالمال مال التجارة، كالنقدين، وعروض التجارة، وعقار التجارة وغيرها من أموال التجارة، وإن كان اسم المال يشمل السوائم وغيرها، وقد روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المال كل ما يمتلكه الإنسان من دراهم أو دنانير أو ذهب أو فضة أو حنطة أو خبز أو حيوان أو ثياب أو سلاح أو غير ذلك.
وعن الثوري المال: النصاب، وعن الليث مال أهل البادية النعم كذا ذكره مطرزي.
والمال في اصطلاح أهل الجبر والمقابلة: ما يجتمع في ضرب عدد في مثله كالتسعة هي مضروبة الثلاثة في الثلاثة، وهم يسمون الثلاثة أشياء إذا كان مجهولا، وأصحاب المساحة يسمون الثلاثة ضلعا، والتسعة مربعا، وسائر الحساب يسمون الثلاثة جدارا والتسعة مجدورا، وفي " المغرب ": المال العين المضروب وغيره من الذهب والفضة، وسمي المموه والمصفر والبيضاء والصامت مثله، وذكره في الأجوف الواوي وقال: ماله يمول ويمال وتمول بمعنى إذا صار ذا مال، ويقال: تمول الشيء إذا اتخذه مالا لنفسه.
قلت: المال عبارة عما يتمول به، يطلق على القليل والكثير حتى لو أقر رجل وقال: لفلان علي مال يقبل قوله في القليل والكثير. وقال صاحب " الهداية ": لا يصدق في أقل من درهم؛ لأن ما دونه من المال من الكسور لا يطلق عليه اسم المال عادة ويجمع على أموال.(3/366)
فصل في الفضة ليس فيما دون مائتي درهم صدقة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» والأوقية: أربعون درهما،
فإذا كانت مائتي درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم؛ «لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن خذ من كل مائتي درهم خمسة دراهم، ومن كل عشرين مثقالا من ذهب نصف مثقال»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الفضة] [نصاب الزكاة في الفضة ومقدار الواجب]
م: (فصل في الفضة) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام الفضة في باب الزكاة وقدم فصلها؛ لأنها أكثر من الذهب وأروج وأكثر نفعا، ألا ترى أن المهر ونصاب السرقة والجزية التي يبتدئ الإمام وضعها منها دون الذهب، والفضة تتناول المضروب وغيره.
م: (ليس فيما دون مائتي درهم صدقة) ش: أي زكاة م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمسة ذود صدقة، ولا فيما دون خمس أواق صدقة» ، والأواقي جمع أوقية.
م: (والأوقية أربعون درهما) ش: الأوقية بضم الهمزة وتشديد الياء، وجمعها أواقي بتشديد الياء وتخفيفها، وحكى اللحياني أنه يقال: وقية ويجمع على وقايا، كركيه وركايا، وأنكر غير واحد أن يقال: وقية بفتح الواو، ووزن الأوقية: أفعولة من الوقاية؛ لأنها تقي صاحبها من الضرر، وقيل: هي فعيلة من الأوق الفعل، ووزن الجمع بالتشديد أفاعل كالأضاحي والأضحية. وفي التخفيف أفاعل، وفي " الذخيرة " للمالكية: كانت الأوقية في زمنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين درهما، والنواة خمسة دراهم، والقص نصف درهم بفتح الهاء وكسرها، والأول المشهور، ويقال: درهام، حكاهن أبو عمرو الزاهد في "شرحه "، وقال جمال الدين المخرج قوله في "الكتاب": والأوقية أربعون درهما، يحتمل أن يكون من تمام الحديث، ويحتمل أن يكون من كلام المصنف، فإن كان من تمام الحديث فشاهده ما أخرجه الدارقطني في "سننه " عن يزيد بن سنان عن زيد بن أبي أنيسة، عن أبي الزبير، عن جابر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يقول «لا زكاة في شيء من الفضة حتى تبلغ خمس أوراق، والأوقية أربعون درهما» انتهى.
قلت: احتمال كونه من المرسل بعيد والحديث ضعيف، قال يحيى: يزيد بن سنان ليس بشيء.
م: (فإذا كانت) ش: أي الفضة ش: (مائتي درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم؛ لأنه «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كتب إلى معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن خذ من كل مائتي درهم خمسة دراهم، ومن كل عشرين مثقالا من ذهب نصف مثقال» ش: أي لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى معاذ بن جبل -رضي(3/367)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله عنه- حين وجهه إلى اليمن أن يأخذ من كل أربعين دينارا ومن كل مائتي درهم خمسة دراهم» الحديث، وهو معلول بعبد الله بن شبيب في إسناده فإنه يقلب الأخبار ويسرقها، فلا يجوز الاحتجاج به، واكتفى السغناقي في الاستدلال بهذا الحديث.
وروى أبو داود من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم» ، اعلم أن الدراهم كانت مختلفة في زمن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكانت على ثلاثة أصناف على ما ذكر في " الفتاوى الصغرى "، صنف منها كل عشرة عشرة مثاقيل، كل درهم عشرون قيراطا، وصنف منها كل عشرة ستة مثاقيل، كل درهم اثنا عشرة قيراطا، وهو ثلاثة أخماس مثقال، وصنف منها كل عشرة خمسة مثاقيل كل درهم نصف مثقال، وهو عشرة قراريط، وكان المثقال نوعا واحدا وهو عشرون قيراطا، وكان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يطالب الناس في استيفاء الخراج بأكبر الدراهم ويشق ذلك عليهم، فالتمسوا منه التخفيف، فشاور عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاجتمع رأيهم على أن يأخذ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من كل نوع ثلاثة، فأخذ عمر، فصار الدرهم بوزن أربعة عشر قيراطا، فاستقر الأمر عليه في ديوان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وتعلقت الأحكام به كالزكاة والخراج ونصاب السرقة وتقدير الديات ومهر النكاح.
وفي " المرغيناني ": كان الدرهم شبه النواة، فصار مدورا على عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فكتبوا عليه وعلى الدينار لا إله إلا الله محمد رسول الله، وزاد ناصر الدولة ابن حمدان " - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " فكانت سنة لآله.
وفي " المجتبى " و" جمع النوازل " و" العيون " يعتبر دراهم كل بلدة ودنانيرها.
وفي " الخلاصة " عن العقيلي: أنه كان يوجب في كل مائتي بخارية، وهي الغطارفية خمسة منها وبه أخذ الإمام السرخسي؛ إذ المعتبر في كل زمان عادة أهله، ألا ترى أن في زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وزن خمسة، وفي زمان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وزن ستة، وفي زماننا وزن سبعة.
وقال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كان أهل المدينة يتعاملون عددا بالدراهم وقت قدوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأرشدهم إلى الوزن، وجعل المعيار وزن أهل مكة. وذكر في " قنية المنية " و" جوامع الفقه ": أن المعتبر في الزكاة وزن أهل مكة، وفي الكيل كيل أهل المدينة، يدل عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكيال على مكيال أهل المدينة، والوزن على وزن أهل مكة» . رواه أبو داود والنسائي وهو على غير شرط البخاري ومسلم.(3/368)
قال: ولا شيء في الزيادة حتى تبلغ أربعين درهما، فيكون فيها درهم، ثم في كل أربعين درهما درهم، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: ما زاد على المائتين فزكاته بحسابه وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الخطابي: قال بعضهم: لم تزل الدراهم على هذا المعيار في الجاهلية والإسلام، وإنما غيروا الشكل ونقشوها، وقام الإسلام والأوقية أربعون درهما.
وقال الماوردي في " الأحكام السلطانية ": استقر من الأحكام في الإسلام وزن الدرهم ستة، ووافق كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل.
وقال السروجي: الدرهم المصري أربعة وستون حبة وهي أكبر من درهم الزكاة، فإن سقطت الزائد كان النصاب من دراهم مصر مائة وثمانين درهما وحبتين فقط، ذكره الشيخ شهاب الدين في "ذخيرته ".
واعلم أن الدراهم لا تخلو عن قليل عشرة، وتخلو عن الكثير، وقد يكون العشر فيه خلقيا، كالرديء من الفضة وهذا ظاهر مكشوف، فإن من أخذ الفضة الخالصة الطلغم فضربها دراهم لم يضف إليها صفرا يغرم أجرة الضراب والنقاش إذا لم ينقص قط بالعيار، ولهذا جعل في كل مائة درهم سلطانية وزن درهمين من الصفر؛ ليقوم ذلك بأجرة الصياغ.
م: (ولا شيء في الزيادة حتى تبلغ أربعين درهما فيكون فيها درهم) ش: أي ولا شيء بواجب في الزيادة على المائتين حتى تبلغ الزيادة أربعين درهما فيكون فيها درهم واحد.
م: (ثم في كل أربعين درهما درهم) ش: أي ثم يجب في كل أربعين درهما التي تزيد على المائتين درهما م: (وهذا) ش: أي هذا المذكور م: (عند أبي حنيفة) ش: وبه قال الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومكحول، وعطاء، وطاوس في رواية، وعمرو بن دينار، والزهري، والأوزاعي، والشعبي، وسعيد بن المسيب، وهو مذهب عمر بن الخطاب، وأبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رواه عنهما الحسن البصري.
م: (وقال صاحباه) ش: أي صاحبا أبي حنيفة، وهما أبو يوسف، ومحمد -رحمهما الله- م: (ما زاد على المائتين فزكاته بحسابه) ش: أي بحساب ما زاد، وفي بعض النسخ: بحسابهما، وكتب بعضهم بحسبه، أي بحساب المائتين حتى إذا كانت الزيادة درهما تجب الزيادة بحسب جزء من أربعين جزءا من درهم، وبقولهما: قال مالك، والشافعي، وأحمد، والنخعي، وداود، وهو قول علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وقال طاوس: إذا زادت الدراهم على المائتين لا يجب شيء حتى تبلغ أربعمائة ففيها عشرة دراهم، وفي ستمائة خمسة عشر درهما م: (وهو قول الشافعي) ش: أي قول صاحبي أبي حنيفة(3/369)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «وما زاد على المائتين فبحسابه» ولأن الزكاة وجبت شكرا لنعمة المال واشتراط النصاب في الابتداء لتحقق الغنى بعد النصاب في السوائم؛ تحرزا عن التشقيص، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا تأخذ من الكسور شيئا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قول الشافعي كما ذكرنا.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (في حديث علي: «وما زاد على المائتين فبحسابه» ش: وقال الأترازي: حديث علي فما زاد فعليه حساب ذلك، وتبعه الأكمل في هذا القدر.
قلت: هذا الحديث رواه أبو داود، عن ابن وهب أخبرني جرير بن حازم، وشخص آخر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة، والحارث عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم....» الحديث، وفي آخره: «فما زاد فبحساب ذلك» ، قال: ولا أدري أعلي يقول فبحساب ذلك أم رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال أبو داود: رواه شعبة، وسفيان، وغيرهما عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن علي ولم يرفعوه.
م: (ولأن الزكاة وجبت شكرا لنعمة المال) ش: والكل نعمة فيجب فيه الزكاة م: (واشتراط النصاب في الابتداء لتحقق الغنى) ش: هذا جواب من قال: النصاب يشترط في الابتداء فكذا بعد النصاب الأول، فأجاب بقوله: فاشتراط النصاب في الابتداء لتحقق الغنى؛ ليصير المكلف به أهلا للإغناء م: (وبعد النصاب في السوائم تحرزا عن التشقيص) ش: هذا جواب من قال: لو كان اشتراطه كذلك لما شرطه في السوائم في الانتهاء، كما شرطه في الابتداء، فأجاب بقوله: "وبعد النصاب" أي واشتراط النصاب بعد النصاب الأول في السوائم لأجل التحرز عن التشقيص؛ لأن فيه ضرر الشركة على المالك.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (في حديث معاذ: «لا تأخذ من الكسور شيئا» ش: قال الأترازي: رواه أبو بكر الرازي في شرحه " لمختصر الطحاوي " مسندا إلى معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره حين وجهه إلى اليمن أن لا يأخذ من الكسور شيئا، وكذا قاله الأكمل في شرحه والكاكي كذلك.
قلت: هذا الحديث رواه الدارقطني في "سننه " من طريق ابن إسحاق، عن المنهال بن الجراح، عن حبيب بن أبي نجيح، عن عبادة بن قيس، عن معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره حين وجهه إلى اليمن أن لا يأخذ من الكسور شيئا.....» الحديث، وهو ضعيف.(3/370)
وقوله في حديث عمرو بن حزم: «وليس فيما دون الأربعين صدقة» ولأن الحرج مدفوع، وفي إيجاب الكسور ذلك لتعذر الوقوف، والمعتبر في الدراهم وزن سبعة مثاقيل، وهو أن تكون العشرة منها وزن سبعة مثاقيل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الدارقطني: المنهال بن الجراح هو أبو العطوف متروك الحديث، وعبادة بن قيس لم يسمع من معاذ.
وقال ابن حبان: كان يكذب، وقال عبد الحق في "أحكامه ": كذاب.
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: متروك الحديث واهيه لا يكتب حديثه.
وقال أبو محمد الدارمي في "مسنده ": «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب مع عمرو بن حزم إلى شرحبيل بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال أن في كل خمس أواق من الورق خمسة دراهم فما زاد ففي كل أربعين درهما درهم» .
وكلال بضم الكاف وتخفيف اللام.
وقال الأكمل: معنى الحديث: لا تأخذ من الشيء الذي يكون المأخوذ منه كسورا فسماه كسورا باعتبار ما يجب فيه، قلت: أخذه عن شيخه الكاكي، وقال الكاكي: وقيل: "من" فيه زائدة وفيه نوع تأمل.
م: (وقوله في حديث عمرو بن حزم: ليس فيما دون الأربعين صدقة) ش: أي وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا الحديث قد مر في باب صدقة السوائم م: (ولأن الحرج مدفوع) ش: شرعا فلا يجب فيما زاد على المائتين شيء إلى الأربعين م: (وفي إيجاب الكسور ذلك) ش: أي الحرج م: (لتعذر الوقوف) ش: عليه، وفي بعض النسخ لفظ عليه موجود، أي على الكسور، ألا ترى أن من كان له مائتا درهم وسبعة دراهم يجب عليه في السنة الأولى خمسة دراهم وسبعة أجزاء من أربعين جزءا من درهم على قولهما وفي السنة الثانية تجب خمسة دراهم وجزء من واحد من أربعين جزءا من درهم صحيح، وجزء آخر من أربعين جزءا من ثلاثة وثلاثين جزءا من أربعين جزءا من درهم، وهذا لا يفهمه كثير من الفقهاء فكيف بالعامي الذي لا خبرة له أصلا، كذا ذكره الأترازي، وقد أخذه من " مبسوط أبي اليسر ". م: (والمعتبر في الدراهم) ش: التي تخرج في الزكاة م: (وزن سبعة مثاقيل) ش: وقد فسره بقوله: م: (وهو أن تكون العشرة منها) ش: أي من الدراهم م: (وزن سبعة مثاقيل) ش: والمثاقيل جمع مثقال، قال ابن الأثير: المثقال في الأصل مقدار في الوزن أي شيء كان من قليل أو كثير، والناس يطلقونه في العرف على الدينار خاصة وليس كذلك، وقال الجوهري: والمثقال واحد مثاقيل الذهب.
قلت: عشرون قيراطا من الذهب هو مثقال وهو الدينار الواحد، والدينار الواحد ستة دوانق، والدوانق: جمع دانق، والدانق: بكسر النون وفتحها وهو قيراطان، قاله في " المغرب " وفيه أيضا:(3/371)
بذلك جرى التقدير في ديوان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، واستقر الأمر عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن أول من أحدث الدانق الحجاج.
وقال أبو عبيد: الدانق سدس درهم، فعلت ذلك بنو أمية فاجتمعت الأمة عليه، والقيراط: نصف دانق قاله الجوهري. وقال سراج الدين أبو طاهر محمد بن عبد الرشيد السجاوندي في تصنيف له في قسمة التركات، فقال: اعلم أن الدينار ستة دوانق، والدانق أربع طسوجات، والطسوج حبتان، والحبة شعيرتان، والشعيرة ستة خرادل، والخردل اثني عشر فلسا، والفلس ست فتيلات، والفتيلة ست نقيرات، والنقيرة ثماني قطميرات، والقطميرة اثنا عشر ذرة، وذكر فيها الدينار بحساب أهل الحجاز عشرون قيراطا، والقيراط خمس شعيرات والدينار عندهم طسوجا وخمسة.
وفي " المنافع ": الدينار مائة شعيرة عند أهل الحجاز وعند أهل سمرقند ستة وتسعون شعيرة، والقيراط خمس شعيرات وهو طسوجتان، والطسوج حبتان، والحبة سدس ثمن درهم وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءا من درهم، والدرهم سبعة أعشار المثقال، فوزن الدرهم المكي سبع وخمسون حبة، وهو ستة أعشار حبة، وعشر عشر حبة وهو درهم الزكاة.
قال القاضي عياض: وزعم بعضهم أن الدراهم لم تكن معلومة إلى زمن عبد الملك بن مروان وأنه جمعها برأي العلماء وجعل كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، ووزن الدرهم ستة دوانق، وهذا لا يصح ولا يجوز أن تكون الدراهم مجهولة، والأوقية مجهولة، وهو تجب الزكاة في أعداد منها وتقع بها البياعات والأنكحة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة.
قال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا هو الصواب الذي يجب اعتقاده وإنما كانت مجموعات من ضرب فارس والروم، وصغارا وكبارا، وقطع فضة غير مضروبة ولا منقوشة ويمنية ومغربية، فجمعوا أصغرها وأكبرها فضربوها على وزنهم، ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا في الإسلام، وأجمع أهل العصر الأول فمن بعدهم إلى يومنا هذا عليه، وقيل: إن أول من ضربها عبد الملك بن مروان بالعراق في سنة أربع وسبعين، حكاه سعيد بن المسيب ثم أمر بضربها في النواحي سنة ست وسبعين.
وقيل: أول من ضربها مصعب بن الزبير بأمر أخيه عبد الله بن الزبير سنة سبعين على ضرب الأكاسرة، ثم غيرها الحجاج، وقيل: أول من ضرب الدراهم والدنانير آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وقال: أولادي لا تندفع حوائجهم إلا بها وقد مر الكلام فيه أيضا في هذا الفصل.
م: (بذلك جرى التقدير) ش: أي بالمذكور وهو قوله والمعتبر.. إلى آخره م: (في ديوان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: الديوان هي الجريدة التي يكتب فيها ما يتعلق بأمور المسلمين، وهي قطع من القراطيس مجموعة من دون الكتب إذا جمعها، ويروى أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أول من دون الدواوين، أي رتب الجرائد للولاة والقضاة م: (واستقر الأمر عليه) ش: أي على الذي قدره عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(3/372)
وإذا كان الغالب على الورق الفضة فهو في حكم الفضة،
وإذا كان الغالب عليها الغش فهو في حكم العروض يعتبر أن تبلغ قيمته نصابا؛ لأن الدراهم لا تخلو عن قليل غش لأنها لا تنطبع إلا به، وتخلو عن الكثير فجعلنا الغلبة فاصلة، وهو أن يزيد على النصف اعتبارا للحقيقة، وسنذكره في الصرف إن شاء الله تعالى، إلا أن في غالب الغش لا بد من نية التجارة كما في سائر العروض،
إلا إذا كان تخلص منها فضة تبلغ نصابا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إذا كان الغالب على الورق الفضة) ش: الورق بفتح الواو وكسر الراء، وهو المضروب من الفضة، وقد تسكن الراء، وكذا الورقة بكسر الراء وفتح القاف المخففة، وقيل: الورق الدراهم خاصة، ونقل صاحب " البيان " من الشافعية أن الرقة هي الذهب والفضة، قال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو غلط فاحش.
وفي " الذخيرة " للقرافي: الرقة الدراهم المصكوكة، ولا يقال لغيرها، والورق المصكوك وغيره، وقيل هما المصكوك، وفي " المنافع ": الفضة تتناول المضروب وغيره، والرقة تختص بالمضروب م: (فهو في حكم الفضة) ش: لأن الغش إذا كان قليلا لا يعتبر به؛ لأن الفضة لا تنطبع إلا بقليل الغش، فجعل القليل عفوا دون الكثير، فالفاصل بينهما بالغلبة فأيهما كان أغلب يعتبر به.
م: (وإذا كان الغالب عليها الغش فهو في حكم العروض) ش: جمع عرض بفتح العين وسكون الراء وهو ما ليس بنقد، وقيل: هو المتاع م: (يعتبر أن تبلغ قيمته نصابا) ش: يعني تجب فيها الزكاة م: (لأن الدراهم لا تخلو عن قليل غش لأنها) ش: أي لأن الفضة م: (لا تنطبع) ش: أي لا تطاوع الضرب ولا تلين لأجل تفاسها في العمل والصياغة م: (إلا به) ش: أي بالغش اليسير م: (وتخلو عن الكثير، فجعلنا الغلبة فاصلة) ش: بين القليل والكثير م: (وهو) ش: أي الكثير م: (أن يزيد على النصف اعتبارا للحقيقة) ش: أي لحقيقة الأمر بين القليل والكثير لأنهما لا يتحققان إلا بالزيادة على النصف؛ لأن الكثير ما يقابله قليل، والقليل ما يقابله كثير م: (وسنذكره) ش: أي وسنذكر هذا البحث أو هذا المذكور م: (في الصرف إن شاء الله تعالى إلا أن في غالب الغش لا بد من نية التجارة كما في سائر العروض) ش: لوجوب الزكاة.
م: (إلا إذا كان يخلص منهما فضة تبلغ نصابا) ش: الاستثناء من قوله -لا بد من نية التجارة-؛ لأن الفضة لا يشترط فيها نية التجارة،، قال الأترازي: والظاهر أن خلوص الفضة من الدراهم ليس بشرط بل المعتبر أن تكون في الدراهم فضة بقدر النصاب، انتهى.
قلت: لا سبيل إلى معرفة كون الفضة فيها قدر النصاب إلا بالخلوص ولا خلوص إلا بالنار. وقال صاحب " الينابيع ": قوله -وإذا كان الغالب عليها الغش فهي في حكم العروض-، يريد به إذا كانت الفضة لا تخلص بالنار، وإن كان شيء يخلص منها لا يكون حكمها حكم(3/373)
لأنه لا يعتبر في عين الفضة القيمة ولا نية التجارة، والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العروض، بل يجمع ما فيها من الفضة ويضمه إلى ما عنده من ذهب أو فضة أو مال تجارة ويزكي الكل، وإن كانت الفضة والغش سواء تجب فيها احتياطا ذكره أبو نصر في " شرح القدوري ".
وقيل: لا تجب، وقيل: تجب فيها درهمان ونصف، وفي " المحيط " و" البدائع " و" التحفة ": والغش: لا يعتبر في الذهب والفضة صفة زائدة على كونهما فضة أو ذهبا فتجب في المضروبة والنقرة والحلي والتبر والمصوغ وحلية السيف والسكين والمنطقة واللجام والسرج والأواني والمسامير المركبة في المصحف والكواكب فيها إذا خلصت بالإذابة والخواتيم والأسورة وغيرها ويجمع بين ذلك، فإذا بلغت نصابا تجب فيها الزكاة، ولو كان وزنها دون المائتين ونصفها وبغشها تساوي المائتين لا تجب، وفي " الينابيع ": إذا كانت المائتان في العدد ونقصت في الوزن لا تجب وإن قل النقص.
وفي " البدائع ": لو نقصت المائتان حبة في ميزان وكانت تامة لا تجب الزكاة للشك، وللشافعية وجهان أصحهما وبه قطع المحاملي والبندنيجي والماوردي وآخرون لا تجب، قال الصيدلاني: وسفع إمام الحرمين، وبالغ وعند مالك لو نقصت المائتان ثلاثة دراهم تجب، وعنه لا تمنع الحبة الحبتان، وعنه لو نقصت دانقا أو دانقين تجب الزكاة وبه قال أحمد.
م: (لأنه لا يعتبر في عين الفضة القيمة ولا نية التجارة) ش: أي ولا تعتبر أيضا نية التجارة بخلاف العروض، وقال الأترازي: فيه نظر؛ لأنه لا حاجة إلى ذكر القيمة، وكان ينبغي أن يقول: لا يعتبر في عين الفضة نية التجارة، انتهى.
قلت: في نظره نظر؛ لأنه لا مانع من ذكر القيمة وهذا من صفتها الكاشفة فلا يجوز، فلا محظور في ذكرها فلا مجال للنظر فيه فافهم.(3/374)
فصل في الذهب ليس فيما دون عشرين مثقالا من الذهب صدقة، فإذا كانت عشرين مثقالا ففيها نصف مثقال؛ لما روينا، والمثقال ما يكون كل سبعة منها وزن عشرة دراهم وهو المعروف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الذهب] [نصاب الزكاة في الذهب ومقدار الواجب]
م: (فصل في الذهب) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام الذهب، ووجه تأخيره عن الفضة قد مر في أول فصل الفضة.
م: (ليس فيما دون عشرين مثقالا من الذهب صدقة) ش: وقال الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس في أقل من أربعين دينارا صدقة، وهو شاذ، وذهبت طائفة أن الذهب إذا بلغت قيمته مائتي درهم ففيه الزكاة، وإن لم تكن عشرين مثقالا، وهو قول عطاء وطاوس والزهري وأبو أيوب السختياني وسليمان بن حرب، وكذا لا زكاة في العشرين حتى تبلغ قيمتها مائتي درهم.
م: (فإذا كانت عشرين مثقالا) ش: وحال عليها الحول م: (ففيها نصف مثقال لما روينا) ش: نعني لما روينا في فصل الفضة وهو حديث معاذ م: (والمثقال ما يكون كل سبعة منها) ش: الضمير في قوله منها، راجع إلى قوله ما يكون أو المثقال على تأويل المثاقيل فإن سبعة مثاقيل اشترطت في التعريف فكان المثقال أو ما يكون في معنى سبعة مثاقيل، قال السغناقي: وأخذ منه الكاكي فقال هذا مختصرا م: (وزن عشرة دراهم) ش: ارتفاع وزن على الخبرية عن قوله -والمثقال وزن عشرة دراهم- وقال الشراح كلهم: إن هذا دور فإنه عرف في فصل الفضة، والمعتبر في الدراهم وزن سبعة، وهو أن تكون العشرة منها وزن سبعة مثاقيل والدور باطل، لتوقف كل منهما على الآخر.
وأجاب الأكمل: أنه ما عرف الدرهم بالمثقال في فصل الفضة وإنما قال: المعتبر من أصنافها ما يكون وزن سبعة مثاقيل فكان ذلك معروفا فيما بينهم، ثم قال هاهنا: والمثقال ما يكون كل سبعة منها وزن عشرة دراهم. ثم قال م: (وهو المعروف) ش: المراد بالمثقال هاهنا هو المعروف فيما بين الناس الذي عرف به وزن الدراهم، ولا دور في ذلك، انتهى كلامه. وقال الأترازي: وقوله -وهو المعروف- ليس بعذر عن التشنيع، فلو قال: والمثقال هو المعروف لكان هان الأمر هونا، ولكن البيان للدرهم والدينار، ثم قال: وذكر بعضهم في "شرحه" في هذا الموضع ما يكون عن التحقيق بعيدا ألف فرسخ، انتهى.
قلت: غرضه بهذا التشنيع على السغناقي، فإنه قال: نعم فيه دور إلا أنه دفع تلك الشبهة بقوله وهو المعروف: فإن الشيئين إذا كانا معروفين في أنفسهما، ولكن الجهالة إذا وقعت في نسبة كل منهما إلى الآخر يجوز أن يعرف نسبة ذلك بهذا أو نسبة هذا بذاك.(3/375)
ثم في كل أربعة مثاقيل قيراطان؛ لأن الواجب ربع عشر وذلك فيما قلنا إذ كل مثقال عشرون قيراطا،
وليس فيما دون أربعة مثاقيل صدقة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما تجب بحساب ذلك وهي مسألة الكسور
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بيانه أنك إذا عرفت زيدا وعمرا بعينهما ولكنك لا تعرف نسبة كل منهما إلى الآخر بأي طريق فتقول: من زيد فيجيبك؟ المسئول عنه بأنه ابن عمرو، ثم مضى زمان، ثم غفلت عما عرفه فطريق الضمن فتسأله فتقول من عمرو؟ فيقول لك: أبو زيد فتحصل لك معرفة نسبة كل واحد منهما إلى الآخر بالتصريح، وإن وقع الاستغناء للمتيقظ بالتعريف الأول ولكن كان ذلك التعريف بطريقة الضم لا بالتصريح ولا يستبعده أحد.
وكذلك هاهنا ذكر تعريف المثقال، وإن كان وقع الاستغناء وقع بما ذكر هناك لكن لم يكن ذلك بطريق التصريح مع إظهار عذره بقوله -وهو المعروف-، انتهى، وكذلك الكاكي أجاب بهذا، وفيه كفاية يعرف بها البعد عن التحقيق بينه وبين ما قاله الأترازي أكثر من ألف فرسخ.
م: (ثم في كل أربعة مثاقيل قيراطان) ش: أي ثم الواجب بعد عشرين مثقالا في كل أربعة مثاقيل قيراطان؛ لأن الأربعة مثاقيل ثمانون قيراطا فكان القيراطان ربع عشرها وهو عشر مثقال؛ لأن المثقال كان زمانهم عشرة دراهم، وفي " الصحاح ": القيراط نصف دانق، وأصله قراط بتشديد الراء يدل عليه جمعه على قراريط بتضعيف الراء، فأبدلت من أحد حرفي التضعيف ياء، وكذلك دينار أصله دنار بتشديد النون.
وقول الجوهري: القيراط نصف دانق غير صحيح؛ لأن الدانق سدس الدرهم، والقيراط نصف سبع، وكل دانق قيراطان وثلث، وفي " المغرب ": الدانق قيراطان كما في " الصحاح "، إلا أن يدعي أن الدرهم كانت اثني عشر قيراطا، وقد كان من الدراهم ما هو كذلك على عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أو عبد الملك، ثم صار الدرهم أربعة عشر قيراطا، وكان كذلك في أيام الجوهري والمطرزي، وفي " الحواشي ": القيراطان نصف دانق وشعيرة وثلاث أخماس شعيرة.
م: (لأن الواجب ربع العشر) ش: أي الواجب في الزكاة ربع العشر م: (وذلك فيما قلنا) ش: أي ربع العشر فيما قلنا وهو أن في كل أربعة مثاقيل قيراطين، والقيراطان من كل أربعة مثاقيل ربع العشر م: (إذ كل مثقال عشرون قيراطا) ش: فتكون أربعة مثاقيل ثمانين قيراطا، وعشر الثمانين ثمانية وربع الثمانية اثنان، فيكون القيراطان ربع عشر أربعة مثاقيل.
م: (وليس فيما دون أربعة مثاقيل صدقة عند أبي حنيفة وعندهما تجب بحساب ذلك) ش: أي عن أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- تجب فيما دون أربعة مثاقيل بحساب ما زاد. وقال في " الجامع " وهي رواية عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (وهي مسألة الكسور) ش: أي هذه المسألة وهي وجوب الزكاة فيما دون أربعة مثاقيل عندهما، وعدم وجوبها فيه عند أبي حنيفة(3/376)
وكل دينار عشرة دراهم في الشرع، فيكون أربعة مثاقيل في هذا كأربعين درهما.
قال: وفي تبر الذهب والفضة وحليهما وأوانيهما الزكاة، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تجب الزكاة في حلي النساء وخاتم الفضة للرجال؛ لأنه مبتذل في مباح فشابه ثياب البذلة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - مسألة الكسر، يعني أن الكسور لا زكاة فيها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما تجب بحساب ذلك، وقد مر الكلام في فصل الفضة من الجانبين، والخلاف في الموضعين واحد.
م: (وكل دينار عشرة دراهم في الشرع) ش: قال الأترازي: فيه نظر؛ لأنه أراد بهذا التقرير أن الدينار والمثقال سواء، وقد قرر قبل هذا أن عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل لا وزن دينار واحد، فيكون الدينار مثل عشرة دراهم، انتهى.
قلت: الذي قاله قبل هذا كان في ابتداء الأمر، وتقرر بعد ذلك كل دينار بعشرة دراهم، ألا ترى أن الدية قد قررت من الذهب بألف دينار، ومن الورق بعشرة آلاف درهم، وفي السرقة لا قطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم م: (فيكون أربعة مثاقيل في هذا) ش: أي في الخلاف المذكور بين أبي حنيفة وبين صاحبيه -رحمهما الله- م: (كأربعين درهما) ش: في مسألة المائتين عند زيادة الأربعين درهما عليهما؛ لأن الزيادة في كل واحد منهما خمس النصاب.
[الزكاة في تبر الذهب والفضة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (في تبر الذهب والفضة) ش: التبر بكسر التاء المثناة من فوق وسكون الباء الموحدة، لما كان غير مضروب من الذهب والفضة م: (وحليهما) ش: بضم الحاء وكسر اللام، أي جمع حلي بفتح الحاء وسكون اللام وهو ما تحلى به المرأة من ذهب أو فضة، وقيل: أو جوهر، والحلية: الزينة من الذهب والفضة م: (وأوانيهما) ش: أي الأواني المعمولة من الذهب والفضة م: (الزكاة) ش: مرفوع بالابتداء وخبره هو قوله مقدما - وفي تبر الذهب والفضة.
م: (وقال الشافعي: لا تجب الزكاة في حلي النساء وخاتم الفضة للرجال) ش: وبه قال مالك وأحمد وفي رواية إسحاق، وقد كان الشافعي يقول هذا في العراق وتوقف بمصر، وقال: هذا مما أستخير الله فيه، وقال الليث: ما كان من حلي يلبس ويعار فلا زكاة فيه، وإن اتخذ للتحرز عن الزكاة ففيه الزكاة.
وقال أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يزكي عاما واحدا لا غير. وقال الحسن البصري، وعبد الله بن عتبة، وقتادة، وأحمد مرة: زكاته عاريته، ويروى ذلك عن ابن عمر وجابر إذا زكاه مرة ذكره النسائي م: (لأنه) ش: أي لأن الحلي م: (مبتذل في مباح) ش: وهو الحلي الذي يباح استعماله، وكل ما كان كذلك فلا زكاة فيه م: (فشابه) ش: أي الحلي يباح استعماله ثيابه م: (ثياب البذلة) ش: وهي ثياب المهنة.(3/377)
ولنا أن السبب مال نام، ودليل النماء موجود وهو الإعداد للتجارة خلقة، والدليل هو المعتبر بخلاف الثياب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا أن السبب) ش: أي سبب وجوب الزكاة م: (مال نام) ش: أي أصله نامي كقاض، وأصله قاضي: فاعل إعلاله م: (ودليل النماء موجود) ش: كأنه جواب عن سؤال مقدر وهو أن يقال: فمن أين النماء فيه؟ فأجاب بقوله: -ودليل النماء موجود- م: (وهو الإعداد للتجارة خلقة) ش: أي من حيث الخلقة فلا تبطل بهذا الوصف بإعداده للاستعمال م: (والدليل هو المعتبر) ش: أي الدليل الذي يدل على أنه معد للتجارة من حيث الخلقة هو المعتبر لا نفس النماء م: (بخلاف الثياب) ش: هذا جواب عن قوله - فشابه ثياب البذلة- لأنه لا إعداد فيها لا من العرف ولا من الشرع، وقولنا مذهب عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن العباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعري، وابن حبيب، وابن جبير، وعبد الله بن شداد، وعطاء، وطاوس، وميمون بن مهران، وأيوب، وابن سيرين، ومجاهد، والضحاك، وجابر بن زيد، وعلقمة، والأسود، وعمر بن عبد العزيز، والثوري، والزهري، وذر الهمداني، والأوزاعي، وابن شبرمة، والحسن بن حي، والحسن بن جني واستحبه الحسن، قال الزهري: نصت السنة أن في الحلي الزكاة، وهو قول عائشة، وأم سلمة وفاطمة بنت قيس، ذكره عبد الحق في " الأحكام الصغرى ".
فإن قلت: ما سند أصحابنا في الأحاديث؟
قلت: روى أبو داود والنسائي عن خالد بن الحارث عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: "أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: "أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من النار" فخلعتهما، وألقتهما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: هما لله ولرسوله» والمسكتان: تثنية مسكة بالفتحات؛ السوار.
وروى أبو داود أيضا في "سننه ": حدثنا محمد بن إدريس الرازي، حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق، حدثنا يحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي جعفر أن محمد بن عمر بن عطاء أخبره عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: دخلنا على «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرأى في يدي فتخات من ورق فقال: "ما هذا يا عائشة؟ "، فقلت صنعتهن أتزين لك بهن يا رسول الله، قال: "أتؤدين زكاتهن؟ ".
قلت: لا، قال: " هن حسبك من النار» انتهى.
والفتخات: جمع فتخة بالفاء وسكون التاء المثناة من فوق وبالخاء المعجمة وهي الخاتم الذي(3/378)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا فص لها.
وروى أحمد في "مسنده ": حدثنا علي بن عاصم عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن شهر بن حوشب، «عن أسماء بنت يزيد قالت: دخلت أنا وخالتي على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلينا أسورة من الذهب فقال لنا: "أتعطيان زكاتها؟ " فقلنا: لا، فقال: "أما تخافان أن يسوركما الله أسورة من نار أديا زكاته» .
وروى الدارقطني في سننه عن نصر بن مزاحم عن أبي بكر الهذلي حدثنا شعيب بن الحبحاب عن الشعبي قال: سمعت فاطمة بنت قيس تقول: «أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطوق فيه سبعون مثقالا من ذهب فقلت: يا رسول الله خذ منه الفريضة فأخذ منه مثقالا وثلاثة أرباع مثقال» .
وروى الدارقطني أيضا عن يحيى بن أبي الليث عن حماد بن إبراهيم عن علقمة «عن عبد الله بن مسعود قال: قلت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن لامرأتي حليا من ذهب عشرون مثقالا، قال: "فأد زكاته نصف مثقال» .
وروى أيضا عن قبيصة عن علقمة عن عبد الله «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن لي حليا وإن لي بني أخ وإن زوجي خفيف اليد فتجزئ عني أن أجعل زكاة الحلي فيهم؟، قال: "نعم» .
وروى الدارقطني أيضا عن أبي حمزة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن للحلي زكاة.
وروى أبو داود من حديث أم سلمة قالت: «كنت ألبس أوضاحا من ذهب، فقلت يا رسول الله: أكنز هو؟ فقال: ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز» انتهى، والأوضاح: جمع وضح وهو الحلي.
فإن قلت: روى الترمذي حديث عمرو بن شعيب المذكور عن قتيبة عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب.. الحديث، ثم قال: ابن لهيعة ضعيف، ولا يصح في هذا الباب شيء، انتهى.
قلت: ما علينا من هذا الباب والطريق الذي رواه أبو داود صحيح، وقال ابن القطان في(3/379)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كتابه: إسناده صحيح، قال المنذري: إسناده لا مقال فيه، وخالد بن الحارث إمام فقيه احتج به البخاري ومسلم، وكذلك احتجا بحسين المعلم، وقول الترمذي: ولا يصح في هذا الباب شيء، قال فيه المنذري: لعله قصد الطريقين اللذين ذكرهما هو، فإن حديث أبي داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا مقال فيه، وعمرو بن شعيب وإن كان تكلم فيه بعضهم فقد قال شيخنا زين الدين وحكى البخاري توقفه فيما حكاه الترمذي عنه قال: رأيت أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني وأبا عبيد وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ما تركه أحد من المسلمين فمن الناس بعدهم؟
فإن قلت: في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - محمد بن عمر، قال الدارقطني هو مجهول.
قلت: قال البيهقي في " المعرفة ": هو محمد بن عمر بن عطاء لكنه نسبه إلى جده فظن أنه مجهول، وليس كذلك وتبع الدارقطني في تجهيله عبد الحق، وقال ابن القطان: خفي عليه كما خفي على الدارقطني وهو من الثقات، ويحيى بن أيوب أخرجه له مسلم، وعبيد الله بن أبي جعفر من رجال الصحيحين، وكذلك عبد الله بن شداد، والحديث على شرط مسلم وأخرجه الحاكم في مستدركه عن محمد بن عمر بن عطاء، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
فإن قلت: في حديث إسماعيل بن عاصم رواه يزيد بن هارون بالكذب وعبد الله بن خيثم، قال ابن معين: أحاديثه ليست بالقوية، وشهر بن حوشب قال ابن عدي: لا يحتج بحديثه.
قلت: علي بن عاصم بن صهيب بن سنان الواسطي وثقه أحمد، وروى عنه وقال يحيى بن زكريا صدوق، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه وعبد الله بن خيثم، وهو عبد الله بن عثمان بن خيثم القارئ من القراء المكي، قال يحيى بن معين: هو ثقة حجة، ووثقه العجلي وأبو حاتم والنسائي، روى له مسلم والأربعة، وشهر بن حوشب الأشعري الشامي الحمصي، ويقال الدمشقي وثقه يحيى، وعنه ثبت، وعن أحمد: ما أحسن حديثه ووثقه، وروى له مسلم مقرونا بغيره وروى له الأربعة.
فإن قلت: في حديث فاطمة بنت قيس نصر بن مزاحم قال أبو خيثمة: كان كذابا، وقال ابن معين: حديثه ليس بشيء، وأبو بكر الهندواني قال الدارقطني: متروك، وقال ابن الجوزي قال غندر: هو كذاب، وقال ابن معين وابن المديني: ليس بشيء، قلت: أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في " تاريخ أصبهان " في حرف الشين عن شيبان بن زكريا عن عباد بن كثير عن شعيب بن الحبحاب به سواء. فإن قلت: حديث عبد الله بن مسعود، قال الدارقطني: هو مرسل موقوف، قلت: فليكن يحسن فيعمل به، وحديثه الآخر عن قبيصة عن عقبة أحد مشايخ(3/380)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البخاري، وأكثر منه في الصحيح، ولا يلفت إلى ما قاله ابن القطان أنه يخطئ كثيرا.
فإن قلت: حديث أم سلمة فيه ثابت بن عجلان، قال البيهقي: تفرد به ثابت.
قلت: لا يضر، فإن البخاري أخرج له وأخرجه الحاكم في "مستدركه " عن محمد بن مهاجر عن ثابت به وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ومحمد بن مهاجر قال ابن حبان: يضع الحديث عن الثقات، وقال ابن الجوزي في " التحقيق ": وهذا وهم قبيح، فإن محمد بن مهاجر الكذاب ليس هذا، فإن الذي يروي عن ثابت بن عجلان ثقة شامي، وأخرج له مسلم في "صحيحه "، وأما محمد بن مهاجر الكذاب فإنه متأخر عنه.
وأما أحاديث الخصوم، فمنها ما رواه ابن الجوزي في " التحقيق " بسنده عن عافية بن أيوب عن الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في الحلي زكاة» قال البيهقي: والذي يروى عن جابر، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس في الحلي زكاة» لا أصل له، وفيه عافية بن أيوب مجهول، فمن احتج به مرفوعا، كان مقرا بذنبه داخلا فيما يعيب به، من يحتج بالكذابين. وقال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا غريب من البيهقي مع تعقبة الشافعي، وقال ابن الجوزي: هو ضعيف مع أنه موقوف على جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ومنها ما رواه مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يحلي نساءه وجواريه الذهب ثم لا يخرج من حليهن الزكاة.
ومنها ما رواه الدارقطني عن شريك عن علي بن سليمان قال: سألت أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الحلي قال: ليس فيه زكاة.(3/381)
فصل في العروض الزكاة واجبة في عروض التجارة كائنة ما كانت إذا بلغت قيمتها نصابا من الورق أو الذهب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في العروض] [زكاة العروض حكمها وشروط وجوبها]
م: (فصل في العروض) ش: أي هذا فصل في بيان حكم الزكاة في العروض. العروض بضم العين جمع عرض وهو المتاع القيمي، وقيل: هو ما ليس بنقد، والعرض بفتحتين حطام الدنيا، كذا في " المغرب " و" الصحاح "، وفيه العرض بسكون الراء: المتاع وكل شيء فهو عرض سوى الدراهم والدنانير، قال أبو عبيد: الأمتعة التي لا يدخلها كيل ولا وزن، ولا يكون حيوانا، ولا عقارا، وقال السغناقي: فعلى هذا جعل العروض هاهنا جمع عرض بسكون الراء أولى، بل هو واجب؛ لأنه في بيان حكم الأموال التي هي غير الدراهم والدنانير والحيوانات والعرض بالضم الجانب، ومنه أوصى بعرض ماله، أي بجانب منه بلا تعيين، والعرض: بالكسر ما يحمد الرجل ويذم عند وجوده وعدمه، وإنما أخر هذا الفصل للاختلاف فيها، أو لأنها تقوم بالنقدين فيكون بناء عليهما.
م: (الزكاة واجبة في عروض التجارة) ش: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على وجوب الزكاة في العروض، ورويناه عن ابن عمر، وابن عباس والفقهاء السبعة: ابن المسيب والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبو بكر عبد الرحمن بن الحارث وخارجة بن زيد، وعبيد الله بن عبد الله بن عقبة وسليمان بن يسار وطاوس والحسن البصري وإبراهيم النخعي والأوزاعي والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم.
وقال ربيعة ومالك: لا زكاة في عروض التجارة ما لم تنض وتصير دراهم أو دنانير فحينئذ تلزمه زكاة عام واحد، وقال في " المبسوط ": وإن مضى عليها أحوال، وقالت الظاهرية: لا زكاة في العروض للتجارة، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كذلك.
م: (كائنة ما كانت) ش: كلمة - ما- مصدرية، وكانت تامة، وكائنة نصب على الحال، والتقدير: الزكاة واجبة حال كائن كونهما من أي شيء كان من جنس ما تجب فيه الزكاة، كالسوائم، أو من جنس ما لا تجب فيه الزكاة كالثياب والبغال والحمر، م: (إذا بلغت قيمتها) ش: أي قيمة العروض م: (نصابا) ش: لأن المعتبر فيها الغناء بقيمتها، وذلك موجود في جميع الأشياء م: (من الورق) ش: بكسر الراء أي الفضة المضروبة م: (أو الذهب) ش: المضروب.
وفي " الذخيرة " و" المرغيناني ": يعتبر في تقويم العروض بالتجارة بالدراهم المضروبة حتى إن من اشترى عبدا للتجارة بنقرة فضة وزنها مائتان، ولا تساوي مائتي درهم مضروبة لا تجب فيه الزكاة، وإن وجبت في رأس ماله؛ لأن عين الذهب والفضة لا يعتبر فيها الضرب ولا التقويم له إنما جعل نصابها أخذ قيمتها؛ لأنه لا نصاب لها في نفسها، والمقصود منها ليست أعيانها، وإنما المقصود هو التمول بمعانيها، فجعل نصابها من مقصودها وهي القيمة، ثم الزكاة(3/382)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها: «يقومها فيؤدي من كل مائتي درهم خمسة دراهم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تجب في العروض في عينها حتى إذا هلكت بعد الحول سقطت الزكاة. وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: في قيمتها.
فإن قلت: كل مال اعتبر فيه النصاب تعلق الوجوب به، أصله الأعيان الماشية.
قلت نصابها عندنا من أعيانها، وإنما يعتبر التقويم ليعلم أن العين قد بلغت مقدارا معلوما كما يتعين الوزن والعدد ليبلغ وزنا معلوما وعددا معلوما.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها: «يقومها فيؤدي من كل مائتي درهم خمسة دراهم» ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عروض التجارة يقومها إلى آخره، وهذا حديث غريب لا يعرف من رواه من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومن رواه منهم، وفي هذا الباب أحاديث مرفوعة وموقوفة، فمن المرفوعة: ما رواه أبو داود في "سننه "، حدثنا محمد بن داود بن سفيان، حدثني يحيى بن حسان، حدثنا سليمان بن موسى أبو داود، حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، حدثني خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان، عن سمرة بن جندب، قال: أما بعد فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع وسكت عنه، فيدل على أنه صحيح عنده وكذلك المنذري بعده. وقال أبو عمر بن عبد البر: هذا الحديث رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن.
ومنها ما رواه الحاكم في "مستدركه " بإسناده إلى أبي ذر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي البر صدقته، ومن دفع دنانير أو دراهم، أو تبرا، أو فضة لا يعدها لغريم، ولا ينفقها في سبيل الله فهو كنز يكوى به يوم القيامة» ، وصححه الحاكم، وقال: على شرط الشيخين.
ومنها ما رواه الطبراني في "معجمه " بإسناده عن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بالرقيق؛ الرجل أو المرأة الذين هم تلاد له، وهم عملة لا يريد بيعهم، فكان يأمرنا أن لا نخرج عنهم صدقة، وكان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعد للبيع» ورواه الدارقطني أيضا.
ومن الموقوفة: ما رواه أحمد في "مسنده " وعبد الرزاق في "مصنفه " والدارقطني في "سننه " حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن أبي سلمة عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه أنه(3/383)
ولأنها معدة للاستنماء بإعداد العبد فأشبه المعد بإعداد الشرع، وتشترط نية التجارة؛ ليثبت الإعداد، ثم قال: يقومها بما هو أنفع للمساكين؛ احتياطا لحق الفقراء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: كنت أبيع الأدم والجعاب فمر بي عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال لي: أد صدقة مالك فقلت: يا أمير المؤمنين إنما هو الأدم والجعاب قال: قومها وأد زكاتها. ومنها ما رواه عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا ابن جريج أخبرني موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كان يقول: في كل مال يدار في عبيد أو تجارة أو دواب أو بز للتجارة تدار الزكاة فيه كل عام.
ومنها ما رواه البيهقي من طريق أحمد بن حنبل: ثنا حفص بن غياث، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: ليس في العروض زكاة إلا إذا كان للتجارة.
ومنها: ما رواه عبد الرزاق عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب والقاسم قالوا: في العروض تدار الزكاة كل عام لا تؤخذ منها الزكاة حتى لا يأتي ذلك الشهر من عام قابل.
م: (ولأنها) ش: أي ولأن العروض م: (معدة) ش: أي مهيأة م: (للاستنماء) ش: أي لطلب النماء م: (بإعداد العبد فأشبه المعد بإعداد الشرع) ش: المعد بضم الميم وفتح العين وتشديد الدال وهو الذهب والفضة م: (ويشترط فيه نية التجارة ليثبت الإعداد) ش: أي حالة الشراع، أما إذا كانت النية بعد الملك فلا بد من اقتران عمل التجارة بنيته؛ لأن مجرد النية لا يعمل فلا يصير حتى يبيعه بالإجماع إلا عند الكرابيسي من أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأحمد في رواية فإنه يصير للتجارة بمجرد النية في " جوامع الفقه " السالمة إذا نوى أنه إن وجد ربحا يبيعها لا يبطل السوم، ولو نوى أنه يجعلها علوفة أو يعمل عليها لا تبطل السوم ما لم يفعل، بخلاف عروض التجارة إذا نواها للقنية حيث تبطل التجارة، وكذا العبد إذا نواه للخدمة، وعن محمد إذا نوى أن يستخدمه فاستخدمه لا تبطل التجارة ما لم يجعله للخدمة، ولو اشترى الجلاب شياها، والقصاب اللحم فهي للتجارة، وإن رعاها في المفازة لم يبطل كونها للتجارة؛ لأن المرعى للتخفيف في المؤنة.
م: (ثم قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي القدوري أو محمد -رحمهما الله- م: (يقومها بما هو أنفع للمساكين احتياطا لحق الفقراء) ش: أي يقوم العروض التي للتجارة بالذي هو أنفع للفقراء، وهو أن يقومها بأنفع النقدين، وبه قال أحمد؛ لأن المال في يد المالك في زمان طويل وهو المنتفع فلا بد من اعتبار منفعة للفقراء عند التقويم، ولا بد أن يقوم بما يبلغه نصابا حتى إذا قومت بالدراهم تبلغ نصابا، وإذا قومت الذهب لا تبلغ نصابا تقوم بالدراهم وبالعكس كذلك.
فإن قلت: في خلافه نظر للمالك وحقه يعتبر، ألا ترى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أخذ كرائم الأموال في الزكاة واشترط الحول فيها.
قلت: المالك أسقط حقه بالاستنماء مدة الحول فيوفر حظ الفقراء بالتقويم بالأنفع مراعاة.(3/384)
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي الأصل خيره، لأن الثمنين في تقدير قيم الأشياء بهما سواء،
وتفسير الأنفع أن يقومها بما يبلغ نصابا. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقومها بما اشترى إن كان الثمن من النقود، لأنه أبلغ في معرفة المالية، وإن اشتراها بغير النقود بأن اشتراها بالعروض قومها بالنقد الغالب. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقومها بالنقد الغالب على كل حال كما في المغصوب والمستهلك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للحقين بقدر الإمكان.
م: (وهذا) ش: أي هذا الذي ذكرناه بالتقويم بما هو أنفع للمساكين م: (رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: في التقويم أربعة أقوال، أحدهما هذا المذكور عن أبي حنيفة وكذا ذكر في " الأمالي " يقومها بأنفع النقدين للفقراء، وفي " التحفة " و" القنية ": يقومها بأوفر القيمتين وأنظرهما وأكثرهما زكاة.
م: (وفي الأصل) ش: أي " المبسوط " م: (خيره) ش: أي خير أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - المالك في التقويم بما شاء من النقدين، وهذا هو القول الثاني م: (لأن الثمنين في تقدير قيم الأشياء بهما سواء) ش: لأن التقويم لمعرفة مقدار المالية والنقدان في ذلك سواء.
م: (وتفسير الأنفع أن يقومها بما يبلغ نصابا) ش: هذا كأنه جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: ما المراد من قوله في القول الأول - يقومها بما يبلغ نصابا الأنفع- فإن الأنفع الذي هو الأفضل يحتمل أن يكون من جهة إيصال النفع للفقراء مطلقا. فأجاب بقوله: وتفسير الأنفع يعني المراد بالأنفع من هذه الحيثية يعني كون التقويم بما يبلغ نصابا هو الأنفع لهم لا مطلق النفع.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقومها بما اشترى) ش: وبه قال الشافعي، وهذا هو القول الثالث، يعني يقوم العروض بالثمن الذي اشتراها م: (إن كان الثمن من النقود) ش: أي من الدراهم أو الدنانير م: (لأنه أبلغ في معرفة المالية) ش: لأنه ظهر قيمتها مرة بهذا النقد الذي وقع به الشراء والظاهر إن اشتراها بقيمتها فكان هذا النقد أكثر تعريفا لقيمتها من نقد آخر.
م: (وإن اشتراها بغير النقود بأن اشتراها بالعروض قومها بالنقد الغالب) ش: في نقود البلد فإنه لو اشتراها بعروض فإنه لا يصح تقويمها للأشياء، وكذا لو ورثه فوجب التقويم بغالب نقد البلد، وإن كان مسافرا يقومها في البلد الذي يصير إليه.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقومها بالنقد الغالب على كل حال) ش: هذا هو القول الرابع، وبه قال الشافعي في وجه قوله -على كل حال- يعني سواء اشتراها بأحد النقدين أو بغيره لأن كل ما يحتاج فيه إلى التقويم يعتبر فيه النقد الغالب م: (كما في المغصوب والمستهلك) ش: أي كما يقوم بالنقد الغالب وقت الحاجة إلى تقويم المغصوب والذي استهلكه بغصب فلا يقوم إلا بالنقد الغالب وقت الحاجة في البلد.(3/385)
وإذا كان النصاب كاملا في طرفي الحول فنقصانه فيما بين ذلك لا يسقط الزكاة لأنه يشق اعتبار الكمال في أثنائه أما لا بد منه في ابتدائه للانعقاد وتحقق الغنى بالنصاب وفي انتهائه للوجوب، ولا كذلك فيما بين ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المجتبى ": الوجوب بالعروض عندنا باعتبار قيمتها حتى يخير بين أداء ربع عشر قيمتها أو ربع عشر عينها وهو أحد قولي الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: فيه ثلاثة أقوال: في قول: يخرج ربع عشر القيمة وهو نصه في " الأم " وعليه الفتوى، وفي قول ربع عشر العرض، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وفي قول: يتخير بينهما وهو قول أبي حنيفة كذا في " الحلية ".
م: (وإذا كان النصاب كاملا في طرفي الحول فنقصانه فيما بين ذلك) ش: أي فيما بين طرفي الحول م: (لا يسقط الزكاة) ش: وإنما قيدنا بالنقصان احترازا عن هلاك كل النصاب، فإنه ينقطع الحول به بالاتفاق، وذكر النصاب مطلقا ليتناول كل مال تجب فيه الزكاة كالنقدين والسوائم، وقال زفر: يشترط كمال النصاب من أوله إلى آخره، والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه أربعة أقوال:
أحدهما: أنه لو تلف بعض النصاب أو أتلفه ينقطع الحول. وقال مالك وأحمد -رحمهما الله-: إن أتلفه لقصد الفرار عن الزكاة لا ينقطع الحول وإلا ينقطع.
والثاني: مثل مذهبنا. والثالث: يعتبر في آخر الحول.
والرابع: أنه يعتبر بعض التنقيص دون بعض الكساد، وفي السوائم والنقدين يشترط كمال النصاب في جميع الحول عنده وفي " المحيط ": اشترى عصيرا للتجارة ثم تخمر ثم تخلل فهو للتجارة، وكذا شاة التجارة إذا ماتت فدبغ جلدها فهو للتجارة وعبد التجارة إذا قتل خطأ فدفع بدله، والثاني للتجارة بخلاف العمد لو صالحه الولي على عبد أو غيره لم يكن للتجارة ويبطل بالكتابة، وإذا عجز لا يعود للتجارة، ولو باع مال التجارة في الحول بجنسها أو بغير جنسها لا ينقطع الحول، وفي " المجتبى ": الدين في خلال الحول لا يقطع حكم الحول وإن كان مستغرقا وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ينقطع.
م: (لأنه يشق اعتبار الكمال في أثنائه) ش: أي يشق اعتبار كمال النصب في أثناء الحول لأنه قد يزيد وقد ينقص، واعتبار الزيادة والنقصان في كل ساعة يفضي إلى الحرج وذلك مدفوع شرعا م: (أما لا بد منه) ش: أي من كمال النصاب م: (في ابتدائه) ش: أي في ابتداء الحول م: (للانعقاد) ش: أي لانعقاد السبب م: (وتحقق الغنى في انتهائه) ش: أي انتهاء الحول م: (للوجوب) ش: أي لوجوب الزكاة م: (ولا كذلك) ش: أي وليس الحكم كما ذكرنا م: (فيما بين ذلك) ش: أي فيما بين الابتداء والانتهاء.(3/386)
لأنه حالة البقاء، بخلاف ما لو هلك الكل حيث يبطل حكم الحول، ولا تجب الزكاة لانعدام النصاب في الجملة ولا كذلك في المسألة الأولى، لأن بعض النصاب باق فيبقى الانعقاد. قال: وتضم قيمة العروض إلى الذهب والفضة حتى يتم النصاب، لأن الوجوب في الكل باعتبار التجارة وإن افترقت جهة الإعداد ويضم الذهب إلى الفضة للمجانسة من حيث الثمنية، ومن هذا الوجه صار سببا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأنه حالة البقاء بخلاف ما لو هلك الكل حيث يبطل حكم الحول، ولا تجب الزكاة لانعدام النصاب في الجملة ولا كذلك في المسألة الأولى، لأن بعض النصاب باق فيبقى الانعقاد) ش: أي بقاء شيء من النصاب فيضم المستفاد إليه وهو خاتم فضة، وذلك لتمكن القول ببقاء الانعقاد حتى لو هلك جميع النصاب في أثناء الحول لعدم النصاب، والانعقاد جميعا لعدم المحل.
م: (قال: وتضم قيمة العروض إلى الذهب والفضة حتى يتم النصاب) ش: هذا بالإجماع م: (لأن الوجوب) ش: أي وجوب الزكاة م: (في الكل) ش: أي في قيمة العروض والذهب والفضة م: (باعتبار التجارة) ش: أي تجب باعتبار التجارة م: (وإن اختلفت جهة الإعداد) ش: أي التهيئة للتجارة، لأن الإعداد في العروض جهة العباد لا إعداد التجارة، وفي الذهب والفضة من الله -عز وجل- حيث خلقهما للتجارة.
م: (ويضم الذهب إلى الفضة) ش: عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لكن أصحابه الثلاثة اختلفوا في كيفية الضم على ما يجيء الآن، وقال الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في رواية، وأبو ثور، وداود: لا تضم له م: (للمجانسة من حيث الثمنية) ش: أي علة الضم المجانسة بين الذهب والفضة، باعتبار الثمنية لأن كل واحد منهما ثمن فإذا كان ما هو يعد في المجانسة علة للضم، وهو العروض، فلأن يكون في الأقرب أولى م: (ومن هذا الوجه صار سببا) ش: أي من حيث الثمنية صار كل واحد من الذهب والفضة سببا لوجوب الزكاة، ودليل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -أنهما جنسان مختلفان فلا يضم أحدهما إلى الآخر لتكميل النصاب بل يعتبر كمال النصاب من كل واحد منهما كالسوائم.
قلنا: هذا ينتقض بضم العروض إلى العروض، وفي الدراهم، ولا يرد السوائم لأن علة الضم هي المجانسة هي ظاهرة بين الذهب، والفضة، لأنهما يقوم بهما الأشياء، وكذا بين عروض التجارة والذهب والفضة، لأن الكل للتجارة بخلاف السوائم لأنه لا مجانسة بينها عند اختلاف الجنس فلا يضم بعضها إلى بعض، وكذا لا مجانسة بينها وبين الذهب والفضة، لأنها ليست للتجارة، ولنا أيضا ما روي عن بكير بن عبد الله الأشج أنه قال: من السنة أن يضم الذهب إلى الفضة لإيجاب الزكاة، والسنة إذا أطلقت يراد بها سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ذكره صاحب " المبسوط "، و" البدائع " وغيرهما، وبكير بن عبد الله بن الأشح القرشي روى له(3/387)
ثم تضم القيمة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما بالأجزاء وهو رواية عنه، حتى إن من كان له مائة درهم وخمسة مثاقيل ذهب، وتبلغ قيمتها مائة درهم فعليه الزكاة عنده خلافا لهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجماعة.
م: (ثم تضم القيمة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: إن شاء قوم العروض، ويضمها على الدراهم والدنانير، وإن شاء قوم الدراهم والدنانير فيضم قيمتها إلى قيمة العروض، وبه قال الأوزاعي، والثوري، وأحمد في رواية م: (وعندهما بالأجزاء) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد: الضم بالأجزاء، وبه قال مالك، وأحمد في رواية، ولا يرى الشافعي الضم، وبه قال أحمد في رواية، وأبو ثور، وأبو داود، وذهب آخرون إلى أن الضم إنما يكون إذا كمل النصاب من أحدهما، بيان ذلك: إذا كان أحدهما ثلثا النصاب فلا بد أن يكون الآخر ثلثي النصاب وكذلك النصف وغيره، ولو كانت عشرة دنانير، ومائة درهم، وقيمة الدنانير ما يجب الضم بالاتفاق، على اختلاف التخريج عنده باعتبار القيمة وعندهما باعتبار الأجزاء، ولو كانت مائة درهم، وخمسة دنانير قيمتها خمسون لا يضم بالاتفاق كذا في " التحفة "، ولو كانت مائة وخمسين درهما، وخمسة دنانير وقيمة الدنانير لا تساوي خمسين درهما تجب الزكاة على قولهما.
واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قال بعضهم: لا تجب عنده لأن الضم عنده باعتبار القيمة وبضم الأقل إلى الأكثر، لأن الأقل تابع للأكثر فلا يكمل النصاب.
وقال الفقيه أبو جعفر: يجب على قوله، وهو الصحيح أن يضم الأكثر إلى الأقل كذا في " المختلفات ". وذكر البزدوي: تضم بالقيمة، وبالأجزاء عنده، وعندهما بالأجزاء فقط، وفي الأسبيجابي وغيره: معنى الضم بالأجزاء أن يكون من كل واحد منهما نصف نصاب من غير نظر إلى قيمتها أو من أحدهما نصف وربع، ومن الآخر ربع، أو من أحدهما نصف، وربع، وثمن، ومن الآخر ثمن.
وفي " المحيط ": لو زاد على النصابين أقل من أربعين درهما، أو أقل من أربعة مثاقيل من الذهب تضم إحدى الزيادتين إلى الأخرى ليتم النصاب أربعين درهما، أو أربعة مثاقيل عنده، وعندهما لا يضم، لأن الزكاة تجب في الكسور عندهما، والنصف ليس بشرط فيهما. م: (وهو رواية عنه) ش: أي الضم بالأجزاء إنما هو مذهب صاحبيه رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواها هشام عنه، وفي " المفيد ": رواها الحسن عنه.
م: (حتى إن من كان له مائة درهم وخمسة مثاقيل ذهب، وتبلغ قيمتها مائة درهم فعليه الزكاة عنده خلافا لهما) ش: هذا بيان نتيجة الخلاف بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وصاحبيه في كيفية ضم الذهب إلى غيره من الفضة وهو ظاهر.(3/388)
هما يقولان المعتبر فيهما القدر دون القيمة حتى لا تجب الزكاة في مصوغ وزنه أقل من مائتين وقيمته فوقها، هو يقول: إن الضم للمجانسة وهو يتحقق باعتبار القيمة دون الصورة فيضم بها والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (هما يقولان) ش: أي أبو يوسف، ومحمد يقولان: م: (إن المعتبر فيهما القدر دون القيمة) ش أي الاعتبار في الذهب، والفضة القدر يعني عينهما لا قيمتهما م: (حتى لا تجب الزكاة في مصوغ وزنه أقل من مائتين وقيمته فوقها) ش: في مصوغ نحو إبريق، أو كأس، أو نحوهما إذا كان وزنه أقل من مائتي درهم قيمته مائتا درهم لا تجب الزكاة فيها بالاتفاق، لأن القيمة ساقطة الاعتبار فيهما كما في سائر حقوق العباد.
م: (هو يقول) ش: أي أبو حنيفة يقول: م: (إن الضم للمجانسة) ش: أي ضم الذهب إلى الفضة للمجانسة بينهما في الثمنية م: (وهو) ش: أي المجانسة م: (يتحقق باعتبار القيمة دون الصورة) ش: لأن في اعتبار الأجزاء اعتبار الصورة، ومسألة المصوغ ليست فيما نحن فيه، إذ ليس فيها ضم شيء إلى آخر حتى تعتبر القيمة، فإن القيمة في النقود إنما تظهر شرعا عند مقابلة أحدهما بالآخر وهاهنا ليس كذلك م: (فيضم بها) ش: أي فيضم الذهب إلى الفضة يعني باعتبارها.(3/389)
باب فيمن يمر على العاشر إذا مر على العاشر بمال فقال: أصبته منذ أشهر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب فيمن يمر على العاشر] [الخلاف بين المزكي والعاشر]
م: (باب فيمن يمر على العاشر) ش: أي: هذا باب في بيان حكم من يمر على العاشر، وألحق هذا الباب بكتاب الزكاة اتباعا " للمبسوط "، و" شرح الجامع الصغير ". ووجه المناسبة فيه ظاهرة، لأن العشر المأخوذ من المسلم المار على العاشر هو الزكاة بعينها، إلا أن العاشر كما يأخذ من المسلم يأخذ من الذمي والمستأمن، وليس المأخوذ منهما زكاة، فقدم الزكاة على هذا الباب على ما بعده، لأن الزكاة إحدى أركان الدين، وأما تقديم الصلاة عليها فظاهر.
ولفظ العاشر اسم فاعل من عشرت القوم أَعشُرهم عُشرا بالضم إذا أخذت منهم عُشر أموالهم، فعلى هذا فتسمية العاشر الذي يأخذ العشر إنما يستقيم على أخذه من الحربي لا من المسلم والذمي، لأنه يأخذ من المسلم ربع العشر، وفي " الصحاح ": عشرت القوم أعشُرهم، بضم الشين عُشرا بضم الشين عشر العين إذا أخذت عُشر أموالهم، ومنهم العاشر، والعشّار بتشديد وعشِرت غيرهم بالكسر عَشرا بالفتح إذا صرتَ عَاشِرَهم، وعَاشِر العشرة أحدهم، وعاشر التسعة مُصيِّر التسعة عشرة بنفسه، والعاشر من نصبه الإمام لأخذ الصدقات من التجارة من المال الذي تجب فيه الزكاة ويأمن التجارة ببقائه في المفاوز من قطاع الطريق، واللصوص.
فإن قلت: روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لعن العاشرين وذمهم.
قلت: " هذا محمول على من يأخذ أموال الناس ظلما وهم القوم المكاسون الذين يأخذون من التجار في مصر والشام وحلب، في أكثر من عشرة مواضع ظلما وعدوانا، ويقولون: نأخذ الزكاة ويكفرون بسبب ذلك، وهم الذين لعنهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: «لا يدخل الجنة صاحب مكس» .
م: (إذا مر على العاشر بمال) ش: أي إذا مر شخص على العاشر بمال من الأموال الباطنة، وإنما قلت كذا لأن في الأموال الظاهرة وهي السوائم لا يحتاج العاشر إلى مرور صاحبها أي صاحب المال عليه في ثبوت ولاية الأخذ له، فإن له أن يأخذ عشر الأموال الظاهرة منه، وإن لم يمر صاحب المال عليه، أما في الأموال الباطلة الأداء لصاحب المال لكونه غير محتاج إلى الحماية، فإذا أخرجها إلى المفاوز احتاج إليها فصارت كالسوائم م: (فقال: أصبته منذ أشهر) ش: أي فقال صاحب المال: أصبت هذا المال يعني لم يحل عليه الحول فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول.
فإن قلت: قوله: منذ أشهر، كيف يراد به ما دون الحول.(3/390)
أو علي دين وحلف صدق،
والعاشر من نصبه الإمام على الطريق ليأخذ الصدقات من التجار، فمن أنكر منهم تمام الحول أو الفراغ من الدين كان منكرا للوجوب، والقول قول المنكر مع اليمين، وكذا إذا قال أديتها إلى عاشر آخر ومراده إذا كان في تلك السنة عاشر آخر، لأنه ادعى وضع الأمانة موضعها، بخلاف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الأشهر جمع قلة يقع على العشرة فما دونها، فلا بد أن يراد بها ما دون الستة. هذا الطريق، ورأيت بخط الأترازي منذ شهر بالإفراد، والظاهر أنه سهو منه، لأن النسخ كلها بلفظ أشهر، وكذا الشراح مشوا عليه.
م: (أو علي دين) ش: أي أو قال: علي دين يرد به دينا محيطا بماله والمراد بالدين دين العباد الذي عليه المطالبة من جهتهم والذي لا يطالب من جهتهم لا يمنع الزكاة، وهذا أيضا إذا لم يكن في يده مال آخر من جنس النصاب فقد حال عليه الحول، فإذا كان في يده شيء من ذلك لا يلتفت العاشر إلى قوله: ويأخذ من المال الذي لم يحل عليه الحول، لأن المستفاد عندنا يضم إلى ما عنده من النصاب، إلا أن يكون من إبل الزكاة فحينئذ لا يأخذ باعتبار نصاب آخر عنده حال عليه الحول، وكذا لا يأخذ إذا كان المال للصبي أو المجنون.
م: (وحلف صدق) ش: لأن القول للمنكر مع يمينه، وكذا لا يأخذ إذا تصدق مع يمينه إذا قال: المال لي وأنا أجير فيه، أو هو وديعة عندي أو بضاعة أو ليس للتجارة، أو قال: أنا مضارب أو مكاتب أو عبد مأذون له، وفي " خزانة الأكمل ": إذا كان رب المال معه فإنه يعشره، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - " لا يمين عليه في هذه الوجوه كلها لأنها عبادة ولا يمين في عبادات كالصوم والصلاة والحج، ووجه ظاهر الرواية أنه لا مكذب له في العبادات وهنا يكذبه العاشر، وبهذا يحصل الجواب عن سؤال السغناقي بقوله: الزكاة عبادة لله تعالى كالصوم والصلاة فلا يشترط التحليف.
فإن قلت: يرد عليه حد القذف فإنه لا يستحلف فيه، مع أن فيه حق العبد.
قلت: شرعت اليمين للنكول، والقضاء بالنكول متعذر في الحدود.
م: (والعاشر من نصبه الإمام على الطريق) ش: أي الطريق الذي يمر عليه أصحاب الأموال م: (ليأخذ الصدقات من التجار) ش: أي الزكاة.
م: (فمن أنكر منهم) ش: أي من التجار م: (تمام الحول) ش: أي قال: ما حال الحول م: (أو الفراغ من الدين) ش: بأن قال: علي دين محيط بمالي م: (كان منكرا للوجوب) ش: أي لوجوب الزكاة م: (والقول قول المنكر مع يمينه) ، وكذا إذا قال: أديتها إلى عاشر آخر) ش: أي غير هذا العاشر م: (ومراده إذا كان في تلك السنة عاشر آخر لأنه ادعى وضع الأمانة) ش: أي الزكاة م: (موضعها بخلاف(3/391)
ما إذا لم يكن عاشر آخر في تلك السنة لأنه ظهر كذبه بيقين، وكذا إذا قال: أديتها أنا يعني إلى الفقراء في المصر، لأن الأداء كان مفوضا إليه فيه وولاية الأخذ بالمرور لدخوله تحت الحماية، وكذا الجواب في صدقة السوائم في ثلاثة فصول، وفي الفصل الرابع وهو ما إذا قال: أديت بنفسي إلى الفقراء في المصر لا يصدق وإن حلف. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصدق لأنه أوصل الحق إلى المستحق، ولنا أن حق الأخذ للسلطان، فلا يملك إبطاله بخلاف الأموال الباطنة، ثم قيل الزكاة في الأول والثاني سياسة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما إذا لم يكن عاشر آخر) ش: أي غير هذا العاشر فإنه لا يصدق م: (لأنه ظهر كذبه بيقين وكذلك) ش: وكذا إذا القول، قوله: فيصدق مع يمينه م: (إذا قال: أديتها أنا يعني إلى الفقراء في المصر لأن الأداء كان مفوضا إليه) ش: أي إلى المالك م: (وفيه) ش: أي في المصر م: (وولاية الأخذ) ش: للساعي إنما تكون م: (بالمرور) ش: أي بمرور المالك على الساعي م: (لدخوله تحت الحماية) ش: بالمرور عليه.
م: (وكذا الجواب في صدقة السوائم) ش: إذا قال العاشر في الإبل والبقر والغنم م: (في ثلاثة فصول) ش: أولها: قوله أصبتها منذ أشهر، والثاني قوله: أو علي دين، والثالث قوله: أديت إلى عاشر آخر، وفي تلك السنة عاشر آخر ففي هذه الفصول الثلاثة إذا حلف صدق فيكون القول قوله.
م: (وفي الفصل الرابع وهو ما إذا قال: أديت بنفسي إلى الفقراء لا يصدق وإن حلف، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصدق) ش: فيكون القول قوله، وهذا قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد. وقال في القديم: لا يصدق وبه قال مالك وأحمد، وقال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح المهذب ": أما الأموال الظاهرة على الزروع والثمار والمواشي والمعادن ففي أصح القولين وهو الجديد جواز تفريقه بنفسه، وفي القديم منعه، فإن دفعها بنفسه فعليه دفع ثان إلى الإمام أو نائبه، وسواء كان الإمام عادلا أو جائرا م: (لأنه أوصل الحق إلى المستحق) ش: وهو الفقير، وأسقطوا المؤنة عن الساعي.
م: (ولنا أن حق الأخذ للسلطان فلا يملك المالك إبطاله) ش: أي إبطال حق السلطان م: (بخلاف الأموال الباطنة) ش: لأنها مفوضة إليه.
م: (ثم قيل) ش: أشار به إلى أن في الفصل الرابع لما لم يصدق في قوله، وأخذ منه الساعي ثانيا ماذا يكون حكمه وهو أن فيه الخلاف، فقال بعضه: م: (الزكاة في الأول) ش: يعني تقع الزكاة في دفعه بنفسه، لأنه أوصل الحق إلى مستحقه م: (والثاني) ش: وهو أخذ الساعي ثانيا يكون م: (سياسة) ش: زجرا له حتى لا يفعل ذلك مرة أخرى، وزجرا لغيره عن الإقدام على ما ليس له، والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه وهو في الأجوف الواوي، وفي " المغرب ": يقال(3/392)
وقيل: هي فيه الثاني والأول ينقلب نفلا وهو الصحيح، ثم فيما يصدق في السوائم وأموال التجارة لم يشترط إخراج البراءة في " الجامع الصغير " وشرطه في الأصل وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه ادعى ولصدق دعواه علامة فيجب إبرازها، وجه الأول أن الخط يشبه الخط فلا يعتبر علامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للرجل: يسوس الدواب إذا قام عليها وساسها، ومنه الوالي يسوس الرعية سياسة أي يلي أمرهم.
م: (وقيل: هي) ش: أي الزكاة م: (وفي الثاني) ش: يعني في أخذ الساعي لأن الزكاة حق الله تعالى، وإنما يستوفيه من انتصب ثانيا في استيفاء حقوقه، فلا تبرأ ذمته إلا بالصرف إليه م: (والأول ينقلب نفلا) ش: هذا كأنه جواب عن سؤال مقدر، تقديره أن يقال: الزكاة إذا كانت في أخذ العاشر، فماذا يكون حكم الذي دفعه المالك إلى الفقير، فأجاب عنه بأن الأول وهو دفع المالك الزكاة إلى الفقير يقع نفلا، كمن صلى في منزله الظهر ثم سعى إلى الجمعة ينقلب ظهره نفلا م: (وهو الصحيح) ش: أي القول الثاني هو الصحيح، واحترز به عن القول الأول، وجه الصحة أنه لما ثبت ولاية الأخذ للسلطان شرعا في الأموال الظاهرة كان أداء رب المال فرضا لغوا كما لو أدى الجزية إلى المقاتلة بنفسه.
م: (ثم فيما يصدق) ش: أي ثم في الذي يصدق رب المال م: (في السوائم وأموال التجارة لم يشترط) ش: محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إخراج البراءة) ش: أي خط البراءة أراد به العلامة، وفي " المغرب " البراءة اسم لخط الإبراء من برئ من الدين والعيب براءة والجمع براءات، والبراءات لغة العامة م: (في الجامع الصغير) ش: وهو الذي صنفه الإمام محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وشرطه) ش: أي شرط محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إخراج البراءة م: (في الأصل) ش: أي " المبسوط ". م: (وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي شرط محمد إخراج البراءة وهو رواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة م: (لأنه ادعى) ش: أي لأن رب المال ادعى الدفع.
م: (ولصدق دعواه علامة فيجب إبرازها) ش: أي إظهارها، لأن العادة أن العاشر إذا أخذ كتب بذلك براءة، فإذا لم يكن معه براءة فالظاهر يكذبه فلم يقبل قوله من غير براءة، كالمرأة إذا أخبرت بالولادة، فإن شهدت القابلة قبلت وإلا فلا، ثم على قول من يشترط إخراج البراءة هل يشترط اليمين معها؟ فقد اختلف فيه، وفي " المحيط " و" جامع التمرتاشي ": إذا لم يحلف لم يصدق عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يصدق لشهادة الظاهر له.
م: (وجه الأول) ش: أي وجه القول الأول وهو عدم اشتراط إخراج البراءة م (أن الخط يشبه الخط) ش: لأن التزوير يدخله فلا يمكن جعله حكما م: (فلا يعتبر علامة) ش: وقال الأترازي فيها: وقال صاحب الهداية في قوله: فيما يصدق في السوائم وأموال التجارة نظر، لأن ما يصدق في السوائم الفصول الثلاثة المذكورة، لأنه إذا قال: علي دين أو غوصبت منذ أشهر أو(3/393)
قال: وما صدق فيه المسلم صدق فيه الذمي، لأن ما يؤخذ منه ضعف ما يؤخذ من المسلم، فتراعى تلك الشرائط تحقيقا للتضعيف، ولا يصدق الحربي إلا في الجواري يقول: هن أمهات أولادي أو غلمان معه يقول: هم أولادي لأن الأخذ منه بطريق الحماية وما في يده من المال يحتاج إليها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أديتها إلى الفقير في المصر فمن يأتي بخطوط براءة العاشر ولا يصدق ذلك إلا في صورة واحدة، وهو أن يقول: أديته إلى عاشر آخر وفي تلك السنة عاشر آخر، فأجاب الأكمل عن ذلك بأنه ذكر العام وأراد به الخاص أي الصورة المذكورة مجازا، انتهى.
قلت: كأنه أخذ الجواب من كلام الأترازي لأنه لما اعترض بالمذكور أجاب هكذا ولا يخلو عن تأمل فافهم.
م: (قال) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وما صدق فيه المسلم) ش: أي كل ما صدق فيه المسلم من قوله: علي دين، أو لم يحل عليه الحول، أو أديته إلى عاشر آخر، أو هو ليس للتجارة أو هو بضاعة عندي م: (صدق فيه الذمي) ش: إذا حلف م: (لأن ما يؤخذ منه) ش: أي من الذمي م: (ضعف ما يؤخذ من المسلم) ش: لأنه يؤخذ منه نصف العشر م (فتراعى تلك الشرائط) ش: وهي النصاب وحولان الحول والفراغ من الدين م: (تحقيقا للتضعيف) ش: أي لأجل تحقيق التضعيف، وهو أخذ نصف العشر ضعف ما يؤخذ من المسلم وهو ربع العشر، لأن تضعيف الشيء إنما يكون إن كان للضعف على أوصاف المضعف عليه، وإلا يلزم أن يكون تبديلا فيراعى فيه الشروط المذكورة.
م: (ولا يصدق الحربي إلا في الجواري، يقول: هن أمهات أولادي) ش: أي لا يصدق الحربي الذي دخل دارنا بأمان ومر على العاشر في الفصول المذكورة كلها إلا في الجواري إذا قال: هن أمهات أولادي م: (أو غلمان معه يقول: هم أولادي لأن الأخذ منه بطريق الحماية وما في يده من المال يحتاج إليها) ش: أي إلى الحماية، إذ لو لم تكن لحماية الأمان لكان سببا مع أمواله، وإنما لم يصدق في شيء من الفصول لعدم الفائدة في تصديقه لأنه لو قال: لم يتم الحول فلا اعتبار إليه لأن اعتباره لتحصيل النماء والحماية له تمت بنفس الأمان، وكذا لو قال: علي دين، لأن الدين الذي وجب عليه في دار الحرب لا يطالب به في دارنا، وفيه نظر، لأنه يجوز أن يكون الدين المدعى وجب في دار الإسلام قبل مروره على العاشر، وفي "الولوالجي": لأنهم لا يصدقون تجارنا في دعوى ذلك، فنحن لا نصدقهم أيضا، حتى لو علم أنهم يصدقونهم نصدقهم نحن أيضا.
وكذا لو قال: المال بضاعة لأنه لا حرمة لصاحبها ولا أمان، وكذا لو قال: ليس للتجارة، لأن الظاهر يكذبه، لأنه لا يتكلف إلى نقله إلى غير داره ما لم يكن لها، وكذا لو قال: أديتها إلى(3/394)
غير أن إقراره بنسب من في يده صحيح، فكذا بأمومية الولد لأنها تبتنى عليه فانعدمت صفة المالية فيهن، فلا يؤخذ إلا من المال.
قال: ويؤخذ من المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر ومن الحربي العشر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عاشر آخر - لأن المأخوذ أجرة الحماية، وقد وجدت بنفس الأمان هكذا قالوا، وفيه نظر، لأنه لا يتكرر الأخذ منه من غير تجدد الأمان، وهو غير مشروع، وكذا لو قال أديتها أنا لا يصدق، لأن اعتقاده يكذبه.
م: (غير أن إقراره بنسب من في يده صحيح) ش: هذا بيان استثناء في قوله: إلا في الجواري، لأن كونه حربيا لا ينافي الاستيلاد والنسب كما يثبت في دار الإسلام يثبت في دار الحرب، وبه يخرج من أن يكون مالا، والأخذ لا يكون إلا من المال الممرور به. م: (فكذا بأمومية الولد) ش: أي فكذا يصح إقراره بأن هذه أم ولدي م: (لأنها) ش: أي لأن أمية الولد م: (تبتنى عليه) ش: أي على النسب، وفي بعض النسخ لأنه ينبني عليه.
قال الأترازي: أي لأن الشأن يبني أمية الولد على النسب م: (فانعدمت صفة المالية فيهن) ش: أي في أمهات الأولاد، لأنهن لم يبقين إلا بإقراره م: (فلا يؤخذ إلا من المال) ش: وكذا لو قال: هم أولادي لهذا المعنى، وإن قال: هم مدبرون لا يلتفت إليه، لأن التدبير منه لا يصح في دار الحرب، كذا في " جامع المحبوبي "، وكذا لو قال: كنت أعتقتهم في دار الحرب لا يصدق، لأن عتقه فيها لا يصح كتدبيره م: (والأخذ لا يجب إلا من المال) ش: أي أخذ العاشر لا يجب إلا من المال الممرور به.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ويؤخذ من المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر، ومن الحربي العشر) ش: أي الذي يؤخذ من المسلم الزكاة، لأنه لما أخرج ماله إلى البراري احتاج إلى حماية الإمام، فثبت له ولاية أخذ الزكاة منه كما في السوائم، والذمي أحوج إلى الحماية إذ أطماع اللصوص والسراق إلى أموال أهل الذمة أشد وأكثر، فلذلك وجب الأخذ بضعف ما يؤخذ من المسلم، ولتحقيق الذل بالكفر، وأما الحربي فإنه يؤخذ منه العشر، لأنه لما ثبت الضعف في الذمي ثبت ضعف ذلك في الحربي تحقيقا لقصد الذل.
وما يؤخذ من المسلم زكاة توضع موضع الزكاة وتسقط عنه زكاة تلك السنة، وما يؤخذ من الذمي ليس بزكاة لكن يؤخذ بشرائط الزكاة، وتصرف في مصرف الجزية والخراج، لا تسقط عنهم جزية رءوسهم في تلك السنة، وكذا ما يؤخذ من الحربي يصرف إلى مصارف الجزية، وكيفية الأخذ المذكور هي مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه. وبه قال ابن أبي ليلى والشافعي والثوري وأبو عبيد.
وقال مالك: يؤخذ من تجار أهل الذمة العشر إذا اتجروا إلى غير بلادهم مما قل أو كثر إذا(3/395)
هكذا أمر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سعاته، وإن مر حربي على عاشر بخمسين درهما لم يؤخذ منه شيء إلا أن يكونوا يأخذون منا من مثلها، لأن الأخذ منهم بطريق المجازاة بخلاف المسلم والذمي، لأن المأخوذ زكاة أو ضعفها فلا بد من النصاب، وهذا في " الجامع الصغير "، وفي كتاب الزكاة: لا نأخذ من القليل، وإن كانوا يأخذون منا منه، لأن القليل لم يزل عفوا، ولأنه لا يحتاج إلى الحماية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
باعوا ويؤخذ منهم في سفره كذلك، ولو مرارا في السنة، وإن اتجروا في بلادهم لا يؤخذ منهم شيء، ويؤخذ من الحربي كذلك إلا فيما حملوا إلى المدينة من الحنطة والزيت خاصة، فإنه يؤخذ منهم نصف العشر فقط وهذا عجيب جدا.
م: (وهكذا أمر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سعاته) ش: يعنى مثل المذكور أمر عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سعاته بضم السين جمع ساع وهو عامل الزكاة، رواه عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا هشام بن حسان عن أنس وابن سيرين قال: بعثني أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على الأيلة فأخرج لي كتابا من عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يؤخذ من المسلمين من كل أربعين درهما درهم، ومن أهل الذمة من كل عشرين درهما درهم، وممن لا ذمة له من كل عشرة دراهم درهم. وروى الشيخ أبو الحسن القدوري في شرحه لمختصر " الكرخي " أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نصب العشار، وقال لهم: خذوا من المسلم ربع العشر، ومن الذمي نصف العشر، ومن الحربي العشر، وكان هذا بمحضر الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من غير خلاف فكان إجماعا.
م: (وإن مر حربي على عاشر بخمسين درهما لم يؤخذ منه شيء إلا أن يكونوا يأخذون منا من مثلها) ش: أي من مثل خمسين م: (لأن الأخذ منهم بطريق المجازاة بخلاف المسلم والذمي لأن المأخوذ زكاة) ش: يعني من المسلم م: (أو ضعفها) ش: أي والمأخوذ من الحربي ضعف الزكاة وهو نصف العشر، فإذا كان كذلك م: (فلا بد من النصاب) ش: لأنه شرط في الأصل فكذا في المضاعف م: (وهذا في الجامع الصغير) ش: أي الذي ذكرنا كذا ذكر في " الجامع الصغير " لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وفي كتاب الزكاة) ش: يعني المذكور في كتاب الزكاة المذكور في الأصل وهو " المبسوط " لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا م: (ولا يؤخذ) ش: أي العشر م: (من القليل وإن كانوا يأخذون منه) ش: أي من القليل م: (لأن القليل لم يزل عفوا) ش: لنفقته عادة فأخذهم القليل ظلم، ولا متابعة في الظلم، ألا ترى أنهم لو يأخذون جميع الأموال من التجار لا يؤخذ منهم الجميع لأنه غرر هكذا في " المبسوط " وغيره.
وفي " المحيط ": إن أخذوا منا الجميع يؤخذ منهم الجميع إلا قدر ما يبلغهم إلى مأمنهم م: (ولأنه) ش: أي ولأن القليل م: (لا يحتاج إلى الحماية) ش: لأنه لا يلتفت إليه غالبا.(3/396)
قال وإن مر حربي بمائتي درهم ولا يعلم كم يأخذون منا نأخذ منه العشر لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإن أعياكم فالعشر، وإن علم أنهم يأخذون منا ربع عشر أو نصف عشر يأخذ بقدره، وإن كانوا يأخذون الكل لا يأخذ الكل لأنه غدر، وإن كانوا لا يأخذون أصلا لا نأخذ ليتركوا الأخذ من تجارنا، ولأنا أحق بمكارم الأخلاق. قال وإن مر الحربي على عاشر فعشره، ثم مر مرة أخرى لم يعشره حتى يحول عليه الحول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن مر حربي بمائتي درهم ولا يعلم كم يأخذون منا نأخذ منه العشر لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فإن أعياكم فالعشر) ش: قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا غريب لم يدر معناه، فإن عجزتم عن معرفة ما يأخذون منكم فيؤخذ العشر يقال: عييت بأمر إذا لم يهتد لجهته وأعياني هو: عجزني، وقيل: هو مأخوذ من العي وهو الجهل، فالمعنى فإن جهلكم يعنى إذا اشتبه الحال عليكم، لأن لم يعلم العاشر ما يأخذونه من تجارنا يؤخذ منهم العشر.
م: (وإن علم أنهم يأخذون منا ربع عشر أو نصف عشر يأخذ بقدره، وإن كانوا يأخذون الكل لا يأخذ الكل لأنه غرر) ش: لوقوعه بعد الحماية، والغرر حرام ولأنه أمارة عدم الأمان، وفي " مبسوط" شيخ الإسلام: يؤخذ الكل، لأن ما يؤخذ منهم بطريق المجازاة فيجازيهم بمثل صنعهم حتى ينزجروا م: (وإن كانوا لا يأخذون أصلا) ش: أي وإن كان أهل الحرب لا يأخذون من تجارنا أصلا م: (لا نأخذ) ش: منهم م: (ليتركوا الأخذ من تجارنا ولأنا أحق بمكارم الأخلاق) ش: لأن عدم أخذهم من تجارنا يدل على الكرم منهم، ونحن أولى بذلك.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن مر الحربي على عاشر فعشره) ش: أي فأخذ منه العشر م: (ثم مر مرة أخرى) ش: بعد دخوله دار الحرب قبل حولان الحول م: (لم يعشره حتى يحول عليه الحول) ش: قيل: فيه تناقض، لأنه قال: حتى يحول عليه الحول، ثم قال: لأنه لا يمكن من المقام إلا حولا، وقال الأترازي: وقد تكلم بعضهم في تصحيح هذا اللفظ. وقال: المراد منه إلى أن يحول عليه الحول، وهذا تكلف بعيد خارج عن العربية، فلعل السهو وقع من الكاتب لأنه لا يجوز أن يكون كلام صاحب " الهداية " لأنه لا يمكن من المقام حولا بدون حرف الاستثناء قبل قوله حولا، أو تجوز لأنه يمكن من المقام إلا حولا بدون حرف النفي قبل قوله يمكن انتهى.
قلت: كأنه أراد بقوله -وقد تكلف بعضهم- بعض من كتب حاشية في هذا الموضع على هذا الوجه.
وقال السغناقي في قوله: لا يمكن من المقام إلا حولا: أي إلا قريبا من الحول، وكذا أوله الكاكي، ورأيت في بعض النسخ كلمة إلا مكشوطة فكأنهم كشطوها حتى لا يرد على المصنف بشيء وليس هذا بصحيح، فإن الشراح كلهم ذكروا كلمة إلا وأجاب كل واحد بجواب.(3/397)
لأن الأخذ في كل مرة استئصال المال، وحق الأخذ لحفظه ولأن حكم الأمان الأول باق وبعد الحول يتجدد الأمان، لأنه لا يمكن من المقام إلا حولا، والأخذ بعده لا يستأصل المال، وإن عشره فرجع إلى دار الحرب ثم خرج من يومه ذلك عشره أيضا، لأنه رجع بأمان جديد، وكذا الأخذ بعده لا يفضي إلى الاستئصال.
وإن مر ذمي بخمر أو خنزير عشر الخمر دون الخنزير، وقوله عشر الخمر، أي من قيمتها. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يعشرهما لأنه لا قيمة لهما. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعشرهما لاستوائهما في المالية عندهم وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعشرهما إذا مر بهما جملة، كأنه جعل الخنزير تبعا للخمر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن الأخذ في كل مرة استئصال المال) ش: أي استهلاك للمال م: (وحق الأخذ لحفظه) ش: أي لحفظ المال، أراد الأخذ من الحربي لحفظ ماله لا لاستئصاله م: (ولأن حكم الأمان الأول باق) ش: ما لم يحل الحول أو لم يرجع إلى دار الحرب م: (وبعد الحول يتجدد الأمان لأنه لا يمكن من المقام إلا حولا) ش: قد مر الكلام فيه آنفا م: (والأخذ بعده) ش: أي بعد الحول م: (لا يستأصل المال) ش: لإمكان حصول الربح.
م: (وإن عشره) ش: أي وإن أخذ العاشر عشر الحربي م: (فرجع إلى دار الحرب ثم رجع من يومه ذلك عشره أيضا) ش: أي يأخذ عشره ثانيا وثالثا، ولو كان في يوم واحد لتجدد الأمان، وبه قال إسحاق وأبو ثور وأبو عبيد، عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لا يكرر في السنة، وقال أبو عبيد: هذا إذا كان المال الذي مر به بعينه في المرة الأولى، وإن كان غيره أخذ منه م: (لأنه رجع بأمان جديد) ش: إذ العصمة تنقطع بالرجوع إلى دارهم، وبالعود إلينا تثبت عصمة جديدة، فصار كالمال المتجدد فيؤخذ منه ثانية كذا في "الإيضاح".
م: (وكذا الأخذ بعده) ش: أي بعد الرجوع م: (لا يفضي إلى الاستئصال) ش: لاحتمال حصول الربح في سفره فأقيم نفس السفر مقامه.
م: (فإن مر ذمي بخمر أو خنزير) ش: أي مر بهما بنية التجارة وهما يساويان مائتي درهم م: (عشر الخمر دون الخنزير) ش: أي لا يعشر الخنزير م: (وقوله) ش: أي وقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (عشر الخمر أي من قيمتها) ش: أي من قيمة الخمر، إنما فسر بهذا احترازا عن قول مسروق، فإنه يقول: يأخذ من عين الخمر.
م: (وقال الشافعي: لا يعشرهما، لأنه لا قيمة لهما) ش: أي للخمر والخنزير م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعشرهما لاستوائهما في المالية عندهم) ش: وكذا في التقويم في حق أهل الذمة، ولهذا يجب الضمان على متلف خنزير الذمي كما يجب على متلف خمره فيعشرهما.
م: (وقال أبو يوسف: يعشرهما إذا مر بهما جملة كأنه) ش: أي كأن أبا يوسف م: (جعل الخنزير تبعا للخمر) ش: لأن مالية الخمر أظهر، بدليل أن المسلم يرث الخمر، ولو أخرجت من دار الحرب تدخل في الغنيمة ويملكها المسلم حتى لو تخللت تصير ملكا له، والمكاتب لو عجز وله(3/398)
فإن مر بكل واحد على الانفراد عشر الخمر دون الخنزير. ووجه الفرق على الظاهر أن القيمة في ذوات القيم لها حكم العين والخنزير منها، وذوات الأمثال ليس لها هذا الحكم والخمر منها، ولأن حق الأخذ للحماية والمسلم يحمي خمر نفسه للتخليل، وكذا يحميها على غيره ولا يحمي خنزير نفسه بل يجب تسييبه بالإسلام، فكذا لا يحميه على غيره،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خمر يصير ملكا للمولى بخلاف الخنزير فجعله تبعا للخمر أولى.
م: (فإن مر بكل واحد على الانفراد عشر الخمر دون الخنزير) ش: لعدم التبعية، كما أن أبا حنيفة لا يقسم العبيد، فإذا انضمت إلى سائر الأموال يقسمها تبعا (ووجه الفرق على الظاهر) أي على ظاهر الرواية أن الخنزير لا يعشر عندهما سواء مر بهما أو على الانفراد م: (أن القيمة في ذوات القيم) ش: احترز به عن ذوات الأمثال م: (لها حكم العين والخنزير منها) ش: ولهذا لو تزوج ذمي ذمية على خنزير فأتاها بالقيمة أجبرت على القبول كما لو أتاها بالعين.
م: (وفي ذوات الأمثال ليس لها هذا الحكم) ش: أي لا يكون في معنى المثلين لأن ما يكون من ذوات الأمثال يجب أن يكون بدله مثلا له اعتبارا بما ضمنه المغصوب، وإذا لم يكن مثلا لها لا يكون أخذها كأخذها ولا كذلك الخنزير، لأنه من ذوات الأمثال وأخذ القيمة فيما لا يكون من ذوات الأمثال ينزل منزلة أخذ العين، والدليل على ذلك أنه لو تزوجها على خمر فأتاها بالقيمة لم تجبر على القبول.
فإن قيل: لا نسلم أن القيمة لها حكم العين في ذوات القيم، ألا ترى أن الذمي إذا باع داره بخنزير وشفيعها مسلم يأخذها بقيمة الخنزير، فلو كان لها حكم العين لما أخذ القيمة كما لا يأخذ عين الخنزير، وأجيب بأن القيمة إنما أقيمت مقام العين حكما لا حقيقة فصار لها شبهة العين وهذه الشبهة لم تعتبر في حق العباد لاحتياجهم بخلاف العشر وهو حق الله عز وجل، حيث اعتبرت بهذه الشبهة لاستغنائه تعالى.
فإن قيل: ينتقض ما ذكرتم بذمي أخذ قيمة خنزير له استهلكه ذمي آخر وقضى بها دينا عليه لمسلم فإنه جائز، ولو كان أخذ القيمة كأخذ العين لم جاز القضاء؟ وأجيب بأنه لما قضى بها دينا عليه وقعت المعاوضة بينه وبين صاحب الدين، وعند ذلك يختلف السبب، واختلاف الأسباب ينزل منزلة اختلاف الأعيان.
م: (والخمر منها) ش: أي من ذوات الأمثال م: (ولأن حق الأخذ للحماية والمسلم يحمي خمر نفسه للتخليل وكذا يحميها على غيره ولا يحمي خنزير نفسه بل يجب تسييبه بالإسلام، فكذا لا يحميه على غيره) ش: هذا لأن الأصل في الولايات ولاية المرء على نفسه ثم تعدى إلى غيره عند وجود سبب التعدي وللمسلم ولاية خمور نفسه، حتى إن الذمي إذا أسلم وله خمور كان له أن يحفظها أو يحفظها غيره لتخللها، أو تتخلل بنفسها، فيكون له ولاية حماية خمور غيره عند وجود(3/399)
ولو مر صبي أو امرأة من بني تغلب بمال فليس على الصبي شيء، وعلى المرأة ما على الرجل لما ذكرنا في السوائم ومن مر على عاشر بمائة درهم وأخبره أن له في منزله مائة أخرى قد حال عليها الحول لم يزك المائة التي مر بها لقلتها وما في بيته لم يدخل تحت حمايته، فلو مر بمائتي درهم بضاعة لم يعشرها، لأنه غير مأذون بأداء زكاتها.
قال: وكذا المضاربة، يعني إذا مر المضارب به على العاشر، وكان أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول أولا: يعشرها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سبب التعدي وهو السلطنة، وليس للمسلم حماية خنزير نفسه حتى إن الذمي إذا أسلم وجب عليه أن يسيبها ولا يحل له أن يحفظها، ولا يكون له ولاية حماية خنزير غيره عند وجود سبب التعدي.
وقال الكاكي: قوله: ولا يحميه على غيره عند وجود سبب التعدي، فإن قيل: المسلم أو الذمي إذا غصب خنزير ذمي وتحاكما إلى القاضي فالقاضي يأمره بالرد والتسليم والأمر بها حماية، قلنا: إذا لم يكن له حماية خنزير نفسه لا يكون له ولاية حماية خنزير غيره، وهاهنا لو حماه حماه لغرض يستوفيه ولا كذلك القضاء فافترقا.
م: (ولو مر صبي أو امرأة من بني تغلب بمال) ش: إنما قيده ببني تغلب لأن الصبي من أهل الحرب المار على العاشر يظن أنها مال التجارة يؤخذ منه العشر، لأن المأخوذ من بني تغلب له حكم الزكاة، والمأخوذ من الحربي على وجه المجازاة لأنه عوض الحماية، والظاهر أنهم يأخذون من صبياننا حتى لو علم أنهم لا يأخذون من صبياننا لا نأخذ من صبيانهم أيضا م: (فليس على الصبي شيء وعلى المرأة ما على الرجل لما ذكرنا في السوائم) ش: أي المأخوذ منهم في حكم الزكاة فيؤخذ من النساء دون الصبيان، لما أن صاحب مال التجارة لما مر على العاشر صار بمنزلة السوائم في الحاجة إلى الحماية.
م: (ومن مر على عاشر بمائة درهم) ش: سواء كان المار مسلما أو ذميا، م: (وأخبره أن له في منزله مائة أخرى قد حال عليها الحول لم يزك المائة التي مر بها، لقلتها) ش: لأن أدنى ما يستحق بحماية شيء هو النصاب م: (وما في بيته لم يدخل تحت حمايته) ش: فلا يضم بما مر به إلى ما في بيته فلا يعشر.
م: (فلو مر بمائتي درهم بضاعة) ش: قال الأترازي: قوله: بضاعة، بالجر على أنها صفة لما قبلها، وقيل: يحتمل أن تكون حالا، وفيه نظر، والبضاعة طائفة من المال تدفع للرجل ليتجر فيه لنفسه م: (لم يعشرها لأنه غير مأذون له بأداء زكاتها) ش: أي زكاة المائتين بضاعة، بل هو مأذون في التجارة، فلو أخذ غير الزكاة وليس له أخذ شيء سوى الزكاة.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وكذا المضاربة يعني إذا مر المضارب به على العاشر) ش: أي بمال المضاربة م: (وكان أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول أولا: يعشرها) ش: أي المضارب(3/400)
لقوة حق المضارب حتى لا يملك رب المال نهيه عن التصرف فيه بعدما صار عروضا فنزل منزلة المالك ثم رجع إلى ما ذكره في الكتاب وهو قولهما، لأنه ليس بمالك ولا نائب عنه في أداء الزكاة، إلا أن يكون في المال ربح يبلغ نصيبه نصابا فيؤخذ منه لأنه مالك له، ولو مر عبد مأذون له بمائتي درهم وليس عليه دين عشره. قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا أدري أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - رجع عن هذا أم لا؟ وقياس قوله الثاني في المضاربة وهو قولهما إنه لا يعشره، لأن الملك فيما في يده للمولى وله التصرف، فصار كالمضارب، وقيل في الفرق بينهما أن العبد يتصرف لنفسه حتى لا يرجع بالعهدة على المولى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي مالها م: (لقوة حق المضارب) ش: لأنه صار بمنزلة المالك م (حتى لا يملك رب المال نهيه) ش: أي نهي المضارب م: (عن التصرف فيه بعدما صار عروضا) ش: أي بعدما صار مال المضاربة عروضا، أي له أمتعة بالبيع والشراء.
م: (فنزل منزلة المالك) ش: بتصرفه المطلق م: (ثم رجع) ش: أي أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (إلى ما ذكر في الكتاب) ش: وهو " الجامع الصغير " وهو أن المضارب إذا مر بمائتي درهم لم يعشرها م: (وهو قولهما) ش: أي الذي رجع إليه هو قول أبي يوسف ومحمد م: (لأنه) ش: أي لأن المضارب م: (ليس بمالك) ش: وهو ظاهر م: (ولا نائب عنه) ش: أي عن المالك م: (في أداء الزكاة) ش: بل هو نائب في حق التجارة لا غير، والنائب يقتصر ولايته على ما فوض إليه، فكان بمنزلة المستبضع.
م: (إلا أن يكون في المال ربح يبلغ نصيبه نصابا) ش: أي لأن المضارب بلغ نصابا.
م: (فيؤخذ منه) ش: أي العشر من نصيبه م: (لأنه مالك له) ش: أي لأن المضارب مالك للنصاب الذي هو حقه في الربح.
م: (ولو مر عبد مأذون له بمائتي درهم وليس عليه دين عشره) ش: أي عشر العاشر العبد المأذون له في التجارة م: (وقال أبو يوسف: لا أدري أن أبا حنيفة رجع عن هذا أم لا) ش: قال الكاكي: والصحيح أن رجوعه في المضارب رجوع في العبد المأذون.
م: (قلت: وكذا ذكر في " المفيد " و" المريد " و" شرح مختصر الكرخي ".
وقياس قوله الثاني في المضاربة وهو قولهما أنه لا يعشره لأن الملك وما في يده للمولى وله التصرف م: (لأن الإذن إطلاق وفك عن الحجر فصار كالمضارب) ش: أي فصار العبد المأذون كالمضارب في أنه ليس بمالك ولا نائب عن مولاه.
م: (وقيل في الفرق بينهما) ش: أي بين العبد المأذون له والمضارب م: (أن العبد يتصرف لنفسه حتى لا يرجع بالعهدة) ش: عند ظهور المستحق أي م: (على المولى) ش: بل يباع فيها، وما زاد(3/401)
فكان هو المحتاج إلى الحماية، والمضارب يتصرف بحكم النيابة حتى يرجع بالعهدة على رب المال فكان رب المال هو المحتاج إلى الحماية، فلا يكون الرجوع في المضارب رجوعا منه في العبد وإن كان مولاه معه يؤخذ منه، لأن الملك له إلا إذا كان على العبد دين يحيط بماله لانعدام الملك أو للشغل وقال: ومن مر على عاشر الخوارج في أرض قد غلبوا عليها فعشره يثني عليه الصدقة، معناه إذا مر على عاشر أهل العدل لأن التقصير جاء من قبله من حيث إنه مر عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيطالب به بعد العتق م: (فكان هو المحتاج إلى الحماية، والمضارب يتصرف بحكم النيابة حتى يرجع بالعهدة على رب المال، فكان رب المال هو المحتاج إلى الحماية فلا يكون الرجوع في المضارب رجوعا منه في العبد، وإن كان مولاه معه) ش: أي وإن كان مولى العبد المأذون معه م: (يؤخذ منه) ش: أي من المولى م: (لأن الملك له) ش: أي للمولى م: (إلا إذا كان على العبد دين يحيط بماله) ش: فحينئذ لا يؤخذ من المولى أيضا بالاتفاق م: (لانعدام الملك) ش: على أصل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لان المولى لا يملك ما في يده، ولهذا إذا أعتق عبده المأذون لا يصح عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أو للشغل) ش: بفتح الشين يعنى العبد مشغولا بالدين عندهما، والحاصل أن عندهما أيضا لا يؤخذ وإن كان يملك المولى ما في يده على أصلهما، لكن كونه مشغولا بالدين يمنع عن الأخذ.
فقوله: لانعدام الملك، يرجع إلى أبي حنيفة على أصله وقوله -أو للشغل- يرجع إلى أبي يوسف ومحمد على أصلهما.
م: (قال) ش أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومن مر على عاشر الخوارج في الأرض قد غلبوا عليها فعشره) ش: أي فعشر عاشر الخوارج هذا المال عليه، أي أخذ منه العشر م: (يثني عليه الصدقة) ش: أي تؤخذ منه ثانيا م: (معناه إذا مر على عاشر أهل العدل، لأن التقصير جاء من قبله) ش: أي من قبل المار م: (من حيث إنه مر عليه) ش: أي على عاشر الخوارج، وأما إذا غلب أهل البغي فأخذوا العشر لا يؤخذ ثانيا، لأن التقصير ما جاء من قبله بل جاء من قبل السلطان حيث ضيعهم فلم يحمهم والأخذ بالحماية.(3/402)
باب في المعادن والركاز قال: معدن ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص أو صفر وجد فيه أرض خراج أو عشر ففيه الخمس عندنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب في المعادن والركاز] [حكم زكاة المعدن والركاز ومقدار الواجب فيه]
م: (باب في المعادن والركاز) ش: أي هذا باب في بيان أحكام المعادن والركاز وإنما أخر باب المعادن عن باب العاشر لأن العشر أكثر وجودا من الخمس الذي يؤخذ من المعادن، فكان بيانه أحوج لكثرة وقوعه لأن العشر أقل من الخمس والقليل يقدم على الكثير ذاتا، فقدم بيانه، والمعادن جمع معدِن بكسر الدال في عدَن يعدِن من باب ضرب يضرب عدونا إذا أقام، ومنه جنات عدن، ومعدن كل شيء ومركزه واحد، والمعدن خاص لما يكون في باطن الأرض خلقة، والكنز خاص لما يكون موضوعا، والركاز يصلح لهما في " جمع الغرائب "، قيل: الركاز المعادن، وقيل: هو كنوز الجاهلية، والأصل فيه من ركز رمحه في الأرض إذا ثبت أصله، والكنز يركز في الأرض كما يركز الرمح، وقال ابن الأثير: الركاز: كنوز الأرض الجاهلية المدفونة في الأرض، وهي المطالب في العرف عند أهل الحجاز، وهي المعادن عند أهل العراق والقولان يحتملهما اللغة، قال: والمعدن والركاز واحد، وقال أبو خيثمة اللغوي: أركز الرجل إذا أصاب قطعا من الذهب تخرج من المعادن، قال ابن بطال: وهو قول صاحب " العين " وأبي عبيد وقال النووي: الركاز بمعنى المركوز كالكتاب بمعنى المكتوب، وفي " شرح الطحاوي " المال المستخرج من الأرض له أسماء كثيرة كنز ومعدن وركاز، فالكنز اسم لما دفنه بنو آدم. والمعدن اسم لما خلقه الله في الأرض يوم خلقها. والركاز اسم لهما جميعا، فقد يذكر ويراد به الكنز، ويذكر ويراد به المعدن. ثم المراد من الركاز في الباب الكنز، لأن الباب يشتمل على بيان المعدن والكنز، فلو أريد به المعدن يلزم محض التكرار بلا فائدة، ولهذا لقب الباب التمرتاشي باب في بيان المعدن والركاز.
وقال تاج الشريعة: الجواهر المستخرجة من الأرض تتنوع إلى مخلوق الله تعالى وإلى مدفون الناس ويعرف النوعان بأسماء ثلاثة وبالمعدن والكنز والركاز.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (معدن ذهب أو فضة أو رصاص أو حديد أو صفر) ش: بضم الصاد.
قال الجوهري: هو الذي تعمل منه الأواني، وفي " ديوان الأدب ": هو النحاس والحديد، وعن أبي عبيد جاء فيه كسر الصاد م: (وجد في أرض خراج أو عشر) ش: قيد بأرض خراج أو عشر، لأنه لو وجد في أرض مملوكة أو دار لا يجب فيه الخمس عند أبي حنيفة كما يجيء، وسواء كان الواجد مسلما أو ذميا أو صبيا أو امرأة أو عبدا أو مكاتبا م: (ففيه الخمس عندنا) ش: يعني يؤخذ الخمس من الواجد والباقي له، وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو عبيد واختاره الزهري،(3/403)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا شيء عليه فيه، لأنه مباح سبقت يده إليه كالصيد إلا إذا كان المستخرج ذهبا أو فضة فيجب فيه الزكاة، فلا يشترط الحول في قول لأنه نماء كله والحول للتنمية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويبنى على هذا مسائل وهي أن من حفر معدنا بإذن الإمام يخرج منه الخمس وباقيه له، وإن حفر فلم يصل إليه شيء، وجاء آخر فحفر ووصل إلى المعادن فهو له، لأنه الواجد، وإن اشتركا في الحفر فوجد أحدهما دون الآخر فهو للواجد، ومن تقبل من السلطان معدنا فاستأجر آخر واستخرجوا المعدن وتجب فيه الخمس والباقي للمتقبل، وإن عملوا بغير إذن المتقبل فأربعة أخماس لهم دون المتقبل، ولو باع الركاز فالخمس على المشتري ويرجع على الواجد البائع بخمس الثمن.
م: (وقال الشافعي: لا شيء عليه فيه) ش: وبه قال مالك م: (لأنه مباح سبقت يده إليه كالصيد) ش: فهو لمن أخذه م: (إلا إذا كان المستخرج) ش: بفتح الراء م: (ذهبا أو فضة فيجب فيه الزكاة) ش: وبه قال أحمد، لكن عند الشافعي في الوجوب في الذهب والفضة ثلاثة أقوال: أصحها أن الواجب فيه ربع العشر، وبه قال أحمد ومالك في رواية.
والثاني: أن الواجب فيهما الخمس مثل قولنا، وهو قول المزني.
والثالث: ما ناله بلا تعب ومؤنة ففيه العشر وما ناله بتعب ومؤنة كالمعالجة بالنار ونحوها ففيه ربع العشر، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وعن أحمد يجب في المعدن وفي كل ما يستخرج من الأرض حتى القير والكحل.
م: (فلا يشترط الحول في قول) ش: للشافعي وهذا هو الصحيح من مذهبه، وبه قال مالك وفي قول آخر: يشترط الحول لأنه كالزكاة، وفي "تتمتهم": إن قبلنا أن الواجب فيه الخمس لا يعتبر الحول قولا واحدا، وإن قلنا: إن الواجب فيه العشر فيه وجهان: أحدهما: أنه يعتبر لأنه حق يتعلق بالذهب والفضة فيعتبر فيه الحول كالزكاة.
والثاني وهو الصحيح: لا يعتبر لأنه من أموال الأرض فلا يعتبر فيه الحول كما في الحبوب المعشورة.
م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من الذهب والفضة م: (نماء كله) ش: يعني النماء م: (والحول للتنمية) ش: يعني شرع الحول للتنمية، فالنماء عين النقدين فلا يجب اشتراط الحول.
فإن قلت: ذكر في جانب الشافعي عدم اشتراط الحول، ولم يذكر في جانبنا مع أن عندنا كذلك.
قلت: لأن الشافعي قائل بالزكاة، وكان عليه أن يشترط الحول فنفاه بما ذكر من الدليل، ونحن نقول بالخمس فلا يشترط فيه الحول.(3/404)
ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وفي الركاز الخمس»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «وفي الركاز الخمس» ش: هذا رواه الأئمة الستة في كتبهم من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس» .
أخرجه مطولا ومختصرا، والركاز يطلق على المعدن وعلى المدفون كما ذكرنا.
وجه التمسك به أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سئل عما يوجد في الطريق المار أو الخراب البادي فقال فيه: «وفي الركاز الخمس» ، فعطف الركاز على المدفون، فعلم أن المراد منه المدفون، وفي رواية أبي هريرة «سئل ما الركاز يا رسول الله؟، قال: " الذهب الذي خلقه الله في الأرض» .
فإن قلت: لو كان الموجود في المعدن ما دون النصاب، والواجد فقير ينبغي أن لا يجب الخمس، لما أن مصرف الخمس الفقير وهو فقير كما في اللقطة، وكذلك لو كان الموجود نصابا والواجد مديونا.
قلت: الحديث عام يتناول الفقير والمديون.
فإن قلت: لو كان الواجد ذميا ينبغي أن يؤخذ منه الكل كما لو كان حربيا لأنهما في الكفر سواء لا استحقاق لهما في الغنيمة.
قلت: لا بل للذمي حق في الغنيمة، فإن أهل الذمة لو قاتلوا أهل الحرب فإنه يرضخ لهم في الغنيمة، فجاز أن يكون لهم حظ فيما له حكم الغنيمة. أما الحربي فلا حظ له فيها سواء قاتل بإذن الإمام أو بغير إذنه، فلا يعطى له من الغنيمة شيء.
فإن قلت: الجنس التي لا تجب الزكاة في عينه كالحديد ونحوه، لا يجب حق المعدن كالفيروزج.
قلت: القياس ليس بصحيح لوجود الفارق وهو أن الفيروزج لا ينطبع.
فإن قلت: احتج الشافعي لربع العشر بأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أقطع لبلال بن الحارث المعادن القَبَلية وهي مواضع بناحية المدينة وأخذ فيها الزكاة ربع العشر، فيؤخذ منها ربع العشر إلى يوم القيامة، رواه مالك وأبو داود، والقَبَلية بفتح القاف والباء الموحدة، وقال البكري: هي من ناحية الفُرُع بضم الفاء والراء من أعمال المدينة، والصفراء قالوا: أعمالها من الفرع ومضافة إليها.
قلت: قال ابن عبد البر: هذا منقطع، وقال أبو عبيدة: ومع انقطاعه ليس فيه أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أمر بذلك، وإنما قال: يؤخذ منه.
وقال النووي في شرح "المهذب ": قال الشافعي: ليس هذا مما يثبته أهل الحديث ولو أثبتوه(3/405)
وهو من الركز فأطلق على المعدن، ولأنها كانت في أيدي الكفرة حوتها أيدينا غلبة فكانت غنيمة، وفي الغنائم الخمس بخلاف الصيد لأنه لم يكن في يد أحد، إلا أن للغانمين يدا حكمية لثبوتها على الظاهر، وأما الحقيقية فللواجد فاعتبرنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يكن فيه رواية عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا انقطاعه، فإن الزكاة في المعدن دون الخمس ليست مروية عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال البيهقي: هو كما قال الشافعي في رواية مالك، قيل: قد اعترف الشافعي أنه لا حجة فيه ولم يثبت رفعه عنده لذكره محتجا به، فكيف له أن يجعله مذهبه بعد إقراره بذلك بغير دليل.
فإن قلت: رواه الدراوردي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه أخذ من المعادن القبلية الصدقة» موصولا. أخرجه البيهقي.
قلت: كثير مجتمع على ضعفه، لا يحتج بمثله، ذكره البزار وانفرد به أبو أشبرة، ولم يتابع على إسناده.
وقال يحيى بن معين: كثير ليس بشيء، وعن أحمد مثله، وعنه لا يساوي شيئا. وقال النسائي: متروك الحديث.
م: (وهو من الركز) ش: أي الركاز مشتق من الركز، وهو الإنبات، وهذا المعنى حقيقة في المعدن، ولأنه خلق فيها مركبا وفي الكنز مجاز للمجاوزة م: (فأطلق على المعدن) ش: لما ذكرنا فكانت إرادة المعدن من الركاز أحق للحقيقة.
م: (ولأنها) ش: أي ولأن أراضي المعدن م: (كانت في أيدي الكفرة حوتها) ش: بالحاء المهملة أي جمعتها وجازتها م: (أيدينا غلبة) ش: أي من حيث الغلبة م: (فكانت غنيمة وفي الغنائم الخمس) ش: أي الواجب أيضا في الغنائم الخمس بالنص م: (بخلاف الصيد) ش: جواب عما قاله الشافعي: أنه مال مباح سبقت يده إليه كالصيد م: (لأنه لم يكن في يد أحد) ش: أي لأن الصيد لم يكن في يد أحد فلم يدل على عدم الوجوب في الصيد على عدم الوجود في المعدن، وقياسه على الصيد قياس بالفارق وهو غير صحيح.
م: (إلا أن للغانمين يدا حكمية) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر وارد على قوله كانت غنيمة تقديره أن يقال: لو كانت هذه غنيمة عنده حتى يجب فيها الخمس كانت أربعة أخماسه للغانمين لأن الحكم في الغنيمة هكذا، فأجاب بقوله: إلا أن للغانمين يدا حكمية لا حقيقية م: (لثبوتها على الظاهر) ش: أي لثبوت اليد الحكمية على ظاهر الأرض.
م: (وأما الحقيقية فللواجد) ش: أي وأما اليد الحقيقية فللواجد، وهذا ظاهر م: (فاعتبرنا(3/406)
الحكمية في حق الخمس، والحقيقية في حق الأربعة الأخماس حتى كانت للواجد.
ولو وجد في داره معدنا فليس فيه شيء عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا فيه الخمس لإطلاق ما روينا. وله أنه من أجزاء الأرض مركب فيها ولا مؤنة في سائر الأجزاء، فكذا في هذا الجزء، لأن الجزء لا يخالف الجملة بخلاف الكنز فإنه غير مركب فيها. قال: وإن وجده في أرضه. فعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه روايتان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحكمية) ش: أي اليد الحكمية م: (في حق الخمس والحقيقية) ش: أي اليد الحقيقية م: (في حق الأربعة الأخماس حتى كانت) ش: أي الأربعة الأخماس- م: (للواجد) ش: إنما عملوا هكذا دون العكس، لأن الحقيقية أقوى من الحكمية ولأنهم اعتبروا اليد الحقيقية في حق الخمس مع أنه عبادة يحتاط في إثباتها يلزمنا العمل بها في حق الغانمين، وبتعطيل العمل بالشبهين حينئذ.
[حكم من وجد في داره معدنا هل عليه زكاة]
م: (ولو وجد في داره معدنا فليس فيه شيء عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال أحمد وسواء كان الواجد مسلما أو ذميا.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (فيه الخمس) ش: للحال، وعند مالك والشافعي تجب الزكاة في الحال م: (لإطلاق ما روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وفي الركاز الخمس» ولم يفصل بين الدار والأرض والحانوت والمنزل كالدار.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه) ش: أي أن المعدن م: (من أجزاء الأرض مركب فيها ولا مؤنة في سائر الأجزاء فكذا) ش: لا مؤنة م: (في هذا الجزء لأن الجزء لا يخالف الجملة) .
ش: فإن قلت: لو كان المعدن من أجزاء الأرض ينبغي أن نجوز به التيمم.
قلت: إنه جزء من [من الأرض] ولكنه ليس من جنس الأرض كالخشب وقال الأكمل: يجوز التيمم بما هو من جنسها لا من أجزائها خلقة، وهذا ليس من جنسها.
قلت: فيه تأمل لا يخفى.
م: (بخلاف الكنز فإنه غير مركب فيها) ش: كما عرفت، أي لأن اتصالها اتصال مجاورة، ألا ترى أنه لا يملكه أحد بالشراء ولم يجب عن الحديث، والجواب عنه أنه عام مخصوص منه الأحجار فخص المتنازع فيه. وقيل إن الإمام لما خصه بهذه الدار فكانت نقل بها وللإمام هذه الولاية.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (وإن وجده) ش: أي المعدن م: (في أرضه فعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان) ش: في رواية الأصل: لا شيء فيه، وفي رواية " الجامع(3/407)
ووجه الفرق على إحداهما وهو رواية الجامع الصغير أن الدار ملكت خالية عن المؤن دون الأرض، ولهذا وجب العشر والخراج في الأرض دون الدار، فكذا هذه المؤنة، وإن وجد ركازا أي كنزا وجب فيه الخمس عندهم لما روينا، واسم الركاز يطلق على الكنز لمعنى الركز وهو الإثبات ثم إن كان على ضرب أهل الإسلام كالمكتوب عليه كلمة الشهادة فهو بمنزلة اللقطة، وقد عرف حكمها في موضعه، وإن كان على ضرب أهل الجاهلية كالمنقوش عليه الصنم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصغير " فيه الخمس م: (ووجه الفرق على إحداهما) ش: أي على إحدى الروايتين م: (وهي رواية " الجامع الصغير " أن الدار ملكت خالية عن المؤن فلم يخمس دون الأرض) ش: أي بخلاف الأرض، فإن فيها مؤنة العشر والخراج فتخمس م: (ولهذا) ش: أي ولكون المؤنة فيها م: (وجب العشر والخراج في الأرض دون الدار) ش: تقرير هذا الفرق أن الإمام وإن اصطفى الأرض له لكن ما أخلاها عن المؤن حتى أوجب العشر أو الخراج فيها م: (فكذا هذه المؤنة) ش: أما الدار فقد أصفاها له عن الحقوق فكذا في حكم المعدن.
م: (وإن وجد ركازا) ش: أي كنزا إنما فسر بهذا لأن الركاز اسم مشترك بين المعدن والكنز، وقد فرغ من بيان المعدن وأراد به الكنز م: (وجب فيه الخمس عندهم) ش: أي عندنا وعند الشافعي أيضا م: (لما روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «في الركاز الخمس» فإن قلت: في هذا التمسك يلزم تعميم المشترك وهو لا عموم له، لأنه استدل بهذا الحديث على وجوب الخمس في المعدن، واستدل به أيضا على وجوب الخمس في الكنز، ولفظ الركاز مشترك بين المعدن والكنز، كما قال أيضا هنا بقوله.
م: (واسم الركاز يطلق على الكنز لمعنى الركز فيه) ش: أي في الركاز م: (وهو الإثبات) ش: وفي المعدن هذا المعنى أيضا، والجواب عن السؤال المذكور أن هذا مشترك معنوي، فإن الركز لغة الإثبات، والركز تثبت فيتناول المعدن والكنز بالمعنى العام، فكان كل واحد من أنواع العام لا من أنواع المشترك، ونظير هذا قوله عز وجل: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] (سورة الجمعة: الآية: 9) فإنه يتناول البيع والشراء وكلاهما مراد المعنى العام وهو مبادلة المال بالمال.
فإن قلت: المراد بالركاز المعدن بدليل العطف في الحديث الذي مضى، قلت: العطف لا يمنع دخول الكنز فيه لجواز أن يكونه تعميما بعد التخصيص كما في قَوْله تَعَالَى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: 28] (سورة نوح: الآية: 28) .
م: (ثم إن كان) ش: أي الكنز م: (على ضرب أهل الإسلام كالمكتوب عليه كلمة الشهادة فهو بمنزلة اللقطة) ش: في الحكم م: (وقد عرف حكمها) ش: أي حكم اللقطة م: (في موضعه) ش: في كتاب اللقطة م: (وإن كان على ضرب أهل الجاهلية كالمنقوش عليه الصنم) ش: وهو ما كان له جسم أو صورة، فإن لم يكن له جسم ولا صورة فهو وثن، وقال ابن الأثير: الصنم ما اتخذ إلها من(3/408)
ففيه الخمس على كل حال لما بينا.
ثم إن وجده في أرض مباحة فأربعة أخماسه للواجد لأنه تم الإحراز منه إذ لا علم به للغانمين فيختص هو به، وإن وجده في أرض مملوكة فكذا الحكم عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الاستحقاق بتمام الحيازة وهي منه. وعند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله- هو للمختط له وهو الذي ملكه الإمام هذه البقعة أول الفتح، لأنه سبقت يده إليه وهي يد الخصوص فيملك به ما في الباطن، وإن كانت على الظاهر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دون الله تعالى م: (ففيه الخمس على كل حال) ش: يعني كان الموجود ذهبا أو فضة أو رصاصا أو غيرها، وسواء كان الواجد صغيرا أو كبيرا أو عبدا مسلما أو ذميا ذكرا كان أو أنثى، وسواء وجده في دار أو أرض أو موات إلا إذا كان الواجد حربيا أو مستأمنا فيؤخذ منه، إلا إذا كان الإمام أقطعه إياه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون عند شروطهم» ، غير أنه إن وجده في أرض مملوكة اختلف أصحابنا فيمن يستحق أربعة الأخماس فإنه لا خلاف في وجوب الخمس م: (لما بينا) ش: أي لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وفي الركاز الخمس» .
م: (ثم إن وجده) ش: أي الكنز م: (في أرض مباحة) ش: كالمفاوز والجبال وغيرها م: (فأربعة أخماسه للواجد، لأنه تم الإحراز منه) ش: من أحرزت الشيء أُحرزه إحرازا إذا حفظه وضمه إليه وصانه عن الأخذ م: (إذ لا علم به للغانمين) ش: هذا الدليل لقوله: لأنه تم الإحراز منه أي من الواجد المذكور. قوله: به أي بإحراز الواجد، فإذا كان كذلك م: (فيختص هو به) ش: أي فيختص الواجد بالذي أحرزه، والأصل فيه أن الغانمين لهم الاستيلاء، والإحراز به، ولكن هذا الواجد سبقهم بالإحراز فاختص بما بقي من الخمس وهو أربعة أخماس.
فإن قلت: إحراز هذا المحرز ليس بموجود فكيف وجب فيه الخمس.
قلت: ابتداء الأخذ جهارا، فالواجب كذلك.
م: (وإن وجده في أرض مملوكة فكذا الحكم) ش: أي فكالمذكور من الحكم هنا، يعني: يؤخذ منه الخمس، والباقي له م: (عند أبي يوسف، لأن الاستحقاق بتمام الحيازة) ش: من حازه يحوزه إذا قبضه، وملكه واستبد به م: (وهي منه) ش: أي الحيازة الناشئة من الواجد.
م: (وعند أبي حنيفة، ومحمد -رحمهما الله- هو للمختط له) ش: أي الذي اختط له، وفسره بقوله: م: (وهو الذي ملكه الإمام هذه البقعة أول الفتح) ش: يعني يوم الفتح، وذلك أن الإمام إذا فتح بلدة يجعل لكل واحد من الغانمين ناحية، ويجعل تلك الناحية له، ويجعل عليها علامة يخط عليها خطا ليعلم أنه قد احتازها ومنه سميت خطط البصرة، والكوفة وهي جمع خطة بالكسر م: (لأنه سبقت يده إليه) ش: أي إلى الذي أخذه م: (وهي يد الخصوص) ش: يعني اختصت يده به لسبقه إليه م: (فيملك به) ش: أي بالخصوص م: (ما في الباطن) .
م: (وإن كانت) ش: يده م: (على الظاهر) ش: كلمة إن للوصل، أي يد الخصوص هذا(3/409)
كمن اصطاد سمكة في بطنها درة ملك الدرة ثم بالبيع لم تخرج عن ملكه لأنه مودع فيها بخلاف المعدن، لأنه من أجزائها فينتقل إلى المشتري، وإن لم يعرف المختط له يصرف إلى أقصى مالك يعرف في الإسلام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المجموع لدفع شبهة أوردها شيخ الإسلام في "مبسوطه "، وملخصها أن يد المختط له ثابتة من وجه من حيث إن اليد على الظاهر تدل على الباطن تقديرا، واليد الحكمية لا تثبت الملك كما في حق الغانمين، فإن لهم يدا ثابتة على ما في الباطن، ومع هذا لم يصر ملكا لهم، والجواب أن يد المختط له يد خاصة، واليد الحكمية إذا كانت بهذه المثابة يثبت الملك في المباح كما في المعدن، ألا ترى أن تصرف الغازي بعد القسمة نافذ، وقبلها غير نافذ لثبوت اليد الحكمية على الخصوص.
م: (كمن اصطاد سمكة في بطنها درة ملك الدرة ثم بالبيع) ش: أي بيع السمكة م: (لم تخرج الدرة عن ملكه لأنه مودع فيها) ش: أي في السمكة هكذا فسر الأترازي هذا الموضع، حيث قال: كمن اصطاد سمكة في بطنها درة فباع السمكة لا تخرج الدرة عن ملك الصياد، بخلاف المعدن كما ذكره في المتن، قال السغناقي: ثم بالبيع أي بيع الأرض التي تحتها كنز لم يخرج عن ملكه بلفظ التذكير، أي لم يخرج الكنز عن ملكه بدلالة قوله لأنه بالتذكير ولم يقل: "لأنها" حتى ترجع إلى الدرة، لأنه مودع فيها، أي لأن الكنز مودع في الأرض، وكذا فسره الكاكي تبعا له، وهو الصواب.
ثم ذكر شيخ الإسلام في مسألة الدرة فقال في ظاهر الرواية لم يفصل بين كون الدرة مثقوبة أو لا، وقيل: إن كانت مثقوبة لم تدخل في ملك المشتري لأنها بمنزلة الكنز، وإن كانت غير مثقوبة تدخل كمن اصطاد سمكة فوجد في بطنها عنبرا، لأنه حشيش يأكله السمك فيكون تبعا له. وفي " المحيط ": إن كانت الدرة في الصدف فهي للمشتري، لأن السمك يأكل الصدف، وكل ما يأكله بالسمك فهو للمشتري، ولو اشترى جملا فوجد في بطنه دينارا لم يكن له لأنه لا يأكله عادة.
م: (بخلاف المعدن لأنه من أجزائها فينتقل إلى المشتري) ش: يعني بانتقال الأرض إليه لأنه من عروق الأرض.
م: (وإن لم يعرف المختط له يصرف إلى أقصى مالك يعرف له في الإسلام) ش: يعني لم يعرف المختط له ولا دراية يصرف إلى آخره، وهو اختيار السرخسي، وذكر أبو اليسر يوضع في بيت المال، كذا ذكره التمرتاشي هذا إذا لم يقل مالك الأرض: أنا وضعته، فإن ادعاها فالقول قوله بالاتفاق، وإن تصادقا أنه كنز فيه خلاف أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المالك أولى إذا ادعاه، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن نازعه غيره كان المالك أولى، لأن الظاهر أن ما ملكه له، ولو لم يدعه ولم يعرف عامرها(3/410)
على ما قالوا، ولو اشتبه الضرب يجعل جاهليا في ظاهر المذهب لأنه أصل. وقيل: يجعل إسلاميا في زماننا لتقادم العهد،
ومن دخل دار الحرب بأمان فوجد في دار بعضهم ركازا رده عليهم تحرزا عن الغدر، لأن ما في الدار في يد صاحبها خصوصا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ظاهر الذهب أنه يجعل لقطة يعرفه سنة، ويمتلكه، وعن القفال أنه مال ضائع يدفعه إلى الإمام ليضعه في بيت المال، ولو كانت الأراضي في يده بإعارة أو إباحة، وادعى أن المال له فهو أولى، ولو نازعه منازع، فالقول له مع اليمين بشرط الإمكان، لأنه صاحب اليد، وقال المزني: المالك أولى، لأن الدفين تابع للأرض، وفي اعتبار النصاب قولان:
أحدهما: لا يعتبر كقولنا لعموم الحديث وفي الجديد: يعتبر ذكره في " الأم "، وكذا في " الحلية " م: (على ما قالوا) ش: أي المتأخرون.
م: (ولو اشتبه الضرب) ش: بأن لم يعرف هل هو ضرب الإسلام أو ضرب الجاهلية م: (يجعل جاهليا في ظاهر المذهب، لأنه الأصل) ش: أي لأن الجاهلي هو الأصل يقدم م: (وقيل: يجعل إسلاميا) ش: أي يجعل إسلاميا م: (في زماننا لتقادم العهد) ش: أي في الإسلام، فالظاهر أنه ليس بمدفون الكفار، حتى لو علم أنه مدفونهم يخمس، والباقي للواجد، أي من كان فيها، لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل كذلك، إلا أن يكون حربيا، وقال الشافعي: لقطة ما يعرفها سنة.
[حكم من دخل دار الحرب بأمان فوجد في دار بعضهم ركازا]
م: (ومن دخل دار الحرب بأمان فوجد في دار بعضهم ركازا) ش: وفي " المحيط ": وضع محمد هذه المسألة في " الجامع " في الركاز، قال شيخ الإسلام: أراد بالركاز معدنا لا الكنز، والقدوري وضعها في الكنز فهذا أبين لك أن الكنز والمعدن في هذه الصورة سواء.
وقال الأترازي: هاهنا اعلم أن الداخل في دار الحرب إذا وجد ركازا أو معدنا أو كنزا فإن وجده في الصحراء فهو له بلا خمس، سواء دخل بأمان أو بغير أمان، انتهى.
قلت: المصنف قيد بقوله: إذا وجد في دار أحدهم، لأنه إذا وجد في الصحراء في غير ملك أحدهم، فهو له، ولا يخمس، دخل بأمان أو بغير أمان وبه قال ابن الماجشون من المالكية، وفي " القنية ": إن دخلها بأمان وأخرجه ملكه، ولا يطيب له، وقال الشافعي: إن وجد في دار الحرب في موات لا يدبرون عنه ففيه الخمس، والباقي له، وكذا إذا كانوا يدبون عنه في الصحيح، وقال مالك: هو بين الجيش، وقال الأوزاعي: هو بين الجيش بعد إخراج الخمس.
م: (رده عليهم) ش: أي على أهل الحرب م: (تحرزا عن الغدر) ش: أي لأجل الاحتراز عن الغدر الذي هو حرام لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة» م: (لأن ما في الدار في يد صاحبها خصوصا) ش: أي من حيث الخصوص يعني مختص به ليس لغيره.(3/411)
وإن وجده في الصحراء فهو له لأنه ليس في يد أحد على الخصوص فلا يعد غدرا ولا شيء فيه، لأنه بمنزلة متلصص غير مجاهر.
قال: وليس في الفيروزج الذي يوجد في الجبال خمس لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا خمس في الحجر»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن وجده في الصحراء) ش: أراد به المفازة وموضعها لا ملك لأحد فيه م: (فهو له) ش: أي كله له ولا يخمس وعند الشافعي يخمس م: (لأنه ليس في يد أحد على الخصوص فلا يعد غدرا) ش: فإن قيل: يدهم ثابتة على الصحراء، فإن المستأمن لو وجد شيئا من ذلك في دارنا في الصحراء لا حق له فيه لثبوت يدنا عليه حكما. فيجب أن يكون كذلك وما وجد المستأمن هنا في دارهم قلنا: اليد على ما في الصحراء ثبتت حكما لا حقيقة، وأجيب بأن دارنا دار أحكام فتعتبر اليد الحكمية فيها بخلاف دارهم فإنها دار قهر لا حكم فتعتبر فيها اليد الحقيقية لا الحكمية وذلك لم يوجد على ما في الصحراء كذا في " جامع شمس الأئمة ".
وفي " شرح الطحاوي ": وأما إن أصاب الأسير في دار الحرب المسلم والذمي الذي لم يهاجر إلينا من كنز أو معدن فهو كالمستأمن إلا فيما أصابا في ملك الحربي فهو لهما بلا عشر ولا خمس، وإذا أخرجاه فلا بأس للمستأمن أن يتخلص ما في أيديهم بوجه ما في حر مسلم أو ذمي أو مكاتب أو مدبر أو أم ولد المسلم ويقاتلهم حتى يستنقذهم، وإن أتى ذلك على قتل بعضهم لأن هؤلاء لا يجزئ عليهم.
لهذا لو أسلموا كانوا ظالمين في إمساكهم.
م: (ولا شيء فيه) ش: أي لا خمس فيه م: (لأنه بمنزلة متلصص غير مجاهر) ش: أي لأن هذا الواجد في الصحراء والمتلصص الذي يتلصص أي مباشرا للصوص خفية من غير استيلاء وهو معنى قوله غير مجاهر.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (وليس في الفيروزج الذي يوجد في الجبال خمس) ش: إنما قيد بقوله- في الجبال- احترازا عما يوجد هنا أو غيره مما ذكره بعد من الزئبق واللؤلؤ في خزائن الكفار قهرا فإنه يخمس بالاتفاق لأن مال الغنيمة كسائر الأموال م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا خمس في الحجر» .
هذا رواه ابن عدي في " الكامل " عن عمر بن أبي عمر الكلاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في الحجر» وضعف ابن عدي عُمَرَ بنَ أبي عمر وقال: إنه مجهول لا أعلم من حدث عنه غير بقية فأحاديثه منكرة وغير محفوظة، وأخرجه أيضا عن محمد بن عبد الله العرزمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ونقل تضعيف العرزمي عن البخاري وابن معين والنسائي والفلاس ووافقهم فيه وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه " عن عكرمة قال: «ليس في حجر اللؤلؤ ولا حجر الزمرد زكاة إلا أن يكون للتجارة، فإن كان للتجارة(3/412)
وفي الزئبق الخمس في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخرا، وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لأبي يوسف ولا خمس في اللؤلؤ والعنبر عند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله-
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ففيه الزكاة.»
وقال السغناقي: لا خمس في الحجر، والفيروزج حجر لأنه لا ينطبع ويجوز التيمم به إلا أن بعض الأحجار أضوأ من بعض، وذكر في " المبسوط ": لا زكاة في الحجر وهو معرب - بيروزة.
[حكم الزكاة في الزئبق ومقدارها]
م: (وفي الزئبق الخمس) ش: أي إن الزئبق يجب فيه الخمس وهو فارسي معرب وقد عرب بالهمزة وبفتح الباء الموحدة، ومنهم من يقول بكسر الباء بعد الهمزة م: (في قول أبي حنيفة آخرا وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لأبي يوسف) ش:.
كان أبو حنيفة يقول أولا: لا شيء فيه، وفي قوله الأول كان يقول أولا: لا شيء فيه وحكي عن أبي يوسف أن أبا حنيفة كان يقول أولا: لا شيء فيه، وكنت أقول: فيه الخمس فلم أزل أناظره وأقول يلزماه كالرصاص حتى قال: فيه الخمس، ثم رأيت أن لا شيء فيه ثم رأيت الحاصل أن على قول أبي حنيفة الآخر وهو قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد فيه الخمس، وعلى قول أبي يوسف الآخر وهو قول أبي حنيفة الأول لا شيء فيه لأنه ينبع من عينه ولا ينطبع بنفسه فهو كالقير والنفط.
وقال التمرتاشي: قال أبو يوسف: لا يخمس وهو معين بدليل أنه يستسقي بالدلاء فصار كالنفط، ولهما أنه جوهر أذابته حرارة الأرض ومعدنه فصار كما لو أذيب بالنار.
م: (ولا خمس في اللؤلؤ والعنبر عند أبي حنيفة ومحمد) ش: اللؤلؤ بهمزتين وبواوين واللام، والثانية بالواو والأولى بالهمزة، وبالعكس، قال: في اللؤلؤ أربع لغات قيل: لا يقال بتخفيف الهمزة لغة، واللؤلؤ مطر الربيع يقع في الصدف فيصير لؤلؤا، فعلى هذا أصله ماء ولا شيء في الماء.
وقيل: إن الصدف حيوان يخلق فيه اللؤلؤ والعنبر، قيل: إنه ينبت في البحر بمنزلة الحشيش في البر: هكذا رواه ابن رستم عن محمد، وقيل: إنه شجيرة تنكسر فيلقيها الموج إلى الساحل وليس في الأشجار شيء، وقيل: إنه خثي دابة، وليس في أخثاء الدواب شيء، ذكر ذلك كله في " المبسوط "، وقيل: يخرج من عين في البحر، وقيل: العنبر نبت يكون في قعر البحر فربما يبتلعه الحوت فإذا استقر في بطنه لفظه لمرارته وما لم يبتلعه الحوت فهو الجيد، وقيل: إنه زبد البحر، وقالوا: إن البحر إذا تلاطمت فيه الأمواج صار منها الزبد فلا يزال يضرب الريح بعضها على بعض حتى يمكث ما صفي في الزبد فينعقد عنبرا ثم يتجمد فيقذفه إلى الساحل ويذهب ما لا ينتفع به من الزبد جفاء، وإليه أشار الله تعالى في كتابه {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17](3/413)
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيهما وفي كل حلية تخرج من البحر خمس، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذ الخمس من العنبر، ولهما أن قعر البحر لم يرد عليه القهر فلا يكون المأخوذ منه غنيمة، وإن كان المأخوذ ذهبا أو فضة. والمروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما دسره البحر وبه نقول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(الرعد: الآية 17) ، ولا خمس في الماء والزبد منه.
م: (وقال أبو يوسف: فيهما) ش: أي يجب الخمس فيهما أي في اللؤلؤ والعنبر م: (وفي كل حلية) ش: أي يجب الخمس أيضا في كل حلية م: (تخرج من البحر خمس) ش: الحلية على وزن فعلة بالكسر وهي ما يزين به من الذهب والفضة وغيرهما، وفي " المبسوط " قال مشايخنا: لو وجد الذهب والفضة في قعر البحر لم يجب فيه شيء، لأن ما في البحر ليس في يد أحد قط لأن قعر البحر يمنع قهر غيره م: (لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذ الخمس من العنبر) ش: هذا غريب عن عمر بن الخطاب وإنما هو عن عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا معمر عن سماك بن الفضل أن عمر بن العزيز أخذ الخمس، ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" حدثنا وكيع عن سفيان عن ليث أن عمر بن عبد العزيز خمس العنبر.
فإن قلت: روى أبو عبيد في " كتاب الأموال " أخبرنا نعيم بن حماد عن عبد العزيز بن محمد عن رجاء بن روح عن رجل قد سماه عبد العزيز عن ابن عباس عن يعلى بن أمية قال: كتب إلي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن آخذ من العنبر العشر.
قلت: قال أبو عبيدة: هذا إسناده ضعيف، وقول أبي يوسف هو قول الحسن البصري والزهري وعمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد م: (أن قعر البحر لم يرد عليه القهر) ش: يعني بالاستيلاء لعدم القدرة م: (فلا يكون المأخوذ منه غنيمة) ش: ولا شيء فيه م: (وإن كان المأخوذ ذهبا أو فضة) ش: واصل بما قبله.
م: (والمروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: هذا جواب عن استدلال أبي يوسف لقوله لأن عمر أخذ الخمس في العنبر وهو دون الذي روي عن عمر م: (فيما دسره البحر) ش: أي دفعه ورماه إلى البر م: (وبه نقول) ش: أي بوجوب الخمس في العنبر الذي دسره البحر نقول، فلم يبق حينئذ حجة لأبي يوسف في حديث عمر.
وقال السغناقي: لكن لا يتم دفع قول أبي يوسف بمطلق ما ذكر في " الكتاب " من دسر البحر الذي يجب فيه الخمس، فإن في حديث ابن عباس كان العنبر مما دسره البحر أيضا على ما ذكره في " المبسوط "، ونفى الخمس عنه فلا بد من زيادة القيد الذي يوجب الخمس ليفيد دخول دسر البحر في حديث عمر وهو أن يقال: والمروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما دسره(3/414)
متاع وجد ركازا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البحر الذي من دار الحرب فدخل الجيش دار الحرب فوجدوه على ساحل بحر دار الحرب فأخذوه فكان غنيمة فيجب الخمس.
وأما حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ففيما دسره البحر الذي في دار الإسلام وأخذه واحد من الناس أو فيما دسره البحر الذي في دار الحرب ولكن أخذه واحد من المسلمين فلا خمس فيه لأنه بمنزلة المتلصص لا كالمجاهد، فليس فيما أخذ المتلصص خمس، انتهى.
قلت: هذا التطويل لا يفيد.
أما الأثر عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلم يثبت كما ذكرنا، بل روي عنه خلافه كما مر.
وأما أثر ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإن أبا عبيد روى عن ابن أبي مريم عن داود بن عبد الرحمن العطار سمعت عمرو بن دينار يحدث عن ابن عباس قال: ليس في العنبر خمس، وروى عنه خلافه، رواه عبد الرزاق أخبرنا الثوري عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أن إبراهيم بن سعد -وكان عاملا بعدن - سأل ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن العنبر فقال: إن كان فيه شيء فالخمس، واستدل الأترازي لأبي يوسف بقوله: ما روي أن يعلي بن أمية كتب إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في عنبرة وجدت على ساحل البحر فكتب إليه: ذلك سيب من سيب الله يؤتيه من يشاء، فيها وفيما دسره البحر الخمس، انتهى.
قلت: لم يبين من روى هذا من أهل الحديث وهل هو حديث صحيح أو ضعيف مع أن له دعوى عريضة في هذا الباب ولم يبن السبب ما هو ووضع نقطة واحدة بعد السين تحت الباء فيكون الناظر فيه أنه سبب بباءين موحدتين وليس هو إلا سيب بفتح السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره باء موحدة.
وقال الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: السيوب جمع سيب يريد به المال المدفون في الجاهلية أو المعدن، وقال ابن الأثير: السيوب في الأصل م: (الركاز) ش: وقيل: السيوب عروق من الذهب والفضة تسيب في المعدن أي يكون فيه ويظهر، انتهى.
قلت: ذكر الأترازي هذا الأثر حجة لأبي يوسف غير مناسب لأنه لا يطابق قول أبي يوسف في أخذ الخمس في العنبر على ما لا يخفى على المتأمل.
م: (متاع وجد ركازا) ش: متاع مبتدأ نكرة تخصص بالصفة، وقوله -ركازا- نصب على الحال أي وجد المتاع حال كونه ركازا لا حال كونه لقطة ولا حال كونه موضوعا في البيت وغيرهما من النقدين والاسم بمنزلة المصدر في باب الحال كما تقول: هذا بسرا أطيب منه رطبا،(3/415)
فهو للذي وجده وفيه الخمس، معناه إذا وجد في أرض لا مالك لها لأنها غنيمة بمنزلة الذهب والفضة والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأبهم الركاز ولم يفسره كما فسره فيما قبل.
وفسره الأترازي بقوله -متاع وجد ركازا- أي كنزا، يعني إذا وجد كنز متاع في أرض غير مملوكة يجب فيه الخمس، وقال تاج الشريعة: ألفاظ المشايخ في تفسير المتاع مختلفة لكن الصحيح أنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - أراد كل ما يتمتع به ثيابا أو أثاثا أو طعاما أو آنية ذهبا أو فضة أو رصاصا أو حديدا. وقال السغناقي: المتاع ما يتمتع به في البيت من الرصاص ونحوه، وقيل: المراد به الثياب، قال: وتفسيرهم بالذهب والفضة مما لا يكاد يصح، لأنه يقع تكرارا محضا من غير فائدة في حق الذهب والفضة، وإن لفظ الكتاب وهو قوله- لأنه غنيمة بمنزلة الذهب والفضة يقتضي أن يكون المراد بالمتاع الذهب والفضة.
قلت: روي في " الإمام " عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الركاز الذهب الذي ينبت بالأرض» ، ورواه البيهقي في " المعرفة " وفيه أبو يعلى جبار بن علي العنزي، قال يحيى: صدوق وقال أبو زرعة: لين، ورواه البيهقي أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الركاز الخمس" قيل: وما الركاز يا رسول الله؟ قال: "الذهب الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت» . وذكره في " الإمام " أيضا ولم يتكلم عليه فدل على صحته.
م: (فهو للذي وجده) ش: خبر المبتدأ م: (وفيه الخمس) ش: أي يجب فيه الخمس م: (معناه إذا وجد في أرض مالك لها) ش: قيد بقوله: لا مالك لها لأنه إذا كان لها مالك فالحكم فيه ما ذكر في الذهب والفضة م: (لأنها غنيمة بمنزلة الذهب والفضة) ش: يدل عليه حديث أبي هريرة المذكور آنفا.(3/416)
باب زكاة الزروع والثمار قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في قليل ما أخرجته الأرض وكثيره العشر سواء سقي سيحا أو سقته السماء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب زكاة الزروع والثمار] [حكم زكاة الزروع والثمار] [نصاب زكاة الزروع والثمار والمقدار الواجب فيه]
م: (باب زكاة الزروع والثمار) ش: أي هذا باب في بيان أحكام الزروع والثمار لما فرغ من بيان العبادات المالية المطلقة شرع في بيان العبادة المالية المقيدة وهذا العشر عبادة فيها معنى المؤنة على ما عرف فيكون مقيدا، وإطلاق اسم الزكاة عليه -أي العشر- يصرف مصارف الزكاة.
وقال الإمام بدر الدين الكردري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فتسمية الزكاة هاهنا خرجت على قولهما لأنهما يشترطان النصاب والبقاء فكان هو فرع زكاة، ولم يقدم صدقة الفطر على العشر لأن مناسبة العشر بالزكاة أقوى لكون كل واحد منهما بناء على القدرة الميسرة ولاتحاد سببها وهو الملك، بخلاف صدقة الفطر، لأن سببها الرأس والأصل في وجوب العشر قَوْله تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] (البقرة: الآية 267) .
قال المفسرون الإنفاق من المكسوب إخراج الزكاة والإنفاق من المخرج من الأرض إخراج العشر، وقَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] (الأنعام: الآية 141) وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رواه البخاري من حديث الزهري عن سالم عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر» . وأخرج مسلم من حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فيما سقته السماء والأنهار والعيون العشر وفيما سقي بالسانية نصف العشر» .
م: (قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: في قليل ما أخرجته الأرض وكثيره العشر) ش: الأصل عشره أن كل ما تسبب في الحبان ويقصد به استيفاء اشتغال الأرض ففيه العشر الحبوب والبقول والرطاب والرياحين والوسمة والزعفران والورد والورس، وهو مذهب إبراهيم النخعي ومجاهد وحماد وزفر وبه قال عمر بن عبد العزيز ذكره أبو عمر، ويروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وقال ابن المنذر: لا نعلم أحدا قاله غير النعمان، قال السروجي: لقد كذب في ذلك فإنه لا يخفى عنه من قاله غيره، وإنما تعصبه حمله على أن قال مثله.
م: (سواء سقي سيحا) ش: السيح الماء الجاري من ساح الماء سيحا إذا جرى على وجه الأرض، وانتصابه على أنه مفعول ثان لسقي كما في قَوْله تَعَالَى {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا} [محمد: 15] (محمد: الآية 15) ، م: (أو سقته السماء) ش: أي المطر قال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} [الأنعام: 6] فإن قلت: كان حقه أن يقول: العشر ونصف العشر لأن الواجب أحد هذين على ما جاء في الحديث الذي مضى.(3/417)
إلا القصب والحطب والحشيش، وقالا: لا يجب العشر إلا فيما له ثمرة باقية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا من تسمية الشيء بأغلب الاسمين، لأن وجوب العشر في بلاد المسلمين أكثر، أو الأراضي التي تستقي من الأنهار أو من المطر أكثرهما يسقى بالدوالي ونظيره العمران في أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لأن خلافة عمر كانت أمد من ولاية أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيكون عدل عمر أكثر فكذا هذا.
م: (إلا القصب والحطب والحشيش) ش: وكذلك يستثنى التين والسعف، وذكر في " المبسوط ": الطرفاء عوض الحطب، والسعف روق جريد النخل الذي يصنع منه المراوح وغيرها والمراد بالقصب الفارسي وهو الذي يدخل في الأبنية ويتخذ منه الأقلام، قيل هذا إذا كان القصب ينبت في الأرض والجبال، أما لو غرز الأرض بقصبه فإنه يجب فيه العشر، ذكر الأسبيجابي والمرغيناني والوبري وتجب في قصب السكر والذريرة، وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أنه لا شيء في قصب الذريرة وهي رواية عن أبي حنيفة، وفي مضغه حراقه ومسحوقه عطر يضرب إلى البياض بصفرة يجلب من الهند ويجعل في الأروية وسمي ذريرة لأنه يدق ذرة ذرة، وسيجيء الكلام فيه في الكتاب.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (لا يجب العشر غلا فيما له ثمرة باقية) ش: كالحنطة والشعير والذرة والجوز واللوز والفستق والبندق والعدس والحمص والباقلاء والجلبان والماعن واللوبيا ونحوهما وهو قول الشافعي وفي " المبسوط " وأوجبا في الجوز واللوز وفي الفستق على قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعلى قول محمد لا تجب، وفي " المرغيناني " عن محمد أنه لا عشر في التين والفستق والجوز واللوز والنبق والتوت والموز والخرنوب، وعنه يجب في التين والفستق.
قال الكرخي: وهو الصحيح عنه ولا في الأهليلجة وسائر الأدوية والسدر والأشنان، ويجب فيما يجيء منه ما يبقى سنة مثل العنب والرطب وغيرهما، وعن محمد إن كان العنب لا يجيء منه الزيت لرقته لا يجب فيه العشر ولا يجب في الصفر والصنوبر والحلبة، وعن أبي يوسف أنه أوجب العشر في الحناء، قال محمد: لا شيء فيه كالرياحين، وفي " المبسوط " عن محمد في التين والأجاص والعناب روايتان وفي الثوم والبصل روايتان.
وذكر في " العيون " التين الذي ييبس يجب فيه العشر ولا عشر في التفاح والخوخ الذي يسقى وييبس ولا شيء في بذر البطيخ والقثاء والخيار والرطب، وكل يذر لا يصلح إلا للزراعة ذكره القدوري، ويجب في بذر العنب دون عيدانه، ويجب في الكمون والكراوية والخردل لأن ذلك من جملة الحبوب.
ولا زكاة عند الشافعية في التين والسفرجل والرمان والخوخ والجوز واللوز وسائر(3/418)
إذا بلغ خمسة أوسق والوسق ستون صاعا بصاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس في الخضروات عندهما عشر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثمار سوى الرطب والعنب ولا في الزيتون في الجديد وفي الورس في الجديد، وأوجبها في القديم من غير شرط النصاب في قليله وكثيره ولا يجب في الترمس في الجديد، وقول مالك مثل قول الشافعي وزاد عليه وجوب العشر في الترمس والسمسم والزيتون، والوجوب في الزيتون قول الزهري والأوزاعي والثوري والليث ورواية عن أحمد وهو مذهب ابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال أحمد: يجب فيما به البقاء واليبس والكيل من الحبوب والثمار سواء كان قواما كالحنطة والشعير والسلق وهو نوع من الشعير، وفي " المغرب " نوع من الشعير لا قشر له يكون بالغور والحجاز والعلس وهو نوع من الحنطة يزعم أهله أنه إذا خرج من قشره لا يبقى بقاء غيره من الحنطة ويكون منه حبتان وثلاث في كمام واحد وهو طعام اأهل صنعاء. وفي " المغرب " هو بفتحتين حبة سوداء إذا أجدب الناس خلطوها وأكلوها.
م: (إذا بلغ خمسة أوسق) ش: ذكرت ثلاثة قيود في مذهب الصاحبين الأول: الثمرة احترازا عن غير الثمرة، والثمرة اسم لشيء متفرع من أصل يصلح للآكل.
الثاني: البقاء وحده أن يبقى سنة في الغالب من غير معالجة كثيرة كالحنطة والشعير وغيرهما، واحترز به من الورد والآس والوسمة.
الثالث: أن يبلغ خمسة أوسق، والوسق ستون صاعا بصاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الوسق بقتح الواو، وروي بكسرها أيضا ذكره القاضي عياض وهو ستون صاعا، قال الخليل: هو حمل البعير، والوقر حمل البغل والحمار، والوسق عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أربعمائة رطل وثمانون رطلا بالبغدادي وخمسة آلاف رطل وأربعمائة رطل، وعند أبي يوسف ألف وستمائة رطل وبه قال الشافعي ومالك وأحمد، والوسق ثلاثمائة رطل وعشرون رطلا بالبغدادي عندهم.
وقال السغناقي: م: (والوسق ستون صاعا بصاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: فخمسة أوسق ألف ومائتا مَنٍّ، لأن كل صاع أربعة. وقال شمس الأئمة: هذا قول أهل الكوفة، وقال أهل البصرة: الوسق ثلاثمائة مَنٍّ.
[الزكاة في الخضروات]
م: (وليس في الخضروات عندهما عشر) ش: والخضروات بفتح الخاء لا غير نحو الفواكه كالتفاح والكمثرى وغيرهما، والبقول كالكراث والكرفس، واستشكل ابن الأثير في " النهاية " جمع الخضراء على الخضروات.
قال: وقياس ما كان على هذا الوزن من الصفات لا يجمع على هذا الجمع إنما يجمع به ما(3/419)
فالخلاف في موضعين في اشتراط النصاب وفي اشتراط البقاء لهما في الأول قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» ولأنه صدقة فيشترط النصاب فيه لتحقق الغنى، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أخرجت الأرض ففيه العشر» من غير فصل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان اسما لا صفة نحو صحراء وخنفساء قال وإنما جمع هذا الجمع لأنه قد صار اسما لهذه البقول لا صفة م: (فالخلاف) ش: يعني بين أبي حنيفة وصاحبيه م: (في موضعين) ش: أحدهما م: (في اشتراط النصاب) ش: والآخر قوله: م: (وفي اشتراط البقاء) ش: فأبو حنيفة لم يشترطهما وهما شرطاهما.
م: (لهما في الأول) ش: أي لأبي يوسف ومحمد في الأول وهو اشتراط النصاب م: (قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» ش: هذا الحديث رواه البخاري ومسلم من حديث يحيى بن عمارة عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمسة ذود صدقة، وليس فيما دون خمسة أواق صدقة» .
و «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» . وفي لفظ لمسلم: «ليس في حب ولا عنب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق» ، وزاد أبو داود فيه: «والوسق ستون مختوما» وزاد ابن ماجه «والوسق ستون صاعا» . والمراد من الصدقة العشر لأن زكاة التجارة تجب فيما دون خمسة أوسق إذا بلغت قيمته مائتي درهم.
م: (ولأنه صدقة فيشترط النصاب فيه لتحقق الغنى) ش: هذا دليل عقلي أي ولأن العشر صدقة كالزكاة يتعلق بها أداء المال أو بدليل على أنه لا يجب على الكافر ابتداء ويصرف مصارف الصدقات وقيمة خمسة أوسق مائتا درهم فيشترط فيه النصاب لأجل تحقق الغنى.
م: (ولأبي حنيفة قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: (ما أخرجته الأرض ففيه العشر، من غير فصل) ش: هذا الحديث غريب بهذا اللفظ، ومعناه ما أخرجه البخاري عن الزهري عن سالم عن ابن عمر.. الحديث، وقد ذكرناه في أول الباب وليس فيه إشارة إلى النصاب لأنه عام يتناول القليل والكثير فيدل على الوجوب من غير قيد.
وإخراج لبعض الخارج عن الوجوب وإخلائه عن حقوق الفقراء، وقال أبو بكر بن العربي في " عارضة الأحوذي " وأقوى المذاهب في المسألة مذهب أبي حنيفة دليلا وأحوطها للمساكين وأولاها قياما شكرا للنعمة وعليه يدل عموم الآية والحديث.
فإن قلت: العشر يشبه الزكاة من حيث أن يصرف إلى أهل السهمين المذكورين في الآية فيجب أن يكون لماليته عفو ونصاب.(3/420)
وتأويل ما روياه زكاة التجارة لأنهم كانوا يتبايعون بالأوساق وقيمة الوسق أربعون درهما ولا معتبر بالمالك فيه فكيف بصفته وهو الغنى، ولهذا لا يشترط الحول لأنه للاستنماء وهو كله نماء،
ولهما في الثاني قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس في الخضروات صدقة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: العشر كالخمس حتى إذا أخذ مرة لا يؤخذ ثانيا، وإن تكرر السنون فيبقى الباقي لرب المال، والعشر يجب على الفقراء فيجب أن لا يتعلق بقدر معين لما أنه يجب تحقق الأرض فيجب في القليل والكثير. قوله -من غير فصل- ليس من الحديث، يعني من غير فرق بين القليل والكثير.
م: (وتأويل ما روياه زكاة التجارة) ش: هذا جواب عن حديثهما المذكور أي بتأويل ما رواه أبو يوسف ومحمد أنه محمول على زكاة التجارة م: (لأنهم كانوا يتبايعون بالأوساق، وقيمة الوسق أربعون درهما) ش: فيكون قيمة خمسة أوسق مائتي درهم، وكان كذلك في ذلك الوقت غالبا فأدير الحكم على ذلك إذ الكيل كان أيسر عليهم.
م: (ولا معتبر بالمالك فيه فكيف بصفته وهو الغنى) ش: هذا جواب عن قوله لتحقق الغنى أي لا اعتبار بالمالك في العشر، ولهذا يجب العشر في الأرض الموقوفة وأرض المكاتب، فإذا لم يعتبر المكاتب فكيف يعتبر بصفة وهو الغنى الحاصل بالنصاب، وذكر في " المبسوط ": إن كانت الأرض لمكاتب أو لصبي أو مجنون وجب العشر في الخارج منها عندنا.
وقال الشافعي: لا شيء في الخارج من أرض المكاتب والعشر عنده قياس الزكاة فلا يجب إلا باعتبار المالك، أما عندنا فالعشر مؤنة الأرض النامية كالخراج، فالمكاتب والحر فيه سواء، وكذلك الخارج من الأرض الموقوفة على الرباطات والمساجد يجب فيه العشر عندنا وعند الشافعي لا تجب إلا في الموقوفة على أقوام بأعيانهم فإنهم كالملاك.
م: (ولهذا لا يشترط الحول) ش: والأصل عدم اشتراط غنى المالك بالنصاب لا يشترط الحول في العشر م: (لأنه) ش: أي لأن الحول يشترط م: (للاستنماء) ش: أي لطالب النماء م: (وهو) ش: أي الذي يجب فيه العشر م: (كله نماء) ش: لأن وجوبه يتعلق بالأرض النامية والخراج يجب في قليل الخارج فكذا العشر.
م: (ولهما في الثاني) ش: أي ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد في اشتراط البقاء م: (قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «ليس في الخضروات صدقة» ش: هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وهم معاذ وطلحة وعلي ومحمد بن عبد الله بن جحش وأنس وعائشة وعبد الله بن عمر وخالد بن عبد الله وأبو موسى الأشعري وعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. أما حديث معاذ بن جبل فرواه الترمذي، حدثنا علي بن حزم أنا عيسى بن يونس عن الحسن بن عمارة عن محمد بن عبد الرحمن بن عبيد عن عيسى بن طلحة «عن معاذ أنه كتب(3/421)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأله عن الخضروات وهي البقول فقال: "ليس فيها شيء» ، قال أبو عيسى: إسناد هذا الحديث ليس بصحيح وليس يصح في هذا الباب شيء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإنما يروى هذا عن موسى بن طلحة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلا، والحسن بن عمارة ضعفه شعبة وغيره وتركه عبد الله بن المبارك. وقال شيخنا زين الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - حديث معاذ تفرد بإخراجه الترمذي.
وأما حديث طلحة بن عبيد الله فأخرجه الطبراني في "الأوسط " من حديث موسى بن طلحة عن أبيه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في الخضروات صدقة» ، وهو ضعيف، وأما حديث علي فأخرجه الدارقطني والبيهقي من رواية الصعب بن حبيب قال: سمعت أبا رجاء العطاردي يحدث عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في الخضروات صدقة، ولا في العرايا صدقة» ، الحديث قال ابن حبان: الصعب بن حبيب يأتي عن الثقات بالمقلوبات، وقال صاحب " الميزان ": ولا يكاد يعرف.
وأما حديث محمد بن عبد الله بن جحش فأخرجه الدارقطني بإسناده «عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن أن يأخذ من كل أربعين دينارا دينارا.» الحديث، وفي آخره: «وليس في الخضروات صدقة» ، وفي إسناده عبد الله بن شبيب فإنه ضعيف، قال أبو أحمد الحاكم: ذاهب الحديث.
وأما حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فأخرجه الدارقطني أيضا ومن طريقه البيهقي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «جرت السنة من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة» الحديث، وفي آخره: «وليس فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة» ، وفي إسناده صالح بن موسى الطلحي وهو ضعيف. وقال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن معين: ليس(3/422)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بشيء، وقال النسائي: متروك.
وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه الدارقطني أيضا من رواية أشعث بن عطاف ثنا العرزمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال: «سئل عبد الله بن عمرو عن الجوهر والدر والفصوص» .. الحديث وفيه «وليس في البقول زكاة» وقال شيخنا زين الدين: لم يتكلم الدارقطني في إسناده وهو ضعيف.
فإن العزرمي الذي لم يسم فيه هو محمد بن عبد الله العزرمي قال أحمد: ترك الناس حديثه، وقال ابن معين: لا يكتب حديثه، وقال الفلاس: متروك وقال النسائي: ليس بثقة، وقال صاحب " الميزان ": هو من شيوخ شعبة المجمع على ضعفهم ولكن كان من عباد الله الصالحين.
وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه الدارقطني من رواية عدي بن الفضل عن أيوب عن عمرو بن دينار عن جابر قال: لم يكن المقاثي فيما جاء به معاذ إنما أخذ الصدقة من البر والشعير والتمر والزبيب، وليس في المقاثي شيء، وقد كانت تكون عندنا المقثاة تخرج عشرة آلاف فلا يكون فيها شيء، ولم يتكلم الدارقطني في إسناده، وهو ضعيف، فإن عدي بن الفضل متروك الحديث قاله ابن معين وأبو حاتم.
وأما حديث أبي موسى الأشعري فأخرجه الطبراني والحاكم في "مستدركه " ومن طريقهما البيهقي من رواية طلحة بن يحيى عن أبي هريرة «عن أبي موسى ومعاذ بن جبل حين بعثهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن يعلمان الناس من أمر دينهم لا تأخذا الصدقة إلا من هذه الأربعة، الشعير والحنطة والزبيب والتمر» قال الحاكم: إن إسناده صحيح أورده شاهد الحديث عن موسى بن طلحة عن معاذ مرفوعا «فيما سقت السماء والبعل والسيل» وفي آخره: فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب فقد عفا عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما حديث عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه الدارقطني في سننه من رواية عبد العزيز بن أبان عن محمد بن عبد الله عن الحكم عن موسى بن طلحة عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «إنما سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزكاة في هذه الأربعة، الحنطة والشعير والزبيب والتمر» وعبد العزيز بن أبان القرشي قاضي واسط ضعيف جدا منسوب بوضع الحديث.(3/423)
والزكاة غير منفية فتعين العشر.
وله ما روينا ومرويهما محمول على صدقة يأخذها العاشر وبه أخذ أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه، ولأن الأرض قد تستنمى بما لا يبقى والسبب هي الأرض النامية ولهذا يجب فيها الخراج، أما الحطب والقصب والحشيش لا تستنبت في الجنان عادة بل تنقى عنها حتى لو اتخذها مقصبة أو مشجرة أو منبتا للحشيش يجب فيها العشر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والزكاة غير منفية فتعين العشر) ش: يعني في الحديث ليس فيه ما يدل على نفي الزكاة فتعين نفي العشر. وقال تاج الشريعة: يعني لو كان نصابه في بعض الحول رطبا لا ينقطع عنه حكم الحول بل تجب الزكاة عند الحول.
م: (وله ما روينا) ش: أي ولأبي حنيفة ما روينا وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أخرجت الأرض ففيه العشر» م: (وما روياه محمول على صدقة يأخذها العاشر) ش: أي ما رواه أبو يوسف ومحمد محمول على صدقة يأخذها العاشر لأجل الفقراء عند إباء المالك عن دفع القيمة م: (وبه أخذ أبو حنيفة) ش: أي وبهذا المحمل المذكور أخذ أبو حنيفة م: (فيه) ش: أي في الحديث الذي روياه وهو قوله: «ليس في الخضروات صدقة» فيكون عاملا بالحديثين.
م: (ولأن الأرض قد تستنمى بما يبقى) ش: أي قد يطلب النماء من الأرض بما لا يبقى كالخضروات، والاستنماء بها فوق الاستنماء بما يبقى كالحنطة والشعير لأن نفع الخضروات أنفع، ألا ترى أن محمدا وضع الخراج على الكرم أكثر مما وضع على الزرع لأن نفعه أبلغ م: (والسبب هي الأرض النامية) ش: الواو فيه للحال والعامل فيها يستنمى أي والحال أن السبب هي الأرض النامية وهي موجودة، فلم يجب العشر فيما لا يبقى يلزم إخلاء السبب عن الحكم في موضع يحتاط في إثبات ذلك الحكم هو لا يجوز.
م: (ولهذا يجب فيها الخراج) ش: أي ولأجل كون السبب هو الأرض النامية يجب فيها الخراج، وفي بعض النسخ يجب فيه الخراج على تأويل المكان.
م: (وأما الحطب والقصب والحشيش لا يستنبت في الجنان عادة) ش: لما ذكر هذه الأشياء في أول الباب على وجه الاستثناء ولم يبين وجهه ذكر هنا تعليل عدم الوجوب فيها بقوله -أما- التقصيلية قوله -لا يستنبت- أي لا يطلب إنباتها في الجنان أي في البساتين عادة م: (بل ينقى عنها) ش: أي بل ينقى الجنان عن هذه الأشياء، وينقى من التقنية م: (حتى لو اتخذها) ش: أي لو اتخذ الجنان م: (مقصبة) ش: أي موضعا للقصب لأجل الاستغلال م: (أو مشجرة) ش: أي أو موضعا للأشجار يغرسها لأجل الحطب م: (أو منبتا للحشيش) ش: أو اتخذها موضعا لنبات الحشيش م: (يجب فيها العشر) ش: والمراد بالمذكور أي يجب في كل واحد من هذه الأشياء العشر لأنها تصير غلة فيجب فيها العشر.(3/424)
والمراد بالمذكور القصب الفارسي، أما قصب السكر وقصب الزريرة ففيهما العشر لأنه يقصد بهما استغلال الأرض بخلاف السعف والتبن لأن المقصود الحب والتمر دونهما. قال: وما سقي بغرب أو دالية أو سانية ففيه نصف العشر على القولين.
وما سقي بغرب أو دالية أو سانية ففيه نصف العشر على القولين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والمراد بالمذكور ش: يعني في قوله -والقصب- في أول الباب م: (القصب الفارسي) ش: وهو الذي يتخذ منه الأقلام ويدخل في الأبنية وقد مر بيانه م: (أما قصب السكر وقصب الزريرة ففيهما العشر) ش: هذا رجوع إلى بيان ما قاله في أول الباب -إلا الحطب والقصب- لأن هناك لم يبين التفصيل الذي فيه، لأنه ذكر القصب مطلقا، وهنا بين أن المراد من القصب المذكور هناك هو القصب الفارسي.
أما قصب السكر وقصب الزريرة فيجب فيهما العشر، وقال شيخ الإسلام في "مبسوطه ": وقصب السكر إن كان يخرج منه العسل يجب فيه العشر وإلا فلا، وقد مر الكلام هناك مستوفى م: (لأنهما يقصد بهما استغلال الأرض) ش: أي لأن قصب السكر وقصب الزريرة يقصد بهما الاستغلال فيجب فيهما العشر.
م: (بخلاف السعف والتبن، لأن المقصود الحب والتمر) ش: والسعف بفتح المهملتين وبالفاء، وهو غصون النخل، ومنه قول بعضهم: لو أسف الغراب الذئب في كل صيده ما صارت الغربان في سعف النخل.
أراد أن العشر لا يجب فيهما م: (لأن المقصود بالغرس والزراعة التمر والحب دونهما) ش: أي دون السعف والتبن.
فإن قلت: ينبغي أن يجب العشر في التبن لأنه كان واجبا وقت كون الزرع فصيلا، ثم التبن هو الفصيل ذاته إلا أنه زادت فيها اليبوسة وبها لا يتغير الواجب.
قلت: إنما لا يجب العشر في التبن لأن العشر كان واجبا قبل إدراك الزرع في الساق حتى لو فصله يجب العشر في الفصيل، فإذا أدرك تحول العشر في الساق إلى الحب.
م: (وما سقي بغرب) ش: بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وبالباء الموحدة وهو الدلو العظيم م: (أو دالية) ش: وهو المنجنون يديرها البقرة والناعورة لجذع الماء من دلوت الدلو نزعتها كذا في " الصحاح "، وفي " المهذب ": الدالية جذوع طويلة تركب مراكيب مدات الأرز في رأسه مفرقة كبيرة يسقى بها م: (أو سانية) ش: وهي الساقية التي يسقى عليها والجمع السواقي م: (ففيه نصف العشر على القولين) ش: أي على اعتبار القولين قول أبي حنيفة، وقول صاحبيه، لأن عند أبي حنيفة يجب نصف العشر من غير شرط النصاب والبقاء على أصله وعندهما كذلك، لكن بشرط النصاب والبقاء على أصلهما.(3/425)
لأن المؤنة تكثر فيه وتقل فيما سقي بالسماء أو سيحا، وإن سقي سيحا أو بدالية فالمعتبر أكثر السنة كما هو في السائمة. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما لا يوسق كالزعفران والقطن يجب فيه العشر إذا بلغت قيمته خمسة أوسق من أدنى ما يوسق كالذرة في زماننا لأنه لا يمكن التقدير الشرعي فيه، فاعتبرت قيمته كما في عروض التجارة، وقال محمد: يجب العشر إذا بلغ الخارج خمسة أعداد من أعلى ما يقدر به نوعه فاعتبر في القطن خمسة أحمال كل حمل ثلاثمائة من،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن المؤنة) ش: هي الكلفة م: (تكثر فيه) ش: أي في الذي يسقى بالغرب والدالية والسانية م: (وتقل) ش: أي المؤنة م: (فيما يسقى بماء السماء) ش: أي المطر م: (أو سيحا) ش: أو سقي سيحا وهو الماء الجاري، وانتصابه على أنه مفعول ثان كما تقول: سقي ماء فيتعدى إلى مفعولين م: (وإن سقي سيحا أو بدالية فالمعتبر أكثر السنة) .
ش: إنما ذكر المعطوف بالفاء دون المعطوف عليه، لما أن السيح اسم للماء دون الدالية، فإن الدالية آلة الاستقاء فلا يصح أن يقال وإن سقي بدالية، لأن الدالية غير منتفية بل هي آلة السقي، فلذلك ذكرها بالفاء م: (كما مر في السائمة) ش: أي المعتبر في السائمة أكثر السنة في الرعي، وبه قال عطاء والثوري ومالك وأحمد وهو أحد قولي الشافعي اعتبارا للغالب، وإن سقى نصفها بكلفة ونصفها بغير كلفة فعند مالك والشافعي وأحمد يجب ثلاثة أرباع العشر، فيؤخذ نصف كل واحد من الوظيفتين.
م: (وقال أبو يوسف فيما لا يوسق) ش: أي فيما لا يدخل تحت الوسق م: (كالزعفران) ش: فإنه بالإمناء م: (والقطن) ش: فإنه بالأحمال م: (يجب فيها العشر إذا بلغت قيمته خمسة أوسق من أدنى ما يوسق كالذرة) ش: بضم الذال المعجمة وبفتح الراء، وفي الوبري: من أراد أن يعشرها لا يوسق كالدخن والذرة م: (في زماننا) ش: وفي بعض النسخ في ديارنا.
م: (لأنه لا يمكن التقدير الشرعي فيه فاعتبرت قيمته) ش: أي لا يمكن التقدير الشرعي كالوسق. قوله -فيه- أي فيما لا يوسق فاعتبرت القيمة، فإذا بلغت قيمة ما لا يوسق فيه أدنى شيء يدخل في الوسق كالذرة يجب فيه العشر وإلا فلا م: (كما في عروض التجارة) ش: أي كما مر ذلك في نصاب الدراهم في العروض التي هي للتجارة.
م: (وقال محمد: يجب فيه العشر) ش: أي يجب العشر فيما لا يوسق م: (إذا بلغ الخارج خمسة أعداد من أعلى ما يقدر به نوعه، فاعتبر في القطن خمسة أحمال كل حمل) ش: بكسر الحاء، كذا في " المغرب " م: (ثلاثمائة من) ش: بالعراقي كذا قال أبو بكر الجصاص الرازي: وهي ستمائة رطل، والجملة ثلاثة آلاف رطل بالبغدادي، لأنك تقول: عندي أوقية ورطل ومن وقنطار، وحمل من القطن فالحمل أعلى مقاديره، قيل: كان ينبغي له أن يقدر بالقناطير.
لأن القنطار أعلى ما يتعلق به التحامل والأوقارير فيه، ولا اعتبار بالحمل فيهما م:(3/426)
وفي الزعفران خمسة أمناء لأن التقدير بالوسق كان لاعتبار أنه أعلى ما يقدر به
وفي العسل العشر إذا أخذ من أرض العشر. وقال الشافعي لا يجب لأنه متولد من الحيوان فأشبه الإبريسم، ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في العسل العشر»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وفي الزعفران) ش: أي اعتبر في الزعفران م: (خمسة أمناء) ش: إنما قال أمناء لأن مفردها منى قال الجوهري: المنى مقصور الذي يوزن به، والتثنية منوان والجمع أمناء وهو أفصح من المن، وتثنية المن منان والجمع أمنان.
م: (لأن التقدير بالوسق كان باعتبار أنه أعلى ما يقدر به) ش: أراد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتبر الوسق وهو في زمانه كان باعتبار أنه أعلى ما يقدر به المكيلات فوجب على هذا أن يعتبر في كل نوع أعلى ما يقدر به، ثم أقصى ما يقدر به القطن الحمل، فإنه يقدر أولا بالأساتير ثم بالأمناء ثم بالحمل ثم ما بعده تضعيف الحمل، وأما الزعفران فإنه يقدر أولا بالأوقية ثم بالرطل ثم بالمن ثم ما بعده تضعيف المن.
وعند مالك والشافعي وأحمد لا شيء في الزعفران والقطن، وإنما أخذ أبو يوسف في التقدير بالأدنى، لأن الغالب عنده في العشر معنى العادة، واستدل عليه بصرفه من مصارف الزكاة فكان الاحتياط في ذلك الأخذ بالأدنى، وإنما أخذ محمد بالأعلى لأن الغالب فيه عنده معنى المؤنة، واستدل عليه بوجوبه في مال الصبي والمجنون والمكاتب والمأذون المديون وأراضي الوقف فلا تبنى على الاحتياط فلا يقدر بالأدنى بالشك، والأصل براءة الذمة.
[زكاة العسل]
م: (وفي العسل العشر إذا أخذ من أرض العشر) ش: أي يجب في العسل العشر، وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز والأوزاعي والزهري وربيعة ومكحول ويحيى بن سعيد وابن وهب من المالكية وسليمان بن موسى الفقيه الأحدب الدمشقي وإسحاق وأبي عبيد وأحمد وإنما قال: إذا أخذ من أرض العشر لأنه إذا كان في أرض الخراج فلا شيء فيه، وأرض العرب كلها عشرية وهي من أول العدين والقادسية إلى آخر حجر باليمن بمهرة طولا. ومن بيرين والدهناء ورمل عالج إلى مشارف الشام عرضا. وأما أرض الخراج فسواد العراق كلها خراجية وهي ما بين العدين إلى عقبة حلوان عرضا، ومن العلت إلى عبادان طولا، وكل أرض فتحت عنوة وقهرا أو تركت على أيادي أهلها ومنَّ عليهم الإمام فإنه يضع الجزية على أعناقهم إذا لم يسلموا، والخراج على أراضيهم أسلموا أو لم يسلموا.
م: (وقال الشافعي: لا يجب) ش: فيه العشر وهو قول ابن أبي ليلى والحسن بن صالح ومالك م: (لأنه متولد) ش: أي لأن العسل متولد م: (من الحيوان فأشبه الإبريسم) ش: أي الذي يكون في دود القز وهو بكسر الهمزة وكسر الراء وفتح السين.
قال الجوهري: هو معرب م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «في العسل العشر»(3/427)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: هذا الحديث بهذا اللفظ رواه العقيلي في كتاب " الضعفاء " من طريق عبد الرزاق أخبرنا عبد الله بن محرر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في العسل العشر» وليس في " مصنف عبد الرزاق " بهذا اللفظ، وإنما لفظه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن أن يؤخذ من أهل العسل العشر» . وبهذا اللفظ رواه البيهقي من طريق عبد الرزاق، والحديث معلول بعبد الله بن محرر قال ابن حبان في كتاب " الضعفاء ": وكان من خيار عباد الله تعالى إلا أنه كان يكذب ولا يعلم ويقلب الأخبار ولا يفهم، وعبد الله بن محرر بتشديد الراء المفتوحة وتكرارها. وقال الفلاس والنسائي: متروك، وقال ابن معين: ليس بثقة.
وقال الأترازي في هذا الباب: ولنا ما روى الشيخ أبو الحسين القدوري والشيخ أبو نصر البغدادي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن بني شبابة كانوا يؤدون إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشر من عسل النحل كان نحلهم من كل عشر قرب قربة وكان يحمي واديين لهم» .
ولما كان زمان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استعمل على تلك الناحية سفيان بن عبد الله الثقفي فأبوا أن يؤدوا إليه منها وقالوا: إنا كنا نؤدي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكتب سفيان إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فكتب إليه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنما النحل ذباب غيث يسوقه الله تعالى رزقا إلى من يشاء فإن أدوا إليك ما كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاحم لهم واديهم وإلا فخل بينهم وبين الناس. فأدوا إليه ذلك وحمى لهم واديهم، ثم قال الأترازي: وذكر الحديث في السنن أيضا.
قلت: ليس الحديث في السنن هكذا، وإنما هذا الذي ذكره في " معجم الطبراني " قال: حدثنا إسماعيل بن الحسن الخفاف المصري حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن بني شبابة بطن من فهر كانوا يؤدون إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نحل كان لهم العشر من كل عشر قرب قربة، وكان يحمي واديين لهم. فلما كان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استعمل على ما هناك سفيان بن عبد الله الثقفي فأبوا أن يؤدوا إليه شيئا وقالوا: إنما كنا نؤديه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكتب سفيان إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فكتب إليه عمر: إنما النحل ذباب غيث يسوقه الله عز وجل رزقا إلى من يشاء، فإن أدوا إليك، ما كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاحم لهم أوديتهم وإلا فخل بينهم وبين الناس، فأدوا إليه ما كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحمى لهم أوديتهم.»(3/428)
ولأن النحل يتناول من الأنوار والثمار، وفيهما العشر فكذا فيما يتولد منها بخلاف دود القز، لأنه يتناول الأوراق ولا عشر فيها. ثم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب فيه العشر قل أو كثر لأنه لا يعتبر النصاب، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعتبر فيه قيمة خمسة أوسق كما هو أصله، وعنه أنه لا شيء فيه حتى يبلغ عشر قرب لحديث بني شبابة أنهم كانوا يؤدون إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن النحل يتناول من الأنوار والثمار) ش: أي الأنوار جمع نور بفتح النون وهو الزهر م: (وفيهما العشر) ش: أي في كل واحد من الثمار والأنوار العشر م: (فكذا فيما يتولد منهما) ش: أي فكذا يجب فيما يتولد من الثمار والأزهار م: (بخلاف دود القز) ش: أي الذي يتولد منه الإبريسم، وهذا جواب عما قاله الشافعي فأشبه الإبريسم، وحاصله أن يقال: لا نسلم أن القياس صحيح لأن النحل تأكل الثمر والزهر وفيهما العشر فكذا فيما يتولد منه بخلاف دود القز م: (لأنه يتناول الأوراق) ش: أي أوراق شجر التوت م: (ولا عشر فيها) ش: أي في الأوراق وكذا فيما يتولد منها وهو الإبريسم.
م: (ثم عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجب فيه) ش: أي في العسل م: (العشر قل أو كثر، لأنه لا يعتبر النصاب) ش: لإطلاق الحديث المذكور الذي رواه أبو هريرة وهو حديث الكتاب.
م: (وعن أبي يوسف أنه يعتبر فيه قيمة خمسة أوسق) ش: يعني إذا بلغ العسل قيمة خمسة أوسق ففيه العشر، وهذا ظاهر الرواية عنه، كذا قاله الإمام الأسبيجابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (كما هو أصله) ش: أي كما هو اعتبار القيمة في أصله في قيمة خمسة أوسق من أدنى ما يوسق م: (وعنه) ش: أي وعن أبي يوسف م: (أنه لا شيء فيه) ش: أي أن العسل لا شيء فيه، أي لا يجب فيه شيء م: (حتى يبلغ عشر قرب) ش: بكسر القاف جمع قربة كل قربة خمسون منا كذا في " شرح الطحاوي ".
م: (لحديث بني شبابة أنهم كانوا يؤدون إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذلك) ش: أي عشر قرب، ثم إنه وقع في بعض النسخ هكذا الحديث بني سيارة بفتح السين المهملة وتشديد الياء آخر الحروف وبعد الألف راء، وهذا تصحيف، وكذا وقع سبابة بالسين المهملة والباء الموحدة بعد الألف وهو أيضا تصحيف والصحيح بني شبابة بفتح الشين المعجمة وتخفيف الباء الموحدة وبعد الألف تاء أخرى، وفي " المغرب " ذكره في باب الشين المعجمة مع الباء الموحدة فقال: بنو شبابة قوم بالطائف من خثعم كانوا يتخذون النحل حتى نسب إليهم العسل فقيل: عسل شبابي وسبابة تصحيف يعني بالمهملة، وقال ابن ماكولا: شبابة بفتح الشين المعجمة وباء موحدة مكررة بطن من فهر، سيابة بسين مهملة بعدها ياء معجمة باثنين من تحتها وبعد الألف باء معجمة بواحدة فهو شبابة بن عاصم سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول «أنا ابن العواتك من سليم.» فقال الجوهري في فصل السين: بنو سبابة(3/429)
وعنه خمسة أمناء، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خمسة أفراق كل فرق ستة وثلاثون رطلا لأنه أقصى ما يقدر به، وكذا في قصب السكر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوم بالطائف وذكر في فصل السين المهملة والسبابة السائمة الثلخة وبه سمي الرجل، وذكر في باب الراء في فصل السين المهملة الساير القافل وقولهم أصح من عير أبي سيارة وهو أبو سيارة العدواني كان يدفع بالناس من جمع أربعين سنة على حماره.
م: (وعنه خمسة أمناء) ش: أي وعن أبي يوسف في رواية أخرى يجب إذا بلغ خمسة أمناء وهي رواية الأمالي.
م: (وعن محمد خمسة أفراق كل فرق ستة وثلاثون رطلا) ش: قال الأترازي: فيه نظر لأنه لم يذكر سائر أقوال محمد قبل هذا في المتن حتى يقول عن محمد وكان من حق الكلام أن يقول:
وقال محمد: انتهى.
قلت: في هذا النظر نظر، لأنه إنما قال: وعن محمد ليشير به إلى أن لمحمد أيضا أقوالا، فذكر عنه قولا واحدا ولم يلتزم أن يذكر الجميع، وفي " السروجي ": وعن محمد أيضا ثلاث روايات أحدها خمس قرب والقربة خمسون منا، ذكره في " الينابيع "، وفي " المغني ": القربة مائة رطل والثانية خمسة أمناء والثالثة خمسة أفراق، قال السروجي وهي أربعون منا، والفرق ستة وثلاثون رطلا والفرق بفتحتين، قال الأزهري: النحويون على السكون وكلام العرب على التحريك.
وفي " التكملة ": وفرق بينهما في " المغني " فقال: الفرق بسكون الراء من الأواني والمقادير ستة عشر رطلا وبالفتح مكيال يأخذ ثلاثين رطلا وقيل بالسكون مائة وعشرون رطلا، وقيل بالسكون أربعة أرطال، وذكر النسفي أنه ستة وثلاثون رطلا، ومثله عن القاضي من الحنابلة.
وفي " الصحاح ": الفرق بالسكون وقد يحرك والأفراق هو الذي يجمع فرق يدل على تحريك الراء في المفرد، لأن الفرق بالسكون يجمع على أفرق وفروق م: (لأنه أقصى ما يقدر به) ش: أي لأن الفرق أعلى ما يقدر به في هذا الموضع وعند أحمد نصاب العسل عشر أواق وهو قول الزهري ويروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (لأنه أقصى ما يقدر به) ش: أي لأن الفرق أعلى ما يقدر به في هذا الموضع.
م: (وكذا في قصب السكر) ش: قال الأترازي: يعني أن في السكر يعتبر خمسة أمناء عند محمد، وعند أبي يوسف خمسة أوسق كما في الزعفران كذا ذكره الحاكم الشهيد والجصاص والإمام والأسبيجابي وغيرهم مذهب أبي يوسف ومحمد في السكر قال: وهو على هذا البيان عطف على قوله - كالزعفران والقطن- أي حكم بين أبي يوسف ومحمد في قصب السكر كما في الزعفران والقطن انتهى.(3/430)
وما يوجد في الجبال من العسل والثمار ففيه العشر. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجب لانعدام السبب وهي الأرض النامية، وجه الظاهر أن المقصود حاصل وهو الخارج،
قال: وكل شيء أخرجته الأرض مما فيه العشر لا يحتسب فيه أجر العمال ونفقة البقر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: عطفه على الأقرب هو الأصل، والمعنى: وكذا أقصى ما يقدر به في السكر الذي هو ستة وثلاثون رطلا.
م: (وما يوجد في الجبال من العسل والثمار ففيه العشر) ش: ذكره محمد في كتاب الزكاة وهي رواية أسد بن عمرو م: (وعن أبي يوسف أنه لا يجب) ش: كذا ذكره في الإملاء وبه قال الحسن بن زياد م: (لانعدام السبب) ش: أي سبب الوجوب م: (وهي الأرض النامية) ش: الأولى أن يقال السبب ملك الأرض ولم يوجد.
م: (وجه الظاهر) ش: أي ظاهر الرواية وهو الوجوب م: (أن المقصود حاصل وهو الخارج) ش: مجرد الخارج لا يكفي للوجوب لأنه مباح كالصيد والحشيش.
[احتساب أجرة العمال في زكاة ما تخرجه الأرض]
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير ": م: (وكل شيء أخرجته الأرض مما فيه العشر لا يحتسب فيه أجر العمال) ش: بضم العين وتشديد الميم جمع عامل م: (ونفقة البقر) ش: وغيرها مثل كري الأنهار وإصلاح الأرض، وبه قال الشافعي.
قال في الوبري وغيره لا يعتد بصاحب الأرض لما أنفق على الغلة من سقي ولا عمارة ولا أجرة حافظ ولا أجرة عامل ولا نفقة البقر، ويجب العشر أو نصفه في جميع الخارج، وأجمعوا على أن ما تلف أو سرق أو ذهب بغير صنعة لا غرم عليه في ذلك، وقال مالك: لو أتلفت الجائحة جميع الخارج فلا ضمان عليه، وفي " المحيط " و" جوامع الفقه " والمرغيناني لا يأكل شيئا من طعام العشر حتى يؤدي عشره، ولو أكل ضمن عشره، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يضمن لكن يكيل به النصاب، وعنه يترك له ما يكفيه وعياله.
وفي " خزانة الأكمل ": لا يجب على صاحب الأرض ما أطعم عياله، وجيرانه وهداياه، وما بقي ففيه العشر إن بلغ خمسة أوسق وفي " شرح مختصر الكرخي "، وروى الفضل بن غانم عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن ما أكل وأطعم بالمعروف اعتد به في تكميل الأوسق لم يلزمه عشره، وعن محمد يعتبر ذلك من تسعة أعشاره.
قال الشافعي: لا يجوز للمالك أن يتصرف في الثمار قبل الخرص بأكل ولا بيع، فإن أكل غرم وعزر مع العلم وإلا غرم. وقال أحمد: يجوز له الأكل بقدر الثلث أو الربع، ولو خرصه الخارص ترك ذلك، وفي " ذخيرة المالكية ": ولا يجب المأكول من الثمرة في الخرص.
وفي " شرح الموطأ " للقرطبي: أنه مذهب مالك وزفر كمذهب أبي حنيفة أن ما يأكله من(3/431)
لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم بتفاوت الواجب بتفاوت المؤنة فلا معنى لرفعها.
قال: تغلبي له أرض عشر فعليه العشر مضاعفا، عرف ذلك بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثمرة والزرع محسوب عليه، وأن مذهب الشافعي كذلك كمذهب أحمد وهو قول الليث.
وفي المرغيناني و" جوامع الفقه ": أن مؤنة حمل العشر على السلطان دون رب الأرض ولا يخرص الرطب والعنب وغيرهما من الثمار والزروع عندنا. وقال الشعبي والثوري: الخرص بدعة.
وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هو سنة في الرطب والعنب ولا خرص في الزرع وهو قول مالك وأحمد، وقال أبو عمر بن عبد البر: ذكر أصحاب الإملاء عن محمد بن الحسن أنه يخرص الرطب تمرا والعنب زبيبا، وقال السروجي: لم يذكر أصحابنا هذا القول عن محمد فيما علمته.
قلت: يمكن أن يكونوا ذكروه فيما علم غيره، والخروص عند بدء صلاح الثمار يقول الخارص: خرصها كذا وكذا رطبا أي حزرها، ويجيء منه كذا وكذا ثم ذكره النووي، ويكتفى بخارص واحد عندهم بمنزلة الحاكم. وفي قول الشافعي لا بد من عدلين كالحكمين المقومين في المتلفات.
م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم بتفاوت الواجب بتفاوت المؤنة) ش: يعني أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين يتفاوت الواجب وهو العشر تتفاوت المؤنة وهو العشر في قوله ما سقته السماء ... الحديث، ولو أحسبه الأجرة والنفقة لدخل التفاوت في خبر الارتفاع، وكان في ذلك تجويزا لنفي ما أثبت الشرع وأنه ممتنع م: (فلا معنى لرفعها) ش: أي لرفع المؤنة لأنها إذا رفعت يبقى الواجب متفقا لا متفاوتا وهو خلاف الخبر.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - م: (تغلبي) ش: أي شخص تغلبي بكسر اللام منسوب إلى بني تغلب قال الأترازي: أما في حال النسبة يجوز فتح لامها وكسرها، والأفصح الكسر، وقد عرف في علم التصريف، انتهى.
قلت: إذا كان الحرف الثاني من الاسم الذي ينسب إليه ساكنا الأفصح هنا الكسرة كما في تغلب، فإنه يجوز فيه الفتح، لأن الساكن فيه كالمعدوم فصار كتمر يقال فيه: تمري بالفتح، وقد ذكرنا أن بني تغلب قوم من النصارى بقرب الروم م: (له أرض عشر فعليه العشر مضاعفا) ش: أي حال كونه مضاعفا.
م: (عرف ذلك بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: وهو إجماع سكوتي وذلك أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقرهم على التضعيف حيث قالوا: يلحقنا العار بأداء الجزية، وكان ذلك بمحضر من الصحابة فاستقر الأمر عليه.(3/432)
وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن فيما اشتراه التغلبي من المسلم عشرا واحدا لأن الوظيفة عنده لا تتغير بتغير المالك، فإن اشتراها منه ذمي فهي على حالها عندهم لجواز التضعيف عليه في الجملة كما إذا مر على العاشر وكذا إذا اشتراها منه مسلم أو أسلم التغلبي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - سواء كان التضعيف أصليا أو حادثا لأن التضعيف صار وظيفة لها فتنتقل إلى المسلم بما فيها كالخراج. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعود إلى عشر واحد لزوال الداعي إلى التضعيف. قال في الكتاب: وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما صح عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن فيما اشتراه التغلبي من المسلم عشرا واحدا) ش: انتصاب عشرا على أنه اسم أن وخبره مقدما وهو قوله -فيما اشتراه- م: (لأن الوظيفة عنده) ش: أي لأن وظيفة الأرض عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لا تتغير بتغير المالك) ش: كالخراج في الأرض الخراجية إذا اشتراها مسلم، وهذه رواية عنه. وفي بعض الكتب أنه يضاعف عليه العشر كما هو مذهبهما.
م: (فإن اشتراها منه) ش: أي من التغلبي م: (ذمي فهي على حالها) ش: أي الأرض على حالها من التضعيف م: (عندهم) ش: أي عند أصحابنا الثلاثة م: (لجواز التضعيف عليه، في الجملة) ش: أي على الذمي أي يجوز التضعيف على ذمي غير تغلبي في الجملة م: (كما إذا مر على العاشر) ش: فإنه يؤخذ منه نصف العشر، ومن المسلم ربع العشر، والنصف ضعف الربع.
م: (وكذا إن اشتراها منه) ش: أي من التغلبي م: (مسلم) ش: فالأرض العشرية على حالها من التضعيف م: (أو أسلم التغلبي) ش: يعني الأرض على حالها من التضعيف م: (عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سواء كان التضعيف أصليا) ش: بأن ورثها التغلبي عن آبائه كذا أو تداولته الأيدي من الشراء كذلك.
م: (أو حادثا) ش: يعني عارضا، بأن اشتراها من المسلم م: (لأن التضعيف صار وظيفة لها) ش: أي للأرض م: (فتنتقل إلى المسلم بما فيها كالخراج) ش: وإن كان فيه معنى العقوبة، لأن الإسلام لا ينافي العقوبة كالحدود، وذكر أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أحكام القرآن " عن عمر وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخذ الخراج ممن أسلم وقام على أرضه.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعود إلى عشر واحد لزوال الداعي إلى التضعيف) ش: وهو الكفر أي لأن التضعيف كان بسبب الكفر وقد زال.
م: (قال في الكتاب) ش: أي قال شمس الأئمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب الزكاة في " المبسوط " م: (وهو) ش: أي العشر الواحد م: (قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما صح عنه) ش: أي في القول الصحيح عنه، أي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأن التضعيف الحادث لا يتصور عنده، فإن التغلبي إذا اشترى من مسلم يجب عشرا واحدا.(3/433)
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اختلفت النسخ في بيان قوله. والأصح أنه مع أبي حنيفة في بقاء التضعيف إلا أن قوله لا يتأتى إلا في الأصلي، لأن التضعيف الحادث لا يتحقق عنده لعدم تغير الوظيفة، ولو كانت الأرض لمسلم باعها من نصراني يريد به ذميا غير تغلبي وقبضها فعليه الخراج عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأنه أليق بحال الكافر وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عليه العشر مضاعفا ويصرف مصارف الخراج اعتبارا بالتغلبي وهذا أهون من التبديل. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هي عشرية على حالها، لأنه صار مؤنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (اختلفت النسخ) ش: أي نسخ " المبسوط " أو " الجامع " م: (في بيان قوله) ش: أي قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ففي " مبسوط شمس الأئمة " ذكر قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي حنيفة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم قال: وذكر في رواية أبي سليمان المسألة بعد هذا وذكر قول محمد مع أبي يوسف.
م: (والأصح أنه مع أبي حنيفة في بقاء التضعيف) ش: أي تضعيف العشر م: (إلا أن قوله) ش: أي قول محمد م: (لا يتأتى إلا في الأصلي) ش: أي في التضعيف الأصلي م: (لأن التضعيف الحادث لا يتحقق عنده) ش: أي عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لعدم تغير الوظيفة) ش: أي لأن الوظيفة إذا استقرت في شيء لا تتغير من وصف إلى وصف وهو اختيار الكرخي وهو الأصح.
م: (ولو كانت الأرض) ش: أي الأرض العشرية م: لمسلم باعها من نصراني يريد به ذميا غير تغلبي وقبضها) ش: أي قبض النصراني الأرض يبطل العشر، فإذا بطل م: (فعليه الخراج عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه) ش: أي لأن الخراج م: (أليق بحال الكافر) ش: لأن الكفر ينافي أداء العبادة بخلاف الخراج، لأن الإسلام لا ينافي العقوبة.
م: (وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عليه العشر) ش: حال كونه م: (مضاعفا) ش: لأنه أهل للتضعيف م: (ويصرف) ش: أي العشر المضاعف م: (مصارف الخراج) ش: أي إلى أرزاق المقاتلة ورصد الطريق ونحو ذلك على ما يجيء في باب العشر والخراج إن شاء الله تعالى، وذلك لأنه إنما يصرف ما كان لله تعالى بطريق العبادة ومال الكافر لا يصح لذلك فيوضع موضع الخراج.
م: (اعتبارا بالتغلبي) ش: لأن التضعيف وظيفة فلا يتغير م: (وهذا) ش: أي التضعيف م: (أهون من التبديل) ش: لأنه في الوصف والخراج واجب آخر عند الشافعي بالإخراج عليه، لأنه لم يكن من الأرض ولا عشر أيضا لعدم أهليته، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يصح البيع.
وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هي عشرية على حالها م: (لأنه صار مؤنة لها) ش: أي لأن العشر صار مؤنة للأرض، لأن العشر مؤنة فيها شبه العبادة فلا تجب على الكافر ابتداء ولا تبطل عند(3/434)
لها فلا تتبدل كالخراج ثم في رواية يصرف مصارف الصدقات، وفي رواية مصارف الخراج، فإن أخذها منه مسلم بالشفعة أو ردت على البائع لفساد البيع فهي عشرية كما كانت، أما الأول فلتحول الصفقة إلى الشفيع كأنه اشتراها من المسلم، وأما الثاني فلأنه بالرد والفسخ بحكم الفساد جعل البيع كأن لم يكن، ولأن حق المسلم لم ينقطع بهذا الشراء لكونه مستحق الرد.
قال: وإذا كانت لمسلم دار خطة فجعلها بستانا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بقاء وهو معنى قوله م: (فلا تتبدل كالخراج) ش: على المسلم م: (ثم في رواية) ش: على قول محمد وهي رواية السير الكبير م: (يصرف) ش: أي هذا العشر م: (مصارف الصدقات) ش: لتعلق حق الفقراء به كتعلق حق المقاتلة بالأراضي الخراجية.
م: (وفي رواية) ش: عن محمد هي رواية ابن سماعة عنه م: (يصرف مصارف الخراج) ش: لأنه إنما يصرف إلى الفقراء ما كان لله تعالى بطريق العبادة، ومال الكافر لا يصلح لذلك فيوضع موضع الخراج كمال أخذه العاشر من أهل الذمة كذا في " الإيضاح ".
م: (فإن أخذها منه مسلم) ش: أي وإن أخذ الأرض العشرية مسلم من النصراني الذي اشتراها من مسلم م: (بالشفعة) ش: أي بسبب الشفعة بأن باع هذا النصراني هذه الأرض العشرية وأخذها مسلم منه بحق الشفعة م: (أو ردت) ش: تلك الأرض م: (على البائع) ش: وهو مسلم م: (لفساد البيع) ش: فهي عشرية كما كانت أولا وبطل الخراج أو التضعيف.
م: (أما الأول) ش: وهو صورة الأخذ بالشفعة م: (فلتحول الصفقة) ش: أي العقد م: (من المشتري النصراني) ش: إلى الشفيع م: (وهو المسلم كأنه اشتراها من المسلم) ش: أي المسلم اشتراها ابتداء.
م: (وأما الثاني) ش: وهو صورة الرد بالفساد (فلأنه بالرد) ش: أي برد البيع م: (والفسخ) ش: أي وفسخه م: (بحكم الفساد جعل البيع كأن لم يكن) ش: في الأولى م: (ولأن حق المسلم) ش: وهو البائع م: (لم ينقطع بهذا الشراء لكونه مستحق الرد) ش: لوقوعه فاسدا فلا خراج ولا تضعيف إذن. وذكر التمرتاشي كذا لو رد على البائع بخيار، وكذا إذا كان الرد بالعيب بقضاء فإنها تعود كما كانت لزوال المانع قبل تقرره، ولو كان الرد بلا قضاء أو باعها من مسلم أو أسلم بقيت خراجية لأن الإسلام لا يدفع الخراج.
م: (قال) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإذا كان لمسلم دار خطة) ش: فإضافة الدار إلى الخطة للبيان، كما في قولك خاتم فضة. قال السغناقي: كذا كان مقيدا بخط شيخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويجوز نصب خطة بالتمييز عن اسم تام بالتنوين كما في عندي راقود خلا، انتهى كلامه.
والخطة بالكسر هو المكان الذي اختط البناء دارا وغير ذلك من العمائر م: (فجعلها بستانا)(3/435)
فعليه العشر، معناه إذا سقاه بماء العشر، أما إذا كانت تسقى بماء الخراج ففيها الخراج، لأن المؤنة في هذا تدور مع الماء وليس على المجوسي في داره شيء، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل المساكن عفوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: البستان كل أرض يحوطها حائط، وفيها نخيل متفرقة وأشجار م: (فعليه العشر معناه إذا سقاه بماء العشر، وأما إذا كانت تسقى بماء الخراج) ش: كأنهار الأعاجم م: (ففيها الخراج لأن المؤنة) ش: أي الكلفة م: (في مثل هذا تدور مع الماء) .
ش: لأن النماء يحصل به. قال الإمام الزاهد العتابي: هذا مشكل لأن هذا إيجاب الخراج على المسلم ابتداء، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي في " الجامع الصغير ": أن عليه العشر بكل حال وهو الأظهر، فإن سقاه مرة من ماء العشر ومرة من ماء الخراج ففيه العشر، لأنه أحق بالعشر من الخراج وإن سقى بسيحون أو جيحون أو دجلة أو الفرات فعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خراجي، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عشري.
وقال الأترازي: الجواب عن الإشكال المذكور أن وضع الخراج على المسلم ابتداء بطريق الجبر لا يجوز، أما إذا كان اختاره المسلم فيجوز ذلك، وقد اختاره حيث سقاه بماء الخراج، ألا ترى أن المسلم إذا أحيا أرضا ميتة بإذن الإمام وسقاها بماء الخراج يجب عليه الخراج، كذا هذا.
قلت: هذا الجواب ليس لشمس الأئمة.
م: (وليس على المجوسي في داره شيء) ش: إنما خص المجوسي بالذكر، وإن كان الحكم في اليهودي، والنصراني كذلك، لأن المجوسي أبعد عن الإسلام بسبب حرمة نكاح نسائهم وذبائحهم، فإذا لم يجب في دار المجوسي والحالة هذه فأولى أن لا يجب في دارهما كذا في " الفوائد الظهيرية " م: (لأن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل المساكن عفوا) ش: هذا غريب، لكن ذكر أبو عبيد في " كتاب الأموال " أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل الخراج على الأرضين التي تعمل من ذوات الحب الثمار التي تصلح للغلة وعطل من ذلك المساكن والدور التي هي منازلهم، ولم يجعل فيها شيئا ذكره بغير سند.
وقال شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما خص المجوسي بالذكر، لأنه قيل لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إن المجوسي كثير بالسواء، فقال: أعياني أمراء المجوس وفي القوم عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم» فلما سمع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بذلك أمر عماله، أن تمسح أراضيهم ويوظفوا عليها الخراج بقدر الطاقة، وعفا عن رقاب دورهم وعن رقاب الأشجار فيها فلما ثبت العفو في حقهم مع كونهم أبعد عن الإسلام ثبت في حقهما بالطريق الأولى.(3/436)
وإن جعلها بستانا فعليه الخراج. وإن سقاها بماء العشر لتعذر إيجاب العشر إذ فيه معنى القربة فتعين الخراج وهو عقوبة تليق بحاله وعلى قياس قولهما يجب العشر في الماء العشري إلا أن عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عشر واحد، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عشران وقد مر الوجه فيه، ثم الماء العشري ماء السماء والآبار والعيون والبحار التي لا تدخل تحت ولاية أحد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن جعلها بستانا) ش: أي وإن جعل المجوسي دار خطة بستانا م: (فعليه الخراج) ش: لأنها صارت نامية كما لو جعل العلوفة سائمة، ثم عليه الخراج سواء سقاها بماء الخراج أو بماء العشر، لأن الكفر منافي العبادة بخلاف المسلم إذا جعل داره بستانا يعتبر الماء، لأن الإسلام لا ينافي العقوبة فاستقام توظيف الخراج عليه م: (وإن سقاها بماء العشر) ش: واصل بما قبله، وقد ذكرنا الآن سواء سقاها بماء العشر أو بماء الخراج م: (لتعذر إيجاب العشر إذ فيه معنى القربة) ش: أي لأن في العشر معنى القربة وإذا كان كذلك.
م: (فتعين الخراج وهو عقوبة تليق بحاله) ش: أي بحال المجوسي وقيد بقوله جعل داره بستانا، فإنه إذا لم يجعلها بستانا ولكن فيها أشجارا تخرج أكرارا من التمر فهي في حكم الدار، وليس فيها شيء كذلك في " المبسوط "، وفي " فتاوى قاضي خان " وعليه إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (وعلى قياس قولهما) ش: أي قول أبي يوسف ومحمد وهو جواز إيجاب العشر على الكافر في الأرض العشرية م: (يجب العشر في الماء العشري) ش: يعني الماء الذي يسقى به الأرض العشرية م: (إلا أن عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عشر واحد) ش: أي يجب عشر واحد.
م: (وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عشران) ش: أي يجب عشران م: (وقد مر الوجه فيه) ش: أي وجه هذا من الجانبين قد مر وهو الذمي إذا اشترى من مسلم أرضا عشرية وجب عند أبي يوسف عشران وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عشر واحد، وقد مرت روايتان أيضا في المصرف في رواية يصرف إلى مصارف الخراج، وفي رواية يصرف في مصارف العشر.
م: (ثم الماء العشري ماء السماء، والآبار، والأنهار، والعيون، والبحار التي لا تدخل تحت ولاية أحد) ش: هذا بيان للمياه أنها على نوعين، مياه عشرية، ومياه خراجية، فقوله: -ثم الماء العشري- إلى قوله: -ولاية أحد- بيان للمياه العشرية، فالماء تابع للأرض، فإن كانت الأرض عشرية فالماء الخارج منها عشري وإن كان خراجية فالماء الخارج منها خراجي بقوله -ماء السماء- وهو المطر، فإن كل ماء ينزل على الأرض العشرية يعد من المياه العشرية، وإن كان ينزل على الأرض الخراجية يعد من المياه الخراجية.
قوله -والآبار- أي الآبار التي حفرت في الأراضي العشرية، والعيون التي ظهرت في الأراضي العشرية، وفي " المحيط ": بئر حفرت في الأرض العشري وعين ظهرت في أرض(3/437)
والماء الخراجي ماء الأنهار التي شقها الأعاجم وماء جيحون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العشر كان الماء فيها عشريا تابعا للأرض، وفي الأرض الخراجية كذلك يتبع الأراضي.
م: (والماء الخراجي ماء الأنهار التي شقها الأعاجم) ش: هي الأنهار الصغار التي في بلاد العجم مثل نهر المالك ونهر يزدجرد ونهر مرو لأن مثل هذه الأنهار ماء الخراجي فصار ماؤها خراجيا وصارت الأرض خراجية تبعا للماء كذا في " مبسوط فخر الإسلام ".
ثم اعلم أن الأراضي العشرية ستة:
الأولى: أرض العرب كالحجاز واليمن ونحوهما.
الثانية: أرض أسلم أهلها على ذلك طوعا.
الثالثة: أرض فتحت عنوة وقسمت بين الغانمين.
الرابعة: أرض أحييت وسقيت بماء العشر.
الخامسة: الأرض الخراجية انقطع عنها ماء الخراج فسقيت بماء عشري.
السادسة: جعل داره بستانا وسقاها بماء العشر.
والأرض الخراجية ثمان.
الأولى: الأرض التي فتحت عنوة وتركت في أيديهم بالخراج المصروف عليها كما فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أرض سواد العراق ومصر.
والثانية: أرض أحياها كافر ذمي بإذن الإمام، أو قاتل فرضخ له الإمام ذكره وفي " التحفة ".
والثالثة: جعل داره بستانا وقد سقاها بماء العشر.
والرابعة: طلب بعض الكفار من الإمام أن يضرب على أراضيهم خراجا من غير قهر.
والخامسة: أرض أحييت بماء الخراج.
والسادسة: أرض اشتراها مسلم من كافر.
والسابعة: الأرض العشر إذا انقطع عنها ماء العشر فسقيت بماء الخراج.
الثامنة: لمسلم دار فجعلها بستانا وسقاها بماء الخراج وقد تقدم ذكر ذلك كله في " الولوالجي " وغيره.
م: (وماء جيحون) ش: قال الأترازي: ماء جيحون اسم لنهر بلخ.(3/438)
وسيحون ودجلة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال السغناقي: نهر ترمذ بكسر التاء والذال المعجمة وتبعه الأكمل في ذلك.
قلت: قال صاحب " المرآة ": هو نهر بلخ ومنبعه من عيون من بلاد التبت، نهر بلخ وترمذ وأسوان ويمضي حي يصب في بحر جرجان، ومقدار جريانه، على الأرض ثلاثمائة فرسخ.
وقال الإصطخري في كتابه: إن نهر جيحون يخرج عن حدود بدخسان ثم ينضم إليه أنهار كثيرة في حدود الجبل ووحش فيصير نهرا عظيما ثم يمر على بلاد كثيرة حتى يصل إلى خوارزم ولا ينتفع به شيء من البلاد إلا خوارزم ثم يصب في بحيرة خوارزم التي بينها وبين خوارزم ستة أيام، وتقويم البلد أن جيحون يقال: لها جيهان، وتسمية العامة جاهان، فأصلها من بلاد الروم، ويسير في بلاد سيس من الشمال إلى الجنوب، وهو مقارب الفرات في القدر ثم يجتمع هو وسيحون وعدادية فيصبان في بحر الروم.
م: (وسيحون) ش: قال الأترازي: سيحون اسم نهر الترك، قال السغناقي: هو نهر خجند. وقال الجوهري: ويقال له سيحان وسياحين فسيحون اسم لنهر بالهند، وسيحان نهر بالشام وسياحين نهر بالبصرة، وقال غيره: يخرج سيحون من جبال باسيدان وينتهي إلى بلاد الملتان ومسيره بروح الذهب ثم ينتهي إلى البصرة، ثم يصب في البحر الشرقي، مقدار جريانه على وجه الأرض ستمائة فرسخ، والتماسيح في خلجانه على ما ذكره الجاحظ، وفي تقديم البلدان أن سيحون أوله من بلاد الروم يجري من الشمال والغرب إلى الجنوب والشرق، وهو غربي، ونهر جيحون دونه في القدر وهو ببلاد الأرمن التي تعرف اليوم ببلاد سيس، ثم يجتمع سيحون وجيحون عند أرمن فيصيران نهرا واحدا ثم يصبان في بحر الروم بين إياس وطرسوس. وروينا حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة» . م: (ودجلة) ش: قال الأترازي: دجلة اسم لنهر بغداد، وكذا قال غيره.
قلت: مخرجه من أصل جبل بقرب أمد عند حصن ذي القرنين، وكلما امتد يضم إليه مياه جبال ديار بكر وأن يخاض فيه بالدواب ثم يمتد إلى فارقين ثم إلى حصن كيفا ثم إلى جزيرة ابن عمر ثم إلى الموصل وينصب فيه الزابان، وهما نهران يسمى كل منهما الزاب، ومنهما يعظم ثم إلى بغداد ثم إلى واسط ثم إلى البصرة ثم ينصب في بحر فارس، ويحمل من دجلة عدة أنهار، منها القاطول ثم الدجيل ونهر الدين ونهر سيرين ونهر الأيلة ونهر معقل.(3/439)
والفرات عشري عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا يحميها أحد كالبحار وخراجي عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنها يتخذ عليها القناطر من السفن وهذا يدل عليها.
وفي أرض الصبي والمرأة التغلبيين ما في أرض الرجل التغلبي يعني العشر المضاعف في العشرية والخراج الواحد في الخراجية، لأن الصلح قد جرى على تضعيف الصدقة دون المؤنة المحضة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والفرات) ش: وهو نهر مشهور يخرج من جبل ببلاد الروم يقال له: أقروخس بينه وبين باقلا مسيرة يوم وقيل: يخرج من أطراف أرمينة ثم يمر بأرض ملطية على مسيرة ميلين منها ثم يمر على سمياط وقلعة الروم والبيرة وجزمنلج وقلعة جعبر والرقبة والرجة وبحر مليسيا وبحامة والحديبية وبتيب والأنباط ثم يمر بالطفوف ثم بحلب ثم بالكوفة وينتهي إلى البطائح وينصب إلى البحر الشرقي، وقالوا: مقدار جريانه على وجه الأرض أربعمائة فرسخ، وهذه الأنهار لم تعمل فيها الأيدي، وقيل: إن دانيال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حفر الفرات ودجلة.
م: (عشري) ش: مرفوع لأنه خبر المبتدأ وهو قوله - وماء جيحون - م: (عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا يحميها أحد كالبحار) ش: ومياه العيون والأمطار م: (وخراجي عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنها يتخذ عليها القناطر من السفن وهذا يدل عليها) ش: أي إثبات يد عليها وولاية وخلافهما مبني على أنه هل تقع عليها الأيدي؟ وهل تدخل تحت ولاية أحد؟ فعند أبي يوسف نعم وعند محمد لا.
م: (وفي أرض الصبي والمرأة التغلبيين ما في أرض الرجل التغلبي) ش: يعني يجب في أرض الصبي التغلبي والمرأة التغلبية ما يجب في أرض الرجل، ثم أوضح معنى قوله -ما في أرض الرجل- بقوله م: (يعنى العشر المضاعف في العشرية) ش: يعني في الأرض العشرية م: (والخراج) ش: بالنصب يعني الخراج الواجب م: (في الخراجية) ش: يعني في الأرض الخراجية.
م: (لأن الصلح) ش: أي صلح عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ما سئل م: (قد جرى على تضعيف الصدقة) ش: أي على تضعيف ما يجب على المسلمين من العبادة أو ما فيه معناها م: (دون المؤنة المحضة) ش: أي الخالية عن معنى العبادة وأراد بها الخراج لأنها مؤنة ليس فيها معنى العبادة وذلك أن صلح عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقع مع بني تغلب في تضعيف الصدقة دون الخراج، فلهذا يؤخذ من صبيانهم ونسائهم صدقة مضاعفة وخراج واحد.
فإن قيل: الصبي التغلبي والمرأة التغلبية إذا مرا على العاشر يأخذ من المرأة دون الصبي فكيف يؤخذ من الصبي التغلبي في أرضه صدقة مضاعفة؟
قيل له: لا تعتبر الأهلية للمالك في العشر والخراج حتى يجب في الأراضي الموقوفة، وأراضي الصبيان والمجانين بخلاف الزكاة. حيث يعتبر فيها الأهلية للمالك والعاشر يأخذ(3/440)
ثم على الصبي والمرأة إذا كانا من المسلمين العشر فيضعف ذلك إذا كانا منهم.
قال وليس في عين القير والنفط في أرض العشر شيء لأنه ليس من إنزال الأرض، وإنما هو عين فوارة كعين الماء، وعليه في أرض الخراج خراج، وهذا إذا كان حريمه صالحا للزراعة، لأن الخراج يتعلق بالتمكن من الزراعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزكاة ولا زكاة على الصبي م: (ثم على الصبي والمرأة إذا كانا من المسلمين العشر) ش: أي يجب العشر م: (فيضعف ذلك) ش: أي العشر م: (إذا كانا منهم) ش: أي من بني تغلب.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وليس في عين القير) ش: بكسر القاف وهو الزفت، ويقال له القار أيضا م: (والنفط) ش: بفتح النون وكسرها، وهو الأصح وهو دهن يكون على وجه الماء في العين وفي " المبسوط ": لا شيء في القير والنفط والملح لأنها فوارة كالماء.
م: (في أرض العشر شيء لأنه ليس من إنزال الأرض) ش: هو جمع نزل بضم النون وسكون الراء، ونزل الأرض ريعها وهو ما يحصل منها وعين بها الأرزاق كالحنطة ونحوها، والنفط عين تفور كعين الماء ولا عشر في الماء فكذا في القير والنفط وهو معنى قوله م: (وإنما هو) ش: أي النفط م: (عين فوارة) ش: من فارت القدر وهي صيغة مبالغة وشبه فورانها بفوران الماء الذي يخرج من العين وهو معنى قوله م: (كعين الماء) ش: الذي يفور حتى يخرج منها م: (وعليه في أرض الخراج خراج) ش: الضمير في عليه يحتمل مرجعه وجهين.
أحدهما: أن يرجع إلى النفط يعني عين النفط والقير بأن يمسح موضع القير والنفط حريمة صالحة للزراعة لأن الخراج يتعلق بالتمكن من الزراعة فيكون موضع النفط والقير تابعا للأرض، وهو اختيار بعض المشايخ.
والآخر: أن يرجع إلى الرجل الذي تدل عليه القرينة، أي وعلى الرجل في عين النفط والقير في أرض الخراج خراج.
م: (وهذا الذي ذكرناه إذا كان حريمه) ش: أي حريمه عين النفط والقير م: (صالحا للزراعة لأن الخراج يتعلق بالتمكن من الزراعة) ش: وروى ابن سماعة، عن محمد لا يمسح موضع العين، لأنه لا يصلح للزراعة وهو مختار أبي بكر الرازي، ومنهم من قال: لا خراج فيها وعلى ما حولها، لأنها كالأرض السبخة فلا تصلح للزراعة فلا شيء فيه، والله أعلم.(3/441)
باب من يجوز دفع الصدقات إليه ومن لا يجوز قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] (التوبة: الآية 60) فهذه ثمانية أصناف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب من يجوز دفع الصدقات إليه ومن لا يجوز] [الفقير والمسكين من مصارف الزكاة] [الفرق بين الفقير والمسكين]
م: (باب من يجوز دفع الصدقات إليه ومن لا يجوز) ش: أي هذا باب في بيان من يجوز دفع الزكاة إليه ومن لا يجوز دفعها إليه، لما فرغ من بيان أنواع الزكاة وبيان المعدن والركاز، شرع في بيان مصارفها ممن هو منها وممن ليس منها.
وقال تاج الشريعة: لما فرغ من بيان السبب وقدر الواجب والنصاب المطلق والمقيد شرع في بيان مصارفها، ولم يقدم صدقة الفطر للتفاوت في مصرفها، فإن صدقة الفطر يجوز دفعها إلى الذمي.
م: (الأصل فيه) ش: أي من يجوز الصرف إليه م: (قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الآية (التوبة: آية60)) ش: يجوز في الآية الرفع والنصب، أما الرفع فعلى الابتداء وخبره محذوف، وتقديره الآية بتمامها، وأما النصب فعلى المفعولية، والتقدير اقرأ الآية.
قوله: إنما، كلمة حصر وقصر، والقصر تخصيص أحد الأمرين بالآخر وحصره فيه، قال علماء المعاني والبيان: إنما لحصر الشيء في الحكم كقولك إنما زيد منطلق، أو لحصر الحكم في الشيء، كقولك إنما المنطلق زيد، لأن كلمة إن للإثبات، وما للنفي ليقتضي إثبات المذكور ونفي ما عداه، ومعنى الآية، والله أعلم: الصدقات للأصناف المذكورة لا لغيرهم، كقولك: إنما الخلافة لقريش أي لهم لا لغيرهم، ثم ذكر الأربعة الأولى باللام والأربعة الأخيرة بفي للأبدان بأنه أرجح في استحقاق التصدق عليهم بمن استحق ذكره لأن في الرعاية على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر.
قلت: وفي الغارمين من الغرم من التخليص والإبعاد، جمع الغارم الفقير والمنقطع في الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل فيه فضل وترجيح لهذين على الرقاب، والغارمين. م: (فهذه ثمانية أصناف) ش: أي المذكورون في الآية الكريمة ثمانية أصناف، وهو جمع صنف بكسر الصاد. قال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الصنف النوع والضرب. والصنف بالفتح لغة فيه.
فإن قلت: الصدقات جمع قلة والفقراء والمساكين جمع كثرة فكيف يناسب قسمة القليل على الكثير.
قلت: جمع القلة إذا دخله لام التعريف كان للكثرة والاستغراق، وأيضا جمع القلة يستعمل للكثرة وبالعكس قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ} [لقمان: 27] .(3/442)
وقد سقط منها المؤلفة قلوبهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقوله: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] م: (وقد سقط منها) ش: أي من الثمانية أصناف، م: (المؤلفة قلوبهم) ش: وهم ثلاثة عشر رجلا ذكرهم الحافظ أبو موسى محمد بن أبي بكر المديني في "أماليه" عند ذكر عدي بن قيس، وهم: أبو سفيان بن حرب من بني أمية، والحارث بن أبي هشام، وعبد الرحمن بن يربوع من بني مخزوم، وحكيم بن حزام بن خويلد من بني أسد بن عبد العزى، وصفوان بن أمية من بني جمح، وعدي بن قيس من بني سهم، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى بن عامر بن لؤي، والعلاء بن جارية من ثقيف، والعباس بن مرداس من بني سليم، وعيينة بن حصن من بني بدر من فزارة، ومالك بن عوف من بني حنظلة، والأقرع بن حابس فأعطاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مائة مائة من الإبل إلا حويطب بن عبد العزى وعبد الرحمن بن يربوع أعطاهما خمسين خمسين من الإبل.
وذكر فخر الإسلام: زيد الخير، وعلقمة بن علاثة منهم، وفي الكامل للمبرد: أنه جيء من اليمن بذهب فقسمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرباعا أعطى ربعا الأقرع بن حابس المجاشعي وربعا زيد الخير الطائي وربعا علقمة بن علاثة، وربعا عيينة بن حصن الفزاري وكانوا من المؤلفة، ومنهم أبو سفيان واسمه صخر بن حرب وصفوان بن أمية، وأعطى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزبرقان بن بدر بن امرئ القيس، وكان يقال له: قمر نجد لحسنه وجماله أسلم سنة تسع، فولاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة قومه، وأقره عليها أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. ومنهم عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ومنهم عباس بن مرداس السلمي وأعطى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا سفيان وصفوان والأقرع وعيينة وعباسا كل واحد منهم مائة من الإبل. وقال صفوان بن أمية: «لقد أعطاني ما أعطاني، وهو أبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى كان - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أحب الناس إلي» رواه مسلم، قال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هؤلاء كلهم صحابة. وفي " المحيط " و" المبسوط ": كان - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يعطيهم سهما من الصدقة يتألفهم على الإسلام.
وقيل: كانوا قد أسلموا، وقيل: كانوا وعدوا بالإسلام، وقيل: قوما يرجى خيرهم وينتصر بهم على غيرهم من الكفار، وضرب منهم يخاف شره، وفي " المنافع ": المؤلفة قلوبهم أصناف ثلاثة: صنف كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتألفهم ليسلموا أو يسلم قومهم بإسلامهم. وصنف أسلموا وفي إسلامهم ضعف فيريد بذلك تقريرهم على الإسلام، وصنف يعطيهم لدفع شرهم.
فإن قيل: ما وجه إعطائه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إياهم خوفا من شرهم والأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - لا يخافون أحدا سوى الله عز وجل؟
قيل لهم: ما كان ذلك للخوف منهم بل كان خشية أن يكبهم الله عز وجل على وجوههم(3/443)
لأن الله أعز الإسلام وأغنى عنهم وعلى ذلك انعقد الإجماع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في نار جهنم.
فإن قلت: من أي المال كان يعطيهم؟
قلت: كان يعطي المؤلفة من الزكاة، والذي كان أعطى عدي بن حاتم والزبرقان من خمس الخمس، والذي أعطى من كان أقعدهم عن الجهاد الضعف من سهم الغزاة، وقيل: من سهم المؤلفة، والذي أعطى من كان يؤخذ منهم الزكاة، ويحمل إليه من الزكاة، وقيل: من سهم الغنيمة.
م: (لأن الله تعالى أعز الإسلام وأغنى عنهم) ش: أي عن المؤلفة بالقهر وقوة الإسلام، وكان سقوط ما كان يعطي للمؤلفة في خلافة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال الإمام الأسبيجابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الطحاوي " كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطيهم ليؤلفهم على الإسلام، فلما قبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاءوا إلى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فاستبدلوا منه حظا لسهامهم فبدل لهم الحظ، ثم جاءوا إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخبروه بذلك فأخذ الحظ من يدهم ومزقه وقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعطيكم ليؤلفكم على الإسلام، فأما اليوم فقد أعز الله دينه، فليس بيننا وبينكم إلا السيف أو الإسلام، فانصرفوا إلى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقالوا: أنت الخليفة أم هو؟ قال: هو إن شاء الله، ولم ينكر عليه، بطل حقهم من ذلك اليوم، وبقى سبعة.
وعن أبي عبيدة أنه قال: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقالا: يا خليفة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تعطيناها فأقطعها إيانا وأشهد عمر فكتب لهما عليها كتابا وليس عمر في القوم، فانطلقا إليه، فلما سمع ما في الكتاب تناوله من أيديهما فتفل فيه فمحاه، فندموا وقالوا مقالة سيئة، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتألفكم والإسلام يومئذ قليل، وإن الله قد أعز الإسلام، اذهبا واجهدا جهدكما لا أدعو الله عليكما.
وروى أنهما ذكرا ذلك لأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقالا له: أنت الخليفة أم عمر؟ فقال: هو إن شاء الله ولم ينازعه، ولم ينكر أبو بكر ذلك من عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكان اتفاقا منهما على قطع ذلك وبقي للمستوجبين الاقتداء بهما حجة، وتابعهما الصحابة في ذلك، فكان إجماعا.
وأشار المصنف إلى ذلك بقوله: م: (وعلى ذلك) ش: أي على سقوط سهم المؤلفة م: (انعقد الإجماع) ش: أي إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - السكوتي حتى لا يرد عليه قول الحسن البصري والزهري ومحمد بن علي وأبي عبيد وأحمد والشافعي في قول أن سهم(3/444)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المؤلفة لم يسقط، وبه قالت الظاهرية.
فإن قلت: كيف تصرف الزكاة لهم وهم كفار:
قلت: الجهاد واجب على فقراء المسلمين، وأغنيائهم لدفع شرهم، فكان يدفع إليهم سهم من سهام الفقراء فكان ذلك قائما مقام الجهاد في ذلك الوقت لعجز الفقراء عنه، ثم سقط لعدم الحاجة إلى جهاد الفقراء لكثرة أولي القوة والنجدة من المسلمين.
فإن قلت: لا يجوز النسخ بالإجماع بل لا يتصور، لأن حجية الإجماع بعد وفاته - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وروي عن عكرمة أن الصدقات كانت تفرق على الأصناف الثمانية، وكيف انتسخت المؤلفة بالإجماع.
قلت: فيه أجوبة:
الأول: يجوز أن يكون في ذلك نص علمه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
الثاني: أنه ليس من باب النسخ بل من انتهاء العلة الداعية إليه، وقد كانوا يعرفون الداعي إلى الحكم، فلما زال الداعي على خلاف ذلك الحكم زال الحكم.
الثالث: أنه إنما كان يدفع إليهم ذلك لقلة عدد المسلمين وكثرة عدد الكفار دفعا للصغار عن بيضة الإسلام، فلما وقع الأمن من شرهم كان الدفع ذلا وصغارا، فيعود الأمر على موضعه بالنقض، وهذا في الحقيقة هو الجواب.
الرابع: ذكر شمس الأئمة، وفخر الإسلام، أن بعض المشايخ يجوز النسخ بالإجماع، لأنه موجب على اليقين كالنص، فيجوز النسخ به، والإجماع أقوى من الخبر المشهور، فإذا جاز النسخ بالمتواتر والمشهور، فبالإجماع أولى، وما شرطوا حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لجواز النسخ، فإن النسخ بالمتواتر والمشهور يجوز، ولا يتصور هذا إلا بعد وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فإن قلت: ما وجه ما يعمل بسهمهم الذي سقط.
قلت: أما عندنا فينضم إلى سهام البقية من الثمانية ولا يعطى مشرك بحال من الأحوال، وهو قول عمر وعلي وعثمان والحسن والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في قول، وفي قول عنه يعطى كفارهم من غير الزكاة من الصفي فكان نصيب كفارهم ساقطا عنده من الزكاة قولا واحدا، وأما مسلموهم فأربعة أصناف قوم شرفاء قومهم وقوم بنيتهم ضعيفة ففيهما له قولان.
أحدهما: أنهم لا يعطون.(3/445)
والفقير من له أدنى شيء، والمسكين من لا شيء له، وهذا مروى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثاني: أنهم لا يعطون، ومن أي شيء يعطون فيه قولان، أحدهما من الصدقات، والثاني من خمس الغنيمة، وقوم بإزاء الكفار، ولهم قوة وشوكة إن أعطوا قاتلوهم، وقوم على طرف دار الإسلام، ويقرب منهم قوم من المسلمين لا يؤدون الزكاة إلا خوفا من جيرانهم ففيهم له أربعة أقوال:
أحدها: أنهم يعطون سهما من المصالح.
والثاني: أنهم يعطون من سهم المؤلفة من الزكاة.
والثالث: من سهم الغزاة.
والرابع: من سهم الغزاة ومن سهم المؤلفة، كذا في "تتمتهم".
وفي " التحفة ": اختلف أصحابه في سهم المؤلفة، قال بعضهم: منسوخ، وقال بعضهم: يصرف سهمهم إلى من كان حديث عهد بالإسلام، ممن هو في مثل حالهم من الشوكة والقوة، لئلا يكون ذلك حائلا لأمثالهم عن الدخول في الإسلام.
م: (والفقير من له أدنى شيء) ش: شرع في تفسير الأصناف المذكورة في الآية الكريمة، فبدأ بالفقير اتباعا لما في الآية الكريمة، وفسره بقوله: الفقير من له أدنى شيء.
م: (والمسكين من لا شيء له وهذا مروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال مالك وأبو إسحاق المروزي من أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وبه قال من أصحاب اللغة الأخفش وثعلب والفراء، وفي " الكامل ": عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة الفقير الذي لا يسأل، والمسكين الذي يسأل، وقيل: الفقير الزمن المحتاج والمسكين الصحيح المحتاج وللشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيهما قولان في قول يشترط في الفقراء الزمانة وعدم السؤال، وفي قول: لا يشترط كلاهما بل من له حاجة قوية وفي المسكين قولان في القديم: المسكين هو السائل أو من له حرفة، وفي الجديد: السؤال ليس بشرط، المعتبر فيه وجود شيء من المال والقدرة على تحصيله كذا في "تتمتهم".
وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الفقير الذي يسأل ويظهر الفقارة وحاجته إلى الناس، والمسكين هو الذي يسأل ولا يعطى وبه زمانة، قال تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] (البلد: آية 16) ، أي لاصق بالتراب من الجوع والعري.
وفي " الينابيع ": قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الفقير المذكور في الآية هو المحتاج الذي لا يسأل ولا يطوف على الأبواب، والمسكين الذي يسأل، وفي المرغيناني: الفقير والمسكين الذي لا يملك نصابا غير أن المسكين يسأل والفقير لا يسأل، وروى ابن سماعة -رحمه(3/446)
وقد قيل على العكس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله- عن محمد عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الفقير أسوأ حالا من المسكين، ذكره المرغيناني.
وقيل: تفسير الفقير الذي في الآية فقراء المهاجرين، والمساكين الذين لم يهاجروا، قاله الضحاك، وقيل: الفقير من به زمانة والمسكين الصحيح المحتاج وهو قول قتادة، وقيل: الفقير من لا مال له يقع منه موقعا، ولا يغنيه سائلا كان أو غير سائل.
وقال ابن المنذر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعزى هذا إلى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقيل: المسكين الذي يخشع ويتمسكن وإن لم يسأل، والفقير يتحمد ويتقبل الشيء سرا ولا يخشع وهذا قول عبد الله بن الحسن البصري.
وقال محمد بن سلمة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الفقير الذي له مسكن يسكنه، والخادم والمسكين الذي لا ملك له وفي " طلبة الطالب ": المسكين الذي أسكنه العجز عن الطواف للسؤال، والفقير المحتاج وقيل: الفقراء من المسلمين والمساكين من أهل الذمة، يروى عن عكرمة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقيل: الفقير الذي ليس له مال وهو بين أظهر عشيرته، والمسكين الذي ليس له مال ولا عشيرة.
م: (وقد قيل: على العكس) ش: يعني أن المسكين من له أدنى شيء، والفقير من لا شيء له، وبه قال الشافعي والطحاوي والأصمعي من أهل اللغة، وابن الأنباري، واستدل الأصمعي وابن الأنباري بقول الشاعر:
هل لك من أجر عظيم تؤجره ... تغيث مسكينا كثيرا عسكره
عشر شياه سمعه وبصره
وقال الله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف: 79] (الكهف: آية 79) ، فأثبت لهم سفينة، وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين، وأعوذ بالله من الفقر» رواه البخاري ومسلم: «وأحيني مسكينا وأمتني مسكينا» رواه الترمذي والبيهقي وإسناده ضعيف.
فدل على أن الفقر أشد، لأن الفقير بمعنى المفقور، وهو المكسور الفقار، ولأن الله تعالى قدمهم على المساكين، والتقديم يدل على الاهتمام بهم، دون غيرهم.
وللجمهور: قَوْله تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273] (البقرة: آية 273) سماهم فقراء، ووصفهم بالتعفف، وترك المسألة، ولأن الجاهل لا يحسب غنيا، إلا وله(3/447)
ولكل وجه. ثم هما صنفان أو صنف واحد وسنذكره في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ظاهر جميل وهيئة حسنة، فدل على أن ملكه للقليل لا يسلبه صفة الفقر، وأنشد عن ابن الأعرابي يمدح عبد الملك بن مروان ويشكر سعايته.
أما الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال ولم يترك له سبده
سماه فقيرا مع وجود الحلوبة وهي الناقة التي تحلب، ويقال ما له سبد ولا لبد أي شيء، وقال الجوهري: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا قليل ولا كثير، والجواب عن الشعر الذي احتج به ابن الأنباري أن قائله مجهول، ولأن لم يرو أن له عشر شياه، بل لو حصل له عشر شياه لكانت سمعه وبصره.
والجواب: عن الآية إنما سماهم مساكين ترحما واستضعافا، كما يقال لمن امتحن بنكبة وبلية مسكين، وفي الحديث مساكين أهل النار، وقيل: لا نسلم أن إضافة السفينة إليهم بسبيل الحقيقة بأن كانت ملكا لهم فلم لا يجوز أن يضاف إليهم بسبيل المجاز لكونها في أيديهم عارية أو إجارة.
والجواب عن الحديث أنه لم يرد به معنى الفقر، وإنما أراد بقوله: «أحيني مسكينا» أي محسنا متواضعا لله تعالى غير متكبر ولا جبار.
أما قوله: فلأن الفقير بمعنى المفقور، وهو المكسور الفقار ممنوع، فإن الأخفش قال: الفقير من قولهم فقرت له فقرة يعني أعطيته، فيكون الفقير من له قطعة من المال لا تغنيه.
وأما توجيه: تقديم الفقراء فلأنهم لا يسألون، أو قدموا لكثرتهم وتيسير وجودهم على صاحب الزكاة بخلاف المساكين.
وحاصل المذهب عندنا، أن المسكين أشد حالا من الفقير، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على العكس، والأول: قول ابن عباس وجابر بن زيد، ومجاهد وعكرمة والزهري والحسن ومالك، ومثله عن ابن زيد وأبي عبيد ويونس وابن السكيت وابن عيينة والعتبي والأخفش وثعلب، وقال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو قول أهل اللغة جميعا.
م: (ولكل وجه) ش: أي ولكل واحد من المهاجرين وجه، وفائدة الخلاف لا تظهر في الزكاة بل تظهر في الوصايا والأوقاف والنذور.
م: (ثم هما صنفان أو صنف واحد) ش: أي الفقير والمسكين صنفان أو صنف واحد، لم يبين ذلك وأحال البيان إلى كتاب الوصايا بقوله: م: (وسنذكره في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى) ش: قال فخر الإسلام في " شرح الجامع الصغير ": وعن أبي يوسف أنهما صنف واحد حتى قال فيمن أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين أن لفلان نصف الثلث، وللفريقين جميعا(3/448)
والعامل يدفع الإمام إليه إن عمل بقدر عمله فيعطيه ما يسعه وأعوانه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نصف الثلث لأنهما صنف واحد، وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لفلان ثلث الثلث فجعلهما نصفين.
قال الأترازي: أقول هذا هو الصحيح، لأن العطف للمغايرة، وقد عطف أحدهما على الآخر في الآية.
قلت: لا يحتاج أن يثبت الأترازي الصحة لقوله، فإن هذا الذي ذكره فخر الإسلام بعينه.
[العاملون عليها من مصارف الزكاة]
[قدر ما يعطى العامل من الزكاة]
م: (والعامل) ش: هذا المصرف الثالث، ذكر بعد المسكين كما في الآية، وهو مرفوع على أنه مبتدأ، وقوله: م: (يدفع الإمام إليه) ش: خبره وهو الذي يبعثه الإمام بجباية الصدقات وهو الذي يسمى الساعي م: (إن عمل) ش: قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله: إن عمل لنفي الجار عن العامل باعتبار ما كان م: (بقدر عمله فيعطيه ما يسعه) ش: أي بقدر ما يكفيه.
م: (وأعوانه) ش: بالنصب أي ويقدر ما يسع أعوانه، والأعوان جمع عون، وهو الظهير أي المساعد.
وفي " فتاوى قاضي خان " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعطي الإمام كفايته ثمنا كان أو أقل، وفي " المفيد " فيعطيهم ما يكفيهم وعيالهم وأعوانهم مدة ذهابهم وإيابهم، لأنه فرغ نفسه لهذا العمل وكل من فرغ نفسه لعمل من أمور المسلمين يستحق على ذلك رزقا كالقضاة، وليس ذلك على وجه الإجارة لأنها لا تكون إلا على عمل معلوم أو مدة معلومة، وأجرة معلومة.
وقال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويعطي العاشر وهو الذي يجمع أرباب الأموال، والعريف وهو الذي يعرف الساعي أهل الصدقات، كالنقيب للقبيلة والجانب، والقاسم، والكاتب كلهم يأخذون من سهم العامل ولا يزاحمونه في أجرة عمله وتزداد في عدد هؤلاء بقدر الكفاية، وأما الإمام والقاضي فلا يصرف إليهما من الزكاة.
وفي " الذخيرة ": وروى مالك السابق والداعي وهو شاذ، وفي " الذخيرة " لو أخذ عمالته من غير الزكاة فلا بأس به، وإن حمله إلى الإمام بنفسه لا يستحق العامل من تلك الصدقة.
وفي " جوامع الفقه ": لو كان كفاية العامل تستغرق الزكاة كلها أخذ نصفها أو أخذ النصف من الأنصاف، ولو ضاع المال من يده سقطت عمالته وأحرزه المؤدي، كالمضارب إذا هلك مال المضاربة في يده بعد التصرف كذا في " المبسوط " و" الإيضاح ".(3/449)
غير مقدر بالثمن خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأن استحقاقه بطريق الكفاية، ولهذا يأخذ وإن كان غنيا، إلا أن فيه شبهة الصدقة فلا يأخذها العامل الهاشمي تنزيها لقرابة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شبهة الوسخ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وغير مقدر بالثمن خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: غير مقدر نصب على الحال من قوله ما يسعه أي حال كونه ما يسعه غير مقدر بالثمن.
قال تاج الشريعة: وإنما قال بالثمن نظرا إلى الأصناف الثمانية، والمراد السبع بسقوط المؤلفة قلوبهم.
وقال الكاكي: فإن قيل: كيف يستقيم قوله: غير مقدر بالثمن على قول الشافعي، فإن المؤلفة سقطت بالإجماع، فينبغي أن يقول غير مقدر بالسبع.
قلنا: المؤلفة صنفان كفار ومسلمون، فإن عنده سقط صنف الكفار فقط فيبقى مقدرا بالثمن.
م: (لأن استحقاقه) ش: أي لأن استحقاق العامل م: (بطريق الكفاية) ش: لأن ما يأخذه أجرة من وجه لأجل عمله، وصدقة من وجه لأنه عامل لله تعالى، فصار مصرفا للصدقة، والصدقة لا توجب التقدير، والأجرة توجب التقدير بالكفاية فوجب رزقه على حسب الكفاية، ثم في الكفاية يعتبر الوسط لا الشهوة لأنها حرام لكونها إسرافا محضا.
وعلى الإمام أن يبعث من يزكي بالوسط من غير إسراف ولا تقتير م: (ولهذا يأخذ وإن كان غنيا) ش: أي ولأجل استحقاقه بطريق الكفاية لأجل عمله يأخذ العامل، وإن كان غنينا لأن ما يأخذه هو عوض عن عمله والزكاة لا تجوز أن تدفع عوضا عن شيء.
وإن قلت: العامل صنف منصوص عليه فصار كسائر الأصناف.
قلت: سائر الأصناف يستحقون الدفع إليهم بكل حال، والعامل لا يستحق إلا بالعمل.
م: (إلا أن فيه شبهة الصدقة فلا يأخذها العامل الهاشمي تنزيها لقرابة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شبهة الوسخ) ش: هذا استثناء في الحقيقة من قوله لأن الاستحقاق بطريق الكفاية، حاصله أن ما أخذه بطريق الكفاية، وإن كان أجرة، ولكن فيه شبهة الصدقة لكونه عاملا لله تعالى كما ذكرنا، وإذا كان فيه شبهة الصدقة فلا يأخذها العامل إذا كان هاشميا لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن هذا الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد» ، رواه مسلم، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نحن أهل البيت لا تحل لنا الصدقة» ، رواه البخاري.
والهاشمي منسوب إلى بني هاشم وهم آل علي وآل عباس وآل جعفر وآل الحارث بن عبد(3/450)
والغني لا يوازيه في استحقاق الكرامة، فلم تعتبر الشبهة في حقه
. قال وفي الرقاب أن يعان المكاتبون منها في فك رقابهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المطلب.
قوله: تنزيها، أي لأجل التنزيه لقرابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومذهب مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كمذهبنا، وقيل: هو مذهب الشافعي أيضا في الصحيح، ويحرم على بني عبد المطلب أيضا، وفي " النهاية ": الأصح جواز صرفها على العامل منهم، فإن بعض المالكية يجوز أن يستأجر بعض بني هاشم على حراستها وسوقها. قال ابن العربي: ولا يحوز لأن حراستها وسوقها كجمعها وضمها.
وفي " الذخيرة ": أجاز محمد بن نصر أن يكون العامل هاشميا أو عبدا أو ذميا بالقياس على العامل، يعني قلنا أوساخ الناس لا ينافي الغني وينافي الهاشمي لشرفه والعبد لعجزه والكافر لعدم ولايته على المسلم.
فإن قلت: ما تقول في استدلال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بعث عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى اليمن مصدقا وفرض له، فإن الظاهر أنه فوض له فيما يأخذه؟
قلت: ليس فيه أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فرض له في الصدقات، وقد كان - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فوض إليه أمر الحرب، والظاهر أنه فرض له من الفيء لا من الصدقات.
م: (والغني لا يوازيه من استحقاق الكرامة فلم تعتبر الشبهة في حقه) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر من جهة الخصم، تقديره أن يقال: إذا كان المانع من جواز استعمال عامل هاشمي وجود معنى الصدقة فيما يأخذه، فالغني كذلك ينبغي أن يمنع من العمل، لأن غناه يمنع أخذ الصدقة.
فأجاب بقوله: والغني لا يوازيه أي لا يوازي الهاشمي في استحقاق الكرامة فلم تعتبر شبهة الصدقة فيه، لان فيه شبهة الأجرة أيضا، والهاشمي يمتنع لأن فيه حقيقة الصدقة، فافهم.
[وفي الرقاب من مصارف الزكاة]
م: (وفي الرقاب) ش: هو الرابع من المصارف أي توضع الزكاة في فك الرقاب وهو جمع رقبة م: (أن يعان المكاتبون منها) ش: أي من الزكاة م: (في فك رقابهم) ش: أي من الزكاة م: (في فك رقابهم) ش: هذا تفسير لقوله: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177] المذكور في الآية أي يعانون على أداء بدل الكتابة، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد في رواية. وهو قول أكثر العلماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال مالك وأحمد في رواية المراد به أن يشتري بخير مال الصدقة عبدا فيعتقه، وهو المروي عن ابن عباس والحسن البصري وأكثر العلماء منهم الحسن البصري وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والزهري والليث بن سعد وهو قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(3/451)
وهو المنقول.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال ابن تيمية: إن كان معه وفاء لكتابته لم يعط لأجل فقره، لأنه عبد، وإن لم يكن معه شيء أعطي الجميع، وإن كان معه بعضه يتمم سواء كان قبل حلول النجم أو بعده، كيلا يحل النجم وليس معه شيء فتنفسخ الكتابة، ويأخذ مع كونه قويا مكتسبا، ويجوز دفعها إلى سيدهن لأنه أعجل بعتقه، وعند الشافعية إن لم يحل عليه نجم ففي صرفه إليه وجهان، وإن دفعه إليه فأعتقه المولى، أو أبرأه من بدل الكتابة، أو عجز نفسه، والمال في يد المكاتب رجع فيه، قال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو المذهب.
وفي " المغني ": إن انفسخت الكتابة فما في يده لسيده، وهو قول عطاء وأبي حنيفة وأصحابه، ورواية البزدوي والكوسج عن أحمد كسائر أكسابه، فإن ادعى أنه مكاتب كلف البينة ويقبل فيها الاستفاضة، وإن صدقه سيده أنه تقبل، إذ من تلك الأشياء ملك الأخبار، وتصرف إلى المكاتب بغير إذن سيده ولا تصرف إلى سيده إلا بإذنه، ولا تصرف إلى مكاتبه وهو المذهب، وجوزه أبو يعلى بن حيران قال: وهو ضعيف.
قلت: اشتراط إذن المكاتب في الدفع إلى سيده بعيد جدا لأنه قضاء دين المكاتب بغير إذنه، وقضاء الديون من الأجانب لا يتوقف على إذن المديون.
وفي " المحيط ": وقد قالوا: لا يدفع إلى مكاتب الهاشمي بخلاف مكاتب الغني. وفي " الجواهر ": يشتري بها الإمام الرقاب فيعتقها عن المسلمين، والولاء لجميعهم.
م: (وهو المنقول) ش: أي عون المكاتبين من الزكاة هو المنقولمن ب عن أئمة التفسير، كذا قال الأترازي، وقال السغناقي: هو المنقول عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذا قال الأكمل، ثم قال فإنه روي «أن رجلا قال: يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: "فك الرقبة أو أعتق النسمة، قال: أوليسا سواء يا رسول الله؟ قال: "فك الرقبة أن تعين في عتقه» .
قلت: هذا الحديث أخرجه ابن حبان والحاكم عن البراء بن عازب قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار، قال: "أعتق النسمة وفك الرقبة"، قال: أوليسا واحدا، قال: "لا، أعتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين على ثمنها» انتهى.
هذا ليس فيه المقصود، فإن مراد المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - تفسير الآية لا تفسير الفك، نعم الحديث يفيد في معرفة الفرق بين العتق والفك. فمن هذا عرفت أن الصواب مع الأترازي.
وروى الطبري في "تفسيره " من طريق محمد بن إسحاق عن الحسن بن دينار عن الحسن(3/452)
والغارم من لزمه دين ولا يملك نصابا فاضلا عن دينه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من تحمل غرامة في إصلاح ذات البين وإطفاء النائرة بين القبيلتين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البصري أن مكاتبا قام إلى أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: أيها الأمير حث الناس على ما يحث عليه أبو موسى الأشعري، فألقى الناس عليه، هذا يلقي عمامة وهذا يلقي ملاءة، وهذا يلقي خاتما، حتى ألقى الناس عليه سوادا كثيرا، فلما رأى أبو موسى ما ألقي عليه قال اجمعوه، ثم أمر به فبيع وأعطى المكاتب كتابته، ثم أعطى الفضل في الرقاب نحو ذلك ولم يرده على الناس، وقال: إن هذا الذي أعطوه في الرقاب.
م: (والغارم من لزمه دين ولا يملك نصابا فاضلا عن دينه) ش: هذا هو الخامس من المصارف يعني يصرف للغارم أيضا، قوله: من لزمه دين، إلى آخره تفسير الغارم، وهو من الغرم، وهو من الخسران، وكان الغارم هو الذي خسر ماله، والخسران النقصان.
وقال أبو نصر البغدادي: الغارم من لزمه دين وإن كان في يده مال، لأنه يستحق بالدين فصار كمن لا مال له، وفي الذخيرة: الغارم أن يكون ماله قدر دينه أو كان له مال على الناس لا يمكنه أخذه فهو غني على الظاهر وتحمل له الصدقة.
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الغارم: هو الذي له مال غائب وديون لا يأخذ من الصدقة إلا قدر حاجته، بخلاف الفقير حيث يأخذ فوق حاجته.
م: (وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من تحمل غرامة في إصلاح ذات البين) ش: أي الغارم من تحمل الغرامة، أصل الغرامة اللزوم، ومنه قَوْله تَعَالَى {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65] (الفرقان: آية 65) ، ويطلق الغريم على المديون، وصاحب الدين.
وقال الأزهري: معنى إصلاح ذات البين إصلاح حال الرجل بعد المبانية، والبين يكون وصلا ويكون فرقة.
وقال تاج الشريعة: قوله إصلاح ذات البين يعني الأحوال التي بينهم، وإصلاحها بالإحسان والإنفاق حتى تصير أحوال الاختلاف ائتلافا وإرفاقا بعد أن كانت أحوال اختلاف وتفارق، ولما كانت الأحوال ملابسة للتبين وصفت به، فقيل: ذات البين، كما قيل للأسرار ذات الصدور كذلك.
م: (وإطفاء النائرة بين القبيلتين) ش: النائرة العداوة كأنها فاعلة من النار، وإطفاؤها عبارة عن تسكين الفتنة.
وفي " الحلية ": والغارم ضربان ضرب لإصلاح ذات البين، بأن يحمل مالا أتلف في(3/453)
وفي سبيل الله منقطع الغزاة عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه هو المتفاهم عند الإطلاق، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - منقطع الحاج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حرب لتسكين فتنة فيه وجهان.
أحدهما: أنه يعطى مع الغني خلافا لأبي حنيفة لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة» وذكر من جملتها الغارم، والغارم الذي يعطى مع الغني الذي تحمل الحمالة، وضرب الغرم لمصلحة نفسه من الدين في غير معصية، فهل يعطى مع الغنى، فيه قولان، قال في الأم: يعطى مع الغني لعموم الآية.
الثاني: لا يعطى مع الغني وهو الصحيح، ولو عزم المعصية ثم تاب عنها فهل يعطى مع الفقر؟ فيه وجهان.
أحدهما: أنه يعطى لأنه فقير.
والثاني: لا يعطى لأنا لو قضينا دينه بعد التوبة لا يؤمن من أن يظهر التوبة حتى يأخذ المال ثم يعود إلى الفسق.
[وفي سبيل الله من مصارف الزكاة]
[المقصود بسبيل الله]
م: (وفي سبيل الله) ش: هو السادس أي وموضع الزكاة أيضا في سبيل الله، وفي تفسيره خلاف على ما نذكره الآن م: (منقطع الغزاة) ش: أي في سبيل هو منقطع الغزاة م: (عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه) ش: أي لأن قوله "في سبيل الله" م: (هو المتفاهم عند الإطلاق) ش: لأن سبيل الله عبارة عن جميع القرب لكن عند الإطلاق يصرف إلى الجهاد.
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - منقطع الحاج) ش: وفي " المبسوط ": في سبيل الله منقطع الحاج، وفقراؤهم فقراء الغزاة عند أبي يوسف، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقراء الحاج.
وقال السروجي بعد أن عد جملة من كتب أصحابنا: لم يذكر أحد منهم قول أبي حنيفة، ثم قال فكشفت عن ذلك من نحو ثلاثين مصنفا، فكيف لا يتكلم الإمام في معرفة سبيل الله مع وقوع الحاجة إلى ذلك، وفي الوبري: هم الحاج والغزاة المنقطعون عن أموالهم، وفي الأسبيجابي أراد به الفقراء من أهل الجهاد، ولم يحكيا فيه خلافا فيجوز أن يكون ذلك قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الكاكي: منقطع الغزاة، وهو المراد من قَوْله تَعَالَى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] (التوبة: آية 60) ، عند أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي ومالك، وعند محمد وأحمد منقطع الحاج.
قلت: لم يبين في أي كتاب رأي أن أبا حنيفة مع أبي يوسف، ولكن يحتمل أنه اطلع عليه في موضع خفي ذكره معه، وقال ابن المنذر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف ومحمد: (في سبيل الله) هو الغازي غير الغني.(3/454)
لما روي «أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله، فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحمل عليه الحاج»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة أنه الغازي دون الحاج، وذكر ابن بطال في " شرح البخاري " أنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، ونقله النووي في شرحه، وقال السروجي: فهؤلاء نقلوا قول أبي حنيفة، ثم وجدت في " خزانة الأكمل " ما يوافق نقل هؤلاء الجماعة، فقال: في سبيل الله فقراء الغزاة عندنا، وعند محمد منقطع الحاج، فهذا يدل على أن ذلك رواية عن محمد وهي قول ابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وبه قال أحمد في رواية وإسحاق واختاره البخاري. وقال ابن عبد الحكم: يدخل في شراء المساحي والحبال والمراكب، وكراء النواتية للغزو، وتدفع للجواسيس النصارى.
وقال النووي في شرح "المهذب " هم الغزاة المنقطعون الذي لا حق لهم في الديوان، وفي المرغيناني، وقيل: في سبيل الله طلبة العلم، وقال: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مدينة العلم أرسل ليبين للناس ما ترك إليهم، وغالب من اتبعه في أول الإسلام فقراء منقطعون لأخذ العلم عنه كأبي هريرة وغيره، وكأنه عبر عنهم بعبارة يفهمها أهل الزمان الآن، والله أعلم، وقال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا بعيد، فإن الآية نزلت وليس هناك قوم يقال لهم: طلبة العلم.
م: (لما «روي أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحمل عليه الحاج» ش: هذا الحديث له أصل في سنن أبي داود، والنسائي، والحاكم، والطبراني، والبزار، وليس بهذه العبارة، فروى أبو داود، عن إبراهيم بن مهاجر، عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: «أخبرني رسول مروان الذي أرسل إلى أم معقل قالت: كان أبو معقل حاجا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما قدم قالت أم معقل: قد علمت أن علي حجة، فانطلقا يمشيان حتى دخلا عليه فقالت: يا رسول الله إن علي حجة، وإن لأبي معقل بكرا فقال أبو معقل: صدقت جعلته في سبيل الله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أعطها فلتحج عليه فإنه في سبيل الله" فأعطاها البكر فقالت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني إمرأة قد كبرت وسقمت فهل من عمل يجزئ عني من حجتي، فقال: "عمرة في رمضان تجزئ حجة» ، ورواه أحمد في "مسنده"، ورواه أبو داود أيضا، من غير هذا الطريق.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وجه قول محمد، ما روى البخاري في "الصحيح "، عن أبي لاس، قال: «حملنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على إبل الصدقة للحج» قال: يعلم من ذلك أن سبيل الله، منقطع الحاج، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صرف الصدقة إليه.
قلت: فيه تأمل لا يخفى، ثم قال: وجه قول أبي يوسف ما روى البخاري أيضا في " الصحيح " أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن خالدا احتبس أدراعه في سبيل الله» ، ولا شك أن الدرع(3/455)
ولا تصرف إلى أغنياء الغزاة عندنا، لأن المصرف هو الفقراء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للحرب لا للحج، فعلم بذلك أن المراد الجهاد لا الحج.
قلت: فيه نظر أيضا لا يخفى.
فإن قلت: قوله: في سبيل الله مكرر سواء كان منقطع الغزاة أو منقطع الحاج، لأنه إما أن يكون له مال في وطنه أو لا، فإن كان فهو ابن السبيل، وإن لم يكن فهو الفقير، فمن أين يكون العدد سبعة؟
قلت: هو فقير إلا أنه زاد فيه شيئا آخر سوى الفقر، وهو الانقطاع في عبادة الله من الجهاد، أو الحج، فلذلك يغاير الفقير المطلق بذلك، فإن المقيد يغاير المطلق، لا محالة.
م: (ولا تصرف إلى أغنياء الغزاة عندنا) ش: أي ولا تصرف الزكاة إلى أغنياء الغزاة عندنا م: (لأن المصرف هو الفقراء) ش: أي لأن مصرف الزكاة هو الفقراء، وأشار بقوله -عندنا- إلى خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإن عنده يجوز أن تدفع إلى الغازي مع الغناء، وبه قال مالك.
قال الكاكي: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل الصدقة إلا لخمسة» ، وذكر من جملتها الغزاة في سبيل الله، ثم قال وذكر في " التجنيس " الغازي في سبيل الله والعامل عليها ورجل اشترى الصدقة بماله، ورجلا تصدق بها على المسكين فأهداها المسكين إليه، وفي رواية " المصابيح " ابن السبيل، انتهى.
قلت: هذا عجز حيث أحال بيان الخمسة على " التجنيس "، والحديث رواه أبو داود مرسلا ومسندا، فقال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة، لغاز في سبيل الله أو العامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهداها المسكين للغني» ، هذا مرسل، وقال: حدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه وهذا مسند.
وأجاب الأترازي: عن هذا بقوله: معناه الغني بكسبه، أي المستغني بكسبه عن السؤال، لأنه أي المستغني بالكسب لا يحل له طلب الصدقة، إلا إذا كان غازيا فيحل له لاشتغاله بالجهاد عن الكسب، وقال الكاكي: المراد بالغنى قوة البدن، والقدرة على الكسب إنما تكون بقدرة البدن لا بملك المال، فإن الغازي إذا اشتغل بالكسب يقعده عن الجهاد، فجاز له الأخذ، والدليل عليه ما روي في حديث آخر، وردها في فقرائهم، كذا في " المبسوط "، وقال: وفيه نوع تأمل، لأن القدر على الكسب غير مالك النصاب يحل له أخذ الزكاة عندنا، خلافا لمالك(3/456)
وابن السبيل من كان له مال في وطنه وهو في مكان آخر لا شيء له فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلا أن يعلل على جهة الإلزام.
وقال الرازي في " أحكام القرآن ": قد يكون الرجل غنيا في أهل بلده بالدار والأثاث والخادم والفرس وله فضل مال تجب عليه الزكاة فيه، ولا تحل له الصدقة، فإذا عزم على الخروج للغزو واحتاج إلى آلات السفر وسلاح الغزو أو العدة فيجوز له أخذ الصدقة إذ قد أنفق الفضل فيما يحتاج إليه من السلاح والعدة، ولولا سفره للغزو لكان غنيا، إذ لا يحتاج في إقامته إلى إنفاق الفضل، فإذا قصد الغزو جاز له أخذ الصدقة وهو غني في هذا الوجه، فهذا معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصدقة تحل للغازي الغني» ، انتهى.
قيل: حديثهم يفيد الحصر في الخمسة المذكورة بين النفي والإثبات، وبذكر العدد الخمسة، قد جوزوا الدفع إلى أغنياء المؤلفة وليسوا من الخمسة، فوجب تأويل حديثهم. وقال السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولعلمائنا ومن قال بقولهم حديث معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له «أعلمهم أن الله تعالى فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» ، متفق عليه ولا يعارضه حديثهم لأنه لم يصح، ولو صح لا يبلغ درجة الحديث الثابت في " الصحيحين ".
[ابن السبيل من مصارف الزكاة]
[المقصود بابن السبيل]
م: (وابن السبيل) ش: هذا هو المصرف السابع، أي توضع الزكاة في ابن السبيل م: (من كان له مال في وطنه وهو في مكان آخر لا شيء له فيه) ش: أي ابن السبيل من كان له مال في وطنه والحال أنه في مكان لا شيء له فيه، وسمي المسافر ابن السبيل لكثرة ملازمته السبل، لأنه لما حصل له كثرة الملازمة صار كأنه ولد الطريق، ومنه قولهم للصوفي ابن الوقت كذا قاله الأترازي، وفيه نظر، لأن من سافر في عمرة مرة وجرى له هذا يطلق عليه ابن السبيل، ويحل له أخذ الزكاة، ولو كانت ملازمته السبيل شرطا لما جاز لهذا أن يأخذ الزكاة فافهم.
وقال السروجي: يجوز أن يقال ابن السبيل لما دفعته من بلد إلى بلد كما تدفع الآدمي الأرحام، سمي ابن السبيل، والسبيل يذكر ويؤنث.
وفي " البدائع ": ابن السبيل هو المختار في مصر قد قطع به، أو الحاج أراد الانصراف إلى أهله ولم يجد ما يتحمل به.
وفي " جوامع الفقه ": هو الغريب الذي ليس في يده شيء وإن كان له مال في بلده ومن له ديون على الناس ولا يقدر على أخذها لغيبتهم أو لعدم البينة أو لإعسارهم أو لتأجيله يحل له أخذها.
وقال بعضهم: ابن السبيل، هو من عزم على السفر، وليس معه ما يتحمل به، وقيل: هذا خطأ لأن السبيل هو الطريق، فمن لم يحصل في الطريق لا يكون ابن سبيل، وكذا لا(3/457)
قال: فهذه جهات الزكاة، وللمالك أن يدفع إلى كل واحد منهم، وله أن يقتصر على صنف واحد. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز إلا أن يصرف إلى ثلاثة من كل صنف، لأن الإضافة بحرف اللام للاستحقاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يصير ابن سبيل بالعزم على السفر، وابن السبيل كعابر السبيل. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] (النساء: آية 43) ، هم المسافرون لا يجدون الماء فيتيممون، فكذا ابن السبيل هو المسافر لا من عزم على السفر.
وفي " الينابيع ": ابن السبيل منقطع الغزاة. وفي كتاب علي بن صالح الجرجاني: ابن السبيل، هو الذي لا يقدر على ماله في سفره وهو غني ويقدر أن يستقرض فالقرض خير له من قبول الصدقة، وإن قبلها أجزأ عمن يعطيه ولا يلزمه استقراض، لاحتمال عجزه عن الأداء. وفي " خزانة الأكمل ": لا يجب على ابن السبيل أداء زكاته حتى يرجع إلى ماله، ولو تصدق غيره بغير أمره فبلغه فرضي به، لم يجز وبأمره يجوز، وقيل: إذا كانت قائمة في يد الفقير ينبغي أن يجوز، لأن الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة على ما عرف.
م: (قال) ش أي صاحب الكتاب م: (فهذه جهات الزكاة) ش: أي هذه التي ذكرناها من الأصناف هي جهات الزكاة، أي مصارفها لا مستحقوها عندنا م: (وللمالك أن يدفع إلى كل واحد منهم) ش: أي من الأصناف السبعة المذكورة.
م: (وله أن يقتصر على صنف واحد) ش: من السبعة، وهو قول عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس وحذيفة بن اليمان ومعاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وبه قال سعيد بن جبير، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وعمر بن عبد العزيز، وأبو العالية، وعطاء بن أبي رباح، وإليه ذهب الثوري، ومالك، وأحمد في ظاهر الرواية، وأبو ثور، وأبو عبيد، وعن النخعي: إن كان المال، كثيرا يحتمل قسمته على الأصناف قسمة عليهم، وإن كان قليلا صرف إلى صنف واحد.
م: (وقال الشافعي: لا يجوز إلا أن يصرف إلى ثلاثة من كل صنف) ش: فيكون واحدا وعشرين نفسا، وكذا صدقة الفطر وخمس الزكاة. وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إلا العاملين عليها، فإنه يجوز أن يكون العامل واحدا، فإن فرق زكاته بنفسه، أو بوكيله سقط نصيب العامل، فيفرق الباقي على سبعة أصناف، أحد وعشرين نفسا إن وجدوا، حتى لو ترك واحد منهم ضمن نصيبه، وهو قول عكرمة، وداود الظاهري.
وقال الإصطخري: تصرف صدقة الفطر إلى ثلاثة من الفقراء لقلتها واختاره الروياني في " الحلية " م: (لأن الإضافة بحرف اللام للاستحقاق) ش: أي لأن إضافة الصدقات إليهم بحرف اللام تقتضي الملك إذا أضيف به إلى من يصح له الملك كقولك المال لزيد، فإن أوصى بثلث ماله(3/458)
ولنا أن الإضافة لبيان أنهم مصارف لا لإثبات الاستحقاق. وهذا لما عرف أن الزكاة حق الله تعالى، وبعلة الفقر صاروا مصارف فلا يبالى باختلاف جهاته،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لهؤلاء الأصناف لم يجز حرمان بعضهم، فكذلك في أمر الشرع.
م: (ولنا أن الإضافة) ش: أي إضافة الصدقات إليهم م: (لبيان أنهم مصارف) ش: وأن تصير العاقبة لهم م: (لا لإثبات الاستحقاق) ش: لأن المجهول لا يصلح مستحقا، واللام للاختصاص لا للملك، كما يقال: الجل للفرس ولا ملك له، فكان المراد اختصاصهم بالصرف إليهم، ومعاني اللام ترتقي إلى أكثر من عشرة، ولكن أصلها للاختصاص.
ولم يذكر الزمخشري في المفصل غير الاختصاص لعمومه، فقال اللام للاختصاص، كقولك المال لزيد والسرج للدابة، واللام في الآية للاختصاص، يعني أنهم مختصون بالزكاة ولا تكون لغيرهم كقولهم الخلافة لقريش أو السقاية لبني هاشم أي لا يوجد ذلك في غيرهم، ولا يلزم أن تكون مملوكة لهم، فتكون اللام لبيان محل صرفها، وأيضا الفقراء والمساكين لا يحصون لكثرتهم فكانوا مجهولين، والتمليك من المجهول محال.
ولهذا قال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو كان في أكثر من ثلاثة من الصنف لا يثبت ملكهم ولا ينتقل إلى ورثتهم بموتهم، فدل على عدم الملك فبطل دعواهم أن اللام للملك بخلاف الثلاثة عندهم وأيضا قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] (التوبة: آية 60) ، كاللام فيهما، فإذا حمل على الاختصاص استقام الجميع ولا يستقيم الملك في الطرق، وهذا بين مكشوف وأيضا أنهم قالوا يجوز للإمام أن يدفع صدقة الرجل الواحد وأكثر إلى فقير واحد، والإمام يقوم مقام رب المال في التفريق، فأبطلوا لام الملك والعدد ولم يستوعبوا آحاد الصنف الواحد أيضا. قال الشيخ شهاب الدين القرافي: وهذه الصورة هي مذهبه في الملك. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - المراد في الآية في بيان المصارف قال: أينما صرفت إلى أحد من الأفراد أجزأت، كما أن الله تعالى أمرنا باستقبال القبلة في الصلاة، فإذا استقبلت جزءا منها كنت ممتثلا للأمر.
م: (وهذا) ش: أي ما ذكرنا أن الإضافة لبيان أنهم مصارف لا لإثبات الاستحقاق م: (لما عرف أن الزكاة حق الله تعالى) ش: لأنها عبادة ولا يستحقها إلا الله تعالى م: (وبعلة الفقر صاروا مصارف) ش: أي بعلة الفقر والاحتجاج صارت الأصناف المذكورة مصارف للزكاة، لأن الله تعالى ذكرهم بأوصاف تنبئ عن الحاجة.
م: (فلا يبالى) ش: على صيغة المجهول، أي فلا يلتفت ولا يحمل لهم م: (باختلاف جهاته) ش: أي بسبب اختلاف جهات المصرف، وإنما ذكر الضمير لأنه يرجع إلى المصرف الذي يدل عليه لفظ المصارف.(3/459)
والذي ذهبنا إليه مروي عن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والذي ذهبنا إليه) ش: أي من الاقتصار على صنف واحد في دفع الصدقات م: (مروي عن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أما المروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه الطبري في "تفسيره " من حديث الليث عن عطاء أنه قال {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] (التوبة: آية 60)
قال: أيما صنف أعطيته من هذا أجزأ عنك، وأخرجه، عن حفص، عن الليث عن عطاء، عن عمر، أنه كان يأخذ الفرض في الصدقة، ويجعله في صنف واحد.
وأما المروي عن ابن عباس فأخرجه الطبري أيضا عن عمر بن عيينة عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] (التوبة: آية 60) ، قال في أي صنف وضعته أجزأك، وقال الإمام الأسبيجابي في شرحه " لمختصر الطحاوي ": جملة ما يجيء في بيت المال في الأموال أربعة أنواع، منها الصدقات، وهي زكاة السوائم والعشور، وما أخذه العاشر من المسلمين الذين يمرون عليه من التجارة.
ونوع آخر ما أخذ من خمس الغنائم والمعدن والركاز، ويصرف في هذين النوعين الأصناف التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وهو قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] (التوبة: آية 60) ، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] (الأنفال: آية 41) ، ففي الآية الأولى بيان مصرف السبعة، وفي الآية الثانية ما ذكره الله تعالى، فيها سهم الله تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذكر اسمه تعالى للتبرك، وسهم الرسول سقط بموته، وسهم ذوي القربى ساقط عندنا وهم قرابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيصرف اليوم إلى ثلاثة أصناف، اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سهم ذوي القربى ثابت.
والنوع الثالث: هو الخراج والجزية وما صولح عليه مع بني نجران من الحلل، ومع بني تغلب من الصدقة المضاعفة، وما أخذ العاشر من المستأمن من أهل الحرب، وما أخذ من تجار أهل الذمة، تصرف هذه في عمارة الرباطات والقناطر والجسور وسد الثغور وكري الأنهار العظام التي لا ملك لأحد فيها كجيحون والفرات ودجلة، ويصرف إلى أرزاق القضاة وأرزاق الولاة والمحتسبين والمعلمين والمقاتلة وأرزاق المقاتلة ويصرف إلى رصد الطريق في دار الإسلام عن اللصوص وقطاع الطريق.
والنوع الرابع: ما أخذ من تركة الميت الذي مات ولم يترك وارثا، أو ترك زوجا أو زوجة، فمصرف هذا نفقة المرضى في أدويتهم وعلاجهم وهم فقراء، وكفن الموتى الذين لا مال لهم ونفقة اللقيط، وعقل جنايته، ونفقة من هو عاجز عن الكسب وليس له من يقضي عليه في نفقته وما أشبه ذلك، فيجب على الأئمة والسلاطين والولاة إيصال الحقوق إلى أربابها، وأن لا(3/460)
ولا يجوز أن تدفع الزكاة إلى ذمي، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم» . قال: ويدفع إليه ما سوى ذلك من الصدقة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يدفع وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يحبسوها عنهم على ما يرون من تفضيل وتسوية من غير ميل في ذلك إلى هوى، ولا يحل لهم منها إلا مقدار ما يكفيهم ويكفي أعوانهم بالمعروف وإن قصروا في ذلك عليهم صاروا ظلمة مفسدين.
[دفع الزكاة إلى الذمي]
م: (ولا يجوز أن تدفع الزكاة إلى ذمي) ش: وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الإسلام ليس بشرط في صرف الزكاة وغيرها، وقال الزهري وابن شبرمة: يجوز دفعها إلى الذمي م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «خذها من أغنيائهم وردها إلى فقرائهم» ش: أي خذ الزكاة، والخطاب لمعاذ بن جبل، وأخرج الأئمة الستة حديث معاذ من حديث ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معاذا إلى اليمن....
الحديث مشهور، وفيه أنه افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم.
قوله: خذها من أغنيائهم، أي من أغنياء المسلمين، هذا بالإجماع، لأن الزكاة لا تجب على الكافر، وكذا الضمير في فقرائهم يرجع إلى المسلمين لئلا يحل لهم العطب. وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى ذمي، يجوز صرف صدقة الفطر والنذور والكفارات إليهم.
وجوز دفع صدقة الفطر إلى الرهبان، عمر بن شرحبيل ومرة الهمداني. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثلاث روايات فيها، والأصح أنه لا يجوز دفع الصدقة إليهم إلا التطوع، وبالمنع قال مالك والشافعي، وأما الحربي فلا يجوز دفع صدقة ما إليه بالإجماع حتى التطوع، وفي " خزانة" الأكمل يجوز صرف صدقة الفطر وصدقة النذر إلى أهل الذمة، وأما الكفارات فلا.
م: (قال: ويدفع إليه) ش: أي إلى الذمي م: (ما سوى ذلك من الصدقة) ش: أراد به صدقة الفطر والنذور والكفارات كما ذكرنا.
فإن قلت: لم لا يجوز دفع الزكاة إلى الذمي كما ذهب إليه زفر لعموم النص، ولا يجوز الزيادة عليه بخبر الواحد.
قلت: هذا خبر مشهور تلقته الأمة بالقبول، فجاز الزيادة عليه بخبر الواحد.
قلت: هذا خبر مشهور تلقته الأمة بالقبول فجاز الزيادة به.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يدفع) ش: أي ما سوى ذلك من الصدقة إلى الذمي م: (وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قول الشافعي بالمنع رواية عن أبي يوسف م:(3/461)
اعتبارا بالزكاة. ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تصدقوا على أهل الأديان كلها» . ولولا حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لقلنا بالجواز في الزكاة
ولا يبني بها مسجد ولا يكفن بها ميت لانعدام التمليك وهو الركن،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(اعتبارا بالزكاة) ش: بأن يقال هذه صدقة واجبة، فلا يجوز دفعها إلى الذمي كالزكاة.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «تصدقوا على أهل الأديان كلها» ش: هذا حديث مرسل. رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه ": حدثنا جرير بن عبد الحميد عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تصدقوا إلا على أهل دينكم" فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272] إلى قوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [البقرة: 272] (البقرة: الآية 272) ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تصدقوا على أهل الأديان» والحربي والمستأمن خرجا منه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ} [الممتحنة: 9] (الممتحنة: الآية 9) ، وبالإجماع، فبقي أهل الذمة داخلا فيه.
فإن قلت: هذا الحديث لا يقبل التخصيص لقطع الاحتمال بلفظ الكل.
قلت: لفظ الكل تأكيد للأديان لا للأهل، فبقي فيه احتمال فيجوز تخصيصه.
م: (ولولا حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لقلنا بالجواز في الزكاة) ش: لإطلاق الآية، كما قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فلولا حديث معاذ جواب عن الثاني ولم يجب عن الأول، وجوابه ما ذكرناه، لأنه مخصوص في حق الحربي والمستأمن بقوله {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ} [الممتحنة: 9] .... الآية قيل فيه نظر، لأنه لحقه بيان التقرير وهو يمنع الخصوص، وأجيب بما ذكرنا أن كلمة كل لتأكيد الأديان، لا لتأكيد الأهل، قيل فيه غموض، ولئن سلمناه، ولكن يقتضي أن يكون التخصيص مقارنا عندنا وليس بثابت، على أن في الآية النهي عن التولي لا عن البر، فلا يكون التعلق بالصدقة، قيل في صدر الجواب نحن أمرنا بقتالهم بآيات القتال، فإن كان شيء منها متأخرا عن هذا الحديث كان ناسخا في حقهم، وإلا لم يبق الحديث معمولا به في حقهم لأن التصدق عليهم رحمة لهم ومواساة، وهي منافية لمقتضى الآية وليس في مرتبتها، وسقط العمل في حقهم، وبقي معمولا به في حق أهل الذمة عملا بالدليل بقدر الإمكان.
م: (ولا يبنى بها مسجد) ش: أي لا يبنى بالزكاة مسجد، لأن الركن في الزكاة التمليك من الفقير ولم يوجد م: (ولا يكفن بها ميت لانعدام التمليك) ش: من الميت م: (وهو الركن) ش: وكذا لا تبنى بها القناطر والسقايات، ولا يحفر بها الآبار، ولا تصرف في إصلاح الطرقات وسد الثغور والحج والجهاد ونحو ذلك مما لا يملك فيه.
فإن قلت: روى أنس والحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ما أعطيت من الجسور والطريق صدقة ماضية.(3/462)
ولا يقضى بها دين ميت، لأن قضاء دين الغير لا يقتضي التمليك منه لا سيما من الميت ولا يشتري بها رقبة تعتق، خلافا لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث ذهب إليه في تأويل قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا وهم عليهما، وليس مرادهما عمارة الجسور والطريق، بل معناه إعطاء الزكاة لمن يبني الجسور والطريق من العشار الذين يقيمهم السلطان لأخذهم الزكاة والعشور، وأن ذلك يسقط الغرض، ووجه الوهم أنما قال: ما أعطيت من الجسور والطريق، ولم يقولا في الجسور.
كذا في كتاب أبي عبيد، وقد أصلحه بعض من نظر فيه فضرب على من والحق في ليستقيم الكلام على المعنى الذي توهمه، ولم يعلم أن الرواية صواب، وإنما الوهم في معناهما.
م: (ولا يقضى بها دين ميت لأن قضاء دين الغير لا يقتضي التمليك منه) ش: أي من الغير، بدليل أن الدائن والمديون إذا تصرفا على أن لا دين بينهما، وللمؤدي أن يسترد المقبوض من القابض فلم يصر هو ملكا للقابض، وإنما قيده بقوله دين ميت، فإنه لو قضى بها دين حي بأمره يجوز، وتقع الزكاة كأنه تصدق على المديون، والقابض وكيل في قبض الصدقة كذا في " شرح الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكذا الولوالجي لو أمر فقيرا بقبض دين له من زكاة ماله جاز، لأنه قبض عينا والعين تجوز عن العين والدين جميعا، أما لو تصدق بمال على الذي هو له عليه دين وهو فقير جاز عن ذلك، ولم يجز عن العين، لأن في الوجه الأول أدى المال الناقص عن الناقص فيجوز، وفي الوجه الثاني أدى الناقص عن الكامل فلا يجوز. وقال أبو ثور وابن حبيب من المالكية: يقضي بها دين الميت، وجعلاه من الغانمين، والصحيح ما ذكرناه.
وبه قال الثوري ومالك والشافعي وأحمد م: (لا سيما من الميت) ش: كان في نسخة الأترازي وقع سيما بدون لا، فقال: هذا على خلاف استعمال العرب، لأن قياس كلامهم أن يقال لا سيما وهي من كلمات الاستثناء، قال صاحب " المقتصد ": أما لا سيما فله وجهان، أحدهما أن يقول كما في القوم لا سيما زائدة فيجر وتجعل ما زائدة، كأنك قلت: لا سي زيد بمنزلة لا مثل زيد.
والوجه الثاني: أن تقول: لا سيما زيد فتجعل ما بمعنى الذي، وزيد خبر مبتدأ محذوف كأنك قلت لا سي الذي هو زيد، وقيل الجر بعد لا سيما كثير والرفع قليل، وقد يجوز النصب وهو الأقل، انتهى. وقال الميداني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الهادي للساري ": إن لا سيما كلمة تخصيص، أي أخص ما يذكر بعده إذا قلت: أكرمني الناس، لا سيما زيد أي خاصة زيد. م: (ولا يشتري بها) ش: أي بالزكاة م: (رقبة تعتق، خلافا لمالك حيث ذهب إليه) ش: أي إلى جواز شراء العبد بالزكاة لأن يعتق، وبه قال إسحاق وأبو ثور وعبد الله بن الحسن العنبري، ورواه البخاري عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (في تأويل قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177] ش:(3/463)
ولنا أن الإعتاق إسقاط الملك وليس بتمليك.
ولا تدفع إلى غني
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أو لأنه قال يشتري مملوكا فيعتق، لأن لفظ الرقاب يقتضي ذلك.
م: (ولنا أن الإعتاق إسقاط وليس بتمليك) ش: لأن التمليك ركن، لأنه الأصل في دفع الزكاة.
فإن قلت: أنتم جعلتم اللام في الآية للعاقبة ودعوى التمليك بدلالة اللام فلم تبق إلا دعوى مجردة.
قلت: معنى جعل اللام للعاقبة أن المقبوض يصير ملكا لهم في العاقبة ثم يحصل لهم الملك بدلالة اللام فلم تبق دعوى مجردة.
م: (ولا تدفع) ش: أي الزكاة م: إلى غني) ش: أي الذي يملك النصاب، لأن الغنى ثلاثة أنواع. أحدهما: الغنى الذي يتعلق به وجوب الزكاة وهو أن يملك نصابا من المال النامي الفاضل عن حاجته.
الثاني: الغنى الذي تحرم له الصدقة وتجب به الفطرة والأضحية وهو أن يملك ما يساوي مائتي درهم فاضلا عن ثيابه وثياب أهل بيته وخادمه ومسكنه وفرسه وسلاحه.
والثالث: الغنى الذي يحرم له السؤال وعليه العامة، وفي " العين " عن أحمد روايتان في الغنى المانع من أخذ الزكاة، أظهرهما مالك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب، وإن لم يقل بكفايته. وفي " شرح الهداية " لأبي الخطاب روي ذلك عن علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص والنخعي والثوري وابن المبارك وابن جني وابن راهويه.
والرواية الثانية: والغنى المحرم لأخذ الزكاة ما يحصل به كفاية الإنسان حتى لو كان محتاجا حلت له الصدقة وإن كان يملك نصابا، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي رواية عن مالك وعندنا ملك النصاب الذي يصير به غنيا على ما ذكرته، وهو قول ابن شبرمة ورواية المغيرة عن مالك، والتقدير بالحاجة مع ملك النصاب ضعيف، إذ لا ضابط للحاجة ولم يرد به شرع، والنصاب ضابط شرعي لأن الغني دافع لا آخذ.
وقال الحسن البصري وأبو عبيد: الغني من ملك أوقية وهي أربعون درهما، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو كان للرجل دار تساوي عشرة آلاف درهم ليس فيها من فضل على سكناه يحل له أخذ الزكاة، وإن فضل فيها عن ذلك ما يساوي مائتي درهم لا تحل، ولو كانت له ضيعة غلتها لا تفضل عنه وعن عياله لا تحل له الزكاة عندهما، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تحل له لأنها مشغولة بحاجة ويشق عليه بيعها، ولو كان له فيها [.....] لا تحل له الزكاة عندهما، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تحل لأنه تبع للضيعة.(3/464)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل الصدقة لغني»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " فتاوى" الفضلي قيل لرجل: كيف حالك؟ قال: أنا غني عند أبي يوسف فقير عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، هذا رجل ملك دارا وحوانيت تساوي ألوفا، لكن لا تكفي غلتها لقوته وقوت عياله، عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - غني لا تحل له الصدقة، وعند محمد فقير تحل له الصدقة، وعن الحسن البصري قال: كانت الصدقة تحل للرجل وله دار وخادم وسلاح يساوي عشرة آلاف درهم.
وفي المرغيناني لو كان له كسوة ثيابا لا يحتاج إليها في الصيف لا تحل له الزكاة عند أبي يوسف، وقياس هذا لا تحل له الزكاة عند أبي يوسف إذا كان له طعام سنة يبلغ نصابا، وهو خلاف المشهور، وفي " المحيط وجوامع الفقه " لو زاد على طعام شهر يبلغ مائتي درهم لا تحل له الصدقة، وذلك وفي " الذخيرة " هذا قول المشايخ، واختاره الصدر الشهيد، وبعض المشايخ اعتبر ما زاد على السنة.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا تحل الصدقة لغني» ش: هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فعن عبد الله بن عمرو أخرجه أبو داود والترمذي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» ، وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه النسائي وابن ماجه قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي» ، وأخرجه ابن حبان أيضا، وعن حبشي بن جنادة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع وهو واقف بعرفة.... الحديث، وفيه: «أن المسألة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي إلا لذي فقر مدقع أو غرم» ، وانفرد به الترمذي.
وعن جابر أخرجه الطبراني في "الأوسط" أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «من سأل وهو غني عن المسألة يحشر يوم القيامة وهي خموش في وجهه» وعن الوازع بن نافع عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله: «قال جاءت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة فركبه الناس، فقال: "إنها لا تصلح لغني ولا لصحيح سوي ولا لعامل قوي» ، وقال ابن حبان: الوازع بن نافع يروي الموضوعات عن الثقات على قلة روايته.(3/465)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن طلحة بن عبد الله أخرجه أبو يعلى الموصلي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» ، ضعيف، وعن عبد الرحمن بن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه الطبراني في "معجمه" نحو حديث طلحة، وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه ابن عدي في " الكامل " نحوه وهو ضعيف، وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه أبو داود وابن ماجه «أن رجلا من الأنصار أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأله فقال: "أما في بيتك شيء؟ " قال: بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه الماء....» الحديث، وفيه: «إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة، لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع» .
وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه تمام في "فوائده " من حديث مسروق قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سأل الناس ليروا ماله فإنما هو رضف من النار يلتقمه، فمن شاء فليفعل، ومن شاء فليكثر» ، وفيه يحيى بن السلمي ضعيف صالح مرره، وعن عمران بن حصين أخرجه أحمد والدارمي من رواية الحسن عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مسألة الغني شين في وجهه يوم القيامة» ، وعن ثوبان أخرجه أحمد والبزار والطبراني من رواية معدان بن أبي طلحة عن ثوبان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سأل مسألة وهو عنها غني كانت شينا في وجهه يوم القيامة» وإسناده صحيح، وعن مسعود بن عمر أخرجه البزار والطبراني في "الكبير " بإسنادهما عنه قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه فلا يكون له عند الله وجه» .
وعن رجل من بني هلال رواه أحمد من رواية أبي زميل، قال حدثني رجل من بني هلال قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تحل المسألة لغني ولا لذي مرة سوي» . وعن رجلين غير مسميين أخرجه أبو داود والنسائي من رواية عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: «أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة. فسألاه منها فرفع فينا البصر وخففه فرآنا جلدين، فقال: "إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» ، انتهى.
المرة بكسر الميم القوة والشدة ومنه قَوْله تَعَالَى في وصف جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم: 6] (النجم: الآية 6) ، والسوي الصحيح الأعضاء، ومدقع بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر القاف وبعين مهملة هو الشديد وهو من الدقع وهو التراب، ومعناه يفضي لصاحبه إلى الدقعاء، والغرم شيء لازم له، ومفظع بضم الميم وكسر الظاء المعجمة وهو(3/466)
وهو بإطلاقه حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غني الغزاة، وكذا حديث معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ما روينا.
قال: ولا يدفع المزكي زكاته إلى أبيه وجده وإن علا ولا إلى ولده وولد ولده وإن سفل، لأن منافع الأملاك بينهم متصلة فلا يتحقق التمليك على الكمال ولا إلى امرأته للاشتراك في المنافع عادة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشديد الشنيع. قوله -لذي دم، بالدال المهملة وتخفيف، وموجع، بكسر الجيم، وهو ما وجب على العاقلة تحمله من الدية.
م: (وهو بإطلاق حجة على الشافعي في غني الغزاة) ش: فإنه يجوز دفع الزكاة إلى الغازي وإن كان غنيا.
فإن قلت: خص منه العامل الغني حيث يحل له أخذ الصدقة، وابن السبيل الذي له مال كثير في بيته.
قلت: لا نسلم التخصيص لأن الذي يأخذه العامل أجرة عمله لا باعتبار أنه صدقة، وأن الذي يأخذه ابن السبيل باعتبار أنه فقير في هذه الحالة.
فإن قلت: جاء في حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله أو ابن السبيل أو جار فقير يتصدق عليه فيهدي لك أو يدعوك» فهذا يدل على ما قاله.
قلت: معنى الغني بكسبه، أي المستغني بكسبه عن السؤال، فإنه إن استغنى بالكسب لا تحل له الصدقة إلا إذا كان غازيا فتحل له لاشتغاله بالجهاد عن الكسب.
م: (وكذا حديث معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ما روينا) ش: أي وكذا حديث معاذ بن جبل حجة عليه وقد مر.
[دفع الزكاة للآباء والأبناء والزوجة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يدفع المزكي زكاته إلى أبيه وجده وإن علا، ولا إلى ولده وولد ولده وإن سفل) ش: وكذا لا يدفع إليهم عشره وسائر واجباته، بخلاف الركاز إذا وجده له أن يعطي خمسه من هو من أهل الحاجة منهم، ولو بقي شيء لولده لم يعطه، وكذا المخلوق من مائه بالزنا م: (لأن منافع الأملاك بينهم متصلة) ش: حتى ينتفع أحدهما بمال الآخر ولهذا لم تقبل شهادة البعض للبعض، فكان الصرف إليهم صرفا إلى نفسه من وجه م: (فلا يتحقق التمليك على الكمال) ش.
فالشرط التمليك الكامل م: (ولا إلى امرأته) ش: أي ولا يدفع المزكي زكاته إلى امرأته م: (للاشتراك في المنافع عادة) ش: قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] (الضحى: الآية 8) ، قيل أي بمال خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وسواء كانت امرأته في عدة رجعي أو بائن بواحدة أو بثلاث،(3/467)
ولا تدفع المرأة إلى زوجها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما ذكرنا. وقالا: تدفع إليه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لك أجران أجر الصدقة وأجر الصلة» قاله لامرأة ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو تزوجت امرأة الغائب فولدت أولادا قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الأولاد من الغائب، ومع هذا يجوز دفع الزكاة إليهم، وتجوز شهادة الأولاد له، ذكره الإمام التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي " المبسوط " وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجزئه إذا دفعها إلى امرأته لأنه لا حرمة بينهما، وتجوز شهادته له عنده، وفي " المجتبى " وهذا قول مسند، والمشهور عن الشافعي أنه لا يجوز.
وفي " الأسبيجابي " وأما الأخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وأولادهم فلا بأس بدفع الزكاة إليهم، وذكر الزندويسني أن الأفضل في مصرف الزكاة المال إلى هؤلاء السبعة، أخوته وأخواته الفقراء، ثم أولادهم ثم أعمامه وعماته الفقراء، ثم أخواله وخالاته الفقراء، ثم ذوو أرحامهم ثم جيرانه ثم أهل سكنه ثم أهل مصره.
م: (ولا تدفع المرأة) ش: أي الزكاة م: (إلى زوجها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم ذكرنا) ش: أي للاشتراك في المنافع، وبه قال مالك وأحمد، واختاره الحربي وأبو بكر من الحنابلة م: (وقالا تدفع إليه) ش: أي وقال أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله-: تدفع المرأة زكاتها إلى زوجها وبه قال الشافعي وأشهب من المالكية، وقال القرافي كرهه الشافعي وأشهب.
قلت: حكى الثوري أن زوجها أفضل عند الشافعي م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. م: «لك أجران أجر الصدقة وأجر الصلة» قاله لامرأة ابن مسعود) ش: هذا الحديث أخرجه مسلم وأخرجه الجماعة إلا أبا داود عند زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن"، قالت فرجعت إلى عبد الله فقلت إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أمرنا بالصدقة، فأته فاسأله فإن كان ذلك يجزئ عني وإلا صرفتها إلى غيركم، قالت: فقال لي عبد الله: بل ائتيه أنت. فانطلقت فإدا امرأة من الأنصار بباب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاجتي حاجتها، قالت: وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ألقيت عليه المهابة، قالت: فخرج بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقلنا له: أخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن امرأتين بالباب يسألونك أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبر من نحن.
قالت: فدخل بلال فسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "من هما؟ " فقال: امرأة من الأنصار وزينب، قال: "أي الزيانب" قال: امرأة عبد الله بن مسعود، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لهما أجران أجر القرابة وأجر الصلة» واسم امرأة ابن مسعود زينب وهي بنت عبد الله بن معاوية الثقفية، ويقال اسمها رايطة، ويقال ريطة، ويقال اسمها زينب وريطة لقت لها، وقيل ريطة(3/468)
وقد سألته عن التصدق عليه قلنا هو محمول على النافلة.
قال: ولا يدفع إلى مكاتبه وأم ولده ومدبره لفقدان التمليك إذ كسب المملوك لسيده، وله حق في كسب مكاتبه فلم يتم التمليك، ولا إلى عبد قد أعتق بعضه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه بمنزلة المكاتب عنده،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
زوجة أخرى لابن مسعود وهي أم ولده، ذكرها ابن الأثير في الصحابيات. وقال الطحاوي: ورايطة هذه هي زينب امرأة عبد الله، ولا نعلم أن عبد الله كانت له امرأة غيرها في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (وقد سألته عن الصدقة على زوجها) ش: أي والحال أن امرأة ابن مسعود سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التصدق على ابن مسعود م: (قلنا هو محمول على النافلة) ش: هذا جواب عن حديث زينب، وهو أنه محمول على صدقة التطوع، ألا ترى أنها سألت عما كانت تنفق على عبد الله وأيتام لها في حجرها، ومعلوم أن صدقة الشخص إذا كانت فريضة فلا يحوز صرفها في ولده، فعلم بذلك أنها كانت نافلة.
م: (قال ولا يدفع إلى مكاتبه) ش: أي ولا يدفع زكاته إلى أي وبه قال الثوري والشافعي وجمهور العلماء، لأن كسب المكاتب موقوف على سيده، فلم يوجد الإخراج الصحيح، وإذا دفع إلى مكاتب غيره وإن كان مولاه غنيا، لأن أداء الزكاة إلى الغني يجوز في الجملة كالعامل الغني وابن السبيل إذا كان له مال في وطنه م: (وأم ولده) ش: لقيام الملك فيها، ولهذا يحل وطؤها وإنما يحرم بيعها.
م: (ومدبره) ش: سواء كان مقيدا أو مطلقا لقيام الملك فيه، ولهذا يجوز عتقه، وهذا التعليل يرجع إلى الكل م: (لفقدان التمليك أو كسب المملوك لسيده، وله حق في كسب مكاتبه فلم يتم التمليك) ش: وهذا التعليل يرجع إلى الكل.
م: (ولا إلى عبد قد أعتق بعضه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأنه بمنزلة المكاتب عنده) ش: إن كانت الرواية بضم الهمزة على ما لم يسم فاعله، فصورته إذا رهن عبد ثم أعتقه الراهن وهو معسر فهذا العبد يسعى والمستسعى عنده كالمكاتب، فلو أدى الرهان زكاته إليه لا يجوز عنده، لأنه أدى إلى مكاتبه، وهو محمول على ما إذا أعسر بعد وجوب الزكاة عليه، وقال السروجي: يؤخذ على صاحب الحواشي حكمان فيه، الأول: كون المستسعى عنده كالمكاتب ليس على الإطلاق، فتارة يكون حكمه حكم المكاتب عنده، إلا أنه لا يرد إلى الرق للعجز، وتارة يكون حرا وهو يسعى بالإنفاق، وهذا في مسائل ذكرها في زيادات قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ -. منها إذا قال المولى لأمته: أعتقتك على أن تزوجيني نفسك، فقبلت عتقت، فإن أبت تسعى في قيمتها وهي حرة بالإنفاق، وفيما إذا أعتق الراهن العبد المرهون وهو معسر يسعى في قيمته وهو حر بالاتفاق.(3/469)
وقالا: يدفع إليه لأنه حر مديون عندهما، ولا يدفع إلى مملوك غني، لأن الملك واقع لمولاه ولا إلى ولد غني إذا كان صغيرا، لأنه يعد غنيا بمال أبيه، بخلاف ما إذا كان كبيرا فقيرا، لأنه لا يعد غنيا بيسار أبيه وإن كانت نفقته عليه، بخلاف امرأة الغني لأنها وإن كانت فقيرة لا تعد غنية بيسار زوجها وبقدر النفقة لا تكون موسرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والحكم الثاني: وهو قوله: إذا أعتق الراهن العبد المرهون يسعى وهو عنده كالمكاتب عنده، بل هذا غلط بل يسعى وهو حر.
م: (وقالا: يدفع إليه لأنه حر مديون عندهما) ش: وفي " الكافي ": هذا لا يستقيم على قولهما، لأنه لو أعتق نصف عبده يعتق كله بلا سعاية، وإنما يستقيم على قولهما إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه وهو معسر فحينئذ عندهما حر مديون، قيل في جوابه: هذا بعد عرضة كونه مديونا لأنه خرج عن الرق، وليس له شيء ولا يتهيأ له كسب في الحال، فلا بد من لحوق الدين غالبا وهو غير قوي.
م: (ولا يدفع إلى مملوك غني) ش: بإضافة المملوك إلى الغني، أي مملوك رجل غني م: (لأن الملك واقع لمولاه) ش: لأن العبد لا يملك شيئا، ولا بد من قيد إلى مملوك غني غير مكاتبه، وفي " التحفة " لا يجوز إلى مملوكه إذا لم يكن عليه دين كدين الاستهلاك أو دين التجارة، وإن كان مستغرقا به ينبغي أن يجوز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا يملك كسبه عنده، وكذا لا يجوز دفها إلى مدبر غني وأم ولده إذا لم يكن عليهما دين مستغرق. وفي " الذخيرة " إذا كان العبد زمنا وليس في عيال مولاه ولا يجد شيئا يجوز، وكذا إذا كان مولاه غائبا، وإن كان غنيا، يروى عن أبي يوسف.
م: (ولا إلى ولد غني إذا كان صغيرا، لأنه يعد غنيا بمال أبيه) ش: لأنه تجب ولاية الأب ومؤنته. وفي " فنية المنية ": إذا لم يكن للصغير أب وله أم غنية يجوز الدفع إليه، وفي " الذخيرة "، وذكر في بعض " شروح الجامع الصغير " إن على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز الدفع إلى ولد الغني صغيرا كان أو كبيرا، وقال صاحباه: يجوز في " الكبير " دون الصغير م: (بخلاف ما إذا كان كبيرا فقيرا، لأنه لا يعد غنيا بيسار أبيه وإن كانت نفقته عليه) ش: كلمة إن واصلة بما قبلها، أي كانت نفقة الولد الكبير على الأب بأن كان زمنا أو أعمى أو أنثى.
م: (وبخلاف امرأة الغني لأنها إذا كانت فقيرة لا تعد غنية بيسار زوجها وبقدر النفقة لا تكون موسرة) ش: لأن مقدار النفقة لا يغنيها، وفي " التحفة ": يجوز الدفع إلى امرأة الغني إذا كانت فقيرة، وكذلك إلى البنت الكبيرة فقيرة، يعني وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأن الزوج لا يدفع حوائج الزوجية والبنت الكبيرة. وفي " الينابيع ": يجوز دفع الزكاة إلى امرأة الغني عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(3/470)
ولا تدفع إلى بني هاشم، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يا بني هاشم! إن الله تعالى حرم عليكم غسالة الناس وأوساخهم وعوضكم منها بخمس الخمس» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقالا: إن فرض القاضي النفقة على الزوج لا يجوز، وقيل: قول محمد مع أبي حنيفة وهو الأصح، وإن لم يفرض القاضي النفقة لها جاز بالإجماع، وإنما شرط القضاء بالنفقة على قول أبي يوسف لأن الاستغناء به يتأكد، لأن قبل القضاء لا يصير دينا، كذا في " الإيضاح ".
ولو دفع إلى صبي غير عاقل فدفعه هو إلى وصيه أبو أبيه لا يجزئه من الزكاة، ويجوز قبض الصغير بنفسه إذا عقل ذلك. ولو دفع إلى المعتوه جاز بخلاف المجنون.
[حكم إعطاء الزكاة والصدقة لبني هاشم ومواليهم]
م: (ولا تدفع إلى بني هاشم) ش: أي ولا تدفع الزكاة إلى بني هاشم. وفي " الإيضاح" الصدقات الواجبات كلها عليهم لا تجوز لإجماع الأئمة الأربعة، وروى أبو عصمة عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز دفع الزكاة إلى الهاشمي، وإنما كان لا يجوز في ذلك الوقت لسقوط خمس الخمس، ويجوز النقل بالإجماع. وروى ابن سماعة عن أبي يوسف أنه قال: لا بأس بصدقة بني هاشم بعضهم على بعض، ولا أرى الصدقة عليهم ولا على مواليهم من غيرهم. وفي " شرح الآثار ": عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا بأس بالصدقات كلها على بني هاشم والحرمة للعوض، وهو خمس الخمس، فلما سقط ذلك بموته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلت لهم الصدقة.
قال الطحاوي: وبه نأخذ، في السفر يجوز الصرف إلى بني هاشم في قوله خلافا لهما، وفي " المبسوط " يجوز دفع صدقة التطوع والأوقاف إلى بني هاشم، وروي عن أبي يوسف ومحمد في " النوادر " وفي " شرح مختصر الكرخي " و" الأسبيجابي " و" المفيد " إذا سموا في الوقف، وفي " الكرخي " إذا أطلق الوقف لا يجوز، لأن حكمهم حكم الأغنياء. وفي " الذخيرة ": الوقف على أقرباء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جائز، وإن كانت الصدقة لا تحل لهم، وفي " النسفي " عن أبي يوسف: يجوز صرف صدقات الأوقاف إلى الهاشمي إذا سمي في الوقف.
وفي " شرح التجريد " للكردي: الصدقة على بني هاشم بطريق الصلة والتبرع، قال بعض أصحابنا تحل، وقال بعضهم: لا تحل. وفي " شرح القدوري ": الصدقة الواجبة كالزكاة والعشر والنذر والكفارات لا تجوز لهم.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «يا بني هاشم! إن الله تعالى حرم عليكم غسالة الناس وأوساخهم، وعوضكم منها بخمس الخمس» ش: هذا الحديث بهذا اللفظ غريب، وروى الطبراني في "معجمه " من حديث عكرمة، وروى مسلم في حديث طويل من رواية عبد المطلب وربيعة مرفوعا أن «هذا الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد.» وروى الطبراني في "معجمه " من حديث عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنه لا يحل لكم أهل البيت من الصدقات شيء، إنما هي غسالة الأيدي وإن لكم في(3/471)
بخلاف التطوع، لأن المال ها هنا كالماء يتدنس بإسقاط الفرض، أما التطوع فبمنزلة التبرد بالماء. قال: وهم آل علي وآل عباس وآل جعفر وآل عقيل وآل الحارث بن عبد المطلب ومواليهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خمس الخمس لم يعنيكم» . وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أخذ الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تمرا من تمر الصدقات، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كخ كخ ارم بها أما علمت أنا لا نأكل الصدقة» ، متفق عليه. وكخ كلمة لزجر الصبيان والودع. قال الداودي: هي كلمة عجمية عربتها العرب، ويروى بفتح الكاف والتنوين، وفي رواية أبي ذر بكسر الكف وسكون الخاء ويروى بتشديد الخاء أيضا.
م: (بخلاف التطوع) ش: أي يجوز صرف صدقة التطوع إلى بني هاشم م: (لأن المال ها هنا كالماء يتدنس بإسقاط الفرض) ش: أراد أن حكم المال في هذا الباب كحكم الماء، فإنه يصير مستعملا بإسقاط الفرض م: (أما التطوع) ش: أي ما صدقة التطوع م: (فبمنزلة التبرد بالماء) ش: حيث لا يتدنس المؤدي به بمنزلة الماء المستعمل، وفي النفل يتبرع بما ليس عليه فلا يتدنس به المؤدى كمن تبرد بالماء، أو نقول: الماء في التطهير فوق المال، لأن المال يطهر حكما، والماء حقيقة وحكما، فيكون المال مطهرا من وجه دن وجه.
فجعله متدنسا في الفرض دون النفل عملا بالشبهين، وأجيب بالوجه الثاني عن اعتراض من يقول بأن التشبيه بالوضوء على الوضوء كان السبب باعتبار وجود القربة بهما.
م: (قال: وهم) ش: أي بنو هاشم م: (آل علي وآل العباس وآل جعفر وآل عقيل وآل الحارث ابن عبد المطلب ومواليهم) ش: أي موالي هؤلاء، اعلم أن العباس والحارث عمان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجعفر وعقيل أخوان لعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فكلهم ينتسبون إلى هاشم بن عبد مناف، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وولده أبو طالب عم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن عبد المطلب طالبا ولا عقب له، وجعفرا ذا الجناحين قتل يوم مؤتة وعقيلا وعليا، وأمهم فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وكان بين طالب وعقيل عشر سنين، وبين عقيل وجعفر عشر سنين، وبين جعفر وعلي عشر سنين.
قال أبو نصر البغدادي: وما عدا المذكورين لا تحرم عليهم الزكاة، ويقويه قول الأسبيجابي في " شرح القدوري ": أنهم كانوا ينسبون إلى هاشم بن عبد مناف إلا من أبطل النص قرابته وهم بنو أبي لهب. وعن أحمد روايتان في بني عبد المطلب، وقال أصبغ: هم عشيرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأقربون الذين أمروا بإنذارهم إلى قصي.
وقيل قريش كلها. وفي " الكمال ": كل من ينسب إلى فهر ليس بقرشي، وإن من تقدم(3/472)
أما هؤلاء فلأنهم ينسبون إلى هاشم بن عبد مناف، ونسبة القبيلة إليه. وأما مواليهم فلما روي «أن مولى لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأله أتحل لي الصدقة؟ فقال: لا أنت مولانا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذا فلا يقال إنه قرشي، وفهر أبو قريش، وقال محمد بن إسحاق: قريش هو النضر، وتابعه عليه أبو عبيد وأكثر الناس. وحكى الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " معاني القرآن " أن ولد المطلب منهم، قال: ولم أجد ذلك رواية عنهم، وجعل بني أبي لهب من أهل البيت، فمقتضى هذا أن تحرم الصدقة عليهم، وهذا خلاف ما ذكره أبو نصر والأسبيجابي. م: (أما هؤلاء) ش: أشار به إلى قوله وهم آل علي إلى آخره.
م: (فلأنهم ينسبون إلى هاشم بن عبد مناف) ش: اسم هاشم عمرو، وإنما سمي هاشما لأنه هشم الئريد لقومه، واسم عبد مناف المغيرة م: (ونسبه القبيلة إليه) ش: أي نسبة قبيلة بني هاشم إلى هاشم بن عبد مناف، ذكر الزبير بن بكار أن العرب ستة طبقات شعب وقبيلة وعمارة وبطن وفخذ وفصيلة، قالوا: كنانة بن خزيمة قبيلة.
وقريش هو النضر بن كنانة عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة، والشعب فوق الكل بجميع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ يجمع الفصائل، والشعب مثل مضر وربيعة وحمير ومذحج.
م: (وأما مواليهم) ش: جمع مولى أي وأما وجه دخول موالي بني هاشم في حكم بني هاشم في حرمة أخذ الصدقات م: (فلما روي أن مولى «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأله أتحل لي الصدقة؟ فقال: لا أنت مولانا» ش: هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن ابن أبي رافع مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: اصحبني، فلك نصيب منها، فقال: لا حتى آتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسأله، فأتاه فسأله فقال: "مولي القوم من أنفسهم، وإنا لا تحل لنا الصدقة» . وقال الترمذي: هذا حديث صحيح، وأخرجه أحمد في "مسنده" والحاكم في "مستدركه "، واسم ابن أبي رافع عبد الله واسم أبي رافع أسلم وقيل: إبراهيم، وقيل: ثابت، وقيل: هرمز، وكان كاتب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوله رجلا من بني مخزوم هو الأرقم بن أبي الأرقم القرشي المخزومي بين ذلك النسائي والخطيب، كان من المهاجرين الأولين، وكنيته أبو عبد الله، وهو الذي استخفى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في داره بمكة في أسفل الصفا حتى كملوا أربعين رجلا آخرهم عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهي الدار التي تعرف بالخيزران.
قوله: أتحل لنا الصدقة، الهمزة فيه للاستفهام على وجه الاستخبار، والمراد بالصدقة(3/473)
بخلاف ما إذا أعتق القرشي عبدا نصرانيا حيث تؤخذ منه الجزية ويعتبر حال المعتق، القياس والإلحاق بالمولى بالنص وقد خص الصدقة
قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا دفع الزكاة إلى رجل يظنه فقيرا ثم بان أنه غني أو هاشمي كافر، أو دفع في ظلمة فبان أنه أبوه أو ابنه فلا إعادة عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزكاة، وللشافعي في الموالي وجهان أحدهما مثل مذهبنا، وفي وجه لا تدفع.
م: (بخلاف ما إذا أعتق القرشي عبد نصرانيا حيث تؤخذ منه الجزية، ويعتبر حال المعتق) ش: بفتح التاء، هذا جواب عن سؤال مقدر، بيانه أن يقال: كيف ألحق موالي بني هاشم بهم في حرمة الصدقة؟ ولم يلحق مولى القرشي في منع أخذ الجزية؟ إذ لا يجوز وضع الجزية على القرشي، ويجوز وضعها على عبده النصراني إذا أعتقه، فقال في جوابه بخلاف ما إذا أعتق..
إلخ، وحاصله أن القياس أن يعتبر حال المعتق بفتح التاء، ولا يلحق بالمعتق بكسر التاء في حال ما، لأن كل واحد منهما أصل بنفسه من حيث البلوغ والعقل والحرية، وخطاب الشرع م: (لأن القياس والإلحاق) ش: أي إلحاق المعتق م: (بالمولى) ش: إنما كان م: (بالنص وقد خص) ش: أي النص م: (الصدقة) ش: يعني ورد النص خاصا بالصدقة، فاقتصر على مورد النص لوروده على خلاف القياس فلا يتعداه، ولهذا يؤخذ من مولى التغلبي الجزية دون الصدقة المضاعفة.
[الحكم لو دفع الزكاة لغير مستحقيها وهو لا يعلم]
م: (قال أبو حنيفة ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذا دفع الزكاة إلى رجل يظنه فقيرا) ش: أي حال كون الدافع يظن الرجل الذي دفع إليه الزكاة فقيرا م: (ثم بان) ش: أي ظهر م: (أنه غني أو هاشمي أو كافر، أو دفع زكاته في ظلمة فبان أنه أبوه أو ابنه فلا إعادة عليه) ش: أي لا يجب عليه إعادة الزكاة، وهو قول الحسن البصري وأبي عبيد، وبه قال مالك والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في قول، هذا من المغني عنده، وأما في الكافر فأظهر القولين الإعادة وبه قال مالك وأحمد.
وكذا لو بان هاشميا أو أحد أبويه أو ابنه فإنه يعيدها عندهم، وفي طريق آخر إن كان الدفع من جهة الإمام فيه قولان، وإن كان من جهة رب المال فعليه الإعادة قولا واحدا. قوله: أو كافر، أراد به الذمي، وقد صرح أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح مختصر الطحاوي ". وقال صاحب " التحفة ": وأجمعوا أنه إذا ظهر أنه حربي أو مستأمن لا يجوز. وفي " التحفة " أيضا إذا دفعها إلى المذكورين فهذا على ثلاثة أوجه.
الأول: دفعها بنية الزكاة، ولم يخطر بباله أنه غني أو فقير أو مسلم أو ذمي فهو على الجواز، إلا إذا تبين من يمنعه.
الثاني: دفعها على وجه الشك، ولم يتحر أو تحرى بقلبه ولم يفهم دليل الفقر، فالأصل الفساد إلا إذا تبين أنه فقير فيجوز.(3/474)
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عليه الإعادة لظهور خطأه بيقين، وإمكان الوقوف على هذه الأشياء وصار كالأواني والثياب. ولهما حديث معن بن يزيد فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال فيه: «يا يزيد لك ما نويت ويا معن لك ما أخذت» وقد دفع إليه وكيل أبيه صدقته،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثالث: إذا تحرى وطلب، وفي " المبسوط " فسأله فأخبره أنه فقير أو كان جالسا مع الفقراء أو كان عليه زي الفقر. وفي " المفيد ": وكان يصنع صنعهم من مد اليد، أو كان ضريرا ومعه عصي فظهر خلافه، فلا إعادة عليه عند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله-.
م: (وقال أبو يوسف: عليه الإعادة) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول الثوري وابن حي وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لظهور خطئه بيقين وإمكان الوقوف على هذه الأشياء) ش: فيكون مقصرا فعليه الإعادة ثانيا ولا تقع الأولى عن الزكاة، فليس معناه أنه يجب استرداد ما أدى لأنه يرد بالاتفاق، وهل يطيب المقبوض للقابض، ذكر الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه رواية فيه واختلفوا فيه.
فعلى قول من لا يطيب ماذا يصنع بها؟ قيل يتصدق به، وقيل يرد للمعطى على وجه التمليك ليعيد الأداء م: (وصار كالأواني والثياب) ش: أي صار الحكم في هذه المسألة كالحكم في الأواني والثياب، يعني إذا توضأ من إناء نجس على اجتهاده أنه طاهر، أو صلى في ثوب نجس على اجتهاده أنه طاهر ثم تبين أنه نجس تلزمه الإعادة، والأواني الطاهرة إذا اختلطت بالنجسة، فإن غلبت الطهارة مثل أن يكون إناءان طاهرين أو واحدا نجسا فإنه لا يجوز له أن يترك التحري.
فإذا تحرى وتوضأ ثم ظهر الخطأ يعيد الوضوء، وأما إذا غلبت الطهارة أو تساويا يتيمم ولا يتحرى. أما الثياب الطاهرة إذا اختلطت بالنجسة وليس ثمة علامة يعرف بها فإنه يتحرى مطلقا، فإذا صلى بثوب بها بالتحري ثم طهر خطؤه أعاد الصلاة.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله- م: (حديث معن بن يزيد فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال فيه: «يا يزيد لك ما نويت، ويا معن لك ما أخذت» ش: هذا الحديث أخرجه البخاري عن معن بن يزيد قال: «بايعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا وأبي وجدي وخطب على فأنكحنى وخاصمت له، وكان أبي أخرج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد فأخذتها، فقال: والله ما إياك أردت، فخاصمته إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "لك ما نويت يا يزيد ولك ما أخذت يا معن» ، وجوز ذلك ولم يستفسر أن الصدقة كانت فريضة أو تطوعا، وذلك يدل على أن الحال لا يختلف، أو لأن مطلق الصدقة ينصرف إلى الفريضة.
م: (وقد دفع إليه) ش: أي إلى معن م: (وكيل أبيه صدقته) ش: هذا بيان صورة الواقعة، وبينها في متن الحديث، ولكن ليس في الحديث أن وكيل أبيه دفعه أليه، وإنما فيه هو الذي أخذه(3/475)
ولأن الوقوف على هذه الأشياء بالاجتهاد دون القطع فيبني الأمر فيها على ما يقع عنده كما إذا اشتبهت عليه القبلة، وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غير الغني أنه لا يجزئه، والظاهر هو الأول، وهذا إذا تحرى ودفع، وفي أكبر رأيه أنه مصرف، أما إذا شك ولم يتحر أو تحرى فدفع وفي أكبر رأيه أنه ليس بمصرف لا يجزئه غلا إذا علم أنه فقير فتجزئه هو الصحيح.
ولو دفع إلى شخص ثم علم أنه عبده أو مكاتبه لا يجزئه لانعدام التمليك لعدم أهلية الملك وهو الركن على ما مر،
ولا يحوز دفع الزكاة إلى من يملك نصابا من أي مال كان، لأن الغنى الشرعي مقدر به الشرط أن يكون فاضلا من الحاجة الأصلية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولم يدفعه إليه وكيل أبيه م: (ولأن الوقوف على هذه الأشياء بالاجتهاد دون القطع) ش: أي هذا جواب عن قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإن كان الوقوف على هذه الأشياء، يعنى سلمنا أن الوقوف على هذه الأشياء ممكن، لكنه بالاجتهاد دون القطع، وإذا كان كذلك م: (فيبنى الأمر فيها على ما يقع عنده) ش: لأن العلم بحقيقة الفقر والغنى غير ممكن، فإن الإنسان قد لا يعرف أحوال نفسه فيهما فكيف يعرف أحوال نفسه في غيرهما، والتكليف بحسب الوسع، ووسعه الاجتهاد دون القطع م: (كما إذا اشتبهت عليه القبلة) ش: فإنه يتحرى بحسب وسعه فيصلي بما يقع على تحريه.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غير الغني أنه لا يجزئه) ش: يعني إذا بان أنه هاشمي أو كافر أو أنه أبوه أو ابنه فإنه يعيده م: (والظاهر هو الأول) ش: أي ظاهر الرواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو الإجزاء في الكل م: (وهذا) ش: أي عدم الإعادة م: (إذا تحرى ودفع وفي أكبر رأيه أنه) ش: أي والحال أن في أكبر رأيه م: (مصرف) ش: أي للزكاة م: (أما إذا شك فلم يتحر أو تحرى ودفع وفي أكبر رأيه أنه ليس بمصرف لا يجزئه إلا إذا علم أنه فقير فتجزئه هو الصحيح) ش: احترز به عن قول بعض مشايخنا أنه لا يجزئه عند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله-.
م: (ولو دفع إلى شخص ثم علم أنه مكاتبه لا يجزئه) ش: وكذا إذا ظهر أنه مدبره أو أم ولده، وبه صرح في " شرح الطحاوي " م: (لانعدام التمليك) ش: لأنه لم يوجد الإخراج عن ملكه م: (لعدم أهلية الملك وهو الركن) ش: أي والحال أن التمليك وهو الركن في الزكاة ولم يوجد، لأن العبد وما في يده لمولاه، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
م: (على ما مر) ش: إشارة إلى قوله: لفقدان التمليك، إذ كسب المملوك لسيده، وله حق في كسب المكاتب فلم يتم التمليك.
م: (ولا يجوز دفع الزكاة إلى من ملك نصابا من أي مال كان) ش: يعني سواء كان من النقدين أو من العروض أو من السوائم م: (لأن الغنى الشرعي مقدر به) ش: أي بالنصاب م: (والشرط أن يكون فاضلا عن الحاجة الأصلية) ش: أي شرط عدم جواز دفع الزكاة إليه أن يكون النصاب فاضلا(3/476)
وإنما النماء شرط الوجوب ويجوز دفعها إلى من يملك أقل من ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن الحاجة الأصلية، لأنه إذا كان غير فاضل عن حاجته الأصلية يجوز الدفع إليه، والحاجة الأصلية في حق الدراهم والدنانير أن يكون الدين مشغولا بها، وفي غيرها احتياجه إليه في الاستعمال وأحوال المعاش.
وعن هذا ذكر في " المبسوط ": لو كان له ألف درهم وعليه ألف درهم وله دار وخادم لغير الحاجة قيمته عشرة آلاف درهم فلا زكاة عليه، لأن الدين مصروف إلى المال الذي في يده، وأما الدار والخادم فمشغولان بالحاجة الأصلية فلا يصرف الدين إليه، وعلى هذا قال مشايخنا: إن الفقيه إذا ملك من الكتب ما يساوي مالا عظيما ولكنه يحتاج إليها يحل له أخذ الصدقات إلا أن يملك فاضلا عن حاجته ما يساوي مائتي درهم. وذكر المرغيناني: من كانت عنده كتب فقه أو حديث أو أدب يحتاج إلى دراستها يجوز دفع الزكاة إليه وكذا المصاحف.
وفي " جوامع الفقه ": الزائد على مصحف والكتب التي لا يحتاج إليها إذا بلغت قيمتها مائتي درهم يمنع جواز الدفع إلى مالكها، وعن الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعطى الزكاة لمن له عشرة آلاف درهم من الفرس والسلاح والأثاث والثياب والخادم والدار، كذا في " الإيضاح ".
م: (وإنما النماء شرط الوجوب) ش: يعني الشرط في عدم جواز الدفع ملك النصاب الفاضل عن الحاجة الأصلية ناميا كان أو غير نام، والنماء شرط وجوب الزكاة، لا كلام فيه، فلا يشترط لحرمان الصدقة، لأن الحرمان بالغناء وهو يحصل بالنامي وغير النامي، ولهذا تجب عليه صدقة الفطر والأضحية م: (ويجوز دفعها) ش: أي دفع الزكاة، م: (إلى من يملك أقل من ذلك) ش: أي من النصاب. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز دفعها إلى من ملك خمسين درهما لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سأل الناس وعنده ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خدوش) قالوا: وما يغنيه يا رسول الله؟ قال: "خمسون درهما أو قيمتها من الذهب» . ذكر الكاكي هذا الحديث ولم يبين من أخرجه ولا أجاب عنه.
قلت: هذا الحديث أخرجه الترمذي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قوله: خدوش، وفي رواية الترمذي خموش أو كدوح، الخموش هي الخموش وهو جمع خدش وهو قشر الجلد، والكدوح جمع كدح وهو كل أثر من خدش أو عض، وبهذا الحديث استدل الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق أن من كان عنده خمسون درهما لم تحل له الصدقة، وخالفهم في ذلك أبو حنيفة ومالك والشافعي فلم يرو الحديث المذكور حجة لضعفه، وهو إن حسنه الترمذي فقد ضعفه ابن معين والنسائي والدارقطني وغيرهم، لأن في إسناده حكيم بن جبير. قال الترمذي: وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث، وقال شيخنا زين الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "شرحه": وسئل شعبة عن حكيم بن جبير؟ فقال: أخاف النار، وقد كان(3/477)
وإن كان صحيحا مكتسبا، لأنه فقير، والفقراء هم المصارف، ولأن حقيقة الحاجة لا يوقف عليها فأدير الحكم على دليلها وهو فقد النصاب.
ويكره أن يدفع إلى واحد مائتي درهم فصاعدا، وإن دفع جاز. وقال زفر لا يجوز، لأن الغنى قارن الأداء فحصل الأداء إلى الغني. ولنا أن للغناء حكم الأداء فيتعقبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يروى عنه قديما، وقد ضعفه جماعة.
م: (وإن كان صحيحا مكتسبا لأنه فقير، والفقراء هم المصارف) ش: هذا واصل بما قبله أي وإن كان هذا الذي يملك أقل من النصاب صحيحا غير زمن ولا أعمى قادرا على الاكتساب، واحترز به عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن عنده لا يجوز الدفع حقيقة الفقر والغنى لا يعلمها إلا الله -عز وجل- إذ رب شخص عليه آثار الفقر وهو أغنى القوم، ورب شخص عليه آثار الغنى وهو أفقر القوم في نفس الأمر لا يملك شيئا.
م: (فأدير الحكم على دليلها) ش: أي على دليل الحاجة م: (وهو) أي دليل الحاجة م: (فقد النصاب) ش: أي عدم النصاب وهو دليل ظاهر، فيقام مقام حقيقة الحاجة كما في الإخبار عن المحبة فيما إذا قال: إن كنت تحبيني فأنت طالق، فقالت: أحبك، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز دفعها إلى الفقير الكسوب، وقد ذكرناه. وقال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح المهذب ": القوي من أهل البيوعات لم تجر عادته بالتكسب بالبدن له أخذ الزكاة، ولو اشتغل بالعلم وترك التكسب، ويرجى له النفع حلت له الزكاة.
م: (ويكره أن يدفع إلى واحد مائتي درهم فصاعدا) ش: قال في " المبسوط ": الكراهة فيما إذا لم يكن عليه دين أو لم يكن صاحب عيال، أما إذا كان مديونا يجوز له أن يعطى قدر دينه وزيادة على دينه دون المائتين، وكذا إذا كان صاحب عيال يحتاج إلى نفقتهم وكسوتهم. قوله: فصاعدا، نصابا م: (وإن دفع جاز) ش: أي وإن دفع أكثر من مائتي درهم جاز.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز الغنى قارن الأداء) ش: لأنه كما يحصل الأداء يحصل الغنى، إذ الحكم يقارن العلة م: (فحصل الأداء إلى الغنى) ش: وبه قال الحسن بن زياد.
م: (ولنا أن للغنى حكم الأداء) ش: يعني يحصل الغنى بعد الأداء حكما له فلا يكون الغنى اللاحق له مانعا من جواز الأداء، لأن المانع يكون سابقا لا لاحقا، وهو معنى قوله: م: (فيتعقبه) ش: أي فيتعقب الأداء، قيل فيه نظر، لأن حكم العلة مقارن فلا يتأخر عنها كما في العلة الحقيقية، فإن الاستطاعة مع الفعل. عند أهل السنة فكيف يصح قوله: فيتعقبه.
وأجيب بأن الكل وإن قارب التمليك، لكن الغنى يثبت بحقيقة الأداء، لأن الغنى يقع ثم يقع الاستغناء به، والاستغناء إنما يثبت بالتمكن والاقتدار على التصرفات وذلك بما يقتضيه ولا(3/478)
لكنه يكره لقرب منه كمن صلى وبقربه نجاسة. قال: وأن يغنى بها إنسانا أحب إلي معناه الإغناء عن السؤال يومه ذلك، لأن الإغناء مطلقا مكروه.
ويكره نقل الزكاة من بلد إلى بلد، وإنما تفرق صدقة كل فريق فيهم لما روينا من حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفيه رعاية حق الجوار،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يقترن به، وقال فخر الإسلام: الأداء بلا في الفقر، وإنما يثبت الغنى بحكمه، وحكم الشيء لا يصلح مانعا، لأن المانع ما يسبقه لا ما يلحقه، والجواز لا يحتمل البطلان لأن بالبقاء يستغنى عن الفقر م: (لكنه) ش: أي لكن دفع المائتي درهم إلى واحد م: (يكره لقرب الغنى منه) ش: أي من دفع المائتين م: (كمن صلى وبقربه نجاسة) ش: فإن صلاته جائزة مع الكراهة.
م: (قال) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وأن يغنى به إنسانا أحب إلي) ش: قال الأترازي: قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إغناؤك واحد وأحب إلي من إنفاقها إلى الكثير. وقال السغناقي وتبعه الكاكي والأكمل: هذا خطاب يخاطب به أبا حنيفة وأبا يوسف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
قلت: الذي قال الأترازي أقرب إلى الصواب على ما لا يخفى، فيكون الخطاب من محمد إلى دافع الزكاة، وإنما كان أحب إليه لأن المراد منه الإغناء عن السؤال بأداء قوت يومه، وإليه أشار بقوله م: (معناه) ش: أي معنى كونه أحب م: (الإغناء عن السؤال) ش: في يومه ذلك، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم» م: (لأن الإغناء مطلقا مكروه) ش: بأن يجعله غنيا مالكا بالنصاب للنصاب.
وقال فخر الإسلام: من أراد أن يتصدق بدرهم فاشترى به فلوسا يفرقها فقد قصر في الصدقة، لأن الجمع كان أولى من التفريق، وفي " قاضي خان " إذا أراد أن يتصدق بدرهم فالصدقة على واحد أولى من أن يشترى به فلوسا ويتصدق بها على جماعة من الفقراء، وفي " الحاوي ": دفع زكاته إلى فقير واحد أفضل من تفريقه على جماعة لحصول الغناء للواحد دون الجماعة.
[حكم نقل الزكاة]
م: (ويكره نقل الزكاة من بلد إلى بلد) ش: وفي بعض النسخ قال، أي القدوري: ويكره أي أخذ الزكاة، قال محمد: م: (وإنما تفرق صدقة كل فريق فيهم لما روينا من حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم» م: (وفيه) ش: أي في ترك النقل إلى بلد آخر م: (رعاية حق الجوار) ش: لأن رعاية حق الجوار مما يجبن ومهما كانت المجاورة بقدر كانت رعايتها أوجب، ولو نقل على غيريهم أجزأه، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول، وبعض المالكية لأن الصدقات في عهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت تنقل إليه من القرى والقبائل.(3/479)
إلا أن ينقله الإنسان إلى قرابته أو إلى قوم أحوج من أهل بلده، لما فيه من الصلة أو زيادة دفع الحاجة، ولو نقل إلى غيرهم أجزأه وإن كان مكروها، لأن المصرف مطلق الفقراء بالنص. والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي أصح قولي الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يجوز النقل إلا إذا فقد جميع المستحقين. وقال السروجي: ومذهب الشافعي يصعب، والأصح حرمة النقل وعدم الإجزاء، وفي قول: لا يحرم ويجزئ، وفي قوله يحرم ويجزئ. ولا فرق في الأصح بين المسافة القصيرة وغيرها ومع النقل أوصى أحمد ولم يفرق بين المسافة القصيرة وغيرها وبين الأحوج والقرابة وغيرهما، وفي " المغني ": فإن خالف ونقلها أجزأ عند أهل العلم.
واختاره أبو الخطاب، وهو قول الليث ومالك، وجوز النقل في رواية، إلا البقر وهو قول الحسن وعبد الرحمن بن مهدي، ومنع النقل سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (إلا أن ينقله الإنسان إلى قرابته) ش: هذا الاستثناء من قوله: ويكره نقل الزكاة، لأن فيه أجر الزكاة وأجر الصلة م: (أو إلى قوم) ش: أي أو ينقله إلى قوم م: (أحوج من أهل بلده) ش: لأن المقصود سد خلة الفقير، فمن كان أحوج كان أولى م: (لما فيه من الصلة) ش: في النقل إلى قرابته وغيرهم أحوج من أهل بلده، ووجه الجواز أن مطلق الفقراء م: (أو زيادة دفع الحاجة، ولو نقل إلى غيرهم أجزأه وإن كان مكروها) ش: واصل بما قبله، وجه الكراهة ما في حديث معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد مر م: (لأن المصرف) ش: أي مصرف الزكاة م: (مطلق الفقراء بالنص) ش: في قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] ولم يقصد النص بشيء.(3/480)
باب صدقة الفطر قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: صدقة الفطر واجبة على الحر المسلم إذا كان مالكا لمقدار النصاب فاضلا عن مسكنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب صدقة الفطر] [تعريف زكاة الفطر وحكمها وعلى من تجب]
م: (باب صدقة الفطر) ش: أي هذا باب في بيان أحكام صدقة الفطر، وجه مناسبتها إلى الزكاة ظاهر، لأن كلا منهما من الوظائف المالية، وأوردها في " المبسوط " بعد الصوم بالنظر إلى الترتيب الوجودي، وأوردها المصنف ها هنا رعاية لجانب الصدقة، وكان حق هذا الباب أن يقدم على العشر، لأن العشر مؤنة فيها يعني في العبادة.
وهذه عبادة فيها معنى المؤنة، لكن العشر ثبت بالكتاب، وهي تثبت بخبر الواحد. ووضع الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا الباب في "مختصره" قبل باب مصارف الصدقات، وهذا هو الأنسب، لأن وجود الصدقة مقدم على الصرف، وقال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: صدقة الفطر لفظة مؤكدة لا عربية ولا معربة، بل هي اصطلاحية للفقهاء من الفطرة التي هي النفوس والخلقة، أي زكاة الخلقة.
قلت: ولو قال لفظة إسلامية لكان أولى، لأنها ما عرفت إلا في الإسلام، وقال أبو بكر بن العربي: وأتمها على لسان صاحب الشرع، وهذا يؤيد ما ذكرته، ويقال لها صدقة الفطر، وزكاة الفطر، وزكاة رمضان، وزكاة الصوم. ومعناها شرعا اسم لما يعطى من المال بطريق الصلة والعبادة ترحما مقدرا، بخلاف الهبة لأنها تعطى صلة تكرما لا ترحما، ذكره في " المحيط "، والصدقة هي العطية التي يراد بها التقرب عند الله تعالى، وسميت بها لأنها تظهر صدق الرجل.
م: (قال: صدقة الفطر واجبة على الحر المسلم) ش: وعند الشافعي ومالك وأحمد فرض، وروي عن إسماعيل بن علية وأبي بكر بن الأصم وابن اللبان من الشافعية، وحكى ابن عبد البر عن بعض المالكية المتأخرون والداودية، وذكر في " الذخيرة " عن مالك في رواية أنها سنة وليست بواجبة، واستدلوا بحديث أبي عمار عريب بن حميد، «عن وقيس بن سعد بن عبادة قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا، ونحن نفعله» ورواه النسائي وابن ماجه والحاكم في "مستدركه "، والجواب أن نزول فرض لا يوجب سقوط فرض آخر، والجواب هنا على معناه الاصطلاحي وهو ما ثبت بدليل فيه شبهة.
م: (إذا كان مالكا لمقدار النصاب) ش: من أي مال كان حال كون النصاب م: (فاضلا عن مسكنه) ش: حتى لو كان له داران، دار يسكنها، والدار الأخرى لا يسكنها يؤاجرها أو لا يؤاجراها، تعتبر قيمتها حتى لو كانت قيمتها مائتي درهم تجب عليه صدقة الفطر، وكذلك لو(3/481)
وثيابه وأثاثه وفرسه وسلاحه وعبيده. أما وجوبها فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبته: «أدوا عن كل حر وعبد صغير أو كبير صاع من بر أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كانت له دار واحد يسكنها ويفضل عن سكناه شيء فتعتبر قيمة الفاضل م: (وثيابه وأثاثه وفرسه وسلاحه وعبيده) ش: كذلك في هذه الأشياء إن فضل عنه شيء تعتبر قيمة الفاضل.
وفي " شرح الطحاوي " - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن العيون إن أن له متاع بيت وهو عنه مستغن وقيمته مائتا درهم وجب عليه صدقة الفطر، ولم تحل له الصدقة ولو كانت له دور وحوانيت للغلة وهي لا تكفي عياله فهو من الفقراء عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وتحل له الصدقة، خلافا لأبي يوسف، وعلى هذا الكرم والأراضي إذا كانت غلتها لا تكفي، وإذا كانت له كتب العلم وقيمتها تساوي مائتي درهم وهو يحتاج إليها في الحفظ والدراسة والتصحيح.
ذكر في " خلاصة الفتاوى " أنه لا يكون نصابا وحل له أخذ الصدقة فقها كان أو حديثا أو أدبا كثياب المنة والبذلة والمصحف على هذا، وإن كان زائدا على قدر الحاجة لا يحل له أخذ الصدقة. وإن كانت له نسختان من كتاب النكاح أو الطلاق، فإن كان كلاهما من تصنيف مصنف واحد، فأحدهما يكون نصابا يعني نصاب حرمان الصدقة ووجوب الفطرة، وإن كان كل واحد من تصنيف مصنف الزكاة فيها، والمراد من العبيد عبيد الخدمة، لأن في عبيد التجارة لا تجب صدقة الفطر عندنا، بل تجب فيها الزكاة.
م: (أما وجوبها) ش: أي أما وجوب صدقة الفطر م: (فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي فلقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (في خطبته: «أدوا كل حر وعبد صغير أو كبير نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو صاع من شعير» ش: قوله: أدوا فعل أمر يدل على الوجوب، وعند الشافعي فريضة على أصله، أي لا فرق بين الواجب والفرض، لكن هذا نزاع لفظي، لأن الفريضة عنده نوعان: مقطوع حتى يكفر جاحده، وغير مقطوع حتى لا يكفر جاحده، ومن جحد صدقة الفطر لا يكفر بالإجماع، ولهذا لا يكفر من قال: إنها مستحبة، وقد ذكرناه عن قريب، وذكر في " المستصفى " للغزالي: هذا اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح، وفي " المجرد ": أنها سنة فمعناه ثبت وجوبها بالسنة.
قوله: صغير أو كبير، بدون الواو لكونها صفة للذي يجب لأجله، ويجوز أن يكون هما صفتين لعبد، وهذا واضح فلا يجوز أن يكونا راجعين إلى الحر والعبد، لأنه لا يجب عليه صدقة الفطر عن ولده الكبير، ويحتمل أن يرجع الصغير إلى الحر والكبير إلى العبد، ويجب الأداء عن العبد الصغير بدلالة النص.(3/482)
رواه ثعلبة بن صعير العدوي وبمثله يثبت الوجوب لعدم القطع وشرط الحرية لتحقق التمليك والإسلام ليقع قربة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأنه لما وجب عليه بسبب عبده الكبير فلأن يجب عليه بسبب عبده الصغير أولى. قوله: نصف صاع من بر، هذا مذهب أصحابنا، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - صاع من بر أيضا، وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
م: (رواه ثعلبة بن صعير العدوي) ش: أي روى الحديث المذكور ثعلبة بالثاء المثلثة، ابن صعير بضم الصاد وفتح العين المهملتين وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء، والمذكور في " سنن" أبي داود ثعلبة بن أبي صعير بالكنية، وفي كتب الفقه ذكروه بلا كنية، وقال ابن معين: ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير، وفي " الكمال " ذكره في ترجمة ابنه عبد الله فقال: عبد الله بن ثعلبة بن صعير ويقال ابن أبي صعير بن عمرو بن زيد بن سنان بن المهتجن بن سلامان بن عدي بن صعير بن حراز بن كاهل بن عذرة الشاعر العذري حليف بني زهرة. وعذرة هو ابن سعد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وقال المزني: عبد الله بن صعير مسح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجهه ورأسه زمن الفتح، ودعا له، وروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيل: إنه ولد قبل الهجرة بأربع سنين، وقيل: ولد بعد الهجرة، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي، وهو ابن أربع سنين، وتوفي سنة سبع وثمانين وهو ابن ثلاث وتسعين، وقيل: توفي ابن ثلاثة وثمانين.
وقال الأترازي: قال حميد الدين الضرير: العذري أصح منسوب إلى بني عذرة اسم قبيلة، والعدوي منسوب إلى عدي وهو جده.
قلت: قال الرساطي: العدوي في قبائل ثم عدها، والعذري بضم العين المهملة وسكون الذال المعجمة بالراء، والكلام في هذا الحديث كثير، روى من وجوه كثيرة.
فإن قلت: كيف استدل المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بهذا الحديث، وقد تكلموا فيه وأثبتوا فيه عللا، وادعى بعضهم إرساله؟
قلت: ما استدل به إلا على أصل وجوب صدقة الفطر لا على مقدار الواجب، واستدل على المقدار بحديث أبي سعيد، وسيأتي في فصل مقدار الواجب إن شاء الله تعالى، ولهذا قال: م: (وبمثله يثبت الوجوب لعدم القطع) ش: أي وبمثل هذا الحديث الذي هو خبر الواحد يثبت الوجوب لا الفرض لأنه ليس بدليل قطعي.
م: (وشرط الحرية لتحقق التمليك) ش: فاعل شرط الإمام القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي شرط الحرية في قوله صدقة الفطر واجبة على الحر المسلم ليتحقق التمليك، لأن العبد لا يملك المال فكيف يملك غيره؟ م: (والإسلام) ش: أي شرط الإسلام م: (ليقع قربة) ش: لأن الصدقة قربة،(3/483)
واليسار لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى» وهو حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله يجب على من يملك زيادة على قوت يومه لنفسه وعياله، وقدر اليسار بالنصاب لتقدر الغناء في الشرع به فاضلا عما ذكر من الأشياء، لأنها مستحقة بالحاجة الأصلية والمستحق بالحاجة الأصلية كالمعدوم ولا يشترط فيه النمو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي فعل الكافر لا يقع قربة م: (واليسار) ش: أي وشرط اليسار بقوله: إذا كان مالكا لهذا النصاب.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى» ش: هذا الحديث رواه أحمد في "مسنده " حدثنا يعلى بن عبيد أخبرنا عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى» ، وذكر الأترازي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي أخرجه البخاري بإسناده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» ، هذا الحديث رواه أحمد في "مسنده " وفيه «وابدأ بمن تعول» ، وهذا غير مناسب لا لفظا ولا معنى، وهو غير ظاهر، قوله: عن ظهر غنى، أي صادرة عن غنى ولفظ الظهر معجم م: (وهو حجة على الشافعي) ش: أي هذا الحديث حجة على الشافعي م: (في قوله تجب على من يملك زيادة على قوت يومه لنفسه وعياله) ش: لأنه ذكر في آخر حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غني أو فقير.
ولأنه وجب طهرة للصائم لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيستوي فيه الفقير والغني.. إلخ، قلنا: حديث ابن عمر محمول إما على ما كان في الابتداء ثم انتسخ لقوله: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى» ، وإما على الندب فإنه قال في آخره: أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيعطيه الله أفضل مما أعطى.
م: (وقدر اليسار بالنصاب) ش: قدر على صيغة المجهول، واليسار مفعول به م: (لتقدر الغناء في الشرع به) ش: أي بالنصاب حال كونه م: (فاضلا عما ذكر من الأشياء) ش: التي هي مسكنه وثيابه وأثاثه وفرسه وسلاحه وعبد الخدمة م: (لأنها) ش: أي لأن هذه الأشياء م: (مستحقة بالحاجة الأصلية) ش: وهي يكون قيامه بها م: (والمستحق بالحاجة الأصلية) ش: كالماء الذي يحتاج إليه في الشرب حيث جعل م: (كالمعدوم) .
ش: في حق جواز التيمم م: (ولا يشترط فيه النمو) ش: أي لا يشترط في هذا النصاب أن يكون ناميا لوجوب صدقة الفطر لأنها تجب بالقدرة الممكنة لا الميسرة، ألا ترى أنها تجب على من ملك نصابا من ثياب البذلة ما يساوي مائتي درهم فاضلا عن حاجته الأصلية، فلا يتحقق النماء بثياب البذلة، ولهذا لا تسقط عنه الفطرة إذ المال بعد الوجوب، بخلاف الفطرة، فإن وجوبها(3/484)
ويتعلق بها النصاب حرمان الصدقة ووجوب الأضحية والفطرة.
قال: يخرج ذلك عن نفسه لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر على الذكر والأنثى» .... الحديث ويخرج عن أولاده الصغار، لأن السبب رأس يمونه ويلي عليه، لأنها تضاف إليه، يقال: زكاة الرأس وهي أمارة السببية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالقدرة والميسرة فيشترط في النصاب النماء لتحقق اليسر، ولهذا إذا ملك المال بعد الوجوب سقط عنه الزكاة.
م: (ويتعلق بهذا النصاب) ش: أي الفاضل عن الحاجة الأصلية بدون شرط النماء فيه م: (حرمان الصدقة) ش: يعني لوجود هذا النصاب يحرم عليه أخذ الصدقة م: (ووجوب الأضحية) ش: يعني يتعلق بهذا النصاب وجوب الأضحية م: (والفطر) ش: أي يتعلق به أيضا وجوب صدقة الفطر، ويتعلق به أيضا وجوب نفقة المحارم عليه.
[يخرج زكاة الفطر عن نفسه وعمن تلزمه نفقته]
م: (قال: يخرج ذلك عن نفسه) ش: أي يخرج المقدار المشار إليه المذكور عن نفسه، أي لأجل نفسه، ويخرج من الإخراج، وفاعله مضمر فيه، يعود إلى الذي وجب عليه صدقة الفطر م: (لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: وهو ما رواه الأئمة الستة في "كتبهم" من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر صاعا من شعير أو صاعا من تمر على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين» م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر على الذكر والأنثى ... الحديث» ش: يجوز في لفظ الحديث الرفع على تقدير الحديث بتمامه، ويجوز النصب على تقدير اقرأ الحديث أو أتمه، وتمامه والحر والمملوك صاعا من تمر أو صاعا من شعير، فعدل الناس نصف صاع من بر.
م: (ويخرج عن أولاده الصغار لأن السبب) ش: أي سبب وجوب صدقة الفطر م: (رأس يمونه) ش: أي يقوته من مانه إذا قاته، وعن أبي عبيد.
قلت: الرجل أمونه أي قمت بكفايته واحتملت مؤنته أي ثقله م: (ويلي عيله) ش: أن مستحق الولاية عليه بنفسه كالولد الصغير والعبد، ولهذا لا يلزم على الجد عن أن يؤدي عن ابن ابنه، لأنه لا يستحق الولاية عليه بنفسه، بل من جهة الابن فصار كالوصي، وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن عليه أن يؤدي عن ابن ابنه إذا لم يكن لابنه مال، قال: لأنه كالميت م: (لأنها) ش: أي لأن صدقة الفطر م: (تضاف إليه) ش: أي إلى الرأس م: (ويقال: زكاة الرأس وهي أمارة السببية) ش: أي لأن علامة كون الرأس سببا، والأمارة بفتح الهمزة، وهذا لأن الإضافة إلى الاختصاص، وأقوى وجوه الاختصاص إضافة السبب إلى مسببه، كقولك: كسب فلان وعمل فلان وقال فلان إلى غير ذلك. وفي " الجوهرة ": كل من وجبت نفقته بملك أو قرابة أو نكاح تجب صدقة الفطر.(3/485)