لأن فيه الأمر، وأقله الاستحباب والألف واللام وهما للاستغراق، وزيادة الواو وهي لتجديد الكلام، كما في القسم وتأكيد التعليم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والتاسع: تشهد ابن الزبير، بسم الله وبالله خير الأسماء التحيات الصلوات الطيبات لله أشهد أن لا إله إلا الله.
م: (لأن فيه الأمر وأقله الاستحباب) ش: هذا شروع في تشهد ابن مسعود، أي؛ لأن في تشهد ابن مسعود صيغة الأمر، وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قل التحيات لله إلى آخره، وللأمر مراتب وأقلها الاستحباب، ولترجيح تشهد ابن مسعود وجوه كثيرة:
الأول: هو ما ذكره.
والثاني هو قوله: م: (والألف واللام) ش: أي ولأن فيه الألف واللام وهو معطوف على قوله: الأمر فلذلك نصب (وهما للاستغراق) ش: أي والألف واللام لاستغراق الجنس، وسلام بدون الألف واللام نكرة.
والثالث: فيه زيادة أشار إليه بقوله:
م: (وزيادة الواو) ش: أي واو العطف فيها يصير كل كلام على حدة؛ لأن العطف للمغايرة، وبغير الواو يصير الكل ثناء واحدا بعضه صفة بعض م: (وهي) ش: أي الواو م: (لتجديد الكلام) ش: أي الاستئنافية يعني: أن الكل لفظ ثناء بنفسه م: (كما في القسم) ش: يعني إذا قال الرجل: والله الرحمن الرحيم يكون يمينا واحدة، وإذا قال: والله والرحمن والرحيم بثلاث واوات يكون ثلاثة أيمان.
والرابع: فيه التأكيد أشار إليه بقوله:
م: (وتأكيد التعليم) ش: بنصب تأكيد أي ولأن فيه تأكيد التعليم وهو قوله: - علمني التشهد كما يعلمني سورة من القرآن - وهذه الوجوه الأربعة التي ذكرها المصنف. وهاهنا وجوه أخر الأول فيه الأخذ باليد فإن أبا حنيفة قال: «أخذ حماد بيدي، فقال حماد: أخذ إبراهيم بيدي، وقال إبراهيم: أخذ علقمة بيدي، وقال علقمة: أخذ ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بيدي، وقال ابن مسعود: أخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي وعلمني التشهد» .
الثاني: أنه علق تمام الصلاة به، فدل على أن التمام لا يوجد بدونه.
الثالث: أن تشهد ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أحسن إسنادا كذا قال أئمة الحديث وهم يجمعون عليه، وقد ذكر في " الصحيحين ".
الرابع: أن عامة الصحابة أخذوا به فإنه روي أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - علم الناس على(2/268)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تشهد ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهكذا روى سلمان الفارسي، وجابر، ومعاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
الخامس: أن في تشهد غيره نقصانا.
السادس: تقديم اسم الله تعالى فإنه إذا تقدم على الممدوح في ابتداء الكلام ومتى أخر كان مجملا وإزالة الإجمال بأول الكلام أولى.
السابع: أن التحيات عام شمل كل [.....] الصلاة، وغيرها وذلك عند وجود الواو، فإن كان بغير الواو صارت الصلاة مخصصة أو ما [
..] فلا يكون عاما.
الثامن: أنه موافق للقياس؛ لأن ذكره ممتد مشروع في آخر طرفي الصلاة فيكون بالواو كالاستفتاح اعتبارا لآخر المذكورين للآخر.
التاسع: ليس فيه اضطراب ولا وقف، وحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مضطرب جدا وهو أن مسلما وأبا داود ورياه مثل ما ذكرنا، والترمذي ذكر السلام منكرا، والشافعي وأحمد روياه مثل الترمذي ولم يذكرا وأشهد، وروى ابن ماجه كمسلم، لكنه قال: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، والنسائي كمسلم، لكنه صح نكر السلام، وقال: وأن محمدا عبده ورسوله، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، وهو موقوف أيضا.
قال الطحاوي: رواه ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس موقوفا، والذي رواه مرفوعا أبو الزبير ولا يكافئ الأعمش، ولا منصور، ولا مغيرة، ولا أشباههم ممن روى حديث ابن مسعود.
العاشر: فيه تشهد به عبد الله على أصحابه حين أخذ عليهم بالواو والألف واللام ليوافق لفظ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال عبد الرحمن بن يزيد كنا نحفظ عن عبد الله التشهد كما نحفظ حروف القرآن، وهذا يدل على ضبطه ولا يوجد مثله بغيره، فصارت الوجوه في ترجيح تشهد ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أربعة عشر وجها.
فإن قلت: قالت الشافعية: تشهد ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الذي اختاره الشافعي رواه مسلم.
قلت: ليس الأمر كما زعموا؛ لأن مسلما روى السلام معرفا في الكتابين، ومذهبهم تنكيره فيهما.
ورواه الترمذي والشافعي وأحمد، ولم يخرجه لذلك من التزم إخراج الصحيح في كتابه، فكيف يعارض الجمع على صحة مثل هذا؟
فإن قلت: قالوا: فيه زيادة المباركات، وهي موافقة للفظة القرآن في قَوْله تَعَالَى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61](2/269)
ولا يزيد على هذا في القعدة الأولى؛ «لقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: علمنى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد في وسط الصلاة وآخرها» فإذا كان وسط الصلاة نهض إذا فرغ من التشهد، وإذا كان في آخر الصلاة دعا لنفسه بما شاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - زيادات، فإن كانت علة الترجيح هي الزيادات، فحديث جابر أولى.
فإن قلت: حجة البيهقي بتعليم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو حديث أنس متأخر عن تعليم ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قلت: هذا لا شيء؛ لأن أحدا من الفقهاء وأهل الأثر لم يقل بترجيح رواية ابن عباس والعبادلة صغار الصحابة وأحدثهم على رواية أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود وغيرهم من كبار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عند التعارض ويجوز أن يكون تعليم ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد تعليم ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولا يلزم من صغر سنة تأخر تعلمه وسماعه من غيره، قد أخذوا برواية غيره وتركوا روايته في عدة مواضع. منها أنهم أخذوا الحديث عن أبي قتادة في القراءة في الظهر والعصر، ورجحوه على رواية ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (ولا يزيد على هذا في القعدة الأولى) ش: أي لا يزيد المصلي على التشهد المذكور في القعدة الأولى من الثلاثية والرباعية، وبه قال أحمد إسحاق، وهذا مذهب عطاء، والشعبي، والنخغي، والثوري في القديم. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان إذا تشهد قال: بسم الله خير الأسماء، وعن ابنه أنه أباح الدعاء فيه بما بدا له، وقال: زدت فيه وحده لا شريك له. وقال أيوب، وسعيد، وهشام: يقول عمر فيه التسمية، وبه قال مالك وأهل المدينة. وقال الشافعي في الجديد: يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه وفي الصلاة على الأول خلاف عندهم.
م: (لقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد في وسط الصلاة وآخرها، فإن كانت وسط الصلاة نهض إذا فرغ من التشهد، وإذا كان في آخر الصلاة دعا لنفسه بما شاء» ش: من الدعاء، الحديث رواه أحمد في "مسنده" من حديث ابن مسعود أنه قال: علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. إلخ، وهذا حجة على الشافعي فيما ذهب إليه.
فإن قلت: روي عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - من حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «في كل ركعتين تشهد وسلام على المرسلين، وعلى من يتبعهم من عباد الله الصالحين» .(2/270)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا محمول على التطوع إذا كل شفع منه صلاة على حدة.
قوله: - وإن كان في آخر الصلاة - إلى آخره لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال» .
1 -
فروع: هل يشير بالمسبحة إذا انتهى إلى قوله - أشهد أن لا إله إلا الله؟ - فقال بعض مشايخنا: لا يشير؛ لأن في الإشارة زيادة لا يحتاج إليها فيكون تركه أولى. وفي " المنية " و " الواقعات " وعليه الفتوى لا إشارة في الصلاة إلا عند الشهادة في التشهد وأنه حسن.
وفي " الذخيرة " لم يذكر محمد الإشارة في الأصل، وذكر محمد في غير رواية الأصول حديثا أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يشير، قال محمد نصنع بصنع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: وهو قول أبي حنيفة ومثله في " المحيط " وفي " الفتاوى ". قال أبو بكر بن سعيد: الإشارة عند قوله أشهد أن لا إله إلا الله حسن.
1 -
واتفق الأئمة الثلاثة على أصل الإشارة بالمسبحة، ثم كيف يشير يقبض خنصره والتي تليها، ويحلق الوسطى بالإبهام، ويقيم السبابة ويشير بها، هكذا روى الفقيه أبو جعفر أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فعله هكذا وهو أحد وجوه قول الشافعي، وفي تتمة أصحاب الشافعي لما في كيفية قبض الأصابع ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يقبض الأصابع كلها إلا المسبحة ويشير بها، فعلى هذا في كيفية القبض وجهان: أحدهما: يقبض كأنه يعقد ثلاثة وخمسين، وهو رواية ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والثاني يقبض كأنه يعقد ثلاثة وعشرين، وهو رواية ابن الزبير عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
والثاني: أنه يقبض الخنصر والوسطى ويرسل الإبهام والمسبحة، وهذه رواية أبي حميد الساعدي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
والقول الثالث: أنه يقبض الخنصر والبنصر ويحلق الوسطى والإبهام ويرسل المسبحة، وهذه رواية وائل بن حجر عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهذه الأخبار تدل على أن فعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يختلف فكيف ما فعل أجزأه، ولو ترك لا شيء عليه. وفي " المجتبى " العمل بها أولى من الترك، ويكره أن يشير بالسبابة من اليدين؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أحد أحد ولا يستحب تحريك الأصابع وعن بعضهم يقيم أصبعيه عند قوله لا إله، ويضعها عند قوله إلا الله؛ ليكون النصب كالنفي، والوضع كالإثبات والمسبحة بكسر الباء سميت بها؛ لأنها يشار بها إلى التوحيد، ويقال لها: السبابة أيضا؛ لأنهم كانوا يشيرون بها إلى السب في الخصومات ونحوها.(2/271)
قال: ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب وحدها؛ «لحديث أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - "قرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب» وهذا بيان الأفضل، وهو الصحيح؛ لأن القراءة فرض في الركعتين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[القراءة في الأخيرتين بفاتحة الكتاب فقط]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب وحدها) ش: ولا يضم السورة معها فيهما وبه قال الشافعي على الأظهر، وهو قول أحمد لكن قراءة الفاتحة عندهما واجبة. وعند مالك تجب في كل ركعة على الأظهر، وهو قول أحمد في الرواية المشهورة، وفي الأكثر في رواية وبه قال إسحاق، وقال المغيرة تجب ويكفي وجودها وفي ركعة واحدة. وفي " المغني " وعن أحمد والنخعي والثوري لا يجب إلا في ركعتين.
م: (لحديث أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قرأ في الأخيرين بفاتحة الكتاب» ش: وقتادة اسمه الحارث بن ربعي السلمي الأنصاري، وقال الكلبي، وابن إسحاق: اسمه نعمان توفي بالكوفة في سنة ثمان وثلاثين وصلى عليه علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وحديثه هذا أخرجه البخاري ومسلم، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن أبي قتادة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورتين، وفي الأخيرتين بفاتحة الكتاب ويسمعنا الآية أحيانا، ويطيل في الركعة الأولى ما لا يطيل في الثانية، وهكذا في الصبح» ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه أيضا.
وروى إسحاق بن راهويه في "مسنده " عن رفاعة بن رافع الأنصاري قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة وفي الأخريين بفاتحة الكتاب» وروى الطبراني في "معجمه الأوسط «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سنة القراءة في الصلاة أن يقرأ في الأوليين بأم القرآن وسورة في الأخريين بأم القرآن» . وأخرج أيضا عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الركعتين بفاتحة الكتاب» .
م: (وهذا) ش: أي الذي ذكره القدوري من أنه يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب وحدها. م: (بيان الأفضل) ش: وأشار به إلى أنه ليس سنة فإن قرأ فقد أتى بالأفضل وإن ترك فلا شيء عليه.
م: (وهو الصحيح) ش: احترز به عما روى الحسن، عن أبي حنيفة أن قراءة الفاتحة واجبة فيهما حتى يجب بتركها ساهيا سجود السهو م: (لأن القراءة فرض في الركعتين) ش: الأوليين دون الأخريين.(2/272)
على ما يأتيك من بعد إن شاء الله تعالى.
قال: وجلس في الأخيرة كما جلس في الأولى؛ لما روينا من حديث وائل وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: ظاهر قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» يقتضي أن تكون قراءة القرآن واجبة في الأخريين كما روى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: خص من النص الركوع والسجود فكذا الأخريان مع أن القراءة التقديرية موجودة في جميع الصلاة على ما قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - القراءة في الأوليين قراءة في الأخريين، كذا في " الجنازية "، وفي " المحيط " عن الحسن، عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يسبح في الأخريين ثلاث تسبيحات وقراءة الفاتحة أفضل، ولو لم يقرأ، أو لم يسبح كان مسيئا إن كان متعمدا، ولو كان ساهيا فعليه السهو؛ لأن القيام في الأخريين مفقود قبلها إخلاؤه عن الذكر والقراءة جميعا، كما في الركوع والسجود.
وعن أبي يوسف: يسبح فيها ولا يسكت إلا أنه إذا أراد قراءتها جميعا كما في الركوع فليقرأها على جهة الثناء لا القراءة. وقال أبو جعفر: قرأ الدعاء، وفي " المجتبى ": ويخير المصلي بين قراءتها والتسبيح والسكوت ولا يلزمها السهو.
م: (على ما يأتيك من بعد إن شاء الله تعالى) ش: في باب النوافل. فإن قلت: كلمة على هاهنا معناها وبذلك متعلق. قلت: لكلمة على معان: منها أن تكون للاستدراك والإخبار كما في قولك: فلان فقير جدا على أنه كريم وهاهنا كذلك؛ لأنه أخبر أولا أن القراءة فرض في الركعتين ولكنه لم يبين وجهه، ثم استدرك أنه يبينه فيما يأتي، وأما متعلقه فمحذوف تقديره والتحقيق على ما يأتيك، أو البيان في فريضة القراءة في الركعتين على ما يأتيك فافهم، فإن هذا الكلام في هذا المقام من الأنوار الإلهية التي يخص بها بعض الأنام.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وجلس في الأخيرة) ش: أي في القعدة الأخيرة م: (كما جلس في الأولى) ش: أي كجلوسه في القعدة الأولى مفترشا غير متورك، وإنما قال في الأخيرة دون الثانية يشمل قعدة الفجر وقعدة المسافر؛ لأنها آخره وليست ثانية، وفيه خلاف الشافعي ومالك - رحمهما الله - كما بيناه. م: (لما روينا من حديث وائل) ش: بن حجر م: (وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ش: عند قوله هكذا وصفت عائشة قعود رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فإن قلت: هذا سهو من المصنف؛ لأنه لم يذكر فيما تقدم إلا عن عائشة.
قلت: ذكر المصنف فيما تقدم في الجلوس شيئين ذكر بعضها عن عائشة وبعضها عن وائل وهاهنا كذلك.
فإن قلت: إنما أراد بذلك هيئة الجلوس، وافتراش اليسرى، ونصب اليمني، وهذا لم يتقدم إلا عن(2/273)
ولأنها أشق على البدن، فكان أولى من التورك الذي يميل إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والذي يرويه «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قعد متوركا» ضعفه الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أو يحمل على حالة الكبر، وتشهد، وهو واجب عندنا،
وصلى على النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وهو ليس بفرض عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عائشة.
قلت: لا يمنع أن يريد بقوله: كما جلس في الأولى عدم الحالات التي أذكرها. ثم خصص في التعليل منها هيئة الجلوس.
م: (ولأنها) ش: أي؛ ولأن الجلسة على تلك الصفة م: (اشق على البدن فكان أولى من التورك) ش: وهو أن يضع إليتيه على الأرض ويخرج رجليه من الجانب الأيمن، وهذه الهيئة أخف من الهيئة التي اختارها وأفضل العبادة أشقها. م: (الذي يميل إليه) ش: أي إلى التورك م: (مالك) ش: بن أنس وهو مذهبه كما ذكرنا.
م: (والذي يرويه أنه) ش: أي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (قعد متوركا) ش: يعني في قعدته في الصلاة م: (ضعفه الطحاوي) ش: هذه الجملة خبر المبتدأ، أعني قوله: والذي وهو جواب عن حديث الثوري الذي رواه عبد الحميد بن جعفر، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبي حميد الزهري، وفي حديثه حتى إذا كان السجدة التي في آخرها التسليم أخر رجله اليسرى وقعد متوركا على شقه الأيسر، وضعفه الطحاوي؛ لأن عبد الحميد ضعيف عند نقلة الحديث، وقد بيناه مستقصى فيما تقدم.
م: (أو يحمل على حالة الكبر) ش: جواب آخر عن الحديث المذكور وهو على طريق التسليم يعني ولئن سلمنا أن حديث عبد الحميد صحيح فهو محمول على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما تورك بعدما كبر وأسن.
م: (وتشهد) ش: يعني قرأ التحيات لله.. إلخ في القعدة الأخيرة أيضا م: (وهو واجب عندنا) ش: أي التشهد واجب عندنا، وعند مالك سنة فيه وفي القعود الأول معه، وعند الشافعي ركن فيه مع جلوسه بخلاف التشهد الأول، فإنه سنة عنده مع جلوسه.
وقال أحمد: التشهد واجب ولم يقل ركن كالثاني عنده، وقال أبو البقاء: الواجب دون الركن عند أحمد، وكل ركن واجب وليس كل واجب ركنا.
[الصلاة على النبي في التشهد الأخير]
م: (وصلى على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) : ش: أي على طريق السنة، وهو عطف على قوله: وتشهد م: (وهو ليس بفرض عندنا) ش: في الصلاة وتذكير الضمير باعتبار المذكور، وهو قوله - وصلى على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيهما) ش: أي في التشهد والصلاة على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ودل على التشهد قوله: - وتشهد - وعلى الصلاة قوله: وصلى.(2/274)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قلت هذا أو فعلت فقد تمت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا قلت هذا أو فعلت فقد تمت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد» ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود في "سننه " واستقصينا الكلام فيه جدا في أول باب صفة الصلاة، والخطاب في - وقلت، وفعلت، وشئت، شئت - لابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولم يذكر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيه الصلاة عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ولأنه لما علم الأعرابي فرائض الصلاة لم يعلمه إياها، ولو كانت فرضا لعلمه.
فإن احتج الشافعي بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] (الأحزاب: الآية 56) . فنقول الأمر مطلق فلا يجوز تقييده بحالة الصلاة لئلا يلزم بطلان صيغة الإطلاق، والأمر لا يقتضي التكرار فيجب الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العمر مرة واحدة سواء كانت في الصلاة أو في غيرها، وإن احتج بما رواه ابن ماجه، عن ابن عباس بن سهل الساعدي، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا صلاة لمن لا يصلي على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولا صلاة لمن لم يحب الأنصار» ، رواه الحاكم في " المستدرك ".
فنقول: هذا حديث ضعيف، وعبد المهيمن ليس بالقوي، وقال ابن حبان: لا يحتج به، وأخرجه الدارقطني، عن أبي بن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه، عن جده مرفوعا بنحوه، قالوا: هذا وحديث عيد المهيمن سواء، وتكلم في أبي بن عباس، فمنهم الإمام أحمد، والنسائي، وابن معين، والعقيلي، والدولابي وليس علمنا صحته فهو محمول على نفي الكمال.
فإن احتج بحديث أبي سعيد الأنصاري، أخرجه الداراقطني عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر [عن أبي مسعود الأنصاري] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى صلاة لم يصل علي فيها ولا على أهل بيتي لم يتقبل منه» " فنقول: جابر ضعيف، وقد اختلف عليه فوقفه تارة، ورفعه أخرى.
فإن احتج بما رواه البيهقي، عن يحيى بن السباق، عن رجل من بني الحارث، عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا تشهد أحدكم في الصلاة فليقل: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، وارحم محمدا وآل محمد، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد"، ورواه الحاكم في " المستدرك» "(2/275)
والصلاة على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خارج الصلاة واجبة إما مرة واحدة كما قال الكرخي، أو كلما ذكر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كما اختاره الطحاوي، فكفينا مؤنة الأمر والفرض المروي في التشهد هو التقدير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال: إسناده صحيح متصل. فنقول فيه رجل مجهول، وقال القاضي عياض في " الشفاء " وقد شذ الشافعي فقال من لم يصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأخير فصلاته فاسدة وعليه الإعادة ولا سلف له في هذا القول، ولا سنة يتبعها، وقد أنكر عليه هذا القول جماعة وشنعوا عليه منهم الطبري والقشيري، وخالفه من أهل مذهبه الخطابي، وقال: لا أعلم له فيها قدوة.
[حكم الصلاة على النبي خارج الصلاة]
م: (والصلاة على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خارج الصلاة واجبة) ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: م: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] (الأحزاب: الآية 56) ، لكن م: (إما مرة واحدة كما قاله الكرخي) ش: لأن الأمر لا يقتضي التكرار م: (أو كلما ذكر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أو واجبة كلما ذكر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وسمعه م: (كما اختاره الطحاوي) ش: وفي " شرح المجمع " و"الفتوى" عند عامة العلماء بالاستحباب كلما ذكر - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وقال فخر الإسلام في " الجامع الكبير ": تكرار اسمه واجب لحفظ السنة، إذا به قوام الدين والشرائع وفي إيجاب الصلاة عليه مدة العمر، وقيل في جوابه يجب التدخل كما في سجدة التلاوة إذا اتحد المجلس إلا أنه يستحب تكرار الصلاة بخلاف السجود.
وفي " المجتبى " واختلف في تكرار الوجوب في الصلاة عليه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذا تكرر ذكره في مجلس واحد، والصحيح أنه يتكرر الوجوب وإن كرر، في " الجامع الأصغر " كرواية السجدة في مجلس واحد، وكذا في الصلاة، ولا يسن التهجد في المسجد لكل مرة، وفي الصلاة لكل مرة ولو تكرر اسم الله في مجلس واحد يكفيه ثناء واحد، وفي مجلسين لكل مجلس، ولو تركه لا يبقى عليه دينا لكن الصلاة علي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لو ترك يبقى عليه دينا لأنه مأمور بالصلاة وغير مأمور بالثناء.
قلت: كونه مأمورا بالثناء أظهر ولا يجب على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن يصلي على نفسه فكفينا مؤنة الأمر، هذا جواب عما قاله الشافعي أن الأمر للوجوب وخارج الصلاة غير مراد فتعين الصلاة. وتقريره أن يقال: نعم الأمر للوجوب ونحن نعمل بموجبه وهو الوجوب. إما بالصلاة عليه في العمر مرة كما قال الكرخي، أو كلما ذكر اسمه كما قال الطحاوي م: (فكفينا مؤنة الأمر) ش: يعني علمنا بموجبه والمؤنة الثقل.
م: (والفرض المروي في التشهد هو التقدير) ش: أي لفظ الفرض الذي روي في تشهد ابن مسعود في حديثه الآخر هو بمعني التقدير، وهذا جواب عما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جاء في حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على(2/276)
قال: ودعا بما شاء مما يشبه ألفاظ القرآن
والأدعية المأثورة؛ لما روينا من حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال له النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ثم اختر من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله السلام على جبريل وميكائيل، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فقولوا التحيات لله..» إلى آخره فعلم بهذا أن التشهد فرض. وتقدير الجواب أن المراد بقوله: قبل أن يفرض، أي قبل أن يقدر لأن الفرض يأتي لمعان كثيرة منها: معني التقدير، كما في قَوْله تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] (البقرة: الآية 237) ، أي قدرتم.
م: (قال: ودعا) ش: عطف على قوله وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (بما شاء) ش: أي بالذي شاء م: (مما يشبه ألفاظ القرآن) ش: أراد به كون لفظ الدعاء موجودا في القرآن، وليس المراد حقيقة المشابهة؛ لأن القرآن معجز لا يشابهه شيء من كلام الناس، ومن ذلك قال في " المحيط و" الجامع الصغير " ادع في الصلاة بكل شيء من القرآن، ونقل عن الفضل أنه كان يقول: دعاء في القرآن إذا دعا بذلك لا يفسد صلاته ونقل عن الفضل أنه كان يقول: كل دعاء في القرآن إذا دعا بذلك لا يفسد صلاته، ونقل عن الفضل أنه كان يقول: كل دعاء في القرآن إذا دعا بذلك لا يفسد صلاته، كما إذا قال اللهم: اغفر لي ولوالدي؛ لأنه في القرآن. وكذلك إذا قال: اللهم اغفر لأبي، ولو قال؛ اغفر لأخي واغفر لزيد تفسد؛ لأنه ليس فيه. وعن الحلوائي لو قال: اللهم اغفر لأخي لا تفسد، ولو قال: اللهم ارزقني عدسا وبصلا تفسد؛ لأن عين اللفظ ليس فيه، ولو قال: اللهم ارزقني من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها لا تفسد؛ لأن عينه في القرآن.
وفي " المجتبى ": عما يشبه ألفاظ القرآن من الدعوات اللهم اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات يوم يقوم الحساب، وقوله: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40] (إبراهيم: الآية 40) وقوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10] (الحشر: الآية 10) ، وقوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] (الأعراف: الآية 23) ، وقوله {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ} [آل عمران: 192] (آل عمران: الآية 192) .
قلت: هذه كلها من القرآن، وكيف يقال فيها بما يشبه ألفاظ القرآن، اللهم أن يراد بها نفس الدعاء لا قراءة القرآن.
[الدعاء بعد التشهد الأخير وقبل السلام]
م: (والأدعية المأثورة) ش: بالنصب عطفا على ألفاظ القرآن، أي وبما يشبه الأدعية المأثورة أي المروية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويجوز جر الأدعية عطفا على القرآن؛ لأنه مجرور بإضافة ألفاظ إليه. ومن الأدعية المأثورة ما روي في " السنن " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول بعد التشهد: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات» "، والأدعية المأثورة كثيرة.
م: (لما روينا من حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال له النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ثم اختر من(2/277)
الدعاء أطيبها وأعجبها إليك»
ويبدأ بالصلاة على النبي عليه الصلاة السلام؛ ليكون أقرب إلى الإجابة، ولا يدعو بما يشبه كلام العباد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدعاء أطيبها وأعجبها إليك» ش: أشار بهذا إلى الحديث المتقدم عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها» فإذا كان وسط الصلاة نهض إذا فرغ من التشهد، وإذا كان في آخر الصلاة دعا لنفسه بما شاء، لا يتم دليله.
وإن أراد بما في حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الآخر ثم التخير من الدعاء أعجبه إليك فتدعو به، وفي رواية ثم يخير في المسألة ما شاء، فذلك لم يتم دليله ولا سيما عند البخاري لم يتخذ يعمل من الكلام ما شاء ذكره في الدعوات وفي الاستئذان، بل كل دليل للشافعي وحجة له في إباحة الدعاء بكلام الناس نحو: اللهم زوجني امرأة حسناء، أعطني بستانا أنيقا، ولو استدل المصنف بحديث أن صلاتنا لا يصلح فيها شيء من كلام الناس لكان أصوب، ولم أر أحدا من الشراح حقق هذا الموضع، فأكثرهم يذكروا شيئا من ذلك، واعتذر بعضهم وقال: ولعله سقط من النسخ، وأراد به حديث: إن صلاتنا هذه.. الحديث.
وهاهنا شيء آخر من السهو وهو تأنيث الضمير في قوله: - أطيبها وأعجبها - والصحيح من الروايات أطيبه وأعجبه - وقال الأترازي: ولئن صح بالتأنيث فعلى تأويل الدعوات أو الأدعية.
قلت: عدم صحة الروايات بالتأنيث يمنع هذا التأويل، وكذلك أول الأكمل وقال صاحب " الدراية " تذكير الضمير في الرواية الموثوق بها وكذا بها وكذا لفظ " المبسوطين "، وفي بعض نسخ " الهداية " أطيبها وأعجبها بالتأنيث على تأويل الكلمة وليس بصحيح.
قلت: هذا اعتذار حسن، والظاهر أن الأمر كما قال، ثم معنى قوله: أطيبه أحسنه، ومعنى أعجبه الذي يليق بخاطره.
م: (ويبدأ بالصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ليكون أقرب إلى الإجابة) ش: أي دعائه بعد فراغه من التشهد بالصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ليكون دعاؤه أقرب إلى الإجابة لقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ابدأ بالثناء على الله بما هو أهله، ثم بالصلاة على محمد وسل حاجتك بعد ذلك؛ ولأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من خواص حضرته تعالى، ومن أتى باب الملك لسؤال شيء فلا بد من تحفة لخواص حضرته لينال شرف القبول، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خواص خواصه، فلا بد من تحفة صلوات عليه.
م: (ولا يدعو بما يشبه كلام العباد) ش: فسره أصحابنا لما لا يستحيل سؤاله من غير الله تعالى، نحو أعطني كذا، وزوجني امرأة، وما لا يشبه كلام الناس ما يستحيل سؤاله عنهم كقوله: الله اغفر لي، كذا في " الإيضاح ". وقال الفضلي: ما لا يوجد في القرآن تفسد صلاته، واستحال سؤاله من العباد أولا كذا في " الجنازية ".(2/278)
تحرزا عن الفساد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال بعض الشراح في قوله: ولا يدعو بما يشبه كلام العباد إشكال وهو أنه بعد ما قعد للتشهد لا يلحقها فساد، ويخرج منها بكلام الناس، قيل: يريد به فساد التحريمة حتى لا يجوز لغيره الاقتداء به بعده، وتقوية إصابة السلام أو فساد أصل الصلاة لو كان ترك سجدة.
قلت: مراده إذا كان وجود ذلك قبل أن يقعد جاز التشهد؛ ولهذا قال في " الينابيع ": إن وجد ذلك قبل أن يقعد قدر التشهد بطلت صلاته، وإن وجد بعده تمت وعليه يحمل إطلاق غيره. وقال ابن بطال: قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يجوز أن يدعو في الصلاة إلا بما يوجد في القرآن، أورد عليه «قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في سجوده أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» قال: وهذا مما ليس في القرآن، فسقط قول المخالف.
قلت: ما أبعده من ذوق الفقيه، وما أقل ورعه، وأبو حنيفة لا يشترط أن يوجد ما يدعو به في القرآن، بل يشترط أن يدعو بما يشبه ألفاظه، ومن كان بهذا الفهم، وعدم علم الفقه خصمه كيف يقدم على ذكر مذاهب العلماء، فلا ينبغي لأحد أن يعتمد على نقله ولا يوثق بقوله.
فإن قلت: روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إني لأدعو في صلاتي [......] حماري و [
.] .
قلت: إن صح ذلك عنه يحمل على أنه ما بلغه الحديث أو تأوله.
وقال أحمد: لا يجوز الدعاء إلا بالأدعية المأثورة والموافقة للقرآن، وإن لم تكن في القرآن، وهو قول النخعي، وطاوس. قال العذري من الشافعية: قيل: لا يجوز بما يطلب من الآدميين، وحكى إمام الحرمين عن والده أنه كان يميل إلى منع أن يقول: اللهم ارزقني خادمة صفتها كذا، وبه تبطل الصلاة.
وقال النووي في " شرح المهذب ": يجوز أن يدعو في الصلاة بكل ما يجوز خارجها من أمر الدنيا ويقول: اللهم ارزقني مالا ودارا وبستانا أنيقا، وكسبا طيبا، جارية حسناء صفتها كذا وكذا حيثما يريد هو يطلبه ويشتهيه، وخلص فلانا من السجن وأهلك فلانا ولا تبطل صلاته بشيء من ذلك، وبه قال أبو ثور، وإسحاق، ومالك.
وقال ابن سيرين: يجوز الدعاء في المكتوبة بأمر الآخرة، فأما الدنيا فلا.
م: (تحرزا عن الفساد) ش: أي تحرزا عن فساد الصلاة أو فساد التحريمة. وقال السغناقي: أي تحرزا عن فساد الجزء الملاقي لكلام الناس لا جميع الصلاة بالاتفاق؛ لأنه بعد التشهد، هذا عندهما ظاهر، وكذا عند أبي حنيفة؛ لأن كلام الناس صنع منه فتعم صلاته لوجود الصنع.(2/279)
ولهذا يأتي بالمأثور المحفوظ، وما لا يستحيل سؤاله من العباد كقوله: اللهم زوجني فلانة يشبه كلامهم، وما يستحيل كقوله: "اللهم اغفر لي" ليس من كلامهم، وقوله: "اللهم ارزقني" من قبيل الأول، هو الصحيح، لاستعمالها فيما بين العباد، يقال: رزق الأمير الجيش.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: ولهذا يأتي بالمأثور المحفوظ) ش: عند الرواة المقبول بينهم.
م: (وما لا يستحيل سؤاله من العباد كقوله: اللهم زوجني فلانة) ش: أشار بهذا إلى بيان ما يستحيل وما لا يستحيل، ونظر لما لا يستحيل بقوله: اللهم زوجني فلانة فإنه لا يستحيل سؤاله من العباد.
م: (يشبه كلامهم) ش: أي فيه كلام العباد فتبطل صلاته بذلك إذا كان قبل قعوده قدر التشهد كما ذكرنا.
م: (وما يستحيل كقوله: "اللهم اغفر لي" ليس من كلامهم) ش: فلا تبطل صلاته م: (وقوله: "اللهم ارزقني" من قبيل الأول) ش: أي من قبيل مالا يستحيل سؤاله من العباد فلا يجوز الدعاء بهذا اللفظ م: (هو الصحيح) ش: فإذا كان من قبيل الأول تفسد صلاته، وقيل لا تفسد؛ لأن الرزاق هو الله تعالى وهو موجود في القرآن، وذكره في " المبسوط " م: (لاستعمالها فيما بين العباد) ش: أي لاستعمال هذه الكلمة بين العباد وبين ذلك بقوله م: (يقال: رزق الأمير الجيش) ش: فإذا كان كذلك فلا يجوز الدعاء به.
وقال الأترازي فيه نظر عندي؛ لأن ما بعد التشهد موضع الدعاء، وهذا دعاء فيجوز بخلاف قوله: اللهم زوجني فلانة؛ لأنه يشبه كلام الناس فاعتبر من كلامهم.
قلت: فيه نظر؛ لأن ما بعد التشهد لا يضر اللهم زوجني فلانة ونحوه كما قررناه عن قريب. وقال الأترازي أيضا: أما قولهم: رزق الأمير الجيش فلا نسلم أن إسناد الرزق إلى الأمير حقيقة، بل هو مجاز، قلنا: الرزق في اللغة ما ينتفع به قاله الجوهري، والرزق: العطاء أيضا فعلى هذا الإسناد المذكور حقيقة لا مجازا.
[كيفية الصلاة على النبي] 1
فروع اختلفوا في كيفية الصلاة على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وعن كعب بن عجرة قال: قلنا: يا رسول الله أمرنا أن نصلي عليك، وأن نسلم عليك، فأما السلام فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: "اللهم صلي على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد» رواه الجماعة. «وعن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك قال: قولوا: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد» أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه.
«وعن أبي مسعود الأنصاري أنه قال: أتانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك يا رسول الله؟ فسكت(2/280)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - حتى تمنينا أنه لم يسأله ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولوا» :.. فذكر بمعني حديث كعب بن عجرة، زاد في آخره: «في العالمين إنك حميد مجيد» أخرجه مسلم وأبو داود، والترمذي، والنسائي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عدهن في يدي وقال: عدهن جبريل في يدي، وقال: "هكذا نزلت من عند ربي اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ... إلى اللهم سلم على محمد وعلى آل محمد كما سلمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» .
«وعن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قالوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عرفنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "قولوا: اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، وارحم محمدا وآل محمد، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد» .
وحكي عن محمد بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر أنه كان يكره قول المصلي: وارحم محمدا إلخ، وكان يقول: هذا نوع ظن بنقص الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، فإن أحدا لا يستحق الرحمة إلا ما سيأتي قائلا عليه ونحن أمرنا بتعظيمهم؛ ولهذا لو ذكر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لا يقال: رحمة الله عليه، بل يصلي عليه، وفي " مبسوط السرخسي ": لا بأس به؛ لأن الأمر ورد به من طريق أبي هريرة، ولا عيبة على من اتبع الأثر؛ ولأن أحدا لا يستغني عن رحمة الله.
فإن قلت: كيف قال: كما صليت على إبراهيم المشبه دون المشبه به، وهو أكرم على الله من إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟.
قلت: أجابوا بأجوبة.
الأول: كان ذلك قبل أن يبين الله حاله ومنزلته، وإذا قال له رجل: يا خير البرية، فقال له: "ذلك إبراهيم" فلما أثنى الله منزلته، وكشف عن مرتبته في الدعوة، وإن كان قد أظهر المزيد.
الثاني: أن ذلك تشبيه لأصل الصلاة بأصل الصلاة لا القدر بالقدر، كما في قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] (البقرة: الآية 183) ، أن المراد بأصل الصيام لا عليه ولا وقته.
الثالث: أنه سؤال للتسوية مع إبراهيم فيها ويزيد عليه بغيرها.
الرابع: أن التشبيه وقع في الصلاة على الأول لا عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان قوله: اللهم صل على محمد مقطوعا من التشبيه، وقوله: وعلى آل محمد متصلا بقوله: كما صليت على إبراهيم وعلى آل(2/281)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إبراهيم.
الخامس: أشبه الصلاة على محمد بالصلاة على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، ومعظم الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - هم آل إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فإذا تقابلت الجملة بالجملة، وتعذر أن يكون لآل الرسول بآل إبراهيم الذين هم الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - كان ما يعرفه من ذلك حاصلا للرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فيكون زائدا على الحاصل لإبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، والذي يحصل من ذلك هو آثار الرحمة والرضوان ومن كان في حقه البشر كان أفضل.
السادس: أن التشبيه وقع في دعاء لا خبر.
السابع: أنه في الدوام.
الثامن: أنه سأل صلاة [....] خليل فلم يمت حتى أعطيها قبل موته.
التاسع: شرع ذلك لأمته لينالوا بذلك فضله.
العاشر: أن هذه الصلاة أمر بها التكرار بالنسبة إلى كل صلاة في حق كل مصل، فإذا اقتصر في حق كل صلاة حصول صلاة مستوية للصلاة على إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كان الحاصل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالنسبة إلى مجموع الصلوات أضعافا مضاعفة، فلا ينتهي إليه العدد والإحصاء.
فإن قلت: لم خص إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من بين سائر الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وذكرها في الصلاة؟
قلت: لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رأى ليلة المعراج جميع الأنبياء والمرسلين وسلم على كل نبي ولم يسلم منهم أحد على أمته غير إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأمرنا النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن نصلي عليه في آخر كل صلاة إلى يوم القيامة مجازاة على إحسانه.
فإن قلت: نحن أمرنا بالصلاة عليه، ثم نقول: اللهم صل على محمد، فأين صلاتنا نحن بأنفسنا.
قلت: النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - طاهر لا عيب فيه، ونحن فينا العيوب والنقائص فكيف يثني من فيه عيب على طاهر، فقال: أمرنا الله أن نصلي عليه؛ لتكون الصلاة من غير طاهر على نبي طاهر.
فإن قلت: ما معني سؤالنا الصلاة عليه من الله تعالى؟
قلت: معناها اللهم أعظمه في الدنيا بإعلام كلمته ودوام شريعته، وفي الآخرة برفع درجته وتعظيم أجره.(2/282)
ثم يسلم عن يمينه، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله،
ويسلم عن يساره مثل ذلك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الحكم لو ترك بعض التشهد وأتى بالبعض] 1
فروع أخر: لو ترك بعض التشهد وأتى بالبعض يجوز في ظاهر الرواية، وقيل: يجوز على قول أبي يوسف، ولا يجوز على قول محمد ذكره المرغيناني، وإذا فرغ من التشهد والصلاة على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دعا لنفسه وللمؤمنين وللمؤمنات، ولوالديه المؤمنين ولا يخص نفسه بالدعاء، وقراءة الأدعية المأثورة التي فيها صورة الأمر مستحبة. وقالت الظاهرية: تعد الصلاة بذكرها عندهم رجوعا إلى ظاهر الأمر.
م: (ثم يسلم عن يمينه فيقول: السلام عليكم ورحمة الله) ش: أي بعد فراغ المصلي من التشهد والصلاة على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، والدعاء لنفسه وللمؤمنين يسلم، والحكمة فيه أن السلام سنة لمن حضر القوم بعد غيبة عنهم، والقادم على حضرة رب العالمين مشتغلا بمناجاته بمنزلة الغائب عن الخلق، ويحضرهم عند التحليل، والسلام سنة من حضرهم بعد الغيبة عنهم، وشرطوا كل مقيم بفرض أو سنة أن يقول العمل بالسنة؛ لأن يؤم الأعمال بها وأنه مخاطب القوم المشاركين له في الصلاة فينوبهم على ما يجيء مزيد الكلام فيه عن قريب.
وفي " المحيط" و" المرغيناني ": المختار أن يكون السلام في التشهد والتسليم بالألف واللام، وتكون الثانية أخفض من الأولى، ولو سلم عن يساره أولا يسلم عن يمينه ما لم يتكلم، ولا يعيد التسليم عن يساره، ولو سلم تلقاء وجهه يسلم على يساره وهو مروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو الصحيح من قول أحمد، وقال النووي: لو سلم عن يساره أولا أجزأه، ويكره. ولو سلم التسليمتين عن يمينه أو عن يساره، أو تلقاء وجهه أجزأه، ويكون تاركا للسنة.
ولو نكر السلام قال القاضي أبو محمد وغيره من المالكية: لا يجزئه وقيل: يجزئه. وفي " جمل النوازل ": لو قال: السلام ودخل رجل في صلاته لا يصير داخلا، فثبت بهذا أن الخروج لا يتوقف على عليكم، ولو سلم تلقاء وجهه يعيده.
م: (ويسلم عن يساره مثل ذلك) ش: أي ويسلم عن يساره مثل ما سلم عن يمينه، وقال ابن المنذر: هذا قول أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وأبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وبه قال الشعبي، والثوري، وعطاء، وعلقمة، والأسود، ونافع بن عبد الحارث، وإسحاق بن أبي ليلى، وأبو ثور، وأحمد.
وقالت طائفة: يسلم تسليمة واحدة فقط تلقاء وجهه، يميل به إلى يمينه شيئا قليلا، وروي ذلك عن ابن عمر، وأنس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعي.
وللشافعي فيه ثلاثة أقوال: والصحيح المشهور ونصه في الجديد مثل قول الجماعة، والثاني: تسليمة واحدة، قاله في القديم، والثالث: إن كان منفردا، أو في جماعة قليلة، ولفظه عندهم فواحدة، والاثنان قاله في القديم، والواحدة تلقاء وجهه حكي ذلك عن النووي.(2/283)
لما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - "كان يسلم عن يمينه حتى يرى بياض خده الأيمن، وعن يساره حتى يرى بياض خده الأيسر» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المبسوط " عن ابن سيرين أن المقتدي يسلم ثلاث تسليمات إحداهن يرد سلام الإمام، وهذا ضعيف.
م: (لما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم عن يمينه حتى يرى بياض خده الأيمن وعن يساره حتى يرى بياض خده الأيسر» ش: هذا الحديث أخرجه الأربعة واللفظ للنسائي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله حتى يرى بياض خده الأيسر» وفي لفظ أبي داود، وابن ماجه «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم عن يمينه، وعن شماله، حتى يرى بياض خده السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله» وهو لفظ الترمذي إلا أنه ترك - «حتى يرى بياض خده» - ورواه ابن حبان " في صحيحه " ولفظه: «ثم يسلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن يمينه وعن شماله السلام عليكم ورحمة الله، وكأني أنظر إلى بياض خديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -.
ورواه مسلم في "صحيحه «عن عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: كنت أرى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده» .
وروي أحاديث في التسليمة الواحدة منها: ما أخرجه ابن ماجه، عن عبد المهيمن بن عباس، عن أبيه، عن جده «سهل بن سعد أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم تسليمة واحدة لا يزيد عليها» وقال الدارقطني: عبد المهيمن ليس بالقوي. وقال ابن حبان: بطل الاحتجاج به.
ومنها: ما أخرجه ابن عدي في " الكامل "، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن الحسن، عن سمرة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمة واحدة لا يزيد عليها» قال الدارقطني: قبل وجهه. وقال عبد الحق: عطاء ضعيف قدري.
ومنها ما أخرجه البيهقي في " المعرفة " من حديث حميد عن أنس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمة واحدة» .
ومنها: ما أخرجه الترمذي، وابن ماجه، عن زهير بن محمد، عن هشام بن عروة، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة بتلقاء وجهه»(2/284)
وينوي في الأولى من عن يمينه من الرجال والنساء والحفظة، وكذلك في الثانية؛ لأن الأعمال بالنيات،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه الحاكم في " المستدرك "، وقال: على شرط الشيخين، قال صاحب " التنقيح ": وزهير بن محمد وإن كان من رجال الصحيحين لكن له مناكير، وهذا الحديث منها. وقال أبو حاتم: هو حديث منكر، وقال الطحاوي في " شرح الآثار ": وزهير بن محمد وإن كان معه ثقة، لكن عمرو بن سلمة يضعفه قاله ابن معين، والحديث أصله الوقف على عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - هكذا رواه الحفاظ، وقال ابن عبد البر في " التمهيد ": لم يرفعه إلا زهير بن محمد وحده، وهو ضعيف عند الجميع كثير الخطأ لا يحتج به.
وأجاب بعض أصحابنا عن حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بأنها كانت تقف في صف النساء. وعن حديث سهل بأنه كان من جملة الصبيان فيحمل على أنهما لم يسمعا التسليمة الثانية مع أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم الثانية أخفض من الأولى.
وقال النووي: لا يقبل تصحيح الحاكم حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وليس في الاقتصار على تسليمة واحدة شيء ثابت.
وأجاب بعضهم عن أحاديث التسليمة الواحدة بأنها محمولة على الجواز، وأحاديث التسليمتين على بيان الفضل والكمال، وبعضهم قال في أحاديث التسليمتين زيادة صحيحة وهي مقبولة من العدل:
م: (وينوي في الأولى) ش: أي في التسليمة الأولى ولا بد من النية؛ لأن السلام قربة وهي لا تكون إلا بالنية م: (من على يمينه) ش: بفتح الميم في محل النصب؛ لأنه مفعول ينوي م: (من الرجال والنساء والحفظة) ش: كلمة من للبيان، والحفظة جمع حافظ وهم الملائكة، وإنما قدم بني آدم على الحفظة اتباعا " للجامع الصغير " و" القدوري " وفي الأصل قدم الحفظة على بني آدم. وقال الأترازي: وفي تقديم بني آدم تنبيه على أنهم أفضل من الملائكة وهو المذهب عند أهل السنة خلافا للمعتزلة.
قلت: هذا ليس على الخلاف، وإنما فيه تفصيل على ما عرف في موضعه، وفي " الدراية ": ظن بعض مشايخنا أن ما ذكر في " المبسوط " بناء على قول أبي حنيفة الأول في تفضيل الملائكة على البشر، وما ذكر في " الجامع الصغير " بناء على قوله الآخر في تفضيل البشر عليهم، وليس كما ظن؛ لأن الواو لا توجب الترتيب، وإن سلم على جماعة لا يمكنه أن يرتب النية.
م: (وكذلك في الثانية) ش: أي وكذلك ينوي من عن يساره من الرجال والنساء والحفظة في التسليمة الثانية م: (لأن الأعمال بالنيات) ش: والسلام عمل فلا بد من النية.(2/285)
ولا ينوي النساء في زماننا ولا من لا شركة له في صلاته، هو الصحيح؛ لأن الخطاب حظ الحاضرين. ولا بد للمقتدي من نية إمامه، فإن كان الإمام من الجانب الأيمن أو الأيسر نواه فيهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: منعتم اشتراط النية في الوضوء مع وجود هذا الحديث، فكيف استدللتم به.
قلت: إما استئنافا عن العمل به هناك لاستلزمه الزيادة على الكتاب، وهاهنا ما جعلناها شرطا، وإنما أخذنا بظاهر لفظه على النية فلا يلزم ذلك المحذور.
م: (ولا ينوي النساء في زماننا) ش: لعدم حضورهن الجماعات؛ لأنهن منعن من ذلك في هذا الزمان؛ لظهور الفساد. فلا يصح خطاب الغائبين، وقيل: ينوي بالتسليمتين جميع المؤمنين والمؤمنات؛ لأن بالتحريم حرم عليه الكلام، وهو اختيار الحاكم الشهيد، وفي " التحفة ": وهو اختيار الحاكم الخليل.
قال شمس الأئمة: هذا عندنا في سلام التشهد، أما سلام التحليل فيخص الحاضرين لأجل الخطاب. قلت: وعلى هذا ينبغي أن ينوي المؤمنين من الجن أيضا، وقد مضت الشافعية على هذا في كتبهم، ومذهب أهل السنة اعتقاد وجودهم.
م: (ولا من لا شركة له في صلاته) ش: أي ولا ينوي أيضا من لا شركة له في صلاته م: (هو الصحيح) ش: واحترز به عن قول الحاكم الخليل: أنه ينوي من يشارك ومن لا يشاركه في صلاته.
وقال ابن عبد البر في "جامعه ": هذا شيء تركه جميع الناس؛ لأنه قل ما ينوي أحد قط. وفي " المجتبى ": قيل: ينوي بالسلام الأول الحضور. وفي الثاني جميع عباد الله الصالحين.
وقيل: ينوي بهما جميع عباد الله المؤمنين. وقيل: لا ينوي الفسقة وكفى بالفسقة مبعدة وشنأ حيث لا نصيب لهم في الدنيا من سلام المصلين، والأولى أن يقدم الحفظة لفضلهم أو لقربهم أو لكونهم أحق بالدعاء لعصمتهم عن الكبائر والصغائر. قلت: هذا مذهب المعتزلة.
م: (لأن الخطاب حظ الحاضرين) ش: هذا التعليل يتأتى في النساء لأنهن منعن عن الحضور في هذا الزمان، ولا يتأتى فيمن لا شركة له في الصلاة؛ لأن عدم الشركة في الصلاة لا يستلزم الغيبة.
م: (ولا بد للمتقدي من نية إمامه) ش: لأنه قدامه وهو أكثر استحقاقا من غيره، وقوله: "لا بد" ليس للدلالة على وجوب نية إمامه وتخصيص الإمام بالذكر، يؤيد قول من يقول: إنه ينوي من يشاركه في الصلاة دون غيره كذا في " الجامع الصغير " للقاضي خان، وابن سيرين شرط التسليمة لرد سلام الإمام، وقلنا: إنه ضعيف فإن مقصود الرجل حاصل بالتسليمتين؛ إذ لا فرق في الجواب بين أن يقول: عليكم السلام وبين أن يقول السلام عليكم، قال السغناقي: في هذه الرواية مما تحفظ فإن جواب السلام لا يفارق بين تقديم السلام عليكم وبين تأخيره.
م: (فإن كان الإمام من الجانب الإيمن) ش: الفاء للتفصيل أي في الجانب الأيمن من المقتدي م: (أو الأيسر) ش: أي أو كان الإمام في الجانب الأيسر من المتقدي م: (نواه فيهم) ش: أي نوى الإمامة(2/286)
وإن كان بحذائه نواه في الأولى عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ترجيحا للجانب الأيمن، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - نواه فيهما؛ لأنه ذو حظ من الجانبين،
والمنفرد ينوي الحفظة لا غير؛ لأنه ليس معه سواهم.
والإمام ينوي بالتسليمتين، هو الصحيح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في الجملة القوم الذين في الجانب الأيمن أو الأيسر م: (وإن كان بحذائه) ش: أي وإن كان المقتدي بحذاء الإمام لم يذكر في " الجامع الصغير " ذكره المصنف بقوله م: (نواه في الأولى عند أبي يوسف) ش: أي نوى الإمام في التسليمة الأولى عند أبي يوسف م: (ترجيحا لجانب الأيمن) ش: إذ اليمين في الأيمن، وكذلك كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب التيامن في كل شيء، وكذلك يؤتى أهل الجنة الصحف بأيمانهم وهو اختيار الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - نواه فيهما) ش: أي نوى المقتدي الإمام فيهما أي في اليمين واليسار، وقال الشافعي: ينويه في أيهما شاء، ويستحب جانب الأيمن م: (لأنه) ش: أي لأن الإمام م: (ذو حظ من الجانبين) ش: يعني له جانبان يستوجب الحظ من كل منهما.
م: (والمنفرد ينوي الحفظة لا غير؛ لأنه ليس معه سواهم) ش: وقال الحاكم: ينوي جميع المسلمين في الدنيا، ثم قيل: الحفظة اثنان: أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، فالذي يكتب عن يمينه بغير شهادة صاحبه، والذي عن يساره لا يكتب إلا بشهادة من صاحبه إن قعد فأحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، وإن مشى فأحدهما أمامه والآخر خلفه، وإن قام فأحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه.
فإن قلت: فعلى هذا ينبغي أن يذكر صيغة اثنين، ولم يذكرهما بالجمع وأعاد الضمير إليهم بالجمع.
قلت: إما باعتبار ما قيل: إنهم أربعة: اثنان بالنهار واثنان بالليل، وعن عبد الله بن المبارك خمسة: اثنان بالنهار، واثنان بالليل، والخامس لا يفارقه ليلا، ولا نهارا، وإما باعتبار أن الاثنين يطلق عليهما الجمع كما في قَوْله تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] (التحريم: الآية 4) والمراد قلباكما ومع هذا المراد من قوله: الحفظة هم الملائكة الموكلون ببني آدم بدليل قوله فيما بعد: وينوي في الملائكة عددا محصورا، غير أن أعمالهم مختلفة منهم الكتبة، ومنهم الحفظة على ما نبينه.
م: (والإمام ينوي بالتسليمتين) ش: أي ينوي القوم والحفظة في التسليمة الأولى والثانية م: (هو الصحيح) ش: احترز به عما قال بعضهم في " الجامع الصغير " أنه ينوي بالتسليمة الأولى ترجيحا لجانب الأيمن والأصح الجمع؛ لأنه لا يمكن فلا يصار إلى الترجيح. وقال أبو اليسر: لا يجب أن ينوي الإمام؛ لأنه يجهر بالتسليمتين ويشير إليهم، وهو فوق النية فلا حاجة إليها.(2/287)
ولا ينوي في الملائكة عددا محصورا؛ لأن الأخبار في عددهم قد اختلفت، فأشبه الإيمان بالأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا ينوي في الملائكة عددا محصورا) ش: لاختلاف العدد الواقع في عدد الملائكة الذين وكلوا ببني آدم، وأخرج الطبراني في "معجمه " عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه ما لم يقدر له من ذلك، عليه سبعة أملاك يذبون عنه كما يذبون عن قصعة العسل الذباب في اليوم الصائف، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين» ".
وروى الطبراني أيضا عن بعضهم قال: «دخل عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه ملك؟ فقال: "على يمينك ملك؟ وعلى حسناتك وهو أمين على الملك الذي على الشمال، فإذا عملت حسنة كتبت عشرا، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين أكتب؟ فيقول: لعله يستغفر الله ويتوب، فإذا قال ثلاثا، قال: نعم اكتب أراحنا الله منه فبئس القرين ما أقل مراقبته إلى الله، وأقل استحياؤه منا، يقول الله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] (ق: الآية 18) ، وملكان من بين يديك ومن خلفك، يقول الله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] (الرعد: الآية 11) ، وملك قابض على ناصيتك، فإذا تواضعت لله رفعك، وإذا تجبرت على الله قصمك، وملكان على شفتيك ليس يحفظان منك إلا الصلاة على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك، وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل بني آدم يتبدلون ملائكة الليل على ملائكة النهار؛ لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار، فؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي، وإبليس بالنهار وولده بالليل» " انتهى.
م: (لأن الأخبار في عددهم قد اختلفت) ش: أي في عدد الملائكة الموكلين ببني آدم كما ذكرنا م: (فأشبه الإيمان بالأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -) ش: أي فأشبه حكم هذا حكم الإيمان بالأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - حيث يقال في كلمة الإيمان آمنت بجميع الأنبياء أولهم آدم وآخرهم محمد - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - ولا يعد عددا محصورا لئلا يلزم دخول من لم يكن منهم فيهم.
لأن في نبوة بعض الأنبياء خلافا كما في ذي القرنين ولقمان، قيل: هما نبيان وأكثرهم على أنهما ليسا بنبيين، ولقمان حكيم، وذو القرنين ملك صالح. وقيل: عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا.
قلت: في تعليله نظر، وروي «عن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: "مائة وأربعة وعشرون ألفا» . الحديث رواه ابن حبان في صحيحه، وابن مردويه في(2/288)
ثم إصابة لفظة السلام واجبة عندنا، وليست بفرض. خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو يتمسك بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تحريمها التكبير وتحليلها التسليم» ، ولنا ما رويناه من حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
"تفسيره ".
م: (ثم إصابة لفظة السلام واجبة عندنا) ش: قال في " المحيط ": وهو الأصح، وقيل: سنة وهو المروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبه قال سعيد بن المسيب، والنخعي، والثوري، والأوزاعي ويصح الخروج من الصلاة بدونها، وعن ابن القاسم إذا أحدث الإمام متعمدا قبل السلام صحت صلاته.
م: (وليست بفرض خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإنها عنده فرض وبه قال أحمد، وقال الثوري: لو أحدث بحرف من حروف السلام عليكم لم يصح سلامه كما لو قال: السلام عليك، أو سلامي عليك أو سلام الله عليكم، أو السلام عليهم، فإنه لا يجزئه بلا خلاف، وتبطل صلاته إن تعمد، وهذا منه ظاهر محض، ولو قال: عليكم السلام ففيه وجهان، وقال الوردي قولان، والصحيح أنه يجزؤه، ولو سلم التسليمتين واحدة أو بدأ باليسار قبل اليمين أجزأه مع الكراهة فقد ترك الظاهرية في هذه الصورة واعتبر المعنى.
م: (وهو يتمسك) ش: أي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحتج م: (بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تحريمها التكبير وتحليلها التسليم) ش: فقد تقدم في أول باب صفة الصلاة أن هذا الحديث رواه علي بن أبي طالب، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن زيد، وعبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - واحتج به المصنف هناك على شرطية تكبيرة الإحرام، وهنا احتج به الشافعي على فرضية السلام ووجه ذلك أنه لما قال: تحريمها التكبير كان لا يصح الدخول في الصلاة إلا بالتكبير فكذلك قوله: وتحليلها التسليم - أي لا يخرج من الصلاة إلا به، وأجاب عنه السروجي بأنه ضعيف وكذلك قال صاحب " الدراية " وتعلق الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بهذا الحديث لا يصح إذا مداره، على عبد الله بن محمد بن عقيل، وعلى أبي سيعد طريف بن شهاب، وكلاهما ضعيف الرواية عند نقلة الحديث.
قلت: ليس كذلك فإن الترمذي لما رواه قال هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسنه، وأيضا فلا وجه أن يستدل بحديث في موضع ويتركه في موضع آخر مدعيا ضعفه ويتبين عن قريب الوجه في ذلك.
م: (ولنا ما رويناه من حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: وقد ذكره في أول باب الصلاة عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وذكرنا هناك أن أبا داود أخرجه في "سننه " وأحمد في "مسنده " والحاكم في "مستدركه"، واستدل به المصنف هناك في فرضية القعدة الأخيرة في الصلاة واستدل به هاهنا على أن إصابة لفظه واجب فقال:(2/289)
والتخيير ينافي الفرضية والوجوب إلا أنا أثبتنا الوجوب بما رواه احتياطا وبمثله لا تثبت الفرضية والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والتخيير ينافي الفرضية والوجوب) ش: أي التخيير الذي يفهم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذا قلت هذا أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك ينافي بقاء الفرض أو الواجب عليه م: (إلا أنا أثبتنا الوجوب) ش: أي وجوب السلام في آخر الصلاة م: (بما رواه) ش: أي بما رواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بالحديث المذكور م: (احتياطا) ش: أي لأجل الاحتياط في ترك العمل به بالكلية فقلنا بوجوب السلام به ولم يقل بفرضيته؛ لأنها تثبت بخبر الواحد، وهو معني قوله م: (وبمثله) ش: أي وبمثل هذا الحديث الذي هو خبر واحد م: (لا تثبت الفرضية) ش: لأن الفرض لا يثبت إلا بدليل قطعي والواجب دون الفرض فيثبت بخبر الواحد، وقد استدل الأترازي في وجوب السلام بقوله: وإنما قلنا بوجوب إصابة لفظ السلام لمواظبة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولم يبين وجه استدلال المصنف به - وبحديث ما قاله ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر خمسا فلما أخبر - ثنى رجله فسجد سجدتين فقد خرج منها إلى الخامسة لا بتسليم» .
فإن قلت: لم لا تقيس التحليل على التحريم نجعل كليهما فرضا. قلت: لا يصح القياس؛ لأن الذي يقع به التحريم وهو التكبير عبادة خالصة، وثناء محض مخصوص بصيغته ومحله؛ لأنه يؤدى مع استقبال القبلة فصلح فرضا.
وأما السلام فتردد الشارحان [......] صلح ثناء لكن كونه خطابا للقوم أخرجه إلى كلام الناس، وكذلك كان محظورا في محظور في الصلاة، ويؤدى مع الانحراف عن القبلة، وأمره خروج من العبارة، فلما تردد أمره جعله فوق النفل دون الفرض، فكان واجبا، فلم يصح قياسه بالتكبير.
فإن قلت: هاهنا إشكال على قول أبي حنيفة يقول الخروج من الصلاة بفعل المصلي فرض، وقد قال المصنف والتخيير ينافيه، فيكف يتم الاستدلال على مذهبه، قلت: قال الكرخي الخروج عنها بفعل المصلي ليس بفرض عنده، إذ لو كان فرضا لاختص بما هو قربة كالخروج من الحج، ولما كان الحدث العمد مخرجا قال شمس الأئمة: والصحيح ما قاله الكرخي، وقول أبي سعيد البردعي وأكثر المشايخ وهو أن الخروج منها بفعل المصلي فرض ليس بمنصوص عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والجواب على قول أبي سعيد إنما صار فرضا لأداء صلاة أخرى؛ لأن الأداء لا يمكن إلا بالخروج منها، فقال: فرضا لأجل صلاة أخرى لا لأجل هذا الاستدلال على مذهبهما فوق مذهب أبي حنيفة، وأبو حنفية يتمسك في المسألة بحديث الأعرابي حيث علمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يذكر لفظ السلام، وبالقياس على التسليم الثاني فإنه ليس بفرض إجماعا.
1 -
فروع: المسبوق يتابع الإمام في التشهد إلى قوله: عبده ورسوله بلا خلاف، وفي الزيادة ذكر(2/290)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القدوري أنه لا يتابعه وإليه مال الكرخي وخواهر زاده، وروى إبراهيم بن رستم عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يدعو بدعوات القرآن، وروى هشام عنه أنه يدعو بذلك ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال بعضهم: يسكت، وعنه هشام في قوله ومحمد بن شجاع البلخي أن يكرر التشهد إلى أن يسلم الإمام، قال: لا معنى للسكوت في الصلاة بلا استماع فينبغي أن يكرر التشهد مرة بعد مرة.
قلت: يشكل عليهما بالقيام فإن المقتدي يسكت فيه من غير استماع، وقيل يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال بعضهم هو بالخيار إن شاء يأتي بالدعوات المذكورة في القرآن مثل الآيات التي أولها ربنا، وإن شاء صلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم إذا سلم الإمام لا بالقيام وينظر هل يفعل الإمام بعض ما يشبه فإذا تيقن فراغه يقوم إلى قضاء ما سبق به ولا يسلم مع الإمام، قال البريد في نظمه:
تمكث حتى تقوم الإمام إلى أن ... تطوعه إن كان بعدها تطوع
ويستند إلى المحراب إن كان لا يتطوع بعدها، ولو قام قبل سلامه جازت صلاته ويكون مسيئا. وعند الشافعي يقوم بعد التسليمتين، نص عليه في " مختصر البويطي "، ولو قام بعد التسليمة الأولى جاز.
ولم يذكر المصنف أن المقتدي متى يسلم، فعن أبي حنيفة روايتان، في رواية: يسلم مع الإمام كالتكبير، وفي رواية: يسلم بعد سلام إمامه، وقال الشافعي: المقتدي يسلم بعد فراغ الإمام من التسليمة الأولى، فلو سلم مقارنا بسلامه إن قلنا: إن نية الخروج بالسلام شرط لا يجزئه، كما لو كبر مع الإمام لا تنعقد له صلاة الجماعة، فعلى هذا تبطل صلاته، وإن قلنا: إن نية الخروج غير واجبة فتجزئه كما لو ركع معه، وفي وجوب نية الخروج عن الصلاة بالسلام وجهان، أحدهما: يجب، والثاني: لا يجب، كذا في "تتمتهم". وذكر في " المبسوط ": المقتدي يخرج من الصلاة بسلام الإمام، وقيل: هو قول محمد، أما عندهما يخرج بسلام نفسه. وتظهر ثمرة الخلاف من انتقاض الوضوء بسلام الإمام قبل سلام نفسه بالقهقهة، فعنده لا ينتقض.(2/291)
فصل في القراءة قال: ويجهر بالقراءة في الفجر والركعتين الأوليين من المغرب والعشاء إن كان إماما، ويخفي في الأخريين، هذا هو المأثور المتوارث،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في القراءة] [الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة والتي يسر فيها]
م: (فصل في القراءة) ش: أي: هذا فصل في بيان أحكام القراءة في الصلاة، إنما جعل أحكام القراءة بفصل على حدة لزيادة أحكام تعلقت بها دون غيرها، ومن أحكامها: الجهر، ومنها: القرب، فالأول: يرجع إلى الصفات، والثاني: إلى الذات. وكان ينبغي تقديم ما بالذات على ما بالصفات، وهاهنا قدم بالعكس؛ لأن الجهر يتعلق بالأداء الكامل، والقدر يشتمل الكامل والناقص، فكان التعلق بالكامل الذي هو الأصل أولى بالتقديم.
م: (ويجهر بالقراءة) ش: أي يجهر المصلي بالقراءة م: (في الفجر والركعتين الأوليين من المغرب والعشاء إن كان) ش: أي المصلي م: (إماما ويخفي في الأخريين) ش: أي في الركعتين الأخريين من العشاء، ولم يبينه على الأكثر من المغرب؛ لأنه يفهم من قوله: الأوليين في المغرب؛ لأن التنصيص عليه ينفي القراءة بالجهر في الثالثة.
فإن قلت: فعلى هذا ما كان يحتاج إلى ذكر قوله: ويخفي في الأخريين. قلت: يكون ذلك للتأكيد.
م: (هذا هو المأثور المتوارث) ش: أي الجهر في المواضع المذكورة والإخفاء فيما يخفى هو المروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - المتوارث من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، كما روى الدارقطني في "سننه " من حديث قتادة عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أتى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بمكة حين زالت الشمس فأمره أن يؤذن للناس بالصلاة حين فرضت الصلاة عليهم، فقام جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمام النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقام الناس خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى أربع ركعات لا يجهر فيها بالقراءة، فأتم الناس برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يأتم بجبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ثم أمهل حتى دخل وقت العصر فصلى بهم أربع ركعات لا يجهر فيها بالقراءة يأتم المسلمون برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويأتم رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بجبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثم أمهل حتى وجبت الشمس حتى صلى بهم ثلاث ركعات يجهر في الركعتين بالقراءة، ولا يجهر في الثالثة، ثم أمهل حتى ذهب ثلث الليل فصلى بهم أربع ركعات، يجهر في الأوليين بالقراءة، ولا يجهر في الأخريين بها، ثم أمهل حتى إذا طلع الفجر صلى بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة» .(2/292)
وإن كان منفردا فهو مخير إن شاء جهر وأسمع نفسه؛ لأنه إمام في حق نفسه، وإن شاء خافت؛ لأنه ليس خلفه من يسمعه، والأفضل هو الجهر ليكون الأداء على هيئة الجماعة، ويخفيها الإمام في الظهر والعصر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الدارقطني: ورواه سعيد عن قتادة مرسلا، وفيه مرسلان آخران أخرجهما أبو داود في "مراسليه " أحدهما عن الحسن، والآخر عن الزهري، وذكرهما عبد الحق في "أحكامه " من جهة أبي داود وقال: إن مرسل الحسن أصح.
[المنفرد هل يجهر بصلاته أم يسر فيها]
م: (وإن كان) ش: أي المصلي م: (منفردا فهو مخير إن شاء جهر وأسمع نفسه) ش: أسمع نفسه تفسير لقوله: "جهر"، قال تاج الشريعة: وقال السغناقي: إنما ذكر قوله: وأسمع نفسه معنيين أحدهما: لجواب سؤال مقدر، وهو أنه لما قال: إن شاء جهر أو رد عليه فقيل: يجب أن لا يجهر لعدم فائدة الجهر، فإنه للإسماع، وليس معه أحد يسمعه، فأجيب بأن فائدة الجهر حاصلة هاهنا أيضا بقدره وهو أن يسمع نفسه فيجهر لذلك.
والثاني: ما ذكره فخر الإسلام في "مبسوطه ": لا يجهر كل الجهر؛ لأنه ليس معه أحد يسمعه، بل يأتي بأدنى الجهر فكان معناه على هذا إن شاء جهر وأسمع نفسه ولا يسمع غيره؛ لما أن التخصيص في الرواية يدل على نفي ما عداه في الغالب. قلت: كلام تاج الشريعة أوجه وأسد على ما لا يخفى.
م: (لأنه) ش: أي المنفرد م: (إمام في حق نفسه) ش:؛ لأن الإمام يقرأ وهو أيضا يقرأ، والإمام غير مقتد بغيره فكذلك هذا م: (وإن شاء خافت؛ لأنه ليس خلفه من يسمعه) ش: فليتخير ويسمع بضم الياء من الإسماع والضمير المستكن فيه يرجع إلى المنفرد والبارز يرجع إلى من.
م: (والأفضل هو الجهر؛ ليكون الأداء على هيئة الجماعة) ش: وهذا لو أذن وأقام كان أفضل، وفي " الذخيرة ": الأفضل أن يجهر بها في الأصح، وقال القدوري في " شرح مختصر الكرخي ": لا يبالغ في الجهر مثل الإمام؛ لأنه لا يسمع غيره، وفي النوافل النهارية يخافت ويخير بالليل، وفي " المحيط ": والجهر أفضل؛ لأنها اتباع للفرائض فلا يتميز عليها، وفي " الذخيرة ": الأفضل في نوافل الليل بأن تكون بين الجهر والمخافتة.
فإن قلت: إذا كان المنفرد إماما في حق نفسه، فلما أذن جازت المخافتة في حقه.
قلت: لأن القراءة له دون غيره، فكانت مخافتته كجهره.
[الإسرار بالقراءة في الظهر والعصر]
م: (ويخفيها الإمام) ش: القراءة م: (في الظهر والعصر) ش: لأن الأصل فيه أن الكفار كانوا مستعدين للأذى في الظهر والعصر فترك الجهر فيهما لهذا العذر، ثم ثبتت هذه السنة وإن زال(2/293)
وإن كان بعرفة؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صلاة النهار عجماء» أي ليست فيها قراءة مسموعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العذر بكثرة المسلمين.
فإن قلت: لماذا جهر في الجمعة والعيدين؟ قلت لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما صلاها إلا بالمدينة. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه " أن خباب بن الأرت كان يجهر بالقراءة في الظهر والعصر. وعن محمد بن مزاحم قال: صليت خلف سعيد بن جبير فكان الصف الأول يفقهون قراءته في الظهر والعصر، وكان الأسود وعلقمة يجهران بالقراءة في الظهر والعصر ولا يخفيان. وعن جابر سألت الشعبي والحكم وسالما والقاسم ومحمدا ومجاهدا وعطاء عن الرجل يجهر في الظهر والعصر؟ فقالوا: ليس عليه سهو. وعن قتادة: إن شاء جهر في الظهر والعصر ولم يسجد.
وروى أبو حفص بن شاهين بإسناده عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا رأيتم من يجهر بالقراءة في صلاة النهار فارجموه بالتفذ» ". وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه " عن يحيى بن بشير «قالوا: يا رسول الله، إن هاهنا قوما يجهرون بالقراءة بالنهار، فقال: "ارموهم بالبعر» ".
م: (وإن كان بعرفة) ش: كلمة إن للوصل أي وإن كان الإمام يصلي بعرفة، وعن مالك يجهر بالجمع بعرفات؛ لأنه يؤدي بجمع عظيم كما في الجمعة، والآن يأتي مستوفيا.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صلاة النهار عجماء» ش: هذا ليس بحديث مرفوع عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال النووي في " الروضة ": هذا باطل ليس له أصل، ورواه عبد الرزاق في مصنفه من قول مجاهد وأبي عبيدة قال معمر عن عبد الكريم الجزري قال: سمعت أبا عبيدة يقول: صلاة النهار عجماء، وقال مجاهد: صلاة النهار عجماء.
وفي " الذخيرة " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: صلاة النهار عجماء، وجعل في المغربين، وفي " الفائق ": صلاة النهار عجماء من كلام الحسن البصرى، وإنما استدل به أصحابنا؛ لأن الحسن لما كان من القرن الأول وممن أدرك أكابر الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جعلوا كلامه كالمسموع من الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
م: (أي ليست فيها قراءة مسموعة) ش: أي ليست في قراءة النهار قراءة بالجهر، والعجماء بالمد تأنيث الأعجم، شبهت بالعجماء من كونها أن الأعجم الذي لا يتكلم وتفسيره لهذا الاحتراز من قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه قال: لا قراءة في هاتين الصلاتين، فسر الحديث [لا] قراءة فيهما، ولنا رواية البخاري في "صحيحه «عن عبد الله بن سخبرة، قال: قلنا لخباب: هل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، قلنا: بم كنتم تعرفون ذلك؟(2/294)
وفي عرفة خلاف لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والحجة عليه ما رويناه.
ويجهر في الجمعة والعيدين، لورود النقل المستفيض بالجهر
وفي التطوع بالنهار يخافت، وفي الليل يتخير، اعتبارا بالفرد في حق المنفرد، وهذا لأنه مكمل له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال باضطراب لحيته» .
[الجهر في الجمع بعرفة]
م: (وفي عرفة خلاف لمالك) ش: هو يقول بالجهر بالجميع بعرفات م: (والحجة عليه ما رويناه) ش: أي الحجة على مالك ما رويناه وهو الذي ذكره صلاة النهار عجماء. قال الأكمل وأورد عليه بأنه ليس بحديث، وإنما هو من كلام الحسن البصري، ولئن سلم فهو عام خص منه الجمعة والعيدين فيجوز تخصيصها بالقياس على الجمعة وأجيب بأن أصحابنا ملأوا كتبهم ونقلوا أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يفسره بعدم القراءة وليسوا من أهل الأهواء والبدع، ولو ثبت إسناده عندهم لما فعلوا ذلك، فليس العيدان والجمعة مخصوصة؛ لأن الجمعة فرضت بالمدينة وكان نسخا لا تخصيصا، والنسخ بالقياس لا يجوز وكذا الأعياد. قلت: فيه نظر؛ لأن أهل الحديث أطبقوا على أن المذكور ليس بحديث مرفوع كما ذكرنا.
[الجهر في الجمعة والعيدين]
م: (ويجهر في الجمعة والعيدين لورود النقل المستفيض بالجهر) ش: أي النقل الشائع المنتشر، يقال: هذا حديث مستفيض أي منتشر، فمنه ما رواه الجماعة إلا البخاري من حديث حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » . ومنه ما رواه مسلم «عن أبي واقد الليثي قال سألني عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما كان يقرأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأضحى والفطر، فقال: كان يقرأ بقاف والقرآن المجيد، واقتربت الساعة» وفي الثاني: كان يصلي خلف النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الظهر فسمع منه الآية بعد الآيات من سورة لقمان والذاريات. ومنه ما رواه البيهقي عن الحارث عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «الجهر في صلاة العيدين من السنة، والخروج في العيدين إلى الجبانة من السنة» .
[تطوعات النهار سرية]
م: (وفي التطوع بالنهار يخافت) ش: أي يخفي حتما حتى يكره الجهر للأثر المذكور م: (وفي الليل يتخير اعتبارا بالفرد في حق المنفرد) ش: أي وفي التطوع بالليل يخير المتطوع بين الجهر والإخفاء، ولكن الجهر أفضل، كذا في " المبسوط ". قلت: المنفرد كذلك أعني التخيير مع أفضلية الجهر فكذا هاهنا.
م: (وهذا) ش: أي اعتبار المتطوع بالليل بفرض المنفرد م: (لأنه) ش: أي؛ لأن التطوع م: (مكمل له) ش: أي للفرض. وروي أن العبد أول ما يحاسب عن الصلاة فإن كان ترك منها شيئا يقال: انظروا إلى عبدي هل تجدون له نافلة؟ فإن وجدت كملت الفرائض منها وأدخل الجنة.(2/295)
فيكون تبعا له.
ومن فاتته العشاء فصلاها بعد طلوع الشمس إن أم فيها جهر، كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حين قضى الفجر غداة ليلة التعريس بجماعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فيكون تبعا له) ش: أي إذا كان التطوع مكملا للفرض، فيكون التطوع تبعا للفرض، والتبعية تستدعي أن يكون الحكم في التابع كالحكم في المتبوع فيما يصلح تبعا له، كالجندي يصير مقيما في المفازة لإقامة إمامه في المصر، وإنما قيدنا بقولنا فيما يصلح تبعا له احترازا عن حكم الجواز والفساد، فإنه إذا صلى الأربع قبل الظهر ثم شرع في الظهر وأفسدها لا يرى ذلك إلى فساد السنة قبلها، وإن كانت شرعيتها لتكميل الفرض أيضا لما كان لكل واحدة منهما تحريمة مبتدأة غير مبنية أحدهما على الأخرى. وقولنا غير مبنية احترازا عن صلاة المقتدي حيث تفسد بفساد صلاة الإمام وإن كانت لصلاة كل واحد منهما تحريمة مبتدأة.
م: (ومن فاتته العشاء) ش: هذا إلى قوله: ومن قرأ في العشاء ليس في بعض النسخ، والصواب ذكرها، لما أن ذلك من أصل مسائل " الجامع الصغير " حيث قال فخر الإسلام في "جامعه ": هذه مسألة الكتاب والمصنف التزم ذكر مسائل قوله - ومن فاتته العشاء - أي صلاة العشاء م: (فصلاها بعد طلوع الشمس إن أم فيها جهر) ش: أي بالقراءة وبه قال أبو ثور وأحمد وابن المنذر.
م: (كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حين قضى الفجر غداة ليلة التعريس بجماعة» ش: أي كما جهر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقراءة حين صلى صلاة الفجر قضى غداة ليلة التعريس بجماعة، كما في حديث أبي قتادة، «فإنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قضى الفجر بعد طلوع الشمس فيه وما أيقظهم إلا حرها، ثم أذن بلال بالصلاة فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين ثم صلى الغداة، فصنع كما صنع كل يوم» رواه مسلم وأحمد وفيه دليل على الجهر في قضاء الفوائت.
وروى محمد بن الحسن في كتاب " الآثار "، أخبرنا أبو جعفر، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي قال: «عرس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال من يحرسنا الليلة؟ فقال رجل من الأنصار شاب: أنا يا رسول الله أحرسكم فحرسهم حتى إذا كان من الصبح غلبته عيناه فما استيقظوا إلا بحر الشمس فقام رسول الله فتوضأ وتوضأ أصحابه وأمر المؤذن فأذن وصلى ركعتين، ثم أقيمت الصلاة، فصلى الفجر بأصحابه وجهر فيها بالقراءة كما كان يصلي بها في وقتها» .
وروى مالك في " الموطأ " عن زيد بن أسلم قال: «عرس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة بطريق مكة.
فذكر الحديث في نومهم وقيامهم وصلاتهم، ثم قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولو شاء ما ردها، فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فرغ إليها فليصلها في(2/296)
وإن كان وحده خافت حتما، ولا يتخير، هو الصحيح؛ لأن الجهر يختص إما بالجماعة حتما، أو بالوقت في حق المنفرد على وجه التخيير، ولم يوجد أحدهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقتها» هذا والذي رواه محمد بن الحسن مرسلان، ففي رواية محمد التصريح بالجهر، وفي رواية مالك يمكن حمله على الجهر، ويمكن على استيفاء الأركان.
قوله: - التعريس - نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة، يقال منه: عرس يعرس تعريسا، ويقال فيه: أعرس والعرس موضع التعريس، وبه سمي معرس ذي الحليفة عرس به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلى فيه الصبح ثم رحل.
م: (وإن كان وحده) ش: أي وإن كان الذي فاتته صلاة العشاء وصلى بعد طلوع الشمس وحده م: (خافت) ش: أي أخفى بالقراءة م: (حتما) ش: أي على وجه الحتم، أي الوجوب، والحتم مصدر حتمت عليه الشيء أي أوجبته م: (ولا يتخير) ش: أي بين الجهر والمخافتة.
م: (وهو الصحيح) ش: أي الإخفاء هو الصحيح، واحترز به عما ذكر فخر الإسلام في " شرح الجامع الصغير " أن المخافتة ليست بحتم، بل له أن يجهر إن شاء، والجهر أفضل وكذا ذكره شمس الأئمة السرخسي، والتمرتاشي، والمحبوبي، وقاضي خان في شروحهم " للجامع الصغير "، وقال قاضي خان: ولو صلى وحده خافت؛ لأن الجهر سنة الجماعة والأداء في الوقت، ولا يجهر بعد خروج الوقت. وقال بعضهم: يخير فيها والجهر أفضل كما في الوقت وهو الصحيح؛ لأن القضاء يكون على وفق الأداء، وفي الأداء المنفرد يتخير والجهر أفضل، فكذا في القضاء، وقال الشافعي: لو فاتته صلاة الليل وأراد قضاءها بالنهار أو على العكس يعتبر وقت القضاء وهو ظاهر مذهبه، فإن قضى بالنهار يسر، وإن قضى بالليل يجهر. وقال بعض أصحابه يعتبر وقت الفوات، فإن كان في صلاة الليل جهر فيها، وإن كان في صلاة النهار أسر فيها كذا في تتمتهم.
م: (لأن الجهر يختص إما بالجماعة حتما) ش: أي؛ لأن الجهر بالقراءة مخصوص أما في الصلاة بالجماعة على سبيل الحتم أي الوجوب م: (أو بالوقت) ش: أي وإما أن يختص بوقت الصلاة م: (في حق المنفرد وعلى وجه التخيير) ش: بين الجهر والإخفاء م: (ولم يوجد أحدهما) ش: أي أحد المذكورين وهما أي الجماعة والوقت في حق المنفرد وحاصله أن سبب الجهر إما الجماعة وذلك حتم، وإما الوقت وذلك فيه خيار للمنفرد بين الأمرين الجهر، والمخافتة، والمنفرد القاضي لا يوجد في حقه لا الجماعة ولا الوقت فلا يجهر.
وقال الأترازي: قول صاحب " الهداية " ممنوع عندي بأن يقال: لا نسلم أن الجهر ينبغي مانعا(2/297)
ومن قرأ في العشاء في الأوليين السورة، ولم يقرأ بفاتحة الكتاب، لم يعد في الأخريين، وإن قرأ الفاتحة ولم يزد عليها قرأ في الأخريين الفاتحة والسورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما قال من السبب؛ لأن الحكم جاز أن يكون معلولا بعلل شتى، وكيف يقال مثل هذا؟ والقضاء يحكي الفائت والمنفرد كما سئل عن الجهر حال الأداء فكذا حال القضاء ألا ترى أنه يؤذن ويقيم في القضاء فكما في الأداء، قلت: أخذ الأكمل كلام الأترازي هذا ثم أجاب عنه بعبارة غير عبارته، فقال بعد ذكر تعليل المصنف: ويمنع بأن السبب ليس بمنحصر في ذلك لم لا يجوز أن يكون موافقة القضاء الأداء سببا للجواز أيضا في حق المنفرد؟
ويمكن أن يجاب عنه بأن ما ذكره المصنف من سبب الجهر ثابت بالإجماع ولا نص يدل عليها فجعلها سببا يكون إثبات سبب بالرأي ابتداء وهو ينزع إلى الشركة في وضع الشرع وهذا باطل، ولعل هذا حمل المصنف على الحكم بكونه حتما، وهو الصحيح فيكون معنى قوله: هو الصحيح يعنى الصحيح دراية لا رواية، فإن أكثر الروايات على الجواز.
قلت: في دعوى الإجماع في الأول نظر لا يخفى، وفي بقية من الثاني كذلك، فإن عند الشافعي الاعتبار لوقت القضاء، وعند الحلوائي الاعتبار لوقت الأداء. وقال بعضهم: القول بأن الجهر سنة الوقت مردود بفعل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وقوله: فإن أكثر الروايات على الجواز يدل على وجود الرواية على الجواز، فكيف يقول: معنى الصحيح دراية لا رواية.
[حكم من قرأ في العشاء في الأوليين السورة ولم يقرأ بالفاتحة]
م: (ومن قرأ في العشاء في الأوليين السورة ولم يقرأ بفاتحة الكتاب لم يعد في الأخريين) ش: أي لم يعد قراءة الفاتحة في الركعتين الأخريين. وفي " الذخيرة" يعني قوله: - لم يعد - أي لم يقض. وقال عيسى بن أبان: ينبغي أن يكون الجواب على العكس؛ لأن قراءة الفاتحة واجبة فيقضي، وقراءة السورة سنة فلا تقضى إلا تبعا، فالواجب أولى بالقضاء.
وعن الحسن أنه روى عن أبي حنيفة أنه يقضيهما، أما الفاتحة فكما قال عيسى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأما السورة فلأنها مرتبة على الفاتحة على وفق السنة وهي واجبة أيضا بدليل وجوب سجود السهو بتركها.
م: (وإن قرأ الفاتحة ولم يزد عليها) ش: أي على الفاتحة يعنى لم يقرأ السورة م: (قرأ في الأخريين الفاتحة والسورة وجهر) ش: يعني بالفاتحة والسورة في ظاهر الرواية. وروى ابن سماعة عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه جهر بالسورة خاصة؛ لأنه في الفاتحة مؤد فراعى صفة أدائها، وفي السورة قاض فيجهر بالسورة كما يجهر في الأداء ولا يكون جمعا بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة صورة وحقيقة، وذلك غير مشروع، ووجه ظاهر الرواية وهو الجهر بهما أن قراءة السورة واجبة، وقراءة الفاتحة في الشفع الثاني غير واجبة، فكان مراعاة صفة الواجب أولى، فإذا جهر بالسورة يجهر بالفاتحة كيف يختلف صورة القراءة في قيام واحد، كذا في " الجامع الصغير " للقاضي خان، وذكر شيخ الإسلام في " المبسوط " أن الظاهر من الجواب الجهر بالسورة والمخافتة(2/298)
وهذا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يقضي واحدة منهما؛ لأن الواجب إذا فات عن وقته لا يقضى إلا بدليل، ولهما وهو الفرق بين الوجهين: أن قراءة الفاتحة شرعت على وجه يترتب عليها السورة فلو قضاها في الأخريين تترتب الفاتحة على السورة، وهذا خلاف الموضوع بخلاف ما إذا ترك السورة؛ لأنه أمكن قضاؤها على الوجه المشروع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالفاتحة؛ لأن السورة قضاء وقد قامت بصفة الجهر فيقضي كذلك، والفاتحة أداء وقد شرع أداؤها على سبيل المخافتة وكذلك ذكره الإمام التمرتاشي فقال: وهو الصحيح ما ذكره البلخي وهو جهر السورة دون الفاتحة، فكان ما ذكره المصنف من الجهر بهما جميعا مخالفا لرواية هذين الكتابين ورواية فخر الإسلام أيضا، وموافقا لما ذكره الإمام قاضي خان " ومبسوط شمس الأئمة ".
م: (وهذا) ش: أي قضاء السورة دون قضاء الفاتحة م: (عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " لا يقضي واحدة منهما) ش: أي من الفاتحة والسورة م: (لأن الواجب إذا فات عن وقته لا يقضى إلا بدليل) ش: وهاهنا لم يوجد الدليل؛ لأن من شرط الدليل أن يكون له مثل حتى يصرف ما له إلى ما عليه، والسورة غير مشروعة في الأخريين حتى يصرف إلى ما عليه، ألا ترى أن الصلاة إذا فاتت عن أيام التشريق يقضيها في غير أيام التشريق بلا تكبير له في سائر الأيام. م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (وهو الفرق بين الوجهين) ش: أحد الوجهين هو قراءة السورة في أول العشاء دون الفاتحة، والوجه الأخير هو قراءة الفاتحة وحدها في الأوليين.
م: (أن قراءة الفاتحة شرعت على وجه يترتب عليها السورة) ش: يعني شرعت قراءة الفاتحة في الركعتين الأوليين على وجه يترتب على قراءتها قراءة السورة، ألا ترى أنه إذا نسي الفاتحة فذكرها قبل الركوع أو فيه يقرأها ويعيد السورة.
م: (فلو قضاها) ش: أي الفاتحة م: (في الأخريين تترتب الفاتحة على السورة) ش: يعني تقع الفاتحة عقيب السورة م: (وهذا) ش: أي ترتب الفاتحة على السورة م: (خلاف الموضوع) ش: لأن الموضوع ترتب السورة على الفاتحة، قال الأكمل: ونوقض بترتب الفاتحة التي في الشفع الثاني أي آخره. قلت: هذا أخذ من السغناقي ملخص بيان النقض في منع قوله خلاف الموضوع هو أن ترتيب الفاتحة في الشفع الثاني على السورة في الركعة الثانية من الشفع الأول مشروع، وملخص الجواب أن الذي ذكرتم على وجه الدعاء، وليس الكلام فيه وإنما الكلام في قراءة الفاتحة على وجه قراءة القرآن.
م: (بخلاف ما إذا ترك السورة) ش: في الأوليين، فإنه يقرأ في الأخريين الفاتحة والسورة أيضا م: (لأنه أمكن قضاؤها) ش: أي قضاء السورة في الأخريين م: (على الوجه المشروع) ش:(2/299)
ثم ذكر هاهنا ما يدل على الوجوب، وفي الأصل بلفظة الاستحباب؛ لأنها إذا كانت مؤخرة فغير موصولة بالفاتحة فلم يمكن مراعاة موضوعها من كل وجه،
ويجهر بهما، هو الصحيح؛ لأن الجمع بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة شنيع، وتغيير النفل وهو الفاتحة أولى، ثم المخافتة: أن يسمع نفسه والجهر: أن يسمع غيره، وهذا عند الفقيه أبي جعفر الهندواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو أن ترتب السور على الفاتحة وانضمامها إليها.
م: (ثم ذكر) ش: أي ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (هاهنا) ش: أي في " الجامع الصغير " م: (ما يدل على الوجوب) ش: وهو قوله: قرأ في الأخريين الفاتحة والسورة.
فإن قلت: كيف يدل هذا على الوجوب؟ قلت: لأنه ذكر بلفظ الخبر والأخبار في الوجوب دليل الأمر على ما عرف، فدل على أن قضاء السورة في الشفع الثاني واجب. م: (وفي الأصل بلفظ الاستحباب) ش: أي وذكر في " المبسوط "، وهو قوله: أحب إلي أن يقضي السورة في الأخريين م: (لأنها) ش: أي؛ لأن السورة، وهذا بيان وجه الاستحباب، وهو أن السورة م: (إذا كانت مؤخرة) ش: عن الفاتحة م: (فغير موصولة بالفاتحة) ش: الأولى لوقوع الفصل بالفاتحة الثانية، أي فهي غير موصولة بالفاتحة؛ لأن السورة في الثانية والفاتحة في الأولى.
م: (فلم يمكن مراعاتها) ش: أي مراعاة السورة م: (من كل وجه) ش: في القضاء ولم يذكر الوجه الآخر وهو أن تكون متقدمة على الفاتحة لبعده؛ لأنه يفضي إلى أمر غير مشروع آخر وهو تقديم السورة على الفاتحة، وإن ذهب إليه بعضهم.
م: (ويجهر بهما) ش: أي بالفاتحة والسورة إذا قضى السورة في الشفع الثاني م: (هو الصحيح) ش: احترز به عما روى ابن سماعة عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يجهر بالسورة لا الفاتحة، وقد مر الكلام فيه مستقصى م: (لأن الجمع بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة شنيع) ش: أي غير موجه بحسب الظاهر م: (وتغيير النفل وهو الفاتحة أولى) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: سلمنا أن الجمع بين الأمرين شنيع. لكن لا نسلم أن ارتفاع هذا الشنيع ينحصر فيما قلتم؛ لأنه لا يلزم الجمع بينهما فيما قال هشام في روايته عن محمد: أنه لا يجهر أصلا.
وتقرير الجواب أن فيما قال هشام تغيير صفة الواجب إلى صفة النفل، وفيما قلتم تغيير صفة النفل إلى الواجب وتغيير صفة النفل أحق، فكان هذا التغيير أولى من ذلك التغيير.
م: (ثم المخافتة أن يسمع نفسه) ش: أشار بهذا إلى بيان الاختلاف. في حد المخافتة والجهر فقال: حد المخافتة أن يسمع القارئ نفسه؛ لأن ما دون ذلك حمحمة وليس بقراءة م: (والجهر أن يسمع غيره) ش: سواء كان ذلك الغير في الصلاة بجنبه أو خارج الصلاة م: (وهذا) ش: أي الذي ذكرنا من حد المخافتة والجهر م: (عند الفقيه أبي جعفر الهندواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي عند الإمام أبي جعفر، ونسبته إلى هِنْدوان بكسر الهاء قلعة ببلخ.(2/300)
لأن مجرد حركة اللسان لا يسمى قراءة بدون الصوت، وقال الكرخي: أدنى الجهر أن يسمع نفسه، وأدنى المخافتة تصحيح الحروف؛ لأن القراءة فعل اللسان دون الصماخ، وفي لفظ الكتاب إشارة إلى هذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن مجرد حركة اللسان لا تسمى قراءة بدون الصوت) ش: الواصل إلى أذنه فهو كما ترى جعل كل واحد من المخافتة والجهر من الكيفيات المسموعة. وقال الأكمل: قال الهندواني: مجرد حركة اللسان لا يسمى بدون الصوت قراءة، يعني لا لغة ولا عرفا وفيه نظر، فإن من رأى المصلي الأطرش يحرك شفتيه يخبر عنه أنه يقرأ، وإن لم يسمع منه شيئا.
قلت: في نظره نظر؛ لأن الهندواني ما قيد قوله باللغة، ولا بالعرف كليهما؛ لأنه ليس المراد من القراءة إفادة المخاطب. والأطرش قارئ وإن لم يفهم المخاطب قراءته، وبقول الهندواني قال الفضل، والشافعي، وشرط بشر المريسي وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خروج الصوت من الفم وإن لم يصل إلى أذنه، ولكن بشرط أن يكون مسموعا في الجملة حتى لو أدنى أحدهما عنه إلى فيه يسمع.
م: (وقال الكرخي: أدنى الجهر أن يسمع نفسه، وأدنى المخافتة تصحيح الحروف) ش: وبه قال أبو بكر البلخي المعروف بالأعمش، وهو قول مالك أيضا، واكتفوا بتصحيح الحروف. وفي " الذخيرة " ولا بد من تحريك اللسان وتصحيح الحروف حتى قال الكرخي: لا يجزئه بلا تحريك اللسان. قالوا: وقول الكرخي أقيس وأصح.
م: (لأن القراءة فعل اللسان دون الصماخ) ش: بكسر الصاد وتخفيف الميم، وهو خرق الأذن، ويقال الأذن نفسها. قال الجوهري: وبالسين نفسه، فالكرخي كما ترى جعل المخافتة من الكيفيات المبصرة، والجهر من الكيفيات المسموعة. قال الأكمل: واعترض عليه بأن الكتابة يوجد بها تصحيح الحروف ولا تسمى قراءة لعدم الصوت، وهذا فاسد؛ لأنه لم تجعل تصحيح الحروف مطلقا قراءة بل تصحيح الحروف باللسان قراءة، ألا ترى إلى قوله: لأن القراءة فعل اللسان قلت: المراد من فعل اللسان تحريكه كما ذكرنا.
م: (وفي لفظ الكتاب) ش: أي وفي لفظ " مختصر القدوري "، وقيل: المراد منه " المبسوط "، وقيل: " الجامع الصغير " والأول أظهر م: (إشارة إلى هذا) ش: أي قول الكرخي حيث قال في " مختصر القدوري ": وإن كان مفردا فهو مخير، إن شاء جهر وأسمع نفسه، وإن شاء خافت.
وجه الإشارة إليه أنه جعل أدنى المخافتة ما دون إسماع النفس كما ترى فعلم أن تصحيح الحروف كاف.
وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا صحح الحروف ولم يسمع نفسه هل تجوز صلاته أم لا؟ فعند الكرخي يجوز وعند الهندواني لا. وأما عبارة محمد في الأصل إن شاء قرأ في نفسه، وإن شاء جهر وأسمع نفسه، وهذا يدل على أن القراءة في نفسه غير إسماع نفسه لوجهين:(2/301)
وعلى هذا الأصل كل ما يتعلق بالنطق كالطلاق والعتاق والاستثناء، وغير ذلك.
وأدنى ما يجزئ من القراءة في الصلاة آية عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: ثلاث آيات قصار أو آية طويلة؛ لأنه لا يسمى قارئا بدونه، فأشبه قراءة ما دون الآية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما: أنه جعل إسماع نفسه جهرا والقراءة في نفسه مخافتة، والجهر ليس قسما من المخافتة فلا يمكن حمل الأول على كلا الجملتين، أو نقول: جعل إسماع نفسه قسيما للقراءة في نفسه، وقسيم الشيء لا يكون قسما له.
والثاني: لو كان إسماع نفسه داخلا في القراءة في نفسه لكان مستفادا من قوله: إن شاء قرأ في نفسه فيكون قوله: - وإن شاء أسمع نفسه - تكرارا خاليا عن الفائدة، والعرف غير معتبر في هذا الباب؛ لأنه أمر بينه وبين ربه.
وقال الحلوائي: الأصح أنه لا يجوز ما لم يسمع نفسه ويسمع من يقربه. وفي " المرغيناني " قال أبو جعفر: إسماع نفسه لا بد منه.
م: (وعلى هذا الأصل) ش: أي وعلى هذا الاختلاف المذكور م: (كل ما يتعلق بالنطق كالطلاق) ش: بأن قال لامرأته: أنت طالق ولم يسمع نفسه يقع الطلاق عند الكرخي خلافا للهندواني م: (والعتاق) ش: بأن قال لعبده: أنت حر ولم يسمع نفسه يعتق عند الكرخي خلافا للهندواني م: (والاستثناء) ش: بأن قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، أو قال لعبده: أنت حر إن شاء الله، وخافت إن شاء الله ولم يسمع نفسه لا يقع الطلاق ولا العتاق عند الكرخي، وعند الهندواني يقعان في الحال. وكذلك الخلاف في الشرط.
م: (وغير ذلك) ش: مثل الإيلاء واليمين والتكبير وإحرام الحج والتسمية ووجوب سجدة التلاوة ونحو ذلك مما يتعلق بالنطق، وإن تكلم في صلاته ولم يصحح الحروف لا يفسد، وإن صحح الحروف لا يفسد، وعلى قول محمد بن الفضل لا يفسد، والبيع على الخلاف المذكور. وقيل: الصحيح في البيع أن يسمع المشتري. وفي النصاب [....
.....] الإمام يسمع قراءة رجل أو رجلين في صلاة المخافتة، قال: لا يكون جهرا والجهر أن يسمع الكل.
[أدنى ما يجزئ من القراءة في الصلاة]
م: (وأدنى ما يجزئ من القراءة في الصلاة آية) ش: أي قراءة آية سواء كانت طويل أو قصيرة م: (عند أبي حنيفة) ش: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو رواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكرها في " المغني ". م: (وقالا: ثلاث آيات قصار أو آية طويلة) ش: أي وقال أبو يوسف ومحمد أدنى ما يجوز من القراءة في الصلاة قراءة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة، وهو رواية عن أبي حنيفة م: (لأنه لا يسمى قارئا بدونه فأشبه قراءة ما دون الآية) ش: أي؛ لأن المصلي لا يسمى قارئا عرفا بدون المذكور من ثلاث آيات، أو آية طويلة؛ لأنه مأمور بالقراءة المطلقة، والمطلق ينصرف إلى المتعارف، وقارئ الآية القصيرة لا يسمى قارئا عرفا، فلا تجوز الصلاة بذلك القدر، كما لا تجوز إذا قرأ ما دون الآية.(2/302)
وله قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] [المزمل: الآية 20] من غير فصل إلا أن ما دون الآية خارج،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] [المزمل: الآية 20] من غير فصل) ش: بيانه أن الله تعالى أمرنا بالقراءة مطلقا وبإطلاقه يتناول ما يطلق عليه اسم القراءة مقصودة لا يشعر بها قصد الخطاب لأحد ولا جوابه ولا قصد التلقين من غيره، وفي رواية عنه آية واحدة؛ لأن ما دونها يوجد في كلام الناس فلا يطلق عليه اسم القرآن، وهذه الرواية هي المذكورة في المتن، والحاصل أن في ذلك عن أبي حنيفة ثلاث روايات: الأولى: رواية الأصل كقول الصاحبين.
والثانية: رواية القدوري وهو ما يتناوله اسم القراءة، قال القدوري: هو الصحيح، وهو قول ابن عباس فإنه قال: اقرأ ما معك من القرآن فليس شيء من القرآن بقليل.
والثالثة: ما قاله في " الينابيع " وهو قراءة آية أي آية كانت قصيرة أو طويلة، ولو كانت الآية قصيرة كلمة واحدة مثل مدهامتان أو حرفا واحدا مثل قاف أو صاد أو نون، فإن كل واحد منها آية عند بعض القراء.
اختلف المشايخ فيه، قال المرغيناني: الأصح أنه لا يجزئه، وقال الحلوائي: لأنه يسمى عادا لا قارئا. وفي " نوادر المغني " عن أبي يوسف: إذا كان الرجل لا يحسن إلا قوله: الحمد لله رب العالمين يقرؤها مرة واحدة في كل ركعة ولا يكررها، وتجوز صلاته وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وفي " فتاوى المرغيناني ": لو قرأ آية الكرسي أو المداينة بدون الفاتحة الصحيح عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجزئه، فإن ذلك عند القاضي عماد الدين، وعامة المشايخ على جوازها.
ولو قرأ آية الكرسي أو المداينة في ركعتين اختلف المشايخ فيه على قول أبي حنيفة، قيل: لا يجزئه؛ لأنه لم يقرأ في كل ركعة آية تامة.
وقيل: يجوز؛ لأن بعضها يزيد على ثلاث آيات قصار. ولو قرأ نصف آية مرتين أو كلمة واحدة من آية مرارا حتى بلغ قدر آية تامة لا يجوز، وفي " فتاوى النسفي " قراءة ثلاث آيات قصار، أو آية طويلة واحدة بالإجماع. وقد ثبت رجوع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن آية.
وفي " البدرية " هذا أحد الجواز، أما الكراهية ثابتة ما لم يقرأ الفاتحة مع ثلاث آيات. وفي " شرح الطحاوي ": قراءة الفاتحة وحدها ومعها آية أو آيتان مكروه. وفي " المبسوط ": تكرار آية طويلة بمنزلة ثلاث آيات في حق إقامة السنة.
م: (إلا أن ما دون الآية خارج) : ش: هذا جواب سؤال مقدر وهو أن يقال: لو كان المراد من قوله: ما تيسر من القرآن مطلقة من غير فصل لجاز ما دون الآية كما جاز بالآية؛ لأن إطلاق ما دون الآية خارج عن الإطلاق؛ لأن المطلق ينصرف إلى الكامل، والكامل من القراءة ما هو قرآن حقيقة وحكما، وما دون الآية وإن كان قرآنا حقيقة فليس بقرآن حكما، ألا ترى أنه يجوز قراءته للجنب والحائض، نص بذلك في " العيون "، و" المختلف " فلا ينصرف المطلق إليه.(2/303)
والآية ليست في معناه. وفي السفر يقرأ بفاتحة الكتاب وأي سورة شاء؛ لما «روي أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - "قرأ في صلاة الفجر في سفر بالمعوذتين» ؛ ولأن للسفر أثر في إسقاط شطر الصلاة فلأن يؤثر في تخفيف القراءة أولى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والآية ليست في معناه) ش: أي في معنى ما دون الآية، فإذا كان كذلك لم يجز قياسها م: (وفي السفر يقرأ بفاتحة الكتاب وأي سورة شاء) ش: قدم حكم القراءة في السفر مع أنه من العوارض وهو أليق بالتأخير؛ لأنه مظنة قلة القراءة فكانت له مناسبة للحكم التي قبله وهو قراءة الآية الواحدة، أو؛ لأن أحكام قراءة الحضر كثيرة فأراد أن يدخلها فيها بعد الفراغ من القليل.
م: (لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في صلاة الفجر في سفر بالمعوذتين» ش: هذا الحديث رواه أبو داود في "سننه " في فضائل القرآن، والنسائي في الاستعاذة من حديث القاسم مولى معاوية، «عن عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت أقود لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناقته في السفر، فقال لي: "يا عقبة لأعلمك خير سورتين قرئتا فعلمني: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ الناس. قال: فلما نزل لصلاة الصبح صلى بهما صلاة الصبح للناس» . الحديث. والقاسم هو عبد الرحمن القرشي الأموي مولاهم الشامي وثقه ابن معين وتكلم فيه غير واحد قاله المنذري، ورواه ابن حبان في "صحيحه " والحاكم في "مستدركه ".
م: (ولأن للسفر أثر في إسقاط شطر الصلاة فلأن يؤثر في تخفيف القراءة أولى) ش: السفر مظنة التخفيف فأدير الحكم عليه وخففت القراءة، وإن كان المسافر أميا؛ لأن للسفر أثرا في إسقاط الركعتين من الرباعيات للتخفيف، وتأثيره في تخفيف القراءة التي هي جزء من الصلاة أظهر وادعى إلى التخفيف.
قال الأكمل: فإن قيل: هذا التعليل مخالف لما ذكر في طرق أبي حنيفة في مسألة الأرواث في باب الأنجاس حيث استدل هاهنا بوجود التخفيف ثانيا وما ذاك هنا أجيب بالفرق بين الموضعين بأن العمل بتخفيف القراءة عملا بالدلالة؛ لأن كل شيء ظهر تأثيره في الأصل كان ظهور تأثيره في الوصف أولى؛ لكونه تابعا للأصل بخلاف الأدوات فإن الضرورة عملت في وصف التخفيف مدة وكفت مؤنتها بها فلا تعمل ثانية.
قلت: هذا ذكره العتابي وله جواب آخر، وهو أن الحكم يدور مع العلة، لا مع الجملة ألا ترى أنه يباح الفطر في السفر مع الأمن والقرار لوجود العلة، وقيل: في تعليل المصنف نظر؛ لأن السفر ما أثر في إسقاطه على مذهبنا؛ بل صلاة السفر من الأصل وجبت ركعتين؛ لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن الصلاة فرضت ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر» . رواه مسلم.
قلت: زيادته في الحضر أمر تعبدي، وتركه على السفر في ركعتين؛ لأجل التخفيف، وإن كان في الأصل شرع ركعتين قال: الأمر في ذلك مع كل وجه إلى التخفيف.(2/304)
وهذا إذا كان على عجلة من السير، وإن كان في أمنة وقرار يقرأ في الفجر نحو سورة البروج، وانشقت؛ لأنه يمكنه مراعاة السنة مع التخفيف. ويقرأ في الحضر في الفجر الركعتين بأربعين آية، أو خمسية آية سوى فاتحة الكتاب، ويروى من أربعين إلى ستين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: يعني ما ذكرنا من قوله: وفي السفر يقرأ بفاتحة الكتاب وأي سورة شاء. م: (إذا كان) ش: أي المسافر الذي يصلي م: (على عجلة من السير) ش: أي على استعجال في سيره لوصول المنزل، أو كان وراءه عدو، أو سبع يخافه، فيستعجل للحوق بجماعته.
م: (وإن كان في أمنة) ش: بفتح الميم أي أمن ومنه قَوْله تَعَالَى: {أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران: 154] (آل عمران: الآية 154) ، والأمنة أيضا الذي يثق بكل أحد، وكذلك الأُمنة بضم الهمزة م: (وقرار) ش: وفي مكان م: (يقرأ في الفجر سورة البروج وانشقت) ش: يعني {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] وهي ثنتان وعشرون آية، وسورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] وهي خمس وعشرون آية.
م: (لأنه يمكنه مراعاة السنة مع التخفيف) ش: مراعاة السنة هي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قرأ في الحضر بمثل سورة (البروج) ، و (انشقت) في صلاة الفجر، فإذا كان المسافر في أمن يقرأ بمثل هذه السورة في صلاة الفجر، فيكون مراعيا للسنة مع حصول التخفيف المطلوب في السفر، الذي هو عين المشقة.
[مقدار القراءة في الصلوات الخمس]
م: (ويقرأ في الحضر في الفجر في الركعتين بأربعين آية، أو خمسين آية سوى فاتحة الكتاب) ش: في هذه العبارة إشارة إلى أن الأربعين آية، أو الخمسين تكون في الركعتين، لا في ركعة واحدة، فيكون في كل ركعة من الفجر عشرون آية في رواية الأربعين، وخمسة وعشرين آية في رواية الخمسين.
فإن قلت: هذا خلاف الآثار فإنه ذكر في " المبسوط " عن «مسروق العجلي قال: بلغت سورة "ق" و {اقْتَرَبَتِ} [القمر: 1] من فيّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكثرة قراءته إياهما في صلاة الفجر» ولا يمكن حمله على أنه قرأ بعض سورة (ق) في ركعة؛ لأن المستحب قراءة سورة تامة في ركعة، وقد أمر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلالا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قلت: يحمل على ما رواه العجلي على ما في الكتاب من ستين إلى مائة فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قرأ سورة (ق) في الركعة الأولى وهي أربع وخمسون آية كأن يقرأ في الثانية ما يعادلها أو يقاربها، فكان مجموعهما يقرب إلى مائة؛ ولهذا فسر في " مبسوط شيخ الإسلام " وقال: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ سورة (ق) ، أو {اقْتَرَبَتِ} [القمر: 1] في الركعة الأولى. والحاصل أن الاختلاف الواقع في هذا الباب لاختلاف الأخبار والآثار، على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى.
م: (ويرى من أربعين إلى ستين) ش: أراد بهذا أنه روي عن أبي حنيفة أنه يقرأ في الفجر في(2/305)
ومن ستين إلى مائة وبكل ذلك ورد الأثر ووجه التوفيق أنه يقرأ بالراغبين مائة وبالكسالى أربعين، وبالأوساط ما بين خمسين إلى ستين، وقيل: ينظر إلى طول الليالي وقصرها، وإلى كثرة الأشغال وقلتها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحضر في الركعتين من أربعين آية إلى ستين: م: (ومن ستين إلى مائة) ش: أي ويروى عن أبي حنيفة أيضا رواها الحسن عنه أنه يقرأ من ستين آية إلى مائة آية م: (وبكل ذلك ورد الأثر) ش: أي بكل ما ذكرنا من المقادير في القراءة في الفجر في السفر والحضر ورد الأثر، ألا ترى أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قرأ في الفجر سورة البقرة، فلما قال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كادت الشمس تطلع يا خليفة رسول الله، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قرأ سورة يوسف، فلما انتهى {أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] (يوسف: الآية 86) ، خنقته العبرة فركع، وروي عن أبي سويد أنه قال: خرجنا مع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حجاجا فصلى بنا الفجر ب {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ} [الفيل: 1] ، {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] .
وعن ابن ميمون قال: صلى بنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الفجر في السفر فقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، وعن الأعمش، عن إبراهيم قال: كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأون في السفر بالسور القصار.
وعن أبي وائل قال: صلى بنا ابن مسعود في السفر الفجر بآخر بني إسرائيل {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء: 111] (الإسراء: الآية 111) ، ثم ركع، كذا ذكر ذلك ابن أبي شيبة.
م: (ووجه التوفيق) ش: أي بين الروايات التي رويت، وقد ذكر وجه ذلك بثلاثة أوجه: أحدها: قوله م: (أنه) ش: أي الإمام م: (يقرأ بالراغبين) ش: في سماع طول القراءة والإمام م: (مائة) ش: أي مائة آية أو أكثر؛ لأن الراغبين هم الزهاد والعباد، فلا يثقل عليهم التطويل، ويجمع الإمام في هذا بين التغليس والإسفار.
م: (وبالكسالى) ش: أي ويقرأ بالكسالى، وهو جمع كسلان م: (من أربعين إلى خمسين) ش: أي من أربعين آية إلى خمسين آية، ولا يزيد على هذا؛ لأنه يثقل عليهم، لقلة رغبتهم م: (وبالأوساط) ش: أي ويقرأ بأوساط الناس، وهم لا راغبون ولا كسالى جدا، بل بين هؤلاء وهؤلاء، وهو جمع وسط م: (ما بين خمسين إلى ستين) ش: أي ما بين خمسين آية إلى ستين آية.
م: (وقيل: ينظر إلى طول الليالي وقصرها) ش: وأقصرها ليالي الصيف، ويقرأ فيها أربعين آية. وفي الخريف خمسين آية أو ستين آية م: (وإلى كثرة الأشغال وقلتها) ش: هو الوجه الثالث من وجوه التوفيق، وهو أنه ينظر إلى كثرة أشغال الناس وقلتها؛ لأن التطويل عند الاشتغال الكثير يؤدي إلى ترك السنة، وهاهنا وجوه أخرى.(2/306)
قال وفي الظهر مثل ذلك لاستوائهما في سعة الوقت وقال في الأصل أو دونه لأنه وقت الاشتغال فينقص عنه تحرزا عن الملال
والعصر والعشاء سواء يقرأ فيهما بأوساط المفصل
وفي المغرب دون ذلك يقرأ فيها بقصار المفصل، والأصل فيه كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن اقرأ في الفجر والظهر بطوال المفصل وفي العصر والعشاء بأوساط المفصل وفي المغرب بقصار المفصل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأول: ينظر إلى حال الإمام في الطول والقصر بحسب القدرة.
الثاني: ينظر إن كان الإمام حسن الصوت يقرأ مائة، وإن كان خلاف ذلك لا يزيد على الأربعين.
الثالث: ينظر إلى حال الوقت بحسب الأمن والخوف.
م: (قال) ش: أي في " الجامع " م (وفي الظهر مثل ذلك) ش: أي يقرأ في صلاة الظهر مثل ما قرأ في صلاة الفجر، وقد روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الظهر {الم} [السجدة: 1] {تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] السجدة، وروي أنه كان يقرأ في الفجر {الم} [السجدة: 1] {تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] فدل على أنه كان يقرأ في ركعتي الظهر مثل ما يقرأ في الفجر م (لاستوائهما في سعة الوقت) ش: أي لاستواء الظهر والعصر في سعة الوقت.
م: (وقال في الأصل) ش: أي قال محمد في " المبسوط " م: (أو دونه) ش: أي أو يقرأ في الظهر دون ما يقرأ في الفجر م: (لأنه) ش: أي؛ لأن الظهر م: (وقت الاشتغال) ش: بخلاف الفجر م: (فينقص عنه) ش: أي عن الفجر م: (تحرزا عن الملال) ش: أي احتراز عن الملالة المفضية إلى تقليل الجماعة.
م: (والعصر والعشاء سواء) ش: يعني يتساويان في حكم القراءة م: (يقرأ فيهما بأوساط المفصل) ش: وأوساط المفصل من كورت إلى الضحى، وطوال المفصل من الحجرات إلى {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] والقصار من الضحى إلى آخر القرآن، كذا في " جامع المحبوبي " و " قاضي خان " إلا أنه ذكر في " جامع قاضي خان " قيل: أول الطوال من قاف، قال الخطابي: روي هذا في حديث مرفوع. وحكى القاضي عياض أنه من الجاثية وهو غريب، وسمي المفصل؛ لكثرة الفصول فيه، وقيل: لقلة المنسوخ فيه.
م: (وفي المغرب دون ذلك يقرأ فيها بقصار المفصل والأصل فيه) ش: أي في تقدير القراءة في الصلاة م: (كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن اقرأ في الفجر والظهر بطوال المفصل، وفي العصر والعشاء بأوساط المفصل، وفي المغرب بقصار المفصل) ش: هذا له أصل، ولكن بغير هذا الوجه، فروى عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا سفيان الثوري عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره قال: كتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أبي(2/307)
ولأن مبنى المغرب على العجلة والتخفيف أليق بها، والعصر والعشاء يستحب فيهما التأخير، وقد يقعان بالتطويل في وقت غير مستحب، فيوقف فيهما بالأوساط.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
موسى الأشعري أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل، وفي العشاء بأوساط المفصل، وفي الصبح بطوال المفصل. وروى ابن شاهين ولفظه: أن اقرأ في الصبح بطوال المفصل، وفي الظهر بأوساط المفصل، وفي المغرب بقصار المفصل.
وقال الترمذي في كتابه في آيات القراءة في الصبح، وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى أبي موسى أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل، وأبو موسى الأشعري اسمه عبد الله بن قيس، مات سنة اثنين وأربعين، وهو ابن ثلاث وستين سنة.
م: (ولأن مبنى المغرب على العجلة والتخفيف أليق بها، والعصر والعشاء يستحب فيهما التأخير) ش: أراد بالعجلة الاستعجال خوفا من وقوعها إلى اشتباك النجوم، وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في المغرب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » رواه ابن ماجه.
فإن قلت: في حديث «جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في المغرب بالطور» وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قرأ في المغرب الأعراف وقسمها في ركعتين» رواه النسائي.
قلت: هذا بحسب الأحوال، فكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلم من أحوال المؤمنين في وقت أنهم يؤثرون التطويل فيطول، وفي وقت غير مستحب قد ذكر المصنف في باب المواقيت، ويستحب تأخير العصر ما لم تتغير الشمس في الشتاء والصيف؛ لما فيه من تكثير النوافل لكراهتها بعده، وذكر في العشاء أنه يستحب تأخيره إلى ما قبل ثلث الليل. ثم تعليل المصنف حينئذ بقوله م: (وقد يقعان بالتطويل في وقت غير مستحب) ش: ماش ظاهر في العصر وغير ماش في العشاء؛ لأن تأخيره إلى نصف الليل مباح والتعليل الصحيح فيه أن وقتها وقت النوم فبالتطويل في القراءة يحصل التأخير، وبالتأخير يحصل التنفير والتقليل في الجماعة لغلبة النوم عليهم حينئذ م: (فيوقت فيهما) ش: أي في وقت العصر والعشاء م: (بالأوساط) ش: أي بأوساط المفصل، وعن أبي بريدة: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في العشاء الآخرة: والشمس وضحاها ونحوها» ، ورواه النسائي والترمذي، وقال: حديث حسن.
وعن جابر بن سمرة: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الظهر والعصر {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] و {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] » رواه أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه.
م:(2/308)
وقال: ويطيل الركعة الأولى من الفجر على الثانية، إعانة للناس على إدراك الجماعة.
قال: وركعتا الظهر سواء، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أحب إلي أن يطيل الركعة الأولى على غيرها في الصلوات كلها؛ لما «روي أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "كان يطيل الركعة الأولى على غيرها في الصلوات كلها» ، ولهما أن الركعتين استويا في استحقاق القراءة فيستويان في المقدار،
بخلاف الفجر؛ لأنه وقت نوم وغفلة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وقال) ش: أي محمد في الأصل م: (ويطيل الركعة الأولى من الفجر على الثانية) ش: وفي بعض النسخ ويطول وهذا بالاتفاق بين أصحابنا، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يسوي بين الركعتين في الصلاة كلها ذكر في " المهذب " وبه قال الأكثرون من الشافعية - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - واختار النووي قول محمد وفي " الروضة " والأصح التسوية بينهما وبين الثالثة والرابعة، واتفقوا على كراهية إطالة الثانية على الأولى إلا مالكا، فإنه قال: لا بأس بأن يطول الثانية على الأولى.
م: (إعانة للناس على إدراك الجماعة) ش: أي لأجل الإعانة للناس على إدراك الجماعة؛ لأن وقت الفجر وقت نوم وغفلة، فاستحب تطويل الركعة الأولى ليدرك الناس الجماعة.
م: (قال: وركعتا الظهر سواء) ش: أي الركعتان الأوليان من الظهر مستويتان في الإطالة والقصر، لأنهما استويا في وجوب القراءة ويستويان في مقدارها إذ الترجيح خلاف الأصل بخلاف صلاة الفجر لما ذكرنا وقد ذكرنا عن قريب حديث جابر بن سمرة وقراءته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الظهر والعصر {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] و {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] وهما متقاربتان.
م: (وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -) ش: يعني استواء ركعتي الظهر وغيره م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أحب إلي أن يطول الركعة الأولى على الثانية في الصلوات كلها) ش: وبه قال الثوري وأحمد - رحمهما الله - م: (لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يطيل الركعة الأولى على الثانية في الصلوات كلها) ش: روى البخاري ومسلم من حديث أبي قتادة، واللفظ للبخاري «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب ويطول في الركعة الأولى ما لا يطيل في الثانية وهكذا في العصر» وهكذا في الصبح وزاد أبو داود والعشاء؛ لأنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة. م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - م: (أن الركعتين استويا في حق استحقاق القراءة فيستويان في المقدار) ش: يعني أن القراءة كما فرضت في الأولى فرضت في الثانية، فثبت استواؤهما في استحقاق القراءة، فينبغي أن يستويا في حق المقدار أيضا.
م: (بخلاف الفجر؛ لأنه وقت نوم وغفلة) ش: هذا جواب عن قياس محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث قاس سائر الصلوات بالفجر، فإن إطالة الأولى على الثانية مسنونة بالإجماع، وأما الفجر فإنه في وقت نوم وغفلة بخلاف غيرها، فإن الناس فيها على علم ويقظة، فلا يقاس على الفجر(2/309)
والحديث محمول على الإطالة من حيث الثناء والتعوذ والتسمية،
ولا معتبر بالزيادة والنقصان بما دون ثلاث آيات؛ لعدم إمكان الاحتراز عنه من غير حرج.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لوجود الفارق، وفي " جامع المحبوبي ": الجمعة والعيد وغيرهما في هذا الحكم سواء.
م: (والحديث محمول على الإطالة من حيث الثناء والتعوذ والتسمية) ش: هذا جواب من جهة أبي حنيفة وأبي يوسف عن الحديث الذي احتج به محمد وهو ظاهر، وفيه نظر من وجهين، أحدهما: أنه احتج لمحمد بالحديث المذكور، ولم يحتج لأبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - إلا بالمعقول، وكان ينبغي له أن يذكر لهما حديثا ثم يجيب عن حجته. والثاني: أن المراد من الإطالة هي الإطالة في نفس القراءة، والثناء، والتعوذ، والتسمية ليست من القراءة، وهذا جواب شاف.
وقد احتج أبو حنيفة وأبو يوسف بما رواه أبو سعيد الخدري «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقرأ في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين خمس عشرة آية، وقال: نصف ذلك في العصر، في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك» . رواه مسلم وأحمد - رحمهما الله.
م: (ولا معتبر بالزيادة والنقصان بما دون ثلاث آيات؛ لعدم إمكان الاحتراز عنه من غير حرج) ش: أي ولا عبرة في زيادة آية أو آيتين في الركعة الأولى على القراءة في الركعة الثانية، وكذلك على العكس وكذا لا عبرة في نقصان آية أو آيتين عن ذلك، والحاصل أن المقدار في الزيادة والنقصان بما دون ثلاث آيات من غير حرج في اعتبار التساوي على الحقيقة، «وقد صح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في المغرب بالمعوذتين» والثانية أطول من الأولى بآية، وإطالة الركعة الثانية على الأولى بثلاث آيات فصاعدا في الفرائض مكروه بالإجماع، وفي السنن والنوافل لا يكره؛ لأن أمرها أسهل كذا في " جامع المحبوبي "، وفي " جامع التمرتاشي " هكذا إذا كان إماما، أما إذا كان منفردا قرأ ما شاء؛ لأن على الإمام أن يراعي حق القوم، قال المرغيناني: في التطويل يعتبر بالآي إن كان بينهما مقاربة، بأن كانت الآيات متقاربة من حيث الطول والقصر معتبرا بالكلمات والحروف، وقيل: ينبغي أن يكون التقرب بالثلاث والثلاثين.
وقال الطحاوي: يقرأ في الأولى ثلاثين آية، وفي الثانية عشر آيات، أو عشرين آية، وهذا بيان الأولوية.
وفي " المجرد " قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: المنفرد كالإمام في جميع ما وصفنا من القراءة إلا أنه ليس عليه الجهر، وقيل: يستحب للمنفرد رجلا كان أو امرأة تطويل القراءة؛ لقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: طول القراءة أحب إلي من كثرة الركوع والسجود، وقَوْله تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] (البقرة: الآية 238) ، قيل: القنوت طول القيام، وفي " القنية ": القراءة المسنونة يستوي(2/310)
وليس في شيء من الصلوات قراءة سورة بعينها بحيث لا تجوز غيرها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيها الإمام والمنفرد والناس عنها غافلون.
[قراءة نفس السورة مع الفاتحة في الركعة الثانية]
فروع: إذا قرأ الفاتحة وسورة معها، ثم قرأ في الثانية تلك السورة مع الفاتحة فلا بأس به، حتى قال الأصحاب لو قرأ (قل أعوذ برب الناس) في الأولى، ثم قام إلى الثانية يقرأها بعينها. وعن أبي الحويرث: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في المغرب بأم القرآن وقرأ معها (إذا زلزلت الأرض) ثم قام فقرأ بأم القرآن وقرأ (إذا زلزلت الأرض» أيضا" رواه أبو داود.
وفي " البخاري «أن رجلا كان يقرأ في كل ركعة ب (قل هو الله أحد) فرفع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأقره عليه» وكره جماعة الجمع بين سورتين غير الفاتحة في ركعة واحدة، وعندنا لا يكره ذلك، وقال الطحاوي: وثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه فعله، وذكر في " الحديقة " أن أربعة من العلماء ختموا القرآن في ركعة واحدة، وهم عثمان بن عفان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير وأبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وإن جمع بين سورتين في ركعة، وبينهما سور أو سورة يكره. وإن قرأ في الركعتين من وسط السورة وآخرها في الأولى، وفي الثانية وسط سورة وآخر سورة أخرى لا ينبغي أن يفعل، ولو فعل لا بأس به، وإن انتقل من آية إلى آية وبينهما آيات يكره في ركعة واحدة، وفي الركعتين إن كان بينهما سورة لا يكره، وإن كان سور يكره، وقيل: لا يكره إذا كانت السورة طويلة، وقيل: لا يكره على الإطلاق. ويكره أن يقرأ سورة أو آية في ركعة، ثم يقرأ في الثانية ما فوقها، وعليه جمهور الفقهاء.
قال ابن بطال في " شرح البخاري " وعن عبد الله أنه سئل عمن يقرأ القرآن منكوسا قال: ذلك منكوس القلب، وفسر بأن يقرأ سورة ثم يقرأ بعدها سورة قبلها في النظم، وبه قال أحمد، ولم يكرهها مالك، وكذا ترديد السورة في ركعة، نص مالك: لا بأس به وروى ابن القاسم عنه أنه سئل عن تكرير {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فكره وقال: هذا مما أحدثوه.
وفي " الذخيرة ": ولو قرأ آية في التطوع لا يكره ذلك فقد ثبت عن جماعة من السلف أنهم كانوا يحيون ليلتهم بآية العذاب، أو الرحمة، أو الرجاء.
م: (وليس في شيء من الصلوات قراءة سورة بعينها بحيث لا تجوز غيرها) ش: أي ليس في صلاة من الصلوات أي صلاة كانت قراءة سورة من القرآن بعينها للمصلي، بحيث أنه لا تجوز غيرها إذا قرأ ذلك الغير، وفيه نفي قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن عنده الفاتحة فرض على التعيين في الصلوات، حتى إذا ترك الفاتحة لا تجوز الصلاة.
وقوله: - لا يجوز غيرها - يجوز فيه الوجهان:(2/311)
لإطلاق ما تلونا.
ويكره أن يوقت بشيء من القرآن لشيء من الصلوات لما فيه من هجر الباقي وإيهام التفضيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما: أن يكون يجوز بالتخفيف، وغيرها بالرفع فاعله، والجملة بقيت في محل النصب على الحال، والآخر: أن يكون من باب التفعيل وغيرها بالنصب على المفعولية، والضمير في لا يجوز على هذا يرجع إلى المصلي الذي يدل عليه قوله: - قرأ سورة -؛ لأن التقدير قراءة المصلي سورة، فالمصدر مضاف إلى مفعوله، وطوى ذكر الفاعل. م: (لإطلاق ما تلونا) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] (المزمل: الآية 20) ، فإنه مطلق ولا يجوز تقييده بخبر الواحد.
[تعيين سورة أو آية من القرآن لشيء من الصلوات]
م: (ويكره أن يوقت) ش: أي يعين م: (بشيء من القرآن لشيء من الصلوات) ش: مثل ما أخذ عين قراءة السجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] في فجر كل جمعة، ومثل تعيين قراءة سورة الجمعة والمنافقين في صلاة الجمعة م: (لما فيه) ش: أي في توقيت السورة من القرآن بشيء من الصلوات م: (من هجر الباقي) ش:؛ لأن المواظبة على تعيين شيء من القرآن لشيء من الصلوات هجر لباقي القرآن من غير المعين، فيدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30] (الفرقان: الآية 30) ، أي متروكا وأعرضوا عنه م: (وإيهام التفضيل) ش: أي ولما فيه من إيهام تفضيل المعين على غيره، والقرآن كلام الله تعالى كله سواء في التفضيل.
وقال السغناقي: هاهنا سؤال، وملخصه أن هذه المسألة والتي قبلها في إبداء حكم واحد بحسب الظاهر، فحينئذ يصير هذا تكرارا ولا فائدة فيه. وأجابوا بجوابين ملخصهما:
الأول: أن المسألة الأولى من مسائل القدوري.
والثانية: من مسائل " الجامع الصغير "، والمصنف التزم ذكر مسائلهما.
قلت: فيه نظر لا يخفى.
والثاني: أن في الأولى تعيين السورة في مطلق الصلوات ولا يقرأ غيرها في كلها، وفي الثانية تعيين سورة معينة [في] صلاة معينة كما ذكرنا مثلها. وأورد الأكمل هذا في شرحه ناقلا عنه، وذكر في الجواب الأول أن المصنف قد التزم الإتيان بمسائل القدوري، ومسائل " الجامع الصغير " إذا اختلفت الروايتان.
قلت: ليس هاهنا اختلاف الروايتين، وإنما هو اختلاف الحكمين.
وقال الأترازي: فافهم فرق ما بين هذه المسألة وبين المسألة المتقدمة، وقد خبط خبط عشواء إذ ركب متن في فرقهما كثير ممن تصدى للتدريس.
قلت: هو فيما ذكره؛ لأنه لم يفرق بينهما بوجه ما، وأظن أنه حل المسألة الثانية على أنه إذا(2/312)
ولا يقرأ المؤتم خلف الإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واظب على البعض، وأما إذا قرأ أحيانا تبركا، روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقرأ السجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] في صلاة الفجر» فيكون مستحبا لا مكروها، فلذلك قال: ممن تصدى للتدريس ولم يقل من تصدى للشرح.
ثم ذكر السغناقي سؤالا آخر ملخصه: أنه علم كراهة التعيين من جانب واحد فعلمه من الجانبين بالطريق الأولى؛ لأن الكراهة ما جاءت إلا من جانب التقديم وأجاب بما ملخصه بطريق المنع؛ لأنه يجوز أن يكون للتعيين من الجانبين فائدة لزيادة التبرك بفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك دون الآخر، حتى إن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرى استحباب الثاني دون الأول؛ لأن فيه هجرا للباقي من غير تضمن معنى التبرك، فيكره الأول دون الثاني، وقد تكلم هاهنا من غير تحريم يعلم ذلك بالوقوف عليه والتأويل فيه.
ثم قال الإسبيجابي والطحاوي: هذا الذي ذكر رآه حتما واجبا، لا يجزي غيرها أو رأى القراءة بغيرها مكروهة، أما لو قرأها في تلك الصلاة تبركا بقراءة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها أو تأسيا به، أو لأجل التيسير عليه، فلا كراهة في ذلك، لكن بشرط أن يقرأ غيرها أحيانا لئلا يظن الجاهل الغبي أن لا يجوز غير ذلك، وغالب العوام على اعتقاد بطلان سورة السجدة دون سورة (هل أتى) ، وما تحملهم على هذا إلا التزام الشافعية - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قراءة سورة السجدة.
وقال الطحاوي: قرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجمعة بغير ما ذكر فيها. وعن النعمان بن بشير: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الركعة الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » ، فيحمل على أنه قرأ هذا مرة، وبهذا مرة، واستدل النووي بحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة {الم} [السجدة: 1] {تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] السجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] » على سنية قراءة هاتين السورتين في صبح يوم الجمعة.
وكذلك استدل بما رواه مسلم وأبو داود والنسائي بحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أنه كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة و {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] » "، وقال: فيه دليل لمذهبنا، ومذهب موافقينا، وهم محجوجون بهذه الأحاديث الصحيحة المروية من طريق ابن عباس، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
قلت: ولا خلاف بيننا وبينهم في الحقيقة؛ لأن أبا حنيفة إنما كره الملازمة إذا لم يعتقد الجواز بغيره، والشافعي أيضا يكره مثل هذا، أما إذا اعتقد الجواز بغيره ولازم على سورة معينة لأحد الوجوه التي ذكرناها الآن فلا يكره.
[قراءة المؤتم خلف الإمام]
م: (ولا يقرأ المؤتم خلف الإمام) ش: سواء جهر الإمام أو أسر به.(2/313)
خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الفاتحة، له أن القراءة ركن من الأركان فيشتركان فيه، ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال ابن المسيب، وعروة بن الزبير، وسعيد بن جبير، والزهري، والشعبي، والثوري، والنخعي، والأسود، وابن أبي ليلى، والحسن بن جني: إذا كان يسمع قراءة الإمام.
وقال ابن تيمية: وبه قال الأوزاعي، وابن عيينة، وابن المبارك، والإمام مالك، وأحمد، وفي " الجواهر " يستحب قراءتها في السر دون الجهر. وقال ابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وابن حبيب: لا يقرأها في الجهر ولا في السر.
م: (خلافا للشافعي في الفاتحة) ش: فعنده يجب على المأموم قراءة الفاتحة في السرية والجهرية وبه قال الليث وأبو ثور، وفي القديم لا يجب في الجهرية نقله أبو حامد في تعليقه. وحكى الرافعي وجها أنه لا يجب في السرية، وقال الثوري فإنه يجب فيهما.
م: (له) ش: أي للشافعي م: (أن القراءة ركن من الأركان فيشتركان فيه) ش: أي يشترك الإمام والمقتدي في هذا الركن كما يشتركان في سائر الأركان بخلاف ما لو أدرك الإمام في الركوع؛ لأن تلك الحالة حالة الضرورة ولم يذكر المصنف إلا الدليل العقلي؛ لأنه ذكر في باب صفة الصلاة ما احتج به الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من الحديث وقد بسطنا الكلام فيه هناك، ومن جملة ما احتج به من المنقول ما رواه عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للمأمومين الذين قرأوا خلفه: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأها» ، رواه أبو داود والترمذي وحسنه.
واحتج له البيهقي بحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج"، فقيل لأبي هريرة إذا يكون وراء الإمام، فقال اقرأها في نفسك يا فارسي» . الحديث رواه أبو داود بلفظ: فهي خداج غير تام.
وفي لفظ ابن عدي: «كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وآيتين فهي خداج» وفي رواية الطبراني: «كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي مخدجة» . وفي رواية أخرى لابن عدي بإسناده إلى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تجزئ المكتوبة إلا بفاتحة الكتاب وثلاث آيات فصاعدا» . وقد أجبنا عن هذه الأحاديث وما جاء في هذا الباب من نحو ذلك في باب صفة الصلاة.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» ش: هذا الحديث رواه من الصحابة جابر بن عبد الله وابن عمر وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وابن عباس وأنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أما حديث جابر فأخرجه ابن ماجه في "سننه " عن جابر الجعفي عن أبي الزبير عن جابر(2/314)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان له إمام فإن قراءة الإمام له قراءة» ".
وأما حديث ابن عمر فأخرجه الدارقطني في "سننه " عن محمد بن الفضل بن عطية عن أبيه عن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان له إمام فقراءته له قراءة» " وعن إبراهيم بن عامر الأصبهاني حدثنا أبي عن جدي عن النضر بن عبد الله ثنا الحسن بن صالح عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وثنا العدوي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» .
وأما حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فأخرجه الدارقطني في "سننه " عن محمد بن عباد الرازي، ثنا إسماعيل بن إبراهيم التيمي، عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا نحوه سواء.
وأما حديث ابن عباس فأخرجه الدارقطني أيضا من حديث عاصم بن عبد العزيز المدني، عن أبي سهيل عن عون بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تكفيك قراءة الإمام خافت أو جهر» ".
وأما حديث أنس فأخرجه ابن حبان في كتاب " الضعفاء " عن غنيم بن سالم، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» ".
فإن قلت: حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه جابر الجعفي وهو مجروح وروي عن أبي حنيفة أنه قال: ما رأيت أكذب من جابر الجعفي. وحديث ابن عمر موقوف وفيه وهم قاله الدارقطني. وحديث أبي سعيد أخرجه ابن عدي أيضا فيه إسماعيل بن عمرو بن نجيح وهو ضعيف. وقال ابن عدى: هذا لا يتابع عليه.
وحديث أبي هريرة، قال الدارقطني: لا يصح هذا عن سهيل، وتفرد به محمد بن عباد(2/315)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو ضعيف.
وحديث ابن عباس قال أحمد: هو حديث منكر، وقال الدارقطني: فيه عاصم بن عبد العزيز وليس بالقوي ورفعه وهم
وحديث أنس بن مالك فيه غنيم بن سالم قال ابن حبان: هو يخالف في الروايات ولا تعجبني الرواية عنه فكيف الاحتجاج به؟.
قلت: أما حديث جابر فله طرق أخرى وهي وإن كانت مدخولة ولكن يشد بعضها بعضا، فمنها ما رواه محمد بن الحسن في "موطئه " أخبرنا الأمام أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - حدثنا أبو الحسن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صلى خلف الإمام فإن قراءة الإمام قراءة له» ". ومنها ما رواه ابن عدي والدارقطني، عن الحسن بن صالح عن ليث بن أبي سليم، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعا نحوه، ومنها ما رواه الدارقطني في "سننه "، والطبراني في "معجمه الأوسط "، عن سهل بن العباس المروزي، ثنا إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن أبي الزبير [عن جابر] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» ".
فإن قلت: أخرج هذا الحديث الدارقطني في "سننه "، ثم البيهقي عن أبي حنيفة مقرونا بالحسن بن عمارة، وعن الحسن بن عمارة وحده بالإسناد المذكور، قال الدارقطني: وهذا الحديث لم يسنده عن جابر بن عبد الله غير أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والحسن بن عمارة وهما ضعيفان، وقد رواه سفيان الثوري وأبو الأحوص، وشعبة، وإسرائيل، وشريك، وأبو خالد الدالاني، وسفيان بن عيينة وغيرهم عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مرسلا وهو الصواب.
قلت: سئل يحيى بن معين عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال: ثقة ما سمعت أحدا ضعفه، هذا شعبة بن الحجاج يكتب إليه أن يحدث ويأمره شعبة وسعيد وقال أيضا: كان أبو حنيفة ثقة من أهل الصدق، ولم يتهم بالكذب، وكان مأمونا على دين الله صدوقا في الحديث، وأثنى عليه جماعة من الأئمة الكبار، مثل عبد الله بن المبارك، وسفيان بن عيينة، والأعمش، وسفيان الثوري، وعبد الرزاق، وحماد بن زيد، ووكيع وكان يفتي برأيه والأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وآخرون كثيرون فقد ظهر لنا من هذا تحامل الدارقطني عليه وتعصبه الفاسد، فمن أين له تضعيف أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو مستحق التضعيف، وقد روى في "مسنده" أحاديث سقيمة ومعلولة ومنكرة وغريبة وموضوعة، ولقد صدق القائل في قوله حينئذ والمعنى:(2/316)
وعليه إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إذا لم ينالوا شأنه ووقاره ... فالقوم أعداء له وخصوم
وفي المثل السائر:
البحر لا يكدره وقوع الذباب ولا ينجسه ولوغ الكلاب
وحديث أبي حنيفة حيث صحيح، وأما أبو حنيفة فأبو حنيفة، وأبو الحسن موسى بن أبي عائشة الكوفي من الثقات الأثبات ومن رجال الصحيحين، وعبد الله بن شداد من كبار الثلاثة وثقاتهم.
فإن قلت: هذا الحديث زاد فيه أبو حنيفة جابر بن عبد الله وقد رواه جرير، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وأبو الأحوص، وشعبة، وزائدة وزهير، وأبو عوانة، وابن أبي ليلى، وقيس، وشريك وغيرهم فأرسلوه.
فقلت: الزيادة من الثقة مقبولة، ولئن سلمنا فالمراسيل عندنا حجة.
فإن قلت: حديث ابن عمر فيه محمد بن الفضل وهو متروك، وقال الدارقطني رفعه وهم.
قلت: نحن نحتج بالموقوف؛ لأن الصحابة عدول.
فإن قلت: حديث أبي سعيد أخرجه ابن عدي عن إسماعيل بن عمرو وهو ضعيف.
قلت: هو من طريق الطبراني والضعيف ما كذبه.
فإن قلت: حديث أبي هريرة فيه محمد بن عباد الرازي وهو ضعيف، وكذلك حديث ابن عباس وحديث أنس.
قلت: قد ذكرنا أن الضعيف قد يتقوى بالصحيح ويقوي بعضها بعضا.
م: (وعليه إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أي على ترك القراءة خلف الإمام كما مر في حديث عبادة بن الصامت، وحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فكيف ينعقد الإجماع مع خلف بعض؟
قلت: سماه إجماعا باعتبار اتفاق الأكثر فإنه يسمى إجماعا عندنا. وقد روي منع القراءة عن ثمانين نفرا من كبار الصحابة منهم المرتضى والعبادلة الثلاثة، وأسانيدهم عند أهل الحديث. وقيل ما يجاوزه عدد من أفتى في ذلك الزمان عن الثمانين فكان اتفاقهم بمنزلة الإجماع، وذكر الشيخ الإمام عبد الله بن يعقوب الحارثي السنديوتي في كتاب " كشف الأسرار "، عن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه قال: عشرة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهون عن القراءة خلف الإمام أشد النهي: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن(2/317)
وهو ركن مشترك بينهما، لكن حظ المقتدي الإنصات والاستماع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جميعا.
أو نقول إجماع ثبت بنقل الآحاد، ولهذا لم يعد مخالفة جاهلا فلا يمنعه نقل البعض بخلافه كنقل حديث بالآحاد لا يتبع نقل حديث آخر معارض له، ثم لما ثبت نقل الأمرين ترجح ما قلنا؛ لأنه موافق لقول العامة وظاهر الكتاب والأحاديث المشهورة، ويجوز أن يكون رجوع المخالف ثابتا فتم الإجماع.
إن قلت: لما ثبت نهي العشرة المذكورة ولم يثبت رد واحد عليهم عند توفر الصحابة كان إجماعا سكوتيا.
فإن قلت: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قراءة الإمام له قراءة معارض بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا} [المزمل: 20] فلا يجوز تركه بخبر الواحد.
قلت: جعل المقتدي قارئا بقراءة الإمام إلا ما يأتم فلا يلزم الترك، أو نقول: إنه خصه منه المقتدي الذي أدرك الإمام في الركوع، فإنه لا يجب عليه القراءة بالإجماع، فيجوز الزيادة عليه حينئذ بخبر الواحد.
فإن قلت: قد حمل البيهقي في كتاب " المعرفة " حديث «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» على ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام، وعلى قراءة الفاتحة دون السورة، واستدل عليه بحديث عبادة بن الصامت المذكور فيما مضى.
قلت: ليس في شيء من الأحاديث بيان القراءة خلف الإمام فيما جهر، والفرق بين الإسرار والجهر لا يصح؛ لأن فيه إسقاط الواجب بمسنون على زعمهم قاله إبراهيم بن الحارث.
وفي حديث عبادة محمد بن إسحاق بن يسار وهو مدلس.
قال النووي: ليس فيه إلا التدليس، قلنا: المدلس إذا قال عن فلان لا يحتج بحديثه عند جميع المحدثين، مع أنه قد كذبه مالك وضعفه أحمد، وقال: لا يصح الحديث عنه، وقال أبو زرعة الرازي: لا يقضى له بشيء.
م: (وهو ركن مشترك بينهما) ش: جواب عن قول الشافعي القراءة ركن وتقريره سلمنا أنها ركن لكن مشترك بينهما أي بين المقتدي والإمام م (لكن حظ المقتدي الإنصات) ش: أي السكوت م: (والاستماع) ش: بمعنى، فعلى قوله: لا فرق بينهما فحينئذ يكون قوله: - والاستماع - عطف تفسيري. وقال ابن الأثير: يقال: أنصت ينصت إنصاتا إذا سكت فسمع، وقد نصت انتصاتا وأنصته إذا سكته فهو لازم ومتعد ويقال: الإنصات والسكوت والاستماع شغل السمع بالسماع.(2/318)
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وإذا قرأ فأنصتوا» .
ويستحسن على سبيل الاحتياط فيما يروى عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويكره عندهما؛ لما فيه من الوعيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وإذا قرأ فأنصتوا» ش: وتمام الحديث قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده قولوا: ربنا لك الحمد» ، رواه أبو هريرة، وأخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
فإن قلت: قال أبو داود: هذه الزيادة فأنصتوا [ليست] بمحفوظة والتوهم عندنا من أبي خالد. قلت: تعقبه المنذري في "مختصره "، وقال: وهذا فيه نظر، فإن أبا خالد الأحمر هذا هو سليمان بن حيان وهو من الثقات الذي احتج بهم البخاري ومسلم، ومع هذا لم ينفرد بهذه الزيادة بل تابعه عليها أبو سعيد محمد بن سعيد الأنصاري الأسلمي المدني، نزيل بغداد، وقد أخرج مسلم هذه الزيادة في "صحيحه" من حديث أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من حديث سليمان التيمي عن متابعة أبي سعيد أبا خالد مما رواه النسائي في "سننه " أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك، ثنا محمد بن سعيد الأنصاري، حدثني محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا» .
فإن قلت: قال البيهقي في " المعرفة " بعد أن روى حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأبي موسى: قد أجمع الحفاظ على خطأ هذه اللفظة في حديث أبي داود، وابن أبي حاتم، وابن معين، والحاكم والدارقطني وقالوا: إنها ليست بمحفوظة.
قلت: يرد هذا كله ما يوجد في بعض النسخ مسلما هذه الزيادة عقيب هذا الحديث، وصحح ابن خزيمة حديث ابن عجلان المذكور في تلك الزيادة، فقال مسلم: هو صحيح عندي يعني الحديث الذي رواه أبو هريرة المذكور، فقيل له: لم يضعفه هاهنا، فقال: ليس كل شيء عندي صحيح، وضعفه هاهنا إنما وضعت هاهنا وأجمعوا عليه، وهذا مسلم جبل من جبال أئمة الحديث، وأهل النقل قد حكم بصحة هذا الحديث ورد بهذا كلام البيهقي وأمثاله.
م: (ويستحسن على سبيل الاحتياط فيما يروى عن محمد) ش: أي يستحسن قراءة المقتدي الفاتحة احتياطا، ورفعا للخلاف فيما روى بعض المشايخ عن محمد. وفي " الذخيرة ": لو قرأ المقتدي خلف الإمام في صلاة لا يجب فيها، اختلف المشايخ فيه، فقال أبو حفص - وهو من بعض مشايخنا -: لا يكره في قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأطلق المصنف كلامه ومراده في حالة المخافتة دون الجهر. وفي " شرح الجامع " للإمام ركن الدين علي السعدي عن بعض مشايخنا أن الإمام لا يتحمل القراءة عن المقتدي في الصلاة المخافتة.
م: (ويكره عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لما فيه من الوعيد) ش: أي لما في هذا الصنع وهو القراءة خلف الإمام، فقد أخطأ طريق الفطرة رواه ابن(2/319)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبي شيبة، وروي عن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه جمرة. رواه عبد الرزاق في "مصنفه "، إلا أنه قال: في فيه حجرا.
وروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ليت في فم الذي يقرأ خلف الإمام حجرا، رواه عبد الرزاق، ومحمد بن الحسن أيضا.
وروي عن عبد الله: من قرأ خلف الإمام ملئ فيه ترابا.
وروي عن زيد بن ثابت: من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له. وقال السروجي: تفسد صلاته في قول عدة من الصحابة، وعن البلخي أحب إلي أن يملأ فمه من التراب. وقيل: يستحب أن يكسر أسنانه، ذكر ذلك الرازي في "أحكام القرآن". وفي " شرح التأويلات " عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من قرأ خلف الإمام لا صلاة له.
وروي أيضا نهى عن ذلك جماعة من الصحابة. وروى الطحاوي في " شرح الآثار " حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عروة بن شريح، عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعن عبد الله بن مقسم أنه سأل عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله فقالوا: لا تقرأ خلف الإمام في شيء من الصلاة.
وروى محمد بن الحسن في "موطئه" عن سفيان بن عيينة، عن أبي منصور، عن أبي وائل قال: سئل عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن القراءة خلف الإمام، قال: أنصت، فإن في الصلاة ثقلا ويكفي في الإمام.
وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه " عن جابر قال: لا يقرأ خلف الإمام إن جهر وإن خافت.
فإن قلت: روى أبو داود والترمذي والنسائي مرة حديث أبي هريرة «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: "هل قرأ معي أحد منكم آنفا؟ " فقال رجل: نعم يا رسول الله فيما يجهر فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - من قول الزهري فلم يجعل الحديث حجة، قال أحمد: ما سمعنا أحدا من أهل الإسلام يقول: إن الإمام إذا جهر بالقراءة لا يجزئ صلاة المأموم ما لم يقرأ، وهذا النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - والتابعون، وهذا مالك في أهل الحجاز، وهذا الثوري في أهل العراق، وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وهذا الليث في أهل مصر، قالوا: الرجل إن قرأ إمامه ولم يقرأ هو صلاته باطلة.
وفي المعارضة: يقال للشافعي: عجبا لك كيف تقدر المأموم على القراءة في الجهر أينازع القرآن الإمام أم لا يعرض عن إسماعه، أم يقرأ إذا سكت؟ فإن قال: يقرأ إذا سكت، قيل له: فإن لم يسكت الإمام وقد اجتمعت الأمة أن سكوت الإمام غير واجب، فمتى يقرأ؟ ثم يقال: ليس في استماعه لقراءة القرآن قراءة منه، وهذا كاف لمن أنصف، وفيهم قد كان ابن عمر لا يقرأ(2/320)
ويستمع وينصت وإن قرأ الإمام آية الترغيب والترهيب؛ لأن الاستماع والإنصات فرض بالنص،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خلف الإمام، وكان أعظم الناس اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (ويستمع وينصت وإن قرأ الإمام آية الترغيب والترهيب) ش: أي يستمع المقتدي وينصت وكلمة إن واصلة بما قبله، والمعطوف عليه محذوف وتقديره يستمع المقتدي وينصت وإن لم يقرأ الإمام آية الترغيب وإن قرأ آية الترغيب مثل الآية التي فيها ذكر الجنة، وآية الترهيب مثل الآية التي فيها ذكر النار، وفي ذكر المصنف هذا التركيب على هذه العبارة رعاية حسن الأدب حيث لم يقل: ولا يسأل المتقدي الجنة، أو لا يتعوذ من النار إذا قرأ الإمام آية الترغيب والترهيب، فإن فيه التصريح بالنهي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن تحذيره، وذكره بطريق الكناية عن النهي هو طريق حسن، ولكنه اقتصر فيه على بيان حكم المقتدي في هذا الباب، فإن في هذا المقام ثلاثة أحكام: حكم المقتدي، وحكم الإمام، وحكم المنفرد، أما حكم المقتدي فهو الذي ذكره، وهو أنه يستمع وينصت ولا ينشغل بالدعاء.
م: (لأن الإنصات والاستماع فرض بالنص) ش: هو قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] (الأعراف: الآية 204) .
وأما حكم الإمام فإنه لا يفعل ذلك في التطوع، ولا في الفرض؛ لأنه يؤدي إلى تطويل الصلاة على القوم وإنه مكروه. وقال الشافعي: إذا قرأ الإمام آية الرحمة فيستحب له أن يسأل الله تعالى، أو آية العذاب يستحب له أن يستعيذ، أو آية تنزيه يستحب له أن يسبح؛ لما «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ما مر بآية رحمة إلا سألها، أو آية عذاب إلا استعاذ منها» ويستحب للمقتدي أن يتابعه على ذلك نقله المزني في "المختصر "؛ لأن كل ذكر يسن للإمام فيسن للمقتدي كسائر الأذكار، وكذا لو قرأ بقوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] (القيامة: الآية 40) ، يقول: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين: أو قرأ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8] (التين: الآية 8) ، يقول بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، أو قرأ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30] (الملك: الآية 30) يستحب أن يقول: الله رب العالمين، ولو قرأ قَوْله تَعَالَى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185] (الأعراف: الآية 185) ، يقول: آمنت بالله، ويقول: لا إله إلا الله، وبجميع ذلك ورد الأثر والخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والكل سنة في حق المقتدي أيضا كذا في الصلاة تفسد والدعاء فيها مندوب إليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فإنه أحرى أن يستجاب لكم» .
وأما حكم المنفرد فإنه وإن كان في التطوع فهو حسن للحديث المذكور، وفي أن يسن له ذلك؛ لأنه لم ينقل عن ذلك في الخبر، ولا عن الأئمة بعده، فكان محدثا، وشر الأمور محدثاتها.(2/321)
والقراءة وسؤال الجنة والتعوذ من النار، كل ذلك مخل به
وكذلك في الخطبة،
وكذلك إن صلى على النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لفريضة الاستماع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والقراءة) ش: وراء الإمام م: (وسؤال الجنة) ش: عند قراءة آية الترغيب م: (والتعوذ من النار) ش: عند قراءة آية الترهيب م: (كل ذلك) ش: أشار به إلى الأشياء المذكورة م: (مخل به) ش: أي بكل واحد من الإنصات والاستماع.
م: (وكذلك في الخطبة) ش: أي كذلك يسمع وينصت عند الخطبة؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت» رواه البخاري ومسلم، وآخرون، وبمعنى لغوت.
قلت: اللغو وهو الكلام الساقط الباطل المردود وقيل معناه: قلة الصواب، وقيل: تكلمت بما لا ينبغي، وفي رواية: لقد لغيت. قال: الزيادة هي لغة أبي هريرة، وإنما هي: لغوت، قال أهل اللغة: لغى يلغو لغوا، يقال: بمعنى يلغي كعمي يعمى لغتان والأول أفصح، والظاهر أن القراءة تقتضي الثانية التي هي لغة أبي هريرة، قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26] (فصلت: الآية 26) وهذا من لغى يلغي، ولو كان من الأول لقال: والغو بضم الغين. وقال ابن السكيت وغيره: مصدر الأول: اللغو ومصدر الثاني: اللغي، ففي هذا الحديث النهي عن جميع أنواع الكلام حال الخطبة، وطريقه إذا أراد النهي عن الكلام أن يشير إليه بالسكوت إن فهمه، فإن تعذر فهمه فليفهمه بكلام مختصر، ولا يزيد على أقل ممكن.
واختلفوا فيه: هل هو حرام أم مكروه كراهة تنزيه؟ فيهما قولان للشافعي، وقال القاضي: قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وعامة العلماء: يجب الإنصات للخطبة، وحكي عن النخعي والشعبي وبعض السلف: أنه لا يجب إلا إذا تلا فيها القرآن.
م: (وكذلك إن صلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي وكذلك يستمع وينصت إن صلى الخطيب على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبة م: (لفريضة الاستماع) ش: في الخطبة والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس بفرض إلا في العمر مرة واستماع الخطبة فرض لا يجوز ترك الفرض لإقامة ما ليس بفرض. وسأل أبو حنيفة أبا يوسف: إذا ذكر الإمام فهل يذكرون ويصلون على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: أحب إليّ أن يستمعوا وينصتوا، ولم يقل: لا يذكرون ولا يصلون فقد أحسن في العبارة وأحسن من أن يقول: ولا يذكرون ولا يصلون على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وعن أبي يوسف: يصلي في نفسه، واختاره الطحاوي كذا ذكره في " المحيط ". قلت: عند الطحاوي تجب الصلاة عليه كلما سمع فلهذا اختار قول أبي يوسف، وكذا حكم التشميت ورد السلام لا يأتي بهما حال الخطبة، والمسلم ممنوع عن السلام فلا يكون الجواب فرضا، وكذا لو قرأ القرآن فسلم عليه لا يرد الجواب، وكذا لو سلم على المدرس في حال التدريس له أن لا يرد.(2/322)
إلا أن يقرأ الخطيب قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] (الأحزاب: الآية 56) فيصلي السامع في نفسه.
واختلفوا في النائي عن المنبر، والأحوط هو السكوت إقامة لفرض الإنصات والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجواب، كذا لو سلم السائل على إنسان لا يرد الجواب؛ لأن مقصوده المال دون إفشاء السلام ذكره المحبوبي. وقال النووي: قوله: - والإمام يخطب - دليل على أن وجوب الإنصات والنهي عن الكلام إنما هو في حال الخطبة فهذا مذهبنا ومذهب مالك والجمهور. وقال أبو حنيفة: يجب الإنصات بخروج الإمام.
قلت: أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه " عن علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم كانوا يكرهون الصلاة. وفي " الموطأ " عن الزهري قال: خروجه يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام.
م: (إلا أن يقرأ الخطيب قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] فيصلي السامع في نفسه) ش: هذا استثناء من قوله: وكذلك إن صلى - يعني إذا قرأ الخطيب قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] (الأحزاب: الآية 56) يصلي السامع في نفسه؛ لأن الخطيب حكى عن الله، وعن ملائكته أنهم يصلون، وحكى أمر الله بذلك وهو قد اشتغل بذلك فكان على القوم أن ينشغلوا.
فإن قلت: توجه عليه أمران: أحدهما {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا} [الأحزاب: 56] والأمر الآخر قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] (الأعراف: الآية 204) . قال مجاهد: نزلت في الخطبة الاشتغال بأحدهما يفوت الآخر، قلت: إذا صلى في نفسه وأنصت وسكت يكون إيتاء بموجب الأمرين.
فإن قلت: الجمهور على أن الآية نزلت في استماع القراءة في الصلاة.
قلت: الخطبة بآيات من القرآن والخطبة كالصلاة لأنها تقوم مقام الركعتين.
م: (واختلفوا في النائي عن المنبر) ش: أي اختلف المشايخ المتأخرون في البعيد عن المنبر وهو الذي لا يسمع الصوت فعن فضيل بن يحيى يحرك شفتيه ويقرأ القرآن، وعن محمد بن سلمة الأنصاري: الإنصات أولى واختاره المصنف؛ فلذلك قال: (والأحوط هو السكوت إقامة لفرض الانصات والله أعلم بالصواب) ش: وكذا روي عن أبي يوسف وقوله: الأحوط، أفعل التفضيل، وقال المطرزي: قولهم: أحوط. أي أدخل في الاحتياط شاذا أو نظيره أخصر من الاختصار.
قلت: وجه الشذوذ أنه مخالف للقياس؛ لأن القياس أن يقال فيه أشد احتياطا.(2/323)
باب في الإمامة الجماعة سنة مؤكدة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب في الإمامة] [حكم صلاة الجماعة]
م: (باب في الإمامة) ش: أي هذا باب في بيان أحكام الإمامة، وجه المناسبة بينه وبين الفصل الذي قبله هو أن المذكور هناك أفعال الإمامة، من وجوب الجهر، والمخافتة، وسنة قراءة الإمام وهاهنا يذكر مشروعية الإمامة بأنها على أي صفة شرعت.
فإن قلت: لم ذكر هاهنا بالباب وهناك بالفصل.
قلت: لأن الباب يجمع الفصول، وفيه أحكام كثيرة تابعة للإمامة، وأحوال المقتدي بين، فلذلك ذكره بالباب.
م: (الجماعة سنة مؤكدة) ش: قال الاترازي: يعني سنة في قوة الواجب، وهي التي تسميها الفقهاء سنة الهدى، وهي التي أخذها هدى وتركها ضلال، وتاركها يستوجب إساءة وكراهية. وقال صاحب " الدراية ": تشبه الواجب في القوة وكذا قال الأكمل وكلاهما أخذا من السغناقي.
قلت: هذه التأويلات غير طائلة؛ لأن هذه مسألة مختلف فيها بين العلماء، وذهب المصنف إلى أنها سنة مؤكدة وهو قول الكرخي والقدوري وكذا قال في " شرح بكر" خواهر زاده. وفي " المفيد ": الجماعة واجبة وتسميتها سنة لوجوبها بالسنة، وفي " البدائع ": تجب الجماعة على الرجال العقلاء، البالغين، الأحرار، القادرين على الصلاة بالجماعة من غير حرج. وقيل: إنها فرض كفاية وبه قال الطحاوي، وهو قول الشافعي. وقال النووي: هو الصحيح نص عليه الشافعي، وهو قول ابن شريح وأبي إسحاق وجمهور المتقدمين من الشافعية.
وقال النووي: وفي وجه سنة، وفي وجه فرض عين لكن ليست شرطا لصحة الفرض، وبه قال ابن خزيمة، وابن المنذر، والرافعي وهو قول عطاء، والأوزاعي، وأبي ثور، وهو الصحيح من مذهب أحمد، وقوله الآخر: لا تصح الصلاة بتركها وبه قال داود الظاهري وأصحابه، وفي " الجواهر " عن مالك: سنة مؤكدة وليست بواجبة إلا في الجمعة. وحكى قاضي خان أبو الوليد، وأبو بكر عن بعض أهل مذهبهم أنها فرض كفاية.
وفي " التحفة ": الجماعة إنما تجب على من قدر عليها من غير حرج وتسقط بالعذر حتى لا تجب على المريض والأعمى والزمن ونحوهم هذا إذا لم يجد الأعمى قائدا، والزمن من يحمله، وكذا إذا وجد عند أبي حنيفة، وعندهما تجب، قال محمد: لا تجب الجمعة ولا الجماعة على المريض، والمقعد، والزمن والأعمى، ومقطوع اليد والرجل من خلاف أو مقطوع الرجل، والمقطوع الرجل، والمفلوج الذي لا يستطيع المشي وإن لم يكن به ألم، والشيخ الكبير العاجز.(2/324)
لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الجماعة من سنن الهدى لا يتخلف عنها إلا منافق» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن الجماعة في طين ومدر، فقال: لا أحب تركها، والصحيح أنها تسقط بعذر المطر والطين وإن فاتته الجماعة جمع بأهله وصلى بهم، وإن صلى وحده جاز. وفي صلاة الجلابي إذا كان مطر أو برد شديد أو ظلة أو خوف فذلك كله يمنع لزوم الجماعة. وقال شرف الأئمة: الوحل عذر، وقال أيضا [......] والحافظ وغيرهما: ترك الجماعة بغير عذر يجب به التعزير ويأثم الجيران بالسكوت عن تاركها. وقال نجم الأئمة: من يشتغل بالفقه ليلا ونهارا لا يعذر الإمام والمؤذن والجيران في السكوت عنه، ولا تقبل شهادته، وقال أيضا: من يشغل بتكرار اللغة فتفوته الجماعة لا يعذر، وتكرار الفقه ومطالعة كتبه يعذر. وعن أبي حفص من لا يحضر الجماعة للمؤذن أن يرفعه إلى السلطان فيأمره بذلك فإن أبى عزر، وفي [
... ] : له الاشتغال بالعمل ويختار مسجد حيه، ولو كان مسجدان يختار أقدمهما وإن استويا يختار الأقرب. وقيل: جماعة الجامع أفضل بالاتفاق، ولو فاتته صلاة جماعة فصلاها في مسجده وحده، أو بجماعة في مسجد آخر، أو في بيته فذلك حسن، وتكره الجماعة في مسجد بأذان وإقامة بعدما صلى أهله بجماعة، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك.
وقال أحمد وداود: لا يكره تكرار الجماعة، ولو صلى فيه من ليس بأهل للجماعة كان لأهله أن يصلوا فيه بأذان وإقامة. وعن أبي يوسف: إنما يكره تكرار الجماعة لقوم كثير، أما إذا صلى واحد بواحد أو باثنين فلا بأس به مطلقا إذا صلى في غير مقام الإمام.
وقال قاضي خان: مسجد لا إمام له ولا مؤذن يصلي الناس فيه فردانا فالأفضل أن يصلي كل فريق بأذان وإقامة على حدة وصلى بعض أهل المسجد بأذان وإقامة مخافتة، ثم حضر بقيتهم فلهم أن يصلوا على وجه الإعلان كذا في " المجتبى ".
(لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجماعة من سنن الهدى لا يتخلف عنها إلا منافق» ش: هذا من قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ورفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير صحيح. وأخرجه مسلم عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله بن مسعود: «لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق وإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه» .
وأخرج عنه أيضا قال: «من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما تخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف» فدل هذا الأثر أن الجماعة سنة مؤكدة؛ لأن إلحاق الوعيد إنما يكون بترك الواجب أو بترك السنة، ودل على أن الجماعة ليست بواجبة؛ لقوله: وإن في سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه، فتكون سنة مؤكدة.(2/325)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن أهل بلد لو اجتمعوا على ترك الجماعة نضربهم ونقاتلهم، وقال السغناقي: والدليل على أن الجماعة سنة ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة الرجل بجماعة تفضل على صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين درجة» ، وفي رواية: «سبع وعشرين درجة» ولم يقل صلاة الرجل وحده فاسدة، فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتبر الجماعة للفضيلة لا للجواز، إذ دل على أنها سنة إلا أنها مؤكدة؛ لأنها من شعائر الإسلام، ومن خصائص هذا الدين، فإنها لم تكن مشروعة في دين من الأديان، وما كان من شعائر الإسلام فالتمسك فيه الإظهار.
قلت: الحديث الذي ذكره في " الصحيح " ما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة» " وفي لفظ: «تزيد على صلاته وحده سبعا وعشرين درجة» . وأخرجا عن أبي هريرة مرفوعا: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا» ، وفي لفظ: «تفضل صلاة الجمع على صلاة الرجل وحده خمسا وعشرين درجة» .
وأخرج البخاري عن أبي سعيد نحوه، وزاد أبو داود فيه: «فإن صلاها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة» وإسناده جيد. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وفي لفظ آخر للبخاري ومسلم أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا» . وفي رواية لهما: «بخمسة وعشرين جزءا» وفي رواية لمسلم " درجة ".
وأخرج أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما زاد فهو أحب إلى الله» ". وقوله: أفضل يقتضي الاشتراك في الفضل وترجيح أحد الجانبين، وما لا يصح لا فضيلة فيه، ولا يجوز أن يقال: إن أفضل قد تستعمل بمعنى الفاضل؛ لأن ذلك إنما يجوز على سبيل العلة عند الإطلاق، لا عند التفاضل بزيادة عدد، ويؤيد هذا ما جاء في لفظ: «يزيد على صلاته وحده» وفي لفظ: " يضعف " فإن ذلك يقتضي ثبوت صلاة زاد عليها وعدد تضاعف.
والعجب من الشراح لم يتعرضوا إلى الأثر الذي ذكره المصنف هل هو موقوف أو مرفوع، صحيح أو غير صحيح؟ وعلى كل تقدير منه من هو الراوي والمروي عنه. وأعجب من ذلك قول(2/326)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأكمل حيث نسب هذا الأثر إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في الديار التي أكثرها علماء الحديث، وجل طلابها المحدثون، ثم قال: وليس المراد بالمنافق المصطلح عليه وهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان، وإلا لكانت الجماعة فريضة؛ لأن المنافق كافر، ولا يثبت الكفر بترك غير الفريضة، وكان آخر الكلام منافقا لا أوله، فيكون المراد به العاصي.
قلت: قوله منافق خرج مخرج المبالغة في التهديد، وشدة الوعيد، وهذا كما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلا سأله عمن يقوم الليل، ويصوم بالنهار، ولا يحضر الجماعة، قال: هو في النار، وليس مراده أنه في النار لأجل كفره، وإنما مراده التخويف والتهديد، والمنافق [في] المصطلح الذي ذكره الأكمل إنما يسمى اليوم زنديقا، ولا يمكن أن يحمل لفظ المنافق في الأثر المذكور على هذا المعنى الذي يستحق بها النار من الأمور الثلاثة والأربعة وتارك الجماعة غير داخل فيها فلم يبق إلا المعنى الذي ذكرناه الآن.
وقول الأكمل: لأن المنافق كافر، ليس على إطلاقه، والمنافق له معنيان كما ذكرنا، ولا يصح أن يكون المراد منه هاهنا أحد المعنيين على ما ذكرنا، وقوله: ولا يثبت الكفر بترك غير الفريضة، يشير إلى أن تارك الفريضة كافر وليس كذلك، وإنما يكفر بالجحد على ما لا يخفى.
فإن قلت: الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم انطلقت برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» ". يدل على أن الجماعة فرض كما ذهب إليه طائفة؛ لأن تارك السنة لا يحرق عليه بيته، ولو كانت سنة ما استحق تاركها هذا الوعيد الشديد.
وحديث جابر: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» .
قلت: لا نسلم دلالة ذلك على ما قالوا؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يشهدون الصلاة» ولم يقل: لا يشهدون الجماعة. وفي رواية: «إلى قوم متخلفين عن الصلاة» ولم يقل يتخلفون عن الجماعة، والصلاة فرض وتاركها مستحق الوعيد على أنه جاء في رواية لمسلم عن ابن مسعود: «يتخلفون عن الجمعة» الحديث يفسر بعضه بعضا.
فإن قلت: قال: البيهقي: والذي تدل عليه سائر الروايات أنه عبر بالجمعة عن الجماعة.
قلت: قال النووي في " الخلاصة ": بل هما روايتان، رواية في الجمعة، ورواية في الجماعة، وكلاهما صحيح، ولئن سلمنا ذلك فالحديث خبر واحد، فلا يزداد به على إطلاق الكتاب.
وأما حديث جابر فالمراد به نفي الكمال والفضيلة كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة للعبد الآبق ولا(2/327)
وأولى الناس بالإمامة أعلمهم بالسنة، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أقرؤهم؛ لأن القراءة لا بد منها، والحاجة إلى العلم إذا نابت نائبة ونحن نقول: القراءة مفتقر إليها لركن واحد، والعلم سائر أركان الصلاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للمرأة الناشزة» .
فإن قلت: لو لم يكن فرضا لما هم بالإحراق.
قلت: ترك الإحراق يدل على عدم الفرضية.
فإن قلت: ما فائدة الهم إذا لم يكن فرضا؟ قلت: لقد هم بالاجتهاد ثم منع بالوحي أو بتغير الاجتهاد على المختار في جواز الاجتهاد له - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
فإن قلت: قَوْله تَعَالَى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] (البقرة: الآية 43) ، يدل على أن الجماعة فرض؛ لأنه قيل: إن المراد به الجماعة.
قلت: الخطاب لليهود فإنه لا ركوع في صلاتهم، وقيل: المراد بالركوع الخضوع، وفي الآية أقاويل فلا تثبت الفرضية.
[أولى الناس بالإمامة]
م: (وأولى الناس بالإمامة أعلمهم بالسنة) ش: أي بالفقه والأحكام الشرعية إذا كان يحسن من القرآن ما يجوز به الصلاة، وهو قول الجمهور، وإليه ذهب عطاء والأوزاعي ومالك الشافعي.
فإن قلت: في الحديث الذي يأتي الأقرأ مقدم وهاهنا على العكس.
قلت: عن قريب يأتي وجه ذلك إن شاء الله تعالى.
م: (وعن أبي يوسف أقرؤهم) ش: أي وروي عن أبي يوسف أن أقرأ للناس أولى بالإمامة؛ يعني أعلمهم بالقراءة، وكيفية أداء حروفها، وما يتعلق بالقراءة، وبه قال ابن سيرين وأحمد وإسحاق وابن المنذر، وهو أحد الوجوه عند الشافعية.
م: (لأن القراءة لا بد منها) ش: لأنها ركن في الصلاة يحتاج إليها لا محالة في الصلاة م: (والحاجة إلى العلم إذا نابت نائبة) ش: المعنى إنما يحتاج إلى العلم بالسنة. إذا وقعت واقعة من العوارض ليمكنه من صلاته، وربما لا يفرض فيكون الأقرأ أولى من العالم بالسنة.
م: (ونحن نقول: القراءة مفتقر إليها في ركن واحد) ش: وهو القيام م: (والعلم) ش: يحتاج إليها لأجل م: (سائر أركان الصلاة) ش: جواب عما قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - تقريره أن القراءة محتاج إليها في الصلاة في ركن واحد وهو القيام، والعلم محتاج إليه لأجل سائر أركان الصلاة، فكان العلم أولى. وفي " المجتبى ": الأعلم بالسنة أولى إذا كان يحذر الفواحش الظاهرة، وإن كان غيره أورع منه، وفي " الشفاء " عن أبي حفص: الأمي الذي يقرأ القليل أحب إلي من الفاسق(2/328)
فإن تساووا فأقرؤهم؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا سواء فأعلمهم بالسنة» وأقرؤهم كان أعلمهم؛ لأنهم كانوا يتلقونه بأحكامه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القارئ. وفي " شرح الإرشاد ": لو كان عالما بمسائل الصلاة متبحرا فيها، غير متبحر في سائر العلوم، فإنه أولى من المتجر في سائر العلوم.
م: (فإن تساووا) ش: في القراءة أو العلم م: (فأقرؤهم) ش: أي فأولاهم بالإمامة أقرؤهم م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا سواء فأعلمهم بالسنة) ش: هذا الحديث أخرجه الجماعة إلا البخاري واللفظ لمسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤم القوم أقرهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم إسلاما، ولا يؤم الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه» . قال: الأصح في الرواية مَكَانَ "إسْلَامًا": "سِنًّا"، ورواه ابن حبان في "صحيحه " والحاكم في "مستدركه " إلا أن الحاكم قال عوض قوله: «فأعلمهم بالسنة» ، «فأفقههم فقها، فإن كانوا في الفقه سواء فأكثرهم سنا» ، وقد أخرج مسلم في "صحيحه " هذا الحديث، ولم يذكر فأفقههم فقها، وهي لفظة عزيزة غريبة بهذا الإسناد، وسنده عن يحيى بن بكير، ثنا الليث، عن جرير بن حازم، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أوس بن ضمعج، عن أبي مسعود، فذكره، ثم أخرج الحاكم، عن الحجاج بن أرطاة، عن إسماعيل ابن رجاء به، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤم القوم أقدمهم هجرة، فإن كانوا سواء فأفقههم في الدين، فإن كانوا في الفقه سواء فأقرؤهم للقرآن، ولا يؤم الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه» " وسكت عنه، والباقون من الأئمة يخالفونه في هذه المسألة، ويقولون: إن الأقرأ لكتاب الله مقدم على العالم كما هو لفظ الحديث، قال: إذا اجتمع من يحفظ القرآن وهو غير عالم وفقيه يحفظ يسيرا من القرآن، قدم حافظ القرآن عندهم، ونحن نقول: يقدم الفقيه.
وأجاب المصنف عن الحديث بقوله: (وأقرؤهم كان أعلمهم) ش: يعني في زمان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان أعلم الصحابة أقرأهم م: (لأنهم كانوا يتلقونه) ش: أي القرآن م: (بأحكامه) ش: أي بأحكام القرآن.
وفي " المبسوط " وغيره: إنما قدم الأقرأ في الحديث؛ لأنهم كانوا في ذلك يتلقونه بأحكامه، حتى روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حفظ سورة البقرة في اثنتى عشرة سنة، فكان الأقرأ فيهم هو الأعلم بالسنة والأحكام.
وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: ما كانت تنزل السورة على رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إلا ونحن نعلم أمرها ونهيها، وزجرها، وحلالها وحرامها، والرجل اليوم يقرأ السورة، ولا يعرف من أحكامها شيئا.(2/329)
فقدم في الحديث، ولا كذلك في زماننا فقدمنا الأعلم.
فإن تساووا فأورعهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: لما كان أقرؤهم أعلمهم فما معنى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة» ، وأقرؤهم هو أعلمهم بالسنة في ذلك الوقت لا محالة على ما قالوا.
قلت: المساواة في القرآن مع التفاوت في الأحكام، ألا ترى أن أبي بن كعب كان أقرأ وابن مسعود كان أفقه وأعلم، وفي " النهاية ": اشتغل بحفظ القرآن سنة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وزيد وأُبَي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان أعلم وأفقه من عثمان، ولكن كان يعسر عليه حفظ القرآن فجرى كلامه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على الأعم الأغلب.
م: (فقدم في الحديث) ش: هذا نتيجة قوله: وأقرؤهم كان أعلمهم أي فقدم الأقرأ في لفظ الحديث المذكور م: (ولا كذلك في زماننا) ش: أي وليس الأقرأ في زماننا أعلم؛ لأن الشخص ربما يكون أقرأ وليس له علم بالكتاب أصلا م: (فقدمنا الأعلم) ش: نتيجة النفي المذكور.
فإن قلت: الكلام في الأفضلية مع الاتفاق على الجواز على أي وجه كان، والحديث بصيغته يدل على عدم جواز إمامة الثاني عند وجود الأول؛ لأن صيغته صيغة إخبار وهو في اقتضاء الوجوب آكد من الأمر، وأيضا فإنه ذكره بالشرط والجزاء على طريق الترتيب، فكان اعتبار الثاني إنما كان بعد وجود الأول لا قبله.
قلت: صيغة الإخبار لبيان المشروعية، لا أنه لا يجوز غيره؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يمسح المقيم يوما وليلة» . ولئن سلمنا أن صيغة الإخبار محمولة على معنى الأمر يحمل على الاستحباب لوجود الجواز بدون الاقتداء بالإجماع.
فإن قلت: لو كان المراد من الإقراء قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يؤم القوم أقرؤهم» هو الأعلم لكان يلزم تكرار الأقرأ في الحديث، ويكون التقدير: يؤم القوم أعلمهم، فإن استووا فأعلمهم.
قلت: المراد من قوله: أعلمهم بأحكام كتاب الله دون السنة، ومن قوله: أعلمهم بالسنة أعلمهم بأحكام الكتاب والسنة جميعا، فكان الأعلم الثاني غير الأعلم الأول.
فإن قلت: يعارض حديث ابن مسعود المذكور قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مروا أبا بكر يصلي بالناس» إذا كان من هو أقرأ منه للقرآن مثل أبي وغيره وهو أولى.
قلت: حديث ابن مسعود كان في أول الهجرة، وحديث أبي بكر كان في آخر الأمر، وقد تفقهوا في القرآن، وكان أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أعلمهم وأفقههم في كل أمره، ألا ترى أن قول أبي سعيد: وكان أبو بكر أعلمنا. واسم أبي مسعود هو عقبة بن عامر الأنصاري.
م: (فإن تساووا فأورعهم) ش: فإن تساووا في العلم والقراءة فأولاهم بالإمامة أورعهم، في " البدرية " الورع الاجتناب عن الشبهات، والتقوى الاجتناب عن الحرم، وفي " الكافي ":(2/330)
لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من صلى خلف عالم تقي فكأنما صلى خلف نبي»
فإن تساووا فأسنهم؛ «لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لابني أبي مليكة: "وليؤمكما أكبركما سنا» ؛ ولأن في تقديمه تكثير الجماعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المتقي الذي لا يأكل الربا، والورع: الذي لا يدفع المال بدل الإجارة، والورع ليس في لفظ الحديث في ترتيب الإمام، وإنما فيه بعد ذكر الأعلم، أقدم هجرة، ولكن أصحابنا وأكثر أصحاب الشافعي معنا، ومكان الهجرة الورع؛ لأن الهجرة منقطعة في زماننا، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا هجرة بعد الفتح، وإنما المهاجر من هجر السيئات» فجعلوا الهجرة عن المعاصي مكان تلك الهجرة، فإن هجرتهم لتعلم الأحكام وعند ذلك يزداد الورع.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى خلف عالم تقي فكأنما صلى خلف نبي» ش: هذا الحديث غريب ليس في كتب الحديث، لكن روى الطبراني ما في معناه من حديث مرثد بن أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم علماؤكم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم» . ورواه الحاكم في "مستدركه " في فضائل الأعمال عن يحيى بن يعلى به سندا ومتنا، إلا أنه قال: «فليؤمكم خياركم» وسكت عنه.
وروى الدارقطني ثم البيهقي في "سننهما" عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين الله تعالى» ، قال البيهقي: إسناده ضعيف، وقال ابن القطان: فيه الحسين بن نصر لا يعرف.
م: (فإن تساووا فأسنهم) ش: أي فإن تساووا في القراءة والعلم والورع فأسنهم أولى بالإمامة م: «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابني أبي مليكة وليؤمكما أكبركما سنا» ش: هذا الحديث قد تقدم في باب الأذان وهو من حديث مالك بن الحارث أخرجه الأئمة الستة، قال: «أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا وصاحب لي فلما أردنا الانتقال من عنده قال لنا: "إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما وليؤمكما أكبركما» وأخرجه الجماعة مطولا ومختصرا.
م: (ولأن في تقديمه) ش: أي في تقديم الأسن م: (تكثير الجماعة) ش:؛ لأن رغبة الناس في الاقتداء به أكثر فيكون سببا لتكثير الجماعة، وكلما كثرت الجماعة كان الأجر أكثر، وفي " المحيط و " التحفة ": الأسن من الورع إذا لم يكن فيه فسق؛ لأن الكبير أخشع في الصلاة، وأقرب إلى الإجابة، وأكثر عبادة.
وقال النووي: المراد بالسن سن من يصير في الإسلام فلا يقدم شيخ أسلم قريبا على شاب نشأ في الإسلام أو أسلم قبله، وفي " خير مطلوب " و " التحفة ": زاد(2/331)
ويكره تقديم العبد؛ لأنه لا يتفرغ للتعلم، والأعرابي؛ لأن الغالب فيهم الجهل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعضهم فإن تساووا فأحسنهم خلقا، وزاد بعضهم: فإن تساووا فأحسنهم وجها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» ، وفي " المحيط ": اعتبر الحسب في المال على الأحسن وجها.
وفي " مختصر الجواهر ": يرجح بالفضائل الشرعية والخلقية والمكاتبية وكمال الصورة كالشرف في النسب والسن ويلحق بذلك حسن اللباس، وقيل: ونظافة الوجه وحسن الخلق وتملك رقبة المكان أو منفعته، قال المرغيناني: المستأجر أولى من المالك.
وفي " الخلاصة ": فإن تساووا في هذه الخصال يقرع أو الخيار إلى القوم، وقيل: إمامة المقيم أولى من العكس. وقال أبو الفضل الكرماني: هما سواء.
وللشافعي قولان في القديم: يقدم الأشرف ثم الأقدم هجرة ثم الأسن وهو الأصح. والقول الثاني: يقدم الأسن ثم الأشرف ثم الأقدم هجرة، وفي "تتمتهم" ثم بعد الكبر والشرف تقدم نظافة الثوب، والمراد النظافة عن الوسخ، والنجاسات؛ لأن الصلاة مع النجاسة لا تصح، ثم بعد ذلك حسن الصوت؛ لأن به تميل الناس إلى الصلاة خلفه فتكثر الجماعة ثم حسن الصورة.
وفي " المبسوط " و " المحيط " و " شرح الأقطع " لم تعتبر الهجرة لسقوط وجوبها على جميع الحاضرين، الأفقه والأقرأ والأورع والأسن وصاحب البيت وإمام المسجد.
قلت: هذا في الزمان الماضي؛ لأن الولاة كانوا علماء وغالبهم كانوا صلحاء، وفي زماننا أكثر الولاة ظلمة وجهلة.
[إمامة العبد والفاسق والأعمى وولد الزنا]
م: (ويكره تقديم العبد؛ لأنه لا يتفرغ للتعلم) ش: فيغلب عليه الجهل، وقال مالك: لا يؤتم به في جمعة ولا عيد. وقال الأوزاعي: لا يجوز أن يؤم الأحرار، قلنا: الإمامة أمر ديني فيستوي فيه الحر والعبد، ولهذا جوز الشافعي إمامته بلا كراهة، وقال: الحر أولى.
وفي "تتمتهم" تكره إمامته، ووجه الكراهة أن في تقديمه تقليل الجماعة؛ لأن الناس يستنكفون متابعته. م: (والأعرابي) ش: عطف على قوله العبد أي ويكره أيضا تقديم الأعرابي، وهو بفتح الهمزة البدوي، وهو من يسكن البادية عربيا كان أو أعجميا. وفي " الكافي ": ويستحب تقديم العربي؛ لأنه يسكن البدو م: (لأن الغالب فيهم الجهل) ش: وهو معنى: من بدا جفا.
فإن قلت: ما وجه رفع الضمير في قوله: فيهم، مع أن المذكور واحد، وإن كان مراده عود الضمير إلى الأعرابي والعبد، وما كان ينبغي أن يقول فيها بضمير التثنية؟
قلت: كان الأولى أن يقول: فيه أو فيهما، ولكن كأنه ينظر إلى أن في الأعرابي معنى الجمع؛ لأنه محلى بالألف واللام فيصدق على كل من يسكن البادية.(2/332)
والفاسق؛ لأنه لا يتهم لأمر دينه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والفاسق؛ لأنه لا يهتم لأمر دينه) ش: فيرد فيه الناس، وفيه تقليل الجماعة، وقال مالك: لا تجوز إمامة الفاسق بلا تأويل كالزاني وشارب الخمر، أما الفاسق بالتأويل كمن يسب السلف الصالح، فعنه فيه روايتان، وعن أحمد: فيه روايتان في جواز الاقتداء به مطلقا أصحهما المنع، وقلنا نحن والشافعي بجواز إمامته؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صلوا خلف كل بر وفاجر» ؛ ولأن ابن عمر وأنسا وغيرهما من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والتابعين صلوا خلف الحجاج الجمعة وغيرها مع أنه كان أفسق أهل زمانه.
وروي أن الحجاج كان يخطب يوم الجمعة، فأطال الجمعة حتى كاد يدخل وقت العصر فقام ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وقال: أقصر يا مكار هداك الله، فلما فرغ الحجاج دعا ابن عمر ليقتله وقال: أما تخشى أن الله يسلطني على مالك ودمك فأهريقه، أو على نفسك فأخترمها، فقال ابن عمر: أما يكفيني أني صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلف أبي بكر وعمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والآن أصلي خلفك، وأنت من أفسق الناس.
وأما وجه الكراهية فلما قلنا؛ ولهذا قال أصحابنا: لا ينبغي أن يقتدى بالفاسق إلا في الجمعة؛ لأن في سائر الصلوات يجد إماما غيره بخلاف الجمعة، وكان ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يصلي خلف الوليد بن عقبة في صلاة الجمعة وسائر الصلوات، وكان الوليد واليا بالكوفة وكان فاسقا حتى صلى بالناس يوما وهو سكران، كذا في " شرح الإرشاد ". وفي " المحيط ": لو صلى خلف فاسق أو مبتدع يكون محرزا ثواب الجماعة؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صلوا خلف كل بر وفاجر» .
وأما لا ينال ثواب من صلى خلف التقي، ثم الفاسق إذا كان يؤم، وعجز القوم عن منعه تكلموا فيه، قيل: يقتدى به في صلاة الجمعة، ولا يترك الجمعة بإمامته، أما في غيرها من المكتوبات فلا بأس بأن يتحول إلى مسجد آخر، ولا يصلي خلفه ولا يأثم بذلك، وفي " المجتبى " و" المبسوط ": يكره الاقتداء بصاحب البدعة، وفي " شرح بكر " فأصل الجواب أن من كان من أهل قبلتنا، ولم يعمل بقوله لم يحكم بكفره، وتجوز الصلاة خلفه، وإن كان يكفي حتى يكفر أهلها؛ كالجهمي والقدري الذي قال بخلق القرآن، والرافضي الغالي الذي ينكر خلافة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والمشبهة لا تجوز، وبه قال أكثر أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال القفال ومن تابعه: يجوز الاقتداء بهم وأنهم لا يكفرون وهو ظاهر مذهب الشافعي كذا في " شرح الوجيز "، وعن أبي يوسف: من اتخذ من هذه الأهواء شيئا فهو صاحب بدعة.
وروى محمد عن أبي حنيفة، وأبي يوسف أن الصلاة خلف أهل الأهواء لا تجوز.
أما الصلاة خلف الشافعي إذا انحرف عن القبلة لا يجوز، أو لم يتوضأ من الخارج من غير(2/333)
والأعمى؛ لأنه لا يتوقى النجاسة، "
وولد الزنا؛ لأنه ليس له أب يثقفه فيغلب عليه الجهل؛ ولأن في تقديم هؤلاء تنفير الجماعة، فيكره وإن تقدموا جاز؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صلوا خلف كل برّ وفاجر» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السبيلين، أو لم يغسل المني الذي هو أكثر من الدرهم لا تجوز على الأصح، وإلا فتجوز، وقيل: لكنه يكره، وقال أبو يوسف: لا تجوز الصلاة خلف المتكلم وإن تكلم بحق، وقال ابن حبيب من المالكية: من صلى وراء من شرب الخمر يعيد أبدا إلا أن يكون واليا.
وقال أبو بكر: من صلى خلف الفاسق من غير تأويل يعيد أبدا، وتكره إمامة الخصي والأقلف والمأبون وولد الزنا، وعند الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين تصح الصلاة خلف الفاسق، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يؤمهم صاحب خصومة في الدين، ولو صلى خلفهم جازت.
وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - من طلب الدين بالخصومات دعي زنديقا، ومن طلب الكساد دعي زعليا، ومن طلب غريب الحديث دعي كذابا، ولا بأس بأن يصلى وراء من في يديه تصاوير، وقيل: إن كانت مكشوفة يكره.
وفي " الفتاوى الظهيرية ": لا تصح إمامة الأحدب للقائم هكذا ذكره محمد بن شجاع في " النوازل "، وقيل: يجوز والأول أصح. وفي " الذخيرة ": ويؤم الأحدب القائم، كما يؤم القاعد القائم، ولا يؤم الراكب النازل.
م: (والأعمى) ش: عطف على قوله: والأعرابي أي: ويكره أيضا تقديم الأعمى م: (لأنه لا يتوقى النجاسة) ش: أي لا يتحفظ على النجاسة ولا يهتدي إلى القبلة، ولا يقدر على استيعاب الوضوء في أعضاء الطهارة غالبا، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كيف أؤمهم وهم بعيد، يعني إلى القبلة، وقال القاضي من الحنابلة: هو كالبصير إذ هو أخشع في الصلاة، قال: البصير يشغله ما يراه وقد ينظر إلى ما لا يحل. وفي " المحيط ": إذا لم يوجد غيره من البصير فهو أولى بالإمامة. وفي " البدائع " إذا كان لا يوازيه غيره في الفضل في المسجد فهو أولى.
م: (وولد الزنا) ش: عطف على قوله: والأعمى، أي: ويكره أيضا تقديم ولد الزنا م: (لأنه ليس له أب يثقفه) ش: أي يؤدبه ويعلمه فيبقى على ما حمل جاهلا م: (فيغلب عليه الجهل) ش: وبقولنا قال الشافعي ومالك، وقال أحمد: لا يكره، ورواه ابن المنذر عن مالك واختاره.
م: (ولأن في تقديم هؤلاء) ش: هذا دليل ثان يشتمل الكل، أي ولأن في تقديم العبد والأعرابي والفاسق والأعمى وولد الزنا م: (تنفير الجماعة فيكره) ش: لأن القوم يؤذون بهم ولا يرضون بهم أئمة فيكره.
وفي " المجتبي " والمراد من الكراهة في هذا الموضع كراهة تنزيه، فإنه قال محمد في الأصل: إمامة غيرهم أحب إلي، وأما الجواز فلا كلام فيه أشار إليه بقوله: م: (وإن تقدموا جاز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا خلف كل بر وفاجر» ش: وهذا الحديث أخرجه الدارقطني في "سننه " عن معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن(2/334)
ولا يطول الإمام بهم الصلاة؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أم قوما فليصل بهم صلاة أضعفهم، فإن فيهم المريض والكبير وذا الحاجة» ، ويكره للنساء أن يصلين وحدهن الجماعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا خلف كل بر وفاجر، وجاهدوا مع كل بر وفاجر» . قال الدارقطني: مكحول لم يسمع من أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن دونه ثقات، ومن طريق الدارقطني رواه ابن الجوزي في " العلل المتناهية "، وأعله بمعاوية بن صالح مع ما فيه من الانقطاع وتعقبه ابن عبد الهادي، وقال: إنه من رجال الصحيح، وجه الاستدلال بهذا الحديث في حق الفاسق ظاهر، وفي حق العبد والأعمى يتمسك بدلالته؛ لأنه لما جوز الاقتداء بالفاسق مع الموجب للتميز، فيجوز في حقهما بالطريق الأولى ونقول: كل واحد منهما لا يخلوا إما أن يكون برا أو فاجرا، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جوز الاقتداء بكل منهما.
[تخفيف الإمام في الصلاة]
م: (ولا يطول الإمام بهم الصلاة) ش: أي بالجماعة م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أم قوما فليصل بهم صلاة أضعفهم، فإن فيهم الكبير والمريض وذا الحاجة» ش: هذا الحديث رواه البخاري ومسلم من حديث الأعرج عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء» وفي لفظ لمسلم: «الصغير والكبير والضعيف والمريض» .
وروى البخاري أيضا «من حديث أبي مسعود الأنصاري فقال: يا رسول الله لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بها فلان، فقال: فما رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في موعظة أشد غضبا من يومئذ، ثم قال: "يا أيها الناس إن منكم منفرين، من صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم الكبير والصغير وذا الحاجة» "، فهذا يدل على أن الإمام ينبغي له أن يراعي حال قومه، وهذا لا خلاف فيه.
[إمامة المرأة للنساء في صلاة الجماعة]
م: (ويكره للنساء أن يصلين وحدهن الجماعة) ش: الكلام في هذا الموضع على وجوه:
الأول: قال السغناقي في اللفظ صورة المناقضة، حيث ذكر الوحدة مع كونهن جماعة، ثم أجاب عن هذا بقوله: لكن المراد من الوحدة توحدهن عن الرجال، وهن في أنفسهن جماعة النساء.
قلت: لا مناقضة فيه، ولا يصدق حد عليه؛ لأن المعنى: ويكره للنساء المنفردات عن الرجال أن يصلين بجماعة عنهن.
الثاني قال الأترازي وهذا عندنا وعند الشافعي يستحب لنا أنها لو كانت مستحبة لبينها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتكون جماعتهن بدعة ويكره.
قلت: قول الشافعي هو قول الأوزاعي والثوري وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وحكاه ابن المنذر عن عائشة وأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإذا كان كذلك فكيف تكون جماعتهن بدعة؟ والبدعة(2/335)
لأنها لا تخلو من ارتكاب المحرم وهو قيام الإمام وسط الصف فيكره كالعراة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اسم لإحداث أمر لم يكن في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد روى أبو داود في "سننه " في باب إمامة النساء من «حديث أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث بن نوفل، وفيه كانت قد قرأت القرآن فاستأذنت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تتخذ في دارها مؤذنا، فأذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها» .
وروى عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: تؤم المرأة النساء تقوم في وسطهن.
وروى ابن أبي شيبة حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمار الدهني، عن امرأة من قومه اسمها حجيرة، قالت: أمتنا أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قائمة وسط النساء.
حدثنا وكيع عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها كانت تؤم النساء تقوم معهن في وسطهن.
وروت عظمة الحنفية قالت: أمتنا عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقامت بينهن في الصلاة المكتوبة، رواه الدارقطني وهو حجة على الشعبي والنخعي حيث قال: تؤمهن في النفل دون الفرض، وشذ أبو ثور والمزني ومحمد بن جرير الطبري فأجازوا إمامة النساء على الإطلاق للرجال والنساء.
وعن سليمان بن بشار والحسن البصري ومالك: لا تؤم المرأة أحدا في فرض أو نفل.
الثالث: قول المصنف في كراهته جماعة النساء: م: (لأنها لا تخلو عن ارتكاب المحرم وهو قيام الإمام وسط الصف) ش: فكيف يكون قيام الإمام وسطهن محرما، وقد فعلته عائشة وأم سلمة، وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ما ذكرناه الآن، وأيضا فلقائل أن يقول: ارتكاب المحرم فيه في حق الرجال دون النساء، إذ لو كان مطلقا لما كان يجوز الصلاة.
الرابع: قوله: م: (فيكره) ش: يعني إذا كان الأمر كذلك يكره فعلهن الجماعة وكيف يكره، وقد ذكر في " المحلى ": صلت عائشة بهن المغرب جهرت بالقراءة، وصلت أم سلمة العصر.
الخامس: قوله: م: (كالعراة) ش: هو جمع عار كالقضاة جمع قاض، والتشبيه فيه من كل الوجوه ظاهر، ولكن كلام الشارح يختلف في وجه الشبه، فقال تاج الشريعة: يعني يكره للعراة الجماعة؛ لأنها لا تخلو عن مباشرة إحدى الروايتين.
أما قيام الإمام وسط الصف، أو زيادة الاطلاع على العورات كما هاهنا، وقال السغناقي قوله: فيكره كالعراة، وفي العراة عندنا أن يصلوا وحدانا قعودا بإيماء، وإنما أمرناهم بترك الجماعة لتشاغل بعضهم عن بعض، ولا يقع بصر بعضهم على عورة البعض؛ لأن الستر يحصل، وإن الأولى لإمامهم إذا صلوا الجماعة أن يقوم وسطهن؛ لئلا يقع بصرهم على عورته، وإن تقدمهم جاز أيضا، وحالهم في هذا الموضع كحال النساء في الصلاة، فالأولى أن يصلين(2/336)
فإن فعلن قامت الإمام وسطهن؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فعلت كذلك، وحمل فعلها الجماعة على ابتداء الإسلام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحدهن، وإن صلين بجماعة قامت إمامتهن وسطهن، وإن تقدمن جاز فكذلك حال العراة، وكلام الأكمل هاهنا قريب منه بل أخذ منه.
وقال الأترازي: قوله: فيكره كالعراة، أي تكره جماعة النساء كجماعة العراة، وقال صاحب " الدراية ": التشبيه بالعراة ليس من كل الوجوه بل في أفضلية الأذان وأفضلية قيام الإمام وسطهن، وأما العراة فيصلون قعودا وهو أفضل من صلاة النساء قائمات.
قلت: المصنف جعل العراة مشبها به، وتاج الشريعة عكس فيه، وجعل وجه التشبيه الحرمة، والسغناقي جعله في الأفضلية، وصاحب " الدراية " كذلك ولكنه زاد في الأفضلية الأذان أيضا، والأترازي جعله في الكراهة.
السادس: قوله: م: (وإن فعلن قامت الإمام وسطهن) ش: فيه تناقض وهو أنه أولا قال: قيام الإمام وسط الصف ارتكاب محرم، فعلم منه عدم جواز صلاتهن بالجماعة، وهنا يقول بجواز ذلك، ويمكن أن يجاب عنه بأن يكون المراد بالحرمة أيضا هنا اللغوي وهو المنع، ووجه الكراهة لا يمنع ذلك الجواز مع الكراهة.
فإن قلت: كيف قال: قامت الإمام، بتاء تأنيث الفعل.
قلت: قال المطرزي في " المغرب ": الإمام من يؤم به أي يقتدى به ذكرا كان أو أنثى، ومنه قامت الإمام في وسطهن، وفي بعض النسخ: فإن فعلن قامت الإمامة وسطهن، وهو غير صواب؛ لأن لفظة الإمام اسم لا وصف.
قوله: م: (وسطهن) ش: بسكون السين؛ لأنه ظرف بخلاف جلست وسط الدار بالفتح، وكل موضع صلح فيه بين فهو ساكن، وما لا يصلح فهو بالفتح ومنه يشد في وسطه الهميان.
وقال الأزهري: كل ما كان يبين بعضه من بعض كوسط القلادة والصف والسبحة فهو بالإسكان وما كان منضما لا يبين كالدار والساحة فهو بالفتح، وأجازوا في المفتوح الإسكان ولم يجيزوا في الساكن الفتح.
السابع: قوله: م: (لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فعلت كذلك) ش: أي صلت بجماعة النساء، وقامت وسطهن وقد ذكرناه عن قريب، وروى محمد بن الحسن في كتاب " الآثار " أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنها كانت تؤم النساء في شهر رمضان فتقوم وسطا، وقد ذكرنا عن أم سلمة أيضا، وفيه أيضا رد على الأترازي حيث قال: إنها بدعة، وعلى المصنف أيضا في أنها ارتكاب المحرم.
الثامن: قوله: م: (وحمل فعلها الجماعة على ابتداء الإسلام) ش: قال الأترازي: أي حمل فعل(2/337)
ولأن في التقدم زيادة الكشف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عائشة الجماعة على ابتداء الإسلام يعني كان ذلك ثم نسخ حين أمرن بالوقار والقرار في البيوت، وهذا جواب سؤال مقدر بأن يقال: لما فعلت عائشة الجماعة دل على أنها مستحبة فلا يكره. فأجاب عنه وقال: وحمل ذلك على ابتداء الإسلام.
قلت: هذا كلام من لم يطلع في كتب القوم، وأمضى فيه لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أقام بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة كما رواه البخاري ومسلم ثم تزوج عائشة بالمدينة وبنى بها وهي بنت تسع وبقيت عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسع سنين، وما صلت إماما إلا بعد بلوغها، فكيف يستقيم حمله على ابتداء الإسلام، وتصدى الأكمل للجواب عن هذا وقال: يجوز أن يكون المراد بابتداء الإسلام ما قبل بيان الانتساخ، فإنه ابتدأ بالنسبة إليه.
قلت: هذا أبعد من الأول؛ لأن هذا لم يكن في ابتداء الإسلام على ما دلت عليه الأخبار المذكورة، فإذا كان كذلك كيف يحمل هذا على ما قبل الانتساخ.
التاسع: قوله: م: (ولأن في التقدم زيادة الكشف) ش: هذا الدليل توكيد يمنع المتقدم بالنسبة؛ لأنه بين بالنسبة في الأصل لا بالتعليل، واعترض عليه بأن المرأة إذا كانت لابسة من فوقها إلى قدمها، ولم يكن بينهن أحد من الرجال، فإن التقدم يكره مع أنه لا كشف فيها، فلو كانت الكراهية لزيادة الكشف ينبغي أن يجوز هناك لانعدام العلة.
فأجاب عنه الأكمل أخذا من كلام السغناقي بما ملخصه: أن ذلك نادر لا حكم له على أن ترك التقديم بالسنة والتعليل لا يضاهيها.
قلت: لا نسلم أنه نادر؛ لأن المرأة شأنها التستر في كل الأحوال ولا سيما في الصلاة خصوصا إذا أمت، فإنها تحترز عن انكشاف شيء من أعضائها غاية الاحتراز، فحينئذ لا يوجد كشف أصلا فضلا عن زيادته وقوله: على أن يترك التقدم.. إلى آخره، فيه نظر لأنه لم يبين النسبة التي دلت على ترك التقدم.
وقال الأكمل: وهنا بحث من أوجه، وذكر منها: أن المذهب عندنا أن انتفاء صفة الوجوب تستلزم انتفاء صفة الجواز، ثم أجاب عنه بما حاصله أن الجواز ليس بمنسوخ بالإجماع، وإنما المنسوخ هو كون جماعتهن سنة وفيه نظر؛ لأن من ادعى النسخ فعليه البيان.
وقال صاحب " الدراية ": ولأن جماعتهن لو كانت مشروعة لزم تركها ولشاعت كما شاعت جماعة الرجال على أنها من الشعائر فيختص بالأذان والخطب والجمع والأعياد؛ ولأن جماعتهن لا تخلو عن ارتكاب محرم؛ لأن في التقدم زيادة كشف، وفي الوسط تركه القيام وكل ذلك حرام.
أما زيادة الكشف؛ فلقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] (النور: الآية 31) ، وأما ترك القيام(2/338)
ومن صلى مع واحد أقامه عن يمينه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فلأنه خلاف السنة؛ لأنه لم يعمل به النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ولا واحد من الصحابة.
وأما حديث أم ورقة ورايطة كان في ابتداء الإسلام أو تعلما للجواز مع أن في حديث أم ورقة مقالا عند أهل الحديث.
قلت: هذا كله مخدوش، أما قوله: لو كانت جماعتهن مشروعة كره تركها، فغير سديد؛ لأنه لا يلزم من كون الشيء مشروعا أن يكره تركه؛ لأن هذا ليس بكلي، فإن المشروع إذا كان فرضا يكون تركه حراما، وإن سنة يكون تركه مكروها، وإن كان ندبا يجوز تركه ولا يكره.
وأما قوله: فتختص بالأذان.. إلخ. فيرده ما رواه الحاكم في " المستدرك " عن عبد الله بن إدريس عن عطاء عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها كانت تؤذن وتقيم وتؤم النساء فتقوم وسطهن. وأما قوله: وكل ذلك حرام، غير مسلم؛ لأن الحرمة غير مقتصرة على زيادة الكشف.
وأما قوله: فلأنه خلاف السنة، مردود؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أم ورقة أن تؤم أهل دارها كما ذكرنا من رواية أبي داود، وفي الحديث وجعل لها مؤذنا يؤذن لها، وقال عبد الرحمن بن خلاد: فأنا رأيت مؤذنها شيخا كبيرا. وقوله: ولا واحد من الصحابة مردود، فإنا ذكرنا عن عائشة وأم سلمة بأنهما فعلتا ذلك.
وقوله: مع النساء في حديث أم ورقة مقالا، إشارة إلى ما قاله المنذري في "مختصره " لسنن أبي داود في سنده الوليد بن جميع وفيه مقال ولا يضره ذلك، فإن مسلما أخرج له وكفى هذا في عدالته وصدقه.
فإن قلت: قد قال ابن بطال في كتابه: الوليد بن جميع، وعبد الرحمن بن خلاد لا يعرف حاليهما.
قلت: ذكرهما ابن حبان في " الثقات " فالحديث إذا صحيح.
فإن قلت: أخرج ابن عدي في " الكامل " وأبو الشيخ الأصبهاني في كتاب "الأذان" من حديث أسماء بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «ليس على النساء أذان ولا إقامة ولا جمعة ولا اغتسال، ولا تقدمهن امرأة ولكن تقوم وسطهن» ".
قلت: في سنده الحاكم بن عبد الله قال ابن معين: ليس بثقة ولا مأمون. وعن البخاري: تركوه، وعن النسائي: متروك الحديث، وكان ابن المبارك يوهنه، وأنكر ابن الجوزي هذا الحديث في كتابه " التحقيق " ولا يعرف مرفوعا إنما هو شيء يروى عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي.
[موقف الإمام والمأموم في الصلاة]
م: (ومن صلى مع واحد أقامه عن يمينه) ش: مساويا له وهو قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابنه وعروة بن الزبير، وبه قال الثوري والأوزاعي ومالك وإسحاق وعن الشافعي: يستحب أن يتأخر عن الإمام قليلا، وعن سعيد بن المسيب أنه يقيمه عن يساره، وفيه قول رابع مروي عن النخغي(2/339)
«لحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى به وأقامه عن يمينه»
ولا يتأخر عن الإمام، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يضع أصابعه عند عقب الإمام والأول هو الظاهر،
فإن صلى خلفه أو في يساره جاز وهو مسيء؛ لأنه خالف السنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أنه يقوم خلفه إلى أن يركع، فإذا جاء أخذ الإمام عن يمينه.
م: (لحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى به وأقامه عن يمينه» ش: حديث ابن عباس أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن كريب مولى ابن عباس. قال: «نمت عند خالتي ميمونة فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الليل، فأطلق القربة فتوضأ ثم أوكأ القربة، ثم قام إلى الصلاة فقمت وتوضأت كما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره، فأخذني جنبه فأدارني من ورائه فأقامني عن يمنيه، فصليت معه» . أخرجوه مختصرا ومطولا.
فإن قلت: كيف يجوز أداء النفل بالجماعة وإنه بدعة.
قلت: أداء النفل بالجماعة بلا أذان ولا إقامة بواحد أو اثنين، يجوز على أنا نقول: التهجد كان فرضا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيكون اقتداء المتنفل بالمفترض مع أن ابن عباس كان صبيا فلا يكون مخالطا.
م: (ولا يتأخر عن الإمام) ش:؛ لأن التأخر خلاف السنة، وإن كان المقتدي أطول وسجوده قدام الإمام لا يضره؛ لأن العبرة بموضع الوقوف، كما لو وقف في الصف فوقوع سجود الإمام يطوله.
م: (وعن محمد أنه يضع أصابعه عند عقب الإمام) ش: كما هو المشهور من عمل العامة م: (والأول هو الظاهر) ش: أي قيام المقتدي عن يمين الإمام بدون التأخر هو ظاهر الرواية ووجهه حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
م: (فإن صلى خلفه أو في يساره جاز وهو مسيء) ش: أي وإن صلى المقتدي خلف الإمام أو عن يساره، والحال أنه وحده جاز والحال أنه مسيء أي فاعل فعل السيئ م: (لأنه خالف السنة) ش: وهو ما ذكر حديث ابن عباس آنفا، وعن شيخ الإسلام من مشايخنا من قال: الجواب في الفصلين وهو ما لو قام عن يساره أو خلفه واحد؛ لأنه ترك السنة في القيام فيكون مكروها.
ومنهم من فرق وقال: لا يكون عن يساره إذا قام خلفه؛ لأنه لا يصير تاركا للسنة من كل وجه؛ لأنه عمل به واحد من الصحابة وهو ابن عباس فإنه قام خلفه، ودعا له بالفقه والعلم، وعند أحمد لو وقف على يساره تبطل صلاته، وقال أحمد: لو كان اثنان وكان أحدهما صبيا فوقفا عن يمينه فلا بأس به، ولو وقفا خلفه توقف أحمد، وأكثرهم على أنه لا يصح بل الصبي يقف على يساره.(2/340)
وإن أم اثنين تقدم عليهما، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتوسطهما، ونقل ذلك عن عبد الله ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولنا أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تقدم على أنس واليتيم حين صلى بهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن أم اثنين تقدم عليهما) ش: أي وإن أم رجلين تقدم عليهما وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يتوسطهما) ش: أي الإمام يتوسط اثنين؛ لأن الاصطفاف خلف الإمام سنة الجماعة والاثنين ليسا بجماعة حقيقة. م: (ونقل ذلك عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي نقل التوسط بين الاثنين عن عبد الله بن مسعود، هذا موقوف على ابن مسعود كما ترى، وقد رواه مسلم من ثلاث طرق ولم يرفعه في الأوليين ورفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال فيه: «هكذا فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -.
وقال الترمذي في "جامعه " عن ابن مسعود أنه صلى بعلقمة والأسود فقام بينهما، قال: ورواه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال أبو عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هذا الحديث لا يصح رفعه، والصحيح عندهم التوقيف على ابن مسعود أنه صلى بعلقمة والأسود، وقال الحارثي: حديث ابن مسعود منسوخ وأراد به الحديث الذي أخرجه مسلم عنه في "صحيحه "، وعن إبراهيم «عن علقمة والأسود أنهما دخلا على عبد الله فقال: أصلي من خلفكم؟ قالا: نعم، فقام بينهما فجعل أحدهما بيمينه، والآخر عن شماله، ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على ركبتينا، ثم طبق بين يديه، ثم جعلهما بين فخذيه، فلما صلى قال: هكذا فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - لأنه إنما تعلم هذه الصورة من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة وفيهما التطبيق وأحكام أخرى وهي متروكة، وهذا الحكم من جملتها، ولما قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة تركه.
فإن قلت: ما أجاب المصنف عن حديث ابن مسعود هذا.
قلت: أجيب بثلاثة أجوبة.
الأول: أن ابن مسعود لم يبلغه حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الآتي ذكره عقيب هذا الحديث.
والثاني: أنه قال لضيق المسجد وبعذر آخر لا على أنه من السنة.
والثالث: ذكر البيهقي في " المعرفة «أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وأبو ذر عن يمينه كل واحد يصلي لنفسه، فقام ابن مسعود خلفهما فأومأ إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشماله فظن عبد الله أن ذلك سنة الموقف، ولم يعلم أنه يؤمهما وعلمه أبو ذر حتى قال فيما روي عنه يصلي كل رجل منا لنفسه» .
م: (ولنا أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «تقدم على أنس واليتيم حين صلى بهما» ش: وهذا الحديث أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه عن مالك بن أنس عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة «عن أنس بن مالك(2/341)
فهذا للأفضلية والأثر دليل الإباحة.
ولا يجوز للرجال أن يقتدوا بامرأة أو صبي، أما المرأة فلقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أخروهن من حيث أخرهن الله» ، فلا يجوز تقديمها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن جدته مليكه دعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لطعام صنعته فأكل منه ثم قال: "قوموا فلأصل لكم" [قال أنس:] فقمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبث فنضحته بماء، فقام رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وقمت أنا واليتيم من ورائه والعجوز وأنس وراءنا فصلى بنا ركعتين ثم انصرف» واليتيم هو ضمير بن أبي ضميرة مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له ولأبيه صحبة، وقيل: اليتيم أخو أنس لأبيه واسمه ضمير واليتيم علم غالب له كالنجم للثريا.
وقال أبو عمر: قوله: جدته مليكة، والضمير عائد على إسحاق وهي جدة إسحاق أم أبيه عبد الله بن أبي طلحة، وهي أم سليم بنت ملحان زوج أبي طلحة الأنصاري، وهي أم أنس بن مالك، وقال غيره: الضمير يعود إلى أنس وهو القائل: إن جدته، وهي جدة أنس بن مالك أم أمه واسمها مليكة بنت مالك بن عدي، ويؤيد ما قال أبو عمر أن في بعض طرق الحديث أن أم سلمة سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يؤمها، أخرجه النسائي عن يحيى بن سعيد، عن إسحاق بن عبد الله فذكره وأم سليم وهي أم أنس جاء ذلك مصرحا في البخاري.
م: (فهذا دليل للأفضلية) ش: أي فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقدمه على الاثنين دليل الأفضلية م: (والأثر دليل الإباحة) ش: أراد بالأثر الذي رواه أبو يوسف عن ابن مسعود.
فإن قلت: لم يعكس قلت: ترجيحا لفعل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على فعل غيره.
1 -
فروع: ولو قام واحد بجنب الإمام وخلفه صف يكره بالإجماع، كذا في " شرح الإرشاد "، وفي " المجتبى ": السنة أن يقوم في المحراب ليعدل الطرفين ولو قام في أحد جانبي الصف يكره، ولو كان المسجد الصيفي بجنب الشتوي، وإملاء المسجد ليقوم الإمام في جانب الحائط يستوي القوم من جانبيه، والأصح ما روي عن أبي حنيفة أنه قال: أكره أن يقوم الإمام بين الساريتين، وفي رواية: أو ناحية المسجد أو إلى سارية؛ لأنه خلاف لعمل الأمة، ومتى استوى جانباه يقوم عن يمين الإمام إن أمكنه وإن وجد في الصف فرجة سدها ولا ينتظر حتى يجيء آخر فيقفان خلفه، ولو لم يجد عالما يقف خلف الصف بحذاء الإمام للضرورة، ولو وقف منفردا بغير عذر تصح صلاته عندنا، وعند الشافعي ومالك.
وقال أحمد وأصحاب الحديث: لا تصح صلاته واحتجوا بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا صلاة للمنفرد خلف الصف» ، ولنا حديث أنس واليتيم والعجوز، وقد جوزوا اقتداءها وهي منفردة خلف الصف، وما رواه من الحديث المذكور أريد به نفي الكمال.
[إمامة المرأة والصبي في الصلاة]
م: (ولا يجوز للرجال أن يقتدوا بامرأة ولا صبي، أما المرأة فلقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أخروهن من حيث أخرهن الله، فلا يجوز تقديمها» ش: هذا غير مرفوع، وهو موقوف على عبد الله بن مسعود(2/342)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه " عن سفيان الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن ابن مسعود، ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبراني في "معجمه " ولم أر أحدا من شراح " الهداية " تعرض لحال هذا الخبر، وكتب أصحابنا معتبرة، وذكره الكبائر أي من الشافعية في كتاب بعض ما تفرد به أحمد بن حنبل، وذكره أيضا ابن قدامة في " المغني " وابن حزم في " المحلى "، وجه الاستدلال بقوله: من حيث أخرهن الله، ما قال أبو زيد في " الأسرار ": إن حيث عبارة عن المكان ولا مكان يجب تأخرهن فيه إلا مكان الصلاة، وقيل: يجوز أن يكون حيث للتعليل يعني كما أخرهن الله تعالى في الشهادة والإرث والسلطنة وسائر الولايات.
قلت: أصل حيث أنه ظرف مكان مضاف إلى الجملة تقول: اجلس حيث الأمير جالس، وحيث جلس الأمير، وقد يضاف إلى المفرد كقول الشاعر:
تمضي المواضي حيث لي العمائم
....
.... قال أبو الفتح: من أضاف حيث إلى المفرد أعربها، ومن ذلك ضبط بعضهم، أما ترى حيث سهيل طالعا، بفتح ثاء حيث وخفض سهيل، وأصله حيث سهيل بضم الثاء ورفع سهيل، والخبر محذوف أي موجود إذا اتصلت بها ما النافية فضمنت معنى الشرط وجزمت الفعلين، وفيه ست لغات بالحركات الثلاث وبالواو معها، ومن العرب من يعرب حيث، وعليه قراءة من قرأ {من حيث لا يعلمون} [الأعراف: 182] بالكسر وهي للمكان اتفاقا.
وقال الأخفش: وقد ترد للزمان، أقول في الخبر أمرا تبركا بتأخيرهن من حيث العام في الصلاة؛ لعدم وجوب تأخيرهن خارج الصلاة إجماعا، وحيث تأخيرهن في الصلاة إظهار لتعيينهن في الجماعة؛ لأن الرجال هم الأصول في إقامة الجماعة، فإن جماعة النساء ليست مستحبة عن الانفراد. وعند الشافعي: دون استحباب الرجال والرجل هو المخاطب بالتأخير، فإذا ترك ما هو يخاطب به فسدت صلاته كما لو تقدم على إمامه.
يظهر من هذا كله أنه أمر بتأخيرها وهو نهي عن الصلاة خلفها وإلى جانبها أيضا، والنهي يقتضي فساد المنهي؛ ولأن في تأخيرها صيانة للصلاة عن الفساد، وهي واجبة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] (محمد: الآية 33) ، وإليه أشار المصنف بقوله: فلا يجوز تقديمها، هذه نتيجة قوله: ولا يجوز أن يقتدوا بامرأة، تقدير الكلام: لما جاء الأمر بتأخيرها فلا يجوز تقديمها، فلم يجز الاقتداء بها. وفي الأترازي: فإن قيل: هذا الحديث خبر الواحد وبمثله ثبت الوجوب لا الفرض فلا تفسد الصلاة بتركه.
قلنا: هذا حديث مشهور تثبت الفرضية به، فتركه مفسد، وفي " المجتبى ": يمسك في المسألة بالإجماع، والمراد به إجماع المجتهدين، لأنه حكي عن ابن جرير الطبري أنه يجوز إمامتها(2/343)
وأما الصبي فلأنه متنفل، فلا يجوز اقتداء المفترض به، وفي التراويح والسنن المطلقة جوزه مشايخ بلخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ولم يجوزه مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ومنهم من حقق الخلاف في النفل المطلق بين أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - والمختار أنه لا يجوز في الصلوات كلها؛ لأن نفل الصبي دون نفل البالغ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالتراويح إذا لم يكن هناك قارئ غيرها.
م: (وأما الصبي فلأنه متنفل) ش: أي وأما عدم جواز الاقتداء بالصبي فلأنه متنفل والذي يقتدي به مفترض م: (فلا يجوز اقتداء المقترض به) ش: أي بالمتنفل؛ لأن صلاة الإمام متضمنة صلاة المقتدي صحة وفسادا، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الإمام ضامن» ولا شك أن الشيء إنما يتضمن ما هو دونه لا ما هو فوقه، فلم يجز اقتداء البالغ بالصبي لهذا، وبه قال الأوزاعي والثوري ومالك وأحمد وإسحاق، وفي النفل روايتان. وقال ابن المنذر: وكرهها عطاء والشعبي ومجاهد، وقال الحسن والشافعي: تصح إمامته، وفي الجمعة له قولان، قال في " الأم ": لا تجوز، وقال في " الإملاء ": تجوز لما روى البخاري عن عمرو بن سلمة قال: «أممت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا غلام ابن ست سنين أو ابن سبع سنين» وسلمة صحابي، والأشهر أن عمرا لم يسمع من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولم يرو عنه، وقال الخطابي: كان الحسن يضعف حديث عمرو بن سلمة، وقال مرة: دعه ليس بشيء بين.
وقال أبو داود: وقيل لأحمد حديث عمرو قال: لا أدري ما هذا، فلعله لم يتحقق بلوغ أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: وقد خالفه أمثال الصحابة، وقد قال عمرو: كنت إذا سجدت خرجت استي، وهذا غير بالغ، والعجيب أنهم لم يجعلوا قول أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وكبار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأفعالهم حجة، واستدلوا بفعل [صبي] عمره ست سنين، ولا يعرف فرائض الوضوء والصلاة، فكيف يتقدم في الإمامة؟ ومنعه أحوط في الدين، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يؤم الغلام حتى يحتلم، وعن ابن مسعود: لا يؤم الغلام الذي لا تجب عليه الحدود، رواهما الأثرم في "سننه ".
[إمامة الصبي في النوافل كالتراويح ونحوها]
م: (وفي التراويح والسنن المطلقة) ش: السنن الرواتب قبل الفرائض وبعدها م: (جوزه) ش: أي الاقتداء بالصبي م: (مشايخ بلخ ولم يجوزه مشايخنا) ش: أي ولم يجوز الاقتداء بالصبي علماء أهل بخارى وسمرقند.
م: (ومنهم) ش: أي ومن مشايخ بخارى وسمرقند م: (من حقق الخلاف في النفل المطلق بين أبي يوسف ومحمد) ش: فقال عند أبي يوسف: لا يجوز الاقتداء، وعند محمد يجوز م: (والمختار) ش: أي للفتوى م: (أنه) ش: أي أن الاقتداء بالصبي م: (لا يجوز في الصلوات كلها؛ لأن نفل الصبي دون نفل البالغ) ش:؛ لأن نفل البالغ مضمون حيث يجب القضاء إذا أفسده، ونفل الصبي غير(2/344)
حيث لا يلزمه القضاء بالإفساد بالإجماع،
ولا يبني القوي على الضعيف، بخلاف المظنون؛ لأنه مجتهد فيه، فاعتبر العارض عدما، وبخلاف اقتداء الصبي بالصبي؛ لأن الصلاة متحدة
ويصف الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مضمون م: (حيث لا يلزمه القضاء بالإفساد بالإجماع) ش: فيكون نفل الصبي دون نفل البالغ فلا يجوز أن يكون الأدنى متضمنا للأعلى.
م: (ولا يبني القوي على الضعيف) ش: لأن نفل البالغ القوي حيث يلزمه بالشروع، ونفل الصبي ضعيف حيث لا يلزمه بالشروع، وعلى هذا لا يجوز الاقتداء به أيضا في النفل.
م: (بخلاف المظنون) ش: هذا جواب عن قياس مشايخ بلخ عن المظنون وتقديره قياس اقتداء البالغ بالصبي على الاقتداء بالظان فاسد، صورة المظنون أن يقتدي المتنفل بمن يصلي صلاة عليه يجوز الاقتداء، وإن كانت غير مضمونة بالقضاء عندنا، لأنه شرع فيه على قصد التزام فرض آخر عليه، وصورة أخرى شرع في صلاة على ظن أنها عليه فاقتدى به متنفل ثم أفسده يلزمه القضاء، وإن لم يلزم الإمام على تقدير الإفساد م: (لأنه مجتهد فيه) ش: أي؛ لأن المظنون مجتهد فيه؛ لأن عند زفر القضاء واجب على الظان، فصار كأن الإمام ضامن فاتحد حال الإمام والمقتدي فجاز الاقتداء به.
م: (فاعتبر العارض) ش: وهو للظان م: (عدما) ش: في حق المقتدي بالنظر إلى اجتهاد زفر مع احتمال صحة قول المجتهد؛ لأن في زعمه مضمونة صلاة الإمام، فكان هذا اقتداء بمصلي المضمونة، أما الصبي فليس من أهل الضمان حتى يسري حكم ضمانه إلى المقتدي فكان اقتداء البالغ به في معنى اقتداء المفترض بالمتنفل.
م: (وبخلاف اقتداء الصبي بالصبي؛ لأن الصلاة متحدة) ش: لعدم الضمان على واحد منهما وكان بناء الضعيف على الضعيف.
[كيفية ترتيب الصفوف في الصلاة]
م: (ويصف الرجال ثم الصبيان ثم النساء) ش: هذا ترتيب القيام خلف الإمام، وفي " المحيط " و " الإسبيجابي ": يلي الإمام الرجال ثم الصبيان الكبار ثم الخناثى ثم النساء ثم الصبيات والمراهقات م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى» ش: روي هذا الحديث عن ابن مسعود وأبي مسعود والبراء بن عازب، فحديث ابن مسعود أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم» .
وحديث البراء بن عازب أخرجه الحاكم في " المستدرك " في كتاب الفضائل من حديث عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأتينا إذا أقيمت الصلاة فيمسح عواتقنا ويقول: "أقيموا صفوفكم ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، وليلني منكم أولو الأحلام(2/345)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والنهى» وسكت عنه.
وقال الزيلعي في تخريج أحاديث " الهداية " للمصنف: استدل بهذا الحديث على قوله ويصف الرجال.. إلخ، ولا ينهض ذلك إلا على تقديم الرجال فقط، ويمكن أن يستدل بحديث أبي مالك الأشعري «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصفهم في الصلاة فيجعل الرجال قدام الغلمان، والغلمان خلفهم، والنساء خلف الغلمان» رواه الحارث ابن أبي أسامة في "مسنده ".
وأخرج ابن أبي شيبة عنه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام الرجال يلونه وأقام الصبيان خلف ذلك» . قال الأكمل: الصبيان تابعة للرجال لاحتمال رجوليتهم.
قلت: إذا سلمنا هذا فما الدليل منه على كون النساء بعد الصبيان، قوله: ليلني بكسر اللامين وتخفيف النون من ولي يلي وليا وهو القرب، وأصل يلي يولي حذفت الواو لوقوعها بين الياء والكسر وأمر الغائب منه ليل؛ لأن الياء تسقط للجزم، وأمر الحاضر مثل ق على وزن ع، وقال النووي: ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التأكيد.
قلت: القاعدة في ذلك أن النون المؤكدة إذا دخلت الناقص تعود الياء والواو المحذوفتان فيصير ليليني. قوله: أولو الأحلام حلم بضم الحاء وسكون اللام وهو ما يراه النائم تقول منه: حلم بفتح اللام، واحتلم تقول: حلمت هكذا وحلمته أيضا ولكن غلبت استعماله فيما يراه النائم من دلالة البلوغ، فكان المراد هاهنا ليلني البالغون. قوله: النهى بضم النون جمع نهية بضم النون وسكون الهاء وهي العقل، يقال بفتح النون أيضا؛ لأنه نهى صاحبه عن الرذائل وكذلك العقل لعقله من عقال البعير، ويقال: رجل نه ونهى من قوم نهى، وقال أبو علي الفارسي: يجوز ألا يكون النهى مصدر كالهدى وأن يكون جمعا قال: ومعناه في اللغة الشاب والحسن. وقال السغناقي في تعبير الحلم بالعقل غلط من وجهين:
أحدهما: أن الثقات لم يفسروه.
الثاني: إثبات التكرار في الحديث، ففي تفسير العقل من غير قابل؛ لأن النهى جمع نهية وهي العقل.
قلت: قد فسر بعضهم بالحلم وليس فيه التكرار، وإنما هو التأكيد؛ لأن اللفظ مختلف والمعنى واحد، وقد وقع من غير فائدة مثل هذا في الكلام الفصيح.
قوله: وإياكم، من المنصوبات بالإلزام كما في قوله: إياكم والأسد، والمعنى: اتقوا(2/346)
ولأن المحاذاة مفسدة فيؤخرن.
وإن حاذته امرأة وهما مشتركان في صلاة واحدة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أنفسكم أن تعرضوا لهيشات الأسواق، وهو بفتح الهاء وسكون الياء آخر الحروف، وبالشين المعجمة وروي هوشان وأصله من الهوش وهو الاختلاط والهوشة الفتنة وبينهم تهاوش أي اختلاط واختلاف.
فإن قلت: ما وجه تخصيص أولي الأحلام والنهى بذلك.
قلت: لاختلافها من احتياج إليه ولتبليغ ما سمعوه منه وضبط ما يحدث عنه والتنبيه على سهو إن وقع؛ لأنهم أحق بالتقديم وليقتدي بهم من بعدهم، وكذا ينبغي لسائر الأئمة الاقتداء برأيه وسيرته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كل حال من جموع الصلاة، وتجانس العلم والذكر وبحال الرأي [....
..] ، قوله: ثم الذين يلونهم، معناه الذين يقربون منهم في هذا الوصف.
م: (ولأن المحاذاة مفسدة فيؤخرن) ش: هذا دليل معقول وتمهيد لذلك مسألة المحاذاة، أي ولأن محاذاة النساء الرجال مفسدة لصلاتهم فيؤخرون دفعا لفسادهم.
[محاذاة المرأة للرجل في الصلاة]
م: (وإن حاذته امرأة) ش: أي وإن حاذت المصلي امرأة، والمحاذاة في اللغة هي المقابلة بالحذاء، يقال: حاذاه يحذوه وفلان جلس بحذاء فلان، وفلان يحتذي فلانا أي يقتدي به، ويقال: احتذى شماله وانتحى فعاله أي: اقتدى به وحذوه النعل بالنعل حذوا إذا أقدرت كل واحدة على صاحبها، وفي " المغرب " حذوته وحاذيته إذا ضربت بحذائه وحذا بي الفلان عليهما م: (وهما مشتركان في صلاة واحدة) ش: أي والحال الرجل والمرأة المحاذية له يشتركان في صلاة واحدة، وهاهنا شروط:
الأول: أن يكون المحاذاة بين الرجل والمرأة، فلو كان المحاذي صبيا لا تفسد صلاة الرجل، وكذلك لو كان معتوها.
الثاني: أن تكون المرأة المحاذية مشتهاة بأن كانت بنت سبع، وقيل: بنت تسع نظرا إلى بنائه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وهذا يبلغ في التاسع والأصح أن السن التي ذكرت لا تفسد بها بل المعتبر أن تكون ضخمة تتحمل الجماع، وإن لم تكن كذلك لا تكون مشتهاة بالسن الذي ذكر، أما لو بلغت سن البلوغ ولم تكن ضخمة ينبغي أن تكون مشتهاة بالسن، وهذا لا تراع فيه وسواء كانت المرأة المحاذية أجنبية أو ذات رحم محرم أو عجوزة ينفر الناس منها وتكرهها.
الثالث: أن تكون المرأة عاقلة.
الرابع: أن لا يكون بينهما حائل؛ لأن الحائل يرفع المحاذاة والحائل أن تكون بينهما أسطوانة أو كانت في قبة في وسط الصف، وفي " التحرير " أو مقدار ما يقوم به رجل آخر، وفي " المحيط " و " المفيد ": أو كان أحدهما على دكان قدر قامة الرجل والآخر أسفل وفي " المحيط " أو بينهما(2/347)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حائل أدناه مثل مؤخرة الرجل أو مقدمته، وفي " الحواشي ": غلظ من غلظ الأصبع ثم المساءة لأكثر القوم كذا في " مختصر المحيط "، قال أبو الليث: هو الأصح، وقيل: الأصح أن الاعتبار بالساق والكعب.
الخامس: أن تكون الصلاة ذات ركوع وسجود حتى تكون صلاة من كل وجه، وإن كان ما يصليان بالإيماء لعذر؛ لأنها مطلقة في الأصل ولا تكون المحاذاة مفسدة في صلاة الجنازة.
السادس: أن تكون المحاذاة في ركن كامل، وينبغي للحال أن يشترط أن يكون الأداء في ركن كامل عند محمد، وعند أبي يوسف لو وقعت مقدار الركن فسدت، وإن لم تؤد، وفي " مختصر بحر المحيط " لو حاذته أقل من مقدار أفسدت عند أبي يوسف وعند محمد لا تفسد إلا مقدار الركن.
وفي " المحيط " ذكر الجرجاني أن امرأة لو كبرت في الصف الأول، وركعت في الصف الثاني وسجدت في الصف الثالث، فسدت صلاة من عن يمينها ويسارها وخلفها في كل صف؛ لأنها أدت ركنا كاملا من أركان صلاتها في كل صف، فصار كالمدفوع إلى صف النساء.
السابع: أن يكون فيه نوى الإمام إمامتها، أو نوى إمامته النساء إلا امرأة بعينها تحاذيه لا تفسد صلاته ذكره صاحب " المحيط عن أبي يوسف، وقال شمس الأئمة السرخسي: لو صححنا اقتداء المرأة بالرجل بغير سنة قدرت على إفساد صلاة الرجل كل امرأة متى شاءت، بأن تقتدي به فتقف إلى جنبه وفيه من الضرر ما لا يخفى، وإن كان الجواب مطلقا في الكتاب يعني يجوز اقتداء المرأة بالرجل في الجمعة والعيدين، ولكن هو محمول عند أكثر المشايخ على وجود النية من الإمام، ومنهم من سلم ولكن يفرق بينهما وبين سائر الصلوات، فنقول: الضرر هاهنا في جانبها؛ لأنها لا تقدر على صلاة العيدين والجمعة وحدها، ولا تجد إماما آخر يقتدى به مع أنها لا تقدر على الوقوف بجنب الإمام؛ لكثرة الازدحام في هذه الصلوات، وصححنا اقتداءها لدفع الضرر عنها بخلاف سائر الصلوات.
الثامن: شرط ذكره صاحب " الينابيع " وهو أن يكون الإمام قد نوى إمامتها، وهي معه قد اقتدت به من أول صلاته، ولو نوى إمامتها إلا أنها لم تقتد به في أول صلاته فصلاتهما جائزة؛ لأن الركن لا يوجد في كل واحد من كل وجه حيث انفرد في بعضها، وإذا وجدت الشركة من أول الصلاة فوقفت بجنب الإمام فسدت صلاته وصلاتهما مع القوم؛ لفساد صلاة إمامهم، والصحيح أن ذلك ليس بشرط فإنه ذكر في " الذخيرة " وعزاه في كتاب " الغنية " فقال: اقتدى رجل وامرأة برجل في الركعة الثالثة ثم أحدثا فذهبا وتوضآ ثم جاءا فيصليان فحاذته إن حاذته في الثالثة والرابعة للإمام وهي الأولى والثانية لهما تفسد صلاة الرجل، وإن حاذته في الثالثة والرابعة لهما لا تفسد صلاة الرجل؛ لأنهما متسويان فيها(2/348)
فسدت صلاة إن نوى الإمام إمامتها، والقياس أن لا تفسد، وهو قول الشافعي - رحمة الله عليه - اعتبارا بصلاتها حيث لا تفسد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " مختصر بحر المحيط " نية إمامة النساء تعتبر وقت الشروع لا بعده، وتصح نية النساء بدون حضورهن، وقيل: يشترط حضرتها، وفي " الذخيرة " ذكر في بعض الفتاوى لو أن رجلا صلى ولم ينو إمامة النساء فاقتدت به امرأة، قال أبو نصر: إن لم تقم بجنبه يصح اقتداؤها، وقال أبو القاسم: لا يصح اقتداؤها في الوجهين. وفي الأسبيجابي: لو تقدمت أمامه لا يصح اقتداؤها وتصح صلاته.
وفي " المرغيناني ": لو تقدمت المرأة فالصحيح أن صلاة الرجل لا تفسد؛ لأنه لم يرض بإمامتها، وعن أبي يوسف تفسد. وفي " الذخيرة " حكي عن مشايخ العراق صورة في المحاذاة تفسد صلاة المرأة ولا تفسد صلاة الرجل، وبيانها جاءت امرأة فشرعت في الصلاة بعدما شرع الرجل ناويا إمامة النساء فحاذته تفسد صلاة الرجل، وإذا كانت حاضرة فقامت بحذائه وكان يمكنه أن يؤخرها بالتقدم عليها خطوة أو خطوتين، فلم يتقدم فسدت صلاته؛ لأنه لم يوجد منه التأخير لها وقد ترك فرض المقام.
التاسع: أن تكون الصلاة مشتركة يعني تحريمة وأداء بأن يكونا وراء الإمام حقيقة أو تقديرا، أما حقيقة فظاهر، وأما تقديرا فبالتأخير.
والعاشر: حد المحاذاة أن يكون عضو منها يحاذي عضوا من الرجل؛ لأنهم شرطوا المحاذاة مطلقا فيتناول كل الأعضاء أو بعضها، ونص في " قاضي خان " أن محاذاة غير قدمها بشيء من الرجل لا يوجب فساد صلاة الرجل، وقال: المرأة إذا صلت مع زوجها في البيت إن كان قدمها محل أقدام الزوج لا تجوز صلاتهما بالجماعة، وإن كان قدمها خلف قدم الزوج إلا أنها طويلة تقع رأس المرأة في السجود قبل رأس الزوج جازت صلاتهما؛ لأن العبرة للقدم، وفي " الجامع " لو أدركا أول الصلاة مع الإمام ثم أحدث أو نام، وقد فرغ الإمام فحاذته المرأة تفسد صلاته؛ لأن اللاحق خلف الإمام تقديرا، ولهذا لو وافقها يقضي، ولو سها لا يسجد للسهو فكانت الصلاة مشتركة، ولو كانا مسبوقين فحاذته في قضاء ما سبق لم تفسد صلاته؛ لعدم الاشتراك لا حقيقة ولا حكما، ثم الشركة قد تكون باتحاد الفرضين وباقتداء المشروعة بالمتطوعة أو المفترض.
م: (فسدت صلاته) ش: جواب الشرط أي صلاة الرجل دون صلاة المرأة ولكن يشترط وهو م: (إن نوى الإمام إمامتها) ش: وفيه خلاف زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما يأتي عن قريب إن شاء الله.
م: (والقياس أن لا تفسد) ش: أي أن لا تفسد صلاة الرجل، ويجوز أن تقرأ لا تفسد بضم التاء من الإفساد يعني ومقتضى أن لا تفسد المحاذاة صلاة الرجل م: (وهو قول الشافعي) ش: أي القيام، وهو عدم الفساد قول الشافعي م: (اعتبارا بصلاتها حيث لا تفسد) ش: أي اعتبر الشافعي اعتبارا بصلاة المرأة حيث لا تفسد؛ لأنهما مشتركين تفسد صلاة أحدهما دون الآخر؛ لأن فساد(2/349)
وجه الاستحسان ما رويناه، وإنه من المشاهير، وهو المخاطب به دونها فيكون هو التارك لفرض القيام، فتفسد صلاته دون صلاتها كالمأموم إذا تقدم على الإمام،
وإن لم ينو إمامتها لم تضره ولا تجوز صلاتها؛ لأن الاشتراك لا يثبت دونها عندنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصلاة لترك الركن أو لوجود ما يناقضها ولم يوجد.
م: (وجه الاستحسان ما رويناه) ش: وهو قول أبي مسعود أخروهن من حيث أخرهن الله. وجه الاستدلال به أن الرجل إن أخطأ مكانه ففسدت صلاته كما إذا تقدم على الإمام، وهذا لأن مقامه قدام المرأة للخبر المذكور، فلما حاذته لزم ترك فرض الإمام وهو تأخير المرأة عنه فسدت صلاته دون صلاة المرأة؛ لأن المأمور بالتأخير الرجل دون المرأة.
م: (وأنه من المشاهير) ش: أي وإن الخبر المذكور من الأخبار المشهورة. هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: هذا خبر الواحد لا يثبت به الفرض فكيف أثبتم به فرض القيام؟ فأجاب عنه بقوله: وأنه من المشاهير، وليس بخبر الواحد فيجوز به الزيادة على الكتاب، ولئن سلمنا ذلك فلا نسلم أن الفرض يثبت به ابتداء، بل يثبت باعتبار أنه وقع بيانا لما تضمنه كتاب الله بقوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] (البقرة: الآية 228) ، فألحق بالكتاب فأخذ حكمه. أقول: هذا كله إذا ثبت كون الخبر المذكور حديثا مرفوعا ولم يثبت ذلك كما ذكرنا.
م: (وهو المخاطب به دونها) ش: هذا جواب عن وجه القياس وتقريره أن يقال: لا يلزم من عدم فساد صلاتها عدم فساد صلاته؛ لأنه المخاطب به أي؛ لقوله أخروهن من حيث أخرهن الله م: (دون المرأة) ش:.
فإن قلت: إذا كان هو مأمورا بتأخيرها وتكون هي أيضا مأمورة بالتأخير؛ لأن التأخير لازم التأخر فينبغي أن تفسد صلاتها. فإن قلت: لا نسلم أنها مأمورة قصدا بل هي مأمورة ضمنا، وما ثبت ضمنا دون ما ثبت قصدا، ففسدت صلاته دون صلاتها، وأيضا كان يمكن له أن يتقدم خطوة أو خطوتين، ولا يتأخرها، فيكون هو المقصر وإلى هذا أشار بقوله: (فيكون هو التارك لفرض القيام) ش: وهو تقديمه عليها م: (فتفسد صلاته دون صلاتها) ش: لعدم التقصير منها م: (كالمأموم إذا تقدم على الإمام) ش: وهذا القياس مستقيم على قول الشافعي وأحمد؛ لأنهما يقولان بفساد المأموم إذا تقدم على إمامه خلافا لمالك وإسحاق. وقال الثوري: المناولة بالعقب على المذهب، وفي الوسط الاعتبار بالكعب.
م: (وإن لم ينو إمامتها لم تضره) ش: أي لم ينو الإمام إمامته المرأة تضره المحاذاة لعدم الاشتراك م: (ولا تجوز صلاتها) ش: أي صلاة المرأة م: (لأن الاشتراك) ش: بين الإمام وبينها م: (لا يثبت دونها عندنا) ش: أي دون النية؛ لأن نيته إمامتها يشترط لفساد صلاة الرجل عند المحاذاة عندنا.(2/350)
خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - ألا ترى أنه يلزمه الترتيب في المقام فيتوقف على التزامه كالاقتداء،
وإنما يشترط نية الإمامة إذا ائتمت محاذية، وإن لم يكن بجنبها رجل ففيه روايتان، والفرق على إحداهما أن الفساد في الأول لازم، وفي الثاني محتمل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن عنده نية إمامتها ليست بشرط؛ لفساد صلاة الرجل بعدما دخلت في صلاته؛ لأن الرجل صالح لإمامة الرجال والنساء ثم اقتداء الرجل به صحيح بلا نية إمامته وكذا اقتداء المرأة.
م: (ألا ترى) ش: توضيح لقوله: لأن الاشتراك لا يثبت دونها، وتقريره م: (أنه يلزمه الترتيب في المقام) ش: أي؛ لأن الإمام لا يلزمه الترتيب في المقام أي في التقديم بالنص، وكل من يلزمه شيء توقف على التزامه فلا يسر به الشريك في المقام م: (فيتوقف على التزامه كالاقتداء) ش: فإن الاقتداء لما بقي يلزم فساد صلاته من صلاة الإمام توقف لزوم الفساد على إلزام المقتدي بنية الشروع في صلاة الإمام.
فإن قلت: يشكل على هذا قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في اقتداء القارئ بالأمي فإن صلاة الأمي تفسد بسبب اقتداء القارئ به، ومع ذلك لا يشترط للأمي نية إمامة القارئ مع أنه يلحق صلاته فساد من جهة عنده.
قلت: يمنع اشتراط النية على قول الكرخي، فإن عنده لا يصح بلا نية أيضا، ولئن فيه لا يلحقه الفساد بسبب الاقتداء، وأما فساد صلاة الإمام في المحاذاة بسبب الاقتداء لا غير فيتوقف على إلزامه كذا في " مبسوط شيخ الإسلام " و " المحيط " ولكن ذكر في الكتاب الصحيح أنه تجوز صلاة الأمي فيما إذا صلى القارئ منفردا على ما يأتي إن شاء الله تعالى، وفي " جامع المحبوبي ": محاذاة الأمرد تفسد الصلاة عند البعض؛ لأنه ذكر في الملتقط أن الأمرد من قرنه إلى قدمه عورة.
م: (وإنما يشترط نية الإمامة إذا ائتمت محاذية) ش: أي إذا اقتدت بالإمام حال كونها محاذية أراد بهذا أن النية إنما تشترط إذا كانت المحاذاة ثابتة وقت الاقتداء بأن قامت أولا بجنب رجل.
م: (وإن لم يكن بجنبها رجل) ش: أو كان ولكن المرأة قامت خلفه هل يشترط نية الإمام أو لا؟ م: (ففيه روايتان) ش: في رواية: يشترط لاحتمال تقدم المرأة فتحقق المحاذاة، وفي رواية لا يشترط؛ لأنه لا فساد في الحال وتحققه موهوم م: (والفرق على إحداهما) ش: أي إحدى الروايتين: وهي رواية الصحة م: (أن الفساد في الأول) ش: وهو ما إذا كان بجنبها رجل م: (لازم) ش: لوجود ملزومه وهو المحاذاة في الحال، فلا بد من النية ليكون الفساد بالتزامه م: (وفي الثاني) ش: وهو ما إذا لم يكن بجنبه رجل فالفساد فيه م: (محتمل) ش: بأن تمشي فتحاذي فتفسد، ولكن الظاهر أن لا تمشي في الصلاة ولا تحاذي، فلم يشترط نية الإمام لعدم التحقق بلزوم الفساد.(2/351)
ومن شرائط المحاذاة أن تكون الصلاة مشتركة، وأن تكون مطلقة، وأن تكون المرأة من أهل الشهوة، وأن لا يكون بينهما حائل، لأنها عرفت مفسدة بالنص، بخلاف القياس فيراعي جميع ما ورد به النص
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ومن شرائط المحاذاة أن تكون الصلاة مشتركة) ش: أشار بهذا إلى شرائط المحاذاة المفسدة وقد ذكرنا أنها عشرة، والمصنف ذكر بعضها وأشار بكلمة من التي هي للتبعيض، فمنها أن تكون الصلاة مشتركة يعني تحريمة وأداء بأن يكون خلف الإمام حقيقة أو تقديرا، أما حقيقة فظاهر، وأما تقديرا فمثل رجل وامرأة خلف الإمام أحدثا فتوضآ ثم جاء أو قد فرغ الإمام فحاذته المرأة في الأداء فسدت صلاة الرجل؛ لأنها خلف الإمام تقديرا، ولهذا لم يكن عليهما قراءة ولا سهو، وإنما يبنيان على رأي الإمام في صلاة العيد في عدد التكبيرات ومحلها، ولو كانا مسبوقين فحاذته على قضاء ما سبقها لم تفسد لعدم الاشتراك حقيقة ولا حكما.
أما حقيقة فظاهر، وأما حكما فإن المسبوق منفرد في قضاء ما سبق، وهذا كان عليه السهو والقراءة، وأنه مقيس على صلاة نفسه في صلاة العيد في التكبيرات عددا ومحلا ثم الاشتراك قد يكون باتحاد الفرضين واقتداء المتطوعة بالمتطوع أو المفترض.
م: (وأن تكون مطلقة) ش: أي ومن شرائط المحاذاة أن تكون الصلاة مطلقة أي كاملة ذات ركوع وسجود، واحترز بذلك عن صلاة الجنازة، فإن المحاذاة فيها ليست بمفسدة؛ لأنه دعاء وقضاء حق الميت لا غير م: (وأن تكون المرأة من أهل الشهوة) ش: أي ومن شرائط المحاذاة أن تكون المرأة المحاذية مشتهاة في الحال أو في الماضي، حتى إن محاذاة الصغيرة ليست بمفسدة م: (وأن لا يكون بينهما حائل) ش: أي ومن شرائطها أن لا يكون بين الرجل والمرأة المحاذية حائل أي فاصل، واعتبره في " المحيط " بقدر ذراع، وإن كان أقل منه لا تكون سترة، وقد استقصينا الكلام في هذه الشروط فيما مضى.
م: (لأنها) ش: أي؛ لأن المحاذاة م: (عرفت مفسدة) ش: للصلاة م: (بالنص) ش: وهو قوله: أخروهن من حيث أخرهن الله م: (بخلاف القياس) ش: لأن القياس المحاذاة غير مفسدة كما قال زفر والشافعي؛ لأن الصلاة لا تفسد إلا بترك ركن، ولو جردت ساقها فلم يوجد فيها ذلك م: (فيراعي جميع ما ورد به النص) ش: وهذا نتيجة قوله: بخلاف القياس، فحينئذ يراعي فيه ما ورد به النص وهو الخبر المذكور.
ثم المرأة الواحدة تفسد صلاة ثلاثة: واحد عن يمينها، وآخر عن يسارها، وآخر عن خلفها، والثنتان صلاة أربعة، واحد عن يمينهما، وآخر عن يسارهما، و [اثنان خلفهما] وهذا لفظ " الذخيرة " و " التحرير "، وفي " المبسوط ": واحد عن يمين أحدهما، والآخر عن يسار الأخرى، وهذه العبارة أولى، وصلاة اثنين خلفهما بهما. وإن كن ثلاثا ووقفن في الصف أفسدت صلاة(2/352)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خمسة: واحد عن يمينهن، وآخر عن يسارهن، وثلاثة خلفهن، وثلاثة إلى آخر الصفوف. ولو كان صف تام من النساء خلف الإمام ووراءهن صفوف من الرجال فسدت صلاة تلك الصفوف كلها. وفي " الذخيرة " و " المحيط " و " التحرير ": وهذا استحسان، وفي القياس: تفسد صلاة واحد من الرجال خلف النساء للحائل في حق باقي الصفوف.
قلت: هذا استحسان في الاستحسان؛ لأن الفساد في الأصل المحاذاة استحسان، والأصل في الحائل وصف النساء قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من كان بينه وبين الإمام طريق أو نهر أو صف من نساء فليس هو مع الإمام، ذكره في " المحيط و " الذخيرة " وغيرهما، وقال: يرويه كعب بن أبي سليم وهو ضعيف عن تميم وهو مجهول، ورفعه لا أصل له.
وفي " المحلى " لابن حزم عن عمر من كان بينه وبين الإمام نهر أو حائط أو طريق فليس مع الإمام. قال الأسبيجابي: الصف التام من النساء يفسد صلاة من خلفهن ولو كانوا عشرين صفا.
وفي " المفيد " و " المزيد ": ولو كان ألف صف إذا كن في صلاة الإمام، وهو الذي يمنع صحة الاقتداء هو الذي لا يغير إلا بحيلة كالبحر وغيره. وقيل: ما تجري فيه سواء كان فيه ماء أو لم يكن ذكره في " المفيد ". وفي " المختصر " و " البحر المحيط ": السواقي تمنع كالأنهار عند أبي يوسف، ورواية عن أبي حنيفة، وقال محمد: لا يمنع إلا ما تجري فيه السفينة والزورق وهكذا ذكر الحاكم الشهيد في " المنتقى "، قال صاحب " الذخيرة ": وهو الصحيح، وفي " المحيط ": وهو الأصح.
وعن أبي يوسف إن كان يمكن الشمس في بطنه كان عظيما، ومن المشايخ من قال: إذا كان لا يمكن الرجل القوي أن يحاذه بوثبة فهو مانع، ولو كان على عدة صفوف متصلة لا يمنع عند أبي يوسف خلافا لمحمد، وفي الحوض إن وصلت النجاسة إلى الجانب الآخر يمنع، ذكره الإمام أبو نصر الصفار، والطريق العريضة ما تمر به العامة ويمر به الواحد أو الاثنان خاصة، وقيل ما تمر به العجلة وحمل البعير والمحمل.
1 -
فروع أخرى: وفي " المحيط ": إذا كان يصلي في الصحراء وبينه وبين إمامه قدر صفين يمنع وأقل لا، وفي " الذخيرة " عن الفقيه أبي القاسم الصفار: مانع والبعد بينه وبين إمامه في المسجد لا يمنع إذا لم يشتبه حال إمامه عليه، والمصلي بمنزلة المسجد في هذا وفي جوامع الفقيه: البيت والدار ومصلى العيد والجنازة بمنزلة المسجد كذا عن أبي يوسف بخلاف الصحراء.
وقال أبو الحسن علي الصفدي: البيت لها كالمسجد للرجل كما في سجدة التلاوة، وفي " مختصر البحر المحيط ": المسافة التي تمنع الاقتداء في الصحراء تمنعه في البيت.
قال: والأصح أنه يجوز صلاة جماعة في خان القاضي، أو خان السبيل والباب المغلق يجوز الاقتداء، وإن لم تتصل الصفوف، وهو جواب القاضي الحاكم ببخارى، وقيل: لا يجوز به لو(2/353)
ويكره لهن حضور الجماعات يعني الشواب منهن؛ لما فيه من خوف الفتنة،
ولا بأس للعجوز أن تخرج في الفجر والمغرب والعشاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان بينه وبين الإمام حائط تجوز صلاته، قال في " المحيط " و " الذخيرة ": أطلق محمد الجواب في الأصل في الحائط قالوا: هذا إذا كان الحائط قصيرا مثل قامة الرجل لا يمنعه من الوصول إلى الإمام، وإن كان طويلا منع، وإن لم يشتبه عليه حال الإمام كالنهر العظيم والطريق العريضة.
وفي " الذخيرة ": اختلف المشايخ في الفاصل القصير وغيره، فقال أبو طاهر الدباس: القصير ما يصعد عليه بغير كلفة بأن يخطو الرجل خطوة ويضع قدمه عليه. وعن محمد بن سلمة: القصير ما لا يشتبه حال الإمام عليه به. وقال شيخ الإسلام خواهر زاده: القصير حائط المقصورة بحيث لا يمنع المقتدي من الوصول إلى الإمام، وإن [كان] في الطويل ثقب كبير مثل الباب فيصح الاقتداء، وإن كان صغيرا لا يمكنه الوصول إلى مكان الإمام قيل: لا يصح، وقيل: يصح، والباب الكبير إن كان مسدودا قيل: لا يصح الاقتداء به، وبه قال الفقيه أبو بكر الإسكاف، وقيل: يصح وبه قال الفقيه أبو بكر الأعمش، وإن كان الحائط الطويل عليه شباك فمن اعتبر الوصول قال يمنع، ومن اعتبر حال اشتباه الإمام قال: لا يمنع، فإن كان الإمام على الأرض والقوم على سطح المسجد أو العكس، قال: إن كان له منعه يصح وإلا فلا.
وقيل: إن كان لا يشتبه عليهم حال إمامهم يصح وإلا فلا. ويجوز الاقتداء من المأذنة بالإمام وهو المسجد كالسطح، ولو كان على سطح داره بجنب المسجد لا يصح. قال في " المحيط ": وهو الصحيح.
وفي " الذخيرة ": قال الحلوائي: يجوز كما لو صلى بمنزله تحت المسجد وهو يسمع التكبير من الإمام أو المكبر.
وقال القاضي علاء الدين في " شرح المختلفات ": لا يجوز، ولو قام على رأس الحائط الذي هو المسجد ومنزله قالوا: يجوز؛ لأنه لا حائل هناك، وفي فناء المسجد لا يشترط اتصال الصفوف ولا يلي المسجد؛ لأنه في حكم المسجد، وإليه أشار محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في السفينتين المتلاصقتين يشترط اتصال الصفوف.
[حضور النساء للجماعات]
م: (قال: ويكره لهن حضور الجماعات) ش: أي يكره للنساء م: (يعني الشواب منهن) ش: وهي جمع شابة، وهذه اللفظة بإطلاقها تتناول الجُمَع والأعياد والكسوف والاستسقاء. وعن الشافعي: يباح لهن الخروج م: (لما فيه) ش: أي في حضورهن الجماعة م: (من خوف الفتنة) ش: عليهن من الفساق، وخروجهن سبب للحرام وما يفضي إلى الحرام فحرام. وذكر في كتاب الصلوات مكان الكراهة الإساءة والكراهة فحش.
قلت: المراد من الكراهة التحريم ولا سيما في هذا الزمان لفساد أهله.
م: (ولا بأس للعجوز أن تخرج في الفجر والمغرب والعشاء) ش: لحصول الأمن، وفي المغرب اختلاف الروايات، وفي " المنظومة ": ألحق المغرب بالعشاء كما ذكره المصنف والمبسوط لشمس(2/354)
وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: يخرجن في الصلوات كلها؛ لأنه لا فتنة لقلة الرغبة إليها فلا يكره كما في العيد، وله أن فرط الشبق حامل؛ فتقع الفتنة، غير أن الفساق انتشارهم في الظهر والعصر والجمعة، أما في الفجر والعشاء فهم نائمون، وفي المغرب بالطعام مشغولون، والجبانة متسعة فيمكنها الاعتزال عن الرجال فلا يكره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأئمة.
وفي " المختلف ": والعصر ألحق المغرب بالظهر كما في " مبسوط " شيخ الإسلام، ويحتمل أن ذلك بناء أن المغرب تنتشر فيه الفسقة أيضا كالعصر في بعض البلاد، قيل: هذا كله في زمانهم، أما في زماننا فيكره خروج النساء إلى الجماعة لغلبة الفسق والفساد، فإذا كره خروجهن للصلاة فلأن يكره حضورهن مجالس العلم خصوصا عند هؤلاء الجهال الذين تحلوا بحلية أهل العلم.
م: (وهذا عند أبي حنيفة) ش: أي هذا الذي ذكرنا عند أبي حنيفة م: (وقالا: يخرجن في الصلوات كلها) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد: العجائز تخرجن في جميع الصلوات م: (لأنه لا فتنة لقلة الرغبة إليها) ش: أي لقلة رغبة الرجال فيهن، كذا علل في بعض الشروح، وفيه نظر؛ لأن الحريص منهم من يرغب في العجائز فيصير خروجهن سببا للوقوع في الفتنة.
م: (فلا يكره) ش: نتيجة ما قيل يعني فإذا أمن من الفتنة فلا يكره م: (كما في العيد) ش: أي لا يكره خروجهن في العيد وهذا مجمع عليه.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن فرط الشبق) ش: بفتح الباء وهو شدة الغلبة من شبق الفحل بالكسر إذا اشتدت عليه، والفرط بالتسكين مجاوزة الحد م: (حامل) ش: أي على الفتنة م (فتقع الفتنة) ش: بسبب غلبان الشهوة، فعند ذلك يمنعن من الخروج إلى جميع الصلوات نظرا إلى ذلك.
م: (غير أن الفساق انتشارهم في الظهر والعصر والجمعة) ش: فلا يحصل إلا في هذه الأوقات؛ لأن الحريص منهم يرغب العجائز، وفيهن من يرغب بلا خلاف.
م: (أما في الفجر والعشاء فهم نائمون، وفي المغرب بالطعام مشغولون) ش: فيحصل الأمن منهم م: (والجبانة متسعة) ش: جواب عن قياسهما بقولهما كما في العيد والجبانة بتشديد الباء الموحدة بعد الجيم م: (فيمكنها الاعتزال عن الرجال) ش: لاتصال الجبانة ولغلبة أهل الصلح يومئذ م: (فلا يكره) ش: نتيجة ما قبله، وتكلموا أن حضورهن للصلاة أو لتكثير الجمع، فروى الحسن عن أبي حنيفة أن خروجهن للصلاة يقمن في آخر الصفوف فيصلين من وراء الرجال؛ لأنهن من أهل الجماعة تبعا للرجل، وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أن خروجهن لتكثير العراء ويقمن في ناحية ولا يصلين؛ لأنه قد صح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الحيض بذلك فإنهن ليس من أهل الصلاة.(2/355)
قال: ولا يصلي الطاهر خلف من هو في معنى المستحاضة ولا الطاهرة خلف المستحاضة؛ لأن الصحيح أقوى حالا من المعذور، والشيء لا يتضمن ما هو فوقه، والإمام ضامن بمعنى؛ أنه تضمن صلاته صلاة المقتدي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن» . رواه الجماعة إلا ابن ماجه.
قلت: هذا محمول على العجائز، ويؤيده ما رواه البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن ابن مسعود «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى النساء عن الخروج إلا عجوزا في منقليها» .
والأصح أنه موقوف عليه، والمنقلان الحقان بفتح الميم وهو الأشهر وبكسرها أيضا، وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يحبس النساء إلا يوم الجمعة ويخرجن من المسجد، وقال أبو عمرو الشيباني: ابن مسعود حلف فبالغ في اليمين ما صلت امرأة أحب إلى الله من صلاتها في بيتها إلا في حج أو عمرة إلا امرأة قد يئست من بعولتها، وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن» رواه أحمد.
[صلاة الصحيح خلف صاحب العذر]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ولا يصلي الطاهر خلف من هو في معنى المستحاضة) ش: أراد به من به سلس البول والرعاف الدائم والجرح الذي لا يرقأ، ومن به استطلاق بطن وانفلات الريح، يعني لا يجوز اقتداء الطاهر بواحد من هؤلاء. م: (ولا الطاهرة خلف المستحاضة) ش: أي: ولا تصلي النساء الطاهرات خلف المستحاضة وهي التي يمضي عليها وقت صلاة إلا والحدث الذي ابتليت به يوجد فيه. م: (لأن الصحيح أقوى حالا من المعذور) ش: فلا يجوز اقتداء الصحيح به؛ لأنه بناء القوي على الضعيف، وهو لا يجوز، وللشافعي في صلاة الطاهر خلف المستحاضة وجهان، والصحيح: أنه لا يجوز كالمتوضئ خلف المتيمم، والغاسل خلف الماسح، وبه قال زفر خلف كل معذور؛ لأنه آت بما هو مأمور به. والثاني: لا يجوز؛ لأن طهارتها ضرورة ولا ضرورة في الاقتداء.
م: (والشيء لا يتضمن ما هو فوقه) ش: وإنما قلنا أنها تتضمن؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «والإمام ضامن» ش: والضمان ليس في الذمة، فإن صلاة المقتدي لا تصير في ذمته فثبت معناه أن صلاة الإمام في ضمنه صلاة المقتدي وإليه أشار بقوله م: (بمعنى أنه تضمن صلاته صلاة المقتدي) ش: هذا معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإمام ضامن» ومن المعلوم أن صلاة القوم ليست في ذمة الإمام كما ذكرنا، فيكون معنى ضامن لصلاته لتبعية صلاتهم صحة وفسادا، والتضمن إنما يتحقق إذا كان التضمن مثله أو فوقه، أما إذا كان دونه فلا.(2/356)
ولا يصلي القارئ خلف الأمي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال تاج الشريعة: قوله: ضامن، من ضمن الشيء يضمنه إذا جعله تحت ضمنه أي كشحه ووقع ثقله عليه.
قلت: الضبين بكسر الضاد المعجمة وسكون الباء الموحدة. قال الجوهري: ما بين الإبط والكشح وأول الحمل الإبط ثم الضبين ثم الحص.
[صلاة القارئ خلف الأمي]
م: (ولا يصلي القارئ خلف الأمي) ش: وللشافعي فيه قولان منصوصان، وثالث مخرج أصحهما الجديد أنه لا يصح، وفي القديم يصح في السرية دون الجهرية، وفي المخرج: يصح مطلقا، وشذ صاحب " الحاوي "، فقال الأقوال الثلاثة إذا كان جاهلا فإن علم لا يصح قطعا، والمذهب ما قدمناه، والصحيح بطلان الاقتداء وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهم واختاره المزني وأبو ثور وابن المنذر وصححه مطلقا، وهو مذهب عطاء وقتادة، والأمي عندهم هو الذي لا يحفظ الفاتحة بكمالها، ولو حفظ جميع القرآن حتى الفاتحة إلا تشديدة منها أمي عندهم، وهذا بعيد من اللغة والعرب، وفي " المغرب ": الأمي في اللغة منسوب إلى أمه من العرب، وهي لم تكتب ولم تقرأ فاستقر لكل من لا يعرف الكتابة ولا القراءة، ومن يعرف الكتابة ويحفظ جميع القرآن إلا حرفا من الفاتحة. فكيف يكون أميا والأمي عندنا من لا يحفظ من القرآن ما تصح به صلاته.
وقال تاج الشريعة: الأمي هنا من لا يحسن قراءة شيء من القرآن، منسوب إلى الأم أي هو كما ولدته أمه، وهو في التنزيل والحديث ولسان العرب من لا يحسن التحفظ، وإذا عرف ذلك فمن أحسن قراءة آية من القرآن أن لا يكون أميا حتى يجوز اقتداء من يحفظ التنزيل عند أبي حنيفة وعند ذلك حكم من يحسن ثلاث آيات قصار أو آية طويلة؛ لأن فرض القراءة إنما تقام بهذا القدر، وما رواه فصل في بابه، فقال صاحب " الدراية ": الأمي عند الشافعي من لا يحسن القراءة.
وفي " المحيط ": ولا يؤم الأخرس الأمي ذكره الكرخي؛ لأن الأمي يقدر على التحريمة بخلاف الأخرس. وفي " الذخيرة ": لا يجوز لعلمائنا الثلاثة، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلاة أن الأخرس والأمي إذا أرادا الصلاة كان الأمي أولى بالإمامة، فهذا دليل على جواز اقتداء الأمي بالأخرس، والأمي إذا أم الأخرس فصلاتهما جائزة بلا خلاف.
وفي " جوامع الفقه " وغيره: إذا قرأ في الأوليين ثم خرس أو صار أميا فسدت صلاة القوم وأتم هو صلاته، ولو اقتدى الأمي بالقارئ فعلم سورة في وسط الصلاة قال الفضل: لا تفسد صلاته، وقال غيره: تفسد، وعن أبي يوسف: من يجن ويفيق لا يجوز إمامته في حال إفاقته إذا كان أكثر حاله الغيبة.(2/357)
ولا المكتسي خلف العاري؛ لقوة حالهما
ويجوز أن يؤم المتيمم المتوضئين وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز؛ لأنه طهارة ضرورية، والطهارة بالماء أصلية، ولهما أنه طهارة مطلقة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[صلاة المكتسي خلف العاري]
م: (ولا المكتسي خلف العاري) ش: أي لا يصلي من عليه الثوب خلف العريان ولو قال: ولا المستور العورة خلف العاري لكان أجود؛ لأن من ستر عورته بالسراويل وغيرها يسمى عاريا في العرف هكذا ذكره المصنف في كفارة اليمين وفي " جوامع الفقه " لا يصح اقتداء الصحيح الذي ثوبه نجسة بالمبتلى بالحدث الدائم م: (لقوة حالهما) ش: أي لقوة حال القارئ والمكتسي وهذا ظاهر، ولا تظن أن الضمير يرجع إلى المكتسي والعاري، لفساد المعنى والمراد بقوة الحال الاشتمال على ما لم تشتمل عليه صلاة الإمام مما تتوقف عليه الصلاة، ثم في كل موضع لا يجوز الاقتداء هل يكون شارعا في صلاة نفسه، في رواية باب الحدث لا يكون شارعا، وكذا في روايات الزيادات حتى لو ضحك قهقهة لا تنتقض طهارته، وفي رواية باب الأذان يصير شارعا وقيل: ما ذكر في باب الحدث قول محمد وما ذكر في باب الأذان قولهما بناء على أن فساد التحريمة يوجب فساد التحريمة في قول محمد وعلى قولهما لا يوجب.
وذكر في " المحيط " أن القارئ إذا اقتدى بالأمي قال بعضهم لا يصير شارعا حتى لو كان في التطوع يجب القضاء، والصحيح هو الأول نص عليه محمد في الأصل، وقيل: إنما لا يلزمه القضاء؛ لأن الشروع بمنزلة النذر، ولو نذر المصلي بأن يصلي بغير قراءة لا يلزمه فكذا الشروع.
[إمام المتيمم للمتوضئين]
م: (ويجوز أن يؤم المتيمم المتوضئين وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف) ش: وبه قال جمهور الفقهاء، وحكاه ابن المنذر، عن ابن عباس، وعمار بن ياسر، وجماعة من الصحابة، وعن سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، والزهري، وحماد بن أبي سليمان، والثوري، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور.
م: (وقال محمد: لا يجوز) ش: وبه قال النخعي ويحيى الأنصاري.
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مكروه، وقال الأوزاعي: لا يؤمهم إلا أن يكون أميرا م: (لأنه) ش: أي؛ لأن التيمم م: (طهارة ضرورية) ش: يعني لا يصار إليها إلا عند عدم الماء، ويزول كونها طهارة بوجود الماء كما قال الشافعي أنه طهارة ضرورية مع قيام الحدث؛ ولهذا لا يؤدى به فرضان عنده ولا يعتبر قبل الوقت م: (والطهارة بالماء أصلية) ش: لأنه خلف عن الماء ولا شك أن حال من اشتمل على الطهارة الأصلية أقوى من حال من اشتمل على الطهارة الضرورية.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة، وأبي يوسف م: (أنه) ش: أي أن الماء م: (طهارة مطلقة) ش: أي غير مؤقتة بوقت كطهارة المستحاضة.(2/358)
ولهذا لا يتقدر بقدر الحاجة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهذا لا يتقدر بقدر الحاجة) ش: أي ولكونه طهارة مطلقة لا يتقدر بقدر الحاجة كالتيمم، ولم يذكر المصنف استدلال أصحابنا بالأخبار فنقول: أصبح محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا يؤم المتيمم المتوضئين، ولا المقيد المطلقين، ولم يرو عن أقرانه خلاف ذلك فوجب اتباعه، ولهما «حديث عمرو بن العاص أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعله أميرا على سرية فلما انصرفوا سألهم عن سرية فقالوا: كان حسن السرية، ولكنه صلى بنا يوما وهو جنب فسأله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: احتلمت في ليلة باردة حيث الهلاك إن اغتسلت فقرأت قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] (البقرة: الآية 159) ، فتيممت وصليت بهم فتبسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -.
وقال مالك: من فقه عمرو بن العاص، ولم يأمرهم بإعادة الصلاة، رواه أبو داود وبغير هذا اللفظ، وقال في آخره: فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقل شيئا، ورواه البخاري تعليقا.
والجواب عما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أراد به نفي الفضيلة والكمال بدليل عطف المقيد عليه، وهناك المراد في الفضيلة بالاتفاق، وفي الحقيقة هذا الخلاف بناء على ما ذكر في الأصول، وهو أن التراب خلف عن الماء على قولهما، وعنده التيمم خلف عن الوضوء فيكون المتيمم صاحب الخلف والمتوضئ صاحب الأصل عنده فلا يؤمه، وعندهما لما كان التراب خلفا عن الماء في حصول الطهارة فعند حصول الطهارة كان شرط الصلاة موجودا في حق كل واحد منهما بكماله بمنزلة الماسح يؤم الغاسلين.
فإن قلت: يرد إشكال على أصل كل واحد منهما بمسألة انقطاع الرجعة، فإن محمدا جعل التيمم هنا طهارة ضرورية، وفي باب الرجعة طهارة مطلقة حتى تنقطع الرجعة بمجرد التيمم من غير أن تصلي، وهما جعلاه قطعا هاهنا وضرورة هناك حتى قالا: لا تنقطع الرجعة بمجرد التيمم فيلزمه التناقض.
قلت: لا تناقض أصلا فإنهم اتفقوا على أن التيمم طهارة ضرورية؛ لأنه لا يصار إليه إلا عند العجز ومطلقة باتفاقهم؛ لعدم توقيته بوقت غير أن الذي يظن هذا إذا وقف على تعليلهم اندفع ذلك عنه فيما اختارا جهة الضرورة في انقطاع الرجعة إذا انقطع دمها في الحقيقة الثالثة بما دون العشرة، وقالا: لم تنقطع الرجعة الإطلاق في حق الصلاة لدفع الحرج، وفي حق انقطاع الرجعة جهة بمجرد التيمم من غير أن تصلي؛ لأن الشرع لم يذكر كونها طهارة في باب الرجعة وكان المقصود من طهارتها أداء الصلاة فما لم يترتب ما هو المقصود منه لم يكن طهارة بالنسبة إليه، ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد عمل في البابين جميعا بالاحتياط، ففي باب الصلاة القول بعدم(2/359)
ويؤم الماسح الغاسلين؛ لأن الخف مانع سراية الحدث إلى القدم، وما حل بالخف يزيله المسح بخلاف المستحاضة؛ لأن الحدث لم يعتبر شرعا مع قيامه حقيقة. ويصلي القائم خلف القاعد، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز وهو القياس لقوة حال القائم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جواز اقتداء المتوضئ بالمتيمم فخرج عن العهدة على الوجه الأكمل، وفي باب الرجعة القول بالانقطاع؛ لأنه لما انقطعت الرجعة لم يكن لها أن يراجعها ولا يحل له وطؤها وانقطاع الرجعة مما لا يؤخذ فيه بالاحتياط إجماعا، ألا ترى أنه إذا بقيت لمعة من بدنها بعد الاغتسال تنقطع الرجعة عنها احتياطا.
م: (ويؤم الماسح الغاسلين) ش: أي يؤم الماسح على الخف الذين غسلوا أرجلهم وهذا بلا خلاف فيه والمفتصد، والماسح على الجيرة كالماسح على الخف، وقيل لا يجوز، ذكر القولين في " المحيط ".
م: (لأن الخف مانع سراية الحدث إلى القدم) ش: أي؛ لأن خف الماسح يمنع سراية الحدث فيكون هو باقيا على كونه غاسلا م: (وما حل بالخف يزيله المسح) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال إنه باق؛ لأنه على كونه غاسلا؛ لأن الخف قام مقام بشرة القدم، والحدث قد حله، وتقرير الجواب أن الذي قد حل بالخف يزيله المسح؛ ولأن المسح على الخف كغسل الرجل وكلمة ما موصولة ومحلها الرفع على الابتداء وخبره الجملة أعني قوله: يزيله المسح م: (بخلاف المستحاضة) ش: يعني لا يجوز إمامة المستحاضة للطاهرة للضرورة وفي القدم ليس بقائم لمنع الخف سراية الحدث.
[صلاة القائم خلف القاعد]
م: (ويصلي القائم خلف القاعد) ش: عند أبي حنيفة وأبي يوسف، والمراد من القاعد الذي يركع ويسجد أما القاعد الذي يومئ فلا يجوز اقتداء القائم به اتفاقا، وبه قال الشافعي ومالك في رواية استحسانا، وقال أحمد والأوزاعي: يصلون خلفه قعودا وبه قال حماد بن زيد وإسحاق وابن المنذر، وهو المروي عن أربعة من الصحابة وهم جابر بن عبد الله وأبو هريرة وأسيد بن حضير وقيس بن فهر حتى لو صلوا قياما لا يجزئهم، ولكن عند أحمد شرطين:
الأول: أن يكون المريض إمام حي.
الثاني: أن يكون المرض مما يرجى زواله بخلاف الزمانة، واحتجوا على ذلك بحديث أنس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما جعل الإمام» الحديث، وفي آخره: «وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين» رواه البخاري ومسلم.
م: (وقال محمد: لا يجوز) ش: وبه قال مالك في رواية ابن القاسم عنه وزفر - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قياسا، أشار إليه بقوله م: (وهو القياس) ش: أي الذي قال محمد هو القياس م: (لقوة حال القائم)(2/360)
ونحن تركناه بالنص، وهو ما روي: «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صلى آخر صلاته قاعدا والقوم خلفه قيام»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: والقاعد ليس كالقائم فيكون اقتداء كامل الحال بناقص الحال فلا يجوز اقتداء القارئ بالأمي م: (ونحن تركناه بالنص) ش: أي تركنا القياس بالنص.
فإن قلت: ما وجه قوله ونحن تركناه بالنص ولم يقل: قال ونحوه؟
قلت: أشار بهذه العبارة أن هذا مما اختاره فأشرك نفسه مع أبي حنيفة وأبي يوسف م: (وهو) ش: أي النص م: (ما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى آخر صلاته قاعدا، والقوم خلفه قيام» ش: هذا الحديث رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر في مرضه الذي توفي فيه أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يصلي بالناس فلما دخل أبو بكر في الصلاة وجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نفسه خفة فقام يهادى بين رجلين ورجلاه يخطان في الأرض، فجاء فجلس عن يسار أبي بكر فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس جالسا وأبو بكر قائم، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر» . وهذا صريح في أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان الإمام، إذ أجلس عن يسار أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولقوله: «فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس» - ولقوله: «- يقتدي به أبو بكر» - وقال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس وكان أبو بكر مبلغا» - لأنه لا يجوز أن يكون للناس إمامان.
ويدل عليه حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عنه قال: «اشتكى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره» . رواه مسلم بلفظه والبخاري بمعناه، وكانت هذه صلاة الظهر يوم السبت أو الأحد، وتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الاثنين والبيهقي وغيره. وقال الماوردي في " الحاوي " روي أنه توفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يومه.
واعلم أن حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قد روي بطرق كثيرة في " الصحيحين " وغيرهما وفيه اضطراب غير قادح، منهم من ادعى فيه التعارض؛ لأن في رواية شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى خلف أبي بكر،» وروى شعبة أيضا عن نعيم بن أبي هند عن أبي وائل عن مسروق عن عائشة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى خلف أبي بكر جالسا في مرضه الذي توفي فيه» فهذا كله يدل على أن أبا بكر كان إماما.
وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر أن يصلي بالناس» ... الحديث. وفي آخره فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس يصلون بصلاة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وروى أحمد بن يونس، عن زائدة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله قال: «دخلت على(2/361)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عائشة فسألتها عن مرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - ... الحديث، وفي آخره، «فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم يصلي بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قاعد» . وهذا كله يدل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إماما.
وقال البيهقي: لا تعارض بين الخبرين، فإن الصلاة التي كان فيها النبي إماما هي صلاة الظهر يوم السبت أو يوم الأحد والتي كان فيها مأموما هي صلاة الصبح من يوم الاثنين وهي آخر صلاة صلاها - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حتى خرج من الدنيا.
وقال ابن حبان في "صحيحه " بعد أن روى حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - من رواية زائدة عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن عبد الله، عن عائشة بلفظ " الصحيحين "، ثم روى من حديث شعبة عن موسى بن أبي عائشة «أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصف خلفه» هذا شعبة قد خالف زائدة في هذا الخبر وهما ثقتان ثبتان حافظان.
ثم أخرج عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن مسروق عن عائشة قالت: أغمي «على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، الحديث، إلى أن قال: فخرج بين ثويبة وبريرة فأجلساه إلى جنب أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وهو جالس وأبو بكر قائم وهو يصلي بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس يصلون بصلاة أبي بكر» .
ثم أخرج عن نعيم بن أبي هند عن أبي وائل عن مسروق عن عائشة قالت: صلى «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعدا» قال: وعاصم بن أبي النجود ونعيم بن أبي هند حافظان ثقتان.
قال: وأقول وبالله التوفيق: إن هذه الأخبار كلها صحيحة ليس فيها تعارض، فإن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى في مرضه الذي توفي فيه صلاتين في المسجد في إحداهما كان إماما وفي الأخرى كان مأموما، قال: والدليل على ذلك أن في خبر عبيد الله بن عبد الله، عن عائشة أنه خرج - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خرج بين رجلين العباس وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وفي خبر مسروق عنها أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خرج بين بريرة وثويبة، وفي كلام البخاري ما يقتضي الميل إلى أن حديث «إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا» منسوخ، فإنه قال بعد روايته: قال الحميدي هذا حديث منسوخ بأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - آخر ما صلى صلى قاعدا والناس خلفه قيام وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.(2/362)
ويصلي المومئ خلف مثله لاستوائهما في الحال، إلا أن يومئ المؤتم قاعدا والإمام مضطجعا؛ لأن القعود معتبر، فتثبت به القوة.
ولا يصلي الذي يركع ويسجد خلف المومئ؛ لأن حال المتقدي أقوى، وفيه خلاف زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ويصلي المومئ خلف مثله) ش: أي مثله المومئ وهذا لا خلاف فيه م: (لاستوائهما في الحال) ش: أي لاستواء المأمومين في هذه الحالة، وقال التمرتاشي: لو كان الإمام يصلي قاعدا بالإيماء والمقتدي قائما بالإيماء يصح اقتداؤه به أيضا؛ لأن هذا القيام ليس بركن حتى كان الأولى تركه، دل عليه ما لو عجز عن السجود وقدر على غيره من الأفعال أنه يصلي قاعدا بالإيماء فيستوي حاليهما.
م: (إلا أن يومئ المؤتم قاعدا والإمام مضطجعا) ش: هذا استثناء من قوله يصلي: المومئ، أي فحينئذ لا يجوز، وذكر التمرتاشي حكم هذه المسألة على خلاف هذا، فإنه قال: واختلف من يصلي قاعدا مؤمئا، بمن يصلي مضطجعا والأصح أنه يجوز على قول محمد، وكذا الأظهر على قولهما الجواز، وذكر في " المحيط " ما يوافق رواية " الهداية "، ثم ذكر التمرتاشي، وعلى هذا الخلاف اقتداء السليم بالأحدب الذي بلغ حد الركوع.
م: (لأن القعود معتبر فتثبت به القوة) ش: دليله أن صلاة المتطوع مستلقيا بالإيماء مع القدرة على القعود لا يجوز.
م: (ولا يصلي الذي يركع ويسجد خلف المومئ؛ لأن حال المقتدي أقوى) ش: من حال الإمام بقدرته على الركوع والسجود دون الإمام، وحاصله أن حال الراكع والساجد أقوى فلا يجوز بناؤه على الضعيف.
وفي " الذخيرة ": لو صلى الإمام قاعدا بركوع وسجود وصلى خلفه قوم قعودا بالإيماء وقوم قياما بالإيماء فصلاة الكل جائزة؛ لأن صلاة القاعد بالركوع والسجود أقوى من صلاة القاعد والقائم بالإيماء، ولو كان الإمام يصلي قاعدا بالإيماء يجوز أيضا، وإن كان يصلي مستلقيا بالإيماء لا تجوز صلاة القاعد المومئ خلفه لقوة القاعد؛ لأن حال المستلقي دون حال القاعد، ولهذا لا تجوز صلاة المتنفل مستلقيا، ولو كان الإمام صلى قائما بركوع وسجود خلفه مثله وآخرون يصلون قعودا بركوع وسجود وقوم يصلون بالإيماء مستلقين على أقفيتهم فصلاة الكل جائزة.
م: (وفيه خلاف زفر) ش: يعني يجوز عند زفر إمامة المومئ للذي يركع ويسجد؛ لأن صاحب الخلف كصحاب الأصل، ولهذا جازت إمامة المتيمم المتوضئ، وبه قال الشافعي، وقال الماوردي: عجز الإمام عن الأركان لا يمنع من الاقتداء به كالقائم، وفي " المغني " لا يؤم المضطجع والعاجز عن الركوع والسجود لمن يقدر عليهما في قول مالك وأحمد خلافا لزفر والشافعي.(2/363)
ولا يصلي المفترض خلف المتنفل؛ لأن الاقتداء بناء، ووصف الفرضية معدوم في حق الإمام، فلا يتحقق البناء على المعدوم، قال: ولا من يصلي فرضا خلف من يصلي فرضا آخر؛ لأن الاقتداء شركة وموافقة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلنا: في جواب زفر لا نسلم أن الإيماء كالخلف، ولئن سلمنا لكن لا نسلم أنه كان في الحقيقة كالمتيمم؛ لأن التيمم خلف يؤدي به أركان الصلاة، كما شرعت وهذا لا يؤدي به كما شرعت.
[صلاة المفترض خلف المتنفل والعكس]
م: (ولا يصلي المفترض خلف المتنفل) ش: وبه قال مالك في رواية وأحمد في رواية أبي الحارث عنه، وقال ابن قدامة: اختار هذه الرواية أكثر أصحابنا وهو قول الزهري والحسن وسعيد بن المسيب والنخعي وأبي قلابة ويحيى بن سعيد الأنصاري. قال الطحاوي: وبه قال مجاهد وطاوس.
م: (لأن الاقتداء بناء) ش: أي بناء أمر وجودي لأنه عبارة عن متابعة الشخص لآخر في أفعاله بصفاتها وهو مفهوم وجودي لا سلب فيه، وبناء الأمر الوجودي على المعدوم بصفاتها غير متحقق م: (ووصف الفرضية معدوم في حق الإمام) ش: فلا يمكن بناء الموجود على المعدوم م: (فلا يتحقق البناء على المعدوم) ش: لاستحالة ذلك.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ولا من يصلي فرضا خلف من يصلي فرضا آخر) ش: أي ولا يصلي من يريد صلاة فرض مثلا صلاة الظهر خلف من يصلي فرضا آخر نحو من يصلي عصرا أو عشاء م: (لأن الاقتداء شركة) ش: يعني في التحريمة م: (وموافقة) ش: يعني في الأفعال فلا بد من الاتحاد في الشركة والموافقة؛ لأنهما لا يوجدان إلا عند اتحاد ما يحرما له وفعلاه.
فإن قلت: الشركة تقتضي المعية في الاشتراك، والبناء يقتضي التعاقب وبينهما منافاة.
قلت: الاشتراك بالنسبة إلى التحريمة، والبناء بالنسبة إلى الأفعال، فلا منافاة بينهما، وحاصل الأمر أن اتحاد الصلاتين شرط لصحة الاقتداء فلا يصح اقتداء مصلي الظهر بمصلي العصر، وعلى العكس ولا اقتداء من يصلي ظهرا بمن يصلي ظهر يوم آخر، ويجوز اقتداء القاضي بالقاضي إذا فاتتهما صلاة واحدة من يوم واحد كالأداء، ولا يجوز أداء الناذر بالناذر إلا إذا نذر الثاني عين ما نذر الأول لاتحادهما، ولو أفسد كل واحد تطوعه ثم اقتدى أحدهما بالآخر صح كما قبل الإفساد.
ويجوز اقتداء الحالف بالحالف؛ لأن وجوبها عارض لتحقيق البرء فبقيت نفلا، ولا يجوز اقتداء الناذر بالحالف لقوة النذر، ويجوز اقتداء الحالف بالناذر، ولو اقتدى مقلد أبي حنيفة في الوتر مقلد أبي يوسف ومحمد جاز لاتحاد الصلاة.(2/364)
فلا بد من الاتحاد. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصح في جميع ذلك؛ لأن الاقتداء عنه أداء على سبيل الموافقة، وعندنا معنى التضمن مراعى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال المرغيناني: وعندي نظيره من صلى ركعتين من العصر فغربت الشمس فاقتدى به إنسان في الأخيرتين يجوز، وإن كان هذا قضاء في حق المتقدي؛ لأن الصلاة واحدة ثم إذا لم يصح الاقتداء في هذه المسائل عندنا يصير شارعا في التطوع أم لا؟ فيه روايتان.
وقال الصدر الشهيد: الاعتماد على أنه لا يصير شارعا، ولو كان اقتداء المفترض بالمتنفل في فعل واحد. قيل: لا يجوز كما لو كان في جميع الأفعال لأنه بناء الموجود على المعدوم.
وقال بعضهم: لا يجوز في فعل واحد ألا ترى أن محمدا ذكر في الأصل أن الإمام إذا رفع رأسه من الركوع فجاء إنسان واقتدى به فقبل أن يسجد السجدتين سبق الإمام الحدث فاستخلف هذا المسبوق صح الاستخلاف ويأتي الخليفة بالسجدتين ويكونان له نفلا حتى يعتد بهما فرضا في حق من أدرك أولا الصلاة ومع هذا صح الاقتداء به، وكذا يجوز اقتداء المتنفل بالمفترض في الركعتين الأخيرتين وهو اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القراءة، والصحيح الأول الذي عليه عامة الأصحاب.
والجواب عن الأول: بأن السجدتين فرض في حق الخليفة حتى لو لم يأت بهما حتى خرج من صلاته فسدت صلاته وإن لم يعتد له بهما.
وعن الثانية: أن صلاة المقتدي المتنفل أخذت حكم صلاة المفترض بسبب الاقتداء؛ ولهذا لزمه قضاء ما لم يدرك مع الإمام من الشفع الأول، ولذا لو أفسد صلاته يلزم قضاء الأربع فتكون القراءة نفلا في حقه في الركعتين الأخيرتين كما كانت نفلا في حق إمامه، فكان اقتداء المتنفل بالمتنفل في حق القراءة في الأخيرتين.
م: (وعند الشافعي يصح في جميع ذلك) ش: يعني يصح عنده اقتداء الذي يركع ويسجد بالمومئ والمفترض بالمتنفل، واقتداء من يصلي فرضا آخر وبه قال أحمد في رواية، واختاره ابن المنذر وهو قول عطاء وطاووس وسليمان بن حرب وداود م: (لأن الاقتداء عنده) ش: أي عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أداء على سبيل الموافقة) ش: وقد حصل التوافق في الأفعال فجاز.
م: (وعندنا معنى التضمن مراعى) ش: يعني التضمن الذي دل عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإمام ضامن» مراعى عندنا وهو الصحة والفساد، وإنما تصير صلاتهم في ضمن صلاته صحة وفسادا إذ تبنى صلاتهم على صلاته، والابتناء لا يصح ما لم يكن أصل الفرض بحيث يمكن الإمام أداء ما على المقتدي بتحريمه أداء صلاته صح أداء المقتدي بناء على صلاته فيراعى الاتحاد بين صلاتهم وصلاته، فلا يحصل مراعاة الاتحاد مع تغاير الفرضين؛ ولهذا لا يجوز اقتداء مصلي الظهر خلف من يصلي الجمعة أو على العكس.(2/365)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: روى البخاري ومسلم عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن معاذا كان يصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء الآخرة ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة» هذا لفظ مسلم ولفظ البخاري فيصلي بهم الصلاة المكتوبة.
قلت: الجواب عنه من وجوه:
الأول: أن الاحتجاج من باب ترك الإنكار من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشرط ذلك علمه بالواقعة وجاز أن لا يكون علم بها، ويدل عليه ما رواه أحمد في "مسنده " عن معاذ بن رفاعة «عن سليم رجل من بني سلمة أنه أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله إن معاذ بن جبل يأتينا بعدما ننام ونكون في أعمالنا بالنهار فينادي بالصلاة فنخرج عليه فيطول علينا فقال له - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "يا معاذ لا تكن فتانا إما أن تصلي معي وإما أن تخفف على قومك» "، فدل على أنه كان يفعل أحد الأمرين، ولم يكن يجمعهما بأنه قال: «إما أن تصلي معي» أي ولا تصلي بقومك، «وإما أن تخفف على قومك» ولا تصلي معنا.
الثاني: أن النية أمر مبطن لا يطلع عليه إلا بإخبار الباري، ومن الجائز أن يكون معاذ كان يجعل صلاته معه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بنية النفل ليتعلم سنة القراءة منه وأفعال الصلاة، ثم يأتي قومه فيصلي بهم الفرض ويؤيده أيضا حديث أحمد المذكور.
فإن قلت: معاذ إن ترك فضيلة الفرض خلف النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ويأتي به مع قومه وكيف يظن معاذ بعد سماعه قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» ولعل الصلاة الواحدة مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير من كل صلاة صلاها في عمره، وأيضا وقع في رواية الشافعي، ومن طريقه روى الدارقطني ثم البيهقي «هي له تطوع ولهم فريضة» رواه الشافعي في "مسنده ".
قلت: قال الشيخ تقي الدين: يمكن أن يقال في الحديث المذكور: إن مفهومه أن لا يصلي نافلة غير الصلاة التي تقام؛ لأن المحذور وقوع الخلاف على الأئمة، وهذا المحذور سبق مع الاتفاق في الصلاة المقامة، ويؤيد هذا اتفاقهم على جواز اقتداء المتنفل بالمفترض، ولو تناوله النهي لما جاز مطلقا.
وقولهم: وكيف يظن بمعاذ إلخ غير موجه؛ لأنه ليس تفوته الفضيلة معه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سائر أئمة مساجد المدينة وفضيلة النافلة خلفه مع أداء الفرض مع قومه تقوم مقام أداء الفريضة خلفه وامتثال أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إمامة قومه زيادة طاعة.(2/366)
ويصلي المتنفل خلف المفترض؛ لأن الحاجة في حقه إلى أصل الصلاة، وهو موجود في حق الإمام، فيتحقق البناء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما الزيادة في رواية الشافعي فليس من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما هي من الرواة، ولعلها من الشافعي فإنها دائرة عليه، ولا يعرف إلا من جهته فيكون منه ظنا واجتهادا.
وعن ابن قدامة وابن تيمية الحراني من الحنابلة: أن أحمد قد ضعف هذه الزيادة، فقال: وقد سئل عن حديث معاذ: أخشى أن لا يكون محفوظا؛ لأن ابن عيينة زاد فيه كلاما لا يقوله أحد. قال في " المغني " عنه: وقد روى الحديث منصور بن زاذان وشعبة، ولم يقولا ما قال ابن عيينة يعني زيادته هي له تطوع ولهم فريضة.
الثالث: أنه منسوخ، قال الطحاوي: يحتمل أن يكون ذلك وقت كانت الفريضة تصلى مرتين، فإن ذلك كان يفعل في أول الإسلام، ثم ذكر حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لا تصلى صلاة في يوم مرتين» وقال ابن دقيق العيد: هذا مدخول من وجهين:
أحدهما: أنه أثبت النسخ بالاحتمال.
الثاني: أنه لم يقم دليل على أن ذكره كان واقعا أعني صلاة الفريضة في يوم مرتين.
قلت: الاحتمال إذا كان ثابتا عن الدليل يعمل به، وقد ذكر الطحاوي بإسناده أنهم كانوا يصلون الفريضة الواحدة في اليوم مرتين حتى نهوا عنه وكذا ذكره المهلب، والنهي لا يكون إلا بعد الإباحة، والدليل عليه أن إسلام معاذ متقدم، وقد صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد سنين من الهجرة صلاة الخوف مرة فلو جاز ما ذكروه لما يحملها مع المعدات، فلو جاز اقتداء المفترض بالمتنفل يصلي بهم الصلاة مرتين فيصلي بالطائفة الأولى صلاة كاملة فلما لم يصل دل على عدم جواز اقتداء المفترض بالمتنفل.
الرابع: يحتمل أنه يكون كان يصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة النهار ومع قومه صلاة الليل؛ لأنهم كانوا أهل خدمة لا يحضرون صلاة النهار في إسناد لهم، فأخبر الراوي بحال معاذ في وقتين لا في وقت واحد.
م: (ويصلي المتنفل خلف المفترض) ش: وهذا بالاتفاق، وفي شرح " العمدة " وفيهم من لا يجوز ذلك لاختلاف النية م: (لأن الحاجة في حقه إلى أصل الصلاة) ش: أي في حق المتنفل المقتدي، وذلك أن المفترض يشتمل على أصل الصلاة والصفة، والمتنفل مشتمل على أصل الصلاة، ففي هذه الصورة تشتمل صلاة الإمام على صلاة المقتدي وزيادة فيصح اقتداؤه به.
م: (وهو موجود) ش: أي أصل الصلاة موجود م: (في حق الإمام) ش: لأنه مفترض م: (فيتحقق البناء) ش: أي بناء صلاة المتنفل على صلاة المفترض، وتفسير البناء أن تجعل التحريمتان(2/367)
ومن اقتدى بإمام ثم علم أن إمامه محدث أعاد لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أمّ قوما ثم ظهر أنه كان محدثا أو جنبا أعاد صلاته وأعادوا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تحريمة واحدة، وقال مالك والزهري: لا يجوز اقتداء المتنفل بالمفترض؛ لأن الاقتداء شركة وموافقة، والمغايرة بين النفل والفرض ثابتة، ويرد ذلك بحديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فإن قلت: صفة النفل موجودة في حق المقتدي، ومعدومة في حق الإمام فيثبت التغاير فلا يجوز الاقتداء.
قلت: تلك ليست بصفة زائدة هل هي عبارة عن عدم الوجوب فبقي أصل الصلاة وهو موجود في حق الإمام فيثبت الاتحاد، فيجوز الاقتداء أو يفهم هذا الجواب عن السؤال المذكور من أمعن نظره في كلام المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
فإن قلت: القراءة فرض في صلاة النفل والأخيرتين نفل في صلاة الفرض فيكون اقتداء المفترض وذا لا يجوز
قلت: القراءة في الأخيرتين في النفل إنما يكون فرضا إذا كان المصلي منفردا، أما إذا كان مقتديا فلا لأنه ممنوع من ذلك.
[اقتدى بإمام ثم علم أن إمامه محدث]
م: (ومن اقتدى بإمام ثم علم أن إمامه محدث أعاد) ش: أي أعاد صلاته، قيد بالعلم بعد الاقتداء، لأنه لو علم أن إمامه محدث قبل الاقتداء لا يصح اقتداؤه بالإجماع.
وقال النووي: اجتمعت الأئمة على أن من صلى محدثا مع إمكان الوضوء فصلاته باطلة وتجب عليه الإعادة بالإجماع، سواء تعمد ذلك أو نسيه أو جهله على المذهب، وفي " الوسيط " النجاسة مثله في الجديد فلا يعذر؛ لأنه شرط وإن بان إمامه مشركا أو مجنونا أو صلى بغير إحرام أو امرأة أو خنثى أو صلى القارئ خلف الأمي أعاد عند الشافعي وبه قال أحمد، وإن بان أنه محدث أو جنب أو في ثوبه نجاسة خفيفة أو ببدنه لا يعيد، وإن تعمد الإمام ذلك ففي الإعادة قولان عند الشافعي، وفي الجنابة يعيد عندهم، وعند مالك إن كان عالما بجنابته يعيد وإلا فلا.
وقال أبو ثور والمزني: في الكل لا يعيد إذا لم يعلم، وقال عطاء: إن كان حدثه جنابة بطلت صلاة المأموم، وإن كان غيره أعاد في الوقت وبعده لا.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من أم قوما ثم ظهر أنه كان محدثا أو جنبا أعاد صلاته وأعادوا» ش: هذا الحديث لا يعرف ولكن جاءت فيه الآثار، وروى محمد بن الحسن في كتابه " الآثار " أخبرنا إبراهيم بن يزيد المكي عن عثمان بن دينار أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في الرجل يصلي بالقوم جنبا قال: يعيد ويعيدون.
ورواه عبد الرزاق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في "مصنفه " عن إبراهيم بن يزيد المكي عن عمرو بن(2/368)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دينار عن أبي جعفر أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى بالناس وهو جنب أو محدث على غير وضوء فأعادوا وأمرهم أن يعيدوا.
وروى عبد الرزاق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخبرنا حسين بن وهران عن مطرح عن أبي المهلب عن عبد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: صلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالناس وهو جنب فأعاد ولم يعد الناس فقال له علي: قد كان ينبغي من صلى معك أن يعيد، وقال: فرجعوا إلى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولو احتج المصنف بما رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين» .
لكان أولى وأوجه لأنه يخبر أن ضمان الإمام في الجواز والفساد، بيانه أنه لم يرد أنه ضامن لنفسه؛ لأن كل مصل ضامن بصلاة نفسه فتعين أن يكون الإمام ضامنا للقوم، ولا يجوز أن يكون ضامنا للقوم وجوبا وأداء؛ لأنه غير مراد بالإجماع فتعين أن يكون صحة وفسادا.
فإن قلت: في سنده اضطراب.
قلت: رواه أحمد في "مسنده " حدثنا قتيبة حدثنا عبد العزيز بن محمد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا وهذا سند صحيح. وقال في " التنقيح ": رواه مسلم في "صحيحه " بهذا الإسناد نحوا من أربعة عشر حديثا.
فإن قلت: الخصم احتج بما رواه أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته فكبر وكبرنا معه ثم أشار إلى القوم أن امكثوا كما أنتم، فلم نزل قياما حتى أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد اغتسل ورأسه تقطر ماء فصلى بهم» ولو لم تكن صلاتهم منعقدة لم يكلف استدامة القيام مع قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقوموا في الصف حتى تروني خرجت» فدل على أن عدم طهارة الإمام لا تمنع انعقاد صلاة المقتدي الذي لم يعلم بحال الإمام.
قلت: هذا كان في بدء الأمر قبل تعلق القوم بصلاة الإمام، ألا ترى أن في هذا الحديث جاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكبر ولم يأمرهم بإعادة التكبير فيكون القوم مصلين بصلاة بتكبيرة قبل تكبير الإمام، وهذا لا يصح بلا إشكال؛ ولأن ابن سيرين ذكر هذه القصة، وذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أومأ إليهم أن اقعدوا، ولو انعقدت صلاتهم لم يأمرهم بالقعود، ولم يحتمل أن الأمر بالمكث كي لا يتفرقوا(2/369)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حتى يجيء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والحديث حكاية حال لا عموم له، فلا يجوز ترك القياس بمثله.
فإن قلت: يرد عليكم مسألة الترتيب والقهقهة حيث علمتم بهما بخلاف القياس.
قلت: هذه حكاية قول وليس بحكاية فعل فيصح العموم فيه؛ لأن العموم من أوصاف اللفظ.
فإن قلت: هو منسوب إلى التفريط بهذا الإتمام: دليله ما لو ارتد الإمام بعدما صلى.
قلت: يشكل هذا بما لو ظهر أنه كافر أو امرأة حيث لا يصح، وإن هو غير منسوب إليه هناك أيضا.
وفي " المجتبى " أم قوما مدة، ثم قال: صليت بغير طهارة أو مع العلم بالنجاسة المانعة أو قال: كنت مجوسيا لا يلزمهم الإعادة لأنه صرح بكفره وقول الفاسق غير مقبول في الديانات.
واستدل الأترازي في المسألة المذكورة: بما روي عن سعيد بن المسيب «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالناس فأعاد وأعادوا» .
قلت: العجب منه مع دعواه الفرضية يستدل بحديث ضعيف ومرسل، ورواه الدارقطني والبيهقي عن أبي جابر البياضي عن سعيد بن المسيب به.
وقال البيهقي: أبو جابر البياضي متروك الحديث، وكان مالك لا يرضى به، وكان ابن معين يرميه بالكذب. وقال الشافعي: من روى عن البياضي بيض الله عينه.
فإن قلت: روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه صلى بالناس وأعاد ولم يأمر القوم بالإعادة.
قلت: لم يتيقن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالجنابة قبل الدخول في الصلاة وإنما أخذ لنفسه بالاحتياط، ويدل عليه ما رواه مالك في " الموطأ " أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج إلى الحرف فنظر فإذا هو قد احتلم وصلى ولم يغتسل، قال: ما أراني إلا قد احتلمت وما شعرت وصليت وما اغتسلت. قال: وغسل ما رأى في ثوبه ونضح ما لم يره وأقام ثم صلى بعد ارتفاع الضحى متمكنا.
وروى الطحاوي بإسناده أن عمر نسي القراءة في صلاة المغرب وأعاد بهم الصلاة لترك القراءة، وفي فساد الصلاة بترك القراءة اختلاف، فإذا صلى جنبا أحرى أن يعيد، وعنه عن طاوس ومجاهد في إمام صلى وهو على غير وضوء أعادوا جميعا.
فإن قلت: روى الدارقطني بإسناده عن البراء بن عازب أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما إمام صلى بالقوم(2/370)
وفيه خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بناء على ما تقدم، ونحن نعتبر معنى التضمن، وذلك في الجواز والفساد
وإذا صلى أمي بقوم يقرءون وبقوم أميين فصلاتهم فاسدة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وقالا: صلاة الإمام ومن لم يقرأ تامة؛ لأنه معذور أم قوما معذورين وغير معذورين، فصار كما إذا أم العاري عراة ولابسين، وله أن الإمام ترك فرض القراءة مع القدرة عليها فتفسد صلاته، وهذا لأنه لو اقتدى بالقارئ تكون قراءته له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو جنب فقد مضت صلاتهم ثم يغتسل هو ثم ليعد صلاته، فإن صلى بغير وضوء فمثل ذلك» ".
قلت: قال أبو الفرج: لا يصح هذا الحديث؛ لأن في طريقه بقية وهو مدلس، وعيسى بن إبراهيم وهو ضعيف وجرير وهو متروك، والضحاك بن مزاحم ضعفه الأكثرون وهو لم يلق البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (وفيه خلاف الشافعي بناء على ما تقدم) ش: أي وفي حكم هذه المسألة خلاف الشافعي بناء على ما تقدم عن قريب، وهو أن الاقتداء عنده على سبيل الموافقة لا بناء على صلاة الغير م: (ونحن نعتبر معنى التضمن) ش: في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإمام ضامن» م: (وذلك) ش: أي معنى التضمن م: (وفي الجواز والفساد) ش: أي لا في الوجوب والأداء وقد قررناه عن قريب.
[إمامة الأمي]
م: (وإذا صلى أمي بقوم يقرءون وبقوم أميين فصلاتهم فاسدة عند أبي حنيفة) ش: قد قررنا الأمي عند قوله: ولا يصلي القارئ خلف الأمي، مع خلاف الشافعي فيه.
م: (وقالا: صلاة الأمي ومن لم يقرأ تامة) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد صلاة الأمي وصلاة من لا يقرأ تامة م: (لأنه معذور) ش: أي؛ لأن الأمي معذور م: (أم قوما معذورين) ش: وهم الأميون م: (وغير معذورين) ش: وهم القارئون م: (فصار) ش: أي فصار حكم هذه المسألة م: (كما إذا أم العاري عراة) ش: جمع عار كقضاة جمع قاض م: (ولابسين) ش: بالنصب عطف على عراة أي وقوما عليهم الثياب، هما قاسا المسألة المذكورة على هذه المسألة، فإن في هذه كان لكل فريق حكم نفسه اعتبار الكل بالبعض، فتصح صلاة العراة فكذلك في تلك المسألة تصح صلاة الأميين. والحاصل أن صلاة من يمثل هذا الإمام تصح، ولا تصح ممن هو أعلى منه.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن الإمام ترك فرض القراءة مع القدرة عليها) ش: أي على القراءة بتقديم القارئ م: (فتفسد صلاته) ش: أي صلاة الإمام ثم بين وجه ذلك بقوله م: (وهذا) ش: أي ترك الإمام فرض القراءة الذي هو موجب لفساد صلاته م: (لأنه) ش: أي؛ لأن هذا الإمام الأمي م: (لو اقتدى بالقارئ تكون قراءته) ش: أي قراءة القارئ م: (قراءة له) ش: أي لهذا الإمام(2/371)
بخلاف تلك المسألة وأمثالها؛ لأن الموجود في حق الإمام لا يكون موجودا في حق المقتدي،
ولو كان يصلي الأمي وحده والقارئ وحده جاز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذلك بالحديث فلما لم يقدمه لزم ترك القراءة مع القدرة، ففسدت صلاته كما لو كان قارئا فلم يقرأ، فإذا فسدت صلاته فسدت صلاة الكل، وعن الشيخ أبي الحسن الكرخي أنه كان يقول القارئ والأمي يتساويان في فرض التحريمة ويختلفان في القراءة، فإذا اقتدى القارئ صحت تحريمته وقد ألزم الإمام تصحيح صلاة المؤتم فصار ملزوما للقراءة التي تصح صلاة المؤتم بها وقد تركناها فتبطل صلاته.
فإن قلت: كيف يلزم فرض القراءة على الأمي وهو غير قادر؟
قلت: يلزمه بالتزامه وإن لم يلزمه الشرع كنذر القراءة.
فإن قلت: لم لا يلزم القضاء على المقتدي إذا أفسد وقد صح شروعه؟.
قلت: لما شرع في صلاة الأمي أوجبها على نفسه بغير قراءة فلم يلزمه القضاء كنذر صلاة بغير قراءة لا يلزمه إلا في رواية أبي يوسف في ظاهر الرواية، لأنه فصل بين العلم وعدمه، وعن الشيخ أبي عبد الله الجرجاني أن صلاة الأمي إنما تفسد عنده إذا علم أن خلفه قارئا، أما إذا لم يعلم فلا على ما يجيء عن قريب.
م: (بخلاف تلك المسألة) ش: أراد بها مسألة إمامة العاري للعراة واللابسين م: (وأمثالها) ش: أي وبخلاف أمثال تلك المسألة كإمامة الجريح بمثله والصحيح، وإمامة المومئ بمثله والقادر على الأركان وإمامة المستحاضة بمثلها والطاهرة م: (لأن الموجود في حق الإمام) ش: في هذه الصورة وهو الجراحة والإيماء والاستحاضة م: (لا يكون موجودا في حق المقتدي) ش: لأن أصحاب هذه الأعذار لا يكونون قادرين على إزالة هذه بتقديم من لا عذر له، بخلاف مسألة إمامة الأمي لأميين والقارئين.
فإن قلت: هذا على أصل أبي حنيفة لا يستقيم؛ لأنه لا يعتبر قدرة الغير حتى لا يوجب الحج والجمعة على الأعمى، وإن وجد قائدا.
قلت: الفرق أن الأعمى لا يقدر على إتيان الحج والجمعة بدون اختيار القائد، وهاهنا قادر على الاقتداء بالقارئ بدون اختيار، ولأبي حنيفة وجه آخر وهو أن افتتاح الكل قد صح؛ لأنه أوان التكبير والأمي قادر عليه فيصح الاقتداء وصار الأمي متحملا فرض القراءة عن القارئ، فإذا جاء أوان القراءة وهو عاجز عن الوفاء بما تحمل فتفسد صلاته، وبفساد صلاته تفسد صلاة القوم بخلاف سائر الأعذار فإنها قائمة عند الافتتاح فلا يصح اقتداء من عذر به ابتداء.
م: (ولو كان يصلي الأمي وحده والقارئ وحده جاز) ش: لأن الأصل أن لا تكون قراءة الإمام(2/372)
هو الصحيح؛ لأنه لم يظهر منهما رغبة في الجماعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قراءة المقتدي إلا أن الشرع جعل قراءة المقتدي إذا اقتدى، فإذا لم يقتد فلا فإذا لا يلزم ترك فرض القراءة فيجوز صلاة الأمي م: (هو الصحيح) ش: احترز به عما روي عن أبي حازم أن قياس قول أبي حنيفة لا تجوز صلاته ثم علل المصنف وجه التصحيح بقوله م: (لأنه) ش: أي؛ لأن الشأن م: (لم يظهر منهما) ش: أي من الأمي والقارئ م: (رغبة في الجماعة) ش: لأنهما لم يرغبا في الجماعة، وصلى كل واحد وحده، لم يعتبر وجوب القارئ في حق الأمي؛ لأن تضمن قراءة الإمام قراءة المقتدي مقصور على الجماعة وحضور من ليس بينه وبين المصلي جامع الاقتداء كلا حضور، والمراد من صلاة الأمي وحده والقارئ وحده أن يكونا في مكان واحد بأن صلى الأمي وحده بجنب القارئ فحينئذ تفسد صلاته، وقيل: لا، وبه قال مالك.
وفي " الذخيرة ": القارئ إذا كان على باب المسجد أو بجوار المسجد والأمي في المسجد يصلي فصلاة الأمي جائزة بلا خلاف، وكذا إذا كان القارئ في غير صلاة الأمي جاز للأمي أن يصلي وحده ولا ينتظر فراغ الإمام.
وفي " المحيط ": ذكر الكرخي في "مختصره" لو اقتدى القارئ بالأمي، ولم ينو إمامته لا تفسد صلاته؛ لأنه يلحقه فساد صلاته من جهة القارئ فلا بد من التزامه كالمرأة، وقيل: تفسد وإن لم ينو إمامته. وفي " المحيط " لو تعلم الأمي سورة في خلال صلاته تفسد صلاته خلافا للشافعي، ولو اقتدى بالقارئ ثم تعلم سورة قيل: لا تفسد، وقيل: تفسد عند عامة المشايخ.
وفي " الذخيرة " ذكر لهذه المسألة في الكتب المشهورة.
فالأول: قاله أبو بكر بن محمد بن الفضل.
والثاني: قاله أبو بكر محمد بن حامد وعامة المشايخ.
وإن كان إماما أو منفردا فتعلم سورة في وسط صلاته لا يبني، وروى هشام عن محمد أنه قال: عامة أصحابنا على أن الأخرس إذا أم الأميين والقارئين فصلاتهم تامة، وقال الفقيه أبو جعفر: لم ير ذلك أبا حنيفة؛ لأنه خالفهم في ذلك القارئ إذا اقتدى بالأمي هل يصير شارعا في الصلاة، ذكر محمد هذا في " الجامع الصغير " وهذا فصل اختلف فيه الأصحاب، قال بعضهم: لا يصير شارعا حتى لو كان في التطوع لا يجب القضاء، وقال بعضهم: يصير شارعا ولم تفسد ويجب قضاء التطوع.
قال في " الذخيرة ": والصحيح هو الأول، وذكر القدوري في "شرحه " أن القارئ إذا دخل في صلاة الأمي متطوعا ثم أفسدها يلزمه القضاء عند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: ولا رواية عن أبي حنيفة، يعني سبقه الحدث فقدم الأمي في الركعتين الأخيرتين. وقال زفر: لا تفسد في هذا الفصل.(2/373)
فإن قرأ الإمام في الأوليين، ثم قدم في الأخريين أميا فسدت صلاتهم، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تفسد لتأدي فرض القراءة. ولنا أن كل ركعة صلاة حقيقة فلا تخلو من القراءة إما تحقيقا أو تقديرا، ولا تقدير في حق الأمي، لانعدام الأهلية، وكذا على هذا لو قدمه في التشهد، جائزة عند الكل. والله تعالى أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن قرأ الإمام في الأوليين ثم قدم في الأخريين أميا فسدت صلاتهم) ش: وكذا روي عن أبي يوسف في غير رواية الأصول. م: (وقال زفر: لا تفسد لتأدي فرض القراءة) ش: يعني أن القراءة فرض في الأوليين وقد تأدى فصار الأمي والقارئ بعده سواء.
م: (ولنا أن كل ركعة صلاة حقيقة فلا تخلو من القراءة إما تحقيقا أو تقديرا) ش: يعنى لا يجوز خلوها من القراءة بالحدث فتشترط فيها القراءة إما حقيقة وإما تقديرا وكلاهما منتف في حق الأمي فصار استخلافه استخلاف من لا يصح للإمامة فأشبه استخلاف الصبي والمرأة ففسدت صلاتهم.
م: (ولا تقدير في حق الأمي لانعدام الأهلية) ش: أي لا يمكن تقدير القراءة في حق الأمي ولا شيء منها موجود في حق الأمي إما حقيقة فظاهر وإما تقديرا فلعدم الأهلية والشيء إنما يقدر إذا أمكن تقديره م: (وكذا على هذا لو قدمه في التشهد) ش: أي وكذا على هذا الاختلاف لو قدم الأمي في التشهد يعني فسدت صلاتهم خلافا لزفر، هذا إذا لم يقعد قدر التشهد، أما إذا قعد قدر التشهد فصحيح بالإجماع كذا ذكر فخر الإسلام؛ لأن هذا من فعله وهو مناف فانقطعت صلاته، وإنما الاختلاف فيما ليس من فعله مثل طلوع الشمس، وقيل تفسد صلاتهم عند أبي حنيفة وعندهما لا تفسد والصحيح هو الأول.
ولو أن القارئ قرأ في الأوليين ثم نسي القراءة في الأخريين وصار أميا فسدت صلاته عند أبي حنيفة ويستقبلها، وعلى قولهما لا تفسد ويبني عليهما استحسانا وهو قول زفر. وفي الأصل: الأمي إذا افتتح صلاته قعد قدر التشهد وسلم ثم تعلم السورة ثم تذكر أن عليه سجود السهو فإنه لا يعيد صلاته.
م: (جائزة عند الكل) ش: يجب أن لا يترك الأمي الاجتهاد إن ليله أو نهاره حتى يعلم مقدار ما تجوز به الصلاة، فإن قصر لم يعذر عند الله تعالى وبه قالت الأئمة الثلاثة، ذكر التمرتاشي ولو حضر الأمي على قارئ يصلي فلم يقتد به وصلى وحده اختلفوا فيه: والأصح أن صلاته فاسدة، نوى الاقتداء بإمام على ظن أنه صلى فإذا هو خليفة جاز، ولو نوى الاقتداء بالأصلي فإذا هو خليفة لم يجز.
وفي " فتاوى الصغرى ": اقتدى بإمام وفي زعمه أنه فلان ثم ظهر أنه غيره يجزئه، وإن اقتدى بفلان بعينه ثم ظهر أنه غيره لا يجزئه، اقتدى مسبوق بمسبوق في قضاء ما سبق لا يجوز،(2/374)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكذا لا يجوز اقتداء اللاحق باللاحق كذا في " الخلاصة "، شك في إتمام وضوء إمامه جاز اقتداؤه به.
اشتركا في نافلة ثم أفسدها صح اقتداء أحدهما بصاحبه وإن لم يشتركا لم يصح شرع في ظهر الإمام متطوعا ثم قطعها واقتدى يصلي ظهر ذلك اليوم جاز.
تكلم الإمام في شفع التراويح، ثم أمهم في ذلك جاز، وكذا لو اقتدى في سنة العشاء بمن يصلي التراويح وفي سنته بعد الظهر بمن يصلي الأربع قبل الظهر صح، ولو صليا الظهر ونوى كل واحد إمامة صاحبه صحت صلاتهما، ولو نويا الاقتداء فسدت.
وفي " الخلاصة " و " الخزانة " أربعة مواضع لا يتابع المقتدي الإمام إذا فعله، لو زاد سجدة في صلاته لا يتابعه، ولو زاد في تكبيرات العيد يتابعه ما لم يخرج عن أقاويل الصحابة، ولو خرج لا يتابعه ولو كبر خمسا في صلاة الجنازة لا يتابعه، ولو قام إلى الخامسة ساهيا بعدما قعد قدر التشهد على الرابعة لا يتابعه، فإن لم يقيد الإمام الخامسة بالسجدة وعاد وسلم سلم المقتدي معه، وإن قيد الإمام الخامسة بالسجدة سلم المقتدي ولا يتابعه، ولو لم يقعد على الرابعة وقام إلى الخامسة ساهيا وتشهد المقتدي وسلم ثم قيد الإمام الخامسة بالسجدة فسدت صلاتهم، وتسعة أشياء إذا لم يفعلها الإمام يفعلها المقتدي إذا لم يرفع يديه عند الافتتاح يرفعهما وركع ولم يكبر يكبر المقتدي ولم يسبح في الركوع والسجود يسبح المقتدي ولم يقل سمع الله لمن حمده يقولها المقتدي ولم يكبر عند الانحطاط يكبر المقتدي ولم يقرأ التشهد يتشهد المقتدي، ولم يسلم يسلم المقتدي، ونسي الإمام تكبيرة التشريق يكبر المقتدي والله تعالى أعلم بالصدق والصواب.(2/375)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وبه أستعين وعليه توكلي وهو حسبي
باب الحدث في الصلاة
ومن سبقه الحدث في الصلاة انصرف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الحدث في الصلاة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وبه أستعين وعليه توكلي وهو حسبي
م: (باب الحدث في الصلاة) ش: أي هذا باب في بيان أحكام الحدث الواقع في الصلاة، وجه المناسبة بين البابين أن الباب الأول في بيان أحكام الإمامة والإمام، ومن جملة الأحكام المتعلقة بالإمام سبق الحدث إياه فنحتاج إلى بيان أحكامه، وأما وجه المناسبة بينه وبين الفصول السابقة، هي أن المذكور فيها أحكام السلامة عن العوارض في الصلاة في حق الإمام والمنفرد والجماعة، والمذكور هاهنا بيان أحكام العوارض العارضة المانعة من المضي في الصلاة والسلامة هي الأصل فلذلك أخر هذا الباب.
م: (ومن سبقه الحدث) ش: كلمة من موصولة تضمنت معنى الشرط والمعنى سبقه بدون اختياره، ويسمى ذلك حدثا سماويا، والحاصل أن الشرط سبق الحدث الخارج من بدنه الموجب للوضوء دون الغسل، ومن غير قصد منه للحدث أو بسببه أو من غيره، ولم يأت بعده بما ينافي الصلاة من توقف في موضع الصلاة أو كلام أو كشف عورة من غير ضرورة أو فعل فعل ينافي الصلاة مما له منه بد، فعلى هذا لا يجوز له البناء فيما إذا انتضح البول عن بدنه أو ثوبه أكثر من قدر الدرهم؛ لأنه ليس من الأحداث، وكذا إذا انتقض وضوءه بالإغماء أو الجنون أو القهقهة؛ لأنها ليست خارجة من البدن، وكذا في الاحتلام، وإن كان خارجا من البدن؛ لأنه موجب للغسل والنص ورد في موجب الوضوء، وكذا في الحدث العمد؛ لأنه قصده والشرط المسبق كما ذكرنا، وكذا إذا كانت به جراحة أو فعل فغمزها بيده فسال منها الدم؛ لأنه وجد منه القصد بسبب الحدث، وكذا فيما إذا رماه إنسان ببندقة أو حجر من السقف فأصابه فسال الدم؛ لأن الحدث منه بسبب غيره.
وعن أبي يوسف يبني في البندقة كالسماوي لعدم صبغه، ولو عثر بحشيش المسجد فأدماه(2/376)
أو تنحنح فخرجت ريح بقوته في الصلاة انصرف
فإن كان إماما استخلف وتوضأ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قيل يبني، وقيل على الاختلاف بينهما وبين أبي يوسف فعنده يبني، ولو عطس فسبقه الحدث من عطاسه.
م: (أو تنحنح فخرجت ريح بقوته) ش: قيل: يبني وقيل لا ولو سقط منها الكرسف بغير فعلها مبلولا بنت في قولهم وبتحريكها بنت عند أبي يوسف وعندهما لا تبني م: (في الصلاة) ش: في محل النصب على الحال م: (انصرف) ش: جواب من، والمعنى من غير توقف بعد سبق الحدث؛ لأنه إذا توقف يصير مؤديا جزء الصلاة مع الحدث فتنقطع صلاته فلا يبني حينئذ وأشار إليه بقوله: انصرف وهو جزاء الشرط والجزاء لا يتراخى عن الشرط، ولو مكث في مكانه قدر ما يؤدي ركنا فسدت صلاته.
وفي (المنتقى) : إن لم ينو بمقامه الصلاة لا يفسد؛ لأنه لم يؤد جزءا من الصلاة بالحدث، وفي جوامع الفقه: إلا إذا أحدث في نومه ومكث حتى انتبه وذهب يبني. وعن محمد: لو ركع وسجد في حال نومه ثم انتبه وذهب جاز له البناء؛ لأن ما أتى به في حال نومه كالعدم، وعن أبي يوسف: لو أحدث في سجوده فرفع رأسه وكبر يريد به إتمام سجوده أو لم ينو شيئا فسدت، وإن أراد الانصراف لا تفسد ولو قرأ ذاهبا إلى الوضوء تفسد وإتيانه لا تفسد، وقيل على العكس والصحيح الفساد فيهما؛ لأن في الأول أدى ركنا مع الحدث، وفي الثاني مع المشي والتسبيح والتهليل لا يمنع البناء في الأصح. وقيل: لو رفع رأسه من الكوع وقال: سمع الله لمن حمده وهو محدث لا يبني.
قال المرغيناني: نص عليه في المنتقى واعلم أن صورة ذهابه إلى الوضوء به يتأخر محدودا بالخفض كذا قاله في مختصر البحر المحيط. وقال صاحب الطراز: يضع يده على أنفه يوهم أنه قد رعف فينقطع عنه الظنون. قال: هو مروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
قلت: ذكره المصنف على ما يأتي عن قريب إن شاء الله تعالى.
م: (فإن كان إماما) ش: تفصيل حكم الذي سبقه الحدث في الصلاة فلذلك ذكره بالفاء، أي فإن كان الذي سبقه الحدث إماما م: (استخلف) ش: خليفة في موضعه، وتفسير الاستخلاف هو أن يأخذه بثوبه ويجره إلى المحراب كذا في الخلاصة ويكون استخلافه بالإشارة، وفي جوامع الفقه يشير لركعة واحدة بإصبع واحدة والسجدة يضع إصبعه على جبهته إن كان واحدا بإصبع واحدة وفي اثنين بأصبعين، وفي سجدة التلاوة يضع أصبعه على جبهته ولسانه، وفي السهو يشير بذلك بعد السلام وبتحويل رأسه يمينا وشمالا، ولو استخلف بالكلام فسدت صلاته وصلاتهم سواء كان عامدا أو ساهيا أو جاهلا، وذكر في الذخيرة للمالكية أن عند مالك إذا استخلف بالكلام يجوز، وقال ابن حبيب: إن استخلف [بالكلام جاهلا أو عمدا تبطل، وإن كان ساهيا(2/377)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فعليه فقط ويقدم من الصف] الذي يليه لقربه ولهذا قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ليليني منكم أولو الأحلام والنهى» . وفي (المفيد) : لو قدم امرأة فسدت صلاته وصلاة القوم. وقال زفر: لا تفسد صلاة المقدمة والنساء، وتفسد صلاة الرجال.
وفي (مختصر البحر) : استخلف محدثا فسدت صلاتهم وفي الجمعة يجوز ويقدم غيره فيصلي بهم. وفي " الأجناس ": لو قدم جنبا أو محدثا أو امرأة فسدت صلاة الكل، ولو استخلف صبيا أو مجنونا أو أخرس أو امرأة أو كافرا فاستخلف أهله غيره لم يجز، ولو استخلف رجلا جاثيا حينئذ وكان كبر قبل سبق حدث الإمام صح وكذا بعده ونوى الاقتداء به، وعند بشر المريسي لا يصح اقتداؤه، ولو قدم الإمام رجلا وتقدم آخر بنفسه أو بتقديم القوم وأتم بكل طائفة فهو والأول سواء، ولو قدم الإمام رجلا والقوم رجلا فالإمام من قدمه الإمام إلا أن ينوي القوم أن يأتموا بالآخر قبل أن ينوي ذلك.
وقال إمام الحرمين: ليس عندي نقل في هذه المسألة، ولعل الأظهر أن المتبع من قدمه القوم [إلا أن ينوي القوم أن يؤموا بآخر قبل أن ينوي ذلك] . وفي " جوامع الفقه ": لو تقدم واحد بنفسه تشترط نية القوم الاقتداء به.
ولو قدمه الإمام أو القوم لا يشترط بذلك. قال المرغيناني: هذا خلاف ما ذكره في الأصل، وفي " الذخيرة ": الإمام المحدث على إمامته ولم يخرج من المسجد فإن استخلف وأقام خليفته مقامه في مكانه ونوى أن يؤم الناس فيها، أو استخلف القوم غيره خرج من إمامته، وفي " جوامع الفقه ": لا يخرج من إمامته، إلا بالخروج من المسجد أو بقيام الخليفة مقامه إن نوى أن يؤم في ذلك المكان أو باستخلاف الناس غيره.
وفي " التحفة ": وإن لم يستخلف وخرج من المسجد تفسد صلاة القوم إذا لم يكن خارج المسجد صفوف متصلة، فإن كانت وخرج ولم يجاوز الصفوف تبطل صلاتهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -. وقال محمد: لا تبطل، قال: والصحيح قولهما وكذا لو استخلف من الصفوف المتصلة الخارجة من المسجد لم يجز عندهما ويجوز عند محمد. وفي " مختصر البحر المحيط ": وفي المسجد يستخلف والكبير والصغير فيه سواء إلا إذا كان مثل جامع المنصور وجامع البيت المقدس، وإذا لم يوجد شيء من ذلك فتوضأ في جانب المسجد والقوم ينتظرون ورجع إلى مكانه وأتم صلاته أجزأهم، وإن لم يستخلفوا حتى خرج الإمام من المسجد بطلت صلاتهم والإمام يتوضأ ويبني؛ لأنه منفرد في حق نفسه. ذكر الطحاوي أن صلاته تفسد أيضا. وفي " جوامع الفقه " في فساد صلاة الإمام روايتان. وفي " المفيد ": في المشهور من الرواية أنها لا تفسد. وذكر أبو عصمت من أصحابنا أنها تفسد والصحيح الأول، ولو لم يكن مع الإمام إلا رجل واحد فهو إمام قدمه أولا.(2/378)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال في " الوبري ": تقدم بنفسه أو لم يتقدم وقام مقام الأول أو لم يقم حتى لو فسدت صلاة الثاني فسدت صلاته لنفسه. قال في " المفيد ": كالإمامة الكبرى إذا لم يكن في العالم من يصلح غيره، ولو اقتدى إنسان بالإمام المحدث قبل خروجه من المسجد صح، وإن كان بعد انصرافه، ثم ينظر إن قدم المحدث خليفة جازت صلاة الداخل ولا تفسد، وإن كان خلفه من لا يصلح للإمامة كالصبي والمرأة والأمي والأخرس إن استخلفه تفسد بلا خلاف كما ذكرنا.
وإن لم يستخلف وخرج من المسجد اختلف المشايخ فيه، ففيل: تفسد، وقيل لا تفسد، وتفسد صلاة المقتدي، وهذا أصح، ولو قدم المحدث واحدا من آخر ثاني الصفوف وخرج من المسجد قبل أن يقوم الثاني مقام الأول، نظر إن نوى الثاني الإمامة من ساعته لا تفسد ويحول الإمام إلى الثاني، وإن لم ينو من ساعته وإنما نوى أن يكون إماما مقام الأول [وخرج الأول من المسجد قبل أن يصلي إلى مقام الأول فسدت صلاة القوم] ؛ لأن الإمامة لم تحول إليه بعد، والأول يبني على صلاته بكل حال، فإن تقدم رجلان [فالسابق إلى مكان الأول متعين] ، فإن بقي إلى مكان الإمام وإن استويا في التقدم واقتدى بعضهم بهذا وبعضهم بذاك فصلاة الذي ائتم به الأكثر صحيحة وصلاة الأقل فاسدة، وعند الاستواء لا يمكن الترجيح وإتمامها بإمامين غير ممكن فتفسد صلاتهم كذا في " الذخيرة ".
وفي " جوامع الفقه ": يقدم كل طائفة رجلا فالعبرة للأكثر وعند الاستواء تفسد. وفي " المبسوط ": يقدم كل فريق رجلا فاقتدوا بأحدهما إلا رجلا أو رجلين اقتديا بالآخر فصلاة الجماعة صحيحة وصلاة الآخرين فاسدة، وإن كانت إحدى الجماعتين أكثر فقد قال بعض أصحابنا: وصلاة الأكثرين صحيحة ويتعين الفساد في حق الآخرين في الواحد والمثنى.
قال: والأصح أنه تفسد صلاة الفريقين، وفي متعرقات الفقيه أبي جعفر إذا ظن الحدث فاستخلف ثم تبين أنه لم يحدث قبل خروجه، وإن كان الخليفة لم يأت بالركوع جازت وإلا فسدت. قال الفقيه: وفي رواية ابن سماعة عن محمد إن قام الخليفة مقام الإمام فسدت صلاتهم، وفي " جوامع الفقه " كبر الخليفة ينوي الاستقبال جازت صلاة من استقبل وفسدت صلاة من لم يستقبل، وتفسد صلاة المتخلف أن يبني على صلاة نفسه.
وسئل أبو نصر عمن استخلف فقدم الخليفة غيره من غير أن يحدث؟ إن قدمه قبل أن يقوم في موضع الإمام الأول في المسجد جاز، ولو اقتدى المقيم بالمسافر خارج الوقت أو المتنفل بالمفترض فأحدث المسافر أو المفترض تفسد صلاتهما؛ لأنهما لا يصلحان لإقامتها، ولو أحدث الإمام والقوم فخرجوا معا تفسد صلاة القوم دون الإمام لخلو مكان الإمام وتفرد الإمام.
ثم أعلم أن الذي سبقه الحدث يتوضأ ثلاثا ثلاثا، قال في " التحفة ": ويستوعب رأسه(2/379)
وبنى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبنى
بالمسح ويتمضمض ويستنشق ويأتي بسائر سنن الوضوء وهو الصحيح. وفي " الحاوي ": عن أبي القاسم أنه يتوضأ مرة مرة ولا يزيد على ذلك وإن زاد فسدت صلاته. وفي " الجوامع " المتيمم للجنابة إذا أحدث فذهب فوجد ما يكفي لوضوئه يبني بخلاف ما إذا وجد ما يكفيه لجنابته. وفي " الذخيرة ": المرأة كالرجل في الوضوء والبناء؛ لأن كلمة "من" تتناول الرجل والمرأة.
وعن أبي يوسف في غير رواية الأصول: إن أمكنها الوضوء من غير كشف عورتها بأن يمكنها غسل ذراعيها في الكمين ومسح مع الخمار بأن كان ذلك رقيقا يصل الماء إلى ما تحت ذلك فكشفتها لا شيء، وإن لم يمكنها بأن كان عليها جبة وخمار ثخينين لا يصل إلى ما تحت ذلك جاز وهو نظر الرجل إذا كشف عورته في الاستنجاء عند مجاوزة النجاسة مخرجها أكثر من قدر الدرهم. وعن إبراهيم بن رستم: لا يجوز للمرأة البناء؛ لأنها عورة. وفي " مختصر البحر المحيط ": لو سبقه الحدث من صلاة الجنازة ينبغي له أن ينبي وفي الاستخلاف خلاف.
م: (وبنى) ش: أي على صلاته ما لم يوجد منه ما ينافي صلاته مما له منه بد كالكلام، والأكل، والشرب، والبول، والتغوط ونحو ذلك. وفي السغناقي يمنع البناء الحدث العمد والإغماء والجنون والقهقهة عمدا أو لا والاحتلام والإمناء، والنظر بشهوة أو تفكر أو النحة أو عضة زنبور أو ظهرت عورته عند الاستنجاء ولو لم يظهر بنى. وروى أبو سليمان أنه يبني مطلقا، وفي " شرح القدوري " لأبي نصير: لا يبني في ظاهر المذهب.
وذكر في " المحيط " عن محمد أنه يستنجي من تحت ثيابه، وروى أبو سليمان أن الاستيفاء من البئر لا يمنع البناء، ولو جاوز الماء فذهب إلى غيره فسدت صلاته. وفي " مختصر عن المحيط ": يبني ولو استفاء بوضوء أو حزز دبره فسدت صلاته.
وفي " المرغيناني ": ما يسقي من البئر ويبني. وقال الكرخي والقدوري: لا يبني. وفي " التحفة ": أنه يبني، ولم يجد خلافا ولو طلب الماء بإشارة أو اشتراه بالتعاطي أو نسي ثوبه في موضع الوضوء فرجع واحدة لا يبني، ولو تذكر أنه لم يمسح برأسه فرجع ومسح يجزئه؛ لأنه لا بد منه. ولو أحدث فأصاب منه ثوبه أو بدنه يغسل ويبني، ولو انتضح عليه من البول أكثر من قدر الدرهم وهو في الصلاة فذهب وغسله لا يبني عندهما، وعند أبي يوسف يبني، وإن كان له ثوبان نزع النجس منهما من ساعته وصلى، وكذا لو وقع ثوبه فأخذه من ساعته فستر عورته تفسد صلاته، وإن سكت عريانا إن عجز عن رفع ثوبه لا تفسد ما لم يؤد ركنا مع الكشف، وإن قدر على رفعه تفسد عندهما خلافا لأبي يوسف.
فإن قلت: ما وجه تخصيص الإمام بالبناء مع جوازه للمقتدي والمنفرد.
قلت: لأنه أعلم بشرائط البناء غالبا من غيره.(2/380)
والقياس أن يستقبل وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لأن الحدث ينافيهما
والمشي والانحراف يفسدها فأشبه الحدث العمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والقياس أن يستقبل) ش: أي صلاته هذه م: (وهو قول الشافعي) ش: أي استقبال الصلاة في هذه الحالة قول الشافعي في الجديد وبه قال مالك في قول وأحمد في رواية، وعن أحمد: أن صلاة المأمومين تبطل، وعنه: لا يستخلف ويتيممون وحدانا، والمسبوق تبطل صلاته، وعنه يتوضأ ويبني.
وفي " المبسوط " كان مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول أولا: يبني ثم رجع وعاب عليه محمد في كتاب الحج لرجوعه من الآثار إلى القياس، وفي " الجواهر " من كتب المالكية أنه يستخلف سواء شرع طاهرأ أو محدثا أو جنبا، وإن صلوا وحدانا بطلت في المشهور.
وقال الزهري في إمام بثوبه دم أو رعف أو سجد للسهو] بالتصرف وليقل أتموا صلاتكم. وروي أن معاوية لما طعن أتم الصلاة وحدانا، وذكر في " النهاية " لإمام الحرمين في باب الجمعة لو أحدث الإمام عامدا أو أخرج نفسه من الصلاة [تفسد أو سبقه] الحدث فالاستخلاف يجزئ في هذه الصورة عندهم مع بطلان صلاة الإمام.
م: (لأن الحدث ينافيهما) ش: أي ينافي الصلاة، والطهارة شرط لبقاء الصلاة كما هي شرط لابتدائها فلا تبقى مع وجود الحدث المنافي لشرطها.
م: (والمشي) ش: إلى الوضوء م: (والانحراف) ش: عن القبلة م: (يفسدها) ش: أي الصلاة لأنهما متنافيان م: (فأشبه الحدث العمد) ش: أي أشبه الحدث السابق وهو الحدث السماوي الحدث العمد، فكما أن في الحدث العمد تبطل الصلاة فكذلك في الحدث السماوي، وهو الذي ذكره وجه القياس الذي أخذ به الشافعي ومن اتبعه، ولم يذكر المصنف له دليلا من الآثار واحتجوا في ذلك بالأحاديث:
منها: ما رواه الأثرم بإسناده عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه كان قائما يصلي بهم فانصرف ثم أتى ورأسه تقطر ماء، فقال: "إني قمت بكم ثم تذكرت أني جنب ولم أغتسل فانصرفت واغتسلت، فمن أصابه منكم مثل الذي أصابني فلينصرف وليغتسل وليستقبل صلاته» .
ومنها: ما رواه مالك في " الموطأ «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى بأصحابه فلما أحرم بالصلاة وذكر أنه جنب فقال لأصحابه: "كما أنتم" ومضى ورجع ورأسه تقطر ماء ولم يستخلف» فدل أن تقدم الجنابة لم تمنع الاقتداء فإنه قال: كما أنتم.
ومنها: ما رواه علي بن طلق عن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «إذا نسي أحدكم في(2/381)
ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صلاته فلينصرف وليتوضأ وليعد صلاته» أخرجه الترمذي وأبو داود، وقال الترمذي: [هذا] حديث حسن ورواه ابن حبان في "صحيحه ". ومنها: ما رواه ابن عباس قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا رعف أحدكم في الصلاة فلينصرف وليغسل عنه الدم ثم ليعد وضوءه وليستقبل صلاته» وأخرجه الطبراني في "معجمه " والدارقطنى في "سننه " وابن عدي في " الكامل ".
والجواب عن هذه الأحاديث: أن حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هو مذهبنا فإنه أمر بالاستقبال فدل أن شروعه فيها لم يصح، ونحن إنما قلنا بالاستخلاف والبناء في الحدث الطارئ السابق دون العمد القارن والجنابة، وأن حديث " الموطأ " يخالفه الصحيح الذي اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم فإنهما رويا بإسنادهما «عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قياما، فخرج إلينا رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فلما قام في مصلاه ولم يشرع في الصلاة وقد تكلم ثم جاء وكبر للشروع في الصلاة» . ومعنى قوله: كما أنتم أي لا تتفرقوا حتى أجيء، ولهذا استقبل وأمرهم بالاستقبال، ويدل عليه ما رواه أبو داود «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قام في مصلاه فانتظرنا أن يكبر فانصرف، فقال: "كما أنتم» فمن المحال أن يصلوا بصلاة رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قبل شروعه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ومن المعلوم بالضرورة أنهم لم يكونوا شرعوا في الصلاة قبل شروعه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وأن حديث علي بن طلق محمول على العمد أو على الأفضلية توفيقا بين الأحاديث على أن ابن القطان [كان يقول] في كتابه: هذا حديث لا يصح فإن فيه مسلم بن سلام الحنفي أبا عبد الملك وهو مجهول الحال. وأن حديث ابن عباس فيه سليمان بن أرقم، وقال أحمد وأبو داود والنسائي وابن معين والبخاري: إنه متروك.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم» ش: هذا الحديث رواه ابن ماجه في "سننه " عن إسماعيل عن [ابن جريج] عن ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف وليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم» ، وأخرجه الدارقطني في "سننه ".(2/382)
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا صلى أحدكم فقاء أو رعف فليضع يده على فمه، وليقدم من لم يسبق بشيء» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال: الحفاظ يروونه عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلا، ثم أخرجه عن عبد الرزاق عن ابن جريج به مرسلا وقال: هذا هو الصحيح.
وقال إمام الحرمين في " النهاية " والغزالي في " الوسيط ": إن هذا الحديث مروي في الكتب الصحاح وهو وهم منهما، وإنما لم يقل به الشافعي؛ لأنه مرسل وابن أبي مليكة لم يلق عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - م: (وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فقاء أو رعف فليضع يده على فمه وليقدم من لم يسبق بشيء» ش: هذا بهذا اللفظ غريب، ولكن أخرج أبو داود وابن ماجه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فأحدث فليأخذ بأنفه ثم لينصرف» .
وأخرج الدارقطني في "سننه " عن عاصم بن ضمرة والحارث عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - موقوفا: [إذا أم القوم فوجد في بطنه رزءا أو رعافا أو قيئا فليضع ثوبه على أنفه وليأخذ بيد رجل من القوم فليقدم] . قوله: رعف، قال المطرزي: رعف أنفه سال رعافه.
قلت: الرعاف هو الدم يخرج من الأنف، ورعف من باب نصر ينصر، وجاء رعف بالضم وهي لغة ضعيفة، وجاء رعف يرعف بالفتح فيهما، ويقال: رعف الفرس يرعف ويرعف بالفتح والضم أي سبق وتقدم واسترعف مثله.
قوله: أو أمذى: أي صار ذا مذي، قوله: وليبن: أمر وأدنى درجاته الإباحة فيثبت شرعية البناء.
فإن قلت" وليتوضأ أمر أيضا، وهو للوجوب فينبغي أن يكون وليبن كذلك.
قلت: لا يضرنا ذلك، لأنه حينئذ يكون أثبت للمدعي.
قوله: من لم يسبق بشيء مفعول وليقدم وأراد به من لم يسبقه حدث مثله، وقد فسره بعضهم بقوله: المراد المسبوق بالصلاة وليس كذلك لأن المسبوق يجوز أن [يكون] يجعل خليفة لمن سبقه الحدث، وقال تاج الشريعة: قوله: من لم يسبق بشيء لبيان الأفضل؛ لأنه أقدر على إتمام الصلاة من المسبوق. قوله: رزءا بكسر الراء وتشديد الزاء وهو في الأصل الصوت الخفي ويريد به القرقرة وقيل: هي غمز الحدث وحركته للخروج.(2/383)
والبلوى فيما سبق، دون ما يتعمده، فلا يلحق به،
والاستئناف أفضل تحرزا عن شبهة الخلاف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرج الطبراني عن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وجد في بطنه رزءا فلينصرف وليتوضأ» وأمره بالوضوء لئلا يدافع أحد الأخبثين وإلا فليس بواجب إن لم يخرج الحدث.
فإن قلتم: استدللتم بحديثين أحدهما مرسل والآخر ضعيف.
قلت: لا يضرنا إرساله؛ لأن المرسل عندنا حجة ويقوي الضعيف بما نقل عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وهو ما أخرجه ابن أبي شيبه في "مصنفه" عن علي بن أبي طالب وأبي بكر الصديق وسلمان وابن عمرو ابن مسعود.
وروي من التابعين عن علقمة، وطاوس، وسالم بن عبد الله، وسعيد بن جبير، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وعطاء، مكحول، وسعيد بن المسيب، وكيف يذهب إلى القياس بترك قول هؤلاء وقولهم فيما لا يدرك بالقياس كالنص في كونه راجحا على القياس حتى قال بعضهم في المسألة إجماع الصحابة، فإنه روي عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والعبادلة الثلاثة، وأنس، وسلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أجمعين - جواز البناء، والمراد إجماع فقهائهم وبقولهم يترك القياس، هذا والنووي اجتهد في هذا وقال: منع البناء المسور بن مخرمة من الصحابة وهو لا يقاوي هؤلاء الأجلاء من الصحابة، والأئمة الكبار من التابعين والرجوع إلى الحق واجب، وروي أيضا مثلما قلنا عن الأوزاعي وابن أبي ليلى وسلمان بن يسار والحسن البصري، وسفيان الثوري، وأبي سلمة بن عبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (والبلوى فيما سبق) ش: هذا جواب عن قول الشافعي فأشبه الحدث العمد، تقريره أن البلوى أي البلية في الحدث يقال: لحصوله بغير فعله فيجعل فيه مقدورا م: (دون ما يتعمده) ش: أي يقصده ويفعله باختياره وليس فيه بلوى فلا يجعل معذورا فلا يجوز القياس لوجود الفارق وهو معنى قوله م: (فلا يلحق به) ش: أي لا يلحق بما يسبق مما يتعمد وهذا في نفس الأمر منع المشابهة ومن قوله: فأشبه الحدث العمد، وكيف يشابه الذي بلا اختيار بالذي باختيار.
م: (والاستئناف أفضل) ش: أي استقبال الصلاة أفضل من البناء م: (تحرزا عن شبهة الخلاف) ش: لأنه أقرب إلى الاحتياط؛ لأن البناء عمل بخبر الواحد والاستئناف بالإجماع، والإجماع أقوى من خبر الواحد كذا قاله بعض الشراح وفيه نظر؛ لأنه قيل: إن البناء إجماع الصحابة، فإن روي عن جماعة كثيرين كما ذكرنا، وبه يترك القياس؛ لأن قولهم فيما لا يدرك بالقياس، كالنص في كونه راجحا على القياس مع أنه مؤيد بالأمر في الحديث المذكور.(2/384)
وقيل: إن المنفرد يستقبل، والإمام والمقتدي يبني صيانة لفضيلة الجماعة، والمنفرد إن شاء أتم في منزله، وإن شاء عاد إلى مكانه،
والمقتدي يعود إلى مكانه، إلا أن يكون إمامه قد فرغ أو لا يكون بينهما حائل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل: إن المنفرد يستقبل) ش: أي الأفضل له ذلك للاحتياط م: (والإمام والمقتدي يبني) ش: يعني الإمام إذا سبقه الحدث يبني على صلاته، والمقتدي أيضا إذا سبقه الحدث يبني م: (صيانة لفضيلة الجماعة) ش: أي حفظا لفضيلة الجماعة، وانتصاب صيانة على التعليل.
م: (والمنفرد إن شاء أتم في منزله) ش: يعني الذي يصلي وحده إذا سبقه الحدث فذهب وتوضأ إن شاء أتم صلاته في منزله وهو الموضع الذي توضأ فيه بعد الانصراف م: [ (وإن شاء عاد إلى مكانه) ] ش: وإنما صار مخيرا بين الأمرين لأنه إذا أتم في منزله صار مؤديا صلاته في مكانه مع قلة المشي، وإن عاد إلى مكانه صار مؤديا لها في مكان واحد مع كثرة المشي فوجد في كل واحد من الأمرين جهة الكراهة وجهة الفضيلة فصار مخيرا.
م: (والمقتدي يعود إلى مكانه) ش: وهو الموضع الذي سبقه الحدث فيه، ولا يجوز له أن يبني في منزله الذي توضأ فيه لوجوب متابعة الإمام. وقال المرغيناني: المقتدي يعود لا محالة إذا لم يفرغ إمامه. وقال الأسبيجاني: يعود إلى موضع يجوز له الاقتداء بإمامه، وقال في " المفيد ": وكذا إذا لم يعلم بفراغ إمامه وإن فرغ يتخير بين العود والإتمام في مسجد آخر.
م: (إلا أن يكون إمامه قد فرغ) ش: هذا مبينا من قوله يعود إلى مكانه أراد أن إمامه إذا فرغ عن الصلاة يجوز له أن يبني في منزله لزوال الداعي. وإذا عاد بعد فراغ الإمام، فعن ابن سماعة: أنه يفسد صلاته بحصول المشي بلا حاجة. واختيار السرخسي وشيخ الإسلام خواهر زاده: لا يفسد صلاته.
فإن قلت: اللاحق في حكم المقتدي فيما يتم من صلاته، فإذا كان بينه وبين الإمام ما يمنع صحة الاقتداء من طريق أو نهر فينبغي أن لا يجوز في بيته.
قلت: هم بمنزلة المقتدي، ولكن الإمام قد خرج من حرمة الصلاة، فلا يراعى ترتيب القيام بينه وبين إمامه، وربما خرج أو أحدث أو نام.
م: (أو لا يكون بينهما حائل) ش: عطف على المستثنى؛ يعني أن المقتدي يعود إلى مكانه إلا إذا فرغ إمامه فحينئذ لا يعود، وإلا إذا لم يكن بين الإمام والمقتدي حائل؛ أي مانع لجواز الاقتداء كالطريق والنهر الكبير فحينئذ لا يعود إلى مكانه، وإن لم يفرغ الإمام عن الصلاة لجواز المتابعة من حيث هو.
فإن قلت: المقتدي إذا عاد إلى مكانه قبل فراغ الإمام كيف يصنع؟ قلت: قال في " شرح الطحاوي ": يشتغل أولا بقضاء ما سبقه الإمام في حالة اشتغاله بالوضوء بغير قراءة؛ لأنه لاحق،(2/385)
ومن ظن أنه أحدث فخرج من المسجد، ثم علم أنه لم يحدث استقبل الصلاة، فإن لم يكن خرج من المسجد يصلي ما بقي، والقياس فيهما الاستقبال، وهو رواية عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لوجود الانصراف من غير عذر، وجه الاستحسان أنه انصرف على قصد الإصلاح، ألا ترى أنه لو تحقق ما توهمه بنى على صلاته، وألحق قصد الإصلاح بحقيقته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويقوم مقدم قيام الإمام ومقدار ركوعه وسجوده، ولو زاد أو نقص فلا يضره ولا يلزمه السهو لأنه لاحق، إلا إذا انتهى إمامه فيتابعه في الموضع الذي سجد إمامه، ثم يقضي آخر صلاته، ولو لم يشتغل بقضاء ما سبق أولا فيتابع الإمام جاز فيقضي ما سبق الإمام بعد تسليم الإمام؛ لأن ترتيب أفعال الصلاة ليس بشرط عندنا خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[حكم من ظن أنه أحدث فخرج من المسجد ثم علم أنه لم يحدث]
م: (ومن ظن أنه أحدث فخرج من المسجد ثم علم أنه لم يحدث استقبل الصلاة) ش: لأن الانصراف عن القبلة بلا عذر مفسد فيلزمه الاستقبال م: (فإن لم يكن خرج من المسجد يصلي ما بقي) ش: من صلاته؛ لأن السجود وإن تباعدت أطرافه بمنزلة مكان واحد. بدليل صحة الاقتداء وعدم تكرر وجود سجدة التلاوة.
م: (والقياس فيهما الاستقبال) ش: أي فيما إذا خرج من المسجد وفيما إذا لم يخرج م: (وهو) ش: أي القياس م: (رواية عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لوجود الانصراف) ش: أي الانصراف عن الصلاة. وفي " الذخيرة ": أي الانحراف عن القبلة م: (من غير عذر) ش: وهذا وجه القياس. وفي " الجامع الصغير " لقاضي خان: إذا كان يمشي في المسجد ووجهه إلى القبلة بأن كان باب المسجد على حائط القبلة، فأما إذا أعرض عن القبلة فسدت صلاته، وإن كان في المسجد إذ هو انحراف عن القبلة بغير عذر. وفي ظاهر الرواية لم يفصل بينهما إذا مشى في المسجد مستقبل القبلة أو انحرف عن القبلة وإطلاق صاحب الكتاب يحمل على هذا.
م: (وجه الاستحسان أنه انصرف على قصد الإصلاح) ش: أي على قصد إصلاح صلاته لا رفضها م: (ألا ترى) ش: تنبيه على ما ذكره من أن انصرافه على قصد الصلاح م: (أنه) ش: أي أن [الظن] الذي ظن أنه أحدث م: (لو تحقق ما توهمه) ش: من ظن حصوله الحدث م: (يبني على صلاته) ش: ولا يقطعها، والتأويل أن بين خطأ في آخر الأمر قد يعتبر في بعض الأحكام، كتأويل أهل البغي في دماء أهل الحق وأموالهم إذا كانت لهم قوة ومنعة حتى لا يضمنون شيئا من ذلك م: (وألحق قصد الإصلاح بحقيقته) ش: أي ألحق قصد الإصلاح بحقيقة الإصلاح، أعني أن الحدث المتوهم لو كان متحققا كان يبني فكذا في هذه الصورة.
فإن قلت: إذا كان قصد الإلحاق ملحقا بحقيقته ينبغي أن يبني إذا خرج من المسجد أيضا.
قلت: هذا ليس بمطلق بل في هذه الصورة لأنه إذا خرج يختلف المكان من غير عذر وهو يبطل لتحريمه أشار إليه بقوله.(2/386)
ما لم يختلف المكان بالخروج،
وإن كان استخلف فسدت؛ لأنه عمل كثير من غير عذر، وهذا بخلاف ما إذا ظن أنه افتتح الصلاة على غير وضوء فانصرف، ثم اعلم أنه على وضوء حيث تفسد صلاته وإن لم يخرج؛ لأن الانصراف على سبيل الغرض، ألا ترى أنه لو تحقق ما توهمه يستقبله، فهذا هو الحرف،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ما لم يختلف المكان بالخروج) ش: من المسجد لأنه مكان واحد. وفي " جامع التمرتاشي " وكذا الغازي لو ظن حضور العدو فانصرف، والأمر بخلافه لم تفسد صلاته ما لم يخرج من المسجد، وفي الصحراء ما لم يجاوز مكان الصفوف وإلا تفسد، والبيت كالمسجد، والمرأة إذا نزلت من مصلاها فسدت لأنه بمنزلة المسجد في حق الرجل، ولو ذهب قدامه في الصحراء بمقدار الصفوف حده إن لم يكن سترة وإن كانت فحده سترة.
م: (وإن كان استخلف) ش: أي وإن كان الذي ظن أنه أحدث استخلف ثم علم أنه لم يحدث م: (فسدت) ش: أي صلاته وإن لم يخرج من المسجد م: (لأنه) ش: أي لأن الذي فعله م: (عمل كثير) ش: لأنه استخلاف ومشى والعمل الكثير م: (من غير عذر) ش: يفسد الصلاة م: (وهذا) ش: أي الحكم المذكور م: (بخلاف ما إذا ظن أنه افتتح (الصلاة) على غير وضوء فانصرف) ش: من صلاته أو من القبلة م: (حيث تفسد صلاته وإن لم يخرج) ش: من المسجد ثم أشار إلى الفرق بين المسألتين بقوله م: (لأن الانصراف) ش: أي في هذه المسألة م: (على سبيل الغرض) ش: والأغراض والانصراف من هذا الوجه ملحق بحقيقته.
ثم أوضح ذلك بقوله: م: (ألا ترى أنه لو تحقق ما توهمه) ش: من ظنه افتتاح صلاته بغير وضوء م: (يستقبله) ش: صلاته، لأنه انصرافه كان على سبيل الرفض م: (وهناك) ش: أي في المسألة الأولى م: (لو تحقق ما توهمه) ش: من سبق الحدث م: (لا يستقبلها) ش: أي الصلاة، لأن انصرافه كان على سبيل الإصلاح كما ذكرناه م: (فهذا هو الحرف) ش: أي هو الأصل في البناء والاستقبال، أو هذا هو الأصل بين المسألتين وهو أن الانصراف إذا كان على سبيل قصد الإصلاح لا يستقبل ما لم يخرج من المسجد، وإذا كان عل سبيل الرفض والترك يستقبل بمجرد الانصراف وإن لم يخرج من المسجد ولم يستخلف، وعلى هذا إذا أقبل سواد فظنوه عدوا فانحرف قوم، فإذا هي بقر أو غنم أو إبل إن لم يجاوزوا الصفوف بنوا استحسانا، وإن جاوزوا استقبلوا، وإذا ظن أنه لم يمسح فانصرف ثم علم أنه كان ماسحا فسدت صلاته، وإن لم يخرج من المسجد وكذلك متيمم رأى سرابا فظنه ماء فانحرف فظهر أن سراب، وكذلك إذا رأى في ثوبه لونا فظن أنه [نجاسة] فانحرف ثم علم أنه ليس بنجاسة لم يبن، وكذلك ماسح الخف إذا ظن أن المدة قد تمت فانحرف لغسل الرجلين يستقبل وإن لم يخرج لأنه في الجميع قصد رفض الصلاة فانقطعت صلاته.(2/387)
ومكان الصفوف في الصحراء له حكم المسجد؛ ولو تقدم قدامه فالحد السترة، وإن لم تكن فمقدار الصفوف خلفه، وإن كان منفردا فموضع سجوده من كل جانب، وإن جن أو نام فاحتلم أو أغمي عليه استقبل؛ لأنه يندر وجود هذه العوارض، فلم يكن في معنى ما ورد به النص،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[حكم الحدث من الإمام أو المأموم في الصحراء]
م: (ومكان الصفوف في الصحراء له حكم المسجد) ش: هذا لبيان أنه لم يكن في المسجد ماذا يكون حكمه، وهو أنه إذا كان يصلي في الصحراء لا يخلو، إما أن يكون إماما أو منفردا وعلى التقديرين، لا يخلو إما أن يكون بينه سترة أو لا يكون، فإن كان إماما وكان الصفوف كالمسجد في حقه فإذا سبقه الحدث فإنه ينصرف ويستخلف ما دام في مكان الصفوف، فإن خرج من الصفوف ولم يستخلف، فقد بطلت صلاته لاختلاف المكانين من غير عذر، هذا إذا لم يكن سترة، فإن كانت بين يديه سترة فالمعتبر حد السترة إذا مشى قدامه وهو معنى قوله.
م: (ولو تقدم قدامه) ش: أي ولو مشى قدامه سجد في الجواز والفساد السترة، وهو معنى قوله م: (فالحد السترة) ش: فإن جاوزها بطلت صلاته م: (وإن لم تكن) ش: أي سترة بين يديه م: (فمقدار الصفوف خلفه) ش: أي فالمعتبر مقدار الصفوف التي خلفه؛ أي خلف الإمام حتى إذا كان من آخر الصفوف إلى الإمام خمسة أذرع مثلا، فالحد قدام الإمام خمسة أذرع، فإن لم يخرج عن هذا المقدار يبنِ ولا يستقبل، وإن خرج عن هذا المقدار ولم يستخلف بطلت صلاته؛ لأن الإمام بعد سبقه الحدث كان عليه الاستخلاف ليصير هو في حكم المقتدين به لأنه صار مقتديا، فإن قلت: ذكر الصفوف [بالجمع باعتبار الغالب م: (وإن كان) ش: أن المصلي الذي سبقه الحدث م: (منفردا] فموضع سجوده) ش: أي فالمعتبر موضع سجوده م: (من كل جانب) ش: من جوانبه، فإذا لم يتجاوز المصلي في أثناء الصلاة [ذلك المقدار يبني فيما كان قصد الإصلاح وإلا فلا، وإن لم يتجاوزه م: وإن جن) ش: أي المصلي في أثناء الصلاة] م: أو نام فاحتلم) ش: إنما قال فاحتلم؛ لأن مجرد النوم في الصلاة لا يفسدها.
فإن قلت: هلا اكتفى بقوله: أو احتلم من غير ذكر نام؛ لأن الاحتلام لا يكون إلا في النوم.
قلت: احتلم يستعمل في البلوغ أيضا، فقال: احتلم الغلام أي بلغ وعقل، ولو اكتفى بقوله: أو احتلم لكان يوهم أنه بمعنى عقل بقرينة قوله: جن.
م: (أو أغمي عليه) ش: الإغماء مرض يحصل في الدماغ بسبب الامتلاء من بلغم بارد غليظ، هذا عند أهل الطب، وعند المتكلمين هو سهو يعتري الإنسان مع فتور الأعصاب، والجنون زوال العقل وفساده، ولهذا يمكن الإغماء في الأنبياء دون الجنون م (استقبل) ش: جواب إن؛ أي استقبل صلاته م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (يندر وجود هذه العوارض) ش: أي الجنون والاحتلام والإغماء م: (فلم يكن) ش: أي هذه العوارض م: (في معنى ما ورد به النص) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من قاء أو رعف في صلاته» ومعنى ما ورد به النص هو القيء والرعاف(2/388)
وكذلك إذا قهقه؛ لأنه بمنزلة الكلام وهو قاطع،
وإن حصر الإمام عن القراءة فقدم غيره أجزأهم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يجزئهم؛ لأنه يندر وجوده،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإذا لم يكن في معنى ما ورد به النص بقيت على أصل القياس. أما الجنون والإغماء فإن الشخص يبقى على حاله بعد حدوثهما فيصير مؤديا جزءًا من الصلاة مع الحدث فتفسد بخلاف القيء والرعاف فإنه ينصرف على الفور [حال] وقوعهما.
وأما الاحتلام فإنه يوجب الغسل بخلاف القيء والرعاف، فإن وجوبهما بالفرض، هذا إذا وجدت هذه الأشياء قبل أن يقعد مقدار التشهد، أما لو حدث بعده فصلاته وصلاة القوم تامة؛ لأنه يصير خارجا عنها لهذه الأشياء.
فإن قلت: الخروج بفعله فرض عند أبي حنيفة، ولم يوجد.
قلت: وجد؛ لأنه صار محدثا بها؛ لأنه لا بد من اضطراب ومكث بعد الحدث، فبالمكث إذا الخروج من الصلاة مع الحدث، وهو صنع كيف ما كان من حيث الاضطراب أو من حيث المكث.
م: (وكذلك إذا قهقه لأنه بمنزلة الكلام) ش: فصار كأنه تكلم بعد الحدث، وشرط البناء أن لا يتكلم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليبن على صلاته ما لم يتكلم» .
فإن قلت: ما معنى قوله: إن القهقهة بمنزلة الكلام.
قلت: لأن كلا منهما ينقل المعنى من الضمير إلى فهم السامع.
م: (وهو قاطع) ش: أي الكلام قاطع للصلاة والقهقهة أقطع لأنها أفحش، ولهذا سوى بين النسيان والعمد، هذا أيضا إذا وجدت قبل ما قعد قدر التشهد، وأما إذا وجدت بعده فلا تفسد صلاته كما لو تكلم بعده ولكن يلزمه الوضوء عندنا لصلاة أخرى، وعند زفر: لا يلزمه هذا كله أيضا على قولنا، فأما على قول الشافعي: تفسد صلاة الإمام لا صلاة القوم.
[الحكم لو حصر الإمام عن القراءة فقدم غيره]
م: (وإن حصر الإمام عن القراءة) ش: حصر بكسر الصاد، يقال: حصر يحصر حصرا بفتحتين من باب علم يعلم، والحصر، والحصر القيء وضيق الصدر، قال تعالى: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] [النساء: الآية 90] ، ومعناه: ضاق صدر الإمام عن القراءة، ويجوز أن يقرأ على صيغة المجهول من حصره إذا حبسه من باب نصر ينصر، ومعناه: ومنع حبس عن القراءة بسبب خجل أو خوف.
م: (فقدم غيره أجزأهم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال أحمد، وفي " المفيد ": جعل قول أبي يوسف مع أبي حنيفة م: (وقالا: لا يجزئهم لأنه يندر وجوده) ش: أي لأن الحصر يندر وجوده، والاستخلاف ثبت بخلاف القياس، في أمر غالب الوجود وهو الحدث، فلا يجوز الاستخلاف فيه. وفي " الفوائد الظهيرية " ليس الحصر في معنى الحدث من وجوه:(2/389)
فأشبه الجنابة في الصلاة، وله أن الاستخلاف لعلة العجز وهو هنا ألزم،
والعجز عن القراءة غير نادر، ولو قرأ مقدار ما تجوز به الصلاة لا يجوز بالإجماع لعدم الحاجة إلى الاستخلاف، وإن سبقه الحدث بعد التشهد توضأ وسلم؛ لأن التسليم واجب فلا بد من التوضؤ ليأتي به،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدها: أن الطهارة شرط بجميع الصلاة، والقراءة شرط لبعضها.
والثاني: أنه لا جواز للصلاة بدون الطهارة، ولها جواز بدون القراءة كما في الأمي.
والثالث: أن القراءة تجزئ لها النيابة بخلاف الطهارة.
وقال الأترازي: ونقل شيخنا عن شيخه العلامة حميد الدين الضرير أنه قال في شرحه صورة المسألة: إذا لم يعقد الإمام [على] القراءة لأجل خجل يعتريه، أما إنه إذا نسي القراءة أصلا لا يجوز الاستخلاف بالإجماع لأنه يصير أميا، واستخلاف الأمي لا يجوز.
قلت: حميد الدين مسبوق في هذه، أما في السير فإنه قال: إنما يجوز الاستخلاف إذا [كان] حافظا للقراءة لكن لحقه خجل أو خوف فحصر، فأما لو نسي فصار أميا لم يجز الاستخلاف إجماعا؛ لأن إتمام القارئ صلاة الأمي غير جائز. وقال أبو بكر الرازي: إنما يستخلف إذا لم يمكنه أن يقرأ شيئا وإن أمكنه قراءة آية لا يستخلف، وإن استخلف فسدت صلاته.
وقال الأترازي: ثم عندهما إذا لم يستخلف كيف يصنع، قال بعض الشارحين: يتم صلاته بلا قراءة إلحاقا له بالأمي، وهذا سهو لأن مذهبهما أنه يستقبل وبه صرح فخر الإسلام في " شرح الجامع الصغير ".
قلت: أراد ببعض الشارحين السغناقي، فإنه قال هكذا في شرحه، وقال الأكمل: ونسبه بعض الشارحين إلى السهو وأراد به الأترازي.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن الاستخلاف لعلة العجز) ش: عن المضي في الصلاة صيانة لصلاة القوم عن البطلان م: (وهو هنا ألزم) ش: أي العجز عن القراءة ألزم؛ لأنه ربما يجد الماء في المسجد فيتوضأ ويبني من غير استخلاف، والذي حصر فلا بد له من تعلمه أو تذكره وذلك يمنع المضي غالبا، فلما جاز الاستخلاف في الحدث لعلة العجز جاز في الحصر أيضا لوجود تلك العلة.
م: (والعجز عن القراءة غير نادر) ش: هذا جواب عن قولهما: إنه يندر وجوده م: (ولو قرأ مقدار ما يجوز به الصلاة لا يجوز بالإجماع) ش: أي لا يجوز الاستخلاف بالإجماع م: (لعدم الحاجة إلى الاستخلاف) ش: لوجود قراءة ما يجوز به الصلاة، وهي آية قصيرة عنده، فإذا لم يجز له الاستخلاف يركع ويمضي في صلاته، وقال في " المحيط ": ولو استخلف تفسد صلاته.
م: (وإن سبقه الحدث بعد التشهد توضأ وسلم؛ لأن التسليم واجب فلا بد من التوضؤ ليأتي به) ش:(2/390)
وإن تعمد الحدث في هذه الحالة أو تكلم أو عمل عملا ينافي الصلاة تمت صلاته؛ لأنه يتعذر البناء لوجود القاطع، لكن لا إعادة عليه؛ لأنه لم يبق عليه شيء من الأركان،
فإن رأى المتيمم الماء في صلاته بطلت صلاته، وقد مر من قبل، وإن رآه بعدما قعد قدر التشهد، أو كان ماسحا فانقضت مدة مسحه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي بالتسليم الذي هو واجب، وعند الشافعي: التسليم فرض وقد مر بيانه م: (وإن تعمد الحدث في هذه الحالة) ش: يعني بعد التشهد م: (أو تكلم أو عمل عملا ينافي الصلاة فقد تمت صلاته لأنه يتعذر البناء لوجود القاطع) ش: وهو تعمد الحدث أو الكلام أو عمل ما ينافي الصلاة.
م: (لكن لا إعادة عليه) ش: أي إعادة صلاته م: (لأنه لم يبق عليه شيء من الأركان) ش: وفساد ما بقي لا يؤثر في فساد ما مضى، وعند الشافعي ومالك وأحمد: فسدت صلاته؛ لأن السلام من الأركان أو الفرائض عندهم
[رؤية المتيمم للماء أثناء الصلاة]
م: (فإن رأى المتيمم الماء في صلاته بطلت صلاته) ش: لأنه قدر على الأصل حال قيام الخلف قبل تمام الحكم بالخلف.
فإن قلت: يشكل هذا بالمتيمم إذا أحدث في صلاته فانصرف، ثم وجد ما كان له أن يتوضأ ويبني على صلاته، فلم تبطل صلاته هناك برؤية الماء.
قلت: التيمم ينتقض بصفة الاستناد إلى ابتداء وجوده عند إصابة الماء؛ لأنه يصير محدثا بالحدث السابق؛ إذ الإصابة ليست بحدث، وهاهنا ينتقض التيمم عند إصابة الماء لانتقاضه بالحدث الطارئ على التيمم لا بصفة الاستناد.
م: (وقد مر من قبل) ش: أي في باب التيمم وهو قوله: وينقض رؤية الماء إذا قدر على استعماله م: (فإن رآه) ش: أي فإن رأى المتيمم الماء م: (بعدما قعد قدر التشهد) ش: هذه اثنتا عشرة مسألة تسمى باثني عشرية؛ لأنها بذلك العدد في الروايات المشهورة، قيل: هي أنها من حيث العربية لأنه لا تجوز النسبة إلى اثني عشر ولا إلى غيره من العدد المركب [إلا] إذا كان علما فحينئذ ينسب إلى صدره فيقال: خمسي في خمسة عشر كما يقال: تأبطي في تأبط شرا أو بعلي في بعلبك.
قلت: إنما لم ينسب إلى خمسة عشر عددا؛ لأن الجزأين حينئذ مقصودان، فلو حذف أحدهما اختل المعنى، ولو لم يحدث استثقل. وأما إذا كان علما فالاسمان بكمالها علم لا دلالة لعشرة ولا لخمسة، فكان الثاني كتاء التأنيث، ولم يكن في الحذف إخلال، ولكن لقائل أن يقول: يجعل اثني عشر هاهنا في حكم المفرد فينسب إليها بكمالهما على أن الذي قيل: إنما هو في المركب الإسنادي والمزجي كما عرف في موضعه، وقد أشار المصنف إلى المسألة الأولى من هذه المسائل الاثني عشرية بقوله، فإن رأى المتيمم الماء بعدما قعد قدر التشهد.
وأشار إلى الثانية بقوله م: (أو كان ماسحا) ش: أي على خفيه م: (فانقضت مدة مسحه) ش:(2/391)
أو خلع خفيه بعمل يسير، أو كان أميا فتعلم سورة، أو عريانا فوجد ثوبا، أو مومئا، فقدر على الركوع والسجود، أو تذكر فائتة عليه قبل هذه، أو أحدث الإمام القارئ، فاستخلف أميا، أو طلعت الشمس في الفجر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعدما قعد قدر التشهد، وهي يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليها في حق المسافر.
وأشار إلى الثالثة بقوله م: (أو خلع خفيه بعمل يسير) ش: أي خلع أحد خفيه وقيد باليسير؛ لأن العمل الكثير يخرج عن الصلاة فيتم صلاته حينئذ بالاتفاق، وقال في " المبسوط ": وتأويله إذا كان واسعا لا يحتاج إلى معالجة.
وأشار إلى الرابعة بقوله: م: (أو كان أميا فتعلم سورة) ش: قال في " الينابيع ": يريد به إذا كان يصلي وحده، أما لو كان خلفه الإمام قيل: هي على الاختلاف، وقيل: يجوز صلاته بالاتفاق. قال أبو الليث: وبه نأخذ، وفي " المبسوط ": ذكر أبو يوسف في " الإملاء " عن أبي حنيفة أنه كان يقول: الأمي إذا تعلم سورة في خلال صلاته يقرأ ويبني كالقاعد إذا قدر على القيام، ثم رجع عن ذلك لأن صلاته ضرورية كالمومئ. وفي " المبسوط ": فتعلم سورة أي تذكرها بعد النسيان أما إذا تلقنها ابتداء فذلك صنع منه فيخرج به عنها ذكره الحلواني، وقيل: سمعها بلا اختيار وحفظها بلا صنع.
وأشار إلى الخامسة بقوله: (أو عريانا) ش: أي أو كان المصلي عريانا م: فوجد ثوبا) ش: ساترا عورته. وأشار إلى السادسة بقوله: م: (أو مومئا) ش: أي: أو كان يصلي حال كونه مومئا م: فقدر على الركوع والسجود) ش: وأشار إلى السابعة بقوله: م: (أو تذكر فائتة عليه قبل هذا) ش: أي أو كان المصلي تذكر أن عليه فائتة قبل هذا الذي يصليه، قيل: معناه قبل سقوط الترتيب وفي الوقت سعة.
وأشار إلى الثامنة بقوله: (أو أحدث الإمام فاستخلف أميا) ش: أي لو أحدث المصلي العاري بعدما قعد قدر التشهد فاستخلف رجلا أميا، وفساد صلاته باستخلاف الأمي في هذه الحالة عند أبي حنيفة على اختيار المصنف ومن وافقه. وأما على اختلاف فخر الإسلام فلا فساد بالاستخلاف بعد التشهد بالإجماع، وذكر في " كشف الغوامض ": أنه لا يفسد صلاته عند أبي حنيفة لأن هذا الفعل ليس من أفعال الصلاة فيخرج به من الصلاة كما لو تكلم أو خرج من المسجد. وفي " المبسوط ": والاستخلاف وإن كان بصنعه لكنه غير مفسد كاستخلاف العاري.
وأشار إلى التاسعة بقوله: م: (أو طلعت الشمس في الفجر) ش: أي أو طلعت الشمس بعد أن قعد قدر التشهد في صلاة الفجر. وفي " المبسوط ": إن قيل طلوع الشمس مبطل لا مغير فلم كانت على الخلاف، قلنا: بل هو مغير من الفرض إلى النفل ولا يخرج به من التحريمة.(2/392)
أو دخل وقت العصر وهو في الجمعة، أو كان ماسحا على الجبيرة فسقطت عن برء، أو كان صاحب عذر فانقطع عذره كالمستحاضة ومن بمعناها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأشار إلى العاشرة بقوله: م: (أو دخل وقت العصر وهو في الجمعة) ش: قال في " الينابيع ": هذا لا يتصور إلا على رواية الحسن عن أبي حنيفة إن أخر وقت الظهر إذا صار ظل كل شيء مثله قولهما حتى يتحقق الخلاف. وفي " المنافع ": هذا على اختلاف القولين عندهما إذا صار ظل كل شيء مثله، وعنده إذا صار ظل كل شيء مثليه، وقيل: تخصيص الجمعة اتفاقي لأن الحكم في الظهر لذلك.
وأشار إلى الحادية عشرة بقوله م: (أو كان ماسحا على الجبيرة فسقطت عن برء) ش: أي كان المصلي ماسحا على الجبيرة وهي العيدان التي يشد بها [على] الجرح ويجبر بها العظام.
وأشار إلى الثانية عشرة بقوله: م: أو كان صاحب عذر فانقطع عذره) ش: بعدما قعد قدر التشهد، وفسر صاحب العذر بقوله م: (كالمستحاضة ومن بمعناها) ش: نحو من به سلس البول وانطلاق البطن وانفلات الريح والرعاف الدائم، والجرح الذي لا يرجى برؤه وانقطاع دم الاستحاضة ولا بد من استيعاب وقت كامل، فلو انقطع الدم بعد التشهد فلو سال الدم في وقت صلاة أخرى فالصلاة الأولى جائز، وإن لم يسل فالصلاة الأولى عند أبي حنيفة باطلة؛ لأنه يتحقق بعد التشهد، وأنه كالانقطاع في وسط الصلاة وعندهما جائزة؛ لأنه كالانقطاع بعد تمام الصلاة.
واعلم أنه قد يزيد على هذه المسائل الاثنتي عشرة مسائل أخرى:
الأولى: إذا صلى بالثوب وفيه نجاسة أكثر من قدر الدرهم، ثم وجد من الماء ما يغسل به النجاسة في هذه الحالة.
الثانية: أنه كان يقضي صلاة الفجر وقد فاتته فدخل عليه وقت الزوال في هذه الحالة.
الثالثة: أنه كان يقضي صلاة الظهر في وقت العصر فغربت الشمس في هذه الحالة.
الرابعة: الأمة إذا صلت مكشوفة الرأس فعتقت في هذه الحالة إن سترت رأسها من ساعتها لا تفسد صلاته، وإن لم تستر فصلاتها فسدت عنده ذكرها الأسبيجابي.
الخامسة: لو سلم ثم تذكر أن عليه سجدتي السهو فعاد إليهما فلما سجد سجدة تعلم سورة تفسد صلاته عنده؛ لأنه عاد إلى حرمة الصلاة فصار كما لو تعلم قبل السلام، بعدما قعد قدر التشهد ذكرها في " الذخيرة "، ولو سلم ثم تذكر أن عليه سجدة تلاوة أو قراءة تشهد، قال في " الذخيرة ": لم يذكر هذا في الكتاب، قال: ويجب أن يكون من الاثني عشرية؛ لأنه سلام ساه فيجعل كالعدم، أما لو سلم ثم تذكر سجدة صلاتية فإن صلاته تفسد عندهم جميعا لأنه تعلم(2/393)
بطلت الصلاة في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: تمت صلاته، وقيل: الأصل فيه أن الخروج عن الصلاة بصنع المصلي فرض عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وليس بفرض عندهما، فاعتراض هذه العوارض عنده في هذه الحالة كاعتراضها في خلال الصلاة، وعندهما كاعتراضها بعد التسليم، لهما ما رويناه من حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وله أنه لا يمكنه أداء صلاة الأخرى إلا بالخروج من هذه وما لا يتوصل إلى الفرض إلا به يكون فرضا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سورة وعليه ركن من أركان الصلاة.
م: (بطلت الصلاة في قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلافا لهما) ش: هذا جواب قوله: فإن رآه بعدما قعد قدر التشهد وما بعده من المسائل وهي الاثنتا عشرة مسألة.
م: (وقيل) ش: قائله أبو سعيد البردعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن قال: م: (الأصل فيه) ش: أي في المذكور من المسائل وهي اثنتا عشرة مسألة م: (أن الخروج عن الصلاة بصنع المصلي فرض عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: بدليل أنه ممنوع من البقاء على صلاته بعد التشهد حتى يدخل وقت صلاة أخرى، ولو لم يبق عليه فرض لم يمنع من البقاء كما بعد السلام، وإذا ثبت هذا فقد حدثت هذه المعاني وهي مفسدة للصلاة مع بقاء فرض من فروض الصلاة عليه فصار كما لو حدثت وسط الصلاة.
م: (وليس بفرض عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد، فإذا كان فرضا عند أبي حنيفة م: (فاعتراض هذه العوارض) ش: وهي العوارض التي ذكرها في هذه المسائل الاثنتي عشرة م: (في هذه الحالة) ش: أي الحالة التي كانت بعدما قعد قدر التشهد م: (عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (كاعتراضها) ش: أي كاعتراض هذه العوارض م: (في خلال الصلاة) ش: أي في أثنائها، واعتراضها في أثنائها يبطل بالاتفاق فكذا في هذه الحالة.
م: (وعندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد م: (كاعتراضها بعد التسليم) ش: فاعتراضها بعده لا يبطل بالاتفاق م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (ما رويناه من حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا قلت هذا أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك» وقد تقدم هذا في أول باب صفة الصلاة وفيه أيضا عند قوله: وتشهد وهو واجب عندنا.. إلى آخره، وجه استدلالهما به هو أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علق تمام الصلاة بأحد الأمرين، فمن علق بثالث فقد خالف النص.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنه) ش: أي أن المصلي م: (لا يمكنه أداء صلاة أخرى إلا بالخروج عن هذه) ش: أي عن هذه الصلاة التي هو فيها م: (وما لا يتوصل إلى الفرض إلا به يكون فرضا) ش: كلمة ما مبتدأ، وخبره قوله: يكون فرضا، وصورة هذا التوسل أنه إذا تحرم للظهر(2/394)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مثلا فلم يخرج منها حتى دخل وقت العصر لزمه أداء العصر مثلا ولا عليه أداؤها إلا بعد الخروج عن تحريمة الظهر؛ لأن العصر لا يتأدى بهذه التحريمة، فيكون الخروج عن تحريمة الظهر سببا يتوصل به إلى أداء العصر وأداء العصر فرض، وما لا يتوصل إلى الفرض إلا به يكون فرضا كالانتقال من ركن إلى ركن، في باب الصلاة عد من الأركان، وإن لم يكن ركنا في نفسه كذا هذا؛ لأنه لم يبق الأولى على الصحة لا يمكنه أداء الثانية لأن الترتيب عندنا فرض، ولا يخرج عن الأولى على وجه يبقى صحيحا إلا بصنع يوجد منه فكان فرضا، وهذه النكتة منقولة عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
1 -
فإن قلت: تشكل عليه مسألة المحاذاة، فإن المرأة لو حاذت رجلا في هذه الحالة تمت صلاته بالاتفاق ولا صنع منه.
قلت: المحاذاة من باب المفاعلة فلا يتحقق إلا من فاعلين وكان منه صنع، أدناه اللبث في مكانه.
فإن قلت: يشكل ما لو تعلم سورة بلا اختيار.
قلت: إنه لا صنع فيه.
فإن قلت: هذا جواب غير قوي.
قلت: لا نسلم لأنه لم يوجد منه الصنع ابتداء وكون تعلمه صنعا منه لا يضرنا.
فإن قلت: على ما قررتم يكون الخروج من الصلاة بصنعه فرضا لغيره كالسعي إلى الجمعة، فيجب إن تم صلاته في الصور المذكورة لحصول المقصود من الصنع، وهو الخروج من الأولى كما لو دخل الجامع يوم الجمعة قبل دخول الوقت.
قلت: الخروج عن الأولى يجب أن يكون على وجه تبقى صحيحة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] [محمد: الآية 33] ، ولأن الترتيب فرض ولم يبق لهذا الخروج صحيحة.
فإن قلت: إنما لم يبق صحيحة لأن الخروج لم يكن بصنع المصلي، وكان بقاؤها صحيحة موقوفا على الخروج على بقائها صحيحة فهذا دور.
قلت: الخروج بصنعه موقوف على ما اعتبره الشرع رافعا للتحريمة، ويلزم منه بقاؤها صحيحة.
ثم اعلم أن العامة على قول أبي سعيد البردعي، والمختار عند المصنف قول الكرخي، وفي كلامه إشارة إلى ذلك، ويشير قول الكرخي إلى أن الخروج بصنع المصلي ليس بفرض بالاتفاق،(2/395)
ومعنى قوله: " تمت " قاربت التمام، الاستخلاف ليس بمفسد، حتى يجوز في حق القارئ، وإنما الفساد ضرورة حكم شرعي، وهو عدم صلاحية الإمامة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإنما عند أبي حنيفة أن هذه الأشياء مغيرة للصلاة ووجود المغير بعد التشهد كوجوده قبله لما أنه في حرمة الصلاة، ولهذا إذا نوى المسافر في هذه الحالة الإقامة أتم، والمعني بالمغير ما يجب الصلاة بعد وجوده على غير الصغير الواجبة هي عليها قبله، فإن الصلاة تجب بعد رؤية الماء وانقضاء مدة المسح، ووجدان الثوب، وتعلم السورة بالوضوء والغسل واللبس والقراءة بعد أن كانت واجبة بطهارة [التيمم والمسح والعري وعدم القراءة، وقيل: المعني به كون الصلاة جائزة] بالاجتماع به وبضده، فإنها تصح بالتيمم والمسح والإيماء وأضدادها.
م: (ومعنى قوله) ش: أي قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - م: (تمت) ش: أي قاربت التمام، هذا جواب عن تمسكهما، وتقديره: أن معنى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (تمت) في قوله: إذا قلت هذا، أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك، يعني: قاربت التمام كما في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من وقف بعرفة فقد تم حجه» أي قاربت التمام بالاتفاق لبقاء فرض بعده وهو طواف الزيارة بالاتفاق. وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لقنوا موتاكم» ... " الحديث أي الذي شارف الموت.
فإن قلت: من أي باب هذا؟
قلت: من باب تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه، كما في قوله: {أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] [يوسف: الآية 36] ، أي: عنبا، وإنما حملنا عليه توفيقا بين ما قلنا من الدليل العقلي وبينه، ولأن العقل حجة من حجج الله تعالى كالنقل.
م: (والاستخلاف ليس بمفسد) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر يرد على قوله: أو أحدث الإمام القارئ فاستخلف أميا تقديره أن يقال: ينبغي أن لا تفسد الصلاة عند أبي حنيفة باستخلاف الأمي بعد قدر التشهد؛ لأن الاستخلاف عمل كثير مفسد للصلاة، وهو صنع منه فيخرج عن الصلاة باستخلافه، وتقدير الجواب: أن الاستخلاف نفسه ليس بمفسد بدليل أنه لو استخلف القارئ في صلاته لم يضره وهو معنى قوله م: (حتى يجوز في حق القارئ) ش: حتى يجوز الاستخلاف في حق المصلي القارئ، فعلم أن نفس الاستخلاف ليس بمفسد.
م: (وإنما الفساد ضرورة حكم شرعي) ش: يعني أن الفساد ليس لنفس الاستخلاف بل لأمر آخر وهو ضرورة حكم شرعي.
م: (وهو عدم صلاحية الإمامة) ش: يعني عدم شرعية الأمي لإمامة القارئ، وقال التمرتاشي والهندواني والإمام الكاساني: يجوز صلاته بالاتفاق لوجود الصنع المفسد وهو استخلاف من لا يصلح استخلافه. وقال الأترازي: في قوله الاستخلاف ليس بمفسد نظر عندي؛ لأنا نقول: لا نسلم أن الاستخلاف ليس بمفسد، وقد صرح صاحب " الهداية " نفسه فيمن ظن أنه أحدث(2/396)
ومن اقتدى بإمام بعدما صلى ركعة فأحدث الإمام فقدمه أجزأه؛ لوجود المشاركة في التحريمة والأولى للإمام أن يقدم مدركا لأنه أقدر على إتمام صلاته، وينبغي لهذا المسبوق أن لا يتقدم لعجزه عن التسليم، فلو تقدم يبتدئ من حيث انتهى إليه الإمام لقيامه مقامه، وإذا انتهى إلى السلام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فاستخلف حيث قال: وإن كان استخلف فسد لأنه عمل كثير، فلو لم يكن الاستخلاف مفسدا لم تفسد الصلاة في تلك المسألة لأنه استخلف القارئ لا الأمي.
قلت: في كلامه وقد ذهل عنها الأترازي: وهو أن مسألة الاستخلاف على الخلاف، فكان ذكره هناك اختيار ما ذكر في " المبسوط "، وهو أن الصورة في الاستخلاف صنع منه وهو عمل كثير من غير عذر وهاهنا فرض المسألة فيما إذا كان يعذر، ولا يلزم من كونه مفسدا إذا لم يكن عذر كونه مفسدا عند العذر.
م: (ومن اقتدى بالإمام بعدما صلى ركعة) ش: أي بعدما صلى الإمام من صلاته ركعة، وهذا المقتدي مسبوق بالركعة م: (فأحدث الإمام فقدمه) ش: أي فقدم هذا المقتدي الذي هو مسبوق بركعة م: (أجزأه) ش: أي أجزأ الإمام تقديمه م: (لوجود المشاركة في التحريمة) ش: يعني أن صحة الاستخلاف بالمشاركة وهي حاصلة في المسبوق فيصح استخلافه.
فإن قلت: ينبغي أن لا يجوز استخلاف المسبوق؛ لأن الاستخلاف عمل كثير يثبت على خلاف القياس في حق المدرك، والمسبوق ليس في معناه فلا يلحق به. قلت: لا نسلم أن الاستخلاف كان في المدرك.
م: (والأولى للإمام أن يقدم مدركا لأنه أقدر على إتمام صلاته) ش: أي لأن المدرك أقدر من المسبوق فكان أولى لأن المسبوق إذا أتم صلاة الإمام يقدم مدركا آخر للسلام لعجزه عن السلام، أما المدرك فيسلم إذا أتم صلاة الإمام بدون استخلاف آخر، فيثبت أنه أقدر من المسبوق.
م: (وينبغي لهذا المسبوق أن لا يتقدم لعجزه عن التسليم) ش: لأن عليه بقية صلاته فلا يقدر على التسليم حتى يكمل ما عليه، وإن قيل يتقدم جاز فيستخلف مدركا عند تمام صلاة إمامه ليسلم بهم وليسجد لسهوه إن كان عليه سهو، فإن جاء الأول وقد سبقه الثاني ينقل بقضاء ما سبقه ثم يتابعه لأنه لاحق، وإن لم يفعل جاز، قال في " المبسوط " لأن الترتيب في أفعال الصلاة ليس بشرط عندنا خلافا لزفر، ومثله في الأسبيجابي. قلت: ولهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف: المسبوق يصلي أولا مع الإمام آخر صلاته فإذا قام يقضي أول صلاته فقد قدم آخرها على أولها في الفعل.
م: (فلو تقدم) ش: أي المسبوق م: (يبتدئ من حيث انتهى إليه الإمام لقيامه مقامه) ش: أي لقيام المسبوق مقام الإمام وهو بفتح الميم م: (وإذا انتهى إلى السلام) ش: أي إذا انتهى إلى آخر صلاة الإمام(2/397)
يقدم مدركا يسلم بهم، فلو أنه حين أتم صلاة الإمام قهقه أو أحدث متعمدا أو تكلم أو خرج من المسجد فسدت صلاته وصلاة القوم تامة؛ لأن المفسد في حقه وجد في خلال الصلاة وفي حقهم بعد تمام أركانها والإمام الأول إن كان فرغ لا تفسد صلاته وإن لم يفرغ تفسد وهو الأصح، فإن لم يحدث الإمام الأول وقعد قدر التشهد ثم قهقه أو أحدث متعمدا فسدت صلاة الذي لم يدرك أول صلاته عند أبي حنيفة. وقالا: لا تفسد، وإن تكلم أو خرج من المسجد لم تفسد في قولهم جميعا، لهما أن صلاة المقتدي بناء على صلاة الإمام جوازا وفسادا ولم تفسد صلاة الإمام، فكذا صلاته وصار كالسلام والكلام، وله أن القهقهة مفسدة للجزء الذي يلاقيه من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذي محله التسليم م: (يقدم مدركا يسلم بهم) ش: أي بالقوم م: (فلو أنه) ش: أي المسبوق م: (حين أتم صلاة الإمام قهقه أو أحدث متعمدا) ش: أي قصدا م: (أو تكلم أو خرج من المسجد فسدت صلاته) ش: أي صلاة المسبوق م: (وصلاة القوم تامة؛ لأن المفسد وجد في خلال الصلاة) ش: في حق المسبوق م: (وفي حقهم) ش: أي وفي حق القوم م: (وجد بعد تمام أركانها) ش: فلا تفسد صلاتهم؛ لأن هذه الأشياء لو وجدت [في هذه الحالة من القوم أنفسهم كانت لا تفسد صلاتهم فلأن لا تفسد إذا وجدت] من إمامهم أولى وأحرى.
م: (والإمام الأول) ش: وهو الذي قدم المسبوق م: (إن كان قد فرغ لا تفسد صلاته) ش: لأنه كواحد من القوم م: (وإن لم يفرغ تفسد صلاته) ش: لوقوع المنافي للصلاة في وسطها م: (وهو الأصح) ش: أي فساد صلاته هو الأصح لما ذكرنا، واحترز به عن رواية أبي حفص أن صلاته أيضا تامة لأنه يدرك أول الصلاة فيكون كالفارغ بقعدة الإمام قدر التشهد.
م: (فإن لم يحدث الإمام الأول وقعد قدر التشهد) ش: قبل القعود بقدر التشهد لأنه إذا وجدت القهقهة أو الحدث العمد قبله تفسد صلاة الجميع اتفاقا.
م: (ثم قهقه أو أحدث متعمدا فسدت صلاة الذي لم يدرك أول صلاته) ش: وهو المسبوق م: (عند أبي حنيفة) ش: ولا تفسد صلاة المدرك اتفاقا وفي صلاة اللاحق، روايتان.
م: (وقالا: لا تفسد) ش: أي صلاة الذي لم يدرك م: (وإن تكلم) ش: الإمام الأول م: (أو خرج من المسجد لم تفسد في قولهم جميعا) ش: أي في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن صلاة المقتدي بناء على صلاة الإمام جوازا وفسادا) ش: أي من حيث الجواز والفساد م: (ولم تفسد صلاة الإمام) ش: أي والحال أنه لم تفسد صلاة الإمام م: (فكذا صلاته) ش: أي صلاة المقتدي أيضا لا تفسد؛ لأن صلاته مبنية على صلاة الإمام م: (فصار كالسلام والكلام) ش: أي صار حكم هذا، كحكم السلام والكلام بعدما قعد قدر التشهد.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (أن القهقهة مفسدة للجزء الذي تلاقيه من(2/398)
صلاة الإمام فيفسد مثله من صلاة المقتدي غير أن الإمام لا يحتاج إلى البناء والمسبوق محتاج إليه، والبناء على الفاسد فاسد بخلاف السلام؛ لأنه منه والكلام في معناه، وينتقض وضوء الإمام لوجود القهقهة في حرمة الصلاة.
ومن أحدث في ركوعه أو سجوده توضأ وبنى ولا يعتد بالتي أحدث فيها؛ لأن إتمام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صلاة الإمام) ش: لأنها تبطل الطهارة، وهي شرط للصلاة م: (فتفسد) ش: بضم التاء أي فتفسد القهقهة م: (مثله) ش: أي مثل ذلك الجزء م: (من صلاة المقتدي) ش: لابتنائها عليها م: (غير أن الإمام لا يحتاج إلى البناء) ش: هذه إشارة إلى بيان الفرق [الذي] بين صلاة الإمام وصلاة المسبوق، مع أن القهقهة لاقت بجزء من صلاة كل واحد منهما، ومع هذا لا تفسد صلاة الإمام وتفسد [صلاة] المسبوق وذلك لأن القهقهة وجدت في حق الإمام بعد انتهاء الأركان، فجعلت عفوا فلا يحتاج إلى البناء م: (والمسبوق محتاج إليه) ش: أي إلى البناء لأنها وجدت في خلال صلاته، فتفسد ذلك الجزء الذي لاقته ففسدت صلاته أصلا لعدم قدرته على البناء.
م: (والبناء على الفاسد فاسد) ش: كان هذا جواب عما يقال: لم لا يبني المسبوق أيضا؟ فقال: كيف يبني على الفاسد وهو الجزء الذي لاقته القهقهة في خلال صلاته؟ والبناء على الفاسد فاسد م: (بخلاف السلام) ش: لأنه لا يبطل شيئا من أجزاء الصلاة على الإمام لأنه لا يبطل بشرط الأداء وهو الطهارة م: (لأنه منه) ش: أي لأن السلام سنة للصلاة وهو من الإنهاء ومعناه متمم للصلاة ومحلل إذا وجد في أوان التحليل، ولهذا لا ينتقض به الطهارة، وفي " المجتبى " المراد من النهي ما يكون مستحقا بالتحريمة، إما بصفة الاتصال كالسلام أو الانفصال كالخروج.
وفي " مبسوط شيخ الإسلام ": السلام منه لا يفسد لأنه قاطع، والقاطع في أوانه منه، وفي غير أوانه مبطل، وهاهنا في أوانه فيكون منهيا لا مفسدا م: (والكلام في معناه) ش: أي في معنى السلام لأنه إنما جعل منهيا باعتبار أنه كلام لا باعتبار أنه ثناء فعلم أنه معناه، ولهذا لو قالوا: لو حلف لا يكلم فلانا فسلم يحنث.
م: (وينتقض وضوء الإمام لوجود القهقهة في حرمة الصلاة) ش: وعند زفر لا ينتقض وهو القياس؛ لأنها إنما تنقض الوضوء إذا فسدت الصلاة، وهاهنا لم تفسد صلاة الإمام فلا ينقض وضوءه. وجه الاستحسان أنها أفسدت الجزء الملاقي لها من الصلاة لوقوعها في حرمة الصلاة فانتقض الوضوء أيضا بناء على فساد ذلك الجزء؛ لأنها لم تؤثر في فساد باقي الصلاة لانتهاء الأركان.
[حكم من أحدث في ركوعه أو سجوده]
م: (ومن أحدث في ركوعه أو سجوده توضأ وبنى على صلاته ولا يعتد بالتي أحدث فيها) ش: أي الركعة التي أحدث فيها أو بالسجدة ولا يعتد من الاعتداد أي لا يعتبر، وفي بعض النسخ ويعيد بالتي أحدث فيها، من الإعادة والمعنى قريب لأن عدم الاعتداد يستلزم الإعادة م: (لأن إتمام(2/399)
الركن بالانتقال ومع الحدث لا يتحقق فلا بد من الإعادة
ولو كان إماما فقدم غيره دام المقدم على الركوع؛ لأنه يمكنه الإتمام بالاستدامة، ولو تذكر وهو راكع أو ساجد أن عليه سجدة فانحط من ركوعه لها أو رفع رأسه من سجوده فسجدها يعيد الركوع والسجود، وهذا بيان الأولى لتقع أفعال الصلاة مرتبة بالقدر الممكن وإن لم يعد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الركن بالانتقال) ش: تمام السجدة بالرفع عند محمد ولم يوجد، وعند أبي يوسف وإن تمت بالوضع لكن الجلسة بين السجدتين فرض عنده م: (ومع الحدث لا يتحقق) ش: أي الانتقال لا يتحقق بغير طهارة والانتقال من ركن إلى ركن فرض بالإجماع فلا يعتد بركوعه وسجوده بعد تحقق الانتقال بالطهارة م: (فلا بد من الإعادة) ش: أي من إعادة الركوع الذي أحدث فيه والسجود الذي أحدث فيه.
م: (ولو كان إماما) ش: أي ولو كان الذي أحدث في ركوعه أو سجوده إماما م: (فقدم غيره دام المقدم) ش: بفتح الدال م: (على الركوع) ش: يعني يكون المقدم على هيئته م: (لأنه يمكنه الإتمام بالاستدامة) ش: أي بالثبات في حاله ولا يحتاج إلى رفع رأسه، ثم إنشاء الركوع لأن للدوام حكم الابتداء في الفعل الممتد، وللركوع وللسجود امتداد فلما دام المقدم صار كأنه ركع، أصله حلف لا يلبس ثوبا وهو لابسه ولا يركب دابة وهو راكبها يحنث بالاستدامة لوجود اللبس أو الركوب بالاستدامة.
فإن قلت: لو قال لامرأته: إن جامعتك فأنت طالق فجامع ولبث في الجماع لا تثبت الرجعة عند محمد، فعلم أنه ليس للدوام حكم الابتداء. قلت: عدم ثبوت الرجعة عنده للاحتياط، ولأن الجماع هو الإيلاج والإخراج وهما ليسا بممتدين فلا تثبت الرجعة بالشك.
م: (ولو ذكر) ش: أي المصلي م: (وهو راكع أو ساجد) ش: أي والحال أنه ذكر في الركوع والسجود م: أن عليه سجدة) ش: هو مفعول ذكر، يعني: في حالة الركوع أنه ترك سجدة صلاتية أو تلاوة أو ذكر في حالة السجود أنه ترك سجدة م: (فانحط من ركوعه لأجل السجدة التي ذكرها أو رفع رأسه من سجوده فسجدها) ش: أي السجدة [ويعيد السجدة] التي ذكرها. م: (يعيد الركوع والسجود) ش: يعني يعيد الركوع الذي ذكر فيه السجدة ويعيد السجود الذي ذكر فيه السجدة، وهذا بيان الأولى، يعني إعادة الركوع والسجود الذي ذكر فيهما أن عليه سجدة أولى، لأن مراعاة الترتيب ليست بركن م: (لتقع الأفعال مرتبة بالقدر الممكن) ش: لأن مراعاة الترتيب فيما شرع من الأفعال مكررا واجبة لا فرضا لما ذكرنا، والقدر الممكن إعادة الركوع والسجود لتحقق الترتيب على اعتبار أن لا يكون الأول محسوبا، ويجوز أن يكون المراد تقريب الركوع والسجود إلى محله بقدر الإمكان.
م: (وإن لم يعد) ش: أي الركوع الذي ذكر فيه أن عليه سجدة، أو السجود الذي ذكر فيه(2/400)
أجزأه؛ لأن الانتقال مع الطهارة شرط وقد وجد. وعن أبي يوسف أنه يلزمه إعادة الركوع؛ لأن القومة فرض عنده.
قال: ومن أم رجلا واحدا فأحدث وخرج من المسجد فالمأموم إمام نوى أو لم ينو لما فيه من صيانة صلاته وتعيين الأول لقطع المزاحمة ولا مزاحمة ههنا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كذلك م: (أجزأه) ش: لأن ذكر السجود لا يناقض الركوع ولا ينافيه، فصح الاعتداد به فلا يعيد م: (لأن الانتقال مع الطهارة شرط وقد وجد) ش: هذا إشارة إلى بيان الفرق بين هذا وبين ما تقدم وهو من وجهين: أحدهما أن تذكر السجود في الركوع لا ينقض الركوع م: (لأن الاعتداد والترتيب في أفعال الصلاة الواحدة ليس بشرط) ش: وإن لم ينقض لا يلزمه الإعادة.
والثاني: أن تمام الركوع برفع الرأس؛ لأن الركن إنما يتم بالانتقال والطهارة فيه شرط وقد وجدت، وعند زفر عليه إعادة القيام والركوع الأول؛ لأن من أصوله أن مراعاة الترتيب في أفعال الصلاة واجبة فيبطل ما أدى.
م: (وعن أبي يوسف أنه يلزمه إعادة الركوع لأن القومة فرض عنده) ش: فحيث انحط من الركوع ولم يرفع رأسه فقد ترك الفرض فعليه الإعادة.
فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين ما إذا عاد إلى السجد الأصلية بعدما قعد قدر التشهد، فإنه ترتفض القعدة وكذا لو تذكر في الركوع أنه لم يقرأ القرآن، فعاد إلى قراءة القرآن ارتفض الركوع.
قلت: إنما لم يرتفض القعدة بالإتيان بالسجدة لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علق تمام الصلاة بالقعدة في قوله إذا قلت هذا أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك فلو قلنا: يجوز تأخير غيرها عنها كان تمام الصلاة بذلك الغير وهو خلاف النص وكذلك لا يجوز تأخير القيام أو الركوع عن السجود؛ لأن القيام وسيلة إلى الركوع والركوع وسيلة إلى السجود، حتى إن من لم يقدر على الركوع والسجود لا يجب عليه القيام والوسائل متقدمة على المقاصد، والقراءة رتبة القيام فكانت تابعة له.
[حكم من أم رجلا واحدا فأحدث]
م: (ومن أم رجلا واحدا فأحدث) ش: أي الإمام م: (وخرج من المسجد فالمأموم إمام) ش: لتعينه بخلاف ما إذا كان أكثر من واحد حيث يحتاج إلى الاستخلاف لقطع المزاحمة. م: (نوى أو لم ينو) ش: الضمير في نوى، يحتمل أن يكون للإمام يعني نوى الإمام استخلافه أولى لتعينه، كما لو قال لعبديه: أحدكما حر، ثم مات أحدهما قبل البيان يتعين الحي للحرية لتعينه فكذا هذا، ويتحمل أن يكون للمقتدي يعني نوى هو الإمامة أولا لتعينه للاستخلاف لصلاحية الإمامة له. م: (لما فيه) ش: أي لما في كون المأموم إماما م: (من صيانة صلاته) ش: أي صلاة المقتدي الذي صار إماما لأنه لو لم يتعين المقتدي إماما لخلا موضع الإمامة عن الإمام وبهذا المعنى يوجب فساد صلاة المقتدي. م: (وتعيين الأول لقطع المزاحمة) ش: هذا جواب عما يقال: إن التعيين لا(2/401)
ويتم الأول صلاته مقتديا بالثاني كما إذا استخلفه حقيقة،
ولو لم يكن خلفه إلا صبي أو امرأة قيل تفسد صلاته؛ لاستخلاف من لا يصلح للإمامة. وقيل: لا تفسد لأنه لم يوجد الاستخلاف قصدا وهو لا يصلح للإمامة، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يتحقق بلا تعيين ولم يعين فأجاب بقوله وتعيين الأول لقطع المزاحمة ولا تزاحم هنا فكان التعيين موجودا حكما، فإذا تعين كذلك كان كالمستخلف حقيقة ينوب عنه ويتم صلاته مقيدا بالثاني وهو معنى قوله م: (ويتم الأول صلاته مقتديا بالثاني كما إذا استخلفه حقيقة) ش: فإنه حينئذ يتم صلاته مقتديا بالثاني: فكذلك في الاستخلاف حكما.
م: (ولو لم يكن خلفه) ش: أي خلف من يصلي م: (إلا صبي أو امرأة قيل تفسد صلاته) ش: أي صلاة الإمام خاصة لاقتدائه لمن لا يصلح إماما له وهو معنى قوله م: (لاستخلافه من لا يصلح للإمامة) ش: لأنه لما صار مقتديا به وهو غير صالح للإمامة فسدت صلاته م: (وقيل لا تفسد ش: [أي صلاة الإمام م: (لأنه لم يوجد منه الاستخلاف قصدا) ش: أي حقيقة ولا وجد] حكما أيضا؛ لأن فيه فساد الصلاة لكون الصبي أو المرأة غير صالح للإمامة، فلما انتفى الاستخلاف أصلا لم تفسد صلاة الإمام وفسدت صلاة المقتدي لأنه بقي بلا إمام م: (وهو) ش: أي الشخص وهو الصبي أو المرأة لا يصلح للإمامة] .
وقيل في هذه المسألة: تفسد صلاتهما جميعا لما أن ذلك الواحد لما صار متعينا صار كأنه استخلفه، وقال فخر الإسلام: الأصح عندنا أن تفسد صلاة المقتدي دون صلاة الإمام؛ لأنه صار كمنفرد أحدث، ولذا قال التمرتاشي: الأصح أن صلاة الإمام لا تفسد؛ لأن الإمامة انتقلت من غير صنعه وكذا لو اقتدى مقيم بالمسافر في فائتة السفر، فأحدث الإمام لا يصير المقيم إماما له لعدم صلاحية إمامته، ولو كان خلفه جماعة لا يتعين أحدهما إلا بتقديم الإمام أو القوم أو بتقدمه فيقتدون به، ولو استخلف الإمام رجلين أو هو رجلا والقوم [رجلا] أو القوم رجلين بعضهم رجلا وبعضهم رجلا آخر فسدت صلاة الكل، فإن خرج الإمام قبل تعيين الخليفة فسدت صلاة القوم والإمام المحدث على إمامته ما لم يخرج من المسجد أو خليفته أو مستخلف القوم غيره، ولو تأخر الإمام ليستخلف فلبث مكانه لينظر من يصلح، فقيل: إن يستخلف أكبر رجل من وسط الصف للخلافة، وتقدم فصلاة من كان أمامه فاسدة ومن خلفه جائزة، وكذا لو استخلف الإمام رجلا من وسط الصف قبل أن يخرج وقبل أن يؤم خليفته مكانه تفسد صلاة من كان أمامه، ولو استخلف القوم إمامين فسدت صلاة الأقل وإن استويا فسدت صلاة الكل.
وعن السرخسي: أن الأقل إذا كان ثلاثة فسدت صلاة الكل، قال الحسن اتفقت الروايات على أن الخليفة لا يصير إماما حتى ينوي. وعن أبي حنيفة ومحمد إن نوى الإمامة في الحال صار إماما قبل التقدم، حتى لو أتم الصلاة في مكانه فسدت صلاة إمامه، ولو نوى أن يصير إماما إذا تقدم فهو على ما نوى قبل ذلك.(2/402)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فروع: في " الأسبيجابي " أدرك مع الإمام ركعة من الظهر أو العصر أو العشاء، فإذا قضى ركعة يقرأ فيها بالفاتحة وسورة ويتشهد؛ لأن ما يقضي آخر صلاته في حق التشهد ويقضي ركعة أخرى يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وسورة ولا يتشهد، وفي الثالثة إن شاء قرأ وهي أفضل وإن شاء سكت، ولو أدرك منها ركعتين يقضي ركعتين ويقرأ فيهما ويتشهد عقبيهما، ولو ترك القراءة فيهما تفسد صلاته؛ لأن ما يقضيه أول صلاته في حق القراءة وإن كان إمامه ترك القراءة في الأوليين وقرأ في الأخريين لأنها قضاء عن الأوليين والقراءة فيما يقضي فرض لأنه أول صلاته في حق القراءة.
وفي " المحيط ": لو أدرك الإمام في ثالثة المغرب قضى الأولى والثانية بالقراءة، حتى لو تركها في إحداهما فسدت صلاته لأن ما يقضيه أول صلاته في حق القراءة وفي حق التشهد آخر صلاته ويجلس في كل ركعة احتياطا.
وفي " المبسوط ": إذا أدرك مع الإمام ركعة من المغرب فلما سلم الإمام قام يقضي يصلي ركعة ويقعد وهذا استحسان، وفي القياس يصلي ركعتين ثم يقعد ثم يقضي ما يصلي المسبوق مع الإمام آخر صلاته حكما في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وفي قول محمد في حكم القراءة والقنوت هو آخر صلاته، وفي حكم القعدة هو أول صلاته، وجعل المرغيناني محمدا مع أبي حنيفة وجعل قول محمد المذكور أولا لأبي يوسف.
وقال النووي في " شرح المهذب ": مذهب الشافعي أن ما يصلي المسبوق مع الإمام أول صلاته وما يقضيه آخرها. وروي نحوه عن عمر وعلي وأبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وقال ابن المنذر: ولا يثبت عنهم هذا. وقال مالك والثوري وأحمد: ما أدركه مع الإمام آخر صلاته وما يدركه أولها، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمرو ومجاهد وابن سيرين، وحكاه السرخسي عن علي وأحمد عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.(2/403)
باب ما يفسد الصلاة، وما يكره فيها ومن تكلم في صلاته عامدا أو ساهيا بطلت خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الخطأ والنسيان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب ما يفسد الصلاة وما يكره فيها] [حكم الكلام في الصلاة]
م: (باب ما يفسد الصلاة، وما يكره فيها) ش: أي هذا باب في بيان ما يفسد الصلاة، وفي بيان ما يكره فيها، وجه المناسبة بين البابين من حيث إن كلا منهما مشتمل على العوارض في الصلاة إلا أن الأول في العوارض التي لا اختيار للمصلي فيها فكانت سماوية وهذا في العوارض المكتسبة، وقدم السماوية لأنها أعرف في المعارضة لعدم قدرة العبد على دفعها.
فإن قلت: النسيان من قبيل السماوية فكيف ذكره في هذا الباب.
قلت: المناسبة بين كلام الناسي والعامد في الحكم من حيث إن كلا منهما مفسد للصلاة.
م: (ومن تكلم في صلاته عامدا) ش: أي حال كونه عامدا أي قاصدا م: (أو ساهيا) ش: أي أو حال كونه ساهيا، وفي بعض النسخ أو ناسيا ولم يفرق المصنف بين السهو والنسيان لعدم التفرقة بينهما في حكم الشرع، والسهو: ما يتنبه صاحبه بأدنى تنبيه، والخطأ: ما لا يتنبه بعد إلقائه، والنسيان: أن يخرج المدرك من الخيال. وقال الأترازي: صورة الخطأ أن يقصد القراءة والتسبيح فيجري على لسانه كلام الناس، وصورة النسيان أن يريد الكلام ناسيا لصلاته وفيه نظر لا يخفى.
م: (بطلت صلاته) ش: جواب من م: (خلافا للشافعي في الخطأ والنسيان) ش: قال الشافعي: كلام الخاطئ والناسي لا يفسد، وكذا كلام الجاهل بتحريم الكلام في الصلاة بأن كان حديث عهد في الإسلام ولم يطل الكلام، فلو طال ففي ظاهر مذهبه تبطل صلاته؛ لأن الكلام الكثير مما لا يقع السهو به عادة فيمكن الاحتراز عنه، وقال بعض أصحابه: لا تبطل وإن كثر لإطلاق الحديث، وبقوله قال مالك وأحمد في رواية وعنه مثل قولنا.
وقال النووي في " شرح المهذب ": إن تكلم عامدا لا لمصلحة الصلاة تبطل صلاته بالإجماع، ونقل الإجماع ابن المنذر وغيره، وكذا لمصلحة الصلاة بأن قام الإمام إلى الخامسة فقال له: صليت أربعا ونحو ذلك، وهو مذهب الجمهور، وإن تكلم مكرها فكذلك عند الشافعي على الأصح، وفي الناسي والمخطئ لا يبطلها إلا إذا طال ويعرف الطول بالعرف.
وفي " الجواهر " للمالكية كما أطلق عليه اسم الكلام، من غير تجريد بحروفه ولا يتعين لها فهو مبطل للصلاة لعمده، أو أكره عليه أو وجب عليه الانتقاد سلم من مهلكه، ولا يبطلها سبق اللسان وكلام الناسي وكلام الجاهل ملحق بالعامد.
وقال الأوزاعي ومالك وابن القاسم: الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها، وقال المغيرة: يبطلها ذكرها في " الذخيرة " للقرافي، وفي " المغني " لابن قدامة: إذا تكلم الإمام لمصلحة الصلاة(2/404)
ومفزعه الحديث المعروف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيه ثلاث روايات: عن أحمد أحدها يبطل في حق الإمام والمقتدي واختارها الخلال، والثانية: لا يبطلها في حقهما، والثالثة: تبطل صلاة المأموم دون صلاته، وعند النخعي يفسدها كلام الناسي وبه قال قتادة. وحماد بن أبي سليمان كمذهبنا.
م: (ومفزعه) ش: أي مفزع الشافعي أي ملجؤه، والمراد به مسنده فيما ذهب إليه، وهو اسم مكان من فزع إليه إذا التجأ من باب علم يعلم، يقال: فلان مفزع القوم أي ملجؤهم، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث إذا دهمهم أمر فزعوا إليه وهو مبتدأ، وخبره قوله م: (الحديث المعروف) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، والعجب من الشراح وغيرهم من أصحابنا وغيرهم أن كلهم لا يذكرونه إلا بهذا اللفظ وهذا لا يوجد بهذا اللفظ، وأقرب ما وجد بلفظ: «رفع الله عن هذه الأمة: الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه» ، رواه ابن عدي في " الكامل " من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع الله عن هذه الأمة ثلاثا» .. الحديث " وعده ابن عدي من منكرات جعفر بن جسر بن فرقد أحد رواته عن أبيه عن الحسن عن أبي بكرة.
وروى ابن ماجه في " سننه " من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» : ورواه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه "، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وروى ابن ماجه أيضا من حديث أبي ذر مرفوعا نحوه.
وروى الطبراني في " معجمه " من حديث ثوبان مرفوعا نحوه.
وروى أيضا من حديث أبي الدرداء مرفوعا نحوه.
وروى أبو نعيم في " الحلية " من حديث ابن عمر عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نحو حديث ابن عباس وقال: غريب من حديث مالك تفرد به ابن الصفي عن الوليد.(2/405)
ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وإنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن» ، وما رواه محمول على رفع الإثم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرجه العقيلي في كتابه وأعلمه بأن الصفي وضعه عن أحمد، وقال ابن أبي حاتم في " علله ": سألت أبي عن حديث رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ... الحديث المذكور، وعن الوليد عن مالك عن نافع عن ابن عمر مثله، وعن الوليد عن أبي لهيعة عن موسى بن وردان عن عقبة بن عامر مثله، فقال: إن هذه أحاديث منكرة، كأنها موضوعة ولا يصح هذا الحديث، ولا يصح إسناده.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس وإنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن» ش: هذا الحديث رواه مسلم في " صحيحه " من «حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: " بينا أنا أصلي [مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ عطس رجل من القوم، فقلت له: يرحمك الله، فرماني القوم] بأبصارهم، فقلت واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم.. " الحديث بطوله فيه أن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، وأخرجه الطبراني ولفظه: إن صلاتنا لا يحل فيها شيء من كلام الناس» وبوب عليه مسلم: باب نسخ الكلام في الصلاة.
م: (وما رواه) ش: أي الذي رواه الشافعي وهو الحديث المذكور م: (محمول على رفع الإثم) ش: تقرير هذا أن الذي يراد به الحقيقة أو الحكم، فالأول ممنوع لأن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ليست بمرفوعة فتعين الثاني وهو الحكم وهو لا يخلو [إما] أن يراد به حكم الدنيا أو حكم الآخرة، فالأول ممنوع لأنه ليس بمرفوع بالإجماع، ألا ترى أن رجلا إذا قتل مسلما خطأ تجب عليه الدية والكفارة بحكم نص القرآن، وكذا لو ترك ركنا من أركان الصلاة ناسيا لا يكون معذورا فتعين الثاني وهو حكم الآخرة، وهو الإثم فلما ثبت أن المراد منه حكم الآخرة لا حكم الدنيا كان كلام الناسي والخاطئ مفسدا للصلاة؛ لأن جوازها وفسادها من أحكام الدنيا.
وقال الأكمل: تقريره أن حكم الآخرة وهو الإثم مراد بالإجماع فلا يكون حكم الدنيا مرادا وإلا لزم عموم المشترك أو المقتضي وكلاهما باطل.
قلت: هذا الجواب غير كاف؛ لأن الشافعي قائل بعموم المشترك على ما عرف في موضعه.
فإن قلت: احتج الخصم بحديث ذي اليدين أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «صلى بنا رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إحدى صلاتي العشي، إما الظهر وإما العصر، فسلم في ركعتين فقام ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق، لم تصل إلا ركعتين، فصلى ركعتين وسلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم " وفي رواية البخاري قال: " لم أنس ولم تقصر " وفي رواية لهما قال: " كل ذلك لم يكن، قال: قد كان بعض ذلك» وفي لفظ لهما(2/406)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
«صلى بنا رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلاة العصر، وفي لفظ لهما: صلى بنا ركعتين من صلاة الظهر، ثم سلم فأتاه رجل من بني سليم» .
قلت: حديث ذي اليدين قد كان في وقت كان الكلام مباحا في الصلاة ثم انتسخ ذلك، ألا ترى أن ذا اليدين كان عامدا بالكلام ولم يأمرهم بالإعادة، ويدل على نسخه أيضا أن ذا اليدين لم يسبح لرسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - باتفاقنا أن رجلا لو ترك إمامه شيئا من صلاته يسبح له ليعلم إمامه ما قد تركه فدل أن ما علمه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الناس من التسبيح في الصلاة لنائبة كان متأخرا عن ذلك، والدليل على كون الكلام مباحا ثم نسخ بحديث زيد بن أرقم وحديث ابن مسعود.
«فحديث زيد أخرجه البخاري ومسلم عنه قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] [البقرة: الآية 238] ، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام» .
«وحديث ابن مسعود أخرجه أيضا عنه قال: " كنا نسلم على رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه، فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله، كنا نسلم عليك فترد علينا، فقال: إن في الصلاة شغلا " وأخرجه أبو داود في لفظه: أنه قد حدث أن لا تكلموا في الصلاة» ورواه ابن حبان في " صحيحه ".
والدليل أيضا على النسخ أن أبا بكر وعمر وغيرهما من الناس تكلموا عامدين.
فإن قلت: أبو هريرة أسلم بعد فتح خيبر وحرمة الكلام كانت ثابتة حين قدم من الهجرة، وفتح خيبر كانت سنة سبع من الهجرة، وقال أبو هريرة في حديثه: صلى بنا.
قلت: معناه صلى بنا أي بأصحابنا وهذا جائز في اللغة كما روي عن النزال بن سبرة قال: قال لنا رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وإنا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف.. الحديث» والنزال لم ير رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وإنما أراد بذلك: قال لقومنا.
وروي عن طاوس قال: قدم علينا معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلم يأخذ من الخضروات شيئا، وإنما أراد قدم بلدنا؛ لأن معاذا إنما قدم اليمن على عهد رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قبل أن يولد طاوس، وقد أشبعنا الكلام في شرحنا " لمعاني الآثار " للإمام الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وذو اليدين اسمه الخرباق وكنيته أبو العريان، وقال بعض أصحابنا منهم صاحب " المبسوط ": إن ذا اليدين قتل ببدر وذلك قبل فتح خيبر بزمان طويل.
قلت: هذا غير صحيح، والذي عليه أهل الأثر المحققون أنه عاش بعد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه والذي قتل في بدر هو ذو الشمالين واسمه عمير بن عمر الخزاعي، وهو غير المتكلم في حديث(2/407)
بخلاف السلام ساهيًا لأنه من الأركان فيعتبر ذكرًا في حالة النسيان، وكلامًا في حالة التعمد لما فيه من كاف الخطاب، فإن أن فيها أو تأوه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السهو، هذا هو قول جميع الحفاظ إلا الزهري، وقد اتفقوا على تغليط الزهري في ذلك.
فإن قلت: قال الخطابي: دعوى النسخ فيه لا وجه لها لأن تحريم الكلام كان بمكة، وراوي حديث ذي اليدين أبو هريرة هو متأخر الإسلام، ورواه أيضا عمران وهجرته متأخرة، قلت: هذا ليس بشيء؛ لأنا قد ذكرنا وجه النسخ، ولا سيما بحديث زيد بن أرقم الذي في الصحيح، وصحبته كانت بالمدينة بعد قدوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكة، وفي حديثه {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] [البقر: الآية 238] ، وهي في سورة البقرة، وهي مدنية بالإجماع، ومن أين للخطابي أن تحريم الكلام كان بمكة ومن روى ذلك؟ وتأخر إسلام أبي هريرة وهجرة عمران بن حصين لا يقدح في النسخ، فلا يقوم الدليل بحديث ذي اليدين ما لم يقم الدليل على أنه كان بعد نسخ الكلام.
م: (بخلاف السلام ساهيا) ش: هذا جواب عما يقال: السلام كالكلام في أن كل واحد منهما قاطع، وفي السلام تفصيل بين العمد والنسيان فكذلك في الكلام، وتقرير الجواب: أن السلام ليس كالكلام م: (لأنه من الأركان) ش: إذا تشهد يسلم على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهو اسم من أسماء الله تعالى وله حالتان م: (فيعتبر ذكرا في حالة النسيان وكلاما في حالة التعمد لما فيه من كاف الخطاب) ش: عملا بالشبهين، بخلاف الكلام فإنه ينافي الصلاة على كل حال وكان مبطلا لها.
وقال الأكمل: وطولب الفرق بينه وبين أفعال تنافي الصلاة، فإن القليل منها غير مفسد، وأجيب بأن الاحتراز عن قليلها غير ممكن؛ إذ في الحي حركات طبيعية ليست من الصلاة، فلا تفسد حتى تدخل في حد ما يمكن الاحتراز عنه وهو الكثير، وليس في الحي كلام طبيعي لا يمكن الاحتراز عنه فاستوى القليل والكثير.
قلت: هذا السؤال مع جوابه للسغناقي فسبكهما هذه العبارة، والسغناقي أخذه من كتاب " الأسرار " حاصله، لا يجوز اعتبار القول بالفعل؛ لأن الاحتراز عن أصل الفعل محال بخلاف القول فاحتيج إلى الفرق باعتبار الكثرة في الفعل لإمكان الاحتراز عنها بخلاف القول.
م: فإن أنَّ فيها) ش: أي في الصلاة وأنّ فعل ماض مشدد من الأنين وهو الصوت المستوجع والمتحزن م " (أو تأوه) ش: عطف على أنّ وهو أيضا فعل ماض من باب التفعل، والتأوه أن يقول: أوه، والأنين أن يقول: آه، وفي هذه اللفظة لغات: آه بسكون الواو وكسر الهاء، وآه تقلب الواو ألفا، وأوه بتشديد الواو مع كسرها وسكون الهاء، وأو بتشديد الواو مع حذف الهاء، وأوه بالمد وفتح الواو المشددة وسكون الهاء، وفي " شرح الأقطع " قال محمد - في الأنين إذا لم يقدر على دفعه من الوجع -: لم تفسد الصلاة؛ لأنه لا يمكن الاحتراز عنه.(2/408)
أو بكى فارتفع بكاؤه، فإن كان من ذكر الجنة أو النار لم يقطعها؛ لأنه يدل على زيادة الخشوع،
وإن كان من وجع أو مصيبة قطعها؛ لأن فيه إظهار الجزع والتأسف فكان من كلام الناس. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن قوله: آه لا يفسد في الحالين، وأوه يفسد، وقيل: الأصل عنده أن الكلمة إذا اشتملت على حرفين، وهما زائدان، أو أحدهما زائد لا تفسد، وإن كانتا أصليتين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أو بكى فارتفع بكاؤه فإن كان) ش: أي بكاؤه م: (من ذكر الجنة أو النار لم يقطعها) ش: أي لم [يقطع] الصلاة م: (لأنه يدل على زيادة الخشوع) ش: لأن في البكاء من ذكر الجنة زيادة الرغبة وفي البكاء من ذكر النار زيادة الخشية، وفيه تعريض سؤال الجنة وتعوذ من النار، ولو صرح به فقال: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، لم يضره فكذلك هاهنا.
م: (ولو كان) ش: أي البكاء م: (من وجع) ش: في بدنه م: (أو مصيبة) ش: في ماله أو أهله م: (قطعها) ش: أي قطع الصلاة م: (لأن فيه إظهار الجزع والتأسف فكان من كلام الناس) ش: وكلام الناس يفسد الصلاة فكذلك ما كان منه، ولو صرح به، فقال: أغيثوني فإني مصاب، تفسد صلاته، فكذلك هاهنا، وبه قال مالك وأحمد، وقال الشافعي: البكاء والأنين والتأوه يبطل الصلاة إذا كانت حرفين سواء بكاء للدنيا أو للآخرة، وفي " الدراية ": ثم إن عند الشافعي البكاء لا يفسد في الحالتين؛ لأن ما ظهر من الصوت ليس بكلام في الحالتين، ولا معبر عما في القلب فلا معنى للفصل بين الحالتين.
م: (وعن أبي يوسف أن قوله آه) ش: بفتح الهمزة وسكون الهاء م: (لم يفسد في الحالتين) ش: يعني في البكاء من ذكر الجنة أو النار، والبكاء من وجع أو مصيبة.
م: (وأوه يفسد) ش: يعني قوله " أوه " بفتح الهمزة وتشديد الواو وسكون الهاء يفسد الصلاة، وهذا القول عن أبي يوسف مبني على أن الحرفين لا تفسد، والثلاثة تفسد، والمعنى فيه: أن أقل أصل كلام العرب ثلاثة أحرف، وهو الأصل ليكون له ابتداء وانتهاء ووسطا، فكان الحرف الواحد أقل الكلمة فلا يطلق عليه الكلام، وكلك الحرفان إذا كان أحدهما من الزوائد؛ لأنه واحد على اعتبار الأصل، فكذلك لم يفسداه لأنهما من حروف الزوائد، وأوه تفسد وإن كان كلها من حروف الزوائد؛ لأنه زاد على الحرفين وهو قد قيد عدم الإفساد بالحرفين كان الزوائد عليهما مفسدا، وإن كان هو من حروف الزوائد فكان تقييده بحرفين زائدين إشارة إلى أن ليس يفسد؛ لأن له حرفين أصليين، وأوه أيضا يفسد لأنه زائد على الحرفين، وإلى ما قلنا أشار بقوله م: (وقيل الأصل فيه) ش: أي في هذا الحكم م: (أن الكلمة إذا اشتملت على حرفين وهما زائدان أو أحدهما زائد) ش: من الحروف الزوائد وهي عشرة أحرف، فالآن يأتي ذكرها.
م: (لا تفسد) ش: أي الصلاة م: (وإن كانتا) ش: أي الحرفان م: (أصليتين تفسد) ش: على ما(2/409)
تفسد، والحروف الزوائد جمعوها في قولهم: " اليوم تنساه "
وهذا لا يقوى؛ لأن كلام الناس في متفاهم العرف يتبع وجود حروف الهجاء، وإفهام المعنى ويتحقق ذلك في حروف كلها زوائد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكرنا الآن م: (والحروف الزوائد جمعوها في قولهم: اليوم تنساه) ش: وهي عشرة أحرف من همزة اليوم إلى هاء تنساه، وسئل بعضهم عنها حين قدم على قوم فقال:
هويت السمانا فشيبتني ... وقد كنت [قد ما] هويت السمانا
فلم يفهموه وظنوا أنه يطلب السمين فأتوا به، فلما فرغ منه سألوه ثانيا، فقال: سألتمونيها، فلم يفهموه أيضا، فسألوه ثالثا، فقال مخاطبا لواحد منهم: اليوم تنساه، فأتى بجميع الحروف الزوائد في أجوبته الثلاثة، وقال السروجي: وسئل المازني عن حروف الزيادة، فأنشد: هويت السمان.. إلخ فلم يفهمه السائل فقال له: قد أجبتك مرتين.
قلت: لم تجبه ولا مرة واحدة؛ لأنه نطق كل مرة بتسعة أحرف من حروف الزيادة؛ لأنه حذف ألف الوصل مرتين، ولهذا قال ابن الحاجب: السمان هويت، وجمعوها أيضا بكلمات أخرى، نحو: أتاه سليمان، الموت ينساه، وغير ذلك.
فإن قلت: ما معنى تسميتهم هذه الأحرف حروف الزيادة.
قلت: معناه [أن] الزيادة لغير الإلحاق والتضعيف، ولا يكون إلا منها لا أنها لا تقع إلا زوائد.
م: (وهذا) ش: القول م: (لا يقوى) : أي هذا الذي قاله أبو يوسف ليس بقوي م: (لأن كلام الناس في متفاهم العرف يتبع حروف الهجاء) ش: وفي بعض النسخ يتبع وجود الهجاء م: (وإفهام المعنى) ش: أي ويتبع إفهام المعنى بكسر الهمزة م: (ويتحقق ذلك) ش: أي إفهام المعنى م: (في حروف كلها زوائد) ش: فإنك إذا قلت: أنتم اليوم سألتمونيها تفسد بالاتفاق، وهذا مبتدأ وخبر وفعل وفاعل ومفعول به ومفعول فيه وكلها من حروف الزوائد، وقال الأترازي: وفيه نظر عندي؛ لأن أبا يوسف إنما جعل حروف الزيادة كأن لم يكن إذا قل لتعذر الاحتراز عنه وشبهه بالتنحنح والتف، فأما إذا كثر فلا، فكيف يرد عليه حينئذ قوله، ويتحقق ذلك في حروف كلها زوائد.
قلت: هو مسبوق بالسغناقي في هذا، فإنه قال: لا يرد عليه لأن كلامه في الحرفين لا في الزوائد عليهما، فإن في الزوائد عليهما قوله كقولهما، وقال الأكمل بعد أن حكى كلام السغناقي: أقول قول المصنف في حروف كلها زوائد يجوز أن يكون المراد بالجمع فيه التثنية، وحينئذ يكون معنى كلامه: كلام الناس في العرف عبارة عن وجود الهجاء وإفهام المعنى وذلك يتحقق في الكلام الذي فيه حرفان من حروف الزيادة، فيكون من كلام الناس كثيرة فيكون مفسدا.
قلت: لا داعي هاهنا يذكر الجمع وأراد التثنية ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا لنكتة.(2/410)
وإن تنحنح بغير عذر بأن لم يكن مدفوعا إليه، وحصل به الحروف ينبغي أن يفسد عندهما، وإن كان بعذر فهو عفو كالعطاس والجشاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[التنحنح في الصلاة]
م: (وإن تنحنح بغير عذر) ش: التنحنح أن يقول: أح أح، وفسر قوله: لغير عذر بقوله م: (بأن لم يكن مدفوعا إليه) ش: أي بأن لم يكن مضطرا إليه بأن كان مبعوث الطبع؛ لأنه حينئذ لا يمكنه الاحتراز عنه فلا تفسد. وقال شيخ الإسلام: التنحنح لتحسين الصوت لا يقطع الصلاة؛ لأنه لإصلاح القراءة فكان من القراءة.
م: (وقد حصل به الحروف) ش: جملة حالية، والضمير في " به " يرجع إلى التنحنح كما في قوله: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] [المائدة: الآية 8] ينبغي أن يفسد عندهما جواب أن؛ أي عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال الأكمل: قيل: إنما قال ينبغي؛ لأن المشائخ اختلفوا فيما إذا كان التنحنح لإصلاح الصوت للقراءة.
قال شيخ الإسلام وشمس الأئمة: لا تفسد لأنه بمعنى القراءة، وكان الفقيه إسماعيل الزاهد يقول: يقطع الصلاة عندهما؛ لأنه حروف مهجاة وفيه نظر؛ لأن اختلاف المشائخ لا يستلزم ذلك، ولوقع في هذا الكتاب في موضع من اختلاف المشائخ كذلك فقلت لأجل اختلاف المشائخ: لم يقطع الجواب في الكتاب، وذكر لفظ ينبغي أن يفسد عندهما؛ لأن الأصل عندهما إذا حصل به الحروف المهجاة أن تفسد، وإن [لم] تظهر به الحروف المهجاة لا تفسد سواء كان لتحسين الصوت أو غيره ويندفع نظره بذلك، ولا يلزم من عدم وقوع هذا الوضع من الكتاب أن لا يقع في هذا الموضع، وقال الأكمل: في قوله عندهما أيضا فيه نظر؛ لأنه قال: وحصل به حروف بلفظ الجمع، ومذهبه حينئذ كمذهبنا فلا وجه لإفرادهما بالذكر.
قلت: إنما قال عندهما بناء على التفصيل المذكور؛ لأن في هذا عدم العذر خلاف المشايخ، فأشار بقوله: عندهما، إلى أنه يقطع عندهما، ولكن لم يقطع بالجواب لما ذكرنا، وقوله فإن حمل الجمع هاهنا أيضا على التثنية اندفع النظر الثاني قد مر جوابه عن قريب.
وللشافعي في التنحنح إن ظهر له حروف قولان كما في النفخ، وفي " مختصر البحر المحيط ": التنحنح بغير سبب يكره، وبسبب الخشونة في حلقه أو لإعلام غيره أنه في الصلاة لم يفسد ولم يكره، ولو قام الإمام إلى الخامسة فتنحنح تنبيها له لا يفسد، وكذا لو أخطأ الإمام فتنحنح المقتدي ليهتدي إلى الصواب لا يفسد، ولو تنحنح قاصدا إسماع شخص ففي بطلانها روايتان عند المالكية، وتبطل في أصح الوجوه عند الشافعية إن بان فيه حرفان إذا كان مختارا من غير حاجة.
م: (وإن كان) ش: أي التنحنح م: (بعذر) ش: بأن يكون له سعال م: (فهو عفو) ش: يعني لا يفسد وإن حصل به حروف؛ لأنه جاء من قبل من له الحق فجعل عفوا م: (كالعطاس والجشاء) ش:(2/411)
إذا حصل به حروف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أراد به أنه إذا عطس أو تجشأ م: (إذا حصل به حروف) ش: أي إذا حصل بكل واحد من العطاس والجشاء فإنه لا يفسد، وكذا التثاؤب إن ظهر له حروف مهجاة كذا في " فتاوى العتابي "، وأما النفخ فقال في " الذخيرة ": ينفخ التراب من موضع سجوده إن كان نفخا لا يسمع لا تفسد اتفاقا لأنه كالتنفس، وإن كان يسمع يفسد عندهما.
1 -
قال: وظن بعض المشايخ أن المسموع ما يكون له حروف مهجاة، نحو: أف وتف ويف وغير المسموع بخلافه، وإليه مال شمس الأئمة الحلواني، وبعضهم لم يشترط للنفخ المسموع أن يكون له حروف مهجاة، وإليه ذهب خواهر زاده، وكان أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول أولا: لا يفسد إلا إذا أراد به التأفيف، يعني إظهار الكراهة والتضجر، كما في الآية، وكقول القائل: أفا وتفا لمن يؤديه به إن غبت عنه ساعة زالت إن مالت الريح هكذا وهكذا مال مع الريح أينما مالت، أما إذا أراد به تنظيف موضع سجوده وتنقيته من التراب لا يقطع ثم رجع، وقال: لا يقطع بكل حال.
وقال أحمد: النفخ عندي بمنزلة الكلام، حكاه في " المغني "، وقال أيضا: تفسد به صلاته؛ لقول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من نفخ في الصلاة فقد تكلم، رواه سعيد بن منصور في " سننه "، ومثله عن سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعنه قال: أكرهه ولا أقول يقطع الصلاة وليس بكلام، وعن مالك في النفخ قولان، وفي " الإمام «غلام يقال له رباح نفخ في سجوده، فقال له - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: يا رباح أما علمت أن من نفخ فقد تكلم» ذكره في الإمام من طرق فيها كلام.
وفي " المحيط " إذا قال المصلي: أف مخففا لا تفسد صلاته عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بلا خلاف بين المشايخ، وإذا قال: أف مشددا ينبغي أن يكون فيه اختلاف المشايخ وعندهما تفسد الصلاة في المخفف والمشدد جميعا. واحتج أبو يوسف بما روي «عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أنه صلى صلاة الكسوف ونفخ في سجوده، وقال: " [أي رب] ألم تعدني أنك لا تعذبهم وأنا فيهم، ألم تعدني أنك لا تعذبهم وهم يستغفرون» رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وأن لا يكون كلاما حتى يسرد والنافخ لا يسردها، وفي ملتقى البخاري أن نفخ النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان في سجود المناجاة بعد فراغه من صلاة الكسوف، قال: نقل الثقات الأثبات وقد ذكروا في أف ما يزيد على أربعين وجها في النطق بها.
وفي " الحلل في شرح الجمل " لأبي قاسم الحاجي، وقد قرئ بها في الشواذ وغيرها، وهي: أف أفَ أفْ أفُ أفَّ أفِّ، والنافخ: أفُّ أفٌ أفا أفي أفو أفا أفا الأول بغير إمالة والثاني بإمالة والثالث بين بين، أفي أفوا أفا أفه أفه، قال: فهذه اثنتان وعشرون لغة أف أف أفي أفوا، قال: وهو لفظ مستعمل جواب عما يضجر منه ولكل ما يستقذر.
وقيل: إن أف اسم لوسخ الأظافر، وتف لوسخ البراجم، ويقال لوسخ الأذن أف ولوسخ(2/412)
ومن عطس، فقال له آخر: يرحمك الله، وهو في الصلاة فسدت صلاته؛ لأنه يجري في مخاطبات الناس، فكان من كلامهم، بخلاف ما إذا قال العاطس أو السامع: " الحمد لله " على ما قالوا؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الظفر تف، وفي " الذخيرة " لو ساق دابة بقوله فالقول ليس يقطع عنده، وقال صاحب " الطوار ": لو نهق كالحمير أو زعق كالغراب تبطل صلاته، ولا يشترط فيه الحروف، وعندنا يشترط.
[تشميت العاطس في الصلاة]
م: (ومن عطس فقال له آخر) ش: أي شخص آخر م: (يرحمك الله وهو) ش: أي الحال أن الآخر م: (في الصلاة فسدت صلاته لأنه) ش: أي من قوله: يرحمك الله م: (يجري في تخاطب الناس فكان من كلامهم) ش: فإن كان الناس [....] فقد يتكلم به تفسد صلاته، م: (بخلاف ما إذا قال العاطس) ش: لنفسه يرحمك الله يا نفسي، فإنه لا تفسد صلاته؛ لأنها لم تكن خطابا لغيره لم يعتبر من كلام الناس فلم يكن مفسدا.
م: (أو السامع الحمد لله) ش: أي بخلاف ما قال السامع في الصلاة: الحمد لله، لا تفسد صلاته؛ لأنه لا يستعمل جوابا فلم يكن من كلام الناس وأشار بقوله م: (على ما قالوا) ش: إلى خلاف البعض من المشايخ فإنهم اختلفوا في فساد صلاة من أراد الجواب بقوله: الحمد لله، وفي " المحيط " لو حمد الله العاطس في نفسه، ولا يحرك لسانه عن أبي حنيفة لا تفسد، فلو حرك تفسد، وفي " فتاوى العتابي " لو قال السامع: الحمد لله على رجاء الثواب من غير إرادة الجواب فلا تفسد.
وعن أبي حنيفة من رواية الحسن: تفسد إن أراد استفهامه، وعن محمد: أنه يحمد بعد الفراغ، ولو سمع اسم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وصلى عليه تفسد، وكذا لو سمع اسم الشيطان فقال: لعنه الله تفسد، وقيل على قول أبي يوسف: لا تفسد لأنه في القرآن، ولو أجاب المؤذن تفسد ولو أذن ذكر البقالي أنه تفسد خلافا لأبي يوسف، وفي الفتاوى: لا تفسد حتى يقول: حي على الصلاة، ولو قال: نعم، أو أرى لو اعتاده خارج الصلاة فسدت وإلا فلا، ولو شمت العاطس بالتحميد لا يفسد إلا في رواية عن أبي حنيفة ومحمد، والعاطس يحمد الله تعالى في نفسه وبه قال مالك وتركه أحسن، وعن مالك: الأحسن السكوت.
وعن أبي يوسف يسر المقتدي التحميد، ويخير المنفرد، مصليان عطس أحدهما فشمته ثالث فقالا: آمين، فسدت صلاة العاطس لأنه أجابه دون الثاني، وقال مالك: لا يشمت العاطس، فلو شمته لا يرد بإشارة في فرض ولا نفل بخلاف رد السلام بالإشارة عنه. وفي " نوادر بشر " عن أبي يوسف أن المصلي وحده إذا عطس إن شاء أسر بالحمد وإن شاء أمكن به، وخلف الإمام يحرك به لسانه، وفي " الواقعات " الأحسن أن يسكت.(2/413)
لأنه لم يتعارف جوابا، وإن استفتح ففتح عليه في صلاته تفسد، ومعناه أن يفتح المصلي على غير إمامه؛ لأنه تعليم وتعلم فكان من جنس كلام الناس،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأنه) ش: أي لأن قول الحمد لله م: (لم يتعارف جوابا) ش: يعني ليس بجواب في العرف.
م: (وإن استفتح) ش: على صيغة الفاعل والضمير فيه يرجع إلى المصلي، وهو أعم من أن يكون إماما أو منفردا، والإمام أيضا يحتمل أن يكون إمام نفسه أو إمام غيره، ولكن المراد منه هاهنا غير إمامه على ما لا يخفى على المتأمل م: (ففتح عليه) ش: على صيغة الفاعل أيضا أي: ففتح على المستفتح، م: (في صلاته فسدت صلاته) ش: أي صلاة الفاتح، ومراده: أن يفتح على غير إمامه، وأشار إلى ذلك بقوله م: (ومعناه أن يفتح المصلي على غير إمامه لأنه) : أي لأن فتحه على غير إمامه م: (تعليم وتعلم فكان من كلام الناس) ش: فيكون مفسدا.
[الفتح على الإمام] 1
ثم اعلم أن الاستفتاح على أربعة أقسام بحسب القسمة العقلية.
الأول: أن لا يكون المستفتح والفاتح في الصلاة، ولهذا ليس فيما نحن فيه.
الثاني: أن يكون كلا منهما في الصلاة ثم لا يخلو إما أن تكون الصلاة متحدة بأن يكون المستفتح إماما والفاتح مأموما أو لا يكون، ففي الأول الذي هو القسم الثالث لا تفسد صلاة كل منهما، وفي الثاني الذي هو القسم الرابع يفسد صلاة كل واحد منهما؛ لأنه تعليم وتعلم والاستفتاح طلب الفتح والاستبصار، قال الله تعالى {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} [البقرة: 89] [البقرة: الآية 89] ، أي: يستبصرون، ويجوز أن يكون كل واحد منهما مرادا، واستفتاح المصلي طلبه الفتح بدلالة حاله حيث توقف بسبب الحصر، كل واحد من المعنيين مفسدا؛ لأن الفتح ينزل منزلة قول القائل: إذا انتهت إلى هذا فبعده هذا، والتصريح به مفسد فكذا النازل منزله، ولكن وقع العدول عن قضية هذا التأويل فيما إذا اتحدت صلاتهما بأن كان المستفتح إماما والفاتح مقتديا بالنص، وهو ما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة فالتبس عليه، فلما فرغ قال لأبي: أشهدت معنا؟ قال: نعم، وقال: فما منعك أن تفتحها علي» ، رواه أبو داود وابن حبان.
وروى الحاكم «عن أنس: كنا نفتح على الأئمة على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -. وقد صح عن ابن عبد الرحمن السلمي قال: قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا استطعمك الإمام فأطعمه، والاستطعام مجاز عن الاستفتاح لاشتراكهما في معنى الاستغاثة، وعن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: لقن الإمام، وعن عطاء: لا بأس به، وعن نافع قال: صلى بنا ابن عمر فتردد ففتحت عليه فأخذ في ذكر(2/414)
ثم شرط التكرار في الأصل؛ لأنه ليس من أعمال الصلاة فيعفى القليل منه، ولم يشترط في الجامع الصغير؛ لأن الكلام بنفسه قاطع وإن قل،
وإن فتح على إمامه لم يكن كلاما مفسدا استحسانا؛ لأنه مضطر إلى إصلاح صلاته فكان هذا من أعمال صلاته معنى وينوي الفتح على إمامه دون القراءة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك ابن أبي شيبة في " سننه " وهو قول الجمهور. وقال ابن قدامة: قال أبو حنيفة: إن فتح على الإمام بطلت صلاته.
قلت: هذا ليس بصحيح. وقال الأترازي: بمعنى أن لا يجوز الفتح على الإمام أصلا؛ لما روي عن ابن إسحاق عن الحارث عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا علي لا تفتح على إمامك في الصلاة» .
قلت: ذاك حديث مطعون فيه طعنه أبو داود في " السنن " وقال: لم يسمع أبو إسحاق من الحارث إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها.
قلت: كان قصده من إيراد مثل هذا تطويل الكلام بلا فائدة، وكان ينبغي أن يقول: وما روى الحارث عن علي.. إلى آخره غير صحيح؛ لأن الحارث ضعيف، وأيضا قد صح عن علي خلاف هذا وقد ذكرناه.
1 -
م: (ثم شرط التكرار) ش: وهو أن يفتح غير مرة م: (في الأصل) ش: أي في " المبسوط " وذكر فيه إذا فتح غير مرة فسدت صلاته، وهذا إشارة إلى أنه ما لم يتكرر لا تفسد م: (لأنه) ش: أي لأن التكرار م: (ليس من أعمال الصلاة فيعفى القليل منه) ش: كالخطوة والخطوتين.
م: (ولم يشترط) ش: أي التكرار م: (في " الجامع الصغير " لأن حكم الكلام نفسه قاطع وإن قل) ش: أي الفتح يكون مفسدا بنفسه.
[حكم الفتح على الإمام]
م: (وإن فتح على إمامه لم يكن كلاما استحسانا) ش: أي من حيث الاستحسان؛ لأن القياس يأباه، وإطلاق هذا دليل على أنه إذا قرأ الإمام مقدار ما تجوز به الصلاة أو لم يقرأ لا تفسد صلاتهما بالفتح، والأخذ ويؤيد هذا ما ذكره قاضي خان في فتاواه وقال: وإن قرأ الإمام مقدار ما تجوز إلا أنه توقف ولم ينتقل إلى آية أخرى حتى فتح المقتدي اختلفوا فيه والصحيح أنه تفسد صلاة الفاتح، وإن أخذ الإمام لا تفسد صلاتهم وعن قريب يجيء مزيد الكلام فيه.
م: (لأنه) ش: أي لأن الإمام م: (مضطر إلى إصلاح صلاته فكان هذا) ش: أي الفتح م: (من أعمال صلاته معنى) ش: أي من حيث المعنى، وأراد أنه اشتغال بالقراءة، والقراءة من أعمال الصلاة م: (وينوي الفتح) ش: أي ينوي الفاتح الفتح م: (على إمامه دون القراءة) ش: لأنه ممنوع من(2/415)
هو الصحيح؛ لأنه مرخص فيه وقراءته ممنوع عنها ولو كان الإمام انتقل إلى آية أخرى تفسد صلاة الفاتح وتفسد صلاة الإمام لو أخذ بقوله لوجود التلقين والمتلقن من غير ضرورة،
وينبغي للمقتدي أن لا يعجل بالفتح، وللإمام أن لا يلجئهم إليه، بل يركع إذا جاء أوانه أو ينتقل إلى آية أخرى. ولو أجاب رجلا في الصلاة بلا إله إلا الله فهذا كلام مفسد عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يكون مفسدا وهذا الخلاف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القراءة دون الفتح م: (هو الصحيح) ش: أي احتراز به عن قول بعض المشايخ: إنه ينوي بالفتح على إمامه التلاوة لئلا يكون مباشرا عملا ليس من الصلاة.
وقال السرخسي: هذا سهو بل ينوي الفتح م: (لأنه) ش: أي لأن الفتح م: (مرخص فيه) ش: لإصلاح الصلاة.
م: (وقراءته) ش: أي قراءة المقتدي م: (ممنوع عنها) ش: أي عن القراءة م: (ولو كان الإمام انتقل إلى آية أخرى تفسد صلاة الفاتح) ش: خاصة إن لم يأخذ الإمام بقوله لعدم الضرورة إلى الفتح م: (وتفسد صلاة الإمام لو أخذ بقوله) ش: أي بقول الفاتح م: (لوجود التلقين) ش: من الفاتح م: (والمتلقن) ش: من الإمام م: (من غير ضرورة) ش: أي الفتح.
م: (وينبغي للمقتدي أن لا يعجل بالفتح) ش: لإمكان الاستفتاح م: (وللإمام أن لا يلجئهم إليه) ش: أي إلى الفتح والإلجاء أن يقف ساكتا يقيد الحصر أو يكرر الآية، ولا ينبغي له أن يفعل ذلك م: (بل يركع إذا جاء أوانه) ش: أي أوان الركوع وهو أن يقرأ مقدار ما تجوز به الصلاة، وكلامه مطلق وبعضهم فصل فيه، لاختلاف الرواية فيه؛ ففي بعضها اعتبر الاستحباب، وفي بعضها اعتبر فيها فرض القراءة م: (أو ينتقل إلى آية أخرى) ش: لأن الفتح وإن كان إصلاحا حقيقة ولكنه يتصور بصورة التعلم والتعليم فيكره كذا في " المحيط " و " قاضي خان "، وفي " جامع التمرتاشي " لو استفتح بعدما قرأ مقدار ما تجوز به الصلاة ففتح عليه اختلفوا فيه.
فقيل: تفسد صلاته ولو أخذ الإمام تفسد صلاة الكل، والأصح أنه لا تفسد صلاة أحد؛ لأنه لو لم يفتح ربما يجري على لسانه ما يكون مفسدا فكان فيه إصلاح صلاته.
وعن أبي حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يفتح على إمامه وإن فعل فقد أساء ولا تفسد، وعند الشافعي ومالك: لا بأس به.
م: (ولو أجاب) ش: أي المصلي م: (في الصلاة رجلا بلا إله إلا الله) ش: بأن قيل عنده هل مع الله إله آخر، فأجاب: أن لا إله إلا الله م: (فهذا كلام مفسد عند أبي حنيفة ومحمد) ش: وبه قال مالك وأحمد.
م: (وقال أبو يوسف: لا يكون مفسدا) ش: وبه قال الشافعي م: (وهذا الخلاف) ش: أي(2/416)
فيما إذا أراد به جوابه، له أنه ثناء بصيغته فلا يتغير بعزيمته، ولهما أنه أخرج الكلام مخرج الجواب وهو يحتمله فيجعل جوابا كالتشميت
والاسترجاع على الخلاف في الصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخلاف المذكور بينهم م: (فيما إذا أراد به جوابه) ش: أي جواب ذلك الرجل، فعندهما إذا أراد الجواب تفسد صلاته، وإن أراد الإعلام بأنه في الصلاة فلا، وعند أبي يوسف لا تفسد صلاته سواء أراد الجواب أو الإعلام، م: (له) ش: أي لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه) ش: أي قول المجيب بلا إله إلا الله م: (ثناء بصيغته فلا يتغير بعزيمته) ش: أي ثناء لوصفه فلا يكون من كلام الناس بنيته كما أن كلام الناس لا يكون ذكرا وثناء بالعزيمة (ولهما) أي لأبي حنيفة ومحمد م: (أنه) ش: أي أن هذا المجيب (أخرج الكلام مخرج الجواب) بضم الميم (وهو يحتمله) أي الجواب محتمل كلامه لأنه يحتمل الثناء والجواب فكان كالمشترك والمشترك يجوز تعيين أخذ مدلوليه بالقصد والعزيمة م: (فيجعل جوابا كالتشميت) فإنه لا شك أنه ذكر بصيغته ويحتمل الخطاب وقد ألحقه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بكلام الناس حين قصد به خطاب العاطس.
فإن قلت: روي «أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -[قال في جواب ابن مسعود حين استأذن على الدخول وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] في الصلاة ادخلوها بسلام آمنين» أراد جوابه ولم يفسد صلاته. قلت: أجاب شمس الأئمة السرخسي بأنه محمول على أنه انتهى بالقراءة إلى هذا الموضع ويحتمل أنه أراد به الإعلام أنه في الصلاة.
والتشميت مصدر من شمَّت على وزن فعل بالتشديد وفي " الصحاح " تسميت العاطس بالسين والشين. وقال ثعلب: الاختيار بالسين لأنه مأخوذ من السمت وهو القصد والمحجة، وقال أبو عبيد: الشين المعجمة أعلى في كلامهم وأكثر، ولما وقع التشميت جوابا صار من كلام الناس وإن كان فيه ذكر الله تعالى، ولهذا لو قال لرجل اسمه يحيى - {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} [مريم: 12] تفسد صلاته لأنه أراد به الخطاب، وكذا إذا قال لرجل اسمه يوسف: يا يوسف أعرض عن هذا وكذا لو قال له: من أي موضع مررت؟ فقال وهو في الصلاة: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج: 45] وكذا لو قال لابنه [وهو] خارج السفينة {يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود: 42] تفسد صلاته في الوجوه كلها.
م: (والاسترجاع) ش: بالرفع مبتدأ وهو القول بإنا لله وإنا إليه راجعون عند المصيبة وكذا الترجيع وخبره م: (على هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور بين أبي يوسف وبينهما يعني إذا أخبر أن فلانا مات فأجاب في الصلاة: إنا لله وإنا إليه راجعون، فعندهما تفسد صلاته وعند أبي يوسف لا تفسد.
وأشار بقوله م: (في الصحيح) ش: إلى الاحتراز عن قول الفضل فإنه قال: مسألة الاسترجاع على الوفاق. وقال الشافعي: إن قصد الاسترجاع قراءة القرآن لا تفسد وإلا تفسد، وفي غريب الرواية: دُعي على ظالم أو لصالح، فقال المصلي: آمين أو أخبر بمصيبة فاسترجع أو سقط إنسان من(2/417)
وإن أراد به إعلامه أنه في الصلاة لم تفسد بالإجماع؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا نابت أحدكم نائبة في الصلاة فليسبح» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سطح فقال المصلي: بسم الله أو سمع رعدا أو رأى برقا أو هولا فسبح أو هلل أو استرجع أو تنحنح أو جر ثوبه لم تفسد، والصحيح في جنس المسائل قولهما، ولو عثر المصلي أو أصابه وجع فقال: بسم الله، يفسد عندهما؛ لأنه من كلام الناس، ولو قام الإمام إلى الثالثة في الظهر قبل أن يقعد فقال المقتدي: سبحان الله، قيل: لا تفسد، وقال الكرخي: تفسد عندهما.
م: (وإن أراد إعلامه أنه في الصلاة) ش: أي وإن أراد المجيب إعلام ذلك الرجل القائل أنه في الصلاة م: (لم تفسد) ش: أي صلاته م: (بالإجماع) ش: بين الأئمة م: (لقول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا ناب أحدكم نائبة في الصلاة فليسبح» ش: هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مطولا، وفيه: «من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء» .
قوله إذا نابت أي إذا أصابت، والنائبة المصيبة واحدة نوائب الدهر، والتصفيق أن تضرب المرأة بظاهر كفها اليمنى باطن كفها اليسرى، ولا تضرب بباطنهما كيلا يكون شبيها باللعب.
وفي " السنن " عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال وليصفح النساء» .
وقال الخطابي: التصفيح التصفيق باليد مأخوذ من صفحتي الكوة وضرب أحدهما على الأخرى. وفي " المحيط " إذا نادى المصلي إنسانا فسبح إعلاما أنه في الصلاة لا تفسد. وفي " الواقعات " وكذا لو كبر يعلمه أنه في الصلاة والمستحب أن يسبح.
وفي " المبسوط " مرت جارية بين يدي المصلي فقال: سبحان الله أو أومأ بيده ليصرفها لم يقطع صلاته، ولا يجمع بين التسبيح والإشارة فإنا نأخذ منهما كفاية ومنهم من قال: المستحب أن لا يفعل شيئا من ذلك. وقال مالك: كلاهما يسبح يعني الرجل والمرأة، وقال أبو بكر بن العربي: وليس بصحيح لمخالفته الحديث المجمع عليه. وقال القرافي: التصفيق لا يناسب الصلاة.
قلت: هذا مردود ولم ينظر الشرع إلى مناسبته وقد شرعه، ولو سمع المؤذن فأجاب وأراد به الجواب أو لم يكن له نية تفسد وإن لم يرد لا تفسد، وكذا لو أذن وعند أبي يوسف إذا قال: حي على الصلاة، تفسد، ولو سمع اسم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فصلى عليه، تفسد، وإن صلى عليه لا تفسد، ولو جرى على لسانه نعم إذا كان ذلك عادة له تفسد وإلا لا لأنه من القرآن، ولو دعا أو سبح(2/418)
ومن صلى ركعة من الظهر، ثم افتتح العصر أو المتطوع فقد نقض الظهر لأنه صح شروعه في غيره فيخرج عنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالفارسية، فعن أبي يوسف أنه تفسد، ذكره العتابي في " جوامع الفقه " سمع المصلي قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 172] فرفع رأسه، وقال: لبيك ذكره يا سيدي، فالأولى أن لا يفعل ولو فعل قيل: تفسد؛ لأنه من كلام الناس، وقيل: لا تفسد [لأنه بمنزلة الثناء والدعاء، ولو قرأ الإمام آية الرحمة أو العذاب فقال المقتدي: صدق الله، لا تفسد] وقد أساء، ولو وسوس له الشيطان، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله إن كان في أمر الآخرة لا تفسد، في أمر الدنيا تفسد.
وفي " الواقعات ": المريض يقول عند القيام والانحطاط: بسم الله، لما يلحقه من الوجع والألم لا تفسد، وفي " غنية المفتي " قيل: تفسد، وقيل: لا تفسد، ولو لدغته عقرب، فقال: بسم الله، تفسد عند أبي حنيفة ومحمد، ولو عوذ نفسه بشيء من القرآن للحمى ونحوها تفسد عندهم، ولو قال عند رؤية الهلال: ربي وربك الله تفسد، ذكر ذلك كله المرغيناني، ولو قال في الصلاة في أيام التشريق: الله أكبر، لا تفسد ولو سمع المصلي غير المقتدي من الإمام " {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] " فقال: آمين تفسد صلاته عند المتأخرين، وعن أبي حنيفة لا تفسد، وفي " الذخيرة " لو أمن بدعاء رجل ليس في الصلاة تفسد.
[حكم من صلى ركعة من الظهر ثم افتتح العصر]
م: (ومن صلى ركعة من الظهر) ش: يعني إذا صلى رجل ركعة من صلاة الظهر م: ثم افتتح العصر) ش: يعني افتتح له افتتاحا ثانيا م: (أو المتطوع) ش: أو افتتح المتطوع م: (فقد نقض الظهر لأنه صح شروعه في غيره) ش: أي في غير الظهر وأراد بالغير العصر والتطوع، وفي بعض النسخ صح شروعه فيه أي في العصر أو التطوع م: (فيخرج عنه) ش: أي عن الظهر لأنه صح شروعه في العصر أو التطوع، فإذا صح شروعه انتقضت الركعة المؤداة من الظهر ضرورة، ومن ضرورة خروجه عن الأول بمنزلة المتبايعين إذا تبايعا بثمن آخر نقضا للبيع الأول واستئنافا للبيع الثاني.
وصورته: أنه نوى العصر، وقال: الله أكبر من غير رفع اليد، وهذا في حق من لا ترتيب عليه بكثرة الفوائت أو تضيق الوقت أو بالنسيان؛ لأن صاحب الترتيب إذا انتقل من الظهر إلى العصر لا يصير منتقلا إلى العصر بل إلى النفل لأن العصر لا ينعقد عصرا قبل الظهر في حقه، وفي " الكافي ": افتتح باللسان وقال: الله أكبر، لا ينتقض ظهره، ولا بد مع النية الذكر باللسان.
وفي جامع " التمرتاشي " و " شمس الأئمة ": وعلى هذا من كان في المكتوبة وكبر ينوي النافلة أو على العكس أو في الظهر فكبر ينوي الجمعة أو على العكس أو كان منفردا فكبر ينوي الاقتداء، أو مقتديا فكبر للتفرد أو للإمامة يخرج عن صلاته.
وقال الشافعي وأحمد في أحد قوليهما: إن المنفرد إذا نوى الدخول في صلاة الإمام صح دخوله فيها ويجزئه ما صلى قبله بتحريمته قبل إمامه، وعندنا يخرج من صلاته وكذا لو كان منفردا فاقتدى به رجل فافتتح ثانيا لأجله فهو على الافتتاح الأول إلا أن يكون الداخل امرأة.(2/419)
ولو افتتح الظهر بعدما صلى منها ركعة فهي هي ويجتزئ بتلك الركعة؛ لأنه نوى الشروع في عين ما هو فيه فلغت نيته وبقي المنوي على حاله. وإذا قرأ الإمام من المصحف فسدت صلاته عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: هي تامة؛ لأنه عبادة انضافت إلى عبادة أخرى، إلا أنه يكره لأنه تشبه بصنيع أهل الكتاب.
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن حمل المصحف والنظر فيه وتقليب الأوراق عمل كثير،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو افتتح الظهر بعدما صلى منها) ش: أي من الظهر م: (ركعة فهي هي) ش: أي في الركعة التي صلاها هي غير الركعة المحسوبة في الصلاة التي هو فيها م: (ويجتزئ بتلك الركعة) ش: أي ويكتفي بتلك بالركعة الأولى م: (لأنه نوى الشروع في عين ما هو فيه فلغت نيته وبقي المنوي على حاله) ش: لأنه نوى تحصيل الحاصل حتى لو صلى بعدها ثلاث ركعات يخرج عن عهد الفرض، ولو صلى أربعا على ظن أن الأولى انتقضت ولم يقعد في الثالثة فسدت صلاته لأنه ترك القعدة الأخيرة.
وفي " الخلاصة " هذا وإذا نوى بقلبه. أما لو نوى بلسانه بأن قال: نويت أن أصلي الظهر ينقض ما صلى، ولا يجزئ بتلك الركعة، والأصل في المسألة المذكورة أن النية إذا صادفت ما ليس بحاصل تصح، وإذا صادفت ما هو حاصل لا تصح فعليك أن تستخرج المسألتين من هذا الأصل.
م: (وإذا قرأ الإمام في المصحف فسدت صلاته عند أبي حنيفة) ش: ذكر الإمام اتفاقا وليس بقيد؛ لأن حكم المنفرد كذلك، قاله في الأصل وفي " المحلى " لابن حزم وهو قول ابن المسيب والحسن البصري والشعبي [والسلمي] .
قلت: وهو مذهب الظاهرية أيضا ولم يفصل في الكتاب بينهما إذا قرأ قليلا أو كثيرا منه، قال بعض مشايخنا: إن قرأ قدر آية تامة يفسد عنده وإلا فلا، وقال بعضهم: مقدار الفاتحة وإلا فلا. وفي " المجتبى ": قيل الخلاف فيمن لم يحفظ من القرآن شيئا ولو حفظ فسدت عندهم وقيل على العكس.
م: (وقالا) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد م: (هي تامة) ش: أي الصلاة تامة وبه قال الشافعي وأحمد وجماعة ويكره، وذكر السرخسي عن الشافعي أنها لا تكره، وكذا لو قلب أوراقه أحيانا لا تبطل صلاته عنده ذكره النووي ومثله في الوسيط م: (لأنه) ش: أي لأن القراءة والتذكير باعتبار المذكور، وفي بعض النسخ لأنها على الأصل م: (عبادة انضافت) ش: أي انضمت م: (إلى عبادة) ش: وهي النظر في المصحف م: (إلا أنه يكره لأنه تشبه بصنيع أهل الكتاب) ش: فإنهم يفعلون كذلك في صلاتهم، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تشبهوا باليهود ولكن خالفوهم» .
[حمل المصحف والنظر فيه وتقليب الأوراق في الصلاة]
م: (ولأبي حنيفة أن حمل المصحف والنظر فيه وتقليب الأوراق عمل كثير) ش: [والعمل الكثير](2/420)
ولأنه تلقن من المصحف فصار كما إذا تلقن من غيره، وعلى هذا لا فرق بين المحمول والموضوع، وعلى الأول يفترقان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يفسد الصلاة م: (ولأنه تلقن من المصحف) ش: دليل آخر: أي ولأن النظر إلى المصحف يكون [مفسدا] . وقال في " ديوان الأدب " تلقن منه أخذه وتمكن منه م: (فصار كما إذا تلقن من غيره) ش: أي فصار حكم التلقن من المصحف كحكم التلقين من معلم غيره فكان مفسدا م: (وعلى هذا) ش: أي وعلى اعتبار هذا الدليل الذي هو الثاني م: (لا فرق بين الموضوع والمحمول) ش: أي بين المصحف الموضوع على شيء والمحمول على يديه حتى إذا قرأ من المصحف الموضوع أو المحمول ولم يقلب أوراقه تفسد صلاته وكذا إذا قرأ من المحراب.
م: (وعلى الأول) ش: أي وعلى الاعتبار الدليل الأول م: (يفترقان) ش: أي يفترق الموضوع والمحمول، حتى إذا قرأ في المصحف الموضوع ولم يحمله ولم يقلب أوراقه لا تفسد صلاته وكذا إذا قرأ من المحراب، وهكذا روي عن الكرخي، وعن البردعي: لا يجوز أيضا على قول أبي حنيفة؛ لأن التمييز بين الحروف عمل كثير. وإذا كان يحفظه عن ظهر قلب، وهو مع ذلك ينظر في المكتوب أو على المحراب فيقرأ فلا إشكال أنه يجوز، وأما على قولهما فلأنه عبادة انضافت إلى عبادة أخرى، وأما على قوله فلعدم التعلم. فإن قلت: كان ذكوان مولى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يؤم عائشة في رمضان ويقرأ من المصحف، ذكره البخاري في باب إمامة العبد والمولى ولأنه قرأ القرآن فيجزئه كما لو قرأه عن ظهر القلب، وهذا لأن الفساد إن كان للحمل فحمل ما هو أكبر منه لا يفسد، ألا ترى أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يصلي وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه فكان يضعها إذا سجد ويحملها إذا قام، وإن كان للنظر فلا يجوز لأنه عبادة انضمت إلى عبادة أخرى، ولأنه لا يكون أكثر من النظر في المنقوش في المحراب وهو لا يفسد وإن كان لتقليب الأوراق فلا يضر لأنه عمل قليل.
قلت: أثر ذكوان إن صح فهو محمول على أنه كان يقرأ من المصحف قبل شروعه في الصلاة أي ينظر فيه ويتلقن منه ثم يقوم فيصلي، وقيل: تؤول بأنه كان يفعل بين كل شفعين فيحفظ مقدار ما يقرأ في الركعتين، فظن الراوي أنه كان يقرأ من المصحف فنقل ما ظن، ويؤيد ما ذكرناه أن القراءة في المصحف مكروهة، ولا نظن بعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها كانت ترضى بالمكروه، وتصلي خلف من يصلي بصلاة مكروهة. وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: " نهانا أمير المؤمنين بأن نؤم الناس في المصاحف وأن يؤمنا إلا محتلم " ذكره أبو بكر بن أبي داود بإسناده.. وأما قصة [حديث] أمامة فقد قيل: إنه منسوخ، وقيل: إنه مخصوص بالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وذكر أبو عمر في " التمهيد " عن أشهب عن مالك أن هذا كان في النافلة ومثله لا يجوز في الفرض، [وذكر عن محمد بن إسحاق أنه كان في الفرض] ، وقال أبو عمر: إني لا أعلم خلافا أن مثل هذا العمل مكره، فيكون لغا في النافلة، وإما منسوخا قال: وروى أشهب وابن(2/421)
ولو نظر إلى مكتوب وفهمه فالصحيح أنه لا تفسد صلاته بالإجماع بخلاف ما إذا حلف لا يقرأ كتاب فلان حيث يحنث بالفهم عند محمد؛ لأن المقصود هناك الفهم أما فساد الصلاة فبالعمل الكثير ولم يوجد، وإن مرت امرأة بين يدي المصلي لم تقطع صلاته؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نافع أن مثل ذلك يجوز في حالة الضرورة فحمل على الضرورة ولم يفرق بين الفرض والنفل.
وقال [شمس] الأئمة: فإذا فعلت المرأة بولدها مثل هذا تكون مسيئة؛ لأنها أشغلت نفسها بما ليس من عمل صلاتها وفيه ترك سنة الاعتماد. وفعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان في وقت كان العمل مباحا في الصلاة أو لم يكن الاعتماد لسنة فيها.
م: (ولو نظر إلى مكتوب) ش: أي ولو نظر المصلي إلى مكتوب من الفقه وغيره، وليس المراد منه المكتوب من القرآن؛ لأنه لو نظر إلى مكتوب وهو قرآن وفهمه لا خلاف لأحد فيه أنه يجوز م: (وفهمه فالصحيح أنه لا تفسد صلاته بالإجماع) ش: قيد بالصحيح احترازا عما قال بعضهم: ينبغي أن تفسد صلاته على قول محمد، قياسا على مسألة اليمين إذا حلف لا يقرأ كتاب فلان فنظر فيه حتى فهمه ولم يقرأ بلسانه حيث يحنث عنده بالفهم وجعل الفهم بمنزلة القراءة، والصحيح أنه لا تفسد عند محمد كما لا تفسد عندهما.
م: (بخلاف ما إذا حلف لا يقرأ كتاب فلان حيث يحنث بالفهم عند محمد) ش: أشار بهذا إلى [الفرق] بين مسألة الصلاة ومسألة اليمين م: (لأن المقصود هناك) ش: أي في مسألة اليمين م: (الفهم) ش: لأن المراد من عدم قراءة كتاب فلان في العرف أن لا يفهمه، ولا يطلع على أسراره مجازا وبُني اليمين على العرف.
م: (أما فساد الصلاة فبالعمل الكثير) ش: أي فساد الصلاة متعلق بالعمل الكثير والفهم ليس بعمل كثير فلا تفسد الصلاة ولا يأخذ الفهم حكم النطق، ولهذا لو كان مكتوبا على جبين [امرأته أنت طالق أو على جبين] عبده أنت حر، فنظر ففهم لم يقع الطلاق ولا العتاق ما لم يتلفظ بذلك بخلاف اليمين كما ذكرنا، ولما ثبت الفرق بين المسألتين لم يصح القياس.
[اتخاذ السترة ومرور المرأة ونحوها بين يدي المصلي]
م: (وإن مرت امرأة بين يدي المصلي لم تقطع الصلاة) ش: وبه قال عامة الفقهاء، وروي عن أنس ومكحول وأبي الأحوص والحسن وعكرمة: يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة، وعن ابن عباس: يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض. وعن عكرمة: يقطع الصلاة الكلب والحمار والخنزير والمرأة واليهودي والنصراني والمجوسي، وعن عطاء: لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود والمرأة الحائض. ذكر ذلك ابن أبي شيبة في [" سننه " وضعفه] أبو داود، وقال أحمد في المشهور عنه: يقطع الصلاة مرور الكلب الأسود البهيم، وفي رواية: يقطعها الحمار والمرأة أيضا والبهيم الذي لا يخالط لونه لون آخر، فإن كانت بين عينيه نكتتان يخالفان لونه لا يخرج بذلك عن كونه(2/422)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يقطع الصلاة مرور شيء» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بهيما في قطع الصلاة وحرمة الاصطياد به وهل وحل على مذهبه، ولا فرق بين الفرض والنفل في الصحيح، وإن كان قائما بين يديه، ولا يمر لا يقطع في إحدى الروايتين عنه ذكر ذلك كله في " المغني "، وفي " جامع شمس الأئمة " عند أهل الظاهر تفسد الصلاة بمرور المرأة بين يديه.
وفي " الكافي " عند أهل العراق تفسد بمرور الكلب والمرأة والحمار، وفي " الحلية " قال أحمد: يقطع الصلاة الكلب الأسود، وفي قلبي من الحمار والمرأة شيء. وقال الأترازي: وإنما قيد بالمرأة وإن كان الحكم في الرجل كذلك، لما أن المرور بين يدي المصلي ينشأ من الجهل لما فيه من الإثم، والغالب في النساء الجهل. وقال الأكمل: وإنما ذكر هذه المسألة وإن لم يصدر من المصلي شيء يوجب فساد صلاته، ردا لقول أصحاب الظاهر أن مرور المرأة بين يدي المصلي يفسد صلاته.
قلت: أما كلام الأترازي فإنه غير سديد، ولم يقل أحد أنه علة هذه المسألة ما ذكره، فإن المسألة لما كان فيها خلاف بين السلف والخلف ذكرها احترازًا عن خلاف الجماعة الذين ذكرناهم عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأما كلام الأكمل فإنه أخذ من السغناقي وهو قريب المأخذ.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لا يقطع الصلاة مرور شيء» ش: هذا الحديث روي عن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمر وأبي أمامة وأنس وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فحديث الخدري رواه أبو داود في " سننه " عنه قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يقطع الصلاة شيء وادرءوا ما استطعتم فإنما [هو] شيطان» وفيه مجالد بن سعيد فيه مقال، ولكن أخرج له مسلم مقرونا بجماعة من أصحاب الشعبي.
وحديث ابن عمر رواه الدارقطني في " سننه " عنه أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالوا: «لا يقطع صلاة المسلم شيء، وادرءوا ما استطعتم» ووقفه مالك على ابن عمر في " موطئه " ووقفه البخاري على الزهري.
وحديث أبي أمامة رواه الدارقطني عنه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «لا يقطع الصلاة شيء» .(2/423)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحديث أنس رواه الدارقطني أيضا عنه «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالناس. الحديث، وفي آخره: فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " لا يقطع الصلاة شيء» .
وروى ابن الجوزي في " العلل المتناهية " هذه الأحاديث الثلاثة من طريق الدارقطني وقال: لا يصح منها شيء، قال في " التحقيق ": في حديث ابن عمر إبراهيم بن زيد الجوزي، قال أحمد والنسائي: هو متروك، وقال ابن معين: ليس بشيء.
وفي حديث أبي أمامة عفير بن معدان قال أحمد: ضعيف منكر الحديث، وقال يحيى: ليس بثقة.
وفي حديث أنس صخر بن عبد الله، قال ابن عدي: يحدث عن الثقات بالأباطيل عامة ما يرويه منكر أو من موضوعاته.
وقال ابن حبان: لا تحل الرواية عنه، تعقبه صاحب " التنقيح " وقال: إنه وهم في صحة هذا، فإن صخر [بن عبد الله بن حرملة الراوي عن عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يتكلم فيه] ابن عدي ولا ابن حبان، بل ابن حبان ذكره في " الثقات ".
وقال النسائي: هو صالح، وإنما ضعف ابن عدي صخر بن عبد الله الكوفي المعروف بالحاجبي وهو متأخر عن ابن حرملة، روى عن مالك والليث وغيرهما.
وحديث جابر رواه الطبراني في " معجمه الأوسط " عنه قال: «كان رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قائما يصلي فذهبت شاة تمر بين يديه فساعاها حتى ألزقها بالحائط، ثم قال: [لا يقطع] الصلاة شيء وادرءوا ما استطعتم» ، وقال: تفرد به عيسى بن ميمون، وقال ابن حبان: عيسى بن ميمون يروي العجائب لا يحل الاحتجاج به [إذا انفرد] .
فإن قلت: الخصم احتج بما رواه مسلم عن عبيد الله بن الصامت «عن أبي ذر، قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه كآخرة الرحل: المرأة والحمار والكلب الأسود ".. قلت: ما بال الأسود من الأحمر قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كما سألتني فقال: الكلب الأسود شيطان» .
وروى مسلم أيضا من حديث أبي هريرة أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «يقطع الصلاة المرأة والكلب والحمار ويقي ذلك [مثل] مؤخرة الرحل» وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه من(2/424)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مرفوعا: «يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب» قال يحيى بن سعيد: لم يرفعه غير شعبة أحد رواته.
قلت: أخرج البخاري ومسلم في " صحيحيهما " عن عروة «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: " كان رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصلي وأنا معترضة بين يديه كاعتراض الجنازة.» وفي لفظ لمسلم «عن عروة قال: قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: ما يقطع الصلاة؟ قال: قلنا: المرأة والحمار، فقالت: إن المرأة لدابة سوء، لقد رأيتني بين يدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معترضة كاعتراض الجنازة وهو يصلي» . وروى البخاري أيضا عنها أنها قالت: «كنت أنام بين يدي رسول الله ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي وإذا قام بسطتها، قالت: والبيوت يومئذ ليست فيها مصابيح» . [وروى البخاري أيضا من] حديث ابن شهاب عن عروة عنها: «كان يصلي وهي بينه وبين القبلة على فراش أهله اعتراض الجنازة» .
ومن حديث عروة: «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كان يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة على الفراش الذي ينامان عليه، وفي لفظ لمسلم: يصلي وسط السرير وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة يكون لي حاجة فأكره أن أقوم فأستقبله فأنسل انسلالا من قبل رجليه. وفي لفظ [له عن ميمونة] : وأنا حذاءه، وأنا حائض، وربما قالت: أصابني ثوبه إذا سجد، وفي لفظ [له عن عائشة] : وعلي مرط وعليه بعضه» . وروى أبو داود عنها أنها قالت: «كنت أكون نائمة ورجلاي بين يدي رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهو يصلي من الليل فإذا أراد أن يسجد ضرب رجلي فقبضتهما ليسجد» ".
ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث أن اعتراض المرأة، خصوصا الحائض بين المصلي وبين القبلة لا يقطع الصلاة والمارة بطريق الأولى، ولهذا بوب أبو داود في " سننه " باب: من قال المرأة لا تقطع الصلاة، ثم روى فيه أحاديث منها، وبوب أيضا باب: من قال الحمار لا يقطع الصلاة. ثم روى «حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: جئت على حمار، وفي رواية: أقبلت راكبا على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصلي بالناس بمنى فمررت بين يدي بعض الصف فأمرت فنزلت فأرسلت الأتان ترتع، ودخلت الصف فلم ينكر ذلك أحد، وأخرجه بقية الجماعة، ولفظ النسائي وابن ماجه بعرفة.
وأخرج مسلم اللفظين، وفي لفظ للنسائي في آخر الحديث: ربما رأيت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصلي والحمر تعترك بين يديه» وبوب أيضا باب: من قال الكلب لا يقطع الصلاة.
ثم روى «عن الفضل بن العباس قال: أتانا رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ونحن في بادية ومعه(2/425)
إلا أن المار آثم لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لو علم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الوزر لوقف أربعين» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن عباس فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه فما بالاه ذلك» وأخرجه النسائي أيضا، ثم لا شك أن هذه الأحاديث أقوى وأصح من أحاديث الخصوم.
وقال النووي في " الخلاصة ": وتأول الجمهور القطع المذكور في الأحاديث المذكورة على قطع الخشوع جمعا بين الأحاديث.
قلت: إذا كانت الأحاديث التي رويت في هذا الباب مستوية الأقدام يتوجه هذا التأويل، ونحن لا نسلم ذلك لما قلنا.
م: (إلا أن المار آثم) ش: كلمة إلا هاهنا بمعنى غير، أي: غير أن المار آثم والإثم لا يستلزم القطع وبه قال مالك.
وفي " الوسيط " للشافعية: يكره، وصرح العجلي بتحريمه، ووافقه " صاحب التهذيب " و " التتمة " من الشافعية وأصحابنا نصوا على كراهته، ذكرها في " المحيط " و " الذخيرة " وقال في " المغني ": لا يحل المرور من غير سترة أو بينه وبين السترة.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لو علم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الوزر لوقف أربعين» ش: هذا الحديث رواه الجماعة من حديث أبي جهيم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واسمه كنيته ابن الحارث بن الصمة إلا أن ابن ماجه ذكره بلفظ آخر، وهو: «لأن يقوم أربعين خير له من أن يمر بين يديه» .
قال سفيان: لا أدري أربعين سنة أو شهرا أو صباحا أو ساعة، ورواه عن زيد بن خالد، ورواه البزار كذلك ولفظه: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم، لكان أن يقف أربعين خريفا خيرا له من أن يمر بين يديه» .
ورواه ابن ماجه أيضا وابن حبان من حديث أبي هريرة مرفوعا: «لو يعلم أحدكم ما له في أن يمر بين يدي أخيه معترضا في الصلاة كان لأن يقيم مائة عام خير له من الخطوة التي خطا» ، وقال تاج الشريعة: وقد صح عن أبي هريرة أن المراد هو السنة.
وقال صاحب " الدراية ": وفي رواية مسلم أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «وقف مائة عام خير له من أن يمر» . وفي " سنن الدارقطني " خريفا.
وقال الأكمل: وقيل: صح من حديث أبي هريرة أربعين سنة.(2/426)
وإنما يأثم إذا مر في موضع سجوده على ما قيل، ولا يكون بينهما حائل، ويحاذي أعضاء المار أعضاءه لو كان يصلي على الدكان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: مائة عام في رواية ابن حبان، وأربعون خريفا في رواية البزار، وأربعون خريفا هو أربعون سنة، ولكن مجيء سنة لم أره عند أحد فضلا عن صحته.
م: (وإنما يأثم المار إذا مر في موضع السجود) ش: هذه إشارة إلى بيان مقدار موضع يكره المرور فيه وهو موضع السجود، والكلام هاهنا في عشرة مواضع كلها مذكورة في الكتاب، وهاهنا شيئان آخران لم يذكرهما في الكتاب الأول، ترك السترة، والآخر كون السترة مغصوبة على ما نذكرهما في آخر الفصل، الأول هو أن مرور شيء لا يقطع الصلاة وقد ذكر مستوفى، والثاني: هو مقدار موضع يكره المرور فيه وقد بينه بقوله في موضع سجوده م: (على ما قيل) ش: وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي، وشيخ الإسلام، وقاضي خان، وقال فخر الإسلام: إذا صلى راميا بصره إلى موضع سجوده فلم يقع عليه بصره لا يكره، ومنهم قال: مقدار صفين أو ثلاثة، ومنهم من قدره بثلاث أذرع، ومنهم من قدره بخمس أذرع، ومنهم من قدره بأربعين ذراعا.
وقال التمرتاشي: والأصح إن كان بحال لو صلى صلاة خاشع بصره ولا يقع على المار فلا يكره نحو أن يكون منتهى بصره في قيامه إلى موضع سجوده، وفي ركوعه إلى صدور قدميه وفي سجوده إلى أرنبة أنفه، وفي قعوده إلى حجره، وفي السلام إلى منكبيه، وهذا كله إذا كان في الصحراء، وفي الجامع الذي له حكم الصحراء، أما في المسجد فالحد هو المسجد إلا أن يكون بينه وبين المار إسطوانة وغيرها. وفي " الكافي " أو رجل قائم أو قاعد ظهره إلى المصلي، وقال بعضهم: مارا خمسين ذراعا، وقدر بعضهم ما بين الصف الأول وحائط القبلة.
وقال فخر الإسلام في " شرح الجامع الصغير ": وإن مر عن بعد في المسجد الجامع فقد قيل بأنه يكره والأصح أنه لا يكره، وفي " الذخيرة " والمسجد الكبير مثل الجامع الصغير عند بعض المشايخ، وعند آخرين كالصحراء وفي " التتمة " للشافعية لو تستر بآدمي أو بحيوان لم تجب له لأنه يشبه عبادته وفي " مسلم " ما يرد عليه، فإن ابن عمر كان يعرض راحلته فيصلي إليها، وقال أبو بكر بن العربي: وقد غلظ بعضهم إذا لم يكن له سترة، فقال: لا يمر أحد بين يديه بمقدار رمية السهم، وقيل: رمية الحجر، وقيل: رمية الرمح، وقيل: مقدار المطاعنة، وقيل: مقدار المسايفة بالسيف، أخذوه من قوله: فليقاتله، فحملوه على أنواع القتال.
م: (ولا يكون بينهما حائل) ش: الواو للحال أي بين المصلي والمار يعني الإثم إذا لم يكن بينهما ما يحول كالإسطوانة والجدار، وأما إذا كان بينهما حائل فلا يأثم المار.
م: (ويحاذي أعضاء المار أعضاءه لو كان يصلي على الدكان) ش: الدكان بضم الدال وتشديد الكاف.(2/427)
وينبغي لمن يصلي في الصحراء أن يتخذ أمامه سترة؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا صلى أحدكم في الصحراء فليجعل بين يديه سترة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الجوهري: الدكان الحانوت فارسي معرب، ولكن المراد هاهنا مثل الدكة أو السرير يكون المصلي عليه وقيل بالمحاذاة؛ لأنه إذا كان الدكان بقدر قامة الرجل المار لا يأثم؛ لأنه يعتبر سترة وكذا كل موضع مرتفع يعتبر سترة كالسطح والسرير، قالوا: الراكب إذا أراد أن يمر ولا يأثم ينزل عن دابته فيسيرها أو يسير هو والدابة بينه وبين المصلي، وكذا لو مر رجلان متحاذيان فإن كراهة المرور وإثمه يلحق الذي يلي المصلي كذا ذكره التمرتاشي.
فإن قلت: بين قوله: عدم الحائل وقيل المحاذاة، وبين قوله: إذا مر في موضع سجوده منافاة؛ لأن الجدار والإسطوانة لا يتصور أن يكون بينه وبين موضع سجوده، وكذلك إذا صلى على الدكان لا يتصور المرور في موضع سجوده، قلت: يندفع هذا إذا قلنا: معنى قوله: في موضع سجوده، قريب من موضع سجوده. فافهم.
[اتخاذ المصلي للسترة في الصحراء]
م: (وينبغي لمن يصلي في الصحراء أن يتخذ أمامه سترة) ش: هذا هو الثالث من المواضع العشرة التي ذكرناها م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا صلى أحدكم في الصحراء فليجعل بين يديه سترة» ش: هذا غريب بهذا اللفظ ولكن روي فيه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وابن عمر وسبرة بن معبد الجهني وسهل بن أبي حثمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
فحديث أبي هريرة رواه أبو داود عنه أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا، ولا يضره ما مر أمامه» .
وحديث الخدري رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها ولا يدع أحدا يمر بين يديه، فإن جاء أحد يمر فليقاتل فإنه شيطان» . وحديث ابن عمر رواه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه " عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة ولا يدع أحدا يمر بين يديه " وزاد ابن حبان فيه: " فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين» ، وحديث سبرة رواه البخاري في " تاريخه " عنه قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليستتر أحدكم في صلاته ولو بسهم»(2/428)
ومقدارها ذراع فصاعدا؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أيعجز أحدكم إذا صلى في الصحراء أن يكون أمامه مثل مؤخرة الرحل» وقيل: ينبغي أن تكون في غلظ الإصبع؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحديث سهل بن أبي حثمة رواه في " مستدركه " عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها» وقال: على شرطهما.
قوله: سترة أعم من أن يكون حائطا أو سارية أو شجرة أو عودا أو ما يجري مجراه ولا يكون من مر من ورائه آثما. وقال محمد: يستحب لمن يصلي في الصحراء أن يكون بين يديه شيء مثل عصا ونحوها، فإن لم يجد يتستر بسارية أو شجرة.
م: (ومقدارها ذراعا فصاعدا) ش: هذا هو الرابع من الواضع العشرة، أي مقدار السترة قدر ذراع أقلها بدليل قوله: فصاعدا، وانتصابه على الحال، والتقدير: فذهبت السترة إلى حالة الصعود على الذراع، كما في قولك: أخذته بدرهم فصاعدا؛ أي فذهب الثمن إلى حالة الصعود على الدرهم، فيقدر في كل موضع ما يلائمه من الحمل، والفاء فيه للعطف على المحذوف، وتقديره: على الذراع مقدرا فصاعدا فافهم.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أيعجز أحدكم إذا صلى في الصحراء أن يكون أمامه مثل مؤخرة الرحل» ش: هذا غريب بهذا اللفظ، ولكن مسلما أخرجه عن طلحة بن عبيد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جعلت بين يديك مثل مؤخرة الرحل فلا يضرك من مر بين يديك» وأخرج أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقطع الصلاة المرأة، والحمار، والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل» ، وأخرج أيضا عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل مؤخرة الرحل» وأخرج أيضا عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك عن سترة المصلي فقال: مثل مؤخرة الرحل» وهو بضم الميم وكسر الخاء وتشديدها خطأ، وهي الخشبة العريضة التي تحاذي رأس الراكب ومؤخرة الرحل لغة فيه، ولو تستر بإنسان جالس كان سترة وإن كان قائما اختلفوا فيه، ولو استتر بدابة فلا بأس به.
م: (وقيل ينبغي أن يكون في غلظ الإصبع) ش: هذا هو الخامس من المواضع العشرة ولم أر أحدا من الشراح بين هذا القائل من هو، والظاهر أنه شيخ الإسلام فإنه قال في " مبسوطه " في «حديث أبي جحيفة أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم بالبطحاء وبين يديه عنزة، ومقدار العنزة طول ذراع غلظ أصبع» لقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجزئ من السترة السهم، وفي " الذخيرة " طول السهم قدر ذراع وعرضه قدر أصبع.
واختلف مشايخنا فيما إذا كانت السترة أقل من ذراع، وقال شيخ الإسلام: وضع قناة أو جعبة بين يديه، وارتفع قدر ذراع كان سترة بلا خلاف، وإن كان دونه ففيه خلاف، وفي غريب(2/429)
لأن ما دونه لا يبدو للناظر من بعيد، فلا يحصل المقصود ويقرب من السترة؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من صلى إلى سترة فليدن منها»
ويجعل السترة على حاجبه الأيمن أو على الأيسر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرواية النهر الكبير ليس بسترة كالطريق وكذا الحوض الكبير، وذكر ذلك في " مختصر البحر المحيط "، وقال المالكية: يجوز القلنسوة العالية والوسادة بخلاف السوط وجوز في العتبية التستر بالحيوان الطاهر بخلاف الخيل والبغال والحمير وجوز بظهر الرجل ومنع بوجهه، وتردد في جنبه، ومنع بالمرأة واختلفوا في المحارم ولا يتستر بنائم ولا بمجنون [.....] ولا بكافر، انتهى كلامهم.
م: (لأن ما دونه) ش: أي ما دون غلظ الأصبع م: (لا يبدو للناظر من بعيد) ش: أي لا يظهر له لرقته م: (فلا يحصل المقصود) وهو الستر وعدم إيقاع المار في الإثم م: (ويقرب من السترة) ش: وهو الستر وعدم إيقاع المار في الإثم م: (ويقرب من السترة) ش: هذا هو السادس من المواضع العشرة م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من صلى إلى سترة فليدن منها» ش: روى هذا الحديث خمسة من الصحابة: سهل بن أبي حثمة وأبو سعيد الخدري وجبير بن مطعم وسهل بن سعد وبريدة.
فحديث سهل بن أبي حثمة أخرجه أبو داود والنسائي وعنه يبلغ به النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته» ورواه ابن حبان في صحيحه، قال أبو داود: واختلف في إسناده، ورواه الحاكم في مستدركه، وقال: على شرط البخاري ومسلم.
وحديث أبي سعيد أخرجه ابن حبان في صحيحه عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها فإن الشيطان يمر بينه وبينها ولا يدع أحدا يمر بين يديه» . وحديث جبير بن مطعم أخرجه الطبراني في معجمه عنه، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يمر الشيطان بينه وبينها» .
ورواه البزار أيضا في مسنده [وقال على شرط البخاري ومسلم] . وحديث سهل بن سعد أخرجه الطبراني أيضا في معجمه نحوه سواء.
وحديث بريدة أخرجه البزار في مسنده نحوه سواء.
م: (ويجعل السترة على حاجبه الأيمن أو على الأيسر) ش: هذا هو السابع من المواضع العشرة(2/430)
وبه ورد الأثر،
ولا بأس بترك السترة إذا أمن المرور ولم يواجه الطريق وسترة الإمام سترة للقوم؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى ببطحاء مكة إلى عنزة، ولم يكن للقوم سترة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والأيمن أفضل م: (وبه ورد الأثر) ش: أي يجعل السترة على الحاجب الأيمن، أو [على] الأيسر، وهذا الحديث أخرجه أبو داود: ثنا محمود بن خالد الدمشقي، قال: ثنا علي بن عباش، ثنا أبو عبيدة الوليد بن كامل، عن المهلب بن حجر [البهراني] «عن ضباعة بنت المقداد بن الأسود، عن أبيها، قال: ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمد له صمدا» .
وأخرجه أحمد في " مسنده " والطبراني في " معجمه " وابن عدي في " كامله " وأعله بالوليد بن كامل، وقال ابن القطان: فيه علتان: علة في إسناده؛ لأن فيه ثلاثة مجاهيل: ضباعة مجهولة الحال ولا أعلم أحدا ذكرها، والمهلب بن حجر مجهول الحال. والوليد بن كامل من الشيوخ الذين لم تثبت عدالتهم.
وعلة في متنه، وهي أن أبا علي بن السكن رواه في سننه هكذا: حدثنا سعيد بن عبد العزيز الحلبي، ثنا أبو تقي هشام بن عبد الملك، ثنا بقية، عن الوليد بن كامل، حدثنا المهلب بن حجر البهراني، عن ضباعة بنت المقدام بن معد يكرب، عن أبيها، قال: قال رسول الله: «إذا صلى أحدكم إلى عمود أو سارية أو شيء فلا يجعله نصب عينيه وليجعله على حاجبه الأيسر» . قال ابن السكن: أخرج أبو داود هذا الحديث من رواية علي بن عباش، عن الوليد بن كامل؛ فغير إسناده ومتنه، فإنه عن ضباعة بنت المقدام بن معد يكرب عن أبيها، وذاك فعل، وهذا قول، وقوله: لا يصمد له صمدا؛ يعني لم يقصده قصدا بالمواجهة، والصمد القصد في اللغة.
[وسترة الإمام سترة للقوم]
م: (وسترة الإمام سترة للقوم) ش: هذا هو الثامن من العشرة (لأنه «- عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى ببطحاء مكة إلى عنزة ولم يكن للقوم سترة» ش: الحديث أخرجه البخاري ومسلم «عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم بالبطحاء وبين يديه عنزة والمرأة والحمار يمرون من ورائها، قوله: ولم يكن للقوم سترة» ليس من هذا الحديث ويحتمل أن يكون من المصنف وهو الأظهر، ولم يتعرض إلى هذا أحد من الشراح عند ذكر الحديث، وهذا قصور عظيم.
قوله: إلى عنزة بالتنوين لأنها اسم جنس نكرة وهي تشبه العكازة وهي عصا ذات زج، والزج الحديدة التي في أسفل الرمح.
وفي " الكافي " لو أريد عنزة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكون غير منصرف للتأنيث والعلمية فيجوز بالنصب والجر. وقال الأترازي: ولما قيل في بعض الشروح: إن كان المراد منها عنزة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكون غير(2/431)
ويعتبر الغرز دون الإلقاء والخط؛ لأن المقصود لا يحصل بهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منصوب فليس بشيء لأنها لما كانت باسم جنس تناولت عنزة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرها فلم يكن فيه العلمية قلت: يريد بها الخطأ على صاحب " الكافي ". والذي قاله ليس بشيء؛ لأن أهل السير لما ذكروا سلاح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: كانت له حربة دون الرمح يقال لها العنزة، فكأنها بالغلبة صارت علما لها، فكانت فيها العلمية والتأنيث فلا تنصرف.
م: (ويعتبر الغرز دون الإلقاء والخط) ش: هذا هو التاسع من العشرة، أراد إذا لم يكن الغرز لكون الأرض صلبة فلا يعتبر الإلقاء، وإذا لم يعتبر الإلقاء فأولى أن لا يعتبر الخط م: (لأن المقصود لا يحصل بهما) ش: المقصود وهو الدرء فلا يحصل بالإلقاء ولا بالخط، وفي " مبسوط شيخ الإسلام " إنما يعذر إذا كانت الأرض رخوة، فأما إذا كانت صلبة لا يمكنه فيضع وضعا؛ لأن الوضع قد روى الغرز، لكن يضع طولا لا عرضا ليكون على مثال الغرز والخط، روي عن أبي عصمة عن محمد إذا لم يجد سترة، قال: لا يخط بين يديه فإن الخط وتركه سواء؛ لأنه لا يبدو للناظر من بعيد.
وقال الشافعي بالعراق: إن لم يجد ما يغرز يخط خطا طويلا وبه أخذ بعض المتأخرين لحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إذا صلى أحدكم في الصحراء فليتخذ بين يديه سترة، فإن لم يكن فليخط خطا آخر» وفي " جامع التمرتاشي " عن محمد يخط، وقيل في الخط: يخط طولا، وقيل: عرضا، وقيل: مدورا كالمحراب، وقال إمام الحرمين: استقرت الأئمة أن الخط يكفي. وقال السروجي: إذا لم يجد ما يغرزه أو يضعه هل يخط بين يديه خطا؟ فالمنع هو الظاهر وعليه الأكثرون من أصحابنا ومن غيرهم، وقال السرخسي: لا نأخذ بالخط. وقال المرغيناني: هو الصحيح، وفي " المحيط " الخط ليس بشيء، وفي " الواقعات " هو المختار، وكذا لا يعتبر الإلقاء وهو المختار، وفي " الذخيرة " للقرافي: الخط باطل وهو قول الجمهور، وجوزه أشهب [ ... ] وهو قول سعيد بن جبير والأوزاعي والشافعي بالعراق، ثم قال: يصير الحفظ [
... ] .
فإن قلت: روى أبو داود من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا فليخطط خطا، ثم لا يضر ما مر أمامه» ورواه ابن ماجه وابن أبي شيبة أيضا.
قلت: فإن عبد الحق ضعفه جماعة، ولا يكتب هذا الحديث. وقال ابن حزم في " المحلى ": لم يصح في الخط شيء ولا يجوز القول به. وفي " الذخيرة ": هو مطعون فيه، وقال سفيان: لم يجد شيئا يشد به هذا الحديث.(2/432)
ويدرأ المار إذا لم يكن بين يديه سترة أو مر بينه وبين السترة، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فادرءوا ما استطعتم» ، ويدرأ بالإشارة كما فعل رسول الله بولد أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[دفع المصلي المار بين يديه]
م: (ويدرأ المار) ش: أي يدفعه م: (إذا لم يكن بين يديه سترة أو مر بينه وبين السترة) ش: هذا هو العاشرة من المواضع العشرة.
وفي " المبسوط ": ينبغي أن يدفع المار عن نفسه لئلا يشغله إما بالرفع أو بأخذ طرف ثوبه على وجه ليس فيه شيء من العلاج، ومن الناس من قال: إن لم يقف بإشارته جاز دفعه بالقتال كأنهم أخذوه بعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فادرءوا ما استطعتم فإنما هو شيطان» . وبما روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه وليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان» وأخرج مسلم نحوه عن ابن عمر مرفوعا، وقال الخطابي: معناه أن الشيطان هو الذي يحمله على ذلك، ومعنى المقاتلة الدفع العنيف، ويجوز أن يراد بالشيطان نفس المار؛ لأن الشيطان هو المار والخبيث من الجن والإنس، يقال: معناه معه شيطان يأمره بذلك، بدليل حديث ابن عمر فإن معه القرين، رواه مسلم وأحمد.
وقيل: فعله فعل الشيطان، ويقال: إنه كان في وقت كان العمل فيه مباحا في الصلاة، وقيل: معنى المقاتلة أن يغلظ عليه بعد فراغه، وقيل: يدعو عليه بقوله تعالى {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} [التوبة: 30] [التوبة: الآية 30] .
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فادرءوا ما استطعتم» ش: قد مر هذا عند ذكر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقطع الصلاة مرور شيء ويدفع بها» وقال إمام الحرمين: لا ينتهي دفع المار إلى منع حقيقي بل يومئ ويشير برفق في صدر من يمر به.
وفي " الكافي " للروياني يدفعه ويصر على ذلك، وإن أدى إلى قتله، وقيل: يدفعه دفعا شديدا أشد من الدرء ولا ينتهي إلى ما يفسد صلاته، وهذا هو المشهور عن مالك وأحمد، وقال: انتهيت [....] إن قرب منه درأه ولا ينازعه فإن مشى له ونازعه لم تبطل صلاته وإن يتجاوزه لا يرده لأنه [
.] وكذا رواه ابن القاسم من أصحاب مالك، وبه قال مالك والشافعي وأحمد. وقال ابن مسعود وسالم: يرده من حيث جاء وإن مر بين يديه ما لا يؤثر فيه الإشارة كالهر، قال المالكية: دفعه برجله أو ألصقه إلى السترة.
م: (كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بولد أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) ش: هذا الحديث رواه ابن ماجه في " سننه " عن أم سلمة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في حجرة أم سلمة فمر بين يديه عبد الله أو عمر بن أبي سلمة، فقال بيده فرجع، فمرت زينب بنت أبي سلمة فقال بيده هكذا فمضت، فلما صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: هذا أغلب» ، وذكر السراج هذا الحديث هكذا، «وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في(2/433)
أو يدفع بالتسبيح لما روينا من قبل، ويكره الجمع بينهما؛ لأن بأحدهما كفاية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بيت أم سلمة، فقام عمر بين يديه، فأشار إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن قف فوقف، ثم قامت زينب تمر فأشار إليها أن قفي فأبت ومرت فلما فرغ من صلاته، قال: هن أغلب، وقيل: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ناقصات العقل ناقصات الدين صواحب يوسف، صواحب كرسف يغلبن الكرام ويغلبن القيام، وكرسف اسم عابد من بني إسرائيل فتنته النساء.
وفي كتاب " المعجم " لابن شاهين: قالوا: يا رسول الله: من كرسف؟ قال: رجل كان يعبد الله على ساحل البحر ثلاثين عاما، فكفر بالله العظيم بسبب امرأة عشقها، فتداركه الله تعالى بما سلف منه فتاب عليه» .
م: (أو يدفع بالتسبيح) ش: يعني مخير بين دفعه بالإشارة ودفعه بالتسبيح، ويمكن أن يقال: إن لم يدفع بالإشارة أو ما فهمه يدفعه بالتسبيح فيقول: سبحان الله؛ لما روينا من قبل، أراد به ما ذكره قبل هذا من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ناب أحدكم نائبة فليسبح، وهذا في حق الرجال، وأما النساء فإنهن يصفقن؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فأما التصفيح للنساء.» والتصفيق والتصفيح بمعنى، ولأن في صوتهن فتنة فكره لهن التسبيح.
م: (ويكره الجمع بينهما) ش: أي بين الإشارة والتسبيح م: (لأن بأحدهما كفاية) ش: وفي " المبسوط " قال في الكتاب: واجب إلى أن لا يجمع بينهما، ومنهم من قال: والمستحب أن لا يفعل شيئا، وأما الاثنان الموعود بذكرهما؛ فأحدهما: ترك السترة، والأصل فيها أنه مستحب، وقال إبراهيم النخعي: كانوا يستحبون إذا صلوا في فضاء أن يكون بين أيديهم ما يسترهم، وقال عطاء: لا بأس بترك السترة، وصلى القاسم وسالم في الصحراء إلى غير سترة، ذكر هذا كله ابن أبي شيبة في " مصنفه "، والآخر إذا كانت السترة مغصوبة فهي معتبرة عندنا وتبطل صلاته في إحدى الروايتين [العوارض] عن أحمد ذكرهما في " المغني " ومثله الصلاة في الثوب المغصوب عنده.(2/434)
فصل في العوارض ويكره للمصلي أن يعبث بثوبه أو بجسده؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله تعالى كره لكم ثلاثا» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في العوارض التي تكره في الصلاة]
م: (فصل في العوارض) ش: بالسكون؛ لأن الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب، وفيه بيان العوارض التي تكره في الصلاة، وفيها مثله بيان العوارض التي تفسدها فلقوتها قدمها.
م: (ويكره للمصلي أن يعبث بثوبه أو بجسده) ش: الواو فيه واو الاستفتاح لا للعطف ولا لغيره لعدم ما تقتضيه هكذا سمعته عن بعض مشائخي الكبار.
وقال السغناقي: قدم هذه المسألة لما أن هذه كلية وغيرها نوعية؛ لأن تقليب الحصى والقرقعة والتحصر من أنواع العبث، والكلي مقدم على النوعي.
وقال الأترازي أيضا: وإنما قدم هذه المسألة لكونها كالكلي لما بعده.
قلت: لا نسلم أنها كلية أو كالكلية؛ لأن الكلي له مفهوم مشترك بين أفراده، والعبث بالثوب أو بالجسد لا يشتمل ما بعده من تقليب الحصى وغيره، والذي يقال فيه أنه إنما قدم هذه المسألة؛ لكثرة وقوعها بالنسبة إلى غيرها، قوله أن يعبث كلمة أن مصدرية، وتقديره: ويكره العبث في الصلاة، وفي البدرية: العبث من الذي فيه غرض ولكنه ليس بشرعي، والسفه ما لا غرض فيه، وفي الحميدي: والعبث كل عمل صحيح ليس فيه غرض صحيح.
فإن قلت: [ما] بين التعريفين منافاة.
قلت: هذا اصطلاح ولا نزاع فيه لبدر الدين الكردري اصطلح بذلك، وحميد الدين بهذا، وقال تاج الشريعة: العبث الفعل فيه غرض غير صحيح.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إن الله كره لكم ثلاثا) ش: وتمامه «أن الله كره لكم ثلاثا: العبث في الصلاة والرفث في الصيام والضحك في المقابر» ولم أر أحدا من الشراح بين أصل هذا الحديث وحاله، وغير أن صاحب " الدراية " قال: رواه أبو هريرة كذا في " المبسوط ".
وقال السروجي: ذكر هذا الحديث في كتب الفقه " كالمبسوط " وغيره.
وقلت: رواه القضاعي في " مسند الشهاب " من طريق ابن المبارك، عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن دينار عن يحيى بن أبي كثير مرسلا قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إن الله كره لكم.. إلخ.
وذكره الذهبي في كتابه " الميزان " وعده من منكرات إسماعيل بن عياش، وقال ابن ظاهر في كلامه على أحاديث الشهاب: هذا حديث رواه إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن دينار وسعيد(2/435)
وذكر منها العبث في الصلاة، ولأن العبث خارج الصلاة حرام فما ظنك في الصلاة، ولا يقلب الحصى لأنه نوع عبث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بن يوسف عن يحيى بن أبي كثير أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.. وهذا مقطوع، وعبد الله بن دينار شامي من أهل حمص وليس بالمكي.
قلت: إسماعيل بن عياش عالم الشام، وأحد مشايخ الإسلام، روى عنه مثل سفيان الثوري ومحمد بن إسحاق والليث بن سعد والأعمش وهم شيوخه، وقال يعقوب الفسوي: تكلم قوم في إسماعيل بن عياش وهو ثقة عدل أعلم الناس بحديث الشام أكثر ما تكلموا فيه قالوا: يروي عن ثقات الحجاز، وعن ابن معين: ثقة، وعبد الله بن دينار النهراني، ويقال الأسدي الحمصي وعن ابن سيفان: ضعيف، وقال أبو علي النيسابوري الحافظ: وهو عندي ثقة، ويحيى بن أبي كثير أبو نصر اليماني أحد الأعلام روى عن جماعة من الصحابة مرسلا، وقد رأى أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يصلي بمكة ولم يسمع منه، فإذا كان الأمر كذلك عد هذا الحديث من مرسلات التابعين وهي حجة عندنا.
ثم المراد من العبث في الصلاة فعل ما ليس منها لعدم الخشوع، والرفث التصريح بذكر الجماع، وقال الأزهري: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة.
وقال ابن عرفة: الرفث الجماع في قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] [البقرة: الآية 187] ، وكراهة الضحك عند المقابر لكونها مواضع الاعتبار والاتعاظ وذكر الآخرة واليقظة للموت.
[العبث في الصلاة]
م: (وذكر منها العبث) ش: أي ذكر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من الثلاث التي كرهها الله العبث في الصلاة م: (ولأن العبث خارج الصلاة حرام فما ظنك في الصلاة) ش: فيه نظر، فإن عبث في ثيابه أو بلحيته أو بذكره خارج الصلاة يكون تاركا للأولى ولا يحرم ذلك عليه، ولهذا قال في الحديث الذي ذكره: كره لكم ثلاثا وذكر منها العبث في الصلاة، فلم يبلغه درجة التحريم في الصلاة فما ظنك بخارجها.
فإن قلت: فعلى ما ذكره ينبغي أن يكون العبث مفسدا للصلاة كالقهقهة.
قلت: بلى إذا كثر العبث تفسد لا لكونه عبثا مطلقا بل لكونه عملا كثيرا، وأما القهقهة فليست بمفسدة للصلاة لا باعتبار أنها حرام بل باعتبار أنها تنقض الطهارة وهي شرط الصلاة، ولهذا لا يفسد النظر إلى الأجنبية في الصلاة وإن كان حراما.
م: (ولا يقلب الحصى لأنه نوع عبث) ش: وهو خلاف الخشوع وقد مدح الله الخاشعين في الصلاة بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] [المؤمنون: الآية 1 - 2] والحاصل في هذا الباب أن كل عمل يفيد مصلحة المصلي لا بأس أن يفعله، وكل عمل ليس بمفيد(2/436)
إلا أن لا يمكنه من السجود فيسويه مرة لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مرة يا أبا ذر وإلا فذر» ،
ولأنه فيه إصلاح صلاته ولا يفرقع أصابعه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تفرقع أصابعك وأنت تصلي» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيكره أن يشتغل به م: (إلا أن لا يمكنه من السجود) ش: هذا استثناء من قوله: ولا يقلب وهو من النفي إثبات، والضمير المرفوع في لا يمكنه يرجع إلى الحصى، والمنصوب يرجع إلى المصلي م: (فيسويه مرة) ش: سويا بالنصب أي بأن يسويه لأنه جواب النفي.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مرة يا أبا ذر وإلا فذر) ش: هذا الحديث لم يرد بهذا اللفظ الذي ورد أخرجه أحمد في " مسنده " عنه قال: «سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كل شيء حتى سألته عن مسح الحصى فقال: " واحدة أو دع» .
وأخرجه عبد الرزاق أيضا في " مصنفه " وابن أبي شيبة كذلك، وقال الدارقطني في " علله ": ابن أبي نجيح رواه عن مجاهد عن أبي ذر مرسلا، وروى الأئمة الستة في " كتبهم " عن معيقيب، أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «لا تمسح الحصى وأنت تصلي، وإن كنت فلا بد فاعلا فواحدة» ، ولفظ المصنف منقول عن المشايخ منهم شمس الأئمة الكردري أنه قال: «سأل أبو ذر خير البشر عن تسوية الحجر، فقال خير البشر: يا أبا ذر مرة أو ذر» . قوله: ذر؛ أي: دع أي اترك، وهو أمر من يذر، وقد أتت ماضية ولا يستعمل، وكذلك قالوا في ماضي دع لكن ورد في القرآن {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3] [الضحى: الآية 3] ، بالتخفيف وهي قراءة شاذة ومعيقيب بن أبي فاطمة الدوسي من مهاجرة الحبشة شهد بدرا، وكان على خاتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستعمله أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من بيت المال، وتوفي في خلافة عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (ولأن فيه إصلاح صلاته) ش: أي ولأن في تقليب الحصاة عند عدم التمكن من السجود إصلاح صلاته وهو تمكينه من السجدة على الأرض م: (ولا يفرقع أصابعه) ش: أي لا يفرقع المصلي وهو مضارع من الفرقعة وهي نقض أصابعه [بأن لا يمدها ويغمزها حتى تصوت، ويقال: فقع وفرقع إذا نقض أصابعه] لغمر مفاصلها، ذكره في " الفائق ".
وقال تاج الشريعة: وإنما يكره لأنه عمل قوم لوط فيكره التشبيه بهم.
قلت: فعلى هذا يكره خارج الصلاة أيضا، وقال شيخ الإسلام: كره من الناس الفرقعة خارج الصلاة فإنها تلقين الشيطان، ولا خلاف لأحد من الأئمة الأربعة وغيرهم في كراهة فرقعة الأصابع وتشبيكها في الصلاة، وقال ابن حزم: إن تعمد فرقعة الأصابع أو تشبيكها أو تختم في غير الخنصر فصلاته باطلة.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تفرقع أصابعك وأنت تصلي» ش: الحديث رواه ابن ماجه في " سننه " عن الحارث عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال له: «لا تفرقع أصابعك وأنت في(2/437)
ولا يتخصر وهو وضع اليد على الخاصرة؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن الاختصار في الصلاة، ولأن فيه ترك الوضع المسنون، ولا يلتفت لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لو علم المصلي من يناجي ما التفت»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصلاة» . والحديث معلول بالحارث.
وروى أحمد في " مسنده " والدارقطني في " سننه " والطبراني في " معجمه " عن ابن لهيعة عن زبان بن فائد عن سهل بن معاذ عن أبيه معاذ بن أنس عن النبي قال: «الضاحك في الصلاة والملتفت والمفرقع أصابعه بمنزلة واحدة» وهو ضعيف لأن الرواة كلهم ضعفاء.
[التخصر في الصلاة]
م: (ولا يتخصر) ش: من باب التفعل الذي يدل على التكلف والشدة، وقد فسر التخصر بقوله م: (وهو وضع اليد على الخاصرة) ش: الخاصرة والخصر وسط الإنسان، وقيل: التخصر هو التوكؤ على عصا مأخوذ من المخصرة وهو السوط والعصا ونحوهما، وقيل: أن يختصر السورة فيقرأ آخرها، وقيل: هو أن لا يتم صلاته في ركوعها وسجودها وحدودها وإنما ينهى عنه لأنه فعل المتكبرين، وقيل: هو فعل اليهود، وقيل: فعل الشيطان، وقيل: إنه لما طرد من الجنة نزل إلى الأرض وهو متخصر، وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها نهت أن يصلي الرجل متخصرا وقالت: لا تشبهوا باليهود، وكراهته متفق عليه في حق الرجل والمرأة.
م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن الاختصار في الصلاة) ش: أخرج هذا الحديث الجماعة إلا ابن ماجه عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن يصلي الرجل متخصرا» وفي لفظ: نهى عن الاختصار في الصلاة. وزاد ابن أبي شيبة في " مصنفه " قال ابن سيرين: وهو أن يضع الرجل يده على خاصرته وهو في الصلاة.
م: (ولأن فيه) ش: أي في الاختصار م: (ترك الوضع المسنون) ش: وهو وضع اليد على اليد تحت السرة؛ لأنه علامة الخشوع والخضوع ووضعها على الخاصرة فعل المصاب، وحالة الصلاة حالة مناجاة العبد ربه ولا حالة إظهار المصيبة.
م: (ولا يلتفت) ش: أي المصلي يمينا أو يسارا، وقال الشاعر فيه:
ولو علم المصلي من يناجي ... لما التفت اليمين ولا الشمال
والالتفات مكروه بالاتفاق بين أهل العلم م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لو علم المصلي من يناجي لما التفت) ش: لم يرد حديث بهذا اللفظ الذي ورد قريب، وما رواه الطبراني في " معجمه الأوسط " من حديث أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إياكم والالتفاف في الصلاة، فإن أحدكم يناجي ربه ما(2/438)
ولو نظر بمؤخر عينيه يمنة ويسرة من غير أن يلوي عنقه لا يكره؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يلاحظ أصحابه في صلاته بمؤق عينيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دام في الصلاة» «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الالتفات في الصلاة، فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» ، رواه البخاري وأبو داود والنسائي وأحمد.
وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إياكم والالتفات في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هلكة، فإن كان لا بد ففي التطوع لا في الفريضة» رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وعن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يزال الله مقبلا على عبده في الصلاة ما لم يلتفت، فإذا التفت صرف عنه وجهه» رواه أبو داود والنسائي وأحمد.
[الالتفات في الصلاة]
م: (ولو نظر بمؤخر عينه يمنة ويسرة من غير أن يلوي عنقه لا يكره) ش: ومؤخر العين بضم الميم وسكون الهمزة وكسر الخاء طرفها الذي يلي الصدغ والمقدم بخلافه، وهذا إنما لا يكره إذا كان لحاجة، وفي " المبسوط " حد الالتفات المكروه أن يلوي عنقه حتى يخرج من جهة القبلة والالتفات يمنة ويسرة انحراف عن القبلة ببعض بدنه، فلو انحرف بجميع بدنه تفسد صلاته م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كان يلاحظ أصحابه في الصلاة بمؤق عينيه» ش: [هذا الحديث لم يرد بهذا اللفظ، وأخرج ابن ماجه في " سننه " من حديث] علي بن شيبان قال: «خرجنا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبايعناه وصلينا خلفه، فلمح بمؤخر عينه رجلا لم يقم صلاته في الركوع والسجود، فقال: إنه لا صلاة لمن لم يقم صلبه» . ورواه ابن حبان في " صحيحه " وأخرج الترمذي والنسائي من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لا يلتفت في الصلاة يمينا وشمالا ولا يلوي عنقه خلف ظهره» وقال الترمذي: حديث غريب، ورواه ابن حبان في " صحيحه " مرفوعا، والحاكم في " مستدركه " وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه.
وقال جمال الدين الزيلعي: ولو قال المصنف كان يلاحظ أصحابه بؤخر عينيه لكان أقرب إلى الحديث وإلى مقصوده أيضا، إذ لا يمكن الملاحظة بمؤق العين إلا ومعها شيء من الالتفات، والمؤق مهموز العين مقدم العين، وكذلك المآق. وفي " الصحاح " في مآقي العين نعت [......] ويدل عليه ما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كان يكتحل من قبل مؤقه مرة وموقه أخرى» . وقال الجوهري أيضا في مؤق العين: طرفها مما يلي الأنف، واللحاظ طرفها الذي يلي الأذن والجمع(2/439)
ولا يقعي ولا يفترش ذراعيه لقول «أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نهاني خليلي عن ثلاث: أن أنقر نقر الديك، وأن أقعي إقعاء الكلب، وأن أفترش افتراش الثعلب» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أماقي، مثل آبار وآثار وهو فعلي وليس بمفعل، لأن الميم من نفس الكلمة وإنما زيد في آخره الياء للإلحاق، فلم يجدوا له نظيرا يلحقونه به؛ لأن فعلي بكسر اللام نادر لا أخت لها، فألحق بمفعل، فلهذا جمعوه على مآق على التوهم. وقال ابن السكيت: ليس في ذوات الأربعة يفعل بكسر العين إلا حرفان مآقي العين؛ ومآوي الإبل، وقال: سمعتها، وقال الأزهري: إجماع أهل اللغة أن الموق والمآق بمعنى المؤخر والحديث المذكور غير معروف. قلت: ذكر هذا الحديث ابن الأثير في " النهاية " ثم قال: موق العين مؤخرها ومآقيها مقدمها.
وقال الخطابي: من العرب من يقول: مآق وموق بضمها وبعضهم يقول: وموق بكسرها، وبعضهم يقول: ماق بغير همز كقاض، والأفصح والأكثر مآقي بالهمزة والياء والمؤق بالهمزة والضم، وجمع موق آماق وإماق، وجمع مؤق مآقي، وقال الصنعاني: ماق العين وموقها ومآقيها، وموقها: طرفها ومحله يلي الأنف، ثم ذكر الحديث المذكور وعلى ما قاله العمدة
إذا قالت حذام فصدقوها
[الإقعاء في الصلاة]
م: (ولا يقعي) ش: من الإقعاء والآن يأتي تفسير المصنف إياه، وقال ابن تيمية: كراهة الإقعاء مذهب علي وأبي هريرة وابن عمر وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وأكثر العلماء، وكان عطاء وطاوس وابن أبي مليكة وسالم ونافع يقعون على أعقابهم بين السجدتين، ونقل عن العبادلة بمثله.
م: (ولا يفترش ذراعيه) ش: من الافتراش، وافتراش الذراعين إلقاؤهما على الأرض م: «لقول أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نهاني خليلي عن ثلاث: أن أنقر نقر الديك، وأن أقعي إقعاء الكلب، وأن أفترش افتراش الثعلب» ش: الحديث ليس لأبي ذر، وإنما هو لغيره من جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة، فروى الترمذي وابن ماجه من حديث الأعور عن علي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نهى أن يقعي الرجل في صلاته» ورواه الحاكم في " المستدرك " من حديث سمرة بن جندب، وروى ابن السكن في " صحيحه " عن أبي هريرة: " أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نهى عن السدل والإقعاء في الصلاة» وعن أنس بلفظ: «نهى عن التورك والإقعاء في الصلاة،» وروى مسلم في " صحيحه " من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «وكان ينهى عن عقبة الشيطان» .
قال أبو عبيد: هو أن يضع إليتيه على عقبيه بين السجدتين، وهو الذي يجعله بعض الناس الإقعاء. وقال النووي في " الخلاصة " ليس في النهي عن الإقعاء حديث صحيح إلا حديث عائشة، وروى أحمد والبيهقي من حديث أبي هريرة: «نهاني رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن نقرة كنقرة الديك، والتفات كالتفات الثعلب، وإقعاء كإقعاء الكلب» وفي إسناده ابن أبي سليم.(2/440)
والإقعاء أن يضع إليتيه على الأرض وينصب ركبتيه نصبا، هو الصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى ابن ماجه من حديث أنس بلفظ: «إذا رفعت رأسك من السجود فلا تقع كما يقعي الكلب، ضع إليتيك بين قدميك وألزق ظاهر قدميك بالأرض» ، وفيه العلاء بن زيد متروك، وكذبه ابن المديني. ونقر الديك: التقاطه الحب عن سرعة. وفي [......] النقر في الصلاة تخفيف السجود كنقر الديك.
: (والإقعاء أن يضع إليتيه على الأرض وينصب ركبتيه نصبا) ش: الإقعاء في اللغة انطباق الإليتين بالأرض ونصب الساقين ووضع اليدين على الأرض كما يفعل الكلب، وعند الفقهاء مختلف فيه. وفي " التحفة " اختلفوا في تفسير الإقعاء، فقيل: أن ينصب قدميه كما يفعل في السجود ويضع إليتيه على عقبيه. وقال الكرخي: هو أن يقعد على عقبيه ناصبا رجليه.
وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الإقعاء أن يضع إليتيه على الأرض واضعا يديه عليهما وينصب فخذيه ويجمع ركبتيه إلى صدره وهذا أشبه بإقعاء الكلب. وفي " المبسوط " وهو مراد الفقهاء وهو الأصح لأن إقعاء الكلب يكون هكذا. وفي " الكافي " إلا أن إقعاء الكلب في نصب اليدين وإقعاء الآدمي في نصب الركبتين إلى الصدر. وقال النووي: الأصح في الإقعاء أنه الجلوس على الوركين ونصب الفخذين والركبتين قال: وضم إلى ذلك أبو عبيدة وضع اليدين على الأرض والقعود على أطراف الأصابع. [قال] والصواب هو الأول وأما الثاني فغلط، فقد ثبت في " صحيح مسلم " أن الإقعاء سنة نبينا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وقال القاضي عياض في " مشارق الأنوار " الذي قاله أبو عبيدة أولى، والألية بالفتح ألية الشاة. قال الجوهري: ولا تقل إلية ولا لية فإذا ثنيت، قلت: إليتان فلا تلحقه التاء قال: ترتج إليتاه ارتجاج الوطب. قلت: جاء إليتاه أيضا بإلحاق التاء كما في قوله: وأنف إليتيك ويستطار الوطب بفتح الواو وسكون الطاء وفي آخره باء موحدة وهو شقا [......] خاصة وقوله: نصبا، منصوب على المصدرية.
م: (هو الصحيح) ش: أي الذي ذكره في تفسير الإقعاء هو الصحيح، واحترز به عما قيل الإقعاء أن ينصب قدميه كما يفعل بالسجود ويضع إليتيه على عقبيه لأن الكلب لا يقعي كذلك، وإنما يقعي مثل ما ذكر في الكتاب إلا أنه ينصب يديه، والآدمي ينصب ركبتيه في صلاته كما ذكره في " الكافي ". وقال النووي: الإقعاء على نوعين أحدهما مستحب والآخر منهي عنه، والنهي أن يضع إليتيه ويديه على الأرض وينصب ساقيه، والمستحب أن يضع إليتيه على عقبيه وركبتاه في الأرض فهذا الذي رواه مسلم «عن طاوس قال: قلت لابن عباس في الإقعاء على القدمين، فقال: هي السنة، فقلت له: أما تراه حقا يا رجل؟ فقال: بل هي سنة نبيك - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وفعلته العبادلة» . نص الشافعي على استحبابه بين السجدتين وقد غلط فيه جماعة لتوهمهم أن الإقعاء نوع واحد وأن(2/441)
ولا يرد السلام بلسانه؛ لأنه كلام، ولا بيده لأنه سلام معنى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأحاديث فيه متعارضة حتى ادعى بعضهم أن حديث ابن عباس منسوخ، وهذا غلط فاحش فإنه لم يتعذر الجمع ولا تاريخ فكيف يصح النسخ.
[رد السلام للمصلي]
م: (ولا يرد السلام بلسانه لأنه كلام) ش: ولهذا لو حلف لا يكلم فلانا فسلم يحنث ولو رده به بطلت صلاته، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وأبو ثور وإسحاق وأكثر العلماء، وهو مروي عن أبي ذر وعطاء والنخعي والثوري، وكان سعيد بن المسيب والحسن وقتادة لا يرون به بأسا، وكان أبو هريرة يرد السلام في الصلاة ويسمعه، ثم هل يجب بعد الفراغ؟ ذكر الخطابي والطحاوي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رد على ابن مسعود بعد فراغه من الصلاة كذا في " المجتبى "، وفي " الغاية " للسروجي ويرده بعد السلام عند محمد وعطاء والنخعي والثوري وهو قول أبي ذر، وعند أبي حنيفة لا يرده في نفسه، وعند أبي يوسف لا يرده في الحال، ولا بعد الفراغ ويكره السلام على المصلي والقارئ والذاكر والجالس للقضاء.
م: (ولا بيده لأنه سلام معنى) ش: أي من حيث المعنى، أراد أنه ينوب عن الرد باللسان، وقال الشافعي: يستحب رده بالإشارة، وعن أحمد كراهية الرد بالإشارة في الفرض دون النفل، ومالك مرة كرهه ومرة أجازه. وفي " جوامع الفقه " لو أشار لرد السلام برأسه أو بيده أو بأصبعه لا تفسد صلاته. وفي " الذخيرة " لا بأس للمصلي أن يجيبه برأسه، قيل للمصلي: تقدم فتقدم أو دخل وأخذ فرجة الصف فتجانب المصلي توسعة له فسدت صلاته؛ لأنه امتثل أمر غير الله في الصلاة، وينبغي للمصلي أن يمكث ساعة ثم يتقدم برأيه.
فإن قلت: روى أبو داود والترمذي والنسائي «عن صهيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: مررت برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي فسلمت عليه، فرد علي إشارة، قال: لا أعلم إلا أنه قال: " إشارة بأصبعه» ، وصححه الترمذي. وأخرج أبو داود والترمذي «عن ابن عمر قال: قلت لبلال: كيف كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه في الصلاة؟ قال: كان يشير بيده.» قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان في " صحيحهما " والدارقطني في " سننه " عن أنس «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يشير في الصلاة» . قلت: يحتمل أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان في التشهد وهو يشير بأصبعه فظنه صهيبا ردا أو لم يذكر أنه كان في حال القيام أو القعود أو غيرهما، وما حكي عن بلال وأنس وغيرهما فلعله كان نهيا عن السلام فظنوه ردا.(2/442)
حتى لو صافح بنية التسليم تفسد صلاته
ولا يتربع إلا من عذر لأن فيه ترك سنة القعود،
ولا يعقص شعره وهو أن يجمع شعره على هامته ويشده بخيط أو بصمغ ليتلبد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويؤيد ما ذكرنا ما رواه البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنا مع رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حاجة فرجعت وهو يصلي على راحلته ووجهه إلى غير القبلة فسلمت عليه فلم يرد علي، فلما انصرف قال: أما إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي» . وقد يجاب عن هذه الأحاديث بأنها كانت قبل نسخ الكلام في [الصحيح] الصلاة، يؤيده «حديث ابن مسعود: " كنا نسلم على رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا.»
م: (حتى لو صافح بنية التسليم تفسد صلاته) ش: كلمة حتى هاهنا غاية لما قبلها في الزيادة من قبيل قولهم مات الناس حتى الأنبياء، وعلة الفساد هو كون المصافحة بنية التسليم عملا كثيرا. وقال البقالي وحسام المردني: فعلى هذا لو رد بالإشارة ينبغي أن يفسد لأنه كالتسليم باليد. وقال: عند أبي يوسف لا تفسد.
[التربع للمصلي]
م: (ولا يتربع إلا من عذر) ش: به كالألم في رجله، أما التربع فلأنه نوع تجبر وحال الصلاة حال خشوع وتضرع، وعلل المصنف بقوله م: (لأن فيه ترك سنة القعود) ش: وهي افتراش رجله اليسرى والجلوس عليها ونصب اليمنى وتوجيه أصابعه نحو القبلة، وأما في حالة العذر فلأنه ناسخ لترك الواجب فأولى أن يسبح لترك المسنون، وكان ابن عمر يتربع في الصلاة فنهاه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: إني رأيتك تفعله، فقال: في رجلي عذر.
وقال شيخ الإسلام: التربع جلوس الجبابرة فلهذا كره في الصلاة. وقال السرخسي في " مبسوطه ": هذا ليس بقوي فإنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يتربع في جلوسه في بعض أحواله حتى إنه «- عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يأكل متربعا فينزل عليه الوحي، كل كما يأكل العبيد واشرب كما يشرب العبيد، واجلس كما يجلس العبيد» وهو - عَلَيْهِ السَّلَامُ -[......] عن أخلاق الجبابرة، وكذلك كان جلوس عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في مجلس النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان متربعا؛ لكن الجلوس على الركبتين أقرب إلى التواضع فهو أولى في حالة الصلاة إلا من عذر.. وفي " الخلاصة " التربع خارج الصلاة مكروه أيضا.
[لا يصلي وهو معقوص الشعر]
م: (ولا يعقص شعره) ش: أي لا يصلي وهو معقوص الشعر؛ لأنه لو عقصه وهو في الصلاة فسدت صلاته لأنه عمل كثير م: (وهو) ش: أي عقص الشعر؛ لأن الفعل يدل على مصدره كما في قَوْله تَعَالَى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] [المائدة: الآية 8] ، م: (أن يجمع شعره على هامته) ش: أي وسط رأسه م: (ويشده بخيط أو بصمغ ليتلبد) ش: أي ليلتصق.(2/443)
فقد روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى أن يصلي الرجل وهو معقوص»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الصحاح " تلبد أي لصق، حاصله أن يجمع مشتدا، وفي " المحيط " العقص أن يتضفر به حول رأسه كعقد النساء أو يجمع شعره [فيعقد في مؤخر رأسه. وفي " المبسوط " عقصه [وهو] أن يجمع شعره على هامته] . وقيل: أن يشده كله على القفا كيلا يصل الأرض إذا سجد. وفي الصحاح: عقص الشعر ضفره وليه على الرأس، وللمرأة عقصته، وجمعه عقص، وفي المغرب: العقص جمع الشعر على الرأس، وقيل: كيه وإدخال أطرافه في أصوله، والعقاص ستر يجمع به الشعر، ثم إن صلاته صحيحة مع الكراهة، واحتج ابن جرير الطبري بصحتها بإجماع العلماء. وحكى ابن المنذر الإعادة عليه عن الحسن البصري.
واتفق الجمهور من العلماء أن النهي لكل من صلى كذلك سواء تعمده للصلاة، أو كان كذلك قبلها لمعنى آخر. قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: النهي لمن يفعل ذلك [في] الصلاة، والصحيح الأول لإطلاق الحديث.
م: (فقد روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نهى أن يصلي الرجل وهو معقوص» ش: هذا الحديث رواه عبد الرزاق في " مصنفه "؛ أخبرنا سفيان الثوري عن محمود بن راشد عن رجل عن أبي رافع قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلي الرجل وهو معقوص» ، وأخرجه ابن ماجه في " سننه " عن شعبة عن مخول بن راشد «سمعت أبا سعد يقول: رأيت أبا رافع مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد رأى الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو يصلي وقد عقص شعره فأطلقه وقال: " نهى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن يصلي الرجل وهو عاقص شعره» .
ورواه أبو داود عن عمران بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه أنه رأى أبا رافع مولى النبي _ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مر بالحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو يصلي قائما، وقد غرز ضفرة في قفاه، فحلها أبو رافع، فالتفت إليه الحسن مغضبا، فقال له أبو رافع: أقبل على صلاتك ولا تغضب فإني سمعت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: «ذاك كفل الشيطان» ، وروى الترمذي أيضا نحوه إلا أنه قال فيه عن أبي رافع، لم يقل إنه رأى أبا رافع، وقال حديث حسن.
ورواه الطبراني في " معجمه " عن سفيان عن مخول بن راشد عن سعيد المقبري عن أبي رافع عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى أن يصلي الرجل ورأسه معقوص» ورواه إسحاق بن راهويه في " سننه "، أخبرنا المؤمل بن إسماعيل ثنا سفيان به سندا ومتنا، وزاد:(2/444)
ولا يكف ثوبه؛ لأنه نوع تجبر، ولا يسدل ثوبه؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن السدل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال إسحاق.
قلت للمؤمل بن إسماعيل أفيه أم سلمة، فقال: بلا شك هكذا منه إملاء بمكة، وهذا السند رواه الدارقطني في كتاب " العلل "، قال: ووهم المؤمل في ذكر أم سلمة وغيره لا يذكرها. وفي " صحيح مسلم «عن ابن عباس أنه رأى عبد الله بن الحارث وهو يصلي ورأسه معقوص من الخلف فقام وراءه فجعل يحله، فلما انصرف أقبل على ابن عباس فقال: مالك ورأسي؟ فقال: سمعت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف» قيل: الحكمة في هذا المنهي عنه أن الشعر يسجد معه ولهذا مثله بالذي يصلي وهو مكتوف وقال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لرجل رآه يسجد وهو معقوص الشعر أرسله ليسجد معك.
قوله: كفل الشيطان بكسر الكاف وسكون الفاء مقعده، وأصله كساء يدار حول سنام البعير، وقيل يعقد طرفاه على حجز البعير ليركبه الرديف، ويجعله تحت كفله أي عجزه.
[كف الثوب في الصلاة]
م: (ولا يكف ثوبه) ش: المراد من كف الثوب القبض والضم، وأن يرفعه من بين يديه أو من خلفه إذا أراد السجود، وقيل لا بأس بكف الثوب صيانة عن التلوث. وفي " مختصر الحسن " قال: كان تاج الدين الهندي [لعله أخو حسام الهندي الشهيد] يرسل لحيته في الصلاة، ويقول في إمساكها كف الثوب وإنه مكروه، وكان برهان الدين صاحب " المحيط " وقاضي خان وغيرهما يمسكونه قال: وهو الأحوط.
م: (لأنه) ش: أي لأن كف الثوب م: (نوع تجبر) ش: ولا يفعله إلا المتجبرون، وروي في الصحيح عن طاوس عن ابن عباس عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف ثوبا ولا شعرا» .
م: (ولا يسدل ثوبه لأنه _ «- عَلَيْهِ السَّلَامُ - _ نهى عن السدل» ش: هذا الحديث رواه أبو داود في " سننه " عن سليمان الأحول عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه» ، ورواه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه "، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
ورواه الترمذي عن عسل بن سفيان عن عطاء عن أبي هريرة مرفوعا، وقال: لا نعرفه مرفوعا من حديث عطاء عن أبي هريرة إلا من حديث عسل بن سفيان وليس في روايته: وأن يغطي الرجل فاه. وعسل بكسر العين وسكون السين والمهملتين ضعفه البخاري والنسائي(2/445)
وهو أن يجعل ثوبه على رأسه وكتفيه ثم يرسل أطرافه من جوانبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وغيرهما، وفي سند أبي داود الحسن بن ذكوان المعلم، ضعفه ابن معين وأبو حاتم، وقال النسائي ليس بالقوي، لكن أخرج له البخاري في " صحيحه " وذكره ابن حبان في " الثقات ".
م: (وهو) ش: أي السدل بسكون الدال، وفي " المغرب " بفتحها وهو من باب طلب طلبا م: (أن يجعل ثوبه على رأسه وكتفيه، ثم يرسل أطرافه من جوانبه) ش: اختلفوا في تفسير السدل، فقال في " شرح مختصر الكرخي " مثل ما قال المصنف، إلا أنه قال: يجعل ثوبه على رأسه أو كتفيه بكلمة أو، وقال المعلى: السدل أن تجمع طرفي إزارك من الجانبين جميعا فإن ضممتهما أمامك فليس بسدل. وقال الحسن: السدل أن يضع وسط ثوبه على عاتقه ويرخي طرفيه. وروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة كراهة السدل على القميص وعلى الإزار وبه قال أبو يوسف؛ للتشبيه بأهل الكتاب قال: وهم يسدلون مع القميص وغيره، وقيل: هو جر الثوب على الأرض ذكره بعض المالكية، وفي " مختصر البحر المحيط ": [أن] السدل أن يلبس [......] ولا يدخل يديه في كميه ومثله عن جار الله، وفي صلاة (الجلاتي) إذا ضم طرفه أمامه فليس بسدل، واختلفوا في كراهة السدل خارج الصلاة، والعامة على كراهته في الصلاة إلا مالكا فإنه لا يكرهه فيها.
1 -
فروع: ولو صلى وقد شمر كميه لعمل أو شبه ذلك يكره، وقيل لا بأس به، ويكره تغطيه الفم بلا عذر والاعتجاز وهو أن يلف العمامة حول رأسه، وقيل أن يلف بعضها على رأسه وبعضها على وجهه، وفي [" خبر مطلوب "] هو أن يشد عمامته على رأسه ويبدي هامته.
وقيل: يشد بعض عمامته على رأسه وبعضها على يديه. وعن محمد أنه يلف بعضها على رأسه وطرفا منها يجعله كالمعجز للنساء. ويكره التسليم وتغطية الأنف والفم. قال في " المحيط " لأنه يشبه فعل المجوسيين حال عبادة النيران. ولا يمشط ولا يتثاءب فإن غلبه شيء من ذلك كظم نفسه ما استطاع، فإن غلبه وضع يده أو كمه على فمه، وروى مسلم «إذا تثاءب أحدكم فليسمك بيده على فمه فإن الشيطان يدخل [فيه] » . ويكره أن يروح على نفسه بمروحة أو بكمه، وحكاه ابن المنذر عن عطاء ومسلم بن يسار والنخعي ومالك والشافعي، ورخص فيه ابن سيرين ومجاهد والحسن، وكرهه أحمد وابن راهويه إلا أن يأتي غم شديد. وفي " المحيط " ويكره أن يدخل في الصلاة وهو يدافع الأخبثين أو الريح فإن ثقله الاهتمام بها قطعها، وإن مضى عليها أجزأه وقد أساء، وشدد أبو زيد المروزي والقاضي حسين من الشافعية وقالا: إذا انتهى به مدافعة الأخبثين إلى ذهاب خشوعه لم تصح صلاته، ومذهب الظاهرية بطلان الصلاة مع مدافعة الأخبثين، والصحيح عند العلماء: صحة ذلك مع الكراهة.(2/446)
ولا يأكل ولا يشرب؛ لأنه ليس من أعمال الصلاة، فإن أكل أو شرب عامدا أو ناسيا فسدت صلاته؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: روى مسلم من حديث عائشة عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان» .
قلت: هو محمول على الكراهة عند عامة العلماء. وفي " مختصر البحر المحيط " إن اشتغل الحاقن بالوضوء يفوته الوقت يصلي؛ لأن الأداء مع الكراهة أولى من القضاء، ويكره لبسة الصماء، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنها كالاضطباع، وإنما كرهها؛ لأنها من لبس أهل الأشر والبطر، وفي " البخاري «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن لبسة الصماء فقال: إنما يكون الصماء إذا لم يكن عليك إزار» . قيل: هي اشتمال اليهود. وقال الجوهري عن أبي عبيد: اشتمال الصماء أن تخلل جسدك بثوبك نحو سلمة الأعراب بأكيستهم وهي أن يرد الكساء من قبل يمينه على يده اليسرى وعاتقه الأيسر ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى أو عاتقه الأيمن فيغطيها.
وقيل: أن يشتمل بثوبه فيخلل جسده كله ولا يرفع جانبا يخرج يده منه. وقيل: أن يشتمل ثوب واحد ليس عليه إزار، وفي " مشارق الأنوار " هو الالتفاف في ثوب واحد من رأسه إلى قدميه يخلل به جسده كله وهو التلفف، قال سميت بذلك والله أعلم لاشتمالها على أعضائه حتى لا يجد مستقرا كالصخرة الصماء أو يشدها وضمها جميع الجسد، ومنه صمام القارورة الذي تسد به فوها.
وتكره الصلاة حاسرا رأسه تذللا، وكذا في ثياب البذلة وفي ثوب فيه تصاوير. ويستحب أن يصلي في ثلاثة أثواب إزار وقميص وعمامة، والمرأة في قميص وخمار ومقنعة كذا في " المجتبى ".
وفي " فتاوى السغناقي " ويكره له شد وسطه لأنه صنيع أهل الكتاب. [وفي " الخلاصة " أنه لا يكره، كذا في شرح " منية المصلي " و " البحر الرائق " وكذا في " القنية "] .
[الأكل والشرب في الصلاة]
م: (ولا يأكل ولا يشرب) ش: بالإجماع م: (لأنه ليس من أعمال الصلاة) ش: أي لأن كل واحد من الأكل والشرب ليس من أفعال الصلاة، وعن سعيد بن جبير أنه شرب [الماء] في النافلة، وعن طاوس لا بأس بالشرب في النافلة وهو رواية عن أحمد، وقال ابن المنذر: لا يجوز ذلك، ولعل من حكى ذلك عنه أنه كان فعله ناسيا أو سهوا، وروي أيضا عن ابن الزبير: أنه شرب في التطوع، وقال إسحاق: لا بأس به.
م: (فإن أكل أو شرب عامدا) ش: أي حال كونه عامدا م: (أو ناسيا فسدت صلاته) ش: قل أكله أو كثر وهو قول الأوزاعي، وعند الشافعي: إن كان ناسيا للصلاة أو جاهلا بتحريمه إن كان قليلا لم يبطلها، وإن كان كثيرا أبطلها في أصح الوجهين، وتعرف القلة والكثرة بالعرف، ذكره(2/447)
لأنه عمل كثير وحالة الصلاة مذكرة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النووي.
وقال ابن القاسم: إن أكل أو شرب يتبدئ، قال: ولم أحفظه عن مالك، وقال ابن حبيب: يبني [عليه] ما لم يبطل، وقال أحمد: لا تبطل بهما إذا كان ناسيا وفي " الذخيرة " لو ابتلع شيئا بين أسنانه لا تفسد صلاته؛ لأنه تبع لريقه، ولهذا لا يفسد به الصوم إذا كان قليلا كالحمصة، فإن كان أكثر من ذلك يفسد، وقيل لا تفسد الصلاة بما دون ملء الفم، وفرق هذا القائل بين الصلاة والصوم، وفي " أجناس الناطقي " إذا ابتلع المصلي ما بين أسنانه أو فضل طعام أكله أو شراب شربه فصلاته تامة، وإن أخذ سمسمة فوضعها في فمه فابتلعها تفسد، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف لا تفسد، ذكره في " جوامع الفقه ".
وقال الشافعي: إن ابتلع شيئا من بين أسنانه أو نخامة من رأسه تفسد صلاته، وفي " الذخيرة " لو قاء دون ملء الفم فعاد إلى جوفه لا تفسد، وإن أعاده وهو يقدر على دفعه قال المرغيناني: يجب أن يكون على قياس الصوم، لا يفسد عند أبي يوسف، وتفسد عند محمد، وإن تقيأ أقل من ملء الفم لا تفسد وهو المختار، ولو كان في فمه سكرة فذابت ودخلت في حلقه فسدت وبه قال أحمد وهو الصحيح من وجهي الشافعية، ولو بقيت حلاوة السكر ونحوه في فمه بعد الشروع ولا يدخل حلقه مع ريقه لا تفسد، ولو كان في فمه هليلجة فلاكها فسدت صلاته وإن لم يكلها لا تفسد إلا إذا كثر ذلك، وإن مضغ علكا تفسد إذا أكثر ولو وقع في فمه بردة أو ثلج أو قطرة من مطر فابتلعه فسدت.
م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من الأكل والشرب م: (عمل كثير) ش: لا محالة فتفسد به م: (وحالة الصلاة مذكرة) ش: هذا جواب عما يقال: ينبغي أن يكون أكل الناسي وشربه عفوا في الصلاة كما في الصيام، وتقرير الجواب أن يقال: لا نسلم بصحة القياس لوجود الفارق، وهو أن حالة الصوم ليست بمذكرة فجعل النسيان عذرا بخلاف حالة الصلاة فإنها مذكرة فلم يجعل عفوا، ثم اعلم أن لأصحابنا خمسة أقوال في التفرقة بين العمل الكثير والقليل في الصلاة: أحدها: أن ما يقام باليدين عادة كثير، وإن ما يقام بيد واحدة قليل ما لم يتكرر.
1 -
وفي " الذخيرة ": لو فعل ما يقام باليدين بيد واحدة لا تفسد الصلاة، ولو لبس قميصا أو شد سراويل تفسد، ولو نزع القميص أو حل السراويل لا تفسد، ولو سرح لحيته أو لبس خفيه أو أسرج دابته أو نزعه أو ألجمها أو دهن رأسه بيده بأن أخذ الدهن وصبه على يده ومسح به رأسه تفسد. وفي " الأجناس ": لو نزع لجام دابته أو أمسكها أو خلع خفيه وهو واسع أو نعليه أو زرر قميصا أو قباء أو لبس قلنسوة أو نزعها أو فتح بابا أو رده أو أغلق قفلا أو جعل فتيلة في مسرجه لا تفسد لأنه عمل قليل.(2/448)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " جوامع الفقه ": سئل أبو بكر عمن شد إزاره بيديه، قال: لا عبرة لليدين وإنما العبرة بكثرة العمل، وقيل: اعتبار اليدين، قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولو أخذ قوسا فرمى به [تفسد صلاته. وقال المرغيناني: إن كان القوس بيده والسهم في الوتر فرمى به] لا تفسد، وهو اختيار الشيخ أبي بكر محمد بن الفضل.
الثاني: أن الثلاث كثير، واستدل على هذا بما روى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: إذا تروح مرتين لا تفسد، فإن زاد فسدت، وقليله لا يفسد، وذكر الأستاذ حسام الدين الشهيد، إذا حك موضعا من جسده ثلاث مرات بدفعة واحدة تفسد صلاته. وفي " الذخيرة ": لو عبث بلحيته أو حك بعض جسده لا تفسد، قيل: هذا إذا فعله مرة أو مرتين، وكذا لو فعله إذا فصل بين كل مرتين، فإن كان ذلك متواليا تفسد وعلى هذا قتل القملة، وعلى هذا رمي الحجار الثلاثة على الولاء، ونتف ثلاث شعرات على الولاء تفسد ذكره في " جوامع الفقه ".
الثالث: أنه مفوض إلى رأي المصلي المبتلى به، فإن استكثره كان كثيرا وإن استقله كان قليلا، قال الحلواني: هذا أقرب إلى قول أبي حنيفة لأنه مفوض في مثل ذلك إلى رأي المبتلى به، ويخرج على هذا ما ذكره في " الذخيرة " أنه لو تروح بكمه ثلاثا تفسد، ولو نتف من شعره ثلاث شعرات تفسد، ولو ضرب إنسانا بيده أو بسوط تفسد، ولو رمى طيرا بحجر لا تفسد، ذكره في " المبسوط " فإن ضرب دابة مرة أو مرتين لا تفسد، وثلاثا، ولو حرك رجلا واحدة لا على الدوام لا تفسد ورجلين تفسد.
الرابع: أن الكثير ما يكون مقصودا لفاعل بأن يفرد له مجلسا، قال في " الذخيرة " واستدل هذا القائل بامرأة لمسها زوجها بشهوة أو قبلها بشهوة فسدت صلاتها، وكذا لو مس صبي ثديها فخرج منها اللبن تفسد، وذكر المعلى عن أبي يوسف أن قليل المباشرة لا تفسد وكثيرها يفسد، وكذا القبلة والمباشرة عن شهوة تفسد قليلها وكثيرها، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف: أن القبلة تفسد بشهوة كانت أو بغير شهوة، وعن أبي يوسف لو مسته امرأة بشهوة ولم تشتهه أو قبلت فمه ولم يقبلها لا تفسد صلاته، وفي " المرغيناني " ولو قبل امرأة لم يشتهها لا تفسد.
الخامس: أنه لو نظر إليه ناظران بعيدان إن كان لا يشك أنه في غير الصلاة فهو كثير مفسد للصلاة، ولو شك لا يفسد، [قال المرغيناني: هو الأصح، ولو حملت امرأة صبيها فأرضعته أو قطع ثوبا أو خاطه] قال المرغيناني: فهذا كله عمل كثير على الأقوال كلها، ولو [خلع] عمامته فوضعها على الأرض أو على رأسه أو كتب خطا [......] لا تفسد إلا أن يطول فيزيد على ثلاث كلمات، وفي الملتقط فإن زاد على مرة أو هو على [
... ] لا تفسد، وإن كثر، وحركة الأصابع عمل قليل. وروى المعلى عن أبي يوسف: إن كتب في شيء يقرأ تفسد وفي شيء لا يقرأ لا(2/449)
ولا بأس بأن يكون مقام الإمام في المسجد وسجوده في الطاق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تفسد. وذكر محمد بن الحسن في " السير الكبير " عن الأزرق بن قيس الأسلمي أنه رأى أبا برزة يصلي آخذا بقياد فرسه، حتى صلى ركعتين فانسل قياده من يده، فمضى الفرس نحو القبلة، فتبعه أبو برزة حتى أخذ بقياده ثم رجع ناكصا عن عقبيه حتى صلى الباقيتين، ثم قال محمد: وبهذا نأخذ إذا لم يستدبر القبلة بوجهه ولم يفصل بين القليل والكثير، فهذا يبين لنا أن المشي مستقبل القبلة لا تفسد وإن كثر، ومن المشايخ من روى هذا الأثر، واختلفوا في تأويله. قيل: معناه أنه لم يجاوز الصفوف أو موضع سجوده. وقال المرغيناني في " المختار " أنه إذا كثر يفسد. وقيل: تأويله أنه إذا مشى خطوة أو خطوتين فوقف ثم مشى مثل ذلك حتى أخذه وذلك قليل، أم إذا مشى متلاحقا يفسدها. وقيل: إذا كان مقدار ما يكون بين الصفين لا تفسد كما لو رأى في الصف الأول فرجة وهو في الثاني فمشى إليه فسدها لا يفسد ومن الثالث يفسد، وحكى القاضي ركن الإسلام أبو الحسن علي المفدى عن أستاذه أنه إذا مشى مستقبل القبلة وهو غاز أو حاج أو سفر طاعة وعبادة وإن كثر.
قلت: الأثر المذكور رواه البخاري في باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة، حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا الأزرق بن قيس قال: كنا بالأهواز نقاتل الحرورية، فبينما كنا على حرف نهر إذا رجل يصلي وإذا لجام دابته بيده، فجعلت الدابة تنازعه وجعل يتبعها، (قال شعبة: هو أبو برزة الأسلمي) الحديث. وذكر المرغيناني هذا، وقال: الذي رووه لا يصح، والصحيح أبو بردة، واسم أبي برزة نضلة بن عبيد وقيل نضلة بن عابد وقيل: ابن عبد الله والأول هو الصحيح، وأبو بردة اسمه هانئ بن دينار، ويقال: اسمه الحارث من شهداء بدر، وفي التابعين أبو بردة بن أبي موسى الأشعري قاضي الكوفة، اسمه عامر، وقيل الحارث، وذكرت الشافعية في الفصل بين القليل والكثير أربعة أقوال: الأول: الكثير ما يسع زمانه فعل ركعة حكاه الرافعي. قال النووي: وهو ضعيف أو غلط.
الثاني: ما يحتاج في عمله إلى بدنه كتكوير عمامته وعقد إزاره وسراويله، حكاه الرافعي.
الثالث: ما يظن للثاني نظر إليه أنه كثير في الصلاة وضعفوه كقتل الحية وحمل الصبي.
الرابع: وهو المشهور أن الرجوع إلى العرف في القلة والكثرة، ذكر هذا الأقوال النووي في " شرح المهذب ".
م: (ولا بأس بأن يكون مقام الإمام في المسجد وسجوده في الطاق) ش: شرع من هاهنا في مسائل " الجامع الصغير "، والمراد بمقام الإمام موضع القدم وبالطاق المحراب، وقوله وسجوده في الطاق أي ورأسه في الطاق عند السجود وهذه صورتان الأولى هذه وهي أن يقوم الإمام في المسجد بقدميه ولكن عند سجوده يكون رأسه في المحراب، فهذه لا تكره؛ لأن الاعتبار بموضع القيام(2/450)
ويكره أن يقوم في الطاق؛ لأنه يشبه صنيع أهل الكتاب من حيث تخصيص الإمام بالمكان، بخلاف ما إذا كان سجوده في الطاق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا بموضع السجود، ألا ترى إن قدم المقتدي إذا كانت مؤخرة عن قدم الإمام ورأسه مقدما على رأس الإمام بسبب طول المقتدي تجوز صلاته، وإذا كانت قدم المقتدي مقدمة عن قدم الإمام فلا تجوز صلاته، ألا ترى أن الطير إذا كان رجله في الحرم ورأسه خارج الحرم يكون من صيد الحرم حتى يجب الجزاء بقتله، ألا ترى أن من حلف لا يدخل دار فلان فأدخل جميع أعضائه فيها دون القدمين لا يحنث، فعلم أن الاعتبار بموضع القدم.
وفي " الجنازية ": طعن بعض من خالف أبا حنيفة في قوله لا بأس بأن يكون مقام الإمام في المسجد وسجوده في الطاق يعني لم يجعل الطاق من المسجد وليس كذلك، فإن المراد من المسجد هاهنا مصلى الناس وموضع سجودهم، والطاق ليس بمسجد بهذا الاعتبار، وبه تندفع شبهة الصورة الثانية.
هي قوله: م: (ويكره أن يقوم في الطاق) ش: أي ويكره أن يقوم الإمام وحده في المحراب وتعليل هذه الصورة بشيئين: أحدهما: ما ذكره المصنف بقوله م: (لأنه يشبه صنيع أهل الكتاب) ش: أي لأن قيام الإمام في الطاق يشبه صنيع أهل الكتاب، وأشار إلى وجه التشبيه بصنيعهم بقوله م: (من حيث تخصيص الإمام بالمكان) ش: لأنهم يتخذون لإمامهم مكانا والتشبه بهم مكروه، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من تشبه بقوم فهو منهم» ، ولهذا يكره الاعتجاز وتغطيه الفم؛ لأنه تشبيه بهم، وكذا يكره التمايل عن اليمين واليسار، وقد صح عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا صلى أحدكم فليسكن أطرافه فلا يتمايل تمايل اليهود» .
والتعليل الثاني: ما حكي عن أبي جعفر أنه قال: إن حاله تشتبه على من عن يمينه وعن يساره [حتى إذا كان بجنبي الطاق عمودان، ووراء ذلك فرجة يطلع فيهما من عن يمينه أو عن يساره] على حال فلا بأس به؛ لأن الإمام إذا كان إماما ليعلم بحاله فيتحقق الائتمام به، وهذا بالعراق؛ لأن محاريبهم مجوفة مطوقة بنيت باللبن والآجر.
فإن قلت: لم اختار المصنف الوجه الأول.
قلت: لأنه مطرد بخلاف الثاني؛ لأنه إذا أمكن الإطلاع على حاله بالفرجة لم يطرد فيه.
وقال شمس الأئمة السرخسي: من اختار الطريقة الثانية لم يكره عند عدم الاشتباه وإن كان مقام الأول في الطاق، ومن اختار الطريقة الأولى يكره في الوجهين جميعا [في الثانية] قال: هذا هو الأصح.
م: (بخلاف ما إذا كان سجوده في الطاق) ش: أي لا يكره في هذه الصورة وهي الصورة الأولى لما قلنا إن العبرة للقدمين. وفي " فتاوى الولوالجي " إذا ضاق المسجد بمن خلف الإمام(2/451)
ويكره أن يكون الإمام وحده على الدكان لما قلنا، وكذا على القلب في ظاهر الرواية؛ لأنه ازدراء بالإمام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على القوم لا بأس بأن يقوم الإمام في الطاق؛ لأنه يشتبه بقدر الأمرين، وإن لم يضق المسجد بمن خلف الإمام لا ينبغي للإمام أن يقوم في الطاق؛ لأنه يشتبه بين المكانين. انتهى.
وبالكراهة ففي هذه الصورة وهي ما إذا أقام في الطاق وحده، قال علي وابن مسعود وكعب وعلقمة والحسن البصري وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وسليمان التيمي وليث بن أبي سليم ومحمد بن جرير الطبري وابن حزم، وقال الطحاوي: هذا في محاريب الكوفة فإنها كانت خارجة عن حد المسجد؛ لأنه يشبه اختلاف المكانين، ولأنه يشتبه على من كان في جانبي الإمام، فإن كان مكشوفا لا يشتبه حاله فلا يكره، وعلى الأول يكره، وقال السرخسي: الكراهة في الوجهين؛ لأنه تشبه بأهل الكتاب، والتشبه بهم مكروه خارج الصلاة فكذا في الصلاة بل أولي.
م: (ويكره أن يكون الإمام وحده على الدكان) ش: وقد ذكرنا أن المراد من الدكان الموضع، والموضع مبتنى يجلس عليه مثل الدكة، واختلفوا في نونه هل أصلية أم زائدة، وقيل: بقوله وحده؛ لأنه لو كان معه بعض القوم لا يكره، وبه قال مالك وأحمد والأوزاعي، فإن فعل بطل صلاته عند الأوزاعي وهو قول أبي حامد من الحنابلة.
وقال الشافعي: يكره أن يكون موضع الإمام والمأموم أعلى من موضع الآخر، إلا إذا أراد تعليم أفعال الصلاة وأراد المأموم تبليغ القوم، فقال في " المهذب ": إذا كره أن يعلو الإمام فالمأموم أولى، ولم يذكر المصنف مقدار ارتفاع الدكان الذي يكره عليه، فقيل: قدر ارتفاع قامة الرجل الذي هو متوسط القامة فلا بأس بما دونها، ذكره في " المحيط " وكذا ذكره الطحاوي، وهكذا روي عن أبي يوسف، وقيل: إنه مقدر بقدر ما يقع الامتياز، وقيل: مقدر بقدر ذراع اعتبارا بالسترة. قال قاضي خان: وعليه الاعتماد.
م: (لما ذكرنا) ش: وهو قوله: لأنه يشبه صنيع أهل الكتاب من حيث تخصيص الإمام بالمكان، وفي بعض النسخ لما قلنا. م: (وكذا على القلب) ش: وكذا يكره على قلب الحكم المذكور، أي عكسه وهو أن يكون الإمام أسفل الدكان والقوم عليه م: (في ظاهر الرواية) ش: احترز به عما روي عن الطحاوي أنه لا يكره لعدم التشبيه بصنع أهل الكتاب، فإنهم لا يفعلون هكذا، وعليه عامة المشايخ م: (لأنه) ش: أي لأن كون الإمام أسفل الدكان والقوم عليه م: (ازدراء بالإمام) ش: أي استخفافا به، يقال: ازدراه أي استخف به واحتقره.
وذكر شيخ الإسلام إنما يكره هذا إذا لم يكن من عذر فلا يكره، كما في الجمعة إذا كان القوم على الرف، وبعضهم على الأرض لضيق مكان الرف بفتح الراء المهملة وتشديد الفاء. قال الجوهري: الرف شبه الطاق والجمع الرفوف.(2/452)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: روى البخاري ومسلم من حديث أبي حازم بن دينار «أن رجالا أتوا سهل بن سعد الساعدي وقد امتروا في المنبر مم عوده، فسألوه عن ذاك، فقال: " والله إني لأعرف مما هو، ولقد رأيته أول يوم وضع وأول يوم جلس عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. الحديث، وفي آخره: ثم رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليها وكبر وهو عليها، ثم ركع وهو عليها، ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر، ثم عاد فلما فرغ أقبل على الناس، فقال: " أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي» ، فهذا يدل على ما ذكره الطحاوي، وهو مذهب ابن حزم الظاهري، وحكاه في " المحلى " عن الشافعي وأحمد قال: وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله: لا يجوز، ويجوز الاقتداء من سطح المسجد ورفه، وبه قال الشافعي وأحمد وفي " المغني " صلى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على سطح المسجد بصلاة القوم، وفعله سالم.
قلت: روى أبو داود في " سننه " من حديث همام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك، قال بلى قد ذكرت حين مددتني، وروى أيضا من «حديث عدي بن ثابت الأنصاري حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بالمدائن فأقيمت الصلاة فتقدم عمار بن ياسر، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ على يديه، فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم " أو نحو ذلك، قال عمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقوم الإمام فوق شيء، والناس خلفه يعني أسفل منه» رواه الدارقطني.
والجواب عن حديث سهل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان فعله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - للحاجة إلى تعليم القوم وقد قلنا: إنه لا يكره للضرورة، وأيضا قد يحتمل أنه كان في الدرجة السفلى؛ لأنه لا يحتاج إلى عمل كثير في النزول والصعود، والعمل الكثير مفسد للصلاة بلا خلاف، وأيضا هو فعل، والذي قاله الأكثرون قول، والقول مقدم على الفعل، وقال ابن قدامة لاحتمال اختصاصه بفعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
قلت: هذا لا يمكن مع قوله: إنما فعلت هذا لتقتدوا بي ولتعلموا صلاتي فقد نص - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه غير مختص به، بل فعله كذلك لتقتدوا به فيما فعله، والذي نقله ابن حزم عن الشافعي وأحمد وعطاء وعن أبي حنيفة غلط.(2/453)
ولا بأس أن يصلي إلى ظهر رجل قاعد يتحدث؛ لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ربما كان يستتر بنافع في بعض أسفاره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا بأس أن يصلي إلى ظهر رجل قاعد يتحدث) ش: قاعد بالجر صفة رجل وقوله يتحدث جملة في محل النصب على الحال، ولا يقال: إن هذا الحال نكرة فكيف يجوز الحال عنه؟ لأنا نقول إنه قد اتصف بالصفة، ويجوز أن يكون في محل الجر على أنها صفة أخرى، وقيد بقوله إلى ظهر رجل لأنه لو صلى إلى وجه رجل يكره، وفيه إشارة أيضا إلى أنه لا بأس بأن يصلي وبقربه قوم يتحدثون، وبه قالت الأئمة الأربعة إلا ما روي عن مالك [فإنه يقول] في رواية: إن كان أمامه مجنونا أو صبيا أو كافرا أو امرأة غير محرمة يكره، ومن الناس من كره ذلك؛ لأنه «- عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى أن يصلي الرجل وعنده قوم يتحدثون أو نائمون» ورواه ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وتأويل ذلك أنهم إذا رفعوا أصواتهم على وجه يخاف وقوع الغلط، ولهذا قال في " الجامع البرهاني ": قال: هذا إذا لم يشوشه حديثهم فإن كان يشوشه فيكره، [و] في النائمين إذا كان يخاف أن يظهر صوت من النائم فيضحك في صلاته ويخجل النائم إذا انتبه، فإن لم يكن كذلك فلا بأس به.
فإن قلت: روى سعيد بن منصور في " سننه " أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نهى عن أن يصلوا إلى قوم يتحدثون أو نائمون» .
قلت: هذا محمول على ما إذا رفعوا أصواتهم بالحديث كما ذكرنا، وفي النائم لأجل ما ذكرنا.
فإن قلت: هذا في النافلة أو مطلقا.
قلت: قال ابن قدامة: والأشبه أنه لا فرق بين الفريضة والنافلة في ذلك، يعني في عدم الكراهة. قلت: قد صح عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في الصلاة إلى النائم من غير كراهة في النافلة.
م: (لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ربما كان يستتر بنافع في بعض أسفاره) ش: هذا الأثر رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن نافع ولفظه: كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلا إلى سارية من سواري المسجد، قال لي: ولني ظهرك. وروى أيضا عنه أن ابن عمر كان يقعد رجلا ويصلي خلفه والناس يمرون بين يدي ذلك الرجل. وفي " الجامع الصغير " لقاضي خان: «كان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذا أراد أن يصلي في الصحراء أمر عكرمة أن يجلس بين يديه ويصلي» . قلت: إن كان مراده عكرمة _ وهو ابن أبي جهل _ الصحابي فليس له حديث في ذلك، وإن كان مراده من عكرمة هو مولى ابن عباس فهو تابعي ليس له صحبة.(2/454)
ولا بأس أن يصلي وبين يديه مصحف معلق أو سيف معلق لأنهما لا يعبدان، وباعتباره تثبت الكراهة، ولا بأس بأن يصلي على بساط فيه تصاوير،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: روى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث» . قلت: في سند أبي داود رجل مجهول، وفي سند ابن ماجه أبو المقدام هشام بن زياد البصري لا يحتج بحديثه، وقال الخطابي: هذا الحديث لا يصح عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وقد صح «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى وعائشة نائمة معترضة بينه وبين القبلة» .
فإن قلت: روى البزار في " مسنده " من حديث محمد بن الحنفية عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا يصلي إلى رجل فأمره أن يعيد الصلاة، قال: يا رسول الله إني صليت وأنت تنظر إلي» .
قلت: قال البزار: هذا حديث لا نحفظه إلا بهذا الإسناد، وكأن هذا المصلي كان مستقبل الرجل في وجهه فلم يتنح عن حياله.
م: (ولا بأس بأن يصلي وبين يديه مصحف معلق أو سيف معلق) ش: وهو قول الجمهور، وقال أحمد: يكره ذلك إلا أن يكون موضوعا بالأرض، وقيل: هو قول إبراهيم النخعي، وقال بعضهم يكره ذلك لأن [......] آلة الحرب والحديد فيه بأس شديد، فلا يليق تقديمه في مقام الامتهان، وقيل هو قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وفي استقبال المصحف تشبه بأهل الكتاب فإنهم يفعلون ذلك بكتبهم م: (لأنهما لا يعبدان) ش: أي لأن المصحف والسيف لا يعبدان م: (وباعتباره) ش: أي وباعتبار معنى الكراهة في الأشياء التي تعبد م: (تثبت الكراهة) ش: فالسيف لا يعبد لأنه سلاح، فلا يكره التوجه إليه، ألا ترى أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى عنزة» وهي سلاح، والموضع موضع الحرب أيضا، وكذلك سمي المحراب محرابا فبان تقديم آلة الحرب، وكيف يقال بالكراهة وقد «صلى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عنزة؟» على أنا نقول قد ورد أخذ الأسلحة في صلاة الخوف، وقال تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] (النساء: الآية 102) ، وأما المصحف فلأن في تقديمه تعظيمه وتعظيمه عبادة، فانضمت عبادة إلى عبادة فلا تكره.
م: (ولا بأس بأن يصلي على بساط فيه تصاوير) ش: قال الجوهري: التصاوير: التماثيل، وقال غيره: التمثال ما يصور على الجدار، والصورة ما على الثوب. وفي " المغرب ": التمثال ما يصور تشبيها بخلق الله تعالى من ذوات الروح والصورة عام، وروي عن ابن عباس ما يدل على أن التمثال والصورة واحد، وهو أنه نهى مصورا عن التصوير، فقال كيف أصنع وهو كسبي؟ قال: إن لم يكن لك بد فعليك بتمثال الأشجار، والتمثال بكسر التاء في أوله وقد جاء على هذا(2/455)
لأن فيه استهانة بالصلاة، ولا يسجد على التصاوير؛ لأنه يشبه عبادة الصورة، وأطلق الكراهة في الأصل؛ لأن المصلى معظم، ويكره أن يكون فوق رأسه في السقف أو بين يديه أو بحذائه تصاوير أو صورة معلقة «لحديث جبريل " إنا لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوزن نحو عشرين كلمة وهي: التحفاف وهو [......] ، والتبيان مصدر، والتلقاء مصدر مثل اللقاء، والتمساح اسم لحيوان مشهور في نيل مصر، والتمطار اسم لماء المطر، وتنفاق للهلال، تنبال اسم يقال للقصر.
م: (لأن فيه) ش: أي لأن في فعل الصلاة على البساط الذي فيه تصاوير م: (استهانة بالصلاة) ش: أي تحقيرا لها م: (ولا يسجد على التصاوير لأنه) ش: أي لأن السجود على الصورة م: (يشبه عبادة الصورة) ش: لأنه حينئذ يشبه فعل الكفار عبدة الأصنام م: (وأطلق الكراهة في الأصل) ش: أي أطلق محمد الكراهة في " المبسوط " يعني لم يفصل بين أن يكون الصورة في موضع السجود أو في غيره، فإنه قال: فإن صلى على بساط فيه تماثيل يكره، وفصل في " الجامع الصغير " حيث قال: إن كان في موضع سجوده يكره، وإن كان في موضع جلوسه أو قيامه لا يكره. قال تاج الشريعة: والأصح ما ذكره هاهنا يعني التفصيل.
م: (لأنه المصلى معظم) ش: [هذا تعليل الإطلاق، والمصلى بفتح اللام وأراد به المسجد الذي يصلى فيه، قوله معظم] بفتح الظاء أي مستحق للتعظيم؛ لأنه أعد للصلاة فاستحق التعظيم من سائر البسط، فلو كان فيه صورة كان بنوع تعظيم لها ونحن أمرنا بإهانتها، فلا ينبغي أن تكون في المصلى مطلقا يسجد عليها أو لم يسجد.
[الحكم لو صلى وفوقه أو بين يديه أو بحذائه تصاوير]
م: (ويكره أن يكون فوق رأسه في السقف أو بين يديه أو بحذائه تصاوير) ش: تصاوير مرفوع لأنه خبر يكون م (أو صورة معلقة) ش: أي أو يكون صورة معلقة في السقف ونحوه، أو كان في ستارة معلقة ونحوها م: «لحديث جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنا لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة» ش: هذا الحديث روي عن ابن عمر وميمونة وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فحديث ابن عمر أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر قال: «واعد النبي جبريل - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فراث عليه أي أبطأ حتى شق ذلك على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وخرج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فلقيه، فقال: إنا لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة» . وحديث ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجه مسلم عن ابن عباس قال: أخبرتني ميمونة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصبح يوما واجما فقالت له ميمونة: قد استنكرت هيئتك منذ اليوم قال: " إن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان وعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني، ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا " فأمر به فأخرج ثم أخذه بيده فنضح مكانه، فلما لقيه جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة، فأصبح النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأمر بقتل الكلاب» . الحديث.(2/456)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجه مسلم أيضا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عنها قالت: «وعد رسول الله جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ساعة يأتيه فيها فجاءت تلك الساعة ولم يأته وفي يده عصاه فألقاها من يده، وقال: ما يخلف الله وعده ولا رسله ثم التفت فإذا كلب تحت سريره فقال: " ما هذا يا عائشة؟ متى دخل هذا الكلب هاهنا "؟ فقالت: والله ما دريت، فأمر به فأخرج، فجاءه جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " واعدتني فجلست لك فلم تأت "! فقال: منعني الكلب الذي كان في بيتك، إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة» وأخرج الأئمة الستة عن أبي طلحة الأنصاري واسمه زيد بن سهل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة» . زاد البخاري يريد صورة التماثيل التي فيها الأرواح. وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد في " مسنده " وابن حبان في " صحيحه " عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة ولا جنب.. لم يرو ابن ماجه فيه الجنب، وزاد أحمد ولا صورة ذي روح» وفي " سنده " عن عبد الله بن يحيى وفيه مقال.
وعن السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حديث جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الذي ذكره المصنف بقوله: لما روى مجاهد عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - استأذن على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له: " ادخل " فقال: كيف أدخل بيتا وفيه ستر عليه تماثيل حيوان أو رجال؛ إما أن يقطع رؤوسها أو أن تجعل بساطا يوطأ، وإنا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة» وذكره الأكمل في " شرحه " ناقلا عنه وذكر صاحب " الدراية " نحوه، إلا أن في موضع ستر قرام فيه تماثيل. قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي عن مجاهد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أتاني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال لي: أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أدخل إلا أنه كان في البيت تمثال الرجال وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال فليقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن، ومر بالكلب فليخرج " ففعل رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وإذا الكلب للحسن أو للحسين - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - كان تحت نضد لهم فأمر به فأخرج ". وفي لفظ الترمذي: ويجعل منه وسادتان منتبذتين توطآن» فانظر إلى هؤلاء الشراح كيف يذكرون الحديث على غير أصله، ولا بيان من أخرجه من أرباب فن الحديث، ولا التعرض إلى حاله، على أن هذا الحديث غير مطابق بمقصود المصنف؛ لأنه عام بالنسبة إلى كل صورة، وكلام المصنف خاص بالصورة المعلقة.(2/457)
ولو كانت الصورة صغيرة بحيث لا تبدو للناظر لا تكره؛ لأن الصغار جدا لا تعبد، وإذا كان التمثال مقطوع الرأس أي ممحو الرأس فليس بتمثال فلا يكره؛ لأنه لا يعبد بدون الرأس، وصار كما إذا صلى إلى شمع أو سراج على ما قالوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: قرام بكسر القاف وهو الستر الرقيق، وقيل: الصفيق من صوف ذي ألوان والإضافة في قوله ستر كقولك ثوب قميص، وقيل: القرام الستر الرقيق وراء الستر الغليظ وكذلك أضاف. قوله منبوذتان قال الخطابي: أي وسادتان لطيفتان وسميتا منبوذتين لخفتهما تنبذان أي تطرحان للقعود عليهما. قوله تحت نضد بفتح النون والضاد المعجمة، وهو السرير الذي تنضد عليه الثياب أي يجعل بعضها فوق بعض، وهو أيضا متاع البيت المنضود.
م: (ولو كانت الصورة صغيرة بحيث لا تبدو) ش: أي لا تظهر م: (للناظر لا تكره؛ لأن الصغار جدا لا تعبد) ش: لأن الكراهة باعتبار شبه العبادة، فإذا كانت لا تعبد لصغرها، وقد روي أن أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان اتخذ خاتما عليه ذبابتان، وكان على خاتم دانيال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسد ولبؤة بينهما صبي يلحسانه، فلما نظر عمر له _ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اغرورقت عيناه، ودفعه إلى أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأصل ذلك أن ألقي في غيضة وهو رضيع فقيض الله له أسدا ليحفظه ولبؤة لترضعه وهما يلحسانه، فأراد بهذا النقش أن [......] الله تعالى.
م: (ولو كان التمثال مقطوع الرأس أي ممحو الرأس فليس بتمثال فلا يكره) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإنما فسره بممحو الرأس؛ لأنها إذا لم تكن ممحوة الرأس بل لو قطع بخيط ما بين الرأس والجسد لا ترفع الكراهة؛ [لأنه] كالطوق له فيشبه حيوانا مطوقا.
قلت: هذا لا يدل على هذا، وكذا تفسير السغناقي بقوله: إنما فسر بها؛ لئلا يتوهم أن لو قطع رأسه بخيط من الحلقوم ورأسه ظاهر، فإن الكراهة فيه باقية أيضا، لأن من الطير ما هو مطوق، والأكمل نقله منه كذلك، والصواب ما قاله قاضي خان: وقطع الرأس أن يمحو رأسه حتى لا يبقى له أثر. وقال في " المحيط ": وقطعه أن يمحوه بخيط يخيط عليه حتى لا يبقى للرأس أثر ويصلي [......] .
قلت: الذي دل عليه حديث أبي هريرة ما ذكره الشراح أن قطع الرأس بالكلية أو يجعل بساطا.
م: (لأنه لا يعبد بدون الرأس) ش: أي لأن التمثال لا يعبد إذا كان بلا رأس؛ لأنه حينئذ يصير كغيره من الجمادات م: (وصار كما إذا صلى إلى شمع أو سراج) ش: أي صار حكم التمثال الذي يمحى رأسه في الصلاة إليه كالصلاة إلى شمع أو سراج أمامه؛ لأنهما لا يعبدان م: (على ما قالوا) ش: أشار به إلى أن فيه اختلاف المشايخ، حيث قيل يكره التوجه إلى الشمس أو السراج أو [الشمع] ، والمختار أنه لا يكره.(2/458)
ولو كانت الصورة على وسادة ملقاة أو على بساط مفروش لا يكره؛ لأنها تداس وتوطأ بخلاف ما إذا كانت الوسادة منصوبة، أو كانت على الستر؛ لأنه تعظيم لها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المحيط ": إن توجه إلى سراج أو قنديل أو شمع لا يكره، وكذا ذكر في قاضي خان من غير إشارة إلى خلاف ما إذا توجه إلى تنور أو كانون فيه نار تتوقد فإنه يكره؛ لأنه يشبه العبادة؛ لأنه فعل المجوس فإنهم لا يعبدون إلا نارا موقدة.
وفي " الذخيرة ": ثم من المشايخ من سوى بين أن يكون التنور مفتوح الرأس مجمرا ومنهم من فرق، وفي " المغني ": لا يصلي إلى تنور وهو قول ابن سيرين وكره السراج والقنديل في رواية هاهنا.
وقال ابن بطال في شرح حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - _ الذي رواه البخاري عنه: «انكسفت الشمس فصلى نبي الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثم قال: أريت النار فلم أر منظرا كاليوم أفظع قط» فلا يضره استقبال شيء من المعبودات وغيرها كما لم يضر الرسول ما رآه في قبلته، واستدل البخاري بهذا الحديث على أنه لا يكره استقبال النار؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لا يصلي صلاة مكروهة.
قلت: احتجاجه بذلك على عدم الكراهة غير صحيح من وجوه:
الأول: أنه لا يلزم من قوله أريت النار أن يكون أمامه متوجها إليها، بل يجوز أن يكون عن يمينه أو عن يساره أو وراءه.
الثاني: أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أريها في جهنم، وبينه وبينها ما لا يحصى من بعد المسافة فلا يكره.
الثالث: أن المكروه التوجه إلى النار التي أعدت وليست نار الآخرة هنا.
الرابع: أن إراءتها كانت بعد الشروع في الصلاة فلم يكن مقصودا بالتوجه إليها.
م: (ولو كانت الصورة على وسادة) ش: أي مخدة والجمع وسائد م: (ملقاة) ش: أي مطروحة على الأرض م: (أو على بساط مفروش) ش: أي أو كانت الصورة على بساط مفروش م: (لا يكره لأنها تداس وتوطأ) ش: أي لأن كل واحد من الوسادة والبساط يداس بالرجل ويوطأ عليه فيحصل الامتهان م: (بخلاف ما إذا كانت الوسادة منصوبة أو كانت) ش: أي الصورة م: (على الستر) ش: أي على الستارة م: (لأنه تعظيم لها) ش: أي لأن الصلاة إليها تعظيم لها فتكره.
وقال السرخسي: ذكره بعض المتأخرين [......] على البساط الكبير من الوسائد التي توضع في صدر المجلس فيجلس عليها؛ لأن ذلك في معنى الإزار فيكره الجلوس عليها، ويحكى عن الحسن وعطاء أنهما دخلا بيتا فيه بساط عليه تصاوير، فوقف عطاء وجلس الحسن وقال: تعظيم الصورة في ترك الجلوس عليها.(2/459)
وأشدها كراهة أن تكون أمام المصلي ثم من فوق رأسه ثم على يمينه ثم على شماله ثم خلفه، ولو لبس ثوبا فيه تصاوير يكره؛ لأنه يشبه حامل الصنم. والصلاة جائزة في جميع ذلك؛ لاستجماع شرائطها، وتعاد على وجه غير مكروه،
وهذا الحكم في كل صلاة أديت مع الكراهة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وأشدها كراهة) ش: أي أشد الصورة من حيث الكراهة م: (أن تكون أمام المصلي) ش: أي قدامه م: (ثم من فوق رأسه) ش: أي ثم أن تكون من فوق رأسه م: (ثم على يمينه) ش: أي ثم أن تكون على يمينه م: (ثم على شماله) ش: أي ثم تكون على شماله م: (ثم من خلفه) ش: أي ثم أن تكون خلفه، وأشار بهذا إلى أن الكراهة مقول بالتشكيك، يختلف أحدها بالشدة والضعف. والحاصل أن ذكره بكلمه ثم مكرر إشارة إلى التنزيل لا إلى الترقي، حتى قيل إذا كانت الصورة خلف المصلي لا تكره الصلاة، ولكنه يكره كونها في البيت؛ لأن تنزيه مكان الصلاة عما يمنع من دخول الملائكة مستحب. وكذا يكره اتخاذ الصورة على البساط، ولكن الجلوس والنوم عليه لا بأس به؛ لأن فيه استهانة لها لا تعظيمها.
م: (ولو لبس ثوبا فيه تصاوير يكره؛ لأنه يشبه حامل الصنم) ش: والصنم ما يعمل من خشب أو ذهب أو فضة صورة [على] إنسان، وإذا كان من حجارة فهو وثن. وفي " الذخيرة ": وكره في الكتاب الصلاة بخاتم فيه تماثيل لأنه من ذوي الأعاجم م: (والصلاة جائزة في جميع ذلك) ش: أي في جميع ما ذكرنا من صور الكراهة م: (لاستجماع شرائطها) ش: أي شرائط الصلاة لأن الكراهة ليست بمعنى يرجع إلى الصلاة م: (وتعاد على وجه غير مكروه) ش: أي تعاد الصلاة للاحتياط على وجه ليس فيه كراهة، وفي " الكشف ": إعادة الطواف بالجناية واجبة كوجوب إعادة الصلاة التي أديت مع الكراهة على وجه غير مكروه، وفي " جامع التمرتاشي ": لو صلى في ثوب فيه صورة يكره وتجب الإعادة؛ [لأنه] بمنزلة من يصلي وهو حامل الصنم. وفي " المبسوط ": ما يدل على الأولوية والاستحباب فإن ذكر فيه [والقومة] غير ركن عندهما فتركها لا يفسد الصلاة، والأولى الإعادة، وهذا في ترك الواجب فالأولى أن يكون في غيره كذلك. وقال شمس الأئمة السرخسي ثم البخاري: قال أصحابنا: لو ترك الفاتحة يؤمر بالإعادة ولو ترك القراءة لا يؤمر، فهذا يدل على وجوب الإعادة في ترك الواجب لا غير.
م: (وهذا الحكم في كل صلاة أديت مع الكراهة) ش: ليكون الأداء على وفق الوجوب، فإن ترك واجبا من واجبات الصلاة يجب أن تعاد، وفي مختصر البحر عن القاضي [المتكلم] لو صلى في الدار المغصوبة لا يجزئه، وبه قال أحمد إلا في الجمعة، ولو صلى في عمامة مغصوبة أو في يده خاتم مغصوب صح، وعند بشر المريسي: لا يصح ما في الأرض والثوب المغصوبين. وفي " شرح القاضي الصدر ": ولو وجبت عليه في الأرض المغصوبة فأداها فيها لا يجزئه. وقال العتابي: يصح في الأرض المغصوبة، وفي " شرح العمدة " للقاضي المتكلم: غصب ثوبا وكان(2/460)
ولا يكره تمثال غير ذي الروح؛ لأنه لا يعبد،
ولا بأس بقتل الحية والعقرب في الصلاة؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اقتلوا الأسودين ولو كنتم في الصلاة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فرضه أداء الصلاة بغير سترة فستر به عورته وصلى والمطالبة قائمة، فسدت إن كان الوقت متسعا وإلا لا تفسد. م: (ولا يكره تمثال غير ذي الروح؛ لأنه لا يعبد) ش: وقد جاء في " صحيح مسلم " عن ابن عباس أنه قال: إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له.
[اتخاذ الصور في البيوت وقتل الحيات في الصلاة]
فروع: يكره اتخاذ الصور في البيوت، ويكره الدخول في مثل هذه البيوت والجلوس والزيارة، ولا يكره بيع الثوب الذي فيه تصاوير، وفي الأقضية لا تقبل شهادة الذي يبيع الثياب المصورة أو ينسجها، وفي " فتاوى الفضلي " لا يكره إمامة من في يده تصاوير؛ لأنها مستورة بالثياب لا تستبين فصارت كصورة نقش خاتم.
وفي " نوادر هشام " عن محمد، الأجير لتصوير تماثيل الرجال أو ليزخرفها والأصباغ من المستأجر، قال: لا أجر له؛ لأن عمله معصية، وفي التفاريق هدم بيت مصور الأصباغ ضمن قيمة البيت والأصباغ غير مصورة.
م: (ولا بأس بقتل الحية والعقرب في الصلاة) ش: وبه قال الحسن والشافعي وأحمد، وقال إسحاق: وإنما تقتل الحية إذا تمكن من قتلها بضربة واحدة كالعقرب. وفي " المبسوط ": والأظهر أنه لا تفضيل فيه؛ لأنه رخصة [......] عن الحديث والاستسقاء من البئر والتوضؤ، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه لو لم يخف أذاهما لا يقتلهما، وهو قول النخعي ومالك؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن في الصلاة لشغلا» .
وفي " قاضي خان " قال: وذكر في كتاب الصلاة أن قتلهما لا يفسد الصلاة ولم يذكر الإباحة، قال: وذكر هاهنا إباحة قتل العقرب ولم يذكر الحية، ومن المشايخ من سوى بينهما م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اقتلوا الأسودين ولو كنتم في الصلاة» ش: هذا الحديث أخرجه الأربعة في " سننهم " عن ضمضم بن جوس عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وليس في روايتهم ولو كنتم وهذا زيادة، ولفظهم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اقتلوا الأسودين في الصلاة الحية والعقرب» .
قال الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه ابن حبان في " صحيحه "، والحاكم في " مستدركه "، وقال: حديث صحيح ولم يخرجاه. وضمضم بن جوس من ثقات أهل اليمن أنه سمع جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وقد وثقه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وضمضم بضادين معجمتين، وجوس بفتح الجيم وسكون الواو في آخره سين مهملة.
قلت: روى الحاكم عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -(2/461)
ولأن فيه إزالة الشغل فأشبه درء المار،
ويستوي جميع أنواع الحيات هو الصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: «إن لكل شيء شرفا، وإن شرف المجالس ما استقبل به القبلة، واقتلوا الحية والعقرب وإن كنتم في صلاتكم» ، وسكت عنه، وقد علمت عنه أن زيادة لفظة ولو كنتم في الذي ذكره المصنف موجودة في الحديث غير أنها في رواية ابن عباس لا في رواية أبي هريرة فافهم، فاندفع بهذا [ما] قاله السروجي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأصحابنا زادوا فيه ولو كنتم وقوله الأسودين من باب العمرين والقمرين من باب التغليب؛ لأن الأسود هو العظيم من الحيات وفيه سواد، وانضم إليه العقرب لمجانسة بينهما في الأذى، وفي حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «رأيتنا وما لنا طعام إلا الأسودين، المراد منهما التمر والماء» .
م: (ولأن فيه) ش: أي في قتل الحية والعقرب م: (إزالة الشغل) ش: بفتح الشين المعجمة أي شغل القلب م: (فأشبه درء المار) ش: أي أشبه قتل الحية والعقرب دفع المار من بين يديه في الصلاة، وفيه إشارة إلى الجواب عما قاله بعض المشايخ أن قتلهما إن أمكنه بضربة أو وطأة أو مقطة فعل؛ لأنه عمل يسير، وإن احتاج إلى المشي أو للضرب يفسد الصلاة لأنه عمل كثير، وتقدير الجواب: أنه عمل رخص فيه للمصلي لإزالة شغل قلبه، وفيه إصلاح صلاته فلا حاجة إلى التفصيل.
م: (ويستوي جميع أنواع الحيات) ش: يعني الحية التي تسمى جنية وغيرها م: (هو الصحيح) ش: يعني [أن [إباحة قتل جميع أنواع الحيات هو الصحيح، واحترز به عن قول الفقيه أبي جعفر، فإنه يقول: الحيات على نوعين منهما: ما يكون من سواكن البيوت [لها ضفيرتان] وهي جنية، ومنها ما لا يكون منها، والجنية صورتها بيضاء لها صفيرتان تمشي مستوية فلا يباح قتلها، [أو غير جنية وهي السوداء تمشي ملتوية فله قتلها] ، ولم يذكر في " الجامع الصغير " قتل الحية، وإنما ذكرها في كتاب الصلاة، وفي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقتلوا الأسودين» إشارة إلى هذا، وأيده بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إياكم والحية البيضاء فإنها من الجن» ، وفي غير الصلاة على قوله لا يحل قتلها إلا بعد الإعذار والإنذر بأن يقول له خلي طريق المسلمين فإن أبى فحينئذ يقتله.
وغير الجن مما لو كان يضرب لونه إلى الاسوداد في سنه التواء، والإمام أبو جعفر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: إنه فاسد من قبل أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخذ على الجن العهود والمواثيق بأن لا يظهروا لأمته في صورة الحية ولا يدخلوا بيوتهم، فإذا نقضوا العهد يباح قتلها. وقال الإمام قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والأولى هو الإعذار رجاء العمل بالعهد.
فإن قلت: روي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اقتلوا الحيات ذا الطفيتين والأبتر» فدل على الخصوص.(2/462)
لإطلاق ما رويناه، ويكره عد الآي، والتسبيحات باليد في الصلاة، وكذلك عد السور؛ لأن ذلك ليس من أعمال الصلاة، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا بأس بذلك في الفرائض والنوافل جميعا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لا نسلم أن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي ما عداه، وقد صح عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من ترك الحيات مخافة طلبهن فليس منا ما سالمناهن منذ حاربناهن» يريد به قصة آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين أعانت الحية إبليس على آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقال أبو عبيد: الطفية خوصة المقل، وشبه الخطين على ظهره بخوصتين من خوص المقل، والأبتر: القصير الذنب في الأصل وفسر هاهنا بأنه الأفعى، وقال النضر: هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب لا تنظر إليه حامل إلا سقطت.
م: (لإطلاق ما رويناه) ش: أشار به إلى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اقتلوا الأسودين ولو كنتم في الصلاة» ، والحديث مطلق فلا يجوز تخصيصه بنوع من الحيات. م: (ويكره عد الآي والتسبيح في الصلاة باليد) ش: قيد بقوله في الصلاة لعدم الكراهة خارج الصلاة في الصحيح خلافا لفخر الإسلام، حيث قال: إن عد التسبيح في غير الصلاة بدعة، وكان السلف يقولون: تذنب ولا تحصي وتسبح وتحصي، وقيد باليد لأن المكروه العد بالأصابع أو بخيط يمسكه، أما العد برؤوس الأصابع والحفظ بالقلب لا يكره كذا في " المحيط " و " الخلاصة ".
وفي " الإيضاح " أشار إلى أنه [لا] يكره العد بالقلب أيضا؛ لأن فيه شغل البال، وخص الآي والتسبيح بالذكر؛ لأن عد غيرهما مكروه بالاتفاق، وإطلاق الصلاة يدل على أن الخلاف في الفرائض والنوافل، واختلف المشايخ في محل الخلاف، فقيل: لا خلاف في النوافل، وإنما الخلاف في المكتوبة أنه يكره، كذا ذكره المرغيناني والمحبوبي في " المحيط " والعد باللسان مفسد، وفي ملتقى البخاري: ولو حرك أصابعه بالعد تحريكا بليغا بحيث لو نظر إليه ناظر من بعد ظن أنه في غير الصلاة تفسد صلاته، فإذا لم يكن بليغا يكره، ويكره تحريك الخاتم في الأصابع في الصلاة عندنا، وبه قال ولم يكره مالك.
م: (وكذلك عد السور) ش: أي وكذا يكره عد السور من] القرآن م: (لأن ذلك) ش: أي عد الآي والتسبيح والسور م: (ليس من أعمال الصلاة) ش: فيكره، وإن استكثر تفسد.
م: (وعن أبي يوسف ومحمد أنه لا بأس بذلك) ش: أي بالعد م: (في الفرائض والنوافل جميعا) ش: ذكره بكلمة عن إشارة إلى أن خلافهما ليس من ظاهر الرواية، ولهذا لم يذكر أبو اليسر خلافهما أصلا، بل قال بعضهم قالوا، وكذا في " شرح الجامع الصغير " بكلمة عن، وعن أبي يوسف لا بأس به في النفل، ومثله عن أبي حنيفة ذكره في " التحفة "، وفي " التجريد " ذكر قول محمد مع أبي حنيفة، وكذا ذكر في " الجامع الصغير "، ويروى عن بعض أصحابنا جواز عد(2/463)
مراعاة لسنة القراءة والعمل بما جاءت به السنة،
قلنا: يمكنه أن يعد ذلك قبل الشروع فيستغني عن العد بعده، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التسبيح بالنوى في الصلاة م: (مراعاة لسنة القراءة) ش: أي لأجل المراعاة لسنة القراءة في الصلاة، وهي أربعون آية أو ستون آية م: (والعمل) ش: عطفا على سنة القراءة، أي ومراعاة العمل م: (بما جاءت به السنة) ش: الشراح كلهم ذكروا أن المراد من السنة ما جاء في صلاة التسبيح في تسبيحاتها عشرا عشرا في الأركان على ما هو المعروف.
قلت: لو فسروا قوله بما جاءت به السنة «بحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعد الآي في الصلاة» أخرجه الإمام عن عطاء بن السائب عن أبيه عن ابن عمر به لكان أنسب وأوجه، وأجاب عنه من جهة أبي حنيفة بعضهم أنه لعله كان ذلك منه في أول الأمر حين كان العمل مباحا في الصلاة، على أن عطاء بن السائب قد اختلط في آخر عمره، فلا يحتج بحديثه إلا إذا علم أنه أخبر به قبل الاختلاط، قال أحمد: [مع] أن أبا موسى الأصبهاني قال: هذا حديث غريب.
م: (قلنا: يمكنه أن يعد ذلك قبل الشروع فيستغني عن العد بعده) ش: هذا جواب عما روي عن أبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وتقريره أن يقال: يمكن للمصلي أن يعد ما يريد عده من الآي التي يريد قراءتها في الصلاة، فيستغني بذلك عن العد إذا دخل في الصلاة.
فإن قلت: هذا يمكن في عد الآي دون التسبيح.
قلت: يمكن ذلك في التسبيح أيضا بأن يحفظه بقلبه وبضم الأنامل في موضعها، أو يسبح حتى يتيقن أنه أتى بذلك، والمكروه أن يعده بالأصابع هكذا ذكره في " قاضي خان "، واستدل بعضهم لأبي حنيفة ومن معه بما رواه مكحول عن أبي أمامة وواثلة بن الأسقع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن عد الآي في المكتوبة، ورخص في السبحة» ، قال في " الإمام ": أخرجه أبو موسى الأصبهاني بإسناده، وعن عطاء بن أبي رباح قال: أكرهه في الفريضة، ولا أرى به بأسا في النافلة.
فإن قلت: روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أعد بالأنامل، فإنهن مسؤولات مستنطقات.
قلت: بعد التسليم [......] فهو محمول على أنه خارج الصلاة، ولا بأس به خارجها بالاتفاق.
فإن قلت: صرح في صلاة التسبيح بالعد حيث «قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " للعباس بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن تصلي أربع ركعات فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم قلت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقرأها وأنت راكع عشرا ... » الحديث.(2/464)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قالوا: يعد عددها بأكثر الرأي لا بالأصابع، وفيه نظر لعدم تمكنه من ذلك على الحقيقة، ولهذا قال في " الكافي ": إنما يتأتى هذا أي العد بأكثر الرأي أو بالضبط قبل الشروع في الصلاة بالحفظ في قلبه في الآي دون التسبيحات.(2/465)
فصل ويكره استقبال القبلة بالفرج في الخلاء لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: نهى عن ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل ويكره استقبال القبلة بالفرج في الخلاء]
م: (فصل) ش: قد ذكرنا أن قولهم فصل لا يكون معربا؛ لأن الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب، ولكن التقدير: هذا فصل في بيان الكراهة خارج الصلاة؛ لأنه لما فرغ من بيانها في الصلاة شرع في بيانها في خارجها.
م: (ويكره استقبال القبلة بالفرج في الخلاء) ش: قد ذكرنا أن مثل هذه الواو تسمى واو الاستفتاح أو هي للعطف على ما قبله، وقوله فصل معترض بينهما واستقبال القبلة هو التوجه إليها، والخلاء ممدود بيت التغوط والمقصود النبت، ومنه الحديث ألا لا يختلى خلاها أي لا يقطع نبتها وهذه المسألة من خواص مسائل " الجامع الصغير "، وفي استقبالها بالفرج واستدبارها أربعة أقوال لأهل العلم.
الأول: أنه يحرم استقبالها واستدبارها في الصحراء والبنيان، وهو قول أبي أيوب الأنصاري، واسمه خالد بن زيد النجاري شهد بدرا ومات في زمان معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سنة خمسين وقيل: سنة اثنتين وخمسين بأرض قسطنطينية، وقول مجاهد والنخعي والثوري وأبي ثور ورواية عن أحمد.
القول الثاني: أنه حرام في الصحراء جائز في البنيان بشرط أن يكون بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع فما دونها وارتفاعه قدر مؤخرة الرحل، فهو حرام، إلا أن يكون في بيت مبني لذلك فلا حرج فيه، وكذا لو ستر في الصحراء بشيء من ذلك، قال الثوري: وهذا قول العباس بن عبد المطلب وعبد الله بن عمر والشعبي ومالك والشافعي ورواية عن أحمد.
قلت: هذا الإطلاق عن الثوري خطأ؛ لأنه لا يمكنه بعد الشرطين اللذين شرطهما لمذهبه عنهم مع أنهما لا أصل لهما ولا نص عليهما دليل شرعي.
والقول الثالث: يجوز ذلك فيهما، وبه قال عروة بن الزبير وربيعة وداود.
والقول الرابع: يحرم استقبالها فيه.
وهذا القول ذكره المصنف غير أنه روى عن أبي حنيفة عدم منع الاستدبار، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن ذلك) ش: حديث النهي أخرجه الأئمة الستة في الطهارة عن عطاء بن يزيد عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا(2/466)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا» وأخرجه الجماعة أيضا غير البخاري «عن سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قيل له علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة! فقال: " أجل لقد نهانا عن أن نستقبل القبلة بغائط أو بول ... » الحديث، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه واللفظ لمسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا «إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها» .
وفي حديث آخر أخرجه أبو داود وابن ماجه عن أبي زيد عن معقل بن أبي معقل الأسدي «نهى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن نستقبل القبلة ببول أو بغائط» ، وقال أبو داود: أبو زيد مولى لبني ثعلبة، وقال الذهبي: لا ندري من هو، وروى مالك في " الموطأ " عن نافع «عن رجل من الأنصار عن أبيه أنه سمع رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " ينهى أن يستقبلوا القبلة ببول أو غائط» فيه رجل مجهول فهو كالمنقطع.
أما حديث أبي أيوب وحديث أبي هريرة فإنهما يدلان على حرمة استقبال القبلة واستدبارها مطلقا سواء كان في الصحراء أو في البنيان فلا معارضة، وإنما المعارضة في الاستدبار في البنيان، ولا اعتبار لها مع دلالة عموم الأحاديث الصحيحة المذكورة.
فإن قلت: يقاس الاستقبال في البنيان على الاستدبار فيها.
قلت: هذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن الاستقبال فوق الاستدبار في القبح؛ لأن ما ينحط منه لا يوجه إلى القبلة بخلاف الاستقبال فلا يجوز القياس عليه.
والثاني: أن العمل باللفظ العام أولى من القياس على ما عرف.
وقوله: شرقوا أو غربوا يريد البلاد التي قبلتها بين المشرق والمغرب كالمدينة والشام ونحوهما، وأما البلاد التي قبلتها المشرق أو المغرب، فلا يتأتى ذلك فيها.
فإن قلت: النهي المذكور لأجل القبلة أو لأجل الملائكة.
قلت: قد اختلف العلماء فيه، فمنهم من قال لأجل القبلة، واحتجوا في ذلك بحديث أخرجه الطحاوي في " تهذيب الآثار " عن سماك بن الفضل عن رشدين الجندي عن سراقة بن مالك قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا أتى أحدكم الغائط فليكرم قبلة الله عز وجل، فلا تستقبلوا القبلة» .
ومنهم من قال: لأجل الملائكة واحتجوا في ذلك بما رواه البيهقي عن عيسى الخياط قال:(2/467)
والاستدبار يكره في رواية لما فيه من ترك التعظيم، ولا يكره في رواية لأن المستدبر فرجه غير موازي للقبلة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: للشعبي إني أعجب من اختلاف أبي هريرة وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال نافع «عن ابن عمر دخلت بيت حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فجاءت مني التفاتة فرأيت كنيف رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مستقبل القبلة» وقال أبو هريرة: إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، قال الشعبي: صدقا جميعا، أما قول أبي هريرة فهو في الصحراء؛ لأن لله عبادا ملائكة، وجنا يصلون، فلا يستقبلهم أحد ببول ولا غائط ولا يستدبرهم، وأما كنفهم هذه فإنما هي بيوت بنيت لا قبلة فيها.
قال البيهقي: وعيسى هذا هو ابن ميسرة وهو ضعيف، ويقال فيه الحناط بالحاء المهملة والنون، ويقال أيضا الخياط بالخاء المعجمة وتشديد الياء [والطاء] آخر الحروف، ويقال الخباط بالباء الموحدة، ومنهم من قال علة النهي حرمة المصلين وهو ضعيف، والصحيح أن ذلك لحرمة القبلة، ويدل عليه حديث سراقة كما ذكرنا، وحديث آخر أخرجه البزار عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من جلس ببول قبالة القبلة فذكر وانحرف عنها إجلالا لها لم يقم من مجلسه حتى يغفر له» ، وقيل: المنع للخارج النجس، وقيل: لكشف العورة نحوها، ويبني عليه جواز الوطئ مستقبل القبلة، فمن علل بالأول أباحه، ومن علل بالثاني منعه.
وفي " الروضة ": لا بأس باستقبال القبلة في حالة الإزالة والنظر، ولو تذكر بعد استقبالها فانحرف عنها فلا إثم عليه، ويكره استقبال الشمس والقمر بالفرج وكذا الريح، وفي " الروضة ": ويكره مد الرجلين إلى القبلة في النوم وغيره، وكذا إلى المصحف وكتب الفقه.
م: (والاستدبار يكره في رواية) : ش: يعني عن أبي هريرة وهو الأصح م: (لما فيه) ش: أي في الاستدبار م: (من ترك التعظيم) ش: للقبلة م: (ولا يكره في رواية) ش: أي عن أبي حنيفة، وفي " جامع الأسبيجابي " عن أبي حنيفة في هذه المسألة ثلاث روايات، في رواية: كره الاستقبال والاستدبار، وفي رواية كره الاستقبال دون الاستدبار، وفي رواية: لم يكرهما وبه قال داود، في كل ذلك جاءت الآثار، وذكر أبو اليسر أما الاستدبار فلا بأس به، وقال بعضهم إن كان ذلك ساقطا على الأرض فلا بأس به ولو كان رافعا [ثوبه] قالوا: ينبغي أن يكون مكروها لأن عورته تكون إلى القبلة، وأما نهيه عن الاستدبار فكأنه قال ذلك في حق أهل المدينة لأنهم إذا استدبروا صاروا متوجهين إلى بيت المقدس، فيكره الاستدبار تعظيما لبيت المقدس.
م: (لأن المستدبر فرجه غير موازي للقبلة) ش: فرجه منصوب؛ لأنه بدل من المستدبر بدل البعض من الكل، وغير موازي كلام إضافي مرفوع؛ لأنه خبر إن، ومعنى غير موازي غير محاز للقبلة، والموازاة المقابلة والمواجهة، وأصله إذا كان مهموز الفاء ومعتل اللام، يقال آزيته إذا حاذيته ولا(2/468)
وما ينحط منه ينحط إلى الأرض بخلاف المستقبل؛ لأن فرجه مواز لها وما ينحط منه ينحط إليها،
وتكره المجامعة فوق المسجد والبول والتخلي؛ لأن سطح المسجد له حكم المسجد، حتى يصح الاقتداء منه بمن تحته، ولا يبطل الاعتكاف بالصعود إليه، ولا يحل للجنب الوقوف عليه، ولا بأس بالبول فوق بيت فيه مسجد، والمراد ما أعد للصلاة في البيت؛ لأنه لم يأخذ حكم المسجد، وإن ندبنا إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يقل وازيته، قاله الجوهري وغيره حازه على تخفيف الهمزة وقلبها م: (وما ينحط منه ينحط إلى الأرض) ش: أي وما ينزل منه من البول ينحط إلى الأرض غير محاذ للقبلة.
م: (بخلاف المستقبل) ش: بكسر الباء على صيغة الفاعل م: (لأن فرجه مواز لها) ش: أي للقبلة م: (وما ينحط منه ينحط إليها) ش: أي إلى القبلة لأنه متوجه إليها، وقال الشافعي: إنما يكره ذلك كله في الفضاء، فأما في الأكنفة فلا.
[أحكام المساجد]
[المجامعة فوق المسجد والبول والتخلي]
م: (وتكره المجامعة فوق المسجد والبول والتخلي) ش: أي التغوط دون ما يقوله الناس أنه الخلوة بالمرأة، والمراد من الكراهة التحريم م: (لأن سطح المسجد له حكم المسجد) ش: لأنه ثابت في العرصة والهواء جميعا م: (حتى يصح الاقتداء منه) ش: أي من السطح م: (بمن تحته) ش: يعني يصح اقتداء من كان فوق المسجد بالإمام الذي تحته إذا كان يعلم حال الإمام م: (ولا يبطل الاعتكاف بالصعود إليه) ش: أي بالطلوع من المسجد إلى سطحه، م: (ولا يحل للجنب الوقوف عليه) ش: أي على سطح المسجد، فعلم أن حكم المسجد ثابت في الهواء كما في العرصة.
فإن قلت: ما حكم المساجد التي عند السواقي وعند الحياض.
قلت: قال بعضهم حكمها حكم المسجد، والأصح أنها ليس لها حرمة المسجد، فإنه لا بأس بإدخال الميت فيه مع أنا أمرنا بتجنيب المساجد الموتى، وذكر الصدر الشهيد: أن المختار للفتوى في الموضع الذي يتخذ لصلاة الجنازة والعيد أنه مسجد في حق جواز الاقتداء، وأن تفصل الصفوف رفقا بالناس، فما عدا ذلك ليس له حكم المسجد، والمسجد الجامع هو أعظم المساجد حرمة وكذلك المسجد الذي له جماعة وإمام ومؤذن [وقائمون] بأمره، والمساجد المبنية على القوارع فلها حكم المسجد، إلا أن الاعتكاف فيها لا يجوز؛ لأنه ليس لها إمام ومؤذن معلوم.
م: (ولا بأس بالبول فوق بيت فيه مسجد) ش: لأنه لم يخلص لله تعالى م: (والمراد ما أعد للصلاة في البيت) ش: أي المراد من المسجد المذكور في قوله فوق بيت فيه مسجد هو الموضع الذي يعده المصلي في بيته للصلاة م: (لأنه لم يأخذ حكم المسجد) ش: لبقائه في ملكه، حتى له أن يبيعه ويهبه ويورث عنه، فكان حكمه حكم غيره من المنزل المملوك، فلا يكره المجامعة والبول في جوفه فضلا عن سطحه، وتسميته مسجدا لا يفيد حكم المساجد م: (وإن ندبنا إليه) ش: يعني وإن دعينا إلى اتخاذه في البيت؛ لأنه مستحب لكل إنسان أن يعد في بيته مكانا للصلاة يصلي فيه(2/469)
ويكره أن يغلق باب المسجد؛ لأنه يشبه المنع من الصلاة، وقيل: لا بأس به إذا خيف على متاع المسجد في غير أوان الصلاة، ولا بأس بأن ينقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النوافل والسنن، قال الله تعالى في قصة موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87] (يونس: الآية 87) ، وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب» ، رواه أبو داود [في " سننه "] ، وابن ماجه.
وروى الترمذي مرسلا فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتخذوا بيوتكم قبورا» وهو عبارة عن ترك الصلاة في البيت.
[إغلاق باب المسجد]
م: (ويكره أن يغلق باب المسجد؛ لأنه يشبه المنع من الصلاة) ش: أي لأن الإغلاق شبه المنع فيكره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] (البقرة: الآية 114) ، وقوله أن يغلق من الإغلاق، ولا يقال: غلق فهو مغلوق إلا في لغة رديئة متروكة، وفي " الجامع الصغير " ويكره غلق باب المسجد وهو على اللغة المتروكة، وصوابه إغلاق باب المسجد.
م: (وقيل: لا بأس به) ش: أي بإغلاق باب المسجد م: (إذا خيف على متاع المسجد) ش: من السرقة م: (في غير أوان الصلاة) ش: أي في غير وقتها للاحتياط وهو حسن، وقيل: إذا تقارب الوقتان كالعصر والمغرب والعشاء لا يغلق، وبعد العشاء يغلق إلى طلوع الفجر، ومن طلوع الشمس إلى وقت الزوال، ذكره شمس الأئمة وقاضي خان، والتدبير في الإغلاق وتركه إلى أهل المحلة، فإنهم إذا اجتمعوا على رجل جعلوه متوليا بغير أمر القاضي يكون متوليا.
م: (ولا بأس بأن ينقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب) ش: الجص بفتح الجيم وتشديد الصاد المهملة، قال الجوهري: الجص والجص ما يبنى به وهو معرب.
قلت: هو معرب - كج - بالكاف والجيم وهو الكلس، وهو النورى، يقال له في لغة المصريين الجير، والساج بالجيم شجر يغلظ جدا، ينبت بالهند وله قيمة، وهذه المسألة في خواص مسائل " الجامع الصغير "، وقال فخر الإسلام البزدوي، ولفظ لا بأس دليل على أن المستحب غيره وهو الصرف إلى آخره. وقال شمس الأئمة في قوله: لا بأس إشارة إلى أنه لا يؤجر ويكفيه أن يجوز لسائر الناس.
قلت: البأس: الشدة، فقوله - لا بأس - وفي الشدة روايتان والإنسان إنما يفتقر إلى نفسه حيث يتصور الشدة، وجاء في الآثار أن «من أشراط الساعة تزيين المساجد» وعلي رضي الله(2/470)
وقوله: لا بأس يشير إلى أنه لا يؤجر عليه، لكنه لا يأثم به، وقيل: هو قربة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه بمسجد مزوق بالكوفة فقال: لمن هذه البيعة، فقيل: هذا مصلى للمسلمين، فقال: ما هكذا يكون مصلى المسلمين. وبعث الوليد بن عبد الملك بمال يزين به مسجد رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فمر به على عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: المساكين أحوج من الأساطين، إلا أن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - نفى البأس بقوله لا بأس بدلائل لاحت عنده منها قَوْله تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] (النور: الآية 36) ، ورفعها تعظيمها والتعظيم [رفع شأنها وتطهيرها من الأنجاس والأقذار لا زخرفتها] .
وروي عن داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بنى مسجد بيت المقدس، وأتم بناه سليمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وزينه حتى نصب على أعلى قبته الكبريت الأحمر، وكان يضيء من سبعة أميال، وقيل من اثني عشر ميلا، وكانت الغزالات يغزلن في ضوئها.
وقال تاج الشريعة: الكبريت الأحمر مثل لكل ما يعز وجوده أو يتناقص، قلت: المراد هنا الياقوت الأحمر، وكذا الكعبة باطنها من خزف بماء الذهب وظاهرها مستور بالديباج، وكساها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا، وفي تزيين المسجد ترغيب الناس في الجماعة، وتعظيم بيت الله، والدخول في أمارة من مدحه الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18] (التوبة: الآية 18) .
ثم إن تزيين المسجد لما دار مرة بين الاستحباب وبين الكراهة، قال أصحابنا بالجواز، ولم يقولوا بالاستحباب كما قال به بعضهم، [ولا بلفظ الكراهة، لما ذكرنا، كما قال به بعضهم، ثم اختلفوا في كيفية التزيين، فقيل:] ولا ينبغي التكلف لدقائق النقش، وقيل: إن كان بحيث يشتغل به المصلي يكره، وإلا فلا، وقيل: إن كثر يكره، وإن قل لا، وقيل: يكره في المحراب دون السقف.
م: (وقوله) ش: أي وقول محمد في " الجامع الصغير " م: (لا بأس يشير إلى أنه لا يؤجر عليه) ش: أي لا يثاب عليه م: (لكنه لا يأثم به) ش: أي تزيين المسجد لما ذكرنا م: (وقيل هو قربة) ش: أي التزيين تقرب إلى الله تعالى لما ذكرنا من الدلائل الدالة على أنه قربة.
وأجاب هؤلاء عن الأثر المذكور بأن كونه من أشراط الساعة لا يدل على البطلان، وعن قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من ألزم محمول على أنه كانت فيه تماثيل أو أعاجيب نقش يشغل المصلين عن الخشوع والخضوع، وعن قول عمر بن عبد العزيز أنه عرف أنه كان من مال الصدقة، والمسجد لا يصلح مصرفا لذلك، ومنع أبو إسحاق المروزي تحلية الكعبة والمساجد والمشاهد بقناديل الذهب والفضة.
وقال الغزالي: لا يبعد مخالفته حملا على الإكرام كما في تحلية المصحف ذكره في(2/471)
وهذا إذا فعل من مال نفسه، أما المتولي، فيفعل من مال الوقف ما يرجع إلى أحكام البناء دون ما يرجع إلى النقش حتى لو فعل يضمن، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوسيط، وذكر صاحب " الطراز " عن المالكية كراهة ذلك كله، وذكر في " الرعاية " عن أحمد أن المسجد يصان عن الزخرفة وهم محجوجون بما ذكرناه من إجماع المسلمين في الكعبة.
م: (وهذا) ش: أشار به إلى قوله لا بأس يعني لا يكره النقش م: (إذا فعل من مال نفسه) ش: لأنه يقصد به القربة م: (أما المتولي) ش: وهو الذي ينظر في أمر المسجد وأمر أوقافه م: (فيفعل من مال الوقف ما يرجع إلى أحكام البناء) ش: مثل التجصيص م: (دون ما يرجع إلى النقش) ش: يعني ليس له أن يفعل ذلك م: (حتى لو فعل يضمن) ش: لأنه تعدى، وقيل يضمن في التجصيص أيضا، وعن الشيخ بكر الزرنجري أنه يقول: هذا في زمانهم، أما في زماننا لو صرف ما يفضل من العمارة إلى النقش يجوز قطعا؛ للأطماع الفاسدة من الظلمة.(2/472)
باب صلاة الوتر الوتر واجب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب صلاة الوتر] [حكم صلاة الوتر]
م: (باب صلاة الوتر) ش: أي هذا باب في بيان أحكام صلاة الوتر، قال السراج: لما فرغ من بيان الفرائض ومتعلقاتها وكيفية أداءها، شرع في بيان صلاة هي دون الفرض وفوق النفل، وهي صلاة الوتر، وقدمه على النوافل؛ لأن الواجب فوقها، وهو دون الفرض، فذكره بينهما؛ لأن حقه أن يكون بين الفرض والنفل، ولم يتعرض أحد لبيان وجه المناسبة بينه وبين جميع ما تقدم من الأبواب والفصول.
قلت: لما كان المذكور في الباب الذي قبله بيان الفساد الواقع في الصلاة ذكر هذا الباب عقيبه؛ لما فيه من نوع من ذلك صريحا وغير صريح، أما صريحا: ففي المسألة التي فيها اقتداء الحنفي بالشافعي، وأما في غير الصريح: ففي صلاة الرجل الفجر مع تذكره أنه لم يصل الوتر، وهذا المقدار كاف لوجه المناسبة.
م: (الوتر) ش: الفرد واحدا كان أو أكثر، وهو بفتح الواو، وعند أهل الحجاز وبكسرها الذحل والحقد، ولغة أهل العالية على العكس، وتميم بكسر الواو فيها، وقال النووي: الفتح والكسر لغتان فيه، والوتر م: (واجب عند أبي حنيفة) ش: وفي " المحيط " عن أبي حنيفة فيه ثلاث روايات:
أحدها: أنه واجب وهو آخر أقواله، [قلت] : هو الصحيح، وقال قاضي خان: هو الأصح.
والثاني: أنه فرض، وهو قول زفر، وأبو بكر بن العربي في " العارضة "، مال سحنون والأصبغ من المالكية إلى وجوبه يريده به الفرض.
وفي " المغني ": عن أحمد من ترك الوتر عمدا فهو رجل سوء، ولا ينبغي أن تقبل شهادته، وقد حكى عن أبي بكر أن الوتر واجب أي فرض.
وحكى ابن بطال في " شرح البخاري " عن ابن مسعود وحذيفة والنخعي أنه واجب على أهل القرآن دون غيرهم، والمراد بالوجوب الفرض.
واختار الشيخ علم الدين السخاوي المقرئ النحوي أنه فرض وصف فيه جزاء، وساق فيه الأحاديث التي دلت على فرضيتها، ثم قال: فلا يرتاب ذوقهم بعد هذا أنها ألحقت بالصلوات الخمس في المحافظة عليها.(2/473)
وقالا: سنة لظهور آثار السنن فيه حيث لا يكفر جاحده ولا يؤذن له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال صاحب " المنظومة ": والوتر فرض ونوى بذكره في فجره فساد فرض فجره، وقال شراحها: يعني فرض عملا، واجب اعتقادا، سنة سببا.
وفي " شرح المجمع ": الوتر فرض في حق العمل عند أبي حنيفة، وواجب في حق الاعتقاد، وسنة باعتبار السبب؛ لظهور آثار السنن فيه، وبين عدم إكفار جاحده وعدم الأذان فيه.
فإن قلت: هذه الآثار موجودة في صلاة العيد مع أنها واجبة.
قلت: مجرد عدم الإكفار لا يدل على عدم الوجوب بل يدل المجموع وهو أن لا يكفر ولا يؤذن، ولا نسلم كون صلاة العيد واجبة، وقول البخاري لا نسلم أنه لا إذن لها، فإن قولهم في صلاة العيد: يرحمك الله الصلاة أذان وإعلام غير سديد ولا موجه؛ لأن المراد من الأذان المصطلح وليس فيها كذلك.
والرواية الثالثة: عن أبي حنيفة أنه سنة مؤكدة وهي قول الأكثر من العلماء، وقال صاحب " الدراية ": ثم فيه ليس في الظاهر رواية منصوصة عنده، لكن روى حماد بن يزيد عن أبي حنيفة أنه فرض، وبه أخذ زفر.
وروى يوسف بن خالد التميمي أنه عن أبي حنيفة واجب وهو الظاهر من مذهبه، وروى نوح بن مريم وقيل أسد بن عمر أنه سنة وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي ومالك وأحمد، وفي " الحقائق " فيها ثلاث روايات ولا اختلاف في الحقيقة بين الروايات، والصحيح أنه واجب.
وقال أبو بكر الأعمش: اتفقوا مع اختلافهم فيه: أنه أدون درجة من الفرض، ولا يكفر جاحده، وتجب القراءة في الركعة الثالثة، ويجب قضاؤها بالترك عامدا أو ناسيا، ولا يجوز بدون نية الوتر، ولو كان سنة لكفته نيته في الصلاة، فإن كانوا مصرين قاتلهم بالسلاح.
م: (وقالا: سنة) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد: الوتر سنة م: (لظهور آثار السنن فيه) ش: أي في الوتر وبين ذلك بقوله م: (حيث لا يكفر جاحده) ش: بسكون الكاف من الإكفار أي لا ينسب إلى الكفر إذا قال الوتر ليس بفرض.
م: (ولا يؤذن له) ش: أي للوتر، يعني لا أذان فيه وقد مر الكلام فيه آنفا، ولم يذكر المصنف لها دليلا من الآثار، ودليلها ما رواه أبو داود والنسائي من «حديث عبد الله بن محيريز " عن رجل من بني كنانة يقال له المخدجي قال: كان رجل بالشام يقال له أبو محمد قال: الوتر واجب، قال: فرجعت إلى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقلت: إن أبا محمد يزعم أن الوتر واجب، قال: كذب أبو محمد(2/474)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول خمس صلوات كتبهن الله على عباده ... » الحديث. والمخدجي بضم الميم وسكون الخاء المعجمة وكسر الدال، وقيل بفتحها وبعدها جيم، قيل إن هذا لقب، وقيل نسبة إلى بطن من كنانة، واسمه رفيع الفلسطيني، وأبو محمد: أنصاري، اسمه مسعود بن زيد بن سبيع البخاري، وقيل: اسمه أوس وكان بدريا.
واحتجا أيضا بحديث الأعرابي «هل علي غيرهن؟ فقال: لا، إلا أن تتطوع» وهذا ينفي الفرض والوجوب، وبقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ثلاث هن علي فرائض وهن لكم تطوع، الوتر والفجر وصلاة الضحى» ، رواه أحمد في " مسنده " والحاكم في " مستدركه " من حديث ابن عباس قال: سمعت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: " ثلاث.. " الحديث، والذي وقع في كتب أصحابنا: «ثلاث كتب علي ولم تكتب عليكم وهي لكم سنة، الوتر، والضحى، والأضحى» .
واحتجا أيضا بفعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إياه على الراحلة، والفرض لا يؤدى على الراحلة من غير عذر.
والجواب عن حديث عبادة أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخبر عن فرضية خمس صلوات، وأبو حنيفة لا يقول بفرضية الوتر مثل فرضية الظهر مثلا، وإنما يقول بوجوبه، والفرق بين الواجب [والفرض ظاهر قطعا فلا يكون حينئذ حجة عليه، وقوله كذب أبو محمد أي أخطأ، وسماه كذبا؛ لأنه شبهة في كونه ضدا، وإنما قاله باجتهاده رآه إلى أن الوتر واجب] والاجتهاد لا يدخله الكذب وإنما يدخله الخطأ، وقد جاء كذب بمعنى أخطأ في غير موضع.
وعن حديث الأعرابي بأنه كان قبل وجوب الوتر، وفي قوله إن الله زادكم صلاة على ما يجيء، إشارة على أنه متأخر عن وجوب الصلوات الخمس، وهو نظير قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] (الأنعام: الآية 145) ، وقد حرم الله تعالى بعد ذلك أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير.
وحديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه مسلم وغيره، ويدل على تأخره أنه سأله عن الصلاة(2/475)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والزكاة والصيام وقال في آخره: «والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " أفلح إن صدق» ، ولم يذكر الحج، فدل على أنه كان قبل وجوب الحج، فكذا يجوز أن يكون سؤاله قبل أن يزاد على الخمس فلا يكون حجة.
وعن حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بأنه ضعيف، قال الذهبي: هو غريب منكر، وفي سنده الذي أخرجه الحاكم وأحمد وابن حبان والكلبي ضعفه النسائي والدارقطني، وفي سند آخر فيه جابر الجعفي وهو مختلف فيه، وكذا أخرجه البيهقي بسند فيه أبو حيان، وقال: هو ضعيف مدلس واسمه يحيى بن حية، وقال الثوري: إنما ذكرت هذا الحديث لما بين ضعفه والحذر من الاغترار به، وله طريق آخر عند ابن الجوزي في " العلل المتناهية " فيه وضاح بن يحيى ومندل وهما ضعيفان. وأخرج ابن الجوزي أيضا نحوه من حديث أنس وفيه عبد الله بن محيريز وهو ساقط.
وقال ابن حبان: كان يكذب، وأجاب أصحابنا عنه بأن الحسن يقول: بموجبه لأن الوتر ليس من المكتوبات بل من الواجبات، والواجب مختلف في ذاته وليس كل واجب مكتوب، ألا ترى أن صلاة العيدين واجبة وليست بمكتوبة وليس وجوبها كوجوب صلاة [......] والجمعة، وغسل الميت واجب وليس كغسل الجنابة، وصدقة الفطر واجبة وليست كالزكاة، وسجدتا السهو واجبتان وليستا كسجود الصلاة؛ لأن طريق الواجبات مختلفة بنص القرآن وبالمتواتر والمشهور وبالآحاد، والوتر ليس وجوبه بطريق الآحاد. وأجيب عن قوله: وهي لكم سنة بأن تحقيق الثلاث سنة لكم؛ لأن كلا منها سنة بانفرادها.
وأما احتجاجهما بفعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إياه على الراحلة، والفرائض لا تؤدى عليها، فغير مستقيم على أصلهما؛ لأنهما يريان الوتر فرضا على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، [ثم] الدعوى بجواز هذا الفرض دون سائر الفروض تحكم لا دليل عليه، فإن كانت شبهتهما حديث ابن عباس المذكور فقد بينا حاله، وقال القرافي في " الذخيرة " أن الوتر في السفر ليس بواجب عليه وفعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على الراحلة كان في السفر.
قلت: هذا الأصل له، وروى الطحاوي بإسناده «عن نافع ابن عمر أنه كان يصلي على راحلته ويوتر بالأرض، ويزعم أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يفعل ذلك» وكذا عن مجاهد أن ابن عمر كان يصلي في السفر على بعيره أينما توجه، وإذا كان السحر نزل فأوتر، ولعل ما روي عن ابن عمر ما يخالف ذلك كان قبل تأكده ووجوبه.
وقال ابن العربي: قال أبو حنيفة الوتر واجب ولا يلحق بالواجب بالقران فكذلك يفعل على الراحلة.(2/476)
ولأبي حنيفة قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله زادكم صلاة ألا وهي الوتر فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: نقله هذا عن أبي حنيفة غلط وليس مذهبه كذلك، وفي " المحيط " لا يجوز أن يوتر قاعدا مع القدرة على القيام ولا على راحلته من غير عذر، أما عندهما وإن كان سنة فلأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان ينزل فيوتر على الأرض هذا الذي صح عندهما.
م: (ولأبي حنيفة قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله زادكم صلاة ألا وهي الوتر، فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» ش: وروى هذا الحديث عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن خارجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه أبو داود والترمذي وابن ماجه عنه قال: «خرج علينا رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال " إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر فجعلها لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر» . وقال الترمذي: غريب، وأخرجه الحاكم في " المستدرك " وقال: حديث صحيح الإسناد، ورواه أحمد في " مسنده " والدارقطني في " سننه " والطبراني في " معجمه ".
فإن قلت: رواه ابن عدي في " الكامل " ونقل عن البخاري أنه قال: لا نعرف سماع بعض هؤلاء من بعض يعني رواية، وأعله ابن الجوزي في " التحقيق " بابن إسحاق وبعبد الله بن راشد، ونقل عن الدارقطني أنه ضعفه.
قلت: قال صاحب " التنقيح " أما تضعيفه بابن إسحاق فليس بشيء فقد تابعه الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب به، وأما نقله عن الدارقطني أنه ضعف عبد الله بن راشد فغلط؛ لأن الدارقطني إنما ضعف عبد الله بن راشد البصري مولى عثمان بن عفان الراوي عن أبي سعيد الخدري، وأما عبد الله بن راشد هذا فهو مصري راوي عن خارجة، عده ابن حبان في الثقات، وخارجة هو ابن حذافة العدوي [والقريشي] الصحابي، سكن مصر له هذا الحديث.
قوله: حمر النعم بفتح النون والعين واحد الأنعام وهي الجمال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل، والحمر بضم الحاء وسكون الميم جمع أحمر، ولما كانت الإبل الحمراء أعز الأموال عند العرب ذكر ذلك - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وعن عمرو بن العاص وعقبة أخرج حديثهما إسحاق بن راهويه في " مسنده " عنهما عن(2/477)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إن الله عز وجل زادكم صلاة وهي خير لكم من حمر النعم الوتر وهي لكم فيما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر» ومن طريقه رواه الطبراني في " معجمه ".
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرج حديث الدارقطني في " سننه "، والطبراني في " معجمه " عنه قال: «خرج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مستبشرا فقال: إن الله قد زادكم صلاة وهي الوتر» وفيه النضر أبو عمر الخزاز قال الدارقطني: ضعيف.
وعن أبي بصرة بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهملة الغفاري واسمه جميل أو (حميل) أخرج حديثه الحاكم في المستدرك من طريق ابن لهيعة حدثني عبد الله بن هبيرة أن أبا تميم الجيشاني وعبد الله بن مالك أخبره، أنه سمع عمرو بن العاص يقول: سمعت أبا نصر الغفاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: سمعت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: «إن الله تعالى زادكم صلاة وهي الوتر، فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح» . وسكت عنه الحاكم، وأعله الذهبي في " مختصره " بابن لهيعة، وله طريق آخر عند الطبراني في " معجمه " وأحمد في " مسنده " عن ابن المبارك.
أما سعيد بن يزيد عن أبي هبيرة عن أبي تميم الجيشاني به وبطريق آخر عند الطبراني عن الليث بن سعد عن جبير بن نعيم عن ابن هبيرة به. وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرج حديثه الدارقطني في " غرائب مالك " عنه قال: «خرج رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - محمرا وجهه يجر رداءه، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال يا أيها الناس إن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم وهي الوتر» . وفيه حميد بن أبي الجون الإسكندراني، قال الدارقطني: ضعيف.
وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني في كتابه " مسند الشاميين "، وعنه قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله تعالى زادكم صلاة، وهي الوتر» . وروي أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: «أمرنا رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " فاجتمعنا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: " إن الله قد زادكم صلاة فأمرنا بالوتر» .
وجه الاستدلال بهذه الأحاديث أن في بعضها الأمر، والأمر للوجوب وهو معنى قول المصنف.(2/478)
أمر وهو للوجوب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أمر) ش: أي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - م: (وهو للوجوب) ش: أي أمر الشارع فيه يدل على وجوب الوتر، والذي فيه التصريح بالأمر حديث أبي بصرة وهو قوله فصلوها، وفي حديث عمرو ابن شعيب المذكور آنفا، ونظيره ما روي عن جابر أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «أيكم خاف أن لا يقوم في آخر الليل فليوتر ثم ليرقد، ومن وثق بالقيام من آخر الليل فليوتر في آخر الليل، فإن قراءة آخر الليل محضورة وذلك أفضل» ، رواه مسلم والترمذي وأحمد وابن ماجه.
وما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «اجعلوا آخر صلاتكم وترا» ، أخرجه البخاري ومسلم. وما روي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: سمعت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: «الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق» ، [رواه أبو داود والحاكم في " المستدرك " وصححه] .
وقوله: حق أي واجب ثابت، والدليل عليه بقية الحديث؛ لأنها وعيد شديد، ولا يقال مثل هذا إلا في حق تارك فرض أو واجب ولاسيما وقد تأكد بالتكرار الكلام ثلاث مرات، ومثل هذا الكلام بهذه التأكيدات لم يأت في حق السنن، وبهذا [أسقط] ما قاله الخطابي من قوله، وقد دلت الأخبار الصحيحة على أنه لم يرد بإلحاق الوجوب الذي لا يسعه غيره، منها: خبر عبادة ابن الصامت، لما بلغه أن أبا محمد رجلا من الأنصار يقول: الوتر حق، فقال: كذب أبو محمد، لقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في عدد الصلوات الخمس.
ومنها: خبر طلحة بن عبد الله في سؤال الأعرابي، ومنها: خبر أنس بن مالك في فرض الصلوات ليلة الإسراء.
أما خبر عبادة فقد تكلمنا فيه بما فيه الكفاية عن قريب، وأيضا فإنما كذبه في قوله كوجوب الصلاة، ولم يقل أحد أن الوتر واجب كوجوب الصلاة.
وأما خبر طلحة فكان قبل وجوب الوتر بدليل أنه لم يذكر فيه الحج، وقد قررناه أيضا.
وأما حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلا نزاع فيه أنه كان قبل الوجوب، وما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر» . أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن.(2/479)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: قال الخطابي: تخصيصه أهل القرآن بالأمر فيه، يدل على أن الوتر غير واجب، ولو كان واجبا لكان عاما، وأهل القرآن في عرف الناس هم القراء والحفاظ دون العوام.
قلت: أهل القرآن بحسب اللغة يتناول كل من معه شيء من القرآن ولو كان آية فيدخل فيه الحفاظ وغيرهم، على أن القرآن كان في زمنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مفرقا بين الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولهذا التأويل الفاسد لا يبطل مقتضى الأمر الدال على الوجوب، ولا سيما تأكيد الأمر بالتقرير لمحبة الله إياه بقوله فإن الله وتر يحب الوتر. وما روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أوتروا قبل أن تصبحوا» ، رواه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه، وما روي عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره» ، رواه أبو داود والترمذي، ووجوب القضاء فرع وجوب الأداء.
فإن قلت: قال الخطابي: قوله: أمدكم بصلاة يدل على أنها غير لازمة لهم، ولو كانت واجبة يخرج الكلام فيه على صيغة لفظ الإلزام، فيقول ألزمكم أو فرض عليكم أو نحو ذلك من الكلام، قال: وقد روي أيضا: «إن الله قد زادكم صلاة» ومعناه الزيادة من النوافل، وذلك أن نوافل الصلاة شفع لا وتر فيها، فقد أمدكم بصلاة وزادكم صلاة لم تكونوا تصلونها قبل على تلك الصورة والهيئة وهي الوتر. قلت: لا نسلم أن قوله أمدكم بصلاة يدل على أنها غير لازمة، فلئن سلمنا فلا ينافي ذلك [دلالة] دليل آخر على الوجوب، وقد جاء فيما ذكرناه من الأحاديث ما يدل على الوجوب. وأما وجه الاستدلال بقوله إن الله زادكم من وجوه: الأول: أنه أضاف الزيادة إلى الله تعالى، والسنن إنما تضاف إلى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
والثاني: أنه قال زادكم والزيادة إنما تتحقق في الواجبات لأنها محصورة بعدد لا [كما] في النوافل؛ لأنه لا نهاية لها.
والثالث: أن الزيادة في الشيء إنما تتحقق إذا كان من جنس المزيد عليه لا يقال زاد في ثمنه إذا وهب هبة مبتدأة، ولا يقال زاد على الهبة إذا باع، والمزيد عليه فرض فكذا الزائد، إلا أن الدليل غير قطعي فصار واجبا.
فإن قلت: السنن مقدرة أيضا فهذه كانت زائدة على السنن.
قلت: إضافته إلى الواجبات أولى للأخذ بالاحتياط، وأيضا لو اعتبرت زيادة على الفرائض يكون الأمر معمولا لا بحقيقته، ولأنه لا يمكن جعل الزيادة على السنن؛ لأنه لا نظير له في الشرع، إذ السنن توابع الفرائض، ولا جائز أن يكون تبعا للسنن؛ لأنه يؤدى في آخر الوتر وهو آخر الليل، والسنن ليست كذلك، وقيل أفضل وقت الوتر هو السحر، ويكره أداء العشاء فيه أشد الكراهة، ولو كان الوتر تبعا للعشاء من حيث السنية لكان وقته المستحب وقت العشاء، ومما(2/480)
ولهذا وجب القضاء بالإجماع، وإنما لا يكفر جاحده؛ لأن وجوبه ثبت بالسنة وهو المعني بما روي عنه أنه سنة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يدل على وجوب الوتر قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إلا وهي الوتر» على سبيل التعريف، فهذا دليل على أنه كان معلوما عندهم، وزيادة تعريف وزيادة وصف وهو الوجوب لا أصله.
فإن قلت: جاء حديث عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا يدل على أنه لا يلزم أن يكون المزاد من جنس المزاد عليه وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله تعالى زادكم صلاة إلى صلاتكم هي خير من حمر النعم ألا وهي الركعتان قبل صلاة الفجر» ، أخرجه الحاكم وقال: حديث صحيح.
قلت: لا يمنع هذا ما ذكرنا؛ لأنه يجوز أن يكون المراد منه ركعتا الصبح ولهذا [جاء] التأكيد فيهما، وروى أبو هريرة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل» ، رواه أبو داود ولهذا رأى محمد قضاءها بعد طلوع الشمس إلى وقت الظهر.
م: (ولهذا وجب القضاء بالإجماع) ش: أي ولأجل كون الوتر واجبا وجب القضاء بالإجماع، قال الأترازي: أي بإجماع أصحابنا، وقال الأكمل: قيل المراد بالإجماع إجماع أصحابنا على ظاهر الرواية، فإنه نقل عن أبي يوسف أنه لا يقضي خارج الوقت، وعن محمد أنه قال: أحب إلي أن يقضي، قيل: المراد بالإجماع إجماع السلف، لكنه لم يثبت إلا بطريق الآحاد.
قلت: هذا من كلام (الخبازي) وعلى غير ظاهر الرواية لا يصح الاستدلال على وجوبه بوجوب قضائه بالإجماع، وذكر الحافظ أبو جعفر الطحاوي أن وجوب الوتر إجماع من الصحابة، فعلى هذا لا يحتاج إلى تفسير قوله بالإجماع أي بإجماع أصحابنا، وعلى ظاهر الرواية، ولهذا سقط زعم الأكمل أيضا. وقوله وفي الجملة وكلامه في هذا الموضع لا يخلو عن تسامح ولكل جواد كبوة.
م: (وإنما لا يكفر جاحده لأن وجوبه ثبت بالسنة) ش: هذا جواب عن قولهما حيث لا يكفر جاحده أي لا كفر؛ لأن الجاحد إنما يكفر إذا كان الدليل قطعيا، وهاهنا ليس كذلك؛ لأن وجوبه ثبت بالسنة يعني بخبر الواحد، ولم يثبت بخبر التواتر ولا بالمشهور فصار دون من الذي ثبت بالمتواتر أو المشهور، فإن منكر الثابت بأحدهما يكفر م: (وهو المعني) ش: بكسر النون وتشديد الياء، أي كون وجوبه ثبت بالسنة م: (بما روي عنه أنه سنة) ش: وهو الحديث الذي رواه ابن عباس: «ثلاث كتب علي ولم تكتب عليكم وهي لكم سنة» .(2/481)
وهو يؤدى في وقت العشاء فاكتفي بأذانه وإقامته ولا يؤذن له. قال: الوتر ثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام؛ لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: كان يوتر بثلاث» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[عدد ركعات الوتر]
م: (وهو يؤدى في وقت العشاء فاكتفي بأذان العشاء وإقامته) ش: هذا جواب عن قولهما م: (ولا يؤذن له) ش: أي الوتر يؤدى في وقت العشاء فاكتفي بأذان العشاء وإقامته.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (الوتر ثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام) ش: بل يتشهد عند الثانية ولا يسلم، ويتشهد عند الثالثة ويسلم، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي وأنس وابن عباس وأبي أمامة وعمر بن عبد العزيز واختاره الأكثرون وابن المبارك، وهو قول مالك في كتاب الصيام ذكره في " العارضة ". وقال ابن بطال: الوتر ثلاث، قول حذيفة وأبي والفقهاء السبعة بالمدينة وسعيد بن المسيب. وقال الترمذي: وقد ذهب جماعة من الصحابة وغيرهم إلى هذا. وقال الزهري: يوتر بثلاث في رمضان وفي غيره بواحدة. وقال مالك: لا يوتر بواحدة ليس قبلها شيء لا في سفر ولا حضر. وقال النووي: الوتر أقله ركعة لا خلاف فيه، وأدنى كماله ثلاث، وأكثره إحدى عشرة، وفي وجه: ثلاث عشرة ركعة ولو زاد عليها لم يصح وتره عند جمهورهم. وقال ابن حنبل: الذي أختاره أن يفصل ركعة الوتر مما قبلها، وقال: إن أوتر بثلاث ولم يسلم لم يضيق عليه عندي، ويعجبني أن يسلم في الركعتين، وقال الأوزاعي: إن فعل فحسن، وإن لم يفعله فحسن.
م: (لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يوتر بثلاث» ش: أي بثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام، لما روى النسائي في " سننه " عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يسلم في ركعتي الوتر» . ورواه الحاكم في " المستدرك "، وقال: إنه صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه، ولفظه قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهن» .
فإن قلت: الحديث الذي ذكره المصنف يحتمل أنه كان يوتر بتسليمتين.
قلت: دفع هذا الاحتمال ما ذكرناه عن النسائي والحاكم.
فإن قلت: كيف حملتم المطلق على المقيد؟
قلت: يحمل إذا ورد النصان في الحكم، ولنا أحاديث أخر تدل على أن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة.(2/482)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منها ما رواه الأربعة من حديث عائشة _ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقرأ في الركعة الأولى من الوتر بفاتحة الكتاب و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وفي الثانية ب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وفي الثالثة ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، والمعوذتين» ورواه الحاكم في " مستدركه "، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورواه ابن حبان في " صحيحه "، وظاهر الحديث أن الثالثة متصلة غير منفصلة، والاتصال في ركعة الوتر المنفردة أو نحو ذلك.
فإن قلت: يعكر عليه في ما لفظ الدارقطني عن عائشة «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، ويقرأ في الوتر ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] » .
قلت: لا يدل، وقوله أوتر بعدها على أنه يوتر بعد التسليمة، ولا شك أن الثالثة وتر.
ومنها: ما رواه الطحاوي أيضا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نحو حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وما رواه الطحاوي أيضا من حديث سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه «أنه صلى مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الوتر يقرأ في الركعة الأولى بسبح» .. إلخ نحوه.
ومنها: ما أخرجه عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحوه وأخرجه النسائي والترمذي وابن ماجه.
ومنها: ما رواه الدارقطني ثم البيهقي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وتر الليل ثلاث كوتر النهار، صلاة المغرب» .
فإن قلت: قال الدارقطني: لم يروه عن الأعمش مرفوعا غير يحيى بن زكريا وهو ضعيف، وقال البيهقي: الصحيح وقفه على ابن مسعود.
قلت: لا يضرنا كونه موقوفا على ما عرف، مع أن الدارقطني أخرجه عن عائشة أيضا نحوه مرفوعا، ومما يدل على ما ذهبنا إليه حديث النهي عن البتيراء، أخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " عن أبي سعيد أن رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نهى عن البتيراء» أن يصلي الرجل واحدة يوتر بها، وسيأتي في باب سجود السهو إن شاء الله تعالى.(2/483)
وحكى الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - إجماع المسلمين على الثلاث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما ما روي أيضا من الآثار فروى محمد بن الحسن في " موطأه " عن يعقوب بن إبراهيم أنا حصين عن إبراهيم عن ابن مسعود قال: ما أجزأت ركعة قط، وروى الطحاوي من حديث عقبة بن مسلم قال: سألت عبد الله بن عمر عن الوتر، فقال: أتعرف وتر النهار؟، فقلت: نعم صلاة المغرب، فقال: صدقت وأحسنت، وقال الطحاوي: وعليه يحمل حديث ابن عمر «أن رجلا سأل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن صلاة الليل فقال: مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فصل ركعة توتر لك ما صليت، قال: معناه صلي ركعة في ثنتين قبلها» واتفقت بذلك الأخبار، حديثا أبو بكر حدثنا أبو داود ثنا أبو خالد سألت أبا العالية عن الوتر فقال: علمنا أصحاب رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن الوتر مثل صلاة المغرب، هذا وتر الليل وهذا وتر النهار.
وروى الطحاوي أيضا عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الوتر ثلاث ركعات، وقال: حدثنا ابن مرزوق ثنا عفان ثنا حماد بن سلمة ثنا ثابت قال: صلى بنا أنس الوتر أنا عن يمينه وأم ولده خلفنا ثلاث ركعات لم يسلم إلا في آخرهن، [وروى أيضا عن المسور بن مخرمة قال: دفنا أبا بكر ليلا فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إني لم أوتر، فقام وصفنا وراءه فصلى بنا ثلاث ركعات لم يسلم إلا في آخرهن] . قال: ومذهبنا أيضا قوي من جهة النظر لأن الوقت لا يخلو إما أن يكون فرضا أو سنة، فإن كان فرضا فالفرض ليس إلا ركعتين أو ثلاثا أو أربعا، وكلهم أجمعوا أن الوتر لا يكون اثنتين ولا أربعا، فثبت أنه ثلاث. وإن كان سنة فإنا لم نجد سنة إلا ولها مثل في الفرض منه [.....] الفرض لم نجد منه إلا المغرب، وهو ثلاث فثبت أن الوتر ثلاث وهذا حسن جيد، وقد ذكر الحازمي في كتابه " الناسخ والمنسوخ " من جملة الترجيحات أن يكون الحديث موافقا للقياس دون الآخر فيكون المعدول عن الثاني إلى الأول متعينا.
م: (وحكى الحسن) ش: أي البصري م: (إجماع المسلمين على الثلاث) ش: يعني لا يفصل بينهن بسلام، وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " ثنا حفص ثنا عمرو عن الحسن قال: أجمع المسلمون على أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن، وأوتر سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بركعة فأنكر عليه ابن مسعود، وقال: ما هذه البتيراء التي لا نعرفها على عهد رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وفي " المبسوط " عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لما رأى سعدا يوتر بركعة فقال: ما هذه البتيراء لتشفعنها أو [لأدبنك] .
«وعن عبد الله بن قيس قال: قلت لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: بكم كان رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر، قالت: بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأقل من سبع، ولا بأكثر من ثلاث عشرة» رواه أبو داود، فقد نصت على الوتر بثلاث ولم يذكر الوتر(2/484)
وهذا أحد أقوال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي قول: يوتر بتسليمتين وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بواحدة، فدل على أنه لا اعتبار للركعة البتيراء.
وقال النووي: وقال أصحابنا لم يقل أحد من العلماء أن الركعة الواحدة لا تصح الإتيان بها إلا أبو حنيفة والثوري ومن تابعهما.
قلت: عجبا للنووي كيف نقل هذا النقل الخطأ ولا يرده مع علمه بخطئه، وقد ذكرنا عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أنه يوتر بثلاث ولا يجزيه الركعة الواحدة، وروى الطحاوي عن عمر بن عبد العزيز أنه أثبت الوتر بالمدينة بقول الفقهاء ثلاثا لا يسلم إلا في آخرهن، واتفق الفقهاء بالمدينة على اشتراط الثلاث بتسلمية واحدة، تبين لك خطأ نقل الناقل اختصاص ذلك بأبي حنيفة والثوري وأصحابهما.
فإن قلت: ما تقول في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة.
قلت: معناه مفصلة بما قبلها، ولهذا قال في قوله توتر لك ما قبلها، ومن يقتصر على ركعة واحدة كيف يوتر له ما قبلها وليس قبلها شيء.
فإن قلت: روي أنه قال: «من شاء أوتر بركعة ومن شاء أوتر بثلاث أو بخمس» .
قلت: هو محمول على أنه كان قبل استقرارها؛ لأن الصلوات [الغير] المستقرة لا عبرة في أعداد ركعاتها، وكذا قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كان يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة، يعارضه» وما روى ابن ماجه عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه «كان يوتر بسبع أو بخمس لا يفصل بينهن بتسليم ولا كلام» فيحمل على أنه كان قبل استقرار الوتر.
م: (وهذا) ش: أي الإيتار بثلاث ركعات بتسليمة واحدة م: (أحد أقوال الشافعي) ش: المنقول عنه ثلاثة أقوال: الأول: كقولنا أشار إليه بقوله: وهذا أحد أقوال الشافعي.
والثاني: يوتر بتسليمتين أشار إليه بقوله م: (وفي قول يوتر بتسليمتين) ش: يعني يصلي ثلاث ركعات ولكنه يسلم بتسليمتين.
والقول الثالث: هو بالخيار إن شاء أوتر بركعة أو ثلاث بتسلمية واحدة وقعدة واحدة. وذكر القدوري في " شرحه لمختصر الكرخي " وعند الشافعي إن شاء أوتر بركعة أو بثلاث وهو أفضل أو بخمس أو بسبع أو بتسع أو بإحدى عشرة.
م: (وهو قول مالك) ش: أي الإيتار بتسليمتين قول مالك. قلت: تحقيق مذهب الشافعي ما ذكره في " الروضة " الوتر سنة ويحصل بركعة وبثلاث وبخمس وبسبع وبتسع وبإحدى عشرة فهذا أكثر على الأصح. وعلى الثاني: أكثره بثلاث عشرة ولا تجوز الزيادة على أكثره على(2/485)
والحجة عليهما ما رويناه، ويقنت في الثالثة قبل الركوع. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعده لما «روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت في آخر الوتر» وهو ما بعد الركوع. ولنا ما «روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت قبل الركوع»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأصح فإن زاد لم يصح وتره، فإن زاد على ركعة فأوتر بثلاث موصولة، والصحيح أن له أن يتشهد واحدة في " الذخيرة " وله تشهد آخر في الذي قبلها، وإذا أراد أن يوتر بثلاث فهذا الأفضل فصلها بسلامين أو وصلها بسلامين أو وصلها بسلام فيه أوجه أصحها الفصل أفضل، والثاني الوصل، والثالث إن كن منفردا بالفصل وإن كان صلاها جماعة فالوصل، ومذهب مالك ما ذكره في " الجواهر " ثم الوتر ركعة واحدة وهي سنة، ومذهب أحمد ما ذكره في " حاويهم " الوتر سنة، وقال أبو بكر: يجب وأقله ركعة وأكثره إحدى عشرة، وقيل: ثلاث عشرة، وأدنى الكمال ثلاث بتسليمتين أو سردا بسلام كالمغرب.
م: (والحجة عليهما ما رويناه) ش: أي الحجة على الشافعي ومالك فيما ذهبا إليه ما رويناه من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - م: (ويقنت في الثالثة) ش: أي في الركعة الثالثة م: (قبل الركوع) ش: وهو محكي عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى والبراء بن عازب وابن عمر وابن عباس وأنس وعمر بن عبد العزيز وعبيدة السلماني وحميد الطويل وابن أبي ليلى ومالك وإسحاق وابن المبارك، وحكاه ابن المنذر عن الصديق وابن جبير، وقال أيوب السختياني وابن حنبل: هما جائزان، وعن طاوس أنه قال: القنوت في الوتر بدعة، وهو مردود، وبقولنا قال ابن شريح من الشافعية.
م: (وقال الشافعي: بعده) ش: أي يقنت بعد الركوع، وهو الصحيح من مذهبه وبه قال أحمد، وفي " شرح الإرشاد " لا نص عن الشافعي فيه، ولكن قال أصحابه ينبغي أن يكون بعد الركوع، وقال بعض أصحاب الشافعي: يخير بين التقديم والتأخير م: (لما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت في آخر الوتر» ش: هذا رواه الدارقطني في " سننه " من حديث سويد بن غفلة قال: «سمعت أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يقولون: قنت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في آخر الوتر، وكانوا يفعلون ذلك» ولم أر أحدا من الشرح بين هذا الحديث ولا نسبه إلى أحد من الصحابة م: (وهو ما بعد الركوع) ش: هذا من كلام المصنف وليس في الحديث.
م: (ولنا ما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت قبل الركوع» ش: روي هذا الحديث عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأخرج حديثه النسائي وابن ماجه عنه: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر فيقنت قبل الركوع» هذا لفظ ابن ماجه، ولفظ النسائي «كان(2/486)
وما زاد على نصف الشيء فهو آخره،
ويقنت في جميع السنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يوتر بثلاث يقرأ في الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، ويقنت قبل الركوع» .
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأخرج حديثه ابن أبي شيبة في " مصنفه " والدارقطني في " سننه " عنه «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت في الوتر قبل الركوع» وفي سنده أبان ابن أبي عياش متروك، وأخرج الخطيب نحوه وسكت عنه.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وخرجه الحافظ أبو نعيم في كتاب " الحلية " عنه قال: «أوتر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بثلاث قنت فيها قبل الركوع» وقال: غريب.
وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأخرجه الطبراني في " معجمه الأوسط " عنه «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " كان يوتر بثلاث ركعات ويجعل القنوت قبل الركوع» ، وروى الطبراني أيضا في " معجمه الأوسط " عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كان يوتر بثلاث» وعن الأسود قال: كان عبد الله بن مسعود لا يقنت في صلاة الغداة وإذا قنت في الوتر قنت قبل الركوع، وفي لفظ: كان لا يقنت في شيء من الصلوات إلا في الوتر قبل الركوع. وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن علقمة أن ابن مسعود وأصحاب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع.
م: (وما زاد على نصف الشيء فهو آخره) ش: هذا جواب عما رواه الشافعي إن قنت في آخر الوتر، وتقريره أن ما زاد على نصف الشيء فهو آخره. قال الأكمل: وسكت عن بيانه. قلت المراد هو الآخر حكما؛ لأن الآخر الحقيقي هو ما بعد التشهد، وليس هذا بمراد بالإجماع. وقال تاج الشريعة: إن آخره قد يكون قبل الركوع، وما رواه يكون محتملا لما قبل الركوع وبعده، وما رويناه محكم، فيحمل المحتمل على المحكم.
[أحكام القنوت في الصلاة]
م: (ويقنت في جميع السنة) ش: وهو قول عبد الله بن مسعود والحسن والنخعي وابن المبارك وإسحاق وأبي ثور، ورواية منصور عن ابن حنبل. وقال الثوري وهو قول جماهير أصحاب الشافعي، وقال قتادة: يقنت في السنة كلها إلا في النصف الأخير من رمضان، وعن ابن عمر: ولا يقنت في وتر ولا صبح بحال.(2/487)
خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غير النصف الأخير من رمضان «لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للحسن بن علي حين علمه دعاء القنوت: " اجعل هذا في وترك من غير فصل» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (خلافا للشافعي في غير النصف الأخير من رمضان) ش: مذهب الشافعي القنوت فيه في النصف الأخير من رمضان، وقيل: في جميع السنة لقول الجماعة، والصحيح من مذهبه اختصاص الاستحباب بالنصف الثاني من رمضان، وفي " الروضة ": لنا وجه آخر يقنت في جميع شهر رمضان، ووجه أنه يقنت في جميع السنة ونص الشافعي النصف الأخير سنة، وفي النهار، واختلف أصحاب الشافعي فقيل: يجوز أن يقنت بلا كراهة، وقيل يستحب، وقال جمهور أصحابه: الاستحباب يختص بالنصف الأخير من رمضان، وقال قوم: لا قنوت إلا في رمضان، وقال قوم: في النصف الأول من رمضان، وعند مالك القنوت مستحب ومحله صلاة الصبح. وقال قوم: يقنت في كل صلاة، وقال الطحاوي: لم يقل بالقنوت في النصف الأخير من رمضان إلا الشافعي والليث.
قلت: ذكر ابن قدامة في " المغني " روي عن علي وأبي وابن سيرين وأحمد ومالك في رواية مثل قول الشافعي.
م: «لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين علمه دعاء القنوت: اجعل هذا في وترك من غير فصل» ش: دعاء قنوت الوتر أخرجه الأربعة عن أبي الحوراء «عن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: " علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمات أقولهن في الوتر، وفي لفظ في قنوت الوتر: " اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل ربنا من واليت، تباركت ربنا وتعاليت» .
قال الترمذي: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السعدي واسمه ربيعة بن شيبان، ولا نعرف عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في القنوت شيئا أحسن من هذا.
ورواه أحمد في " مسنده " وابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه " وسكت عنه، ورواه البيهقي في " سننه " وزاد في روايته بعد واليت ولا يعز من عاديت وزاد النسائي في روايته تباركت [ربنا] وتعاليت، وصلى الله على النبي عليه وسلم.
وفي رواية بعد قوله: " تعاليت عما يقول الظالمون علوا كبيرا ": " لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا(2/488)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إنك رؤوف رحيم، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، واغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الراحمين، أعوذ بعفوك من عقابك، وبرضاك من سخطك، ولا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ".
واستدل أصحابنا بهذا الحديث أن المستحب للقانت في الوتر أن يقنت بهذا الدعاء، وأما استدلال المصنف بقوله اجعل هذا في وترك من غير فصل فليس له وجود في هذا الحديث، فعجبي كل العجب أن أحدا من الشراح لم يتعرض لهذا، بل كلهم سكتوا خصوصا الأترازي حيث يقول: لنا «قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للحسن حين علمه دعاء القنوت: " اجعل هذا في وترك» فدل على القنوت من جميع السنة؛ لأنه لم يقيد بوقت دون وقت، وكذلك الأكمل قال نحوه.
1 -
وقال صاحب " الدراية ": ولنا حديث تعليم الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المذكور في المتن وليس كل منهما شفى العليل ولا روى الغليل؛ لأن الحديث غاية ما في الباب يدل على أن مما يدعى به في الوتر ما علمه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا يدل ذلك على استحباب قراءته في جميع السنة ولا يرضى به الخصم أن يكون هو حجة لنا عليه، واستدل لنا ابن الجوزي في " التحقيق " بحديث أخرجه الأربعة عن علي ابن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقول في آخر وتره: " اللهم أني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.» قال الترمذي: حديث حسن.
قلت: وجه الاستدلال به إن كان يقتضي الدوام فيدل على أنه كان يقنت به في جميع السنة، ومن ادعى غير ذلك فعليه البيان، وروي عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما كانا يقنتان في جميع السنة، ولأن القنوت من سنن الوتر فلا يختص ببعض الأزمان كسائر السنن.
فإن قلت: أخرج أبو داود عن الحسن أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي بهم عشرين ليلة من الشهر يعني رمضان ولا يقنت بهم إلا في النصف الثاني، فإذا كان العشر الأواخر تخلف وصلى في بيته، وأخرجه أيضا عن هشام عن محمد بن سيرين عن بعض أصحابه أن أبي بن كعب أمهم يعني في رمضان فكان يقنت في النصف الأخير من رمضان. وأخرج ابن عدي في " الكامل " عن أبي عاتكة طريف بن سليمان عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقنت في النصف من رمضان» .(2/489)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: في الطريق الأول لأبي داود انقطاع؛ لأن الحسن لم يدرك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفي الثاني مجهول. وقال النووي: الطريقان ضعيفان، وفي حديث ابن عدي أبو عاتكة وهو ضعيف. وقال البيهقي: هذا حديث لا يصح إسناده.
وقال الأترازي: فإن قلت: أبي بن كعب كان يؤمهم في رمضان وكان لا يقنت إلا في النصف الأخير، قلت: تقليد الصحابي عند الشافعي لا يجوز فكيف تجعل فعل أبي حجة علينا. قلت: الشافعي يورد هذا علينا؛ لأنا نقلد الصحابي. والجواب المخلص ما ذكرناه.
ثم قال أيضا فإن قلت: لا نقلد أيضا بل نستدل بالإجماع؛ لأن أبيا كان يؤم بحضرة الصحابة من غير نكير فحل محل الإجماع، قلت: لا نسلم الإجماع ألا ترى إلى ما ذكره الطحاوي من أن هذا القول لم يقل به أحد إلا الشافعي والليث بن سعد.. إلخ.
قلت: هذا يدل على عدم إطلاعه في هذا الفن كما ينبغي؛ لأنا قد ذكرنا عن قريب أنه روي عن علي وأبي وابن سيرين وأحمد ومالك كما روي عن الشافعي، وقد جاء في دعاء القنوت وجوه كثير منها ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقول بعد الركوع: " اللهم اغفر لنا وللمؤمنين وللمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن الكفرة من أهل الكتاب، الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسولك، ويقاتلون أوليائك، اللهم خالف بين كلمتهم، وأزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ".
وفي رواية: " ونستهديك ونستغفرك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله "، وفي رواية: " ونتوب إليك ثم نتوكل عليك، ونشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك، إن عذابك بالكفار ملحق "، وفي رواية بعد قوله: " ولا نكفرك ": " نخنع لك» ونخلع، ومعنى نخنع بالنون في غير الفعل نتواضع.
1 -
أما التسمية في القنوت فعلى قول ابن مسعود أنهما سورتان من القرآن عنده، وأما على قول أبي بن كعب فإنهما ليستا من القرآن وهو الصحيح فلا حاجة إلى التسمية، وبه أخذ عامة العلماء، ولكن الاحتياط أن يجتنب الحائض والنفساء والجنب عن قراءته.
ثم لنتكلم ما في هذه الأحاديث من الألفاظ المحتاجة إلى البيان. فقوله عن الحوراء بفتح الحاء المهملة وسكون الواو وبعدها راء مهملة [وألف] ممدودة، وقد ذكرنا اسمه. قوله فيمن هديت أي فيمن هديتهم، وحذف المفعول كثير في الكلام لأنه فضلة، وكذلك حذف في بقية(2/490)
ويقرأ في كل ركعة من الوتر فاتحة الكتاب وسورة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] (المزمل: الآية 20) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الألفاظ الدالة على الخطاب، وروي اللهم اهدنا بنون الجمع وكذلك في سائر الألفاظ الدالة على الإفراد. قوله وقني أي احفظني، وأصله من وقى يقي والأمر ق، وعلى الأصل أوق.
قوله: أنه أي أن الشأن، قوله لا يذل بفتح الياء ومن واليت فاعله، أي ومن واليته، والمعنى لا يذل من كنت له وليا حافظا ناصرا. قوله تباركت أي تعاظمت، قوله ربنا أي ربنا، قوله ونحفد بالدال المهملة من باب ضرب يضرب، أي شرع في العمل والخدمة، وأصل الحفد الخدمة والعمل، والحفدة الخدم جمع حافد، وفي " الصحاح " ولد الولد، ورجل محفود أي مخدوم. وقال الأصمعي: أصل الحفد مقاربة الخطو، وعن ابن مسعود الحفدة الأنصار، وفي " الكافي " ولو قال ونحفذ بالذال المعجمة تفسد صلاته. قوله ملحق بفتح الحاء وكسرها والكسر أفصح.
[القراءة في صلاة الوتر]
م: (ويقرأ في كل ركعة من الوتر فاتحة الكتاب) ش: قراءة الفاتحة في كل ركعة من الوتر واجبة بالإجماع، أما عند أبي يوسف ومحمد وعند الشافعي ومن معهم فلأنه نفل، وأما عند أبي حنيفة وإن كان واجبا لثبوته بخبر الواحد وفيه شبهة فيقرأها في كله للاحتياط م: (وسورة) ش: أي ويقرأ سورة مطلقة غير متعينة.
كما قال الشافعي: إنه يقرأ في الأولى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} [القدر: 1] ، وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وفي الثالثة] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، وفي كتب الشافعية أنه يقرأ في الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قرأ كذلك، وقد بين المصنف أن السورة لا تتعين بقوله م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ش: (المزمل: الآية 20) ، وهذا التيسر متى عين فيه سورة ينقلب إلى العسر، والآية عامة في الوتر وغيره، ولأن درجة الوتر لا تربو على درجة المكتوبة ولم يتوقت فيها شيء سوى الفاتحة فكذا هذا. ومذهب مالك كمذهبنا كذا ذكره في المجموع، وخصص القاضي في " المعونة " الأولى بسبح، والثانية ب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] والوتر ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] والمعوذتين، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال في " الذخيرة ": وهو قول أبي حنيفة.
قلت: نقله عنه غلط، وعن مالك اقرأ في الوتر ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] والمعوذتين، وأما الشفع فلم يبلغني فيه شيء، واحتجوا في ذلك بما روى ابن ماجه عن عائشة «أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقرأ في الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] والمعوذتين» .
وروى أبو داود عن أبي بن كعب قال: «كان رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يوتر ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وقل للذين كفروا، والله الواحد الصمد، قلت: أراد بقل للذين كفروا {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] »(2/491)
وإن أراد أن يقنت كبر؛ لأن الحالة قد اختلفت ورفع يديه وقنت؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن» وذكر منها القنوت:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
، وأراد بقوله والله الواحد الصمد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] يدل على ذلك رواية النسائي وابن ماجه، وفي روايتهما {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] .
وقال ابن قدامة: وحديث عائشة في هذا لا يثبت. قلت لا يفهم منها التعيين ولكن يتبرك بها فقرأها لكان حسنا، وقال الأترازي إذا لم يفعل ذلك بطريق المواظبة.
قلت: إذا كان قصده التبرك يكون حسنا سواء واظب عليها أو لا؛ لأن مواظبته لا تثبت الوجوب، وذكر الأسبيجابي أنه يقرأ في كل ركعة من الوتر بفاتحة الكتاب وسورة معها، ولو قرأ فيه بسبح و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] مع الفاتحة ولم يرها حتما بل خصصهما للتبرك والاقتداء بالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لا يكره. وفي " التحفة " إن فعل ذلك أحيانا كان حسنا.
م: (وإذا أراد أن يقنت كبر) ش: يعني مصلي الوتر إذا فرغ من القراءة في الركعة الثالثة كبر، خلافا لبعض أصحاب الشافعي. وقال أحمد: إذا قنت قبل الركوع كبر ثم أخذ في القنوت. قال في " المغني " لابن قدامة، وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان إذا فرغ من القراءة كبر، ومن يقنت بعد الركوع يكبر حين يركع، ونقل عن المزني أنه قال: زاد أبو حنيفة تكبيرة في القنوات لم تثبت في السنة ولا دل عليها قياسه، وقال أبو نصر الأقطع: هذا خطأ منه، فإن ذلك روي عن علي وابن عمر والبراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والقياس يدل عليه أيضا، وأشار إليه المصنف بقوله م: (لأن الحالة قد اختلفت) ش: أي لأن حالة المصلي قد اختلفت؛ لأنه كان في حالة قراءة القرآن ثم ينتقل إلى حالة قراءة القنوت والحالتان مختلفتان، والتكبير في الصلاة عند اختلاف الحالة مشروع كما في حال الانتقال من القيام إلى الركوع ومن القومة إلى السجود.
فإن قلت: كان ينبغي أن يكبر بين الثناء والقراءة لاختلاف الحالة. قلت: الثناء مكمل للتكبير؛ لأنه يجانسه لكونه ثناء، وأما القنوت فواجب فيفرد بحكم على حدة، ولأن رفع اليد ثبت بالحديث الذي يأتي الآن وأنه غير مشروع بلا تكبير كما في تكبيرة الافتتاح وتكبيرات العيدين.
م: (ورفع يديه وقنت) ش: رفع يده كما في تكبيرة الافتتاح إعلاما للأصم، وللشافعي في رفع اليدين في القنوت وجهان، أحدهما الرفع ذكره في " الوسيط " وأظهرهما ما ذكره في " التهذيب " أنه لا يرفع، وبه قال مالك والليث بن سعد والأوزاعي وهو اختيار القفال وإمام الحرمين ولو قلنا: إنه يرفع هل يمسح بهما وجهه؟ في " التهذيب " أصحهما: أنه لا يمسح م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن» ش: [التعليل لقوله " رفع يديه "] أي رفع يديه بعد فراغه من القراءة ثم قنت، والحديث المذكور يدل على أن الركعة الثالثة من الوتر بعد الفراغ عن(2/492)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القراءة، رفع اليدين أشار إليه بقوله م: (وذكر منها القنوت) ش: أي ذكر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من السبعة المذكورة التي ترفع فيها الأيدي عند تكبيرة القنوت. وقد تقدم الحديث في باب صفة الصلاة بما فيه من الكلام مستوفى، وقد ذكرنا هناك أنه ليس فيه ذكر القنوت فيما رواه البخاري مطلقا والبزار والطبراني، وإنما ذكر تكبيرة القنوت وقع فيما ذكره [هكذا مطلقا غريب، واستدل به هاهنا بناء على ما ذكره] المصنف هناك ولم ينبه عليه أحد من الشراح غير أن السغناقي أطال الكلام هاهنا من غير تفتيش عن كيفية الحديث المذكور، بني أكثر كلامه على ما ذكره المصنف وغيره، فقال: ولنا أن الآثار لما اختلفت في فعل رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تحاكما إلى قوله وهو الحديث المشهور أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن، ثلاثة في الصلاة، وأربعة في الحج، أما الثلاثة فتكبيرة الافتتاح، وتكبيرات العيدين، وتكبيرة القنوت، وأما الأربعة فعند استلام الحجر، وعند الصفا والمروة، وفي الموقفين، وعند الجمرتين وعند المقامين» ، والمتنازع فيه خارج عن السبع إلى آخر ما ذكره المصنف.
قلت: أراد بالمتنازع فيه رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه، وفي قوله وهو الحديث المشهور نظر، ولئن سلمنا ذلك (فعل) رفع اليدين عند تكبيرة القنوت ليس في الحديث المذكور كما ذكرنا في باب صفة الصلاة، ثم قال هاهنا أعني في باب صفة الصلاة.
فإن قلت: بعد حصر رفع اليدين في الحديث [المذكور] بالمواضع السبعة فما وجه رفع اليدين عند كل دعاء.
قلت: يذكر جواب هذا في باب الوتر، فقال: الوتر.
فإن قلت: هذا الحديث يقتضي انحصار جواز رفع الأيدي في هذه المواضع السبعة؛ لأنه ذكر حرمة الرفع عاما ثم استثنى منه المواضع السبعة، فبقي وراءها تحت عموم الحرمة ضرورة حتى استدل بهذه أصحابنا على حرمة رفع اليدين عند الركوع، وعلى ما ذكر في الكتاب في باب صفة الصلاة لكونها فيما وراء السبعة، ثم عمل الأئمة على خلاف هذا فإنهم يرفعون أيديهم في مواضع الأدعية كلها وإن لم تكن هي من المواضع السبعة، فما وجهه؟ وأجاب عن هذا بما ملخصه أنه وجد رواية عن السيد السمرقندي في كتابه " المستخلص " أنه قال: آداب الدعاء عشرة: أي إن قام يدعو يستقبل القبلة ويرفع يده بحيث يرى بياض إبطيه، قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن ربكم حيي كريم فيستحي من عبده إذا رفع يده أن يردها صفرا» ، وكذا ذكره ركن الإسلام محمد بن أبي بكر في شرعة الإسلام في فضل سنن الدعاء بعد ذكره شرائط كثيرة ويبدأ بالدعاء لنفسه ويرفع يديه إلى المنكبين ويجعل باطن كفيه مما يلي وجهه، ولم يقنع بهذا حتى وجه رواية في " المبسوط "(2/493)
ولا يقنت في صلاة غيرها، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الفجر، لما «روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت في صلاة الفجر شهرا ثم تركه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
و " المحيط " عن أبي يوسف أنه قال: إن شاء رفع يديه في الدعاء، وإن شاء أشار بإصبعيه؛ لأن رفع اليد عندنا في الدعاء سنة والاستسقاء ليس من تلك المواضع السبعة، واعلم أن رفع الأيدي في غير تلك المواضع جائز. ثم وجد ما ذكر من الحديث على وجه الانحصار، أي لا ترفع الأيدي على وجه السنن الأصلية التي هي سنة الهدى إلا في هذه المواضع، وأما في سائر المواضع إنما لترفع في الدعاء على أنه من الآداب والاستحباب والاتباع بالآثار لا على سنة الهدى. قلت: هذا الجواب غير مخلص؛ لأن رفع الأيادي في المواضع السبعة إذا كان من سنن الهدى فتركها يكون ضلالا، وتاركها يكون مبتدعا ولم يقل أحد بذلك.
وفي " المبسوط " عن محمد بن الحنفية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الدعاء أربعة، دعاء رغبة، ودعاء رهبة، [ودعاء تضرع، ودعاء خفيه، ففي دعاء الرغبة يجعل بطون كفيه نحو السماء، وفي دعاء الرهبة] يجعل ظهر كفيه إلى وجهه كالمستغيث من الشيء، وفي دعاء التضرع يعقد الخنصر والبنصر ويحلق بالإبهام والوسطى، ويشير بالسبابة، ودعاء الخفية ما يفعله المرء في نفسه، وعلى هذا قال أبو يوسف في " الإملاء " يستقبل بباطن كفيه القبلة عند افتتاح الصلاة واستلام الحجر وقنوت الوتر وتكبيرات العيد، ويستقبل بباطن كفيه السماء عند رفع الأيدي على الصفا والمروة وبعرفات وبجمع وعند الجمرتين؛ لأنه يدعو في هذه المواقف بدعاء الرغبة.
[القنوت في الوتر]
م: (ولا يقنت في صلاة غيرها) ش: أي في غير الوتر، أنث الضمير باعتبار الصلاة م: (خلافا للشافعي في الفجر) ش: فعنده السنة أن يقنت في صلاة الفجر بعد الركوع وبه قال مالك، غير أنه قال يقنت قبل، وعند أحمد أن القنوت للأئمة يدعون للجيوش. وقال أبو نصر البغدادي: قال الشافعي: القنوت في الفجر سنة وفي بقية الصلوات إن حدثت حادثة بالمسلمين، وإن لم يحدث فله قولان. وقال أبو نصر: أيضا كان القنوت بعد الركوع في صلاة الفجر وقد نسخ القنوت فيها. قال: فإن قيل: ما بعد الركوع محل الدعاء بدليل أنه يقول سمع الله لمن حمده، فكان محلا للقنوت لأنه دعاء. قيل له ما قبل الركوع أولى لأنه محل للقراءة والركوع وما بعده ليس محلا للقراءة، ودعاء القنوت يشبه القرآن، وقد ذكر أنه في مصحف ابن مسعود وأبي، فكان ما قبل الركوع أولى به وأشبه، ولأن في تقديمه إحراز الركعة في حق المسبوق فكان أولى.
م: (لما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت في صلاة الفجر شهرا ثم تركه» ش: هذا الحديث حجة لنا على الشافعي، رواه [البزار] في " مسنده " والطبراني في " معجمه " وابن أبي شيبة في " مصنفه " والطحاوي في " الآثار " كلهم من حديث شريك القاضي(2/494)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن أبي حمزة ميمون القصاب عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: «لم يقنت رسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الصبح إلا شهرا ثم تركه لم يقنت قبله ولا بعده» .
وجه الاستدلال به أنه يدل على أن قنوت رسول الله في الصبح إنما كان شهرا واحدا، وكان يدعو على أقوام، ثم تركه فدل على أن كان ثم نسخ. وقال الطحاوي: ثنا ابن أبي داود المقدمي ثنا أبو معشر ثنا أبو حمزة [ميمون القصاب] عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال: «قنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهرا يدعو على عصية وذكوان، فلما نهي عنهم ترك القنوت» وكان ابن مسعود لا يقنت في صلاته به، ثم قال: فهذا ابن مسعود يخبر أن قنوت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كان إنما كان من أجل من كان يدعو عليه، وأنه قد كان ترك ذلك فصار القنوت منسوخا، فلم يكن هو من بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقنت، وكان أحد من روى أيضا عن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثم أخبرهم أن الله عز وجل نسخ ذلك حتى أنزل على رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] (آل عمران: الآية 128) ، فصار ذلك عند ابن عمر منسوخا أيضا فلم يكن هو يقنت بعد رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وكان ينكر على من يقنت، وكان أحد من روى عنه القنوت عن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عبد الرحمن ابن أبي بكر فأخبر في حديثه بأن [ما] كان يقنت به رسول الله دعاء على من كان يدعو عليه، وأن الله عز وجل نسخ ذلك بقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} [آل عمران: 128] الآية، ففي ذلك أيضا وجوب ترك القنوت في الفجر.
1 -
فإن قلت: [قد] ثبت عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقنت في الصبح بعد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فكيف تكون الآية ناسخة لجملة القنوت، وكذا أنكر البيهقي ذلك فبسط فيه كلاما في كتاب " المعرفة "، فقال: وأبو هريرة أسلم في غزوه خيبر وهي بعد نزول الآية بكثير لأنها نزلت في أحد، وكان أبو هريرة يقنت في حياته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وبعد وفاته.
قلت: يحتمل أن يكون أبو هريرة لم يعلم بنزول الآية، فكان يعمل على ما علم من فعل رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وقنوته إلى أن مات؛ لأن الحجة لم تثبت عنده بخلاف ذلك، [ألا ترى] أن عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لما علما بنزول الآية وعلما بكونها ناسخا لما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل ترك ذلك.
فإن قلت: روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن البراء بن عازب أن «النبي عليه(2/495)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلام كان يقنت في صلاة الصبح وصلاة المغرب» وروى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، عن أبي هريرة قال: والله لأقربن صلاة رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الظهر وصلاة العشاء الآخرة وصلاة الصبح فيدعو للمؤمنين ويلعن الكافرين: قلت: كل ما جاء من القنوت في الصلوات الفرض قد نسخ على ما بينا، وكيف تستدل الشافعية بهذا وهم لا يرون القنوت في المغرب فيعملون ببعض الحديث ويتركون بعضه وهذا تحكم.
فإن قلت: روى عبد الرزاق في " مصنفه "، أخبرنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك: قال «مازال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا» ومن طريقه رواية الدارقطني في " سننه " وإسحاق بن راهويه في " مسنده " أخبرنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال: «قال رجل لأنس بن مالك: أقنت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شهرا يدعو على حي من أحياء العرب، قال فزجره أنس بن مالك، وقال: مازال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا» قال إسحاق وقوله ثم تركه يعني تركه تسمية القوم في الدعاء، ورواه الحاكم في " مستدركه " وصححه، ورواه البيهقي عن الحاكم بسنده ومتنه وسكت عنه، قال: وله شواهد عن أنس ذكرها في " سننه ".
قلت: قال صاحب " التنقيح على التحقيق " هذا الحديث أجود أحاديثهم، وأبو جعفر الرازي وثقه جماعة وله طرق في كتاب " القنوت لأبي موسى المديني "، قال: وإن صح فهو محمول على أنه مازال يقنت في النوازل أو على أنه مازال يطول في الصلاة، فإن القنوت لفظ مشترك بين الطاعة والقيام والخشوع والسكوت وغير ذلك، قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: 120] (النحل: الآية 120) ، وقال تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر: 9] (الزمر: الآية 9) ، وقال: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ} [الأحزاب: 31] (الأحزاب: الآية 31) وقال: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي} [آل عمران: 43] (آل عمران: الآية 43) ، وقال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] (البقرة: الآية 238) ، وقال: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] (البقرة: الآية 116) ، وفي الحديث: " أفضل «الصلاة طول القنوت» ، وابن الجوزي ضعف الحديث المذكور في " التحقيق "، وفي " العلل المتناهية " وقال: هذا حديث لا يصح، قال أبو جعفر الرازي: اسمه عيسى بن ماهان قال ابن المديني كان يخلط، وقال يحيى: كان يخطئ، وقال أحمد: ليس بالقوي في الحديث، وقال أبو زرعة: كان يهم كثيرا وقال ابن حبان: كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير، ورواه الطحاوي في " شرح الآثار " وسكت عنه إلا أنه قال: وهو معارض بما روي عن أنس «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنما قنت شهرا يدعو على أحياء من العرب ثم تركه» .
1 -(2/496)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: ويعارضه أيضا ما رواه الطبراني في " معجمه "، ثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ثنا شيبان بن فروخ ثنا غالب بن فرقد الطحاوي قال: كنت عند أنس بن مالك شهرين فلم يقنت في صلاة الغداة، وروى محمد بن الحسن في كتابه " الآثار " أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال: «لم ير النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قانتا في الفجر حتى فارق الدنيا» وقال ابن الجوزي في " التحقيق ": أحاديث الشافعية على أربعة أقسام:
منها: ما هو مطلق، وأن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت وهذا لا نزاع فيه، لأنه ثبت أنه قنت.
والثاني: مقيد بأنه قنت في صلاة الصبح [فيحمله على فعله شهرا بأدلتنا.
الثالث: ما روي عن البراء بن عازب «أن النبي كان يقنت في صلاة الصبح والمغرب» . رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد، وقال أحمد: لا يروى عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قنت في المغرب إلا في هذا الحديث.
الرابع: ما هو صريح في حجتهم، نحو ما رواه عبد الرزاق في " مصنفه "، وقد ذكرناه الآن، قال: وقد أورد الخطيب في كتابه الذي صنفه في القنوت أحاديث أظهر فيها تعصبه.
فمنهما: ما أخرجه عن دينار بن عبد الله خادم أنس بن مالك قال: «مازال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقنت في صلاة الصبح حتى مات» قال وسكوته عن القدح في هذا الحديث، واحتجاجه به وقاحة عظيمة وعصبية باردة وقلة دين؛ لأنه يعلم أنه باطل، قال ابن حبان: دينار يروي عن أنس أشياء موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب إلا على سبيل القدح فيها، فواعجبا للخطيب أما سمع في " الصحيحين ": «من حدث علي حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» ، ثم ذكر له أحاديث أخرى كلها عن أنس «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يزل يقنت في الصبح حتى مات» وطعن في أسانيدها. قلت اختلفت الآثار والأحاديث عن أنس واضطربت فلا يقوم مثل هذا حجة.
فإن قلت: حديث المصنف فيه أبو حمزة القصاب، قال ابن حبان: كان فاحش الخطأ كثير الوهم يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، وتركه أحمد ويحيى بن معين.
قلت: رضي به الطحاوي حيث استدل بحديثه وهو إمام جهبذ لا ينازع فيما يقوله، ولئن سلمنا فقد وردت أحاديث أخرى وإن كان بعضها ضعيفا، يقويه ويودعها الله ما شاء، منها ما روى ابن ماجه في " سننه " عن محمد بن يعلى عن عنبسة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن ماتع عن أبيه عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن القنوت في صلاة(2/497)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصبح» . ومنها: ما روي «عن ابن عمر أنه ذكر القنوت فقال: إنه لبدعة ما قنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير شهر واحد ثم تركه» رواه بشر بن حرب عنه، وقال البيهقي: وهو ضعيف، وقال الذهبي: وبعضهم قواه واحتج به النسائي. ومنها: ما رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه «عن أبي مالك الأشجعي، قلت: يا أبت أليس قد صليت خلف رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وخلف أبي بكر وعمر؟ قال: بلى، قلت: فكانوا يقنتون في الفجر؟ فقال: يا بني محدث» وأبو مالك الأشجعي. روى عن أبيه طارق بن أشيم، قال البيهقي: طارق الأشجعي ما حفظه من غيره، قلت حفظه فالحكم له، وقال الذهبي: لا منافاة بينهما، بل يدل على أنهم كانوا يقنتون ويتركون إذا كان لا يستدعي دوام العقد، وخبر طارق صححه الترمذي.
ومنها: ما رواه البيهقي عن أبي مجلز قال: صليت مع ابن عمر [صلاة] الصبح، فلم يقنت ثم قلت له: لا تقنت! فقال: ما أحفظ من أحد من أصحابنا، قال الذهبي: هذا صحيح عن ابن عمر، وكونه مع فرط متابعته واعتنائه بالأثر [......] لم يحفظه يدل على ترك مداومة ذلك، وقال البيهقي: نسيان بعض الصحابة أو غفلته عن بعض السنن لا يقدح في رواية من حفظ وأثبت، وقال الذهبي: نسيان ابن عمر لذلك كالمستحيل؛ لأنه يستمر على صلاة الصبح دائما، وكان ملازما للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وصاحبيه، شديد الاتباع.
فإن قلت: ذكر الحازمي في كتابه " الناسخ والمنسوخ " اختلف الناس في قنوت الفجر، فذهب إليه أكثر الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار إلى يومنا، فروي ذلك عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة ثم عمار بن ياسر وأبي بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد الساعدي، ومعاوية بن أبي سفيان، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ومن المخضرمين أبو رجاء العطاردي، وسويد بن غفلة، وأبو عثمان النهدي، وأبو رافع الصائغ. ومن التابعين: سعيد بن المسيب، والحسن، ومحمد بن سيرين، وأبان بن عثمان، وهشام، وقتادة، وطاووس، وعبيد بن عمير، والربيع بن خثيم، وأيوب السختياني، وعبيدة السلماني وعروة بن الزبيرِ، وزياد بن عثمان، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعمر بن عبد العزيز، وحميد الطويل، وذكر جماعة من الفقهاء، ثم قال: وخالفهم طائفة من الفقهاء وأهل العلم [فمنعوه] وادعوا أنه منسوخ.
قلت: قد ذكرنا النسخ ووجهه وكل من روى القنوت، وروى تركه ثبت عنده نسخه؛ لأن فعله للمتأخر ينسخ المتقدم، وقد صح أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كان يقنت في صلاة المغرب» كما في صلاة(2/498)
..
....
....
....
..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الفجر ثم انتسخ أحدهما بالاتفاق فكذلك الآخر.
فإن قلت: تركه ليس فيه دلالة على نسخه؛ لأنه يجوز أن يكون تركه وعاد إليه، قد يدفع هذا ما روى أبو يعلى الموصلي بسنده عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن الحارث، عن عبد الله بن كعب، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: «كان رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة من صلاة الصبح بعدما يقول: سمع الله لمن حمده يدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار من قريش، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] (آل عمران: الآية 128) ، فما عاد رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يدعو على أحد بعد» . ويؤيده ما أخرجه البخاري ومسلم عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة قال: «كان رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذا أراد أن يدعو على أحد قنت بعد الركوع " وربما قال: سمع الله لمن حمده وربنا لك الحمد اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف، يجهر بذلك حتى كان يقول في بعض صلاة الفجر: اللهم العن فلانا وفلانا لأحياء من العرب، حتى أنزل الله تعالى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] الآية» .
فإنه قلت: هذا كله يدل على أن المتروك [فعله] هو الدعاء على الكفار.
قلت: حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -[أنه]- عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يقنت في الفجر إلا شهرا ولم يقنت قبله ولا بعده يدل على نفيه بالكلية غير شهر واحد فافهم.
ومن الدلائل عليه ما روي عن شيبان ثنا غالب بن فرقد، قال: كنت عند أنس بن مالك شهرين فلم يقنت في صلاة الغداة ولو لم يثبت عنده النسخ لما تركه. وقال أبو زرعة: شيبان صدوق، وعن نافع «عن ابن عمر قال: صليت خلف رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعمر وعثمان فلم يقنتوا» وصلى علقمة ومسروق والأسود وعمرو بن ميمون خلف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلم يقنت.
1 -
فإن قلت: أخرج البيهقي عن طاوس قال: صليت خلف عمر الصبح فقنت. وعن عبيد بن عمير قال: سمعت عمر يقنت هاهنا في الفجر بمكة، ثم قال: هذه روايات صحيحة موصولة.
قلت: كيف تكون صحيحة وفي أسانيدها محمد بن الحسن الروذباوي، قال ابن الجوزي في كتابه: قال البرقاني كان كذابا. قال الدارقطني: خلط الجيد بالرديء فأفسده، بل الروايات الصحيحة عن عمر أنه لم يقنت، فمنها «رواية أبي مالك الأشجعي، وقد ذكرناها. وروى ابن حبان في " صحيحه " والبيهقي أيضا عنه ولفظه: صليت خلف النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فلم يقنت وصليت(2/499)
فإن قنت الإمام في صلاة الفجر يسكت من خلفه عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يتابعه لأنه تبع لإمامه، والقنوت في الفجر مجتهد فيه. ولهما أنه منسوخ ولا متابعة فيه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت، وصليت خلف علي فلم يقنت، ثم قال: يا بني إنها بدعة» . ومنها: ما رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا ابن أبي خالد عن أبي الصماء عن سعيد بن جبير أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان لا يقنت في الفجر، ورواه عبد الرزاق عن ابن عيينة عن أبي خالد، وفي " التهذيب " لابن جرير الطبري روى شعبة عن قتادة عن أبي الشعثاء عن ابن عمر مثله، وقال الشعبي: كان عبد الله لا يقنت، ولو قنت عمر لقنت عبد الله، وعبد الله يقول لو سلك الناس واديا وشعبا وسلك عمر واديا وشعبا، لسلكت وادي عمر وشعبه، وقال إبراهيم وقتادة: لم يقنت أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حتى مضيا. وروى شعبة عن قتادة عن أبي مجلز.
قلت: لابن عمر الكبير: ما يمنعك عن القنوت قال: لا أحفظه عن أحد، وقال قتادة: عن علقمة عن أبي الدرداء قال: لا قنوت في الفجر، وأخرج أبو مسعود الرازي في أصول السنة وجعل أول حديث من قال إن القنوت محدث وأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت شهرا ثم تركه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، ورواه الطبري عن ابن كريب، وسئل ابن عمر عن القنوت في صلاة الفجر فقال: لا والله لا نعرف هذا. وعن سعيد بن جبير قال: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: القنوت في صلاة الفجر بدعة، ذكره ابن منده، وقال الليث بن سعد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما قنت منذ أربعين عاما أو خمسة وأربعين عاما إلا وراء إمام يقنت، وقال: أحدث في ذلك بالحديث الذي جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قنت شهرا أو أربعين يوما يدعو لقوم ويدعو على آخرين حتى أنزل الله عز وجل معاتبا {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] الآية، فترك رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - القنوت فما قنت بعدها حتى لقي الله عز وجل قال: فمنذ حملت هذا الحديث لم أقنت.
م: (فإن قنت الإمام في صلاة الفجر يسكت من خلفه عند أبي حنيفة ومحمد) ش: أطلق ذكر الإمام يتناول الشافعي والحنفي وغيرهما، فمن قنت في صلاة الفجر م: (وقال أبو يوسف يتبعه) ش: أي: يتبع الإمام في قراءة القنوت م: (لأنه يتبع الإمام) ش: فلا يخالفه؛ لأن الأصل هو المتابعة م: (والقنوت في الفجر مجتهد فيه) ش: لأن بعض العلماء يرون القنوت في الفجر، لما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قنت في الفجر على ما مر، فيه أحاديث كثيرة وبعضهم يقولون إنه منسوخ، وصار مجتهدا فيه فلا يترك بالشك م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد م: (أنه) ش: أي القنوت في الفجر م: (منسوخ) ش: وقد بينا وجهه مستوفى م: (ولا متابعة فيه) ش: أي في المنسوخ؛ لأن الاتباع(2/500)
ثم قيل: يقف قائما ليتابعه فيما تجب متابعته. وقيل: يقعد تحقيقا للمخالفة؛ لأن الساكت شريك الداعي،
والأول أظهر ودلت المسألة على جواز الاقتداء بالشفعوية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيه لا يجوز، ثم إذا لم يتابعه عندهما ماذا يفعل؟ فقد اختلفوا أشار إليه بقوله م: (ثم قيل يقف قائما) ش: أي يقف المقتدي حال كونه قائما ينتظر الإمام م: (ليتابعه بما تجب متابعته فيه) ش: وهو القيام. وقال قاضي خان: هو الصحيح.
م: (وقيل يقعد تحقيقا للمخالفة) ش: أي لأجل التحقيق في مخالفته في المنسوخ م: (لأن الساكت شريك الداعي) ش: ألا ترى أن المقتدي وإن كان لا يأتي بالقراءة فهو شريك الإمام. فإن قلت: تحقيق المخالفة مفسد للصلاة، قلت: إنما يكون مفسدا إذا كان في ركن من أركان الصلاة أو شرائطها، فأما في غير ذلك فلا.
فإن قلت: الساكت إذا كان شريك الداعي ينبغي أن لا يفصل؛ لأن السكوت موجود في القعود أيضا.
قلت: السكوت إنما يكون دليل الشركة إذا لم توجد المخالفة وقد وجدت؛ لأنه قاعد والإمام قائم، وعلى الخلاف المذكور إذا كبر خمسا على الجنازة، فإذا لم يتابعه في الخامسة عندهما، قيل: يسلم ولا ينتظر الإمام؛ لأنه اشتغل بأمر غير مشروع لقبحها وهو الأصح أن يسكت ويتابع الإمام في السلام، ولم يذكر فيها أنه يقعد تحقيقا للمخالفة كما ذكر في القنوت.
م: (والأول أظهر) ش: هو قول من قال يقنت قائما لأن الأصل المتابعة لا المخالفة، ولو قعد لخالفه فيما يجب متابعته م: (ودلت المسألة) ش: أي المسألة المذكورة، وهي اقتداء من لا يرى القنوت في صلاة الفجر بمن يراه فيها م: (على جواز الاقتداء بالشفعوية) ش: لأنه إذا لم يجز الاقتداء بمن يرى القنوت في الفجر وهو الشافعي ومن تابعه لا يصح اختلاف علمائنا بأن المقتدي يسكت خلفة أو يتابعه، وقوله بالشفعوية أي بالطائفة الشفعوية، وهو لمذهب جمع شفعوي في زعم القائل هذا، وفي ذيل المغرب ومن الخطأ الظاهر قولهم اقتداء حنفي المذهب بشفعوي وإنما الصواب شافعي المذهب في النسبة إلى الإمام الشافعي على حذف بالنسبة من المنسوب إليه؛ لأن الشافعي منسوب إلى جده شافع، والقاعدة أنهم إذا أردوا النسبة إلى شيء منسوب إلى آخر يحذفون ياء النسبة منه.
وقال صاحب " المحيط ": وقال قاضي خان وغيرهم: إنما يصح الاقتداء بالشافعية إذا كان الإمام يحتاط في موضع الخلاف بأن كان لا ينحرف عن القبلة ويجدد الوضوء عند الفصد والحجامة ويغسل ثوبه من المني ولا يكون منقصا ولا شاكا في إيمانه، أي لا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، بل يقطع بإيمانه من غير استثناء، قلت: هذا يرجع إلى أن يصير حنفيا والتعصب يوجب فسقه، والصلاة خلف الفاسق جائزة، والانحراف عن القبلة ليس من مذهب الشافعي، وإنما(2/501)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ينسب ذلك إلى بعض الأمويين.
وقال في " المحيط ": ولا يقطع وتره. وقال أبو بكر الرازي: يجوز اقتداء الحنفي بمن يسلم على الركعتين في الوتر ويصلي معه بقية الوتر؛ لأن إمامه لا يجزئه سلامه عنده لأنه مجتهد فيه، كما لو اقتدى بإمام قد رعف وهو يعتقد أن طهارته باقية؛ لأنه مجتهد فيه فطهارته باقية في حقه. وقيل لا يصح الاقتداء في الرعاف والحجامة وبه قال الأكثرون، وإن رآه احتجم ثم غاب فالأصح جواز الاقتداء به يجوز أن يتوضأ احتياطا وحسن الظن به أولى، شاهد [بثيابه] منيا ولو رآه ثم صلى، ولم يتوضأ، قيل: يصح الاقتداء به. وقيل: لا يصح كاختلافهما في جهة التحري فإنه يمنع في " الواقعات " الرائي في ثوب إمامه بولا أقل من قدر الدرهم، وهو يرى أنه لا يجوز الصلاة معه، والإمام يرى جوازها معه يعيد صلاته. وفي " المنهاج ": لو اقتدى شافعي بحنفي مس فرجه أو افتصد فالأصح الصحة في الفصد دون المس اعتبارا بنية المقتدي، وفي " الخرقي " المختلفون في الفروع تصح الصلاة خلفهم من غير كراهة.
وقال ابن قدامة: ما لم يعلم أنهم تركوا ركنا أو شرطا، ولو اقتدى الحنفي بمن يرى الوتر سنة يجوز لضعف دليل وجوبه ذكره في " مختصر المحيط "، وفي جواز اقتداء الحنفي بالشافعي ذكر أبو الليث أنه لا يجوز من غير أن يطعن في دينهم. وفي " جامع الكردري " عن أبي حنيفة أن من عمل عملا من رفع يديه عند الركوع وعند رفع الرأس منه تفسد صلاته، وفي " الفوائد الظهيرية " فيه نظر، ومن شرط جواز اقتداء الحنفي بالشافعي أن لا يتوضأ بماء راكد يبلغ قلتين ووقعت فيه النجاسة وأن يغسل ثوبه من المني الرطب ويفرك يابسه وأن لا يقطع الوتر، وأن لا يراعي الترتيب، وأن لا يمسح ربع ناصيته، فإذا لم يعلم هذه الأشياء (يتعين) يجوز الاقتداء به ويكره، وأن يقف إلى القبلة مستويا ولا ينحرف انحرافا فاحشا. وفي " الخلاصة " والمراد بالانحراف الفاحش أن [لا] يتجاوز [....] وأن لا يكون شاكا في إيمانه، والشك في إيمانه أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله، أما لو قال: أنا أموت مؤمنا إن شاء الله يصلي خلفه.
وفي " الحيلة ": صلى خلف حنفي أو مالكي يجوز إذا قرأ الفاتحة مع التسمية واعتدل في الركوع والسجود، وإن كان بخلاف هذا لا يجوز. وقال الأترازي: وقول من قال: أنا مؤمن إن شاء الله باطل؛ لأن التعليق مناف للوقوع كما في قوله لامرأته أنت طالق لا يقع الطلاق، وإنما هذا إذا كان حاصلا قبل التعليق فلا يصح التعليق؛ لأنه يكون في أمر مقدم على خطر الوجود، ألا ترى أن أحدا من العقلاء لا يقول هذه اسطوانة إن شاء الله؛ لأن الله قد شاء قبل ذلك، وإن لم يكن حاصلا يصح تعليقه ولا يصح إيمانه. فإن قال لا أريد التعليق بل أريد التبرك(2/502)
وعلى المتابعة في قراءة القنوت في الوتر. وإذا علم المقتدي منه ما يزعم به فساد صلاته كالفصد وغيره لا يجوز الاقتداء به، والمختار في القنوت الإخفاء؛ لأنه دعاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كما في قَوْله تَعَالَى {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] (الفتح: الآية 27) ؛ لأن الله قد شاء قبل ذلك، فيرد عليه بأن التعليق ليس بمراد في الآية، بل التعليق مراد بعينه؛ لأنه عبارة عن توقيف أمر على أمر سيكون وكان دخولهم المسجد الحرام بصفة الأمن موقوفا على مشيئة الله تعالى، كما أن الطلاق موقوف على مشيئة الله في قوله أنت طالق إن شاء الله؛ لا أن الطلاق لا يقع لعدم العلم بمشيئة الله بخلاف دخول المسجد الحرام فإنه لما حصل حسب علمنا أن مشيئة الله قد وجدت أيضا قطعا ويقينا؛ لأن وجود المشروط يدل على وجود الشرط لأنه لا وجود له بدون الشرط.
م: (وعلى المتابعة في قراءة القنوت في الوتر) ش: أي ودلت المسألة أيضا على جواز متابعة المقتدي الإمام في قراءة القنوت في الوتر يعني يقنت فيه كالإمام. قال قاضي خان: ومنهم من قال: يقنت الإمام جهرا ولا يقنت المقتدي، قال: والصحيح أنه يقنت لأن الاختلاف في الدعاء المنسوخ يدل على الاتفاق في القنوت المشروع بالطريق الأولى.
م: (وإذا علم المقتدي منه) ش: أي من الإمام م: (ما يزعم به فساد صلاته كالفصد وغيره) ش: نحو ترك الوضوء في الخارج النجس من غير السبيلين م: (لا يجوز الاقتداء به) ش: لأنه رأى إمامه على خطأ يمنع اقتداءه به في زعمه، وقد بسطنا الكلام فيه عن قريب.
م: (والمختار في القنوت الإخفاء لأنه دعاء) ش: والمسنون في الدعاء الإخفاء، قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] (الأعراف: الآية 55) ، ولم يذكر هذه في ظاهر الرواية، فعند أبي يوسف يجهر الإمام بالقنوت والمقتدي يخير إن شاء أمن، وإن شاء قرأ جهرا أو مخافتة.
وعن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخفي الإمام والمقتدي بالقنوت؛ لأنه ذكر كسائر أذكار الافتتاح وتسبيحات الركوع والسجود. وقال بعضهم يحمله الإمام عن المقتدي كالقراءة، وفي " الحاوي " يجهر الإمام بالقنوت، وقيل يخافت، وقيل يتوسط بين الجهر والمخافتة. وعن محمد: أن الإمام والمأموم يجهران بالقنوت، وفي " نوادر ابن رستم " رفع الإمام والمأموم صوتهما في قنوت الوتر أحب إلي.
وفي " المفيد ": قال مشايخنا: المؤتم يخفي القنوت حتما، والإمام لا يخفي حتى يسمع الناس، وقيل: إن كان القوم لا يعلمون القنوت يجهر الإمام به ليتعلموا منه وإلا يخفي. قال بعض الأصحاب: يجب أن يجهر به لشبهه بالقراءة. وفي " الحاوي ": ولم ير بعض أصحابنا التأمين ولا الإرسال، بل يرون وضع اليمين على الشمال، وفي " المبسوط " وهو الأصح، وعند المالكية لو ترك الجهر به سهوا سجد للسهو، وإن تعمد ففي بطلان وتره قولان، ذكره في(2/503)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" الذخيرة " للقرافي، وفي " القدوري ": يرسل يديه، وفي " الذخيرة " يرسل عندهما، ورواية عن أبي حنيفة وفي رواية عنه يضعهما، ومعنى الإرسال: أن لا يبسطها كما يفعله الداعي في حالة الدعاء، وعن أبي حنيفة أنه يشير بالسبابة من يده اليمنى فيه. وعن أبي يوسف: أنه يبسط في حال القنوت.
1 -
فروع: إن نزل بالمسلمين نازلة قنت الإمام في صلاة الجهر، وبه قال الأكثرون وأحمد.
وقال الطحاوي: إنما لا يقنت عندنا في صلاة الفجر من غير بلية، فإن وقعت فتنة أو بلية فلا بأس به، فعله رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذكره عنه السيد الشريف صاحب " النافع " في مجموعه، وفي السابع إذا قنت الإمام في شهر رمضان تابعه القوم إلى قوله: ملحق، فإذا شرع في الدعاء قال أبو يوسف: يتابعونه؛ وقال محمد: يؤمنون على دعائه، وقيل: إن شاءوا سكتوا، ومن لا يحسن دعاء القنوت قال المرغيناني: يقول على وجه الاستحباب اللهم اغفر لي ثلاثا.
وفي " الواقعات " و " الذخيرة ": اللهم اغفر لنا ثلاثا أو أكثر، وقيل: يقول يا رب ثلاثا ذكره في " الذخيرة "، وقيل: يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وهو اختيار بعض المشايخ.
وفي " المرغيناني ": ولا يصلي على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وفي " المحيط " هذا عند بعضهم؛ لأنه ليس موضع الصلاة عليه، واختيار أبي الليث أن يصلي عليه ثم لا يصلي في القعدة الأخيرة. وقال محمد: ليس في القنوت دعاء مؤقت؛ لأنه إذا لم يؤقت في القرآن ففي الدعاء أولى، وفي " المحيط " و " الذخيرة ": يعني قول محمد ليس في القنوت دعاء مؤقت يعني غير قوله اللهم إنا نستعينك.. الخ، واللهم اهدنا.. الخ، وفي " جوامع الفقه ": قيل: المراد به خارج الصلاة، وفي " المبسوط ": ذلك في المناسك ولا في الصلوات، وأهل العراق يسمونها السورتين. وقال عبد الله بن داود: من لم يقنت بسورتين لا يصلى خلفه، وعند مالك يقنت بهما. وقال إسحاق والشافعي: يقنت بقوله: اللهم اهدني فيمن هديت.. إلخ، ولو بسط يديه بعد الفراغ منه ومسح بهما وجهه قيل: تفسد صلاته، ذكره في " جوامع الفقه "، وورد به حديث، رواه أبو داود وفي إسناده رجل مجهول، وكان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذا دعا يرفع يديه مسح بهما وجهه، وفي إسناده عبد الله بن لهيعة ذكر الحديثين في " المغني ".
[حكم من أوتر ثم قام يصلي يجعل آخر صلاته وترا أم لا] 1
اختلف العلماء فيمن أوتر، ثم قام يصلي، هل يجعل آخر صلاته وترا أم لا؟ فكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذا عرض له ذلك صلى ركعة واحدة في ابتداء قيامه وأضافها إلى وتره ينقضه بها، ثم يصلي مثنى مثنى ثم يوتر، والجمهور لا يرون نقض الوتر. وفي " جوامع الفقه ": لو ترك القعدة الأولى في الوتر جاز ولم يحك خلاف محمد. الوتر في رمضان بالجماعة أحب(2/504)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في اختيار أبي على النسفي، واختيار غيره أن يكون في منزله، وفي " المبسوط " و " المرغيناني ": ولا يصلي بالجماعة إلا في شهر رمضان. وفي " الذخيرة " الاقتداء في الوتر خارج رمضان جائز، قال: ذكره في النوازل وفي القدوري لا يجوز أي يكره.
شك في القيام أنه في الثانية أو الثالثة يقنت في تلك الركعة بجواز أن تكون الثالثة ثم يقعد ويصلي أخرى ويقنت فيها أيضا احتياطا بجواز أنها الثالثة، المسبوق في الوتر في رمضان إن قنت مع الإمام لا يقنت ثانيا فيما يقضي. وفي الجامع الصغير أدرك الإمام في الثالثة من الوتر في شهر رمضان وقنت مع الإمام، روى الحسن أنه يقنت في الثالثة، وهو خلاف ما ذكر في كتاب الصلاة. وفي " أجناس الناطفي " لو شك أنه في الأولى أو الثانية والثالثة قال: يقنت في الركعة التي هو فيها احتياطا، وفي قول لا يقنت في الكل. وفي " الذخيرة " لو قنت في الأولى ساهيا أو الثانية لم يقنت في الثالثة؛ لأنه لا يتكرر، [ولو شك في الثالثة أنه قنت أو لا يجزئ فإن لم يحضره رأي قنت. وفي مختصر البحر] ولو شك أنها الأولى أو الثانية أو الثالثة يصلي ثلاث ركعات بثلاث قعدات ويقنت في الأولى لا غير في قول أئمة بلخ. وعن أبي حفص الكبير أنه يقنت في الثانية وبه قال النسفي، ولو شك أنها الثانية أو الثالثة يقنت في الركعتين عند أبي حفص والنسفي، بخلاف المسبوق حيث لا يقنت في الآخرة في القضاء.
وفي " المبسوط " إن نسي القنوت فتذكر بعد الركوع لم يقنت لفوات محله، وإن تذكر في الركوع يعود إلى القيام ويأتي به، وفي رواية ثم يعيد الركوع؛ لفرضيته كتكبيرات العيدين ويأتي به في رواية، ثم يعيد الركوع؛ لفرضيته كتكبيرات العيدين والقراءة، كذا ذكر في " الذخيرة "، وفي رواية لا يعود إلى القيام، ويسقط القنوت ولا يجمع بين وترين في ليلة واحدة؛ لحديث طلق بن عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: «لا وتران في ليلة» ، رواه الترمذي قال: حديث حسن غريب، ومعناه أن من صلى الوتر ثم صلى بعد ذلك لا يعيد الوتر، مقدار القيام في القنوت قدر سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] .(2/505)
باب النوافل السنة ركعتان قبل الفجر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب النوافل] [عدد ركعات التطوع المرتبطة بالصلوات وكيفيتها]
م: (باب النوافل)
ش: أي هذا باب في بيان أحكام النوافل. ولما فرغ من بيان الفرائض والواجبات شرع في بيان النوافل، وهي أعم من السنن، فلذلك عبر بالنوافل ثم قدم أحكام السنن؛ لأنها أقوى من النوافل؛ لأنها جمع نافلة وهي الزيادة، ونافلة الصلاة الزيادة على المفروضة، ونافلة الرجل ولد ولده؛ لأنه زيادة على أولاده، والتنفل التطوع، والتطوع في الأصل فعل الطاعة، وفي الشرع والعرف مخصوص بطاعة غير واجبة، ومن ذلك قيل هما مترادفان، والنفل بسكون الفاء زيادة عبادة شرعت لنا لا علينا، ووجود اشتقاقه يدل على الزيادة، وبفتح الفاء الغنيمة، وهو ما يجعله الإمام لبعض الجيش زيادة على ما يستحقه من ثباتها، ويجمع على أنفال، والنوفل: البحر والرجل الكثير العطاء، والواو زائدة للإلحاق ب [ ... ]
فإن قلت: ما وجه المناسبة بين هذا الباب والباب الذي قبله خاصة؟ قلت وجود معنى الزيادة في كل منهما، لأن الوتر زائد على الفرائض على ما صرح به في الحديث إن الله زادكم صلاة.
م: (السنة ركعتان قبل الفجر) ش: أي قبل صلاة الفجر بعد طلوعه، قدم ذكر السنة على النفل المطلق لقوتها، ثم بدأ بسنة الفجر لكونها أقوى من غيرها؛ لما روي عن عائشة في الصحيح.
قالت: «لم يكن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على شيء من النوافل أشد تعهدا منه على ركعتي الفجر» وفي " سنن أبي داود ": «لا تدعوهما ولو طردتكم الخيل» .
فإن قلت: هذا يدل على وجوبها لأجل مواظبته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عليها، ولهذا ذكر المرغيناني عن أبي حنيفة أنها واجبة. وفي " جوامع المحبوبي " روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: لو صلى سنة الفجر قاعدا بلا عذر لا يجوز.
قلت: إنما لم يقل بوجوبها؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ساقها مع سائر السنن في حديث المثابرة، وقالوا العالم إذا صار مرجعا للفتوى يجوز له ترك سائر السنن لحاجة الناس إلا سنة الفجر، وذكر التمرتاشي في " الأمالي " ترك الأربع قبل الظهر والتي بعدها وركعتي الفجر لا يلحقه الإساءة إلا أن يستخف به، ويقول هذا فعل النبي وأنا لا أفعل، فحينئذ يكفر، وفي النوازل وفوائد الرستغفني من ترك سنن الصلوات الخمس ولم يرها حقا كفر، ولو رآها حقا وترك قيل لا يأثم، والصحيح أنه يأثم؛ لأنه جاء الوعيد بالترك، وعن أبي سهل الرازي من أصحاب أبي حنيفة لو ترك الأربع قبل الظهر وواظب على الترك لا تقبل شهادته، وفي " المجتبى ": لا يختلف الرجل(2/506)
وأربع قبل الظهر، وبعدها ركعتان، وأربع قبل العصر، وإن شاء ركعتين، وركعتان بعد المغرب، وأربع قبل العشاء، وأربع بعدها، وإن شاء ركعتين، والأصل فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والمرأة في الأربع قبل الظهر، وقيل إنها سنة لمن يصلي بالجماعة، الأربع قبل الجمعة كالأربع قبل الظهر.
ثم الترتيب بين السنن قال الحلواني أقواها ركعة الفجر، ثم سنة المغرب؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يدعهما في سفر ولا حضر، ثم التي بعد الظهر فإنهما سنة متفق عليهما، وفي التي قبلها اختلاف قيل هي الفصل بين الأذان والإقامة، ثم التي بعد العشاء، ثم التي قبل الظهر، [ثم التي بعد الظهر] ، ثم التي قبل العصر، ثم التي قبل العشاء. وقال الحسن اختلف في أقواها بعد ركعتي الفجر، قيل: التي قبل الظهر والتي بعدها والتي بعد المغرب سواء، وقيل: بل التي قبل الظهر وهو الأصح.
ثم السنة في اللغة الطريقة والعادة والسيرة، فإذا أطلقن في الشرع فإنما يراد بها ما أمر به النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ونهى عنه، وندب إليه، فإذا يراد بها سنة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قولا وفعلا مما لم ينطق به الكتاب العزيز، ولهذا يقال في أدلة الشرع الكتاب والسنة أي القرآن والحديث، وبه قال صاحب مطالع القرآن، السنة الطريقة التي سنها رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وشرع الاعتماد عليها، ومن سنته [ ... ] أي فعل فعلا وقال قولا يحتمل عليه وسلك فيه.
ويجمع على سنن بضم السين، وسنن بالفتح الطريقة، وفي الصحاح بفتح السين والنون وضمها وضم السين ثلاث لغات، ويقال السنة في اللغة على ثلاث معان: السيرة وصورة الوجه وتمر بالمدينة، ولها خمسة أوجه في الشرع. الأول: ما تلقي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من غير الكتاب، ومنه الكتاب والسنة قولا كان أو فعلا، والثاني: فعله دون قوله، وعلى فعله الذي هو الواجب كقيام الليل وصلاة [الليل] وصلاة الضحى والوتر على قول ونحو ذلك، والواجب علينا كصلاة العيدين وغيرها ما تأكد وعلى من المندوبات كركعتي الفجر والوتر والثالث [ ... ] والخامس ما واظب عليه وتركه أحيانا ولم يتأكد كالأربع قبل العصر أو الركعتين أو الأربع قبل العشاء والأربع أو الركعتين بعدها.
م: (وأربع قبل الظهر) ش: أي أربع ركعات قبل صلاة الظهر بعد الزوال م: (وبعدها ركعتان) ش: أي بعد صلاة الظهر ركعتان في وقته م: (وأربع قبل العصر) ش: أي أربع قبل صلاة العصر م: (وإن شاء ركعتين) ش: أي وإن شاء يصلي ركعتين م: (وركعتان بعد المغرب) ش: أي بعد صلاة المغرب في وقته م: (وأربع قبل العشاء) ش: أي وأربع ركعات قبل صلاة العشاء م: (وأربع بعدها) ش: أي أربع ركعات بعد صلاة العشاء م: (وإن شاء ركعتين) ش: أي وإن شاء يصلي ركعتين.
م: (والأصل فيه) ش: أي العدد المذكور، وقال صاحب الدراية أي ما ذكر محمد، والذي(2/507)
قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من ثابر على ثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة بنى الله له بيتا في الجنة» .
وفسر على نحو ما ذكر في الكتاب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت أولى على ما لا يخفى م: (قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من ثابر على ثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة بنى الله له بيتا في الجنة» ش: هذا الحديث روي بوجوه كثيرة، وألفاظه مختلفة عن أم حبيبة وعائشة وأبي هريرة، فحديث أم حبيبة أخرجه الجماعة إلا البخاري عنها أنها سمعت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: «ما من عبد مسلم يصلي لله في كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعا من غير الفريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة ".
ولمسلم وأبي داود وابن ماجه: " أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الغداة "، وللنسائي في رواية وركعتين قبل العصر بدل ركعتين بعد العشاء» وكذلك عند ابن ماجه في " صحيحه " وابن خزيمة في " مسنده " والحاكم في " مستدركه "، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وجمع الحاكم في لفظ بين الروايتين فقال: وفيه ركعتين قبل العصر وركعتين بعد العشاء، وكذلك عند الطبراني في " معجمه ".
وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجه الترمذي وابن ماجه عنها قالت: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من ثابر على ثنتي عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتا في الجنة: أربع ركعات قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر» . قال الترمذي حديث حسن غريب.
وحديث أبي هريرة أخرجه ابن عدي في الكامل " عنه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتا في الجنة ركعتين قبل الفجر، وأربعا قبل الظهر وركعتين بعد الظهر، وركعتين قبل العصر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء» .
قوله: من ثابر يعني واظب بالثاء المثلثة أي دوام، والمثابرة المواظبة والمداومة. وقال ابن الأثير: المثابرة الحرص على الفعل والقول وملازمتها.
م: (وفسر على نحو ما ذكر في الكتاب) ش: أي فسر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عدد الركعات في قوله على ثنتي عشرة ركعة على نحو ما ذكره في الكتاب، أي المبسوط والقدوري، ويجوز أن يقرأ فسر على صيغة المجهول، فعلى هذا يكون المفسر غير النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كما فسرت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.(2/508)
غير أنه لم يذكر الأربع قبل العصر، فلهذا سماه في الأصل حسنا، وخير؛ لاختلاف الآثار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (غير أنه) ش: أي غير النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - م: (لم يذكر الأربع قبل العصر) ش: في تفسير حديث المثابرة، أراد بها بيان المذكور فيه، فإن المذكور في الكتاب أكثر من ثنتي عشرة م: (فلهذا) ش: أي فلأجل أنه لم يذكر الأربع قبل العصر في تفسير حديث المثابرة م: (سماه) ش: أي سمى محمد م: (في الأصل) ش: أي في المبسوط، وإنما سماه أصلا؛ لأنه صنفه أولا ثم صنف كتاب " الجامع الصغير " ثم كتاب " الجامع الكبير " ثم كتاب الزيادات م: (حسنا) ش: قال أبو سليمان الجوزجاني في " المبسوط " قلت لمحمد: فهل قبل العصر تطوع؟ قال: إن فعلت فحسن، قلت: فكم التطوع قبلها؟ قال: أربع ركعات م: (وخير) ش: أي خير محمد المصلي بين الأربع والركعتين قبل صلاة العصر.
م: (لاختلاف الآثار) ش: وهو أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا،» رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن غريب، وأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصلي قبل العصر ركعتين» رواه أبو داود من حديث عاصم بن ضمرة عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وروى الترمذي عن عاصم بن ضمرة عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسلم على الملائكة المقربين ومن معهم من المسلمين والمؤمنين» وقال: حديث علي حديث حسن.
فإن قلت: كيف؟ قال: لاختلاف الآثار، ولم يقل: لاختلاف الأخبار لأن الأثر مستعمل فيما يروى عن الصحابة والخبر ما يروى عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في اصطلاح المحدثين، والاختلاف هاهنا في الأخبار كما ذكرنا، فكان ينبغي أن يقول لاختلاف الأخبار.
قلت: قال السغناقي ناقلا عن " الإيضاح ": ولم يقل لاختلاف الأخبار؛ لأن اختلاف الرواية بين الأربع والركعتين إنما جاء من فعل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لا من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وعن النخعي كانوا يستحبون قبل العصر ركعتين، ولم يكونوا يعدونها من السنة، وهذا نقل من الصحابة. قلت: فيه نظر؛ لأن ما ذكرناه الآن من ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يرد ما نقله، ونقله عن النخعي هذا لا يمنع كونه مفعولا من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فالمصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما اعتمد في ذلك على ما نقل عن الصحابة، اختار لفظه الآثار، وأما من رأى أن الآثار والأخبار في الأصل يرجع إلى معنى واحد.(2/509)
والأفضل هو الأربع، ولم يذكر الأربع قبل العشاء، ولهذا كان مستحبا لعدم المواظبة، وذكر فيه ركعتين بعد العشاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والأفضل هو الأربع) ش: أي الأفضل أربع ركعات قبل العصر. قال الأترازي: لأن أفضل الأعمال أكثرها، وقال الأكمل: لأنه الأكثر عملا أو أدوم عزيمة فكان أكثر ثوابا.
قلت: الأولى أن يقال اتباعا للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فإنه روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه «كان يصلي قبل العصر أربع ركعات» كما ذكرنا.
فإن قلت: في آخر حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يفصل بينهن بالتسليم.
قلت: اختار إسحاق بن إبراهيم أن لا يفصل بينهن قبل العصر، قال: ومعنى قوله: بالتسليم أي بالتشهد كمذهبنا؛ لأن التسليم موصوف فيه. قلت: أراد بالتسليم التسليم على الملائكة وهو التشهد؛ لأن التسليم فيه، ولهذا يرد على ابن حبان حيث قال: المراد بالفصل التسليم حقيقة، يعني يصلي بتسليمتين، والدليل على ذلك أيضا ما رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال «رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا» وفي " المفيد ": السنة قبل العصر أربع، ويؤيد هذا حديث علي وابن عمر المذكوران، وأيضا مذهب الإمام الأربع؛ لأن الصلاة صلاة الليل والنهار الأربع عنده، قيل: فيه نظر؛ لأن هذه المسألة وهي كون الأربع أفضل في الليل والنهار عنده بناء على فرع المسألة الأخرى، وهو أن اختلافهم في التطوع الذي ليس من السنن.
م: (ولم يذكر الأربع قبل العشاء) ش: أي لم يذكر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أربع ركعات قبل صلاة العشاء عند ذكر تفسير حديث المثابرة، فإن تطوع بأربع فهو حسن؛ لأن العشاء كالظهر من أنه لا يكره التطوع قبله وبعده.. [وفي المبسوط ولم يذكر التطوع قبل العشاء وبعده] كالظهر، وفي الذخيرة والتطوع قبل العشاء بأربع حسن.
م: (ولهذا كان مستحبا) ش: أي ولأجل عدم ذكر الأربع قبل العشاء كان الأربع قبله مستحبا م: (ولعدم المواظبة) ش: على الأربع قبله؛ لأن السنة إنما تثبت بالمواظبة من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقد ذكر في المفيد والتحفة وشرح مختصر الكرخي وأربع قبل العشاء إن أحب م: (وذكر فيه) ش: أي ذكر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث المثابرة وفي غيره ذكر الأربع، أي: وفي غير حديث المثابرة ذكر الأربع بعد العشاء. م: (ركعتين بعد العشاء) ش: وهو ما روي عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى قبل الظهر أربعا كان كأنما تهجد من ليلته، ومن صلاهن بعد العشاء، كان كمثلهن من ليلة القدر» ، رواه سعيد بن منصور في " سننه "، ورواه البيهقي من قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «من صلى أربعا بعد العشاء كان كمثلهن من ليلة القدر» .(2/510)
وفي غيره الأربع، فلهذا خير إلا أن الأربع أفضل خصوصا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما عرف من مذهبه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المبسوط ": لو صلى أربعا بعد العشاء فهو أفضل لحديث ابن عمر موقوفا ومرفوعا أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «من صلى بعد العشاء أربع ركعات كان كمثلهن من ليلة القدر» . وقال الأترازي عند قوله وفي غير ذكر الأربع: وهو ما ذكر في شرح الأقطع قد روي «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى العشاء ودخل في حجرته فصلى أربع ركعات» فلما اختلف الخبران خير المصلي إن شاء صلى أربعا، وإن شاء صلى ركعتين.
قلت: الذي يدعي أن له يدا في الحديث لم يذكره على هذا الوجه ولا سيما بالتقليد لمن لم يتبين حاله، والنفل عنه وبعد التسليم له، فلا يدل على ما ادعاه إلا بالاحتمال الظني.
وفي " فوائد الرستغفني " يقرأ في الأولى الفاتحة وآية الكرسي ثلاث مرات، وفي الثانية الفاتحة و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، وفي الثالثة الفاتحة و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] ثلاث مرات، وفي الرابعة الفاتحة و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] ثلاث مرات، وفي " الملتقطات " في الثالثة والرابعة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] والمعوذتين مرة في كل ركعة. م " (ولهذا) ش: أي ولأجل ذكره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ركعتين بعد العشاء في حديث المثابرة وذكره أربعا في غيره م: (خير) ش: أي خير محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - المصلي بين أن يصلي أربعا وبين أن يصلي ركعتين. وقال السغناقي: خير أي محمد وأبو الحسن القدوري بقوله وأربع بعدها وإن شاء ركعتين م (إلا أن الأربع أفضل) ش: لما ذكرنا آنفا من حديث البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: (خصوصا على مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما عرف من مذهبه) ش: أي الأفضل عند أبي حنيفة في باب النوافل أن يصلي أربعا ليلا ونهارا، وعندهما الشفع أفضل بالليل على ما عرف في موضعه.
ومذهب الشافعي في هذا الباب أن السنن عند الصلوات الخمس: عشر ركعات، قبل الظهر ركعتان، وبه قال أحمد، ومن الشافعية من قال: أدنى الكمال ثمان، فأسقط سنة العشاء. وقال النووي نص عليه في البويطي، ومنهم من قال: ثنتي عشرة ركعة [......] فجعل قبل الظهر أربعا، والأكمل عند الشافعية ثماني عشرة زادوا وقبلها ركعتين وبعدها ركعتين وأربعا قبل العصر، واحتج الشافعي وأحمد فيما ذهبا إليه من أن السنن عشر ركعات، بما روى الترمذي عن عبد الله بن سفيان قال «سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن صلاة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقالت: كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين وبعد العشاء ركعتين وقبل الفجر ثنتين» وصححه الترمذي.
وأما حديث عن عبد الله بن سفيان قال: «سألت عائشة عن صلاة رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقلت: كان يصلي قبل الظهر أربعا وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ثنتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل(2/511)
والأربع قبل الظهر بتسليمة واحدة عندنا، كذا قاله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الفجر ركعتين» رواه مسلم وأبو داود، وهو أصح من حديث الترمذي، وفيه زيادة فكان أولى بالقبول.
ولنا حديث المثابرة أيضا وقد ذكرناه، ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يؤت سنة قبل المكتوبة ولا بعدها، وخالف الأحاديث الصحاح الثابتة في توقيت السنن، وزعم أنه عمل أهل المدينة، وفي " شرح الوجيز ": اختلف الأصحاب في عدد الركعات، قال الأكثرون: عشر ركعات كما ذكرنا، ومنهم من زاد على العشر ركعتين قبل الظهر، مضمومتين إلى الركعتين لحديث المثابرة، ومنهم من زاد على هذا العدد ركعتين بعد الظهر.
وقال صاحب " المهذب "، وجماعة: أدنى الكمال عشر ركعات، وأتم الكمال ثمانية عشرة ركعة، وفي استحباب الركعتين قبل المغرب وجهان قيل باستحبابها، وإن لم يكن في الروايات لما روي «عن أنس أنه قال صليت ركعتين قبل المغرب ورآني رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وعلم فلم يأمرني ولم ينهني» وروي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «صلوا قبل المغرب ركعتين "، وقال في الثالثة: " لمن شاء» .
وقيل: الاستحباب لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عنهما، فقال: ما رأيت أحدا على عهد رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلاهما، وعن أبيه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يضرب عليهما "، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن تعجيل المغرب مستحب.
قلت: حديث أنس رواه مسلم، والحديث الثاني رواه البخاري، والحديث الثالث رواه أبو داود وسكت عنه. وقال النووي: إسناده حسن، وأثر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه الطحاوي في " معاني الآثار " من عشر طرق صحاح بألفاظ مختلفة. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، وأخرج الطحاوي أيضا عن خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يضرب الناس على الصلاة بعد العصر. وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا في مصنفه. وأخرج الطحاوي أيضا عن خالد ابن الوليد وأخرج أيضا عن ابن عباس أن طاوسا سأله عن الركعتين بعد العصر فنهاه عنهما وقال {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] (الآية 136 الأحزاب) .
م: (والأربع قبل الظهر بتسليمة واحدة عندنا، كذا قاله رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: هذا الذي قاله رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رواه أبو داود في " سننه "، والترمذي في " الشمائل " عن أبي أيوب الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليمة(2/512)
وفيه خلاف للشافعي
- رَحِمَهُ اللَّهُ -، قال: ونوافل النهار إن شاء صلى بتسليمة ركعتين، وإن شاء أربعا وتكره الزيادة على ذلك.
وأما نافلة الليل، قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن صلى ثمان ركعات بتسليمة جاز وتكره الزيادة على ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يفتح لهن أبواب السماء» . ورواه ابن ماجه في " سننه " بلفظ: «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يصلي قبل الظهر أربعا إذا زالت الشمس لا يفصل بينهن بتسليم، قال: أبواب السماء تفتح إذا زالت الشمس» وضعفه أبو داود، وأطلق المنذري عزوه إلى الترمذي في مختصره، وكان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن يعيده بالشمائل كما ذكرنا.
م: (وفيه خلاف للشافعي) ش: أي في الأربع قبل الظهر خلاف الشافعي، فعنده يصليها بتسليمتين وهو أفضل، وبه قال مالك وأحمد، واحتجوا بحديث أبي هريرة أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يصليهن بتسليمتين، ولأن فيه زيادة تحريمة وتسليم لكان أفضل، ولنا حديث أبي أيوب الأنصاري المذكور آنفا.
الجواب عن حديث أبي هريرة أن معنى قوله بتسليمتين يعني بتشهدين، يسمى التشهد تسليما لما فيه من السلام كما سمي التشهد لما فيه من الشهادة، وقد روي هذا التأويل عن ابن مسعود.
فإن قلت: احتج هؤلاء أيضا بما روي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى» قلت: عن قريب يأتي هذا الحديث وبيان حاله والجواب عنه.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ونوافل النهار) ش: إن شاء صلى بتسليمة ركعتين لم أر أحدا من الشراح حل هذا التركيب من حيث العربية فنقول قوله نوافل النهار كلام إضافي مبتدأ وخبره محذوف تقديره نوافل النهار يقال فيها م: (إن شاء) ش: المصلي م: (يصلي بتسليمة ركعتين وإن شاء أربعا) ش: أي وإن شاء صلى أربع ركعات بتسليمة واحدة بحديث أبي أيوب الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المذكور آنفا م: (وتكره الزيادة على ذلك) ش: أي على أربع ركعات بتسليمة في نافلة النهار لعدم ورود نص عليه.
م: (وأما نافلة الليل قال أبو حنيفة إن صلى ثمان ركعات بتسليمة جاز) ش: نافلة الليل أربع أربع بتسليمة واحدة أفضل عند أبي حنيفة لزيادة سعة، ويجوز الزيادة عليها إلى ست بتسليمة واحدة عنده من غير كراهة في رواية " الجامع الصغير "، وإلى ثمان في رواية لورود الخبر بكل واحد من العددين، ولكن الأربع أفضل عنده م: (وتكره الزيادة) ش: أي على ثمان ركعات(2/513)
وقالا: لا يزيد بالليل على ركعتين بتسليمة وفي " الجامع الصغير " لم يذكر الثماني في صلاة الليل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بتسليمة وهو اختيار القدوري وفخر الإسلام. وقال شمس الأئمة: لا يكره، وفي " النهاية ": والأصح أنه لا يكره، لأن فيه وصلا بالعبادة وذلك أفضل. وقال الأكمل ناقلا عن السغناقي: لا فائدة في تخصيص أبي حنيفة بهذا الحكم، لأن كلا الحكمين الجواز في نافلة الليل إلى الثمان بغير كراهة، والكراهة فيما وراءها اتفاقا في عامة روايات الكتب، ثم قال قلت: يجوز أن يكون ذكر أبي حنيفة للاحتراز عن قول الشافعي، فإنه يقول لا يزيد على أربع، ولو زاد كره ذلك، انتهى.
قلت: فيه نظر، لأن نصب الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه فيكون تخصيص أبي حنيفة بالذكر عن قول الشافعي، وفي مثل هذا الموضع لا يتأتى ما ذكره.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد م: (لا يزيد بالليل على ركعتين بتسليمة) ش: فحينئذ يكره الزيادة على الأربع، وهل يكره الأربع بتسليمة عندهما، ولفظ القدوري يوهم الكراهة حيث قال: وقالا لا يزيد بالليل على ركعتين، ومثل هذا الكلام في الرواية يوهم نفي الزيادة بحرمة أو كراهة، ولكن ذكر في " المبسوط " و " الجامع الصغير " وعامة الكتب أن الاختلاف في الأفضلية، فيدل على انتفاء الكراهة في الأربع بالاتفاق، وفي " قاضي خان ": ولو صلى التراويح ثمان ركعات بتسليمة واحدة وقعد في كل ركعتين ينوب عن أربع تسليمات عند أبي حنيفة في رواية لعدم الكراهة إلى الثمان، وعندهما ينوب عن تسليمتين لأن ما زاد على الأربع عندهما يكره فلا تنوب الزيادة عن التراويح، فهذا تصريح بانتفاء الكراهة عن الأربع إذ الأربع جازت عن التراويح، فعلى هذا بمعنى ما ذكر في القدوري وقال: لا يزيد بالليل.. إلخ لا يزيد كيلا يلزم ترك الأفضل في الأربع، والكراهة في الزيادة عليها. وقال المحبوبي: فرق محمد في الكتاب بين صلاة الليل وصلاة النهار في كراهة الزيادة على الأربع باعتبار أن الأثر جاء منه في صلاة الليل لا النهار، وعلينا الاتباع خصوصا في العبادات.
م: (وفي الجامع الصغير لم يذكر الثماني في صلاة الليل) ش: أي لم يذكر محمد ثمان ركعات في صلاة الليل، وإنما ذكر الستة، قوله الثماني الباقية للنسبة كاليماني على تعويض الألف عن إحدى يائي النسبة، ولهذا [لا يشدد] ، لا بمثل حتى ولا يجمع بين العوض والمعوض قال الأصمعي: لا يقال ثمان بالضمة على النون.
فإن قلت قال الشاعر:
لها ثنايا أربع حسان ... وأربع فيهن لها ثمان
قلت: أنكره الأصمعي وقال هو خطأ، وعلى هذا ما ذكر في " الجامع الصغير " في صلاة الليل:(2/514)
ودليل الكراهة أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يزد على ذلك، ولولا الكراهة لذكر تعليما للجواز،
والأفضل في الليل عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله مثنى مثنى، وفي النهار أربع أربع. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيهما مثنى مثنى، وعند أبي حنيفة فيهما أربع أربع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن شئت ثمان خطأ والستة من الضرورات [ ... ] .
وقال ابن الحاجب في ثماني عشرة فتح الياء وجاء إسكانها وشذ حذفها بفتح النون.
م: (ودليل الكراهة أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يزد على ذلك) ش: أي على الثماني م: (ولولا الكراهة) ش: لزاد أي على الثماني م: (للذكر تعليما) ش: أي لأجل التعليم م: (للجواز) ش: هذا اختيار القدوري وفخر الإسلام، وقال شمس الأئمة الأصح أنه لا يكره الزيادة على ثمان ركعات لأنه روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى ثلاث عشرة ركعة فتكون الثمانية صلاة الليل والثلاث الوتر والركعتان سنة الفجر، وكان يصلي هذا كله في الابتداء ثم فصل البعض على البعض هكذا ذكره حماد بن سلمة، ولم يذكر كراهة الزيادة على ثمان ركعات بتسليمة واحدة، ونقل الأكمل هذا عن السغناقي ثم قال وفيه نظر، لأن كلامنا فيما يكره بتسليمة واحدة، وليس فيما ذكر ما يدل على ذلك.
قلت: ورد في صحيح مسلم في حديث طويل «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يصلي تسع ركعات لا يجلس فيهن إلا في الثامنة فيذكر الله تعالى ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله تعالى ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا» .
وفي غير مسلم كان يوتر بتسع ركعات، ولو وقف الأكمل على هذا الحديث لما قال وفيه نظر مع أن هذا الحديث خلاف ما قاله المصنف من قوله لم يرد على ذلك وذكر هذا حديثا غريبا ليس له أصل فافهم.
م: (والأفضل في الليل عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله مثنى مثنى) ش: أي الأفضل في تطوع الليل عندهما مثنى أي اثنين، يعني ركعتين، ومثنى معدول عن اثنين اثنين وتكراره للتأكيد. وقال الزمخشري منع الصرف لما فيه من العدلين عدله عن صيغته الأصلية وعدله عن مكروه، ويقال شرط العدل أن يكون في اللفظ والمعنى، وقال ابن يعيش لا يكون العدل إلا في اللفظ وفي المعنى.
م: (وفي النهار أربع أربع) ش: أي الأفضل في تطوع النهار أربع ركعات، وأما صرف أربع لأنه وضع اسما في الأصل، فلم يلتفت إلى ما طرأ له من الوصفية وأيضا فإنه قابل للتاء.
م: (وعند الشافعي فيهما مثنى مثنى) ش: [أي في التطوع عنده في الليل والنهار مثنى مثنى] ، وبه قال مالك وأحمد م: (وعند أبي حنيفة فيهما أربع أربع) ش: أي الأفضل في التطوع عنده الليل(2/515)
للشافعي قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى» ، ولهما الاعتبار بالتراويح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والنهار أربع ركعات م: (للشافعي قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) ش: هذا الحديث رواه ابن عمر وأبو هريرة وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فحديث ابن عمر أخرجه الأربعة عنه أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى» .
وحديث أبي هريرة أخرجه إبراهيم الحربي في غريب الحافظ أبي نعيم في تاريخ أصبهان عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى» .
والجواب عنها أن حديث ابن عمر لما رواه الترمذي سكت عنه، إلا أنه قال اختلف أصحاب شعبة فيه فرفعه بعضهم ووقفه بعضهم، ورواه الثقات عن عبد الله بن عمر عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولم يذكر فيه صلاة النهار، وقال النسائي هذا الحديث عندي خطأ، وقال في " سننه الكبرى ": إسناده جيد، إلا أن جماعة من أصحاب ابن عمر خالفوا الأزدي فيه فلم يذكروا فيه النهار، منهم سالم، ونافع وطاوس.
والحديث في الصحيحين من حديث جماعة عن ابن عمر وليس فيه ذكر النهار وروى الطحاوي أيضا في معاني الآثار عن ابن عمر أنه كان يصلي بالليل ركعتين وبالنهار أربعا، فمحال أن يروي ابن عمر عن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ضعيفا أو كان موقوفا غير مرفوع.
وأما حديث أبي هريرة وعائشة فإن الذي رواه البخاري ومسلم أصح منهما وأقوى وأثبت، وعلى طريق التسليم يقول معناه شفعا لا وترا بسبيل إطلاق اسم الملزوم على اللازم مجازا جمعا بين الدليلين على ما يجيء.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي يوسف ومحمد م: (الاعتبار بالتراويح) ش: يعني قياسا على التراويح، فإن الأفضل فيهما مثنى مثنى بالإجماع، وهذا نفل الليل فينبغي أن يكون سائر نوافل الليل كذلك بخلاف نفل النهار، لحديث أبي أيوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي تقدم ذكره، وكان ينبغي أن يستدل لهما بحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي رواه البخاري ومسلم وفيه ذكر الليل فقط وإثبات الفضائل في العبادات لا نعلم إلا من فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو قوله وهو في نفس الأمر توقيفي.(2/516)
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يصلي بعد العشاء أربعا» روته عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأبي حنيفة أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يصلي بعد العشاء أربعا، روته عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) ش: لم أر أحدا من الشراح ولا من غيرهم من المتأخرين حققوا هذا الموضع ولا تعرضوا لحال هذا الحديث، وأعجب من الكل أن علاء الدين التركماني قال مقلدا لغيره: وهذا الحديث لم نجده، فنقول وبالله التوفيق:
أما الأترازي فإنه لم يترك هذا الحديث بالكلية، وإنما استدل لأبي حنيفة بالقياس حيث قال ولأبي حنيفة وجهان، أحدهما الاعتبار بالفرض وهو العشاء، فلو كان الأربع بتسليم فاصل أفضل من الأربع بلا تسليم فاصل لكن الفرض كذلك، لأن حال الفرض أقوى وهو بالفضيلة أولى، والثاني أن في الأربع بتسليمة واحدة مداومة على الطاعة، وفيها مشقة على النفس وفيما قالوا استراحة للنفس يكون ما صلاه أولى.
قلت: هذا ليس من دأب المصنفين ولا سيما المتقدمين بشرح الكتاب، فالمصنف يستدل بحديث ويأتي الشارح ويستدل بالقياس ولا يلتفت إلى الحديث وإلى حاله، ومع هذا الوجهان اللذان ذكرهما مدخول فيهما ولا يخفى على المتأمل.
وأما الأكمل فإنه لم يذكر شيئا أصلا، لا الحديث ولا غيره من وجوه الاستدلال لأبي حنيفة وقنع بقوله وكلامه ظاهر.
وأما صاحب " الدراية " فإنه قال ولأبي حنيفة ما روي «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه بات عند خالته ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يرقب صلاة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أرسله أبوه لذلك، فلما صلى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - العشاء رقد مرقده ثم قام ونظر إلى السماء فقرأ خاتمة سورة آل عمران وتوضأ وصلى أربع ركعات بتسليمة واحدة» .
وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حين سئلت عن صلاة رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقالت: «ما كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا لا تسأل عن حسنهن ولا عن طولهن، ثم يصلي أربعا لذلك، ثم يصلي الوتر» .
وأما السغناقي فإنه أيضا لم يذكر حديث عائشة المذكور أصلا، وإنما استدل لأبي حنيفة بحديث ابن عباس المذكور، وأما قول علاء الدين هذا الحديث لم نجده فإنه كيف يقول ذلك وقد رواه أبو داود في سننه من حديث زرارة بن أوفى عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها سألت عن صلاة رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في جوف الليل، فقالت «كان يصلي صلاة العشاء في جماعة ثم يرجع إلى أهله فيركع أربع ركعات ثم يأوي إلى فراشه» . الحديث بطوله، وفي آخره «حتى قبض(2/517)
«وكان - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يواظب على الأربع في الضحى»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على ذلك» . وقال أبو داود في سماع زرارة عن عائشة نظر، ثم أخرجه عن زرارة عن سعيد بن هشام عن عائشة وهذه الرواية هي المحفوظة عندي، فإن أبا حاتم الرازي قال: سمع زرارة من أبي هريرة وابن عباس وعمران بن حصين، وهذا م أصح له فظاهر هذا لأن زرارة لم يسمع من عائشة وأخرج أبو داود أيضا والنسائي في " سننه الكبرى " عن شريح بن هانئ عن عائشة قالت: سألتها عن صلاة رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقالت: «ما صلى رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - العشاء قط فدخل علي إلا صلى بعدها أربع ركعات أو ستا وسكت عنه» وروى أحمد في " مسنده " عن عبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذا صلى العشاء ركع أربع ركعات وأوتر بسجدة ثم قام حتى يصلي بعدها صلاته من الليل» وأخرجه البزار أيضا في " مسنده " والطبراني في " معجمه ". وأخرج البخاري عن ابن عباس قال: «بت في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث زوج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وكان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عندها في ليلتها فصلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - العشاء ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات ثم نام ثم قام وصلى خمس ركعات ثم صلى ركعتين ثم خرج إلى الصلاة» .
فإن قلت أخرج مسلم عن عبد الله بن شقيق عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت «كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصلي في بيتي، [صلى] قبل الظهر أربعا ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيصلي ركعتين، يصلي بالناس المغرب ثم يدخل فيصلي ركعتين وكان يصلي بالناس العشاء ويدخل في بيتي فيصلي ركعتين» انتهى. فهذا مخالف لحديثها المتقدم.
قلت قد وقع اختلاف كثير عن عائشة في أعداد الركعات في صلاته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الليل، فهذا إما من الرواة وإما باعتبار أنها أخبرت عن حالات منها ما هو الأغلب عن فعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ومنها ما هو نادر، ومنها ما هو بحيث اتساع الوقت وضيقه.
م: (وكان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مواظبا على الأربع في الضحي) ش: هذا الحديث رواه مسلم من حديث «معاذة أنها سألت عائشة كم كان رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصلي الضحى قالت أربع ركعات يزيد ما شاء» وفي رواية «ويزيد ما شاء» ورواه أبو يعلى الموصلي في " مسنده " من حديث عمرة عن عائشة قالت سمعت أم المؤمنين عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تقول «كان رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصلي(2/518)
ولأنه أدوم تحريمة فيكون أكثر مشقة وأزيد فضيلة، ولهذا
لو نذر أن يصلي أربعا بتسليمة لا يخرج عنه بتسليمتين وعلى القلب يخرج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الضحى أربع ركعات لا يفصل بينهن كلام» فالمصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر لأبي حنيفة حديثين أحدهما في أفضلية الأربع بالليل والآخر في أفضليته بالنهار.
فإن قلت: روى البخاري عن عروة عن عائشة قالت: «كان رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به الناس ليفرض عليهم، وما سبح رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سبحة الضحى قط وإني لأسبحها» وروى مسلم «عن عبد الله بن شقيق قال سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - هل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الضحى، قالت لا إلا أن يجيء من مغيبه» . قلت يحتمل أنها أخبرت في الإنكار عن رؤيتها ومشاهدتها [....] أما في خبره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أو خبر غيره عنه وقد يكون إنكارها مواظبته عليها وقد يكون الإنكار إنما هو لصلاة الضحى المعهودة عند الناس على الذي اختاره جماعة من السلف من الصلاة بثمان ركعات، وأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يصليها أربعا ويزيد ما شاء، فيصلي مرة أربعا ومرة ستا ومرة ثمانيا، وأقلها ركعتان، وقد رأى جماعة أن يصلي في وقت دون وقت يخالف بينهما وبين الفرائض.
ثم اعلم أن صلاة الضحى مستحبة، وقال النووي: وقيل سنة، وكان ابن عمر يراها بدعة، ومثله ابن مسعود، حكاهما النووي وأقلها ركعتان. وقال النووي أفضلها ثماني ركعات وقيل اثني عشر ركعة، وفيه حديث فيه ضعيف. ووقتها من ارتفاع الشمس إلى وقت الزوال وقال صاحب الحاوي ووقتها المختار إذا مضى ربع النهار لحديث زيد بن أرقم أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال «صلاة الأوابين حين ترمض الفصال» رواه مسلم. قوله ترمض بفتح التاء والميم أي حين يترك الفصال من شدة الحر في إخفافها، وفي حديث أم هانئ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلاها ثماني ركعات، متفق عليه، وعن أبي هريرة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال «إن في الجنة بابا يقال له باب الضحى، فإذا كان يوم القيامة ينادي منادي أين الذين كانوا يديمون صلاة الضحى؟ هذا بابكم فادخلوه برحمة الله» .
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الأربع م: (أدوم تحريمة) ش: أي من حيث التحريم لأنها استمرت ولم يفصل بشيء م: (فيكون أكثر مشقة) ش: لأنه ليس فيه راحة للنفس بخلاف الركعتين م: (وأزيد فضيلة) ش: أي من حيث الفضيلة لأن زيادة الفضيلة في أكثر المشقة، وجاء أفضل الأعمال [....] أي أشقها م: (ولهذا) ش: أي ولأجل ما ذكرنا من تعليل ذكر في الزيادات.
م: (لو نذر أن يصلي أربعا بتسليمة لا يخرج عنه) ش: أي عن النذر م: (بتسليمتين) ش: يعني لو صلى الأربع بسلامين لِأنه لا يخرج عن العهدة بما هو مخفف م: (وعلى القلب يخرج) ش: أي ولو نذر على قلب المسألة المذكورة وهو أنه لو نذر أن يصلي أربعا بتسليمتين فصلى أربعا(2/519)
والتراويح تؤدى بجماعة فيراعى فيها جهة التيسير، ومعنى ما رواه شفعا لا وترا، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بتسليمة يخرج لأنه شدد المخففة فيكون أشق، فكان أفضل، وكذا في انجلاب الثواب، وإنما قال وعلى القلب دون وعلى العكس لأن عكس المسألة المذكورة أن ينذر أن يصلي ركعتين فصلى أربعا.
م: (والتراويح تؤدى بجماعة) ش: هذا جواب عن استدلال الصاحبين بالتراويح تقديره أن يقال التراويح تؤدى بجماعة، واختيار الفريق فيه للتحقيق م: (فيراعى فيها جهة التيسير) ش: أي جهة التحقيق، وذلك رعاية لحق الجماعة.
م: (ومعنى ما رواه شفعا لا وترا) ش: هذا جواب عن الحديث الذي احتج به الشافعي وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى» وتقديره أن قوله مثنى مثنى معناه شفعا شفعا لا وترا بطريق إطلاق اسم الملزوم على اللازم مجازا والداعي إلى هذا التأويل لئلا يصلي السنن أو الوتر في النفل [.....] ليس معناه أنه يسلم بين كل ركعتين، وقد أشبعنا الكلام في هذا الحديث عن قريب.
فروع: قراءة الأوراد بين الفرض والسنة لا بأس بها، قاله الحلواني ولو قام في مصلاه إن شاء قرأ جالسا وإن شاء قرأ قائما. وفي " شرح الشهيد " القيام إلى السنة متصلا بالفرض مسنون وفي الثاني كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذا سلم يمكث قدر ما يقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ولو تكلم بعد السنة قبل الفريضة هل تسقط السنة، قيل: تسقط، وقيل: لا [تسقط] ، ولكن ثوابه أفضل من ثوابه قبل التكلم. وفي " المبسوط ": ويكره الكلام بعد انشقاق الفجر إلى أن يصلي الفجر لأنها ساعة تشهدها الملائكة، جاء في تأويل قَوْله تَعَالَى {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] (الإسراء: الآية 78) ، تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، فلا ينبغي بأن يشهدهم إلا على خير، طول القيام أفضل من كثرة الركوع والسجود. وقال أبو يوسف: إذا كان له ورد من الليل فالأفضل أن يكثر عدد الركعات وإلا فطول القيام أفضل، وقال محمد: كثرة الركوع والسجود أفضل، إخفاء التطوع أفضل من إبدائه. نافلة الليل أفضل من نافلة النهار لأنها أشق على الإنسان لما فيها من هجران النوم والراحة، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة الليل» ، رواه مسلم، وآخر الليل أفضل من أوله.
المسافر لا يترك السنة إلا بعذر قاله في منية المفتي الأفضل في السنن والنوافل الترك إلا التراويح. وقال الحسن اختلف في الآكد بعد ركعتي الفجر فقيل الأربع قبل الظهر والركعتان بعده والركعتان بعد المغرب كلها سواء، والأصح أن الأربع قبل الظهر آكد وفي " الحاوي ": عن أبي سهل موسى بن أبي نصر الرازي من أصحاب أبي حنيفة أنه قال: من واظب على ترك الأربع قبل الظهر لا أقبل شهادته. وفي " الأسبيجابي ": تارك الأربع قبل الظهر والركعتين بعدها(2/520)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وركعتي الفجر تلحقه الإساءة لأنها تطوع، وفي " المحيط " و " الواقعات " الأصح أنه يأثم.
لكل من استيقظ من الليل أن يمسح [النوم] عن وجهه ويتسوك وينظر في السماء ويقرأ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 190] الآيات التي في آخر آل عمران، والثابت ذلك في الصحيحين.
ويستحب إحياء ليلتي العيدين، ويستحب أيضا لمن أراد قيام الليل أن يعتاد ما يمكنه الدوام عليه مدة حياته، ويكره بعد ذلك تركه والتنقص منه من غير ضرورة ويستحب أيضا الإكثار من الدعاء في ساعات الليل وأكثرها النصف الأخير، وأفضله عند الأسحار.
ومن التطوعات ركعتا شكر الوضوء عن عقبة بن عامر الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قل: «ما من أحد يتوضأ ويحسن الوضوء فيصلي ركعتين يقبل بقلبه ووجهه عليهما إلا وجبت له الجنة» ، رواه مسلم.
وركعتا السفر عن مطعم بن المقدام قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما خلق عن أهله أفضل من ركعتين يركعهما عندهم حتى يزيد سفرا» ، ذكر هذا ابن أبي شيبة في " سننه ". وركعتا القدوم من السفر عن كعب بن مالك «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقدم من السفر إلا نهارا في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس فيه» رواه مسلم.
وركعتا تحية المسجد، ولا يختصان بليل ولا نهار لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين» متفق عليه، وهي سنة وبه قال أحمد، وقال المرغيناني واجبة عند الشافعي ونقله غلط. قال النووي في " شرح المهذب ": أجمع العلماء على استحباب تحية المسجد، وفي " الجلاب " للمالكية: ويستحب لمن أراد الجلوس في المسجد أو جلس ولم يصل أن يصلي ركعتين إلا أن يكون مختارا أو محدثا أو في وقت نهي أو تكرر دخوله بعد أن حياه. وفي " مختصر البحر ": ودخول المسجد بنية الفرض أو الاقتداء ينوب عن تحية المسجد، وإنما يؤمر بتحية المسجد إذا دخله بغير الصلاة، وكذا من دخل الحرم بإحرام الفرض يكفيه عما يجب من الإحرام لدخول مكة، ويكفيه لتحية المسجد في كل يوم ركعتان، وقال صاحب " التتمة " من الشافعية: يستحب لكل من دخله، وقال المحاملي في " اللباب ": أرجو أن يجزئه التحية، ثم قيل: يجلس ثم يقوم فيصلي، وعامة العلماء على أنه يصلي كلما دخل، وقالت الشافعية: لو جلس وطال الفصل فاتت ولا قضاء عليه، وكذا انتقض الجلوس عندهم. وقال النووي: لا تحصل بصلاة الجنازة وسجدة التلاوة والشكر والركعة الواحدة كقولنا، وعند الشافعية يكره جلوسه من غير تحية سواء دخل في وقت النهي عن الصلاة أو غيره، وإن صلى أكثر من ركعتين بتسليمة واحدة كانت كلها تحية.(2/521)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واتفقوا أن الإمام إذا كان في المكتوبة أو أخذ المؤذن في الإقامة يترك تحية المسجد، واتفقوا أنه يقدم الطواف على التحية بخلاف السلام على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حيث تقدم التحية عليه، لأن حق الله مقدم على حق الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -.
وركعتا الاستخارة وصلاة التسبيح وصلاة الحاجة ركعتان، ورد فيه حديث فيه ضعف، وصلاة الرغائب في أول جمعة من رجب اثنتي عشرة ركعة، ويكون قد صام يوم الخميس وذلك بعد صلاة المغرب يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] ثلاث مرات و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] اثنتي عشرة مرة، فإذا فرغ منها وهو جالس في التشهد بعد السلام يقول رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم، سبعين مرة، فإذا رفع رأسه يقول: اللهم صل على النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم سبعين مرة ثم يكبر ويسجد ويقول في سجوده سبوح قدوس [ربنا] ورب الملائكة والروح سبعين مرة، فإذا فرغ منه يسأل الله حاجته وهو ساجد.
وأما الصلاة في ليلة النصف من شعبان فقال أبو الخطاب مجد الدين دحية فليس فيها حديث يصح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال في " العلم المشهور " حديث ليلة النصف من شعبان موضوع، وحديث أنس فيها موضوع لأن فيه إبراهيم بن إسحاق، قال أبو حاتم: كان يقلب الأخبار ويسرق الحديث.(2/522)
فصل في القراءة والقراءة في الفرض واجبة في الركعتين. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الركعات كلها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في القراءة] [حكم القراءة في الفرض]
م: (فصل في القراءة)
ش: قد مر غير مرة أن قول المصنفين فصل لا ينون، لأن الإعراب إنما يكون بعد التركيب. ولما فرغ من بيان الصلوات فرضها وواجبها ونفلها، شرع في بيان القراءة، لأنها تختلف باختلاف الصلوات.
م: (القراءة في الفرض واجبة) ش: أي لازمة وفريضة، إذ الواجب نوعان قطعي وظني، فالقطعي هو الفرض وهذا [هو] الواجب قطعي في حق العمل من ذوات الأربع من الفرائض، ويقال المراد بقوله واجبة الفرض لكن لما لم يكفر جاحدها فيهما ولم يكن فرضا في حق العلم بل هي فرضا عملا وصفتها بالوجوب. ومذهب الأسود والنخعي والثوري كمذهبنا، وهو رواية عن أحمد وقال ابن المنذر: قد روينا عن علي أنه قال: اقرأ في الأوليين وسبح في الأخريين وكفى به قدوة م: (في الركعتين) ش: إنما أطلقهما ولم يقيدهما بالأوليين لأن في كونهما في الركعتين بأعينهما أولا كلام، قال الإمام الأسبيجابي في " شرح الطحاوي ": قال أصحابنا: القراءة فرض في الركعتين بغير أعيانهما إن شاء في الأوليين وإن شاء في الأخريين، وإن شاء في الأولى والرابعة، وإن شاء في الثانية والثالثة، وأفضلها في الأوليين، وكذا قال القدوري في " شرح مختصر الكرخي " حيث قال فالأفضل أن يقرأ في الأوليين، وإن قرأ في الأخريين أو في الثانية والثالثة جاز.
وقال في " خلاصة الفتاوى ": واجبات الصلاة عشرة وذكر منها تعيين القراءة في الأوليين، وفي " المحيط ": القراءة في الصلاة أنواع: فرض وواجب ومستحب ومكروه.
أما الفرض فالقراءة في الأوليين ومثله في " القنية " و " التحفة "، وقال هو صحيح من مذهب أصحابنا حتى لو تركها في الأوليين يقضيها في الأخريين وليست بشرط فيهما حتى لا تفسد الصلاة بترك القراءة فيهما. وأما واجب فقال في المحيط قراءة الفاتحة والسورة في الأوليين وفي " الينابيع " القراءة فرض في ركعتين غير عين وله أن يقرأ في أي الاثنين شاء وهي واجبة في الأخريين من ذوات الأربع والثلاث وفي " التحفة " الجمع بين الفاتحة والسورتين في الأوليين واجب وليس بفرض.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الركعات كلها) ش: أي القراءة فرض في جميع ركعات الصلاة وبه قال مالك وأحمد حتى قالوا بفرضية الفاتحة في الكل، لكن مالكا أقام الأكثر مقام الكل، وعن مالك في رواية شاذة أن الصلاة صحيحة بدون القراءة. وقال المازري عن ابن سلبون أن أم القرآن ليست فرضا فيها. وقال ابن الماجشون: من ترك القراءة في ركعة من الصبح أو أي(2/523)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لا صلاة إلا بقراءة وكل ركعة صلاة»
وقال مالك: في ثلاث ركعات إقامة للأكثر مقام الكل تيسيرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صلاة كانت تجزئ سجدتا السهو وهو بعيد عن الفقه والنظر. قاله ابن بطال وقال الشافعي في القديم: إن تركها ناسيا صحت صلاته معتمدة أثر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه صلى المغرب فلم يقرأ فيها شيئا فقيل له: كيف الركوع والسجود؟ قالوا: حسنا قال: فلا بأس إذا قلت فعل الصحابة وقولهم ليس بحجة عنده مع أنه ضعيف فكيف يتمسك به.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لا صلاة إلا بقراءة وكل ركعة صلاة» ش: هذا الحديث رواه مسلم عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «لا صلاة إلا بقراءة وكل ركعة صلاة» ، فما أعلن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلنا وما أخفاه أخفيناه لكم. لكن: وكل ركعة صلاة ليس من الحديث، واستدلال المصنف بهذا الحديث للشافعي على وجوب القراءة في كل ركعة ليس بقائم لأنه ليس بصريح فيه، ونحن أيضا نستدل به على وجوب القراءة في الصلاة ولو استدل له بحديث المسيء في صلاته الذي أخرجه البخاري ومسلم في " الصحيحين " لكان أقوم وأصرح وفيه أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال له: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن وفي آخره ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» .
م: (وقال مالك: في ثلاث ركعات) ش: أي القراءة فرض في ثلاث ركعات م: (إقامة للأكثر مقام الكل) ش: إقامة نصب على التعليل، والمقام بضم الميم، ومالك أيضا يستدل بالحديث المذكور، ولكنه يقول الثلاث تقوم مقام الكل م: (تيسيرا) ش: أي لأجل التيسير على المصلين والشراح قالوا: إن مسألة القراءة في الفرائض الرباعية مخمسة فذكروا الخمسة، والمصنف ذكر منها الثلاثة: قلت: هي مسدسة.
الأول: مذهبنا أنها فرض في الركعتين.
والثاني: فرض عند الشافعي في الكل.
والثالث: فرض عند مالك في الأكثر.
والرابع: مذهب أبي بكر الأصم إمام بغداد وإسماعيل بن علية والحسن بن صالح بن حيي، وسفيان بن عيينة أن القراءة مستحبة، روي ذلك عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
والخامس: روى البيهقي عن زيد بن ثابت أنه قال القراءة سنة.
والسادس: قال الحسن البصري وزفر والمغيرة من المالكية: يجب في ركعة واحدة، ومن وجه المسألة متسعة.
السابع: رواية عن مالك أن الصلاة صحيحة من غير قراءة.(2/524)
ولنا قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] (المزمل، الآية 20) ، والأمر بالفعل لا يقتضي التكرار وإنما أوجبنا في الثانية استدلالا بالأولى لأنهما يتشاكلان من كل وجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثامن: عن الشافعي أنه إذا تركها ناسيا صحت صلاته.
التاسع: [من قال] لا تجب القراءة في السرية كالظهر والعصر، حكي ذلك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، لحديث عبد الله بن عبيد الله قال: «دخلت على ابن عباس فقلنا لشاب منا: سل ابن عباس أكان رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقرأ في الظهر والعصر؟ فقال: لا. لا. فقيل له: فلعله كان يقرأ في نفسه فقال: خمشا هذه شر من الأولى كان عبدا مأمورا بلغ ما أمر به وما اختصنا دون الناس بشيء إلا بثلاث خصال، أمرنا أن نسبغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة وأن لا ننزي الحمار على الفرس» رواه أبو داود بإسناد صحيح. لكن عارضه حديث عكرمة عن ابن عباس أنه قال: «لا أدري أكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الظهر والعصر أم لا» رواه أبو داود بإسناد صحيح. وحديث أبي سعيد الخدري كان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين نصف ذلك، وفي العصر في الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة، وفي الأخريين قدر نصف ذلك» رواه مسلم.
م: (ولنا قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] (المزمل، الآية 20) ، والأمر بالفعل لا يقتضي التكرار) ش: تقديره أن الله تعالى أمرنا بالقراءة مما تيسر من القرآن وذلك في الصلاة بالإجماع والأمر بالفعل يقتضي امتثاله، ولا يقتضي التكرار إعادة الشيء بعينه لا إعادة مثل الشيء فاقتضى ذلك أن تكون القراءة في ركعة واحدة كما ذهب إليه الحسن البصري.
م: (وإنما أوجبنا في الثانية) ش: أي إنما أوجبنا القراءة في الركعة الثانية، وهذا جواب عما يقال إنكم قلتم إن الأمر بالفعل لا يقتضي التكرار، وقد أوجبتم القراءة في الركعة الثانية وخالفتم ما قلتم. وتقرير الجواب أن [وجوب] القراءة في الثانية لا بعبارة النص حتى يلزم ما قلتم وإنما وجوبها في الثانية بدلالة النص وهو معنى قوله م: (استدلالا بالأولى) ش: يعني بالركعة الأولى وبين ذلك بقوله: م: (لأنهما يتشاكلان من كل وجه) ش: أي لأن الركعة الأولى والثانية تتشابهان من كل وجه، فلما كان كذلك وجبت في الثانية استدلالا بالأولى كالحكم في أحد النوعين ينسب في النوع الآخر، وأما تشاكل الثانية للأولى من كل وجه فمن حيث السقوط والوجوب والصفة والقدر فكل من وجبت عليه الأولى وجبت الثانية، وإذا سقطت سقطت. وأما المماثلة في الصفة ففي الجهر والأخير الإخفاء، وأما المماثلة في القدر ففي ضم السورة مع الفاتحة.
فإن قلت: كيف تكون المماثلة بينهما فالأولى تفارق الثانية في التكبيرة والثناء والتعوذ والبسملة فانتفت المشابهة من كل وجه؟(2/525)
فأما الأخريان يفارقانهما في حق السقوط بالسفر، وصفة القراءة وقدرها فلا يلحقان بهما
والصلاة فيما روي مذكورة صريحا فتنصرف إلى الكاملة وهي الركعتان عرفا فمن حلف لا يصلي صلاة بخلاف ما إذا حلف لا يصلي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: المشابهة والمشاكلة في الكمية والكيفية، فما يرجع إلى نفس الصلاة وأركانها. أما تكبيرة الافتتاح فإنها شرط وليست بركن، وأما الثناء والتعوذ والبسملة فأمور زائدة وليست بفرض فلا يقدح ذلك في ثبوت المماثلة.
فإن قلت: قَوْله تَعَالَى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] أمر ومع هذا يتكرر في كل ركعة.
قلت: ذلك لفعل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأنه لم ينقل عنه الاكتفاء بركوع واحد ولا الاكتفاء بسجود.
م: (فأما الأخريان) ش: أي فأما الركعتان الأخيرتان، وفي بعض النسخ وأما الأخروان هو لحن، لأن الألف إذا كانت ثالثة ردت إلى أصلها في التشبه كما يقال عصوان ورحيان، وإذا كانت رابعة تقلب ياء لا غير م: (فيفارقانهما) ش: أي فيفارقان الركعتين الأوليين م: (في حق السقوط بالسفر) ش: لأن السقوط بالسفر يدل على المفارقة م: (وصفة القراءة) ش: في الجهر والإخفاء م: (وقدرها) ش: أي وقدر القراءة في ضم السورة مع الفاتحة كما بيناها آنفا م: (فلا يلحقان بهما) ش: هذا نتيجة المفارقة، أي فإذا كان الأمر كذلك فلا يلحق الأخريان بالأوليين.
م: (والصلاة فيما روي) ش: أي فيما روى الشافعي، هذا جواب عما رواه الشافعي من الحديث وتقريره أن قوله لا صلاة م: (مذكورة صريحا فتنصرف إلى الكاملة وهي الركعتان عرفا) ش: أي من حيث العرف م: (فمن حلف لا يصلي صلاة) ش: فإنه لا يحنث إلا بركعتين، لأن الصلاة مذكورة فيه فينصرف إلى الكاملة وهي الركعتان م: (بخلاف ما إذا حلف لا يصلي) ش: فإنه يحنث بركعة.
فإن قلت: لا صلاة نكرة في سياق النفي فتعم كل فرض.
قلت: تريد بذلك لغة أو شرعا فإن أردت لغة فلا سبيل لذلك، لأن معناها الحقيقي الدعاء. وليست القراءة شرطا في فرد من أفراد الدعاء، وإن أردت شريعة فنسلم، ولكن الركعة الواحدة ليست من الأفراد شرعا لنهيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن البتيراء، ولئن سلمنا أن لا صلاة إلا بقراءة، لكن الكلام في أن القراءة في الأوليين قراءة في الأخريين.
قلت: الملازمة ممنوعة ألا ترى أن القعدة في آخر الصلاة فرض عند الخصم أيضا ولم يكن فرضا في كل ركعة، وكذا الصلاة على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الأخيرة فرض عنده وليست بفرض(2/526)
قال: وهو مخير في الأخريين معناه إن شاء سكت وإن شاء قرأ وإن شاء سبح كذا روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وهو المأثور عن علي وابن مسعود وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في جميع الركعات.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وهو) ش: أي المصلي م: (مخير في الأخريين) ش: أي في الركعتين الأخريين وبين التخيير بقوله م: (إن شاء سكت وإن شاء قرأ، وإن شاء سبح) ش: لأن القراءة لما لم تجب في الأخريين جاز أحد الأمور الثلاثة م: (كذا روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي كذا روي الخبر عن أبي حنيفة، أما السكوت فمقدار تسبيحة، وقل قدر ما يطلق عليه اسم القيام، ولو أطال السكوت فهو أفضل، ولم يذكر المصنف عددا في التسبيح.
وذكر المرغيناني والقدوري في شرحه وفي " التحفة " و " العتبية " و " الينابيع " [أنه لو سبح ثلاث تسبيحات أجزأه. وفي " المحيط " التخيير رواية عن أبي يوسف] وفيه لو سبح فيهما ولم يقرأ لا يكون مسيئا، وإن سكت فيهما يكون مسيئا ومثله في " المرغيناني "، وإن لم يكن مسيئا بترك القراءة إذا أتى بالتسبيح لأن القراءة فيهما شرعت على وجه الثناء والذكر، ولهذا تعينت الفاتحة لكونها ثناء.
والحاصل أن في كراهة السكوت روايتين، وفي " شرح مختصر الكرخي ": وروى الحسن عن أبي حنيفة أن قراءة الفاتحة أفضل من التسبيح، وإن لم يسبح ولم يقرأ كان مسيئا وعليه سجدتا السهو إن تركهما ساهيا إذ القيام في الأخريين مقصود فلا يخلى عن القراءة والذكر جميعا كالركوع والسجود. قلت: إخلاء الركوع والسجود عن الذكر لا يوجب سجود السهو، قال: والأول أصح، وعن أبي يوسف في رواية يسبح فيهما ولا يسكت إلا أنه قرأ الفاتحة فيهما فليقرأها على وجه الثناء دون القراءة، وبه أخذ بعض المتأخرين من الأصحاب.
م: (وهو المأثور عن علي وابن مسعود وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: الضمير أعني هو لا يصلح إن رجع إلى التخيير بين الأمور الثلاثة لأن الأثر المروي عن علي وابن مسعود في القراءة والتسبيح فقط. وقال صاحب " الدراية ": وهو أي التسبيح هو المأثور أي المروي. قلت لا يصلح هذا لأن المذكور في الأثر شيئان وإعادته إلى أحدهما بلا دليل تحكم، والظاهر أنه يرجع إلى المذكور في كلام القدوري الذي نقله المصنف، والمذكور فيه التخيير، ولكن الدليل الذي هو الأثر لا يطابق المدلول اللهم [إلا] إذا كان الثابت عند المصنف أن التخيير هو المنقول عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولكن ما أدركته ولكن المصنف خطواته واسعة، فلم يعجز عن الإدراك.
أما المأثور عن علي وابن مسعود فقد رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن شريك عن أبي إسحاق السبيعي عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قالا: اقرأ في الأوليين وسبح في الأخريين، وعن منصور قلت لإبراهيم: ما يفعل في الأخريين من الصلاة؟ قال سبح واحمد(2/527)
إلا أن الأفضل أن يقرأ؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - داوم على ذلك. ولهذا لا يجب السهو بتركها في ظاهر الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فهو غريب لم يثبت، ولكن روي أن رجلا سأل عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن قراءة الفاتحة في الأخريين. قالت اقرأها على جهة الثناء.
م: (إلا أن الأفضل أن يقرأ) ش: هذا استثناء من قوله يخير في الأخريين وفي " الدراية " كأنه أراد به نفي رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن القراءة تجب فيهما حتى لو لم يقرأ ولم يسبح كان مسيئا إن كان عمدا، وإن كان ساهيا فعليه القراءة والسهو قد ذكرنا الآن هذا عن " شرح مختصر الكرخي "، وقال الأترازي: إلا أن الأفضل عندنا أن يقرأ خلافا لما روي عن سفيان فإن عنده الأفضل أن يسبح م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - داوم على ذلك) ش: يعني على القراءة في الأخريين، هذا التعليل لا يطابق قوله إلا أن الأفضل أن يقرأ لأن مداومة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على فعل شيء يدل على وجوبه، ولهذا روى الحسن عن أبي حنيفة أن قراءة الفاتحة واجبة في الأخريين ويجب سجود السهو بتركها ساهيا ذكره في " المبسوط " وغيره وقد ذكرناه، ويشهد لذلك حديث أبي قتادة رواه الجماعة إلا الترمذي «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب ويطيل في الركعة الأولى ما لا يطيل في الثانية، وكذلك في العصر» . وذكر الولوالجي في تعليل أفضلية القراءة في الأخريين بقوله ليكون مؤديا للصلاة الجائزة بيقين.
وقال الأترازي: وإنما كانت القراءة أفضل، لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - داوم عليها في أغلب الأحوال. وقال الأكمل: لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - داوم على ذلك يعني ترك وإلا لكان واجبا. قلت: من أين أخذ الأترازي قوله في أغلب الأحوال والأكمل من أين أخذ قوله يعني ترك والأحاديث الصحيحة لا تدل على ذلك، ولئن سلمنا ذلك كان ينبغي أن تكون القراءة في الأخريين سنة. وفي " التحفة " و " شرح مختصر الكرخي " أن السنة في الأخريين الفاتحة لا غير، وروى المعلى عن أبي يوسف أنه يقرأ فيهما بالحمد وسورة معها.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون قراءة الفاتحة على وجه الأفضلية م: (لا تجب سجدة السهو بتركها) ش: أي بترك القراءة يعني بترك قراءة الفاتحة. قلت هذا أيضا لا يطابق تعليله المذكور على ما لا يخفى م: (في ظاهر الرواية) ش: احترز به عما رواه الحسن عن أبي حنيفة أنه إن لم يقرأ ولم يسبح عمدا كان أو ناسيا، وإن كان ساهيا وجب عليه سجدة السهو كما ذكرناه. وقال الأكمل: وظاهر الرواية أصح لأن الأصل في القيام القراءة، فإذا سقطت [ففي القيام المطلق فكان كقيام المقتدي. قلت كل واحد من القيام والقراءة ركن مستقل بذاته، فمن قال إن القراءة سقطت](2/528)
والقراءة واجبة في جميع ركعات النفل، وفي جميع ركعات الوتر، أما النفل فلأن كل شفع منه صلاة على حدة، والقيام إلى الثالثة كتحريمة مبتدأة، ولهذا لا تجب بالتحريمة الأولى إلا ركعتان في المشهور عن أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ولهذا قالوا: يستفتح في الثالثة أي يقول: سبحانك اللهم وبحمدك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مطلقا، ولا نسلم أنه يكون كقيام المقتدي لأن المقتدي قارئا حكما، لأن قراءة الإمام تنوب عن قراءته.
[حكم القراءة في صلاة النفل]
م: (والقراءة واجبة في جميع ركعات النفل وفي جميع ركعات الوتر، أما النفل فلأن كل شفع منه صلاة على حدة) ش: لأن تحريمة النفل لا توجب أكثر من ركعتين على ما يجيء الآن م: (والقيام إلى الثالثة) ش: يعني القيام إلى الركعة الثالثة كالنفل بأربع ركعات م: (كتحريمة مبتدأة) ش: يعني كتحريمة ابتداء وبالتحريمة ابتداء لا تجب أكثر من ركعتين.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون كل شفع من النفل صلاة على حدة م: (لا تجب بالتحريمة الأولى إلا ركعتان في المشهور عن أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: هذا إذا نوى أربع ركعات حتى يحتاج إلى التقييد بالمشهور، فأما إذا شرع في التطوع بمطلق النية لا يلزمه أكثر من ركعتين بالاتفاق في جميع الروايات كذا في " المحيط " واحترز بالمشهور عن قول أبي يوسف أولا فإنه قال يلزمه جميع ما نواه اعتبارا للشروع بالنذر، وفي رواية عنه يلزمه أربع ركعات ولا يلزمه أكثر من ذلك اعتبارا للنفل بالفرض.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون القيام إلى الثالثة بمنزلة تحريمة مبتدأة م: (قالوا) ش: أي قال علماؤنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (يستفتح في الثالثة) ش: أي يقرأ في رأس الركعة الثالثة م: (سبحانك اللهم وبحمدك) ش: كما في الابتداء.
فإن قلت: إذا كان كل شفع من النفل صلاة على حدة وترك القعدة الأولى من الشفع الأول كان ينبغي أن لا يجوز هذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف مع أنهما يجوزان ترك القعدة الأولى من الشفع الأول.
قلت: الفساد هو القياس كما ذهب إليه زفر، وروي عن محمد لأن كل شفع بمنزلة صلاة الفجر وصلاة الظهر للمسافر، ولو ترك القعدة فيهما فسدت الصلاة، وإن ضم إليهما شفعا آخر فكذا هذا، ولكن الاستحباب عدم الفساد ووجوب سجدة السهو عند السهو والتطوع كما شرع ركعتين شرع أربعا أيضا، فإذا ترك القعدة وقام إلى الشفع الثاني يمكن أن يجعل الكل صلاة واحدة، وفي الصلاة الواحدة من ذوات الأربع لا تفرض من القعدة إلا الأخيرة وهي قعدة الختم كما في الظهر بخلاف صلاة الفجر، لأن الفجر شرع ركعتين لا غير، وبضم الشفع الثاني لا يصير الكل صلاة واحدة.(2/529)
وأما الوتر فللاحتياط، قال: ومن شرع في النافلة ثم أفسدها قضاها، وقال الشافعي: لا قضاء عليه. لأنه متبرع فيه ولا لزوم على المتبرع، ولنا أن المؤدى وقع قربة فيلزم الإتمام ضرورة صيانة عن البطلان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: ينبغي على هذا أن يكون في حق القراءة كذلك حتى لا تجب القراءة في الأخريين كما في الفرض.
قلت: اعتبر في حق القراءة بمنزلة صلاتين لأن القراءة ركن مقصود في الصلاة شرعت لنفسها بخلاف القعدة، لأنها شرعت للفصل بين الشفعين، فلا يكون فرضا، وفي الفرض شرطت للتحليل فيكون فرضا.
فإن قلت: لو صار هذا القيام إلى الشفع الثاني بمنزلة صلاة واحدة كالظهر لما أمرنا بالعودة إلى القعدة عند القيام إلى الثالثة كما في الظهر بل يؤمر هاهنا. قلت: له شبهان شبه للظهر لسريان الفساد إلى الأول عنه بترك القعدة وشبه للفجر في وجوب القراءة في الشفع الثاني، والشبه بالفجر يعود إليها ما لم يقيد بالسجدة، وبشبه الظهر لا يؤمر بالعود إذا قيد الثالثة بالسجدة ولم تفسد توفيرا للشبهين.
م: (وأما الوتر فللاحتياط) ش: أي وأما وجوب القراءة في جميع ركعات الوتر فلأجل الاحتياط لأن الوتر سنة اعتقادا، كذا في " الجامع البرهاني " فتجب القراءة في الكل نظرا إليه، وبالنظر إلى مذهب أبي حنيفة لا تجب ولكن يجب للاحتياط وهو قول أبي بكر الصديق وابن عباس ومالك وآخرين.
م: (قال: ومن شرع في النافلة ثم أفسدها قضاها، وقال الشافعي لا قضاء عليه) ش: وبه قال أحمد، وكذا الخلاف في صوم التطوع والعلماء أوردوا هذه المسألة في كتاب الصوم، القراءة سقطت مطلقا، ولا نسلم أنه يكون كقيام المقتدي لأن المقتدي قارئ حكما، لأن قراءة الإمام تنوب عن قراءته.
لأن الأخبار التي يحتج بها من الجانبين إنما وردت في الصوم، لكن القدوري لما رأى أن حكم المسألة فيهما كان واحدا أوردها في كتاب الصلاة وتابعه المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنه متبرع فيه) ش: أي في فعله هذا م: (ولا لزوم على المتبرع) ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] (التوبة: الآية 91) ، فصار كالمظنون.
م: (ولنا أن المؤدى) ش: بفتح الدال م: (وقع قربة) ش: بدليل أنه لو مات بعد هذا القدر من المؤدى يصير مثابا م: (فيلزمه الإتمام ضرورة صيانة عن البطلان) ش: وإبطال العمل حرام بقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] (محمد: الآية 33) ، والاحتراز عن إبطال العمل فيما(2/530)
وإن صلى أربعا وقرأ في الأوليين وقعد ثم أفسد الأخريين قضى ركعتين؛ لأن الشفع الأول قد تم، والقيام إلى الثالثة بمنزلة تحريمة مبتدأة فيكون ملزما هذا إذا أفسد الأخريين بعد الشروع فيهما. ولو أفسد قبل الشروع في الشفع الثاني لا يقضي الأخريين. وعن أبي يوسف أنه يقضي اعتبارا للشروع بالنذر، ولهما أن الشروع يلزم ما شرع فيه، وما لا صحة له إلا به، وصحة الشفع الأول لا تتعلق بالثاني، بخلاف الركعة الثانية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا يحتمل الوجه بالتجزي لا يكون إلا بإتمام، ومن الدليل على أن الشروع ما يلزم كالنذر المشروع في الحج فإنه يلزم بالاتفاق، وقياسه على المظنون فاسد لأنه شرع مقطعا لا ملتزما، وكلامنا فيما إذا شرع ملتزما.
م: (وإن صلى أربعا) ش: أي إن شرع في الصلاة فأدى أربع ركعات، وإنما قيدنا هكذا لأنها لو كانت على حقيقتها لا يتصور إفساد الأخريين بعد تمامه م: (وقرأ في الأوليين وقعد) ش: قيد بالقعود، لأنه لو لم يقعد وأفسد الأخريين يجب عليه قضاء الأربع بالإجماع م: (ثم أفسد الأخريين قضى ركعتين) ش: يعني الشفع الثاني م: (لأن الشفع الأول قد تم) ش: بالقعود م: (والقيام إلى الثالثة) ش: أي إلى الركعة الثالثة م: (بمنزلة تحريمة مبتدأة) ش: أي بمنزلة تحريمة ابتداء م: (فيكون ملزوما فيقضي ركعتين) ش: كما إذا شرع في الركعتين ابتداء فأفسدهما قضى ركعتين فكذا هذا.
م: (هذا) ش: أي هذا الذي ذكرنا من قضاء الركعتين م: (إذا أفسد الأخريين بعد الشروع فيهما) ش: بأن قام إلى الأخريين فأفسدهما م: (ولو أفسد) ش: أي الأخريين م: (قبل الشروع في الشفع الثاني لا يقضي الأخريين) ش: عند أبي حنيفة ومحمد.
م: (وعن أبي يوسف أنه يقضي) ش: الأخريين م: (اعتبارا للشروع بالنذر) ش: وذلك لأن نية الأربع قارنت سبب الوجوب وهو الشروع فيلزم القضاء، كما إذا نذر، فإن نية الأربع قارنت سبب الوجوب وهو النذر.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد م: (أن الشروع يلزم) ش: من الإلزام م: (ما شرع فيه) ش: جملة في محل نصب مفعول قوله يلزم م: (وما لا صحة له إلا به) ش: أي الشروع يلزم أيضا ما لا صحة له أي للشروع إلا به، كالركعة الثانية حيث لا صحة للأولى بدونها، لأن البتيراء منهي عنها م: (وصحة الشفع الأول لا يتعلق بالثاني) ش: أي الشفع الثاني لا يتعلق ولا يتوقف عليه فلا يلزم من لزوم الشفع الأول بسبب الشروع فيه لزوم الشفع الثاني، فإذا لم يلزم لا يكون واجبا، فإذا لم يكن واجبا لا يجب قضاؤه، فظهر من هذا أن النية لم تقارن سبب الوجوب وهو الشروع، لأن الفرض أنه لم يشرع م: (بخلاف الركعة الثانية) ش: بخلاف النذر فإن نية الأربع قارنت سبب الوجوب فيلزم القضاء بالإفساد.(2/531)
وعلى هذا سنة الظهر، لأنها نافلة، وقيل: يقضي أربعا احتياطا، لأنها بمنزلة صلاة واحدة، وإن صلى أربعا ولم يقرأ فيهن شيئا أعاد ركعتين، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقضي أربعا وهذه المسألة على ثمانية أوجه. والأصل فيها أن عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ترك القراءة في الأوليين. أو في أحديهما يوجب بطلان التحريمة، لأنها تقعد للأفعال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومن الدليل على أن الشفع الثاني ينفك عن الشفع الأول في التطوع أن المرأة إذا دخلت على زوجها وهو في الشفع الأول فانتقل إلى الشفع الثاني ثم خرجت فطلقها يجب كمال المهر لصحة الخلوة، وتبطل الشفعة أيضا إذا أخبر في الشفع الأول فانتقل إلى الشفع الثاني. أما في الفريضة وسنة الظهر لا تصح الصلاة ولا تبطل الشفعة.
م: (وعلى هذا) ش: أي وعلى هذا الخلاف الذي في النفل المطلق م: (سنة الظهر) ش: يعني لو أفسد الأخريين من سنة الظهر فعند أبي يوسف يقضيهما سواء أفسدهما قبل الشروع فيهما أو بعد الشروع. وعندهما يقضي إذا أفسدهما بعد الشروع لا قبله، لكن يقضي ركعتين م: (لأنها نافلة) ش: أي لأن سنة الظهر نافلة في الأصل.
م: (وقيل يقضي أربعا احتياطا لأنها) ش: أي لأن سنة الظهر م: (بمنزلة صلاة واحدة) ش: بدليل أن الزوج إذا خير امرأته وهي في الشفع الأول من هذه الصلاة، أو خيرت بشفعة لها فأتمت أربعا لا تبطل خيارها، ولا شفعتها بخلاف سائر التطوعات.
م: (وإن صلى أربعا) ش: أي أربع ركعات تطوعا م: (ولم يقرأ فيهن شيئا) ش: أي والحال أنه لم يقرأ في هذه الأربع شيئا من القرآن م: (أعاد ركعتين) ش: لأنا ذكرنا أن بالشروع الأول لا يلزم الشفع الثاني، فإذا لم يلزم يعيد الركعتين هاهنا م: (وهذا) ش: أي الاقتصار على إعادة الركعتين فقط م: (عند أبي حنيفة ومحمد) ش: بناء على ما ذكرنا من أصلهما.
م: (وقال أبو يوسف: يقضي أربعا) ش: بناء على أصله المذكور م: (وهذه المسألة على ثمانية أوجه) ش: إنما انحصرت على الثمانية لأن القسمة العقلية، وهذه الأقسام في الحقيقة في أقسام ترك القراءة لا في القراءة؛ لأن الفساد إنما جاء من قبل الترك، ولهذا لم يأت فيما إذا قرأ في الكل مع أن القسمة العقلية تقتضيه، ثم يذكر الكل راعيا المتن في ذلك واتباعا له، لأن الشرح لا أعلمه إلا إذا ساق المتن وأتبعه بالشرح وإلا فالمتن في واد والشرح في واد، ولا ينتفع به الناظر إلا بعد مشقة كثيرة بعد استعداد كامل.
م: (والأصل فيها) ش: أي في هذه المسألة المثمنة م: (أن عند محمد ترك القراءة في الأوليين أو في أحديهما يوجب بطلان التحريمة) ش: أي في حق الشفع الثاني م: (لأنها) ش: أي لأن التحريمة م: (تقعد للأفعال) ش: يعني المقصود منها الأفعال، ولهذا لا تسقط الصلاة عن العاجز عن(2/532)
وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ترك القراءة في الشفع الأول لا يوجب بطلان التحريمة، وإنما يوجب فساد الأداء، لأن القراءة ركن زائد، ألا ترى أن للصلاة وجودا بدونها غير أنه لا صحة للأداء إلا بها وفساد الأداء لا يزيد على تركه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القراءة، وإن قدر على الأذكار والأفعال قد فسدت بترك القراءة بالإجماع ومع صفة الفساد للأفعال لا بقاء للتحريمة، وفي " مبسوط شيخ الإسلام " إذا أفسد الأداء بحيث لا يمكن إصلاحه تنقطع التحريمة كالبيع إذا هلك قبل القبض انفسخ العقد لأنه فات المعقود عليه بحيث لا يرجى وجوده، فكذلك هاهنا التحريمة شرعت للأداء، فإذا فسد فقد فات المعقود عليه بحيث لا يرجى وجوده، فتنقطع التحريمة، وفي " مبسوط شيخ الإسلام " لما فسدت الأفعال صارت بمنزلة أفعال ليست هي من الصلاة، ومن فعل في صلاته أفعالا ليست من الصلاة تبطل بها التحريمة كالتكلم والحديث العمد.
م: (وعند أبي يوسف ترك القراءة في الشفع الأول لا يوجب بطلان التحريمة) ش: لأنه يوجب فساد الأداء لا بطلانه [وفساد الأداء لا يزيد على تركه] وهو معنى قوله م: (وإنما يوجب فساد الأداء) ش: لا بطلانه، وفساد الأداء لا يزيد على ترك الأداء بعد التحريمة م: (لأن القراءة ركن زائد ألا ترى أن للصلاة وجودا بدونها) ش: أي بدون القراءة حقيقة كما في الأمي والمقتدين م: (غير أنه) ش: أي غير أن الشأن هو استثناء من قوله ركن زائد تقريره أن القراءة وإن كانت ركنا زائدا م: (ولكن لا صحة للأداء إلا بها) ش: أي بالقراءة لأنها تؤثر في إزالة صفة الصلاة وهي صحة الأداء، وإن كانت لا تؤثر في إزالة [صحة] أصل الصلاة حتى تصير باطلة.
م: (وفساد الأداء لا يزيد على تركه) ش: أي على ترك الأداء بمعنى أن الفساد ليس بأقوى حالا من الترك لما أن الفساد عبارة عن زوال الوصف دون الأصل، وزوال الأصل أقوى من زوال الوصف فترك الأداء إذا لم يوجب بطلان التحريمة ففساد الأداء أولى أن لا يوجب، وصورة ترك الأداء أن يحرم للصلاة، فقام طويلا ولم يأت بشيء من الأركان، ولو عدم الأداء أصلا بقيت التحريمة، وهذا لأن مبتدأ التحريمة صحيحة قبل مجيء أوان القراءة لأنها شرعت بتحريم أعمال الدنيا، ثم يؤدي الأفعال في تلك التحريمة.
فإن قلت: ما ذكرتم تأخير لا ترك فلا يكون مفيدا. قلت هذا ترك قبل اشتغاله بأداء، وإنما يعرف كونه تأخيرا إذا اشتغل بالأداء فقيل اشتغاله به يصح إطلاق اسم الترك عليه. قال السغناقي: كذا قاله العلامة شمس الدين الكردري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قال الأكمل: وفيه نظر لأن للخصم حينئذ أن يقول لا نسلم أن الفساد لا يزيد على مثل هذا الترك. قلت لم تفرق بينه وبين إذا أسلم أن الترك لا يبطل التحريمة كيف يسلم زيادة الفساد على الترك.
فإن قلت: ما الفرق بينه وبين الكلام والحديث العمد فإنهما يبطلان التحريمة دون الترك.(2/533)
فلا تبطل التحريمة، وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ترك القراءة في الأوليين يوجب بطلان التحريمة، وفي إحداهما لا يوجب، لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة، وفسادها بترك القراءة في ركعة واحدة مجتهد فيه فقضينا بالفساد في حق وجوب القضاء، وحكمنا ببقاء التحريمة في حق لزوم الشفع الثاني احتياطا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هما من محظورات التحريمة، وارتكاب المحظور يقطع التحريمة، لأنه يمنع انعقادها في الابتداء فيجوز أن يقطعها بعد الصحة، والفقه فيه أن التحريمة شرط الأداء، وبفساد الأداء لا يفسد الشرط كالوصف لا يفسد بفساد الصلاة.
م: (فلا تبطل التحريمة) ش: نتيجة ما قيل، وقد قررنا عدم بطلانها الآن: م (وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ترك القراءة في الأوليين يوجب بطلان التحريمة وفي إحداهما لا يوجب) ش: أي ترك القراءة في إحدى الأوليين لا يوجب بطلان التحريمة وهاهنا أمران، أحدهما ترك القراءة في الأوليين، والآخر تركها في إحداهما، وعلل الأول بقوله م: (لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة) ش: فكان ترك القراءة فيه إخلاء للصلاة عن القراءة، فتكون فاسدة يجب قضاؤها وبطل تحريمها. وعلل الثاني بقوله م: (وفسادها) ش: أي فساد الصلاة م: (بترك القراءة في ركعة واحدة مجتهد فيه) ش: فإن عند الحسن البصري لا تجب القراءة إلا في الركعة الأولى كما ذكرناه م: (فقضينا بالفساد في حق وجوب القضاء) ش: أي قضاء الشفع الأول كما في الفجر، م: (وحكمنا ببقاء التحريمة في حق لزوم الشفع الثاني احتياطا) ش: في كل واحد من الحكمين.
فالحاصل أن الأداء يفسد بالنظر إلى دليلنا، ويصح بالنظر إلى ما تمسك به الحسن فيعمل بهما فقلنا ببقاء التحريمة حتى يصح شروعه في الشفع الثاني، وبفساد الشفع الأول حتى يجب القضاء ليكون العمل على الوثيقة في باب العبادة.
وفي " مبسوط " شيخ الإسلام ما قال أبو حنيفة هذا حيث أوجب الفساد بفساد الأداء ولم يرفع التحريمة لأنه لم يوجد ما يقطع فعليه قضاء الأخريين بالإجماع لبقاء التحريمة وصحة الشروع في الشفع الثاني، وهذا إذا قعد بينهما، فإن لم يقعد قضى أربعا، لأن عندهما لم يصح الشروع في الثاني والأخريان لا يكونان قضاء عن الأوليين لأنه بناهما على تلك التحريمة والتحريمة الواحدة لا يتسع فيها الأداء والقضاء.
فإن قلت: فساد الصلاة بترك القراءة في الركعتين أيضا مجتهد فيه، لأن أبا بكر الأصم وابن علية وابن عيينة لا يقولون بفسادها.
قلت: ذلك خلاف لا اختلاف، لكونه مخالفا للدليل القاطع وهو قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] (المزمل: الآية 20) .(2/534)
إذا ثبت هذا نقول: إذا لم يقرأ في الكل قضى ركعتين عندهما، لأن التحريمة قد بطلت بترك القراءة في الشفع الأول عندهما فلم يصح الشروع في الشفع الثاني، وبقيت عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فصح الشروع في الشفع الثاني ثم إذا فسد الكل بترك القراءة فيه فعليه قضاء الأربع عنده، ولو قرأ في الأوليين لا غير فعليه قضاء الأخريين بالإجماع؛ لأن التحريمة لم تبطل فصح الشروع في الشفع الثاني، ثم فساده بترك القراءة لا يوجب فساد الشفع الأول، ولو قرأ في الأخريين لا غير فعليه قضاء الأوليين بالإجماع؛ لأن عندهما لم يصح الشروع في الشفع الثاني،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إذا ثبت هذا) ش: يعني الأصل المذكور م: (فنقول إذا لم يقرأ في الكل) ش: شرع في بيان تلك المسائل الثمانية فلذلك قال فنقول بالبقاء الأولى إذا لم يقرأ في الأربع كلها م: (قضى ركعتين عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد م: (لأن التحريمة قد بطلت بترك القراءة في الشفع الأول عندهما، فلم يصح الشروع في الثاني) ش: أي في الشفع الثاني ولما لم يصح الشروع في الثاني لا يكون صلاة عندهما، وعند أبي يوسف يصح، لأن التحريمة باقية وهو معنى قوله م: (وبقيت) ش: أي التحريمة م: (عند أبي يوسف فصح الشروع في الشفع الثاني ثم إذا فسد الكل بترك القراءة فيه) ش: أي في الكل م: (فعليه قضاء الأربع عنده) ش: أي عند أبي يوسف، وثمرة الاختلاف تظهر في الاقتداء به في الشفع الثاني هل يصح أم لا، وفي القهقهة هل تكون ناقضة للوضوء أم لا، فعندهما لا يصح الاقتداء ولا تنتقض الطهارة خلافا لأبي يوسف. وفي " المحيط " قيل: هذا عند أبي يوسف فيما إذا أفسدها بترك القراءة، أما لو أفسدها بالكلام والحديث العمد لا يلزمه إلا ركعتان، قال: هذا مذكور في " المنتقى "، وفي " المبسوط ": في رواية ابن سماعة عن أبي يوسف يلزمه الأربع بالكلام أيضا.
م: (ولو قرأ في الأوليين لا غير) ش: هذه المسألة الثانية وهي أن يقرأ في الركعتين الأوليين من الأربع م: (فعليه قضاء الأخريين بالإجماع لأن التحريمة لم تبطل فصح الشروع في الشفع الثاني ثم فساده) ش: أي فساد الشفع الثاني م: (بترك القراءة لا يوجب فساد الشفع الأول) ش: لأن كل شفع صلاة على حدة، ثم لو اقتدى به إنسان في الشفع الثاني وصلاه معه قضى الأوليين ذكره في " المحيط " لأنه التزم ما التزم الإمام كاقتداء المتطوع بمصلي الظهر في آخرها.
م: (ولو قرأ في الأخريين) ش: هي المسألة الثالثة وهي أن يقرأ في الركعتين الأخريين م: (لا غير فعليه قضاء الأوليين بالإجماع) ش: هذا مما اتحد فيه الجواب، واختلف التخريج أشار إليه بقوله م: (لأن عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد م: (لم يصح الشروع في الشفع الثاني) ش: فلا تكون صلاة في قولهما حتى لو اقتدى به إنسان في الشفع الثاني لا يصح اقتداؤه، ولو قهقه لا تنقض طهارته كذا ذكره قاضي خان في " الجامع الصغير "، وذكر في " المبسوط " والأخريان لا يكونان قضاء عن الأوليين.(2/535)
وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن صح فقد أداها،
ولو قرأ في الأوليين وإحدى الأخريين فعليه قضاء الأخريين بالإجماع، ولو قرأ في الأخريين وإحدى الأوليين فعليه قضاء الأوليين بالإجماع، ولو قرأ في إحدى الأوليين وإحدى الأخريين، وعلى قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - قضى الأربع، وكذا عند أبي حنيفة؛ لأن التحريمة باقية، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عليه قضاء الأوليين؛ لأن التحريمة قد ارتفعت عنده، وقد أنكر أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذه الرواية عنه، وقال رويت لك عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يلزمه قضاء ركعتين، ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يرجع عن روايته عنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعند أبي يوسف إن صح) ش: أي الشروع في الشفع الثاني م: (فقد أداها) ش: أي فقد أدى الأربع، وإن لم يصح فعليه قضاء الشفع الأول، وعلى كلا التقديرين لا خلاف في الجواب، وإنما الخلاف في التخريج.
م: (ولو قرأ في الأوليين) ش: هذه المسألة الرابعة وهي أن يقرأ في الركعتين الأوليين م: (وإحدى الأخريين) ش: أي وقرأ في إحدى الركعتين الأخريين م: (فعليه قضاء الأخريين بالإجماع) ش: يعني إذا قعد في الأوليين. م: (ولو قرأ في إحدى الأخريين) ش: هذه المسألة الخامسة وهي أن يقرأ في الركعتين الأخريين م: (وإحدى الأوليين) ش: أي قرأ في إحدى الركعتين الأوليين م: (فعليه قضاء الأوليين بالإجماع) ش: والأخريان صلاة عندهما خلافا لمحمد، ذكره في " المحيط ".
وفي " المبسوط " والتحريمة عندهما لم تحل فصار شارعا في الشفع الثاني وقد أتمه، وعليه قضاء ما أفسده وهو الشفع الأول. م: (ولو قرأ في إحدى الأوليين) ش: هذه المسألة السادسة، وهي أن يقرأ في إحدى الركعتين الأوليين، م: (وإحدى الأخريين) ش: أي وقرأ في إحدى الركعتين الأخريين م: (وعلى قول أبي يوسف قضى الأربع) ش: لبقاء التحريمة م: (وكذا عند أبي حنيفة) ش: أي كذا عنده يقضي الأربع، وإنما قال وكذا عند أبي حنيفة، ولم يقل على قول أبي يوسف وأبي حنيفة، لأنه أشار بذلك إلى أنه ليس قول أبي حنيفة باتفاق بينه وبين أبي يوسف، بل إنما قوله بناء على رواية محمد لأن عنده يقضي الركعتين على ما يجيء الآن، وإنما يقضي الأربع عند أبي حنيفة أيضا.
م: (لأن التحريمة باقية، وعند محمد عليه قضاء الأوليين، لأن التحريمة قد ارتفعت عنده) ش: وبه قال زفر لعدم صحة الشروع عندهما م: (وقد أنكر أبو يوسف عليه) ش: أي على محمد م: (هذه الرواية عنه) ش: أي عن أبي يوسف م: (وقال) ش: أي أبو يوسف م: (رويت لك عن أبي حنيفة أنه يلزمه قضاء ركعتين، ومحمد لم يرجع عن روايته عنه) ش: بأن قال لأبي يوسف بل رويت لي ما أقول وقلت أنت، وأصل هذه القضية ما ذكره فخر الإسلام البزدوي في أول شرح " الجامع الصغير " كان أبو يوسف يتوقع عن محمد أن يروي كتابا عنه فصنف محمد هذا الكتاب أي كتاب(2/536)
ولو قرأ في إحدى الأوليين لا غير قضى أربعا عندهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" الجامع الصغير " وأسنده عن أبي يوسف إلى أبي حنيفة، فلما عرض على أبي يوسف استحسنه وقال حفظ أبو عبد الله مسائل خطأه في روايتها عنه، فلما بلغ ذلك محمدا قال: بل حفظها ونسي وهي ست مسائل:
إحداها: هذه المسألة وهي رجل صلى التطوع أربعا وقرأ في إحدى الأوليين وإحدى الأخريين لا غير، روى محمد أنه يقضي أربعا، وقال أبو يوسف إنما رويت له ركعتين. وقال فخر الإسلام واعتمد مشايخنا رواية محمد، وقال أيضا يحتمل أن يكون ما حكى أبو يوسف من قول أبي حنيفة، قياسا، وما ذكر محمد استحسانا ذكر القياس والاستحسان في الأصل ولم يذكر في " الجامع الصغير ".
والمسألة الثانية: مستحاضة توضأت بعد طلوع الشمس تصلي حين يخرج وقت الظهر، وقال أبو يوسف إنما رويت لك حتى يدخل وقت الظهر.
والثالثة: المشتري من الغاصب إذا أعتق ثم أجاز المالك البيع بعد العتق، وقال أبو يوسف إنما رويت لك لأنه لا ينفذ.
والرابعة: المهاجرة لا عدة عليها وتنكح، إلا أن تكون حبلى فلا يجوز نكاحها وقال أبو يوسف إنما رويته أنها تنكح ولكن لا يقربها زوجها حتى يضع حملها.
والخامسة: عبد بين اثنين قتل مولاهما عمدا فعفى أحدهما بطل الدم كله، قال أبو يوسف ومحمد يدفع ربعه إلى شريكه أو يفديه بربع الدية، وقال أبو يوسف إنما حكيت له عن أبي حنيفة كما حكى عنهما، وإنما الاختلاف الذي رويته في عبد قتل مولاه عمدا وله اثنان فعفى أحدهما، إلا أن محمدا ذكر الاختلاف فيهما، وذكر قوله تفسد مع أبي يوسف في المسألة الأولى، ومع أبي حنيفة في المسألة الثانية.
والسادسة: رجل مات وترك ابنا وعبدا له لا غير، فادعى العبد أن الميت كان أعتقه في صحته، وادعى رجل على الميت بألف درهم وقيمة العبد ألف، فقال الابن صدقتهما يسعى العبد في قيمته وهو حر ويأخذه الغريم بدينه. وقال أبو يوسف إنما رويت له أنه عبد ما دام يسعى في قيمته.
قال في " المبسوط " وغيره: اعتماد المشايخ على رواية محمد، والمذهب أن الراوي إذا أنكر روايته لا يبقى حجة خلافا لمحمد والشافعي ذكره السرخسي والبزدوي في أصول الفقه.
م: (ولو قرأ في إحدى الأوليين لا غير قضى أربعا عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة وأبي يوسف هذه المسألة السابعة وهي أن يقرأ في أحد الركعتين الأوليين ولم يقرأ في الركعتين(2/537)
وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قضاء ركعتين،
ولو قرأ في إحدى الأخريين لا غير قضى أربعا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما ركعتين. قال: وتفسير قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يصلي بعد صلاة مثلها» يعني ركعتين بقراءة وركعتين بغير قراءة فيكون بيان فريضة القراءة في ركعات النفل كلها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأخريين يقضي عند أبي حنيفة وأبي يوسف أربع ركعات م: (وعند محمد قضاء ركعتين) ش: أي يقضي ركعتين.
م: (ولو قرأ في إحدى الأخريين لا غير) ش: هي المسألة الثامنة، وهي أن يقرأ في إحدى الركعتين الأخريين ولم يقرأ في غير ذلك شيئا م: (قضى أربعا عند أبي يوسف) ش: يعني عند أبي يوسف يقضي أربع ركعات لعدم بطلان التحريمة وصحة الشروع م: (وعندهما ركعتين) ش: أي يقضي عند أبي حنيفة ومحمد ركعتين لبطلان التحريمة وعدم صحة الشروع، وفي هذا الباب ستة عشر وجها، وهي قرأ في الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو في الأوليين أو فيهما والثالثة أو فيهما والرابعة أو في الكل أو في الأخريين أو فيهما والأولى أو فيهما والثانية أو لم يقرأ فيهن شيئا أو قرأ في الأوليين ولم يتشهد أو تشهد ولم يقم إلى الثالثة أو قام إليها ولم يقيدها بالسجدة أو قيدها بالسجدة، فروع: لو دخل مع الإمام في الأوليين وتكلم قبل أن يدخل الإمام في الركعتين الأخريين يلزمه ركعتان عند أبي حنيفة ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنه صار مقتديا به في الركعتين لا غير. ولو تكلم بعدما قام إمامه إلى الثالثة وقرأ في الأربع يقضي أربعا لأنه صار شارعا في الشفع الثاني مع الإمام، ولو اقتدى به في الشفع فرعف فذهب ليتوضأ فتكلم فصلى إمامه ستا يصلي هو أربعا لأنه لم يشرع معه في الشفع.
والثالث ذكره في " المحيط " ولا يجب بالتحريمة الأولى في النفل إلا ركعتان في ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف يلزمه جميع ما نوى، ولو نوى بأنه ركعة وهو رواية بشر بن أبي الأزهر النيسابوري اعتبارا بالنذر، وعنه أنه يلزمه أربع ركعات دون ما زاد عليها، رواه محمد ابن سماعة عنه وبشر بن الوليد، وفي رواية عنه يلزمه ثمان ركعات ذكره في الينابيع، وفي " مختصر البحر " لو ترك القراءة في إحدى ركعتي الفجر أو صلاة السفر فسدت ولا يمكنه إصلاحها، بخلاف ما لو سجد على النجاسة فأعادها على موضع طاهر حيث يصح.
م: (قال) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (وتفسير قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لا يصلي بعد صلاة مثلها» يعني ركعتين بقراءة وركعتين بغير قراءة فيكون بيان فرضية القراءة في ركعات النفل كلها) ش: الكلام هاهنا في مواضع:
الأول: في حل التركيب فنقول قوله قال يقضي المقول وأن يكون المقول جملة إلا إذا كان القول بمعنى الحكاية، وهاهنا القول محذوف تقديره قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير "(2/538)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تفسير قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لا يصلي بعد صلاة مثلها» كذا ولا يجوز أن يكون قوله وتفسيره قوله.. الخ مقول القول لوجود حرف العطف. قوله وتفسير قوله كلام إضافي مرفوع بالابتداء وخبره محذوف كما ذكرناه، وقوله يعني ركعتين.. إلخ بيان لما فسره محمد في " الجامع الصغير ".
الثاني: رفع هذا الخبر إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يثبت، وإنما هو موقوف على عمر وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " ثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم، قال: قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يصلي بعد صلاة مثلها، وحديث عبد الله بن إدريس عن حصين عن إبراهيم والشعبي قالا: قال عبد الله: لا يصلي على إثر صلاة مثلها. وفي " جامع الأسبيجابي " هذا التفسير يروى عن عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وفي " البزازية " عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مكان زيد، وفي " شرح الجامع الصغير ": قال الفقيه أبو الليث: هذا الخبر يروى عن عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم قالوا: لا يصلي بعد صلاة مثلها. وروى الطحاوي بإسناده في شرح الآثار عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يصلي بعد صلاة مثلها.
الثالث: أن المصنف أورد هذا بعد أن ذكر أن القراءة واجبة في جميع ركعات النفل وما ترتب على ذلك من المسائل الثمانية لبيان فرضية القراءة في جميع ركعات النفل يوضح ذلك أنه لما ورد هذا الخبر عاما وقد خص منه البعض لأنه يصلي سنة الفجر، ثم فرض الفجر وهما مثلان وكذا يصلي سنة الظهر أربعا ثم يصلي الظهر أربعا وهما مثلان، وكذا يصلي فرض الظهر ركعتين في السفر ثم يصلي السنة ركعتين، ولما لم يكن العمل بعمومه قال محمد المراد منه أن لا يصلي بعد أداء الظهر نافلة ركعتان بقراءة، وركعتان بغير قراءة يصلي، يعني لا يصلي النافلة كذلك حتى لا يكون مثلا للفرض، مثل يقرأ في جميع ركعات النفل فيكون الحديث بيانا بفرضية القراءة في جميع ركعات النفل.
فإن قلت: كيف بيان فرضية القراءة في جميع ركعات النفل والحال أنه غير مرفوع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولئن سلمنا رفعه وهو خبر الواحد فكيف يفسد الفرضية. قلت: أجاب الأترازي بقوله ما ثبت به الإتيان أن الأربع من النفل مجمل القراءة، وخبر الواحد يصلح أن يكون ثبتا لمجمل الكتاب، ثم الفرضية ثبتت بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] (المزمل: الآية 20) .
قلت: هو قال قبل هذا الكلام وعندي أنه ليس بثابت عن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بل هو كلام عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فالذي لم يثبت عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كيف يكون مبنيا بمجمل الكتاب، وقال الأكمل في الجواب: أجيب بأنه قال بيان الفرضية، ويجوز أن تكون الفرضية ثابتة(2/539)
ويصلي النافلة قاعدا مع القدرة على القيام، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بقوله تعالى {فَاقْرَءُوا} [المزمل: 20] ، والحديث بيان أنها فرض في التطوع ركعة فركعة. قلت هذا مثله وليس بشيء، لأن نص القرآن ظاهر مستغن عنه من البيان، وليس بمجمل إذ لو كان مجملا لقيل بفرضية الفاتحة وضم السورة، على أن يكون هذا حديثا لم يثبت كما ذكرنا. وفي " الجنازية ": تفسير الحديث على الوجه المنقول بأن كل شفع من النوافل محل فرض من القراءة باعتبار أنه صلاة على حدة فرضت فيه القراءة بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} [المزمل: 20] وهذا كما يقال: باعتبار المسح بالربع، ثبت بخبر المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وفرضيته ثبتت بقوله تعالى: {فَامْسَحُوا} [المائدة: 6] .
قلت: هذا أيضا من المشرب المذكور في كونه اعتمد على كون الحديث مرفوعا، وأيضا فإن قوله بيان أن كل القيام.. إلخ لا يحتاج إلى هذه المقالة، لأنه لما ثبت أن كل شفع من النوافل صلاة على حدة فبرهنت فيه القراءة بقوله تعالى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] (المزمل: الآية 20) لأن الأمر بالقراءة في مطلق الصلاة، فكانت في الركعة الأولى من الفرض بالأمور، وفي الثانية بدلالة النص، فكذلك في الشفع من النفل، لأنه صلاة والقراءة فرض في الصلاة، ولأجل ما ذكرنا من الأمور حمل بعضهم هذا الخبر على النهي عن إعادة الصلاة بسبب الوسوسة، ذكره في " الذخيرة "، وقيل كانوا يصلون الفريضة بعدها أخرى يطلبون بذلك زيادة الأجر، فنهي عن ذلك، وقال «لا يصلي بعد صلاة مثلها» وحمله الشافعي على المماثلة في العدد وليس بشيء، فإنه شرع بالإجماع في ركعتي الفجر مع الفجر ونحوه كذا ذكرنا.
وفي " جامع فخر الإسلام ": ولو حمل على تكرار الجماعة في مسجد له أهل أو على قضاء صلاة عند توهم الفساد يكون صحيحا. وفي الجنازية فإن ذلك مكروه لما فيه من تسليط الوسوسة على القلب، وقال بعضهم: هذا حكم ظهر بعد سبب وهو ما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليلة التعريس دعا بماء فأوتر ثم صلى الفجر بجماعة فقال له أصحابه أونقضي بها بين الركعتين في وقت الصلاة من اليوم الثاني؟ فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إن الله تعالى نهاكم عن الرياء فلا يأمركم به، لا يصلي بعد صلاة مثلها» معناه أن الفائنة إذا قضيت لا تقضى في اليوم الثاني في وقت تلك الصلاة من غير دليل، قلت فيه نظر لا يخفى.
[صلاة النافلة على الدابة وفي حال القعود]
م: (ويصلي النافلة قاعدا مع القدرة على القيام) ش: معناه يجوز له أن يصلي النافلة حال كونه قاعدا مع القدرة على الصلاة قائما م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» ش: هذا الحديث أخرجه البخاري والأربعة عن عمران بن حصين قال: «سألت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن صلاة الرجل قاعدا، فقال: من صلى قائما فهو أفضل ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد» وفي رواية مسلم: قال عليه(2/540)
ولأن الصلاة خير موضوع وربما يشق عليه القيام فيجوز له تركه كيلا ينقطع عنه،
واختلفوا في كيفية القعود، والمختار أن يقعد في حالة التشهد؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلام: «صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة» أي في حق الأجر. فإن قلت: هذا الحديث لم يتعرض للنفل ولا للفرض ولا لحالة العذر وغيرها فكيف وجه التمسك به قلت قال الشراح هنا ما حاصله إن الإجماع منعقد على أن صلاة القاعد بعذر مساوية لصلاة القائم في حق الأجر فلم يبق حينئذ إلا صلاة النفل قاعدا بدون العذر، لأن الفرض لم يجز قاعدا بلا عذر.
قلت: هذا غير مخلص على ما لا يخفى، لأنهم ما ذكروا شيئا يدل على ما قالوا، فأقول وبالله التوفيق: إن أبا بكر بن أبي شيبة روى في " سننه " عن المسيب بن رافع الكاهلي قال: صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم إلا من عذر، وروى أيضا عن «عبد الله بن شقيق قال سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لكان رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصلي قاعدا قالت بعدما حطته السن» هذا دليل على أن المراد من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» غير حال العذر. وقال الترمذي وقال سفيان الثوري هذا الحديث «من صلى جالسا فله نصف أجر القائم» قال: هذا للصحيح ومن ليس له عذر، وأما من كان له عذر من مرض أو غيره فصلى جالسا فله مثل أجر القائم، وقد روي في بعض الحديث مثل قول سفيان الثوري. فإن قلت: هذا الذي ذكرته [منها] لا يدل على المدعى.
قلت: روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كان يصلي بعد الوتر قاعدا» . وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كان يصلي ليلا طويلا قائما، وليلا طويلا قاعدا» ، الحديث رواه الجماعة إلا البخاري، فهذا يدل على أن النفل قاعدا من غير عذر يجوز، وأما الأحاديث المذكورة فتدل على أن الصلاة قاعدا في الفرض لا تجوز إلا عن عذر.
م: (ولأن الصلاة خير موضوع) ش: أي مشروع لك مرفوع عنك لكونها غير واجبة، وروى أحمد في " مسنده " والبزار في " سننه " من حديث عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الصلاة خير موضوع، فمن شاء أكثر، ومن شاء أقل» . ورواه ابن حبان في " صحيحه " والطبراني في " الأوسط " م: (وربما يشق عليه) ش: أي على المصلي م: (القيام فيجوز له تركه) ش: أي ترك القيام م: (كيلا ينقطع عنه) ش: أي عن فعل النافلة، وفي بعض النسخ كيلا ينقطع به أي بسبب القيام عن الخبر، لأن القيام ربما يفضي إلى ذلك.
م: (واختلفوا في كيفية القعود) ش: أي اختلف العلماء في كيفية القعود وحالة القراءة، قال المصنف م: (والمختار أن يقعد كما يقعد في حالة التشهد) ش: وهو الذي اختاره الفقيه أبو الليث السمرقندي وشمس الأئمة السرخسي وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي " الخلاصة ": عن أبي حنيفة ثلاث روايات: في رواية يجلس كما يجلس في التشهد، وفي رواية: يتربع، وفي رواية:(2/541)
لأنه عهد مشروعا في الصلاة وإن افتتحها قائما ثم قعد من غير عذر جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهذا استحسان، وعندهما لا يجوز به وهو قياس، لأن الشروع معتبر بالنذر له أنه لم يباشر القيام فيما بقي، ولما باشر صحت بدونه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يحتبي، وفي " شرح الطحاوي ": وفي قول زفر يجلس كما يجلس في التشهد وفي حال التشهد يجلس كما يجلس في التشهد بالإجماع. وفي " الذخيرة ": يقعد في التشهد كما يقعد في سائر الصلاة إجماعا، وعن أبي حنيفة في حالة القراءة روايتان إن شاء قعد كذلك، وإن شاء تربع وإن شاء احتبى وعن أبي يوسف أنه يحتبي، وعنه أنه يتربع إن شاء، وعن محمد أنه يتربع، وذكر خواهر زادة في باب الحدث أنه يخير بين التربع والاحتباء، وروي عن أبي حنيفة أنه يتربع في صلاة الليل من أول الصلاة إلى آخرها. وقال أبو يوسف إذا جاء وقت الركوع والسجود يقعد كما يقعد في تشهد المكتوبة.
وفي " مختصر الكرخي " عن أبي حنيفة يقعد كيف شاء وبه قال محمد وغيرهما من السلف. وروى الحسن أنه يتربع وإذا أراد الركوع يثني رجله اليسرى وافتراشها، وهو رواية عن أبي يوسف وعنه أنه يركع متربعا، وذكر شيخ الإسلام الأفضل له أن يقعد في موضع القيام محتبيا، لأن عامة صلاة رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في آخر عمره كان محتبيا، وفي " شرح الوجيز " الافتراش أفضل في قول، والتربع أفضل في قول، وقيل ينصب ركبته اليمنى ويفترش رجله اليسرى، وقيل: ينصب رجله اليمنى كالقارئ يجلس بين يدي المقرئ. وعند مالك يتربع، وعند أحمد يتربع في حال القيام ويثني رجليه في الركوع والسجود، وتفسير الاحتباء أن ينصب ركبتيه ويجمع يديه عند ساقيه وفي الصحاح: احتبى الرجل إذا جمع ظهره وساقيه بعمامته أو بيديه والمراد هاهنا جمعها بيديه.
م: (لأنه) ش: أي لأن قعود التشهد م: (عهد مشروعا في الصلاة) ش: فكان أولى من غيره م: (وإن افتتحها) ش: أي وإن افتتح النافلة حال كونه م: (قائما ثم قعد من غير عذر) ش: قيد به، لأنه إذا قعد بعذر جاز بالاتفاق وبغير عذر م: (جاز عند أبي حنيفة) ش: وبه قال مالك والشافعي م: (وهذا استحسان) ش: أي قول أبي حنيفة هو استحسان.
م: (وعندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد م: (لا يجوز به) ش: وبه قال بعض أصحاب الشافعي م: (وهو قياس) ش: أي قولهما هو القياس م: (لأن الشروع معتبر بالنذر) ش: هذا وجه القياس، لأن المشروع ملزم كالنذر، فإذا نذر أن يصلي قائما لا يجوز له أن يصلي قاعدا، فكذا إذا شرع قائما لا يجوز له أن يتم قاعدا.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة وهو وجه الاستحسان م: (أنه) ش: أي أن المفتتح قائما م: (لم يباشر القيام فيما بقي) ش: من الصلاة م: (ولما باشر صحت بدونه) ش: أي لما باشر من القيام في(2/542)
بخلاف النذر، لأنه التزمه نصا، حتى لو لم ينص على القيام لا يلزمه القيام عند بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأولى صحة بدون القيام في الثانية بدليل حالة العذر فلا يكون الشروع في الأولى قائما موجبا للقيام في الثانية م: (بخلاف النذر لأنه التزمه نصا) ش: أراد أن القياس على النذر غير صحيح، لأنه التزم القيام من حيث إنه نص عليه بتسليمة فيلزمه م: (حتى لو لم ينص على القيام) ش: في نذره م: (لا يلزمه القيام عند بعض المشايخ) ش: أراد به فخر الإسلام ومن وافقه، قال فخر الإسلام البزدوي في " شرح الجامع الصغير " وإذا نذر أن يصلي مطلقا لم يلزمه القيام، ثم قال: هذا هو الصحيح من الجواب. وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني: لا رواية فيما إذا نذر أن يصلي صلاة ولم يقل قائما أو قاعدا، أما إذا قاله يجب قائما أو قاعدا.
ثم اختلف المشايخ قال فخر الإسلام: لم يلزمه القيام لأنه في النفل وصف زائد فلا يلزم إلا بالشرط وقال بعضهم: يلزمه قائما؛ لأن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، وأسماء أوجبها الله تعالى قائما، وقال الأكمل وفي قوله حتى لو لم ينص.. إلخ نظر لأنه لا يستقيم في الاستدلال على قول أبي حنيفة أخذ قوله بعض من تأخر عنه بأزمنة كثيرة. قلت: ليس الأمر كذلك لأن قوله حتى لو لم ينص إلخ عنه بأزمنة نتيجة قول أبي حنيفة الذي يفهم منه، وكيف لا يستقيم الاستدلال فيها بقول متأخر بقول متقدم، ومع هذا لا رواية عنه فيما إذا نذر صلاة مطلقا هل يصلي قائما أو قاعدا كما ذكرنا، وقال الأكمل أيضا واعلم أن الدليل المذكور في الكتاب يفيد أنه لو قعد في الركعة الأولى بعد افتتاحها لا يجوز، لأن الشروع يلزم ما باشره وما باشره إلا قائما. وذكر في " الفوائد الظهيرية " ما يدل على جوازه حيث قال المتطوع في الابتداء. كانت له الخيرة بين الافتتاح قائما وبين الافتتاح قاعدا فكذلك في الانتهاء بالطريق الأولى، لأن حكم الاستدامة أخف.
قلت: هذا الذي قاله من كلام السغناقي، ثم قال الأكمل وفيه نظر، لأن كون البقاء أسهل من الابتداء من المسلمات لا نزاع فيه، لكن عارضه أصل آخر وهو أن الشروع فيما باشره يلزمه.
قلت: المتطوع مخير بين القيام والقعود، ولأن القيام صفة زائدة، والصلاة تجوز بدونه صفة القيام، فبالنظر إلى هذا الشروع فيما باشره غير ملزم والاستحقاق هذا الجزء الذي شرع فيه اسمية الصلاة إنما يكون بانضمام أجزاء أخر.
فروع: لو توكأ على عصا أو حائط بغير عذر لا يكره عنده، وعندهما يكره. ولو نذر صلاة وهو راكب فقد ذكر الكرخي أنه يجوز أداؤها راكبا، وفي الأصل: لو نذر أن يصلي فصلى راكبا لم يجزئه، ولم يفصل بينهما إذا كان الناذر راكبا على الدابة أو الأرض، وذكر ابن أبي شيبة عن السلف منهم الحسن البصري أنه قال: لا بأس من أن يصلي الرجل ركعة قائما وركعة قاعدا،(2/543)
ومن كان خارج المصر تنفل على دابته إلى أي جهة توجهت يومئ إيماء؛ لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رأيت رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على حمار وهو متوجه إلى خيبر يومئ إيماء»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكذا روي عن شعبة عن الحكم وحماد، ولم يذكر عن غيرهم خلاف وذهب بعض الناس إلى أنه إذا افتتحها قاعدا لا يتمها قائما، والصحيح جواز ذلك. ومن العلماء من كره أن يصلي الإنسان النافلة قاعدا من غير عذر. وفي " مبسوط بكر ": أطلق النذر قيل يلزمه نصف القيام وقيل: لصفة القعود، وقيل: يتخير، وعلى الثلاثة لا يجوز. وعن الكرخي لو نذر راكبا يجزئه.
ولو نذر أن يصلي بغير وضوء أو بغير قراءة فعند أبي يوسف يلزمه ويلغو ذكر الوصف وعند زفر لا يلزمه، وعند محمد لو سمى ما لا يجوز أداء الصلاة إلا معه كالصلاة من غير طهارة لا يلزمه وإلا يلزمه كالصلاة من غير قراءة. ولو شرع في الأوقات المكروهة وقطعها لزمه القضاء، فإن قضاها فيها أو في مثلها سقط القضاء.
م: (ومن كان خارج المصر تنفل على دابته إلى أي جهة توجهت دابته يومئ إيماء) ش: جملة حالية، أي يتنفل حال كونه مومئا، وفي المحيط من الناس من يقول إنما يجوز التطوع على الدابة إذا توجهت إلى القبلة عند افتتاحها ثم يترك التوجه والتحرف عن القبلة. أما لو افتتح الصلاة إلى غير القبلة لا يجوز لأنه لا ضرورة في حال الابتداء، وإنما الضرورة في حالة البقاء، وعند العامة يجوز كيفما كان، وصرح في الإيضاح بأن القائل به الشافعي وقال ابن بطال استحب ابن حنبل وأبو ثور أن يفتتحها متوجها إلى القبلة ثم لا يبالي حيث توجهت. وقال الشافعية القعود في الركوب على الدابة إن كانت سهلة يلزمه أن يدير رأسها عند الإحرام إلى القبلة في أصح الوجهين، وهو رواية ابن المبارك ذكرها في " جوامع الفقه "، وفي الوجه الثاني لا يلزمه، وفي القطار والدابة الصعبة لا يلزمه، وفي " العمادية " و " المجمل الواسعي " يلزمه التوجه للقبلة. وقيل في الدابة يلزمه في السلام أيضا، والأصح أن الماضي يتم ركوعه وسجوده ويستقبل فيهما وفي إحرامه ولا يمشي إلا في قيامه، ومذهبنا هو قول الجمهور وهو قول علي وابن الزبير وأبي ذر وأنس وابن عمر، وبه قال طاوس وعطاء والأوزاعي والثوري ومالك والليث.
م: (لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رأيت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصلي على حمار وهو متوجه إلى خيبر يومئ إيماء» ش: الحديث في هذا الباب روي عن ابن عمر وجابر وأنس وعامر بن ربيعة وأبي سعيد ولم يرو بلفظ الكتاب إلا عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه الدارقطني في " غرائب مالك " عن مالك عن الزهري عن أنس، قال: «رأيت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهو متوجه إلى خيبر على حمار يصلي يومئ إيماء» وسكت عنه.
أما حديث ابن عمر فأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن عمرو بن يحيى المازني عن سعيد بن يسار عن عبد الله بن عمر قال «رأيت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصلي على حمار وهو متوجه إلى(2/544)
ولأن النوافل غير مختصة بوقت، فلو ألزمناه النزول والاستقبال تنقطع عنه النافلة أو ينقطع هو عن القافلة،
أما الفرائض فمختصة بوقت،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خيبر» قال النسائي: عمر بن يحيى لا يتابع على قوله على حمار وإنما هو على راحلته، قيل وقد غلط الدارقطني وغيره عمرو بن يحيى في ذلك والمعروف على راحلته وعلى البعير، وقوله يومئ إيماء ليس في الحديث.
وأما حديث جابر فإن ابن حبان أخرجه في صحيحه عنه قال «رأيت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصلي النوافل على راحلته في كل وجه يومئ إيماء، ولكنه يخفض السجدتين من الركعتين» وأخرجه أبو داود والترمذي ولفظه: «بعثني النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق السجود أخفض من الركوع» وقال الترمذي: حسن صحيح وأخرجه البخاري عنه قال «كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصلي على راحلته حيث توجهت به، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة» .
وأما حديث عامر بن ربيعة فإن البخاري ومسلما أخرجاه عنه، قال: «رأيت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهو على الراحلة يسبح يومئ برأسه، قبل أي وجه توجه ولم يكن يصنع ذلك في المكتوبة» . وأما حديث أبي سعيد فأخرجه.
م: (ولأن النوافل غير مختصة بوقت فلو ألزمناه النزول) ش: عن الدابة م: (والاستقبال) ش: إلى القبلة م: (تنقطع عنه النافلة) ش: بالنون لأنه إذا لزم النزول لا يقدر أن يتطوع راكبا، والنافلة خبر موضوع مشروع على حسب [......] ففي إلزام النزول بعذر ضرر م: (أو ينقطع هو) ش: أي المتطوع م: (عن القافلة) ش: بالقاف على تقدير النزول وفيه ضرر لا يخفى.
م: (أما الفرائض فمختصة بوقت) ش: فلم يجز أن يؤديها راكبا لعدم لزوم الحرج في النزول.
وفي " خلاصة الفتاوى ": أما صلاة الفرض على الدابة لعذر فجائزة، ومن الأعذار المطر عن محمد إذا كان الرجل في السفر فأمطرت السماء لم يجد مكانا ما يشاء ينزل للصلاة فإنه يقف على الدابة مستقبل القبلة ويصلي بالإيماء إذا أمكنه إيقاف الدابة، فإن لم يمكنه يصلي مستدبر القبلة، وهذا إذا كان الطين بحال يصيب وجهه، فإن لم تكن هذه المثابة لكن الأرض ندية صلى هنالك ثم قال وهذا إذا كانت الدابة تسير بنفسها، أما إذا سيرها صاحبها فلا يجوز التطوع ولا الفرض. ومن الأعذار اللص والمرض، وأما في البادية فتجوز ذلك كذا ذكر صاحب " الخلاصة "، ومن الأعذار أن تكون الدابة جموحا، ولو نزل لا يمكنه الركوب ومن الأعذار كون المسافر شيخا كبيرا لا يجد من يركبه إذا نزل، وفيها الخوف من السبع. وفي المحيط تجوز الصلاة على الدابة في هذه الأحوال ولا تلزمه الإعادة بعد زوال العذر.(2/545)
والسنن الرواتب نوافل، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه ينزل لسنة الفجر، لأنها آكد من سائرها، والتقييد بخارج المصر ينفي اشتراط السفر، والجواز في المصر. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز في المصر أيضا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[حكم السنن الرواتب]
م: (والسنن الرواتب نوافل) ش: يعني حكم السنن الرواتب حكم النوافل في جواز الأداء على الدابة في أي جهة توجهت، من الدليل على كون السنن الرواتب نوافل أنها تؤدى بمطلق النية.
م: (وعن أبي حنيفة ينزل لسنة الفجر) ش: ولهذا لا يجوز فعلها قاعدا عند أبي حنيفة، وقد مر أنها واجبة عنده في رواية، وعن محمد بن شجاع يجوز أن يكون هذا لبيان الأولى يعني أن الأولى أن ينزل لركعتي الفجر، وعلل ذلك بقوله م: (لأنها) ش: أي لأن سنة الفجر م: (آكد من غيرها) ش: أي أقواها حتى يجوز للعالم أن يترك سائر السنن لتحصيل العلم دون سنة الفجر، وفي قول للشافعي وأحمد أنها آكد من الوتر م: (والتقييد بخارج المصر) ش: ينتفل على دابته م: (ينفي اشتراط السفر) ش: لأنه أعم من أن يكون سفرا وغير سفر، وفيه إشارة إلى ما روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أن جواز التطوع على الدابة للمسافر خاصة لأن الجواز بالإيماء للضرورة ولا ضرورة في الحضر، والصحيح أن المسافر وغيره سواء بعد أن يكون خارج المصر.
واختلفوا في مقدار البعد عن المصرِ، والمذكور في الأصل مقدار فرسخين أو ثلاثة، وقدر بعضهم بالميل، ومنع الجواز في أقل منه، وفي " فتاوى المرغيناني " والأصح أن في كل موضع يجوز للمسافر قصر صلاته فيه يجوز التطوع فيه على الدابة. وقيل: إن كان بينهما قدر ما يكون بين المصر ومصلى العبد يجوز، وأقل من ذلك لا يجوز، وعند الشافعي يجوز في طويل السفر وقصيره، وقال مالك: لا يصلي أحد على دابته في السفر ولا يقصر فيه الصلاة، ويرد عليه الآثار الواردة فيها من غير تحديد سفر ولا تخصيص مسافر، فصار كالمتيمم، وقال الطبري: لا أعلم من خالف ذلك إلا مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (والجواز في المصر) ش: بالنصب عطفا على قوله اشتراط التقييد أيضا بخارج المصر ينفي جواز التطوع على الدابة في المصر.
فإن قلت: التخصيص بالذكر لا يدل على النفي.
قلت: ذلك في النصوص دون الروايات، وذكر في المرويات عن أبي حنيفة لا يجوز التطوع على الدابة في المصر، وعند محمد: يجوز ويكره.
م: (وعن أبي يوسف أنه يجوز في المصر أيضا) ش: حكي أن أبا يوسف لما سمع هذا الجواب عن أبي حنيفة قال حدثني فلان ورفع الإسناد إلى «رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ركب الحمار في المدينة يعود سعد بن عبادة وكان يصلي» فلم يرفع أبو حنيفة رأسه قيل إنما لم يرفع رأسه إظهارا للرجوع(2/546)
ووجه الظاهر أن النص ورد خارج المصر والحاجة إلى الركوب فيه أغلب،
فإن افتتح التطوع راكبا ثم نزل يبني، وإن صلى ركعة نازلا ثم ركب استقبل؛ لأن إحرام الراكب انعقد مجوزا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن قوله إلى الحديث وإلا معنا أدلة، وقيل: هذا حديث شاذ. والشاذ فيما عم به البلوى لا يكون حجة وإنما لم يرفع أبو حنيفة رأسه لعدم مبالاته به وهو الأصح، لأن رفع الرأس عبارة عن المبالاة بالشيء يقال لم يرفع لحديثي رأسه، أي لم يصغ له ولم يتأمله ولم يقع موقع القبول عنده، فأبو يوسف أخذ بالحديث ومحمد " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " كذلك إلا أنه كره في الحضر، لأن اللفظ والأصوات تكثر فيه فيكثر الخطأ والغلط في القراءة وترتيب أفعال الصلاة فيؤدي ذلك إلى إبطال العمل وفساد العبارة ظاهر. قلت: ولأبي يوسف أن يحتج بما رواه أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى على حمار في أزقة المدينة يومئ إيماء» ذكره ابن بطال في شرح البخاري.
م: (ووجه ظاهر الرواية أن النص ورد خارج المصرِ، والحاجة إلى الركوب فيه) ش: أي في خارج المصر م: (أغلب) ش: حاصله أن الصلاة على الدابة بالإيماء مع القدرة على الركوع والسجود خلاف القياس فاقتصر جوازها على مورد النص وهو خارج المصر فبقي الحكم في المصر على أصل القياس.
م: (فإن افتتح التطوع راكبا ثم نزل يبني) ش: على افتتاحه ويكمل فإن قلت هذا بناء القوي على الضعيف فلا يجوز كالمريض يصلي بالإيماء ثم قدر على الأركان لا يجوز له البناء.
قلت: بينهما فرق، لأن الإيماء من المريض بدل من الأركان ومن الراكب لا لأن البدل في العادات ما يصار إليه عند العجز، والراكب لا يعجز عن الأركان بأن ينتصب على الركابين فيكون ذلك قياما منه، وإن كان يمكنه أن يخر راكعا وساجدا ومع هذا أطلقه الشارع في الإيماء فكان قويا في نفسه فلا يؤدي إلى بناء القوي على الضعيف كما في الضعيف.
فإن قلت: إذا كان الإيماء قويا لماذا يجوز البناء إذا تحرم بالإيماء ثم ركب.
قلت: أما إذا راكب فلأن الركوب عمل كثير وأنه قاطع للتحريمة، وأما إذا أركب فلأن الدليل يأبى جواز الصلاة راكبا، لأن سير الدابة يضاف إلى راكبها فيتحقق الأداء في أماكن مختلفة فحينئذ يتحقق الأداء في حالة المشي وذا لا يجوز، إلا أن الشرع جعل الأماكن المختلفة كمكان واحد للحاجة إلى قطع المسافة وصيانة نفسه وماله عن [....] التلف، فكان ابتداء التحريم نازلا دليل استغنائه عما ذكرنا فلا يجوز له البناء بعد ذلك.
م: (وإن صلى ركعة نازلا) ش: قول الركعة وقع اتفاقا، لأنه لو لم يصل ركعة فالحكم كذلك. وقوله نازلا حال ومعناه صلى ركعة وهو على الأرض م: (ركب استقبل) ش: صلاته م: (لأن إحرام الراكب انعقد مجوزا) ش: بكسر الواو ونصبا على الحال وهذا تعليل المسألة الأولى(2/547)
للركوع والسجود قدرته على النزول، فإذا أتى بهما صح، وإحرام النازل انعقد لوجوب الركوع والسجود فلا يقدر على ترك ما لزمه من غير عذر. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يستقبل إذا نزل أيضا، وكذلك عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا نزل بعدما صلى ركعة، والأصح هو الأول وهو الظاهر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (للركوع والسجود لقدرته على النزول فإذا أتى بهما) ش: أي بالركوع والسجود م: (صح) ش: لأن الراكب بالخيار إن شاء ترك وأتمها بالركوع والسجود وهذا تعليل المسألة الثانية م: (وإحرام النازل انعقد لوجوب الركوع والسجود، ولا يقدر على ترك ما لزمه) ش: بطريق الوجوب م: (من غير عذر) ش: وهذا الفرق الذي ذكره المصنف هو الصحيح.
وقيل في الفرق بأن النزول عمل قليل والركوب عمل كثير، ورد بأنه لو رفع ووضع على السرج لا يبني مع أن العمل لم يوجد فصلا عن العمل الكثير.
م: (وعن أبي يوسف أنه مستقبل إذا نزل أيضا) ش: لأن بناء القوي على الضعيف فصار كالمريض إذا قدر على الركوع والسجود في أثناء الصلاة م: (وكذا عند محمد " - رَحِمَهُ اللَّهُ - ") ش: أي كذا روي عن محمد " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " أنه يستقبل م: (إذا نزل بعدما صلى ركعة) ش: قيل لهذا لأنه لو لم يصل ركعة قائما ثم نزل أتمها نازلا، لكن هذا على أصل محمد غير مستقيم، لأن تحريمة الصلاة انعقدت للإيماء فلا يصح إتمامها بركوع وسجود لأنه يكون بناء القوي على الضعيف كذا نقل عن أبي بشر م: (والأول أصح وهو الظاهر) ش: أي ظاهر الرواية وهو أن الراكب المتطوع إذا نزل يبني والراكب إذا ركب يستقبل.
فروع: لو افتتح التطوع على الدابة خارج المصر ثم دخل مصرا قبل أن يفرغ منها ذكر في غير رواية الأصول أنه يتمها، واختلفوا في معناه، فقيل يتمها قاعدا على الدابة ما لم يبلغ منزله. وقيل يتمها بالنزول على الأرض ذكره المرغيناني، وفي " المبسوط " يصلي على الدابة، وإن كان سرجه قذرا. وكان محمد بن مقاتل الرازي وأبو جعفر [.....] يقولان لا يصح إذا كانت النجاسة في موضع جلوسه أو في موضع ركابته أكثر من قدر الدرهم كالأرض، وأكثر المشايخ على الجواز. وقالوا: الدابة أشد من ذلك يعني أن باطنها لا يخلو عن النجاسة ويقال لا اعتبار لنجاسته بدليل أن من حمل حيوانا طاهرا يصلي به يجوز مع نجاسة باطنه.
والجواب الصحيح: أن فيها ضرورة، وقد ترك الركوع والسجود مع إمكان النزول والأداء على الأرض للضرورة، والأركان أقوى من الشرائط، فإذ سقطت فشرط طهارة المكان أولى، وقيل: إن كانت النجاسة على الركابين فلا بأس بها، وإن كانت في موضع جلوسه منع الجواز.
حمل امرأة من القرية إلى المصر لها أن تصلي على الدابة في الطريق، وأما الصلاة على العجلة إن كان طرفها على الدابة وهي تسير أو لا تسير فهي صلاة على الدابة تجوز في حالة العذر(2/548)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في الفرض، وإن لم يكن يجوز بمنزلة السرير. رجلان في محل واحد فاقتدى أحدهما بالآخر في التطوع أجزأهما، وإن كان في شقين وأحدهما مربوط بالآخر فكذلك وإلا لا يجوز، وقيل يجوز كيفما كان إذا كانا على دابة واحدة. وفي المحيط لو صلى في شق محمل لا يجوز إلا أن يركن تحت محمله خشبة لأنه يكون قرار المحمل على الأرض لا على الدابة فيكون سجوده في المحمل كالسجود على الأرض والسرير، وحكي أن أبا يوسف أمر هارون الرشيد أن يفعل ذلك، ومثلها صلاة الجنازة والنقل الذي أفسده والمنذور والوتر عنده والسجدة التي تليت على الأرض.
وفي " جوامع الفقه ": لو حرك رجليه أو أحديهما متداركا أو ضربها بخشبة فسدت صلاته، بخلاف النجس إذا لم تسر، وفي الذخيرة إن كانت تساق بنفسها فليس له ذلك، وإن كانت لا تساق فرفع سوطه فضربها به ونجسها لا تفسد صلاته.(2/549)
فصل في قيام شهر رمضان ويستحب أن يجتمع الناس في شهر رمضان بعد العشاء، فيصلي بهم إمامهم خمس ترويحات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في قيام شهر رمضان] [حكم صلاة التراويح وكيفيتها]
م: (فصل في قيام شهر رمضان) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام قيام الناس في ليالي شهر رمضان، وإنما اختار هذه اللفظة أعني قيام شهر رمضان اتباعا لحديث أبي هريرة الذي أخرجه الجماعة عنه أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرغب الناس في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة، فيقول: " من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» .
قوله إيمانا أي تصديقا بأنه حق. وقوله احتسابا أن يفعله لله تعالى لا رياء ولا سمعة.
ووجه ذكره في باب النوافل ظاهر، والمناسبة بينه وبين الفصل الذي قبله من حيث إن وجوب القراءة في جميع ركعات التراويح لأنها نوافل، وفي " المبسوط " أجمعت الأمة على مشروعيتها ولم ينكرها أحد من أهل القبلة إلا الرافضة.
م: (ويستحب أن يجتمع الناس في شهر رمضان بعد العشاء) ش: اختلف العلماء في كونها سنة أو تطوعا مبتدأ، فقال الإمام حميد الدين الضرير - رَحِمَهُ اللَّهُ - نفس التراويح سنة، أما أداؤها بالجماعة فمستحب. وروى الحسن عن أبي حنيفة " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " أن التراويح سنة لا يجوز تركها، وقال الشهيد: هو الصحيح. وفي " جوامع الفقه " التراويح سنة مؤكدة، والجماعة فيها واجبة وكذا في المكتوباِت، قال وذكر في " الروضة " أن الجماعة فضيلة، وفي " الذخيرة ": عن أكثر المشايخ أن إقامتها بالجماعة سنة على الكفاية، ومن صلى في البيت فهو تارك فضيلة المسجد، وفي " المبسوط ": لو صلى إنسان في بيته لا يأثم، فعلها ابن عمر وسالم والقاسم وإبراهيم ونافع، فدل هذا على أن الجماعة في المسجد على الكفاية أي لا يظن بابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن معه ترك السنة وهذا هو الصواب، ونذكر عن قريب معنى قوله أن يجتمع الناس وقوله بعد العشاء.
م: (فيصلي بهم) ش: أي بالناس م: (إمامهم خمس ترويحات) ش: الترويحات جمع ترويحة وكذلك التراويح وهي في الأصل اسم للجلسة، وسميت بالتراويح لاستراحة الناس بعد أربع ركعات بالجلسة، ثم سميت كل أربع ركعات ترويحة مجازا لما في آخرها من الترويحة، ويقال الترويحة اسم لكل أربع ركعات فإنها في الأصل إيصال الراحة وهي الجلسة، ثم سميت الأربع ركعات التي في آخرها الترويحة كما أطلق اسم الركوع على الوظيفة التي تقرأ في القيام لأنه متصل بالركوع، وسئل العلامة عن الترويحة قبل الوتر بعد التراويح، قال ذلك بطريق المجاز إطلاقا لاسم الأغلب على الكل، وعن أبي سعيد سميت ترويحة لاستراحة القوم بعد كل(2/550)
في كل ترويحة بتسليمتين ويجلس بين كل ترويحتين مقدار ترويحة ثم يوتر بهم، وذكر لفظ الاستحباب والأصح أنها سنة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أربع ركعات، وفي المغرب روحت بالناس أي صليت بهم التراويح. وفي المجتبى سميت تراويح للترويح فيما بينهما، وقيل لإعقابه راحة الجنة.
م: (في كل ترويحة بتسليمتين) ش: فتصير الجملة عشرين ركعة وهو مذهبنا، وبه قال الشافعي وأحمد، نقله القاضي عن جمهور العلماء، وحكي أن الأسود بن يزيد كان يقوم بأربعين ركعة ويوتر بسبع، وعند مالك " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " تسع ترويحات بستة وثلاثين ركعة غير الوتر، واحتج على ذلك بعمل أهل المدينة، واحتج الأصحاب والشافعية والحنابلة بمذهبهم بما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد الصحابي قال كانوا يقومون على عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعشرين ركعة، وعلى عهد عثمان وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مثل. وفي " المغني " عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أمر رجلا أن يصلي بهم في رمضان بعشرين ركعة قال وهذا كالإجماع. فإن قلت: قال في الموطأ عن يزيد بن رومان قال كان الناس في زمان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقومون في رمضان بثلاث وعشرين ركعة.
قلت قال البيهقي والثلاث من الوتر ويزيد لم يدرك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيكون منقطعا، والجواب عما قاله مالك أن أهل مكة كانوا يطوفون بين كل ترويحتين ويصلون ركعتي الطواف ولا يطوفون بعد الترويحة الخامسة، فأراد أهل المدينة مساواتهم فجعلوا مكان كل طواف أربع ركعات فزادوا ستة عشر ركعة وما كان عليه أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحق وأولى أن يتبع، قيل من أراد أن يعمل بقول مالك ينبغي له أن يفعل كما قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يصلي عشرين ركعة بجماعة كما هو السنة ويصلي الباقي فرادى كأنه ليس من التراويح بل هو نفل مبتدأ والجماعة فيه مكروهة.
م: (ويجلس بين كل ترويحتين مقدار ترويحة) ش: ثم هو مخير، إن شاء سبح، وإن شاء هلل، وإن شاء صلى، وإن شاء سكت، أي فعل ذلك فهو حسن، كذا قاله قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولو صلى أربع ركعات كما هو فعل أهل المدينة أو طاف أسبوعا بينهما كما فعل أهل مكة فأهل كل بلدة بالخيار، ولو استراح الإمام بعد خمس ترويحات قيل لا بأس به، قال السرخسي وليس بشيء لمخالفة أهل الحرمين، وكذا بين الخامسة والوتر، وفي جوامع الفقه يكره للقوم أن يصلوا بين كل ترويحة ركعتين لأنها بدعة مع مخالفة الإمام م: (ثم يوتر بهم) ش: أي ثم يصلي الإمام بالجماعة الوتر، وسيجيء حكم الوتر بالجماعة.
م: (وذكر لفظ الاستحباب) ش: أي ذكر القدوري لفظة الاستحباب حيث قال يستحب أن يجتمع الناس في شهر رمضان بعد العشاء م: (والأصح أنها سنة) ش: أي الأصح في المذهب أن(2/551)
كذا روى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه واظب عليها الخلفاء الراشدون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التراويح سنة، وقد سقنا الكلام فيه عن قريب. قال الأكمل والأصح أنها سنة يعني في حق الرجال والنساء، وفيه نظر لأنه قال يستحب أن يجتمع الناس وهذا يدل على أن اجتماع الناس مستحب، وليس فيه دلالة على أن التراويح مستحبة وإلى هذا ذهب بعضهم، وقال التراويح سنة والاجتماع مستحب. قلت: القدوري لم يتعرض إلا إلى كون اجتماع الناس في شهر رمضان يستحب وسكت عن نفس كون التراويح مستحبة أو سنة، والمصنف لم يرد على القدوري فيما قال، وإنما قال والأصح أن التراويح في نفس الأمر سنة، ولا يلزم من كونها سنة كون الجماعة فيه سنة.
م: (كذا روى الحسن عن أبي حنيفة) ش: أي كما قلنا الأصح أن التراويح سنة روى الحسن عن أبي حنيفة كذا نصا وقد ذكرناه م: (لأنه) ش: أي لأن الشان م: (واظب عليها) ش: أي على التراويح م: (الخلفاء الراشدون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: الخلفاء الراشدون الذين أطلق النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عليهم باسم الخلافة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، روي عن سفينة مولى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن رسول الله قال: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم يكون ملكا» ، وفي رواية: «ثم يؤتي الله ملكه من يشاء» . رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي.
ولا شك أن الذين ولوا الخلافة بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هؤلاء الأربعة ومدتهم ثلاثون سنة مثلها أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولي هاهنا بحث وهو أن المصنف قال: إنه واظب عليها الخلفاء الراشدون. وقال الأكمل إنما يدل على سنتها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» .
قلت: أخذ هذا عن السغناقي فإنه قال هكذا، وكذا قال صاحب " الدراية " ولم يتيقن أحد منهم كلامه فيه حيث لم ينبئوا كما ينبغي، وهذا الحديث أعني قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عليكم بسنتي» . إلخ لا يدل على مواظبة الخلفاء الراشدين على التراويح.
فإن قلت حديث السائب بن يزيد المذكور عن قريب يدل على ذلك قلت: لا نسلم فإنه لا يدل على أنهم كانوا يصلون عشرين ركعة في عهد الخلفاء الثلاثة أعني عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وما يدل على مواظبتهم عليها.
غاية ما في الباب يدل على العدد، ولو احتج المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - على سنية التراويح لما روي عن عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إن الله عز وجل فرض صيام رمضان وسننت قيامه فمن صامه وقامه احتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» ، رواه أحمد والنسائي وابن ماجه لكان أوجه وأقوى.(2/552)
والنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بين العذر في تركه المواظبة، كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أقامها في بعض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بين العذر في تركه المواظبة كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أقامها في بعض الليالي ثم تركها، وبين العذر في تركه المواظبة وهو خشية أن تكتب علينا) ش: أي ترك المواظبة خشية أن يكون فرضا علينا، وقوله وهو مبتدأ وخشية مرفوع على الخبرية مضاف إلى قوله أن تكتب وأن مصدرية، وقال الأكمل: هذا الكلام على طريقة السؤال والجواب، فقال فإن قيل لو كانت سنة لمواظبة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولم يواظب، أجاب بأنه بين العذر في ترك المواظبة. قلت هذا الكلام غير سديد لأن كون الشيء سنة لا يستلزم مواظبة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذ لو واظب عليه لكان واجبا، وأما بيان عذره في ترك المواظبة فما رواه البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فلما أصبح قال: " قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني أخشى أن تفرض عليكم " وذلك في رمضان» وفي لفظ لهما «ولكن خشية أن يفرض عليكم صلاة الليل " وذلك في رمضان» وزاد البخاري في كتاب الصوم «فتوفي رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والأمر على ذلك» والعجب من الأترازي ذكر هذا الحديث وقال وهو ما روى صاحب السنن، والحال أنه ما رواه إلا البخاري ومسلم كما ذكرنا وهما صاحبا الصحاح.
وعن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: خرجت مع عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع يتفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل بصلاته الرهط، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هذه والتي تنامون عنها لأفضل من التي تقومون يعني آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله، رواه البخاري والقاري بتشديد الياء منسوب إلى القارة بن الديس اسم قبيلة.
م: (والسنة فيها) ش: أي في التراويح م: (الجماعة) ش: أي أن تصلى بالجماعة، قال أبو بكر الرازي: المشهور عن أصحابنا أن إقامتها في المساجد أفضل منها في البيت وعليه الاعتماد لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جمع الناس على إقامتها في جماعة، وذكر الطحاوي في اختلاف العلماء عن العلاء عن أبي يوسف إن أمكنه أداؤها في بيته مع مراعاته سنة القراءة وأشباهها فليصلها في بيته، وهكذا حكاه في " المبسوط " وقال وهو قول مالك والشافعي في القديم وربيعة ومثله في " جوامع الفقه " عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أن يكون فقيها عظيما يقتدى به فيكون في حضوره المسجد ترغيب الناس فلا يصلي في بيته، وقال عيسى بن أبان والقاضي بكار بن قتيبة البكراوي قاضي مصر والمزني وابن عبد الحكم وأحمد بن حنبل وأحمد بن أبي عمران شيخ الطحاوي قال الجماعة أحب وأفضل وهو المشهور عند عامة العلماء، وقال صاحب " المبسوط " وهو الأصح والأوفق، وادعى علي بن موسى القمي فيه الإجماع وله كتب يروي فيها عن أصحاب الشافعي(2/553)
لكن على وجه الكفاية، حتى لو امتنع أهل المسجد عن إقامتها كانوا مسيئين، ولو أقامها البعض فالمتخلف عن الجماعة تارك للفضيلة؛ لأن أفراد الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يروى عنهم التخلف. والمستحب في الجلوس بين الترويحتين مقدار الترويحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (لكن على وجه الكفاية) ش: يعني إذا قام بها البعض بالجماعة سقطت عن الباقين حضور الجماعة، لأن الجماعة فيها سنة على الكفاية م: (حتى لو امتنع أهل المسجد عن إقامتها كانوا مسيئين) ش: هذه نتيجة كون الجماعة في التراويح سنة، على الكفاية م: (ولو أقامها البعض فالمتخلف عن الجماعة تارك للفضيلة) ش: يعني لو أقام بعض أهل المسجد التراويح فالذي يتخلف عنهم لا يكون مسيئا بل يكون تاركا للفضيلة، لأن سنتها بالجماعة على الكفاية والفرض على الكفاية إذا قام به بعض سقط عن الباقي، ففي السنة على الكفاية بالطريق الأولى.
وعلل المصنف ذلك بقوله م: (لأن أفراد الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يروى عنهم التخلف) ش: أي عن الجماعة في صلاة التراويح، منهم عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رواه الطحاوي عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يصلي خلف الإمام في شهر رمضان، وروي أيضا عن مجاهد قال: قال رجل لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أصلي خلف الإمام في رمضان؟ قال أتقرأ القرآن؟
قال: نعم قال: صل في بيتك.
وأخرج ابن أبي شيبة أيضا في " مصنفه " عن ابن عمر أنه كان لا يقوم مع الناس في شهر رمضان قال وكان القاسم وسالم لا يقومان مع الناس. وروى البيهقي في " سننه " عن ابن عمر أنه قال له رجل أصلي خلف الإمام في رمضان؟ قال ابن عمر أليس تقرأ القرآن؟ قال: نعم، قال انتصب كأنك حمار، صل في بيتك. وروى الطحاوي عن الأشعث بن سليم قال: أتيت مكة وذاك في رمضان في زمان ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فكان الإمام يصلي بالناس في المسجد وقوم يصلون على حدة المسجد. وروي أيضا عن إبراهيم قال: لو لم يكن معي إلا سورة واحدة لكنت أرددها أحب إلي من أن أقوم خلف الإمام في رمضان، وروي أيضا عن عروة وسعيد بن جبير ونافع أنهم كانوا ينصرفون من العشاء في رمضان ولا يقومون مع الناس.
م: (والمستحب في الجلوس بين الترويحتين مقدار الترويحة) ش: إنما قال هذا مع قوله فيما مضى عن قريب، ويجلس بين كل ترويحتين مقدار ترويحة لبيان أن هذا الجلوس مستحب لأنه شرح كلام القدوري وقال الأكمل: كان من حقه أن يقول والمستحب في الانتظار بين الترويحتين؛ لأنه استدل بعادة أهل الحرمين على ذلك، وأهل الحرمين لا يلتزمون بذلك، فإن أهل مكة يطوفون بين كل ترويحتين أسبوعا وأهل المدينة يصلون بدل ذلك أربع ركعات. قلت: هذا بقية كلام السغناقي وليس مراد المصنف حقيقة الجلوس، وإنما المراد التخيير بين السكوت(2/554)
وكذا بين الخامسة والوتر لعادة أهل الحرمين،
واستحب البعض الاستراحة على خمس تسليمات وليس بصحيح. وقوله: ثم يوتر بهم يشير إلى أن وقتها بعد العشاء قبل الوتر، وبه قال عامة المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، والأصح أن وقتها بعد العشاء إلى آخر الليل قبل الوتر وبعده، لأنها نوافل سنت بعد العشاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والتهليل والتسبيح والصلاة نافلة كما ذكرناه عن قريب.
م: (وكذا بين الخامسة والوتر) ش: أي وكذا المستحب في الجلوس مقدار الترويحة بين الترويحة الخامسة وصلاة الوتر م: (لعادة أهل الحرمين) ش: أهل حرم مكة بالطواف، وأهل حرم المدينة بأربع ركعات تطوعا.
م: (واستحب البعض الاستراحة على خمس تسليمات) ش: وهو نصف التراويح، وقال السرخسي ولو استراح الإمام بعد خمس ترويحات قيل لا بأس به، قال وليس بشيء لمخالفة أهل الحرمين، وكذا بين الخامسة والوتر م: (وليس بصحيح) ش: أي الذي استحسنه البعض ليس بصحيح، وذكر في " فتاوى الأسبيجابي " الاستراحة على خمس ترويحات يكره.
م: (وقوله) ش: أي وقول القدوري م: (ثم يوتر بهم يشير إلى أن وقتها بعد العشاء قبل الوتر) ش: أي يشير إلى أن وقت التراويح بعد صلاة العشاء قبل صلاة الوتر م: (وبه) ش: أي ويكون وقتها بعد العشاء قبل الوتر م: (قال عامة المشايخ) ش: أراد بهم عامة مشايخ بخارى، وفي " الخلاصة " قال إسماعيل الزاهد وجماعة من أئمة بخارى: إن الليل كلها وقت قبل العشاء وبعدها، ثم قال: وقال عامة مشايخ بخارى: وقتها ما بين العشاء والوتر ثم قال وهو الصحيح م: (والأصح أن وقتها بعد العشاء إلى آخر الليل قبل الوتر وبعده لأنها نوافل سنت بعد العشاء) ش: أي لأن التراويح سنت بعد صلاة العشاء إلى آخر الليل، فأشبهت التطوع المسنون بعد العشاء في غير شهر رمضان. وقال الأترازي: والأصح عندي ما قاله عامة مشايخ بخارى، لأن الحديث ورد كذلك، وكان أبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يصلي بهم التراويح كذلك.
قلت: استدل على ما اختاره يبين ولم يبين أحد منهما فقوله لأن الحديث ورد كذلك إن أراد به حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس» - الحديث الذي ذكرناه عن قريب، وهو أيضا ذكره عند قول المصنف والنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بين العذر في ترك المواظبة فهو لا يدل على ما ادعاه من الصحة، وإن أراد به الحديث الذي فيه جمع عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الناس على أبي بن كعب.. إلخ، وقد ذكرناه، وهو أيضا قد ذكره فهو أيضا لا يدل على ما ذكره النخغي.
وقوله: وكان أبي يصلي بهم التراويح كذلك أي كما ذكره عامة مشايخ بخارى فهو أيضا لا يدل على ما ادعاه من الأصحية، بل الأصح ما قاله المصنف لأنه صلاة الليل، فيجوز إلى(2/555)
ولم يذكر قدر القراءة
فيها. وأكثر المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - على أن السنة فيها الختم مرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
طلوع الفجر سواء كانت قبل الوتر أو بعده، وفي " المبسوط " المستحب فعلها إلى نصف الليل أو ثلثه كما في العشاء. وفي المحيط لا يجوز قبل العشاء ويجوز بعد الوتر ولم يحك فيه خلافا.
م: (ولم يذكر قدر القراءة) ش: لم يذكر على صيغة المعلوم، أي لم يذكر محمد بن الحسن قدر القراءة في التراويح، ويجوز أن يقال ولم يذكر القدوري وهو الأقرب.. قال الأكمل: وقوله ولم يذكر قدر القراءة ظاهر. قلت الظهور من أين؟ فإذا احتمل أن يكون الفاعل في الفعل أحد النهي كيف يقال إنه ظاهر.
م: (وأكثر المشايخ على أن السنة فيها الختم مرة) ش: اختلف المشايخ في قدر القراءة في التراويح، فقيل يقرأ مقدار ما يقرأ في المغرب تخفيفا للتخفيف. قال شمس الأئمة هذا غير مستحسن، وقال الشهيد هذا غير سديد لما فيه من ترك الختم وهو سنة فيها. وقيل يقرأ من عشرين آية إلى ثلاثين على ما رواه البيهقي بإسناده عن أبي عثمان النهدي قال: وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثلاث من القراء استقرأهم فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ للناس بثلاثين آية في كل ركعة، وأوسطهم بخمس وعشرين آية، وأبطأهم بعشرين آية.
وعن عروة بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جمع الناس على قيام شهر رمضان الرجال على أبي بن كعب والنساء على سليمان بن أبي حثمة، وفي " الذخيرة ": إذا ختم على العشرين مثلا فله أن يقرأ في بقية الشهر ما شاء الله. قال القاضي أبو علي النسفي: إذا ختم وصلى العشاء في بقية الشهر من غير تراويح جاز من غير كراهة، لأنها شرعت لأجل ختم القرآن مرة، وهذا إن من لم يكن قاربه من النساء يصلي ستا وثمانيا وعشرا، وفي " التجنيس " ثم بعضهم اعتادوا قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] في كل ركعة، وبعضهم اختاروا قراءة سورة الفيل إلى آخر القرآن وهذا أحسن، لأنه لا يشتبه عليه عدد الركعات ولا يشغل قلبه بحفظها فيستفرغ للتدبر والتفكر.
وفي " المجتبى ": أما القراءة فقيل ثلاثين آية في كل ركعة وقيل عشرين وقيل عشر آيات للختم مرة وقيل كما في المغرب، وقيل ثلاث آيات قصار أو آية طويلة، أو آيتان متوسطتان وعن أبي ذر آيتان، وفي " الدراية ": والمتأخرون في زماننا يفتون بثلاث آيات قصار وآية طويلة حتى لا يمل القوم ولا يلزم تعطيلها وهذا أحسن، قال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن قرأ في المكتوبة بعد الفاتحة ثلاث آيات فقد أحسن ولم يسئ هذا في المكتوبة فما ظنك في غيرها. وفي " المحيط ": الأفضل في زماننا أن يقرأ مقدار ما لا يؤدي إلى تنفير القوم لكسلهم.
قلت: المصنف قال بخلاف هذا على ما يجيء، وروى الحسن عن أبي حنيفة أن الإمام يقرأ في كل ركعة عشر آيات يحصل الختم فيها أو نحوها، لأن السنة في التراويح يختم مرة، وعدد(2/556)
فلا يترك لكسل القوم بخلاف ما بعد التشهد من الدعوات، حيث يتركها؛ لأنها ليست بسنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ركعات التراويح في جميع الشهر ستمائة، وعدد آي القرآن ستة آلاف وشيء، فإذا قرأ في كل ركعة عشر آيات يحصل الختم فيها، وإليه أشار المصنف بقوله وأكثر المشايخ.. إلخ وقال السرخسي: هذا هو الأحسن.
فإن قلت: ما المراد في قول المصنف على أن السنة في الختم؟
قلت: قال في " الدراية ": أي سنة الخلفاء الراشدين. قلت: أثر عن الخلفاء الراشدين وأولهم أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكانت التراويح تركت في أيام أبي بكر وفي أيام عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والدليل عليه ما ذكرناه من حديث عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب إلى آخره في رمضان.. الحديث، فهذا يدل على أنها تركت في رمضان بدليل أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جمع الناس على أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فدل على أن المراد من قول المصنف أن السنة هي سنة عمر بن الخطاب ومن بعده من الخلفاء الراشدين وهذا ورد أيضا على من قال من أصحابنا أن التراويح سنة العمرين وأرادوا به أبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وليس كذلك.
م: (فلا يترك لكسل القوم) ش: أي لا يترك الختم مرة لأجل كسل القوم، وفي " النهاية " و " العصير " في الختم مرتين، وأهل الاجتهاد كانوا يختمون في كل عشر ليال، وعن أبي حسين أنه كان يختم في شهر رمضان إحدى وستين ثلاثين في الليالي وثلاثين في الأيام وواحدة في التراويح كذا في فتاوى قاضي خان.
م: (بخلاف ما بعد التشهد من الدعوات حيث يتركها لأنها ليست بسنة) ش: قال السغناقي: يعني إذا علم أن قراءة الدعوات تثقل على القوم، ولكن ينبغي أن يأتي بالصلاة، لأنها فرض عند الشافعي فيحتاط في الإتيان بها كذا في " الخلاصة ". قلت: فيما قاله المصنف نظر، لأنه يقول لا يترك الختم مرة لأجل كسل القوم، ثم يقول بخلاف الدعوات بعد التشهد يعني يترك لأجل كسل القوم فكيف لا يترك ما هو مستحب أو سنة صحابي لأجل الكسل ويترك ما هو سنة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فإنه روي الدعوات المأثورة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بعد التشهد، وكيف يقول إنها ليست بسنة، وقد روى أحمد في " مسنده " من حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه التشهد، وفي آخره: وإن كان في آخرها أي في آخر صلاة دعا بعد تشهده بما شاء الله أن يدعو ثم يسلم» .
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إذا فرغ أحدكم من(2/557)
ولا يصلي الوتر بجماعة في غير شهر رمضان بإجماع المسلمين، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع، من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال» ، انتهى فهذه السنة الثابتة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذا تركت لأجل كسل القوم لا يترك ما هو غير سنة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
[صلاة الوتر جماعة في غير رمضان]
م: (ولا يصلي الوتر بجماعة في غير شهر رمضان) ش: لأنه نفل من وجه وجبت القراءة في ركعاته كلها، وتؤدى بغير أذان وإقامة، وصلاة النفل بالجماعة مكروهة ما خلا قيام رمضان وصلاة الكسوف لأنه لم يفعلها الصحابة، ولو فعلوا لاشتهرت، كذا ذكره الولوالجي.
وفي " الخلاصة ": قال القدوري: إنه لا يكره، وقال النسفي: اختار علماؤنا الوتر في المنزل في رمضان، لأن الصحابة لم يجتمعوا على الوتر بجماعة في رمضان كما اجتمعوا في التراويح فيها، فعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يؤمهم في الوتر في رمضان، وأبي لا يؤمهم فيها في رمضان كذا في " المحيط " م: (بإجماع المسلمين) ش: أي على ترك الوتر بجماعة في غير رمضان بإجماع المسلمين قال تاج الشريعة لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لم يجتمعوا على الوتر بغير جماعة كما اجتمعوا على التراويح، وقال الأترازي: ولهذا لم يصل الوتر أحد بجماعة في سائر الأمصار من لدن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قلت: ذكر في الحواشي أنه يجوز عند بعض المشايخ.
فروع: كيفية النية في التراويح، أن ينوي التراويح أو السنة أو سنة الوقت أو قيام الليل. وقال الشهيد: أو قيام الليل في الشهر، ويقال: أو ينوي قيام رمضان. وفي " المبسوط " نية مطلق الصلاة لا تجزئ عنها، وفي " فتاوى الشهيد " لو نوى صلاة مطلقة أو تطوعا فحسن، اختلف المشايخ فيه ذكر بعض المتقدمين أنه لا يجوز، وذكر أكثر المتأخرين أن التراويح وسائر السنن تتأدى بمطلق النية لأنها نافلة، ولكن الاحتياط أن ينوي التراويح أو سنة الوقت أو قيام الليل في شهر رمضان وفي سائر السنن ينوي السنة أو الصلاة متابعا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولو صلاها قاعدا من غير عذر قيل لا ينوب عن التراويح كركعتي الفجر، قال السرخسي وعليه الاعتماد، والصحيح الجواز، واتفقوا أنه لا يستحب لمخالفة السلف، وقال الحسام الشهيد: الكلام فيه في موضعين في الجواز والاستحباب منهم من قال يجوز عندهما ولا يجوز عند محمد اعتبارا بالفرض، وقيل يجوز عندهم جميعا وهذا هو الصحيح، وأما الكلام في الاستحباب فعندهما مستحب أن يقوم القوم إلا لعذر، إذ القيام أفضل. وعند محمد المستحب أن يقوموا أيضا، وذكر أبو سليمان عن محمد لو أن رجلا أم قوما جالسا في رمضان قال يقومون عند أبي حنيفة وأبي يوسف قيل: إنما خص قولهما لأنه لا يجوز عنده وقيل: إنما خص لأنه لا يستحب عنده وهو الصحيح.
وإن صلاها قاعدا بغير عذر فالكلام في موضعين أيضا للجواز والاستحباب. أما الجواز(2/558)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فقد قيل لا يجوز، وقيل يجوز وهو الصحيح. وأما الاستحباب فالصحيح أنه لا يستحب، وفي " جوامع الفقه " صلى الإمام قاعدا بغير عذر يستحب للقوم القيام عندهما والقعود عنده، وإن زاد على ركعتين بتسليمة واحدة إن قعد على رأس الركعتين الأصح الجواز عن التسليمتين، وفي " الذخيرة " وقال بعض المتقدمين لا يجزئه إلا عن تسليمة واحدة، وإن صلى ستا أو ثمانيا أو عشرا وقعد على كل شفع قال المتقدمون يقع على العدد المستحب وهو الأربع عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وعلى قول أبي حنيفة يقع على العدد الجائز وهو ست وثمان على ما عرف عنده والعشر عن التسليمات الخمس في رواية شاذة عنه، وفي رواية الجامع أربع ركعات بتسليمة واحدة، وفي " الذخيرة " لا يجزئه إلا عن ركعتين في قول بعض المتقدمين. وقال بعضهم حتى صلى عددا بتسليمة واحدة وهو مستحب في صلاة الليل فكلا الركعتين يجزئ عن تسليمة، فإن كان بعضها غير مستحب إنما يجزئ عن المستحب، وما كان في استحبابه اختلاف فكان في هذا أيضا اختلاف.
ولو لم يقعد على رأس الشفع الأول القياس أنه لا يجوز وبه أخذ محمد وزفر ورواية عن أبي حنيفة، وفي " الاستحسان ": يجوز وهو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وهو قول أبي يوسف، وإذا جاز هل يجوز عن تسليمة واحدة أم تسليمتين الأصح جوازه عن تسليمة واحدة، وهو اختيار أبي بكر محمد بن الفضل والفقيه أبي جعفر وأبي علي النسفي والصدر الشهيد، وقيل: عند أبي حنيفة عن تسليمتين، وعند أبي يوسف عن تسليمة واحدة ذكره في " الذخيرة ". وقال النووي: لو صلى أربعا لم يصح، قال ذكره حسين في " فتاويه ".
ولو صلى ثلاثا بقعدة واحدة لم يجز عند محمد وزفر، واختلفوا على قولهما قيل لا يجزئه لأنه لا أصل لها في النوافل، وقيل يجزئه عن تسليمة واحدة كالمغرب، ثم على قول من يقول لا يجزئه عن تسليمة واحدة لا شك أنه يلزمه قضاء الشفع الأول، وهل يلزمه قضاء الشفع الثاني، عند أبي حنيفة لا يلزمه سواء شرع في الشفع الثاني عامدا أو ساهيا، وعند أبي يوسف ينظر إن شرع عامدا يجب، وإن شرع ساهيا لا يجب بالاتفاق بين أبي حنيفة وأبي يوسف لأن الشفع الأول لو صح شروعه في الشفع الثاني صح إكماله، حتى لو صلى التراويح عن تسليمات في كل تسليمة ثلاث ركعات بقعدة واحدة جاز وتسقط عنه التراويح، وعند محمد وزفر لا تسقط.
ولو صلى الكل بتسليمة واحدة وقعدة عند كل ركعتين الأصح أنه يجزئه عن الترويحات أجمع. قال السغناقي: وهو المختار، وإن لم يقعد اختلفت فيه الأقوال على قول أبي حنيفة وأبي يوسف والأصح أنه يجزئه عن تسليمة واحدة. وفي " الذخيرة " إذا صلاها ثلاثا ولم يقعد في الثانية فصلاته باطلة في القياس وهو قول محمد وزفر ورواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف وعليه(2/559)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قضاء ركعتين. وفي " الاستحسان ": هو قولهما اختلف المشايخ، فقد قيل: يجوز عن تسليمة وقيل: لا يجوز أصلا وكذا الخلاف في غير التراويح إذا انتفل بثلاث ولم يقعد في الثانية إذا شرع في شفع من التراويح ثم أفسده ثم قضاه فلا شيء عليه.
وإذا وقع الشك في أن الإمام هل صلى عشرا أو صلى تسعا فالصحيح من المذهب أن يصلوا ركعتين فرادى فرادى فتصير عشرا بيقين ولا يؤديها جماعة بفصل بعض التسليمتين عن البعض جاز من غير كراهة والأفضل التسوية.
وأما تطويل الثانية على الأولى في الركعتين إن كان بآية طويلة أو آيتين لا يكره، وإذا زاد كره، ولو قرأ في الثانية سورة آياتها أكثر مما قرأ في الأولى ويزيد على ثلاث آيات إن كان آياتها قصارا وآيات مما قرأ في الأولى طوالا ويحصل القرب بينهما في الكلمات والحروف فلا بأس به.
ولو اقتدى بمن يصلي مكتوبة أو وترا أو نافلة غير التراويح قال في " المحيط " قيل يجوز والأصح أنه لا يجوز، كذا في " الذخيرة "، وعلى هذا إذا بناها على السنة بعد العشاء فالصحيح أنها لا تصح إذا فاتته ترويحة أو ترويحتان، وقام الإمام إلى الوتر هل يأتي بالترويحات الفائتة أو يتابع إمامه في الوتر، ذكر في " الواقعات " الناطفي عن أبي عبد الله الزعفراني أنه يوتر معه ثم يقضي ما فاته من الترويحات، وذكر في " مختصر البحر " عن الكرابيسي إذا لم يصل الفرض معه لا يتبعه في التراويح ولا في الوتر، وكذا إذا لم يتبعه في التراويح لا يتبعه في الوتر مع الإمام، ولو ترك الجماعة في الفرض؛ فليس له أن يصلي التراويح في جماعة لأنها تبع للجماعة، ولو لم يصل التراويح مع الجماعة فله أن يصلي الوتر معه إذا صلى الترويحة الواحدة إمامان كل واحد بتسليمة قيل لا بأس به، والصحيح أنه لا يستحب ذلك، ولكن كل ترويحة يؤديها إمام واحد ولا بأس بالتراويح في مسجدين لكن يوتر في الثاني، واختلفوا في الإمام والصحيح أنه لا يكره.
وفي " المحيط " و " الواقعات ": إذا صلى الإمام في مسجدين في كل واحد منهما على الكمال لا يجوز لأن السنن لا تتكرر في وقت واحد، فإن صلوها مرة ثانية يصلونها فرادى. وفي " الفتاوى ": إذا لم يختم إمام مسجده هل يذهب إلى مسجد آخر يختم فيه قيل لا، والصلاة في مسجد نفسه أولى، ولو قال الإمام بعد السلام صليت ركعتين، وقال القوم ثلاثا، قال أبو يوسف: يعمل بقوله، وقال محمد: يعمل بقولهم، ولو شك وأخبره عدلان يأخذ بقولهما، ولو شكوا أنه صلى عشر تسليمات أو تسعا قيل: يوترون وقيل: يصلون بجماعة تسليمة، والأصح أداؤها فرادى، ولو افتتحها أو الوتر فتابعه ثم ظهر أنه صلى التراويح قال النسفي: إنه أجزأه.(2/560)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويجوز اقتداء من يصلي التسليمة الأولى بغيرها. وقال النسفي: أيضا إذا كان إمامه لحانا أو غيره أحق قراءة وأحسن صوتا فلا بأس أن يترك مسجده، إمام صلى العشاء بغير وضوء ولم يعلم ثم صلى بهم إمام آخر التراويح ثم علموا فعليهم إعادة العشاء والتراويح؛ لأن وقتها بعد العشاء وهو المختار.(2/561)
باب إدراك الفريضة ومن صلى ركعة من الظهر ثم أقيمت يصلي أخرى صيانة للمؤدى عن البطلان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب إدراك الفريضة] [حكم من أقيمت عليه الصلاة وهو في صلاة نفل]
م: (باب إدراك الفريضة) ش: أي هذا باب في بيان حكم إدراك الفريضة، وجه المناسبة بين البابين من حيث إن الباب الأول في النوافل التي هي إكمال الفرائض، وهذا الباب أيضا في إدراك الفرائض الذي هو الأداء الكامل، وهو الأداء بالجماعة، ومسائل هذا الباب من " الجامع الصغير " ,
م: (ومن صلى ركعة من الظهر) ش: أراد أنه شرع في صلاة الظهر ركعة منه م: (ثم أقيمت) ش: أي ثم أقيمت الصلاة، وأراد بالإقامة شروع الإمام فيهالا إقامة المؤذن، فإن لو أخذ المؤذن في الإقامة والرجل قيد الركعة الأولى بالسجدة فإنه يتم ركعتين بلا خلاف بين أصحابنا، كذا قاله الحلواني، وفي رواية تقام الصلاة مقام أقيمت ولهذا قال في رواية أقام المؤذن حتى لو صلى في البيت ركعة ثم أقيمت لا يقطع وإن كان فيه أجر وثواب الجماعة؛ لأنه لا يوجد مخالفة الجماعة عيانا فلا يقطع، ومذهب الشافعي فيما إذا صلى ركعة من الظهر ثم أقيمت ما ذكره في تتمتهم، قال الشافعي: أحب إلي أن يكمل ركعتين ويسلم ويكونان نافلتين.
وقال النووي: إذا دخل في فرض الوقت منفردا ثم أقيمت الجماعة استحب له أن يتمها ركعتين ويسلم ويكونان نافلة، ثم يدخل مع الجماعة فعنده في الفرض قولان أحدهما في الجديد هي الأولى، والثاني: الفرض أحدهما لا يعينه يحتسب الله تعالى بأيتهما شاء. وقال أبو إسحاق: وليس بشيء. لأنه لا أصل له في الشرح، وهو قوله القديم.
وقال النووي في أحد الوجهين كلاهما فرض ثم في النفل لا يقطعه لأن القطع فيه ليس للإكمال وبه قال مالك. وقال الشافعي: إن دخل الإمام قطعه، وقال إسماعيل المتكلم وسيف الدين البابلي: لو ظن أن في الوقت سعة فشرع في النفل. ثم علم أنه إن أتمه خرج وقت الفرض لا يقطعه كما لو شرع في النفل ثم خرج الخطيب للخطبة، وعن أحمد المنفرد إذا نوى اتباع الجماعة بعدما صلى ركعتين جاز في رواية عنه، فإذا صلى ركعتين سلم، والأولى أن يقطع ويدخل مع الإمام والذي صلى وحده نافلة.
م: (ويصلي ركعة أخرى صيانة للمؤدى عن البطلان) ش: أي لأجل الصيانة أي الحفظ للمؤدى بفتح الدال وهو الركعة التي صلاها، وذلك أن البتيراء منهي عنها.
فإن قلت: كيف يجوز إبطال صفة الفرضية لإقامة السنة.
قلت: ليس هذا النقض لإقامة السنة بل لإقامة الفرض على وجه أكمل، لأن النقض للإكمال وهذا كهدم المسجد، فإنه حرام، فإذا كان لإحكام بنائه أو للتوسعة فإنه يجوز،(2/562)
ثم يدخل مع القوم إحرازا لفضيلة الجماعة، وإن لم يقيد الأولى بالسجدة يقطع ويشرع مع الإمام هو الصحيح، لأنه بمحل الرفض والقطع للإكمال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والحاصل أن نقض الصلاة بغير عذر حرام لأنه إبطال العمل لا سيما صلاة الفرض إلا أن النقض إذا كان للإكمال يجوز لأنه وإن كان نقضا صورة إكمال معنى فإن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة بالحديث الصحيح.
فإن قلت: كيف يستقيم هذا على أصل محمد فإن عنده إذا بطلت صفة الفرضية بطل أصل الصلاة فلم يكون مؤدى مصونا عن البطلان عند الفرضية.
قلت: هذا ليس مذهبه في جميع المواضع إنما هو مذهبه فيما إذا لم يتمكن من إخراج نفسه عن العهدة بالمضي إليها كما إذا قيد الخامسة بالسجدة وهو لم يقعد في الرابعة وهاهنا يتمكن من ذلك بالمضي فيها، والفرق بينهما أن إبطال صفة الفرضية لإحراز فضل الجماعة بإطلاق من الشرع وإبطال صفة الفرضية هناك ليس بإطلاق من جهة فجاز أن يتنفل نفلا هاهنا وصار كالمكلف بالصوم إذا آيس في خلال الصوم.
م: (ثم يدخل مع القوم إحرازا لفضيلة الجماعة) ش: كما لو شرع في الظهر ثم أقيمت الجماعة ألا ترى أنه يجوز قطعها لحطام الدنيا، فإن المرأة إذا كانت يفور قدرها جاز لها القطع، وكذا المسافر إذا بدت دابته أو خاف فوت شيء من ماله يقطع لأجل الدرهم، فإذا جاز لحطام الدنيا فلأن يجوز لإحراز فضيلة الجماعة أولى.
م: (وإن لم يقيد الأولى) ش: أي الركعة الأولى من الظهر الذي شرع فيه وحده م: (بالسجدة يقطع صلاته) ش: وهي الركعة الأولى التي ما قيدت بسجدة م: (ويشرع مع الإمام) ش: يعني يدخل في صلاة الإمام، وهذا اختلفوا فيه هل يجوز القطع أم لا؟ فعند بعض المشايخ لا يقطع إذا كان قائما في الركعة الأولى، وإن لم يقيدها بالسجدة قال فخر الإسلام في " شرح الجامع الصغير ": كانت تختلف فتوى الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم الميداني في هذا والأشبه أنه يقطع وإليه أشار المصنف بقوله: م: (هو الصحيح) ش: أي القطع والشروع مع الإمام هو الصحيح، واحترز به عن قول الميداني المذكور وإبراهيم بن المنذر وبعض المشايخ قالوا: يصلي ركعتين ثم يقطع وإليه مال شمس الأئمة لأنه يمكنه الجمع بين الفضيلتين.
وعلل المصنف ما ذهب إليه بقوله: م: (لأنه) ش: أي لأن ما دون الركعة م: (محل الفرض) ش: يعني له ولاية الرفض ما لم يقيده بالسجدة لأنه ليس له حكم فعل الصلاة، ولهذا لو حلف لا يصلي لا يحنث بهذا القدر م: (والقطع للإكمال) ش: والقطع لإكمال الفرض والقطع للإكمال، هذا جواب عما يقال: إنما نوى به قربة سلمت إلى مستحقها فلا يجوز إبطالها، ألا ترى أنه لو شرع في التطوع ثم أقيمت الظهر لم يقطع التطوع مع أن الفرض أولى، وتقرير(2/563)
بخلاف ما إذا كان في النفل
لأنه ليس للإكمال، ولو كان في السنة قبل الظهر والجمعة فأقام أو خطب يقطع على رأس الركعتين، يروى ذلك عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقد قيل: يتمها وإن كان قد صلى ثلاثا من الظهر يتمها لأن للأكثر حكم الكل فلا يحتمل النقض بخلاف ما إذا كان في الثالثة بعد ولم يقيدها بالسجدة حيث يقطعها؛ لأنه بمحل الرفض ويتخير إن شاء عاد فقعد وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجواب أن القطع المذكور لإكمال الفرض والقطع للإكمال يجوز كهدم المسجد للبناء على الوجه الأكمل، فإنه يجوز م: (بخلاف ما إذا كان في النفل) ش: أي لأن القطع في النفل ليس للإكمال فلا يقطع.
م: (ولو كان) ش: أي المصلي م: (في السنة قبل الظهر) ش: أي ولو كان شرع في السنة التي قبل صلاة الظهر م: (أو الجمعة) ش: أي أو كان في السنة التي قبل صلاة الجمعة م: (فأقيم) ش: أي صلاة الفرض م: (أو خطب) ش: أي أو خطب الإمام للجمعة وهو لف ونشر مستقيم م: (يقطع) أي ما شرع فيه م: (على رأس الركعتين) ش: إحرازا لفضيلة الجمعة م: (يروى ذلك عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي القطع على رأس الركعتين، روي عن أبي يوسف " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " فإذا قطع قضى ركعتين عند أبي حنيفة ومحمد وعلى قياس ما روي عن أبي يوسف أنه يقضي أربعا في كل تطوع فيقضي هاهنا أربعا م: (وقد قيل: يتمها) ش: أي سنة الظهر الذي كان شرع فيه، وقال فخر الإسلام: وكان الشيخ الإمام محمد بن الفضل البخاري يفتي بأنه يقضي أربعا لأنها بمنزلة صلاة واحدة واجبة.
م: (وإن كان قد صلى ثلاثا) ش: أي وإن كان المصلي قد صلى ثلاث ركعات م: (من الظهر يتمها) ش: أي الظهر م: (لأن للأكثر حكم الكل) ش: حيث يثبت به جهة الفراغ ولم يثبت حقيقته فلم يحتمل النقض، فكذا إذا ثبت شبهه م: (فلا يحتمل النقض) ش: نتيجة قوله لأن للأكثر حكم الكل م: (بخلاف ما إذا كان في الثالثة أبعد) ش: بخلاف ما إذا كان هذا المصلي في الركعة الثالثة بعد أن شرع فيه م: (ولم يقيدها بالسجدة) ش: أي والحال أنه لم يقيد الركعة الثالثة بالمسجد م: (حيث يقطعها لأنه محل الرفض) ش: وقد مر أن له ولاية الرفض ما لم يقيد بالسجدة. وفي " الفتاوى الكبرى " عن محمد أنه يأتي بالركعة الرابعة قاعدا لتقلب نفلا، لأن الفرض لا يتأدى قاعدا مع القدرة على القيام ثم يأتي بالجماعة ليجمع بين الثوابين ثواب النفل وثواب الجماعة.
م: (ويتخير) ش: يعني إذا أراد القطع فهو بالخيار م: (إن شاء عاد) ش: إلى التشهد م: (وقعد وسلم) ش: لأنه أراد الخروج من صلاته خروجا معتدا به والخروج عن هذا لم يشرع إلا بالقعدة فتكون صلاته على الوجه المشروع، ثم إذا عاد إلى القعدة قال يتشهد ويسلم. قال بعضهم:(2/564)
وإن شاء كبر قائما ينوي الدخول في صلاة الإمام، وإذا أتمها يدخل مع القوم، والذي يصلي معهم نافلة؛ لأن الفرض لا يتكرر في وقت واحد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يتشهد ويسلم ثانيا لأن القعدة الأولى لم تكن قعدة ختم، وقال بعضهم يكفيه ذلك التشهد لأن العود إلى القعدة ينقض القيام، وجعله كأن لم يكن أصلا فكانت هذه القعدة الأولى ثم يسلم تسليمتين عند البعض لأنه المعهود في التحلل، وعند البعض تسليمة واحدة، لأن التسليمة الثانية للتحلل وهذا قطع من وجه ولا يسلم قائما لأنه لم يشرع في القيام.
م: (وإن شاء كبر قائما ينوي الدخول في صلاة الإمام) ش: وفي المحيط يقطعها قائما بتسليمة واحدة وهو الأصح لأنه قطع وليس بتحلل، وإن شاء رفع وإن شاء لم يرفع كذا قاله الإمام حميد الدين الضرير في " شرحه ". وعن شمس الأئمة الحلواني أنه لو لم يعد إلى التشهد تفسد صلاته ونقله عن النوادر.
م: (وإذا أتمها) ش: عطف على قوله يتمها، أي وإذا أتم صلاة الظهر التي كان شرع فيها م: (يدخل مع القوم) ش: يعني لا ينقض صلاته، ولكن ليس بلازم لأن الذي يصلي معهم نافلة ولا إلزام فيها، ولكن الأفضل الدخول؛ لأنه في وقت مشروع ويندفع عنه تهمة بأنه ممن لا يرى الجماعة م: (والذي يصلي معهم نافلة) ش: أي والذي يشرع فيه ليصلي مع القوم نافلة لأنه لا إلزام فيها، قال الأترازي: إنما أنث الضمير بتأويل النفل. قلت: الخبر على حاله، وإنما ذكر المبتدأ لأن المعنى والصلاة التي يصليها مع القوم نافلة، وإنما ذكره باعتبار فعل الصلاة.
فإن قلت: يلزم أداء النفل بجماعة خارج رمضان وهو مكروه.
قلت: إنما تكون الكراهة إذا كان الإمام والقوم متنفلين، وأما إذا كان الإمام مفترضا فلا كراهة بما روي في حديث يزيد بن الأسود، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للرجلين «إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكم نافلة» ، ورواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وفي حديث أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال في الأئمة الذين يؤخرون الصلاة: «صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة» رواه مسلم من طرق.
م: (لأن الفرض لا يتكرر في وقت واحد) ش: لأن الله تعالى لم يوجب على أحد ظهرين أو عصرين في يوم واحد. وقال النووي في أحد الوجهين كلاهما فرض، واعتبروها بصلاة الجنازة على مذهبهم إذا صلى عليها طائفة ثم صلت طائفة أخرى بعدهم وكانوا مقيمين بالفرض، وبه قال الشعبي والأوزاعي. قلنا: هذا تمجه العقول وهو مدفوع [....] وعلى هذا يلزم أن تفرض الصلاة كل يوم عشر مرات.(2/565)
فإن صلى من الفجر ركعة ثم أقيمت يقطع ويدخل معهم؛ لأنه لو أضاف إليها أخرى تفوته الجماعة كذا إذا قام إلى الثانية قبل أن يقيدها بالسجدة وبعد الإتمام لا يشرع في صلاة الإمام؛ لكراهية التنفل بعد الفجر، وكذا العصر لما قلنا، وكذا بعد المغرب في ظاهر الرواية. لأن التنفل بالثلاث مكروه، وفي جعلها أربعا مخالفة لإمامه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن صلى من الفجر ركعة) ش: يعني فإن شرع في صلاة الفجر وحده ثم صلى منه ركعة م: (ثم أقيمت) ش: أي ثم أقيمت صلاة الفجر م: (يقطع) صلاة نفسه م: (أو يدخل معهم) ش: أي مع القوم م: (لأنه لو أضاف إليها) ش: أي إلى الركعة الأولى م: (ركعة أخرى تفوته الجماعة) ش: لإتيانه بالأكثر م: (وكذا إذا قام إلى الثانية) ش: أي وكذا تقطع صلاته إذا قام إلى الركعة الثانية من صلاة الفجر ولكن ذلك م: (قبل أن يقيدها) ش: أي قبل أن يقيد الركعة الثانية م: (بالسجدة) ش: لأنه ما لم يقيدها بالسجدة فهو محل الرفض، بخلاف ما إذا قيدها بها كما ذكرنا.
م: (وبعد الإتمام لا يشرع مع الإمام) ش: أي بعد إتمام صلاة الفجر التي شرع فيها وحده لا يشرع مع الإمام م: (لكراهة التنفل بعد الفجر) ش: أي بعد أداء صلاة الفجر م: (وكذا بعد العصر) ش: أي وكذا لا يشرع مع الإمام بعد أن صلى صلاة العصر وحده م: (لما قلنا) ش: من كراهة النفل بعد صلاة العصر، وعند الشافعي ومالك يعيدها لعدم الكراهة في النفل بعدها عندهما، وعند أحمد يعيدها مع إمام الحي م: (وكذا بعد المغرب) ش: أي وكذا لا يشرع مع الإمام إذا أتم صلاة المغرب وحده م: (في ظاهر الرواية) ش: وبه قال مالك وقيد به لأنه روي عن أبي يوسف الأحسن أن يدخل مع الإمام ويصلي أربع ركعات ثلاث مع الإمام وأتم الرابعة بعد فراغ الإمام، وبه قال الشافعي وأحمد، لأن بالقيام إلى الثالثة صار ملتزما للركعتين إذ الركعة الواحدة لا تكون صلاة للنهي عن المبتدأ، وعن أبي يوسف في رواية يدخل معه ويسلم على رأس الثالثة مع الإمام وبه قال السرخسي.
م: (لأن التنفل بالثلاث مكروه) ش: أي بثلاث ركعات لأن فيه مخالفة السنة لورود النهي عن البتيراء، وقال قاضي خان التنفل بالثلاث حرام. قلت الوتر ثلاث وهو نفل عندهما، وذلك مشروع فكيف يكون مثله حراما م: (وفي جعله أربعا مخالفة لإمامه) ش: أي وفي جعل المصلي أربع ركعات مخالفة إمامه لأنه يصلي ثلاثا، ومع هذا إذا شرع قال فخر الإسلام أتمها أربعا، لأن هذا الوجه أحوط لما فيه من زيادة الركعة، وفي الوتر لو سلم مع الإمام على الثلاث فسدت صلاته وعليه قضاء أربع ركعات لأنه التزم بالاقتداء ثلاث ركعات تطوعا فلزمه أربع كالنذر بها. وفي قاضي خان وقيل إنما يكره التنفل بعد المغرب بثلاث ركعات إذا كان عن اختيار، فأما عن اضطرار فلا.
فإن قلت: المخالفة للإمام إنما تكون قبل فراغه وهذه مخالفة بعد فراغه من صلاته، وهذا(2/566)
الليالي ثم تركها، وبين العذر في تركه المواظبة وهو خشية أن تكتب علينا والسنة فيها الجماعة ومن دخل مسجدا قد أذن فيه يكره له أن يخرج حتى يصلي؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يخرج من المسجد بعد النداء إلا منافق أو رجل يخرج لحاجة يريد الرجوع» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ليس به بأس كالمقيم إذا اقتدى بالمسافر وكان مسبوقا فإنهما يقومان بعد فراغ الإمام.
قلت: الفرق ظاهر، أما صلاة المسافر فعلى فرضية أن يصلي أربعا وكذلك صلاة المغرب. وأما المسبوق فقد عرف قضاؤه بالسنة في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ما فاتكم فاقضوا» م: (ومن دخل مسجدا قد أذن فيه) ش: أي قد أدني فيه على صيغة المجهول جملة في محل النصب، لأنها صفة لقوله مسجدا، وأما نصب مسجد فعلى التوسع وإسقاط الخافض لا على الظرفية، والتقدير ومن دخل في مسجد ونظيره دخلت الدار، فإن تعدي الفعل في نحو الدار والمسجد لا يطرد ويجوز أن يكون مسجدا منصوبا على أنه مفعول به على رأي الأخفش لأنه دخل عنده تارة يتعدى بنفسه وتارة بحرف الجر م: (يكره له أن يخرج) ش: أي يكره لهذا الداخل خروجه من المسجد م: (حتى يصلي) ش: يعني إن لم يكن قد صلى، لأن المؤذن قد دعاه ولورود الوعيد فيه م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لا يخرج من المسجد بعد النداء إلا منافق أو رجل يخرج لحاجة يريد الرجوع» ش: لم يذكر أحد من الشراح هذا الحديث في كتابه ولا التفت إلى ما كان حاله هل هو يصلح للاحتجاج أم لا.
أما السغناقي فإنه لم يذكره أصلا. وأما الأكمل فإنه ذكر في المسألة تفصيلا ثم قال وهو واضح وما عرفنا من أين جاءه الوضوح، وأما صاحب الدراية فإنه اكتفى بالمنقولات في هذه المسألة. أما الأترازي فإنه استدل بما روي عن أبي هريرة أنه قال حين خرج رجل من المسجد بعدما أذن فيه أما هذا فقد عصى أبا القاسم، رواه مسلم والأربعة، وهذا موقوف وقال أبو عمر: إنه مسند ولذلك نظائره نحو حديث أبي هريرة «من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم» وقال لا يختلفون في ذلك رواه إسحاق بن راهويه في مسنده، وزاد فيه «أمرنا رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذا أذن المؤذن فلا تخرجوا حتى تصلوا» .
وأما الذي ذكره المصنف فقد قال سبط بن الجوزي رواه النسائي. قلت: روى ابن ماجه في " سننه " بمعناه عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عنه قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أدرك الأذان في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجوع فهو منافق» .
وأخرج أبو داود في المراسيل عن سعيد بن المسيب أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «لا يخرج من المسجد أحد بعد النداء إلا منافق إلا أحدا أخرجته حاجته وهو يريد الرجوع» . ورواه أيضا عبد الرزاق في " مصنفه "، ورواه أحمد في " مسنده " عن أبي هريرة أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إذا كنتم في المسجد فنودي للصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي» .(2/567)
قال: إلا إذا كان ممن ينتظم به أمر جماعة لأنه ترك صورة تكميل معنى وإن كان قد صلى وكانت الظهر أو العشاء فلا بأس بأن يخرج؛ لأنه أجاب داعي الله مرة إلا إذا أخذ المؤذن في الإقامة؛ لأنه يتهم بمخالفة الجماعة عيانا، وإن كانت العصر أو المغرب أو الفجر خرج، وإن أخذ المؤذن فيها؛ لكراهة التنفل بعدها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إلا إذا كان ينتظم به أمر جماعة) ش: هذا استثناء من قوله يكره له أن يخرج، أراد أن يدخل في مسجد أذن فيه إذا كان ينتظم به أي يستقيم به أمر جماعته بأن كان مؤذنا أو إمام مسجد تتفرق جماعة بسبب غيبته فإنه يخرج ولا يدخل تحت الوعيد م: (لأنه) ش: أي لأن خروجه م: (ترك صورة) ش: أي ترك للجماعة من حيث الصورة م: (تكميل معنى) ش: أي تكميل للجماعة معنى، والاعتبار للمعنى، ولو دخل مسجدا لم يكن مسجد حيه فإن كانوا صلوا في مسجده فلا يخرج لأنه صار من أهل هذا المسجد، وإن لم يكن صلوا إن خرج ليصلي في مسجد حيه لا بأس به، لأن الواجب عليه أن يصلي في مسجد حيه، وإن صلى في هذا المسجد لا بأس به أيضا إلا أنه صار من أهل هذا المسجد، والأفضل أن لا يخرج لكيلا يتهم أنه ممن لا يرى الجماعةِ.
وفي [.....] فاتته الجماعة في مسجد حيه، فأتى مسجدا آخر يرجو فيه الجماعة فحسن، وإن صلى في مسجد حيه فحسن أيضا أي الحسن أفضل، فالشعبي اختار طلب الجماعة، والنخعي اختار مسجد حيه. وقال الحسن البصري: كان الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إذا دخلوا مسجد حيهم صلوا فرادى بغير أذان وإقامة ثم لمنفعة جماعة أستاذه لأجل درسه أو لسماع الأخبار ولسماع مجلس العامة أفضل بالاتفاق لتحصيل الثوابين ولو فاتته ركعة أو ركعتان فالأفضل أن يصلي في مسجد حيه.
م: (وإن كان قد صلى) ش: أي وإن كان الداخل مسجدا أذن فيه قد صلى فرضه م: (وكانت) ش: أي الصلاة التي صلاها م: (الظهر أو العشاء فلا بأس بأن يخرج لأنه أجاب داعي الله مرة) ش: وهو المؤذن م: (إلا إذا أخذ المؤذن في الإقامة) ش: هذا استثناء من قوله فلا بأس بأن يخرج أراد أن المؤذن إذا شرع في الإقامة فإنه لا يخرج حينئذ م: (لأنه يتهم بمخالفة الجماعة عيانا) ش: أي معاينة، وانتصابه على الحال من مخالفة.
م: (ولو كانت العصر) ش: أي ولو كانت الصلاة التي صلاها وحده صلاة العصر م (أو المغرب أو الفجر) ش: أي أو كانت المغرب أو كانت الفجر أي صلاة الفجر م: (خرج) ش: أي من المسجد م: (وإن أخذ فيها) ش: أي إن أخذ المؤذن أي شرع في واحدة من هذه الصلوات م: (لكراهة التنفل بعدها) ش: أي بعد العصر والمغرب والفجر، وعند الشافعي لا بأس بالشروع في هذه الصلوات لما روي عن زيد بن أبي الأسود قال «شهدت مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته إذا هو برجلين في آخر القوم لم يصلياها معه فقال: علي بهما(2/568)
ومن انتهى إلى الإمام في صلاة الفجر؛ وهو لم يصل ركعتي الفجر إن خشي أن تفوته ركعة ويدرك الأخرى يصلي ركعتي الفجر عند باب المسجد ثم يدخل لأنه أمكنه الجمع بين الفضيلتين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فأتي بهما ترعد فرائصهما قال ما منعكما أن تصليا معنا، قال: يا رسول الله إنا كنا صلينا في رحالنا قال فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة» رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح واستدل الأترازي للشافعي بحديث السبحة وهو ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه فإنها له نافلة» ثم يجاب عنه بقوله، ونحن نحمله على غير هذه الصلوات كيلا يلزم التعارض بينه وبين حديث النهي عن الصلوات بعد الفجر والعصر وحديث التيسير.
قلت: كيف نحمله على غير هذه الصلوات، وقد صرح في حديث يزيد بن الأسود المذكور آنفا بصلاة الصبح، والجواب عنه أنه قد روي هذا في صلاة الظهر فتعارضت روايتا فعله فأخذنا بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس» ثم إذا صلى العصر أو الفجر فعندنا فرضه الأول، وبه قال الشافعي في الجديد وأحمد، لأن الخطاب سقط عنه بالأولى، وقال في القديم فالفرض أكملها وقال بعض أصحابه والشعبي والأوزاعي فالفرض كلاهما وقد مر الكلام فيهما مرة.
[حكم من انتهى إلى الإمام في صلاة الفجر وهو لم يصل ركعتي الفجر]
م: (ومن انتهى إلى الإمام في صلاة الفجر وهو لم يصل ركعتي الفجر) ش: أي والحال أن هذا المنتهي لم يكن صلى سنة الفجر فلا يخلو حاله عن أمرين الأول: م: (إن خشي أن تفوته ركعة) ش: من صلاة الفجر لاشتغاله بالسنة م: (ويدرك الأخرى) أي الركعة الأخرى وهي الثانية، وتخصيص الركعة لما أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جعل أداء الركعة مع الإمام عند العذر بمنزلة أداء الكل في إدراك ثواب الجمعة حتى تتم صلاة الخوف ركعة ركعة م: (يصلي ركعتي الفجر عند باب المسجد ثم يدخل) ش: أي يدخل المسجد م: (لأنه أمكنه الجمع بين الفضيلتين) ش: فضيلة السنة وفضيلة الجماعة، وإنما قيد عند باب المسجد لأنه لو صلاهما في المسجد كان مشتغلا فيه مع اشتغال الإمام بالفرض وأنه مكروه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» وخصت سنة الفجر بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل» رواه أبو داود وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد مر فيما مضى هذا إذا كان عند باب المسجد موضع لذلك، فإن لم يكن يصليهما في المسجد خلف سارية من سواريه خلف الصفوف. وذكر فخر الإسلام وأشدها كراهة أن يصلي مخالطا للصف مخالفا للجماعة والذي يصلي خلف الصف من غير حائل بينه وبين الصف. وفي " الذخيرة " السنة في ركعتي الفجر أن يأتي بهما في بيته، فإذا لم يفعل فعند باب المسجد إذا كان الإمام يصلي فيه، فإن لم يمكنه ففي المسجد الخارج إذا كان الإمام في المسجد الداخل، وفي الداخل إذا كان الإمام في الخارج. وفي " المحيط ": وقيل: يكره ذلك كله، لأن ذلك بمنزلة(2/569)
وإن خشي فوتها دخل مع الإمام ولم يصل؛ لأن ثواب الجماعة أعظم والوعيد بالترك ألزم بخلاف سنة الظهر حيث يتركها في الحالين لأنه يمكنه أداؤها في الوقت بعد الفرض هو الصحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مسجد واحد. وفي قاضي خان إن كان الإمام في الصيفي يصليهما في الشتوي وإن كان في الشتوي يصليهما في الصيفي، وإن كان الصيفي والشتوي واحدا يقوم خلف الصف وعند سارية أو خلف أسطوانة أو نحوهما. وقال الثوري: إن خشي فوت ركعة دخل مع الإمام ولم يصليهما وإلا صلاهما في المسجد، وقول مالك مثله إلا أنه قال يصليهما خارج المسجد في غير الأفنية اللاصفة به. وعن شمس الأئمة يحكي عن الفقيه إسماعيل الزاهد أنه كان يقول ينبغي أن يفتح ركعتي الفجر ثم يقطعهما ويدخل مع الإمام حتى يلزمه بالشروع فيتمكن من القضاء بعد الفجر ولكن هذا ليس بقوي، فإن ما وجب بالشروع لا يكون أقوى مما يجب بالنذر، وقد نص في الزيادات الزيادة أن المنذورة لا تؤدى بعد الفجر قبل طلوع الشمس.
الحال الثاني: أن يخاف فوت الفرض كله وأشار إليه بقوله م: (وإن خشي فوتهما) أي فوت ركعتي الفجر م: (دخل مع الإمام ولم يصل) أي لم يصل السنة يعني بتركها لأن ثواب الجماعة أعظم من ثواب السنة لما روى مسلم في " صحيحه " عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة» م: (والوعيد بالترك ألزم) الوعيد منصوب لأنه عطف على اسم إن، وألزم مرفوع على الخبرية، والوعيد هو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لقد هممت أن آمر رجلا [يصلي بالناس، ثم آمر فتية] أن يجمعوا حزما من حطب، ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرقها عليهم» رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة، قوله: هممت أي قصدت، والفتية جمع فتى، قوله أن يجمعوا وفي رواية: تجمعوا قوله ثم آتي بالنصف عطف على قوله أن آمر، واستدل بهذا الحديث من قال: إن الجماعة فرض عين، وقد مر الكلام فيه في باب الإمامة.
فإن قلت: إذا أدرك الإمام في التشهد ماذا يفعل؟
قلت: ظاهر كلام المصنف ترك على أنه يدخل مع الإمام لأنه قال: إن خاف أن تفوته الركعتان دخل مع الإمام، كذا قال شمس الأئمة السرخسي في " شرح الجامع الصغير " ثم قال: وكان الفقيه أبو جعفر يقول: يصلي سنة الفجر ثم يشرع مع الإمام عندهما وعند محمد يترك السنة، وهذا فرع اختلافهم في المدرك في التشهد في صلاة الجمعة م: (بخلاف سنة الظهر حيث يتركها في الحالتين) أي في حال خشية الفوات، وحال عدمها م: (لأنه يمكنه أداؤها في الوقت) أي لأن الشأن يمكنه أداء سنة الظهر في وقت الظهر م: (بعد الفرض) أي بعد أداء فرض الظهر م: (هو الصحيح) أي أداء بعض الظهر بعد الفرض في الوقت هو الصحيح واحترز به عن قول بعض(2/570)
وإنما الاختلاف بين أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تقديمها على الركعتين وتأخيرها عنهما،
ولا كذلك سنة الفجر على ما نبين إن شاء الله تعالى، والتقييد بالأداء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المشايخ أن سنة الظهر لا تقضى إذا فاتت لأن في سنة الفجر ورد الشرع بالقضاء غداة ليلة التعريس، ولم يرد مثل ذلك في سنة الظهر، وهذا القول غير صحيح، لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - روت «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فاتته الأربع قبل الظهر فقضاها بعده» . وقال الأترازي: وهذا القول غير صحيح، يعني قول بعض المشايخ أن سنة الظهر لا تقضى، وورد الاختلاف بين أبي يوسف ومحمد في أنه هل يقدم الأربع أو الركعتين، قال أبو يوسف: يقدم الركعتين ثم يقضي الأربع، وقال محمد: يقدم الأربع، ثم يقضي الركعتين، كذا ذكر اختلافها في " الجامع الصغير " الحسامي، وفي " الجامع الصغير " العتابي، و " المنظومة "، و " شروحها " ذكر الاختلاف على العكس، ويحتمل أن يكون عن كل واحد من الاثنين روايتان. انتهى.
قلت: اختلافهما في التقديم والتأخير في القضاء لا يدل على أن سنة الظهر تقضى في الفرض بعد ولا يدل على ذلك إلا الحديث الذي ذكرناه، والعجب من الأترازي أنه يستدل باختلاف الإمامين في التقديم والتأخير على قضاء سنة الظهر في الوقت، ثم اختلفوا هل تكون الأربع التي يقضيها بعد الظهر في الوقت سنة أو نفلا. قلت: قال في " الذخيرة ": وعن أبي حنيفة أن يكون نفلا، وهو قول بعضهم، وقيل يكون سنة، وهو قول صاحبيه، وهو الأظهر، وهل ينوي القضاء؟، فعندهما ينوي القضاء لحديث عائشة المذكور آنفا، وعند أبي حنيفة لا ينوي القضاء لأن ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يكون قضاء لأنه إذا وجب على الشيء كتب عليه، وفعل غيره يكون تطوعا مبتدأ، فلا حاجة إلى نية القضاء م: (وإنما الاختلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في تقديمها) أي في تقديم الأربع م: (وتأخيرها عنهما) أي عن الركعتين فالتقديم عند أبي يوسف ومحمد والتأخير عند محمد، وفي " المحيط " ذكر أبو حنيفة مع أبي يوسف، في " فتاوى السغناقي " قول أبي يوسف هو المختار، وفي " مبسوط شيخ الإسلام " هو الأصح لحديث عائشة المذكور فإن أبا يوسف يعتبر المحل، ومحمد يعتبر ما يقع فيه فالركعتان في محلهما فيقدمان، ولمحمد أن الأربع قبل الركعتين لتقدمها على الأربع الفرض المتقدم عليهما، وقد تعذر التقديم على الظهر ولم يتعذر على السنة، وفي " الخلاصة " ولو صلى سنة الفجر أو الأربع قبل الظهر ثم اشتغل بالبيع والشراء والأكل، فإنه يعيد السنة أما بأكل لقمة أو شربة لا تبطل السنة، وذكر في " جامع التمرتاشي " قيل لا يعيد ولكن ثوابه أنقص من ثوابه قبل التكلم، قال الجلالي: الظاهر أنه لا يعيد.
م: (ولا كذلك سنة الفجر على ما نبين إن شاء الله تعالى) ش: يعني ليس سنة الفجر مثل سنة الظهر، لأن سنة الفجر لا يمكن أداؤها بعد الفرض فحصل الفرق بين السنتين م: (والتقييد بالأداء)(2/571)
عند باب المسجد يدل على الكراهة في المسجد إذا كان الإمام في الصلاة، والأفضل في عامة السنن والنوافل المنزل هو المروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: وإذا فاتته ركعتا الفجر لا يقضيهما قبل طلوع الشمس، لأنه يبقى نفلا مطلقا وهو مكروه بعد الصبح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي تقييد محمد بن الحسن بأداء ركعتي الفجر م: (عند باب المسجد يدل على الكراهة في المسجد) ش: أي على كراهة أدائه إياهما م: (في المسجد إذا كان الإمام في الصلاة) ش: لمخالفة الإمام عيانا.
م: (والأفضل في عامة السنن والنوافل المنزل) ش: أي الأفضل في أكثر السنن والنوافل إقامتها في المنزل، وإنما قدرنا هكذا لأن لفظ المنزل لا يصح أن يقع خبرا لقوله الأفضل، وإنما قال في عامة السنن تنبيها على أن بعض المشايخ قالوا يصلي الركعتين بعد الظهر والركعتين بعد المغرب في المسجد وما سواهما في البيت. قال في " المحيط " م: (والمروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي روى البخاري ومسلم عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «احتجز رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حجرة.. الحديث، وفي آخره فعليكم بالصلاة في بيوتكم إلا المكتوبة فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي مختصرا ولفظ أبي داود: «صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة» به قال.
فإن قلت: يعارض هذا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» . قلت: يحتمل هذا على الفرض أي صلاة مفروضة في مسجدي هذا يدل على لفظ أبي داود «صلاة المرء» .. الحديث، وفي " الذخيرة " والسنن بعد الفرائض لا بأس بإتيانها في المسجد في مكان الصلاة، والأولى أن يتنحى عنه خطوة أو خطوتين والإمام يتنحى عن المكان الذي يصلي فيه الفريضة لا محالة، وفي " الجامع الصغير ": إذا صلى الرجل المغرب في المسجد وخاف أن يرجع إلى بيته أن يشتغل عن السنة صلاها في المسجد، والأخير صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة، وفي " شرح الآثار للطحاوي " يأتي بالركعتين بعد الظهر وركعتين عند المغرب في المسجد وما سواهما لا ينبغي أن يصلي في المسجد وهو قول البعض، والبعض يقول التطوع في المسجد حسن وفي البيت أحسن، وذكر الحلواني: أن من فرغ من الظهر والمغرب والعشاء وإن شاء صلى السنة في المسجد وإن شاء في بيته.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (وإذا فاتته ركعتا الفجر لا يقضيهما قبل طلوع الشمس؛ لأنه يبقى نفلا مطلقا وهو مكروه وبعد صلاة الفجر) ش: أي التنفل مكروه بعد أن يصلي فرض الفجر لما مر بيانه. وقال النووي في " شرح المهذب " في قضاء السنة الراتبة قولان أحدهما وهو القديم لا يقضي كالكسوف والاستسقاء وتحية المسجد، والثاني وهو الجديد يقضي أبدا، وفي قول حكاه الخراسانيون إن فاتت في النهار يقضي ما لم تغرب الشمس، وإن فاتت في الليل(2/572)
قال: ولا بعد ارتفاعها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أحب إلي أن يقضيهما إلى وقت الزوال؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قضاهما بعد ارتفاع الشمس غداة ليلة التعريس،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يقضي ما لم يطلع الفجر. قال: والصحيح استحسان قضاء الجميع أبدا. وفي " المغني " قال ابن حامد يقضي ركعتا الفجر وغيرهما من السنن في الأوقات كلها ما خلا أوقات النهي وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وعنه أنه قال ركعتا الفجر تقضى إلى وقت الضحى. قال ابن قدامة: والأول أصح.
م: (قال) ش: أي المصنف م: (ولا بعد ارتفاعها) ش: أي ولا يقضي أيضا بعد ارتفاع الشمس م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد أحب إلي أن يقضيهما إلى وقت الزوال) ش: قال الحلواني والفضلي ومن تابعهما لا خلاف بينهم، فإن محمدا يقول: أحب إلي أن يقضي وإن لم يفعل فلا شيء عليه، وهما يقولان ليس عليه أن يقضي، وإن فعل فلا بأس به. ومن المشايخ من حقق الخلاف، وقال الخلاف في أنه لو قضى يكون نفلا مبتدأ أو سنة كذا في " المحيط " م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قضاهما بعد ارتفاع الشمس غداة ليلة التعريس) ش: هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة أبو قتادة وذو مخمر وعمران بن حصين وجبير بن مطعم وبلال وأنس وابن مسعود وعمرو بن أمية الضمري وابن عباس ومالك بن ربيعة السلولي وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
فحديث أبي قتادة عند مسلم، وحديث ذي مخمر الحبشي عند أبي داود في " سننه "، وحديث عمران بن حصين عند أبي داود أيضا والحاكم وابن خزيمة، وحديث جبير بن مطعم عند النسائي، وحديث بلال عند الطبراني في " معجمه " والبزار في " مسنده "، وحديث أنس عند البزار أيضا وحديث ابن مسعود عند البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " وحديث عمرو بن أمية وحديث ابن عباس عند البزار، وحديث مالك بن ربيعة عند النسائي، وحديث أبي هريرة عند مسلم عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: «عرسنا مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " ليأخذ كل إنسان برأس راحلته، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان "، قال: ففعلنا، ثم دعا بالماء فتوضأ ثم صلى سجدتين ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة(2/573)
ولهما أن الأصل في السنة أن لا تقضى لاختصاص القضاء بالواجب، والحديث ورد في قضائهما تبعا للفرض فبقي ما رواه على الأصل، وإنما تقضى تبعا له، وهو يصلي بالجماعة أو وحده إلى وقت الزوال، وفيما بعده اختلاف المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وأما سائر السنن سواها فلا تقضى بعد الوقت وحدها، واختلف المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في قضائها تبعا للفرض،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والتعريس في آخر الليل» ، وليلة التعريس كانت حين قفل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من غزوة خيبر. قوله ثم صلى سجدتين أي ركعتي الفجر.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد م: (أن الأصل في السنة أن لا تقضى لاختصاص القضاء بالواجب) ش: لأن القضاء تسليم مثل الواجب بالأمر م: (والحديث ورد في قضائهما تبعا للفرض) ش: ش: هذا جواب عن حديث ليلة التعريس تقديره أنه لما ورد بقضائها تبعا قلنا بقضائها م: (فبقي ما رواه على الأصل) ش: وهو عدم وجوب الزوال بالاتفاق م: (وإنما تقضى) ش: أي السنة م: (تبعا له) ش: أي للفرض م: (وهو يصلي بالجماعة) ش: أي والحال أنه يصلي بالجماعة م: (أو وحده) ش: أي أو يصلي وحده م: (إلى وقت الزوال) ش: أراد انتهاء وقت القضاء مع الجماعة أو كان منفردا إلى وقت زوال الشمس، توضيحه أن سنة الفجر تقضى تبعا للفرض سواء كان قضى الفرض بالجماعة أو قضاه وحده. وقال الأكمل هاهنا وكلامه واضح، قلت من أين يجيء الوضوح إن لم يشرح كلام المصنف كما هو المقصود؟
م: (وفيما بعده) ش: أي وفيما بعد الزوال م: (اختلاف المشايخ) ش: أي مشايخ ما وراء النهر، فاختلفوا في أنه هل تقضى سنة الفجر تبعا للفرض، فقال بعضهم تقضى تبعا وبه قال الشافعي في قول، وقال بعضهم لا تقضى إلا تبعا ولا مقصودة. وفي " المحيط " لا تقضى السنة بعد الزوال وإن تذكر مع الفرض من غير ذكر خلاف، وفي " جامع بدر الدين الورسكي " لا يقضى بعد الزوال، لأن السنة جاءت بالقضاء في وقت مجمل فلا يقاس عليه آخر.
م: (وأما سائر السنن سواها) ش: أي سوى سنة الفجر، وفي بعض النسخ سواهما بضمير التثنية أي سوى ركعتي الفجر م: (فلا تقضى بعد الوقت وحدها) ش: أي إذا كانت بدون الفرضية.
م: (واختلف المشايخ في قضائها) ش: أي في قضاء السنن م: (تبعا للفرض) ش: فقال بعضهم يقضيها تبعا لأنه كم من شيء يثبت ضمنا ولا يثبت قصدا. وقال بعضهم لا يقضيها تبعا كما لا يقضيها مقصودة وهو الأصح، لاختصاص القضاء بالواجب. وفي " مختصر البحر " ما سوى ركعتي الفجر من السنن إذا فاتت وحدها لا يقضى عندنا وإذا فاتت مع الفرض يقضي عند العراقيين كالأذان والإقامة، وعند الخراسانيين لا يقضي، ثم قيل لا بأس بترك سنة الفجر والظهر إذا صلى وحده لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يأت بها إلا إذا صلى بالجماعة وبدونها لا يكون سنة، وقيل لا يجوز تركها بكل حال، لأن السنة المذكورة كالواجبة، وللشافعي قولان في قول لا(2/574)
ومن أدرك من الظهر ركعة ولم يدرك الثلاث فإنه لم يصل الظهر بجماعة، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قد أدرك فضل الجماعة؛ لأن من أدرك آخر الشيء فقد أدركه فصار محرزا ثواب الجماعة لكنه لم يصلها بالجماعة حقيقة، ولهذا يحنث به في يمينه لا يدرك الجماعة ولا يحنث في يمينه لا يصلي الظهر بالجماعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يقضي وبه قال مالك وأحمد في رواية، وفي قول يقضي كالفرائض هو اختيار المزني ورواية عن أحمد.
م: (ومن أدرك من الظهر ركعة) ش: أي من أدرك من صلاة الظهر التي يصليها الإمام ركعة واحدة م: (ولم يدرك الثلاث) ش: أي ثلاث ركعات م: (فإنه) ش: أي فإن هذا المدرك م: (لم يصل الظهر في جماعة) ش: ذكر هذه المسألة لبيان الحكم في مسألة أخرى ذكرها في " الجامع الكبير " رجل قال: إن صليت الظهر مع الإمام فعبدي حر، فأدرك ركعة مع الإمام فقط لا يحنث، لأن شرط حنثه أن يكون صلى الظهر مع الإمام وقد صلى ثلاثا من الظهر منفردا، لأن المسبوق فيما يقضي منفرد فلم يوجد شرط الحنث وهذا لأن المسمى يعتبر معدوما بفوات الحر وفي مقام الإثبات، وعلى هذا لو أدرك ثلاثا مع الإمام وفاتته الواحدة لم يحنث أيضا لفوات بعض المسمى وهو الصحيح، ولو قال عبده حر إن أدرك الظهر مع الإمام يحنث بإدراك الواحدة معه وبإدراك القعدة أيضا، لأن إدراك الشيء هو الوصول إلى آخر جزء منه يتحقق بإدراك القعدة فضلا عن الركعة إدراك الظهر بالجماعة يؤيده قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من أدرك ركعة من الفجر فقد أدرك الفجر» .
م: (وقال محمد: ومن أدرك فضل الجماعة) ش: إنما خص قول محمد بإدراك فضل الجماعة وإن كان يدرك ثواب الجماعة، عند صاحبيه أيضا لأن الشبهة وردت على قول أن مدرك الإمام في التشهد في صلاة الجمعة لا يكون مدركا للجماعة فيتمها أربعا فكان مقتضى قوله أن لا يدرك فضيلة الجماعة في هذه المسألة لأنه مدرك للأقل كما في الجمعة فأزال ذلك الوهم بقوله قال محمد قد أدرك فضل الجماعة، وأصل هذه المسألة مسألة " الجامع الكبير " وقد ذكرناها آنفا. وقال السغناقي: فإن قلت: الاختلاف إنما يكون عند اتحاد الموضوع ثم ذكر هنا قولهما في صلاة الظهر أي في جماعة، وقول محمد في إدراك فضل الجماعة وهما متغايران في الوضع فلا يتحقق الاختلاف بذلك، وحاصل الجواب أن تخصيص ذكر محمد لا لبيان الاختلاف فيما بينهم فإنهم اتفقوا في الموضعين وهو أنه لم يصل الظهر في جماعة وأنه أدرك فضل الجماعة، وإنما خص قول محمد بشبهة ترد على قوله وقد ذكرناه تحرزا. م (لأن من أدرك آخر الشيء فقد أدركه فصار محرزا ثواب الجماعةِ، لكنه لم يصلها بالجماعة حقيقة) ش: عدم صلاته بالجماعة ظاهر لكنه يحصل له ثواب الجماعة م: (ولهذا) ش: يعد مع على ذلك بالاتفاق م: (يحنث به في يمينه لا يدرك الجماعة ولا يحنث في يمينه لا يدرك الظهر بالجماعة) ش: الضمير في به يرجع إلى إدراك الذي يدل عليه قوله(2/575)
ومن أتى مسجدا قد صلى فيه فلا بأس بأن يتطوع قبل المكتوبة ما بدا له ما دام في الوقت، ومراده إذا كان في الوقت سعة، وإن كان فيه ضيق تركه، وقيل: هذا في غير سنة الظهر والفجر؛ لأن لهما زيادة مزية، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: في سنة الفجر «صلوهما ولو طردتكم الخيل» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أدرك، وهما صورتان قد بيناهما عن قريب، ومذهب الشافعي في الظاهر كمذهبنا أنه إذا أدرك الإمام في التشهد ينال فضل الجماعة، وعند بعض أصحابه لا ينال إذا أدركه فيما دون الركعة.
م: (ومن أتى مسجدا قد صلي فيه) ش: أي صلى أهله فيه بالجماعة وكان الرجل فاتته الجماعة م: (فلا بأس بأن يتطوع قبل المكتوبة ما بدا له) ش: أي ما ظهر يعني ما أراد من التطوع م: (ما دام في الوقت) ش: أي في وقت هذه الصلاة م: (ومراده) ش: أي مراد محمد بن الحسن بقوله في " الجامع الصغير " لا بأس بأن يتطوع قبل المكتوبة م: (إذا كان في الوقت سعة) ش: بفتح السين والعين يعني اتساع م " (وإن كان فيه) ش: أي في الوقت م: (ضيق تركه) ش: أي ترك التطوع، وروي عن الثوري والحسن البصري أنه لا يتطوع قبل المكتوبة لما أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما اشتغل به إذا صلى بالجماعة.
م: (قيل: هذا في غير سنة الظهر والفجر) ش: أشار بهذا إلى قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا بأس.
قال بعض المشايخ قول محمد لا بأس بأن يتطوع التطوع قبل العصر والعشاء دون التطوع قبل الفجر والظهر م: (لأن لهما) ش: أي لسنة الظهر ولسنة الفجر م: (زيادة مزية) أي زيادة خصوصية بالفضل، وزيادة الأجر وبين ذلك بقوله م: (قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في سنة الفجر «صلوهما وإن طردتكم الخيل» ش: أخرج هذا الحديث أبو داود في " سننه " عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل» .
وأخرج مسلم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشد معاهدة منه على الركعتين قبل الفجر» .
وأخرج الطبراني عنها: «لم أره ترك الركعتين قبل صلاة الفجر في سفر ولا حضر ولا صحة ولا سقم» . وأخرج أبو يعلى الموصلي في " مسنده " عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: «لا تتركوا ركعتي الفجر فإن فيهما الرغائب " والمراد من الخيل حبس العدو» .(2/576)
وقال في الأخرى: «من ترك الأربع قبل الظهر لم تنله شفاعتي» . وقيل: هذا في الجميع؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - واظب عليها عند أداء المكتوبات بالجماعة، ولا سنة دون المواظبة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال في الأخرى) ش: أي قال النبي في سنة الظهر م «من ترك الأربع قبل الظهر لم تنله شفاعتي» ش: هذا ليس له أصل، والعجب من الشراح ذكروا هذا ولم يتعرضوا إلى بيان حاله وسكتوا عنه. وقال الأكمل: وهذا وعيد عظيم، ودلالته على وكادة الأربع أقوى من الأول قلت: نعم يكون أقوى من الأول، إذا صح عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، والذي لم يثبت كيف يكون أقوى من الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، وروى أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أم حبيبة زوجة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرم على النار» ، وروى أبو داود أيضا عن أبي أيوب عن النبي عيه السلام قالِ: «أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبواب السماء» .
م: (وقيل هذا) ش: أي قول محمد لا بأس بأن يتطوع وهذا القول اختيار أبي الليث في " جامعه " م: (في الجميع) ش: أي عام في جميع السنن، وللمصلي الخيار بين أن يتطوع وبين أن لا يتطوع لأن السنة لا تثبت إلا بمواظبة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على السنن قبل المكتوبة عند أداء المكتوبات بالجماعة، وأشار إلى هذا بقوله: م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - واظب عليها) ش: أي على السنن م: (عند أداء المكتوبات بالجماعة) ش: وهاهنا في مسألتنا الجماعة متبقية لأن التقدير فيمن أتى مسجدا قد صلي فيه فلا يكون في حقه إتيان السنة سنة، فبقي نفلا مطلقا فيكون في خيرة من إتيانه وتركه، وأشار إلى هذا بقوله م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - واظب عليها) ش: أي على السنن م: (لا سنة دون المواظبة) ش: هذا معروف من الأحاديث، ولم يرو أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ترك شيئا من الرواية المذكورة في النوافل إلا الركعتين بعد الظهر وقضاهما بعد العصر وركعتي الفجر وقضاهما مع الفرض بعد طلوع الشمس.
وقال قاضي خان: إن محمدا لم يذكر السنن في الكتاب، وإنما ذكر التطوع والإنسان إذا صلى وحده إن شاء أتى بالسنن وإن شاء تكرها، وهو قول أبي الحسن الكرخي، والأول أصح، والأخذ به أحوط فلا يتركها في الأحوال كلها إذ السنة بعد المكتوبة شرعت لجبر نقصان يمكن في الفرض وقبلها يقطع طمع الشيطان عن المصلي لأنه يقول: إذا لم يطعني في ترك ما لم يكتب عليه فكيف يطيعني في ترك ما كتب عليه والمنفرد إلى ذلك أحوج، إلا إذا خاف فوت الوقت، لأن أداء الفرض في وقته واجب. وفي " الحواشي " لو لم يرد جواز ترك الجميع لا يتبقى لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فيه فائدة، لأن الاختيار بين الترك والإثبات كسنة العصر والعشاء ثابت سواء صلى(2/577)
والأولى أن لا يتركها في الأحوال كلها أي لكونها مكملات للفرائض إلا إذا خاف فوت الوقت، ومن انتهى إلى الإمام في ركوعه فكبر ووقف حتى رفع الإمام رأسه لا يصير مدركا لتلك الركعة خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو يقول: أدرك الإمام فيما له حكم القيام، ولنا أن الشرط هو المشاركة في أفعال الصلاة ولم يوجد لا في القيام ولا في الركوع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالجماعة أو منفردا. وأما إذا أريد بهذا في الجميع جاز ترك سنة الفجر والظهر حالة الانفراد ولم يثبت اختيار الترك عند أدائها بالجماعة فحينئذ تظهر فائدة قوله قد صلى فيه.
م: (والأولى أن لا يتركها في الأحوال كلها) ش: هذا اختيار المصنف أي الأولى أن لا يترك السنن الرواتب كلها في جميع الأحوال كلها، سواء كان مؤديا بالجماعة أو منفردا أو مقيما أو مسافرا م: (أي لكونها مكملات للفرائض) ش: أي لكون السنن الراتبة مكملات لما نقص من الفرائض وجبر النقصان يقع فيها، خصوصا في حق المنفرد، لأنه أحوج إليها لافتقاره إلى تكميل الثواب م: (إلا) ش: استثناء من قوله والأولى يعني الأولى أن يتركها م " (إذا خاف فوت الوقت) ش: فإنه إذا اشتغل بالسنة يفوته الوقت لضيقه.
م: (ومن انتهى إلى الإمام في ركوعه) ش: أي وصل إليه حال كون الإمام راكعا م: (فكبر) ش: للافتتاح م: (ووقف) ش: ولم يركع سواء تمكن من الركوع أو لا م: (حتى رفع الإمام رأسه لا يصير مدركا لتلك الركعة) ش: قيد بالركوع لأنه إذا انتهى إليه وهو قائم يكبر ولم يركع معه حتى رفع الإمام رأسه من الركوع ثم ركع أنه يدرك الركعة بالإجماع. وإذا انتهى إلى القومة بعد الركوع لا يكون مدركا لتلك الركعة بالإجماع، وبما قلنا قال الشافعي.
م: (خلافا لزفر) ش: فإنه يقول يصير مدركا لتلك الركعة، وبه قال الثوري وابن أبي ليلي وعبد الله بن المبارك م: (وهو) ش: أي زفر م: (يقول أدرك الإمام فيما له حكم القيام) وهو الركوع، وهذا لأن الركوع يشبه القيام لوجود استواء النصف الأسفل الذي به يمتاز القائم من القاعد، لأن استواء النصف الأعلى موجود في القاعد أيضا، ولهذا لو شاركه في الركوع صار مدركا.
م: (ولنا أن الشرط هو المشاركة في أفعال الصلاة) ش: لأن الاقتداء شركة، ولا شركة في الإحرام، وإنما الشركة في الفعل م: (ولم يوجد لا في القيام) ش: لأنه ليس من جنس الركوع م: (ولا في الركوع) ش: لأنه ليس من جنس القيام فلا يصير مدركا لتلك الركعة. فإن قلت: جاء في الحديث «من أدرك الإمام في الركوع فقد أدركه» ولهذا يأتي بتكبيرات العيد في الركوع، مع أنه يؤتى بها في حقيقة القيام. قلت: روى أبو داود أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة» . وظاهره أنه إذا أتى بالركوع وهذا لم يأت به. وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: إذا أدركت الإمام راكعا فركعت قبل أن يرفع رأسه فقد أدركت الركعة، وإن رفع قبل أن تركع فقد فاتتك تلك الركعة.(2/578)
ولو ركع المقتدي قبل إمامه فأدركه الإمام فيه جاز، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجزئه لأن ما أتى به قبل الإمام غير معتد به فكذا ما يبنيه عليه، ولنا أن الشرط هو المشاركة في جزء واحد كما في الطرف الأول. والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والجواب عن الحديث على تقدير صحته أن معناه أنه أدرك في تلك الصلاة لا في تلك الركعة، وفي المتشهد به وحديث المشاركة في القيام فافترقا، وفي " الخلاصة " أدرك الإمام في الركوع فقال الله أكبر، إلا أن قوله الله أكبر كان في قيامه، وأكبر وقع في ركوعه لا يكون شارعا في الصلاة. وقال المحبوبي دخل المسجد والإمام راكع فقال بعض مشايخنا ومالك ينبغي أن يكبر ويركع ثم يمشي حتى يلتحق بالصف لئلا يفوته الركوع، كما فعله أبو بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «زادك الله حرصا ولا تعد» . وقال شمس الأئمة وأكثر مشايخنا على أنه لا يكبر لكيلا يكون محتاجا إلى المشي في الصلاة، وبه قال الشافعي. وقال أحمد: إن علم بالنهي ومشى بطلت صلاته، وعندنا لو مشى ثلاث خطوات متواليات تبطل، فمن اختار القول الأول قال: يعني قوله " لا تعد " لا تؤخر المجيء إلى هذه الحالة، ومن اختار القول الثاني، قال معناه لا تعد إلى مثل هذا الصنع، وهو التكبير قبل الاتصال بالصف والمشي في الركوع، وإنما لم يأمره بالإعادة لأن ذلك كان في وقت كان العمل في الصلاة مباحا.
وفي " جامع التمرتاشي " ذكر الخلابي في صلاته، أدرك الإمام في الركوع قائما ثم ركع، أو شرع في الانحطاط وشرع الإمام في الرفع اعتد بها، وقيل: لو شاركه في الرفع قيل إن كان ِإلى القيام أقرب لا يعتد، والأصح أنه يعتد إذا وجدت المشاركة قبل أن يستقيم قائما وإن قل. وعن أبي يوسف قام شرعا فلم يتم القيام حتى كبر لم يجزه، وفي " النوازل " إن كان إلى القيام أقرب جاز، وإن كان إلى الركوع أقرب لا يجوز [وإن] أدرك الإمام في الركوع وهو يعلم أنه لو اشتغل بالثناء لا يفوته الركوع يثني، وإن علم أنه يفوته قال بعضهم: يثني لأن الركوع يفوت إلى خلف وهو القضاء، وإن شاء يفوته أصلا. وقال بعضهم: لا يثني وإذا أدرك الإمام في غير الركوع يكبر للافتتاح ويثني ثم يتابع الإمام في أي حالة كان.
م: (ولو ركع المقتدي قبل الإمام فأدركه الإمام فيه أي في الركوع جاز) ش: وبه قال الثلاثة م: (وقال زفر: لا يجزئه) ش: أي الصلاة إن لم يعد للركوع م: (لأن ما أتى به قبل الإمام غير معتد به) ش: لكونه سريعا عنه، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه» م: (فكذا ما يبنيه عليه) ش: لأن البناء على الفاسد فاسد.
م: (ولنا أن الشرط هو المشاركة في جزء واحد) ش: وقد وجد فجعل مبتدئا لا بانيا عليه م: (كما في الطرف الأول والله أعلم) ش: يعني صار كما في الطرف الأول، وهو أنه يركع معه ويرفع رأسه قبل الإمام، وهذا لأن الركوع طرفين والشركة في أحديهما كافية، بخلاف ما لو رفع رأسه من هذا الركوع قبل ركوع الإمام، لأنه لم يوجد للمشاركة في شيء من الطرفين.(2/579)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فروع: لو أطال الإمام السجود فرفع المقتدي رأسه يظن أنه سجد ثانيا فسجد معه إن نوى الأول أو لم يكن له نية يكون عن الأول، وكذا إن نوى الثانية والمتابعة لرجحان المتابعة وتلغى نية الثانية للمخالفة وإن نوى الثانية لا غير كانت عن الثانية، فإن شاركه الإمام فيها جاز، وفيه خلاف زفر، وروي عن أبي حنيفة أنه لو سجد المقتدي قبل رفع الإمام رأسه من الركوع ثم أدرك الإمام فيها لا يجزئه، وعن أبي يوسف أنه يجزئه، وإن أطال المؤتم سجوده فسجد الإمام الثانية فرفع رأسه وظن أن الإمام في السجدة الأولى سجد ثانيا يكون عن الثانية، وإن نوى الأولى لا غير.
وفي " الذخيرة " للقرافي إن رفع المأموم، قبل أن يطمئن الإمام راكعا أو ساجدا فسدت صلاته، ويرجع ولا ينتظر رفع الإمام وعنه وعن أشهب لا يرجع؛ لأن الركوع أو السجود قد تم، فتكراره زيادة في الصلاة. وقال سحنون يرجع وبقي بعد الإمام بقدر ما يقوم الإمام، في " شرح المهذب " للنووي إن تقدم الإمام بركوع أو سجود، ولحقه الإمام قبل أن يرفع رأسه لا تبطل صلاته عمدا كان أو سهوا، وفي وجه شاذ ضعيف تبطل إن تعمده، وهل يعود فيه ثلاثة أوجه الصحيح استحباب عوده لقول أصحابنا، ثم يركع معه الثاني لزومه، للثالث حرمة العود، فإن تعمده بطلت صلاته وإن سبق بركعتين بطلت صلاته إن تعمد عالما بتحريمه، وإن كان جاهلا أو ساهيا لم تبطل، لكن لا يعتد بتلك الركعة فيأتي بها بعد سلام الإمام، وإن رفع والإمام بعد في القيام فتوقف حتى ركع الإمام ثم رفع من الركوع فاجتمعا في الاعتداد ففيه وجهان، أحدهما تبطل صلاته، والثاني أن التقدم بركن لا تبطل [....] ، وهو الصحيح المنصوص.
والحاصل أن المخلف بركن واحد لا تبطل على الصحيح، وفيه وجه للخراسانيين أنه تبطل، وإن تخلف بركنين بطلت، يكره عندنا تكرار الجماعة في مسجد واحد، كذا في " الذخيرة " و " الوبري " وغيرهما وبه قال مسلم وأبو قلابة وابن عوف وعثمان البتي والأوزاعي والثوري وأيوب والليث ومالك والشافعي. وقال النووي: إذا لم يكن إمام راتب للمسجد فلا كراهة للجماعة الثانية والثالثة بالإجماع، وأما إذا لم يكن راتب وليس المسجد مطروقا فمذهبنا كراهة الجماعة الثانية بغير إذنه ويصلون فيه أفرادا خلافا لأحمد وهو قول ابن مسعود وعطاء والحسن والنخعي والظاهرية، واختاره ابن المنذر.
وفي " المبسوط " وغيره جعل مذهب الشافعي مثل قول أحمد، وفي " الذخيرة " عن أبي يوسف أنه يكره ذلك إذا كان القوم كثيرا أما إذا صلى واحدا باثنين بعدما صلى فيه أهله فلا بأس به، وعن محمد أنه لم ير بأسا بالتكرار إذا صلوا في رواية في المسجد على سبيل الخفية لا التداعي والاجتماع، وقال القدوري في كتابه: إذا كان المسجد على قارعة الطريق يوم وليس له إمام معين فلا بأس بتكرار الجماعة فيه، ولو صلى فيه غير أهله جماعة فلأهله الإعادة إذا لم يؤدوا حقه،(2/580)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن صلى فيه بعض أهله فليس لبقية أهله أو لغيرهم أن يصلوا جماعة، وفي " المبسوط " صلى فيه أهله أو أكثرهم، قال أبو يوسف: لا بأس بأن يصلوا جماعة في غير الموضع الذي صلى فيه الجماعة بغير أذان وإقامة، ذكره عن الوبري وغيره وإن فاتته الجماعة في مسجد، ويمكن أن يدركها في مسجد آخر إن شاء صلى في مسجده وحده، وإن شاء ذهب إلى غيره فصلى بجماعة فراعى حق المسجد وفضل الجماعة، وقيل: يذهب فيصلي بالجماعة لزيادة فضلها. وقال الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ - كان أصحابه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذا فاتتهم الصلاة بالجماعة صلوا فرادى في المسجد، وقال مالك لو صلى إمام المسجد وحده صلوا فرادى بعده، ولو غاب الإمام وصلوا بغيره إن كان بإذنه لا تعاد وإلا أعيدت.(2/581)
باب قضاء الفوائت ومن فاتته صلاة قضاها إذا ذكرها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب قضاء الفوائت] [كيفية قضاء الفوائت]
م: (باب قضاء الفوائت) ش: أي هذا باب في بيان حكم قضاء الصلوات الفوائت وهو جمع فائتة من فات يفوت، والقضاء أصله قضاي، لأنه من قضيت وقعت الياء بعد ألف زائدة فقلبت همزة كما عرف في التصريف.
وهو مستعمل على وجه بمعنى الحكم، ومنه: {وَقَضَى رَبُّكَ} [الإسراء: 23] (الإسراء: الآية 23) ، وفرغ ومنه قضى حاجته والقتل، ومنه ضربه: {فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15] (القصص: الآية 19) ، واسم قاض أي قاتل والموت، ومنه قضى نحبه، أي مات، والإنهاء ومنه {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} [الحجر: 66] والمعنى، ومنه {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} [يونس: 71] ، والصنع والتقدير ومنه: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] (فصلت: الآية 12) ومنه القضاء والقدر والصلح، ومنه في حديث الحديبية قاضاهم على أن يؤدوا، أي صالحهم، والطلب ومنه اقتضى دينه وتقاضاه، والأداء ومنه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] (الجمعة: الآية 10) .
وأما معناه الشرعي فالقضاء إسقاط الواجب بمثل من عند المأمور وهو حقه، والأداء تسليم عين الواجب بسببه إلى مستحقه، هذا اختيار شمس الأئمة السرخسي، وعبارة فخر الإسلام البزدوي اسم لتسليم نفس الواجب بالأمر، والقضاء اسم لتسلم مثل الواجب به، ثم القضاء يجب بالسبب الذي يجب به الأداء، ولهذا يجهر الإمام بالقراءة إذا قضاها في الإقامة، ويصلي صلاة الإقامة أربعا إذا قضاها في السفر، وقيل: يجب بسبب جديد، وقد عرف في موضع، ولما كان المأمور به على نوعين أداء وقضاء، وقد فرغ من الأداء وشرع في القضاء كذا قاله الشراح.
قلت: معنى صلاة الجمعة والعيدين وصلاة الجنازة، وأما المناسبة بين البابين فمن حيث وجود معنى الإدراك فيهما.
م: (ومن فاتته صلاة) ش: فيه رعاية الأدب حيث لم يقل: من تركها؛ لأن ترك الصلاة لا يليق بحال لمسلم [ ... ] تحسينا للظن به، وحملا لأمره على الصلاح لذلك في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من نام عن صلاة أو نسيها» فإن الحكم غير مقتصر على النوم والنسيان، لأنه إذا ترك فسقا أو مجانة يجب القضاء أيضا بالإجماع، لكن أخرجه صاحب الشرع مخرج العبارة والظن بالخير م: (قضاها إذا ذكرها) ش: سواء كان فوتها ناسيا أو بغير عذر النسيان أو عامدا وبه قال مالك والشافعي، وقال أحمد وابن حبيب: لا يقضي المتعمد في الترك، لأن تاركها مرتد.(2/582)
وقدمها على فرض الوقت، والأصل فيه أن الترتيب بين الفوائت وبين فرض الوقت عندنا مستحق، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مستحب. لأن كل فرض أصل بنفسه فلا يكون شرطًا لغيره،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولنا ما رواه مسلم عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها» فإن الله عز وجل يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ، قوله: لذكري أي لذكر صلاتي من مجاز الحذف أو من مجاز الملازمة، لأنه إذا قام إليها فقد ذكر الله فيها، وإنما خصص الشارع النائم والغافل بالذكر لذهاب الإثم في حقهما الذي هو من لوازم الوجوب فتوهم انتفاء القضاء لانتفاء الوجوب، فأمر الشارع بالقضاء من باب التبيين بالأدنى على الإعلام الذي هو المعتمد.
م: (وقدمها على فرض الوقت) ش: أي قدم الفائتة على الوقتية لوجوب الترتيب على ما يأتي الآن م: (والأصل فيه) ش: في هذا الباب م: (أن الترتيب بين الفوائت وبين فرض الوقت مستحق) ش: أي واجب م: (عندنا) ش: وبه قال النخعي والزهري وربيعة ويحيى الأنصاري والليث ومالك وأحمد وإسحاق، وعن ابن عمر ما يدل عليه م: (وعند الشافعي مستحب) ش: أي الترتيب مستحب غير واجب، وهو قول طاوس وأبي ثور ومذهب ابن القاسم وسحنون أن الترتيب غير واجب ولا شرط.
وفي " الذخيرة " وظاهر " المدونة " الوجوب والشرطية لقضائه تعاد الحاضرة. ومذهب الظاهرية عدم وجوب الترتيب واعتبروه مضافا، ومذهب مالك أن الترتيب واجب كما قلنا ولكنه لا يسقط بالنسيان ولا بضيق الوقت ولا يكره الفوائت، كذا في " شرح الإرشاد "، وفي " شرح المجمع " والصحيح المعتمد عليه من مذهب مالك سقوط الترتيب بالنسيان كما نطقت به كتب مذهبه، وعند أحمد لو تذكر الفائتة في الوقتية يتمها ثم يصلي الفائتة ثم يعيد الوقتية، وذكر بعض أصحابه، أنها تكون نافلة وهذا يفيد وجوب الترتيب، ولو اجتمعت الفوائت وجب عليه الترتيب مع الذكر، ولا فرق بين قليلها وكثيرها إلا أن يضيق الوقت فعنه روايتان كذا في " الحلية ".
م: (لأن كل فرض أصل بنفسه فلا يكون شرطا لغيره) ش: فإذا كان الترتيب فرضا يلزم أن يكون إذا الفائت شرطا لصحة الوقتية فلا يجوز لأن شرط الشيء تبع لذلك الشيء وكل صلاة أصل بنفسها وبين كون الشيء أصلا وتبعا ينافي ذلك كالصيامات المتروكة والمدلولات وسائر العبادات، فإن صوم اليوم الأول لا يتوقف على صحة اليوم الثاني فإن قلت: يرد على ما ذكرته الإيمان؛ فإنه أصل جميع العبادات، وهو شرط لصحتها، والصوم فرض مستقل، وهو شرط الاعتكاف الواجب بالاتفاق. قلت: الأصل هذا وهو أن الشيء إذا كان مقصودا بنفسه لا يكون شرطا لغيره، ولكن إذا قام دليل على أنه شرط لغيره يصح أن يكون شرطا لغيره مع بقائه مقصودا(2/583)
ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من نام عن صلاة أو نسيها فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل التي هو فيها ثم ليصل التي ذكرها ثم ليعد التي صلى مع الإمام» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في نفسه، وما ذكره من المنافاة لا يلزم عند اختلاف الجهة فالله تعالى جعل الإيمان شرطا لصحة سائر العبادات في قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94] (الأنبياء: الآية 94) ، وكذلك نفي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صحة الاعتكاف بدون الصوم في قوله: «لا اعتكاف إلا بصوم» ، فصار كل واحد منهما شرطا لغيره، وهذين النصين مقام الدليل وأما ما لم يقم الدليل على تعيينه فهو على حقيقته أن لا يصير شرطا لغيره وفي " الجنازية " و " الكافي " سائر العبادات فرع الإيمان والفرع لا يوجد بدون الأصل، فيكون الأفعال على نوعين: افتقار المشروط إلى الشرط، وافتقار الفرع إلى الأصل، وفيما نحن فيه لا يجوز الافتقار بنوعيه فلا يكون شرطا لغيره ولا فرعا له، لأن كل واحد له أصل بنفسه.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من نام عن صلاة أو نسيها فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل التي هو فيها ثم ليصل التي ذكرها ثم ليصل التي صلاها مع الإمام» ش: هذا الحديث أخرجه الدارقطني ثم البيهقي في " سننيهما " عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليتم صلاته، فإذا فرغ من صلاته فليعد التي نسي ثم ليعد التي صلاها مع الإمام» ، وقال الدارقطني: الصحيح أنه من قول ابن عمر كذا رواه مالك عن ابن عمر من قوله، وقال عبد الحق: وقد وقفه سعيد بن عبد الرحمن الجمحي ووقفه يحيى بن معين.
قلت: وأخرجه أيضا أبو حفص بن شاهين مرفوعا.
فإن قلت: روى الدارقطني عن ابن عباس، أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إذا نسي أحدكم صلاة فذكرها، وهو في صلاة مكتوبة فليبدأ بالتي هو فيها، فإذا فرغ صلى التي نسيها» .
قلت: هو مقطوع ضعيف يرويه بقية بن الوليد عن عمر بن أبي عمر عن مكحول عن ابن عباس، ودلالة حديث الكتاب على وجوب الترتيب ظاهرة حيث أمر بإعادة ما هو فيها عند التذكير. وقال الأكمل: وفيه من أوجه.
قلت: ذكر أربعة أوجه أخذه من كلام السغناقي وغيره ولم يعب التلخيص [.....] الأول أنه متروك للظاهر لأنه يدل على وجوب القضاء على النائم والناسي لا غير.
والوجوب ثابت على من فوت الصلاة عمدا أيضا بالإجماع، ومتروك الظاهر لا يكون حجة خصوصا في إفادة الفريضة. وأجيب بأنه يدل على ذلك بدلالته لأنه لما وجب على المعذور فعلى غيره أولى. فقال الأكمل: يروه أن هذا إنما يستقيم إن لو كان قضاء الفائتة عقوبة، وليس(2/584)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كذلك بل هو رحمة ولا يلزم من استحقاق المعذور ذلك استحقاق غيره العاصي وفيه نظر، لأن المفوت عاص والعاصي مستحق العقوبة وإن كان رحمة الله نعمة وعبرة.
والثاني: أن هذا خبر واحد وهو لا يوجب العلم فكيف يثبت به الفرض. وأجاب الأترازي عن هذا بقوله.
قلت: لما ورد بيانا لمجمل الكتاب فالتحق به فصار كأن فرض الترتيب يثبت بالكتاب وفيه نظر، لأن دعوى الإجمال غير مسلمة.
وقال الأكمل في هذا الوجه: إن هذا خبر واحد لا يعارض المشهور فإن الجواز يثبت به كما زالت الشمس مثلا. فلو كان الترتيب فرضا بما رويتم بطل بما تثبت بالمشهور ثم أجاب عنه بقوله: بأنا ما أبطلنا به العمل بالمشهور، بل أخرناه عملا بالحديث الآخر احتياطا، أو كان ذلك أهون من إعمال العمل بخبر الواحد أصلا على أنهم قالوا: إنه ليس خبر واحد بل هو مشهور تلقته الأمة بالقبول، فإنهم اجتمعوا على وجوب القضاء الثابت به.
قلت: هذان جوابان.
الأول: مذكور في " مبسوط شيخ الإسلام ".
والثاني: وهو قوله عليه أنهم قالوا إلخ جواب في التعيين، وقد قال في الجواب الأول: هذا استدلال ذهب إليه العراقيون من مشايخنا، وهو فاسد؛ لأن فيه معارضة الخبر الواحد الكتاب، فإن للكتاب يقتضي الجواز، والخبر يقتضي عدمه والصحيح أن يقال: إن هذا حديث مشهور وهو موجب للعمل الاستدلالي المضاهي للعلم الضروري، ولهذا يضلل جاحده، فجاز أن يعارض الكتاب.
قلت: قول الأكمل فإنهم أجمعوا على وجوب القضاء الثابت به فيه نظر؛ لأن إجماعهم على وجوب القضاء به لا يستلزم وجوب الترتيب، وذكروا هنا ثلاثة أجوبة أخرى كلها لا تخلو عن التأويل الأول: قال الخبازي لا نسلم أن الكتاب يقتضي جواز الوقتية فرضا كما زالت الشمس فإنه يقع نفلا عند أهل العلم، فلم يكن الكتاب متعرضا لجوازه فرضا لمكان الاختلاف.
الثاني: ذكره النسفي، والترتيب ثابت بالنص فإن الكتاب يقتضي أن أداء الفجر قبل أداء الظهر والعصر بحكم الأداء فيلزم القضاء كما يلزم الأداء.
والثالث: ذكره الشيخ عبد العزيز موجب الدليل القطعي الجواز في الوقت بلا تعيين جزء منه له، وهو الموجب الأصلي له، والجواز قبل الفائتة ليس بحكم أصلي؛ لأنه يجوز تفويته بترك الأداء بلا ضرورة ولا إثم، لإمكان تحصيله في الأجزاء الباقية والعمل بخبر الواحد عند.(2/585)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التسعة لا يفوت بالموجب الأصلي ولكن يفوت الجواز الذي يباح بالترك، ومثل هذا التفويت لا يمنع العمل بخبر الواحد لأن تفويته لما جاز، فالاستقبال بالعمل بخبر الواحد جاز بالطريق الأولى بخلاف العمل بخبر الواحد في الطواف والتعديل والقراءة ونحوها لأنه يفوت العمل بموجب الدليل القطعي الذي هو الإطلاق وهو الموجب الأصلي فيها فلا يجوز تركه.
الوجه الثالث: إنكم عملتم بهذا الحديث ولم تعملوا بخبر الواحد وهما خبر واحد فكان تناقضا، وقال الأكمل في جوابه: إن العمل بخبر الفاتحة على وجه يلزم فساد الصلاة بتركها موجب النسخ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] (المزمل: الآية 20) وذلك لا يجوز بخلاف صورة النزاع فإن فيها العمل بالكتاب والخبر جميعا وذلك لأن قَوْله تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] (الإسراء: الآية 78) يدل على أن هذا الوقت وقت الظهر، ولا يتعرض بتقديم الفائتة عليه لا بنفي ولا إثبات، وخبر الترتيب يدل على التقديم فعملنا بهما انتهى قلت: توضيح هذا الوجه الذي ذكره هو أن الحال ما علمتم بخبر الفاتحة مثلما علمتم بخبر وجوب الترتيب حيث قلتم بفساد الصلاة عند ترك الترتيب، وما قلتم بفساد الصلاة عند ترك الفاتحة مع أن كلا منهما ثبت بخبر الواحد، وتوضيح الجواب أن القراءة ركن في الصلاة ولا يجوز إثبات الركن بمثل هذا الخبر، والترتيب شرط فجاز إثبات الشرط به، وجوب آخر أن صيغة قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لا صلاة، يستعمل استعمالا ظاهرا لنفي الكمال، كما في قوله لا فتى إلا علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فيمكن أن يحمل على نفي الكمال، وحديث الترتيب ورد في وجوبه، ففيه بيان النهاية ولا يحتمل غيره.
الوجه الرابع: أن الترتيب يسقط بالنسيان وضيق الوقت وكثرة الفوائت وشرط الصلاة لا يسقط بشيء من ذلك كالطهارة واستقبال القبلةِ. قلت: هذا الوجه ذكره صاحب " المحيط " من جهة الشافعي توضيحه أن كل واحد من الفرضين ليس بشرط للآخر في حق الجواز، ولهذا يسقط الترتيب عند النسيان وضيق الوقت وكثرة الفوائت، وشرائط الصلاة لا تسقط بعذر النسيان وضيق الوقت كالطهارة واستقبال القبلة ولا يلزمني وجوب الترتيب بين الصلوات حالة الأداء لأنه في هذه الصورة في أوقاتها وذلك لا يوجد في الفوائت لأنها صارت مرسلة عن الوقت ثابتة في الذمة، وأجاب عنه السغناقي بما ذكره صاحب " المبسوط " و " المحيط " بأن حالة النسيان ليست بوقت للفائتة، لأن وقت الفائتة وقت التذكر وهو ناس فلا يكون وقتا لها فكان وقت الفرائض الوقت، وأما حال ضيق الوقت لأنه ثبت بخبر الواحد وهو لا يعارض الكتاب والمتواتر وكثرة الفوائت بمعنى ضيق الوقت وأما قوله لأنها صارت مرسلة عن الوقت فغير مسلم بهذا الحديث، وذكر شمس الأئمة السرخسي في " الجامع الصغير " في تعليل وجوب الترتيب مراعاة(2/586)
ولو خاف فوت الوقت يقدم الوقتية ثم يقضيها؛ لأن الترتيب يسقط بضيق الوقت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الترتيب بين الصلوات ثابتة وقتا وفعلا، أما وقتا فظاهر.
وأما فعلا فلأن الظهر والعصر بعرفات اجتمعا في حق الحاج في وقت واحد، ثم لو بدأ بالعصر قبل الظهر لا يجوز فكذلك هاهنا كما أنه لو فاتته مراعاة الترتيب وقتا يلزمه فعلا لأن وقت التذكر وقت للفائتة وقد فاتته وقتا فيلزمه إعادته فعلا كما في الصورة المتقدمة.
فإن قلت: كون الترتيب يسقط مع النسيان يوجب أن يسقط مع الذكر كما إذا فاته يومان من رمضان.
قلت: هذا القياس غير صحيح. لأن النسيان عذر والذكر لا، فقياس ما ليس بعذر على ما هو عذر باطل. وأما قضاء رمضان فإنه فرض مكرر ولا كلام لنا في المتكرر. لأن الصلاة إذا تكررت لفظة الترتيب فيها أيضا.
فإن قلت: لو كان وقت التكرار وقتا لفائتة لجازت الفائتة بنية الوقتية ولجاز أداء الفائتة عند احمرار الشمس لأنه وقت التذكر كما جاز أداء عصر يومه.
قلت: اسم الوقتي مطلقا ينصرف إلى ما هو الوقتي بصفة الكمال وهو ما ثبت وقته بالكتاب والخبر المتواتر، والذي قلنا وجوب الترتيب بخبر الواحد ما قلنا إلا للاحتياط في العمل، وأما عدم جواز قضاء الفائتة عند احمرار الشمس فلوجوبها في ذمته بصفة الكمال فلا يؤدي في الوقت الناقص للاحتياط بخلاف عصر يومه لنقصان السبب في حقه.
م: (ولو خاف فوت الوقت يقدم الوقتية ثم يقضيها) ش: أي ولو كانت عليه فائتة وأراد أن يقضيها في وقت من أوقات الصلاة، فخاف خروج هذا الوقت يقدم الصلاة الوقتية، لأن الحكمة لا تقتضي إضافة الموجود في طلب المفقود م: (لأن الترتيب يسقط بضيق الوقت) ش: وإنما يسقط به لئلا يلزم ترك العمل بكتاب الله، ولأن فرض الوقت آكد من فرض الترتيب، وفي " المحيط " اختلف المشايخ فيما بينهم. أن العبرة لأصل الوقت أم للوقت المستحب الذي لا كراهية فيه، قال بعضهم: العبرة للوقت المستحب، وقال الطحاوي: على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف، العبرة لأصل الوقت، وعلى قياس قول محمد: العبرة للوقت المستحب.
بيانه إذا شرع في العصر وهو ناس للظهر ثم تذكر الظهر في وقت أو اشتغل بالظهر يقع العصر في وقت مكروه، فعلى قول من قال العبرة لأصل الوقت، يقطع العصر ويصلي الظهر بعد غروب الشمس وفي " المنتقى " وفي " نوادر الصلاة ": إذا افتتح العصر في أول وقتها وهو ناس للظهر ثم احمرت الشمس، ثم ذكر الظهر يمضي في العصر، وهذا نص على أن العبرة للوقت المستحب، وفي " جامع قاضي خان " يعتبر ضيق الوقت عند الشروع حتى لو شرع مع تذكر الفائتة(2/587)
وكذا بالنسيان بكثرة الفوائت كيلا يؤدي إلى تفويت الوقتية؛
لأن النهي عن تقديمها لمعنى في غيرها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في أول الوقت وأطال القراءة حتى ضاق الوقت لا يجوز إلا أن يقطع فشرع عند الضيق.
م: (وكذا بالنسيان) ش: أي وكذا يسقط بالنسيان، وقال شيخ الإسلام: من جهل فرضية الترتيب لا يفترض عليه كالناسي. رواه مسلم عن أبي حنيفة وهو قول جماعة من أئمة بلخ.
م: (بكثرة الفوائت) ش: أي وكذا يسقط بكثرة الفوائت م: (كيلا يؤدي إلى تفويت الوقتية) ش: أما في النسيان فلأن الحديث شرط الذكر وأما بكثرة الفوائت فلأنه إذا اشتغل بها تفوته صلاة الوقت وهي أيضا في معنى ضيق الوقت، وعند زفر لا يسقط الترتيب إلى شهر حتى إذا تركه فسدت صلاة الشهر كلها وهو المذكور في " شرح الطحاوي " و " المنظومة " و " المختلف "، وفي " شرح الأقطع " قال زفر: لا يسقط الترتيب أبدا.
وفي " المحيط " قال زفر: الترتيب لا يسقط بكثرة الفوائت إذا كان الوقت يتسع لها، وللوقتية، وإن كانت الفوائت عشرا أو أكثر. فيفهم من ذلك أن يكون عند زفر ثلاث روايات كما ترى، وعند ابن أبي ليلى: لا يسقط الترتيب إلى سنة، وعند بشر بن غياث: لا يسقط في جميع عمره.
م: (ولو قدم الفائتة جاز) ش: عطف على قوله ولو خاف فوت الوقت فقدم الوقتية يعني الواجب عليه تقديم الوقتية ولو قدم الفائتة عليها عند ضيق الوقت جاز أيضا م: (لأن النهي عن تقديمها) ش: أي عن تقديم الفائتة م (لمعنى في غيره) ش: أي لمعنى في غير الفرض الفائت وهو أداء الوقتية في وقتها لهذا التأويل ذكر الضمير في غيره مع أنه راجع إلى الفائتة يعني حتى إنه أثبت في قوله عن تقديم والنهي بمعنى في غيره لا بعدم المشروعية كما في الصلاة في الأرض المغصوبة.
وفي " المبسوط ": لو بدأ بالفائتة عند ضيق الوقت يجوز بخلاف ما لو بدأ بالوقتية عند سعة الوقت حيث لم تجز؛ لأن النهي عن بداية فرض الوقت لمعنى في عينه، وهو كونه مؤدى قبل وقته الثابت بالخبر فتقدم مشروعيته كالنهي عن بيع الخمر والنهي عن البداءة بالفائتة عند لبس لمعنى في عينها بل لما فيه من تفويت فرض الوقت، والنهي متى لم يكن في غير المنهي عنه لا يمنع جوازه.
فإن قلت: ضده، أين مورد النهي عن الفائتة عند ضيق الوقت.
قلت: المراد من النهي قَوْله تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] (الإسراء: الآية 78) لأن الأمر نهي عن ضده، وفيه كلام بين في الأصول وقيل المراد به الإجماع لا نهي الشارع. فإن الإجماع منعقد على تقديم الوقتية عند ضيق الوقت وهو الأصح.(2/588)
بخلاف ما إذا كان في الوقت سعة وقدم الوقتية حيث لا يجوز لأنه أداها قبل وقتها الثابت بالحديث.
ولو فاتته صلوات رتبها في القضاء كما وجبت في الأصل؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بخلاف ما إذا كان في الوقت سعة وقدم الوقتية حيث لا يجوز) ش: قد بينا الفرق بين هذه المسألة وبين التي قبلها، ناقلا عن " المبسوط " وعلل المصنف لهذا بقوله م: (لأنه أداها) ش: أي لأن المصلي أدى الوقتية م: (قبل وقتها) ش: الفائت م (الثابت بالحديث) ش: أي قبل وقت الوقتية الذي ثبت ذلك الوقت بها بالحديث المذكور وهو واجب العمل.
ثم اعلم أن المصنف ذكر الأعذار التي يسقط بها الترتيب:
الأول: الظن المعتبر ذكره في " الجامع "، فيمن توضأ للظهر والدم سائل ثم انقطع فصلى الظهر ودخل وقت العصر فتوضأ وصلى العصر ودخل وقت المغرب فسال الدم أو لم يسل.
فإنه يعيد الظهر لأنه صلاها بالطهارة دون الأعذار [....] ، ولا يعيد العصر لأنه حين صلاها لم يتحقق بفساد الظهر فهو مظن صحته.
الثاني: بخلاف في فسادها ووجوب إعادتها مسألة صلى الفجر بغير وضوء ثم صلى الظهر وهو ذاكر للفجر.
ويرى أنه يجزيه فإنه يعيد الفجر ويرى أنه يجزيه فإنه يعيد الفجر والظهر، ولو أعاد الفجر ولم يعد الظهر حتى صلى العصر، فإن العصر يجزئه، إذ في جواز الظهر اختلاف ويعيد الظهر، لأنه صلاها وعليه الفجر ذاكرا لها، والاختلاف في إعادتها ذكره الأسبيجابي.
وفي " جوامع الفقه " لأن الظهر ليس عليه التعيين بخلاف الفجر، قيل هذا قول أبي حنيفة، وأما على قول زفر والحسن ورواية عن أبي يوسف إن كان عنده أن تلك وقعت جائزة يجوز الوقتية وإلا فلا، قال في ظاهر الرواية يجوز مطلقا.
الثالث: اختلف المشايخ فيه ذكره في " مختصر البحر المحيط " امرأة تركت الظهر ثم حاضت في العصر ثم طهرت سقط الترتيب، وكذا لو فاتها ثلاث أو أربع قبل الحيض، وقال المرغيناني لا يسقط قيل هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ورواية عن محمد وفي رواية محمد أنه لا تصح الوقتية، وقال محسن هذا بناء على أن الاعتبار في الكثرة بالمدة عندهما، وعند محمد بالصلاة ذكرها محسن: فيمن نسي فائتة، ثم ذكرها بعد شهر، وإذا أضفنا إلى هذه الستة ما نقله شيخ الإسلام عن الحسن عن أبي حنيفة أن الجاهل بالترتيب كالناسي يكون الأعذار التي يسقط بها الترتيب سبعة.
م: (ولو فاتته صلوات رتبها في القضاء كما وجبت في الأصل) ش: أراد بهذا أن بيان الترتيب كما أنه فرض بين الوقتية والفائتة فكذلك بين الفوائت نفسها، إلا أن يزيد على ست كما يأتي بيانه إن(2/589)
«لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شغل عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهن مرتبا، ثم قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شاء الله تعالى، قوله كما وجبت أي كوجوبها في ابتداء الفرض مرتبة م: (لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شغل عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهن مرتبا، ثم قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ش: هذا الحديث روي عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
فحديث ابن مسعود أخرجه الترمذي والنسائي عن أبي عبيدة عن أبيه عن عبد الله بن مسعود، قال: قال ابن مسعود: «إن المشركين شغلوا رسول الله عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء» رواه أحمد في " مسنده ".
وقال الترمذي: ليس بإسناده بأس، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، ووهم الشيخ علاء الدين مقلدا لغيره، فنقل كلام الترمذي إلا أن أبا عبيدة لم يدرك أباه، والترمذي لم يقل ذلك في جميع كتابه، وإنما قال لم يسمع منه، ذكره في خمس مواضع من كتابه، وكذلك قال النسائي في " سننه الكبرى " في باب صف القدمين وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه.
وقال أبو داود: توفي عبد الله بن مسعود ولولده أبي عبيدة سبع سنين، واسم أبي عبيدة عامر.
وحديث أبي سعيد رواه النسائي من حديث عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه، قال: «حبسنا يوم الخندق عن الظهر والعصر والمغرب والعشاء حتى كفينا ذلك، فأنزل الله تعالى {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] (الأحزاب: الآية 25) فقال رسول الله فأمر بلالا فأقام ثم صلى الظهر كما كان يصليها قبل ذلك، ثم أقام فصلى العصر كما كان يصليها قبل ذلك، ثم أقام فصلى المغرب كما كان يصليها قبل ذلك، ثم أقام للعشاء، فصلاها كما كان يصليها قبل ذلك، وذلك قبل أن ينزل {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] (البقرة: الآية 239) » ورواه ابن حبان في " صحيحه ".
وحديث جابر أخرجه البزار في " مسنده " عن مجاهد عن جابر بن عبد الله «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شغل يوم الخندق عن صلاة الظهر، والعصر والمغرب والعشاء، حتى ذهبت ساعة من الليل، فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى الظهر ثم أمره فأذن وأقام يصلي العصر، ثم أمره فأذن وأقام وصلى المغرب، ثم أمره فأذن وأقام وصلى العشاء، ثم قال: " ما على ظهر الأرض قوم يذكرون الله(2/590)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في هذه الساعة غيركم» ، وفيه عبد الكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف، قوله يوم الخندق، أي يوم حفر الخندق بالمدينة، وكان في سنة خمس من الهجرة، وذكر السغناقي في هذا الموضوع روي أنه شغل عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهن من بعد يؤدي من الليل مرتبا، ثم قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» فوقع التشبيه على أصله ووصفه، فدل أن أداءها بوصف الترتيب شرط ثم قيل ولم يقل النبي كما صليت، بل قال: «كما رأيتموني أصلي» ، لأنه لا يمكن لأحد أن يصلي مثل صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكره الأكمل مختصرا، ولم يبين من هو الراوي لهذا الحديث. وقال الأكمل: أمر بالتشبيه مطلقا، والكامل منه ما يقع على كنهه وكيفيته فدل على أن الأداء بوصف الترتيب شرط، وإنما لم يقل كما صليت لذا، انتهى.
وذكر صاحب " الدراية " كما ذكره السغناقي غير أنه قال في آخره رواه أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثم قال: وعن الإمام العلامة الكردري في قوله «كما رأيتموني أصلي» ولم يقل كما رأيتموني صليت، لأنه ليس في وسع أحد أن يصلي مثل صلاته، وهؤلاء كلهم ذهلوا عن بيان حقيقة هذا الحديث، ولو وقفوا على حقيقته لشبهوا على قوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي» فإنه ليس في هذا الحديث وهو في حديث مالك بن الحويرث أخرجه البخاري في الأذان عن أبي قلابة حدثنا مالك بن الحويرث [....] وفيه: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
والمصنف أيضا ما تنبه على هذا، ولو قال: وقال: «وصلوا كما رأيتموني أصلي» بواو العطف لا بكلمة ثم لكان أجود وأصوب، وأيضا متن الحديث الذي ذكره صاحب " الدراية " ليس لأبي سعيد وإنما هو لعبد الله بن مسعود والذي ذكره السغناقي في توجيه معنى قوله «صلوا كما رأيتموني أصلي» - غير سديد، بل الذي يقال فيه أنه تشبيه، والتشبيه لا عموم له، وأما الأكمل فإنه لم يظهر السر الذي أخفاه.
فإن قلت: قوله فقضاهن الضمير فيه يرجع إلى قوله عن أربع صلوات - وذكر منها العشاء والعشاء ما فاتته فظاهر يدل على أن العشاء أيضا من الفوائت وليس كذلك.
قلت: نعم صلاها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في وقتها ولكن لما أخرها عن وقتها المعتاد لها سماها الراوي فائتة مجازا، والدليل على ذلك أن ابن حبان روى هذا الحديث في " صحيحه "، ولم يذكر فيه العشاء وهذا يوضح أن العشاء لا تعد من الفوائت إلا مجازا فافهم.(2/591)
إلا أن تزيد الفوائت على ست صلوات؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إلا أن تزيد الفوائت على ست صلوات) ش: استثناء من قوله ومنها في القضاء والمعنى الذي يراد به هاهنا إلا أن تصير الفوائت ستا، ولأجل عدم إفادة ظاهر التركيب المقصود منه اختلف الشراح فيه، فقال السغناقي: ظاهر هذا الكلام يقتضي أن تصير الفوائت تسعا، لأنه ذكر الفوائت بلفظ الجمع والزيادة غير المزيد عليه والمزيد عليه ست فيصير المجموع تسعة، لكن معناه أن لا تصير الفوائت في نفسها زائدة على ست صلوات، والمراد من الصلوات أوقاتها، فإن فوت الصلاة السابعة ليس بشرط بالإجماع ورواه الأكمل بقوله فإنه يقتضي أن تزيد الفوائت على ستة أوقات، وذلك إنما يكون السابعة وليس بمراد.
قلت: هذا يراد من كلام الأترازي لأنه قال وقال بعض الشارحين المراد بست صلوات الأوقات ثم قال وفيه نظر عندي وذكره وأراد ببعض الشارحين السغناقي.
وقال الأكمل: وقيل أراد أوقات الفوائت بحذف المضاف، ورد بأنه يستدعي زيادة الأوقات على ست صلوات، وذلك إنما يكون بفوات وقت السابعة وليس بمراد.
قلت: هذا أيضا من كلام الأترازي وهذا نقله عن تاج الشريعة.
قلت: هذا الرد ليس له وجه، لأنه إذا مضى جزء من وقت الصلاة السابعة فقد زاد الوقت على السبعة، وبدخول جزء منه لا تكون السابعة فائتة، ثم إطلاق اسم الفائتة عليه يكون تغليبا.
وقال الأكمل أيضا: وقيل: أراد بالفوائت الأوقات، ومعناه إلا أن تزيد الأوقات على ست صلوات، ورد برد يشتمل على ما تقدم عليه من الوجهين وهو أن الزيادة لا بد أن تكون من جنس المزيد عليه، وذلك معدوم في هذه التأويلات كلها كما ترى.
قلت: قائل هذا القول بعضهم، نقله صاحب " الدراية " عنه يوضح كلامه أنه لا شك أن المزيد يكون غير المزيد عليه، وأن يكون من جنسه، والوقت ليس من جنس الصلاة، والفوائت جمع فائتة أقله ثلاثة فيقتضي التركيب أن تكون الفوائت سبعا حتى يسقط الترتيب وليس كذلك، ونحن نقول: إن المراد من مثل هذا التركيب أن يكون في نفسه أكثر من العدد المذكور، لأن المزيد والمزيد عليه كلاهما مرادان جميعا، كقولهم هذه الدراهم تزيد على مائة معناه عددها يزيد على عدد المائة لا أن تكون الدراهم مع المائة مرادا به.
ومنه قَوْله تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] (الصافات: الآية 147) ، فإذا كان كذلك لم يشترط لصحة الكلام أكثر من واحد، لأن الأكثرية على المذكور يحصل به فيقتضي اشتراط السبع دون التسع، وقيل دخلت اللام في الجمع والمراد الجنس فلا يشترط الثلاثة، وهذا أحسن مما قاله الأكمل وإسحاق أن يقدر مضافان وتقديره إلا أن يزيد أوقات الفوائت على أوقات ست صلوات بحسب دخول الأوقات دون خروجه.(2/592)
لأن الفوائت قد كثرت فتسقط الترتيب فيما بين الفوائت نفسها كما سقط بينها وبين الوقتية، وحد الكثرة أن تصير الفوائت ستا لخروج وقت الصلاة السادسة، وهو المراد بالمذكور في " الجامع الصغير " وهو قوله:
وإن فاتته أكثر من صلاة يوم وليلة أجزأته التي بدأ بها؛ لأنه إذا زاد على يوم وليلة تصير ستا، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه اعتبر دخول وقت السادسة والأول هو الصحيح؛ لأن الكثرة بالدخول في حد التكرار، وذلك في الأول. ولو اجتمعت الفوائت القديمة والحديثة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن الفوائت قد كثرت فيسقط الترتيب فيما بين الفوائت نفسها كما سقط بينها وبين الوقتية) ش: لأن كثرة الفوائت لما كانت مسقطة للترتيب في اعتبارها كانت مسقطة له في نفسها بالطريق الأولى، لأن العلة إذا كان لها أثر في غير محلها فلأن يكون لها أثر في محلها أولى، والحاصل أن العلة إذا قامت بشيء يوجب الحكم في ذلك الشيء لا غيره فإذا أثر في غيره فأولى أن يؤثر في نفسه.
م: (وحد الكثرة أن تصير الفوائت ستا) ش: أي ست صلوات م: (لخروج وقت الصلاة السادسة) ش: المستلزمة لدخول وقت السابعة في الأغلب، وفي " المجتبى " إلا أن تزيد الفوائت على خمس صلوات، لأن كثرة الفوائت في معنى ضيق الوقت والكثرة بالست للتكرار، فإذا دخل وقت السابعة سقط الترتيب عندهما، وعند محمد إذا دخل وقت السادسة، وفي " مبسوط شيخ الإسلام " عن أصحابنا أنه يسقط الترتيب بالخمس لأنها كل الجنس م: (وهو المراد بالمذكور في " الجامع الصغير ") ش: أي الفوائت ستا بخروج وقت السادسة وهو المراد بالمذكور في " الجامع الصغير " م: (وهو) ش: أي المذكور هو م: (قوله) ش: أي قول محمد في " الجامع الصغير ".
م: (وإن فاتته أكثر من صلاة يوم وليلة أجزأته التي بدأ بها) ش: أي أجزأته الصلاة التي بدأ بها م: (لأنه إذا زاد على يوم وليلة تصير ستا) ش: فيدخل وقت السابعة.
م: (وعن محمد أنه اعتبر دخول وقت السادسة) ش: لأن بدخول وقت السادسة يصير عدد الفوائت خمسا، والكثير من كل جنس ما يستغرق جنسه وجنس المكتوبة الخمس م: (والأول هو الصحيح) ش: أي المذكور من " الجامع الصغير " هو الصحيح م: (لأن الكثرة بالدخول في حد التكرار، وذلك في الأول) ش: معناه أن الشيء إنما يستحق اسم الكثرة بالتكرار كالكثرة في المقدم لا يظهر إلا بالزيادة من أحد القسمين على الآخر، وأدنى مدة التكرار في حق خروج وقت السادسة، لأن به تصير الفوائت ستا والواحدة من الصلوات تتكرر بوصف الكثرة يثبت لها قوله وذلك إشارة إلى قوله لأن الكثرة بالدخول في حد التكرار.
وقوله في الأول أراد به المذكور في " الجامع الصغير "، فافهم
م: (ولو اجتمعت الفوائت القديمة والحديثة) ش: صورة الفوائت القديمة أن يترك الشخص صلاة.(2/593)
قيل: تجوز الوقتية مع تذكر الحديثة لكثرة الفوائت. وقيل: لا تجوز ويجعل الماضي كأن لم يكن زجرا له عن التهاون،
ولو قضى بعض الفوائت حتى قل ما بقي عاد الترتيب عند البعض وهو الأظهر، فإنه روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن ترك صلاة يوم وليلة وجعل يقضي من الغد مع كل وقتية فائتة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شهر أو سنة مجانة وفسقا، ثم يقبل على الصلاة ندما على سوء صنيعه، ثم يترك أقل من صلاة يوم وليلة فهل يجوز له الوقتية مع تذكر ما فات أقل من يوم وليلة. اختلفوا فيه إشارة إليه بقوله.
م: (قيل: تجوز الوقتية مع تذكر الحديثة لكثرة الفوائت) ش: الجواز هو القياس، لأن الحديثة ليس أداؤها بأحق من القديمة فتحقق كثرة الفوائت وهي مسقطة للترتيب
م: (وقيل: لا تجوز) ش: أي الوقتية بذكر الحديثة، وهو الاستحسان م: (ويجعل الماضي) ش: وهو القديمة م: (كأن لم يكن) ش: يعني كأن لم يفت م: (زجرا له عن التهاون) ش: أي لأجل الزجر لهذا المصلي عن الكسل والتهاون في إقامة الصلاة في وقتها وإلى الجواز، قال أبو جعفر الكبير وعليه الفتوى.
وفي " المحيط " القول الأصح هو الأول، وفي " المجتبى " الثاني هو الأصح، والقول الأول هو الأحوط.
وقيل: يجب الترتيب لأن المعصية لا تصير سببا للتخفيف، وفي " الذخيرة " لا يجب الترتيب عند أبي حنيفة خلافا لهما.
م: (ولو قضى بعض الفوائت حتى قل ما بقي عاد الترتيب) ش: صورته أن يترك الرجل صلاة شهر ثم قضاها إلا صلاة أو صلاتين، ثم صلى صلاة دخل وقتها وهو ذاكر لما بقي عليه هل تجوز الوقتية، أو لم يجز، عن محمد فيه روايتان، في رواية يجوز، واختارها شمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام علي البزدوي، فإنهم قالا متى سقط الترتيب لم يعد في أصح الروايتين، ولهذا أخذ أيضا أبو حفص الكبير، وفي رواية لا يجوز، وإليها مال بعض المشايخ، إشارة إليه بقوله م: (عند البعض) ش: أي عند بعض المشايخ، منهم أبو علي الدقاق والفقيه أبو جعفر، واختاره المصنف أشار إليه بقوله م: (وهو الأظهر) ش: أي عود الترتيب هو الأظهر، وجه ذلك من وجهين، الأول من وجه الدراية، وهو أن علة السقوط الكثرة المفضية إلى الحرج ولم يبق بالعود إلى القلة والحكم ينتهي بانتهاء علته، فكان كحق الحضانة بالزوج، ثم ارتفعت الزوجية فإن الحق يعود.
الثاني: من وجه الرواية، أشار إلى هذا الوجه بقوله م: (فإنه روي عن محمد فيمن ترك صلاة يوم وليلة وجعل يقضي من الغد مع كل وقتية فائتة) ش: يعني يقضي الفجر بالفجر، والظهر بالظهر،(2/594)
فالفوائت جائزة على كل حال، والوقتيات فاسدة إن قدمها لدخول الفوائت في حد القلة، وإن أخرها فكذلك، إلا العشاء الأخيرة لأنه لا فائتة عليه في ظنه حال أدائها.
ومن صلى العصر وهو ذاكر أنه لم يصل الظهر فهي فاسدة إلا إذا كان في آخر الوقت،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والعصر بالعصر، على هذا الترتيب م: (فالفوائت جائزة على كل حال) ش: يعني سواء قدمها على الوقتين أو أخر عنها م: (والوقتيات فاسدة إن قدمها لدخول الفوائت في حد القلة) ش: لأنه متى أدى شيئا منها صارت سادسة المتروكات إلا أنه إذا قضى متروكة بعدها عادت خمسا ثم لا يزال كذلك فلا يعود إلى الجواز.
م: (وإن أخرها) ش: أي وإن أخر الوقتيات كلها م: (فكذلك) ش: أي فكذلك تفسد كلها م: (إلا العشاء الأخيرة) ش: لأنه صلاها وقد صلى ما عليه عنده فصار كالناسي، وقد علل المصنف بعدم فساد العشاء الأخيرة بقوله م: (لأنه لا فائتة عليه في ظنه حال أدائها) ش: أي حال أداء العشاء الأخيرة الوقتية، والظن متى لاقى فصلى مجتهدا فيه وقع معتبرا وإن كان خطأ، والشافعي لا يوجب الترتيب فكان ظنه موافقا لرأيه، وصار كما إذا عفى أحد من له القصاص وظن صاحبه أن عفو صاحبه غير مؤثر في حقه، فقتل ذلك القاتل لا يقتص منه، ومعلوم أن هذا قتل بغير حق، لكن لما كان متأولا يجتهد في ذلك صار ذلك الظن مانعا وجوب القصاص.
فإن قلت: يشكل هذا بما إذا صلى الظهر على غير وضوء ناسيا ثم صلى العصر على وضوء ذاكرا للظهر وهو يحسب أنه يجزئه فعليه أن يعيدهما جميعا، وعلى قياس ما ذكر هاهنا أنه لا فائتة عليه في ظنه حال أدائها كان ينبغي أن لا يجب عليه قضاء العصر. ثانيا: لما أنه قضى الظهر قد وقع في ظنه أنه قضى جميع ما عليه ولم يبق عليه شيء من الفائتة، والترتيب غير واجب على مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فكان يمكنه هاهنا أيضا موافقا لمذهبه كما ذكر.
ثم قلت: فساد الصلاة بترك الطهارة فساد قوي مجمع عليه، فظهر أثره فيما يؤدى بعده، وأما فسادها بسبب ترك الترتيب فضعيف مختلف فيه، فلا تتعدى حكمه إلى صلاة أخرى.
م: (ومن صلى العصر وهو ذاكر) ش: أي والحال أنه ذاكر م: (أنه لم يصل الظهر فهي فاسدة) ش: أي العصر فاسدة م: (إلا أن يكون في آخر الوقت) ش: أي في آخر وقت العصر فإنه يجوز العصر حينئذ بضيق الوقت.
فإن قلت: قد بين المصنف فيما مضى الحكم في هذه المسألة في جنس الصلوات، فلم أعاده هاهنا؟.
قلت: لفائدة وهي الإشارة إلى الاختلاف في آخر وقت العصر، وهو أن الاعتبار في ضيق الوقت لأصل الوقت أو للوقت المستحب، حكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله الاعتبار بأصل الوقت، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -(2/595)
وهي مسألة الترتيب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالوقت المستحب، وعلى هذا فيما نحن فيه من المسألة إن يمكنه أداء الظهر والعصر قبل غروب الشمس فعليه مراعاة الترتيب، وإن كان لا يمكنه أداء الصلاتين قبل غروب الشمس سقط الترتيب، وعليه أداء العصر، وإن أمكنه أداء الظهر قبل تغيرها ويقع العصر أو بعضها بعد تغيرها فعليه مراعاة الترتيب عندهما خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن معنى الكراهة تسقط الترتيب لخوف فوات أصل الوقت.
وإن لم يمكنه أداء الظهر قبل تغيرها يسقط الترتيب، لأن أداء شيء من الظهر بعد تغير الشمس لا يجوز بالاتفاق، لأن ذلك الوقت وقت عصر اليوم ليس إلا.
م: (وهي مسألة الترتيب) ش: أي المسألة المذكورة هي مسألة مراعاة الترتيب فيها. وقد ذكرنا وجه الإعادة.
1 -
فروع: راع في الفيافي يصبح في كل يوم فيصلي صلوات ذلك اليوم في وقت الفجر تفريعا لعلة، فالفجر الأول جائز، وفي اليوم الثاني لا يجوز لبقاء الترتيب، وقيل: على قول زفر والحسن إن لم يعلم أن المتروكة مانعة من الجواز يجوز الفجر الثاني كما ذكر عنهما في " المبسوط "، والفجر الثالث وما تعدها يجوز بسقوط الترتيب، وفي " جوامع الفقه " مسافر صلى المغرب شهرا ركعتين قصرا، فالمغارب كلها باطلة ويفسد المغرب الأول وتجوز العشاء والفجر والظهر والعصر، فصارت يجوز ما بعدها جميعا إلا المغرب.
وفي " المنتقى ": إذا غربت الشمس في خلال العصر ثم تذكر الظهر مضى، ولو افتتحها ذاكرا ثم احمرت استقبل نسي صلاة ولم يعرفها يصلي خمس صلوات وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله قال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " جوامع الفقه ": وهو المختار، وقيل: يصلي أربع ركعات بثلاث قعدات ينوي ما عليه، وهو قول بشر بن غياث، وفي " المهذب " وهو قول المزني، ومثله عن النووي، وقال بعض مشايخ بلخ: يصلي الفجر بتحريمة والمغرب بتحريمة ثم يصلي أربعا ينوي ما عليه من صلاة يوم وليلة، وقال الأوزاعي: يصلي أربع ركعات لا يقعد إلا في الثانية والرابعة ويسجد للسهو وينوي في ابتدائها ما عليه في علم الله تعالى.
قال ابن حزم: وبهذا نأخذ، وإن لم يدر الفائتة أمن سفر هي أم من حضر؟ يصلي ثمان صلوات، وإن نسي صلاتين من يومين يعيد صلاة يومين، رواه ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن نسي ثلاث صلوات من ثلاثة أيام ولياليهن يعيد صلاة ثلاثة أيام.
وفي " المحيط " ولو ترك ثلاث صلوات الظهر من يوم والعصر من يوم والمغرب من يوم، ولا يدري أيتها الأولى قيل يسقط الترتيب فيصلي كيف شاء، قال في " المحيط " وهو الأصح.(2/596)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " جوامع الفقه " وهو المختار، وقيل لا يجزئ لأن الفوائت تعتبر أن يكون في نفسها ستا لسقوط الترتيب فيصلي سبع صلوات الظهر ثم العصر ثم الظهر ثم المغرب ثم الظهر ثم العصر ثم الظهر.
وإن فاتته أربع صلوات يعني العشاء مع ما قبلها من أربعة أيام يصلي سبع صلوات ثم العشاء ثم يصلي سبع صلوات، وعلى هذا القياس تخريج جنس هذه المسائل كذا في " الإيضاح " و " مبسوط شيخ الإسلام ".
وفي " الواقعات " يصلي إحدى وثلاثين صلاة، لأن في الأربع يصلي خمس عشرة ثم يصلي خمس عشرة ثم يصلي الفجر فيعتبر ست عشرة صلاة، ثم يفعل كما كان يفعل قبل الفجر، وذلك خمس عشرة صلاة فتصير الجملة إحدى وثلاثين صلاة.
وفي " المفيد " إذا نسي صلاة أو ركنا منها ولا يدري ذلك يعيد صلاة يوم وليلة بلا خلاف بين أصحابنا، ظهر فات من يومين فنوى أحدهما لا بعينه قيل يجوز لاتحاد الجنس والمذهب أنه لا يجزئه، لأن اختلاف الأوقات يجعلها كالفرائض المختلفة. وفي " الذخيرة " رجل لم يصل الفجر شهرا وصلى غيرها، قيل لا تجزئه الصلوات الأربع في اليوم الأول، وتجزئه في اليوم الثاني لسقوط الترتيب ولا يجزئه في اليوم الثالث، ومن كل عشر ست فاسدة وأربع جائزة، وقيل يجزئه خمس عشرة فجرا ولا يجزئه غيرها، وقيل يجزئه كل فجر إلا الفجر الثاني لأنه صلاة وعليه أربع صلوات فلم يجز وبعدها كثرت الفوائت.
وفي " التحفة " ولو ترك صلاة ثم صلى شهرا وهو ذاكر للفائتة فعند أبي حنيفة يعيد الفائتة لا غيرِ، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعيدها وخمسا بعدها، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعيدها وأربعا بعدها من بعض صلاة عمره من غير أن يكون فاته شيء، فإن كان لأجل نقصان دخل في صلاته أو لكراهة فحسن، وإن لم يكن كذلك لا يفعل.
وفي " جوامع الفقه " إذا لم يتم ركوعه ولا سجوده يؤمر بالإعادة في الوقت لا بعده. وفي " مختصر البحر " القضاء أولى في الحالين، وفيه شافعي ترك صلاة سنة ثم صار حنفيا يقضيها على مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الجحدري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: على أي مذهب قضاها جاز.
وفي " مختصر البحر " لو قضى فوائت ولم ينو صلوات نفي يجهل بها ثم علم فعليه إعادة ما قضاه بدون هذه النية.
وقال المرغيناني: الأصح أنه ينوي الظهر والعصر وغيرهما، وليس عليه أن ينوي أنها(2/597)
وإذا فسدت الفرضية لا يبطل أصل الصلاة عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تبطل؛ لأن التحريمة عقدت للفرض، فإذا بطلت الفرضية بطلت التحريمة أصلا، ولهما أنها عقدت لأصل الصلاة بوصف الفرضية، فلم يكن من ضرورة بطلان الوصف بطلان الأصل، ثم العصر يفسد فسادا موقوفا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأولى.
م: (وإذا فسدت الفرضية لا يبطل أصل الصلاة) ش: يعني لو صلى العصر مثلا ذاكرا أنه لم يصل الظهر فسدت تنقلب نفلا م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف) ش: لكن عند أبي حنيفة بسبيل الوقف حتى لو أدى ست صلوات انقلب الكل فرضا وعند أبي يوسف يكون عصرا بعدما فسدت نفلا بسبيل الثبات م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تبطل) ش: أصلا، وبه قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفائدة الخلاف أنه قهقه قبل أن يخرج من الصلاة أو عمل عملا منافيا ينتقض طهارته عندهما لبقاء التحريمة، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا ينتقض م: (لأن التحريمة عقدت للفرض، فإذا بطلت الفرضية بطلت التحريمة أصلا) ش: يعني لانتفاء الفرض للفرض ولا نفل، لأن التحريمة وسيلة إلى تحصيله، فإذا بطل المقصود بطلت الوسيلة.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله م: (أنها) أي أن التحريمة م: (عقدت لأصل الصلاة بوصف الفرضية) ش: يعني التحريمة انعقدت الصلاة موصوفة بصفة الفرضية م: (فلم يكن من ضرورة بطلان الوصف بطلان الأصل) ش: لأن العارض ينافي صفة الفرضية لا أصل الصلاة فلا يلزم من انتفاء صفة الفرضية انتفاء الصلاة.
فإن قلت: يجوز أن يكون الوصف متحصلا لأصله فيكون كالفعل المتبوع فيبطل الأصل ببطلانه.
قلت: لا نسلم جواز أن يكون الوصف متحصلا لأن المحصل يجب تقدمه، والوصف لا يقدم على الموصوف.
فإن قلت: وصف الفرضية لم يدخل فيما انعقدت التحريمة لأجله فكان جزاء والكل ينتفي بانتفاء جزئه.
قلت: بلى له مدخل لذلك لكن من حيث تحصيله حتى يكون جزءا بل من حيث نفي غيره مما يزاحمه في الوقت، فإذا كان كذلك لم يلزم من انتفائه انتفاء الكل، ثم إن بعض أهل نظر من أصحابنا لم يبينوا هذا الاختلاف لأنهم لما اجتمعوا أن من شرع في صوم الكفارة ثم أفسد فيه يبقى نفلا كان على حكم الصلاة كذلك، وعلى الأول عامة المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (ثم العصر) ش: يعني في المسألة المذكورة م: (يفسد موقوفا) ش: يعني على سبيل التوقف م:(2/598)
حتى لو صلى ست صلوات، ولم يعد الظهر انقلب الكل جائزة، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما يفسد فسادا باتا لا جواز لها بحال، وقد عرف ذلك في موضعه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(حتى لو صلى ست صلوات ولم يعد الظهر) ش: أي الظهر التي كان تركها وصلى العصر ذاكرا لها م: (انقلب الكل) ش: أي الصلوات م: (جائزا) ش: ولو أعاد الظهر لانقلب جائزا م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وهو استحسان، وفي " المبسوط " تفسيره لو صلى المتروكة قبل السادسة فيه الخمس عنده.
قال شمس الأئمة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذه هي التي يقال لها واحدة تفسد خمسا وواحدة تصحح خمسا، فالواحدة المصححة الخمس في السادسة قبل قضاء المتروكة، والواحدة المفسدة للخمس هي المتروكة يقضي قبل السادسة، وجه الاستحسان أن الكثرة صفة لهذه الجملة من الصلوات، فإذا ثبتت صفة استندت إلى أولها بحكمها وهو سقوط الترتيب، فسقط الترتيب في آحادها كما سقط في أغيارها، وهذا كمرض الموت لما ثبت له هذا الوصف بإيصاله بالموت أسند إلى أوله بحكمه م: (وعندهما يفسد) ش: أي العصر م: (فسادا باتا) ش: بتشديد المثناة من فوق أي قطعا، وفسره بقوله (لا جواز له بحال) ش: من الأحوال وهذا هو القياس، ووجهه أن سقوط الترتيب حكم الكثرة وكل ما هو حكم العلة يتأخر عن علة سقوط الترتيب إنما يكون مما يقع من الصلوات بعد الكثرة لا فيما قبلها.
فإذا ما قلت: وجه الاستحسان حصل لك الجواب عن وجه القياس على أن وجه قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن وجه نص التنزيل يقتضي جواز الوقتية في الوقت، والحديث يمنع الجواز ليتوقف الجواز على زوال المانع، ووقف الجواز على سنن أمر في الموقف غير متكفر في الشرع، كما قلنا في مغرب صلاها بعرفات يتوقف حكمها إن أفاض إلى المزدلفة في وقت العشاء انقلبت نفلا ولزمته إعادتها مع العشاء في المزدلفة، وإن لم يأت وأتى مكة من طريق آخر وأتى المزدلفة بعد الإصباح يقع المغرب فرضا وكذا ظهر من صلاها يوم الجمعة في منزله، وكذلك صاحبة العادة إذا انقطعت عادتها فما دون عادتها وصلت صلوات ثم عاودها الدم تبين أن الصلوات لم تكن صحيحة وإن لم يعاودها كانت صحيحة، وكذلك إذا زاد على أيام عادتها، فإذا انقطع لتمام العشرة وطهرت بعد ذلك خمسة عشر يوما تبين أن الكل حيض وليس عليها قضاء الصلوات، وإن جاوز كان عليها قضاء الصلوات، فعلم أن توقف الصلوات على أمر في المستقبل مشروع يستعمل فيما بحرفه.
م: (وقد عرف ذلك في موضعه) ش: أي في كتاب الصلوات في " المبسوط "، صورته ترك صلاة ثم صلى بعدها واحدة وثانية وثالثة ورابعة وخامسة فسدت الخمس كلها عندهما، وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - هي موقوفة قد ذكرناها عن قريب.(2/599)
ولو صلى الفجر وهو ذاكر أنه لم يوتر فهي فاسدة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما، وهذا بناء على أن الوتر واجب عنده سنة عندهما ولا ترتيب فيما بين الفرائض والسنن، وعلى هذا إذا صلى العشاء ثم توضأ وصلى السنة والوتر ثم تبين أنه صلى العشاء بغير طهارة فعنده يعيد العشاء والسنة دون الوتر؛ لأن الوتر فرض على حدة عنده، وعندهما يعيد الوتر أيضا لكونه تبعا للعشاء والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو صلى الفجر وهو ذاكر أنه لم يوتر) ش: أي ولو صلى صلاة الفجر والحال أنه ذاكر أنه لم يصل الوتر: م: (فهي) ش: أي الفجر م: (فاسدة عند أبي حنيفة) ش: لأن الوتر فرض عملا عنده فيجب مراعاة الترتيب م: (خلافا لهما) ش: لأن الوتر سنة عندهما، وأشار إلى ذلك بقوله م: (وهذا) ش: أي هذا الخلاف م: (بناء) ش: أي يبني م: (على أن الوتر واجب عنده) ش: أي فرض عملا م: (سنة عندهما) ش: فلا يجب مراعاة الترتيب بين الفرض والسنة، وأشار إلى ذلك بقوله م: (ولا ترتيب فيما بين الفرائض والسنن) ش: أو لا ترتيب بواجب بين الفرائض والسنن وإنما يجب الترتيب بين فرض وفرض، فلما ثبت هذا اختلاف وهو أن الوتر واجب عنده سنة عندهما جاز أداء الفجر مع تذكر الوتر، لأنه سنة عندهما م: (وعلى هذا أي على الخلاف وهو أن الوتر واجب عنده سنة عندهما إذا صلى العشاء ثم توضأ وصلى السنة والوتر ثم تبين أنه صلى العشاء بغير طهارة فعنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (يعيد العشاء والسنة) ش: أما العشاء فلوقوعها بغير طهارة، وأما إعادة السنة فلكونها تبعا للعشاء م: (دون الوتر لأن الوتر فرض على حدة عنده) ش: يعني يعيد الوتر لأنه صار كأنه صلى فرضا بنية فرض آخر.
م: (وعندهما يعيد الوتر أيضا لكونه تبعا للعشاء) ش: لأنه وإن كان سنة ولكن أداه قبل دخول وقته، ووقته بعد العشاء على وجه الصحة ولم يوجد فكان مصليا قبل وقته، ولو صلى الوتر في وقت العشاء قبل أن يصلي العشاء وهو ذاكر لذلك لم يجزه بالاتفاق م: (والله أعلم) ش: بالصواب.(2/600)
باب سجود السهو يسجد للسهو في الزيادة والنقصان سجدتين بعد السلام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب سجود السهو] [كيفية سجود السهو]
م: (باب سجود السهو) ش: أي هذا باب في بيان أحكام سجود السهو، ولما فرغ من بيان الأداء والقضاء، شرع في بيان جابر لنقصان يقع فيهما، ولكن المناسبة بين البابين من حيث إن الباب الأول في بيان قضاء الفوائت وقضاؤها جبر لها عن تأخيره عن وقتها، وهذا الباب أيضا في بيان جبر لها لترك واجب أو لتأخير ركن أو لزيادة في غير محلها، والإضافة في سجود السهو إضافة الحكم إلى السبب وهي الأصل في الإضافات، لأن الإضافة للاختصاص، وأقوى وجوه الاختصاصات إضافة المسبب إلى السبب.
قلت: علم من هذا أن سجود السهو يجب بنفس السهو، ولهذا لا يجب في العمد وبعض المالكية يقولون: سببه الزيادة والنقصان، ذكره ابن رشد المالكي في " قواعده ". وعن الشافعي يسجد في العمد بطريق الأولى.
وفي " الينابيع ": لا يجب سجود السهو إلا في مسألتين: أحديهما: إذا أخر إحدى سجدتي الركعة الأولى إلى آخر الصلاة، والثانية: إذا ترك القعدة الأولى فإنه يسجد للسهو فيهما سواء كان عامدا أو ناسيا، قال صاحب " الينابيع ": ذكرهما في " أجناس الناطفي " ولم أقف في غيره من كتب أصحابنا.
م: (يسجد للسهو للزيادة) ش: من جنس الصلاة كزيادة ركوع أو سجود، والزيادة من غير جنسه تبطل الصلاة، واللام في الزيادة لإثبات معنى السببية، لِقَوْلِهِ تَعَالَى " {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] (الإسراء: الآية 78) .
م: (والنقصان) ش: أي يجب للنقصان أيضا، وفيه نفي لقول مالك، فإن عنده إذا كان عن نقصان سجد قبل السلام، وإن كان عن زيادة فبعد السلام، ويأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى م: (سجدتين بعد السلام) ش: اختلفوا فيه على أقوال خمسة:
مذهبنا بعد السلام كما ذكره، وهو مذهب علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وأنس بن مالك، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومن التابعين: الحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وابن أبي ليلى، والثوري، والحسن بن صالح، وعمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومذهب الشافعي: قبل السلام على الأصح عندهم، وهو قول أبي هريرة، ومكحول، والزهري، وربيعة، والليث، ومذهب مالك [....] إن كان للنقصان فقبل السلام، وإن كان(2/601)
ثم يتشهد ثم يسلم، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يسجد قبل السلام لما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سجد للسهو قبل السلام» ، ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لكل سهو سجدتان بعد السلام» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للزيادة فبعد السلام وهو قول للشافعية.
ومذهب الحنابلة: أنه يسجد قبل السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل السلام، وبعد السلام في المواضع التي سجد فيها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد السلام، وما كان من السجود في غير تلك المواضع يسجد له قبل السلام أبدا.
ومذهب الظاهرية: لا يسجد للسهو إلا في المواضع التي سجد فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقط، وغير ذلك إن كان فرضا أتى به، وإن كان ندبا فليس عليه شيء.
والمواضع التي صلى فيها رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خمسة.
أحدها: قام على اثنين على ما جاء في حديث ابن بحينة.
والثاني: سلم من اثنين كما جاء في حديث ذي اليدين.
والثالث: سلم من ثلاث كما جاء في حديث عمران بن حصين.
والرابع: أنه صلى خمسا كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود.
والخامس: السجود على الشك كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري. وسيأتي بيان أحاديثهم مفصلا إن شاء الله تعالى.
م: (ثم يتشهد ثم يسلم) ش: أي بعد أن يتشهد في آخر صلاته يسجد سجدتين ثم يتشهد أيضا ثم يسلم، وبه قال ابن مسعود والشعبي والثوري وقتادة والحكم وحماد والليث ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال ابن سيرين وسعد وحماد وابن أبي ليلى: يسلم ولا يتشهد، قال أنس والحسين وعطاء وطاوس: ليس في سجدتي السهو تشهد ولا سلام.
م: (وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يسجد قبل السلام لما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سجد للسهو قبل السلام) ش: هذا الحديث رواه عبد الله بن مالك بن بحينة، أخرجه الأئمة الستة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - واللفظ للبخاري «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى الظهر فقام عن الركعتين الأوليين ولم يجلس، وقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة انتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم» .
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لكل سهو سجدتان بعد السلام» ش: روي هذا الحديث عن(2/602)
وروي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سجد سجدتي السهو بعد السلام»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثوبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
أخرجه أبو داود وابن ماجه عنه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «لكل سهو سجدتان بعدما يسلم» ورواه أحمد في " مسنده "، وعبد الرزاق في " مصنفه "، والطبراني في " معجمه ".
م: (وروي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سجد سجدتي السهو بعد السلام) ش: هذا الحديث رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه البخاري ومسلم عنه، قال: «صلى بنا رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فسلم في ركعتين، فقال ذو اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ إلى أن قال: فأتم الرسول ما بقي من الصلاة، ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم» وفي هذا الباب عن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه مسلم عنه: «أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات فقام رجل يقال له الخرباق فذكر له صنيعه فقال: " أصدق هذا؟ " قالوا: نعم، فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم» ؟
وعن المغيرة بن شعبة أخرجه أبو داود والترمذي عن زياد بن علاقة «كان يصلي بنا المغيرة بن شعبة فنهض في الركعتين فسبح به من خلفه، فأشار إليهم أن قوموا، فلما فرغ من صلاته وسلم وسجد سجدتي السهو، فلما انصرف قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع كما صنعت» . وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
عن أنس بن مالك، أخرجه الطبراني عن محمد بن صالح عن علي بن عبد الله بن عباس قال: «صليت خلف أنس بن مالك صلاة فسهى فيها فسجد بعد السلام ثم التفت إلينا وقال: أما إني لم أصنع إلا كما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع» .
وعن عبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرج ابن سعد في الطبقات عن عطاء بن أبي رباح قال: «صليت مع عبد الله بن الزبير المغرب فسلم في الركعتين ثم قام: فسبح به القوم فصلى بهم الركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين، قال: فأتيت ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من فوري فأخبرته، فقال: لله أبوك ما فات عنه سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
قال النووي في " الخلاصة ": وروى الحاكم في " المستدرك " من حديث سعد بن أبي وقاص(2/603)
فتعارضت روايتا فعله فبقي التمسك بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعقبة نحوه، قال: وحديثهما صحيح على شرط الشيخين.
م: (فتعارضت روايتا فعله) ش: أي فعل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بيان المعارضة بين الفعلين بين الحديثين اللذين ذكرهما الشافعي، ولنا الظاهر، لأن حديث الشافعي يدل على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد قبل السلام، وحديثنا يدل على أنه سجد بعد السلام، قال بعض الشراح منهم السغناقي والأترازي: لما تعارض الفعلان عنه تركناهما جانبا، فعملنا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للسلامة عن المعارض وهو معنى قول المصنف م: (فبقي التمسك بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكل سهو سجدتان» .
قلت: فيه نظر، لأن الأحاديث قد وردت في السجود قبل السلام من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه مسلم عنه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أو أربعا فليطرح الشك وليبن على ما يتيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم» .
ومنها حديث أبي هريرة أخرجه الأئمة الستة عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لم يدر كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين وهو جالس» ، زاد فيه أبو داود وابن ماجه: «وهو جالس قبل التسليم» ، وفي لفظ: " قبل أن يسلم ثم يسلم ".
ومنها حديث عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه الترمذي وابن ماجه عنه قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا انتهى أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم يدر ثنتين صلى أو ثلاثا فليبن على اثنتين، فإن لم يدر صلى ثلاثا أو أربعا فليبن على الثلاث وليسجد سجدتين قبل أن يسلم» ، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقال البيهقي في " المعرفة ": روي عن الزهري أنه ادعى نسخ السجود بعد السلام، وأسنده الشافعي عنه ثم أكده بحديث معاوية أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجدهما قبل السلام، رواه النسائي في " سننه "، وقال: وصحبة معاوية متأخرة.
قلت: قال بعضهم إن قول الزهري منقطع. وهو غير حجة عندهم، وقال الطرطوسي: هذا لا يصح عن الزهري، وفي إسناده أيضا مطرف بن مازن، قال البيهقي: هو غير قوي.
قلت: قال يحيى: كذاب، وقال النسائي: غير قوي، وقال ابن حبان: لا تجوز الرواية عنه إلا [....] ، ولم يذكر البيهقي ذلك لموافقته رواية مذهبه، وأحاديث السجود قبل وبعد ثابتة قولا وفعلا، وتقدم بعضها على بعض غير معلوم برواية صحيحة والأولى جعل الأحاديث على(2/604)
ولأن سجود السهو مما لا يتكرر فيؤخر عن السلام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التوسع، وجواز الأمرين.
فإن قلت: قالوا: المراد بالسلام في الأحاديث التي جاءت بالسجود بعد السلام هو السلام على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد، ويكون تأخيرها على سبيل السهو.
قلت: هذا بعيد مع أنه معارض بمثله، وهو أن يقال: حديثهم قبل السلام يكون على سبيل السهو، ويحمل حديثهم قبل السلام على السلام المعهود الذي يخرج به من الصلاة وهو سلام التحلل، ويبطل أيضا حملهم على السلام الذي في التشهد، إن سجود السهو لا يكون إلا بعد التسليم اتفاقا.
وقال الأكمل: في هذا الموضع اعترض عليه بوجهين.. إلخ، قلت: أخذ هذا من كلام السغناقي في تقدير الاعتراض الأول أن المعارضة بين الحجتين إنما يصار إلى ما بعدهما من الحجة لا إلى ما فوقهما، والقول فوق الفعل لأن القول موجب، والفعل لا، وكيف صير إلى القول عند معارضة الفعل، والاعتراض الثاني أنه يلزم من هذا الذي ذكره الترجيح بكثرة الأدلة، وهو غير جائز إذ كل ما يصلح علة لا يصلح حجة، وقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أقوى العلل، فكيف لا يصلح حجة.
أجيب عن الأول: بأن المعارضة تقتضي المساواة وليس المعارضة بين القول والفعل لقوة القول وضعف الفعل، ولما ثبتت المعارضة بين الفعلين لتساويهما في القوة، أخذنا بالقول، لأنه يشهد لنا فعملنا به. وقولهم: إن المعارضة إذا وقعت بين الحجتين يصار إلى ما بعدها، إنما يكون ذلك عند انعدام الحجة فيما فوقهما، وإن كانت الحجة فوقهما فلا تحتاج حينئذ إلى المعارضة، وهنا كذلك، وإن أنكروا ثبوته بنقل العدل. وأجيب عن الثاني: بأن ما قلتم إنما يلزم أن لو قلنا بترجيح الفعل بالقول، ولا نقول به، بل نقول لما تعارض فعله رجعنا إلى ما هو الحجة في الباب، وهو حديث القول.
قلت: فيه نظر لأن بين قوله أيضا تعارض كما ذكرنا، والأوجه في الجواب ما ذكرناه من جعل الأحاديث على جواز الأمرين، وأيضا حديث ذي اليدين منسوخ، وفي " الأنوار ": تأويل ما رواه الشافعي أن الراوي دخل في صلاته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في سجدتي السهو، وعاين السلام بعدهما، فروي كذلك أو كان منه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لبيان الجواز قبل السلام لا لبيان المسنون.
م: (ولأن سجود السهو مما لا يتكرر فيؤخر عن السلام) ش: هذا دليل عقلي على كون سجود السهو بعد السلام تقديره أن القياس كان يقتضي أن لا يتأخر سجود السهو عن زمان سجود العلة، وهي السهو، إلا أنه لما كان مما لا يتكرر أخر عن السلام، وأما كونه لا يتكرر فلأنه إذا سجد زمان وجود السهو، ثم إذا سهى فلا يخلو إما أن يسجد ثانيا أو لا، فإن لم يسجد بقي بعض لازم لا(2/605)
حتى لو سهى عن السلام يجبر به، وهذا الخلاف في الأولوية ويأتي بتسليمتين هو الصحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جبر له، وإن سجد يلزم التكرار، فلذلك أخر عن زمان العلة، فلهذا المعنى أخر عن السلام أيضا حتى لو سهى عن السلام بأن قام إلى الخامسة مثلا ساهيا يلزمه سجود السهو لتأخير السلام، ولو سهى بعد السلام لا يلزمه السجود لأنه يؤدي إلى ما لا يتناهى.
وقال الأترازي: سجود السهو ليس يتكرر بالإجماع، قلت: ليس كذلك، لأن مذهب ابن أبي ليلى أن السجود يتكرر بعد السهو. وقال الأوزاعي: إذا سهى سهوين يسجد أربع سجدات، ذكره النووي. ولو سهى في سجدتي السهو لم يسجد وهو قول الحسن والنخعي ومغيرة والشعبي ومنصور بن زاذان والثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وهذا إجماع.
م: (حتى لو سهى عن السلام يجبر به) ش: هذا توضيح فيؤخر عن السلام وسهوه عن السلام يكون بالقيام إلى الخامسة، فإن سهى يجبر السلام بالسجود، ولأجل النقص م: (وهذا الخلاف في الأولوية) ش: أي الخلاف المذكور بيننا وبين الشافعي في الأولوية لا في الجواز، أراد أن الأولى عندنا أن يسجد للسهو بعد السلام، ويجوز عندنا ولو سجد قبل السلام يجوز أيضا والأولى عنده قبل السلام وبعد السلام يجوز أيضا هذا الذي ذكره المصنف، هذا جواب ظاهر الرواية، وقد ذكر في " النوادر " أنه إذا سجد للسهو قبل السلام لا تجبر به، لأنه أتى به في غير محله.
وفي " الذخيرة " لو سجد للسهو قبل السلام جاز عندنا. قال القدوري: هذا في رواية الأصول، قال: وروي عنهم أنه لا يجبر به. وقال صاحب " الحاوي " من الشافعية: لا خلاف بين الفقهاء أن سجود السهو جائز قبل السلام وبعده، وإنما الخلاف في الأولى، وفي قول التقديم والتأخير سواء في الفضيلة لصحة الأخبار في التقديم والتأخير قاله إمام الحرمين، وفي قول عنهم: إذا أخره لا يعتد به. قال النووي: وهو الصحيح.
م: (ويأتي بتسليمتين) ش: أي يأتي من عليه سجود السهو بتسليمتين عن يمينه وعن شماله، وبه قال الثوري وأحمد. وفي " المفيد ": يسلم عن يمينه ويساره كالمعهودتين م: (هو الصحيح) ش: أي الإتيان بتسليمتين هو الصحيح احترز به عما نقل عن فخر الإسلام من المذهب وفي " الينابيع " التسليمتان أصح و [.....] هو الصحيح وهو التسليم واحدة من تلقاء وجهه.
وفي " المحيط ": ينبغي أن يسلم تسليمة واحدة عن يمينه، وهو قول الكرخي، وهو الأصوب وبه قال النخعي. وفي " المفيد " و " المرغيناني " و " البدائع ": يسلم تلقاء وجهه عند البعض، لأن التسليمة الأولى للتحليل والثانية للتحية ولا تحية في الأولى فكان ضمها إلى الأولى عبثا، وينبغي أن لا ينحرف فيه لأنه للتحية دون التحليل، وقد سقط معنى التحية هنا أيضا، واختار فخر الإسلام وشيخ الإسلام وصاحب " الإيضاح " أيضا أن يسلم تسليمة واحدة ثم اختار فخر الإسلام أن تكون تلك التسليمة من تلقاء وجهه. ولا ينحرف عن القبلة. وقال شيخ(2/606)
صرفا للسلام المذكور إلى ما هو المعهود ويأتي بالصلاة على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والدعاء في قعدة السهو هو الصحيح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإسلام: ولو سلم بتسليمتين لا يأتي بسجود السهو بعد ذلك، لأنه كالكلام، ونسب أبو اليسر القائل بالتسليمة الواحدة إلى البدعة.
فإن قلت: ما فائدة قولهم: أن التسليمة الأولى تحليل وتحية، والثانية: تحية.
قلت: فائدة هذا أنه لا يصح الاقتداء بعد الأولى ولو قهقه بعد الأولى ولا تنتقض طهارته، وقيل عند أبي حنيفة وأبي يوسف يسلم تسليمتين.
م: (صرفا للسلام المذكور إلى ما هو المعهود) ش: صرفا بالفتح نصب على أنه مفعول مطلق، كذا قيل، والصحيح أنه نصب على التعليل أي لأجل الصرف للسلام المذكور في قوله وفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المذكور بعد السلام إلى ما هو المعهود في الصلاة وهو التسليمتان.
م: (ويأتي بالصلاة على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والدعاء في قعدة السهو) ش: أي يأتي من عليه سجود السهو بالصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قعدته الأخير وهي قعدة السهو أي سجود السهو.
وفي " الذخيرة ": اختلفوا في الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي الدعوات أنها في قعدة الصلاة أم في سجدتي السهو، ذكر أبو جعفر الأسروشتي أن ذلك كله قبل سلام السهو، وذكر الكرخي في " مختصره " أنها في قعدة سجدتي السهو، لأنها هي القعدة الأخيرة، واختار فخر الإسلام في " المصنف " وقال: م: (هو الصحيح) ش: أي الإتيان بالصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والدعاء في قعدة السهو هو الصحيح.
وقال فخر الإسلام في " شرح الجامع الصغير ": فمن مشايخنا من اختار الدعاء قبل السلام وبعده، ثم قال: وهو الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأن كل واحد من التشهدين في آخر الصلاة.
وفي " المحيط " اختلفوا في الصلاة على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وفي الدعوات قال الطحاوي: كل قعدة فيها سلام فيها صلاة، فعلى هذا يصلي في القعدتين جميعا عنده. وفي " فتاوى الظهيرية ": الأحوط أن يصلي في القعدتين، وقيل عند أبي حنيفة وأبي يوسف يصلي ويدعو في الأولى دون الثانية بناء على أن سلام الإمام أو من عليه السهو يخرجه عن الصلاة عندهما وعند محمد في الأخيرة خاصة، لأن السلام لا يخرجه عنده، وقال الأكمل: وفيه نظر، لأن الأصل المذكور متقرر، فلو كانت هذه المسألة مبنية على ذلك لكان الصحيح مذهبهما.
قلت: هذا النظر غير بين، لأنه لا يلزم من كون الأصل المذكور متقررا عدم جواز بناء المسألة المذكورة عليه، وقوله: لكان الصحيح مذهبهما، يرده ما ذكره في " المفيد " أنه هو الصحيح.(2/607)
لأن الدعاء موضعه آخر الصلاة.
قال: ويلزمه السهو إذا زاد في صلاته فعلا من جنسها ليس منها، وهذا يدل على أن سجدة السهو واجبة هو الصحيح؛ لأنها تجب لجبر نقص تمكن في العبادة، فتكون واجبة كالدماء في الحج،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن الدعاء موضعه آخر الصلاة) ش: هذا التعليل ما اختاره المصنف بقوله هو الصحيح، ومعناه أن الدعاء مشروع بعد الفراغ من الأداء أو الفراغ قبل الخبر.
قلت: لقائل أن يقول: آخر الصلاة حقيقة هو قعدة الصلاة الأخيرة، وسجدة السهو ليست من نفس الصلاة وقعدتها كذلك.
[متى يلزم سجود السهو]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ويلزمه السهو) ش: هذا البيان ما ذكر في أول الباب بقوله يسجد للسهو للزيادة والنقصان لأنه لم يعلم من ذلك أنه، أي زيادة أو نقصان موجب ذلك، ففسر هناك بقوله ويلزمه السهو، أي يلزم الساهي في صلاته سجود السهو م: (إذا زاد في صلاته فعلا من جنسها) ش: أي من جنس الصلاة م (ليس منها) ش: أي والحال أن الذي زاد ليس من جنس الصلاة، كما إذا ركع ركوعين أو سجد ثلاث سجدات ساهيا، لأن الركوع الزائد والسجود الزائد من جنس الصلوات من حيث إنهما ركوع وسجود، ولكنهما ليسا من الصلاة لكونهما زيادة.
م: (وهذا) ش: أي قول القدوري ويلزمه السهو م: (يدل على أن سجدة السهو واجبة) ش: لأن لفظ اللزوم ينبئ عن ذلك، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا سهى الإمام وجب على المؤتم أن يسجد يدل عليه قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدما يسلم» ومطلق الأمر للوجوب، م: (وهو الصحيح) ش: أي كون سجود السهو واجبا هو الصحيح من المذهب، ذكره في " المحيط " و " المبسوط " و " الذخيرة " و " البدائع "، وبه قال مالك وأحمد في " فتاوى المرغيناني "، غير الكرخي من أصحابنا بقوله أنه سنة. وفي " التحفة " و " المفيد " قال القدوري: هو سنة، وقول الشافعي لأنه يجب بترك بعض السنن والخلف لا يكون فوق الأصل، كذا في " المحيط ".
م: (لأنها) ش: تعليل الوجوب، أي لأن سجود السهو م: (تجب لجبر نقص تمكن في العبادة، فتكون واجبة كالدماء في الحج) ش: عند وقوع الجناية.
فإن قلت: جبر النقصان في الصلاة بالسجدة، وفي باب الحج بالدم فما وجه تشبيه ذلك بهذا.
قلت: الأصل أن الجبر من جبر الكسر، وللمال مدخل في باب الحج فيجبر نقصانه بالدم ولا مدخل للمال في باب الصلاة، فجبر النقصان بالسجدة، ووجه التشبيه في كون كل منهما جبرا.(2/608)
وإن كان واجبا لا يجب إلا بترك واجب أو تأخيره، أو تأخير ركن ساهيا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإذا كان) ش: أي سجدتا السهو: (واجبا لا يجب إلا بترك واجب) ش: نحو ما إذا ترك القعدة الأولى أو القراءة فيها وقام إلى الثالثة ساهيا، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علق إيجابها بالسهو بقوله لكل سهو سجدتان، وإنما تضاف إلى الشروع في السهو إضافة لازمة، فلو أوجبنا ذلك في العمل لما لزمها الإضافة في السهو. وقال الشافعي: إن العمل إذا تعمد الخطأ فيما تجب فيه السجدة تجب سجدة السهو، لأنها تجبر النقصان، والنقصان يحصل فيها حالة العمد، كما يحصل حالة السهو، وفي " المجتبى " وفي العمد لا يجب السهو خلافا للشافعي إلا في مسألتين ذكرهما البديع، فلو ترك القعدة الأولى عمدا أو شك في بعض أفعال الصلاة فتفكر عمدا حتى شغله ذلك عن ركن يجب السجدة، فقلت له كيف يجب سجدة السهو بالعمد؟، قال: ذلك سجود العذر لا سجود السهو: (أو تأخيره) ش: أي تأخير واجب نحو ما إذا قام إلى الخامسة ساهيا، لأن إصابة لفظ السلام واجبة، أو بقي قاعدا على ظن أنه سلم ثم تبين أنه لم يسلم يجب عليه سجود السهو م: (أو تأخير ركن) ش: نحو ما إذا أتى بثلاث سجدات أو وعى في القعدة الأولى، لأن القيام ركن يتأخر بزيادة السجدة أو الدعاء م: (ساهيا) ش: نصب على الحال، وذو الحال محذوف تقديره يجب بترك المصلي الواجب حال كونه ساهيا، وكذلك مقدر في قوله أو تأخيره أو تأخير الركن فهذه ثلاث أشياء ذكرها المصنف.
وفي " الذخيرة " وتكلم الشيخ في هذا وأكثرهم على أنه يجب بستة أشياء بترك الترتيب فيما شرع مكررا كالسجدة وتقديم الركن وتأخيره وتكراره وترك الواجب وتغييره. وفي " المحيط " و " التحفة " و " القنية " يجب بترك الواجب الأصلي. قال في " التحفة " هو الذي يجب بسبب التحريمة، أما لو ترك واجبا ليس بأصلي في الصلاة كما لو وجب عليه سجدة التلاوة فذكرها في آخر الصلاة لا يجب عليه السهو لتأخيرها، وكذا لو سلم ساهيا ولم يتذكرها لا يسجد للسهو بتأخيرها. وذكر الأسبيجابي أنه يسجد للسهو بتأخير سجدة التلاوة عن موضعها.
ومثله في " المحيط ". وفي رواية " النوادر " لا يلزمه، وفي " الذخيرة " أما تقديم الركن قبل أن يركع وقبل أن يقرأ أو يسجد قبل أن يركع، وتأخير الركن أن يترك سجدة صلاتية سهوا فيذكرها في الركعة الثانية أو في آخر الصلاة أو تأخير القيام إلى الثالثة بالزيادة على التشهد. وتكرار الركن أن يركع ركوعين، أو يسجد ثلاث سجدات، وترك الواجب أن يترك القعدة الأولى في الفرائض. وفي " المرغيناني " في الفرائض أو التطوع وتغيير الواجب أن يجهر الإمام فيما يخافت أو يخافت فيما يجهر.
وفي " التحفة " و " الذخيرة " في رواية الأصل سوى بين الجهر والمخافتة وفي " النوادر " أن(2/609)
هذا هو الأصل، وإنما وجبت بالزيادة؛ لأنها لا تعرى عن تأخير ركن أو ترك واجب. قال: ويلزمه إذا ترك فعلا مسنونا كأنه أراد به فعلا واجبا إلا أنه أراد بتسميته سنة أي وجوبها ثبت بالسنة. قال: أو ترك قراءة الفاتحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يجهر فيما يخافت فعليه السهو قل أو كثر، وإن خافت فيما يجهر إن كان بفاتحة الكتاب أو أكثر فعليه السهو وإلا فلا، وفي غير الفاتحة إن خافت في ثلاث آيات قصار أو آية طويلة عند الكل أو قصيرة عنده فعليه السهو وإلا فلا، وعن ابن سماعة عن محمد إن جهر بأكثر من الفاتحة سجد ثم رجع إلى مقدار ما يجوز به الصلاة. وعن أبي يوسف إن جهر بحرف واحد فسجد والصحيح مقدار ما تجوز به الصلاة، والفاتحة وغيرها سواء، والمنفرد للسهو عليه ذكره في الأصل، وذكر الناطفي رواية مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في المنفرد إذا جهر في المخافتة أن عليه السهو وفي ظاهر الرواية لا سهو عليه. وفي " المحيط " في رواية النوادر عليه السهو، وذكر الحلواني أن المنفرد لو كان عنده رجل يصلي وحده فعليه السهو. وفي " نوادر أبي سليمان " لو نسي حاله وظن أنه قام فجهر سجد للسهو.
م: (هذا هو الأصل) ش: يعني أن الأصل في وجوب سجدة السهو ترك الواجب أو تأخير الواجب أو تأخير الركن سهوا، فإن وجد واحدا منها يتحقق سبب الوجوب فيجب سجود السهو م: (وإنما وجب بالزيادة) ش: هذا جواب ما يقال لا يجب بالزيادة أيضا ولا ترك هناك ولا تأخير، فأجاب عن ذلك بقوله، م: (لأنها) ش: أي لأن الزيادة م: (لا تعرى عن تأخير ركن) ش: كما في زيادة السجود م: (أو ترك واجب) ش: أي الزيادة لا تعرى عن تأخير واجب كما في تأخير القيام بأن قام إلى الخامسة ساهيا، لأنه حينئذ يلزم بترك الواجب وهو إصابة لفظ السلام.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ويلزمه) ش: أي ويلزم الساهي سجود السهو م: (إذا ترك فعلا مسنونا) ش: معناه ظاهرا فعلا ثابتا بالسنة، ولكن فسره بقوله م: (كأنه) ش: أي كأن محمدا م: (أراد به) ش: أي بقوله فعلا مسنونا م: (فعلا واجبا، إلا أنه أراد بتسميته سنة) ش: أي تسمية الواجب سنة، م: (أي وجوبها ثبت بالسنة) ش: يعني ثبوت وجوبها بالسنة من إطلاق اسم السبب على المسبب، وإنما أنث الضمير مع أنه يرجع إلى الفعل على تأويل القعدة لأنها واجبة بالسنة أو على تأويل سنة الفعل، وقيل أراد بقوله مسنونا ما ذكره صاحب " المحيط " وبترك سنة مضافة إلى جميع الصلاة.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (أو ترك قراءة الفاتحة) ش: هذا البيان أنه كما يجب سجود السهو بترك الأفعال يجب لترك الفاتحة، وإن ترك أقلها فلا سهو عليه فكأنه قرأ كلها ذكره في " المحيط "، وإن قرأ الفاتحة مرتين في إحدى الأوليين فعليه السهو لتأخير الواجب، وهو السورة، ولو قرأ الفاتحة وسورة ثم أعاد الفاتحة فلا سهو عليه، وروى إبراهيم عن محمد إذا قرأ الفاتحة في الأوليين في ركعة مرتين فعليه السهو من غير فصل، وفي الأخيرتين لا سهو عليه، وفي " جمع(2/610)
لأنها واجبة،
أو القنوت، أو التشهد أو تكبيرات العيدين؛ لأنها واجبات، فإنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: واظب عليها من غير تركها مرة، وهي أمارة الوجوب؛ ولأنها تضاف إلى جميع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التفاريق " كذلك في تكرار التشهد يعني إن كرره في القعدة الأولى فعليه السهو، وإن كرره في الثانية فلا سهو عليه، وفي " العيون " إذا تشهد مرتين فلا سهو عليه، ومثله في " المحيط ". ولو قرأ الفاتحة وآية قصيرة فعليه السهو، وإن أخر الفاتحة عن السورة فعليه السهو.
وفي " الذخيرة " و " العيون ": لو قرأ آية في ركوعه أو سجوده أو القومة أو القعود فعليه سجدتا السهو ولو تشهد في ركوعه أو سجوده أو القومة فلا سهو عليه. وذكر الناطفي في " أجناسه " عن محمد لو تشهد في قيامه قبل قراءة الفاتحة لا سهو عليه، وبعدها يلزمه وهو الأصح، وفي " المحيط " و " العيون " لو تشهد في ركوعه أو سجوده يلزمه السهو.
م: (أو القنوت) ش: أي ترك القنوت، ولو تذكره بعدما سجد عليه السهو، وكذا بعدما رفع رأسه من الركوع ويمضي ولا يقنت، ولو تذكر في الركوع ففي عوده إلى القنوت روايتان، ذكره في " المبسوط " وفي " الذخيرة "، وفي " الينابيع " وسجد للسهو فيهما أو التشهد أي ترك لو قعد قدر التشهد في الركعة الأخيرة، ولم يتشهد فعن أبي يوسف روايتان في سجود السهو، ولو ترك بعض التشهد يجب السهو، وفي " الفتاوى الظهيرية " قرأ التشهد قائما إن كان في الركعة الأولى لا يلزمه شيء، وإن كان في الثانية اختلف المشايخ فيه، والأصح أنه لا يجب م: (أو تكبيرات العيد) ش: أي أو ترك تكبيرات العيد. وفي " التحفة " والعيد لا يجب السهو بترك الأذكار. قال " الأسبيجابي " كالثناء والتعوذ وتكبيرات الركوع والسجود لمجاريها إلا في أربعة وهي القراءة والقنوت والتشهد الأخير وتكبيرات العيدين. وفي " الأسبيجابي " إلا في خمسة وزاد تأخير السلام، وأطلق التشهد ولم يقيده بالآخر، ثم قال ويجب بتركه فيهما. وفي " التجريد و " مختصر البحر " لو ترك تكبيرة الركوع من صلاة العيد يجب السهو. قال " صاحب المحيط " والظاهر أنه أراد تكبيرة به الركوع الثاني، لأنه تبع لتكبيرات العيد، وفي " البدائع " لو زاد في تكبيرات العيدين يسجد، رواه الحسن عن أبي حنيفة.
م: (لأنها) ش: أي لأن القنوت والتشهد وتكبيرات العيدين م: (واجبات فإنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - واظب عليها) ش: أي على هذه الأشياء م: (من غير تركها مرة) ش: ومواظبة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عليها معروفة، ولم ينقل الترك، وفي " المبسوط " ترك التشهد في القعدة الأولى أو قنوت الوتر أو تكبيرات العيدين الفائتة لا يسجد للسهو، لأن هذه الأركان سنة وبتركها لا يكون كثير من النقصان، كما إذا ترك الثناء والتعوذ، وفي الاستحسان يجب كما ذكره المصنف.
م: (وهي) ش: أي مواظبة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - م: (أمارة الوجوب) ش: بفتح الهمزة، أي علامة للوجوب م: (ولأنها) ش: أي ولأن القنوت والتشهد وتكبيرات العيد م: (تضاف إلى جميع(2/611)
الصلاة فدل على أنها من خصائصها وذلك بالوجوب، ثم ذكر التشهد يحتمل القعدة الأولى، والثانية، والقراءة فيها، وكل ذلك واجب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصلاة فقال: قنوت الوتر وتشهد الصلاة وتكبيرات صلاة العيد فدل) ش: أي الإضافة م: (أنها) ش: أي أن هذه الأشياء م: (من خصائصها) ش: أي من خصائص الصلاة، لأن الإضافة دليل الاختصاص م: (وذلك) ش: أي الاختصاص إنما يكون م: (بالوجوب) ش: لأن اختصاص الشيء بالشيء يقتضي وجوده معه، والوجوب طريق للوجود، والخصائص جمع خصيصة تأنيث الخصيص بمعنى الخاص، كالشريك والنديم بمعنى المشارك والمنادم م: (ثم ذكر التشهد) ش: أي ذكر القدوري التشهد في " مختصره " بقوله أو ترك فاتحة الكتاب أو القنوت أو التشهد م: (يحتمل القعدة الأولى والثانية والقراءة فيهما) ش: أي في الأولى والثانية وذلك لأن التشهد يطلق على الدعاء الذي فيه ذكر الشهادتين وتطلق على القعدتين م: (وكل ذلك واجب) ش: أي كل المذكور من القعدتين الأولى والثانية والقراءة فيهما واجب، وقد استشكل هاهنا من أربعة أوجه:
الأول: أن القعدة الثانية فرض، وذكر أنها واجبة.
والثاني: أن قراءة التشهد في القعدة الأولى عنده سنة، وذكر أنه واجب. والثالث: فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، إذ التشهد للقراءة فيهما حقيقة وللقعدة مجاز، إطلاقا لاسم الحال على المحل.
الرابع: أنه لو كان القعدة مرادة لزم التكرار، لأنه ذكر قبله إذا ترك فعلا مسنونا أي واجبا بالسنة.
فالجواب عن الأول: أنه أراد بقوله كل ذلك واجب غير القعدة الثانية، إذ التخصيص شائع، فإن ذكره سابقا أنها فرض دليل على أنها غير مرادة، وهو كقوله تعالى {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] (النمل: الآية 23) ، مع نفي أنها لم تؤت كثيرا من الأشياء، فلهذا ذكره صاحب " الدراية " وفيه نظر، لأن ظاهره يناقض، ولأجل هذا حمله بعضهم على السهو من المصنف، وتشبيهه بقوله {وَأُوتِيَتْ} [النمل: 23] ليس بملائم، لأن التخصيص فيه بالحسن على أن قوما زعموا أن التخصيص لا يجري في الخبر كالنسخ. وأجاب الأترازي لأنه أراد وجوبها أنه إذا سهى عنها بأن قام إلى الخامسة ثم عاد إلى التشهد يلزمه سجود السهو لترك الواجب، لأنه كان يجب عليه أن لا يؤخر الركن وهو القعدة الأخيرة، فلما سهى عنها ترك الواجب.
قلت: فيه نظر أيضا، لأنه لا يدل شيء على ما ذكره من ظاهر لفظ المصنف ولا قامت قرينة تدل على ذلك، والأوجه أن يقال نعم القعدة الأخيرة فرض، ولكنها فرض ذاتا، وقد أشار إليه فيما سبق وأوجبه محلا وموضعا، ألا ترى أنه إذا قام إلى الخامسة يعود إلى القعدة ما لم يقيدها بالسجدة ويسجد للسهو ولا يعيد صلاته، فعلم أن اتصالها بالركعة الأخيرة واجب، وقد أشار(2/612)
وفيها سجدة السهو، وهو الصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إليه هاهنا فلا يندفع الإشكال إلا بهذا، ويحمل كلامه على السهو والخطأ فحمل كلامه على هذا الذي قررناه أحسن من حمله على السهو، وفي " النهاية " والأوجه فيه أن يحمل كلامه على رواية الحسن عن أبي حنيفة بأنه يجوز الصلاة بدون القعدة الأخيرة، وذكره في " الأسرار ".
قلت: هذا إنما يتمشى إذا كان المصنف ذهب إليه لظاهر المذهب خلاف ذلك، ويبعد عنه أن يكون هذا مذهبه.
وقال الأكمل: وأجيب بأن المراد بتركها تأخيرها بالقيام إلى الخامسة، فإن في التأخير نوع ترك، وتأخير الركن يوجب السجدة.
قلت: هذا جواب بعضهم نقله صاحب " النهاية "، ونقل عنه الأكمل ثم ينظر فيه بما حاصله أنه أراد حقيقة الترك في غيرها، ولو أريد به التأخير فيها لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهذا النظر أيضا لغيره، ومع هذا فلقائل أن يقول بجواز الجمع بينهما عند اختلاف المحل عند بعضهم فافهم.
الجواب عن الثاني: أن قراءة التشهد في القعدة الأولى فيها اختلاف، هل هي سنة أم واجبة، فالمصنف وإن كان يراها سنة وإنما ذكر أنها هاهنا واجبة على قول من يذهب إلى الوجوب.
وعن الثالث: أن المستحيل اجتماعها مرادين وهو مما يعارض للإرادة، إلا أن يقول القرء يحتمل الحيض والطهر وهو الجواب عن الرابع.
م: (وفيها سجدة) ش: أي في ترك قراءة الفاتحة والقنوت والتشهد وتكبيرات العيدين م: (سجدة السهو وهو الصحيح) ش: أي وجوب سجدتي السهو في هذه الأشياء هو الصحيح، واحترز به عن جواب القياس في هذه الأشياء حيث لا يجب فيها شيء، كما لو ترك الثناء والتعوذ.
وقال الأكمل: قوله وهو الصحيح احترازا عما قبل قراءة التشهد في القعدة الأولى سنة، وقال الأترازي: إنما قيد بالصحيح احترازا عما قال القاضي الإمام أبو جعفر الأستروشني - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إن قراءة التشهد في القعدة الأولى سنة.
وقال صاحب " الدراية ": هو الصحيح احترازا عن جواب القياس في التشهد، وكذا قال السغناقي ثم قال ولكن جواب الاستحسان أنه واجب.
قلت: الكل متفقون على ما ليس بمراد المصنف، فالأوجه الاستدلال الذي ذكرته على ما لا يخفى على المصنف.
وفي " المحيط " قال الكرخي والطحاوي وبعض المتأخرين: القعدة الأولى واجبة وقراءة(2/613)
ولو جهر الإمام فيما يخافت، أو خافت فيما يجهر تلزمه سجدتا السهو؛ لأن الجهر في موضعه، والمخافتة في موضعها من الواجبات. واختلفت الرواية في المقدار، والأصح قدر ما تجوز به الصلاة في الفصلين، لأن اليسير من الجهر والإخفاء لا يمكن الاحتراز عنه. وعن الكثير ممكن، وما تصح به الصلاة كثير غير أن ذلك عنده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التشهد فيها سنة عند بعض المشايخ وهو الأقيس، وعند بعضهم واجبة وهو الأصح، وقراءة التشهد في القعدة الأخيرة واجبة بالاتفاق.
وقال السغناقي: وفيه احتراز أيضا عن إحدى الروايتين عن أبي يوسف في ترك قراءة التشهد في القعدة الثانية أنه لا يجب السهو في رواية عنه، وكذا في " جامع قاضي خان ".
م: (ولو جهر الإمام فيما يخافت) ش: يخافت على صيغة المجهول نحو صلاة الظهر والعصر م: (أو خافت فيما يجهر) ش: يجهر أيضا على صيغة المجهول، نحو صلاة المغرب والعشاء والصبح م: (يلزمه سجدتا السهو) ش: أي يلزمه سجود السهو م: (لأن الجهر في موضعه، والمخافتة في موضعها من الواجبات) ش: لمواظبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهما فبتركهما يلزم السهو.
وقال الشافعي: لا يجب السهو بترك الجهر والمخافتة لأنه لم يترك المقصود في المحل، وإنما ترك صفته، وقال مالك وأحمد: إن جهر في موضع الإسرار يسجد للسهو بعد السلام، وإن أسر في موضع الجهر سجد قبل السلام، وعن أحمد إن سجد فحسن، وإن ترك فلا بأس.
م: (واختلفت الرواية في المقدار) ش: وفي بعض النسخ، واختلفت بالواو وهذه أحسن، أي اختلفت الرواية عن أصحابنا في مقدار ما يتعلق به السهو من الجهر فيما يخفى، والإخفاء فيما يجهر، فذكر الحاكم الخليل عن ابن سماعة عن محمد أنه قال: إذا جهر بأكثر الفاتحة يسجد ثم رجع فقال إذا جهر مقدار ما يجوز به الصلاة تجب وإلا فلا.
وروى أبو سليمان عن محمد إن جهر بأكثر الفاتحة سجد، وإن جهر بغير الفاتحة بآية طويلة، وقد مر الكلام فيه مستقصى عن قريب.
م: (والأصح قدر ما يصح به الصلاة) ش: أي الأصح في المقدار الجهر الذي يجب به السهو القراءة قدر ما تصح به الصلاة وهو ثلاث آيات أو آية طويلة بالاتفاق أو آية قصيرة على مذهب أبي حنيفة، واحترز بقوله والأصح عما ذكره شمس الأئمة السرخسي أنه يجب سجدتا السهو، وإن كان ذلك كلمة م) في الفصلين) ش: أرد بهما جهر الإمام فيما يخفى والإخفاء فيما يجهر م: (لأن اليسير من الجهر والإخفاء لا يمكن الاحتراز عنه، وعن الكثير يمكن) ش: أراد بالإمكان وعدمه من حيث العادة م: (وما تصح به الصلاة كثير) ش: أي الذي تصح به الصلاة من القراءة يعد كثيرا، وما لا يصلح به الصلاة يعد يسيرا م: (غير أن ذلك) ش: أي الكثرة الذي تصح به الصلاة م: (عنده) ش:(2/614)
آية واحدة، وعندهما: ثلاث آيات
وهذا في حق الإمام دون المنفرد؛ لأن الجهر والمخافتة من خصائص الجماعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي عند أبي حنيفة م: (آية واحدة، وعندهما ثلاث آيات) ش: على ما عرف في موضعه.
فإن قلت: روى البخاري ومسلم وأبو داود واللفظ له عن أبي قتادة قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يصلي بنا يقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين، يسمعنا الآية أحيانا» ... الحديث. فدل على أن الإخفاء لم يكن واجبا كما ذهب إليه الشافعي.
قلت: هذا محمول على أنه أراد به بيان جواز الجهر في القراءة السرية، وإن الإسرار ليس بشرط لصحة الصلاة بل هو سنة، ويحتمل أن الجهر بالآية كان يحصل سبق اللسان للاستغراق في التدبر.
م: (وهذا) ش: أي وجوب السجدة في الفصلين م: (في الإمام) ش: أي في حق الإمام م: (دون المنفرد، لأن الجهر والمخافتة من خصائص الجماعة) ش: أي وجوبهما من خصائص الجماعة.
فإن قلت: هذا الجواب في حق المنفرد في حق الصلاة التي يجهر فيها صحيح، لأنه لا يجب الجهر على المنفرد، بل من مخير بين الجهر والمخافتة في حق الصلاة يخافت فيها ينبغي أن يجب سجدة السهو بالجهر فيها، لأن المخافتة على المنفرد واجبة فيها كالإمام.
قلت: هذا الذي ذكره جواب ظاهر الرواية.
وأما جواب رواية " النوادر " فإنه يجب عليه سجدة السهو، وكذا ذكر الناطفي في " واقعاته " رواية أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في المنفرد، وإذا جهر فيما يخافت أن عليه السهو. وفي " نوادر الظهيرية " روى أبو سليمان أن المنفرد إذا ظن أنه إمام فجهر كما يجهر الإمام يلزمه سجود السهو وفي " المجتبى " سها الإمام فخافت بالفاتحة، ثم ذكر فجهر بالسورة لا يعيد الفاتحة، وقال شرف الدين العقيلي: لا خلاف أنه إذا جهر بأكثر الفاتحة، ثم ذكرها يتمها مخافتة ولو خافت بأكثر الفاتحة فيما يجهر، قيل يتمها ولا يعيد الفاتحة، وقال شمس الأئمة: وقياس مسائل " الجامع الصغير " أن يؤمر بالإعادة جهرا، وفي ترك الأولى في القراءة سهوا اختلاف بين أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد سهى عن قراءة البسملة في أول ركعة، فعن أبي يوسف يلزمه السهو، وفي " المنتقى " و " غريب الرواية " لو أم في النفل يجهر، فإن خافت فعليه السهو.
وفي " المحيط " زاد في التشهد الأول حرفا يجب السهو عندنا.
وقال أبو شجاع: إنما يجب إذا قال اللهم صل على محمد، وقال الشيخ أبو منصور الماتريدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما يجب إذا قال معه، وعلى آل محمد، وقال المرغيناني: المعتبر قدر ما يؤدي فيه ركنا، وعن أبي يوسف ومحمد لا سهو عليه.(2/615)
قال: وسهو الإمام يوجب على المؤتم السجود لتقرر السبب الموجب في حق الأصل، ولهذا يلزمه حكم الإقامة بنية الإمام، فإن لم يسجد الإمام لم يسجد المؤتم؛ لأنه يصير مخالفا لإمامه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الشافعي لو ترك الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأول سجد للسهو.
م: (وسهو الإمام يوجب على المؤتم السجود) ش: السجود منصوب لأنه مفعول يوجب م: (لتقرر السبب الموجب في حق الأصل) ش: أراد بالسببية السهو، وبالأصل الإمام، فلما وجب عليه وجب على من خلفه، لأن النقصان المتمكن في صلاته متمكن في صلاة القوم، لأن صلاتهم متعلقة بصلاته صحة وفسادا، فوجب عليهم السجود م: (ولهذا) ش: أي ولأجل تقرر السبب الموجب في حق الأصل م: (يلزمه) ش: أي يلزم المؤتم م: (حكم الإقامة بنية الإمام) ش: يعني إذا نوى الإمام في وسط صلاته الإقامة يصير فرضهم أربعا، وإن لم يوجد من القوم النية.
م: (فإن لم يسجد الإمام لم يسجد المؤتم) ش: يعني لا يجب عليه أن يسجد م: (لأنه) ش: أي لأن المؤتم م: (يصير مخالفا لإمامه) ش: إذا سجد بدون أن يسجد الإمام، وبه قال المزني والبويطي من أصحاب الشافعي وأحمد في رواية، وعند الشافعي، ومالك وأحمد في رواية يسجد المأموم، ومذهبنا قول عطاء والحسن والنخعي والثوري والقاسم وحماد بن أبي سليمان.
وفي حديث ابن عمر «فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه السهو» ذكر هذا الحديث ابن تيمية في " شرحه "، وكلمة على للوجوب.
فإن قلت: هاهنا إشكالان:
الأول: يشكل على هذه المسائل التسع التي ذكرت في " الخلاصة " و " الخزانة " أنها إذا لم يفعلها الإمام يفعلها القوم، وهي إذا لم يرفع الإمام يديه عند تكبيرة الافتتاح يرفع القوم. وإذا لم يبن فالمقتدي يبني، وإذا ترك تكبيرة الركوع وتسبيحته وتسميته وتكبيرة الانحطاط وقراءة التشهد والتسليم، يأتي بذلك كله المقتدي والتاسع تكبيرة التشريق.
قلت: هذه الأحكام لا تثبت في ضمن شيء باشره الإمام بل يثبت ابتداء على كل واحد من الإمام والمقتدي، ولا تجزئ فيه النيابة، بخلاف سجدة السهو، فإنها إنما تثبت في ضمن ما باشره الإمام، فلما لم يأت به لم يجب على غيره الإشكال.
الثاني: يرد على قوله لأنه يصير مخالفا وهو ما إذا قام المسبوق لقضاء ما سبق بعد فراغ الإمام والمقيم المقتدي بالمسافر يتم ركعتين بعد فراغ الإمام.
قلت: المخالفة بعد فراغ لا تعد مخالفة، وليس في المسألتين تعلق بصلاة الإمام فلا تكون مخالفة لا صورة ولا معنى.
وفي " مبسوط أبي اليسر ": ويسجد المسبوق مع الإمام للسهو سواء أدركه في القعدة أو في(2/616)
وما التزم الأداء إلا متابعا،
فإن سها المؤتم لم يلزم الإمام ولا المؤتم السجود؛ لأنه لو سجد وحده كان مخالفا لإمامه، ولو تابعه الإمام ينقلب الأصل تبعا،
ومن سها عن القعدة الأولى، ثم تذكر وهو إلى حالة القعود أقرب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وسط الصلاة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فلا تختلفوا عليه» ولو لم يسجد معه وقام إلى قضاء ما سبق ثم سلم الإمام لا يلزمه سجدتا السهو بالقياس لأنه خرج عن صلاة الإمام، وفي " الاستحسان " يلزمه لأن هذه الصلاة كلها واحدة من حيث التحريمة يجب الإتيان بالكل.
وقال الشافعي: لو سها الإمام فيما أدركه بعد فسجد مع الإمام إذا سجد قبل السلام.
وعن ابن سيرين أنه لا يتابعه، وإن سجد الإمام بعد السلام لم يتابعه فيه وعندنا يتابعه، ولو سجد مع الإمام قبل السلام وقضى ما عليه يعيد سجود السهو في آخر صلاته في قوله الجديد، وفي القديم لا يعيد، ولو سها الإمام فيما لم يدركه المسبوق يلزمه حكم سهو إمامه، وقيل لا يلزمه، ولو قام المسبوق في قضاء ما سبق ولم يسجد آتيا للسهو فعليه أن يسجد ثلاثا.
م: (وما التزم الأداء إلا متابعا) ش: وما التزم المقتدي أداء الصلاة إلا حال كونه متابعا لإمامه، فلما لم يسجد إمامه لم يسجد هو أيضا تحقيقا للمتابعة.
م: (فإن سها المؤتم لم يلزم الإمام ولا المؤتم السجود) ش: السجود مرفوع لأنه فاعل لقوله لم يلزم م: (لأنه) ش: أي لأن المؤتم م: (لو سجد وحده) ش: أي بدون الإمام م: (كان مخالفا لإمامه) ش: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ولا تختلفوا على المتكلم "، ولأنه لم يجز أن ينفرد بسهو نفسه فكذلك لم يجز أن ينفرد بسهو إمامه م: (لو تابعه الإمام) ش: أي لو تابع المقتدي إمامه في سجود السهو الذي سهاه المتقدي م: (ينقلب الأصل) ش: وهو الإمام م: (تبعا) ش: فلا يجوز لأنه متبوع، وهذا قلب الموضوع.
فإن قلت: سجود السهو يؤتى به في آخر الصلاة بعد السلام، فلم لا يصير إلى أن يسلم الإمام فيخرج عن متابعته ثم يسجد.
قلت: لا يمكن ذلك، لأن السنة أن يسلم الإمام والمأموم عقبه، فإذا سجد يقع سجوده بعد خروجه من الصلاة، لأنه يخرج بسلام الإمام.
م: (ومن سها عن القعدة الأولى) ش: أي في الفرائض الثلاثية والرباعية م: (ثم تذكر) ش: أي القعدة الأولى التي تركها م: (وهو إلى حالة القعود أقرب) ش: أي والحال أنه أقرب إلى القعود من القيام، وفي " الكافي " يعتبر ذلك بالنصف الأسفل، فإذا كان النصف الأسفل مستويا كان إلى القيام أقرب وإلا لا، وفي " الجنازية " وعلامة القرب بأن لم يرفع ركبتيه من الأرض.
وفي " المحيط ": ولو رفع أليتيه من الأرض وركبتاه عليها بعد ولم يرفعهما قعد ولا سهو عليه، وفي " البدائع " إذا كان إلى القيام أقرب فلوجود القيام وهو انتصاب النصف الأعلى.(2/617)
عاد وقعد وتشهد؛ لأن ما يقرب إلى الشيء يأخذ حكمه، ثم قيل: يسجد للسهو للتأخير، والأصح أنه لا يسجد كما إذا لم يقم ولو كان إلى القيام أقرب لم يعد؛ لأنه كالقائم معنى ويسجد للسهو؛ لأنه ترك الواجب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والنصف الأسفل جميعا وما بقي من الانحناء غير معتبر م: (عاد) ش: إلى القعود م: (وقعد وتشهد؛ لأن ما يقرب إلى الشيء يأخذ حكمه) ش: كفناء المصر له حق المصر في صلاة العيد والجمعة. وحريم البئر له حكم البئر، وما يقرب إلى العامر له حكم العامر في المنع من الإحياء.
م: (ثم قيل: يسجد للسهو) ش: أشار بهذا أن المشايخ اختلفوا في الصورة المذكورة، هل يلزمه سجود السهو، أم لا؟
فقال الولوالجي وأبو نصر السرخسي وغيرهما والشافعي وأحمد يسجد وهو معنى قوله ثم قيل يسجد للسهو م: (للتأخير) ش: أي لتأخير القعدة التي هي واجبة لأنه بهذا المقدار من القيام صار مؤخرا واجبا عن وقته م: (والأصح أنه لا يسجد) ش: وهو اختيار أبي بكر محمد بن الفضل وبعض أصحاب الشافعي م: (كما إذا لم يقم) ش: يعني لو لم يقم ما كان يلزمه السهو، فكذا هاهنا، لأن كأنه لم يقم، لا إنه إذا كان إلى القعود أقرب كان له حكم القاعد فينتفي عنه إطلاق القيام عليه.
م: (ولو كان إلى القيام أقرب) ش: بأن رفع ركبتيه من الأرض م: (لم يعد إليه) ش: أي إلى القعود م: (لأنه كالقائم) ش: يعني ولو كان حقيقة القيام لما عاد إلى القعدة بالاتفاق، فكذا هاهنا لأنه أخذ حكمه بقربه منه، ثم إنما لا يعود عنه في حقيقة القيام كما أن القيام فرض والقعدة الأولى واجبة، فلا يترك الفرض لأجل الواجب م: (ويسجد للسهو لأنه ترك الواجب) ش: هذا خلاف بيننا وبين الشافعي، وأما عندنا فلأنه ترك للواجب وهو القعدة الأولى، وأما عند الشافعي فلأن عنده لا يتعلق السهو بترك السنة سوى التشهد الأول والقنوت والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأول.
فإن قلت: يشكل على هذا ما لو قرأ آية السجدة في القيام، إن كان يترك القيام قصدا وهو فرض لأجل سجدة التلاوة وهي واجبة.
قلت: قال شيخ الإسلام: القياس هاهنا أن لا يترك القيام إلا أنه يجوز ذلك بالأثر، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يسجدون ويتركون القيام لأجلها فترك القياس به.
وفي " المجتبى " قال الحسن: لو عاد بعد الانتصاب قيل يتشهد لنقضه القيام، والصحيح، أنه لا يتشهد ويقوم وينتقض قيامه بقعوده لم يؤمر به كمن قرأ الفاتحة والسورة، وركع لا ينتقض الركوع بسورة أخرى ينتقض ركوعه، ولو سها عن بعض التشهد فعليه السهو عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولو ذكر في ركوع الثالثة أنه لم يسجد في الثانية يعود فيسجد ويتشهد ثم يصلي الثالثة(2/618)
وإن سها عن القعدة الأخيرة حتى قام إلى الخامسة، رجع إلى القعدة ما لم يسجد؛ لأن فيه إصلاح صلاته وأمكنه ذلك؛ لأن ما دون الركعة بمحل الرفض. قال: وألغى الخامسة لأنه رجع إلى شيء محله قبله فيرتفض، وسجد للسهو لأنه أخر واجبا، وإن قيد الخامسة بسجدة بطل فرضه عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه استحكم شروعه في النافلة قبل إكمال أركان المكتوبة؛ لأن ما دون الركعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بركوعها ولو ذكر بعد السجود يقضي السجدة ويتشهد ولا يعيد الركوع.
وفي " شرح الوجيز " إن عاد عمدا وهو عالم بأنه لا يجوز العود بطلت صلاته، وإن عاد ناسيا لم تبطل وعليه أن يقوم إذا تذكر، وإن عاد جاهلا ففي عدم الجواز وجهان ذكره في " التهذيب ". أحدهما أنه لا يعيد وتبطل صلاته لتقصيره بترك التعليم، وأصحهما أنه لا يعيد ولا تبطل صلاته كالناسي.
م: (وإن سها عن القعدة الأخيرة) ش: في ذوات الأربع كالظهر والعصر والعشاء فقام إلى الخامسة، أو في ذوات الثلاث كالمغرب والوتر فقام إلى الرابعة أو في ذوات الاثنين كالفجر فقام إلى الثالثة. م: (حتى قام إلى الخامسة رجع إلى القعدة ما لم يسجد، لأن فيه) ش: أي لأن في رجوعه إلى القعدة م: (إصلاح صلاته وأمكنه ذلك) ش: أي إصلاح صلاته. م: (لأن ما دون الركعة بمحل الرفض) ش: لأنه ليس من تمام الصلاة، ولهذا لا يحنث به في يمينه لا يصلي.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وألغى الخامسة) ش: أي الركعة الخامسة التي قام إليها م: (لأنه رجع إلى شيء محله قبله) ش: أي رجع إلى القعود الذي محله قبل القيام إلى الخامسة م: (فيرتفض) ش: أي قيامه إلى الخامسة ليكون إتيانه القعود في محله م: (ويسجد للسهو لأنه أخر واجبا) ش: لأن الواجب عليه أن يأتي بالقعدة الأخيرة قبل القيام إلى الخامسة.
وفي " الكافي ": أراد بالواجب الواجب القطعي وهو الفرض وهو القعدة الأخيرة، لأن بتأخيره الفرض يجب السهو م: (وإن قيد الخامسة) ش: أي الركعة الخامسة التي قام إليها م: (بسجدة) ش: أي بأن سجد للخامسة م: (بطل فرضه عندنا) ش: لأن الركعة الواحدة بسجدة صلاة حقيقة وحكما حتى يحنث في يمينه لا يصلي م: (خلافا للشافعي) ش: ومالك وأحمد، فعندهم لا يبطل فرضه ويرجع ويقعد ويتشهد ويسلم لما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى الظهر خمسا فقيل له: أزيد في الصلاة؟ قال: " وما ذاك؟ " قالوا: صليت خمسا. فسجد سجدتين بعدها» م: (لأنه) ش: دليلنا العقلي أي لأن الشأن م: (استحكم شروعه في النافلة قبل إكمال أركان المكتوبة) ش: والشروع في النافلة قبل إكمال الفرض يفسد له، كما لو صلى ركعتين بخلاف ما إذا لم يقيد الخامسة بسجدة م: (لأن ما دون الركعة) ش: ليس لها حكم الصلاة بدليل مسألة اليمين، وتأويل الحديث أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قعد على الرابعة بدليل أنه قال: " صلى الظهر خمسا " والظهر اسم لجميع الأركان، ومنها(2/619)
ومن ضرورته خروجه عن الفرض، وهذا لأن الركعة بسجدة واحدة صلاة حقيقة، حتى يحنث بها في يمينه لا يصلي، وتحولت صلاته نفلا عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما مر فيضم إليها ركعة سادسة،
ولو لم يضم لا شيء عليه؛ لأنه مظنون،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القعدة، وإنما قام إلى الخامسة على ظن أن هذه القعدة الأولى حملا لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما هو أقرب إلى الصواب م: (ومن ضرورته) ش: أي ومن ضرورة الشرع م: (خروجه عن الفرض) ش: لأن بينهما منافاة.
م: (وهذا) ش: أي هذا الذي ذكرنا من الركعة بلا سجدة لا تبطل صلاته، وإن كانت سجدة تبطل م: (لأن الركعة بسجدة واحدة صلاة حقيقة) ش: لأن الصلاة عبارة عن القراءة والقيام والركوع والسجود، وقد وجدت حكما م: (حتى يحنث بها في يمينه لا يصلي) ش: نتيجة ما قبله وقد مر الكلام فيه عن قريب م: (وتحولت صلاته نفلا) ش: أي الذي لم يقعد في الرابعة قدر التشهد، وقيد الخامسة بالسجدة تحولت، أي صارت تلك الصلاة التي صلاها نفلا م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد على ما مر) ش: أشار به إلى ما ذكره في باب قضاء الفوائت أن بطلان الوصف لا يوجب بطلان الأصل عندهما خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فيضم إليها ركعة سادسة) ش: يعني عندهما، لأن النفل شرع شفعا لا وترا للنهي عن النبي، وهل يجب عليه سجدة السهو لم يذكره، واختلفوا فيه، والأصح أنه لا يسجد، لأن النقصان بالفساد لا يجبر بالسجدة.
م: (ولو لم يضم لا شيء عليه) ش: يعني لا قضاء عليه م: (لأنه مظنون) ش: أي لأن الذي شرع فيه مظنون، والمظنون غير مضمون، لأنه قام على ظن أنها ثالثة، وهذا عند علمائنا الثلاثة، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإن اقتدى به إنسان في الخامسة أو السادسة ثم أفسدها يلزمه قضاء ست ركعات في قول أبي يوسف لبقاء التحريمة ذكره في " قاضي خان ". وفي " المحيط " إن اقتدى به إنسان في الخامسة ثم أفسدها بأن عاد الإمام إلى القعدة يقضي أربعا، وإن قضى يقضي ستا عندهما.
وعند محمد لا يتصور القضاء لبطلان أصل الصلاة، قالوا: أخبر أبو يوسف بجواب محمد، فقال: زه صلاة فسدت يصلحها، الحديث، وهذا معنى ما يسأله العامة إنه صلاة يصلحها، الحديث، ففسد هذه الصلاة على قول محمد، وإنما قال أبو يوسف هذا لغيظ لحقه من محمد وهو أنه روي أن محمدا أمر بمسجد خراب قد راعت فيه الدواب وبالت فيه الكلاب فقال: هذا مسجد أبي يوسف، لأن مثل هذا يبقى مسجدا، إلى أن تقوم الساعة عنده، وعند محمد يعود إلى ملك الواقف أو إلى ورثته بعد وفاته.
قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: زه، كلمة استعجاب عند أهل العراق، وإنما قالها أبو يوسف تهكما، وقيل الصواب: زه بالضم، والزاي ليست بخالصة كذا قال صاحب " المغرب "، وفي(2/620)
ثم إنما يبطل فرضه بوضع الجبهة عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه سجود كامل، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرفعه؛ لأن تمام الشيء بآخره وهو الرفع، ولم يصح مع الحدث، وثمرة الاختلاف فيما إذا سبقه الحدث في السجود بنى عند محمد خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولو قعد في الرابعة، ثم قام ولم يسلم عاد إلى القعدة ما لم يسجد للخامسة وسلم؛ لأن التسليم في حالة القيام غير مشروع، وأمكنه الإقامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" الفوائد الظهيرية ": زه بزاي مكسورة منقوطة من فوقها.
قلت: الصواب الكسر تقولها العجم عند إعجابهم بشيء فافهم.
م: (ثم إنما يبطل فرضه بوضع الجبهة عند أبي يوسف) ش: هذا بيان خلاف آخر بين أبي يوسف ومحمد، والأصل فيه أن الانتقال من الفرض إلى النفل لا يتحقق ما لم يسجد في الخامسة، ثم هذا الانتقال هل يحصل بمجرد وضع الجبهة أم لا؟، فعند أبي يوسف يحصل، لأن وجود السجدة بوضع الجبهة على الأرض لا بالرفع م: (لأنه) ش: أي لأن وضع الجبهة على الأرض م: (سجود كامل) ش: لكون السجود حقيقة في وضع الجبهة م: (وعند محمد يرفعه) ش: أي يرفع المصلي جبهته عن الأرض م: (لأن تمام الشيء بآخره وهو الرفع) ش: أي آخر السجود رفع الجبهة م: (ولم يصح مع الحدث) ش: أي لم يصح السجود مع الحدث بالاتفاق، إنما ذكر هذا لأن محمدا لما قال تمام الشيء بآخره وهو الفرع، قال لا خلاف بيننا أن الرفع لم يصح مع الحدث فلم يتم السجود.
ثم أشار المصنف إلى ثمرة هذا الخلاف بقوله م: (وثمرة الاختلاف فيما إذا سبقه الحدث في السجود) ش: يعني إذا سبقه الحدث في هذا السجود، فذهب ليتوضأ ثم تذكر أنه لم يقعد في الرابعة يتوضأ ويعود إلى القعدة ويبني على صلاته م: (وعند محمد) ش: يعني يتمها بالتشهد والسلام م: (خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فعنده لا يبني، لأن صلاته فسدت بوضع الجبهة، ولا بناء على الفاسد، قال فخر الإسلام: المختار للفتوى قول محمد لأنه أوفق وأقيس، لأن السجود لو تم قبل الرفع وجعل دوامه لتكراره لم ينقضه الحدث، يعني بالاتفاق أن الحدث ينقض كل ركن وجد هو فيه، حتى لو قضى وبنى على صلاته وجب عليه إعادة ذلك الركن الذي وجد فيه الحدث، ولو تم السجود بوضع الجبهة لما احتاج إلى إعادته كما لو وجد الحدث بعد الرفع.
م: (ولو قعد في الرابعة ثم قام ولم يسلم) ش: أي ولو قعد المصلي في آخر الركعة الرابعة ثم قام إلى الخامسة والحال أنه لم يسلم على ظن أنها القعدة الأولى م: (عاد إلى القعدة ما لم يسجد للخامسة وسلم) ش: يعني ما لم يقيد الركعة الخامسة بالسجدة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام إلى الخامسة فسبح به فعاد وسلم وسجد سجدتي السهو م: (لأن التسليم في حالة القيام غير مشروع، وأمكنه الإقامة) ش: أي(2/621)
على وجهه بالقعود؛ لأن ما دون الركعة بمحل الرفض.
وإن قيد الخامسة بالسجدة ثم تذكر ضم إليها ركعة أخرى، وتم فرضه؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أمكنه إقامة السلام م: (على وجهه) ش: أي على الوجه المسنون م: (بالقعود) ش: يعني بالعود إلى القعود م: (لأن ما دون الركعة محل الرفض) ش: كما لو أقام المؤذن وهو في الركعة الأولى، ولا يقيدها بالسجدة فإنه يرفضها.
فإن قلت: إذا سلم قائما ماذا حكمه؟.
قلت: لا تفسد صلاته، كذا في " الخلاصة " وغيرها، ثم في هذه المسألة إذا عاد لا يعيد التشهد، وكذا لو قام عامدا. وقال الناطفي: يعيد، ثم قيل: القوم يتبعونه، فإن عاد عادوا معه، وإن مضى في النافلة اتبعوه لأن صلاتهم تمت بالقعدة، والصحيح ما ذكره البلخي عن علمائنا أنهم لا يتبعونه، لأنه لا اتباع في البدعة، لكن ينتظرونه قعودا، فإن عاد قبل تقيد الخامسة بالسجدة اتبعوه بالسلام، فإن قيد سلموا في الحال، كذا في " المحيط " و " التمرتاشي ".
م: (وإن قيد الخامسة بالسجدة ثم تذكر) ش: أنه زاد ركعة خامسة، وأنه ترك السلام م: (ضم إليها) ش: أي إلى الخامسة م: (ركعة أخرى) ش: لفظ ضم وفي " المبسوط " ما يدل على الوجوب، فإنه قال: وعليه أن يضيف، وكلمة على للإيجاب.
وعند الشافعي: لا يضم لأن الركعة الواحدة مشروعة عنده م: (وتم فرضه) ش: لكن في الظهر والعصر والعشاء يضيف إليها السادسة لتكون الأربع الأول فرضا، والآخران نفلا، وعند الشافعي: يعود إلى القعدة ولا يضيف السادسة فإن أضافها فسدت صلاته لأنه انتقل إلى صلاة أخرى وعليه ركن، لأن إضافة لفظ السلام ركن عنده، وعندنا لا تفسد ظهره، لأنه انتقل إلى صلاة أخرى وليس عليه ركن لأن إصابة لفظ السلام ليس بركن عندنا، وإضافة السادسة للاحتراز عن البتيراء المنهية.
فإن قلت: النهي يدل على المشروعية عندكم كما عرف في الأصول.
قلت: يذكر النهي ويراد به المنفي كالفسخ يراد به النسخ يدل عليه قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما أخرت ركعة قط ولا يضيف السادسة في العصر، لأن التنفل بعد العصر مكروه، وعن هشام عن محمد أنه لا بأس به لأن التنفل بعد العصر إنما يكره إذا قصده أما إذا وقع فيه لا يقصده فلا يكره، لأنه لا يخصان إلا عن اختيار، كذا ذكر الصدر الشهيد في شرح " الجامع الصغير ". قال الصدر الشهيد: الفتوى على قول محمد. وقال قتادة والأوزاعي فيمن صلى المغرب أربعا تضيف إليها ركعة أخرى فتكون الركعتان له نافلة قال: وإن لم يضم إليها ركعة أخرى فلا شيء عليه لأنه مظنون.(2/622)
لأن الباقي إصابة لفظ السلام وهي واجبة. وإنما يضم إليها أخرى لتصير الركعتان نفلا؛ لأن الركعة الواحدة لا تجزئه لنهيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن البتيراء، ثم لا تنوبان عن سنة الظهر وهو الصحيح؛ لأن المواظبة عليها بتحريمة مبتدأة، ويسجد للسهو استحسانا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن الباقي) ش: من صلاته م: (إصابة لفظ السلام وهي) ش: أي إصابة لفظ السلام م: (واجبة) ش: وترك الواجب لا يفسد الصلاة، ولكن يوجب سجدتي السهو م: (وإنما يضم إليها أخرى لتصير الركعتان) ش: الزائدتان على الأربع نفلا م: (لأن الركعة الواحدة لا تجزئه لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البتيراء) ش: قد مر الكلام في حديث البتيراء في باب الوتر.
م: (ثم لا تنوبان) ش: أي هاتان الركعتان الزائدتان لا ينوبان، يعني لا تقومان ولا يجزئان م: (عن سنة الظهر) ش: وهي الركعتان المسنونتان بعده م: (وهو الصحيح) ش: يعني عدم إنابة هاتين الركعتين عن سنة الظهر هو الصحيح، واحترز بقوله عن قول بعض المشايخ أنهما ينوبان عن سنة الظهر وهي رواية ابن سماعة عن محمد.
وقيل: هو قول أبي يوسف ومحمد لأنه أتى بالركعتين في موضع السنة فيقومان عنها، كما قال شمس الأئمة الحلواني فيمن صلى آخر الليل ركعتين بنية التطوع على ظن أن الفجر لم يطلع فظهر أنه كان قد طلع عند افتتاحها لفظ هذا الجواب أنهما يجزئانه عن ركعتي الفجر، كذلك هنا، وإلى عدم جواز الإنابة ذهب فخر الإسلام البزدوي وأبو عبد الله الخير وشمس الأئمة وقاضي خان وجماعة من مشايخ بخارى، وقيل: هو قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (لأن المواظبة عليها بتحريمة مبتدأة) ش: أي لأن مواظبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سنة الظهر كانت بتحريمة مبتدأة أي مستقلة لا مبنية على غيرها، لأن السنة عبارة عن طريقة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهو كان يتطوع بتحريمة مبتدأة قصدا، ولأن المشروع صلاة كاملة على صفة السنة فلا يتأدى بما هو مظنون ناقصا غير مضمون.
م: (ويسجد للسهو استحسانا) ش: أي من حيث الاستحسان، والقياس يقتضي أن لا يسجد للسهو، لأن السهو وإن تمكن في الفريضة فقد أدى بعدها صلاة أخرى ولزم من صحة الشروع فيها الانقطاع عن الفريضة، ومن سهى في صلاته لا يسجد في صلاة أخرى.
وجه الاستحسان وإن انتقل من الفرض إلى التنفل بناء على التحريمة فيجعل في حق وجوب السهو، فإنهما صلاة واحدة، وهذا كمن صلى ست ركعات تطوعا بتسليمة واحدة وسهى في الشفع الأول يسجد للسهو في آخر الصلاة، وإن كان كل شفع صلاة على حدة لكن كلها في حق التحريمة صلاة واحدة.(2/623)
لتمكن النقصان في الفرض بالخروج لا على الوجه المسنون، وفي النفل بالدخول لا على الوجه المسنون، ولو قطعها لم يلزمه القضاء؛ لأنه مظنون، ولو اقتدى به إنسان فيهما يصلي ستا عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه المؤدى بهذه التحريمة، وعندهما ركعتين لأنه استحكم خروجه عن الفرض، ولو أفسده المقتدي فلا قضاء عليه عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبارا بالإمام،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم اختلف في هذه السجدة هل هي لنقص في النفل أو لنقص في الفرض؟، فقال أبو يوسف لنقص في النفل، وقال محمد لنقص في الفرض، وأشار المصنف إلى قوليهما من غير تصريح باسمهما بقوله م: (لتمكن النقصان في الفرض) ش: أشار هنا إلى قول محمد أراد أن النقصان تمكن في الفرض م: (بالخروج) ش: عنه م: (لا على الوجه المسنون) ش: هو خروجه بإصابة لفظ السلام بعد أربع ركعات، وقد ترك ذلك فيكون نقصانا في الفرض.
وقوله: م: (وفي النفل) ش: وهو الركعتان إشارة إلى قول أبي يوسف وهو تمكن النقصان في النفل م: (بالدخول) ش: أي بدخوله م: (لا على الوجه المسنون) ش: وهو كونه بلا تحريمة مبتدأة، وإنما قدم قول محمد على قول أبي يوسف لأنه هو المختار والمعتمد للفتوى، وذكره فخر الإسلام في " الجامع الصغير ".
م: (ولو قطعها) ش: أي ولو قطع الخامسة بأن لم يضف إليها سادسة م: (لا يلزمه القضاء) ش: عندنا خلافا لزفر م: (لأنه مظنون) ش: والمشروع من الصلاة أو الصوم على وجه الظن غير ملزم عندنا خلافا له م: (ولو اقتدى به) ش: أي بالمصلي المذكور م: (إنسان فيهما) ش: أي الركعتين المضمومتين م: (يصلي ستا) ش: أي ست ركعات م: (عند محمد لأنه هو المؤدى) ش: بفتح الدال م: (بهذه التحريمة) .
م: (وعندهما) ش: أي عند أبي حنيفة وأبي يوسف م: (ركعتين) ش: أي يصلي ركعتين م: (لأنه استحكم خروجه من الفرض) ش: فلا يلزمه غير هذا الشفع، وذكر صاحب " خلاصة الفتاوى " الخلاف بين محمد وصاحبه كما ذكر صاحب " الهداية " ولكن المذكور في " شرح الجامع الصغير " للصدر الشهيد و " شرح الطحاوي " و " المنظومة " و " شروحها " أنه يصلي ستا عند محمد وركعتين عند أبي يوسف، ولم يذكر قول أبي حنيفة وهو الصحيح، لأنه ذكر الناطفي في " الأجناس " قول أبي يوسف عن النوادر المعلي وعن قول محمد عن نوادر ابن سماعة، ولم يذكر قول أبي حنيفة في كتب المتقدمين.
م: (ولو أفسده المقتدي) ش: أي لو أفسده المقتدي أي الواحد المقتدي ما شرع فيه م: (فلا قضاء عليه عند محمد اعتبارا بالإمام) ش: يعني اعتبر محمدا اعتبار الحال الإمام، فإن هذه الصلاة المظنونة غير مضمونة في حق الإمام، فلو صارت في حق المقتدي مضمونة لصار بمنزلة اقتداء المفترض بالمنتفل وهو باطل.(2/624)
وعند أبي يوسف يقضي ركعتين؛ لأن السقوط بعارض يخص الإمام. وقال: ومن صلى ركعتين تطوعا فسها فيهما وسجد للسهو، ثم أراد أن يصلي أخريين لم يبن لأن السجود يبطل لوقوعه في وسط الصلاة بخلاف المسافر إذا سجد للسهو، ثم نوى الإقامة حيث يبني؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعند أبي يوسف يقضي ركعتين لأن السقوط) ش: أي سقوط وصف الضمان م: (بعارض) ش: أي بسبب عارض م: (يخص الإمام) ش: وهو شروعه ساهيا على عزم أداء الواجب، ولم يوجد هذا العارض في حق المقتدي فيلزمه القضاء دون الإمام، لكن يقضي ركعتين لانقطاع إحرام الفرض عند أبي يوسف، والأصل فيه ما ذكر فخر الإسلام ناقلا عن " النوادر " أنه إذا شرع في صلاة مظنونة هل تكون هي مضمونة هل تكون هي مضمونة في حق المقتدي أم لا.
قال أبو يوسف هي مضمونة وقال محمد: غير مضمونة، وأما نقص الصلاة فهي مضمونة في الأصل لأن ابتداء النفل بلا ضمان غير مشروع إذا كان قصدا كاملا، بخلاف الصبي والمعتوه، فإن شروعهما ليس بملزم لقصور قصدهما فلو قصد قصر هذا الحصر بسبب شروعه ساهيا التحق بهما، بخلاف المقتدي فإنه شرع عامدا فلم يجز إلحاقه بهما وفتوى فخر الإسلام هنا على قول أبي يوسف، وفرق أبو يوسف بين هذا وبين ما إذا لم يقعد على الرابعة بأن هناك بطل فرضه، ولأن الإحرام في الابتداء منعقد بست ركعات، فإذا اقتضى به إنسان لزمه موجب تلك التحريمة، وأما هاهنا فقد تم فرضه لما ذكرنا، وشرع في النفل والمقتدي اقتدى به النفل فلا يلزمه غير ركعتين.
والحاصل أن هناك صلاة واحدة فيلزم الجميع، وهاهنا صلاتان فتلزم الأخرى. وقال الأكمل: قيل فرق الكلام عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
قلت: قائل هذا هو السغناقي فإن قال ذلك بدليل ما تقدم في قوله، وعندهما ركعتان بدليل ما ذكر في " الجامع الصغير " لقاضي خان، وعندهما يقضي الركعتين.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن صلى ركعتين تطوعا فسها فيهما وسجد للسهو، ثم أراد أن يصلي أخريين لم يبن) ش: يعني ليس ذلك م: (لأن السجود) ش: أي سجود السهو م: (يبطل لوقوعه في وسط الصلاة) ش: لأن سجود السهو لم يرع إلا في آخر الصلاة، ومع هذا لو بنى صح بناؤه لبقاء التحريمة وغير المذكور في ظاهر الرواية، كذا قال خواهر زادة في " مبسوطه "، ثم قال: وينبغي أن يعيد سجدتي السهو ثانيا لأن سجود السهو في وسط الصلاة لا يعيدها.
قال المرغيناني: ولو بنى جاز نص عليه في " الاعتصام "، وفي " المحيط " لو بنى جاز، وفي إعادة السجود اختلف المشايخ والمختار يعيد م: (بخلاف المسافر إذا سجد للسهو ثم نوى الإقامة) ش: يعني المسافر إذا سهى فسجد لسهوه ثم نوى الإقامة يتم، وإن كان يلزم إبطال سجود السهو.(2/625)
لأنه لو لم يبن تبطل جميع الصلاة، ومع هذا لو أدى صح لبقاء التحريمة
ويبطل سجود السهو هو الصحيح، ومن سلم وعليه سجدتا السهو فدخل رجل في صلاته بعد التسليم، فإن سجد الإمام كان داخلا وإلا فلا، وهذا عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو داخل سجد الإمام أو لم يسجد؛ لأن عنده سلام من عليه السهو لا يخرجه عن الصلاة أصلا؛ لأنها وجبت جبرا للنقصان، فلا بد من أن يكون في إحرام الصلاة، وعندهما يخرجه على سبيل التوقف؛ لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأنه لو لم يبن تبطل جميع الصلاة) ش: أي صلاته أصلا، لأنه صار فرضه أربعا بنية الإقامة، وأبطل السجود في إبطال الصلاة، فلأجل هذه الضرورة، قلنا بمشروعية البنائية في حق المسافر دون المتطوع، حيث لا ضرورة في بنائه.
وفي " المبسوط " لأن ذلك بعذر شرعي قد يكون بغير صنعه كالجند يصيرون مقيمين بنية الإمام والمرأة بنية زوجها والعبد بنية سيده، وهنا بالمباشرة وقصده، وفي " المرغيناني ": لو نوى الإقامة بعد الصلاة قيل لم تصح صلاته بنية في هذه الصلاة، وقيل معناه مع كونه لم يبن ويسقط عنه سجود السهو. م: (ومع هذا) ش: أي ومع وقوع سجود السهو في وسط الصلاة م: (لو أدى صح لبقاء التحريمة) ش: في حق التطوع، وذكرنا أن الاختلاف في إعادة سجود السهو عند البناء.
م: (ومن سلم وعليه سجدتا السهو) ش: أي ومن سلم في آخر صلاته، والحال أنه عليه سجدتا السهو م: (فدخل رجل في صلاته بعد التسليم) ش: أي فاقتدى به رجل في الصلاة هذا الإدخال يفصل فإن سجد الإمام كان داخلا يعني فإن عاد الإمام إلى سجود السهو كان الرجل داخلا لكون الإمام في حرمة الصلاة بعوده إلى السجود م: (وإلا فلا) ش: يعني وإن لم يعد الإمام إلى السجود، فلا يكون الرجل داخلا م: (وهذا) ش: أي هذا الحكم بالقصد المذكور.
م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف) ش: وأصل هذه المسألة أن سلام من عليه السهو لا يخرجه عن حرمة الصلاة، وإلا فلا، وأشار إلى هذا الأصل والتعليل من الجانبين بقوله م: (وقال محمد هو) ش: أي الرجل م: (داخل) ش: أي في صلاة الإمام م: (سجد الإمام أو لم يسجد، لأن عنده) ش: أي عند محمد.
م: (سلام من عليه السهو لا يخرجه عن الصلاة أصلا) ش: يعني لا خروجا موقوفا ولا باتا م: (لأنها) ش: أي لأن سجدة السهو م: (وجبت جبرا للنقصان) ش: المتمكن في الصلاة م: (فلا بد من أن يكون في إحرام الصلاة) ش: أي فلا بد أن يكون الجابر للنقصان في إحرام الصلاة فحينئذ يسقط معنى التحليل على السلام، ولهذا لو سجد سقط معنى التحليل بالاتفاق.
م: (وعندهما) ش: أي وعند أبي حنيفة وأبي يوسف م: (يخرجه) ش: أي يخرج سلام الإمام إياه عن الصلاة م: (على سبيل التوقف) ش: على العود فإن عاد كان الرجل داخلا وإلا فلا م: (لأنه)(2/626)
محلل في نفسه، وإنما لا يعمل لحاجته إلى أداء السجدة فلا يظهر دونها ولا حاجة على اعتبار عدم العود ويظهر الاختلاف في هذا
وفي انتقاض الطهارة بالقهقهة، وتغير الفرض بنية الإقامة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي لأن السلام م: (محلل في نفسه) ش: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحليلها التسليم» ، وبالإجماع أيضا م: (وإنما لا يعمل) ش: أي السلام لا يعمل عمله هاهنا م: (لحاجته) ش: أي لحاجة المصلي وضرورته م: (إلى أداء السجدة فلا يظهر) ش: أي عمله م: (دونها) ش: أي دون الحاجة م: (ولا حاجة إلى اعتبار) ش: إعادتها م: (عدم العود) ش: فيعمل عمله حينئذ لتحقق المقتضى وزوال المانع.
فإن قلت: ينبغي أن لا يصح الاقتداء، وإن عاد إليها، لأن التحريمة عندهما يعود ضرورة يمكنه من السجود، فينبغي أن لا يظهر في حق غيره.
قلت: العود وإن ثبت بطريق الضرورة، لكن لما ثبت ثبت مع ما هو من لوازمه وضروراته وصحة الاقتداء من ضروراته، وهذا كما هو في حرة تحت عبد قالت لمولاه: أعتق عبدك عني بألف درهم، وقع العتق عنها وثبت الملك لها بطريق الضرورة، وجاء فساد النكاح وثبت الولاء لها، لأن الفساد من لوازم الملك والولاء من لوازم العتق، والشيء ثبت بلوازمه.
ولما بين الأصل والتعليل من الحديثين شرع في بيان ثمرة الاختلاف المذكور بقوله م: (ويظهر الاختلاف في هذا) ش: أي تظهر فائدة الاختلاف المذكور بين سجدة في المذكور من المسألة، وهو ما إذا دخل رجل في صلاة رجل، وعليهما السهو هل يكون داخلا أم لا؟ فعند محمد يكون داخلا سواء سجد للسهو أو لا، وعندهما إن سجد يكون داخلا وإلا فلا، ثم إذا سجد الإمام حتى صار الرجل داخلا في صلاته، فلو سجد مع الإمام ثم قام يقضي ما عليه لم يكن عليه أن يعيد السهو، وإن كان ذلك للسهو في وسط الصلاة، لأن هذا آخر صلاة الإمام حقيقة، فتكون آخر صلاته حكما تحقيقا للمتابعة، فإن سها الرجل فيما يقضي فعليه أن يسجد للسهو، وسجود الأول مع الإمام لا يجزئه مع سهوه، لأن المسبوق فيما يقضي منفردا فسجوده مع الإمام لا يجزئه عن سهوه في حالة انفراده.
م: (وفي انتقاض الطهارة بالقهقهة) ش: أي وتظهر فائدة الاختلاف المذكور يعني إن ضحك الذي سلم، وعليه سجود السهو تنقض طهارته عند محمد وزفر، لأنه ضحك في حرمة الصلاة، وعندهما لا تنقض، وكذلك لو ضحك المقتدي في هذه الحالة م: (وتغير الفرض بنية الإقامة) ش: أي وتظهر أيضا فائدة الخلاف المذكور في تغير الفرض بنية الإقامة يعني المسافر إذا نوى الإقامة في هذه الحالة قبل سجود السهو، فعند محمد وزفر يتغير فرضه أربعا كما نوى قبل السلام، وعندهما لا يتغير فرضه سواء سجد للسهو أو لا، والصورة التي ذكرها المصنف ثلاثة، والصورة الرابعة: فمن اقتدى به بنية التطوع ثم تكلم هذا المقتدي قبل أن يسجد الإمام للسهو لا(2/627)
في هذه الحالة،
ومن سلم يريد به قطع الصلاة، وعليه السهو فعليه أن يسجد لسهوه؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قضاء على المقتدي عندهما، وعند محمد يلزمه قضاء ما سهى الإمام، كذا في " الجامع الصغير " لقاضي خان.
وسئل تاج الشريعة عن مسألة القهقهة بقوله:
فإن قلت: لما كان أمر الخروج موقوفا لم يحكم بتمامه، فكان ينبغي أن يلزمه الوضوء لصلاة أخرى.
قلت: وإن كان يتوقف فإن حرمة الصلاة هاهنا واقعة بالإضافة إلى حرمة الصلاة القائمة قطعا، فلا يساوي هتكها في إيجاب الزاجر وهو تجديد الوضوء هتك لهذه الحرمة، فأشبه هتك حرمة الصلاة على الجنازة.
وقال الأكمل: فإن قيل: إذا كان الخروج موقوفا كان خارجا من وجه دون وجه، وذلك يستدعي أن يكون حكم هذه المسائل عندهما فحكمها عنده احتياطا.
أجيب: بأنه ليس معناه الخروج من وجه دون وجه، بل معناه الخروج من كل وجه يمكن تعرضه العود.
قلت: سئل هذا الكلام من كلام السغناقي حيث قال: قلت: وهذا يعرف إن عندهما من سلم للسهو يخرج عن حرمة الصلاة من كل وجه، لا أن يكون معنى التوقف إن ثبت الخروج من وجه دون وجه، ثم بالسجود يدخل في حرمة الصلاة لأن لو كان في حرمة الصلاة من وجه لكانت الأحكام على حكمها عندهما أيضا، كما هو مذهب محمد من انتقاض الطهارة بالقهقهة، ولزوم الأداء بالاقتداء ولزوم الأربع عند غير الإقامة عملا بالاحتياط.
قلت: هذا لا يخلو عن نظر، لأنهم فسروا قوله سلام من عليه السهو لا يخرجه عن الصلاة أصلا بقولهم، لا خروجا موقوفا ولا باتا يعني عند محمد وعندهما يخرجه خروجا موقوفا، فافهم.
م: (في هذه الحالة) ش: قيد الصور الثلاثة يعني بعد السلام قبل سجود السهو.
م: (ومن سلم يريد قطع الصلاة) ش: يعني في عزمه أن لا يسجد للسهو، ومع هذا عليه السهو وهو معنى قوله م: (وعليه السهو) ش: أي والحال أن عليه السهو هاهنا حالان:
الأول: جملة فعليه مضارعة بدون الواو.
الثاني: جملة اسمية بالواو وعلى الأصل.
م: (فعليه أن يسجد لسهوه) ش: أي ما يوجب عليه أن يسجد لأجل سهوه، وهذا كما تراه(2/628)
لأن هذا السلام غير قاطع، ونيته تغيير المشروع فلغت لا تصح نيته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مطلق، ولكن قيده في الأصل حيث قال إنه يسجد للسهو قبل أن يقوم أو يتكلم، وفي رواية قبل أن يتكلم أو يخرج من المسجد.
فالأول يدل على أنه متى قام عن مجلسه فاستدبر القبلة لا يأتي بسجود السهو، وإن لم يخرج من المسجد، والثاني يدل على أنه يأتي به قبل أن يتكلم ويخرج من المسجد، وأن يمشي وانحرف عن القبلة وهو قول بعض المشايخ من أصحابنا.
م: (لأن هذا السلام) ش: أي لأن السلام الذي أراد به قطع الصلاة م: (غير قاطع) ش: لحرمة الصلاة، أما عند محمد فظاهر، لأنه لا يخرجه عن حرمة الصلاة أصلا.
وأما عندهما فلا يخرجه [ ... ] ، فلا ينقطع الإحرام به مطلقا م: (ونيته) ش: أي إرادته بذلك السلام قطع الصلاة م: (تغيير المشروع) ش: لأن السلام غير قاطع شرعا، فجعله قاطعا بالنية تغيير المشروع وهو لا يتغير بالقصد والعزائم. م: (فلغت) ش: أي بنية قطع الصلاة بالسلام، كما إذا نوى الإبانة بصريح الطلاق م: (لا تصح نيته) ش: فيكون رجعيا، أو كما لو نوى الظهر ستا أو نوى المسافر أربعا تلغو نيته، كذا في " المبسوط ".
فإن قلت: لو سلم وهو ذاكر بسجدة صلاتية أو سجدة تلاوية أو التشهد فسدت صلاته، كذا في " المحيط "، وهذه النية تغيير للمشروع، فلم تلغ.
قلت: تلك الأشياء يؤتى بها في حقيقة الصلاة وقد بطلت بالسلام العمد وسجود السهو يؤتى بها في حرمتها وهي باقية إذا كان عليه سجود السهو.
فإن قلت: نية الكفر تبطل الإيمان، ولم تلغه وإن كانت بغير المشروع.
قلت: نية الكفر كفر، ومتى ثبت الكفر ارتفع الإيمان، لأنهما لا يجتمعان.
فإن قلت: السلام وحده يخرج عن حرمة الصلاة عندهما، فكيف لا يكون مخرجا مع نية القطع، وهذا تناقض.
قلت: هذان وإن كانا مختلفين صورة لكنهما متفقان معنى فلا تناقض، لأن سلام من عليه السهو يخرج عن إحرام الصلاة، لكن على عرضه العود إليه بالسجود من غير فصل بين أن ينوي العود أو ينوي عدمه أو لم ينو شيئا فلا عبرة لنيته، فكان الأول لبيان الإطلاق، والثاني لبيان التقييد فافهم.
واستشكل بأن النية هنا لم توجد مجردة عن العمل إذا لم يكن ذلك العمل المقرون به النية مستحقا على زمان اقتران النية والسلام زمان اقتران النية به تستحق عليه، لأنه يوجب عليه أن يسلم حتى يتمكن من أن يسجد للسهو فلا تعمل النية، فكانت النية مجردة عن العمل على هذا(2/629)
ومن شك في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا، وذلك أول ما عرض له استأنف؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا شك أحدكم في صلاته أنه كم صلى فليستقبل الصلاة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التقدير.
[حكم الشك في عدد ركعات الصلاة]
م: (ومن شك في صلاته) ش: الشك في اللغة خلاف اليقين، وقد شككت في كذا ربت م: (فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا) ش: ذكره بالفاء تنبيها على معنى الشك بأنه عبارة عن تساوي الطرفين فإن عدم دراية صلاته بثلاث ركعات مثل عدم درايته بأربع ركعات فالطرفان متساويان وإلا فالتركيب كان يقتضي بواو الحال والهمزة فيه للتسوية لأنها خرجت عن الاستفهام الحقيقي، فعند ذلك ترد لمعان كثيرة منها التسوية وانتصاب ثلاثا بقوله صلى م: (وذلك) ش: أي الشك م: (أول ما عرض له) ش: اختلفوا في معناه، وقال صاحب " الأجناس " معناه أول ما سها في عمره، وقال شمس الأئمة السرخسي: معناه أن السهو ليس بعادة له لا أنه لم يشتبه في عمره، قال الفقيه: أول ما سها في هذه الصلاة، وقيل: أول السهو وقع له ولم يكن سها في صلاته قط من حين بلغ.
م: (استأنف) ش: أي استقبل الصلاة، وهذه الجملة وقعت جوابا م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا شك أحدكم في صلاته أنه كم صلى فليستقبل الصلاة» ش: هذا بهذا اللفظ غريب ولم يبين أحد من الشراح حال هذا الحديث، فهذا عجيب منهم، وأعجب من ذلك ما قاله الأترازي ولنا ما روى خواهر زاده وغيره في " المبسوط " عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال «إذا شك أحدكم» .. إلخ، وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " من حديث ابن سيرين عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: أما أنا فإذا لم أدر كم صليت فإني أعيد، وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عمر في الذي لا يدري ثلاثا صلى أو أربعا قال: يعيد حتى يحفظ، وعن جرير عن منصور قال: سألت ابن جبير عن الشك في الصلاة، فقال: أما أنا فإذا كنت في المكتوبة فإني أعيد، وعن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: يعيد. وكان شريح يقول يعيد، وعن ليث وعن طاوس قال: إذا صليت فلم تدر كم صليت فأعدها مرة، فإن التبست عليك مرة أخرى فلا تعدها، وقال عطاء: يعيد مرة، وروي ذلك عنه عن مالك وعبد الملك.
ومذهب الشافعي أنه يبني على الأقل وبه قال مالك في الأحوال كلها وبه قال أحمد في المنفرد، وعن أحمد في الإمام روايتان أحدهما أنه يبني على الأقل، والثانية أنه يبني على غالب الظن ويسجد للسهو، واحتج الشافعي بما رواه أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليلق الشك وليبن على اليقين» ، رواه مسلم وأبو داود والنسائي، وابن ماجه أمر بالبناء على اليقين ولم يفصل، ونحن نقول: إن إلقاء الشك كما يكون بالبناء على الأقل يكون بالاستئناف بل الاستئناف أولى، لأنه أبعد من الشك، لكونه خروجا عن العهدة بيقين، والعجب أن أكثر الشراح يحتجون للشافعي بحديث أبي سعيد(2/630)
وإن كان يعرض له كثيرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المذكور، ثم يحتجون لهم بما ذكره المصنف، فما أبعد هذا من القواعد!
أقول: قال القدوري: قال أصحابنا: الشك يتحرى ولم يفصلوا وهذه رواية الأصول، ووجهه حديث ابن مسعود مرفوعا: «وإذا شك أحدكم فليتحر الصواب فليتم عليه» ، أخرجه البخاري ومسلم، وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه يبني على اليقين كما في حديث أبي سعيد الخدري الذي احتج به الشافعي، ووفق أصحابنا بين الأحاديث، وحملوا حديث الاستقبال على الشك في أول أمره، لأنه لا حرج عليه فيه وحملوا حديث ابن مسعود على ما إذا كان يعرض له الشك كثيرا، أوله رأي لأن في الاستئناف في كل مرة حرجا بينا، وفي البناء على اليقين احتمال خلط النافلة بالفرض قبل تمامه، وحملوا حديث أبي سعيد على من تكرر له الشك وليس له ظن وترجيح.
وقال النووي: قال أبو حنيفة: إن حصل له الشك أول مرة بطلت صلاته، وإن صار عادة له اجتهد وعمل بغالب ظنه، وإن لم يظن شيئا عمل بالأقل، ثم قال: قال أبو حامد: قال الشافعي في القديم: ما رأيت قولا أقبح من قول أبي حنيفة هذا، ولا أبعد من السنة.
قلت: قد ذكر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كل واحدة من الأحوال الثلاث حديث، فكيف يقبح الشافعي القول المؤيد بالحديث ويقول: ولا أبعد من السنة، مع كونه قول ابن عمر كما ذكرنا عن قريب، فذكرنا قوله أيضا عن جماعة من السلف الصالحين أئمة الهدى ممن بعده أبا حنيفة، فحينئذ ليس في تخصيصه قول أبي حنيفة بالتقبيح والتبعيد عن السنة معنى، وليس هذا من دأب أهل العلم.
ونقل النووي وابن قدامة وغيرهما من المخالفين لنا عن أبي حنيفة أنه قال إن حصل له الشك أول مرة بطلت صلاته ليس بصحيح، ولا يوجد هذا في أمهات كتب أصحابنا المشهورة، بل المشهور فيها أنهم قالوا استقبل لتقع صلاته على وصف الصحة بيقين.
وقال أبو نصر البغدادي المعروف بالأقطع: الاستئناف أولى لأنه يسقط به الشك بيقين، وفي " الذخيرة " عطف على مسألة الكتاب بقوله أو هل أحدث أم لا؟، أو هل أصاب ثوبه نجاسة؟ إن كان ذلك أول مرة استقبل ولا شك أن صلاته لا تبطل بالشك.
م: (وإن كان) ش: الشك م: (يعرض له كثيرا) ش: أي غالب أحواله ذلك، وقال القدوري في " شرح مختصر الكرخي " كان أبو الحسن يقول معناه إن الشك يعتاده حتى يصير غالب حاله كلما أعاد شك ولا يتوصل إلى أداء فرضه باليقين إلا بمشقة، فجاز أن يرجع إلى الاجتهاد، وقال شيخ الإسلام: معناه أن السهو في صلاة واحدة مرتين، وقيل مرتين في عمره، وقيل: مرتين في(2/631)
بنى على أكبر رأيه؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من شك في صلاته فليتحر الصواب» .
وإن لم يكن له رأي بنى على اليقين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سنة م: (بنى على أكثر رأيه) ش: إن كان له رأي، وعند الشافعي ومالك بنى على الأقل كما ذكرناه م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من شك في صلاته فليتحر الصواب» ش: هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا، ولفظهما «إذا شك أحدكم فليتحر الصواب فيتم عليه» .
فإن قلت: قال البيهقي في " المعرفة " حديث ابن مسعود هذا رواه الحاكم بن عتيبة والأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله دون لفظ التحري، ورواه إبراهيم بن سويد عن علقمة عن عبد الله دون لفظ التحري، فأشبه أن يكون من جهة ابن مسعود أو من دونه فأدرج في الحديث.
قلت: تمام الحديث عن عبد الله بن مسعود «صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فزاد أو نقص فلما سلم قيل يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟، قال: وما ذاك؟، قالوا صليت كذا وكذا، قال فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: " إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به، ولكني أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتين» ، هذا لفظ البخاري في أوائل كتاب الصلاة في باب التوجه إلى القبلة حيث كان ولم يذكر مسلم السلام، ولفظه: " فليتم عليه ثم ليسجد سجدتين "، وأخرجه أبو داود بلفظ البخاري، ولفظ ابن ماجه فيه بالواو، ولفظه: «ويسلم، ويسجد سجدتين» وأما النسائي فلم يذكر فيه وإذا شك أحدكم.. إلخ. وقد رأيت لفظ التحري مضافا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد رواه جماعة من الحفاظ كمسعود والثوري وشعبة ووهب بن خالد وفضيل بن عياض وجرير وغيرهم، والزيادة من الثقة مقبولة إذا لم يكن فيها خلاف الجماعة، والتحري طلب ما هو الأحرى وهو الصواب، هكذا فسره الأترازي والأكمل.
قلت: هذا من باب التفعل فلا يدل على الطلب المطلق، وإنما هو تكلف وإظهار التجلد فيه، ومعنى التحري تكلف ما هو الأحرى، والأحرى هو ما يكون أكثر رأيه عليه، وكيفيته إذا شك وهو قائم أو راكع أو ساجد يتم تلك الركعة ثم يقعد لاحتمال الرابعة والقعدة فيها فرض، ثم يصلي ركعة أخرى لاحتمال أنها كانت الثالثة فيحتاج إلى الرابعة ثم يتشهد ويسلم ويسجد للسهو.
م: (فإن لم يكن له رأي بنى على اليقين) ش: أي على الأقل لأنه هو المتيقن صورته إذا وقع له الشك بين الركعة والركعتين يجعلها ركعة، وإن وقع بين الركعتين والثلاث يجعلها ركعتين، وإن وقع بين الثلاث والأربع يجعلها ثلاثا فيتم صلاته على ذلك هكذا رواه البيهقي من حديث عبد الرحمن بن عوف في " سننه الكبرى "، وفي " المنتقى " رواه أحمد وابن ماجه والترمذي(2/632)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من شك في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا بنى على الأقل» . والاستقبال بالسلام أولى؛ لأنه عرف محللا دون الكلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وصححه وعليه أن يتشهد عقيب الركعة التي يقع الشك أنها آخر صلاته احتياطا، ثم يقوم ويضيف إليها ركعة أخرى ولو شك بعد الفراغ منها فلا إعادة عليه، ويجعل كأنه صلى أربعا أو خمسا، وإن شك أنه صلى فردا أو اثنتين أو ثلاثا، وفي الأربع أنه صلى أربعا أو خمسا، فإن كان قائما يقعد بجواز أن تكون هذه آخر صلاته، ثم يصلي ركعة أخرى احتياطا، وإن كان قاعدا فإن رأى أنها ثانية تجزئه، وإن لم يكن له رأي تفسد لجواز أنه ترك القعدة في الثانية فيحتمل الفساد ليفسد احتياطا ذكر هذا كلها في " المحيط ".
وفي " المجتبى " بنى على الأقل، أي يأخذ بالأقل لكن يقعد حتما في كل موضع يوهم أنه آخر صلاته، وفي القعدة الأولى اختلاف المشايخ حتى إن من شك في قيام ذوات الأربع أنها الثالثة أو الرابعة يأتي بركعتين بقعدتين، فلو شك أنها الثانية أو الثالثة أو الرابعة فثلاث ركعات بثلاث قعدات، وإن شك أنها الأولى أم الثانية أم الثالثة أم الرابعة فأربع ركعات بأربع قعدات، ولو شك في الخامسة يجلس بعد الركوع فيتشهد ثم يسجد سجدتين ثم يتشهد ثم يتم ثلاث ركعات بثلاث قعدات، ولو كان الشك في الخامسة بعد السجود فسدت، وكذا في الرابعة والخامسة، إلا أنه إذا ذكر أنه ترك سجدتين من ركعة وركوعا.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من شك في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا بنى على الأقل» ش: هذا الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه عن عبد الرحمن بن عوف، قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم يدر ثنتين صلى أم ثلاثا فليبن على ثنتين، فإن لم يدر ثلاثا صلى أو أربعا فليبن على ثلاث ويسجد سجدتين من قبل أن يسلم» هذا لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ولفظ ابن ماجه: «إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أم اثنتين فليجعلها واحدة، وإذا شك في اثنتين أو ثلاث فليجعلها اثنتين وإذا شك في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثا ثم ليتم ما بقي من صلاته حتى يكون الوهم في الزيادة ثم يسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم» ، وأخرجه الحاكم في المستدرك ولفظه: «فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليتم، فإن الزيادة خير من النقصان» ، وقال صحيح على شرط الشيخين، وتعقبه الذهبي في " مختصره "، فإن فيه عمار بن مطرز الرهاوي، وقد تركوه. قلت: عمار ليس في " السنن ".
م: (والاستقبال بالسلام أولى) ش: هذا متعلق بقوله: استأنف يعني إذا استأنف الصلاة وفيها إذا عرض له السهو أول مرة استأنف بالسلام وهو أولى م: (لأنه) ش: أي لأن السلام م: (عرف محللا دون الكلام) ش: لأن السلام عرف محللا للصلاة شرعا، ولم يعلم ذلك بأن الكلام(2/633)
ومجرد النية لغو، وعند البناء على الأقل يقعد في كل موضع يتوهم آخر صلاته، كيلا يصير تاركا فرض القعدة، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
موضع السلام شرعا، وإنما ذكر الكلام لدفع شبهة، فإنه عسى أن يهم الوهم بأن هذا لما كان قطعا للصلاة لاستقبال الصلاة من الابتداء لا يتفاوت الحكم من السلام والكلام، إذ كل منهما قاطع للصلاة، فإن استأنف بالكلام أيضا يجوز، لأنه أيضا قاطع كالسلام م: (ومجرد النية تلغو) ش: أي نفس النية بقطع الصلاة من غير اقتران السلام بها ليست بكافية للقطع، لأن النية بوصف التجرد لا تأثير لها في الشيء الذي يتوقف تحققه على النية، وعمل الجوارح وقطع الصلاة من هذا فلا يثبت بمجرد النية.
م: (وعند البناء على الأقل يقعد في كل موضع يتوهم آخر صلاته كيلا يصير تاركا فرض القعدة) ش: هذا متعلق بقوله شك في صلاته.. إلخ، وقد بيناه مفصلا عن قريب.
فروع: شك في صلاته أنه صلاها أم لا، فإن كان في الوقت يعيد، ولو شك خارج الوقت لا يعيدها شك في الركوع والسجود، وإن كان بعدما يأتي بهما وبعد الخروج منها، فالظاهر أنه لم يتركها، شك في الحدث وأيقن بالطهارة فهو متطهر وبالعكس فحدث شك في بعض وضوئه وهو أول ما عرض له غسل ذلك الموضع، وإن كان يعرض له كثيرا لا يلتفت إليه، وكذا لو شك أنه كبر للافتتاح، فإن كان أول ما عرض له استقبل، وإن كثر وقوعه يمضي، صلى يقوم شهرا ثم قال لهم صليت على غير وضوء لا يصدق، ولو عرض وغلب على ظنهم صدقه يجب عليهم القضاء قام المسبوق في قضاء ما سبق ثم تذكر الإمام أن عليه سجدة التلاوة، فعاد فسجدها، فإن عاد المسبوق إلى متابعته فسدت صلاته، وإن مضى على صلاته ففي فسادها روايتان.
وفي " الروضة " فالواجب على المسبوق بعد سلام الإمام القعود ولا يقوم إلى قضاء ما سبق، حتى يوجد من الإمام ما يفسد صلاته من الانحراف والكلام والشروع في صلاة أخرى، قال أبو شجاع: إذا قال في القعدة الأولى: اللهم صل على محمد يلزمه السهو، وعن أبي حنيفة إذا زاد حرفا يجب سجود السهو، وقال الإمام أبو منصور الماتريدي: لا يجب ما لم يقل وعلى آل محمد وعن الصفار: لا سهو عليه في هذا، وعن محمد أنه استقبح إن أوجب سجود السهو بالصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو قرأ فاتحة الكتاب قبل التشهد يلزمه السهو وبعده لا.(2/634)
باب صلاة المريض
إذا عجز المريض عن القيام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب صلاة المريض] [كيفية صلاة المريض]
م: (باب صلاة المريض) ش: أي هذا باب في بيان أحكام صلاة المريض، وهو فعيل بمعنى فاعل من باب علم يعلم، قال الجوهري: المرض القسم، قلت: هو ضعف القوى، وترادف الآلام.
وفي " البدرية " الإضافة في صلاة المريض من باب إضافة الفعل إلى فاعله أو إلى محله، كتحريك الخشبة.
وأنه شائع كقولهم: جرح زيد لا يندمل، وقال السغناقي: قولهم: جرح زيد لا يندمل يجمعها. قلت: ينبغي أن يتعين المعنى الأول، لأن المعنى الصلاة الصادرة من المريض، فالمريض فاعلها وموجدها، بخلاف جرح زيد لأن زيدا المجروح فلا يكون نظيره، لأن المريض بمعنى المارض كما ذكرنا، ثم المناسبة بين البابين من حيث إن كلا منهما مشتمل على نوع من العوارض السماوية، لكن قدم باب السهو لكثرة وقوعه وشدة سائر الحاجة إلى بيانه، أو لأن في كل منهما صلاة مع قصور ولها جابر، ففي الأول سجدتا السهو، وفي هذا قدر الإمكان.
م: (إذا عجز المريض عن القيام) ش: بأن يلحقه بالقيام ضرر، ولم يرو هذا العجز أصلا، بحيث لا يمكنه القيام بأن يصير مقعدا بل بحيث لا يقدر على القيام، إلا أنه يضعفه ضعفا شديدا أو يجد وجعا، كذا في " المحيط "، وقيل: بحيث لو قام سقط عن ضعف أو دوران رأس.
وقيل: بحيث أن يصير صاحب فراش، وقيل: بحيث يبيح ما يسمح الإفطار به، وقيل لا يبيح التيمم به، وقيل ما يعجزه عن القيام بحوائجه.
وأصح الأقاويل ما ذكرناه أولا، وهو أن يلحقه بالقيام ضرر كذا ذكره التمرتاشي، وفي " فتاوى الظهيرية " وعليه الفتوى.
وعن أبي جعفر الطحاوي: ولو قدر على بعض القيام ولو قدر آية أو تكبيرة يقوم ذلك القدر وإن عجز عن ذلك قعد، وإن لم يفعل ذلك خفت أن تفسد صلاته، هذا هو المذهب، ولا يروى عن أصحابنا خلافه، وكذا إذا عجز عن القعود وقدر على الاتكاء أو الاستناد إلى إنسان أو حائط أو وسادة لا يجزئه إلا كذلك.
ولو استلقى لا يجزئه خصوصا على قولهما فإنهما يجعلان قدرته على الوضوء بغيره كقدرته بنفسه، فكذلك في " مبسوط شيخ الإسلام "، الفرق بين هذا وبين الصوم أن المريض إذا كان قادرا على الصوم في بعض اليوم ثم عجز فإنه لا يصوم أصلا، وهاهنا يصلي قائما بقدر ما رأته لنا أفطر في آخر اليوم لم يكن فعله معتدا به في أول اليوم فلا ينتقل به، وفي الصلاة قيامه في(2/635)
صلى قاعدا يركع ويسجد؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى الجنب تومئ إيماء» ، ولأن الطاعة بحسب الطاقة.
قال: فإن لم تستطع الركوع والسجود أومئ إيماء، يعني قاعدا؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أولها يبقى معتدا به، وإن قعد في آخرها، وفي " المحيط " و " المجتبى " لو تكلف المريض إلى الجماعة فعجز عن القيام.
قيل: لا يخرج مخافة فوت الركن، والأصح أن يخرج، لأن الفرض القدرة على الاقتداء. وفي " الخلاصة " وعليه الفتوى.
م: (صلى قاعدا يركع ويسجد) ش: قاعدا نصب على الحال من المريض، ويركع ويسجد أيضا حالان متداخلان أو مترادفان م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى الجنب تومئ إيماء» ش: هذا الحديث أخرجه الجماعة إلا مسلما.
عن «عمران بن حصين قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة، فقال: " صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» وزاد النسائي: «فإن لم تستطع فمستلقيا، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها» .
وفي رواية أبي داود عن «عمران بن حصين قال: كان بي الناصور، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -.. الحديث، الناصور بالنون والصاد المهملة، ويقال: الناسور بالسين، وهي علة تحدث في مآقي العين تبقى فلا تقطع، وقد تحدث أيضا في أحوال المقعدة وهو المراد هاهنا، وقد تحدث أيضا في اللبة وهو معرب.
والباسور بالباء الموحدة علة تحدث في المقعدة وفي داخل الأنف أيضا، ويجمع على بواسير، وفي لفظ مبسورا، وقيل بالنون، وقيل: لا يسمى باسورا إلا إذا خرج وفتحت أفواه عروقه من داخل المخرج. وفي " المغرب " الباصور فرجة غائرة فلا تندمل.
م: (ولأن الطاعة بحسب الطاقة) ش: أي بحسب القدرة، قال الله تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] (البقرة: الآية 286) .
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فإن لم تستطع الركوع والسجود أومئ إيماء) ش: أومأ أصله بالهمزة ولكنها تلين م: (يعني قاعدا) ش: هذا تفسير كلام القدوري، فإن قال: فإن لم تستطع الركوع والسجود أومئ إيماء، وجعل السجود أخفض من الركوع، ولم يتعرض أنه يومئ قائما أو قاعدا، فقال المصنف مراده يومئ قاعدا.
فإن قلت: إذا قدر على القيام ولم يقدر على الركوع أو السجود ينبغي أن لا يسقط عنه فرض القيام، ويصلي قائما بالركوع والسجود، وهو قول الشافعي لحديث عمران بن حصين: «فإن لم(2/636)
لأنه وسع مثله وجعل سجوده أخفض من ركوعه؛ لأنه قام مقامهما، فأخذ حكمهما ولا يرفع إلى وجهه شيء يسجد عليه؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن قدرت أن تسجد على الأرض فاسجد، وإلا فأومئ برأسك» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تستطع فقاعدا» حيث نقل الحكم من القيام إلى القعود بشرط العجز عن القيام.
قلت: أجاب السغناقي محالا على " مبسوط شيخ الإسلام " بقوله ذلك محمول على ما إذا كان قادرا على الركوع والسجود حال القيام، بدليل أنه ذكر الإيماء حال ما يصلي على الجنب، فدل أن المراد بحال القيام القدرة على الأركان.
قلت: في أي طريق من طرق حديث عمران بن حصين ذكر الإيماء حتى يقول بدليل أنه ذكر الإيماء إلى آخره.
فإن قلت: لم يبين صفة القعود كيف هي.
قلت: قال صاحب " الدراية " و " التحفة ": اختلفت الروايات عن أصحابنا في أنه كيف يقعد، فروى محمد عن أبي حنيفة أنه يجلس كيفما شاء.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إذا افتتح الصلاة يتربع، وإذا ركع يفترش رجله اليسرى ويجلس عليها، وعن أبي يوسف أنه يتربع في جميع صلاته، وعن زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يفترش رجله اليسرى في جميع صلواته، والصحيح رواية محمد، لأن عذر المرض يسقط عنه الأركان، فلأن تسقط عنه الهيئات أولى.
م: (لأنه وسع مثله) ش: أي لأن الإيماء بالركوع والسجود قاعدا وسع مثل هذا الرجل، هذا الذي لا يقدر على القيام والركوع والسجود م: (وجعل سجوده أخفض من ركوعه) ش: أي أوطأ م: (لأنه) ش: أي لأن الإيماء م: (قائم مقامهما) ش: أي مقام الركوع والسجود م: (فأخذ حكمهما) ش: أي فأخذ الإيماء حكم الركوع والسجود، وهو أن السجود يكون أخفض من الركوع. فكذا في الإيماء.
م: (ولا يرفع إلى وجهه شيء يسجد عليه) ش: لا يرفع على صيغة المجهول، وقوله شيء مفعول قائم مقام الفاعل.
وقوله: يسجد عليه جملة في محل الرفع لأنها صفة لقوله شيء م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن قدرت أن تسجد على الأرض فاسجد وإلا فأومئ برأسك» ش: هذا الحديث رواه جابر وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فحديث جابر أخرجه البزار في " مسنده " والبيهقي في " المعرفة " عن أبي بكر الحنفي حدثنا سفيان الثوري حدثنا أبو الزبير عن جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاد مريضا فرآه يصلي على وسادة، فأخذها فرمى بها فأخذ عودا ليصلي عليه فرمى به، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن استطعت وإلا فأومئ إيماء(2/637)
وإن فعل ذلك وهو يخفض رأسه أجزأه لوجود الإيماء. وإن وضع ذلك على جبهته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واجعل سجودك أخفض من ركوعك» .
وقال البزار: لا نعلم أحدا رواه عن الثوري إلا أبو بكر الحنفي، قال البيهقي: هذا بعيد من أفراد أبي بكر الحنفي وقد تابعه عبد الوهاب بن عطاء عن الثوري به، وهذا لا يحتمل أن يكون في وسادة مرفوعة إلى جبهته، ويحتمل أن تكون موضوعة على الأرض.
وحديث ابن عمر أخرجه الطبراني في " معجمه " عن طارق بن شهاب عن ابن عمر قال: «عاد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا من أصحابه مريضا» .. فذكره.
م: (وإن فعل ذلك) ش: أي إن رفع إلى وجهه شيئا يسجد عليه م: (وهو يخفض رأسه) ش: أي والحال أنه يخفض رأسه م: (أجزأه لوجود الإيماء) ش: الذي هو الفرض، يعني الإيماء في حقه، وفي الأصل يكره للمومئ أن يرفع عودا أو وسادة يسجد عليها.
وفي " الينابيع " يكون شيئا وتجوز صلاته إن وجد فيه تحريك رأسه، وإن لم يوجد لا يجوز. ثم اختلفوا هل يعد هذا سجودا أو إيماء؟، قيل: هو إيماء وهو الأصح، وفي " المبسوط " جازت صلاته بالإيماء لا بوضع الرأس، وقيل: هو سجود، فإن كانت الوسادة موضوعة على الأرض وسجد عليها جازت لما روى الحسن عن أمه قالت: رأيت أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسجد على وسادة من أدم من رمد بها، رواه البيهقي بإسناده، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه رخص في السجود على الوسادة والمخدة ذكره البيهقي، وكذا ذكر في " سننه " عن أبي إسحاق قال: رأيت عدي بن حاتم يسجد على جدار في المسجد ارتفاعه قدر ذراع، وذكره أيضا ابن أبي شيبة في " مصنفه "، وذكر ابن أبي شيبة عن أبي أنس أنه كان يسجد على مرفقه، وعن أبي العالية أنه كان مريضا وكانت المرفقة سكنى له فيسجد عليها، وكره ذلك ابن عمر وكان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يكره أن يسجد الرجل على العود، ومثله عن ابن مسعود والحسن، ذكره ابن أبي شيبة في " مصنفه ".
وفي " المحيط ": لو كان على جبهته عذر دون الأنف لم يجزه الإيماء ويسجد على أنفه، لأنه كالجبهة. وقال أبو بكر: إذا كان بجبهته أو أنفه عذر يصلي بالإيماء ولا يلزمه تقريب الجبهة إلى الأرض بأقصى ما يمكنه.
وفي " المجتبى ": كيفية الإيماء بالركوع والسجود شبيهة على أنه هل يكفي بعض الانحناء أم أقصى ما يمكنه؟ فظفرت على الرواية، فإنه ذكر شيخ الإسلام المومئ إذا اخفض رأسه للركوع شيئا ثم للسجود جاز، ولو وضع بين يديه وسائد وألصق جبهته فإن وجد جاز وإلا فلا.
م: (وإن وضع ذلك) ش: أي وإن وضع ذلك الشيء بأن وضعه م: (على جبهته) ش: أي على(2/638)
لا يجزئه لانعدامه، وإن لم يستطع القعود استلقى على ظهره وجعل رجليه إلى القبلة، وأومأ بالركوع والسجود؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يصلي المريض قائما فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى قفاه يومئ إيماء، فإن لم يستطع فالله تعالى أحق بقبول العذر منه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جبهة المريض م: (لا يجزئه لانعدامه) ش: أي لانعدام الإيماء م: (وإن لم يستطع القعود استلقى على ظهره وجعل رجليه إلى القبلة وأومأ بالركوع والسجود) ش: قال الشيخ حميد الدين بن الضرير وغيره: توضع وسادة تحت رأسه حتى يكون شبه القاعد، ليتمكن من الإيماء للركوع والسجود، إذ حقيقة الاستلقاء تمنع الأصحاء عن الإيماء، فيكف في المرضى؟
ثم اختلفت الروايات عن أصحابنا في كيفية الاستلقاء، ففي ظاهر الرواية يصلي مستلقيا على قفاه ورجلاه إلى القبلة، وروى ابن كاس عنهم أنه يصلي على جنبه الأيمن ووجهه إلى القبلة، فإن عجز عن ذلك استلقى على قفاه، وهو قول الشافعي وقول مالك وأحمد كظاهر الرواية المذكورة م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يصلي المريض قائما، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى قفاه يومئ إيماء، فإن لم يستطع فالله أحق بقبول العذر منه» ش: هذا حديث غريب رواه أصحابنا في كتبهم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يبينوا رواته ولا حاله.
وإنما ذكر صاحب " المبسوط " فقال: «دخل رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عمران بن حصين يعوده في مرضه، فقال: كيف أصلي؟، قال: " صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى الجنب تومئ إيماء، فإن لم تستطع فالله تعالى أولى بالعذر» ، أي بقبول العذر منك.
وقد روى الدارقطني في " سننه " من حديث علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يصلي المريض قائما، فإن لم يستطع صلى قاعدا، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعدا صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع صلى مستلقيا ورجلاه مما يلي القبلة» .
وفيه [الحسن بن] الحسين العرني قال عبد الحق: كان من رؤساء الشيعة ولم يكن عندهم بصدوق، ووافقه ابن القطان وفيه الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
قال ابن عدي: أنا أرجو أن لا بأس به إلا أني وجدت في بعض حديثه نكرة، وقال السغناقي: قوله فإن لم يستطع فالله أحق بقبول العذر منه، هذا من تتمة الحديث، ولفظ " المبسوطين " و " الأسرار " أولى فكان أحق معناه على قول من يقول لا يسقط القضاء عنه وإن لم يقدر على الإيماء أي أحق بقبول عذر التأخير لا عذر الإسقاط، وعلى قول من يقول بعدم القضاء(2/639)
قال: وإن استلقى على جنبه ووجهه إلى القبلة فأومأ جاز؛ لما روينا من قبل، إلا أن الأولى هو الأولى عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن إشارة المستلقي تقع إلى هواء الكعبة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو الأصح أي أحق بقبول عذر الإسقاط.
قلت: هذا كلام حسن إذا ثبت أنه حديث.
م: (وإن استلقى على جنبه ووجهه إلى القبلة فأومأ جاز) ش: أطلق ذكر الجنب ليتناول الأيمن والأيسر وهو مذهب الشافعي، ولكنه قال على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع استلقى على ظهره ويستقبل القبلة برجليه لحديث عمران بن حصين ولأنه لو اضطجع على جنبه يكون وجهه إلى القبلة فهو أولى كما إذا احتضر وجهه إلى القبلة على شقه الأيمن، وكذا في القبر، وسنجيب عن هذا عن قريب.
ثم اعلم أن الاضطجاع المشروع ستة:
أحدها: في الصلاة على الخلاف.
الثاني: المحتضر عند الموت يوضع على شقه عرضا ووجهه إلى القبلة، ولكن المتأخرين اختاروا الاضطجاع مستلقيا، وزعموا أنه أسهل لخروج الروح وهو الثالث.
الرابع: الميت إذا وضع على التخت لغسله، ولا رواية فيه لأصحابنا، لكن تعارفوا اضطجاعه على قفاه.
الخامس: الاضطجاع في حالة الصلاة يكون مستلقيا على قفاه كما هو المعهود بين الناس.
السادس: الاضطجاع في اللحد يضطجع على جنبه الأيمن ووجهه إلى القبلة.
م: (لما روينا من قبل) ش: أراد به حديث عمران بن حصين الذي ذكره في أول الباب م: (إلا أن الأولى هو الأولى عندنا) ش: الأولى بفتح الهمزة بمعنى الأحرى والأجدر، والأولى الثاني بضم الهمزة تأنيث الأول، وأراد به الاستلقاء على الظهر.
فإن قلت: كيف وجه التأنيث، والمذكور من الاستلقاء على الظهر مذكر؟
قلت: لما كان هذه هيئة وحالة ذكر بالتأنيث على تأويل الهيئة، ويجوز أن يكون على تأويل الرواية الأولى، وجعله السغناقي من باب المزاوجة خطأ فلا حاجة إلى ذلك، والتأويل المذكور أحسن، وفي بعض النسخ الأولى بالضم يقدم على الأولى بالفتح، وعلى هذا فسره الأكمل.
م: (خلافا للشافعي) ش: فإن عنده هو الثاني كما ذكرنا م: (لأن إشارة المستلقي تقع إلى هواء الكعبة) ش: هذه إشارة إلى أوجه المعقول، أراد أن المستلقي على قفاه إذا أومأ يقع إيماؤه إلى هواء الكعبة، وقد علم أن شرط المصلي أن يصلي إلى القبلة، والصلاة بالإيماء ما له فعل غير الإيماء(2/640)
وإشارة المضطجع على جنبه إلى جانب قدميه، وبه تتأدى الصلاة،
فإن لم يستطع الإيماء برأسه أخرت الصلاة عنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والإيماء أن يقع إلى الكعبة بما قلنا، ألا ترى أنه لو حققه لذلك سجودًا كان إلى القبلة.
وعلى ما قاله الخصم لو حققه لكن إلى يسار الكعبة م: (وإشارة المضطجع على جنبه إلى جانب قدميه) ش: فيكون توجه البدن إلى الكعبة والشرط أداء الصلاة إلى الكعبة لا البدن، بدون الأداء، فالخصم مال إلى ظاهر التوجه ببدنه، كما في الميت، ونحن إلى التوجه مصليًا، وهذا أولى، وقال الأكمل في هذا الموضع: ولنا تعارض حديث عمران بن حصين، وحديث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وفي حالة العذر جاز العمل بكل منهما، إلا أن ما ذكرنا أولى، لأن المعقول معنا، فإن إشارة المستلقي.... إلخ.
قلت: لم يبين هو حديث ابن عمر أصلًا ولا ذكره، وكيف قال ولما تعارض حديث عمران وحديث ابن عمر؟ أقول حديث ابن عمر رواه البيهقي عن نافع عن ابن عمر قال: «يصلي المريض مستلقيًا» ولا يسلم المعارضة بينهما، فإن في حديث عمران أيضًا «فإن لم يستطع فمستلقيًا» رواه النسائي كما ذكرنا.
وقال صاحب " الدراية ": وحديث عمران محتمل، وما رويناه أعني حديث ابن عمر محكم، والعمل بالمحكم أولى.
قلت: هذه الدعوى إنما تصح إذا لم يكن في حديث عمران ذكر الاستلقاء على القفا، والحال انه قد ذكر فيه، فحينئذ كلاهما يتساويان فلا تصح دعوى كل واحد من الأكمل وصاحب " الدراية "، على أن أصحابنا احتجوا بأول حديث عمران بن حصين وهو قوله: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدًا» فعلى هذا ذكر المصنف، واحتج الشافعي بتمامه لأن آخر الحديث: «فإن لم تستطع فعلى الجنب» .
ثم أجاب أصحابنا عن هذا أن معنى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فعلى الجنب أي ساقطًا على الأرض، والمستلقي على الأرض ساقط.
قلت: هذا ليس بسديد، لأنه يلزم منه التكرار في الحديث بلا فائدة، فافهم.
والكلام الموجه فيه أن يقال إن كل واحد من الحديثين يدل على جواز ما قالوا وما قلنا: غاية ما في الباب أن أصحابنا رجحوا صورة الاستلقاء على القفا لمساعدة العقول إياه كما ذكرنا، وما في الباب يرجح غير هذا.
م: (وبه تتأدى الصلاة) ش: أي بوقوع الإشارة إلى هواء الكعبة تتأدى الصلاة.
م: (فإن لم يستطع الإيماء برأسه أخرت الصلاة عنه) ش: أي أخرت الصلاة عن هذا المريض عند(2/641)
ولا يومئ بعينيه ولا بقلبه ولا بحاجبيه، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما روينا من قبل؛ ولأن نصب الإبدال بالرأي ممتنع، ولا قياس على الرأس لأنه يتأدى به ركن الصلاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عدم الاستطاعة على الإيماء برأسه وسيجيء الكلام فيه مفصلًا م: (ولا يومئ بعينيه ولا بقلبه) ش: وفي " التحفة " و" القنية " عند الحسن يومئ بقبله وبحاجبيه ويعيد م: (ولا بحاجبيه) ش: أي ولا يومئ أيضًا بحاجبيه م: (خلافًا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فعنده يومئ بعينيه وحاجبيه وقلبه.
واعلم أن المريض إذا عجز عن الإيماء بالرأس هل يلزمه الإيماء بالعينين والحاجبين أم لا؟، ولم يذكر هذا في ظاهر الرواية، روي عن أبي حنيفة في غير رواية الأصول أنه قال لا يومئ المريض بحاجبيه ولا بعينيه ولا بقلبه في الصلاة، وهكذا روي عن أبي يوسف أيضا، وروي عن محمد بن الحسن أنه قال لا يومئ بقلبه ولم يذكر الحاجبين والعينين.
وعن زفر أنه يومئ بالحاجبين لقربه من الرأس، فإن عجز فبالعينين، فإن عجز فبقلبه، وقال الحسن بن زياد: يومئ بعينيه وبحاجبيه ولا يومئ بقلبه، كذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في "مبسوطه " خلافهم.
وقال القدوري وصاحب " التحفة ": قال الحسن بن زياد: يومئ بحاجبيه وبقلبه ويعيد متى قدر على الأركان.
وفي " الحاوي " يومئ بعينيه وبحاجبيه وقلبه عند زفر وأبي يوسف، ولم يجزه أبو حنيفة. وقال محمد: لا أشك أن الإيماء بالرأس يجوز، ولا شك أنه بالقلب لا يجوز وأشك في العينين، ذكره في " الذخيرة ".
وقاضي خان وفي "الحاوي " عن محمد الإيماء بالقلب لا يجوز عند أبي يوسف، ولست أحفظ قوله في الإيماء بالعينين والحاجبين. وعند زفر بعينيه وحاجبيه، وإذا صح أعاد. وقال الشافعي: إذا عجز عن الإيماء برأسه أومأ بطرفه، فإن عجز أجرى أفعال الصلاة على قلبه، وكذا القراءة والأذكار يجريها على قلبه عند العجز، وما دام عاقلًا لا تسقط الصلاة، وفي " الدراية " وقال الشافعي ومالك يومئ بعينيه، فإن عجز فبقلبه لأنه وسع مثله.
م: (لما روينا من قبل) ش: أشار به إلى «قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إن قدرت أن تسجد على الأرض فاسجد وإلا فأومئ برأسك:» م: (ولأن نصب الإبدال بالرأي ممتنع) ش: هذا دليل عقلي تقديره أن الشارع اقتصر على الرأس في الحديث المذكور في موضع البيان، ولو جاز غيره لبينه فحينئذ لا يجوز نصب البدل عن الإيماء بالرأس بالرأي م: (ولا قياس على الرأس) ش: جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال هذا ليس من باب نصب الإبدال بالرأي بل بالقياس على الرأس، وتقدير الجواب أن القياس على الرأس لا يصح م: (لأنه يتأدى به ركن الصلاة) ش: أي لأن الشأن يتأدى بالرأس(2/642)
دون العين وأختيها.
وقوله: أخرت عنه إشارة إلى أنه لا تسقط الصلاة عنه، وإن كان العجز أكثر من يوم وليلة إذا كان مفيقا وهو الصحيح لأنه يفهم مضمون الخطاب، بخلاف المغمى عليه، قال: وإن قدر على القيام ولم يقدر على الركوع والسجود لم يلزم القيام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ركن الصلاة وهو السجود م: (دون العين وأختيها) ش: أراد بالأختية الحاجبين والقلب، وذلك لأنه لا يتأدى بهما ركن من أركان الصلاة، فالقياس مع وجود الفارق باطل.
م: (وقوله: أخرت عنه) ش: أي قول القدوري في "مختصره"، فإن لم يستطع الإيماء برأسه أخرت عنه، أي أخرت الصلاة عن هذا المريض، ولكن غالب عادة المحتضر، فإن لم يستطع الإيماء برأسه أخر الصلاة، والمعنى واحد.
م: (إشارة إلى أنه لا تسقط الصلاة) ش: إشارة بالرفع خبر المبتدأ، أعني قوله والضمير في أنه للسان والشرط في عدم السقوط، وإن كان أكثر من يوم وليلة أن يكون مفيقًا أشار إليه بكلمة "إن" الواصلة بقوله: م: (وإن كان العجز أكثر من يوم وليلة إذا كان مفيقًا) ش: لوجود فهم الخطاب، وسبب الوجوب صلاحية الذمة، وهو الذي ذكره الكرخي في "مختصره"، واختاره المصنف فلذلك نبه عليه بقوله: م: (هو الصحيح) ش: واحترز به عن قول شيخ الإسلام وفخر الإسلام وقاضي خان وآخرين، فإنهم قالوا الصحيح أنه يسقط، وبه قال مالك، وفي "فتاوى الظهيرية" وهو ظاهر الرواية وعليه الفتوى لأن مجرد العقل لا يكفي لتوجه الخطاب.
قال محمد: قال في " النوادر " من قطعت يداه من المرفقين ورجلاه إلى الساقين لا صلاة عليه، فعلم أن مجرد الفعل لا يكفي لتوجه الخطاب.
وفي " المحيط " قال بعض المشايخ: إذا كانت الفوائت أكثر من يوم وليلة لا يجب عليه القضاء، وإن كان أقل من ذلك فعليه القضاء كالجنون والإغماء وهو الصحيح، وللشافعية وجه حكاه صاحب " العدة " والبيان أنه إذا عجز عن الإيماء بالرأس سقطت عنه، وفي "منية المفتي " إن دام العجز أكثر من يوم وليلة سقطت في الأصح.
وقال بعضهم: لا يسقط، وإن دام أكثر من يوم وليلة حتى إذا برئ لزمه القضاء، ولو مات قضى عنه ورثته.
قال في " النافع ": هو الصحيح، وقال بعضهم: يسقط مطلقًا من غير تفصيل، واختاره السرخسي.
م: (لأنه أي لأن هذا المريض يفهم مضمون الخطاب) ش: لوجود عقله م: (بخلاف المغمى عليه) ش: لعجزه عن فهم الخطاب م: (وإن قدر على القيام ولم يقدر على الركوع والسجود لم يلزمه القيام(2/643)
ويصلي قاعدا يومئ إيماء؛ لأن ركنية القيام للترسل به إلى السجدة لما فيها من نهاية التعظيم، فإذا كان لا يتعقبه السجود لا يكون ركنا فيتخير، والأفضل هو الإيماء قاعدا؛ لأنه أشبه بالسجود، وإن صلى الصحيح بعض صلاته قائما ثم حدث به مرض أتمها قاعدا يركع ويسجد أو يومئ إن لم يقدر أو مستلقيا إن لم يقدر لأنه بنى الأدنى على الأعلى فصار كالاقتداء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويصلي قاعدًا يومئ إيماء) ش: وقال زفر والشافعي لم يسقط عنه القيام في هذه الحالة، لأن ركن فلا يسقط بالعجز عن إدراك ركن آخر م: (لأن ركنية القيام للترسل به إلى السجدة لما فيها) ش: أي في السجدة م: (من نهاية التعظيم، فإذا كان لا يتعقبه السجود) ش: أي فإذا كان لا يتعقبه السجود يعني إذا سقطت عنه السجدة وهي الأصل سقط عنه القيام وهو الوسيلة، كمن سقطت عنه الصلاة سقطت عنه الطهارة حينئذ م: (لا يكون ركنًا فيتخير) ش: أي المريض المصلي بين أن يصلي قائمًا بالإيماء، وبين أن يصلي قاعدًا بالإيماء.
م: (والأفضل هو الإيماء قاعدًا لأنه أشبه بالسجود) ش: لكون القعود أقرب إلى السجود من القيام.
فإن قلت: فقد جاء أفضل الصلاة طول القنوت أي القيام.
قلت: إنما كان كذلك لانضمام قراءة القرآن إليه، فيكون فضله لأجل الجمع بين الركنين وهو يحصل في القعود، ولا ترد صلاة الجنازة حيث لم يلزم ثمة سقوط القيام بسبب سقوط السجود، لأنها ليست بصلاة حقيقة بل هي دعاء.
م: (وإن صلى الصحيح بعض صلاته قائمًا وحدث به مرض يتمها قاعدًا يركع ويسجد أو يومئ إن لم يقدر) ش: أي على الركوع والسجود، وفي " فتاوى قاضي خان " ما يخالف هذا حيث قال: تفسد صلاته عند أبي حنيفة في هذه الصورة، وهذه رواية [....] ابن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، لأن تحريمته انعقدت للركوع والسجود فلا يجوز بدونها م: (أو مستلقيًا إن لم يقدر) ش: أي أو يصلي حال كونه مستلقيًا على قفاه إن لم يقدر على القعود، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يستقبل.
م: (لأنه بنى الأدنى على الأعلى) ش: أي في الصور الثلاث وهو الإيماء قاعدًا بالركوع والسجود عند عدم القدرة على القيام والإيماء قاعدًا عند عدم القدرة على الركوع والسجود والإيماء ومستلقيًا عند عدم القدرة على الإيماء قاعدًا.
م: (فصار كالاقتداء) ش: أي فصار بناء المريض على أول صلاته كالاقتداء أي يجوز كما يجوز ذاك، فإنه يصح اقتداء القاعد بالقائم والمومئ بالراكع والساجد، والأصل في المسألة أن كل موضع يصح الاقتداء يصح البناء وإلا فلا.(2/644)
ومن صلى قاعدا يركع ويسجد لمرض، ثم صح بنى على صلاته قائما عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يستقبل بناء على اختلافهم في الاقتداء وقد تقدم بيانه وإن صلى بعض صلاته بإيماء ثم قدر على الركوع والسجود استأنف عندهم جميعا، لأنه لا يجوز اقتداء الراكع بالمومئ، فكذا البناء، ومن افتتح التطوع قائما ثم أعيا لا بأس بأن يتوكأ على عصا أو حائط أو يقعد؛ لأن هذا عذر، وإن كان الاتكاء بغير عذر يكره؛ لأنه إساءة في الأدب، وقيل: لا يكره عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه لو قعد عنده يجوز من غير عذر، فكذا لا يكره الاتكاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ومن صلى قاعدًا يركع ويسجد لمرض ثم صح بنى على صلاته قائمًا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد يستقبل بناء على اختلافهم في الاقتداء) ش: أي بنوا بناء على صلاتهم، أراد به اختلاف الثلاثة المذكورين في الاقتداء يعني أن كل فصل جوز الاقتداء فيه جوز بناء آخر الصلاة على أولها وإلا فلا. ثم عند محمد لا يقتدي القائم بالقاعد، فكذا لا يبني في حق نفسه وعند القائم يقتدي بالقاعد، فكذا يبني في حق نفسه.
فإن قلت: يرد على هذا ما إذا افتتح الصحيح التطوع قاعدًا وأدى بعض صلاته قاعدًا ثم له أن يقوم فقام وصلى الباقي قائمًا أجزأه بالإجماع، وهذا الأصل المذكور يقتضي أن لا يجوز على قول محمد.
قلت: تحريمة المريض لم ينعقد لقيام لقدرته عنده، فجاز بقاؤه عليه. م: (وقد تقدم بيانه) ش: أي بيان اختلافهم في الاقتداء في باب الإمامة.
م: (وإن صلى بعض صلاته بإيماء ثم قدر على الركوع والسجود استأنف) ش: أي صلاته م: (عندهم جميعًا) ش: أي عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وعند زفر والشافعي ومالك وأحمد يبني محافظة على عمله م: (لأنه لا يجوز اقتداء الراكع بالمومئ، فكذا البناء) ش: لأنه يصير بناء القوي على الضعيف.
م: (ومن افتتح التطوع قائمًا ثم أعيا) ش: أي تعب، يقال: أعيا الرجل في المشي، إذا تعب وأعياه الله لازم ومتعد. وقال الجوهري: أعيي فهو معي، فلا يقال عيان، وأعي علة الأمر ونقيا ونقايا بمعنى م: (لا بأس أن يتوكأ على عصا أو حائط أو يقعد) ش: أي أو أن يقعد م: (لأن هذا عذر) ش: ففي الاتكاء بعض القيام، وفي القعود بدله م: (وإن كان الاتكاء بغير عذر يكره لأنه إساءة في الأدب) ش: قال البزدوي: الاتكاء بغير عذر يكره، بخلاف القعود، فإن مشروع ابتداء إذ صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم كما ورد في الحديث به بخلاف الاتكاء م: (وقيل: لا يكره عند أبي حنيفة، لأنه لو قعد عنده) ش: أي لأن المصلي لو قعد عند أبي حنيفة م: (يجوز من غير عذر) ش: مع أنه ينافي القيام م: (فكان لا يكره الاتكاء) ش: لأنه ليس أدنى حال من القعود، لأنه لا ينافي في القيام،(2/645)
وعندهما يكره؛ لأنه لا يجوز القعود عندهما، فيكره الاتكاء، وإن قعد بغير عذر يكره بالاتفاق، وتجوز الصلاة عنده، ولا تجوز عندهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فلما كان القيام بغير عذر جائزًا مكروهًا عنده كان الاتكاء غير مكروه م: (وعندهما يكره) ش: أي الاتكاء.
م: (لأنه لا يجوز القعود عندهما) ش: يعني بغير عذر م: (فيكره الاتكاء) ش: بغير عذر، لأن القعود بغير عذر يقطع الصلاة عندهما.
والإيماء برأسه دون القعود باعتبار أنه لا يتأتى في القيام فكان مكروهًا لكونه إساءة في الأدب، وبعضهم قالوا على قول أبي حنيفة يجب أن يكره الاتكاء بخلاف القعود، فإنه إذا قعد بعدما افتتح قائمًا لا يكره عنده، ووجه ذلك أنه في الابتداء مخير بين أن يفتتح التطوع قائمًا وبين أن يفتتحه قاعدًا، فيبقى هذا الخيار في الانتهاء من غير كراهة، وأما في حق الاتكاء فهو غير مخير في الابتداء بين أن يصلي متكئًا وبين أن يصلي غير متكئ، بل يكره له ذلك لما فيه من الأدب وإظهار التخير، وكذلك في الانتهاء.
م: (وإن قعد بغير عذر يكره بالاتفاق) ش: أي وإن قعد في صلاة التطوع بغير عذر بعدما شرع قائمًا يكره بالاتفاق بين الثلاثة، لكن هل تجوز الصلاة أم لا؟، فعند أبي حنيفة يجوز، وعندهما لا يجوز، أشار إليه بقوله م: (وتجوز الصلاة عنده، ولا تجوز عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد، وقال الأكمل: وفي كلامه تسامح، لأن ما لا يجوز لا يوصف بالكل إذًا، وقد قال: يكره بالاتفاق.
وقال صاحب " الدراية ": بعد أن قال ثم عندهما لا يجوز، فكيف يوصف بالكراهة عند العلامة حميد الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -، يجوز أن يراد به أنه صلى ركعة قائما، ثم قعد في الثانية ليقرأ لإعياء به ثم قام فأتم الثانية، فإن هذه الصلاة جائزة مع الكراهة.
وقال الأكمل: وفيه نظر لأن قعوده إذا كان الإعياء به فكذلك قعود بعذر، والكلام ليس فيه، بل يجب أن يكون مكروها.
قلت: هما لا يقولان بالكراهة في فصل عدم الجواز، وإنما يقولان بعدم الجواز فيما إذا قعد ثم قام وأتم الصلاة قاعدًا أو بالجواز مع الكراهة فيما إذا قعد ثم قام وأتم الصلاة قائمًا، ومجرد القعود لا يعدم وصف الجواز، وهو نظير ما إذا قرأ القرآن بالفارسية من عذر لا يجوز عندهما فيما إذا لم يعد القراءة بالعربية أما إذا أعاده فيجوز مع الكراهة.
في " الجنازية" و" الكافي " قوله يكره بالاتفاق يخالف ما ذكر قبل هذا بقوله: ولو قعد عنده يجوز ويجاب عن هذا ذكر في " مبسوط فخر الإسلام " لو قعد في النفل لا يكره عنده في(2/646)
وقد مر في باب النوافل، ومن صلى في السفينة قاعدا من غير علة أجزأه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والقيام أفضل. وقالا: لا يجزئه إلا من عذر، لأن القيام مقدور عليه فلا يترك إلا لعلة، وله أن الغالب فيها دوران الرأس، وهو كالمتحقق،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصحيح، لأن الابتداء على هذا الوجه مشروع بلا كراهة، فالبناء أولى، لأن حكم البناء أسهل من حكم الابتداء، إلا ترى أن الحديث يمنع ابتداء الصلاة، ولا يمنع بقاءها.
فقوله في الصحيح يدل على أن ثمة غير صحيح كذا في باب النوافل يكون على الصحيح. وقول هاهنا بالاتفاق وقع سهوًا من الكاتب م: (وقد مر في باب النوافل) ش: أي قال الأترازي: فيه نظر، لأنه لم يذكر في باب النوافل.
قلت: ذكره في فصل القراءة من باب النوافل فصدق عليه أنه مذكور في باب النوافل لعجب منه أن ينظر في مثل هذا.
م: (ومن صلى في السفينة قاعدًا من غير علة) ش: أي من دوران رأسه ونحوه م: (أجزأه عند أي حنيفة) ش: قال في " المحيط ": قيل: هذا إذا كانت السفينة جارية، وإن كانت راسية لا يجزئه اتفاقًا، ثم إنه قيد بالسفينة لأنه لو صلى على العجلة على الدابة لا يجوز، أما لو كانت على الأرض يجوز، وقيد بقوله: قاعدًا لأنه صلى مسافرًا فيها بالإيماء لا يجوز سواء كانت مكتوبة أو نافلة، لأن يمكنه أن يسجد فيها ولا يقدر، والإيماء شرع عند العجز.
وقيد بقوله: من غير علة لأن عند العلة يجوز بالاتفاق، وينبغي للمصلي فيها أن يتوجه إلى القبلة كيفما دارت السفينة، لأن التوجه إلى القبلة فرض بالنص عند القدرة، وهذا قادر بخلاف راكب الدابة لأنه عاجز عن استقبال القبلة حتى إذا ركب الدابة إن كان به نحو القبلة فأعرض عنها لم تجز صلاته، كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي م: (والقيام أفضل) ش: يعني الصلاة قائمًا أفضل، لأن أكمل.
م: (وقالا: لا يجزئه إلا من عذر) ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد م: (لان القيام مقدور عليه فلا يترك إلا لعلة) ش: كما لو كان على الأرض بحيث لا يجوز له ترك القيام مع القدرة عليه.
م: (وله) ش: أي لأبي حنيفة م: (أن الغالب فيها) ش: أي في السفينة م: (دوران الرأس وهو كالمتحقق) ش: أي الغالب كالمتحقق، كما في السفر لما كان الغالب فيه المشقة جعلت المشقة كالمتحققة، بخلاف ما لو كان على الأرض، لأن الغالب أن لا يدور الرأس ولا يجلو الأعين.
فإن قلت: روي عن ابن عباس قال: «لما بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعفرًا إلى الحبشة قال يا رسول الله كيف أصلي في السفينة؟ قال: "صلي قائما، إلا أن تخاف الغرق» .(2/647)
إلا أن القيام أفضل؛ لأنه أبعد عن شبهة الخلاف، والخروج أفضل ما أمكنه؛ لأنه أسكن لقلبه. والخلاف في غير المربوطة، والمربوطة كالشط هو الصحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: في إسناده حسين بن علوان، قال أبو حاتم والدارقطني: متروك، وقال ابن معين: كذاب، وقال ابن عدي: يضع الحديث، وذكر ابن حزم في " المحلى " من حديث ابن سيرين قال صلى بنا في السفينة ونحن قعود، ولو شئنا لخرجنا.
وقال مجاهد: صلينا مع جنادة بن أبي أمية قعودًا في السفينة، ولو شئنا لقمنا، ذكره في " المحيط " والحددة التي ذكره في " جامع الغرائب "، والحد بالضم وتشديد الدال شاطئ النهر.
م: (إلا أن القيام أفضل، لأنه أبعد عن شبهة الخلاف والخروج) ش: أي من السفينة إلى البر.
م: (أفضل إن أمكنه، لأنه أسكن لقلبه) ش: لأن القلب تعلق في الماء، وقيد بقوله إن أمكنه أي الخروج منها، لأنه إذا لم يمكنه الخروج إلى الشط يصلي فيها.
م: (والخلاف) ش: أي الخلاف المذكور بين أبي حنيفة وصاحبيه م: (في غير المربوطة) ش: أي في غير السفينة المشدودة بشيء في الشط م: (والمربوطة) ش: أي السفينة المربوطة م: (كالشط) ش: حكمها حكم الشط، فلا تجوز الصلاة فيها قاعدًا مع القدرة على القيام م: (هو الصحيح) ش: احترز به عن قول عامة المشايخ أن على قول أبي حنيفة تجوز الصلاة فيها قاعدًا مع القدرة على القيام قاعدًا في السفينة جارية كانت أو راسية لإطلاق ما ذكره في " المبسوط " و" الجامع الصغير " والصحيح أن الخلاف في الجارية لا في الراسية، كما قال بعض مشايخنا.
وفي " الدراية " هو الصحيح احترازًا عن قول بعض المشايخ، حيث قالوا: تجوز الصلاة فيها قاعدًا. وإن كانت مربوطة تفتح ساعة بساعة أو تفتح بهيجان الريح، فكان في الخروج خطر عظيم.
ولكن الصحيح على قولهم أنه لا يجوز لأن دوران الرأس غالبًا حالة الجري مع أنه يمكن الخروج، لأن المربوطة على الشط كالمستقرة على الأرض لإمكان الخروج فلا تجوز كالصلاة على الدابة.
وقال التمرتاشي: هذا إذا كانت مربوطة على الشط، فإن كانت موثقة باللجة في لجة البحر وهي تضطرب.
قيل: يحتمل وجهين والأصح أنه إن كان الريح يحركها تحريكًا شديدًا فيهي كالسائرة، وإن حركها قليلا فهي كالواقفة.
وفي " المجتبى ": والخلاف في السائرة وقيل في الساكنة أيضا. أما في المربوطة لا يجوز إلا قائما بالإجماع، وعند الدوران يجوز قاعدًا بالإجماع.(2/648)
ومن أغمي عليه خمس صلوات، أو دونها قضى، وإن أكثر من ذلك لم يقض،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المحيط " لا تجوز الفرائض والنوافل فيها بالإيماء إلا بعذر وإن قدر على الخروج، فالمستحب أن يخرج وإلا فلا، وتجوز الجماعة فيها، وكذا في السفينتين المقرونتين والدابة والدابتين المربوطتين، وكذا لو اقتدى في الحددة بإمام في السفينة أو على العكس، وليس بينهما طريق أو طائفة من النهر جاز وإلا فلا.
ومن اقتدى بالإظلال بالإمام في أسفل السفينة صح، إلا أن يكون أمام الإمام، لأنها بمنزلة البيت ولو انقلبت السفينة صح إلا أن يكون أمام الإمام لأنها بمنزلة البيت، ولو انقلبت السفينة وهو يصلي بالحددة ويخاف بغرقها أو سرقة مال أو فوت شيء من متاعه أو انفلتت دابته أو خاف الراعي على غنمه من سبع أو عدو أو رأى أعمى على شفير بئر فله القطع، وأكثر المشايخ قدروا ذلك المال بدرهم فصاعدًا، لكن ذكر في " الكفاية " الحبس بالدانق يجوز، فقطع الصلاة أولى.
وفي " شرح الجامع الصغير ": يكره هذا في مال غيره، أما في مال نفسه لا يقطع، والأصح جواز القطع فيها، ولو شد السفينة أو الدابة أو أخذ المتاع بعمل يسير لم تفسد صلاته.
وفي " المبسوط ": رجلان في محل اقتدى أحدهما بالآخر في التطوع يجوز لعدم ما يمنع الاقتداء.
وعن محمد أنه استحسن بجواز الاقتداء إذا كانت دوابهم بالقرب من دابة الإمام على وجه لا تكون الفرجة بينهم وبين الإمام إلا بقدر الصف، بالقياس على الصلاة على الأرض.
[حكم من أغمي عليه خمس صلوات أو دونها]
م: (ومن أغمي عليه خمس صلوات أو دونها قضى) ش: تفسير الإغماء قد مر في فصل نواقض الوضوء في كتاب الطهارة.
قوله: -أو دونها- أي أغمي عليه دون خمس صلوات.
قوله: قضى جواب المسألتين م: (وإن كان) ش: أي وإن كان أغمي عليه أو كان الإغماء دل عليه قوله أغمي م: (أكثر من ذلك) ش: أي من خمس صلوات، فتذكر اسم الإشارة باعتبار المذكور م: (لم يقض) ش: جواب إن، أي لم يقض تلك الصلوات التي هي أكثر من خمس صلوات.
وقال بشر: عليه القضاء وإن طال، وقال الشافعي إن استوعبت الوقت فلا قضاء عليه، وعند أحمد الإغماء لا يمنع وجوب القضاء بحال، لأنه كالنوم، وفي " الحلية " وعند الشافعي إذا كان بمعصية لا يمنع وجوب القضاء، وإن كان بغير معصية واستوعب وقت الصلاة يمنع وجوب القضاء، وبه قال مالك.(2/649)
وهذا استحسان، والقياس أن لا قضاء عليه إذا استوعب الإغماء وقت صلاة كامل لتحقق العجز، فأشبه الجنون، وجه الاستحسان أن المدة إذا طالت كثرت الفوائت، فيتحرج في الأداء، وإذا قصرت قلت فلا حرج، والكثير أن يزيد على يوم وليلة؛ لأنه يدخل في حد التكرار،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " البدائع ": إذا زال عقله بالمرض حتى فاتته ست صلوات لا يجب عليه القضاء، وإن كان أقل من ذلك يجب عليه القضاء. وفي " النافع " الأعذار أنواع منه ممتد جدًّا كالصبا يمنع وجوب العبادات، وقاصر جدًّا كالنوم لا يسقط شيئًا من العبادات، وما يكون بين الأمرين كالجنون والإغماء إن امتد ألحق بالممتد جدًّا حتى سقط عنه القضاء، وإن قصر ألحق بالنوم حتى يجب عليه القضاء وامتداده أن يزيد على يوم وليلة لدخوله في حد التكرار على ما يجيء الآن إن شاء الله تعالى.
م: (وهذا) ش: أي الذي ذكرناه من وجوب القضاء بالإغماء خمس صلوات أو دونها م: (استحسان) ش: ولحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أغمي عليه في أربع صلوات فقضاهن. وعمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنما أغمي عليه يومًا وليلة فقضاهن.
وابن عمر أغمي عليه يومان وقيل: ثلاثة أيام فلم يقض، والقياس أن لا قضاء عليه إذا استوعب الإغماء وقت صلاة كاملًا لتحقق العجز فأشبه الجنون في تحقيق العجز، وفي بعض الروايات: الجنون إذا استوعب وقت صلاة كاملًا يسقط القضاء، بخلاف الإغماء لأن بالجنون يزول العقل الذي هو أصلة الأهلية وبالإغماء لا، ولهذا لا يجوز وصف الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - بالجنون، وواصفهم به كافر، وجاز وصفهم بالإغماء فكان المصنف يسوي بينهما في وجه القياس معتمدًا على هذه الرواية، ثم فرق بينهما في وجه الاستحسان، والأصح أنه لا فرق بينهما في الصلاة في اشتراط الامتداد للسقوط، لأن بالجنون لا تزول الأهلية كما لا تزول بالإغماء، والسقوط مبني على الخروج وذلك لا يحصل بدون الامتداد.
وفي " المحيط " لو زال عقله بالخمر أكثر من يوم وليلة يلزمه القضاء، وكذا بالبنج عند أبي حنيفة، لأن الأثر في [....] .
وعند محمد يسقط كالمرض وإن أغمي عليه بفزع من سبع أو آدمي لا يلزمه القضاء اتفاقا.
م: (وجه الاستحسان أن المدة إذا طالت كثرت الفوائت فيتحرج في الأداء وإذا قصرت) ش: أي المدة م: (قلت) ش: أي الفوائت م: (فلا حرج) ش: حينئذ، لأن في الأولى شق عليه القضاء.
وفي الثاني: لا يشق عليه، ألا ترى أن الحائض تقضي الصوم، لأنه لا مشقة فيه ولا تقضي الصلاة لأنه تلحقها مشقة م: (والكثير أن يزيد) ش: أي الإغماء م: (على يوم وليلة، لأنه يدخل في حد التكرار) ش: أراد أن الفرق بين الطويل والقصير بالزيادة على يوم وليلة ليدخل بها الصلاة في حد التكرار، وهو ظاهر، لأن الصلوات إذا صارت ستة تكون فيها مكررة، فدخل(2/650)
والجنون كالإغماء، كذا ذكره أبو سليمان - رَحِمَهُ اللَّهُ -، بخلاف النوم؛ لأن امتداده نادر فيلحق بالقاصر، ثم الزيادة تعتبر من حيث الأوقات عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن التكرار يتحقق به، وعندهما من حيث الساعات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في حد التكرار
م: (والجنون كالإغماء) ش: جواب عن قياس الإغماء على الجنون على زعم أن الجنون إذا استغرق وقتًا كاملًا أسقط القضاء، ووجهه أن الجنون كالإغماء إن كان أكثر من يوم وليلة سقط القضاء وإلا فلا م: (كذا ذكره أبو سليمان) ش: اسمه موسى بن سليمان الجوزجاني صاحب الإمام محمد بن الحسن ومن تابعه في " السير الصغير " وكتاب الصلاة وكتاب الرهن، وكان أبو سليمان نص عليه في " النوادر ".
م: (بخلاف النوم) ش: يتعلق بقوله وإن كان أكثر من ذلك يقض يعني أن النوم وإن زاد على يوم وليلة لا يسقط القضاء م: (لان امتداده) ش: أي لأن امتداد النوم م: (نادر فيلحق بالقاصر) ش: أي لأن يلحق الممتد منه بالقاصر.
م: (ثم الزيادة) ش: أي على يوم وليلة م: (تعتبر من حيث الأوقات) ش: أي تعتبر من حيث أوقات الصلوات م: (عند محمد، لأن التكرار يتحقق به) ش: أي بالاعتبار من حيث الأوقات حتى لا يسقط عند القضاء، ما لم تصر الفوائت ستًّا، وإن زادت الساعات على يوم وليلة كما إذا أغمي عليه قبل الزوال، ثم أفاق في اليوم الثاني وقت الظهر يجب عليه القضاء عند محمد م: (وعندهما من حيث الساعات) ش: حتى لا يجب عليه القضاء في الصورة المذكورة.
ثم اعلم أن الخلاف في " مبسوط خواهر زاده " وفي " أصول فخر الإسلام البزدوي " في الأمور المعترضة على الأهلية كما ذكر صاحب " الهداية " بين أبي حنيفة وأبي يوسف، وبين محمد والفقيه أبو الليث - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - جعل اعتبار الساعات رواية عن أبي حنيفة.
وذكر شمس الأئمة السرخسي أيضًا أن اعتبار الساعات رواية عن أبي حنيفة، والصحيح أن العبرة بعدد الصلوات، كذا قال في " شرح الكافي " و" المنظومة " و" المختلف " و" شرح الطحاوي " ذكر الخلاف بين أبي حنيفة ومحمد، ولم يذكر قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا الذي ذكرنا إذا دام الإغماء فلم يفق إلى تمام يوم وليلة.
فإن كان يفيق ساعة ثم يعاوده الإغماء لم يذكر محمد في الكتاب وأنه على وجهين، إن كان لإفاقته وقت معلوم، نحو أن يخف مرضه عند الصبح فهو إفاقة معتبرة تبطل حكم ما قبلها من الإغماء إن كان أقل من يوم وليلة.
وأما إذا لم يكن لإفاقته وقت معلوم، لكنه يفيق بغتة يتكلم بكلام الأصحاء ثم يغمى عليه(2/651)
هو المأثور عن علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فهذه الإفاقة غير معتبرة، ألا ترى أن المجنون قد يتكلم في جنونه بكلام الأصحاء فلا يعد ذلك منه إفاقة كذا في " المحيط ".
م: (هو المأثور عن علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: قال الأكمل: أي الاعتبار من حيث الساعات هو المأثور.
قلت: الذي قاله لا يجدي ولا يشفي حيث لم يبين كيفية المأثور عن علي وابن عمر. وقال الأترازي: ولهما، أي لأبي حنيفة وأبي يوسف ما روي عن ابن عمر أنه أغمي عليه أكثر من يوم وليلة، فلم يقض الصلوات.
قلت: هو أيضًا لم يبين من ذكر هذا الأثر من أصحاب السنن، والمصنف أسند الأثر إلى اثنين علي وعبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والمأثور عن علي غريب، وذكره أصحابنا في كتبهم أن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أغمي عليه في أربع صلوات فقضاهن، والمأثور عن عبد الله بن عمر ذكره ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن نافع قال: أغمي على عبد الله بن عمر يوما وليلة، فأفاق فلم يقض ما فاته واستقبل.
وروى محمد بن الحسن في كتابه " الآثار " أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن ابن عمر أنه قال في الذي يغمى عليه يومًا وليلة قال: يقضي.
فإن قلت: ما تقول في حديث أخرجه الدارقطني عن الحكم بن عبد الله بن سعد الأيلي أن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق حدثه «أن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يغمى عليه فيترك الصلاة، فقال ليس لشيء من ذلك قضاء، إلا أن يغمى عليه في وقت صلاة، فيفيق فيه يصليه.» واحتج به الشافعي على سقوط الصلاة بالإغماء.
قلت: هذا حديث لا يساوي شيئًا، فإن أحمد قال في الحكم بن سعد الأيلي: أحاديثه موضوعة. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات. وقال ابن معين: ليس بثقة ولا مأمون، وكذبه الجوزجاني وأبو حاتم، وتركه النسائي، وبقية السند كله باطل.
1 -
فروع: إذا كان يغمى عليه ويفيق ساعة فساعة تلزمه الصلوات، وإن دام أيامًا. مريض راكب لا يقدر على من ينزله تجزئه المكتوبة راكبًا، وإن قدر لم يجز. عبد مريض لا يستطيع أن يتوضأ يجب على مولاه أن يوضئه، بخلاف المرأة المريضة حيث لا يجب على الزوج أن يوضئها.
مريض في رمضان صلى قاعدًا، وإن أفطر صلى قائمًا [.....] مريض تحته ثياب نجسة، إن(2/652)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان بحال لا يبسط تحته شيء إلا وتنجس من ساعته يصلي على حاله، وكذا إن لم يتنجس ولكن يزاد مرضه ويلحقه مشقة بالتحويل. مريض عجز عن الإيماء فحرك رأسه عن أبي حنيفة تجوز صلاته، وعن الفضل لا تجوز لأنه لم يوجد منه الفعل.
مريض لا يستطيع التوجه إلى القبلة ولم يجد أحدًا يحوله إليها فصلى إلى غير القبلة لا يعتد في ظاهر الرواية. وعن محمد أنه يعتد.
مريض صلى قاعدًا فلما رفع رأسه من السجدة الأخيرة من الركعة الرابعة ظن أنها ثالثة فقرأ وركع وسجد بالإيماء فسدت صلاته، وهو اختيار الولوالجي.
مريض صلى جالسا، فلما قعد في الثالثة قرأ وركع قبل التشهد يمضي، لأن هذا بمنزلة القيام لو صلى قائمًا لسلس بوله أو لا يقدر على القراءة، وإن [.....] صلى قاعدًا بركوع وسجود ولو كان يسجد فينفلت بوله يصلي بالإيماء، ولو كان قام أو قعد سال بوله، وإن استلقى لم يسل يصلي قائمًا أو قاعدًا ولا يصلي مستلقيًا.
وعن ابن رستم عن محمد يصلي مستلقيًا [......] بحلقه جرح لا يقدر على السجود ويقدر على القيام والركوع صلى قاعدًا بالإيماء. شرب الخمر فذهب عقله أكثر من يوم وليلة لا يسقط عنه القضاء يقضي المريض فوائت الصحة كصلاة المريض، وقيل يؤخرها إن رجي بصحة، والنادر بالصلاة يؤخر إن رجي حتمًا له أن يصلي قاعدًا في الخباء ولكن إذا لم يستطع القيام وكان خارجه طين أو مطر أو خوف سبع صلى ركعة بقيام وركوع وسجود ثم مرض وصار إلى حالة الإيماء فسدت صلاته عند أبي حنفية ويستقبلها، وكذا لو صلى ركعة بقيام وقراءة ثم نسيها فإنه يستقبلها عنده، وعندهما يتمها.
صلى أمي ركعة ثم تعلم سورة فإنه يستقبلها بالإجماع. به وجع أسنان إذا أمسك في فمه ماء باردًا أو دواء بين أسنانه يسكن وقد ضاق الوقت فيقتدي بغيره؛ فإن لم يجد يصلي بغير قراءة، وكذا في تكبيرة الافتتاح، ولو كبر يسيل جرحه يشرع فيها بغير تكبيرة، وكذا من يلحن في قراءته لحنًا مفسدًا يصلي بغير قراءة كالأمي، بكر لو ثنت فرجها تذهب عذرتها، وإن لم تثن يسيل منه الدم، قال ركن الدين الصيادي: تصلي مع الدم لأنه ذهاب عذرتها ذهاب حرمتها.
عريان معه ثوب ديباج وثوب كرباس فيه نجاسة أكثر من قدر الدراهم يصلي في الديباج. مريض لو صلى قائمًا يعجز عن سنة القراءة، وإن صلى قاعدًا يقدر عليها فالأصح أنه يقعد، وقال ابن مقاتل: لو علم أنه يقدر على قوله: الحمد لله رب العالمين، وإن قعد يقدر على الفاتحة والسورة ففي قياس قول أبي حنيفة تحريمه قائمًا، وقال محمد: لا يجزئه إلا جالسًا بناء على قدر فرض القراءة.(2/653)
باب سجود التلاوة قال: سجود التلاوة في القرآن أربعة عشر سجدة، في آخر الأعراف وفي الرعد، والنحل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب سجود التلاوة] [عدد سجدات القرآن]
م: (باب سجود التلاوة) ش: أي هذا باب في بيان أحكام سجود التلاوة، والإضافة فيه من قبيل إضافة المسبب إلى السبب كخيار العيب وخيار الرؤية وصلاة الظهر وحج البيت، وأقوى وجوه الاختصاص اختصاص المسبب بالسبب.
فإن قلت: التلاوة سبب في حق التالي والسماع سبب في حق السامع، فكان ينبغي أن يقول: باب في سجود التلاوة والسماع.
قلت: لا خلاف في كون التلاوة سببًا.
واختلفوا: في سببية السماع، فقال بعضهم: ليس السماع سببًا، وكذلك اقتصرت إضافة السجدة إلى التلاوة دون السماع، أو يقول: إن التلاوة أصل في الباب، لأنها إذا لم توجد لم يوجد السماع، فكان ذكرها مشتملًا على السماع من وجه، فاكتفي به.
فإن قلت: ما وجه المناسبة بين البابين.
قلت: من حيث وجود الرخصة في كل منهما، فالرخصة في الأول وفي الأركان وفي هذين التداخل وذلك للخروج منهما.
وقول الشراح كان من حق هذا الباب أن يقترن بسجود السهو، لأن كلًّا منهما سجدة، لكن لما كان صلاة المريض بعارض سماوي كالسهو ألحقها بها، فتأخر سجود التلاوة ضرورة غير سديدة، لأن كون كل منهما سجدة لا يكفي للمناسبة ولأنه لا ضرورة في تأخيره على ما لا يخفى.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (سجود التلاوة في القرآن أربعة عشر) ش: أي موضعًا.
وفي بعض النسخ كذلك م: (في آخر الأعراف) ش: عند قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] (الأعراف: الآية 206) والرعد عند قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15] (الرعد: الآية 15) .
م: (وفي الرعد) ش: م: (وفي النحل) ش: عند قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49] {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] (النحل: الآيتان 49، 50) .(2/654)
وبني إسرائيل، ومريم، والأولى في الحج، والفرقان، والنمل، والم تنزيل، وص، وحم السجدة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وبني إسرائيل) ش: عند قَوْله تَعَالَى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] (الإسراء: الآية 109) .
م: (ومريم) ش: عند قَوْله تَعَالَى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] (مريم: الآية 58) .
م: (والأولى في الحج) ش: أي السجدة الأولى في الحج عند قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] (الحج: الآية 18) ، وسنذكر خلاف الشافعي فيه إن شاء الله.
م: (والفرقان) ش: عند قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60] (الفرقان: الآية 60) .
م: (والنمل) ش: عند قَوْله تَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25] (النمل: الآية 25) ، على قراءة العامة، وقال الشافعي ومالك عند قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] (النمل: الآية 26) ، ونقل عن الزجاج والفراء أن السجدة على قراءة الكسائي ألا يسجدوا المخففة.
وأما على قراءة الأكثرين ألا المشددة، فلا ينبغي أن تكون سجدة لأنها تتمة خبر الهدهد عن حال بلقيس وقومها بخلاف المخففة، فإنها أمر مستأنف من الله بالسجود والتقدير ألا يا قوم اسجدوا.
وهذا ليس بصحيح، إذ المشدد هي قراءة السواد الأعظم وفيها ذم على تركه، كسجدة الفرقان والانشقاق، ويجوز أن يكون كلتا القراءتين حكاية عن خبر الهدهد ولا يمنع ذلك من أن يكون سجدة.
م: (وألم تنزيل) ش: عند قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] (السجدة: الآية 15) .
م: (وص) ش: عند قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] (ص: الآية 24) .
وبه قال الشافعي ومالك، وروي عنه قوله: {وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] .
م: (وحم السجدة) ش: عند قَوْله تَعَالَى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] (فصلت: الآية 38) ، وبه قال الشافعي في الجديد وأحمد.(2/655)
والنجم، وإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال في القديم عند قَوْله تَعَالَى {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وبه قال مالك.
م: (والنجم) ش: عند قَوْله تَعَالَى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] (النجم: الآية 62) .
وعند مالك ليس فيه سجدة م: (وإذا السماء انشقت) ش: عند قَوْله تَعَالَى: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] (الانشقاق: الآيتان 20، 21) .
وقال ابن حبيب المالكي: في آخر السورة، وعند مالك ليس فيه سجدة.
م: (واقر باسم ربك) س: عند قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] (العلق: الآية 19) .
وفي " مختصر البحر " لو قرأ واسجد وسكت ولن يقل: واقترب تلزمه السجدة، واعلم أن العلماء اختلفوا في عدد سجود القرآن على اثني عشر قولًا:
الأول: مذهبنا وقد ذكرناه.
الثاني: إحدى عشرة، بإسقاط الثلاثة من المفصل، وبه قال الحسن وابن المسيب وابن جبير وعكرمة، ومجاهد وعطاء وطاوس ومالك في ظاهر الرواية والشافعي في القديم.
الثالث: خمس عشرة، وبه قال المدنيون عن مالك تكملتها بآية الحج وهو مذهب عمر وابنه عبد الله والليث وإسحاق، ورواية عن أحمد وابن المنذر واختاره المروزي وابن شريح.
الرابع: أربع عشرة، بإسقاط ص وهو أصح قولي الشافعي وأحمد.
والخامس: أربع عشرة بإسقاط سجدة النجم، وهو قول أبي ثور.
السادس: اثنتا عشرة بإسقاط ثانية الحج وص والانشقاق، وهو قول مسروق.
السابع: ثلاث عشرة بإسقاط ثانية الحج والانشقاق، وهو قول عطاء الخراساني.
الثامن: إن عزائم السجود خمس؛ الأعراف وبنو إسرائيل والنجم والانشقاق واقرأ باسم ربك، وهو قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
التاسع: عزائمه أربع، ألم تنزيل، والنجم، واقرأ باسم ربك، وهو مروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والعاشرة: عزائم السجود ثلاث، قاله سفيان بن جبير، وهي ألم تنزيل، والنجم، واقرأ باسم ربك.
الحادي عشر: عزائم السجود ألم تنزيل، والأعراف، وحم تنزيل، وبنو إسرائيل، وهو مذهب عبيد بن عمير.(2/656)
كذا كتب في مصحف عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو المعتمد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثاني عشر: عشر سجدات، قال به جماعة.
م: (كذا كتب في مصحف عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو المعتمد عليه) ش: أي أراد أن المكتوب في مصحف عثمان أربعة عشر سجدة، كما ذهبنا إليه، والعمدة على ما كتب فيه. ثم اعلم أن الآيات المعدودة أربعة عشر كما ذكرنا، وكذلك عند الشافعي أربعة عشر أيضا، لكن في الحج سجدتان وليس في ص سجدة.
واحتج الشافعي كون السجدتين في الحج بما رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن لهيعة ثنا «مشرح بن هاعان سمعت عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: قلت: يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟، قال: " نعم، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما» ورواه أحمد في " مسنده " والحاكم قي " مستدركه ". والجواب عنه: أن الترمذي قال: ليس إسناده بالقوي وقال الحاكم: لم يثبت مسندًا إلا من هذا الوجه، وعبد الله بن لهيعة أحد الأئمة، وإنما نقم عليه اختلاطه في آخر عمره. وقال المنذري في " مختصر السنن ": عبد الله بن لهيعة ومشرح بن هاعان لا يحتج بحديثهما، وذكر أبو الفرج بن لهيعة في الضعفاء والمتروكين.
وقال يحيى بن سعيد: قال لي بشر بن السري: لو رأيت ابن لهيعة لم تحمل عنه حرفًا واحدًا، وكان يحيى بن سعيد: لا يراه شيئًا.
وقال يحيى بن معين: هو ضعيف قبل احتراق كتبه وبعده.
وقال عمرو بن علي الفلاس: هو ضعيف الحديث.
وقال أبو زرعة: ليس ممن يحتج به
وفي " المبسوط ": وتأويله مع ضعفه فصلت سجدتين إحداهما سجدة التلاوة والأخرى سجدة الصلاة، ويدل عليه ذم تاركهما، وعند المخالف لنا هي مستحبة والذم لا يستحق بترك المستحب فلا يستقيم ذلك على أصله. وفي " الذخيرة " هو محمول على النسخ لإجماع قراء المدينة وفقهائها على ترك ذلك مع تكرار القراءة ليلًا ونهارًا.
واحتج الشافعي أيضًا بحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه عن الحارث بن سعيد العتقي عن عبد الله بن منين «عن عمرو بن العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقرأه خمس عشر سجدة في القرآن، منها(2/657)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثلاث عشرة في المفصل وفي سورة الحج سجدتان» .
والجواب: بأن عبد الله بن منين فيه جهالة. وقال عبد الحق في "أحكامه" عبد الله بن منين لا يحتج به، ولئن سلمنا فالمراد بإحدى السجدتين سجدة التلاوة وبالأخرى سجدة الصلاة.
فإن قلت: أخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" عند عبد الله بن ثعلبة قال: صلى بنا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصبح فيما أعلم فقرأ فيها بالحج فسجد فيها سجدتين، ورواه الطحاوي أيضًا بإسناد صحيح والبيهقي وأخرج الطحاوي والبيهقي أيضًا عن صفوان بن محرز أن أبا موسى الأشعري سجد فيها سجدتين، وأخرجه أيضا عن جبير بن عفير أنه رأى أبا الدرداء يسجد في الحج بسجدتين، وأخرج الحاكم عن عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وعبد الله بن عباس أنهم سجدوا في الحج سجدتين. قلت: هذه الآثار لا يحتج بها الخصم على قاعدته. وأما جوابها عندنا فهو أنها لا تدل على أن السجدتين كلتيهما سجدة التلاوة، والدليل على ذلك ما رواه الطحاوي عن ابن عباس أنه قال في سجود الحج: الأولى عزيمة، والأخرى تعليم وإسناده صحيح.
فإن قلت: كيف تقول: صحيح وفيه عبد الأعلى الثعلبي؟ وعن أحمد أنه ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، قلت: وثقه يحيى بن معين والطحاوي، وروى له الأربعة، قال الطحاوي: وبقول ابن عباس نأخذ.
واحتج الشافعي أيضًا في قوله: سجدة ص ليست بسجدة تلاوة ولكنها سجدة شكر.
واحتج أيضًا بما رواه النسائي «عن ابن عباس أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد في ص وقال: "سجدها داود - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توبة ونحن نسجدها شكرًا» ، وبحديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال «قرأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على المنبر ص فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود" فنزل فسجد وسجدوا.» رواه أبو داود والحاكم في " المستدرك " وقال: صحيح.(2/658)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والجواب: أن هذا حجة لنا، لأنا نقول: سجدها داود - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توبة ونحن نسجدها شكرًا لما أنعم الله على داود بالغفران والوعد بالزلفى وحسن المآب، ولهذا لا نسجد عندنا.
قوله: وأناب بل عقيب قوله مآب، وهذا نعمة عظيمة في حقنا، فكانت سجدة تلاوة، لأن سجدة التلاوة ما كان سبب وجوبها إلا التلاوة، وسبب وجوب هذه السجدة تلاوة هذه الآية التي فيها الإخبار عن هذه النعم على داود - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإطماعنا في نيل مثله، وكذا سجدة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجمعة الأولى وترك الخطبة لأجلها تدل على أنها سجدة تلاوة، وأما تركه في الجمعة الثانية حين القراءة فلا يدل على أنها ليست بسجدة التلاوة، بل كان يريد التأخير وهي لا تجب على الفور عندنا، على أنه سجدها أيضًا وسجد الناس معه لما تشزنونه.
وقوله تشزن الناس معناه هبوا للسجود وتهيؤوا له، ومادته شين وزاي معجمتان ونون.
واحتج: من لم ير السجود في المفصل وهو من سورة محمد إلى آخر القرآن منهم مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - بحديث رواه أبو داود «عن ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة» ولما رواه أبو داود أيضًا من حديث «زيد بن ثابت قال: قرأت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النجم فلم يسجد فيها» وبما رواه ابن ماجه في "سننه " عن «أبي الدرداء قال: سجدت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحدى عشرة سجدة ليس فيها شيء من المفصل» الحديث.
والجواب: عنها أما حديث ابن عباس فإسناده ليس بالقوي قال عبد الحق: ويروى مرسلا والصحيح حديث أبي هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] وإسلامه متأخر قدم على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في السنة السابعة من الهجرة» وقال ابن عبد البر: هذا حديث منكر، وفي إسناده أبو قدامة الحارث بن عبيد الإيادي ليس بشيء، وضعفه ابن معين، وفيه أيضًا مطر الوراق كان سيئ الحفظ، وقد عيب على مسلم إخراج حديثه.
وأما حديث زيد بن ثابت، فالجواب عنه: أنه محمول على بيان جواز ترك السجود عند من يقول: إنه سنة وليس بواجب، وأما الذين يقولون بوجوبه، فأجابوا عنه بأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسجد على الفور ولا يلزم منه أنه ليس فيه سجدة ولا فيه نفي الوجوب.(2/659)
والسجدة الثانية في الحج للصلاة عندنا، وموضع السجدة في حم السجدة عند قوله: {لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] في قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو المأخوذ للاحتياط،
والسجدة واجبة في هذه المواضع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما حديث أبي الدرداء ففي إسناده عثمان بن فائد، قال فيه ابن حبان: لا يحتج به ووهاه ابن عدي وقال أبو داود في "سننه" وروي «عن أبي الدرداء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحدى عشرة سجدة.» وإسناده واه.
م: (والسجدة الثانية في الحج) ش: وهي قَوْله تَعَالَى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] م: (للصلاة عندنا) ش: يعني لأجل الصلاة عندنا، لأنها مقرونة بالركوع، وهي سجدة الصلاة لأنه يجمع بينهما في الصلاة، واحترز بقوله عندنا عن مذهب الشافعي، فإن عنده في الحج سجدتان وقد ذكرناه مفصلًا م: (وموضع السجود في حم السجدة عند قوله: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] ش: يعني إذا قرأ آية السجدة في حم السجدة وهي قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] (فصلت: الآيتان 37، 38) ، فموضع السجود عندنا قوله وهم لا يسأمون وهو مذهب ابن عباس وابن مسعود وبه قال النخعي وابن المسيب وابن سيرين وأبو وائل والثوري وطلحة بن مصرف والشافعي في الصحيح وأحمد وإسحاق.
وقال الشافعي: في القديم عند قوله {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وبه قال مالك، وحكى ابن المنذر عن عمر والحسن البصري والنخعي والليث م: (في قول عمر رضي الله عنه) ش: هذا وهم وليس قول عمر، وإنما هو قول ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عنه أنه كان يسجد في آخر الآيتين في حم السجدة عند قوله {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] ، وزاد في لفظ وأنه رأى رجلا سجد عند قوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] فقال بعد عجلت، وإنما قال ذلك لأنه لا يجوز التعجيل قبل السبب، ويجوز التأخير بعده لأن وقت أدائها موسع، فمتى أتى بها يكون مؤديًا لا قاضيًا، ذكره في " الفتاوى الظهيرية ".
م: (وهو المأخوذ) ش: أي قول عمر الذي يؤخذ به م: (للاحتياط) ش: أي لأجل الاحتياط، وذلك لأنه لا يخلو إما أن يكون موضع السجود في الواقع عند قوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] أو عند قوله: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] فإن كان عند الأول يجوز أداء السجدة عند الشافعي، لأنه لا يضره التأخير، وإن كان عند الثاني فلا يجوز أداؤها عند الأول، لأنه يلزم تقديم المسبب على السبب وهو فاسد، ولأن تمام الكلام يقع بما قلنا، والسجود عند تمام الكلام أولى.
[من تلزمه سجدة التلاوة]
م: (والسجدة واجبة في هذه المواضع) ش: الأربعة عشر المذكورة في الدراية، والسجدة واجبة أي عندنا، وعند الشافعي ومالك وأحمد، وعند جماعة سنة، وقال النووي قال مالك فيما(2/660)
على التالي، والسامع سواء قصد سماع القرآن أو لم يقصد، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «السجدة على من سمعها، وعلى من تلاها» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حكاه القاضي أبو محمد: هي فضيلة.
وقال الأترازي: سجدة التلاوة واجبة عند علمائنا.
وقال الشافعي: إنها سنة، وذكر النووي في "المهذب " أنها سنة للقارئ والمستمع بلا خلاف عند الشافعية.
وفي " المبسوط" سنة مؤكدة.
قلت: هذا مذهبنا على ما اختاره البعض في حد الواجب م: (على التالي والسامع سواء قصد) ش: أي السامع م: (سماع القرآن أو لم يقصد) .
ش: وقال الأكمل: وإنما قيل بهذا لأن في بعض لفظ الآثار السجدة على من جلس لها، وفيه إيهام أن من لم يجلس له فليست عليه فقيل بذلك دفعًا لذلك.
قلت: هذا أخذه من السغناقي، وتبعه أيضًا صاحب الدراية وليس كل منهم بين راوي الأثر ولا من أخرجه، وهل هو صحيح أم لا وليس هذا دأب من يتصدى لشرح كتاب أو لبيان مذهب.
وقال الوبري: سبب وجوب سجدة التلاوة ثلاثة التلاوة والسماع والاقتداء بالإمام، وإن لم يسمعها ولم يقرأها، وللشافعية أوجه:
الأول: أنه في حق السامع من غير فصل يستحب وهو الصحيح المنصوص في البويطي وغيره، ولا يتأكد في حقه.
والوجه الثاني: هو كالمستمع.
والثالث: لا يسن له، وبه قطع أبو حامد والمنبجي، وعند أحمد هي سنة في حق القارئ والمستمع دون السامع، وعنه إذا قرأ شيئًا في الصلاة يجب أن لا يدع السجود وهو في الصلاة أوكد.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السجدة على من سمعها وعلى من تلاها» ش: هذا غريب لم يثبت، وإنما روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال السجدة على من سمعها.
وفي البخاري قال عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن السجود على من استمع، وهذا التعليق رواه عبد الرزاق في "مصنفه" أنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب أن عثمان مر بقارئ فقرأ سجدة ليسجد معه عثمان، فقال عثمان: إنما السجود على من استمع ثم مضى ولم يسجد.(2/661)
وهي كلمة إيجاب وهو غير مقيد بالقصد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي "المبسوط" و" الأسرار " و" المحيط " و" شروح الجامع الصغير " جعل هذا الذي رفعه المصنف إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ألفاظ الصحابة لا من الحديث، فقال في " المبسوط ": وعن عثمان وعلي وابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم قالوا: السجدة على من تلاها وعلى من سمعها وعلى من جلس لها، اختلفت ألفاظهم في هذه، وكذا في غيره، وقد غمز الأكمل هاهنا على السغناقي في قوله من أقوال الصحابة، لأمن الحديث، ثم قال، ولولا أنه ثبت عنده أنه من الحديث لما نعده حديثًا.
قلت: كلامه هذا صادق من غير تأمل، فإن غيره أيضًا ادعى أنه ليس بحديث. غاية ما في الباب أن المصنف قلد غيره، وإلا فر من التقليد له.
م: (وهي كلمة إيجاب) ش: أي لفظه على كلمة إيجاب، يعني يدل على الوجوب م: (وهو) ش: أي الحديث المذكور م: (غير مقيد بالقصد) ش: يعني أن الإيجاب مطلق عن قيد القصد يجب على كل سامع سواء كان قاصدًا للسماع أو لم يكن.
وقال الأكمل: اعترض بأنها لو كانت واجبة ... إلخ أخذه من السغناقي فإنه جعله سؤالًا وجوابًا وما كان ينبغي إيراده على هذا الوجه، لأن السؤال حاصل دلائل من يذهب إلى أن سجدة التلاوة غير واجبة.
والجواب: حاصل ما قاله أئمتنا في الرد عليهم، فبقول الخصم استدل على ما ذهب إليه أولًا بحديث زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «قرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والنجم فلم يسجد فيها» أخرجه البخاري ومسلم، وبحديث الأعرابي: «هل على غيرها؟ قال: "لا إلا أن تتطوع» أخرجه البخاري ومسلم، وبما روي عن عمر أنه قرأ سورة النحل وفيه في الجمعة القابلة قرأ آية السجدة، وفي الموطأ عن عمر فيه أن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء، وبما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" ثنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن قال: دخل سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المسجد وفيه قوم يقرؤون فقرؤوا السجدة فسجدوا، فقال له صاحبه يا أبا عبد الله لولا أثنيت هؤلاء القوم، فقال ما لهذا غدونا، وأخرجه البخاري والطحاوي أيضًا.
واستدلوا: إثباتًا بالمعقول من وجوه:
الأول: أنها لو كانت واجبة لما جازت بالركوع كالصلاتية.
الثاني: أنها لو كانت واجبة لما تداخلت.
الثالث: ما أديت بالإيماء من راكب يقدر على النزول.
الرابع: أنها تجوز على الراحلة، فصار كالتأمين.(2/662)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخامس: لو كانت واجبة بطلت الصلاة بتركها كالصلاتية.
الجواب: عن حديث زيد بن ثابت قد مر فيما مضى، وعن حديث الأعرابي أنه في الفرائض ونحن ندعي أن سجدة التلاوة فرض.
وعن حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنه موقوف وهو ليس بحجة عندهم، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفعله أولى. وعن حديث سلمان كذلك.
والجواب: عن دليلهم العقلي:
أما عن الأول: فإن أداءها في ضمن شيء لا يتأتى وجوبها في نفسها كالسعي إلى الجمعة يتأتى بالسعي إلى التجارة.
وعن الثاني: إنما جاز التداخل لأن المقصود منها إظهار الخضوع والخشوع، وذلك يحصل بمرة واحدة.
وعن الثالث: لأنه أداها كما وجبت، فإن تلاوتها على الدابة مشروعة، فكان كالشروع على الدابة في التطوع.
وعن الرابع: لأن تلاوتها على الراحلة مشروعة، فلا ينافي الوجوب.
وعن الخامس: أن القياس على الصلاتية فاسدة لأنها جزء الصلاة، والسجدة ليست بجزء الصلاة.
وأما دليلنا على الوجوب فقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] (الانشقاق: الآية 21) ، فذمهم على ترك السجود، وإنما يستحق الذم بترك الواجب وقوله تعالى في سورة النجم: {فَاسْجُدُوا} [النجم: 62] وقوله تعالى في سورة اقرأ: {وَاسْجُدْ} [العلق: 19] ومطلق الأمر للوجوب، ولأن في بعض آي السجدة ذكر طاعة الأنبياء عليهم السلام والأولياء وفي بعضها ذكر استنكاف الكفار وموافقة الأنبياء والأولياء واجبة؛ لقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] (الأنعام: الآية 90) ، وكذا مخالفة الأعداء، ولأنها لو لم تكن واجبة لما جاز أداؤها في الصلاة لأن أداء زيادة سجدة وهي تطوع توجب الفساد، وعند الخصم إذا كان عمدًا، وعندنا يكره، ولأنه ركن مفرد عن أركان الصلاة الأصلية شرعت قربة خارج الصلاة، فوجب أن تكون واجبة قياسًا على القيام في صلاة الجنازة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «قال: "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويله» وروي: «يا ويلتي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت(2/663)
وإذا تلا الإمام آية السجدة سجدها وسجدها المأموم معه لالتزامه متابعته، وإذا تلا المأموم لم يسجد الإمام، ولا المأموم في الصلاة، ولا بعد الفراغ عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالسجود فأبيت فلي النار» .
ورواه مسلم وأحمد وابن ماجه، ووجه التمسك به أنه قال: أمر ابن آدم والأمر للوجوب. ووجه آخر أنه قربة فالسجدة التي أمر بها وتلك كانت واجبة فكذا هذه.
فإن قلت: هذا حكاية قول إبليس وهو ليس بحجة كما في قوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] (الأعراف: الآية 12) .
قلت: قد أخبر بذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه، ولم ينكره، بل قرره واستصوبه، فكان ما قاله صوابًا وحقًّا، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد، في النجم سجد معه المسلمون والمشركون والجن الإنس» رواه البخاري والترمذي وصححه.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ والنجم وسجد فيها، وسجد من كان معه غير أن شيخًا من قريش أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته قال: يكفيني هذا، قال عبد الله فلقد رأيته بعدا أن قتل كافرًا» متفق عليه، والشيخ قبل الوليد بن المغيرة.
ولأن آيات السجدة كلها دالة على الوجوب لأنها ثلاث أقسام، قسم هو أمر صريح مثل التي في النجم، وفي اقرأ باسم ربك، والأمر للوجوب. وقسم فيه ذكر طاعة الأنبياء كما قلنا. وقسم فيه استنكار الكفار عن السجود ومخالفتهم في ذلك واجبة.
فإن قلت: لا يجب الاقتداء فيما فعلوه على وجه الاستحباب.
قلت: جهة الاستحباب غير معلومة، فيجب الاقتداء مطلقًا.
م: (وإذا تلا الإمام آية السجدة سجدها) ش: وفي بعض النسخ وإذا تلا الإمام السجدة أي آية السجدة على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه سجدها أي سجدها الإمام م: (وسجدها المأموم معه لالتزامه متابعته) ش: لأنه إذا لم يسجد معه يلزم المخالفة بين الأصل والتبع، فلا يجوز، وفي حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «قال كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا القرآن، فإذا قرأ سجدة سجد وسجدنا معه.» رواه البخاري ومسلم.
م: (وإذا تلا المأموم) ش: يعني المقتدي إذا قرأ آية السجد وسمعها الإمام والقوم م: (لم يسجد الإمام ولا المأموم في الصلاة) ش: هذا بالاتفاق م: (ولا بعد الفراغ) ش: أي لا يسجد الإمام والمأموم أيضًا بعد فراغهم من الصلاة م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف) ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد، وقال مجد الدين بن تيمية الحراني: وهذا إجماع إلا عند محمد بن الحسن.(2/664)
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يسجدونها إذا فرغوا؛ لأن السبب قد تقرر، ولا مانع بخلاف حالة الصلاة؛ لأنه يؤدي إلى خلاف وضع الإمامة، أو التلاوة. ولهما أن المقتدي محجور عن القراءة لنفاذ تصرف الإمام عليه، وتصرف المحجور لا حكم له، بخلاف الجنب والحائض؛ لأنهما منهيان عن القراءة إلا أنه لا يجب على الحائض بتلاوتها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال محمد: يسجدونها إذا فرغوا) ش: من الصلاة م: (لأن السبب قد تقرر) ش: أي سبب وجوب السجدة وهو التلاوة أو السماع قد تقرر ووجب م: (ولا مانع) ش: معناه زال المانع، وهو كونهم في الصلاة كما لو سمع من غيره وهو في الصلاة.
وفي " الدراية" وقال الشافعي: حيث قال: ويستحب أن يسجد بعد الفراغ من الصلاة م: (بخلاف حالة الصلاة، لأنه يؤدي إلى خلاف موضوع الإمامة) ش: أن يسجد التالي وتابعة الإمام، وذا لا يجوز بتقلب المتبوع تبعًا م: (أو التلاوة) ش: أي يؤدي إلى خلاف موضوع التلاوة إن سجد الإمام وتابعه الباقي فلا يجوز.
لحديث رواه الشافعي وأبو بكر بن أبي داود من حديث أبي هريرة أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قال لرجل قرأ آية السجدة عنده: "إنك كنت إمامنا لو سجدت لسجدنا» .
قلت: هذا مرسل، ورفعه أبو بكر بن أبي داود من حديث أبي هريرة، وفي سنده إسماعيل بن عياش وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهما ضعيفان، وإن سجد التالي وحده فلا يجوز أيضًا، لأنه يصير منفردًا بأداء سجدة في موضع الاقتداء، وتحريمته انعقدت على أن يؤدي مع الإمام، فلا يجوز أن ينفرد بشيء.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أن المقتدي محجور عن القراءة) ش: وراء الإمام شرعًا م: (لنفاذ تصرف الإمام عليه) ش: أي على المقتدي في حق القراءة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له» م: (وتصرف المحجور لا حكم له) ش: لأنه لا ينعقد مقيدًا لحكمه كما عرف في موضعه.
م: (بخلاف الجنب والحائض) ش: جواب عما يقال المقتدي في كونه ممنوعًا عن القراءة، كالحائض والجنب والسجدة تجب على من سمعها، فكذا على من سمع المقتدي، وتقرير الجواب قوله م: (لأنهما) ش: أي لأن الجنب والحائض م: (منهيان عن القراءة) ش: وتصرف النهي له حكم كالملك بالبيع الفاسد بعد القبض، فأثر الحجر في تعطيل السبب، وأثر النهي في حرمة الفعل دون التعطيل.
م: (إلا أنه) ش: استثناء من قوله لأنهما منهيان أشار بهذا إلى بيان الفرق بين الجنب والحائض، أي إلا أن البيان م: (لا يجب على الحائض بتلاوتها) ش: أي لا يجب السجدة عليها(2/665)
كما لا يجب بسماعها لانعدام أهلية الصلاة بخلاف الجنب، ولو سمعها رجل خارج الصلاة سجدها هو الصحيح؛ لأن الحجر ثبت في حقهم فلا يعدوهم، وإن سمعوا وهم في الصلاة سجدة من رجل ليس معهم في الصلاة لم يسجدوها في الصلاة؛ لأنها ليست بصلاتية؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بسبب تلاوتها. م: (كما لا يجب بسماعها) ش: أي كما لا تجب السجدة بسماعها من غيرها م: (لانعدام أهلية الصلاة) ش: في حقها، لأن السجدة ركن من أركان الصلاة والحائض لا تلزمها الصلاة مع تعذر السبب، فلا تلزمها السجدة أيضًا م: (بخلاف الجنب) ش: لأن الصلاة تلزمه، فكذلك السجدة.
وقال تاج الشريعة: على أنا نقول: الجنب والحائض ليسا بممنوعين عن قراءة ما دون الآية على ما ذكره الطحاوي، وما دون الآية يوجب السجدة، ذكره شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح الصلاة، وهو ظاهر المذهب، أما المقتدي فلما حجر عليه في قراءة الآية فما دونها حجر عليه في قراءة ما دونها، فجاز أن يختص قراءتها بإيجاب السجدة.
م: (ولو سمعها رجل) ش: ولو سمع آية السجدة رجل حال كونه م: (خارج الصلاة سجدها) ش: يعني بالاتفاق م: (هو الصحيح) ش: احترز به عن قول بعض المشايخ الذين قالوا بعدم الوجوب.
وفي " الدارية ": احترز عن قول بعض المشايخ حيث قالوا: لا يسجدها على قولهما، خلافًا لمحمد.
وقال الأترازي: وهذا الذي قاله صاحب " الهداية " ضعيف، لأنه لما سلم أن هذا الشخص محجوب وجب عليه أن يقول بعدم وجوب السجدة على السامع خارج الصلاة، لأن قد ثبت من أصولنا أن تصرف المحجور لا حكم له، قلت: هذا المحجور بالنسبة إلى وجه في حق من عليه الحجر، وغير محجور أولى.
فالأول: مستلزم شمول العدل.
والثاني: شمول الوجوب فافهم.
م: (لأن الحجر ثبت في حقهم) ش: هذا تعليل الصحيح، أي في حق المقتدين والإمام، وهو أن علة الحجر هي الاقتداء، وهو مختص بهم فلا يعدوهم، أي فلا يتجاوز الحجر غيرهم، فلا جرم يجب السجود بقراءة المقتدي على من هو خارج الصلاة.
م: (وإن سمعوا وهم) ش: أي والحال أنهم م: (في الصلاة سجدة من رجل ليس معهم) ش: يعني المقتدي إذا سمعوا آية السجدة من رجل خارج الصلاة م: (لم يسجدوها في الصلاة لأنها) ش: أي لأن هذه السجدة م: (ليست بصلاتية) ش: يعني ليس من أفعال هذه الصلاة، لأن أفعال الصلاة(2/666)
لأن سماعهم هذه السجدة ليس من أفعال الصلاة، وسجدوها بعدها لتحقق سببها، ولو سجدوها في الصلاة لم يجزئهم؛ لأنه ناقص لمكان النهي فلا يتأدى به الكامل. قال: وأعادوها لتقرر سببها ولم يعيدوا الصلاة؛ لأن مجرد السجدة لا ينافي إحرام الصلاة. وفي " النوادر " أنها تفسد؛ لأنهم زادوا فيها ما ليس منها، وقيل: هو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إما واجب أو فرض، وسماعها ليس بواجب ولا فرض فلا يؤتى بها في الصلاة م: (وسجدوها بعدها) ش: أي بعد الصلاة يعني بعد فراغها لتحقق سببها وهو السماع ممن ليس بمحجور م: (ولو سجدوها في الصلاة لم يجزئهم لأنه) ش: أي لأن السجود م: (ناقض لمكان النهي) ش: لأنه نهي عن إدخال ما ليس من الصلاة فيها، وقد وجبت السجدة كاملة، فإذا فعلها وقعت ناقصة م: (فلا يتأدى به) ش: أي بالناقص م: (الكامل) ش: لأن ما وجب كاملًا لا يتأدى ناقصًا.
م: (قال: وأعادوها) ش: أي قال المصنف، وأعادوا السجدة التي سجدوها في الصلاة م: (لتقرر سببها) ش: وهو السماع من غير محجور م: (ولم يعيدوا الصلاة، لأن مجرد السجدة لا ينافي إحرام الصلاة) ش: لأن سجدة التلاوة عبادة والصلاة لا تنافيها، فصار كمن أتى سجدة زائدة متطوعًا فلا تفسد الصلاة م: (وفي: " النوادر " أنها تفسد) ش: أي ذكر في " النوادر "، رواه ابن سماعة عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه، أي أن السجود يفسد الصلاة.
وقوله: - يفسد - بضم الياء من الإفساد م: (لأنهم زادوا فيها) ش: أي في الصلاة م: (وما ليس منها) ش: وذلك أنهم اشتغلوا في صلاتهم بشيء حكمه أن يقعدوا بعد الصلاة فصاروا ناقضين صلاتهم، كمن صلى النفل في حال الفرض.
م: (وقيل: هو قول محمد) ش: أي قال بعضهم الذي ذكر في " النوادر " هو قول محمد، وفي "مبسوط خواهر زاده " ذكر الفساد على قول محمد، ثم قال: والصحيح أن لا تفسد الصلاة عند الكل، ثم قال: هكذا قال على العمى، ويقال: قول محمد هو جواب القياس، وما ذكر هنا وهو وقولهم جواب الاستحسان بناء على أن زيادة ما دون الركعة لا يفسدها عندهما، وعلى قوله: زيادة السجدة يفسدها.
وهذا الاختلاف بناء على اختلافهم في سجدة الشكر، فعند محمد السجدة الواحدة عبادة مقصودة، لهذا حكم بأن سجدة الشكر مسنونة، فتفسد لشروعه في واجب قبل إكمال الفرض.
وعند أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أبي يوسف أنها غير مسنونة، والسجدة الواحدة بمنزلة الركعة، وفي كونها ركنًا من أركان الصلاة غير مستقلة عبادة.
وفي " المختلف " و" ملتقى البحار " قول أبي يوسف مع محمد في مشروعية سجدة الشكر، وفي "قاضي خان " عن أبي يوسف روايتان فيها.(2/667)
فإن قرأها الإمام، وسمعها رجل ليس معه في الصلاة، فدخل معه بعدما سجدها الإمام، لم يكن عليه أن يسجدها؛ لأنه صار مدركا لها بإدراك الركعة، وإن دخل معه قبل أن يسجدها سجدها معه؛ لأنه لو لم يسمعها سجدها معه، فهاهنا أولى، وإن لم يدخل معه سجدها وحده، لتحقق السبب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن قرأها الإمام وسمعها رجل ليس معه في الصلاة فدخل معه بعدما سجدها الإمام، لم يكن عليه أن يسجدها، لأنه صار مدركًا لها بإدراك تلك الركعة) ش: أي صار الرجل المذكور مدركًا للسجدة، بإدراك الركعة التي قرأها الإمام فيها، لأنه لما صار مدركًا للقراءة بإدراكه في تلك الركعة صار مدركًا لما تعلق بالقراءة.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده: ذكر في " زيادات الزيادات " أنه لا يسقط عنه ما لزمه بالسماع، ويسجد بعد الفراغ، ثم قال وذلك قياس ما ذكر في " نوادر الصلاة " لأبي سليمان، ثم هذا الذي ذكرنا فيما إذا أدرك الإمام في تلك الركعة، كما ذكرنا، أما إذا أدركه في الركعة الأخرى قيل ينبغي أن يسجدها خارج الصلاة، وقال الإمام العتابي، وأشار في بعض النسخ إلى أنها تسقط عنه لأنها صارت صلاتية.
فإن قلت: يشكل على هذا لو أدرك الإمام في الركوع في صلاة العيدين حيث لم يصر مدركًا لتلك الركعة، ويأتي بالتكبيرات في حال الركوع خلافًا لأبي يوسف.
قلت: الأصل في جنس هذه أن كل ما لا يمكن أن يؤدى به في الركوع أو الركعة فبإدراك الإمام في الركوع يصير مدركًا لتلك الركعة وما يتعلق بها، وكلما يمكن له أن يؤتى به فيها فبإدراك الإمام في الركوع لا يصير مدركًا له إليه وهاهنا الإدراك ممكن.
فإن قلت: السجدة من أفعال الصلاة ولا يجزي فيها النيابة.
قلت: لا نسلم ذلك، لأن الفعل إذا وجب لسبب يجري فيه النيابة، والسبب هو القراءة.
م: (وإن دخل معه قبل أن يسجدها) ش: أي وإن دخل مع الإمام قبل أن يسجد الإمام سجدة تلاوة م: (سجدها معه) ش: أي مع الإمام: م (لأنه) ش: أي لأن هذا الداخل م: (لو لم يسمعها) ش: أي سجدة التلاوة من الإمام م: (سجدها معه) ش: أي كان عليه أن يسجدها معه لوجوب السبب.
م: (فهاهنا أولى) ش: أي في هذه الصورة قد سمعها من الإمام، فأولى أن يسجد م: (وإن لم يدخل معه سجدها) ش: أي لم يدخل الرجل مع الإمام في صلاته سجدها هو خارج الصلاة م: (لتحقق السبب) ش: وهو التلاوة الصحيحة والسماع للتلاوة الصحيحة على اختلاف المشايخ.
وقال مالك: لا يسجد لأن السماع بناء على التلاوة وهي وجدت في الصلاة، فكانت صلاتية، فلا تؤدى خارجها.(2/668)
وكل سجدة وجبت في الصلاة فلم يسجدها فيها لم تقض خارج الصلاة، لأنها صلاتية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلنا السماع وإن كان مبناه على التلاوة، ولكن الوجوب بالسماع.
فإن قلت: الصحيح أن التلاوة سبب في حق السامع، وكانت في الصلاة فكانت السجدة صلاتية فلا يقضي خارجها.
قلت: لما اختلفوا في أن السماع سبب في حقه أو التلاوة، فقلنا بأدائها خارج الصلاة احتياطًا.
فإن قلت: ينبغي أن لا يتابع الإمام فيما إذا لم يسجد حين شرع، لأن ما وجب لصلاتية.
قلت: صارت صلاتية بالاقتداء أو للاقتداء تأثير في جعل غير الواجب واجبًا، وفي جعل الواجب غير واجب فإن القعدة على رأس الركعتين واجبة للمسافر، وباقتدائه بالمقيم لم تبق واجبة، وكذا لو يحرم للأربع نفلًا يلزمه ركعتان، ولو اقتدى بمصلي الظهر لزمه الأربع، حتى لو قضى يقضي الأربع.
وذكر ابن الساعاتي في "شرحه للمجمع " ليس الخلاف في ذلك راجعًا إلى كونها صلاتية بل الخلاف في ذلك راجع إلى أن مطلق السماع هو يوجب السجود، فالصحيح أنه إذا قصد الاستماع سجد، وإلا فلا، فكذلك أورد المسألة في " المجمع " بصيغة لا تفيد خلافًا.
[قضاء سجدة التلاوة]
م: (وكل سجدة وجبت في الصلاة فلم يسجدها فيها لم تقض) ش: أي لم تؤد، والقضاء يأتي بمعنى الأداء كما في قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 103] (النساء: الآية 103) ، أي فإذا أديتم م: (خارج الصلاة لأنها صلاتية) ش: لأنها منسوبة إلى الصلاة، واعترض عليه بأن هذا خطأ، لأن تاء التأنيث لا تثبت في النسب، والصواب أن يقال: صلاته كما يقال في النسب إلى الزكاة: زكاته.
وأجاب صاحب "الدراية " عن هذا بأن هذا خطأ مستعمل، فيكون خيرًا من صواب [غير] مستعمل، ورضي الأكمل بمثله هذا، فأجاب بمثله.
قلت: كيف يكون الخطأ خيرًا من الصواب؟، وهذا لا يقول به أحد.
والصواب: أن يقال في جوابه أن الفقهاء قصدهم المعاني، وكثيرًا ما يتساهلون في صور الألفاظ، لأن جل قصدهم المعنى.
فإن قلت: هذا الكل منقوض بما إذا سمعوا وهم في الصلاة ممن ليس معهم في الصلاة فإنها سجدة وجبت في الصلاة ويسجدونها بعدها كما ذكره المصنف:
بقوله: وإن سمعوا وهم في الصلاة إلى أن قال وسجدوها بعدها.(2/669)
ولها مزية الصلاة فلا تتأدى بالناقص.
ومن تلا سجدة فلم يسجدها حتى دخل في صلاة فأعادها وسجد أجزأته السجدة عن التلاوتين؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قال صاحب " الدراية ": المراد من قوله وكل سجدة أي سجدة صلاتية، ولا بد من هذا القيد حتى لا يرد النقض المذكور، ولكنه ترك هذا بعد ظهوره.
وقال الأكمل: وفيه نظر، لأن قوله وجبت في الصلاة إما أن تكون صفة موضحة أو صفة ما يتميز عنها، لأن كل سجدة صلاتية واجبة في الصلاة أو صفة كاشفة، وعاد السؤال أو غيرهما من التأكيد والمدح والذم والمقام لا يقتضيه.
فالصواب: أن يقال تقديره وكل سجدة عن تلاوة وجبت في الصلاة، أي ثبتت.
قلت: هذا الذي قاله إنما ينتهي إذا جعلنا قوله وجبت في الصلاة حالًا عن تلاوة، وأما إذا جعلناها صفة فالإشكال على حاله.
فإن قلت: ذو الحال لا يكون نكرة.
قلت: ذو الحال هاهنا قرب من المعرفة بالوصف، فافهم.
فإن قلت: فلم يسجدها فيها غير مقصود، لأنها تؤدى سجدة الصلاة إذا سجد على الفور، أما إذا أخرها فلا، لأنها تصير دينًا عليه بفوات وقتها فلا يتأدى في ضمن الغير، قال قلت: وقتها موسع، فمتى سجد كان أداء لا قضاء.
قلت: هذا عند محمد [وعند أبي يوسف] ورواية عن أبي حنيفة أن وجوبها على الفور لا على التراخي، فيجوز أن يكون المصنف اختار ذلك.
م: (ولها) ش: أي للسجدة م: (مزية الصلاة) ش: قال قاضي خان: إن الصلاتية أقوى؛ لأنها وجبت بتلاوة يتعلق بها جواز الصلاة، ألا ترى أنه لو ضحك في سجدة التلاوة في الصلاة تنتقض طهارته، ولو ضحك فيها خارج الصلاة لا تنتقض فيكون لها مزية م: (فلا تتأدى بالناقص) ش: لأن الكامل لا يجوز أداؤه بالناقص.
م: (ومن تلا سجدة فلم يسجدها حتى دخل في صلاة) ش: أي في مكان واحد.
فإن قلت: مجلس التلاوة غير مجلس الصلاة.
قلت: بل واحد حقيقة وحكمًا.
أما حقيقة فظاهر، وأما حكمًا فلأن مجلس التلاوة مجلس العبادة فكان من جنس مجلس الصلاة م: (وأعادها) ش: أي في الصلاة تلك الآية التي قرأها خارج الصلاة، م: (وسجد أجزائه السجدة عن التلاوتين) ش: أي التلاوة التي وقعت خارج الصلاة، والتلاوة التي وقعت في الصلاة(2/670)
لأن الثانية أقوى؛ لكونها صلاتية فاستتبعت الأولى. وفي " النوادر ": يسجد أخرى بعد الفراغ؛ لأن للأولى قوة السبق، فاستويا، قلنا: للثانية قوة اتصال المقصود، فترجحت بها. وإن تلاها فسجد ثم دخل في الصلاة فتلاها سجد لها، لأن الثانية هي المستتبعة، ولا وجه إلى إلحاقها بالأولى؛ لأنه يؤدي إلى سبق الحكم على السبب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن الثانية) ش: أي السجدة الثانية م: (أقوى لأنها صلاتية فاستتبعت الأولى) ش: أي جعلت السجدة الثانية السجدة الأولى تابعة لها، لأن المتلوة في الصلاة أفضل من الصلاة بغيرها، هذا على رواية " الجامع الكبير " و" المبسوط " و" نوادر الصلاة " التي رواها أبو حفص.
م: (وفي " النوادر ") ش: أي أراد به " نوادر الصلاة " التي رواها أبو سليمان لا تستتبع إحداهما، فإذا كان كذلك م: (سجد أخرى بعد الفراغ، أي من الصلاة، لأن للأولى قوة السبق فاستويا) ش:، أي في الوجوب فلا تستتبع إحداهما الأخرى م: (قلنا: للثانية) ش: أي السجدة الثانية التي هي الصلاتية م: (قوة اتصال المقصود) ش: وهو أداء السجدة، لأن المقصود من وجوب السجدة أداؤها.
م: (فترجحت بها) ش: أي فترجحت الثانية بقوة الاتصال بالمقصود، لأن الأصل اتصال السبب بالمسبب.
فإن قلت: هذه المسألة لبيان التداخل وإلحاق الأولى بالثانية خلاف موضوع التداخل، لأن السابق قد مضى واضحًا فكيف يكون ملحقًا باللاحق.
قلت: السابق قد يكون تبعًا إذا كان اللاحق أقوى كالسنة قبل الفريضة، ولأن التكرار قائم بهما، فكان إلحاق الأولى بالثانية ممكنًا.
م: (وإن تلاها) ش: أي وإن تلا آية السجدة رجل وكان خارج الصلاة م: (فسجد لتلاوته ثم دخل في الصلاة فتلاها) ش: أي تلك الآية م: (سجد لها) ش: يعني يجب عليه أن يسجد لها م: (لأن الثانية) ش: أي السجدة الثانية م: (هي المستتبعة) ش: أي أراد أن المتلوة في الصلاة هي المستتبعة لقوتها للمتلوة في غير الصلاة لضعفها، فلو قلنا بعدم تعدد الوجوب بإلحاق الثانية بالأولى يلزم استتباع التابع متبوعه، فلا يجوز م: (ولا وجه إلى إلحاقها بالأولى) .
ش: قال الأكمل: أي لا وجه لإلحاق السجدة المفعولة بالأولى، أي بالتلاوة الأولى، لأنها إن ألحقت بها وهي تابعة للثانية كانت السجدة ملحقة بالتلاوة الثانية، وذلك م: (لأنه يؤدي إلى سبق الحكم قبل السبب) ش: فتبين أن التداخل في هذه الصورة متعذر فتجب سجدة ثانية للتلاوة الثانية، ثم قال: وإياك أن ترد ضمير إلحاقها إلى التلاوة الثانية كما فعله بعض الشارحين.
واعترض على المصنف، فإنه فاسد قلت: أراد ببعض الشارحين الأترازي، فإنه قال في هذا الموضع بيانه أنا لو ألحقنا المتلوة في الصلاة بالمتلوة في غيرها. بأن قلنا: السجدة المفعولة خارج(2/671)
ومن كرر تلاوة سجدة واحدة في مجلس واحد أجزأته سجدة واحدة، فإن قرأها في مجلسه فسجدها ثم ذهب ورجع، فقرأها سجد ثانية وإن لم يكن سجد للأولى فعليه سجدتان، فالأصل أن مبنى السجدة على التداخل دفعا للحرج،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصلاة تجري في التلاوتين جميعًا يلزم تقدم الحكم وهو السجدة على السبب وهو التلاوة، وتقديمه عليه لا يجوز، ثم قال: وفي هذا التعليل نظر عندي، لأنا لا نسلم تقدم الحكم على السبب، لأن مبنى السجدة على التداخل في السبب، فعلى تقدير إلحاق الثانية بالأولى لا يلزم ما قال، لأنه يكون السبب هو الأولى وحدها وقد تقدم السبب، فتلاه بحكمه، انتهى كلامه.
قلت: الصواب كما قاله الأكمل والأصوب من كلامهما أن تقول: لما لم يمكن القول بالتداخل هاهنا وجبت لكل تلاوة سجدة على حدة، على أن في بعض النسخ ولا وجه إلى كونها مستتبعة للأولى، فافهم.
[تكرار تلاوة سجدة التلاوة في المجلس الواحد]
م: (ومن كرر تلاوة سجدة واحدة في مجلس واحد أجزأته سجدة واحدة) ش: قيد بقوله: سجدة واحدة، لأنه إذا كرر سجدات مختلفة يجب لكل واحدة سجدة، وبقوله: في مجلس واحد؛ لأنه إذا كان في مجالس مختلفة تعدد السجود على ما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
وقال النووي: إن لم يسجد للأولى كفته سجدة واحدة، وإن سجد لها ثلاثة أوجه:
أصحها: يسجد، وبه قال مالك وأحمد.
والثاني: يكفيه الأولى، قال ابن شريح: ورجحه صاحب " العدة "، وقطع به أبو حامد.
الثالث: إن طال الفصل قرأها فسجد ثم ذهب يعني أنه مشى ثلاث خطوات، ورجع فقرأها وسجد ثانيًا، وإن لم يسجد للأولى فعليه سجدتان.
م: (فإن قرأها في مجلسه فسجدها فذهب ورجع فقرأها سجد ثانية) ش: لتعدد السبب.
م: (وإن لم يكن سجد للأولى فعليه سجدتان) ش: أراد أنه ذهب عن مجلسه بعد قراءته ولم يسجد لها ثم رجع إليه فقرأها ثانيًا، فعليه أن يسجد لكل تلاوة سجدة م: (والأصل) ش: في هذا م: (أن مبنى السجدة على التداخل) ش: يعني في الاستحسان والقياس أن يجب لكل تلاوة سجدة، سواء كانت في مجلس واحد أو لم تكن، لأن للسجدة حكم التلاوة، والحكم يتكرر بتكرر السبب.
وأما وجه الاستحسان فهو قوله: م: (دفعًا للحرج) ش: وذلك أن المسلمين يحتاجون إلى تعليم القرآن وتعلمه، وذلك يحتاج إلى التكرار غالبًا، فإلزام التكرار في السجدة يفضي إلى الحرج لا محالة، والحرج مدفوع ويؤيد هذا ما روي أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقرأ على(2/672)
وهو تداخل في السبب دون الحكم وهو أليق بالعبادات، والثاني بالعقوبات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ويقرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أصحابه ويسجد مرة واحدة.
وقال الأكمل: وقد صح أن جبريل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل بآية السجدة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتكرر عليه، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسجد لها مرة واحدة تعليمًا لجواز التداخل.
قلت: نزول جبريل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بآية السجدة وغيرها من القرآن على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صحيح لا شك فيه، ولكن صحة بقية القضية من أين؟، ولم يتعرض إليه فاكتفي بمجرد النقل، وكان أبو موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يلقن الناس القرآن في مسجد البصرة وتكرر السجدة مرة واحدة.
وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي وهو معلم الحسن والحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كان يعلم الآية الواحدة مرارًا ولا يزيد على سجدة واحدة، وقد أخذ التلاوة عن الصحابة، فالظاهر أنه أخذ حكمها عنهم.
م: (وهو تداخل في السبب دون الحكم) ش: أي التداخل الذي عليه مبنى السجدة هو تداخل في السبب وهو التلاوة دون الحكم، وهو وجوب السجدة، وهو أن يجعل التلاوات الموجودة في المجلس تلاوة واحدة، فلم تكن الثانية والثالثة، سببًا للوجوب، إذا السبب إذا تحقق لا يجوز ترك حكمه في العبادات احتياطًا. وضعف السرخسي التداخل، وقال: الصحيح أن سبب الوجوب حرمة المتلوة، فالثانية تكرار محض فلم تكن سببًا، فلا يجب بها شيء.
وقال الماتريدي: سبب وجوبها تلاوة مقصودة، ولم يوجد في الثانية لأنها تبع للأولى وتكرير للحفظ والتفكر وذلك وسيلة.
م: (وهذا) ش: أي التداخل في السبب م: (أليق بالعبادات) ش: لأنه لو حكم بتعدد الأسباب يلزمه ترك الاحتياط في أمر العبادة، لأنه يلزم الإسقاط بعد وجوب سبب الإثبات، فلا يجوز لأن العبادة يحتاط في إثباتها لا في إسقاطها.
م (والثاني بالعقوبات) ش: أي التداخل في الحكم دون السبب أليق بالعقوبات، لأنها ليست مما يحتاط فيها بل في درئها فيجعل التداخل في الحكم ليكون عدم الحكم مع وجود الموجب مضافًا إلى عفو الله وكرمه، فإنه هو الموصوف بسبوغ العفو وكمال الكرم.
وثمرة هذين الفصلين تظهر في:
الأول: فيما إذا تلا آية سجدة فسجد، ثم قرأ تلك الآية في ذلك المجلس مرات تكفيه تلك السجدة عن التلاوة التي توجد بعدها.(2/673)
وإمكان التداخل عند اتحاد المجلس لكونه جامعا للمتفرقات، فإذا اختلف عاد الحكم إلى الأصل، ولا يختلف بمجرد القيام بخلاف المخيرة؛ لأنه دليل الإعراض وهو المبطل هناك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في الثاني: إذا زنى فجلد ثم زنى ثانيًا يجلد ثانيًا، وكذلك ثالثًا ورابعًا بعدم التداخل في الأسباب، بخلاف ما إذا زنى ولم يحد ثم زنى يحد مرة واحدة لتداخل الحكم والعقوبة.
م: (وإمكان التداخل) ش: أراد به الإمكان الشرعي م: (عند اتحاد المجلس لكونه جامعًا للمتفرقات) ش: أي ألا ترى أن شطري العقد يجمعهما المجلس وإن تفرقا بالأقوال، واتحاد المجلس له أثر في جميع المقدورات كما في الإيجاب والقبول والأقادير، ألا ترى أن من أقر بالزنا أربع مرات في مجلس واحد يجعل مقرا مرة واحدة، وفي المجالس المختلفة يجعل مقرا أربع مرات، فكذا هاهنا م: (فإذا اختلف) ش: أي المجلس م: (عاد الحكم إلى الأصل) ش: وهو وجوب التكرار لعدم الجامع.
فإن قلت: لم لا يجمع الجامع بين الآيات في المجلس كما جمع بين المرات فيه؟.
قلت: لعدم الحرج، فإن آية السجدة محصورة، والغالب عدم تلاوة الجميع في المجلس، بخلاف التكرار للتعليم، فإنه ليس بمحصور.
م: (ولا يختلف) ش: أي المجلس م: (بمجرد القيام) ش: ولهذا لو باع وهو قاعد وقام ثم قبل المشتري صح قبوله. كذا في " الكافي "، ولو قرأها وهو قاعد ثم قام فقرأها لا يجب إلا سجدة واحدة م: (بخلاف المخيرة) ش: وهي التي قال لها زوجها اختاري، فقامت فقالت اخترت نفسي لا يقع الطلاق م: (لأنه) ش: أي لأن قيام المخيرة م: (دليل الإعراض) ش: لأن المجلس تبدل حقيقة م: (وهو) ش: أي الإعراض م: (يبطل هناك) ش: أي في المخيرة، ثم المجلس إنما يختلف إذا ذهب عن ذلك المجلس بعيدًا، فإن كان قريبًا لا يختلف، فالفاصل بينهما ما ذكر في " المحيط " إذا مشى خطوتين أو ثلاثًا فهو قريب، وإن كان أكثر من ذلك فهو بعيد.
وفي " المبسوط " في رواية ابن رستم عن محمد قال محمد نحو عرض المسجد أو طوله فهو قريب.
وفي " المبسوط " فإن نام قاعدًا أو أكل لقمة أو شرب شربة أو عمل عملًا يسيرًا ثم قرأ فليس عليه أخرى، لأن هذا القدر لا يبدل المجلس وفي الروضة بالأكل لا يختلف المجلس حتى يشبع، وبالشرب حتى يروى، وبالكلام والعمل يكثر استحسانًا.
وفي " شرح المجمع " الأمكنة التي تتحد حكمها كالمجسد والجامع والبيت والسفينة سائرة كانت أو واقفة والحوض والغدير والنهر الواسع والدابة السائرة وراكبها في الصلاة قال: في هذه الأماكن إذا كرر التلاوة لا يلزمه إلا سجدة واحدة وهو مخير إن شاء سجدها عند التلاوة الأولى،(2/674)
وفي تسدية الثوب يتكرر الوجوب، وفي المنتقل من غصن إلى غصن كذلك في الأصل، وكذا في الدياسة للاحتياط،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن شاء سجدها عند الأخيرة، والأمكنة التي يختلف حكمها ويتعدد الوجوب كالدابة السائرة وراكبها ليس في الصلاة، والماشي في الصحراء، أو السباح في البحر والنهر العظيم.
م: (وفي تسدية الثوب يتكرر الوجوب) ش: قال شيخ الإسلام خواهر زاده: في "مبسوطه" إن كان يسدي الكرباس ويقرأ آية واحدة مرارًا اختلف المشايخ، قال بعضهم: يكفيه سجدة واحدة، لأن المجلس واحد من حيث الاسم.
وقال بعضهم: يلزمه بكل تلاوة سجدة، لأن المجلس تبدل حقيقة بتبدل المكان، ولا يعتبر اتحاد العمل كما في سير الدابة وهو الأصح.
م: (وفي المنتقل من غصن إلى غصن كذلك في الأصل) ش: أي يتكرر الوجوب في الأصح يرجع إلى المذكورين تسدية الثوب والمنتقل م: (وكذا في الدياسة) ش:
وقال الأترازي: واختلف في تسدية الثوب والدياسة، والذي يدور حول الرحى والذي يسبح في الحوض أو النهر، والذي علا على غصن ثم انتقل إلى غصن آخر والأصح هو الإيجاب م: (للاحتياط) ش: أي بالنظر إلى اتحاد العمل واتحاد والمجلس لا يتبدل المجلس، فلا يتكرر الوجوب بالنظر إلى حقيقة اختلاف المكان يتكرر الوجوب فقلنا بالتكرار احتياطًا.
وفي " الدراية " وفي لفظ الكتاب إشارة إلى أنه لا خلاف في التسدية لأنه قطعها بالجواب من غير تردد، ويدل على أن اختلاف المشايخ في المنتقل من غصن إلى غصن وفي الدياسة وفي النهاية وهذا اللفظ أشار به إلى التسدية والمنتقل كما ترى يدل على أن اختلاف المشايخ في المنتقل من غصن إلى غصن وفي الدياسة لا في تسدية الثوب، لأنه قطعها بالجواب من غير تردد، ثم شبه الجواب الثاني بذكر الأصح، ولكن ذكر الاختلاف في " شروح الجامع الصغير " في المسائل الثلاث كلها.
وقال الأكمل: وقال صاحب " الدراية " وذكره...... إلخ ما ذكره ثم قال: وليس بواضح جواز أن يكون قوله في الأصح متعلقًا بالمسلمين جميعًا.
وقوله: للاحتياط يجوز أن يكون وجه الأصح في الصور الثلاث المذكورة.
قلت: الظاهر أن قوله في الأصح متعلق بمسألة المنتقل من غصن إلى غصن.
وقوله: للاحتياط متعلق بمسألة الدياسة، وقطع صاحب " الهداية " بالجواب في مسألة بنفي أو إثبات لا يستلزم نفي كون الخلاف فيه في الحقيقة.(2/675)
ولو تبدل مجلس السامع دون التالي يتكرر الوجوب على السامع؛ لأن السبب في حقه السماع، وكذا إذا تبدل مجلس التالي دون السامع على ما قيل، والأصح أنه لا يتكرر الوجوب على السامع لما قلنا، ومن أراد السجود كبر، ولم يرفع يديه، وسجد ثم كبر ورفع رأسه اعتبارا بسجدة الصلاة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو تبدل مجلس السامع دون التالي يتكرر الوجوب على السامع) ش: باتفاق المشايخ، وبه صرح الإمام الزاهد السغناقي، فعلى قول من يقول السبب في حق السامع السماع فظاهر، وعلى قول من يقول السبب في حقه التلاوة فكذلك الظاهر، لأن الشرع أبطل تعدد التلاوة المتكررة في حق التالي حكمًا لاتحاد مجلسه لا حقيقة، فلم يظهر ذلك في حق السامع، فاعتبرت حقيقة التعدد فكرر الوجوب عليه م: (لأن السبب) ش: أي سبب وجوب السجدة م: (في حقه) ش: أي في حق السامع م: (السماع) ش: فتكرر السبب بتكرار الوجوب م: (وكذا) ش: يتكرر الوجوب. م: (إذا تبدل مجلس التالي دون السامع على ما قلنا) ش: على قول بعض المشايخ، وهو قول فخر الإسلام أيضًا.
م: (والأصح أن لا يتكرر الوجوب على السامع لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله لأن السبب في حقه السماع، ومكان السماع متحد فلا يتكرر الوجوب، وهذا قول القاضي الأسبيجابي صاحب " شرح الطحاوي ".
م: (ومن أراد السجود) ش: أي سجود التلاوة م: (كبر ولم يرفع يديه وسجد ثم كبر ورفع رأسه اعتبارًا بسجدة الصلاة) ش: يعني اعتبروه اعتبارًا بسجدة الصلاة.
وقوله: كبر إشارة إلى أن التكبير فيها سنة كما في المسببة به.
وقال الأسبيجابي: ويرفع صوته، وفيه إشارة إلى التكبير ليس بواجب بل هو سنة لما ذكرنا، وأيد ذلك ما ذكره في " المحيط "، فقال: ورى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يكبر عند الانحطاط، لأن تكبير الانتقال من الركن، وعند الانحطاط، وهاهنا لا ينتقل، وهي رواية الحسن عن أبي يوسف.
وفي " الذخيرة ": وقيل: يكبر في الابتداء ولا يكبر في الانتهاء، وهي رواية الحسن عن أبي حنيفة، وقيل: يكبر في الابتداء بلا خلاف، وفي الانتهاء خلاف بين أبي يوسف ومحمد على قول أبي يوسف لا يكبر، وعلى قول محمد يكبر.
وعند جمهور الشافعية يكبر للهوي إلى السجود، وعند رفعه. وقال ابن أبي هريرة: منهم من لا يكبر فيهما وفي غير الصلاة يكبر للافتتاح ثم للهوي ثم للرفع، وهو قول أحمد وهو شرط في المشهور، وفي وجه يستحب، وفي الثالث لا يشرع أصلًا وهو قول أبي جعفر منهم.(2/676)
وهو المروي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
ولا تشهد عليه ولا سلام؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقوله: ولم يرفع يديه احترازا عن قول الشافعي، فإن عنده حقها أن يسجد سجدة واحدة فيكبر رافعًا يديه ناويًا، ثم يكبر للسجود ولا يرفع يديه ثم يكبر للرفع ويسلم، وأقلها وضع الجبهة على الأرض بلا شروع ولا سلام، كذا في " الخلاصة الغزالية ".
وقال القاضي من الحنابلة: وقياس المذهب أن لا يرفع يديه [....] لم يرد به الشروع، وفي حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «كان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لا يقعد في السجود حتى لا يرفع يديه» وهو حديث متفق عليه، وبقولنا قال إبراهيم والحسن وأبو قلابة وابن سيرين وأبو عبد الرحمن وعامر، ذكر ذلك كله ابن أبي شيبة.
م: (وهو المروي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: يعني المذكور من صفة سجدة التلاوة هو مروي عن عبد الله بن مسعود، وهذا غريب لم يثبت، وإنما روي عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا» رواه أبو داود.
م: (ولا تشهد عليه) ش: أي على من يسجد للتلاوة، وبه قال مالك، وعن الشافعي فيه قولان، وقال البويطي: لا يتشهد.
وقال خواهر زاده: قال الشافعي في كتابه: ليس فيها تسليم ولا تشهد، وبه أخذ بعض أصحابه، ومن أصحابه من لم يأخذ بما قال الشافعي: لكن قال: فيها تشهد وتسليم، وكان ابن شريح يقول فيها تسليم، ولكن لا يحتاج فيها إلى تشهد.
وفي " التنبيه " قيل: يتشهد ويسلم، وقيل: يسلم ولا يتشهد، والمنصوص أنه لا يتشهد ولا يسلم.
واعترض على صاحب " التنبيه " فيه بشيئين:
أحدهما: أنه صرح بنص الشافعي أنه لا يسلم وأنه ليس له نص غيره، وليس الأمر كذلك بل القولان مشهوران في اشتراط السلام.
الثاني: أنه صرح بأن الراجح في المذهب أنه لا يسلم.
وليس كذلك، بل الصحيح عند الأصحاب على ما حكاه النووي اشتراط السلام، قال: وممن صححه أبو حامد وأبو الطيب في تعليقهما والرافعي وآخرون، ولا يتشهد عند الحنابلة، نص عليه في رواية الأثرم.
م: (ولا سلام) ش: أي ولا سلام عليه أيضًا، وبه قال النخعي والحسن وسعيد ويحيى ابن وثاب ومالك وعطاء وأبو صالح، وقال ابن المنذر: قال أحمد أما التسليم فلا أدري ما هو، وعنه أنه فرض ويجزئه تسليمة، وعنه تسليمتان ولا يسلم في البويطي، وقال المزني: يسلم.(2/677)
لأن ذلك للتحلل وهو يستدعي سبق التحريمة وهي منعدمة، قال: ويكره أن يقرأ السورة في الصلاة أو غيرها، ويدع آية السجدة؛ لأنه يشبه الاستنكاف عنها، ولا بأس بأن يقرأ آية السجدة ويدع ما سواها؛ لأنه مبادرة إليها، قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أحب إليّ أن يقرأ قبلها آية، أو آيتين دفعا لوهم التفضيل، واستحسنوا إخفاءها شفقة على السامعين، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن ذلك) ش: أي السلام م: (للتحلل وهو) ش: أي التحليل م: (يستدعي) ش: أي يقتضي م: (سبق التحريمة) ش: لأنها معتبرة بسجود الصلاة وسجود الصلاة لا يقتضي التسليم م: (وهي) ش: أي التحريمة م: (منعدمة) ش: هذا اللفظ خطأ عند أهل التصريف، وصوابه معدومة.
فإن قلت: كيف يكون معدومة وقد ذكر من أراد السجود كبر، والتكبير للتحريمة كما في الشروع في الصلاة.
قلت: ذاك التبكير لا للتحريمة بل للمشابهة بينهما وبين سجدة الصلاة، والتكبير لها ليس للتحريمة بل للانتقال إلى السجود فكذا هاهنا.
م: (وقال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ويكره أن يقرأ السورة في الصلاة أو غيرها أو يدع) ش: أي يترك، ولم يستعمل معنى هذه اللفظة إلا في قراءة: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3] (الضحى: الآية 3) ، بالتخفيف، وهي شاذة ويدع م: (آية السجدة لأنه يشبه الاستنكاف عنها) ش: أي الإعراض عن السجدة، وليس ذلك من أخلاق المؤمنين، وهو يؤدي أيضًا إلى هجران بعض القرآن.
وقال الشافعي: يكره قراءة آية السجدة في الصلاة، سواء كانت صلاة السر أو الجهر.
وقال مالك: يكره قراءتها في جميع الصلوات، وعندنا يكره فيما يسر دون ما يجهر، وبه قال أحمد.
م: (ولا بأس بأن يقرأ آية السجدة ويدع ما سواها، لأنه مبادرة) ش: أي مسارعة م: (إليها) ش: أي إلى السجدة م: (قال) ش: أي قال محمد: في كتاب الصلاة م: (وأحب إلي أن يقرأ قبلها آية أو آيتين دفعًا لوهم التفضيل) ش: أي تفضيل بعض الآيات على البعض م: (واستحسنوا) ش: أي استحسن المشايخ.
م: (إخفاءها) ش: أي إخفاء آية السجدة م: (شفقة) ش: أي لأجل الشفقة م: (على السامعين) ش: لأن السامع ربما لا يؤديها في الحال لمانع فلا يؤديها بعد ذلك بسبب النسيان فيبقى عليه الواجب فيأثم.
وفي " المحيط ": إذا كان التالي وحده يقرأ كيف شاء جهر أو أخفى، وإن كان معه جماعة، قال مشايخنا: إن كان القوم مهيئين للسجود، ووقع في قبله أنه لا يشق عليهم أداؤها ينبغي أن(2/678)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يجهر حتى يسجد القوم معه، وإن كانوا محدثين ويظن أنهم لا يسجدون أو يشق عليهم أداؤها ينبغي أن يقرأها في نفسه ولا يجهر تحرزًا عن إتيانهم بالسلام.
1 -
فروع: يختلف المجلس بالنوم مضطجعًا. وقاعدًا لا يختلف ذكره في " المحيط ". وفي "جوامع الفقه " القيام والقعود والاتكاء والركوب والنزول لا يوجب اختلاف المجلس، وكذا الانتقال في البيت والمسجد من زاوية إلى زاوية، أو من جانب طولًا أو عرضًا.
وقيل: إن كان البيت كبيرًا أو المسجد كثيرًا كالمسجد الجامع تختلف. وفي " المنتقى " عن محمد في المسجد الجامع لا يتكرر من غير تفصيل. وفي " جوامع الفقه " سئل أبو بكر عمن قرأ القرآن كله وسجد لكل سجدة ثم قرأ ثانيًا يجب ثانيًا.
وفي " المرغيناني " لو تلاها ثم سبح أو هلل كثيرًا ثم تلاها يكفيه سجدة، وفيه ولا يجوز أداؤها في الأوقات المكروهة، إلا يقرأها فيها، فإن قرأها في وقت مكروه سجدها في وقت غير مكروه.
قيل: يجوز، وقيل: لا يجوز، وقيل: إن قرأها عند الطلوع وسجدها عند الغروب يجوز ولا يجوز العكس.
وفي الأصل إذ قرأ سجدة في آخر السورة في صلاته إن كان بعدها آية أو آيتان إلى آخر السورة إن شاء ركع وإن شاء سجد، يعني إن شاء ركع لها ركوعًا على حدة، وإن شاء سجد لها سجدة على حدة والسجدة أفضل، وإن سجد يعود إلى القيام، لأنه يحتاج إلى الركوع ويقرأ بنفسه السورة ثم يركع وإن شاء ضم إليها آية من السورة الأخرى حتى يصير ثلاث آيات، ويكره لو لم يقم بعدها شيئًا إلى الركوع يحتاج إلى النية لمخالفة بينهما، وفي السجدة لا يحتاج إليها.
وقيل: إن شاء أقام ركوع الصلاة مقام سجدة التلاوة، نقله عن أبي حنيفة وأبي يوسف.
وروى الحسن عن أبي حنيفة ما يدل على أن سجدة الركعة تنوب عن سجدة التلاوة، وقد روي عنه إذا كانت السجدة في آخر السورة كالأعراف والنجم أو قريبًا منه كبني إسرائيل وانشقت، فركع حين فرغ من السورة أجزأته سجدة الركعة عن التلاوة.
واختلف المشايخ فيما إذا ركع وسجد للصلاة دون التلاوة فالركوع ينوب عنها أو سجدة الصلاة قبل الركوع لقربه منها، ثم اتفقوا على أن الركوع لا ينوب عن السجدة بدون النية، واختلفوا في السجود.
قال ابن سماعة وجماعة من أئمة بلخ: لا ينوب ما لم ينوب في ركوعه أو بعد استوائه قائمًا إذا سجد لصلاته وتلاوته.(2/679)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال غيرهم: إن النية فيها ليست بشرط، والصلاتية أقوى فتنوب عنهما، كذا في " الذخيرة " وفي " المحيط " لو لم ينو في السجود لم يجزه، نص عليه في " النوادر "، لأن الصلاتية تخالفها حكمًا فلا ينوب عنها شيئًا إلا بالنية.
وقيل: يجوز بدون النية، وروى الحسن عن أبي حنيفة أن السجود ينوب دون الركوع وفي المبسوط الأصح أن سجدة الصلاة تنوب عنها دون الركوع.
وفي قاضي خان وقال عامة المشايخ: لا يحتاج إلى النية، وتصير مؤادة بالصلاتية لأنها أقوى، إلا إذا انقطع العود فيحتاج إلى النية، وإن كان بعدها ثلاث آيات إلى آخر السورة، أو كانت في آخر السورة، أو كانت في وسط السورة فالحكم في هذا كله ما ذكرناه.
فلو أنه لم يركع لها ولم يسجد لها في هذه الوجوه على الفور، ولكن قرأ ربعًا من السورة أو خرج إلى سورة أخرى فقرأ منها شيئًا إن قرأ بعدها ثلاث آيات، أو كانت السجدة في وسط السورة لم يجزئه الركوع وسجدة الصلاة عن التلاوة، لأنها صارت دينًا عليه لفوات محلها، وفي الأصل والبحر أن الآيات الثلاث إنما تصير فاصلة ومانعة وقوع الركوع والسجود عن التلاوة، وإذا كانت في وسط السورة ولا تصير مانعة في آخرها.
وفي "المرغيناني " عن شيخ الإسلام إذا قرأ ثلاث آيات بعدها سقط العود ولا ينوب الركوع عن التلاوة، وقال الحلواني: لا ينقطع ما لم يقرأ أكثر من ثلاث آيات، وكذا في قاضي خان.
وفي " جوامع الفقه ": ينوي بها عند الركوع، ولو قرأها في الركوع اختلفوا فيه وبعدما رفع رأسه لا يجوز إلا رواية عن أبي حنيفة، ولا ينبغي للإمام أن يقرأ سجدة في صلاة لا يجهر بها، لأنه إذا لم يسجد يصير تاركًا للواجب، وإن سجد يظن القوم أنها صلاتية يأتي بها قبل الركوع فلا يتابعونه.
يشترط في السجد الطهارة من الأحداث والأنجاس بدنًا ومكانًا وثيابًا، وستر العورة واستقبال القبلة والنية، وكل ما يفسد الصلاة يفسدها. وفي " المفيد " المحاذاة لا يفسدها.
وفي رواية ابن السكن عن ابن عمر أنه كان يسجد على غير وضوء. وعن الشعبي مثله، وفي " مصنف ابن أبي شيبة " عن عثمان بن عفان وابن المسيب أن الحائض تومئ برأسها. قال ابن المسيب ويقول اللهم لك سجدت، هذا خلاف ما عليه الجمهور من أصحاب المذاهب الأربعة.
وعن النخعي في رواية يتمم ثم يسجد كما في الجنازة، وذكر ابن بطال عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن أنه يشترط فيها استقبال القبلة، وقال ابن المنذر: وقد روينا عن الشعبي أنه كان يسجد حيث كان وجهه ذكره في "الأشراف "، وفي " خزانة الأكمل " لو سجدها بغير القبلة جهلًا(2/680)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جازت، وذكر ابن تيمية الحنبلي أن القارئ إذا كان محدثًا، لم يسجد ولم يقضها إذا توضأ، وكذا المستمع، وكذا المتطهر إذا طال الفصل، وقال الثوري: إن لم يسجد وطال الفصل لم يسجد، ويروى ذلك عن النخعي والأوزاعي، وعندنا يسجد إذا توضأ، وبه قال مكحول والثوري وإسحاق وجماعة.
وفي " مختصر البحر " يستحب تقدم التالي في السجود على السامعين، ويصطف السامعون خلفه ولا يرفعون رؤوسهم قبله، فإذا سجد التالي يسجدون معه حيث كانوا، وفي "جوامع الفقه " خلفه أو قدامه ولا يرون تسوية الصف خلفه.
وفي خزانة الأكمل: لا يرفع السامع رأسه قبل التالي استحسانًا ومثله في " المبسوط " وذكره النووي أنه لا ينوي الاقتداء به والرفع قبله ولو ذهب التالي ولم يسجد سجد السامع، وبه قال الشافعي، ولو قرأ على المنبر إن شاء سجد عليه، وإن شاء نزل وسجد على الأرض، وفي الأصل إمام صلى وقرأ سجدة ونسي أن يسجد بها فتذكر ذلك وهو راكع يخر ساجدًا لها ثم يقوم فيعود في ركوعه ويمضي في صلاته، وعليه سجدتا السهو.
وفي " الذخيرة " عن السعدي أن المصلي إذا تلا آية السجدة ونسي أن يسجدها فليس عليه سهو، وفيه رأى الأبكم والأصم [....] يسجد والتلاوة لا يجب عليه أن يسجدها.
مسألة غريبة: ذكرها في " عدة المفتي " رجل صلى الفجر بعشرين سجدة كيف هذا، قال الشهيد: هذا رجل أدرك الإمام في السجدة في الركعة الثانية، وعلى الإمام سهو فسجد سجدتين، ثم تذكر الإمام أنه ترك سجدة تلاوة فسجد لها ثم تشهد وسجد للسهو ثم أقام المسبوق وقرأ آية السجدة، ونسي أن يسجد لها وسجد سجدتي الركعة الثانية، ثم تذكر أنه قعد بين الركعتين ناسيًا فسجد سجدتين ثم تذكر سجدة التلاوة، فسجد لها ثم تشهد وسلم وسجد للسهو سجدتين والله أعلم.
ولو سبقه الحدث فيها توضأ وأعاد، قيل: هذا قول محمد، وعند أبي يوسف لا يعيدها لتمامها بالوضع عنده، ولو قرأها على الدابة يومئ لها، قال الحلواني: هذا في خارج المصر، فإن كان في المصر فأولى لتلاوته لا يجزئه في قول أبي حنيفة، ولو تلاها المصلي للراكب مرارًا في ركعة، والدابة تسير ورجل يسوقها فعلى التالي واحدة، وعلى السائق لكل تلاوة سجدة.
وفي "المنتقى ": لو كان كل واحد منهما على دابة يصلي فقرأها كل واحد مرارًا يصلي كل واحد منهما بتلاوته سجدة، وتلاوة صاحبه بعدد قراءتها على الدابة، ولو ضحك في سجدة التلاوة يكون حدثًا.(2/681)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المجتبى " يعيدها ولا يعيد الوضوء وأداؤها في الصلاة على الفور، وكذا خارجها عند أبي يوسف وعند محمد والكرخي على التراخي، ثم على رواية الفور مثل مباح الاشتغال بالحوائج، ولا يباح التأخير عند النزاع والاستطاعة، والصحيح خلافه، وذكر الطحاوي أن تأخيرها مكروه مطلقًا، والمرأة تصلح إمامًا للرجل فيها.
وفي " المبسوط " لم يذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ماذا يقول في سجوده، والأصح أن يقول في سجوده من التسبيح ما يقول في سجود الصلاة وبه قال الشافعي، واستحسنوا أن يقوم فيسجد، لأن الخرور سقوط من القيام، والقرآن ورد به، وإن لم يفعل فلا يضر به.
وفي " المجتبى " وإن أتى بغير تسبيح الصلاة جاز، وذكر أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في سجود القرآن: "سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته» ، وعن ابن عمر أنه كان يقول في "سجوده اللهم لك سجد سوادي ربك آمن فؤادي، اللهم ارزقني علما ينفعني، وعملا يرفعني"، وعن قتادة أنه كان يقول إذا قرأ السجدة: سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولًا، سبحان الله وبحمده ثلاثًا، وعن عبد الله أنه كان يقول في سجوده: لبيك وسعديك والخير في يديك، وعن داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه كان يقول: سجد وجهي مستغفرًا في التراب خالقي، وحق له.
تم المجلد الثاني من تجزئة المحقق
يليه المجلد الثالث أوله: "باب صلاة المسافر"
`(2/682)
باب صلاة المسافر
السفر الذي يتغير به الأحكام أن يقصد الإنسان مسيرة ثلاثة أيام ولياليها سير الإبل ومشي الأقدام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب صلاة المسافر]
م: (باب صلاة المسافر) ش: أي: هذا باب في بيان أحكام صلاة المسافر، والإضافة فيه إضافة المفعول إلى فاعله، والمسافر في باب المفاعلة في السفر، وهو الكشف، إذ الطريق تكشف للمسافر، والأصل في المفاعلة أن يكون الفعل بين اثنين، وقد يستعمل في حق الواحد أيضا، وهو من هذا القبيل، كما في قَوْله تَعَالَى: {وَسَارِعُوا} [آل عمران: 133] بمعنى أسرعوا، وجه المناسبة بين البابين من حيث وجود النقص فيهما، وهو ظاهر، والذي ذكره الشراح هاهنا بمعزل من الوجه على ما لا يخفى.
[السفر الذي يتغير به الأحكام]
م: (السفر الذي يتغير به الأحكام أن يقصد الإنسان مسيرة ثلاثة أيام، ولياليها) ش: السفر في اللغة: قطع المسافة، وليس بمراد هاهنا، بل المراد قطع خاص، وهو الذي قاله بقوله - الذي يتغير به الأحكام- أراد بتغير الأحكام قصر الصلاة، والإفطار، والمسح ثلاثة أيام ولياليها، وسقوط الجمعة، والعيدين، وسقوط الأضحية، وحرمة الخروج على الحرة بغير محرم.
وكلمة - أن- في أن يقصد مصدرية في محل الرفع؛ لأنه خبر المبتدأ، أعني السفر، والقصد هو الإرادة الحادثة المقارنة لما عزم، وقيد به لأنه لو طاف جميع العالم بلا قصد سيرا بالأقدام لا يكون مسافرا، ولو قصد ولم يظهر ذلك بالنية فكذلك، فكان المعتبر في حق تغير الأحكام اجتماعهما.
فإن قلت: الإقامة تثبت بمجرد النية، فما بال السفر، وهو لم يجعل بمجردها، وقال الأترازي: إذا جاوز بيوت المصر غير قاصد لمدة السفر لا يكون مسافرا، كذا إذا جاوزها وهو يقصد ما دون مدة السفر، وكذا إذا قصد مدة السفر ولم يجاوز بيوت المصر لا يكون مسافرا، لأن مجرد العزم لا يعتبر ما لم يتصل الفعل به، فمن هذا عرفت أن صاحب " الهداية ": تسامح حيث لم يذكر فيه مجاوزة بيوت المصر.
قلت: المصنف في صدد تعريف السفر، والذي ذكر شرط لغيره، وسيجيء إن شاء الله تعالى.
م: (سير الإبل) ش: بالنصب على أنه بدل من قوله على أنه مسيرة، أو على عطف البيان، وقد عظم السغناقي في إعراب هذا الموضع، حيث قال بالنصب في سير الإبل، هكذا سمعت من الشيخ، ووجدته مقيدا بخطه.
قلت: يجوز أن يكون منصوبا بتقدير أعني سير الإبل، ويجوز أن يكون مرفوعا على أنه خبر المبتدأ المحذوف، تقديره هي سير الإبل. م: (ومشي الأقدام) ش: بالنصب أيضا عطفا على ما قبله.(3/3)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويجوز الوجهان المذكوران أيضا، ولا يراد بالسير السير ليلا ونهارا، وإنما المراد السير نهارا؛ لأن الليل للاستراحة، وليس الشرط ذهابه من الفجر إلى الفجر. لأن الآدمي لا يطيق ذلك، وكذا الدابة لا تطيق المشي في بعض النهار، ونزوله للاستراحة ملحق بالسير في حق تكميل مدة السفر.
وفي هذا الموضع اختلاف كثير، فقال أصحابنا والكوفيون: أقل مسافة يقصر فيها الصلاة مسيرة ثلاثة أيام، ولياليهن بسير الإبل، ومشي الأقدام في أقصر أيام الشتاء أو على سير البريد، وإبطاؤه العجل، والوسط هو المذكور، وهو سير القافلة.
وفي " التحفة ": هذا جواب ظاهر الرواية. وفي " المفيد ": لو سلك طريق هي ميسرة ثلاثة أيام، وأمكنه أن يصل في يوم من طريق آخر قصر، وقدر أبو يوسف بيومين وأكثر الثلاث، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة، ورواية ابن سماعة عن محمد، وفي " المحيط " و" التحفة ": وهو رواية عن أبي يوسف، ومحمد، وأكثر اليوم الثالث أن يبلغ مقصده بعد الزوال في اليوم الثالث، وذكره الأسبيجابي.
وقال المرغيناني: وعامة المشايخ قدروها بالفراسخ، فقيل: أحد وعشرون فرسخا، وقيل: ثمانية عشر فرسخا، قال المرغيناني: وعليه الفتوى، وفي " جوامع الفقه ": وهو المختار، وقيل: خمسة عشر فرسخا، وما ذكره المصنف هو مذهب عثمان، وابن مسعود، وسويد بن غفلة، وفي " التمهيد ": وحذيفة اليماني، وأبي قلابة، شريك بن عبد الله، وابن جبير، وابن سيرين، والشعبي، والنخعي، والثوري، والحسن بن حي، وحكى صاحب " المبسوط " عن ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مثل مذهبنا، والصحيح عن ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - غير ذلك، وروى البخاري أن ابن عباس، وابن عمر كانا يقصران في أربعة من وجوه:
الأول: أن ذلك ليس حديثا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما هو فعلهما، والشافعي لا يرى فعل أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجة، فكيف يعمل به؟
الثاني: أن غيرهما من الصحابة.
الثالث: أنه قد اختلف عنهما في ذلك أشد اختلاف، روى أيوب، وحميد بن جريج، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه لا يقصر في أقل من ستة وتسعين ميلا.
الرابع: أنه لم يذكر أنه منع في أقل من أربعة برد، وروي عن حفص بن عاصم وهو أولى من نافع أنه قصر في ثمانية عشر ميلا، ذكر ذلك الحافظ أبو جعفر، والجواب عن الحديث أنه يروونه عن إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف عن عبد الوهاب بن مجاهد، وعبد الوهاب أشد(3/4)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يمسح المقيم كمال يوم وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» عمت الرخصة الجنس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ضعفا منه، قال يحيى، وأحمد: ليس بشيء، وقال الثوري: كذاب، وقال النسائي: متروك الحديث.
وقال النووي: قال أبو حامد، وصاحبا المسائل، والبيان وغيرهم: للشافعي سبعة نصوص في مسافة القصر، قال في موضع: ثمانية وأربعون ميلا، وقال في موضع: ستة وأربعون ميلا، وفي موضع: أكثر من أربعين ميلا، وفي موضع: أربعون ميلا، وفي موضع: يومان، وفي موضع: ليلتان، وفي موضع: يوم وليلة، وأصحابه ركبوا الشطط في التوفيق بين الأقوال، واستحب الشافعي أن لا يقصر في أقل من ثلاثة أيام ولياليهن لأجل مذهب أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حتى يخرج من الخلاف.
ولفظ " المحلى " في " مختصر المزني ": فأما أنا فأحب أن لا أقصر في أقل من ثلاثة أيام احتياطا على نفسي. قال أبو الطيب: وهذا كقوله في الصلاة خلف المريض قائما، والأفضل أن يستخلف صحيحا يصلي بهم حتى يخرج من الخلاف، وكقوله إذا حلف الأفضل أن لا يكفر بالمال لا بعد الحنث لتخرج من الخلاف، وقال الأوزاعي: يقصر في يوم تام، قال ابن المنذر في " الأشراف ": وبه أقول. وحكى ابن حزم في " المحلى ": عن أبي وائل شقيق بن سلمة أنه سئل عن القصر من الكوفة إلى واسط، فقال: لا يقصر الصلاة في ذلك، وبينهما مائة وخمسون ميلا، وعن الحسن بن حي في رواية: لا قصر في أقل من اثنين وثمانين ميلا، كما من الكوفة وبغداد.
وذكر في " التمهيد ": عن داود الظاهري أنه يقصر في طول السفر وقصره، وقال أبو حامد: حتى لو خرج إلى بستان له خارج البلد قصر. وفي "المبسوط "، قال: فمناط القياس لا تقدير فيه، بل العمل بإطلاق القرآن. وفي " المحلى ": أنه لا يقصر في أقل من ميل عند الظاهرية وهو منهم، فإطلاق أبي عمر في " التمهيد "، وإطلاق أبي حامد، وشمس الأئمة غير صحيح، فإن ابن حزم أخبر بمذهبه من غير أهل مذهبه.
م: «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يمسح المقيم كمال يوم وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها) » ش: الحديث صحيح وقد مر الكلام عليه مستوفى في باب المسح على الخفين، وأما وجه الاستدلال به فهو قوله. م: (عمت الرخصة الجنس) ش: عمت رخصة المسح ثلاثة أيام ولياليها الجنس، وهو جميع المسافرين، وقوله الرخصة مرفوع بإسناده إلى "عم"، والجنس منصوب لأنه مفعول، بيان ذلك أن الألف واللام في قوله - والمسافر- لا يخلو إما أن يكون المراد المعهود أو الجنس والمعهود منتف، فتعين الجنس، وهو أن يكون المسافر شاملا لجميع المسافرين فلا يكون القاصد لما دون ثلاثة أيام ولياليها(3/5)
ومن ضرورته عموم التقدير، وقدره أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيومين وأكثر اليوم الثالث،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مسافرا، ولو كان مسافرا يلزم أن لا تكون اللام للجنس وهو فاسد، فإذا كان للجنس لعدم المعهود تكون الرخصة عمت بالنسبة إلى من هو من هذا الجنس، وذلك يستلزم أن يكون التقدير بثلاثة أيام أيضا عمت بالنسبة إلى ذلك، وإلا لكان نقيضه صادقا وهو بعض من هو مسافر لا يمسح ثلاثة أيام ويلزم الكذب المحال على الشارع إن كانت الجملة خبرية أو عدم الامتثال لأمره إن كانت طلبية، وذلك لا يجوز لما ثبت أن اللام للجنس ثبت من ضرورته.
وهو معنى قوله م: (ومن ضرورته عموم التقدير) ش: أي: ومن ضرورة الجنس التقدير بثلاثة أيام في حق كل مسافر لما ذكرنا، ويقال: إن النص يقتضي أن كل من صدق عليه أنه مسافر يشرع له مسح ثلاثة أيام، كما أن كل من صدق عليه أنه مقيم يشرع مسح يوم وليلة بمقتضى اللام، ويقال: إن قوله: المسافر يقتضي، أن السفر هو العلة للقصر، فكلما تحقق السفر تحقق المسح ثلاثة أيام، ولياليهن، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] (النور: الآية 2) .
فإن قلت: عموم التقدير في المدة إنما يلزم من عموم الرخصة الجنس إذا كان قوله: ثلاثة أيام ظرفا بقوله: يمسح لا للمسافر.
قلت: لو جاز في قوله يوما، وليلة أن يقع ظرفا لقوله للمقيم لا لقوله يمسح، لأنه إلى نسق واحد، فحينئذ يفسد المعنى لأنه يكون معناه المقيم يوما، وليلة يمسح وغيره لا كما إذا قال ما قام شهرا، أو سنة، أو سنتين مثلا، فإذا كان كذلك، قلنا: الحرف للفعل لا للفاعل في الوجهين.
فإن قلت: هب أن الظرفية للفاعل، ولا يلزم ما ذكرتم؛ لأنا نجد دليلا، يجوز مسح المسافر يوما، وليلة، أو أقل، وهو ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يا أهل مكة: لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى غطفان» .
قلت: قد ذكرنا هذا الحديث، وفيه ما يرده.
فإن قلت: هذا متروك الظاهر؛ لأن ظاهره يقتضي استيفاء مدة ثلاثة أيام ولياليها، وذلك ليس بشرط بالاتفاق.
قلت: المتروك للاستراحة ملحق بالسير في حق تكميل مدة السفر تيسيرا على ما ذكرناه.
م: (وقدره أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قدر أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحد في مدة السفر، وفي أكثر النسخ، وقدر بلا ضمير منصوب، والتقدير: وقدر أبو يوسف مدة السفر. م: (بيومين، وأكثر اليوم الثالث) ش: وهو رواية المعلى، عن أبي يوسف، ووجهه: أن الإنسان قد يسافر مسيرة ثلاثة أيام، فيعجل السير فيبلغ قبل الوقت بساعة، لا بعد بذلك.(3/6)
والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيوم وليلة في قول، وكفى بالسنة حجة عليهما، والسير المذكور هو الوسط،
وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - التقدير بالمراحل وهو قريب من الأول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيوم وليلة في قول) ش: أي وقدر الشافعي مدة السفر بيوم وليلة في أحد أقواله، وقد ذكرنا أن له أقوالا سبعة. وقال الأكمل: وربما يستدل على ذلك بحديث عبد الوهاب.
قلت: نسبة هذا الاستدلال إلى الشافعي لا وجه له؛ لأن في حديث عبد الوهاب بن مجاهد أربعة برد، وهو يومان.
م: (وكفى بالسنة حجة عليهما) ش: الباء زائدة، أي: كفى بالسنة حجة على أبي يوسف، والشافعي، وأراد بالسنة الحديث المذكور، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يمسح المقيم يوما وليلة» ... " الحديث، وكون هذا الحديث حجة عليهما غير ظاهر.
وأما أبو يوسف، فإن حكم ما قاله أبو يوسف ثلاثة أيام، على أن هذه رواية عنده، وأما الشافعي فإن له أقوالا في هذا كما ذكرنا، وقوله: المضمر عليه يومان.
م: (والسير المذكور هو الوسط) ش: لأن أعجل السير سير بريد، وأبطأه سير العجلة، وخير الأمور أوسطها، وفسره في " الجامع الصغير ": بمشي الأقدام، وسير الإبل، لأنه الأوسط.
وفي " المبسوط ": مسيرة ثلاثة أيام مع الاستراحات التي يتخللها من أقصر أيام السنة، وهذا مذهب ابن عباس، وأحد الروايتين عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وذلك لأنهم لم يريدوا من مسيرة ثلاثة أيام ولياليها أن يكون ليلا ونهارا على ما ذكرناه عن قريب.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - التقدير بالمراحل) ش: يعني روي عن أبي حنيفة أن مدة السفر تعتبر بثلاث مراحل، وهو جمع مرحلة. م: (وهو قريب من الأول) ش: أي التقدير بالمراحل قريب من التقدير بثلاثة أيام ولياليها، لأن المعتاد في كل يوم من السير مرحلة واحدة، خصوصا في أقصر أيام السنة.
فإن قلت: يشكل مسألة ذكرها في " المحيط " على اشتراط مسيرة ثلاثة أيام، وثلاث مراحل تمسكا بالحديث المذكور، وهو أن المسافر إذا بكر في اليوم الأول، ومشى إلى وقت الزوال حتى بلغ المرحلة، فنزل فيها للاستراحة، وبات فيها، ثم بكر في اليوم الثاني، ومشى إلى ما بعد الزوال، ونزل فيها للاستراحة، وبات فيها، ثم بكر في اليوم الثالث، ومشى إلى وقت الزوال، فبلغ إلى المقصود. وقال شمس الأئمة: الصحيح أنه يصير مسافرا عند النية، ومعلوم أنه لا يتمكن من استيفاء مسح ثلاثة أيام في هذه المسألة؛ لأنها ليست بثلاثة أيام كاملة، ومع ذلك إنه مسافر.(3/7)
ولا معتبر بالفراسخ هو الصحيح، ولا يعتبر السير في الماء، معناه لا يعتبر به السير في البر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: إنه لم يتمكن حقيقة فقد تمكن منه تقديرا؛ لأن النزول للاستراحة محلق بالسير في حق تكميل مدة السفر.
م: (ولا معتبر بالفراسخ) ش: أراد أنه لا عبرة في تقدير المدة بالفراسخ، واحترز بقوله: م: (هو الصحيح) ش: عن قول بعض المشايخ، فإنهم قدروها بالفراسخ، ثم اختلفوا فيما بينهم، فقيل: أحد وعشرون فرسخا، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: خمسة عشر، وفي " الدراية ": والفتوى على ثمانية عشر، لأنها أوسع الأعداد.
وفي " جوامع الفقه ": هو المختار. وفي " المجتبى ": وفتوى أكثر أئمة خوارزم على خمسة عشر، وفي " الأربعين " للبقالي: السفر اثنا عشر فرسخا. وفي " جوامع التاجري ": قريب من هذا.
وقال المرغيناني: وعامة المشايخ قدروها بالفراسخ، وهو جمع فرسخ، وهو فارسي معرب، وهو اثنا عشر ألف خطوة، وستة وثلاثون ألف قدم، والخطوة ذراع ونصف بذراع العامة، وذلك أربعة وعشرون أصبعا بعدد حروف "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، والميل ثلاث فراسخ، وفي " الذخيرة " للقرافي: الميل في الأرض منتهى مد البصر، لأن البصر يميل فيه على وجه الأرض حتى يقع إدراكه، وفيه سبعة مذاهب.
وقال صاحب " التنبيهات ": هو عشر غلاء، والغلوة طلق الفرس، وهو مائتا ذراع، فيكون الميل ألف ذراع، وفي " المغرب ": الغلوة ثلاثمائة ذراع.
الثالث: ثلاثة آلاف ذراع، نقله صاحب " البيان ".
الرابع: أربعة آلاف ذراع.
الخامس: مد البصر ذكره الجوهري.
السادس: ألف خطوة بخطوة الجمل.
السابع: أن ينظر إلى الشخص، فلا يعلم، أهو آت أم ذاهب، أرجل هو أم امرأة.
م: (ولا يعتبر السير في الماء) ش: هذا كلام القدوري، وفسره المصنف بقوله: م: (معناه لا يعتبر به السير في البر) ش: الضمير في "به" يرجع إلى السير في الماء، يعني: لا يعتبر سير البر بسير الماء، بيانه فيما إذا قصد إلى موضع له طريقان، أحدهما من البر، والآخر من البحر، ومن طريق البر، مسيرة ثلاثة أيام، ومن طريق البحر، أقل من ذلك، فلو سلك من طريق البر، يترخص ترخص المسافرين، ولو سلك طريق البحر، لا يترخص ولا يعتبر أحدهما بالآخر، والمعتبر في(3/8)
فأما المعتبر في البحر فما يليق بحاله كما في الجبل.
قال: وفرض المسافر في الرباعية ركعتان لا يزيد عليهما. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فرضه الأربع والقصر رخصة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البحر ما يليق بحاله، وهو معنى قوله: م: (فأما المعتبر في البحر فما يليق بحاله) ش: يعني يعتبر السير فيه ثلاثة أيام ولياليها، بعد أن كانت الريح مستوية لا ساكنة ولا عالية. م: (كما في الجبل) ش: فإنه يعتبر فيه ثلاثة أيام.
[فرض المسافر في الرباعية]
م: (قال) . ش: أي القدوري. م: (وفرض المسافر في الرباعية ركعتان) ش: قيد الفرض احترازا عن السنن؛ إذ لا يتصف فيها، وقيد الرباعية احترازا عن الفجر، والمغرب، والوتر، فإنها لا تصف. م: لا يزيد عليهما) ش: أي على الركعتين، وقال عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الصلاة في السفر ركعتان لا يصح غيرهما.
وقال الأوزاعي: إن قام إلى الثالثة فإنه يكفيها، ويسجد سجدتي السهو، وقال الحسن بن حي: إذا صلى أربعا متعمدا أعادها، إذا كان ذلك منه الشيء اليسير، فإن طال ذلك منه، وكثر سفره لم يعد، وقال ابن أبي سليمان: إن صلى أربعا متعمدا يعيد، وإن كان ساهيا لا يعيد.
ومذهبنا القصر وهو فرض المسافر المتعين، وبه قال عمر، وعلي، وابن مسعود، وجابر، وابن عباس، وابن عمر، والثوري، وحماد بن أبي سليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال الأثرم: قلت: لأحمد للرجل أن يصلي أربعا في السفر. قال: لا، ما يعجبني.
وحكى ابن المنذر في " الأشراف ": أن أحمد قال: أنا أحب العافية عن هذه المسألة، وقال البغوي: هذا قول أكثر العلماء. وقال الخطابي: الأولى القصر ليخرج من الخلاف.
وقال الترمذي: العمل على ما فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو القصر، وهو قول محمد بن سحنون، وقد اختاره القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي، وهو رواية عن مالك وأحمد، حكاهما ابن المنذر.
م: (وقال الشافعي: فرضه الأربع) ش: أي فرض المسافر أربع ركعات، وبه قال مالك، وأحمد في رواية. م: (والقصر رخصة) ش: أي قصر المسافر صلاته رخصة، وهي في اللغة عبارة عن الإطلاق، والسهولة، وفي الشريعة: ما يكون ثابتا ابتداء على أعذار العباد تيسيرا، وعنه: القصر عزيمة، وهي في اللغة عبارة عن الإرادة المدركة، دل على ذلك قَوْله تَعَالَى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] [طه: الآية: 115] ، أي قصدا بليغا، وفي الشريعة: ما يكون ثابتا غير متصل بعارض، فسمي عزيمة.
وقال صاحب "المجمع ": ونرى القصر عزيمة لا رخصة.
وفي " المبسوط ": القصر عزيمة في حق المسافر عندنا. وقال الأترازي: فيه اختلاف(3/9)
اعتبارا بالصوم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المشايخ، رفعا منهم على أنه رخصة. وقال صاحب " التحفة ": هو عزيمة. والأكمل مكروه، وقال الشافعي: إنه مخير بين القصر، والإتمام، لكن الإتمام أفضل، وفائدة الخلاف تظهر في افتراض القعدة على رأس الركعتين من الرباعية حتى لو قام إلى الثالثة من غير قصده فسدت صلاته عندنا، ولو أتم صلاته فقد أساء لتأخير السلام.
احتج الشافعي، ومن قال بمذهبه بقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] (النساء: الآية 101) ، وأنه شرع القصر بلفظ: فليس عليكم جناح، وهو يذكر للإباحة لا للوجوب، كما قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] (البقرة: الآية 236) ، فدل أن القصر مباح، ولما كان مباحا كان المسافر فيه بالخيار، وبما روه مسلم والأربعة «عن يعلى بن أمية.
قال: قلت لعمر بن الخطاب: قال الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] (النساء: الآية 101) ، فإن خفتم فقد أمن الناس، قال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» فقد علق القصر بالقبول، وسماه صدقة، والمتصدق عليه مخير في قبول الصدقة، فلا يلزمه القبول حتما، وبما «روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سافرت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما رجعت قال: يا عائشة ما صنعت في سفرك، ما أتممت الذي قصرت، وصمت الذي أفطرت، فقال: "أحسنت» ولأن هذا رخصة شرعت للمسافر فيتخير فيه.
م: (اعتبارا بالصوم) ش: فإن الصيام يتخير فيه في السفر، ولأنه لو اقتدى بالمقيم يصير فرضه أربعا، ولو كان فرضه ركعتين لا يتغير بالاقتداء بالمقيم كما في الفجر، ولنا أحاديث، منها حديث عائشة، قالت: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقصرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر» رواه البخاري ومسلم.
ومنها حديث «ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة» .
ورواه الطبراني في "معجمه " بلفظ: «افترض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين في السفر، كما افترض في الحضر أربعا» .
ومنها حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «صلاة السفر ركعتان، وصلاة الضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر على لسان محمد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» ،(3/10)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رواه النسائي، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه ".
ومنها «حديث ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتانا ونحن ضلال، فعلمنا، فكان فيما علمنا أن الله - عز وجل- أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر» رواه النسائي.
ومنها: حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المتمم الصلاة في السفر كالمقصر في الحضر» رواه الدارقطني في "سننه".
والجواب عن تعلقه بالآية أن المراد من القصر المذكور فيها هو القصر في الأوصاف من ترك القيام إلى القعود أو ترك الركوع أو السجود إلى الإيماء لخوف العدو، بدليل أنه علق ذلك بالخوف، إذ قصر الصلاة غير متعلق بالخوف بالإجماع، بل متعلق بالسفر، وعندنا قصر الأوصاف عند الخوف مباح، لا واجب، مع أن رفع الجناح في النص لدفع توهم النقصان، فرفع ذلك عنهم في صلاتهم بسبب روايتهم على الإتمام في الحضر، وذلك مظنة توهم النقصان، فرفع ذلك عنهم.
والجواب عن حديث يعلى بن أمية أنه دليلنا لأنه أمرنا بالقبول، والأمر للوجوب، ولأن هذه صدقة واجبة في الذمة، فليس له حكم المالي، فيكون إسقاطا محضا ولا يرتد بالرد كالصدقة بالقصاص، والطلاق، والعتاق، يكون إسقاطا لا ترتد بالرد.
فإن قلت: خياره في قبول الصدقة بمنزلة رجل له قبل آخر أربعة دراهم فتصدق عليه بدرهمين، فإن المتصدق عليه إن شاء قبل الصدقة، فيبقى عليه درهمان، وإن شاء رد الصدقة، فيكون عليه الأربع، فكذا هذا.
قلت: هذا يكون نصب شريعة مفروضا إلى رأي العبد، كأن الله تعالى قال: اقصروا إن شئتم، وهذا لا نظير له، وأوامر الله من ندب وإباحة ووجوب نافذة بنفسها غير متعلقة برأي العبد.
والجواب عن حديث عائشة: أن الروايات متعارضة عنها، فالتعلق بها غير مستقيم، وقيل: هو محمول على إتمام الأركان، وكذا كل ما جاء في الأخبار من الإتمام، بدليل ما روي في(3/11)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حديث مشهور «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر بأهل مكة عام حجة الوداع ركعتين، ثم أمر مناديا ينادي بأهل مكة: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر» .
ولو كن فرض المسافر أربعا لم يخير منهم فضيلة الجماعة معه. وأما اعتبارنا بالصوم فسيأتي جوابه عن قريب إن شاء الله تعالى.
وأما قوله: ولأنه لو اقتدى بالمقيم.... إلخ، فينقض بظهر المقيم، فإن فرضه بدون المقيم أربع، وسبب القوم وهو الجماعة يصير ركعتين وهو الجمعة، كذا ذكره شيخ الإسلام.
فإن قلت: في " صحيح البخاري ": صلى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بمنى أربع ركعات.
قلت: لما «قيل ذلك لعبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فاسترجع ثم قال صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ركعتين وصليت مع عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» قال أبو بكر الرازي: اعتمد عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إتمامه بأنه من أهل مكة، وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه إنما أتم؛ لأنه نوى الإقامة بمكة بعد الحج.
وقيل: فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا معه لئلا يظنوا أن فرض الصلاة ركعتين ابتداء حضرا وسفرا، وقيل: لأنه كان إمام المؤمنين فكأنه في منزله.
قلت: في كل ذلك نظر.
أما الأول: فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سافر بأزواجه وقصروا.
وأما الثاني: فلأن الإقامة بمكة حرام على المهاجر فوق ثلاث.
وأما الثالث: فإن هذا المعنى كان موجودا في زمان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بل انتهى أمر الصلاة في زمان عثمان أكثر مما كان.
وأما الرابع: فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أولى بذلك من عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكذلك أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وأحسن ما يقال في ذلك أنه رأى القصر جائزا والإتمام جائزا، فأخذ بأحد الجائزين، وكذلك يقال فيما فعلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - من الإتمام.(3/12)
ولنا أن الشفع الثاني لا يقضى ولا يؤثم على تركه، وهذا آية النافلة بخلاف الصوم لأنه يقضى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا أن الشفع الثاني لا يقضى) ش: أراد أن المسافر إذا لم يصل الشفع الثاني لا يَقْضي، قد يدل على أن الفرض ركعتان، إذ لو كان أربعا كان يجب عليه أن يقضي ركعتين. م: (ولا يؤثم على تركه) ش: أي ولا ينسب إلى الإثم على ترك الشفع كالنفل، ولا يؤثم على صيغة المجهول بالتشديد. م: (وهذا) ش: إشارة إلى كل واحد من عدم القضاء، وعدم التأثيم. م: (آية النافلة) ش: أي علامة النافلة.
فإن قلت: يشكل هذا بالزائد على قرابة آية، أو ثلاث، فإنه لو أتى به يثاب ويقع فرضا، وكذا من لا استطاعة له على الحج لو تركه لا يعاقب، ولا أتى به يثاب ويقع فرضا.
قلت: وقوع الفرض في الصورتين بعد الإتيان به بدليل آخر وهو تناول الأمر لمطلق الزيارة، وأما في الحج فلأنه أتى مكة صار مستطيعا فيفرض عيه، حتى لو تركه يأثم.
م: (بخلاف الصوم) ش: هذا جواب عن قياس الشافعي بالصوم حيث قال: اعتبارا بالصوم. وتقدير الجواب أن رخصة الصوم معناها سقوط وجوب الأداء في الحال على وجه يترتب عليه القضاء؛ ولهذا إذا لم يصم في السفر فإنه يقضي في الحضر، وهو معنى قوله: م: (لأنه يقضي) ش: أي لأن الصوم يُقضى إذا تركه. بخلاف الشفع فإنه لا يُقضى، فالقياس حينئذ باطل. وقد قال الأكمل: وفيه بحث من وجهين:
الأول: أن هذا تعليل في مقابلة النص؛ لأن الله تعالى قال: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] (النساء: الآية 101) ، ولفظ: لا جناح، يذكر للإباحة دون الواجب، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سماه صدقة، والمتصدق عليه بالخيار في القبول، وعدمه.
الثاني: أن الفقير لو لم يحج ليس عليه قضاء، ولا إثم، وإذا حج كان فرضا فلم يكن ما ذكرتم آية للنافلة.
قلت: الجواب عنهما، ما قصر عبادة وأحسنها، أما عن الأول: فإن القصر المذكور في الآية معقود بشرط الخوف بالاتفاق، إذ الخائف وغيره سواء في قصر السفر، أو نقول: ليس المراد منه قصر أعداد الركعات، بل المراد هو القصر في أوصاف الصلاة كما في الإيماء، أو لإباحة الاختلاف أو المشي في صلاة الخوف.
لأن مثله في غيرها يفسد الصلاة، فسماه قصرا، وأباح الصلاة معه، والتصدق بماله يحتمل التمليك من غير معترض الطاعة، والطاعة إسقاط لا يرتد بالرد، فلأن يكون من معترض الطاعة أولى.
وأما الجواب عن الثاني: ما ذكرناه عن قريب.(3/13)
وإن صلى أربعا وقعد في الثانية قدر التشهد أجزأته الأوليان عن الفرض، والأخريان له نافلة اعتبارا بالفجر، ويصير مسيئا لتأخير السلام، وإن لم يقعد في الثانية قدرها بطلت لاختلاط النافلة بها قبل إكمال أركانها، وإذا فارق المسافر بيوت المصر صلى ركعتين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن صلى) أي المسافر م: (أربعا) ش: أي أربع ركعات في الرباعية م: (وقعد في الثانية) ش: أي في الركعة الثانية م: (قدر التشهد أجزأته الأوليان عن الفرض) ش: يعني تجوز صلاته م: (والأخريان) ش: أي الركعتان الأخريان اللتان زادهما م: (له نافلة) ش: لأن فرضه ركعتان، وقد تم فرضه بالقعود، عقيب الشفع الأول، وبناء النفل على تحريمه الفرض يجوز، فصح، إلا أنه كره لترك التسليم م: (اعتبارا بالفجر) ش: يعني إذا صلى الفجر أربعا بعد القعدة الأولى تجزئه صلاته، وإلا فلا م: (ويصير مسيئا لتأخير السلام) ش: لأن إصابة السلام في آخر الصلاة واجب، فإذا تركها يأثم.
م: (وإن لم يقعد في الثانية قدرها) ش: أي قدر قعدة التشهد م: (بطلت) ش: أي صلاته، وعند الشافعي، ومالك، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا تبطل لما تقدم أن عندهم رخصة ترقيته م: (لاختلاط النافلة بها) ش: أي بصلاته التي شرع فيها م: (قبل إكمال أركانها) ش: لأن القعدة الأخيرة ركن وقد تركها.
فإن قلت: المسافر كما يحتاج إلى القعدة يحتاج إلى القراءة، فإذا لم يقرأ في الركعتين، وقام إلى الثالثة، ونوى الإقامة وقرأ في الأخريين جازت صلاته عندهما خلافا لمحمد فكيف يبطل بترك القعدة.
قلت: الكلام فيما إذا لم يقعد في الأولى، وأتم أربعا من غير نية الإقامة بخلاف ما إذا نوى الإقامة فإنه يصير فرضه أربعا، وتغني قراءته في الأخريين عن القراءة في الأوليين ولم تبق القعدة الأولى فرضا، وفي " المفيد" و" التحفة ": لو صلى أربعا وترك القراءة في الأوليين أو في أحدهما تفسد صلاته عندنا، وعند الشافعي لا تفسد، قلت: هذا لا يستقيم عند الشافعي؛ لأن القراءة ركن عنده في جميع الركعات.
م: (وإذا فارق المسافر بيوت المصر صلى ركعتين) ش: أي بيوت مصر صلى ركعتين من الرباعية. وفي " المبسوط ": يقصر حتى يخلف عمران المصر. وفي " الذخيرة " والمرغيناني: إن كانت له محلة مبتدأة من المصر، وكانت قبل ذلك متصلة بها، فإنه لا يقصر ما لم يجاوزها ويخلف دونها، بخلاف القرية التي تكون بعد المصر، فإنه يقصر، وإن لم يجاوزها.
وقال محمد في الأصل: ولا يصل المسافر ركعتين حتى يخلف المصر. وعن الحسن عن أبي حنيفة: من خرج من الكوفة يريد سفرا، فإذا جاوز الفرات وهو يريد بغداد قصر، وإن كان يريد مكة فحين يجاوز الأبيات، وإن كان في سفينة فحين يركبها إلا أن يكون في وسط المصر فيعتبر أن(3/14)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يجاوز البيوت.
وفي " جوامع الفقه ": إذا جاوز حيطان المصر قصر على ظاهر المذهب. وعن الحسن: فمن خرج مسافرا، وبقرب المصر قرية، فإن كان بينهما طول سكة لا يقصر ما لم يجاوز القرية، وإن كان أكثر قصر حين يخرج من العمران، وعلى هذا إذا كانت قرى متصلة ربض المصر لا يقصر ما لم يجاوزها، وإن كانت فراسخ، وعن بعضهم إذا جاوز الربض قصر.
وفي " المفيد "، و" التحفة ": المقيم إذا نوى السفر ومشى أو ركب لا يصير مسافرا ما لم يخرج عن عمران المصر؛ لأن بنية العمل لا يصير عاملا ما لم يعمل، كالصائم إذا نوى الفطر لا يصير مفطرا. وفي " المحيط ": والصحيح أنه يصير مفطرا، ويعتبر مجاوزة عمران المصر، إلا إذا كان ثم قرية أو قرى متصلة بأرض المصر، فإنه حينئذ يعتبر مجاوزة القرى، وذكر الإمام التمرتاشي، والأشبه أن يكون الانفصال عن المصر قدر غلوة فحينئذ يقصر.
فإن قلت: يشكل بصلاة الجمعة، والعيدين، فإنه يجوز إقامتهما في هذا المقدار، والجمعة لا تقام إلا في المصر.
قلت: فناء المصر إنما ألحق به فيما كان من حوائج أهله، والجمعة، وصلاة العيدين من حوائج أهله وقصر الصلاة ليس منها، واختلفوا في تقدير الفناء، فقدرها بعضهم بفرسخين، وبعضهم بثلاثة فراسخ، ذكره في " المحيط "، وقال شمس الأئمة السرخسي، والإمام خواهر زاده: والصحيح أن الفناء مقدر بالغلوة.
وقال الشافعي: في البلد يشترط مجاوزة السور لا مجاوزة الأبنية بالسور خارجه، وحكى الرافعي وجهين: المعتبر مجاوزة الدور، ورجح الرافعي هذا الوجه في " المجرد "، والأول في " الشرح "، وإن لم يكن في جهة خروجه سور، وكان في قرية يشترط مفارقة العمران. وفي " المغني " لابن قدامة: ليس لمن نوى السفر القصر، حتى يخرج من بيوت مصره أو قريته، ويخلفها وراء ظهره، قال: وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد والشافعي وإسحاق وأبو ثور، - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على هذا، وعن عطاء، وسليمان بن موسى، أنهما كانا يبيحان القصر في البلد لمن نوى السفر، وعن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا فصلى بالجماعة في منزله ركعتين، وفيهم الأسود بين يزيد، وغير واحد من أصحاب عبد الله، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وفي " الدراية ": والشرط عند الشافعي، ومالك، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أن لا يحاذيه عن يمينه، أو يساره شيء من البنيان، وفي رواية: أن يكون في المصر ثلاثة(3/15)
لأن الإقامة تتعلق بدخولها فيتعلق السفر بالخروج عنها، وفيه الأثر عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لو جاوزنا هذا الخص لقصرنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أميال، وحكي عن عطاء أنه قال: إذا دخل عليه وقت صلاة بعد خروجه من منزله قبل أن يفارق بيوت المصر يباح له القصر. وقال مجاهد: إذا ابتدأ السفر بالنهار لا يقصر حتى يدخل الليل، وإن ابتدأ بالليل لا يقصر حتى يدخل النهار.
وفي " المجتبى ": الدستاني: إذا سافر يقصر إذا جاوز بيوت القرية وحيطانها، وإن لم يكن قرية فالبيوت، وعند الشافعي: القروي إذا جاوز البابين والمزارع المحوطة يقصر، والبدوي إذا انفصل عن المحلة إذ المحلة كالحي، ويعتبر مع ذلك مجاوزة مواضعها كالمطرح المزاد، وملعب الصبيان ومعاطن الإبل.
م: (لأن الإقامة تتعلق بدخولها) ش: أي الإقامة من السفر تتعلق بدخول بيوت المصر م: (فيتعلق السفر بالخروج عنها) ش: أي عن بيوت المصر، لأن الشيء إذا تعلق بالشيء تعلق ضده بضده، وحكم الإقامة وهو الإتمام، لما تعلق هذا الموضع تعلق حكم السفر بالمجاوزة عنه، والمعتبر بالجانب الذي يخرج منه لا الجانب الذي بحذائه حتى لو خلف الأبنية التي في طريقه قصر، وإن كان بحذائه أبنية أخرى من جانب آخر من المصر. وقيل: يعتبر مجاوزته بفناء المصر، فإذا كان بينها وبين فنائها أقل من غلوة، ولو يكن بينهما مزرعة يعتبر مجاوزة الفناء وإلا لا يعتبر الفناء، بل يعتبر مجاوزة عمران المصر، وإن كانت قرية متصلة بربض المصر يعتبر مجاوزتها هو الصحيح، وإن كانت متصلة بفنائها لا بربضها يعتبر الفناء دون القرية. م: (وفيه الأثر) ش: أي فيما ذكرنا من أن حكم السفر بمفارقة بيوت المصر، الأثر عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، قال السغناقي: وهو المأثور عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وتبعه الأكمل وغيره في هذا.
قلت: رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" حدثنا عباد بن العوام عن داود بن أبي هند عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج من السفر فصلى الظهر أربعا، ثم قال: إنا لو جاوزنا هذا الخص لصلينا ركعتين، ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" أخبرنا سفيان الثوري عن داود بن أبي هند عن أبي حرب بن أبي الأسود أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما خرج من البصرة، فأتى خصا، فقال: لو جاوزنا هذا الخص لصلينا ركعتين، فقلت: وما الخص؟ قال: بيت من قصب. قلت: هو بضم الخاء المعجمة وتشديد الصاد المهملة.
م: (لو جاوزنا هذا الخص لقصرنا) ش: هذا بيان قوله وفيه الأثر، قائله هو علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كما ذكرنا، وفيه حديث أخرجه البخاري ومسلم «عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: صليت الظهر مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين» . والعجب من السغناقي أنه ذكر هذا الحديث ثم قال: كذا في " المصابيح "، وهذا يدل على عدم(3/16)
ولا يزال على حكم السفر حتى ينوي الإقامة في بلدة أو قرية خمسة عشر يوما أو أكثر.
وإن نوى أقل من ذلك قصر؛ لأنه لا بد من اعتباره مدة، لأن السفر يجامعه اللبث فقدرناها بمدة الطهر لأنهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اطلاعه في كتب الأحاديث الأمهات. م: (ولا يزال) ش: أي المسافر، م: (على حكم السفر) ش: من القصر والإفطار والمسح على الخفين ثلاثة أيام وغير ذلك مما ذكرنا في أول الباب، م: (حتى ينوي الإقامة) ش: يعني بعد أن سار ثلاثة أيام إذا نوى الإقامة قبل أن يسير ثلاثة أيام، وعزم الرجوع إلى وطنه فإنه يكون مقيما وإن كان في المفازة، وبه صرح في شرح " الطحاوي " للأسبيجابي. م: (في بلدة أو قرية خمسة عشر يوما) ش: فيه ثمانية عشر قولا.
عن أبي حنيفة إذا وضعت رجلك بأرض فأتم، وعن ربيعة إقامة يوم وليلة، وعن ابن المسيب ثلاثة أيام، وعن الشافعي ومالك وأحمد في رواية أربعة أيام، وعن أحمد خمسة أيام، وعنه أنه ينوي اثنين وعشرين صلاة ذكره في " المغني " وجعله مذهبا.
وعن الحسن بن صالح ومحمد بن علي عشرة أيام، وهو قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعن ابن عمر اثنا عشر يوما، وعن الأوزاعي ثلاثة عشر يوما، وفي رواية ستة عشر يوما، وعن الشافعي في قوله سبعة عشر يوما، وعنه ثمانية عشر يوما وصححوه.
وعن إسحاق تسعة عشر يوما، وعن الحسن البصري يقصر حتى يأتي مصرا من الأمصار، وعن بعضهم عشرون يوما، وعن أحمد ذكره ابن المنذر، وعنه إحدى وعشرون صلاة. والقول السابع عشر يقصر أبدا.
والقول الثامن عشر: هو قول أصحابنا، وقول الثوري، والليث في رواية. وهو المروي، عن ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو اختيار المزني.
م: (أو أكثر) ش: أي إذا كثر عن خمسة عشر يوما. وقال الأكمل: هذا زائد.
قلت: أراد أنه لا حاجة إلى ذكر لفظ أكثر، لأن الحكم إذا ثبت في خمسة عشر يوما ففيما وراءها بطريق الأولى، ولكن المقدرات الشرعية ما يمنع الأقل لا الأكثر كنصاب الشهادة والسرقة والزكاة، فربما يظن ظان أن نية الإقامة في محلها بخمسة عشر يوما يمنع من القصر ولا يمنع أكثر من ذلك، فقال: وإذا كثر دفعا للظن بذلك.
م: (وإن نوى أقل من ذلك) ش: أي من خمسة عشر يوما. م: (قصر) ش: صلاته. م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن. م: (لا بد من اعتبار مدة، لأن السفر يجامعه اللبث) ش: يعني أن المسافر، ربما يلبث في بعض المواضع لمصلحة له كانتظار الرفقة أو شراء السلعة فلا يعتبر ذلك، فلا بد من أن يقدر اللبث مدة. م: (فقدرناها) ش: أي المدة. م: (بمدة الطهر لأنهما) ش: أي لأن مدة الإقامة ومدة(3/17)
مدتان موجبتان، وهو مأثور عن ابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الطهر
م: (مدتان موجبتان) ش: فإن مدة الطهر توجب إعادة ما سقط من الصوم والصلاة بحكم الحيض ومدة الإقامة يوجب ما سقط بحكم السفر حكما متعذرا أدنى مدة الطهر بخمسة عشر يوما، فكذلك أدنى مدة الإقامة، ولهذا قدرنا أدنى مدة الحيض والسفر بثلاثة أيام لكونهما يسقطان.
م: (وهو) ش: أي التقدير بمدة الطهر م: (مأثور عن ابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ش: هذا أخرجه الطحاوي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالا: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر، وفي نفسك أن تقوم خمسة عشر يوما فأكمل الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن فأقصرها.
وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه"، حدثنا وكيع، ثنا عمر بن ذر، عن مجاهد: أن ابن عمر كان إذ اجتمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم الصلاة. أخرجه محمد بن الحسن في كتاب " الآثار". أخبرنا أبو حنيفة، ثنا موسى بن مسلم، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر، قال: إذا كنت مسافرا فوطنت نفسك على إقامة خمسة عشر فأتمم الصلاة، وإن كنت لا تدري فأقصر.
وقال الشافعي: إذا نوى إقامة أربعة أيام صار مقيما لا يباح له القصر، وفي قول: إذا أقام أكثر من أربعة أيام كان مقيما، وإن لم ينو الإقامة، واحتج الأول بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] (النساء الآية 101) .
علق القصر بالضرب في الأرض، ومن نوى الإقامة فقد قول الضرب، والمعلق بالشرط معدوم عند عدمه، إلا إنما بيناها ما دون ذلك بدليل الإجماع.
والثاني: ما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر للمهاجرين للمقام بمكة بعد قضاء المناسك ثلاثة أيام» فهو دليل على أن بالزيادة على ذلك يثبت حكم الإقامة، وروي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثل مذهبه، ولما اختلفت الصحابة كان الأخذ بقول عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أولى للاحتياط.
وروي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما أجلى اليهود والنصارى من جزيرة العرب، ثم ضرب لمن يقدم تاجرا أن يقيم ثلاثة أيام مدة السفر، فإذا زاد على ذلك صار مقيما.
ولنا لما ترك ظاهر الآية بالإجماع كان الأخذ بما قلنا أولى لما روي عن إبراهيم وإبراهيم أنهما قالا: أقل مدة الإقامة خمسة عشر يوما، وسبيل ذلك التوقيف فينزل منزلة المنصوص، وروى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة صبيحة اليوم الرابع من ذي الحجة، وخرج إلى منى يوم(3/18)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التروية، وكان يقصر الصلاة، وقد أقام أكثر من ثلاثة أيام» .
فإن قلت: الحديث محمول على ما إذا لم ينو الإقامة، وبدون النية لا يصير مقيما بأربعة أيام عنده.
قلت: لا يصح هذا لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة للحج، ولا بد أنه ينوي الإقامة حتى يقضي حجه، وقضى حجه فيما ذكرنا كان أكثر من أربعة أيام، وقع ذلك كأن يقصر، وأما الحديث فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما قدر هذا لأنه علم أن حوائجهم كانت ترفع في هذه المدة لا لتقدير أدنى مدة الإقامة. وما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - معارض بما روي عنه أنها تقدر بخمسة عشر يوما، فدل على رجوعه. وأما دعوى الاحتياط فإنه يشكل بما لو نوى الإقامة ثلاثة أيام أو أقل لا يصير مقيما، وإن كان الاحتياط فيه، وقال الطحاوي: ما قال الشافعي خلاف الإجماع؛ لأنه لم ينقل عن أحد قبله بأنه يصير مقيما بنية الإقامة أربعة أيام.
فإن قلت: روي عن ابن المسيب أنه قال: من أجمع على أربع وساعة أتم صلاته.
قلت: يعارضه ما روي عن هشيم عن داود بن أبي هند عن ابن المسيب أنه قال: إذا أقام المسافر خمسة عشر أتم الصلاة، وما كان دون ذلك فليقصر، ومع هذا لا يجوز أن يعارض قول ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعن يحيى بن أبي إسحاق الرأي فيه، فالظاهر أن الصحابي رواه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخبر موجب فكان الأثر كذلك.
فإن قلت: كيف مع أنه قال فيه معنى معقول أصله بالأثر، لا أن يثبت أصلها بدليل المعقول، فكان هذا من قبيل ترجيح أحد الأمرين بالقياس، ثم اعلم أنا قلنا إنما يصير مقيما بنية الإقامة إذا سار ثلاثة أيام، فأما إذا لم يسر ثلاثة أيام فعزم على الرجوع ونوى الإقامة يصير مقيما، وإن كان في المفازة كذا ذكر فخر الإسلام، وفي " المجتبى ": لا يبطل السفر إلا بنية الإقامة، أو دخول الوطن أو الرجوع إليه قبل الثلاثة، وبه قال الشافعي في الظهر، ونية الإقامة إنما تؤثر بخمس شرائط.
أحدها: ترك الإقامة أو تحريره لم تصح، واتحاد الوضع، والمدة، والاستقلال بالرأي حتى لو نوى من كان تبعا لغيره لا يعتبر كالحربي، والزوجة، والرقيق، والأجير، والتلميذ مع أستاذه، والغريم المفلس مع صاحب الدين إلا إذا نوى متبوعه، ولو نوى المتبوع الإقامة، ولم يعلم بها التابع فهو مسافر حتى يعلم كالوكيل، إذا عزل وهو الأصح، وعن بعض أصحابنا يصيرون مقيمين، ويعيدون ما أدوا في مدة عدم العلم.(3/19)
والأثر في مثله كالخبر، والتقييد بالبلدة والقرية يشير إلى أنه لا تصح نية الإقامة في المفازة، وهو الظاهر،
ولو دخل مصرا على عزم أن يخرج غدا أو بعد غد ولم ينو مدة الإقامة حتى بقي على ذلك سنين قصر؛ لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقام بأذربيجان ستة أشهر وكان يقصر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والتقييد) ش: أي تقييد محمد بن الحسن صحة نية الإقامة. م: (بالبلدة والقرية يشير إلى أنه لا تصح نية الإقامة في المفازة) ش: لأن شماله يبطل عن يمينه. م: (وهو الظاهر) ش: من الروايات، واحترز به عما روى عنه أبو يوسف: أن الرعاة إذا تركوا موضعا كثير الكلأ والماء، ونووا الإقامة خمسة عشر يوما، والماء والكلأ يكفيهم بتلك المدة يصيرون مقيمين، وكذا التراكمة والأعراب والأكراد، في ظاهر الرواية لا تصح نية الإقامة إلا في موضعها وهو العمران، والبيوت المتخذة من الحجر والمدر، لا الخيام، والأخبية من الوبر، كذا في " فتاوى قاضي خان ".
م: (ولو دخل مصرا على عزم أن يخرج غدا أو بعد غد) ش: أي ولو دخل المسافر مصرا من الأمصار على نية أن يخرج منه غدا أو يخرج بعد غد. م: (ولم ينو) ش: أي والحال أنه لم ينو. م: (مدة الإقامة حتى بقي) ش: في ذلك المصر. م: (على ذلك) ش: العزم. م: (سنين) ش: عديدة. م: (قصر) ش: وعند الشافعي إذا أقام ستة عشر يوما أتم، وإن لم ينو الإقامة، وعنه إذا أقام أكثر من أربعة أيام أتم، وعنه: إذا أقام ثمانية عشر يوما أتم، وأخذ الشافعي بما أقامه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة سبعة عشر يوما، أو ثمانية عشر يوما. فمن أقام أكثر من ذلك يتم ما زاد على الأصل، إذ القصر عارض فلم يثبت إلا بقدر ما زاد.
قلت: ما رواه يؤيدنا؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقصر عند عدم النية، والإقامة، وأما قوله: بقي ما زاد على الأصل فنقول: ترك ذلك بإجماع الصحابة.
وقال الترمذي: أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع الإقامة، وإن أتى عليه سنون، وقال ابن المنذر مثله.
م: (لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقام بأذربيجان ستة أشهر، وكان يقصر) ش: هذا الأثر رواه عبد الرزاق في "مصنفه" أخبرنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: أنه أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة، أخرجه البيهقي في " المعرفة " عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن(3/20)
وعن جامعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مثل ذلك
وإذا دخل العسكر أرض الحرب فنووا الإقامة بها قصروا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عمر، أنه قال: أرتج علينا الثلج، ونحن بأذربيجان ستة أشهر في غزاة، فكنا نصلي ركعتين، قال الترمذي: وهذا سند على شرط الشيخين. قلت: فلذلك خالف المزني الشافعي في ذلك، ووافق الجماعة.
وأذربيجان بفتح الهمزة مقصورا. وضبطه الأصيلي والمهلب بمدة. قال صاحب " المشارق الأنوار ": ضبطناه عن الأسدي بكسر الباء، وضبطناه عن أبي عبد الله بن سليمان وغيره بفتحها، وحكى فيه ابن مكي بفتح الذال وسكون الراء، وقال ابن الأحداني: كلام العرب به سكون الذال وفتح الراء.
وضبط عن المهلب أذربيجان بكسر الراء، وتقديم الياء آخر الحروف على الباء الموحدة، وهو اسم لبلاد تبرز، وتبريز من أجمل مدنها، والنسبة إليها أذري وأذربي.
م: (وعن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مثل ذلك) ش: أي مثل ما روي عن ابن عمر رواه مسلم في "صحيحه" أقامت الصحابة برامهرمز من تسعة أشهر يقصرون الصلاة، وروى البيهقي وغيره أن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقام بالشام مع عبد الملك بن مروان شهرين يصلي صلاة المسافر، وأقام سعد بن أبي وقاص بالشرع خمسين ليلة ومعه المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود حتى دخل رمضان فصام المسور وعبد الرحمن وأفطر سعد بن أبي وقاص، فقيل: يا سعد أنت صاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وشهدت بدرا والمسور يصوم وعبد الرحمن وأنت تفطر؟ قال سعد: أنا أفقه منهم، رواه البيهقي في "سننه الكبرى".
وفي " المحلى " لابن حزم عن أبي وائل قال: كنا مع مسروق بمليلة سنتين وهو عامل عليها فصلى بنا ركعتين ركعتين، حتى انصرف، وعن أبي منهال العنزي قال: قلت لابن عباس: إني أقيم بالمدينة حولا لا أشد على سير، قال: صلى ركعتين.
وروى عبد الرزاق في "مصنفه" أخبرنا القاسم بن حبان عن الحسن، قال: كنا مع عبد الرحمن بن سمرة ببعض بلادنا فارس سنين فكان لا يجمع ولا يزيد على ركعتين. وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا وكيع، ثنا المثنى بن سعيد، عن أبي حمزة نصر بن عمران، قال: قلت لابن عباس: إنا نطيل القيام بخراسان، فكيف تهدي؟ فقال: صل ركعتين وإن أقمت عشر سنين.
[دخل العسكر أرض الحرب فنووا الإقامة بها هل يقصروا]
م: (وإذا دخل العسكر أرض الحرب فنووا الإقامة بها قصروا) ش: الرباعية، وبه قال مالك وأحمد، وقال زفر: يتمون، وهو رواية عن أبي يوسف، وقال الشافعي في الجديد: إذا نووا إقامة أربعة أيام، وقال في القديم كقولنا.(3/21)
وكذا إذا حاصروا فيها مدينة أو حصنًا، لأن الداخل بين أن يهزم فيفر، وبين أن يهزم فيفر، فلم تكن دار إقامة. وكذا إذا حاصروا أهل البغي في دار الإسلام في غير مصر أو حاصروهم في البحر؛ لأن حالهم مبطل عزيمتهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال النووي: المحارب إذا نوى إقامة أربعة أيام يصير مقيما في أصح القولين م: (وكذا) ش: يقصرون م: (إذا حاصروا فيها) ش: أي في أرض الحرب م: (مدينة أو حصنا؛ لأن الداخل) ش: في أرض الحرب م: (بين أن يهزم فيفر) ش: كلمة أن مصدرية، ويهزم على صيغة المعلوم، وقوله فيفر أيضا على صيغة المعلوم.
م: (وبين أن يهزم يفر) ش: وكلمة أن مصدرية، ويهزم على صيغة المجهول، وقول فيفر على صيغة المعلوم بالفاء من الفرار، والحاصل أن أمر هذا الداخل يلي أمرين متناقضين فلا يعمل فيه نية الإقامة م: (فلم تكن دار إقامة) ش: لأنها ليست بموضع إقامة المسلمين لمكان الحرب فلم تصح النية كما في المفازة.
م: (وكذا) ش: الحكم م: (إذا حاصروا أهل البغي في دار السلام، في غير مصر) ش: يعني في مفازة وأهل البغي هم الذين خرجوا على السلطان م: (أو حاصروهم في البحر) ش: أي أو حاصر أهل العدل البغي حال كونهم في البحر.
فإن قلت: حكم هذه المسألة علم مما قبلها. فما فائدة ذكرها؟
قلت: لدفع شبهة وهو أن يقال إنما لا تجوز نية الإقامة في دار الحرب، لأنها منقطعة، فصارت كالمفازة، والأرض التي عليها أهل البغي ومدينتهم في يد أهل الإسلام فيجب أن تصح نية الإقامة.
فأجاب عن ذلك بقوله: م: (لأن حالهم مبطل عزيمتهم) ش: لأنهم إنما أقاموا لغرض، فإذا حصل ذلك انزعجوا، فلا تكون عزيمتهم مستقرة كنية العسكر في دار الحرب، وقال الأكمل: وهذا التعليل يعني قوله لأن حالهم مبطل عزيمتهم يدل على أن قوله: في غير مصر، وقوله: في البحر، ليس بقيد، حتى لو نزلوا مدينة أهل البغي، وحاصروهم في الحصن لم تصح نيتهم أيضا، لأن مدينتهم كالمفازة عند حصول المصور المقيمون فيها، فليس الأمر كما ذكره، لأنه ربما كان يتوهم المتوهم أن حكم المفازة، والبحر ليس بحكم المدينة والحصن، باعتبار أن البحر والمفازة ليس عليها يدهم وشوكتهم، مثل ما هي على مدينتهم، وحصنهم، وهذا ظاهر، فكذلك ذكر قوله: في غير مصر، وفي البحر.
وفي " جوامع الفقه ": إن نووا الإقامة في موضع وظن فيه أهل الحرب صاروا مقيمين، وفي "الإملاء " عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن نزلوا بساتينهم وأكنافهم وللمسلمين منعة صحت إقامتهم، ولا يصح إذا نزلوا عليهم في جناحهم. وفي " الذخيرة " إن غلبوا على مدينة(3/22)
وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصح في الوجهين إذا كانت الشوكة لهم للتمكن من القرار ظاهرا. وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصح إذا كانوا في بيوت المدر، لأنه موضع إقامة،
ونية الإقامة من أهل الكلأ وهم أهل الأخبية، قيل: لا تصح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واتخذوها دارا صارت دار الإسلام، يتمون فيها الصلاة، وإن لم يتخذوها دارا، ولكن أرادوا الإقامة فيها شهرا قصروا.
وقال زفر: إن كان الشوكة لهم صاروا مقيمين لتمكنهم من القرار، وظاهرا على ما يذكره المصنف، والملاح وصاحب السفينة لا يصير مقيما بنية الإقامة في السفينة لأنها ليست موضع إقامة عادة، إلا أن يكون قريبة من وطنه، ذكره في "المحيط ".
م: (وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصح في الوجهين) ش: أي فيما إذا دخل العسكر أرض الحرب فنووا الإقامة وفيما إذا حاصروا أهل البغي في دار الإسلام في غير مصر. م: (إذا كانت الشوكة لهم) ش: أي العسكر المسلمين م: (للتمكن من القرار ظاهرا) ش: أي لأجل تمكنهم من القرار، وهناك يعتبر ظاهر الحال.
م: (وعند أبي يوسف يصح) ش: أي نية الإقامة م: (إذا كانوا في بيوت المدر لأنه) ش: أي لأن المذكور هو بيوت المدر م: (موضع إقامة) ش: وقرار، بخلاف الصبح، فلو حاصروا أهل الأخبية والفساطيط لم يصيروا مقيمين بنية الإقامة، وسواء نزلوا بساحتهم أو في أخبيتهم بالإجماع، لأن هذا لا يعد للإقامة، ألا ترى أنهم حملوها على الدواب حيثما قصدوا واستحقوا يوم ظعنهم ويوم إقامتهم، فإذا هي حمولة ليست بمنازل.
وقال الحلواني: وهكذا إذا قصد العسكر المسلمين موضعا، ومعهم أخبيتهم وفساطيطهم وعزموا فيها على إقامة خمسة عشر يوما لم يصيروا مقيمين، لأنها حمولة وليست بمساكن، كذا في " المحيط ".
[حكم نية إقامة المسافر من أهل الكلأ]
م: (ونية الإقامة من أهل الكلأ) ش: بفتح الكاف، واللام، وبالهمزة في آخره بغير مد هو العشب، وقد كَلِئَت الأرض والجنان فهي أرض مكلئة وكلئة، أي ذات كلأ ورطبة. م: (وهم) ش: أي أهل الكلأ هم م: (أهل الأخبية) ش: الأخبية جمع خبايا بالكسر والمد، وهو من وبر، أو صوف، ولا يكون من شعر وهو على عمودين، أو ثلاثة، وما فوق ذلك.
م: (قيل: لا تصح) ش: هذه جملة خبر المبتدأ، أعني قوله: ونية الإقامة، ولكن بالتأويل، تقديره: ونية إقامة المسافر من أهل الكلأ يشك فيها لا تصح، وإنما قدرنا هكذا، لأن الخبر إذا كان جملة لا بد أن يكون فيه ضمير عائد إلى المبتدأ، وهو الذي سمي رابطة الخبر بالمبتدأ كما عرف في موضعه، ووجه هذا القول أنهم ليسوا في موضع الإقامة.(3/23)
والأصح أنهم مقيمون، يروى ذلك عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الإقامة أصل فلا تبطل بالانتقال من مرعى إلى مرعى، وإن اقتدى المسافر بالمقيم في الوقت أتم أربعا لأنه يتغير فرضه إلى أربع للتبعية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: من أهل الأخبية. قلت: الأعراب والترك والكرد الذين يسكنون في المفازة.
م: (والأصح أنهم) ش: أي أهل الأخبية م: (مقيمون، يروى ذلك عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وفي " المحيط " وعليه الفتوى، وفي " التحفة ": الأعراب والأكراد والتراكمة والرعاة الذين يسكنون في بيوت شعر والصوف مقيمون، لأن مقامهم المفازة عادة، وبه قال الشافعي، وأما إذا ارتحلوا عن موضع إقامتهم في الصيف وقصدوا موضعا آخر للإقامة في الشتاء، وبين الموضعين مسيرة ثلاثة أيام، فإنهم يصيرون مسافرين في الطريق عند أبي حنيفة، كذا في "المحيط ".
وفي " المجتبى " ذكر البقال والملاح مسافر، وإن كان أهله وعياله في السفينة، وبه قال الشافعي: السفينة ليست بوطن له، وعند الحسن وأحمد وفي " الذخيرة " عن أبي يوسف إذا كانوا يطوفون في المفاوز ينتقلون من مرعى إلى مرعى ومعهم ثقلهم أنهم مسافرون، إلا إذا نزلوا مرعى كثير الكلأ وأخذوا المخابز، وكان الكلأ يكفيهم مدة الإقامة صحت نيتهم.
م: (لأن الإقامة أصل فلا تبطل بالانتقال من مرعى إلى مرعى) ش: لأن الانتقال عارض والأصل لا يبطل بالعارض ولأجل حالهم على الأصل أولى.
م: (وإن اقتدى المسافر بالمقيم في الوقت) ش: قيد بقوله: في الوقت لأنه لا يقتدي المسافر بالمقيم خارج الوقت للزوم اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القعدة، لأن القعدة الأولى فرض في حقه نفل في حق الإمام كذا في " المبسوط " م: (أتم أربعا) ش: أي أربع ركعات وسواء في ذلك اقتدى به في جزء من صلاته أو كلها، وبه قال الشافعي وأحمد وداود، وقال مالك: إن أدرك من صلاة المقيم ركعة يلزمه الإتمام، وإن كان دون ذلك لا يلزمه قياسا على الجمعة، وقال إسحاق بن راهويه: يجوز للمسافر القصر خلف المقيم.
وحكى ابن المنذر عن ابن عمر عن ابن عباس والأوزاعي والثوري والشافعي وأبي ثور وأحمد مثل مذهبنا، وحكي عن الحسن والزهري مثل مذهب مالك، وقال طاووس والشعبي: إن أدرك معه ركعتين أجزأتاه، وقول الظاهرية مثل قول إسحاق ثم إنه إنما يتمها أربعا إذا لم يفسد الإمام صلاته، لأنه إذا أفسدها فعلى المسافر أن يصلي ركعتين عندنا، وعند الشافعي، وزفر ومالك، وأحمد يقضي أربعا، لأنه ألزم صلاة الإمام.
م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (يتغير فرضه إلى أربع للتبعية) ش: أي لالتزامه المتابعة للإمام، لكنه لو أفسد صلاته بعد الاقتداء صلى ركعتين لأنه مسافر على حاله، بخلاف ما(3/24)
كما يتغير بنية الإقامة لاتصال المغير بالسبب وهو الوقت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اقتدى بنية النفل ثم أفسد، فإنه يلزمه قضاء أربع ركعات، لأنه بشروعه صار ملزما صلاة الإمام، وصلاة الإمام أربع.
فإن قلت: يشكل على هذا ما إذا اقتدى المقيم بالمسافر ثم أحدث الإمام فاستخلف المقيم، فإنه لا يتغير فرضه إلى الأربع مع أن الإمام الأول صار بمنزلة المقتدي للخليفة المقيم.
قلت: لما كان المقيم خليفة عن المسافر صار كأن المسافر هو الإمام فيأخذ الخليفة صفة الإمام الأول.
م: (كما يتغير) ش: أي فرضه إلى أربع م: (بنية الإقامة لاتصال المغير بالسبب وهو الوقت) ش: أراد أن سبب وجوب الصلاة هو الجزء القائم من الوقت، فإذا وجد المغير، وهو الاقتداء بالمقيم في الوقت، عمل عمله في السبب، فإذا عمل في السبب عمل في الحكم، لكون الحكم تابعا للسبب، فيصير فرضه أربعا، فإن القول بصحة الاقتداء، فأما بعد خروج الوقت لم يعمل المغير في السبب لتقرر السبب وتأكده، فلا يعمل بحكم، فيبقى فرضه ركعتين، فلا يمكن القول بصحة الاقتداء، لأنه يؤدي إلى اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القعدة إن اقتدى به في الشفع الأول، والقراءة إن اقتدى به في الشفع الثاني، لأن قراءة الإمام نفل، والقراءة له فرض.
فإن قلت: ما ذكرتم من المعنى يشكل بما لو نسي المقيم القراءة في الشفع الأول، فاقتدى المسافر به في الشفع الثاني، وكان ذلك خارج الوقت لا يصح اقتداؤه، وكان ينبغي أن يجوز، لأن القراءة فرض عليهما في هذه الحالة.
قلت: لا يصح الأول تعين محلا للقراءة وجوبا، والقراءة في الثاني معا فيلتحق بمحلها، فصار كأنها وجدت في الشفع الأول فتخلو الركعات من القراءة، فكان فيه بناء الموجود على المعدوم.
فإن قلت: فعلى هذا ينبغي أن لا يصح اقتداء المتنفل بالمفترض في الشفع الثاني فإن القراءة فيه نفل عن الإمام فرض على المقتدي، والحال أنه جائز.
قلت: صلاة المتنفل تأخذ حكم الفرض بالاقتداء تبعا لصلاة الإمام، ولهذا لو قرأ المتنفل صلاته بعد الاقتداء يجب قضاؤها أربعا، كذا في "الجامع الكبير " للصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الأكمل: فإن قيل: علل بغير فرضه بالتبعية بقوله: للتبعية فكيف يستقيم تعليله بعد ذلك بقوله: لاتصال المغير بالسبب وهو الوقت:(3/25)
وإن دخل معه في فائتة لم يجزه؛ لأنه لا يتغير بعد الوقت لانقضاء السبب كما لا يتغير بنية الإقامة
فيكون اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القعدة أو القراءة، وإن صلى المسافر بالمقيمين ركعتين سلم وأتم المقيمون صلاتهم، لأن المقتدي التزم الموافقة في الركعتين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: ذلك تعليل للمقيس عليه، ومعناه أن الجامع موجود وهو اتصال المغير بالسبب فإن المغير في الأول هو الاقتداء وقد يتصل بالسبب وهو الوقت كما أن المغير في الثاني هو نية الإقامة، وقد اتصل بالسبب، وإن اقتدى به في غيره لم يجزه لعدم اتصال المغير، كما إذا نوى الإقامة بعد الوقت، انتهى.
قلت: هذا السؤال غير وارد من الأول فلم تكن الحاجة إلى التطويل، لأنه ذكر حكمين، وعلل كل واحد منهما بعلة، فقاس الأول على الثاني بعلاقة التشبيه لوجود وجه الشبه الذي هو جامع بين المقيس والمقيس عليه.
م: (وإن دخل معه في فائتة لم يجزه) ش: أي وإن دخل المسافر مع المقيم في صلاة فائتة لم يجزه الاقتداء، وإنما قال: وإن دخل معه في فائتة، ولم يقل: وإن اقتدى به، في غير الوقت لئلا يرد عليه ما إذا دخل المسافر في صلاة المقيم في الوقت ثم ذهب الوقت، فإنها لا تفسد، وقد وجد الاقتداء بعده، لأن الإتمام لزم بالشروع مع الإمام في الوقت فالتحق الوقت بغيره من المقيمين م: (لأنه) ش: أي لأن الفرض م: (لا يتغير) ش: عن قصر إلى الكمال م: (بعد الوقت لانقضاء السبب) ش: وهو الوقت.
م: (كما لا يتغير) ش: فرضه م: (بنية الإقامة) ش: بعد خروج الوقت، فلما لم يتغير فرضه لم يجز اقتداؤه، لأنه لو جاز لا يخلو، إما أن يقتدي في الشفع الأول، أو في الشفع الآخر.
ففي الأول: يلزم اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القعدة، لأن القعدة الأولى فرض في حق المسافر نفل في حق المقيم.
وفي الثاني: يلزم اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القراءة لأن القراءة فرض في حق المقتدي دون الإمام، فاقتداء المفترض بالمتنفل لا يجوز عندنا، خلافا للشافعي، وإلى هذا أشار المصنف بفاء النتيجة بقوله:
م: (فيكون اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القعدة أو القراءة) ش: إذا كان اقتداؤه في الشفع الثاني، وكلمة - أو- هنا مانعة الخلو لا مانعة الجمع لجواز اجتماعهما وهو أيضا يفسد.
م: (وإن صلى المسافر بالمقيمين ركعتين سلم) ش: أي المسافر الذي هو الإمام يسلم آخر الركعتين اللتين هما صلاته م: (وأتم المقيمون) ش: المقتدون م: (صلاتهم) ش: وهي أربع ركعات م: (لأن المقتدي التزم الموافقة) ش: للإمام م: (في الركعتين) ش: اللتين للمسافر.(3/26)
فينفرد في الباقي كالمسبوق، إلا أنه لا يقرأ في الأصح لأنه مقتد تحريمة لا فعلا، والفرض صار مؤدى فيتركها احتياطا بخلاف المسبوق؛ لأنه أدرك القراءة نافلة فلم يتأد الفرض، فكأن الإتيان أولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فينفرد بالباقي) ش: من الصلاة وهو ركعتان م: (كالمسبوق) ش: فإنه ينفرد فيما فاته من صلاته مع الإمام م: (إلا أنه) ش: استثناء من قوله: فينفرد، أي: إلا أن المقتدي المذكور م: (لا يقرأ) ش: فيما بقي من صلاته لأن فرض الصلاة صار مؤدى بخلاف المسبوق الذي أدرك في الشفع الثاني، حيث يأتي بالقراءة لأنه أدرك قراءة نافلة.
م: (في الأصح) ش: احترز به عن قول بعض المشايخ من وجوب القراءة فيما يتمون لأنهم ينفردون فيه، ولهذا يلزمهم سجود السهو إذا سهوا فيه، فأشبهوا المسبوقين، وأشار إلى وجه الأصح بقوله م: (لأنه مقتد تحريمة لا فعلا) ش: أي من حيث التحريمة لا من حيث الفعل، أما أنه مقتد تحريمة، فإنه التزم الأداء معه في أول التحريمة، وأما أنه ليس مقتديا فعلا، فلأن فعل الإمام فرغ بالسلام على رأس الركعتين، وكل من كان كذلك فهو لاحق، ولا قراءة على اللاحق، لأنه بالنظر إلى كونه مقتد بالتحريمة حرم عليه القراءة، وبالنظر إلى كونه مقتديا فعلا يتسحب القراءة فيتركها احتياطا لأن المحرم والمبيح إذا اجتمعا فالغلبة للمحرم.
وإلى هذا أشار بقوله: م: (والفرض) ش: أي فرض القراءة م: (صار مؤدى) ش: لقراءة الإمام وقراءته قراءة المقتدي وهو ممنوع من القراءة، فإذا كان كذلك. م: (فيتركها) ش: أي فيترك القراءة. م: (احتياطا) ش: أي لأجل الاحتياط لما ذكرنا. م: (بخلاف المسبوق لأنه أدرك القراءة نافلة) ش: وهي قراءة الإمام في الشفع الثاني. م: (فلم يتأد الفرض) ش: بتلك القراءة النافلة. م: (فكان الإتيان) أي إتيان القراءة. م: (أولى) ش: أي من تركها.
فإن قلت: لما أدرك المسبوق قراءة النافلة ولم يتأد به الفرض، فكان الإتيان به واجبا فكيف قال، فكان الإتيان به أولى.
قلت: الأولوية لا تنافي الوجوب، كما أن الإباحة والندب لا ينافيه، والمراد بالأولوية ترجيح جانب الوجود على العدم، وهذا موجود في الوجوب وزيادة.
وفي " الجنازية ": أن قوله: فكان به أولى، للمطابقة بينه وبين قوله فيتركها احتياطا، لكن مراده إن جعله منفردا أولى من جعله مقتديا حتى تلزمه القراءة، ولو تركها فسدت صلاته.
ونقل هذا صاحب " الدراية" ثم قال: وفيه تعقب، ونقله الأكمل، وقال: وفيه نظر، وكلاهما لم يبينا وجه ما ذكرنا، والتحقيق فيه أن المعنى: فكان الإتيان بجهته كون المسبوق مقتديا أولى من الإتيان بجهة كون المقيم مقتديا لا أن تكون القراءة سنة أولى أو قراءة المسبوق فرض لا تجوز الصلاة بدونها.(3/27)
قال: ويستحب للإمام المسافر إذا سلم أن يقول أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال حين صلى بأهل مكة وهو مسافر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[ما يستحب للإمام المسافر]
م: (ويستحب للإمام المسافر إذا سلم) ش: على رأس الركعتين م: (أن يقول: أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر) ش: بفتح السين وسكون الفاء جمع مسافر، هذا يدل على أن العلم بحال الإمام يكون مقيما أو مسافرا ليس بشرط، لأنهم إن علموا أنه مسافر، فقوله هذا عبث، وإن علموا أنه مقيم كان كذبا، فدل على أن المراد به إذا لم يعلموا حاله وهو مخالف لما ذكر في "فتاوى قاضي خان " وغيره أن من اقتدى بإمام لا يدري أنه مقيم أو مسافر لا يصح اقتداؤه.
فإن قلت: ما وجه التوفيق بين الروايتين.
قلت: تلك الرواية محمولة على ما إذا بنوا أمر الإمام على ظاهر حال الإقامة، والحال أنه ليس بمقيم وسلم على رأس الركعتين، وانصرفوا على ذلك لاعتقادهم فساد صلاة الإمام، وأما إذا علموا بعد الصلاة بحال الإمام جازت صلاتهم، وإن لم يعلموا حاله وقت الاقتداء.
فإن قلت: فعلى هذا التقدير يجب أن يكون هذا القول واجبا على الإمام، لأن صلاح صلاة القوم يحصل به، وما يحصل به ذلك فهو واجب على الإمام، فكيف قال: ويستحب؟
قلت: صلاح صلاتهم ليس يتوقف على هذا القول البتة، بل إذا سلم على رأس الركعتين، وعلم عدم سهوه، فالظاهر من حاله أنه مسافر حملا لأمره على الصلاح.
فإن قوله: بعد ذلك زيادة إعلام بأنه مسافر، فكان أمرا مستحبا لا واجبا. وفي " شرح الإرشاد ": وينبغي أن يخبر إمام القوم قبل شروعه أنه مسافر، فإذا لم يخبر أخبر بعد السلام.
م: (لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حين صلى بأهل مكة وهو مسافر) ش: هذا أخرجه أبو داود والترمذي عن علي بن زيد عن أبي نضرة «عن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: غزوت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين يقول: "يا أهل مكة، أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر» .
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه الطبراني في "معجمه"، وابن أبي شيبة في "مصنفه " وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي والبزار في "مسانيدهم".
«ولفظه قال: ما سافرت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سفرا قط إلا صلى ركعتين، ثم حججت معه واعتمرت فصلى ركعتين، قال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، ثم حججت مع أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واعتمرت فصلى ركعتين، ثم قال: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، ثم حججت مع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واعتمرت فصلى ركعتين ثم قال: أتموا صلاتكم فإنا(3/28)
وإذا دخل المسافر في مصره أتم الصلاة وإن لم ينو المقام فيه لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كانوا يسافرون ويعودون إلى أوطانهم مقيمين من غير عزم جديد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوم سفر، ثم حججت مع عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واعتمرت فصلى ركعتين ثم إن عثمان أتم انتهى.
وزاد فيه ابن أبي شيبة: وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، وقال فيه: وحججت مع عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سبع سنين من إمارته فكان لا يصلي إلا ركعتين ثم صلاها يعني أربعا.»
وروى مالك في " الموطأ " عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم يقول: يا أهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر، ورواه عبد الرزاق أيضا في "مصنفه" نحوه.
[الحكم إذا دخل المسافر بلده]
م: (وإذا دخل مسافر في مصره أتم الصلاة) ش: سواء دخل مصره مجازا أو لقضاء حاجة حدث مع نية الخروج أو بدا له أن يترك السفر، وهذا في مسافر استكمل سير ثلاثة أيام.
وفي " المحيط ": وإن كان خرج من مصره مسافرا ثم بدا له أن يرجع إلى مصره لحاجة قبل أن يتم ثلاثة أيام صلى صلاة المقيم في انصرافه بخلاف ما إذا استكمل ثلاثة أيام سيره، ثم قرب من مصره وعزم على الدخول وهو على سفره ما لم يدخل، وإذا خرج من مصره مسافرا فحضرته الصلاة فافتتحها ثم أخذت فانتقل ليأتي مصره، ثم علم أن أمامه ما فاته يتوضأ ويصلي صلاة المقيم، فإن تكلم على صلاة المسافر، وكذلك المسافر إذا كان راكبا سفينة وهو يصلي الظهر فجرت به السفينة حتى دخل مصره ثم صلاه أربعا، ولو افتتحها في مصره في سفينة فجرت به حتى خرجت إلى المفازة وهو على عزم السفر لا يصير مسافرا، فإذا تكلم وهو متوجه أمامه على عزم السفر صار مسافرا.
م: (وإن لم ينو المقام فيه) ش: المقام بالضم بمعنى الإقامة م: (لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كانوا يسافرون ويعودون إلى أوطانهم مقيمين من غير عزم جديد) ش: هذا ليس له شاهد، ولا ندري من أين أخذه المصنف ولا اشتغل به أكثر الشراح ولا ذكره، وإنما ذكره الأترازي فقال: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسافر فيقصر، فإذا عاد إلى المدينة كان يتم بلا عزم جديد، انتهى.
ولم يبين مخرجه ولا حاله ولا من أي كتاب نقله، وذكره الأكمل برمته ثم قال: وفيه نظر، لأن العزم فعل القلب، وهو أمر باطن، وليس له سبب ظاهر يقوم مقامه، بل الظاهر من(3/29)
ومن كان له وطن فانتقل منه واستوطن غيره ثم سافر ودخل وطنه الأول قصر؛ لأنه لم يبق وطنا له إيضاح، ألا ترى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الهجرة عد نفسه بمكة من المسافرين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حالة المسافر العائد إلى وطنه أن يكون في عزمه المقام فيه، ولعل المراد عزم جديد لمدة الإقامة خمسة عشر يوما، فإن الظاهر عدمه.
والاستدلال بالمعقول أظهر، وفيه أن نية الإقامة إنما تعتبر بصيرورة المسافر مقيما في غير مصره، لكون مثله في حيز التردد بين أن يكون بالمسير وبين أن يكون بالإقامة فاحتيج إلى النية، فأما في مصره فهو متعين للإقامة كما كان قبل السير.
قلت: إيضاح النظر بقوله لأن العزم فعل القلب ... إلخ غير محرز، لأن العزم كما هو فعل القلب، فكذلك النية فعل القلب غير أن العزم نية مع تصميم.
وقوله: فأما في مصره فهو متعين للإقامة كما كان قبل المسير غير سديد، لأنا نسلم أنه كان قبل المسير غير متردد، أما بعد المسير وعوده فلا نسلم عدم التردد على ما لا يخفى.
[حكم من كان له وطن فانتقل عنه واستوطن غيره ثم سافر]
م: (ومن كان له وطن فانتقل عنه) ش: أي بالكلية حتى لو انتقل بنفسه وأخذ وطنا في بلدة أخرى يصير كل واحد منهما وطنا أصليا م: (واستوطن غيره ثم سافر ودخل وطنه الأول قصر، لأنه) ش: أي لأن وطنه الأول الذي انتقل منه م: (لم يبق وطنا له) ش: لأنه انتقل بالكلية فخرج عن كونه وطنا له.
م: (ألا ترى) ش: توضيح لما ذكره م: (أنه) ش: أي أن النبي م: (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الهجرة) ش: من مكة إلى المدينة م: (عد نفسه بمكة من المسافرين) ش: يشهد لهذا ما ذكرناه عن قريب من حديث عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وحديث «أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سافرت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومع أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كلهم صلى حين خرج من المدينة إلى أن رجع إليها ركعتين في المسير والمقام بمكة،» رواه أبو يعلى في "مسنده".
وحديث «أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرجنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قيل: كم أقمتم بمكة؟ قال: أقمنا بها عشرا» رواه البخاري ومسلم ولو لم يعد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نفسه في مكة من المسافرين لما صلى ركعتين، وكذلك أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.(3/30)
وهذا لأن الأصل أن الوطن الأصلي يبطل بمثله دون السفر،
ووطن الإقامة يبطل بمثله، وبالسفر، وبالأصلي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أي وهذا الذي ذكرنا من بطلان الوطن الأول بالوطن الثاني م: (لأن الأصل) ش: أي في هذا الباب م: (أن الوطن الأصلي) ش: وهو ما يكون بالتوطن بالأهل أو بالمولد، وسمي أيضا وطن القرار م: (يبطل بمثله) ش: وهو الذي انتقل إليه بأهله، وصورته رجل وطنه بالكوفة وخرج إلى مكة فاستوطنها، ثم بدا له أن ينتقل باستيطانه بمكة واتخاذها دارا، فلو أنه لم يتوطن بمكة ثم بدا له أن يرجع ويتخذ خراسان دارا فمر بالكوفة يصلي بها أربعا م: (دون السفر) ش: يعني الوطن الأصلي لا تبطل بالسفر، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يخرج مع أصحابه إلى الغزوات من المدينة ولا ينتقل وطنه من المدينة ولم يجدد نيته بعد رجوعه.
[وطن الإقامة للمسافر يبطل بمثله]
م: (ووطن الإقامة) ش: هو أن ينوي المسافر الإقامة في بلد خمسة عشر يوما فصاعدا، ويسمى أيضا الوطن الحادث والوطن المستعار م: (يبطل بمثله) ش: أي بمثل وطن الإقامة، وصورته خراساني قدم الكوفة فأقام بها وأتم الصلاة، ثم خرج إلى الحيرة، فوطن نفسه على الإقامة خمسة عشر يوما فأقام بالحيرة أياما على تلك النية ثم يريد خراسان ومر بالكوفة فإنه يقصر الصلاة؛ لأنه انتقض وطنه الحادث بالكوفة بوطنه الحادث بالحيرة، فإن لم ينو المقام بالحيرة خمسة عشر يوما إلا أنه كان بها يتم الصلاة، ثم خرج إلى خراسان فمر بالكوفة، فإنه يتم الصلاة، لأن وطن الإقامة لا يبطل بوطن السكنى.
م: (وبالسفر) ش: أي يبطل وطن الإقامة بالسفر، يعني بإنشائه، لأن السفر ضده م: (وبالأصلي) ش: أي يبطل وطن الإقامة بالوطن الأصلي لأنه أقوى منه، ثم اعلم أن عامة المشايخ قالوا: الأوطان ثلاثة: وطن أصلي، ووطن إقامة، ووطن السكنى، وهو ما إذا نوى أن يقيم المسافر أقل من خمسة عشر يوما، وسمي وطن سفر أيضا، واختيار المحققين أن الوطن وطنان: وطن أصلي ووطن مستعار، وهو وطن الإقامة، ولم يعتبروا وطن السكنى.
لأنه لا يثبت فيه حكم الإقامة، بل حكم السفر فيه باق، ولهذا لم يذكر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم إن وطن السكنى ينتقض بالكل، صورته رجل خرج من النيل وهو سواد الكوفة وبينهما أقل من مسيرة ثلاثة أيام ونزل بالكوفة نقلة، ثم خرج من الكوفة إلى القادسية يطلب غريمه، ثم خرج من القادسية يريد الشام، ويريد أن يمر بالكوفة، فإنه يصلي بالكوفة ركعتين، لأن وطن سكناه بالقادسية أبطل وطن سكناه بالكوفة بتركه متاعه فيها، فإن نوى بالقادسية أن يقيم بها خمسة عشر يوما بطل سكناه بالكوفة، لأن وطن السكنى يبطل بوطن الإقامة، وكذلك إذا انتقل إلى القادسية بأهله ومتاعه يصلي بالكوفة ركعتين، لأن وطن السكنى يبطل بالوطن الأصلي.(3/31)
وإذا نوى المسافر يقيم بمكة وبمنى خمسة عشر يوما لم يتم الصلاة لأن اعتبار النية في موضعين يقتضي اعتبارها في مواضع وهو ممتنع لأن السفر لا يعرى عنه إلا إذا نوى المسافر أن يقيم بالليل في أحدهما فيصير مقيما بدخوله فيه، لأن إقامة المرء مضافة إلى مبيته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[اعتبار نية السفر في موضعين وحكم من فاتته صلاة في السفر]
م: (وإذا نوى المسافر أن يقيم بمكة وبمنى خمسة عشر يوما لم يتم الصلاة) ش: لأنه لم ينو الإقامة في كل واحد منهما خمسة عشر يوما، وإن نوى أقل من ذلك، وبه لا يصير مقيما.
م: (لأن اعتبار النية في موضعين يقتضي اعتبارها في مواضع وهو ممتنع) ش: أي اعتبار النية في مواضع ممتنع، والحاصل أنه لا يعتبر نية الإقامة خمسة عشر في موضعين لا يجمعهما مصر واحد أو قرية واحدة. لأنه حينئذ يلزم اعتبارها في ثلاثة أمصار أو أربعة أمصار إلى خمسة عشر، فيؤدي إلى أن يكون الشخص مقيما بنفس النزول وذلك فاسد.
م: (لأن السفر لا يعرى عنه) ش: أي قليل اللبث، قال السغناقي: هذا مدلول معنى، وليس مذكور لفظا، ووجه هذا ما ذكره في " المبسوط ".
وقال: لأن نية الإقامة ما يكون في موضع واحد، فإن الإقامة ضد السفر، والانتقال من الأرض إلى الأرض يكون ضربا في الأرض، ولا يكون إقامة، ولو جوزنا نية الإقامة في موضعين جوزنا فيما زاد على ذلك، فيؤدي إلى القول بأن السفر لا يتحقق، لأنك إذا جمعت إقامة المسافر في المراحل، ربما يزيد ذلك على خمسة عشر يوما، لأن إقامة المرء يضاف إلى مبيته، ألا ترى أنك إذا قلت للسوقي: أين تسكن؟ يقول في محلة كذا وهو بالنهار يكون في السوق.
م: (إلا إذا نوى المسافر أن يقيم بالليل في أحدهما فيصير مقيما بدخوله فيه) ش: أي في أحد الموضعين. م: (لأن إقامة المرء مضافة إلى مبيته) ش: أي موضع بيتوتته كما ذكرنا الآن، وفي " المبسوط ": إلا بينهما تفاوت، فإنه لو دخل الموضع الذي عزم على المقام فيه بالنهار أولا لا يصير مقيما، لأن موضع إقامة المرء حيث يبيت فيه.
وفي " المفيد " و" التحفة ": هذا إذا كان كل واحد منهما أصلا كمكة ومنى، أو كالكوفة والحيرة، فإذا كان أحدهما تبعا للآخر بأن نوى الإقامة في المصر، وفي موضع آخر تبع لها، وهو ما يلزم سكانيه حضور الجمعة يصير مقيما؛ لأنهما مكان واحد، إلا أن ينوي أن يقيم في إحداهما ليلا، وفي الآخر نهارا، فيصير مقيما بدخول الذي نوى أن يقيم فيه ليلا، ولا يصير مقيما بدخول الذي نوى أن يقيم فيه نهارا.
وفي [....] : فإذا دخل الذي نوى الإقامة فيه ليلا صار مقيما حتى يرحل، وكذا إذا دخل الآخر بعده فهو مقيم، لأنه ليس بينهما مسيرة سفر، وفي " جوامع الفقه " بعضهم اعتبر الأكثر.(3/32)