. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه - عند مسلم. وحديث سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند ابن حبان في " صحيحه ". وحديث ثوبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند أبي داود وأحمد في " مسنده "، والحاكم في " مستدركه " وقال: على شرط مسلم.
وحديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند ابن وهب. وحديث يعلى بن مرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند النيسابوري في كتاب " الآداب ". وحديث أمامة بن شريك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند أبي يعلى الموصلي، وأبي طاهر الذهلي بسند لا بأس به. وحديث عمرو بن أمية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند البخاري.
وحديث بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الجماعة إلا البخاري. وحديث أسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند النيسابوري في " سننه "، وابن قانع " بمسنده "، ومسلم في كتاب " التمييز ". وحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند أحمد في " مسنده " والبيهقي في " سننه "، وعند ابن عبد البر. وحديث عوف بن مالك الأشجعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند أحمد في " مسنده "، وإسحاق بن راهويه والبزار والطبراني في " معجمه ". وحديث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عند البيهقي. وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عند الدارقطني بسند جيد. وحديث أبي عبيدة بن الجراح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند أبي عمر بإسناد حسن. وحديث رجل له صحبة عند البخاري وأعله. وحديث بديل بن ورقاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند العسكري في كتاب " الصحابة ". وحديث عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند أبي عمر بإسناد جيد. وحديث عبد الله بن رواحة عند ابن قانع والطبراني. وحديث فضالة بن عبيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند أبي عمر، وحديث أبي بردة الأسلمي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند البزار والنيسابوري في الآداب. وحديث أبي عوسجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الطبراني والبزار وأعله. وحديث شعيب بن غالب الكندي عند أبي نعيم في " معرفة الصحابة ". وحديث يسار جد عبد الله بن مسلم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند ابن أبي حاتم وأعله. وحديث أبي بن عمارة عند الحاكم وصححه. وحديث عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند النيسابوري في "الآداب"، وانفرد به. وحديث مالك بن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند أبي نعيم في كتاب " الصحابة "، وحديث أبي زرعة عند ابن حزم وصححه، وحديث كعب بن عجرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عنده أيضاً وصححه. وحديث أبي طلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الطبراني في " الصغير ".
وحديث عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند أبي عمر. وحديث الزبير بن العوام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الطبراني. وحديث خالد بن سعد بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند النيسابوري، وحديث أبي العلاء الدارمي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الحافظ ابن عساكر في ترجمة: أحمد بن علي.(1/573)
حتى قيل: إن من لم يره لم كان مبتدعا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحديث أوس الثقفي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند ابن أبي شيبة في " مصنفه ".
وحديث ربيعة بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الطبراني، وحديث خالد بن عرفطة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند أسلم بن سهل الواسطي في " تاريخ واسط "، وخالد هذا له حديث واحد عند الترمذي والنسائي، وحديث عبد الرحمن بن حسنة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الطبراني، وحديث عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عنده أيضاً. وحديث عروة بن مالك. وحديث ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عند الدارقطني بسند صحيح. وحديث أم سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عند النيسابوري. وقال أبو عمر بن عبد البر: لم يرو عن أحد من الصحابة إنكار المسح على الخفين إلا عن ابن عباس وأبي هريرة وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أما ابن عباس وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فقد جاء عنهما موافقة سائر الصحابة بأسانيد حسان. وأما عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقد أحالت علم ذلك على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وذلك في " صحيح مسلم "، وقال: لا ينكر المسح إلا مبتدع خارج عن جماعة المسلمين أهل الفقه والأثر.
وقال البيهقي: إنما بلغنا كراهة ذلك عن علي وابن عباس وعائشة، فأما الرواية عن علي سبق في كتاب المسح على الخفين، فلم يرد ذلك عنه بإسناد موصول يثبت مثله. وأما ابن عباس فإنما [كان] حين لم يثبت مسح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد نزول المائدة، فلما ثبت رجع إليه. وقال الكاساني: وأما الرواية عن ابن عباس فلم تصح؛ لأن مداره على عكرمة، وروي أنه لما بلغ ذلك عطاء قال: كذب عكرمة. وروي عن عطاء قال: كان ابن عباس يخالف الناس في المسح على الخفين فلم يمت حتى وافقهم. م: (حتى قيل: إن من لم يره كان مبتدعاً) ش: قال شيخ الإسلام وغيره: ومعنى لم يره أي من لم يعتقد المسح كان مبتدعاً لمخالفة السنن المشهورة، والمبتدع هو الذي يخرج عن مذهب أهل السنة والجماعة، وقد مر عن الكرخي أنه قال: من أنكر المسح يخاف عليه من الكفر.
وقالت الخوارج والإمامية: لا يجوز المسح على الخفين، وبه قال أبو بكر بن أبي داود وخالف أباه في ذلك، فكأنهم تعلقوا بما روي «عن ابن عباس أنه قال: مسح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد سورة المائدة، ولأن أمسح على طهر في صلاة أحب إلي من أن أمسح على الخفين» وإنما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لأن تقطع قدماي أحب إلي من المسح على الخفين. والجواب عما روي عن ابن عباس فقد ذكرناه آنفا.
وأما حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقال ابن الجوزي في " العلل المنتاهية " هذا حديث موضوع، وضعه محمد بن مهاجر على عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقال ابن حبان: محمد بن مهاجر كان يضع الحديث، فظهر أن الحديث باطل لا أصل له. وأما الرافضة فإنهم يرون المسح على الرجلين من غير حائل، وقال النووي: حكى المحاملي في المجموع وغيره عن مالك ست(1/574)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
روايات: إحداها: لا يجوز المسح أصلاً. ثانيها: يكره، ثالثها: يجوز من غير توقيت وهي المشهورة عند أصحابه. رابعها: يجوز مؤقتاً. خامسها: يجوز للمسافر دون المقيم. سادسها: قال النووي: كل هذا الخلاف باطل مردود. وقال أبو بكر: ومن روى عن مالك إنكاره مستدلاً بأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أقاموا بالمدينة أعمارهم ولم يرو عن أحد منهم أنه مسح على الخفين فهو وهم منه، ولا يلزم؛ لأن هذه الحيلة العزيزة الكريمة فعلت الأفضل في ترك المسح وسن الجواز رفقاً بالأمة.
قلت: روي «عن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " كنت معه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائماً فتوضأ ومسح على خفيه» رواه مسلم، وفي رواية البيهقي: «سباطة قوم بالمدينة» . وعن الإسماعيلي الحافظ كذلك، وقال في " الإمام ": وقد وقع لنا من جهة ابن أبي نعيم «عن المغيرة أنه مسح مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة،» وقد علم أن الإثبات مقدم على النفي.
فإن قلت: المسح أفضل أم الترك؟ قلت: الغسل أفضل، وبه قال الشافعي، ومالك، وروى ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وابنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. ورواه البيهقي عن أبي أيوب الأنصاري أيضاً. وقال الشعبي، والحاكم، وحماد، والإمام الرستغفني من أصحابنا: إن المسح أفضل، وهو أصح الروايتين عن أحمد. إما لنفي التهمة عن نسبته إلى الروافض والخوارج، فإنهم لا يرونه كما قلنا، وإما للعمل بقراءة النصب والجر. وعن أحمد في رواية أخرى عنه أنها سواء، وهو اختيار ابن المنذر. واحتج من فضل المسح بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث المغيرة: «بهذا أمرني ربي» ، رواه أبو داود، والأمر إذا لم يكن للوجوب يكون ندباً.
ولنا ما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رخص لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أيام للمسافر ويوم وليلة للحاضر» . ذكره ابن خزيمة في " صحيحه ". وفي حديث صفوان: «رخص لنا أن لا ننزع خفافنا» رواه النسائي، والأخذ بالعزيمة أولى. وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا من الفقهاء روي عنه إنكار المسح إلا مالكاً، والروايات الصحاح بخلاف ذلك.(1/575)
لكن من رآه ثم لم يمسح آخذا بالعزيمة
كان مأجورا.
ويجوز من كل حدث موجب للوضوء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: فيه نظر لما روي في " مصنف " ابن أبي شيبة من أن مجاهداً وسعيد بن جبير وعكرمة كرهوا، وكذا حكاه أبو الحسين النابه، عن محمد بن على بن الحسين وأبي إسحاق السبيعي، وقيس بن الربيع. م: (لكن من رآه ثم لم يمسح) ش: حال كونه م: (آخذا) ش: على صيغة الفاعل، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الفاعل أيضاً م: (بالعزيمة) ش: الباء تتعلق بأخذ. قال الأترازي: آخذا بالعزيمة: أي: للأخذ بما هو أصل.
قلت: جعل انتصاب أخذ على التعليل، وما قلنا هو الأحسن، لأن الحال قيد، وكون الأخذ قيداً أولى من كونه علة. والعزيمة في اللغة عبارة عن الإرادة المؤكدة، دل على هذا قَوْله تَعَالَى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] (طه: الآية 115) ، أي قصداً بليغا. وفي الشريعة ثابتاً ابتداء غير متصل بعارض.
م: (كان مأجوراً) ش: يعنى مثاباً؛ لأن العمل بالعزيمة أولى.
فإن قلت: تجب لا يكون مأجوراً لما أنه رخصة إسقاط، وفيها لا ينفي العزيمة مشروعة أصلاً فلأجل ذلك قيل: إن المصنف بأخذه بهذه الآية خالف رواية أصول الفقه، فإن المذكور فيها أن المسح عسلى الخفين رخصة إسقاط كالصلاة في السفر، والعزيمة لم تكن مشروعة فيها فكيف يؤجر على غير المشروع.
قلت: ليس الأمر كذلك؛ لأن المسح إنما كان رخصة إسقاط ما دام المكلف مخففاً، وأما إذا نزع خفيه أو أحدهما، والنزع مشروع في حقه، فلا يكون حينئذ من ذلك النوع، نظير هذا من ترك السفر فإنه يسقط عنه سبب الرخصة.
وأما أخذ المصنف بهذا فغير موجه؛ لأنه تبع في هذا شيخ الإسلام خواهر زاده، في " مبسوطه "، فإن ذكر فيه وقال: كان مأجوراً، وقال تاج الشريعة: فإن قلت: كيف يكون مأجوراً، وأنه رخصة إسقاط فكان نظير الصلاة في حق المسافر، ولو صلى المسافر أربعاً لا يؤجر بل يكره، قلت: إن الغسل أشق من المسح ويكون أبعد عن الخلاف.
[شروط المسح على الخفين]
م: (ويجوز) ش: أي المسح على الخفين م: (من كل حدث موجب للوضوء) ش: موجب بكسر الجيم من الإيجاب، وجعل الحدث موجباً مجازاً؛ لأنه ناقض للوضوء، فكيف يكون موجباً والموجب إرادة الصلاة والحدث شرطه، فجاز أن يضاف الإيجاب إليه كما في صدقة الفطر.
فإن قلت: ذكر في " المبسوط " و " خير مطلوب ": أن الحدث هو السبب.
قلت: نعم، ذكره هكذا، ولكنه غير صحيح، والحدث شرط على الصحيح، وقيده بقوله: موجب للوضوء احترازاً عن موجب الجنابة على ما يأتي عن قريب عن شاء الله تعالى.(1/576)
إذا لبسهما على طهارة كاملة ثم أحدث خصه بحدث موجب للوضوء؛ لأنه لا مسح من الجنابة على ما نبين إن شاء الله. وبحدث متأخر؛ لأن الخف عهد مانعا، ولو جوزناه بحدث سابق كالمستحاضة إذا لبست ثم خرج الوقت،
والمتيمم إذا لبس الخفين ثم رأى الماء لكان الخف رافعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إذا لبسهما) ش: أي الخفين م: (على طهارة كاملة) ش: قيد بهذا احترازاً مما إذا توضأ بسؤر الحمار أو بنبيذ التمر لا يجوز المسح عليهما؛ لأن نبيذ التمر بدل عن الماء عند أبي حنيفة، ولهذا لو وجد في خلال صلاته يفسد صلاته، فلو جاز المسح كان هذا بدل البدل، وذا لا يجوز، وفي زيادة الحاكم الشهيد لا يمسح بنبيذ التمر لعدم الضرورة، ويمسحبسؤر الحمار؛ لأنه ماء مطلق عند طهوره، وفي " زيادات قاضي خان " اختلف المشايخ في جواز المسح على الخفين بنبيذ التمر. وفي " خواهر زاده ": نبيذ التمر ذكره عنه المرغيناني. وفي " جوامع الفقه " للعتابي في جواز المسح بنبيذ التمر روايتان عن أبي حنيفة، وحكى الجواز الأسبيجابي أيضاً.
م: (ثم أحدث) ش: أي ثم أحدث بعد لبسهما على طهارة كاملة، وأشار بكلمة ثم إلى أن المسح بعد الحدث لا بعد اللبس، وهذه عبارة القدوري، وباقي ما قاله المصنف فيه م: (خصه بحدث) ش: أي خص القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - المسح بحدث م: (موجب للوضوء) ش: فسر المصنف قول القدوري هذا بقوله (لأنه) ش: أي؛ لأن الشأن م: (لا يمسح) ش: على الخفين م: (من الجنابة على ما نبين إن شاء الله تعالى) ش: لأن الجنابة ألزمت غسل جميع البدن ومع الخف لا يتأتى.
م: (وبحدث متأخر) ش: أي خص القدوري المسح أيضاً بحدث متأخر عن الوضوء، كذا ما قاله الأكمل. وقال الأترازي متأخر عن اللبس وهو الأوجه م: (لأن الخف عهد) ش: أي عرف وهو صيغة المجهول، والعهد يأتي لمعان كثيرة بمعنى: اليمين، والأمان، والذمة، والحفظ، ورعاية الحرمة، والوصية، فكل واحد من هذه يذكر لما يناسبه بحسب الداعي م: (مانعاً) ش: نصب على الحال من الضمير الذي في عهد، يعني مانعاً من سراية الحدث إلى القدم لا رافعاً للحدث؛ لأن الرفع هو المطهر والخف ليس كذلك م: (ولو جوزناه) ش: أي ولو جوزنا المسح على الخفين م: (بحدث سابق على اللبس كالمستحاضة إذا لبست) ش: الخفين، الدم يسيل م: (ثم خرج الوقت) ش: قيد به؛ لأن المستحاضة يجوز لها أن تمسح ما دام الوقت باقياً، فإذا خرج الوقت ففيه الخلاف، فعندنا لا تمسح، وعند زفر تمسح مدة المسح على حسب السفر والإقامة.
م: (والمتيمم) ش: أي وكالمتيمم م: (إذا لبس الخفين ثم رأى الماء) ش: وتوضأ لا يمسح؛ لأنه برؤية الماء ظهر الحدث السابق م: (لكان الخف رافعاً) ش: للحدث السابق، والحكم في مسألة المتسحاضة أن يكون الدم سائلاً عند الوضوء واللبس أو عند أحدهما أو بينهما، وإن كان منقطعاً عندهما أو بينهما فحكمه حكم الأصحاء، وعند زفر حكمها حكم الأصحاء في الوضوءات كلها، وعلى هذا سائر أصحاب الأعذار.(1/577)
وقوله: إذا لبسهما على طهارة كاملة لا يفيد اشتراط الكمال وقت اللبس، بل وقت الحدث، وهو المذهب عندنا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقوله) شك أي قول القدوري لا يقال: إنه إضمار قبل الذكر، وكذلك الضمير في قوله: خصه بحدث؛ لأنه معلوم بقرينة الحال؛ لأن المصنف في صدد شرح كلام القدوري م: (إذا لبسهما على طهارة كاملة لا يفيد اشتراط الكمال وقت اللبس) ش: يعني اشتراط القدوري كمال الطهارة وقت لبس الخفين لا يجوز؛ لأن المذهب اشتراط الكمال وقت الحدث، أشار بكلمة الإضراب بقوله: م: (بل وقت الحدث) ش: أي بل اشتراط الكمال وقت الحدث هو الذي يفيده. وقال الأكمل: إن كان مراد المصنف هذا الذي قرروه ففي كلام القدوري تسامح، وإن كان غير ذلك يحتاج إلى بيان؛ لأن ظاهر كلام القدوري يفيد ذلك.
قلت: تحرير هذا أن القدوري ذكر اللبس وأراد به بقاءه، يعني إذا لبسهما باقياً عند الحدث يمسح؛ لأن ما له دوام يأخذ بقاؤه حكم ابتدائه كما لو حلف: لا يسكن هذه الدار، يحنث فيها بالبقاء، حتى لو غسل رجليه وأدخلهما خفيه، ثم أكمل طهارته يمسح، وكذا لو لبسهما وهو محدث ثم توضأ وخاض الماء حتى انغسلت رجلاه ثم أحدث يمسح لكمال الطهارة عند الحدث، ولو غسل رجليه الواحدة وأدخلها الخف وحدها ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف يجوز له المسح إذا أحدث، وبه قال الثوري، والمزني، وابن المنذر، والطبري، وداود الظاهري، ويحيى بن آدم، وأبو ثور. وقال الشافعي وأحمد: ينزع الخف الأول ثم يعيده إلى مكانه، وإن لم يفعله لا يجوز له المسح. وفي " المبسوط ": هذا اشتغال بما لا يفيد.
م: (وهو المذهب عندنا) ش: أي اشتراط الكمال وقت الحدث لا وقت اللبس هو المذهب عندنا خلافا للشافعي، فإنه يشترط الكمال وقت اللبس، واحتج الشافعي على ذلك بأحاديث منها في " الصحيحين " حديث المغيرة بن شعبة، وفيه: «ثم أهويت إلى الخفين لأنزعهما فقال: " دع الخفين، فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهران» فمسح عليهما، واستدل الأترازي بهذا الحديث على اشتراط اللبس على الطهارة، وليس بظاهر على ما نقول في جوابه، وأقرب ما يستدل به حديث أخرجه الدارقطني عن أبي بكرة «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليها، وللمقيم يوماً وليلة إذا تطهر فلبس خفية أن يمسح عليهما» . فقالوا: إن الفاء للتعقيب، والطهارة إذا أطلقت إنما يراد بها الطهارة الكاملة.
والجواب عن ذلك: أنه ليس له حجة في الأحاديث التي تتعلق بنا، لأنا نقول بعدم جواز المسح إلا بعد غسل الرجل، ومحل الخلاف يظهر في المسألتين، إحداهما: إذا أحدث ثم غسل رجليه ثم لبس الخفين ثم مسح عليهما، ثم أكمل وضوء الثانية إذا أحدث ثم توضأ، فلما غسل إحدى رجليه لبس عليها الأخرى ثم غسل الأخرى ثم لبس عليها الخف، فإن هذا المسح جائز عندنا(1/578)
حتى لو غسل رجليه ولبس خفيه ثم أكمل الطهارة ثم أحدث يجزئه المسح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في الصورتين، خلافا له، هذا تحرير مذهبنا. والشافعية يقولون هنا: إن الحنفية لا يشترطون كمال الطهارة في المسح، وهذا يدخل ما لو توضأ ولم يغسل رجليه ثم لبس الخفين وليس كذلك عندنا، بل لا يجوز له في الصورة؛ لأن الحدث باق في القدم.
وقال الخطابي في تعليل هذه المسألة: وذلك أنه جعل طهارة القدمين معاً قبل لبس الخفين شرطاً لجواز المسح عليهما وعلله بذلك، والحكم المعلق بشرط لا يصح إلا بوجود شرطه، ولكن لا نسلم أنه شرط كمال الطهارة وقت اللبس؛ لأنه لا يفهم من نص الحديث، غاية ما في الباب أخبر أنه لبسهما وقدماه كانتا طاهرتين، فأخذنا من هذا اشتراط الطهارة لأجل جواز المسح، سواء كانت الطهارة لأجل جواز المسح حاصلة وقت اللبس، أو وقت الحدث، وتقييده بوقت اللبس أمر زائد لا يفهم من العبارة. وقال الطحاوي - رحمة الله عليه -: معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أدخلتهما وهما طاهرتان» يجوز أن يقال: طاهرتان إذا غسلهما وإن لم تكمل الطهارة، كما يقال: صلى ركعتين قبل أن يتم صلاته، ويحتمل أن يريدهما طاهرتان من جنابة أو خبث.
فإن قلت: إذا كان الخف مانعاً من سراية الحدث إلى القدم كان ينبغي أن يمسح عليه إذا غسل رجليه ولبس الخفين ثم أحدث قبل كمال الطهارة.
قلت: علم كونه مانعاً من سراية الحدث إلى القدم بالنص على خلاف القياس عند كمال الطهارة فيقتصر عليه. وأما حديث أبي بكرة فإنه ضعيف وفي إسناده: مهاجر بن مخلد، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: لين الحديث، ليس بذلك، ثم إنه قد روي بالواو: " ولبس خفية "، وعلى تقدير صحته فهو محمول على طهارة الرجلين.
م: (حتى لو غسل رجليه ولبس خفيه ثم أكمل الطهارة ثم أحدث يجزئه المسح) ش: هذه نتيجة قوله، وهو المذهب عندنا، قال الأكمل: قيل: لا يصح أن يكون نتيجة ما ذكر من اشتراط اللبس على طهارة كاملة، فإن عدم جواز المسح ها هنا باعتبار ترك الترتيب في الوضوء لا باعتبار اشتراط الطهارة الكاملة وقت اللبس.
قلت: هذا كلام السغناقي وصاحب " الدراية " بعده. ثم قال الأكمل: ويجوز أن يقال لما أثبت المصنف بالدليل فيما تقدم أن الترتيب في الوضوء ليس بشرط، صح أن يبني هذا الفرع على هذا الخلاف لكونه أثبت الدليل في الوضوء أن الترتيب ليس بشرط، بل يمكن أن يقال: إن هذا الفرع له وجهان في الفساد عند الشافعي، أحدهما: من جهة ترك الترتيب، والثاني: من جهة عدم كمال الطهارة وقت اللبس، فالمصنف في هذا على الوجه الثاني مع قطع النظر عن الأول.(1/579)
وهذا؛ لأن الخف مانع حلول الحدث بالقدم فيراعي كمال الطهارة وقت المنع حتى لو كانت ناقصة عند ذلك كان الخف رافعا.
ويجوز للمقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا؛ لأن الخف مانع حلول الحديث بالقدم) ش: هذا استدلال من جهة العقل، ولم يذكر ما هو من جهة النقل م: (فيراعي كمال الطهارة وقت المنع) ش: الفاء فيه جواب شرط محذوف، أي: فإذا كان الخف مانعاً عن سريان الحدث إلي القدم فيراعي كمال الطهورية عن حلول الحدث ولا يراعى وقت اللبس.
م: (حتى لو كانت) ش: نتيجة ما قبلة، أي حتى لو كانت الطهارة م: (ناقصة عند ذلك) ش: أي عند حلول الحدث م: (كان الخف رافعاً) ش: وليس كذلك؛ لأنه عهد مانعاً، أراد أن الطهارة إذا لم تكن كاملة عند الحدث لا يجوز المسح كما إذا لبس خفيه بعد غسل رجليه ثم أحدث ثم توضأ لا يجوز المسح لما قلنا، ولأن الحدث وإن ارتفع عن الرجلين لم يرتفع حكمه، ولهذا لا تجوز صلاته فيكون الخف رافعاً حكماً وإن جعل مانعاً حقيقة، ولو توضأ للفجر وغسل رجليه ولبس خفيه، وصلى ثم أحدث وتوضأ للظهر، وصلى ثم للعصر كذلك ثم تذكر أنه لم يمسح برأسه في الفجر نزع خفيه ويعيد الصلوات؛ لأنه تبين أن اللبس لم يكن على طهارة كاملة، وإن تبين أنه لم يمسح للظهر فعليه إعادة الظهر خاصة؛ لأنه لبسه على طهارة كاملة فتكون طهارة الأصل كاملة.
فإن قلت: إذا غسل القدمان رفع الحدث عنهما حكماً، فإذا انضم إليه غسل بقية الأعضاء ارتفع الحدث بالمجموع فكان مانعاً لا رافعاً.
قلت: كلهم اتفقوا على أن المسح لا يجوز إلا بعد طهارة كاملة، واختلافهم في وقتها، فلو كانت الطهارة ناقصة عند حلول الحدث يلزمه أن يكون الخف رافعاً للحدث الحكمي الذي حل بالقدم؛ لأنه وإن زال بالماء حقيقة لكنه باق حكماً لعدم التجزئ، وعن بقية الأعضاء أيضاً يرد النقض على مسح الخف طهارة كاملة فكان مانعاً لا رافعاً وهو خلف.
فإن قلت: هذا يقتضي وجود الطهارة الكاملة وقت الحدث، نحن لا نمنع ذلك، وإنما نقول: إنها لا تكفي، بل يحتاج إلى وجودها وقت اللبس أيضاً، وما ذكرتم لا يدفع ذلك.
قلت: كلام المصنف لا يدفع ذلك، والدفع أن وجود الطهارة يحتاج إليه عند سريان ما يزيلها، وهو الحدث تحقيقاً للإزالة، وأما قبل ذلك فهي مستغنى عنها، فلا فائدة في اشترطها.
[مدة المسح على الخفين للمقيم والمسافر]
م: (ويجوز) ش: أي المسح م (للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها) ش: التوقيت في المسح قول عامة العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وقال الخطابي: هو قول عامة الفقهاء. وقال ابن المنذر هو قول عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن زيد الأنصاري، وعطاء، وشريح، والكوفيين، ويحكى عن الأوزاعي، وأبي ثور، والحسن بن(1/580)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صالح، وأحمد، وإسحاق.
وقالت طائفة: لا توقيت في المسح، ويمسح ما شاء، يروى عن الشعبي، وربيعة، والليث، وأكثر أصحاب مالك، وسمع مطرف مالكا يقول: التوقيت بدعة، وقال الشافعي: لا توقيت فيه، قاله نصر. وقال النووي: هو قوله القديم: وهو ضعيف وواه جداَ، ولا تفريع عليه، وحكى ابن المنذر عن سعيد بن جبير أنه يمسح من غدوه إلى الليل، وعن الشعبي، وأبي ثور وسليمان بن داود: أنه لا يصلي به إلا خمس صلوات إن كان مقيماً، وخمس عشرة إن كان مسافراً، وهو مذهب مردود؛ لأن التوقيت بالزمان لا بتعدد الصلوات.
وفى " المحيط ": لو خاف على رجله يمسح على خفيه من غير توقيت للضرورة، وفي " جوامع الفقه " المسافر بعد الثلاث يمسح على خفيه لخوف البرد للضرورة. وفي " الاستذكار ": روي عن مالك إنكار المسح على الخفين في الحضر والسفر أكثر وأشهر، وعلى ذلك بنى موطأه، وقد ذكرنا في أول الباب عن مالك ست روايات.
وقال ابن المنذر في كتاب " الإجماع ": أجمع العلماء على جواز المسح على الخفين، وقد صح رجوع من كان مخالفهم، وكذلك لا أعلم أحداً من الفقهاء المسلمين روي عنه إنكار المسح إلا مالكاً، الرواية الصحيحة الرجوع بخلاف ذلك، وعلى ذلك جميع أصحابه، احتج من قال بعدم التوقيت بما خرجه أبو داود، والدارقطني، البيهقي، «عن أبي بن عمارة، وقد كان صلى مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى القبلتين قال: قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنمسح على الخفين، قال: " نعم " قلت: يوم، قال: " ويومين " قلت: وثلاثة أيام قال: " نعم، وما شئت " وفي رواية: حتى بلغ سبعاً، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " نعم ما بدا لك.»
والجواب عنه: أن أبا داود قال: هذا الحديث ليس بالقوي، واختلف في إسناده، وقال الدارقطني: إسناده لا يثبت، وقال ابن القطان: فيه محمد بن زيد، وهو ابن أبي زياد صاحب حديث الصور، قال فيه أبو حاتم: مجهول، ويحيى بن أيوب مختلف فيه، وهو ممن عيب على مسلم إخراج حديثه. وقال ابن العربي: وفي طريقه ضعفاء أو مجاهيل، منهم: عبد الرحمن بن زيد، ومحمد بن يزيد وأيوب بن قطن، وقال البخاري: حديث مجهول، لا يصح. وقال أحمد: رجاله لا يعرفون، وقال الثوري: اتفقوا على أنه ضعيف مضطرب لا يحتج به.(1/581)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: رواه الحاكم في " المستدرك " وقال: إسناده بصري، ولم ينسب واحد منهم إلى جرح، وأبي بن عمارة صحابي مشهور، ولم يخرجاه.
قلت: لا يؤخذ منه ما قاله مع وجود ما ذكرنا، وكيف يخرجه البخاري مع قوله: حديث مجهول.
فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك فما مستند أهل المدينة في المسح أكثر من ثلاث ويوم وليلة.
قلت: قال أبو زرعة: لهم فيه أثر صحيح من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كان لا يوقت في المسح على الخفين وقتاً، واحتجوا أيضاً برواية حماد بن زيد عن كثير بن شنظير عن الحسن قال: سافرنا مع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكانوا يمسحون خفافهم بغير وقت ولا عذر، رواه ابن الجهيم في " كتاب " وروى ابن الجهيم في " كتابه " بسنده إلى سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه خرج من الخلاء فتوضأ ومسح على خفيه، فقلت له: تمسح عليهما وقد خرجت من الخلاء، قال: نعم إذا أدخلت القدمين إلى الخفين وهما طاهرتان فامسح عليهما ولا تخلعهما إلا لجنابة.
وروى أيضاً بسنده إلى عروة أنه كان لا يوقت في المسح، وروي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة، قاله ابن عبد البر في " الاستذكار "، وهم عمر بن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص، وعقبة بن عامر، وعبد الله بن عمر.
والجواب عن ذلك أن هذا لا يصادم الأحاديث الصحيحة في التوقيت على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى، على أن ابن حزم ضعف كثير بن شنير جداً، وعن يزيد بن مغفل عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة، فدل ذلك على رجوع عمر إلى التوقيت في المسح.
وأخرج الطحاوي ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من ثمان طرق، وأخرجه البهيقي من حديث الأسود عن شبابة عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن.
وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " أخبرنا عائذ بن حبيب، عن طلحة بن يحيى، عن أبان بن عثمان قال: سألت سعد بن أبي وقاص عن المسح على الخفين فقال: نعم ثلاثة أيام ولياليهن(1/582)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للمسافر، ويوم وليلة للمقيم، فهذا أيضاً يدل على رجوعه إلى التوقيت، والمرجع في هذا إلى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولى.
فإن قلت: روى الحاكم في " مستدركه " حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليصل فيهما وليمسح عليهما ثم لا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة» . وقال الحاكم: إسناده صحيح على شرط مسلم ورواته آخرهم ثقات.
وروى الحاكم أيضاً من حديث عقبة بن عامر الجهني، أنه قدم على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بفتح دمشق، قال: وعلي خفاف فقال لي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كم لك يا عقبة منذ لم تنزع خفيك، فذكرت من الجمعة منذ ثمانية أيام، فقال: أحسنت وأصبت السنة، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم ورواه الدارقطني، والبيهقي أيضاً.
قلت: الجواب عن الأول ما قاله ابن الجوزي في " التحقيق " أنه محمول على مدة الثلاث، وقال ابن حزم: هذا مما انفرد به أسد بن موسى عن حماد، وأسد منكر الحديث لا يحتج به.
قلت: ليس كذلك، فإن أسد ثقة، وليس له ذكر في شيء من كتب الضعف، ووثقه البزار وابن يونس. والجواب عن الثاني: ما قاله الطحاوي: ليس فيه دليل قطعي على أن قوله: أصبت السنة من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن السنة يحتمل أن تكون سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحتمل أن تكون سنة أحد من خلفائه، وقد تطلق أيضاً على قول أحد من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
فإن قلت: روي عن خزيمة بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوم وليلة» ، ورواه أبو داود والطحاوي ثم قال أبو داود: رواه منصور بن المعتمر عن إبراهيم التيمي بإسناده، ولو استزدناه لزادنا، وفي رواية الطحاوي: ولو { ... } عليه السائل لزاده.
قلت: ذكر في " الإمام ": أن فيه ثلاث علل.(1/583)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأولى: اختلاف إسناده وله ثلاثة مخارج، رواية إبراهيم التيمي وإبراهيم النخعي ورواية الشعبي، ثم ذكر الزيادات، أعني لو استزدناه لزادنا، وبعضها ليست فيه.
الثانية: الانقطاع، قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: لا يصح، وحديث خزيمة بن ثابت في المسح [ضعيف] ؛ لأنه لا يعرف لأبي عبد الله الجدلي سماع من خزيمة.
الثالثة: قال ابن حزم: إن أبا عبد الله الجدلي لا يعتمد على روايته.
فإن قلت: لما روى الترمذي حديث خزيمة هذا قال: حديث حسن صحيح، وكيف ينقل عن البخاري أنه لا يصح.
قالت: والظاهر أن قوله - لم يصح - هو بالزيادة المذكورة مع الخلاف رواية، وأما تصحيحه وتحسينه فبغير الزيادة المذكورة، واسم أبي عبد الله الجدلي عبد بن عبيد، ويقال: عبد الرحمن بن عبيد.
وذكر الأكمل في احتجاج مالك حديثين: أحدهما: «حديث عمار بن ياسر، قال: قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نمسح على الخفين يوماً؟ قال: نعم، فقلت: يومين؟ قال: نعم، حتى انتهيت إلى سبعة أيام، فقال: " إذا كنت في سفر فامسح ما بدا لك» .
والآخر: ما روى سعد بن أبي وقاص وجرير بن عبد الله، وحذيفة بن اليمان، في جماعة من الصحابة، فإنهم رووا المسح على الخفين غير مؤقت، ذكره أبو بكر الرازي في " شرح مختصر الطحاوي ".
فالحديث الأول: لمالك في عدم جواز المسح للمسافر، والثاني: أنه غير مؤقت، وكذا نقله الأترازي عن أبي بكر الرازي.
قلت: هذا عجز ظاهر حيث ذكر أحد الحديثين ونسبه إلى أحد من الفقهاء، أو نقله من كتاب الأصل، فكان [عليه أن] يبين مخرجه، ورجاله سنده، حتى يرضي الخصم بذلك.
وأما حد نسبة الأكمل الحديث الأول إلى عمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه نظر؛ لأن الحديث لأبي عمارة، أخرجه أبو داود وغيره كما ذكرناه عن قريب. وأما حديث عمار فقد قال البيهقي: روينا عنه جواز المسح.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يمسح المقيم يومياً وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» ش: هذا الحديث أخرجه جماعة منهم الطبراني من حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «للمسافر ثلاثة أيام ولياليها(1/584)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وللمقيم يوم وليلة في المسح على الخفين»
ومنهم الحافظ أبو نعيم في كتاب " معرفة الصحابة " من حديث مليكة بنت الحارث قالت: حدثني أبي عن جدي مالك بن سعد أنه «سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: وسئل عن المسح على الخفين. قال: " ثلاثة أيام للمسافر، ويوم وليلة للمقيم» .
ومنهم أبو نعيم أيضاً من حديث مالك ين ربيعة قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ ومسح على خفية» وروى «للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوم وليلة» .
ومنهم من حديث شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أسالها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب فاسأله للمقيم فإنه كان مسافراً مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألناه، فقال: «جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر للمقيم ويوماَ وليلة للمقيم» . ورواه ابن خزيمة في " صحيحة " بلفظ: «رخص لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسح على الخفين ثلاثة أيام إلى آخره» .
ومنهم أبو دود: من حديث خزيمة بن ثابت قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوم وليلة» ، أخرجه ابن ماجه، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
ومنهم ابن أبي شيبة أخرجه في " مصنفه " من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر بالمسح على ظاهر الخف للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوما وليلة» .
ومنهم الحافظ أبو بكر النيسابوري من حديث عمرو بن أمية الضمري أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة» .(1/585)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنهم البزار من حديث عوف بن مالك لا يخفى «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم» .
ومنهم البزار أيضًا من حديث أبي هريرة «أن رجلاً سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المسح على الخفين فقال: " للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن» .
ومنهم الدارقطني: من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة إذا طهر ولبس خفية أن يمسح عليهم» رواه ابن خزيمة أيضاً، والأثرم، وقال الطحاوي: هو صحيح الإسناد، وقال البخاري: حديث حسن.
ومنهم الطبراني في " الكبير " من حديث المغيرة: «آخر غزوة غزونا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرنا أن نمسح على خفافنا للمسافر ثلاثة أيام ولياليها، وللمقيم يوماً وليلة ما لم يخلع» .
ومنهم الترمذي من حديث صفوان بن عسال بفتح العين المهملة وتشديد السين المهملة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا إذا كنا مسافرين أو سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ويروى لا من جنابة، ولكن من غائط، وبول، ونوم» وقال: حديث حسن صحيح، ورواه النسائي وابن ماجه وابن حبان في " صحيحه " وابن خزيمة، أيضاً قوله: " أو سفراً " شك من الراوي بفتح السين وسكون الفاء جمع مسافر كركب وراكب.
وقيل: اسم جمع، وذكر الغائط والبول والنوم خرج مخرج الغالب، وفي معناها: زوال العقل بالجنون، والإغماء، وكذا القيء، وخروج الدم، وكل ما كان حدثاً، وفي معنى الجنابة النفاس، والحيض على أصل أبي يوسف إذا كانت مسافرة؛ لأن أقل الحيض عنده يومان وليلتان وأكثره الثلاث، فيمكنها المسح في بقية المدة وما فيه غسل جميع البدن، ويؤخذ منها أنه لا يمسح على الخف من نجاسة.
قوله: لكن، حرف استدراك بعد النفي، وإذا استدرك بها الإثبات يختص بالجملة دون(1/586)
قال: وابتداؤها عقيب الحدث؛
لأن الخف مانع سراية الحدث إلى القدم فيعتبر المدة من وقت المنع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المعنى، وقيل: في لفظ الحديث إشكال؛ لأن قوله: «أمرنا أن لا ننزع خفافنا إلا من جنابة» معقب بالاستثناء فيصير إيجاباً، وقوله: بعد ذلك، لكن استدرك من إيجاب المفرد وذلك خلاف ما تقدم. قوله: وبول ونوم، بواو العطف في كتب الحديث ووقع في كتب الفقه كلها أو للتنويع.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وابتداؤها) ش: أي ابتداء مدة المسح م: (عقيب الحدث) ش: لا من وقت اللبس، وبه قال الشافعي والثوري وجمهور العلماء، وهو أصح الروايتين عن أحمد وداود، وقال الأوزاعي وأبو ثور: ابتداء المدة من حين يمسح بعد الحدث وهو رواية عن أحمد وداود، وهو المختار، والراجح دليلاً ذكره النووي واختاره ابن المنذر وحكى نحوه عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وعن الحسن البصري أن ابتداءها من وقت اللبس، ويلزم على قول الحسن أنه إذا مضى يوم وليلة على المقيم ولم يحدث وجب أن ينزع الخف ولا يجزئه المسح بعد ذلك وهو محال، وعلى من يعتبر من وقت المسح أنه إذا لبس خفيه وأحدث ولم يمسح ثم أغمي عليه بعد ذلك أسبوعاً أو شهراً أنه لا ينزع خفيه ويمسح عليهما وهو محال أيضاً، كذا في " مبسوط " شيخ الإسلام وشمس الأئمة.
ثم بيان الأقوال الثلاثة ممن توضأ عند طلوع الفجر، ولبس الخف ثم أحدث بعد طلوع الشمس ثم توضأ ومسح بعد الزوال فعلى قول العامة يمسح المقيم إلى وقت الحدث من اليوم الثاني وهو ما بعد طلوع الشمس من اليوم الثاني، وعلى القول الثاني إلى وقت طلوع الفجر من اليوم الثاني وهو وقت اللبس، وعلى القول الثالث إلى ما بعد الزوال من اليوم الثاني وهو وقت المسح، والصحيح قول العامة.
م: (لأن الخف مانع سراية الحدث إلى القدم) ش: أي مانع حلول الحدث بالرجل شرعاً م: (فتعتبر المدة من وقت المنع) ش: أي؛ لأن المانع عن الشيء إنما يكون مانعاً حقيقة عند سريان الممنوع، ثم الحقيقة أولى بالاعتبار، فتعتبر المدة من عنده. وفي " المبسوط ": لأن الحدث سبب للوضوء فتعتبر المدة من وقت السبب.
وقال أبو نصر الأقطع: عن إبراهيم الحربي قال: روي عن عشرة من الصحابة وعشرين من التابعين أن ابتداء المسح من وقت الحدث لا من وقت اللبس، ولأن الحدث سبب الرخصة حتى لو لم يحدث لا يحتاج إلى المسح، فتعتبر من وقت السبب، فأكثر ما يصلي به المقيم من الصلاة الوقتية ست صلوات، والمسافر ستة عشر وقتاً، إلا بعرفة والمزدلفة فإنها تكون سبعاً للمقيم وسبعة عشر للمسافر، ومثلها عند الشافعي في سائر الأماكن للجمع.(1/587)
والمسح على ظاهرهما خطوطا بالأصابع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كيفية المسح على الخفين]
م: (والمسح على ظاهرهما) ش: أي محل المسح على ظاهر الخفين، وهو المستحب عندنا، ومسح أسفل الخفين غير مستحب، وفي " البدائع " المستحب عندنا الجمع بن ظاهره وباطنه في المسح إذا لم يكن به نجاسة، وبه قال الشافعي، حكاه في " المهذب " حيث قال: والمستحب أن يمسح أعلى الخف وأسفله، والواجب عنده أقل جزء من أعلاه. وقال السغناقي: قال الإمام السرخسي في " المبسوط ": فإن مسح باطن الخف دون ظاهره لم يجز، فإن موضع المسح ظهر القدم.
وقال الشافعي: المسح على ظاهر الخف فرض، وعلى باطنه سنة. وقال صاحب " الهداية ": قوله على ظاهرهما احترازاً عن قول الشافعي، والزهري، ومالك، فإن السنة عندهم المسح على الخف وأسفله، إلا أن يكون على أسفله نجاسة، ولكن لو اقتصر على مسح أعلاه يجوز عندهم، ولو اقتصر على مسح أسفله لم يجز على ظاهر المذهب، وأظهر القولين عن الشافعي، ويجزئه في قول.
وأما مسح العقب فمن أصحابه من قال: يمسحه قولاً واحداً، ومنهم من قال: فيه قولان، أصحهما: أنه يمسحه، وفي الاقتصار على العقب قولان، الأظهر: أنه يجوز، وعندنا، والثوري وداود، وأحمد: لا مدخل لأسفل الخف في المسح ولا للعقب.
قلت: ما ذكر في " البدائع " هو قول علي، وأنس، وقيس بن سعد، وعروة بن الزبير، والحسن البصري، الشعبي، وعطاء، والنخعي، والثوري، والأوزاعي، وغيرهم، واختاره ابن المنذر، وروي عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، ومالك وجوب مسح ظاهرهما وباطنهما، وحكى النووي عن ابن المنذر أن مسح أسفلهما استحباب عندهم، وبه قال الشافعي، وهو قول لمالك: السنة مسح أعلى الخف وأسفله.
قلت: هذا مخالف لما نقله النووي وما نقله السغناقي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الأكمل: وفي " المغني ": ولا يسن مسح أسفله ولا عقبه، وبذلك قال عروة، وعطاء، وإسحاق، والنخعي، والأزواعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وابن المنذر، ولا نعلم أحداً قال يجزئه مسح أسفل الخف إلا أشهب من أصحاب مالك، وبعض أصحاب الشافعي، والمنصوص عن الشافعي: أنه لا يجزئه. وقال ابن المنذر: لا أعلم أحداً يقول بالمسح على الخفين، ويقول: لا يجزئه المسح على أعلى الخف.
م: (خطوطاً بالأصابع) ش: قال الأكمل: هو منصوب على الحال بمعنى مخطوطاً.
قلت: أخذه من السغناقي، وكذا قال صاحب " الدراية "، وتاج الشريعة، ولم يبين أحد منهم أن لفظ " الخطوط " مصدر أو جمع، وأن ذا الحال ما هو فنقول: و " الخطوط " جمع خط. قال الجوهري: الخط واحد الخطوط، وكذا قال في " العبارات " فإن كان الخطوط مصدراً والمصدر(1/588)
يبدأ من قبل الأصابع إلى الساق،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخط يقال: خط الكتابة خطاً. قال السغناقي: يقال خطه فلان كما يقال كتبه فلان، ثم قال في آخر الباب: وأكثر كتبه يدل على أنه من باب نصر ينصر، كذا في " دستور اللغة " وذا الحال هو المبتدأ، أي قوله: و " المسح " لأنه مرفوع على الابتداء، والخبر متعلق قوله: على ظاهرهما، وهو كائن أو جائز أو نحو ذلك، و " خطوطاً " على حاله من غير تأويل.
فإن قلت: المطابقة بين الحال وذي الحال شرط، وها هنا الحال جمع وذو الحال مفرد.
قلت: المصدر يتناول القليل والكثير، ويمكن أن يقال: إن ذا الحال محذوف والخطوط حال منه، والتقدير: ومسح الماسحين على ظاهر الخفين حال كونهم مخططين بالأصابع، فحينئذ يجوز خطوطاً بالمخططين على صيغة اسم الفاعل، لا للتأويل بالمفرد على ما قالوا من غير روية.
وقال الأترازي: وقوله خطوطاً بيان السنة لا شرط الجواز، وقال: هذا احتراز عن قول عطاء، فإنه يقول بتثليث المسح اعتبارا بالغسل، وذلك؛ لأن الخطوط إنما تبقى إذا مسح مرة واحدة.
قلت: هذا ليس باحتراز عن قول عطاء، فإنه لو قيل: خطوطا بالأصابع مرة كان احترازا عن قول عطاء قول؛ لأن الخطوط إنما تبقى إذا مسح مرة وفيه نظر؛ لأن بقاء الخطوط ليس بشرط، وغاية ما في الباب أن عطاء قاس مسح الخف على الغسل.
م: (يبدأ من قبل الأصابع إلى الساق) ش: هذا كيفية المسح أن يبدأ الماسح، وابتداؤه من قبل أصابع الرجل وانتهاؤه إلى الساق، وفيه إشارة إلى أن الساق لا يدخل؛ لأن الغاية لا تدخل تحت المغيا، وعن هذا قال الحسن عن أبي حنيفة أنه يمسح ما بين أطراف الأصل إلى الساق، وهذا الذي ذكره هو مقدار الواجب في المسح. وقال أحمد: الواجب مسح أكثر ظاهره، وعند مالك " مسح جميعه إلا مواضع، وعند الشافعي: إن اقتصر على جزء من أعلاه أجزاء بلا خلاف، وإن اقتصر على بعض أسفله لا يجزئه، نصه في البويطي و " مختصر المزني ".
ولهم فيه طرق ثلاث: طريقة جمهورهم عدم الإجزاء ذكره النووي في " شرح المذهب ".
وقال أبو عمر: حديث المغيرة يبطل قول أشهب أنه لا يجوز الاقتصار على ظاهر الخف. وفي " المغني " عن أشهب وبعض الشافعية أنه يجوز الاقتصار على أسفله. وقال ابن المنذر: لا أعلم أحداً يقول بالمسح على الخفين أنه يجزئ المسح أعلى الخفين. وقال ابن بطال: الصحابة مجمعون على أنه إن مسح أسفله دون أعلاه لم يجزه. وفي " المحيط ": السنة إكمال الفرض في محله كالعقب، والساق، والجوانب، والكعب، ولو مسح بأصبع واحدة في ثلاثة مواضع أو بدءاً من الساق أو من ظهر القدم عرضاً جاز، ولو كان بعض خفه خالياً ومسح قدر ثلاثة أصابع على المغسول جاز على الحال، والبداءة من رءوس الأصابع مستحبة اعتباراً بالغسل، وهو قول(1/589)
«لحديث المغيرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضع يديه على خفيه ومدهما من الأصابع إلى أعلاهما مسحة واحدة، وكأني أنظر إلى أثر المسح على خف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطوطا بالأصابع» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المرغيناني وظاهرهما من رءوس الأصابع إلى مقدار شراك النعل.
وفي " جوامع الفقه ": ولو مسح على إحدى رجليه مقدار إصبعين وعلى الأخرى مقدار خمسة أصابع لا يجزئه، فيعتبر مقدار ثلاث أصابع من رجل. ونص محمد على أن المعتبر فيه أكثر آلة المسح، ذكره في " المحيط " و " الزيادات " وقال الكرخي: ثلاث أصابع من الرجل واعتبره بالخرق، والأول أصح، ولا يجزئه أصبع ولا أصبعان كما في مسح الرأس، ولو أصابه مطر أو مشى على حشيش مبتل بالصر يجزئه، وكذا بالطل؛ لأنه ماء، وقيل: لا يجزئه؛ لأنه نفس دابة في البحر يجذبه الهواء فيرش على الأرض.
قال المرغيناني: الصحيح الأول، وفي " فتاوى قاضي خان ": وكيفية المسح أن يضع بعض أصابع يده اليمنى، وأصابع يده اليسرى على مقدم خفه الأيسر، ويمدهما إلى الساق فوق الكعبين ويفرج بين أصابعه، ولو بدأ من أصل الساق ومد إلى الأصابع جاز، وفي " المجتبى " إظهار الخطوط ليس بشرط في ظاهر الرواية. وقال الطحاوي: المسح على الخفين خطوط بالأصابع.
م: (لحديث المغيرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضع يديه على خفيه ومدهما من الأصابع إلى أعلاهما مسحة واحد، وكأني أنظر إلى أثر المسح على خف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطوطًا بالأصابع» ش: قلت: حديث المغيرة بن شعبه لم يرو على هذا الوجه، وإنما رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه "، حدثنا الحنفي، عن أبي عامر الخزاز، ثنا الحسن، «عن المغيرة بن شعبة قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بال، ثم جاء حتى توضأ ومسح على خفيه، (ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن) ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة، حتى كأني أنظر إلى أصابع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الخفين.» هذا الحديث مع غرابته يدل على أحكام:
الأول: أن السنة وضع اليدين على الخفين.
وعن محمد يضع أصابع يديه مقدم الرجل ويمدها، أو يضع كفه مع الأصابع إلى أعلاهما، والمد سنة؛ لأنه ورد «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح بالمد وبغير المد» .(1/590)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثاني: أن السنة في كيفية الوضع وضع يده اليمنى للأيمن واليسرى للأيسر.
الثالث: أن السنة المسح مرة واحدة.
فإن قلت: أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث ثور بن يزيد، عن رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة «عن المغيرة قال: وضأت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك فمسح أعلا الخف وأسفله» .
قلت: ضعف هذا الحديث، فقال أبو داود: بلغني أن ثوراً لم يسمعه من رجاء، قال الترمذي: حديث معلول لم يسنده عن ثور غير الوليد بن مسلم، وسألت محمدا وأبا زرعة عن هذا الحديث فقالا: ليس بصحيح؛ لأن ابن المبارك رواه عن ثور عن رجاء. قال: حديث كاتب المغيرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسل. وقال الدارقطني في " العلل ": حديث لا يثبت؛ لأن ابن المبارك رواه عن ثور بن يزيد مرسلاً، وكذا ضعفه أحمد بن حنبل - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: حاصل ما ذكروا في الحديث أربع علل.
الأولى: أن ثوراً لم يسمعه من رجاء، ويجاب عن هذا بأن البيهقي أسنده عن داود بن رشيد، حدثنا الوليد، عن ثور، حدثنا رجاء، عن كاتب المغيرة، عن المغيرة، وقد صرح فيها بأن ثوراً قال: حدثنا رجاء، وإن كان من رواه عنه قال عن رجاء.
الثانية: أن كاتب المغيرة قد أرسله، ويجاب عن هذا بأن الوليد مسلم زاد في الحديث ذكر المغيرة، وزيادة الثقة مقبولة.
الثالثة: أن كاتب المغيرة مجهول، ويجاب عن هذا بأن المعروف بكاتب المغيرة هو مولاه، وزاد الثقفي وكنيته أبو سعيد، ويقال: أبو الورد، سمع المغيرة، وروى عنه الشعبي، ورجاء بن حيوة، وأبو عون وغيرهم، وروى له الجماعة، وصرح ابن ماجه في " سننه " فقال: عن رجاء عن داود كاتب المغيرة، فصرح باسمه.
الرابعة: أن الوليد مدلس، ويجاب عن هذه بأن أبا داود قال عن الوليد: أخبرني ثور، فأمن بذلك تدليسه، فلذلك استدل به جماعة منهم الشافعي أن مسح أسفل الخفين مستحب عندهم.
قلت: وعن هذا قال صاحب " البدائع ": المستحب عندنا الجمع بين ظاهره وباطنه، وقد ذكرناه.(1/591)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجمهور أصحابنا استدلوا بما روي من حديث الأعمش عن أبي إسحاق عبد خير «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح عليه من ظاهره، وقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على الخفين على ظاهرهما» ، رواه أبو داود وأحمد والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أبو داود أيضاً من حديث الأعمش بإسناده قال: «ما كنت أرى باطن القدمين إلا أحق بالمسح، حتى رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على ظاهر خفيه.» وقال أبو داود: «أبو السوداء عن أبيه، قال: رأيت علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - توضأ فغسل ظاهر قدميه، وقال: لولا أني رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله لظننت بطونهما أحق بالمسح» وقال البيهقي: والمرجع فيه إلى عبد خير، وهو لم يحتج به صاحبا " الصحيح ".
قلت: عدم احتجاج صاحبي " الصحيح "ليس بقادح في روايته، [....] وقد احتج به غيرهما، وحديثه صحيح. وقال إمام الحرمين في " النهاية في الحديث ": الصحيح أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مسح على خفيه خطوطا فكأنه تبع القاضي حسين، فإنه قال: روي «حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما، قال: فحكي عنه أنه قال: ولكني رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على ظاهر الخف خطوطاً بالأصابع» وتبعه الغزالي في " الوسيط ".
وقال النووي في "شرح المهذب ": هذا الحديث ضعيف، روي عن علي مرفوعاً، وعن الحسن البصري موقوفاَ.
قلت: وروى ابن أبي شيبة أثر الحسن البصري قال: من السنة أن يمسح على الخفين خطوطَا.
وقال في " التنقيح ": قول إمام الحرمين: إنه صحيح، غلط فاحش، لم نجده من مرويات علي، ولكن روى ابن أبي شيبة أثر الحسن المذكور.
قلت: كأن النووي أراد بقوله: هذا الحديث ضعيف، هو الذي نقله إمام الحرمين، وأما الذي رواه أبو داود فهو صحيح كما قلنا، والدليل على ذلك ما قاله صاحب " التنقيح ". وقال السروجي: في تعليل ترك مسح باطن الخفين؛ لأن المسح إذا تكرر على أسفل الخف خلق وبلى، وأضر به مع الدوس بالبلل على الأرض، كما ذكروا في ساق الخف، بل أولى؛ لأنه لا يلحق الأرض.(1/592)
ثم المسح على الظاهر حتم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا التعليل معدول لا يخفى، وقال أيضاً: ولأنه معدول عن القياس فيقتصر على ما ورد به الشرع وهو ظاهر الخف دون باطنه.
قلت: القياس يقتضي مسح الظاهر والباطن؛ لأنه يدل على الغسل، والشرع كما ورد بالظاهر ورد بالباطن كما ذكرنا مستقصى.
م: (ثم المسح على الظاهر حتم) ش: أي ثم مسح الخف على ظاهره حتم أي واجب. قال الأترازي: يعني أنه واجب لا يحتمل غيره.
قلت: إن أراد بعدم الاحتمال عقلاً فممنوع ومنعه ظاهر، وإن أراد به شرعاً فممنوع أيضاً؛ لأنه ورد «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مسح على باطن خفه» كما مر من حديث المغيرة بن شعبة.
وقال صاحب " الدراية ": فإن قيل: ينبغي أن يجوز المسح على الباطن والقعر؛ لأنه خلف عن الغسل، فيجوز في جميع محل الغسل كما في مسح الرأس، فإنه يجوز المسح في جميع الرأس، وإن ثبت مسحه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الناصية.
قلت: لا يجوز؛ لأن فعله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ابتداء شرع وهو غير معقول المعنى، فيعتبر جميع ما ورد به الشرع من رعاية الفعل والمحل بخلاف مسحه عليها، فإنه بيان ما ثبت بالكتاب لا نصب الشرع، فيجب العمل بمقدار ما يحصل به البيان وهو المقدار؛ لأن المحل معلوم بالنص فلا حاجة إلى فعله بياناً له.
قلت: إن أراد بقوله لا يجوز يعني مسح البطن والعقب مع مسح الظاهر فلا نسلم بذلك؛ لأنه ورد مسح الظاهر والباطن بقوله، فيعتبر جميع ما ورد في الشرع من رعاية الفعل والمحل لا دليلاً لمدعي الاقتصار على الظاهر؛ لأنه ورد في الشرع فعل الباطن. وثبت أنه محل أيضاً لفعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فكما أنه يراعى الفعل والمحل لو ورد الشرع بهما، فكذلك ينبغي أن يراعى ذلك في الباطن أيضاً، فإن الشرع ورد بهما أيضاً.
وقوله: لأن المحل معلوم بالنص فلا حاجة إلى نقله بياناً له - غير مسلم في حق المقدار.
قال صاحب " الدراية ": فإن قيل: ينبغي أن يجوز المسح على الباطن مع الظاهر لكونهما مرويين والجمع ممكن، فثبت فرضية مطلق المسح وسنية المسح عليهما كما قال الشافعي.
قلت: هذا السؤال غير وارد فلا يحتاج إلى قوله ينبغي.. إلخ، والعمل بما قاله الشافعي لو ورد حديث الظاهر والباطن، وإمكان الجمع بينهما في العمل وتأويله في جواب هذا السؤال بقوله: يحتمل أن يكون المراد من أعلاه مما يلي الساق، ومن أسفل ما يلي الأصابع، فلا يثبت سنية مسح الباطن، فالشك غير صحيح؛ لأن هذا مفسر فلا يحتاج إلى التأويل إذا لم يمكن الجمع، وقد أمكن كما ذكرنا.(1/593)
حتى لا يجوز على باطن الخف، وعقبه، وساقه؛ لأنه معدول به عن القياس فيراعى فيه جميع ما ورد به الشرع، والبداية من رءوس الأصابع استحباب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (حتى لا يجوز على باطن الخف وعقبه وساقه) ش: هذه نتيجة قوله: ثم المسح على الظاهر حتم، قلت: إن أراد بقوله: لا يجوز الاقتصار على الباطن أو العقب أو الساق فمسلم. وإن أراد به مع الظاهر فغير مسلم كما ذكرنا. وقال الأكمل: يعني لا يجوز على باطن الخف وعقبه خلافاً للشافعي في قوله.
قلت: هذا لا يصح، فإنه لم ينقل عن الشافعي أنه أجاز مسح الباطن وحده، بل نص في الأم وغيره أن مسح الباطن وحده لا يجوز.
م: (لأنه معدول به عن القياس) ش: أي لأن المسح معدول به عن القياس؛ لأن المسح لا يطهر شيئاً ولا يزيله، فجعل قائما مقام الغسل للتخفيف رخصة. وقال الأترازي: قوله معدول به عن القياس إشارة إلى ما ذكرنا من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لو كان الدين بالرأي» الحديث. قلت: يفهم من كلامه هذا أن القياس مسح الباطن، وعدل به عنه إلى الظاهر، وليس كذلك، بل القياس أن لا يجوز المسح أصلاً كما ذكرنا الآن.
م: (فيراعى فيه جميع ما ورد به الشرع) ش: هذه نتيجة قوله: لأنه معدول به عن القياس، ولكن ظاهر هذا الكلام لا يستقيم؛ لأن استيعاب ظاهر الخف والبداءة من رءوس الأصابع غير معتبر في الوجوب، فلو روعي جميع ما ورد به الشرع لوجب ذلك [ ... ] .
م: (والبداءة من رءوس الأصابع استحباب) ش: الخبر لا يطابق المبتدأ في المعنى، والمطابقة مستحبة وهو يتضمن الاستحباب، اللهم إلا إذا جعل هذا من قبيل زيد عدل، فافهم. ونتيجة قوله: " استحباب " أنه لو بدأ من الساق جاز. وسأل الأكمل ها هنا سؤالاً، وملخصه: أنه كان ينبغي أن تكون البداءة من الأصابع حتما لا مستحبا كالمسح على ظاهرهما؛ لأن الشرع ورد بمد اليدين من الأصابع إلى أعلاهما، ثم أجاب عن ذلك بقوله ما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مسح على خفيه من غير مد إلى الساق. قلت: في حديث المغيرة الذي ذكره المصنف ومدهما من الأصابع إلى أعلاهما.
فإن قلت: إن هذا غريب لم يرو حديث المغيرة هكذا.
قلت: روي في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده هكذا من أطراف الأصابع إلى أصل الساق» ، ورواه ابن ماجه.(1/594)
اعتبارا بالأصل وهو الغسل، وفرض ذلك مقدار ثلاث أصابع من أصابع اليد. وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من أصابع الرجل، الأول أصح اعتبارا بآلة المسح،
ولا يجوز المسح على خف فيه خرق كثير يبين منه قدر ثلاثة أصابع من الرجل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: في سنده جرير بن يزيد، قال صاحب " التنقيح ": وجرير هذا ليس بمشهور ولم يروعنه غير بقية، وفي سنده أيضاً: منذر بن زيادة الطائي، وقد كذبه الفلاس، وقال الدارقطني: متروك، وهذا الحديث مما استدركه الحافظ المزني على ابن عساكر، إذ لم يذكره في " أطرافه " وكأنه ليس في بعض نسخ ابن ماجه. قلت: أخرج الطبراني في " معجمه الأوسط " عن بقية، عن جرير بن يزيد الحميري، عن محمد بن المنكدر، «عن جابر بن عبد الله، قال: " مر رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل يتوضأ، وهو يغسل خفيه، فنخسه بيده، وقال: إنما أمرنا بالمسح هكذا، وأراه بيده من مقدم الخفين إلى أصل الساق مرة، وفرج بين أصابعه.»
م: (اعتباراً بالأصل وهو الغسل) ش: اعتباراً على أنه مفعول مطلق، أي اعتبرنا في مسح الخف البداء من الأصابع اعتباراً بالأصل، وهو غسل الرجلين م: (وفرض ذلك) ش: أي فرض مسح الخف م: (مقدار ثلاث أصابع من أصابع اليد) ش: قال في " التحفة ": سواء كان المسح طولاً أو عرضا، أما التقدير بثلاث أصابع كما ذكر في حديث جابر المذكور آنفاً، وقد ذكر بلفظ الجمع وأقله ثلاثة، وأما اعتبارها من أصابع اليد فلكونها آلة كما في مسح الرأس.
م: (وقال الكرخي من أصابع الرجل) ش: وقال الشيخ أبو الحسن الكرخي في " مختصره ": إذا مسح مقدار ثلاث أصابع من الرجل أجزأه واعتبر بالخرق م: (والأول أصح) ش: أي اعتباراً لأصابع اليد م: (اعتباراً بآلة المسح) ش: لأن المسح فعل يضاف إلى الفاعل لا إلى المحل فتعتبر الآلة كما في الرأس.
[المسح على خف فيه خرق كبير]
م: (ولا يجوز المسح على خف فيه خرق كبير) ش: يروى كبير بالباء الموحدة وكثير بالثاء المثلثة، فالأول يقابله الصغير، والثاني يقابله القليل، والأول أيضاً يستعمل في الكمية المتصلة، والثاني في المنفصلة م: (يبين منه قدر ثلاث أصابع من أصابع الرجل) ش: هذه الجملة الفعلية في محل الرفع؛ لأنه صفة لقوله: كبير، وفي " المحيط " و " البدائع " و " الأسبيجابي ": الخرق المانع هو المفتوح الذي يكشف ما تحت الخف، أو يكون منضماً، لكن يفرج عند المشي ويظهر القدم، وإذا كان طويلاً منضماً لا ينكشف ما تحته لا يمنع، كذا روي عن أبي يوسف، ولو انكشف الطهارة وفي داخلها بطانة من جلد. وفي " الذخيرة " أو خرقة مخروزة بالخف لا يمنع، وقيل: ولو كان الخرق تحت القدم لا يمنع ما لم يبلغ أكثر القدم. وفي الكعب يمنع ثلاث أصابع لا ما دونها وما فوق الكعبين لا يمنع؛ لأنه ليس الموضع لمسح ولا لمشي، وفي " الذخيرة " الكبير ثلاث أصابع الرجل أصغرها، وفي بعض الواضع كالإبهام وجاز لها. قال الحلواني: إن كان الخرق عند أكبر الأصابع يعتبر أكبرها، وإن(1/595)
فإن كان أقل من ذلك جاز. وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: لا يجوز وإن قل؛ لأنه لما وجب غسل البادي وجب غسل الباقي، ولنا أن الخفاف لا تخلو عن الخرق القليل عادة فيلحقهم الحرج في النزع، وتخلو عن الكثير فلا حرج،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان عند أصغر الأصابع يعتبر أصغرها، وهذا في الخرق المنفرج الذي يرى ما تحته من الرجل.
وإن كان طويلاً يدخل فيه ثلاث أصابع وأكثر، ولكن لا يرى شيء ما أصابع إلا ينفرج عند المشي لصلابته لا يمنع، وفي مقطوع الأصابع يعتبر الخرق بأصابع غيره، وقيل بأصابع نفسه له كانت قائمة. وفي " المرغيناني ": إن ظهرت من الخرق الإبهام والوسطى والخنصر شيء من الخف لم يجز المسح، ولو ظهر الإبهام ولكن قدر ثلاث أصابع الرجل أصغرها لا بأس بالمسح، وفي " صلاة الحسن ": يعتبر قدر ثلاث أصابع الرجل مضمومة لا ينفرج الخف الذي لا ساق له كذي الساق وصاحب الرجل الواحدة يمسح، وفي " المنية ": مقطوع الأصابع تحته خرق في موضع الأصابع مقدار ثلاث أصابع قدميه أصغرها لو كانت قائمة يمنع المسح ولا يعبأ بأصابع غيره، وإن كان موضع الإبهام، وخرجت هي وجارتها يمنع، وجارة واحدة منها لا يمنع في الأصح، وإن ظهرت الأصابع ولم تخرج لا يمنع.
م: (وإن كان أقل من ذلك جاز) ش: أي من ثلاث أصابع الرجل جاز المسح؛ لأن الخف لا يخلو عن الخرق القليل عادة فجعل عفواً لدفع الحرج.
م: (وقال زفر والشافعي: لا يجوز بخرق وإن قل) ش: أي الخرق. وقال أحمد: وعن الثوري، ويزيد بن هارون، وأبي ثور، جوازه على جميع الخفاف. وعند مالك: اليسير غير مانع، والكبير مانع، وعن الأوزاعي: إن ظهرت طائفة من رجله مسح على خفيه وعلى ما ظهر من رجليه. وعن الحسن: إن ظهر أكثر الأصابع لم يجز، وفي شرح " الوجيز ": ولو كان الخف متخرقاً ففيه قولان، في القديم: يجوز المسح عليه ما لم يتفاحش، وبه قال مالك. وحد الفحش ما قاله الأكثرون ما لم يتمالك في الرجل، ولا يتأتى المشي عليه، وإلا فليس بفاحش. وقيل: حده أن لا يبطل له اسم الخف، وبه قال النووي.
وفي الجديد: لا يجوز المسح عليه قليلاً كان الخرق أو كثيراً، وبه قال أحمد: والطحاوي.
م: (لأنه) ش: أي؛ لأن الشأن م: (لما وجب غسل البادي) ش: أي الظاهر من الرجل م: (وجب غسل الباقي) ش: اعتباراً بالكثير عندنا، والجميع بين الغسل والمسح لا يجوز.
م: (ولنا أن الخفاف لا تخلو عن الخرق القليل عادة فيلحقهم الحرج في النزع) ش: أي في نزع الخف ولا سيما في حق المسافر م: (وتخلو) ش: أي الخفاف م: (عن الكثير فلا حرج) ش: فيه لندورته، وقولهم: لما وجب غسل البادي، قلنا: وجوب غسل البادي غير مسلم لهم فاليسير الذي(1/596)
والكثير أن ينكشف قدر ثلاثة أصابع من أصابع الرجل أصغرها هو الصحيح؛ لأن الأصل في القدم هو الأصابع، والثلاث أكثرها، فيقام مقام الكل واعتبار الأصغر للاحتياط، ولا يعتبر بدخول الأنامل إذا كان لا ينفرج عند المشي، ويعتبر هذا المقدار في كل خف على حدة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكروه، فإن مواضع [ ... ] الخف كان مثل ذلك فيه خرق، ألا ترى كيف يدخل التراب من ذلك.
م: (والكثير أن ينكشف قدر ثلاثة أصابع من أصابع الرجل أصغرها) ش: الكثير مبتدأ، وأن مصدرية في محل الرفع على الخبرية، والتقدير الكثير انكشاف قدر ثلاث أصابع الرجل.
قوله: " أصغرها " بالجر بدل من ثلاث أصابع، بدل البعض من الكل م: (هو الصحيح) ش: أي التقدير بثلاثة أصابع من أصابع الرجل هو الصحيح، واحتراز به عما روي عن الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: قدر ثلاثة أصابع من أصابع اليد، وقال الأكمل قوله: هو الصحيح احتراز عن رواية الحسن كما ذكرنا، وعما قال شمس الأئمة الحلواني: المعتبر بأكبر الأصابع إن كان الخرق أكبرها وأصغرها إن كان عند أصغرها.
قلت: أخذ الأكمل هذا من السغناقي، وليس كذلك، بل قوله: هو الصحيح، احتراز عن رواية الكرخي، وأما الاحتراز عن رواية الحلواني فنقول أصغرها.
م: (لأن الأصل في القدم هو الأصابع والثلاث أكثرها) ش: أي ثلاثة أصابع أكثر القدم، وفيه نظر؛ لأنه جعل الأصل في القدم الأصابع، ثم قال: والثلاث أكثرها، وهذا يقتضي أن تكون الأصابع من أجزاء القدم وجزء الشيء لا يكون أصلاً له م: (فيقام مقام الكل) ش: أي إذا كان الثلاث أكثر القدم فيقام مقام الكل بضم الميم الأولى؛ لأن أكثر الشيء له حكم كله.
م: (واعتبار الأصغر للاحتياط) ش: وهذا كأنه جواب عما يقال: لم اعتبر الأصابع بثلاث الصغير؟ فأجاب بقوله: للاحتياط في باب العبادة م: (ولا معتبر بدخول الأنامل إذا كان لا ينفرج عند المشي) ش: أي لا عبرة بدخول الأنامل في حكم الأصابع، يعني إذا بدا مقدار ثلاثة من أصابع الرجل لا يمنع الجواز، وقيل: يمنع، وإليه مال السرخسي، والأصح أنه إذا بدا قدر ثلاثة من أصابع الرجل بكمالها يمنع، وإليه مال الحلواني. وفي " المجتبى " له ذلك من بطانة الخف دون الرجل، قال الفقيه أبو جعفر: الأصح أنه يمسح عند الكل كأنه كالجوارب المنعل، وحكم الكعب المرتفع حكم الخف؛ لأنه كالخف لا ساق له.
وفي " شرح الوجيز ": لو تخرقت البطانة وحدها أو الطهارة وحدها جاز المسح إن كان ما بقي ليس بضعيف، وإلا لا يجوز في أظهر القولين م: (ويعتبر هذا المقدار) ش: أي مقدار ثلاثة أصابع الذي يمنع بدورها عن المسح م: (في كل خف على حدة) ش: أي في كل واحد من الخفين منفرداً.(1/597)
فتجمع الخروق في خف واحد، ولا يجمع في خفين؛ لأن الخرق في أحدهما لا يمنع قطع السفر بالآخر،
بخلاف النجاسة المتفرقة؛ لأنه حامل للكل. وانكشاف العورة نظير النجاسة.
ولا يجوز المسح لمن وجب عليه الغسل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقوله: على حدة: أي على حال، والهاء فيه عوض عن الواو، وأصله وحده، ولما حذفوا الواو عوضوا بها الهاء في آخره على حدة، وكذلك أحد أصله وحد م: (فتجمع الخروق في خف واحد) ش: هذه نتيجة قوله: ويعتبر هذا المقدار في كل خف على حدة م: (ولا تجمع) ش: أي الحروق م: (في الخفين) ش: وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تجمع في خف أيضاً م: (لأن الخرق في أحدهما لا يمنع قطع السفر بالآخر) ش: أي بالخف الآخر بخلاف الخرق من الخفين.
قال الأكمل: قيل: ينبغي أن يجمع في الخفين أيضاً؛ لأن الرجلين صارا كعضو واحد لدخولهما تحت خطاب واحد. وأجيب بأنهما صارا كعضو واحد في حق حكم شرعي. والخرق أمر حسي فلا يكونان فيه كعضو واحد كما في قطع المناخر، ولهذا لو مد الماء من الأصابع إلى العقب جاز، ولم يظهر له حكم الاستعمال؛ لأنه عضو واحد، ولو مد الماء من إحدى الرجلين إلى الأخرى لم يجز. قلت: هذا السؤال مع جوابه في " الدراية " ولكن جواب صاحب " الدارية " قلت: نعم صار كعضو واحد في حق المسافر.
فإن قيل: هلا يغسل أحدهما؟ قلنا: لما كان العضوين واحداً في حق حكم شرعي، فلو غسلت إحداهما ومسح الأخرى يكون جمعاً بين المسح والغسل في عضو واحد حكماً، وهذا غير مشروع، كذا في " الكافي "، وفي " الإيضاح ": الوظيفة فيهما إن كانت متحدة حتى انتقض المسح بنزع أحدهما، ولكنهما في حق الغسل عضوان م:
(بخلاف النجاسة المتفرقة) ش: على الخفين بأن كانت في إحداهما قليلة وفي الأخرى كذلك يجمع بينهما م: (لأنه) ش: أي؛ لأن صاحب الخف م: (حامل للكل) ش: أي لكل النجاسة وهو ممنوع في الحمل. وقيل في الفرق بين النجاسة والخرق إنما يمنع المسح لا بعينة، بل لمعنى يتضمنه، وهو أنه لا يمكنه قطع السفر به بخلاف النجاسة، فإن المانع غيرها لا لمعنى يتضمنه، وهو أنه لا يمكنه قطع السفر بالنجاسة خصت به، فإذا كان كذلك فمتى بلغت النجاسة أكثر من قدر الدرهم تمنع الجواز. م: (وانكشاف العورة نظير النجاسة) ش: يعني أنه يجمع وإن كان في مواضع كما يجمع النجاسة المتفرقة في بدن الإنسان أو ثوبه أو خفه. وفي " الزيادات ": ولو انكشف شيء من فرجها وشيء من بطنها وشيء من فخذها وشيء من ساقها وشيء من شعرها، بحيث لو جمع يكون ربع ساقها أو شعرها أو فرجها لا تجوز صلاتها.
[المسح على الخفين لمن وجب عليه الغسل]
م: (ولا يجوز المسح لمن وجب عليه الغسل) ش: صورته رجل توضأ ولبس الخف، ثم أجنب ثم وجد ماء يكفي للوضوء ولا يكفي للاغتسال فإنه يتوضأ ويغسل رجليه ولا يمسح ويتيمم للجنابة، ذكر هذا في " المنتقى ". وقيل: صورته مسافر أجنب ومعه ماء يكفي للوضوء فتيمم للجنابة، ثم أحدث،(1/598)
لحديث صفوان بن عسال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها إلا عن جنابة، ولكن من بول أو غائط أو نوم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وتوضأ بذلك الماء، ولبس خفيه ثم مر على الماء انتقض وضوؤه السابق لقدرته على الاغتسال، فلو لم يغتسل وعدم الماء ثم حضرت الصلاة وعنده ماء قدر ما يكفي الوضوء تيمم وتعود الجنابة لرؤية الماء، ولو أحدث بعده فتوضأ بذلك الماء، ولكن ينزع خفيه ويغسل رجليه، وفي الجنابة المسألة لا تحتاج إلى صورة معينة، فإن من أجنب بعد لبس الخف على طهارة كاملة لا يجوز له المسح مطلقاً؛ لأن الشرع جعل الخف مانعاً لرؤية الحدث الأصغر لا الأكبر. وقال شمس الأئمة السرخسي: الجنابة لزمها غسل جميع البدن، ومع الخف لا يتأتى ذلك.
م: «لحديث صفوان بن عسال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها إلا عن جنابة، ولكن من بول أو غائط أو نوم» ش: هذا الحديث أخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن حبان في " صحيحه " وابن خزيمة في " صحيحه "، وفي رواية الترمذي: الحديث معلول يتضمن قضية المسح والعلم والتوبة والهوى، ورواه الشافعي أيضاً وأحمد والدارقطني والبيهقي، ووقع في الدارقطني زيادة في آخر هذا المتن، وهو وقوله: " أو ريح "، ولكن وكيع تفرد بها عن مسعر.
قلت: إن كثيراً من الشراح المشهورين لم يتعرضوا لذكر هذا الحديث أصلاً، أما السغناقي فلم يذكره أصلاً، وكذلك الأترازي وتاج الشريعة. وأما الأكمل فإنه أمعن، وقال: عسال بالعين المهملة يباع له العسل ولم يذكر شيئاً غير ذلك. أما صاحب " الدراية " فأمعن فيه، وقال: الحديث في " المستصفى " ولكن ذكر فيه " إلا عن جنابة " وهكذا ذكره أكثر المحدثين.
قلت: روي إلا بكلمة الاستثناء وبكلمة لا للنفي وكلاهما صحيح، ولكن المشهور هو الأول، والمشهور أيضاً في كتب المحدثين بالواو في قوله: " أو غائط أو نوم " وكلمة " أو " في كتب الفقه، وقد تكلمنا فيه فيما مضى. وقال صاحب " الدراية ": روى الطحاوي في كتابه: " إلا عن جنابة " كما ذكر في المتن وهو الأشبه بالصواب، وقال: ولعل بعض الرواة أدخلها في كتابه، وكتب " إلا " مكان: " لا:، كذا في " شرح المصابيح "، ويحتمل أن الصحابي قال: كان عليه اللام يأمرنا بنزع خفافنا من بول وغائط ونوم إلا عن جنابة، فرواه مقلوباً، كذا قيل.
قلت: هذا كله تخمين وتصرف غير سديد، وقد قلت: إنه روي بوجهين عن صفوان، فلا يحتاج إلى هذا التكلف. وقال الأكمل بعد قوله: " والاستدلال به ظاهر " أي بحديث صفوان، وقال حميد الدين: الموضع موضع النفي فلا يحتاج إلى التصوير.(1/599)
ولأن الجنابة لا تتكرر عادة، فلا حرج في النزع بخلاف الحدث؛ لأنه يتكرر.
وينقض المسح كل شيء ينقض الوضوء؛ لأنه بعض الوضوء، وينقضه أيضا نزع الخفين لسراية الحدث إلى القدم حيث زال المانع، وكذا نزع أحدهما لتعذر الجمع بين الغسل والمسح في وظيفة واحدة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: مولانا حميد الدين لم يقل هذا المذكور في الحديث، وإنما قال في قول المصنف: لا يجوز المسح لمن وجب عليه الغسل؛ لأنهم قالوا: إن ذكر الصور بهذا تكلف، ولهذا قال في " المنافع " أيضاً هو موضع النفي فلا يحتاج إلى التصوير.
م: (ولأن الجنابة لا تتكرر عادة، فلا حرج في النزع بخلاف الحدث؛ لأنه يتكرر) ش: وفي نزع الخف فيه حرج، وشرعية المسح لدفع الحرج.
فإن قلت: قوله: " بخلاف الحدث " يتناول الحدث الأصغر والأكبر. قلت: دلت القرينة اللفظية على أن المراد هو الحدث الأصغر.
[نواقض المسح على الخفين]
م: (وينقض المسح كل شيء ينقض الوضوء) ش: لأنه بدل عن الغسل فصار كالتيمم م: (لأنه) ش: أي؛ لأن المسح م: (بعض الوضوء) ش: فيعتبر البعض بالكل م: (وينقضه أيضاً) ش: أي ينقض المسح أيضاً م: (نزع الخفين لسراية الحدث إلى القدم حيث زال المانع) ش: وهو الخف؛ لأنه لو كان المانع عن حلول الحدث السابق، فلما زال حل وعمل عمله م: (وكذا نزع أحدهما) ش: أي وكذا ينقض المسح نزع أحد الخفين م: (لتعذر الجمع بين الغسل والمسح في وظيفة واحدة) ش: وهي غسل الرجلين؛ لأن إتيان البدل إنما يتأتى عند عدم الأصل، ومن أصحاب مالك من قال: لا يلزمه ذلك، بل يمسح على الآخر ويغسل الرجل، وهو مذهب الزهري، وأبي ثور أيضاً، وهاهنا خمسة أشياء.
الأول: أنه قال: النزع في الصورتين، وحكم الانتزاع كذلك، وسراية الحدث السابق إلى القدمين كما ذكرنا.
والثاني: قال في وظيفة واحدة؛ لأنه إذا كان الجمع بين الغسل والمسح في وظيفتين لا يمنع كغسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين.
الثالث: أن النزع أو الانتزاع غير ناقض، وإنما الناقض هو الحدث السابق، ولكن لما كان ظهور عمله عند وجود النزع أضيف النقض إليه مجازاً.
والرابع: أن التعذر الذي ذكره هو باعتبار ما تقتضيه القاعدة، وأما باعتبار غير لك فلا يقدر، وهذه الأربعة متعلقة بالكتاب.
والخامس: دخول الماء أحد خفيه حتى تصير رجله مغسولة ينقضه أيضاً، ويجب غسل رجله الأخرى لمنع المسح الجمع، وإن لم يبلغ لا ينقض.(1/600)
وكذا مضي المدة لما روينا،
وإذا تمت المدة نزع خفيه وغسل رجليه وصلى وليس عليه إعادة بقية الوضوء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وزاد أبو جعفر في " نوادره ": أن الماء إذا أصاب أكثر الرجل ينقض، وفي " الحاوي " إذا ابتل جميع أحد القدمين ينق مسحه، ذكره في " الزيادات " غسلت إحدى الرجلين أو بعض الرجل لا يجوز المسح، وفي " المرغيناني " الأصح أن غسل أكثر القدم ينقضه، وفي " متنه " إذا بلغ الماء أكثر رجله الواحدة روايتان في انتقاض المسح. وفي " الذخيرة " قال في " صلاة العيون " الماسح على الخف إذا أحدث فانصرف ليتوضأ فانقضت مدة مسحه قيل فله أن يغسل رجليه ويبني على صلاته كالمتيمم إذا أحدث فانصرف فوجد ماء لا تفسد صلاته، وله أن يتوضأ ويبني على صلاته كذا ها هنا. قال: وذكر في " مجموع النوازل " نزعها لهذه المسألة فقال: لو انقضت مدة مسحه بعدما أعاد إلى مكان صلاته فسدت، وإذا انقضت مدة مسحه، وهو في الصلاة ولم بجد ماء فإنه يمضي على صلاته، ومن المشايخ من قال: تفسد صلاته.
م: (وكذا مضي المدة) ش: أي وكذا ينقض المسح لمضي يوم وليلة في المقيم وثلاثة أيام في المسافر م: (لما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» .
وقال الأكمل: لما روينا من رواية صفوان أ: «أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام» ، وكذا قال صاحب " الدراية "، والأكمل أخذه منه، والأوجه هو الأول على ما لا يخفى. وقوله: " لما روينا ": ليس على الحقيقة، وإنما هو حكاية أو مجرد نقل، والرواية غير ذلك على ما عرفت.
وقال ابن أبي ليلى: المسح على الخفين قائم مقام غسل الرجلين، فلو غسل رجليه ولبس خفيه، ثم نزع لم يجب عليه غسل رجليه فكذا ها هنا، قلنا: إنه قائم مقامه شرعاً في وقت مقدر، فإذا مضى لا يقوم مقامه كطهارة التيمم.
م: (وإذا تمت المدة) ش: وفي بعض النسخ " وإذا انقضت المدة " وهي اليوم والليلة للمقيم وثلاثة أيام ولياليها للمسافر م: (نزع خفيه وغسل رجليه وصلى) ش: لسريان الحدث إلى القدمين إذا كان متوضئاً. قال الأكمل: قيل هو تكرار؛ لأنه علم حكمه من قوله: وكذا مضي المدة، وأجيب بأنه ذكر تمهيداً لما رتب عليه من قوله: " ينزع خفيه وغسل رجليه " قلت: ليس كذلك، وإنما ذكره تمهيداً لما رتب عليه حكما آخر وهو قوله م: (وليس عليه إعادة بقية الوضوء) ش: قال الأكمل هذا احتراز عن قول الشافعي فإنه يقول: عليه أن يعيد الوضوء.
قلت: المصنف في صدد بيان مذهبه لم يلتزم بيان مذهب غيره إلا في مواضع لأجل نصب الدلائل رداً عليه، ثم عدم بقية الوضوء إذا كان متوضئاً، وأما إذا كان محدثاً فعليه أن يتوضأ وهو قول أبي عمر، والشعبي، والنخعي، وابن علية، والأسود، وأبي ثور، والليث، والشافعي(1/601)
وكذا إذا نزع قبل المدة؛ لأن عند النزع يسري الحدث السابق إلى القدمين كأنه لم يغسلهما،
وحكم النزع يثبت بخروج القدم إلى الساق؛ لأنه لا معتبر به في حق المسح، وكذا بأكثر القدم هو الصحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في أصح قوليه، ومالك، والليث، إلا أنهما قالا: إن أخر غسلهما يستأنف الوضوء.
وقال الحسن بن حي، والزهري، ومكحول، وابن سيرين: إذا خلع خفيه أعاد الوضوء من أوله، ولا فرق بين تراخيه وعدمه. وقال الحسن البصري، وطاووس، وقتادة، وسليمان بن حرب: إذا نزع بعد المسح صلى كما هو، وليس عليه غسل رجليه، ولا تجديد الوضوء، واختاره ابن المنذر، واعتبروه بحلق الشعر بعد مسح الرأس.
وأجيب عن ذلك بأن الشعر من الرأس خلقة، ومسحه مسح الرأس بخلاف الخف فإنه منفصل عن الرجل فلا المسح عليه غسلاً للرجل فكان الحدث قائماً بالرجل بعد نزع الخف عنها.
م: (وكذا إذا نزع قبل مضي المدة) ش: أي وكذا ليس عليه إعادة بقية الوضوء إذا نزع الخف قبل مضي مدة المسح في حق المقيم والمسافر م: (لأن عند النزع يسري الحدث السابق إلى القدمين كأنه لم يغسلهما) ش: فإذا لم يغسلهما بقيتا بلا غسل ولا مسح مع الحدث بهما وهذا لا يجوز.
م: (وحكم النزع يثبت بخروج القدم إلى الساق) ش: لما كان لنزع الخف قبل مضي المدة حكم قدر ذكره إشارة بهذا إلى النزع الذي يترتب عليه الحكم ما هو حكمه، فقال: حكم النزع إلى ساق الخف ثبت بخروج القدم، أي بخروج قدم المتوضئ الماسح إلى موضع ساقه من الخف؛ لأن موضع المسح فارق مكانه فكأنه ظهر رجله.
م: (لأنه) ش: أي؛ لأن الساق م: (لا معتبر به في حق المسح) ش: أي بالساق في حق المسح حتى لو لبس خفاً لا ساق له يجوز المسح إذا كان الكعب مستوراً، وإنما قلنا به مع أن الساق مؤنثة سماعية إما باعتبار لفظ المذكور وإما باعتبار العضو م: (وكذا بأكثر القدم) ش: أي وكذا ثبت كم النزع بخروج أكثر القدم إلى ساق الخف. وفي " مبسوط " شيخ الإسلام: أخرج رجليه إلى الساق ثم أعادهما لا يمسح عليهما بعد ذلك. وقال الشافعي في القديم: له المسح لما أنه لم ظهر من محل الفرض شيء فلا يلزمه الغسل، وفي الجديد: وهو الأصح، وهو قولنا، وقول مالك، وأحمد: لا يجوز المسح م: (هو الصحيح) ش: هو المروي عن أبي يوسف. وفي " شرح الطحاوي " إذا خرج أكثر العقب من الخف ينتقض مسحه. وعن محمد: إذا بقي في الخف من القدم قدر ما يجوز المسح عليه جاز وإلا فلا، وهذا إذا قصد النزع ثم بدا له أن لا ينزع، فإذا كان لزوال العقب فلبس الخف فلا ينتقض المسح.
وفي " الكافي ": على قول محمد أكثر المشايخ؛ لأن المعتبر هو محل الفرض، فما بقي لا(1/602)
ومن ابتدأ المسح وهو مقيم فسافر قبل تمام يوم وليلة مسح ثلاثة أيام ولياليها عملا بإطلاق الحديث،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ينقض مسحه. وفي " الذخيرة ": رجل أعوج يمشي على قدميه وقد ارتفع عقباه عن عقب الخف، أو كان لا عقب للخف وصدور قدميه في الخف، أو رجل صحيحة أخرج قدميه من عقب الخف إلا أن مقدم قدميه في الخف في موضع المسح له أن يمسح ما لم يخرج صدور قدميه من الخف إلى الساق.
م: (ومن ابتدأ المسح وهو مقيم) ش: أي والحال أنه مقيم م: (فسافر قبل تمام يوم وليلة مسح ثلاثة أيام ولياليها عملاً بإطلاق الحديث) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها» لأن إطلاق الحديث سبق رخصة المسح في كل مسافر - وهذا مسافر - فيمسح كما في سائر المسافرين، وبقولنا قال الثوري، وأحمد رجع إليه عن قوله الأول، وهو قول داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال الشافعي: إذا أحدث ومسح في الحضر ثم سافر قبل تمام يوم وليلة يتم يوما وليلة من حين أحدث، وبه قال مالك، وإسحاق، وأحمد، وداود في رواية عنهما، ولو أحدث في الحضر ثم سافر ومسح في السفر قبل خروج وقت الصلاة فإنه يتم مسح مسافر من حيث أحدث في الحضر عند الجمهور إلا ما نقل عن المزني أن يتم مسح مقيم، وقيل: ما نقله عنه غلط، بل قوله قول الجمهور. ولو لبس في الحضر وسافر قبل الحدث يمسح مسح مسافر بالإجماع، ولو أحدث في الحضر ثم سافر قبل خروج الوقت هل يمسح مسح مسافر أو مقيم فيه الوجهان، والصحيح مسح مسافر، والمسألة على أربعة أوجه، والمرأة كالرجل في المسح على الخف شرعيته، ومدته، وشروطه، ونواقضه كالتيمم، والمستحاضة كمن به سلس البول، عليه خف مغصوب جاز. وقال أحمد: لا يجوز، وكذا عليه خف من حرير عنده، وقال النووي: ولو اتخذ خفا من زجاج أو خشب أو حديد يمكن متابعة المشي عليه بغير عصى جاز المسح عليه. وقال إمام الحرمين والغزالي: يمسح على خف الحديد وإن عسر المشي فيه لثقله، وذلك لضعف اللابس، وإن كان يرى ما تحته لصفائه، بخلاف ستر عورته بزجاج يصف ما تحته حيث لا تجوز صلاته لعدم ستر العورة، وكذا عند الحنابلة وعندنا لا يجوز المسح على شيء من ذلك؛ لأن الشرع ورد بالمسح على الخف وهو اسم للمتخذ من الجلد الساتر للكعبين فصاعداً، وما ألحق به من المكعب والجرموق والخفاف المتخذة من [ ... ] على ما ذكره السرخسي، والصحيح عنده إن كانت تحتها أدم يجوز، ذكره في " البحر ". وجنب اغتسل وصب الماء في خفيه فانغسلت رجلاه وارتفعت الجنابة عنها وصحت صلاته وانقضت المدة فغسل رجليه في الخف صح، فلو أحدث بعد هذا لا يلزمه نزع خفيه، بل له أن يمسح عليهما، وقال الشافعي: ينزع خفيه ثم يلبسهما، ولو دميت رجله في الخف فغسلهما فيه جاز المسح بعده اتفاقا ولا يشترط نزعه، ونسي المسح على الخف ثم خاض ماء جار [
] الفرض بإصابة البلة ظاهر الخف، ولا يصير الماء مستعملاً عند أبي يوسف، وقال محمد: يصير(1/603)
ولأنه حكم متعلق بالوقت فيعتبر فيه آخره،
بخلاف ما إذا استكمل المدة للإقامة ثم سافر؛ لأن الحدث قد سرى إلى القدم والخف ليس برافع،
ولو أقام وهو مسافر إن استكمل مدة الإقامة نزع؛ لأن رخصة السفر لا تبقى بدونه، وإن لم يستكمل أتمها؛ لأن هذه مدة الإقامة وهو مقيم،
ومن لبس الجرموق فوق الخف مسح عليه، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مستعملاً ولا يجزئه عن المسح إذا كان الماء قليلاً غير جار.
م: (ولأنه حكم متعلق بالوقت فيعتبر فيه آخره) ش: أي؛ لأن المسح متعلق بالوقت وهو يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليها للمسافر، فيعتبر فيه آخر الوقت كالصلاة، فإنها حكم متعلق بالوقت، فاعتبر فيها آخر الوقت في الطهر، والحيض، والإقامة، والسفر، والبلوغ، والإسلام.
م: (بخلاف ما إذا استكمل المدة للإقامة ثم سافر) ش: يلزمه غسل رجليه م: (لأن الحدث قد سرى إلى القدم والخف ليس برافع) ش: بل هو مانع في المدة.
م: (ولو أقام وهو مسافر إن استكمل مدة الإقامة نزع؛ لأن رخصة السفر لا تبقى بدونه، وإن لم يستكمل أتمها؛ لأن هذا مدة الإقامة) ش: وهي يوم وليلة مدة الإقامة م: (وهو مقيم) ش: أي والحال أنه مقيم فيتمها.
[المسح على الجرموقين]
م: (ومن لبس الجرموق فوق الخف) ش: يعني قبل أن يحدث لبس الجرموق على الخف، والجرموق ما يلبس فوق الخف وساقه أقصر من الخف، ويقال وهو معرب عن يرموق م: (مسح عليه) ش: عندنا، وبه قال الثوري، والحسن، وأحمد، وداود، وجمهور العلماء، قال أبو حامد: هو قول العلماء كافة. وقال المزني: لا أعلم بين العلماء خلافا في جوازه، حكاه عنهما النووي في " شرح المهذب "، وهو قول الشافعي في القديم، وإلا فلا، وقال في الجديد: لا يجوز المسح عليه إلا إذا لبسه وحده بلا خف.
م: (خلاف للشافعي) ش: وبه قال مالك في رواية، وفي " شرح الوجيز " هذا لا يخلو عن أربعة أحوال، أحدها: أن يكون يمسح الأسفل بحيث لا يمسح على الخف أو بخرق الأعلى يمسح عليه، فالمسح على الأعلى والأسفل كاللفافة.
الثانية: أن يكون على العكس من ذلك، فيمسح على الأسفل القوي وما فوقه كخرقة، فلو مسح الأعلى فوصل البلل إليه، فإن قصد المسح على الأسفل أو عليهما جاز، وإن قصد الأعلى فقط لم يجز، وإن لم يقصد شيئاً فوجهان والأظهر الجواز.
والثالثة: أن لا يكون واحد منهما بحيث يمسح فلا يخفى بعذر المسح.
والرابعة: أن يكون كل منهما بحيث يمسح عليه، فهل يجوز المسح على الأعلى فيه قولان، في(1/604)
فإنه يقول: البدل لا يكون له بدل، ولنا أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مسح على الجرموقين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القديم: يجوز، وهو قول أبي حنيفة، وأحمد، وهو اختيار المزني، وفي الجديد: لا يجوز، وهو أشهر الروايتين عن مالك.
م: (فإنه يقول) ش: أي فإن الشافعي يقول م: (البدل لا يكون له بدل) ش: يعني الشرع ورد بالمسح على الخفين بدلاً عن غسل الرجلين، فلو جوز المسح عليهما أقامها مقام الخف، والخف لا يكون له بدل.
م: (ولنا «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح على الجرموقين فوق الخف» ش: هذا الحديث رواه بلال، وأنس، وأبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
أما حديث بلال فأخرجه أبو داود من حديث أبي عبد الله عن أبي عبد الرحمن أنه شهد عبد الرحمن بن عوف يسأل بلالاً عن وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «كان يخرج يقضي حاجة فآتيه بالماء فيتوضأ، ثم يمسح على عمامته وموقيه» ، رواه ابن خزيمة في " صحيحه " والطبراني في " معجمه " من حديث شريح بن هانئ عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «زعم بلال أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمسح على الخفين والخمار» ورواه ابن خزيمة في " صحيحه " من حديث أبي إدريس الخولاني عن بلال «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح على الموقين والخمار» .
وأما حديث أنس فرواه البيهقي من حديث عاصم الأحول عن أنس بن مالك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمسح على الموقين والخمار» .
وأما حديث أبي ذر فرواه الطبراني في " معجمه الأوسط " من حديث عبد الله بن الصامت «عن أبي ذر قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على الموقين والخمار.» وقال الشيخ تقي الدين في " الإمام ": قد اختلفت عبارتهم في تفسير الموق فقال ابن سيده: الموق ضرب من الخفاف، والجمع أمواق، عربي صحيح، وحكى الأزهري عن الليث كذلك، وقال الفراء الموق: الخف، فارسي معرب، وكذا قال الهروي: الموق الخف، وقال الخطابي أيضاً: الموق نوع من الخف معروف وساقه إلى القصر، وقال النووي: أجاب أصحابنا عن الحديث أن(1/605)
ولأنه تبع للخف استعمالا وغرضا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الموق هو الخف لا الجرموق لأوجه، الأول: لأنه اسمه عند أهل اللسان.
الثاني: أنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه مسح على جرموقه.
الثالث: أن الحجاز لا يحتاج فيه إلى الجرموقين فينقد لبسه.
الرابع: أن الحاجة لا تدعو إليه في الغالب فلا تتعلق به الرخصة.
قال السروجي ما ملخصه: إن قوله الموق وهو الخف لا الجرموق غير مستقيم؛ لأن الجوهري والمطرزي والعكبري قالوا: إن الجرموق والموق يلبسان فوق الخف، فعلم أن الموق والجرموق متغايران وغير الخف، فبطل قوله: إن الموق هو الخف: وقال أبو البقاء وأبو نصر البغدادي: إن الموق هو الجرموق يلبس فوق الخف، فصار معنى قوله: إن الموق هو الخف لا الجرموق، وهذا ظاهر الفساد. وقوله: إنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان له جرموقان من صوف، والإثبات مقدم عليه. وقوله: إن الحجاز لا يحتاج فيه إلى الجرموقين ممنوع، بل يرده في الشتاء الشديد. وقوله: فإن الحاجة ما تدعو إليه إلخ يناقض مذهبهم في رخصة المسح عند عدم غلبة الحاجة، فعند عدم الحاجة أولى، وقد أثبتوها في هذه الأشياء عند عدم الحاجة، وهذا ظاهر بين ليس لهم معه كلام.
وقال الصنعاني في " العباب ": الجرموق الذي يلبس فوق الخف، ثم قال في باب الميم: الموق الذي يلبس فوق الخف فارسي معرب، وهو تقريب مؤكد. وقال الليث: الموقان ضرب من الخفاف يجمع أمواق.
قلت: إذا ثبت أن الجرموق غير الخف، وأن الموق هو الجرموق يكون استدلال المصنف ببلال وغيره الذي ذكره مستقيماً، وإذا ثبت أن الموق هو الخف على ما ذكره الفراء والهروي وكراع يكون استدلاله بالحديث المذكور غير مستقيم، ولهذا قال الأترازي: ولنا ما روي في " المبسوط «عن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح على الجرموقين» ولم يذكر ما يذكره المصنف، ولكن قال النووي: لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه مسح على جرموق. والجواب الذي ذكره السروجي على هذا غير مستقيم على ما لا يخفى، ولكن روى محمد في كتاب " الآثار " قال: أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم أنه كان يمسح على الجرموقين.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الجرموق م: (تبع للخف استعمالاً وغرضاً) ش: أي من حيث الاستعمال ومن حيث الغرض، أما الاستعمال فمن حيث المشي والقيام والقعود والانخفاض والارتفاع، فإنه أين ما دار الخف يدور معه، فكان تبعاً للخف في الاستعمال.
وأما الغرض من لبسه فإنه يلبس صيانة للخف عن الخرق والأقذار، كما أن الخف وقاية للرجل.(1/606)
فصارا كخف ذي طاقين وهو بدل عن الرجل لا عن الخف،
بخلاف ما إذا لبس الجرموق بعدما أحدث؛ لأن الحدث حل بالخف فلا يتحول إلى غيره، ولو كان الجرموق من كرباس لا يجوز المسح عليه؛ لأنه لا يصلح بدلا عن الرجل إلا أن تنفذ البلة إلى الخف.
ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فصارا كخف ذي طاقين) ش: أي فصار الخف من هاتين الجهتين كخف ذي طاقين ثم نزع أحد طاقيه، أو كان الخف شعراً فمح عليه ثم حلق الشعر فإنه لا يجب إعادة المسح. قلت: لما كانت تبعية في الاستعمال والغرض لم يكن بالأصالة، فإذا زال بالنزع زالت التبعية وحل الحدث بما تحته فيجب إعادة المسح. وأما طاقا الخف فلشدة اتصال أحدهما بالآخر كانا كالشعر مع البشرة، وقد تقدم أنه إذا مسح على الرأس ثم حلقه لا يجب عليه إعادة المسح.
م: (وهو) ش: أي الجرموق م: (بدل عن الرجل لا عن الخف) ش: هذا جواب عن قول الشافعي: البدل لا يكون له بدل، وهو أن يقال: لا نسلم أنه بدل عن الخف، وإنما هو بدل عن الرجل كالخف لم ينعقد فيه حكم المسح بعد.
فإن قلت: لا نسلم، أليس أنه لو نزع الجرموقين يلزمه المسح على الخفين، ولا يجب غسل القدمين، ولو كان الجرموق بدلاً عن الخف لوجب غسل القدمين عند نزعهما كما في نزع الخفين.
قلت: عدم سريان الحدث إلى الرجل لا؛ لأن الجرموق كان بدلاً عن الخف، بل لأن الخف لم يكن محلاً للمسح بعد نزع الجرموقين. وقيل: حلول الحدث على الخف لا يصير محلاً، فإذا لم يكن محلاً لم يكن الجرموق بدلاً عنه.
م: (بخلاف ما إذا لبس الجرموق بعدما أحدث؛ لأن الحدث حل بالخف فلا يتحول إلى غيره) ش: وهو الجرموق فلا يمسح عليه.
م: (ولو كان الجرموق من كرباس لا يجوز المسح عليه؛ لأنه لا يصح بدلاً عن الرجل) ش: إذا لم يمكن تتابع المشي عليه م: (إلا أن تنفذ البلة إلى الخلف لرقته) ش: فيكون المسح عليه كالمسح على الخف.
[المسح على الجوربين]
م: (ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: الجورب يتخذ من جلد يلتبس في القدم إلى الساق لا على هيئة الخف، بل هو لبس فارسي معرب وجمعه جواربة، وفي " الصحاح ": ويقال جوارب أيضاً.
قلت: (الجورب هو الذي يلبسه أهل البلاد الشامية الشديدة البرد، وهو يتخذ من غزل الصوف المفتول، يلبس في القدم إلى ما فوق الكعب. وفي " المنافع ": وجورب مجلد إذا وضع(1/607)
إلا أن يكونا مجلدين أو منعلين. وقالا: يجوز إذا كانا ثخينين لا يشفان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجلد على أعلاه وأسفله، والمنعل هو الذي وضع جلد على أسفله كالنعل للقدم. وفي " الصحاح ": أنعلت خفي ودابتي وفعل فعلت. وفي " المغرب ": أنعل الخف ونعله جعل له نعلاً، والنعل في الجورب يكون إلى الكعب، وقيل: مقدار القدمين. والمسح على الجوربين في ثلاثة أوجه: في وجه يجوز بالاتفاق، وهو ما إذا كانا ثخينين منعلين. وفي وجه: لا يجوز بالاتفاق، وهو أن لا يكونا ثخينين ولا منعلين. وفي وجه: لا يجوز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه خلافاً لصاحبيه، وهو أن يكونا ثخينين غير منعلين.
م: (إلا أن يكونا مجلدين أو منعلين) ش: بضم الميم وسكون النون من أنعلت كما ذكرنا، وقيل: بالتشديد.
م: (وقالا: يجوز إذا كانا ثخينين) ش: ما تقوم على الساق من غير أن يشد بشيء م: (لا يشفان) ش: بفتح الياء آخر الحروف وكسر الشين المعجمة من شف الثوب إذا وصف ما تحته، من باب ضرب يضرب، والذي يقول: ها هنا لا ينشفان من نشف الثوب العرق، وهو من باب علم يعلم خطأ لا يعتمد عليه، وهذه الجملة في محل النصب إما على الحالية من ثخينين وإما على الوصفية، وإنما ذكرها تأكيداً للثخانية، وقولهما قول الجمهور من الصحابة كعلي بن أبي طالب، وأبي مسعود البدري، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، وأبي أمامة البلوي، وعمر، وابنه، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن عمرو بن حريث، وسعيد، وبلال، وعمار بن ياسر، فهؤلاء الصحابة لا يعرف لهم مخالف، ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وعطاء، والنخعي، والأعمش، وسعيد بن جبير، ونافع مولى ابن عمر، وبه قال الثوري، والحسن بن صالح، وابن المبارك، وإسحاق بن راهويه، وداود، وأحمد، وكره ذلك مجاهد، وعمرو بن دينار، والحسن ابن مسلم، ومالك، والأوزاعي.
وقال: الشافعي: يجوز المسح عليهما بشرط أن يكون صفيقا منعلاً، نص عليه في " الأم "، وفي " الحلية "، وبقول أبي حنيفة قال الشافعي. وبقولهما قال أحمد، وداود. وفي " الأسرار ": وقال الناطفي: لا يجوز على الكل. وفي " شرح الوجيز ": لا يجوز المسح على اللفائف والجورب المتخذة من اللبد والصوف؛ لأنه لا يمكن المشي عليهما، وكذا على الجوارب المتخذة من الجلد التي تكسر مع الكعب وهي الجوارب الصوفية، لا يجوز حتى تكون بحيث يمكن متابعة المشي عليها، يعتبر قعود [ ... ] أو التجليد للقدمين والنعل على الأسفل والإلصاق بالكعب، وحكى بعضهم أنها كانت معقودة صفيقة، ففي اشتراط تجليد القدمين قولان. وكره مالك والأوزاعي المسح على الجوربين من [
] والرقيق من غزل أو شعر بلا خلاف، ولو كان ثخيناً بحيث يمشي به فرسخاً فصاعداً كجوارب أهل بدر فعلى الخلاف، وكذا الجورب من جلد رقيق(1/608)
لما روي «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مسح على جوربيه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على الخلاف، ويجوز على الجوارب اللبدية، ويجوز على الجورب المشقوق على ظهر القدم، ولو ازداد كخروق الخف يشد عليه فيستره؛ لأنه كغير المشقوق، وإن ظهر من ظهر القدم شيء فهو كلخف الدوراني الذي يعتاده سفهاء زماننا، فإن كان مجلداً يستر جلده الكعب يجوز وإلا فلا.
وفي " شرح الوجيز ": الخف المتخذة من الخشب أو الحديد إذا كانت رقيقاً يمكن المشي عليه ويجوز وإلا فلا. وفي " الوسيط ": يجوز المسح على الخف منه وإن عسر المشي عليه، وفي المتخذ من الذهب والفضة قولان.
م: (لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح على جوربيه» ش: هذا الحديث روي عن المغيرة، وأبي موسي، وبلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وأما حديث المغيرة بن شعبة فروي من طريق أبي قيس عن هذيل بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ ومسح على الجوربين والنعلين» .
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال النسائي في " سننه الكبرى ": لا نعلم أحدا تابع أبا قيس على هذه الرواية، والصحيح عن المغيرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح على الخفين» .
وذكر البيهقي حديث المغيرة هذا وقال: إنه حديث منكر، ضعفه سفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، ومسلم بن الحجاج، والمعروف عن المغيرة حديث المسح على الخفين.
وقال النووي: كل واحد من هؤلاء لو انفرد قدم على الترمذي، مع أن الجرح مقدم على التعديل، قال: واتفق الحفاظ على تضعيفه، ولا يقبل قول الترمذي: إنه حسن صحيح.
وذكر البيهقي في " سننه " أن أبا محمد يحيى بن منصور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: رأيت مسلم بن الحجاج وضعف هذا الحديث. وقال: أبو قيس الأودي، وهذيل بن شرحبيل لا يحتملان، وخصوصاً مع مخالفتهما الأجلة الذين رووا هذا الحديث عن المغيرة فقالوا: مسح على الخفين.
قلت: قال في " الإمام " أبو قيس: اسمه عبد الرحمن بن مروان، احتج به البخاري في " صحيحه " ووثقه ابن معين، وقال الجعفي: ثقة ثبت، وهذيل وثقه العجلي، وأخرج لهما البخاري في " صحيحه "، ثم إنهما لم يخالفا الناس مخالفة معارضة، بل رويا أمراً زائداً على ما(1/609)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رواه بطريق مستقل غير معارض، فيحمل على أنهما حديثان، ولهذا لما أخرجه أبو داود وسكت عنه وصححه ابن حبان والترمذي، فإذا كان كذلك كيف يقبل قول النووي في حق الترمذي: ولا يقبل قول الترمذي في أنه حسن صحيح، فإذا طعن في الترمذي في تصحيحه هذا الحديث فكيف يؤخذ بتصحيحه في غيره.
وأما البيهقي فإنه نقل ما قاله واعتمد عليه من غير رواية؛ لأنه ادعى في هذا الحديث المخالفة للأئمة الحملة، وقد قلنا: إنه ليس فيه مخالفة، بل أمر زائد مستقل، فلا يكابر في هذه الأسانيد متعصب.
وأما حديث أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه ابن ماجه في " سننه " والطبراني في " معجمه " عن عيسى ابن سنان، عن الضحاك بن عبد الرحمن، عن أبي موسى «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ ومسح على الجوربين والنعلين» .
فإن قلت: هذا الحديث لم يذكره ابن عساكر في " الأطراف " فلذلك قال الزيلعي: لم أجده في نسختي. قلت: عزاه ابن الجوزي في " التحقيق " لابن ماجه، وكذا ذكر في " الإمام " أنه لابن ماجه، ويمكن أن يكون ساقطاً من بعض النسخ.
فإن قلت: قال أبو داود: هذا الحديث ليس بمتصل ولا بالقوي، وقال البيهقي: والضحاك بن عبد الرحمن لم يثبت سماعه من أبي موسى، وعيسى بن سنان لا يحتج به. قلت: قال عبد الغني في " الكمال ": الضحاك بن عبد الرحمن سمع أباه، وأبا موسى الأشعري، وأبا هريرة، وعيسى بن سنان، قال يحيى بن معين: إنه ثقة.
وأما حديث بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه الطبراني في " معجمه " من طريق ابن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن الحكم بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على الخفين والجوربين» واحتج الأترازي لهما بحديث أبي موسى ولم ينسبه إلى أحد، وكذا الأكمل ثم قال: على أن أبا داود طعن فيه، وقال: ليس بالمتصل ولا بالقوي، ولم أر أحداً منهم يشد مذهبه بكلام يرد خصمه رداً قطعياً، ولا تكلم في حال حديث حين يذكره للاحتجاج، غاية قولهم: ويروى افترى ونحو ذلك، وليس فيه نفع ولا نفيع.(1/610)
ولأنه يمكنه المشي فيه إذا كان ثخينا، وهو أن يستمسك على الساق من غير أن يربط بشيء فأشبه الخف. وله أنه ليس في معنى الخف؛ لأنه لا يمكن مواظبة المشي فيه إلا إذا كان منعلا، وهو محمل الحديث، وعنه أنه رجع إلى قولهما وعليه الفتوى.
ولا يجوز المسح على العمامة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأنه يمكنه المشي فيه إذا كان ثخينا، وهو أن يستمسك على الساق من غير أن يربط بشيء، فأشبه الخف) ش: فيلحق به في الحكم.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنه) ش: أي أن الجورب م: (ليس في معنى الخف) ش: لأنه لا يمكن قطع مسافة السفر به، وهو معنى قوله: م: (لأنه لا يمكن مواظبة المشي فيه إلا إذا كان) ش: أي الجورب م: (منعلاً) ش: وقد مر تفسيره م: (وهو محمل الحديث) ش: أي كون الجورب منعلاً وهو محمل الحديث الذي رواه أبو موسى وغيره، وأراد بهذا الكلام الجواب عن هذا الحديث الذي احتجا به؛ لأنه يقول: إن المسح على الخف ورد على خلاف القياس؛ لأن النص يقتضي الغسل فلا يلحق به غيره، إلا ما كان في معناه من كل وجه، فثبت بدلالة النص لا بالقياس، فلو لم يكن المنعل مراداً في حديث أبي موسى وغيره يكون زيادة على النص بخبر الواحد، وذا لا يجوز، كذا في " الكافي ".
م: (وعنه) ش: أي وعن أبي حنيفة م: (أنه رجع إلى قولهما) ش: أي قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - وهو أنه مسح على جوربيه في مرضه، ثم قال لأصحابه: فعلت ما كنت أمنع الناس عنه، فاستدلوا به على رجوعه إلى قولهم، كذا قال في " المبسوط "، ونقله الأكمل في شرحه وفيه نظر لا يخفى، وقد صرح بعضهم أنه رجع إلى قولهما قبل موته بسبعة أيام، وفي " فتاوى الكرخي ": ثلاثة أيام. م: (وعليه الفتوى) ش: أي وعلى قولهما الفتوى، أو على الذي رجع إليه أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الفتوى.
[المسح على العمامة والقلنسوة ونحوهما]
م: (ولا يجوز المسح على العمامة) ش: أراد اقتصار المسح عليها، وهو قول الجمهور حكاه الخطابي وقال ابن المنذر: حكي عن عروة بن الزبير، والشعبي، والنخعى، والقاسم، ومالك، وحكاه غيره عن علي بن أبي طالب، وابن عمر، وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وفي " الحلية ": ويستحب لمن على رأسه عمامة لا يريد نزعها أن يمسح على ناصيته ويتمم المسح على العمامة، فإن اقتصر على مسحها لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة، ومالك، انتهى. وقالت طائفة بجواز الاقتصار على العمامة، قاله الثوري، والأوزاعي، وأحمد، وأبو ثور، وإسحاق، ومحمد بن جرير، وداود، وقال ابن المنذر: مسح على العمامة أبو بكر الصديق، وبه قال عمر، وأنس بن مالك، وأبو أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وروي عن سعد بن أبي وقاص، وأبي الدراء، وعمر ابن عبد العزيز، ومكحول، والحسن، وقتادة، والأوزاعي، وشرط بعضهم أن يلبسها على طهارة، وهو مذهب أحمد فإنه شرط أن يكون قد تعمم على طهر. وفي " النهاية " قال بعض(1/611)
والقلنسوة والبرقع والقفازين؛ لأنه لا حرج في نزع هذه الأشياء والرخصة لدفع الحرج،
ويجوز المسح على الجبائر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أصحاب الحديث والشافعي في قول بجواز المسح عليها م: (والقلنسوة) ش: «لحديث بلال أنه قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح على عمامته وخفيه» وجاء في حديث ثوبان «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بعث سرية وأمرهم أن يمسحوا على المساود والتساخين» والمساود: العمائم، والتساخين: الخفاف، ولأنه لو سجد على كور عمامته يجوز، فكذا المسح.
قلت: حديث بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رواه البخاري، وحديث ثوبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رواه أبو داود بأسانيد جيدة، ذكره النووي، ورواه أيضاً الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، قوله: المساود، وقوله: التساخين، قيل: لا واحد لها من لفظها، وقيل: واحدها سخان وسخن، والتاء فيها زائدة، وقيل: أصل ذلك كل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوهما.
والجواب عن هذين الحديثين وأمثالهما «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقتصر على مسح بعض الرأس» فلا يمسحه كله مقدمه ومؤخره، ولا ينزع عمامته عن رأسه ولا ينقضها. وحديث المغيرة بن شعبة كالمقر له، وهو أنه وصف وضوءه ثم قال: «ومسح بناصيته وعلى عمامته» فدخل مسح الناصية بالعمامة ووقع أداء من مسح الرأس بمسح الناصية إذ هي جزء من الرأس، وصارت العمامة تبعاً له كما روي «أنه مسح أسفل الخف وأعلاه» وكان الواجب في ذلك مسح أعلاه، وصار مسح أسفله كالتبع له، والأصل أن الله تعالى فرض المسح، وحديث ثوبان ونحوه يحتمل التأويل فلا يترك الأصل المقيد وجوبه بالأحاديث المتحملة للقلنسوة.
م: (والبرقع) ش: بضم الباء الموحدة. وقال الجوهري: البرقع والبرقع بضم القاف وفتحها النقاب تلبسه نساء الأعراب، وكذا البرقوع م: (والقفازين) ش: تثنية قفاز بضم القاف وتشديد الفاء. وقال النسفي: القفاز تلبسه النساء في أيديهن لتغطية الكف والأصابع، وقال غيره: القفاز شيء يعمل لليدين يحشى بالقطن وله أزرار تزر على الساعدين من البرد، تلبسه المرأة في يديها. قلت: ومنه الذي يلبسه الصيادون في أكفهم حين يحملون الطيور م: (لأنه لا حرج في نزع هذه الأشياء) ش: بخلاف الخف م: (والرخصة لرفع الحرج) ش: يعني الرخصة التي في مسح الخف كانت لرفع الحرج في نزع هذه، وجمهور العلماء ممن عرف بالفقه على عدم جواز المسح على هذه الأشياء، إلا ما ذكره الجلال عن أبي موسى أنه مسح على قلنسوته، وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: إن شاء مسح على رأسه، وإن شاء على قلنسوته، قال ذلك بأسانيد صحاح.
[المسح على الجبائر]
[حكم المسح على الجبائر]
م: (ويجوز المسح على الجبائر) ش: جمع جبيرة، وهي العيدان التي تجبر بها العظام، ويقال: الجبيرة، والجبائر بكسر الجيم أعواد ونحوها تربط على الكسر ونحوه لتضم بعض العضو إلى(1/612)
وإن شدها على غير وضوء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعضه ليلتحم م: (وإن شدها على غير وضوء) ش: كلمة إن بالكسر واصلة بما قبلها، وذلك لأنها إنما تربط حالة الضرورة، واشتراط الطهارة في ذلك يفضي إلى الحرج فلا يعتبر، وفي " المحيط ": لو ترك المسح على الجبائر والمسح يضر جاز، وإن لم يضر لم يجزه، ولا تجوز صلاته عندهما، ولم نجد في الأصل قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقيل عنده يجوز تركه، والصحيح أنه واجب وليس بفرض عنده حتى تجوز صلاته بدونه، وذكر في " منية المصلي " عن أبي حنيفة روايتين. وقال أبو علي النسفي: إنما يجوز المسح على الجبيرة إذا كان يضر المسح على القرحة، أما إذا قدر على المسح عليهما لا يجوز على الجبيرة، كما لو قدر على غسلها، وعلى هذا عصابة المفصد، وفي " المستصفى " الخلاف في المجروح، وفي المكسور: يجب المسح اتفاقاً. وفي " جوامع الفقه ": وقد صح رجوعه إلى قولهما فيه، وفي " تجريد القدوري ": الصحيح من مذهبه أن المسح على الجبيرة ليس بفرض.
وفي " المحيط ": إذا زادت الجبيرة على رأس الجرح، أو جاوز رباط الفصد موضع الجراحة إن كان حل الخرقة وغسل ما تحتها يضرها لجراحة يمسح على الكل تبعاً، وإن كان المسح والحل لا يضر بالجرح لا يجزئه مسح الخرقة، بل يغسل ما حول الجراحة. ويمسح عليها لا على الخرقة، وإن كان يضر المسح ولا يضر الحل يمسح على الخرقة التي على رأس الجرح ويغسل حواليها وتحت الخرقة الزائدة، ولو انكسر ظفره فجعل عليه دواء أو علكاً ويضر نزعه مسح عليه، وإن ضره المسح تركه، ذكره الكرخي. وقيل: لا يجوز تركه؛ لأنه لا يضره عادة، إن العادة تمنع شرب الماء.
وفي " منية المصلي ": في أعضائه شقوق يمر الماء عليها إن قدر، وإلا غسل ما حولها، ولو أدخل في أصبعه مرارة ومسح عليها عن محمد أنه يجوز بغير كراهة، وإن كانت بها بول شاة قيل: ينبغي أن يكون قول أبي يوسف كذلك للتداوي به. وعند أبي حنيفة: يكره بخلاف الخرقة النجسة. وفي " الحلية ": وضعها على طهر، لو ضرها مسح على جميعها في أظهر الوجهين، وهل يجب ضم التيمم إليه؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يضم إليه، ويصلي به ما شاء من الفرائض.
والثاني: يضم إليه ويتيمم لكل فرض، وهل يجب الإعادة بعد البرء فيه قولان، أحدهما: لا يجب، وهو قول أبي حنيفة، واختاره المزني، ولو وضعها على غير طهر وخاف من نزعها مسح عليها وأعاد قولاً واحداً، وقيل: فيه قولان وليس بشيء. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية: لا تعتبر الطهارة في مسحها ووضعها ولا يصلي ولا يعيد، وبه قال مالك، ولو زادت الجبائر أو عصابة الفصد على الجرح يجزئه المسح على خرقة المفتصد دون عصابته، وقيل: إن أمكنه شد العصابة بنفسه لم يجز.(1/613)
لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فعل ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فعل ذلك) ش: أي فعل المسح الجبيرة، ولم أر أحداً من الشراح المشهورين تعرض لهذا، غير أن الأكمل قال: والأصل في ذلك ما قال في الكتاب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل وأمر علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واكتفى بهذا الكلام ومضى.
قلت: فيه حديثان مرفوعان، أحدهما: أخرجه الدارقطني في " سننه " من حديث ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمسح على الجبائر» وفي سنده أبو عمارة محمد بن أحمد، قال الدارقطني: هو ضعيف جداً، ولا يصح هذا الحديث مرفوعا. والحديث الآخر أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لما رماه ابن قميئة يوم أحد رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا توضأ حل عصابته ومسح عليها بالوضوء» وذكر الشيخ جمال الدين الحضرمي في " خير مطلوب ": أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مسح وجهه يوم أحد فداواه بعظم بال فعصب عليه، فكان يمسح على العصابة. وقال السروجي: وما رأيته في كتب الحديث.
قلت: مداواته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بعظم بال وجهه يوم أحد ذكره أهل السير. وقال أبو سليمان حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني إبراهيم بن محمد، حدثني أبي عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن حزم، عن أبيه، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داوى وجهه يوم أحد بعظم بال.» والحديث غريب، وأبو أمامة هذا اسمه أسعد سماه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وورد في رواية للبخاري «أن فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فألصقتها فأمسك الدم (وأمر) أي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) أي بالمسح على الجبيرة.» قال الأترازي: والأصل في جواز المسح على الجبيرة ما روي «أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كسرت يده يوم أحد فسقط اللواء منها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اجعلوه في يساره، فإنه صاحب اللواء في الدنيا والآخرة " فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أصنع بالجبائر فقال: " امسح عليها» رواه الكرخي في " مختصره " بإسناده إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قلت: هذا الحديث لا أصل له، والذي روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هو انكسار إحدى زنديه، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره بالمسح على الجبائر، وهو أيضاً غير صحيح، رواه ابن ماجه في " سننه "(1/614)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من حديث عمرو بن خالد، «عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده الحسين بن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: انكسرت إحدى زندي فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرني أن أمسح على الجبائر» وأخرجه الدارقطني، ثم البيهقي في " سننهما "، قال الدارقطني: وعمرو بن خالد الواسطي: متروك. وقال البيهقي: وقد تابع عمرو بن خالد عليه ابن موسى بن دحية، فرواه عن زيد بن علي مثله، وابن دحية: متروك، منسوب إلى الوضع. وقال ابن أبي حاتم في " علله ": سألت أبي عن حديث رواه عمرو بن خالد، عن زيد بن علي عن آبائه، فقال: هذا حديث باطل لا أصل له، وعمرو بن خالد متروك الحديث، وقال ابن القطان في " كتابه ": قال إسحاق بن راهويه: عمرو بن خالد: كان يضع الحديث. قال ابن معين: كذاب غير ثقة ولا مأمون، وروى العقيلي هذا الحديث في ضعفائه وأعله بعمرو بن خالد وقال: لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به، ونقل تكذيبه عن جماعة. وقال السروجي: وجه وجوب المسح على الجبيرة ما أخرجه ابن ماجه عن زيد بن علي إلى آخره، فيه: «كسرت إحدى زندي يوم أحد» ... إلى آخره، ثم قال: وفي " المغرب ": «وكسرت إحدى زندي؛» لأن الزند مذكر، وذكر في " المبسوط " و " خير مطلوب ": والبادي يوم خيبر كما ذكره في " المغرب "، وصوابه يوم أحد كما ذكره ابن ماجه، وهكذا ذكره في " المحيط ". قلت: لأن هذا جواب ولا زال الحديث ليس له أصل كما ذكرنا. والعجب من السروجي كيف رضي بهذا الذي قاله مع ابتاعه الأحاديث التي لها أصل في الصحاح أو الحسان.
وكان يمكن للأترازي وغيره من الشراح أن يقول: الأصل في هذا الباب حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه أبو داود في " سننه " حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي، قال: حدثنا محمد بن سلمة، عن الزبير بن خريق، عن عطاء، «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خرجنا في سفرة فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم فقال لأصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم، فقالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر بذلك فقال: " قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب (شك موسى) على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده» .(1/615)
وأمر عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - به، ولأن الحرج فيه فوق الحرج في نزع الخف، فكان أولى بشرع المسح، ويكتفى بالمسح على أكثرها، ذكره الحسن، ولا يتوقت لعدم التوقيف بالتوقيت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال البيهقي في " المعرفة ": هذا الحديث أصح ما روي في هذا الباب مع اختلاف في إسناده، والزبير بن خريق بضم الزاء في الزبير وضم الخاء المعجمة في خريق، والعي: بكسر العين المهملة، وتشديد الياء: الجهل.
قوله: بمعنى يعصبه، وفي الحديث: دليل على جواز المسح على الجبائر بعد تعصيبها [و] يغسل بعضها.
فإن قلت: قال الخطابي في القصة: إنه أمر بالجمع بين التيمم وغسل سائر بدنه بالماء، ولم ير أحد الأمرين كافياً دون الآخر. وقال أصحاب الرأي: إن كان أقل أعضائه مجروحاً جمع بين الماء والتيمم، وإن كان الأكثر كفاه التيمم وحده. قلت: لم يأمر - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أن يجمع بين التيمم والغسل، وإنما بين أن الجنب المجروح له أن يتيمم ويمسح على الجراحة ويغسل سائر بدنه، فيحمل قوله: يتيمم ويمسح، على ما إذا كان أكثر بدنه جريحاً، ويحمل قوله: ويغسل سائر جسده إذا كان أكثر بدنه صحيحاً، وعليه قوله: ويغسل سائر جسده إذا كان أكثر بدنه جريحاً، ويمسح على الجراحة، وأما نقل الخطابي مذهبنا على هذا الوجه فغلط غير صحيح، بل المذهب ما ذكرناه، وليس عندنا الجمع بين التراب والماء.
م: (ولأن الحرج فيه) ش: أي في نزع الجبيرة م: (فوق الحرج في نزع الخف) ش: لأنه يتضرر في ذلك دون نزع الخف م: (فكان أولى بشرع المسح) ش: أي فكان مسح الجبيرة أولى من مسح الخف في المشروعية م: (ويكتفى بالمسح على أكثرها) ش: أي على أكثر الجبيرة. وفي نسخة الأترازي: أي على أكثره ثم تكلف، وقال: يذكر الضمير على تأويل المجبور أو المذكور.
قلت: قوله: على تأويل المجبور غير صحيح، لأن المجبور هو صاحب الجبيرة، وليس المراد الاكتفاء بالمسح على أكثر صاحب الجبيرة، وإنما المراد الاكتفاء بمسح أكثر الجبيرة.
م: (وذكره الحسن) ش: ابن زياد، فإنه ذكر في " إملائه " أنه إذا مسح على الأكثر أجزأه، وإن مسح على النصف لا يجزئه. وفي " السروجي ": والغرض فيه الاستيعاب، وقيل الأكثر.
قلت: لم يذكر في ظاهر الرواية إلا الاكتفاء بالبعض دون البعض، وذكر في كتاب " الصلاة ": قال الحسن: قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا مسح على العصابة فعليه أن يمسح على موضع الجرح وعلى جميع العصابة أو على الأكثر. وفي " الكافي ": الصحيح ما ذكره الحسن لئلا يؤدي إلى عامة الجراحة. م: (ولا يتوقت) ش: أي المسح على الجبيرة ليس له وقت معلوم م: (لعدم التوقيف بالتوقيت) ش: يعني لعدم سماعه شيئاً في الوقت حيث لم يرد فيه أثر ولا(1/616)
وإن سقطت الجبيرة عن غير برء لا يبطل المسح؛ لأن العذر قائم والمسح عليها كالغسل لما تحتها ما دام العذر باقياً.
وإن سقطت عن برء بطل لزوال العذر، وإن كان في الصلاة استقبل؛ لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل. والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خبر، فيمسح إلى وقت البرء بخلاف مسح الخف، فإنه مؤقت بالحديث، وبين مسح الجبيرة ومسح الخف فرق من وجوه:
الأول: هذا المذكور.
الثاني: أن مسح الجبيرة يجوز وإن شدها بلا وضوء، ومسح الخف لا يجوز إذا لبسه قبل غسل الرجل.
والثالث: أن سقوط الجبيرة لا عن برء لا يبطل المسح، ونزع الخف يبطل المسح، فوجب غسل الرجل.
م: (وإن سقطت الجبيرة عن غير برء) ش: بضم الباء أي عن غير صحة م: (لا يبطل المسح؛ لأن العذر قائم) ش: فيعمل المرخص عمله م: (والمسح عليها) ش: أي على الجبيرة م: (كالغسل لما تحتها ما دام العذر باقياً، وإن سقطت عن برء بطل لزوال العذر) ش: فلا يزول المسح وإن زال الممسوح، كما لو مسح رأسه ثم حلق شعره بخلاف الخف؛ لأنه مانع لا لعلة العذر. وفي " المجتبى ": المسح على الجبيرة كالغسل لما تحتها بخلاف المسح على الخف، وفائدته تظهر في عشر مسائل: الثلاثة الأولى كما ذكرناها.
والرابعة: إذا مسح ثم شد عليها أخرى أو عصابة جاز المسح على العليا.
الخامسة: مسح على الجبائر في الرجلين ثم لبس الخفين ثم يمسح عليهما.
السادسة: الاستيعاب في المسح عليهما أو أكثرها شرط على اختلاف الروايتين.
السابعة: إذا أدخل الماء تحت الجبائر أو العصابة لا يبطل المسح.
الثامنة: أنه لا يشترط الشد في جميع الروايات فيه.
التاسعة: من التثليث فيه عند البعض إذا لم يكن على الرأس.
العاشرة: إذا كان الباقي أقل من ثلاث أصابع اليد كاليد المقطوعة أو الرجل جاز المسح عليها بخلاف المسح على الخف.
م: (وإن كان) ش: أي سقوط الجبيرة م: (في الصلاة استقبل؛ لأنه قدر على الأصل) ش: وهو المسح على الخفين م: (قبل حصول المقصود بالبدل) ش: وهو مسح الجبيرة، فصار كالمتيمم يجد الماء في خلال صلاته فإنه يصليها لذلك. وذكر في " الزيادات ": أن مسح الجبيرة كالغسل لما تحتها(1/617)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وليس ببدل مبدل، والمسح على الخفين بدل عن الغسل، ولهذا لا يمسح على الخفين في إحدى الرجلين ويغسل الرجل الأخرى؛ لأنه يؤدي إلى الجمع بين الأصل والبدل، ولو مسح على الخف في الأخرى يكون جمعاً بينهما فلا يجوز، ويجب غسلها، فثبت أن المسح على الجبيرة ما دام العذر باقياً أفضل، وهو أصل لا بدل.
وأورد مسألة التحري إذا ظهر الخطأ فيه لا يستقبل مع أن جهة التحري بدل عن جهة الكعبة. وأجيب بأن ذلك بعلامة النسخ لما قبلة أن أصله كان بطريق النسخ فبقي في حق التحري كذلك، والنسخ يظهر في حق القائم لا في حق الغائب فلذلك يبني، ولا يستقبل، والله أعلم بالصواب.(1/618)
باب الحيض والاستحاضة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الحيض والاستحاضة] [تعريف الحيض وأركانه]
م: (باب الحيض والاستحاضة) ش: أي هذا باب في بيان أحكام الحيض وأحكام الاستحاضة وارتفاعه، على أنه خبر مبتدأ محذوف كما ذكرنا، ويجوز أن ينتصب على تقدير خذ باب الحيض. والباب النوع والكتاب يشتمل على الأنواع.
وجه المناسبة بين البابين من حيث إن الخف مسقط لركن الوضوء إذ هو رخصة إسقاط، والحيض مسقط لجميع أركانه، والجزء مقدم ومسقط كذلك، وقيل: لأنه في بيان الطهارة أصلاً وخلفاً، والتيمم خلف الكل، والمسح خلف من البعض، فأخر الحيض؛ لأنه مسقط.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لما فرغ من بيان أحكام الطهارة من الأحداث أصلاً وخلفاً، شرع في بيان الطهارة عن الأنجاس، وقدم الحيض لاختصاصه بأحكام على حدة، أو لكثرة مناسبته بالأحداث من حيث حرمة الصلاة وقراءة القرآن ودخول المسجد وغير ذلك.
وقال السغناقي ما حاصله: إن الأحق بالتقديم ما يكثر وقوعه وهو الحدث الأصغر والأكبر، فلذلك قدم ذكرهما مع متعلقاتهما، ثم رتب عليه ما يقل وقوعه بالنسبة إلى ذلك وهو الحيض والنفاس، والحيض لما كان أكثر وقوعاً من النفاس قدمه عليه، لا يقال: كان الأولى تأخير باب الحيض؛ لأنه بين الطهارة عن الأحداث فيحتاج إلى بيان الطهارة عن الأنجاس، ثم يرتب عليه باب الحيض باعتبار أنه طهارة من الأنجاس؛ لأنا نقول: إن حكم الحيض حكم الجنابة، فينبغي ذكره في طهارة الأحداث دون الأنجاس.
فإن قلت: يصح تسمية النجاسة باعتبار أن الدم نجس مغلظ.
قلت: البول والغائط يشاركان في هذا الحكم، فالطهارة عنهما طهارة عن الأحداث، فكذا الطهارة عن الحيض؛ لأن أكثر الأحكام المذكورة في هذا الباب مختصة بالأحداث لا بالأنجاس كحرمة قراءة القرآن والطواف ودخول المسجد وغيرها.
فإن قلت: لم لقب هذا الباب بالحيض دون النفاس، وإن كان مشتملاً عليهما، قلت: لأن الحيض حالة معودة بين بنات آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دون النفاس [ ... ] وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحيض: «هذا شيء كتبه الله تعالى على بنات آدم» .
وقال بعضهم: كان أول ما أرسل الحيض على بني إسرائيل، رواه البخاري معلقاً. وأخرج(1/619)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عبد الرزاق عن ابن مسعود بإسناد صحيح قال: «كان الرجل والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعاً، كانت المرأة تستشرف للرجل، فألقى الله تعالى عليهن الحيض ومنعهن من المساجد» وعنده عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، نحوه.
وروى الحاكم وابن المنذر بإسناد صحيح «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن ابتداء الحيض كان على حق حواء - عَلَيْهَا السَّلَامُ - بعد أن هبطت من الجنة» .
قلت: هذا أقرب وأوجه؛ لأن الطبري روى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وغيره: أن قَوْله تَعَالَى في قصة إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود: 71] (هود: الآية 71) ، أي حاضت، والقصة في سورة بني إسرائيل بلا ريب. ثم الكلام فيه في عشرة مواضع في: تفسيره لغة، وشرعاً، وسببه، وركنه، وشرطه، وقدره، وألوانه، وأوانه، ووقت ثبوته، وحكمه.
أما تفسيره لغة: فقال صاحب " الدراية ": الدم الخارج، يقال: حاضت السمرة وهي شجرة يسيل منها شيء كالدم، ويقال حاضت الأرنب إذا خرج منها شيء كالدم، وقال الأترازي: الحيض في اللغة: خروج الدم، يقال: حاضت الأرنب إذا خرج منها الدم. وقال الأكمل: الحيض في اللغة الدم الخارج، ومنه حاضت الأرنب، وكذلك قال السغناقي وتاج الشريعة.
قلت: ليس كذلك، بل الحيض في اللغة عبارة عن السيلان، سواء كان دماً أو ماء أو نحوهما، يقال: حاض السيل والوادي، وحاض المشجون إذا قذف شيئاً أحمر يشبه الدم. وفي " المبسوط ": حاضت السمرة: إذا خرج منا الصمغ الأحمر، قال عمار بن عقيل:
حالت حضاهن الذراري وحيضت ... عليهن حيضات السيول الطواحم
وقال الصاغاني: التحييض التسييل، ثم أنشد هذا البيت. والطواحم جمع طاحمة من طحمة السيل، وهي دفعة ومعظمه كذلك طحمة الليل. ويقال: حاضت الأرنب وحاضت المرأة تحيض حيضاً ومحاضاً ومحيضاً، وعن اللحياني: حاض وحاض وحاض وجاز كلها بمعنى، وفي " المغرب ": المحيض موضع الحيض، وهو الفرج.
قلت: يتصرف منه العد والموضع والزمان والهيئة، وكلها وردت في ألفاظ الحديث.
والمرأة حائض، وفي اللغة الفصيحة الثابتة بغير تاء، واختلف النحاة في ذلك، فقال الخليل: لما لم تكن جائزة على الفعل كان منزلة المنسوب عنده بمعنى حائض، أي ذات حيض، كذارع وتامر وطامس ولابن، وكذا طالق وطامث وقاعد للآية: أي ذات طلاق، بمعنى أن الطلاق ثابت(1/620)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيها. وقال السروجي يرد عليه قَوْله تَعَالَى: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] (الحاقة: الآية 21) قالوا: بمعنى ذات رضا وقد أتى بالتاء.
قلت: راضية بمعنى مرضية فلا يرد، ومذهب سيبويه أن ذلك معنى مذكور [ ... ] أو شخص حائض وطامث وطامس وطالق، ونظيره غلام نصفة وربعة على تأويل نفس، لكنه لا يطرد؛ لأنه مقصور على السماع، ومذهب الكوفيين أنه استغنى عن علامة التأنيث؛ لأنه مخصوص بالمؤنث و [
... ] نحو حاضت المرأة فهي حائضة، وأرضعت فهي مرضعة.
وللحائض عشرة أسماء: الحائض، والطامث، والطامس، والدارس، والعارك، والضاحك، والفارك، والكابر. وقال النووي: الكبر والمصبر والنافس والطامث بالثاء المثلثة والطاء، بالهمزة في آخره، ونساء حيض وحوائض، والحيض بالفتح: المرأة، وبالكسر اسم للدم والخرقة التي تستر بها المرأة والحالة، وفي " تهذيب " النووي: إذا أقبلت الحيضة. قال الخطابي: قال المحدثون بالفتح، وهو خطأ، والصواب بالكسر؛ لأن المراد بها الحالة، ورده القاضي عياض وآخرون وقالوا: الأظهر الفتح؛ لأن المراد إذا أقبل الحيض.
وأما تفسيره شرعاً، فقال صاحب " البدائع ": وهو عبارة عن الدم الخارج من الرحم، وهو موضع الجماع والولادة، لا يعقب ولادة مقداراً في وقت معلوم. وقال أبو منصور الأزهري: الحيض دم ينفض رحم المرأة بعد بلوغها في أوقات معتادة من معدن الرحم. وقال ابن عرفة: الحيض اجتماع الدم، ومنه الحوض يجتمع فيه الماء. وقال السروجي: هذا حده لفظاً ومعنى؛ لأن الحيض من السيلان دون الاجتماع، وهو من معتل العين بالياء دون الواو.
قلت: أخطأه المخطئ؛ لأن العرب تدخل الواو على الياء، والياء على الواو؛ لأنهما من حد واحد وهو الهواء. قال الأزهري: ومنه قيل للحوض حوض؛ لأن الماء يحيض إليه أي يسيل. وقال الكرخي: الحيض دم تصير به المرأة بالغة بابتداء خروجه. وقال صاحب " الدراية ": هو دم ممتد خارج عن موضع مخصوص وهو القبل. وقال الفضلي: هو دم ينفضه رحم المرأة السليمة من الداء والصغر، ومنه أخذ صاحب " الكافي ".
قوله: رحم المرأة: احترز عن الرعاف والدماء الخارجة من الجراحات ودم الاستحاضة؛ لأنها دم عرق لا دم رحم. وقوله: السليمة من الداء احتراز عن النفاس، فإن النفاس في حكم المريضة حتى اعتبرت تبرعاتها من الثلث، وقوله: والصغر احتراز عن دم تراه الصغيرة قبل بلوغها بتسع سنين فإنه لا يعتبر في الشرع.
فإن قلت: ما تراه الصغيرة ليس بدم رحم ظاهراً، وقد خرج ذلك بقوله: ينقضه رحم امرأة.(1/621)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: دم ولكنه فاسد، والذي يخرج من رحم المرأة ليس بفاسد.
فإن قلت: الذي تراه الصغيرة استحاضة، فلذلك احترز بقوله: والصغر.
قلت: لا يقال له: استحاضة؛ لأنها لا تكون إلا على أثر حيض على صفة لا يكون حيضاً، فلذلك قلنا: إنه دم فاسد.
وأما سبب الحيض في الابتداء، فقيل: إن أمنا حواء - عَلَيْهَا السَّلَامُ - لما تناولت من شجرة الخلد ابتلاها الله بذلك وبقي في بناتها إلى يوم القيامة.
وأما ركنه: فامتداد دور الدم؛ لأن ركن الشيء ما يقوم به ذلك الشيء، والحيض يقوم به.
وأما شرطه: فتقدم نصاب الطهر حقيقة وحكماً وفراغ الرحم عن الحبل.
وأما قدره: فنوعان الأقل والأكثر، وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
وأما ألوانه: فسيجيء إن شاء الله تعالى عند قوله: وما تراه المرأة.. إلى آخره، وقدم الكمية على الكيفية؛ لأن الكمية: عبارة عن المقدار في الذات، والكيفية راجعة إلى الصفة، والذات مقدمة على الصفة.
وأما بيان أوانه: فقد اختلف في مدة الحكم ببلوغها، فقال بعضهم: ست سنين، وقيل: سبع سنين. وقال محمد بن مقاتل: تسع سنين، وبه أخذ أكثر المشايخ وهو [قول] الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وقال أبو علي الدقاق: اثنتا عشرة سنة اعتباراً للعادة في زماننا، كذا في " المحيط ".
واختلف في زمان الإياس، فقيل: ستون سنة، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المولدات ستون سنة، وفي الروميات خمس وخمسون سنة، وقيل: أقرابها من قرابتها، وقيل: يعتبر تركيبها لاختلاف الطبائع باختلاف البلدان، وعن أحمد خمسون سنة في العجمية وستون في العربية.
وقال الصاغاني: ستون سنة، وقيل: لم يقدر بشيء، فإذا غلب على ظنها الإياس فاعتدت بالشهور، ولو رأت دماً في أثناء الشهور وانقضى ما مضى من عدتها وبعد تمامها لا تبطل وهو المختار، وعند الأكثر: خمس وخمسون سنة، والفتوى في زماننا عليه، وهو قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وسفيان الثوري، وابن المبارك، ومحمد بن مقاتل الرازي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وبه أخذ نصر بن يحيي، وأبو الليث السمرقندي، والمصنف لم يذكر الوقت، وابتدأ الباب ببيان المقدار، ثم باللون، ثم بالحكم.(1/622)
أقل الحيض ثلاثة أيام ولياليها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما الاستحاضة فهو استفعال من الحيض، يقال: استحاضت المرأة إذا استمر بها الدم بعد أيامها فهي مستحاضة. وفي الشرع: اسم لما نقص عن أقل الحيض أو زاد على أكثره.
فإن قلت: ما وجه بناء الفعل للفاعل في الحيض والمفعول في الاستحاضة.
قلت: لما كان الأول معتاداً ومعروفا بني إليها، والثاني: لما كان نادراً غير معروف الوقت، وكان منسوباً إلى الشيطان، كما ذكرنا أنها ركضة من الشيطان بني لما لم يسم فاعله.
فإن قلت: ما هذه السين فيه؟ قلت: يجوز أن تكون للتحول كما في استحجر الطين، ويعني أيضاً تحول دم الحيض إلى غير دمه وهو دم الاستحاضة
[مدة الحيض]
[أقل الحيض]
م: (أقل الحيض ثلاثة أيام ولياليها) ش: أي أقل مدة الحيض، وإنما قيدنا هذا؛ لأن الأقل والأكثر بعض المضاف إليه، والثلاثة هي الأيام، والأيام ليست حيضاً فلا بد من التقدير ونظيره: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] (البقرة: الآية 197) أي مدة الحج أو زمانه أو وقته، ويجوز رفع ثلاثة أيام ونصبها، أما الرفع فلكونها خبر المبتدأ، وأما النصب على الظرف.
ثم اعلم أن ظاهر الرواية هو الذي ذكره المصنف، وبه قال الثوري، وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه ثلاثة أيام وما يتخللها من الليالي، وهو الليلتان، ذكره في " المبسوط "، وقال في " الينابيع ": يريد بقوله: لياليها ليال تقع في بعض هذه الأيام، ولا يريد الثلاث ليال مقدرة لتقديره بثلاثة أيام، فعلى هذا قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو رأت في أول اليوم غدوة دما وانقطع ثم رأته في اليوم الثاني ساعة، ثم رأته في اليوم الثالث ثم انقطع بالعشي، هذا حيض كله. ثم اعلم أن كون الدم يمتد إلى ثلاثة أيام بحيث لا ينقطع ساعة حتى يكون حيضاً غير شرط؛ لأن ذلك لا يكون إلا نادراً بل انقطاع ساعة أو ساعتين فصاعداً غير مبطل للحيض، وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في التقدير بيوم وليلة، وفي " الحلية ": أقل الحيض يوم، وقال في موضع آخر: يوم وليلة، فمن أصحابنا من قال: فيه قولان، ومنهم من قال قولاً واحداً يوم وليلة، وهو قول أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو الأظهر، ونص عليه الشافعي وتفرع عليه أحكام الحيض. ومنهم من قال: يوماً قولاً واحداً وهو قول داود.
وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا حد لأقله في العبادات، وروى عنه ابن وهب: أن أقله في العدة والاستبراء خمسة أيام بلياليها، وقال محمد بن جرير الطبري: أجمعوا على أنها لو رأت الدم ساعة وانقطع لا يكون حيضاً كأنه لم يتصوره، بخلاف مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يقول: أقله دفعة، وقالت: طائفة: ليس لأقله ولا لأكثره حد بالأيام، بل الحيض إقبال الدم المنفصل عن دم الاستحاضة.(1/623)
فما نقص من ذلك فهو استحاضة لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أقل الحيض للجارية البكر والثيب ثلاثة أيام ولياليها»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فما نقص من ذلك) ش: أي من أقل الحيض الذي هو ثلاثة أيام ولياليها م: (فهو) ش: أي الناقص م: (استحاضة) ش: عندنا ولو بساعة، وعليه الفتوى، قاله الصدر الشهيد؛ لأن الأيام إذا ذكرت بلفظ الجمع انتظمت ببيان أنها من التوالي، فنقصان ساعة منها تنفي الحيض كما ذكرنا م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقل الحيض للجارية البكر والثيب ثلاثة أيام ولياليها» ش: هذا الحديث روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -[وعن بعض] من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
الأول: حديث أبي أمامة رواه الطبراني في " معجمه ". والدارقطني في " سننه " من حديث حسان بن إبراهيم، عن عبد الملك، عن العلاء بن كثير، عن مكحول، عن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أقل الحيض للجارية البكر والثيب ثلاثة، وأكثر ما يكون عشرة أيام، فإذا زاد فهي مستحاضة» .
الثاني: حديث واثلة بن الأسقع رواه الدارقطني في " سننه " من حديث حماد بن المنهال البصري، عن محمد بن راشد، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام» .
الثالث: حديث معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه ابن عدي في " الكامل " عن محمد بن سعيد الشامي، حدثني عبد الرحمن بن غنم، سمعت معاذ بن جبل يقول: إنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا حيض دون ثلاثة أيام، ولا حيض فوق عشرة أيام، فما زاد على ذلك فهي مستحاضة تتوضأ لكل صلاة إلا أيام أقرائها، ولا نفاس دون أسبوعين، ولا نفاس فوق أربعين يوماً، فإن رأت النفساء الطهر دون الأربعين صامت وصلت، ولا يأتيها زوجها إلا بعد أربعين» .(1/624)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرابع: حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه ابن الجوزي في " العلل المتناهية " من حديث أبي داود النخعي، حدثني أبو طوالة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أقل الحيض ثلاث وأكثره عشر، وأقل ما بين الحيضتين خمسة عشر يوماً» .
الخامس: حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه ابن عدي في " الكامل " عن الحسن بن دينار، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أقل الحيض ثلاثة أيام وأربعة وخمسة وستة وسبعة وثمانية وتسعة وعشرة، فإذا جاوز العشر فهي مستحاضة» .
السادس: حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ذكره ابن الجوزي في " التحقيق " قال: وروى حسين بن علوان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أكثر الحيض عشر وأقله ثلاث» .
فإن قلت: هذه الأحاديث كلها ضعيفة فلا يصح الاحتجاج بها، ففي حديث أبي أمامة: عبد الملك مجهول، والعلاء بن كثير ضعيف الحديث، ومكحول لم يسمع من أبي أمامة، قاله الدارقطني.
وفي حديث واثلة: حماد بن المنهال، قال الطبراني: مجهول، وفيه محمد بن راشد، قال ابن حبان: كثير المناكير في روايته فاستحق الترك، وفي سنده أيضاً محمد بن أحمد بن أنس ضعيف.
وفي حديث معاذ: محمد بن سعيد، فالبخاري، وابن معين، والثوري قالوا: إنه يضع الحديث.
وفي حديث الخدري: أبو داود والنخعي، واسمه: سليمان، قال ابن حبان: كان سليمان يضع الحديث، وقال أحمد: كان كذاباً، وقال البخاري: هو معروف بالكذب. وفي حديث(1/625)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أنس: الحسن بن دينار، وقال ابن عدي: إن جميع من تكلم في الرجال أجمع على ضعفه.
وفي حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حسين بن علون، قال ابن حبان: كان يضع الحديث، لا يحل كتب حديثه، كذبه أحمد ويحيى بن معين.
قلت: أجاب القدوري في " التجريد " أن ظاهر الإسلام يكفي لعدالة الراوي ما لم يوجد فيه قادح، وضعف الراوي لا يقدح إلا أن تقوى جهة الضعف، وقد ذكر النووي في " شرح المهذب " أن الحديث إذا روي من طرق ومفرداتها ضعيفة يحتج به. وقال الدارقطني: مكحول لم يسمع أبا أمامة، غير مسلم؛ لأنه أدرك أبا أمامة وسمع في عصره، وإذا روى عنه فالظاهر السماع؛ فإن الشرط عند مسلم إمكان اللقي، ولو ثبت إرساله فالمرسل حجة عندنا.
فإن قلت: قال أحمد: أخبرتني امرأة ثقة أنها تحيض سبعة عشر. وقال ابن المنذر: بلغني عن نساء الماجشون أنهن يحضن سبعة عشرة يوماً، وكذا حكى عنهن أحمد، وروى إسحاق بن راهويه أن امرأة من نساء الماجشون كانت تحيض عشرين، وعن ميمون بن مهران أن زوجته بنت سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانت تحيض شهرين من السنة. وقال يزيد بن هارون: عندي امرأة تحيض يومين، وعن عبد الرحمن بن مهدي: كانت امرأة يقال لها: أم العلاء، تقول: حيضتي من أيام الدهر يومان. قال النووي: روينا ذلك بإسناد صحيح.
قلت: [ذكر] مالك ما حكي عن نساء الماجشون، وقال إسحاق: كنت أرى ما زاد على خمسة عشر صحيحاً، وما ذكر عن إسحاق ويزيد بن هارون أنكره أبو بكر بن إسحاق الفقيه، على أنا نقول: قد شهد لمذهبنا عدة أحاديث من عدة عن الصحابة من طرق مختلفة كثيرة [يشد] بعضها بعضاً، وإن كان كل واحد ضعيفاً، لكن يحدث عند الاجتماع ما لا يحدث عند الانفراد، على أن بعض طرقها صحيحة، وذلك يكفي للاحتجاج؛ خصوصاً في المقدرات، والعمل به أولى من العمل بالبلاغات، والحكايات المروية عن نساء مجهولة، ولا يجوز ترك الحجة بغير الحجة، ولأنا لو فتحنا باب اتساع وجود الدم في كل ما يحدث يظهر الخطأ والاضطراب، ونحن مع هذا لا نكتفي بما ذكرنا، بل نقوي ما ذهبنا إليه بالآثار المنقولة عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في هذا الباب. فمن ذلك ما روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه البيهقي من حديث الجلد بن أيوب، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك أنه قال: قرء المرأة، أو قال: حيض المرأة ثلاث أو أربع حتى ينتهي إلى عشرة، فتزاد في رواية، ثم تغتسل وتصوم وتصلي، وزاد غيره: فإذا جاوزت العشرة فهي مستحاضة.
قال في " الإمام ": هذا مشهور برواية جعد عن أنس مرفوعاً، رواه جماعة من الأكابر منهم:(1/626)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سفيان الثوري، وبه أخرجه الدارقطني من رواية وكيع، وأبي أحمد الزبيري عن الثوري، ففي رواية أبي أحمد: أدنى الحيض ثلاثة وأقضاه عشرة.
وقال وكيع: الحيض ثلاثة إلى عشرة، فما زاد فهو استحاضة. ومنهم حماد بن زيد، ولفظه عن أنس: الحيض ثلاث وأربع وخمس وست وسبع وثمان وتسع وعشر. ومنهم إسماعيل بن إبراهيم [ ... ] يكنى أبا بشر، مولى أنس بن خزيمة، بصري ثقة، ينسب إلى أمه علية، ذكر ذلك في " العلم المشهور ".
ومنهم: هشام بن حسان وسعيد، أخرجه الدارقطني، ولفظه: الحائض تنتظر ثلاثة أيام إلى عشرة أيام، فإذا جاوزت فهي مستحاضة تغتسل وتصلي، فإن البيهقي ذكر تضعيفه عن جماعة. وقال ابن عدي: لم ير للجعد حديثاً منكراً جداً، وقد جاء لحديثه متابعات من سواهن، منها ما أخرجه الدارقطني من حديث الربيع بن صبيح بفتح الصاد وكسر الباء الموحدة عمن سمع أنساً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: لا يكون الحيض أكثر من عشر، والربيع هذا وثقه يحيى بن معين، وقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا بأس به رجل صالح. وقال شعبة: هو من سادات المسلمين.
فإن قلت: قولهم: " عمن سمع أنساً ": مجهول.
قلت: هو معاوية بن قرة، صرح بذلك عبد الرزاق في " مصنفه "، وله طريقان آخران عن أنس أحدهما: أخرجه الدارقطني، والآخر أخرجه البيهقي، وروي أيضاً عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه الدارقطني، وروي أيضاً عن عثمان بن أبي العاص أخرجه الدارقطني أنه قال: الحائض إذا جاوزت عشرة أيام فهي بمنزلة الاستحاضة تغتسل وتصلي.
قال البيهقي: هذا الأثر لا بأس بإسناده. وحديث آخر رواه العقيلي عن معاذ بن جبل: لا حيض أقل من ثلاثة ولا فوق عشرة، وهو من حديث محمد بن الحسن الصدفي، وفي " الإمام ": عن جعفر بن محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أبيه عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أقل الحيض ثلاث، وأكثره عشر، وأقل ما بين الحيضين خمسة عشر يوماً» وذكر أبو بكر الخطيب بسنده إلى يعقوب بن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال القدروي: وقد روي مثل قولنا عن عمر، وعلي، وابن عباس، وأنس، وابن مسعود، وعثمان بن أبي العاص الثقفي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا يعرف لقولهم مخالف، فوجب تقليدهم، أو نقول: إن ما لا يدل عليه القياس يحمل فيه قول الصحابي على أنه قاله سماعاً، فكأنه رواه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولنا وجه آخر من هذا الباب احتج به الطحاوي، الثلاث والعشر، وهو «حديث أم سلمة أنها سألت عن المرأة تهرق الدم، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " تنظر عدد الأيام والليالي التي كانت تحيض(1/627)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من الشهر، فلتترك قدر ذلك من الشهر، ثم تغتسل وتصلي» فأجابها بذكر عدد الليالي والأيام من غير مسألة لها عن مقدار حيضها قبل ذلك، وأكثر ما يتناوله الأيام عشرة وأقله ثلاثة.
قلت: روى هذا الحديث أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم من حديث سليمان بن يسار عنها. قال النووي: إسناده على شرطهما. وقال البيهقي: هو حديث مشهور، إلا أن سليمان لم يسمعه منها، وفي رواية لأبي داود عن سليمان أن رجلاً أخبره عن أم سلمة، والدارقطني عن سليمان: أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت فأمرت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وقال المنذري: لم يسمعه سليمان، وقد رواه موسى بن عقبة عن نافع، عن سليمان بن يسار عنها، وساقه الدارقطني من حديث جويرية عن نافع عن سليمان، أنه حدثه رجل عنهما.
قوله: تهراق على صيغة المجهول في الرواية والدم منصوب، وفي رواية: الدماء، أي تهراق هي الدماء فينصب الدماء على التمييز، وإن كان معرفة وله نظام، ويجوز رفع الدماء على تقدير تهراق دماءها وتكون الألف واللام بدلان عن الإضافة. وقوله: " لتنظر عدد الليالي والأيام "، أي تحتسب عدد الليالي والأيام التي تحيض فيها قبل أن يصيبها الذي أصابها وهو الاستحاضة فلتترك الصلاة قدر ذلك أي قدر ما كنت تراه قبل ذلك، مثلاً إن كانت عادتها من كل شهر عشرة أيام، إما من أولها وإما من أوسطها وإما من آخرها تترك الصلاة عشرة أيام من هذا الشهر فغير ذلك.
فإن قلت: من أين كانت تحفظ هذه المرأة عدد أيامها التي كانت تحيضها أيام الصحة.
قلت: ولم تكن تحفظ ذلك لم يكن لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر» ، قبل أن يصيبها الذي أصابها معنى لا يجوز، يردها إلى رأيها ونظرها في أمر هي غير عارفة بكنهه.
فإن قلت: كيف الأمر فيمن لم تحفظ عدد أيامها.
قلت: هذه مسألة مشهور في الفروع، وهي أنه يجب من كل شهر عشرة أيام حيضها، ويكون الباقي استحاضة، واحتج الأترازي لأصحابنا بما احتج به أبو بكر الرازي في " شرح مختصر الطحاوي " على تقدير أقل الحيض وأكثره، فقال: والأصل فيه ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لفاطمة بنت أبي حبيش «دعي الصلاة أيام محيضك» وفي بعض الألفاظ: أيام أقرائك من كل شهر، وقال: المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها، وأقل ما يتناوله اسم الأيام ثلاثة أيام.(1/628)
وأكثره عشرة أيام، وهو قول أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في التقدير بيوم وليلة. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يومان، والأكثر من اليوم الثالث إقامة للأكثر مقام الكل، فقلنا: هذا نقص عن تقدير الشرع، وأكثره عشرة أيام، والزائد استحاضة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[أكثر الحيض]
م: (وأكثره عشرة أيام) ش: فقد أفادنا هذا الخبر مقدار الأقل والأكثر؛ لأن ما دون الثلاثة لا يسمى أياماً، ونقول ثلاثة إلى عشرة، ثم نقول أحد عشر يوماً، انتهى كلامه.
قلت: لم يبين من راوي هذا الحديث من الصحابة، ومن أخرجه من أهل الحديث، ورواه أبو داود والنسائي من «حديث فاطمة بنت أبي حبيش، أنها سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الدم فقال: " إذا أتاك قرؤك فلا تصلي، وإذا مر قرؤك فتطهري وصلي ما بين القرء إلى القرء» .
ورواه النسائي من حديث الزهري، عن عمرة من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن أم حبيبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كانت مستحاضة، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرها أن تترك الصلاة قدر أقرائها وحيضها» ورواه ابن حبان من طريق هشام عن أبيه عنها نحوه.
ورواه البيهقي موقوفاً، والطبراني في " الصغير " مرفوعاً من طريق قمير بن أبي مسروق عنها وزاد: «إلى مثل أيام أقرائها» .
م: (وهو قول أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي المذكور في الحديث المذكور قول أنس بن مالك، وليس هذا في كثير من النسخ، وقد ذكرناه عن قريب مفصلاً.
م: (وهو) ش: أي الحديث المذكور م: (حجة على الشافعي في التقدير بيوم وليلة) ش: وعلى مالك أيضاً فيماً ذهب إليه من أن الدفعة حيض، وعلى أبي يوسف أيضاً فيما ذهب إليه من أن أقله يومان والأكثر من اليوم الثالث، ولكنه رواية عنه أشار المصنف إليه بقوله م: (وعن أبي يوسف أنه يومان والأكثر من اليوم الثالث إقامة الأكثر مقام الكل) ش: بضم الميم وإقامة نصب على أنه مفعول مطلق، والتقدير أقمنا إقامة أو أقيمت إقامة.
م: (قلنا هذا نقص عن تقدير الشرع) ش: هذا جواب عما ذهب إليه أبو يوسف، تقديره: أن الشرع نص على عدد معين فلا يجوز تغييره، فلو جاز النقص فيه لجاز في إقامة اليومين مقام الثلاثة؛ لأنها أكثرها ولأن العدد بعد النص عليه، يعتبر عليه كما له، كأعداد الركعات وأيام الصيام وغيره أي يومين لمراعاة نص العدد.
م: (وأكثره) ش: أي أكثر الحيض م: (عشرة أيام والزائد) ش: على العشرة م: (استحاضة) ش:(1/629)
لما روينا وهو حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في التقدير بخمسة عشر يوما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فتجري فيه أحكام الاستحاضة م: (لما روينا) ش: والمصنف لم يرو الحديث ولا يشير لأحد من الصحابة، وإنما ذكره م: (وهو) ش: أي الحديث المذكور م: (حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في التقدير) ش: أي في تقدير أكثر الحيض م: (بخمسة عشر يوماً) ش: وبه قال مالك، وأحمد في رواية، وأبو يوسف أيضاً في رواية، وأبو حنيفة أولاً، وداود، وأظهر الروايات عن أحمد: أنه سبعة عشر يوماً، وهو رواية عن مالك. وعنه: لا حد لقليله ولا لكثيره، ولم يذكر المصنف حجة الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا حجة مالك.
وأما حجة الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن وافقه فهو حديث رووه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تمكث إحداكن شطر عمرها أو دهر لا تصلي» وقال الشطر: النصف، فدل على أن أكثره خمسة عشر يوماً.
قلت: ذكر السغناقي هذا الحديث ولفظه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نقصان دين المرأة: " تقعد «إحداهن شطر عمرها لا تصوم ولا تصلي» ، وذكره الأترازي فقال قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما رأيت ناقصات عقل ودين أقدر على سلب عقول ذوي الألباب، قيل: يا رسول الله! ما نقصان عقلهن ودينهن؟ فقال: أما نقصان عقلهن: فشهادة امرأتين شهادة رجل، وأما نقصان دينهن: فلأن إحداهن تمكث شطر عمرها لا تصلي» فعلم بهذا أن أكثر الحيض مقدر بخمسة عشر يوماً. وقال ابن منده: لا يثبت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوجه من الوجوه، وقال ابن الجوزي: هذا لا يعرف. وقال النووي: هذا حديث باطل لا يعرف.
وقال البيهقي في كتاب " المعرفة ": والذي يذكره بعض فقهائنا من قعودها شطر عمرها أو دهرها لا تصلي، قد طلبت كثراً فلم أجده في شيء من كتب أصحاب الحديث، ولم أجد له إسناداً بحال، فهذا الحديث لم يثبت، وإنما الثابت من " الصحيحين " حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ما رأيت ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن، قال: وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر رمضان، فهذا نقصان الدين» والعجب من الأترازي يذكر هذا الحديث ويرضى به ويسكت، مع ادعائه أن له يداً في الحديث، ولم يكن له فيه غير قوله: لا نسلم أن مكث إحداهن شطر عمرها يدل على ما قلتم، بل المكث بهذه الصفة حاصل فيما قلنا، ألا ترى أن المرأة إذا بلغت بخمسة عشر سنة ثم حاضت من كل شهر عشرة أيام ثم ماتت بعد ستين سنة تكون تاركة الصلاة نصف عمرها لا محالة.
وقال السغناقي في جوابه: المراد ليس حقيقة الشطر؛ لأن في عمرها زمان الصغر ومدة الحبل وزمان الإياس، ولا يختص في شيء من ذلك، فعرفنا أن المراد به ما يقارب الشطر حيضاً، وإذا قدرنا بالعشرة بهذه الآثار فقد جعلنا ما يقارب الشطر حيضاً. وأما حجة مالك فإنه يقول: الكتاب(1/630)
ثم الزائد والناقص استحاضة؛ لأن تقدير الشرع يمنع إلحاق غيره به، وما تراه المرأة من الحمرة والصفرة والكدرة في أيام الحيض فهو حيض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مطلق عن التقييد بالزمان وهو قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] (البقرة: الآية 22) ، والتقييد ينافي الإطلاع، والجواب عنه أن الذي استدل به مجمل يحتاج إلى البيان، فالأحاديث المذكورة إجمالاً.
م: (ثم الزائد) ش: على العشرة م: (والناقص) ش: عن الثلاثة م: (استحاضة؛ لأن تقدير الشرع يمنع إلحاق غيره به) ش: أي غير تقدير الشرع بتقدير الشرع؛ لأن العقل لا ابتداء له في المقادير، ويقال: إن الدم الزائد والناقص إما أن يكون دم حيض، أو نفاس، أو استحاضة، فانتفى الأولان فتعين الثالث.
ثم اعلم أن هذه الأيام والليالي المقدرة في أقل الحيض والمرأة تعتبر بالساعات حتى لو رأت وقد طلع نصف قرص الشمس وانقطع في الرابع وقد طلع دون نصفه فليس بحيض فتتوضأ وتقضي الصلوات، ولو طلع تمام القرص تغتسل ولا تقضي، وكذا لو رأت معتادة بخمسة وقد طلع نصف الشمس وانقطع في الحادي عشر وقد طلع أكثرها اغتسلت وقضت صلوات خمسة أيام وإلا فلا.
وقال أبو إسحاق الحفاظ: هذا في أقل الحيض وأقل الطهر، وفيما سواها إن كانت المرأة أنها طهرت في الحادي عشر حد بها بعشرة وفي العاشرة سبعة وفي الطهر مثله، وما كان يتعرض للساعات وعليه الفتوى. م: (وما تراه المرأة من الحمرة والصفرة والكدرة في أيام الحيض) ش: بضم الكاف وهي التي لونها كلون الماء الكدر في أيام الحيض م: (فهو حيض) ش: ارتفاع حيض على أنه خبر ما الموصولة أعني الألوان التي ذكرناها في أول الباب الموعود بذكره والألوان ستة: السواد، والحمرة، والصفرة، والكدرة، والخضرة، والتربية، وهي التي على لون التراب وهي نوع من الكدرة فحكمها حكم الكدرة وهي بضم التاء المثناة من فوق وسكون الراء وبكسر الباء الموحدة وتشديد الياء آخر الحروف.
وقال التربية: نسبة إلى الترب، والتراب والترب بضم التاء وهو التراب، وقيل: التاء بدل من الواو من لفظة ورأ؛ لأنها من لفظة ترى بعد الحيض. وقيل: هي تربية على وزن تفعله من برئي بفتح الباء وسكون الراء وكسر الهمزة وفتح الياء آخر الحروف، وقيل: فعلية ذكره الفراء. وقيل: تربة بتشديد الراء وتخفيفها مع الإدغام، وفي " قاضي خان ": الربية على وزن البرية. وذكر " المغرب " هي الرية؛ لأنها على لونها.
فإن قلت: لم يذكر السواد.(1/631)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لا إشكال في كونه حيضاً، واستدل به صاحب " الدراية " ثم الأكمل في ذلك بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «دم الحيض أسود غليظ محترم» ، وذكره الأترازي أيضاً ولم بين أحد منهم راويه من هو، ولا مخرجه من هو.
قلت: هذا روي من وجوه مختلفة، فروى أبو داود من حديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كان دم الحيضة فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما ذلك عرق» .
وأخرجه النسائي أيضاً وزاد بعضهم فيه: و «أنه له رائحة» بعد قوله: " تعرف "، وليس كذلك بقولهما ودفع الشافعية تبعاً للنهاية بعد قوله: فإنما هو عرق انقطع، وأنكر ابن الصلاح والنووي وابن الرفعة قوله: " انقطع " وليس كذلك فإنه موجود في " سنن " الدارقطني والحاكم، والبيهقي، من طريق ابن أبي مليكة: جاءت خالتي فاطمة بنت حبيش إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فذكر الحديث، وفيه: «فإنما هو داء عرض، أو ركضة من الشيطان أو عرق انقطع» .
وذكر الشافعية في صفته الأسود؛ لأنه محترم وليس له أصل، بل وقع في " تاريخ " العقيلي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: دم الحيض أحمر قاني، ودم الاستحاضة كغسالة اللحم، ووقعت الصفة المذكورة في كلام الشافعي في " الأم "، وذكروا أيضاً في صفته أنه أحمر سرق وليس له أصل، ولكن روى الدارقطني، والبيهقي، والطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعاً: «دم الحيض أسود خاثر تعلوه حمرة، ودم الاستحاضة أسود رقيق» ، وفي رواية: «دم الحيض لا يكون إلا أسود غليظا تعلوه حمرة، ودم الاستحاضة دم رقيق تعلوه صفرة» ، وذكر صاحب " المحيط " حديث فاطمة بنت أبي حبيش وفيه: «ليست بالحيضة، إنما هي ركضة من الشيطان، أو عرق عند، أو داء اعترض» .
قلت: قوله: " عرق عند "، ليس في كتب الحديث، وقوله: " أو داء اعترض " ذكره الدارقطني، ووقع في الطحاوي: «ولكن عرق فتقه إبليس» ، وذكر أصحابنا في الحديث «عرق انفجر» ، وهذا ذكره الشيخ تقي الدين في " شرح العمدة "، والذي وقع في البخاري ومسلم: «فإنما هو عرق» أي دم عرق، وهذا العرق يسمى العاذل. وفي " المبسوط ": قالت فاطمة بنت قيس لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إني أستحاض فلا أطهر، هذا وهم، وليست هي فاطمة بنت قيس، وإنما هي فاطمة بنت أبي حبيش كما مر آنفا، وفاطمة بنت قيس هي التي بت طلاقها زوجها، وقالت: لم يجعل لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفقة ولا سكنى.(1/632)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقوله: محترم: بالحاء المهملة، قال الجوهري: احترام الدم اشتدت حمرته حتى يسود، وفسره الأكمل بقوله: أي طري شديد الحمرة إلى السواد. قلت: قوله: طري ليس له دخل تفسيره. قوله: " أو عرق عند " بفتح العين المهملة وكسر النون، ويقال له: العاذل أيضاً من عند العرق سال، ولم يرقأ. والعاذل: بالعين المهملة وكسر الذال المعجمة اسم للعرق الذي يسيل منه دم الاستحاضة، وسئل ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن دم الاستحاضة فقال: ذاك العاذل يغذ وتستشفر بثوب ولتصل. وقوله: يعذر أي يسيل.
وأما الحمرة فهو اللون الأصلي للدم إلا عند غلبة السوداء يضرب إلى سواد. وعند غلبة الصفرة يضرب إلى الصفرة ويتبين ذلك لمن افتصد.
وأما الصفرة فهي من ألوان الدم إذا رق، وقيل: هي كصفرة البيض أو كصفرة القز. وفي " قاضي خان ": الصفرة تكون كلون السبر أو لون التين. وفي " المجتبى ": وهذه الثلاثة أعني الأسود والأحمر والأصفر حيض. وعن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم قالوا: السواد والحمرة والصفرة حيض. وفي " مبسوط أبي بكر " عن أبي منصور الماتريدي: لو اعتادت أن ترى أيام طهرها صفرة وأيام حيضها حمرة فحكم صفرتها حكم الطهر بدلالة الحال.
وقيل: إنما اعتبر ذلك في صفرة عليها بياض ولها حكم الطهر على قول أكثر المشايخ، وعن أبي بكر الإسكاف: إن كانت الصفرة على لون البقم فهي حيض وإلا فلا، والمنقول عن الشافعي في " مختصر المزني ": الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض، واختلف أصحابه في ذلك على ستة أوجه الصحيح المشهور ما قاله ابن شريح، وأبو إسحاق، المروزي، وجماعة من المتقدمين، أو من المتأخرين أن الصفرة والكدرة في زمان الإمكان، وهو خمسة عشر يوماً يكونان حيضاً سواء كانت مبتدأة أو معتادة خالف عادتها أو وافقها كما لو كان أسود أو أحمر وانقطع بخمسة عشر.
الثاني: قول الإصطخري أن الصفرة والكدرة في أيام العادة حيض وإن رأتهما مبتدأة أو معتادة في غير أيام العادة. قلت: محيض.
الثالث: أبو علي الطبري أنه إن تقدم الصفرة، والكدرة، دم أسود قوي أو أحمر، ولو بعض يوم كان حيضا، وإن لم يتقدم منها شيء لم يكن حيضاً تبعاً للقوي، وإن تقدمها دون يوم وليلة قبلت حيضاً.
الخامس: حكاه ابن كج إن تقدمها دم قوي كانت حيضاً وإلا كانت استحاضة.
السادس: حكاه السرخسي إن تقدمها دم قوي يوم وليلة ولحقها دم قوي يوماً وليلة كانت حيضاً وإلا فلا.(1/633)
حتى ترى البياض خالصا. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تكون الكدرة من الحيض إلا بعد الدم؛ لأنه لو كان من الرحم لتأخر خروج الكدر عن الصافي، ولهما ما روي أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - جعلت ما سوى البياض الخالص حيضا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما الكدرة فهي حيض عند أبي حنيفة ومحمد سواء رأت في أول أيامها أو آخرها.
وأما الخضرة فقال في " البدائع ": اختلف المشايخ فيها، فقال الشيخ الإمام أبو منصور إذا رأتها في أول الحيض يكون حيضا، وإن رأتها في آخر الحيض واتصل بها أيام الحيض لا يكون حيضاً، وجمهور الأصحاب على كونها حيضاً كيفما كان، وفيل: الخضرة مثل الكدرة، وقيل الخضرة، والتربية، والكدرة، والصفرة إنما يكون حيضا على الإطلاق في غير العجائز، وفيهن إن وجدتها على الكرسف شدة وصفة تربية فهي حيض، وإن طالت لم تكن حيضاً؛ لأن أرحام العجائز تكون منتنة فيتغير الماء بطول المكث ودم النفاس كدم الحيض.
م: (حتى ترى البياض خالصاً) ش: كلمة حتى للغاية والمعنى أنها تراه الحائض من الألوان المذكورة في أيام الحيض حيض إلى أن تري البياض خالصاً على أنه حال من البياض.
م: (وقال أبو يوسف: لا تكون الكدرة حيضاً إلا بعد الدم) ش: يعني إذا رأتها في آخر أيام الحيض، وإذا رأتها في أول أيام الحيض لا تكون حيضاً وبه قال أبو ثور، واختاره ابن المنذر وقال داود: لا تكون الكدرة والصفرة حيضاً بحال. وقال الشافعي: إن كانتا في زمن الإمكان بأن لا يكون أقل من يوم وليلة حيض كما أيام العادة، ونقل ذلك ابن الصباغ صاحب " الشامل " عن ربيعة، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق م: (لأنه) ش: أي؛ لأن الكدرة، إنما ذكر الضمير باعتبار الكدر أو باعتبار المذكور م: (لو كان من الرحم لتأخر خروج الكدر عن الصافي) ش: لأن الكدرة من كل شيء يتبع صافيه، فلو جعلت حيضاً ولم يتقدم عليها دم كانت حيضاً مقصودة لا تبعاً.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد م: (ما روي أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - جعلت ما سوى البياض الخالص حيضاً) ش: روى مالك عن محمد في " موطئهما " عن علقمة بن أبي علقمة عن أمة مولاة عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: كانت النساء يبعثن إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في الدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة من دم الحيض فسألتها عن الصلاة فتقول لهن: لا تعلجن حتى ترين القصة البيضاء، تريد بذلك الطهر من الحيض.
ورواه عبد الرزاق في " مصنفه " أخبرنا معمر، عن علقمة بن أبي علقمة به سواء، أخرجه(1/634)
وهذا لا يعرف إلا سماعا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البخاري في " صحيحه " تعليقاً، ولفظه: قال: وكن يبعثن إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بالكرسف فيه الصفرة فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء.
قوله: بالدرجة: بكسر الدال وفتح الراء جمع درج، مثل حرج حرجة، وترس وترسة، والدرج كالغط الصغير، تضع فيه المرأة حق متاعها وطيبها، وقيل: إنما هي الدرجة، وبالضم تأنيث درج، وجمعها الدرجة بضم الدال.
والكرسف بضم الكاف، قال ابن الأثير: هو القطن، وقال غيره: الكرسف خرقة أو قطنة ونحو ذلك تدخله المرأة فرجها لتعرف هل بقي شيء من أثر الحيض أم لا، ويستحب أن تكون مطيبة بالمسك أو الغالية لتدفع رائحة دمها، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لامرأة استحيضت: «خذي فرصة ممسكة» ، والفرصة بضم الفاء قطعة من صوف أو قطن أو خرقة، والممسكة المطيبة بالمسك، وفي رواية عن بعضهم حكاه أبو داود: قرصة، بالقاف، أي شيئاً يسيراً مثل القرصة بطرف الأصبعين، وحكي عن أبي قتيبة، قرضة بالقاف والضاد المعجمة أي قطعة من القرض هو القطع، والقصة بفتح القاف، وتشديد الصاد المهملة الجصة يشبة الرطوبة الصافية بعد الحيض بالجص، وقيل: القصة شيء يشبه الخيط الأبيض يخرج من قبل النساء في آخرهن أيامهن تكون علامة طهرهن، وقيل: ماء أبيض يخرج في آخر الحيض.
وفي " المحيط ": القصة في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الطين الذي يغسل به الرأس وهو أبيض يضرب لونه إلى الصفر، أرأيت أنها لا تخرج من الحيض حتى ترى البياض الخالص، ويخرج من الطين بالحفوف أيضاً. وفي " المبسوط ": القصة الببلون الذي يغسل به الرأس وهو أبيض يضرب لون إلى الصفرة.
قلت: الببلون بفتح الباء الموحدة وسكون الباء الأخيرة وضم اللام وسكون الواو وفي آخره نون وهو الذي يقال له الطفل وهو لغة بلدية.
م: (وهذا لا يعرف إلا سماعاً) ش: أي هذا الذي جعلته عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لا يعرف إلا من حيث السماع فيحمل على أنها سمعت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن العقل لا يهتدي لمثل هذا، وقال الأترازي: وهذا الذي قلنا مذهب علمائنا.
قلت: مقصوده هو الذي قاله لا يهتدي إليه إلا من طريق السماع من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والذي ذكرنا أجود وأصوب ولا يقال: إن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دم الحيض أسود عبيط محترم» يدل على أن هذه الأشياء ليست بحيض وهو أقوى من فعل عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فلا يجوز تركه به؛ لأنا نقول: تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، وقد عرف في الأصول.(1/635)
وفم الرحم منكوس فيخرج الكدر أولا كالجرة إذا ثقب أسفلها.
وأما الخضرة فالصحيح أن المرأة إذا كانت من ذوات الأقراء تكون حيضا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وفم الرحم منكوس) ش: هذا جواب عن قول أبي يوسف؛ لأنه لو كان من الرحم لتأخر خروج الكدر عن الصافي، وتقريره أن يقال: نعم هو كذلك إذا لم يكن المخرج من أسفل، وفم الرحم منكوس: يعني من الأسفل لا من الأعلى، فيخرج الكدر أولاً ثم الصافي كالجرة إذا ثقب أسفلها فإنه يخرج الكدر أولاً، وإن من خاصة الطبيعة أنها تدفع الكدر أولاً كما في الفصد والبول والغائط.
قلت: على هذا لو خرج الصافي أولاً ثم الكدر لا ينبغي أن يكون الكدر حيضاً م: (فيخرج الكدر أولاً) ش: نتيجة قوله: وفم الرحم منكوس م: (كالجرة إذا ثقب أسفلها) ش: هذا شبه فم الرحم بالجرة إذا ثقب أي يحسن أسفلها فإنه حينئذ إذا كان فيها شيء من المائعات يخرج من الكدر منها أولاً، والرحم كذلك؛ لأن فيه من أسفل، والتشبيه بالجرة الموضوعة هكذا لا بالجرة المطلقة؛ لأن التشبيه لا يكون إلا في صفة مخصوصة كما في قولك: زيد كالأسد، فإن التشبيه فيه في الشجاعة مطلقاً.
واعلم أن للمرأة فرجاً داخلاً، وفرجا خارجا، فالداخل بمنزلة الدبر، والخارج بمنزلة الأليتين، فإذا وضعت الكرسفة في الخارج فابتدأ الجانب الداخل منه كان ذلك حيضاً وإن لم ينفذ إلى الخارج، وإن وضعته في الفرج الداخل فابتدأ منه لم يكن ذلك حيضاً؛ لأنه بمنزلة خصية الذكر وإن نفذت البلة إلى الجانب الخارج، فإن كان الدبر عالياً عمل على رأس الفرج أو محاذيا له يكون حيضاً لظهور البلة، وإن كان منتقلا عنه لم يكن حيضاً وعلى هذا التفصيل إذا حشى الرجل إحليله بقطنة فابتلت، وهذا كله إذا لم يسقط الكرسف، فإن سقط فهو حيض كيف ما كان لظهور البلة، وكذلك الحكم في النفاس.
وعن محمد بن سلمة أنه كان يكره للمرأة أن تضع كرسفها في الفرج الداخل؛ لأنه يشبه النكاح بيدها، ولو وضعت الكرسف في أول الليل ونامت فلما أصبحت فنظرت الكرسف فرأت البياض الخالص يلزمها قضاء العشاء؛ لأنا تيقنا بطهرها من حيث وضعت الكرسف، ولو كانت طاهرة حين وضعت الكرسف ونامت ثم أصبحت ووجدت البلة على الكرسف فإنها تجعل حائضاً من أقرب الأوقات، وهو ما بعد الصبح أخذا باليقين والاحتياط حتى يلزمها قضاء العشاء إن لم تكن صلت.
م: (وأما الخضرة فالصحيح أن المرأة إذا كانت من ذوات الأقراء) ش: أي الحيض م: (تكون حيضاً) ش: هذا أحد ألوان الحيض، فلذلك ذكره بكلمة التفصيلية وقد ذكرنا أنا ستة فذكر منها الثلاثة الأولى وهي الحمرة والصفرة والكدرة، وذكر هنا الرابعة وهو الخضرة ولم يذكر اللونين وهما(1/636)
ويحمل على فساد الغذاء،
وإن كانت كبيرة لا ترى غير الخضرة تحمل على فساد المنبت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأسود والتربية. وقال صاحب " الدراية ": وإنما لم يذكر الثلاثة من ألوان الحيض؛ لأن الثلاث متداخلة في الثلاثة المذكورة؛ لأن الحمرة إذا اشتدت صارت سوادء والخضرة قريبة إلى الصفرة، والتربية تكون داخلة في الحمرة إذا رقت الحمرة تضرب إلى التربية.
قلت: ليس الأمر كذلك، فإنه ذكر الأربعة وهي الحمرة والصفرة والكدرة والخضرة، وأما الأسود فلأنه أصل في باب الحيض معهود فاستغنى عن ذكره، وأما التربية فإنها نادرة فلذلك تركها. وأما الخضرة فقد اختلف فيها مشايخنا، فمنهم من أنكر وجودها حتى استبعده أبو نصر بن سلام حين سئل عنها فقال: كأنها أكلت فصيلاً. وذكر أبو علي الدقاق: أن الخضرة نوع من الكدرة، وأشار المصنف إلى أن الصحيح من المذهب أن المرأة إذا كانت من ذوات الأقراء تكون الخضرة حيضاً.
ثم أشار إلى سبب كون الدم أخضر بقوله م: (ويحمل ذلك على فساد الغذاء) ش: يعني يجعل كأنها أكلت غذاء فاسداً ففسد دمها فصار لونه أخضر، ولهذا قال أبو نصر: كأنها أكلت فصيلاً.
م: (وإن كانت) ش: أي المرأة م: (كبيرة) ش: أي آيسة م: (لا ترى غير الخضرة) ش: لا يكون حيضاً م: (تحمل) ش: ما تراه من الخضرة م: (على فساد المنبت) ش: بفتح الميم وسكون النون وكسر الياء الموحدة وفي آخره تاء مثناة من فوق وهو موضع النبات، والمعنى أنه يحمل الخضرة على أنها لم تكن في الأصل دماً، فإن الدم في الأصل لا يكون أخضر.
ثم اعلم أن قوله: وإن كانت كبيرة إشارة إلى الإياس، وإن لم يبين هنا حده، وقد ذكرنا في أول الباب أن الكلام في الحيض فقال أبو نصر بن سلام: ست سنين، وقيل: سبع سنين وقال محمد بن مقاتل: تسع سنين، وبه أخذ أكثر المشايخ، وهو قول الشافعي ومحمد، وقال أبو علي الدقاق: ثنتي عشرة سنة اعتباراً للعادة في زماننا، كذا في " المحيط "، وفي البخاري وغيره: قالت: عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إذا بلغت تسع سنين فهي امرأة، قال ابن تيمية: ورواه القاضي أبو يعلى بإسناده، يعني إذا حاضت، وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا أتى على الجارية تسع سنين فهي امرأة، ذكره ابن عدي، وروى الدارقطني عن عباد المهلبي قال: أدركت قبا يعني المهالبة امرأة صارت جدة وهي بنت ثماني عشرة سنة، ولدت تسع سنين بنتا، فولدت بنتها تسع سنين ابنا، وهو محمول على غير مدة الحمل فيهما، وإنما لم يذكر الراوي لنقصها عن السنة واجتماع سنة من الزيادتين لا تمنع قوله صارت جدة في ثماني عشرة سنة لا يحتمل أن تكون بترك الكسرين أو شك في قدره. وقال الأسبيجابي: ابنة لأبي مطيع البلخي صارت جدة في ثماني عشرة سنة وهو بالتفسير الذي تقدم.(1/637)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واعلم أنه بقي من الأنواع العشرة نوعان: أحدهما وقت ثبوت الحيض والآخر حكمه، والمصنف ذكر حكمه على ما يأتي عن قريب.
وأما ثبوته فلا يكون إلا بالبروز، وعن محمد أنها إذا أحست بالبروز يثبت حكم الحيض والنفاس أيضاً إلا بالبروز. وثمرة الاختلاف تظهر فيما إذا توضأت المرأة ووضعت الكرسف ثم أحست أن الدم نزل منها فأدخلت الكرسف قبل غروب الشمس فالصوم تام عند محمد، وعندهم تقضي. ثم البروز إنما يعلم بمجاوزة موضع البكارة اعتباراً بنواقض الوضوء، والاحتشاء يسن للثيب ويستحب للكبر حالة الحيض، وأما في حالة الطهر فيستحب للثيب دون البكر، ولو صلتا بغير كرسف جاز. وفي " المفيد " قيل في بنت سبع سنين يكون ما تراه حيضاً، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أمرههم بالصلاة إذا بلغوا سبعاً» والأمر للوجوب، والصحيح أنه استحاضة والأمر للاستحباب ليتمرنوا على الصلاة، ويتخلقوا بها كما يؤمر المراهق بالغسل من الجماع تخلقا به، ولهذا لم يؤمر بوضوئه، بخلاف التسع «فإنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بنى بعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وهي بنت تسع سنين» والظاهر أنه كان بعد بلوغها.
وفي " الأسبيجابي " عن أبي نصر: بنت ست لو رأت الدم من غير آفة حيض، وما دون الست إجماع أنه ليس بحيض، وبنت ست اتفاق أنه حيض واختلفوا فيما بينهما، وفي " المفيد " الصغيرة جداً لو جعل ذلك منها حيضاً به بالغة وتبقى أهلاً للتكاليف الشرعية، وهي غير صالحة، وفي " المحيط ": ابنة ثنتي عشرة إذا رأت الدم من غير داء فهو حيض عند بعضهم، وفيه الكبيرة العجوز لو رأت الدم في مدة الحيض فهو حيض كما رأته على الدوام كان حيضاً فانقطاعه بينهما لا يمنع حيضاً؛ لأن في إياسها به فمتي عاودها الدم كان حيضاً ولم تكن آيسة لما تبين من عود الدم، وزوجة الخليل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاضت وولدت وهي بنت تسعين سنة أو ثنتي وثمانين، وزوجة زكريا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولدت يحيى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهي بنت ثمان وتسعين سنة، وكذا روي عن ابن عباس - رض الله عنهما. والإياس المبيح للاعتداد بالأشهر: أن لا تري الدم سن لا يحيض في مثله غالباً لا يقينا بدليل قوله: إن ارتبتم. وقال محمد بن مقاتل الرازي قاضي بغداد: حده خمسون سنة وما تراه بعده لا يكون حيضاً، وهو قول أبي عبد الله الزعفران، والثوري، وابن المبارك، واختاره أبو الليث، ونصر بن يحيى، وبه قال أحمد هذا إذا لم يحكم بإياسها، فإن حكم به ثم رأت الدم لا يكون حيضاً، قال في " المحيط ": وهو الصحيح؛ لأن الاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله؛ لأنه يجوز أن يكون الدم بعد ذلك فاسداً، وما نقل كان معجزة فلا يجود إلا على وجه الإعجاز.
وقيل: إن رأته سائلاً كما تراه في حيضها فهو حيض، وإن رأت بلة يسيرة لم يكن حيضاً بل يكون ذلك من نتن الرحم. وقيل: إن رأته أسود أو أحمر يكون حيضاً، وأصفر وأخضر لا يكون(1/638)
فلا يكون حيضا،
والحيض يسقط عن الحائض الصلاة،
ويحرم عليها الصوم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حيضاً، ولو اختار هذا إنساناً كان حسنا إلا في بطلان الاعتداد بالأشهر، وقيل في حد الإياس تعتبر أقراؤها من قرابتها، وقيل: تركها لاختلاف الطبائع باختلاف البلدات والأهوية والأزمان، ألا ترى أن النعمة تبطئ الإياس، والفقر يسرع به. وعن محمد أنه قدره بستين سنة، وعنه في المولدات ستين سنة، وفي الروميات بخمس وخمسين سنة؛ لأن الروميات أنعم من المولدات فكن أسرع تكسراً من المولدات. وعن أحمد: خمسون في العجمية ستون في العربية. وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لن ترى المرأة في بطنها ولداً بعد خمسين سنة. وقال صاحب " الإمام ": لم أقف على سنده.
قلت: قال ابن تيمية: رواه الدارقطني في " مسنده " عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وفي " المحيط ": أفتى عامة المشايخ بخمس وخمسين سنة وهو أعدل الأقوال في سائر الأوقات وأقرب العادات، وفي رواية يقدر للإياس مدة، فإذا غلب على ظنها آيسة اعتدت بالأشهر ثم رأت الدم وفي أثناء الشهور انتقض ما مضى من عدتها وبعد تمامها لا تبطل وهو المختار، ولو أنا لم تحض قط وقد بلغت مبلغاً تحيض أمثالها فيه غالباً يحكم بإياسها. وفي " الجامع الصغير ": إذا بلغت ثلاثين سنة ولم تحض يحكم بإياسها.
م: (فلا يكون حيضاً) ش: نتيجة قوله: وإن كانت كبيرة ... وإلخ، وفي بعض النسخ: بالواو ولا يكون حيضاً ويكون عطفاً على قوله: يحمل على فساد المنبت.
[ما يسقطه الحيض من العبادات]
م: (والحيض يسقط) ش: من الإسقاط م: (عن الحائض الصلاة) ش: هذا شروع في بيات حكم الحيض الذي هو من العشرة التي ذكرناها في أول الباب. وقال السغناقي وغيره: أي أحكام الحيض اثنا عشر، وثمانية يشترك فيها الحيض والنفاس، وأربعة مختصة بالحيض دون النفاس.
أما الثمانية: فتترك الصلاة لا إلى قضاء، وتترك الصوم إلى قضاء، وحرمة الدخول في المسجد، وحرمة الطواف بالبيت، وحرمة قراءة القرآن، وحرمة مس المصحف، وحرمة جماعها، والثامن: وجوب الغسل عند انقطاع الحيض، وأما الأربعة الخصوصة: فانقضاء العدة والاستبراء والحكم ببلوغها والفصل بين طلاقي السنة والبدعة، فالسبعة الأولى تتعلق بروز الدم عندها وبالإحساس عند محمد، والثامن: وهو الحكم ببلوغها معلق، والأربعة الباقية: تتعلق بانقضائه وهو وجوب الاغتسال مع الثلاثة من الأربعة المخصوصة.
[ما يحرم على الحائض]
م: (ويحرم عليها) ش: أي على الحائض م: (الصوم) ش: فإن قلت: قال في الصلاة تسقط، وفي الصوم يحرم لماذا من الفائدة.
قلت: إنما تسقط في الصلاة على القاضي أبي زيد، فإن عنده نفس الوجوب ثابت على(1/639)
وتقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، «لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كانت إحدانا على عهد رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذا طهرت من حيضها تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة» ولأن في قضاء الصلوات إحراجا لتضاعفها، ولا حرج في قضاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصبي، والمجنون، والحائض لقيام الذمة الصالحة للإيجاب، ولكن يسقط بالعذر، والمسقوط يقتضي سابقة الوجوب، وأما على قول عامة المشايخ: لا يجب فيكون المراد من قوله: فيسقط: يمنع. وأما في الصوم فلم يقل يسقط إشارة إلى أن الصوم يقضى، وهل هو على التراخي أم على الفور؟ ففي " المجتبى " الأصح عند أكثر المشايخ أنه على التراخي، وعند أبي بكر الرازي على الفور، والمبتدأة إذا رأت دماً تركت الصلاة والصوم عند أكثر مشايخ بخارى، وعن أبي حنيفة: لا تترك حتى يستمر الدم ثلاثة أيام.
[ما تقضيه الحائض من العبادات]
م: (وتقضي الصوم ولا تقضي الصلاة) ش: هذا فائدة الإسقاط والتحريم م: «لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كانت إحدانا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا طهرت من حيضها تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة» ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم " من حديث معاذة بنت عبد الله العدوية بلفظ مسلم، «قالت - يعني معاذة -: سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ما بال الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟! قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» .
وفي رواية البخاري: «لقد كنا نحيض عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يأمرنا، أو قالت: فلا نفعله» وفي رواية لمسلم: «قد كانت إحدانا تحيض على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم لا نؤمر بالقضاء» ولفظ أبي داود «عن معاذة: أن امرأة سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أتقضي الحائض الصلاة؟ قالت: أحرورية أنت؟! لقد كنا نحيض على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا نقضي ولا نؤمر بالقضاء» وفي رواية «فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» .
وفي رواية للترمذي: «كنا نحيض عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيأمرنا بقضاء الصوم ولا يأمرنا بقضاء الصلاة» «عن معاذة العدوية أن امرأة سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أتقضي الحائض الصلاة إذا طهرت، فقالت: أحرورية أنت؟! قد كنا نحيض على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم نتطهر فيأمرنا بقضاء الصوم، ولا يأمرنا بقضاء الصلاة» .
وفي رواية ابن ماجه «عن معاذة العدوية عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن امرأة سألتها أتقضي الحائض الصلاة؟ قالت لها عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أحرورية أنت؟! قد كنا نحيض عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم نطهر ولم يأمرنا بقضاء الصلاة.» قولها: أحرورية أنت؟ الهمزة للاستفهام على سبيل الإنكار، أي هذه طريقة الحرورية،(1/640)
الصوم
ولا تدخل المسجد، وكذا الجنب؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فإني لا أحل المسجد لحائض، ولا جنب» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبئست الطريقة، والحرورية طائفة من الخوارج نسبوا إلى حروراء قرية على ميلين من الكوفة تمد وتقصر، وكان أول اجتماعهم فيها على عهد علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقيل: إنها خرجت عن الجماعة وخالفت السنة كما خرج هؤلاء عن جماعة المسلمين، وقيل: كانوا يرون على الحائض قضاء الصلاة وشددوا في ذلك، وكانوا يتعمقون في أمور الدين حتى خرجوا منه، والسائلة أيضاً كأنها تعمقت في سؤالها فكذلك قالت لها عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أحرورية أنت؟
فإن قلت: وجوب القضاء يبنى على وجود الأداء في الأحكام، فكيف تخلف هذا الحكم هاهنا. قلت: الأصل هذا، ولكنه ثبت على خلاف القياس.
م: (ولأن في قضاء الصلوات إحراجا) ش: هذا دليل عقلي لوجود الحرج م: (لتضاعفها) ش: أي لتضاعف الصلاة؛ لأنها خمس صلوات في كل يوم وليلة م: (ولا حرج في قضاء الصوم) ش: لأنه في السنة مرة واحدة مع انضمام النص إليه فوجب.
[ما يحرم على الحائض والجنب]
[دخول الحائض والجنب المسجد]
م: (ولا تدخل المسجد) ش: أي لا تدخل الحائض المسجد وبه قال مالك والثوري وابن راهويه، وهو مروي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (وكذا الجنب) ش: أي كالحائض لا يدخل المسجد الجنب أيضاً م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» ش: هذا شطر من حديث رواه أبو داود بإسناده من حديث دجاجة قالت: سمعت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تقول: «جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووجوه بيوت أصحابنا شارعة في المسجد فقال: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد" ثم دخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن ينزل لهم رخصة، فقام إليهم بعد فقال: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» . وأخرجه البخاري في " تاريخه الكبير " وفيه زيادة، وذكر بعده حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سدوا هذه الأبواب إلا باب أبي بكر» ، ثم قال: وهذا أصح، وقال ابن القطان في "كتابه ": قال أبو محمد عبد الحق في حديث جسرة هذا أنه لا يثبت من قبل إسناده، ولم يبين ضعفه ولست أقول: إنه حديث صحيح، وإنما أقول: إنه حسن، لأن أبا داود يرويه عن مسدد وهو يرويه عن عبد الواحد ابن زياد وهو ثقة لم يذكر بقدح، وعبد الحق احتج به في غير موضع من كتابه وهو يرويه عن فليت ابن خليفة، قال أحمد: ما أرى به بأساً، وسئل عنه أبو حاتم الرازي فقال: شيخ.
وفليت بضم الفاء، ويقال: أفلت أيضاً وهو يروي عن جسرة بفتح الجيم وسكون السين المهملة بنت دجاجة بكسر الدال بخلاف واحدة الدجاج. قال أحمد: تابعية ثقة، وذكرها ابن حبان في "الثقات ". وقال البخاري: إن فليتا سمع من جسرة بنت دجاجة.(1/641)
وهو بإطلاقه حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في إباحة الدخول على وجه العبور والمرور
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: قال الخطابي: وضعفوا هذا الحديث، وقالوا: إن أفلت راويه مجهول لا يصح الاحتجاج بحديثه.
قلت: قد قال المنذري: فيما قاله نظر، فإنه فليت بن خليفة ويقال: أفلت كذا يري، ويقال: الدهلي كنيته أبو حسان حديثه في الكوفيين، روى عنه سفيان الثوري وعبد الواحد بن زياد ويؤيد هذه الرواية ما رواه ابن ماجه في "سننه " عن أبي بكر بن أبي شيبة والطبراني في "معجمه " عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته: "إن المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض» ".
قوله: ووجوه بيوت أصحابه: البيت أبوابها ولذلك قيل لناحية البيت التي فيها الباب وجه الكعبة، ومعنى شارعة في المسجد مفتوحة فيه، يقال: شرعت الباب إلى الطريق أي أنفذته إليه فالشارع الطريق الأعظم، قوله: وجهوا هذه البيوت، أي اصرفوا وجوهها عن المسجد، يقال: وجهت الرجل إلى ناحية كذا إذا جعلت وجهه إليها ووجهته إذا صرفته عن وجهها إلى جهة غيرها. قوله: رجاء أن تنزل لهم رخصة أي لترجي بنزول الرخصة ونصبه على التعليل، وأن مصدرية محلها الجر بالإضافة، فخرج إليهم بعد ذلك. قوله: فإني لا أحل من الإحلال من الحل الذي هو ضد الحرام، والألف واللام في المسجد للعهد وهو مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحكم غيره مثل حكمه، ويجوز أن تكون للجنس فيدخل فيه جميع المساجد وهو أولى.
فإن قلت: لم قدم الحائض على الجنب. قلت: للاهتمام في المنع والحرمة لأن نجاستها أغلظ والنفساء مثل الحائض، وروى الترمذي في "جامعه " في مناقب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا علي لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك» وقال: حديث حسن غريب. وقال أبو نعيم: قال ضرار بن صرد: معناه لا يحل لأحد يطرقه جنباً غيري وغيرك.
م: (وهو) ش: أي الحديث المذكور م: (بإطلاقه) ش: يعني بكونه غير مقيد بشيء م: (حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في إباحة الدخول على وجه العبور والمرور) ش: أي في إباحة دخول المسجد على وجه العبور من غير مكث، والمرور بأن كان فيه طريق يمر فيه الناس، وبقوله قال أحمد، وعن أحمد: له المكث فيه إن توضأ وهو خلاف قول الجمهور، ولأنه لا أثر للوضوء في الجنابة لعدم تحريكها اتفاقاً. وعن الحسن البصري، وابن المسيب، وابن جبير، وابن دينار، مثل قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقول المزني، وداود، وابن المنذر: يجوز له المكث فيه مطلقا، ومثله عن زيد بن أسلم واعتبروه بالشرك بل أولى، وتعلقوا بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المؤمن(1/642)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا ينجس» ، قلنا: معناه لا يصير نجس العين حتى لو تلطخ بالنجاسة منع عن الصلاة ودخول المسجد لتنجسه بمجاورة النجاسة.
وفي " شرح الوجيز " في العبور وجهان: لو خافت تلويث الدم إما لغلبة الدم، وإما أنها لم تستوثق، فليس لها العبور صيانة له، وكذا المستحاضة ومن به سلس البول، فإن أمنت التلويث فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لإطلاق الحديث وأصحهما الجواز.
واحتج الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الجنب بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] (النساء: الآية 43) ، قلنا: إلا هاهنا بمعنى لا قاله أهل التفسير، ونظير قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] (النساء: الآية 92) والمعنى لا خطأ. وقال الزجاج: معنى الآية: ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنبا إلا عابري سبيل أي إلا مسافرين، قال: لأن المسافر قد يفوته الماء فخص المسافرين بذلك، وقال أبو بكر الرازي في " أحكام القرآن ": روي علي، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن المراد بعابري السبيل المسافرين إذا لم يجدوا الماء يتيممون ويصلون به، قال: والتيمم لا يرفع الجنابة فأبيح لهم الصلاة به تخفيفا من الله تعالى عن المكلف.
قلت: هذا اختياره، وظاهر المذهب أن التيمم رفع الحدث إلى غاية القدرة على استعمال الماء الكافي، ولكن لما كان يعود جنبا عند ذلك سماه جنبا باعتبار عاقبته. وقال الزمخشري من فسر الصلاة بالمسجد مع ما بعده فمعناه لا تقربوا المسجد جنبا إلا مجتازين فيه إذا كان الطريق إلى الماء أو كان الماء فيه، وقول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليس في الصلاة عبور سبيل، إنما عبور السبيل في موضعها وهو المسجد. قلنا عبور السبيل هو السفر، ففي الصلاة حينئذ عبور سبيل فاندفع قوله. أما إذا حملنا الصلاة على المسجد مجازاً فليس له جواب عن قَوْله تَعَالَى {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] (النساء: الآية 43) ، فإن حمل الصلاة والمسجد معاً فقد جمع بين الحقيقة والمجاز في البخاري عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال «أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قياماً فخرج إلينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب فقال لنا مكانكم ثم رجع فاغتسل وخرج إلينا ورأسه يقطر فكبرنا وصلينا معه» .
وقال ابن بطال في شرحه: قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا كان الماء في المسجد يتيمم الجنب ويدخل المسجد فيخرج الماء عنه قال وهذا الحديث يدل على خلاف قوله لأنه لما لم يلزمه التيمم للخروج كذا من المضطر إلى المرور فيه جنب لا يحتاج إلى التيمم. قلت: هذا الحديث لم يرد في دخول المسجد وإنما ورد في خروجه منه والخروج ضد الدخول فلا يدل عليه بوجه من وجوه الدلالات الثلاث المطابقة والتضمن والالتزام فثبت أن الحديث لا يدخل على إباحة الدخول بوجه(1/643)
ولا تطوف بالبيت لأن الطواف في المسجد ولا يأتيها زوجها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] (البقرة: الآية 222)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإنما يدل عليه القياس إذا لم يذكر الفرق بينهما. وقوله: وهذا الحديث يدل على خلاف قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حمل مر بالفقه وأصوله وليس في الحديث نفي التيمم بل هو مسكوت عنه فلعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تيمم ثم خرج ولا يلزم من عدم التصريح بذكره عدم وقوعه. اختلف فيمن أجنب في المسجد هل يخرج لوقته أو يتيمم ثم يخرج.
فإن قلت: روى سعيد بن منصور عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال كنا نمر بالمسجد جنبا مجتازين، وعن عطاء قال رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجلسون في المسجد وهم جنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة، رواه سعيد بن منصور، ولا حجة في ذلك على جواز مكث الجنب في المسجد ولا على جواز دخوله فيه لأنه لم ينقل أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علم ذلك منهم فأقرهم عليه.
[طواف الحائض والجنب]
م: (ولا تطوف) ش: أي الحائض م: (بالبيت) ش: أراد به الكعبة المشرفة وهو من الأسماء الغالبة كالنجم والصعق، وكذلك الجنب لا يطوف بالبيت.
فإن قلت: عدم جواز طواف الحائض بالبيت فهم من قوله: "ولا يدخل المسجد" لأن الطواف لا يكون إلا فيه. قلت: نعم فهم لكن بطريق الالتزام لا بطريق المطابقة وهي الدلالة الحقيقية، وربما يختص حالة الشروع في الطواف بعد الدخول فيحتاج إلى ذكر المنع عن الطواف قصداً.
وجواب آخر وهو أنه إنما ذكره مع ظهوره لئلا يتوهم أنه لما جاز فيهما الوقوف مع أنه أوقى أركان الحج فإن الطواف أولى. وجواب آخر: وهو أنه لو قدر أن الطواف لم يكن في المسجد فإنه لا يجوز مع أنه عارض لم يكن في زمان إبراهيم الخليل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. والحاصل أن حرمة الطواف على الحائض والجنب لدخول انتقض فيه لا لدخولهما المسجد ولهذا يجب عليهما [ ... ] .
م: (لأن الطواف في المسجد) ش: هذا تعليل لقوله: "ولا يطوف". قال الأكمل ولو علل بقوله لأن الطواف بالبيت صلاة كان أشمل واندفع السؤال قلت: كون الطواف بالبيت صلاة ليس بطريق الحقيقة. ولهذا يجوز محدثا.
م: (ولا يأتيها زوجها) ش: أي ولا يأتي الحائض زوجها بمعنى لا يطأها، وفيه رعاية الأدب حيث ذكره بطريق الكناية عن الشك م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] (البقرة: الآية 222)) ش: هذا نهي عن القربان في حالة الحيض فيقتضي التحريم فلا يجوز الجماع وعليه إجماع المسلمين واليهود والمجوس خلاف النصارى. وذكر القرطبي عن مجاهد قال: كانوا في الجاهلية يجتنبون النساء ويأتونهن في إدبارهن في مدته، والنصارى يجامعوهن في فروجهن في زمان الحيض، والمجوس واليهود يتغالون في تجنب الحيض وهجرانهن في مدة الحيض فأمر الله تعالى(1/644)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالقصد بين ذلك. وقال غيره واليهود يعتزلون النساء بعد انقطاع الدم وارتفاعه سبعة أيام اعتزالاً يفرطون فيه إلى حد أن أحدهم لو لبس ثوبه مع ثوب امرأة لنجسوه مع ثوبه وإن ذلك من أحكام التوراة التي بأيديهن، وأن فيها أيضا من مص عظماً أو وطئ قبراً أو حضر ميتاً عند موته فإنه يصير من النجاسة بحال لا يتخرج له منها إلا برباد البقرة التي كان الإمام الهاد تحرقها وهذا نص من يتداولونه.
ثم اعلم أنه لو وطئ الحائض مع العلم بالتحريم فليس عليه إلا التوبة والاستغفار عندنا وهو قول عطاء، والشعبي، والنخعي، والزهري، ومكحول، وسعيد بن جبير، وحماد، وربيعة ويحيى بن سعيد، وأيوب السختياني، والليث، ومالك، والشافعي في الجديد وأحمد في رواية وحكاه الخطابي عن أكثر العلماء. وقال بعض العلماء: تجب الكفارة ديناراً، في الإقبال ونصف في الإدبار وهو القول القديم للشافعي. وحكي ابن المنذر عن ابن عباس وقتادة والحسن والأوزاعي وأحمد في رواية
وإسحاق، وعن سعيد بن جبير أن عليه عتق رقبة وعن الحسن البصري أن عليه ما على المجامع في نهار رمضان.
واحتج: من أوجب الدينار أو نصفه بحديث صفية عن مقسم بن بجرة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا وقع الرجل على أهله وهي حائض فليتصدق بدينار أو نصف دينار» ، رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، ثم أعله البيهقي بأشياء، منها: أن جماعة رووه عن شعبة موقوفاً على ابن عباس وأن شعبة رجع عن رفعه، ومنها أنه روي مفصلاً، ومنها أن في سنده اضطراباً لأنه روي بدينار أو نصف دينار على الشك، وروي يتصدق بدينار، فإن لم يجد فنصف دينار وروي يتصدق بخمسي دينار وروي يتصدق بنصف دينار وروي فيه التفرقة بين أن يصيبها في الدم أو في انقطاع الدم، وروي أنه إذا كان دماً أحمر فدينار وإذا كان أصفر فنصف دينار، وروي إن كان الدم عبيطاً فيتصدق بدينار , وإن كان أصفر فنصف دينار.
والجواب: عن ذلك كله أن الحاكم أخرجه في "مستدركه " وصححه، وكذا ابن القطان صححه وذكر الخلال عن أبي داود أن أحمد قال: ما أحسن حديث عبد الحميد، وهو ما رواه أبو داود حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى عن شعبة قال حدثني الحكم عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم عن ابن عباس «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال: "يتصدق بدينا أو بنصف دينار» قيل لأحمد أتذهب؟ إليه قال: نعم، إنما هو كفارة، ولئن سلمنا أن شعبة رجع عن رفعه، فإن غيره رواه عن الحكم مرفوعاً، وعن عمرو بن قيس الملائي، إلا أنه أسقط عبد الحميد، وكذا أخرجه من طريق النسائي، وعمر هذا ثقة، وكذا رواه قتادة عن الحكم مرفوعاً، وهو أيضاً أسقط عبد الحميد، ومقتضى القواعد أن رواية الرفع أشبه بالصواب؛ لأنه زيادة ثقة.(1/645)
وليس للحائض والجنب والنفساء قراءة القرآن؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: فعلى هذا يثبت الوجوب. قلت: يحمل على الاستحباب كما ورد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من ترك الجمعة بغير عذر فليتصدق بدينار فإن لم يجد فنصف دينار» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد.
فإن قلت: ما القرينة على أن الأمر للاستحباب. قلت: التخيير بين الدينار ونصفه إذ لا تخيير في جنس الواحد بين الأقل والأكثر وأمر أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه بالاستغفار وأن لا يعود.
واحتج: من أوجب العتق بحديث ابن عباس: «جاء رجل فقال يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصبت امرأتي وهي حائض فأمره بعتق نسمة وقيمة النسمة يومئذ دينار» قلنا هذا ضعيف ولئن سلمنا صحته فالأمر للاستحباب كما ذكرنا ولا كفارة في الوطء بعد انقطاع الدم قبل الغسل عند الجميع خلافاً لقتادة والأوزاعي وهذا كله إذا وطئ عامداً عالماً بالتحريم فإن وطئها ناسياً أو جاهلاً به أو بأنها حائض لا شيء عليه. وقال بعض أصحاب الحديث يجيء على قوله القديم عليه الكفارة كذا في " شرح الوجيز "، قال أبو حنيفة وهو رواية عن أبي يوسف يجوز الاستمتاع بالحائض بما فوق السرة وما تحت الركبة.
وتحرم المباشرة بين السرة والركبة بدون الإزار، وهو قول سعيد بن المسيب، وسالم، والقاسم، وشريح، وطاووس، وقتادة، وسليمان بن يسار، ومالك، والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحكاه البغوي عن أكثر العلماء. وقال محمد: يجوز الاستمتاع بما دون السرة بلا إزار، ويجب عليه اجتناب شعار الدم وهو قول عطاء، والشعبي، والنخعي، والثوري، وأحمد، وأصبغ المالكي، وأبي ثور، وإسحاق، وابن المنذر، وداود، واحتجوا بما روي عن ابن عباس في قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] (البقرة: الآية 222) ، أي فاعتزلوا نكاح فروجهن، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» ، رواه الجماعة، وفي لفظ النسائي وابن ماجه: "إلا الجماع". ولهما ما روي في "الصحيحين «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا فأراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يباشرها أمرها أن تتزر ثم يباشرها» . وعن ميمونة نحوه، رواه البخاري ومسلم، وفي رواية: «كان يباشر نساءه فوق الإزار؛» يعني في الحيض، والمراد بالمباشرة التقاء البشرتين على أي وجه كان.
والجواب عن الحديث المذكور: أنه محمول على القبلة ومس الوجه واليد ونحو ذلك، وفي " النوادر ": امرأة تحيض من دبرها لا تدع الصلاة لأنه ليس بحيض. ويستحب الاغتسال عند انقطاعه ويستحب للزوج أن لا يأتيها.
[قراءة القرآن للحائض والجنب]
م: (وليس للحائض والجنب والنفساء قراءة القرآن) ش: على قصد القرآن دون قصد الذكر(1/646)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقرأ الحائض والجنب شيئا من القرآن»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثناء، وكذلك ولا قراءة التوراة والإنجيل والزبور لأن الكل كلام الله إلا ما بدل منها وحرف وبه قال الحسن وقتادة وعطاء وأبو العالية والنخعي والزهري وإسحاق وأبو ثور والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في أصح قوليه، وهو قول عمر وعلي وجابر وأبي وائل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وأباحها سعيد بن المسيب وحماد بن أبي سليمان وداود وعن ابن عباس كالمذهبين، ولو علم الصبيان حرفاً حرفاً فلا بأس به لحاجة.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن» ش: الحديث روي عن ابن عمر، وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
أما حديث ابن عمر فأخرجه الترمذي وابن ماجه عن إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن» ورواه البيهقي في "سننه " وقال: قال البخاري فما بلغني عنه إنما روى هذا إسماعيل بن عياش عن موسى ابن عقبة، وأعرفه من حديث غيره، وإسماعيل منكر الحديث عن أهل الحجاز وأهل العراق، ثم قال: وقد روي عن غيره عن موسي بن عقبة وليس بصحيح، وقال ابن عرفة: هذا حديث تفرد به إسماعيل بن عياش، وروايته عن أهل الحجاز ضعيفة لا يحتج بها، قاله أحمد ويحيى بن معين وغيرهما من الحفاظ، وقد روي هذا عن غيره وهو ضعيف، وقال ابن أبي حاتم في "علله ": سمعت أبي وذكر حديث إسماعيل بن عياش هذا فقال: خطأ إنما هو من قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال ابن عدي في "الكامل ": هذا الإسناد لهذا الحديث، لا يروى عن غير إسماعيل بن عياش وضعفه أحمد والبخاري وغيرهما، وصوب أبو حاتم وقفه على ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وأما حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرواه الدارقطني في "سننه " في آخر الصلاة من حديث محمد بن الفضل عن أبيه عن طاوس عن جابر مرفوعاً نحوه، ورواه ابن عدي في "الكامل " وأعله بمحمد بن الفضل، وأغلظ في تضعيفه عن البخاري والنسائي وابن معين.
فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك فلم يبق في الحديث المذكور وجه الاستدلال في المذهب. قلت: روي حديث صحيح في منع الجنب عن القراءة، أخرجه الأربعة من حديث عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة بكسر اللام عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يحجبه أو لا تحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة» قال الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه ابن حبان في "صحيحه " والحاكم في "المستدرك " وصححه.
قوله: لا يحجبه، ورواية أبي داود ولم يكن يحجره أو يحجزه الأول من الحجر بالراء المهملة(1/647)
وهو حجة على مالك في الحائض، وهو بإطلاقه يتناول ما دون الآية فيكون حجة على الطحاوي في إباحته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو المنع، والثاني بالزاي من حجزه بمعنى منعه أيضاً وكلاهما من باب نصر ينصر.
قوله: ليس الجنابة، بمعنى غير الجنابة، وهذا الحديث يقوي الحديثين الأولين.
م: (وهو) ش: أي الحديث المذكور م: (حجة على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الحائض) ش: فإنه يجوزها للحائض لكونها معذورة محتاجة إلى القراءة عاجزة عن تحصيل الطهارة بخلاف الجنب فإنه قادر عليه بالغسل والتيمم م: (وهو) ش: أي الحديث المذكور: م: (بإطلاقه) ش: أي بعمومه وشموله م: (يتناول ما دون الآية) ش: لأن قوله: شيئاً، نكره في سياق النفي يتناول ما دون الآية فتمنع قراءته كالآية م: (فيكون حجة على الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في إباحته) ش: أي في إباحة ما دون الآية.
قلت: فللطحاوي أن يقول هذا الحديث ما يثبت عندي، وعندي حديث ما يدل على ما ذهب إليه وهو ما رواه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مسنده " حدثنا عائذ بن حبيب حدثني عامر بن السمط «عن أبي الغريف الهمداني قال: أنبأني علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بوضوئه فمضمض واستنشق ثلاثا وغسل وجه ثلاثا وغسل يديه ثلاثا، وذراعيه ثلاثا ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ ثم قرأ شيئاً من القرآن ثم قال: هذا لمن ليس بجنب فأما الجنب فلا ولا آية» ورواه الدارقطني موقوفاً بغير هذا اللفظ، وفيه «ثم قرأ صدراً من القرآن، ثم قال: اقرءوا القرآن ما لم يصب أحدكم جنابة فإن أصابه فلا ولا حرفاً أو قال واحداً» قال الدارقطني: هو صحيح عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فإن قلت: كيف يساعد هذا الحديث الطحاوي.
قلت: مساعدة المرفوع ظاهرة وأما الموقوف فعليه، فإن قال الطحاوي: تمنع كون ما دون الآية من القرآن لوجود هذا المقدار في كلام من لا يعرف القرآن من الأعراب أصلاً مثل قوله: الحمد لله وبسم الله إلا إذا قصد الشخص به قراءة القرآن، وقال الفقيه أبو الليث في كتاب " العيون ": لا يقرأ الجنب آية كاملة، ويجوز أقل من آية، ولو أنه قرأ الفاتحة على سبيل الدعاء أو شيئاً من الآيات التي فيها معنى الدعاء ولم يرد به القراءة فلا بأس به. قال الأترازي: وهو المختار. وقال الهندواني: لا أفتي بهذا وإن روي في " العيون " وغيرها.
وأورد الحافظ بأن العزيمة لو كانت صغيرة من القرآن لكان ينبغي إذا قرأ الفاتحة في الأوليين بنية الدعاء يجزئه، وأجاب بأنها إذا كانت في محلها لا يتغير بالعزيمة حتى لو لم يقرأ في الأوليين فقرأ في الآخرين بنية الدعاء لا تجزئه.(1/648)
وليس لهم مس المصحف إلا بغلافه ولا أخذ درهم فيه سورة من القرآن إلا بصرته، وكذا المحدث لا يمس المصحف إلا بغلافه؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يمس القرآن إلا طاهر» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[مس المصحف للمحدث والحائض والجنب]
م: (وليس لهم) ش: أي للحائض والجنب والنفساء م: (مس المصحف إلا بغلافه) ش: وكذا مس اللوح المكتوب عليه آية من القرآن م: (ولا أخذ درهم فيه سورة من القرآن إلا بصرته) ش: أي ولا مس الدرهم المكتوب عليه آية إلا بصرته، وأراد بالسورة الآية من قبيل ذكر الكل وإرادة الجزء لأن السورة تشتمل على ما فوق الآية. فإذا جعل السورة قيداً يلزم منه عدم كراهة مس الدرهم الذي عليه آية، ومع هذا هو مكروه به، قال ابن عمر وعطاء والحسن ومجاهد وطاووس ومالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والشعبي وابن سيرين، ورخص فيه سعيد بن جبير وحماد بن أبي سليمان والظاهرية، وحملوا قَوْله تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] (الواقعة: الآية 79) ، على الكرام البررة، وتعلقوا بكتابة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى هرقل، وذكر ابن أبي شيبة في "مصنفه " أن سعيد بن جبير رفع مصحفه إلى غلام وهو مجوسي ومنع الحكم بمس المصحف بباطن الكف خاصة.
م: (وكذا المحدث لا يمس المصحف إلا بغلافه) ش: أي لا يجوز للحائض والجنب والنفساء مس المصحف إلا بغلافه كذلك لا يجوز للمحدث أن يمس المصحف إلا بغلافه م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يمس المصحف إلا طاهر) ش: هذا الحديث رواه خمسة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الأول: عمرو بن حزم، أخرج حديث النسائي في "سننه " في كتاب الديات وأبو داود في "المراسيل " من حديث محمد بن بكار بن بلال عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أهل اليمن في السنن والفرائض والديات: «ولا يمس القرآن إلا طاهر» .
أورد هنا أيضاً من حديث الحكم بن موسى عن يحيى بن حمزة حدثنا سليمان بن داود الخولاني حدثني الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده نحوه، قال أبو داود: وهم فيه الحكم بن موسى يعني في قوله: سليمان بن داود، وإنما هو سليمان بن أرقم، وقال النسائي: الأول أشبه بالصواب، وسليمان بن أرقم: متروك.
وبالسند الثاني: رواه ابن حبان وقال: سليمان بن داود الخولاني من أهل دمشق ثقة مأمون، وأخرجه الحاكم في "مستدركه " وقال: هو من قواعد الإسلام والطبراني في "معجمه " والدارقطني ثم البيهقي في "سننهما " وأحمد في "مسنده " وابن راهويه، وروي هذا الحديث من طرق أخرى بعضها مرسل.
الثاني: عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرج حديث الطبراني في "معجمه " والدارقطني ثم البيهقي من جهته في "سننهما " من حديث ابن جريج عن سليمان بن موسى عن(1/649)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزهري قال: سمعت سالماً يحدث عن أبيه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يمس القرآن إلا طاهر» ، وسلمان بن موسى الأشدق مختلف فيه فوثقه بعضهم، وقال البخاري: عنده مناكير، وقال النسائي: ليس بالقوي.
الثالث: حكيم بن حزام، أخرج حديثه الحاكم في "المستدرك " في كتاب الفضائل من حديث سويد بن أبي حاتم حدثنا مطر الوراق عن حسان بن بلال «عن حكيم بن حزام قال: لما بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ورواه الطبراني في "معجمه " والدارقطني ثم البيهقي من جهته في "سننهما ".
الرابع: عثمان بن أبي العاص أخرج حديثه الطبراني في "معجمه " بإسناده إلى المغيرة بن شعبة عن عثمان بن أبي العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمس القرآن إلا طاهر» .
الخامس: ثوبان أخرج حديثه علي بن عبد العزيز في "منتخبه " من حديث أبي أسماء الرحبي عن ثوبان قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يمس القرآن إلا طاهر والعمرة هي الحج الأصغر» ، وإسناده ضعيف جداً، قلت: ولو استدل المصنف على ذلك بقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] (الواقعة: الآية 79) ، لكان أولى وأقوى.
وقال الأكمل. فإن قلت: ما بال المصنف لم يستدل بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] فإنه ظاهر في النهي عن مس المصحف بغير الطاهر.
قلت: لأن بعض العلماء حملوه على الكرام البررة فكان محتملاً فترك الاستدلال به. قلت: هذا الاحتمال البعيد لا يضر الاستدلال به، لأن حمل الآية على مس الملائكة بعيد لأنهم كلهم مطهرون، وتخصيص بعض الملائكة من بين سائر المطهرين على خلاف الأصل مع وجود الأحاديث المذكورة.
[فروع فيما يكره للحائض والجنب]
فروع: يكره للجنب أو الحائض أن يكتب الكتاب الذي في بعض سطوره آية من] القرآن وإن كانا لا يقرآن لأن فيه من القرآن. وفي " فتاوى أبي الليث ": الجنب لا يكتب القرآن وإن كانت الصحيفة على الأرض ولا يضع يده عليها وإن كان ما دون الآية، وفي " المحيط " لا بأس لهما بكتابة المصحف إذا كانت الصحيفة على الأرض عند أبي يوسف لأنه لا يمس القرآن بيده وإنما يكتب حرفاً فحرفاً، وليس الحرف الواحد بقرآن. وقال محمد: أحب إلي أن لا يكتب، ومشايخ بخارى أخذوا بقول محمد، كذا في " الذخيرة " ويكره لهما أن يمسكا بكمهما ما عليه سورة من القرآن.
وأما الأذكار فلم ير بعضهم بمسه بأساً، والأولى عند عامة المشايخ: أن لا يمس إلا بحائل(1/650)
ثم الحدث والجنابة حلا اليد فيستويان في حكم المس والجنابة حلت الفم دون الحدث فيفترقان في حكم القراءة وغلافه ما يكون متجافيا عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كما في غيره.
ويكره كتاب القرآن وأسماء الله تعالى على ما يبسط ويفرش، وكتابة القرآن على المحاريب والجدران ليست بمستحبة، ويكره كتابة سورة الإخلاص على الدراهم حين تضرب. وفي " المفيد ": قيل لا يكره من حواشي المصحف والبياض الذي لا كتابة عليه، وإنما المكروه مس موضع الكتابة لا غير، والصحيح منعه لأنه تبع للقرآن، ولا بأس أن يلقن الكافر القرآن، لأنه ربما أسلم إذا عرف نجاسته ويكره المسافرة بالقرآن إلى دار الحرب.
م: (ثم الحدث والجنابة حلا اليد فيستويان في حكم المس) ش: هذه إشارة إلى بيان اشتراك الحدث والجنابة في حرمة المس وافتراقهما في حكم القراءة بين صورة الاشتراك بقوله: ثم الحدث والجنابة حلا اليد - أي نزلا بها يعني ثبت حكم الحدث والجنابة في اليد فيستوي كلاهما في حكم المس وهو حرمته للمحدث والجنب وبين صورة الافتراق بقوله م: (والجنابة حلت الفم) ش: أي نزلت به م: (دون الحدث) ش: يعني لم ينزل الحدث بالفم م: (فيفترقان) ش: أي الحدث والجنابة م: (في حكم القراءة) ش: حيث جازت قراءة المحدث لأنه لم يثبت حكم الحدث في الفم، ولهذا لا يجب غسله ويثبت حكم الجنابة فيه، ولهذا وجب غسله فلم تجز قراءة الجنب.
فإن قلت: الحدث حل الفم أيضاً لأن المرء إذا صار محدثا يحل الحدث جميع البدن لعدم التجزؤ، لكن الاقتصار على غسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس ثبت تعبداً. قلت: هذا حدث ضعيف، ولهذا سقط في ضمن الغسل فلا يحل الفم لأنه باطن من وجه بخلاف الجنابة فإن حدث قوي يحل الفم لأنه ظاهر من وجه، ولهذا يجب غسله، وقال فخر الإسلام في " شرح الجامع الصغير ": فإن غسل الجنب فمه ليقرأ أو يديه ليمس أو غسل المحدث يده ليمس لم تطلق القراءة ولا المس للجنب ولا المس للمحدث هذا هو الصحيح لأن ذلك لا يتجزأ وجوداً ولا زوالاً.
م: (وغلافه) ش: أي غلاف المصحف، أشار بهذا إلى بيان الغلاف الذي يجوز مس المصحف به لأنه قال: وكذا المحدث لا يمس المصحف إلا بغلافه، واختلف المشايخ فيه، فقال بعضهم: هو الجلد الذي عليه، وقال بعضهم: هو الكم، وقال بعضهم: هو الخريطة يعني الكيس الذي يوضع فيه المصحف وهو الصحيح، أشار إليه بقول: وغلافه م: (ما يكون متجافياً عنه) ش: أي متباعداً عن المصحف وهو الكيس وأصل مادته من الجفائف بالمد من جفا يجفو، وأصل معناه البعد والرفع، ومنه {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] (السجدة: الآية 16) ، أي(1/651)
دون ما هو متصل به كالجلد المشرز، هو الصحيح.
ويكره مسه بالكم هو الصحيح؛ لأنه تابع له بخلاف كتب الشريعة لأهلها، حيث يرخص في مسكها بالكم لأن فيه ضرورة، لأنه تابع لليد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعدت عن مضاجعهم م: (دون ما هو متصل به) ش: أي بالمصحف م: (كالجلد المشرز) ش: أي اللصوق به، فيقال: مصحف مشرز أجزاؤه أي مسد وبعضها من الشيرازة وليست بعربية، وفي " العباب " مصحف مشرز أي مضموم الكراريس والأجزاء بعضها إلى بعض، مضموم الطرفين، فإن لم يضم طرفاه فهو مشرش بشينين وليس مشرز مشتق من الشيرازة وهو فارسية، والشيراز الذي يؤكل المستجد من اللبن وأصله شراز بالتشديد قلبت أحد الراءين ياء آخر الحروف كما في قيراط وديباج أصلها قراط ودباج بالتشديد.
م: (هو الصحيح) ش: أي المذكور وهو كون الغلاف متباعداً من المصحف هو الصحيح لأنه منفصل عنه، ولهذا لا يدخل في بيع المصحف إلا بالذكر.
م: (ويكره مسه بالكم) ش: أي مس المصحف بكم الماس م: (هو الصحيح لأنه تابع له) ش: أي كون مسه بالكم مكروهاً هو الصحيح، وفي " المحيط ": لا يكره مسه بالكم عند عامة المشايخ لعدم المس باليد؛ لأن المحرم هو المس وهو اسم للمباشرة باليد بلا حائل، ولهذا لو وقعت امرأة أجنبية في طين وردغت حل للأجنبي أن يأخذها بيدها بحائل ثوب، وكذا لا تثبت حرمة المصاهرة بالمس بحائل. وفي " الذخيرة " عن محمد أنه لا بأس بالمس بالكم، وقيل عنه روايتان.
م: (بخلاف كتب الشريعة لأهلها حيث يرخص لأهلها في مسها بالكم لأن فيه ضرورة) ش: وهذا قول عامة المشايخ، وكرهه بعضهم، وفي " الذخيرة " ويكره لهم مس كتب الفقه والتفسير والسنن لأنها لا تخلو عن آيات من القرآن، ولا بأس بمسها بالكم بلا خلاف. وفي " الإيضاح ": يمنع الكافر عن مسه وإن اغتسل. وفي " الفوائد الظهيرية " النظر إلى المصحف لا يكره للجنب والحائض ويكره للمحدث كتابة القرآن عند محمد وهو قول مجاهد والشعبي وابن المبارك، وبه أخذ الفقيه أبو الليث. قال تاج الشريعة: وعليه الفتوى. وعن أبي يوسف: لا بأس به إذا كانت الصحفة على الأرض.
م: (لأنه تابع لليد) ش: أي لأن الكم تابع لليد، ولهذا لو بسط كمه على النجاسة وسجد عليها لا يجوز، وكذا لو قام متخففاً أو مستقلاً على النجاسة، وكذا لو حلف لا يجلس على الأرض فجلس على ثيابه على الأرض يحنث بخلاف كتب الشريعة مثل كتب التفسير والحديث والفقه وما فيه ذكر الله تعالى حيث يرخص لأهلها في مسها بالكم؛ لأن فيه ضرورة أي لأن مسها بالكم ضرورة، وهي مدفوعة وقد ذكرناه الآن.(1/652)
ولا بأس بدفع المصحف إلى الصبيان لأن في المنع تضييع حفظ القرآن، وفي الأمر بالتطهر حرجا بهم، وهذا هو الصحيح،
وإذا انقطع دم الحيض لأقل من عشرة أيام لم يحل وطؤها حتى تغتسل لأن الدم يدر تارة، وينقطع أخرى، فلا بد من الاغتسال ليترجح جانب الانقطاع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[دفع المصحف إلى الصبيان المحدثين]
م: (ولا بأس بدفع المصحف إلى الصبيان) ش: المحدثين أي لا بأس للطهارة من يدفع المصحف إلى الصبيان المحدثين م: (لأن في المنع) ش: أي في منع دفع المصحف إليهم م: (تضييع حفظ القرآن) ش: لأن الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر والحفظ في الكبر كالنقش على المدر م: (وفي الأمر بالتطهر حرجاً بهم) ش: أي في أمر الأولياء بتطهر الصبيان حرجاً بهم أي مشقة وكلفة والضمير في بهم يرجع إلى الصبيان وأعاده الأكمل إلى الأولياء حيث حال حرج الأولياء أو المعلمين الدافعين والأوجه ما قلنا على ما لا يخفى.
ثم اعلم أن ذكر المصنف هذه المسألة أعني دفع المصحف إلى الصبيان من أنهم غير مخاطبين بشبهة ترد وهي أن الدافع البالغ إلى الصبي المحدث يجب أن لا يدفع إليه كما يجب أن لا يلبس الذكر منهم الحرير وأن لا يسقيه الخمر ولا يوجه إلى جهة القبلة في قضاء حاجة، ثم أشار إلى دفع تلك الشبهة بقوله: لأن في المنع يضيع حفظ القرآن. أه وحاصل هذا الكلام أن كل ذلك ممنوع غير أن دفع المصحف تعلق أمر ديني وهو حفظ القرآن [ ... ] .
م: (وهذا هو الصحيح) ش: أي الذي ذكرناه من جواز دفع المصحف إلى الصبيان هو الصحيح، واحترز به عن قول بعض المشايخ أن ذلك مكروه بناء على أن الدافع مكلف بعدم الدفع.
[انقطاع دم الحيض لأقل من عشرة أيام]
قال أي القدوري م: (وإذا انقطع دم الحيض لأقل من عشرة أيام) ش: مثلاً انقطع دمها لتسعة أيام ولثمانية أيام أو نحو ذلك، والحال أن هذه الأيام كانت عادتها م: (لم يحل وطؤها حتى تغتسل) ش: أي لم يحل لزوجها أن يطأها حتى تغتسل.
م: (لأن الدم يدر) ش: بكسر الدال وضمها أي يسيل م: (تارة وينقطع تارة أخرى فلا بد من الاغتسال ليترجح جانب الانقطاع) ش: أي انقطاع الدم بوجود ما زاد على زمان عادتها من مدة الاغتسال لصيرورتها من الطاهرات حقيقة. وفي " البدرية ": إذا كانت المرأة مبتدأة أو ذات عادة فانقطع دمها على العادة أو فوقها، أما لو انقطع إلى ما دونها يكره وطؤها إلى تمام العادة وإن اغتسلت، وفي " المحيط ": لو انقطع مما دون العشرة ولكن بعد مضي ثلاثة أيام فاغتسلت أو مضى عليها الوقت كره للزوج وطؤها حتى تأتي عادتها وتغتسل، أما لو انقطع على رأس عادتها أخرت الاغتسال إلى آخر الوقت، قال الهندواني: تأخر في هذه الحالة بطريق الاستحباب ومما دون عادتها بطريق الوجوب.(1/653)
ولو لم تغتسل ومضى عليها أدنى وقت الصلاة بقدر أن تقدر على الاغتسال والتحريمة حل وطؤها؛ لأن الصلاة صارت دينا في ذمتها فطهرت حكما،
ولو انقطع الدم دون عادتها فوق الثلاث، لم يقربها حتى تمضي عادتها، وإن اغتسلت؛ لأن العود في العادة غالب فكان الاحتياط في الاجتناب، وإن انقطع الدم لعشرة أيام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو لم تغتسل) ش: أي هذه المرأة التي انقطع دمها لأقل من عشرة أيام م: (ومضى عليها أدنى وقت الصلاة) ش: وهو قدر أن تقول فيه: الله بعد الاغتسال عندهما، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - قدر أن تقول: الله أكبر م: (بقدر أن تقدر على الاغتسال والتحريمة) ش: وهو قول الله أو الله أكبر على الاختلاف المذكور م: (حل وطؤها لأن الصلاة صارت دينا في ذمتها) ش: لأنها إذا أدركت من الوقت ما يسع الاغتسال والتحريمة فعليها القضاء؛ لأن بالاغتسال يحكم بطهارتها، وإذا بقي من الوقت ما يسع فيه التحريمة فقد أدركت جزءا من الوقت وهي طاهرة فعليها قضاء تلك الصلاة، وإن عجزت عن الأداء؛ لأن نفس الوجوب لا يفتقر إلى القدرة على الأداء، ألا ترى أن النائم إذا استيقظ يخاطب بالقضاء بخلاف ما إذا بقي من الوقت ما يسع فيه التحريمة والاغتسال؛ لأنه لا يحكم بطهارتها.
م: (فطهرت حكما) ش: أي من حيث الحكم لا من حيث الحقيقة لأن الشرع إذا حكم عليها بوجوب الصلاة ولا يصح حال كونها حائضاً إذ أنه حكم بطهارتها. وفي بعض النسخ: أو يمضي عليها وقت صلاة كامل. وقال السغناقي: فقد قلت: قوله: كامل، إن كان صفة لوقت يجب أن يكون مرفوعاً، وإن كان صفة لصلاة يجب أن يقال: كاملة، فلما وجهه؟ قلت: صفة لوقت وانجراره للجواز كما في: حجر صب حرب.
قلت: هذا السؤال مع جوابه لا طائل تحته؛ لأنه لم يتعين جر كامل حتى يضطر إلى تشبيهه حجر صب حرب، وأغرب من هذا أن الأكمل أخذ هذا السؤال من السغناقي فقال: إن كان كامل صفة للوقت كان مرفوعاً، وليس بمروي بجعل الأصل أداة التشبيه المذكور عدم كونه مروياً، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن هذا خبر ثابت في حال النسخ، والثاني: على تقدير الثبوت هو اللفظ النبوي حتى يراعى فيه الرواية فارفع أنت الكامل وأرح نفسك من الناقص.
م: (ولو كان انقطع الدم دون عادتها فوق الثلاث) ش: أي ثلاثة أيام م: (لم يقربها حتى تمضي عادتها) ش: المعتادة، وذكر قوله: فوق الثلاث مستغنى عنه لكونه خرج مخرج الغالب م: (وإن اغتسلت) ش: واصل بما قبله: م: (لأن العود) ش: أي عود الدم م: (في العادة غالب فكان الاحتياط في الاجتناب) ش: عن القربان.
م: (وإن انقطع الدم) ش: أي دم المرأة م: (لعشرة أيام) ش: قلت: قيد الانقطاع مستغن(1/654)
حل وطؤها قبل الغسل
لأن الحيض لا مزيد له على العشرة إلا أنه لا يستحب قبل الاغتسال للنهي في القراءة بالتشديد. قال:
والطهر إذا تخلل بين الدمين في مدة الحيض فهو كالدم المتوالي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه؛ لأن الدم إذا انقطع لعشرة أيام حل وطؤها قبل الغسل وكذا لو لم ينقطع لكنه ذكره؛ لأنه وقع في مقابلة قوله: وإذا انقطع دم الحيض لأقل من عشرة أيام، وأخرجه مخرج المعتادة ثم حل القربان قبل الاغتسال لتمام العشرة، مذهبنا. وقال زفر والشافعي وأحمد ومالك وأبو ثور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: لا يحل قبله وإن انقطع دمها لأكثر الحيض؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] (البقرة: الآية 222) ، بالتشديد أي يغتسلن. وقال داود: لو غسلت فرجها من الدم بعد الانقطاع حل وطؤها، وعن طاوس ومجاهد: لو توضأت حل وطؤها.
قلنا: قراءة التشديد تقتضي حرمة الوطء إلى غاية الاغتسال، وقراءة التخفيف تقتضي حرمة الوطء إلى غاية الطهر وهو انقطاع الدم، فحملنا قراءة التشديد على ما إذا كان الانقطاع لأقل من عشرة، وقراءة التخفيف على ما إذا كان الانقطاع لعشرة أيام رفعاً للتعارض بين القراءتين.
م: (حل وطؤها قبل الغسل، لأن الحيض لا مزيد له على العشرة) ش: أي لا زيادة للحيض على العشرة لأنها أكثر الحيض، والمزيد مصدر بمعنى الزيادة م: (إلا أنه) ش: استثناء من قوله: حل وطؤها والضمير في أنه للشأن م: (لا يستحب وطؤها قبل الاغتسال للنهي في القراءة بالتشديد) ش: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] لأن ظاهر النهي فيما يوجب حرمة الوطء قبل الاغتسال في الحالين بإطلاقه، فما ذهب إليه زفر والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - والمراد من النهي قول تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] (البقرة: الآية 222) ، فإنه قرئ بالتشديد والتخفيف، وقد ذكرنا الآن التوفيق بين القراءتين وفيما قلنا يكون لكل قراءة فائدة وفيما قال زفر والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فائدة واحدة في القراءتين، والأول أولى، غير أنا أوجبنا الغسل في الصورة الأولى، واستحسناه في الثانية احتياطاً فيصير نظيراً لمن توضأ ثلاثا ثلاثا فإنه أولى وأحب ممن توضأ مرة مرة.
فروع: القرآنية إذا انقطع دمها فيما دون العشرة، ولم يبق من الوقت إلا قدر ما تغتسل يحل وطؤها قبل الاغتسال وتتزوج بغيره وتبطل رخصتها بنفس الانقطاع، ولو أسلمت بعده تصوم وتصلي ويأتيها زوجها، ولها أن تتزوج وتنقطع الرجعة إن كان آخر عدتها؛ لأنها خرجت من الحيض بنفس الانقطاع؛ لأن الاغتسال لا يعرض عليها لأنها لا تخاطب بالشرائع، ولكنها لا تقرأ القرآن ما لم تغتسل؛ لأنها بمنزلة الجنب، وهذه تدل على أن الكافرة إذا أجنبت ثم أسلمت يلزمها الاغتسال، ولو أسلمت ثم انقطع دمها فهي والمسألة سواء.
م: (قال) ش: أي القدوري
[حكم الطهر المتخلل بين الدمين في مدة الحيض]
م: (والطهر إذا تخلل بين الدمين في مدة الحيض فهو) ش: أي الطهر المتخلل بينهما م: (كالدم المتوالي) ش: أي بحكم المتواصل؛ لأنه ليس بطهر معتبر، صورته: مبتدأة رأت يوماً دماً وثمانية طهراً ويوماً دماً فالكل حيض؛ لأن الطهر فاسد فيصير كله دماً، ولو(1/655)
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هذه إحدى الروايات عن أبي حنفية - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ووجهه أن استيعاب الدم مدة الحيض ليس بشرط بالإجماع فيعتبر أوله وآخره كالنصاب في باب الزكاة. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيل: هو آخر أقواله أن الطهر إذا كان أقل من خمسة عشر يوما لا يفصل، وهو كله كالدم المتوالي؛ لأنه طهر فاسد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رأت يوماً دما وتسعة طهراً ويوما دماً لم يكن شيئاً منها حيضاً، كذا في " المبسوط ".
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي قال المصنف م: (هذا) ش: أي هذا المذكور م: (إحدى الروايات عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: والروايات عن أبي حنيفة في هذا خمسة: رواه خمسة من أصحابه، وهم: أبو يوسف، ومحمد، وزفر، والحسن بن زياد، وعبد الله بن المبارك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فروى كل واحد منهم في هذه المسألة رواية، والمذكور هو رواية محمد عن أبي حنيفة، وأصل ذلك أن الشرط أن يكون الدم محيطاً بطرفي العشرة، فإذا كان كذلك لم يكن الطهر المتخلل فاصلاً بين الدمين، وإلا كان فاصلا وعلى هذه الرواية لا تجوز بداية الحيض، ولا ختمه بالطهر، قال: لأن الطهر ضد الحيض فلا يبدأ الشيء بما ضاده ولا يختم به، ولكن المتخلل بين الطرفين يجعل تبعاً لهما كما قلنا في الزكاة، وإن كمال النصاب وحده شرط لوجوب الزكاة ونقصانه في خلال الحول لا تفرد بين هذا في المسائل كما ذكرناه الآن.
م: (ووجهه) ش: أي وجه المروي في ذلك عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (أن استيعاب الدم مدة الحيض ليس بشرط بالإجماع فيعتبر أوله وآخره) ش: نتيجة عدم اشتراط استيعاب الدم مدة الحيض م: (كالنصاب في باب الزكاة) ش: أي إذا كان الاستيعاب غير شرط فيها كمال النصاب في أول الحيض وآخره كما ذكرناه الآن.
م: (وعن أبي يوسف وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: الضمير: أعني قوله: وهو يرجع إلى متعلق بكلمة عن في قوله: وعن أبي يوسف، تقديره: والمروي عن أبي يوسف وهو مروي عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا يقال: إنه إضمار قبل الذكر؛ لأنه في حكم الملفوظ به فيبعد عن الجار المتعلق كما عرف في موضعه.
م: (وقيل هو آخر أقواله) ش هذه جملة معترضة بين قوله: عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبين قوله: أن الطهر، وكلمة "أن" مصدرية، والعامل فيه متعلق كلمة "عن" والتقدير وهو رواية تثبت عن أبي حنيفة كون الطهر إذا كان أقل من خمسة عشر يوماً غير فاصل، فإذا كان كذلك يكون قوله م: (أن الطهر) ش: في محل الرفع لأنه فاعل، وقوله م: (إذا كان أقل من خمسة عشر يوماً) ش: جملة ظرفية فيها معنى الشرط وقوله م: (لا يفصل) ش: جملة في محل الرفع لأنها خبر "أن" أي لا يفصل بين الدمين م: (وهو كله كالدم المتوالي) ش: أي المتابع والمتواصل م: (لأنه طهر فاسد(1/656)
فيكون بمنزلة الدم والأخذ بهذا القول أيسر وتمامه يعرف في كتاب الحيض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيكون بمنزلة الدم) ش: المستمر؛ لأن أقل مدة الطهر خمسة عشر يوماً، صورته: مبتدأة رأت يوما دماً وأربعة عشر يوماً طهراً، ويوماً دماً فالعشرة من أول ما رأت عند أبي يوسف حيض يحكم ببلوغها به، وكذلك إذا رأت يوماً دماً وتسعة طهراً ويوماً دماً، والطهر إذا كان بخمسة عشر يوما فصاعدا يكون فاصلا لكنه لا يتصور ذلك إلا في مدة النفاس؛ لأن أكثر الحيض عشرة م: (والأخذ بهذا القول) ش: أي الأخذ بقول أبي يوسف م: (أيسر) ش: على المفتي والمستفتي؛ لأن في قول محمد تفاصيل يشق ضبطها خصوصاً على الحيض القاصرات العقل م: (وتمامه يعرف في كتاب الحيض) ش: أي تمام ما ذكر من قوله هذا إحدى الروايات يعرف في كتاب الحيض لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وسنبين ذلك بتوفيق الله تعالى. وقد قلنا: إن الروايات عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خمسة؛ وقد ذكر المصنف قولين وبقيت ثلاثة:
الأول: قول زفر فإنه روى عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنها إذا رأت في طرفي العشرة ثلاثة أيام دما فهي حيض وإلا فلا؛ لأن الطهر يجعل دما تبعا للدمين فلا بد من أن يكون من أنفسهما صالحين للحيض في وقت الحيض، وعبارة " المحيط ": قال زفر: وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا رأت أقل الحيض في العشرة يحصل حيضا، ولا عبرة بالطهر في العشرة حتى لو رأت يوما في أولها ويومين في آخرها دما وطهرا بينهما كان الكل حيضا، وكذا يومين في أولها ويوما في آخرها، وأما لو كانت رأت يوما في ألها ويوما في آخرها فلا، وكذا أقل منهما وإن رأت يوماً في أولها ويوماً في آخرها ويوماً متخللا بين أيام طهرها فهو حيض.
الثاني: قول الحسن بن زيادة فإنه روى عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان دون ثلاثة أيام لا يصير فاصلا فكان كله كالدم المتوالي، فإذا بلغ الطهر ثلاثة أيام ولياليها كان فاصلاً، على كل حال، مثاله: مبتدأة رأت يوماً دما ويومين طهراً ويوماً دماً فالأربعة حيض، وكذا لو رأت ساعة دما وثلاثة أيام غير ساعة طهرا، وساعة دما فالكل حيض، فإن رأت يومين دما وثلاثة أيام طهراً ويوما دما لم يكن شيء منه حيضا على قوله؛ لأن الطهر المتخلل ثلاثة أيام، وإن رأت ثلاثة دما وثلاثة طهراً وثلاثة دما فالحيض عنده الثلاثة الأول؛ لأنه أسرعهما إمكانا.
الثالث: قول ابن المبارك، فإنه روى عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن المروي في أكثر الحيض إذا كان مثل أقله فالطهر المتخلل لا يكون فاصلاً، وإن لم يكن شيء منه حيضا، مثاله: لو رأت يوما دما وثمانية طهرا ويوما دما لم يكن شيء منه حيضا على هذه الرواية؛ لأن المروي من الدم دون الثلاث، ولو رأت يومين دما وسبعة طهرا أو يوما دما وسبعة طهرا ويومين دما فالعشرة حيض. فهذه الروايات الخمسة المروية عن أبي حنيفة.(1/657)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المبسوط ": اختلف المشايخ في فصل هذه الجملة على قول محمد وهو أنه إذا اجتمع طهران معتبران وصار أحدهما لإحاطة الدم بطرفيه واستوائه كالدم المتوالي، ثم هل يتعدى حكمه إلى الطهر الآخر، قال أبو زيد: يتعدى، وقال أبو سهل الغزالي: لا يتعدى، وهو الأصح ذكره في " المحيط ". بيان ذلك: مبتدأة رأت يوماً دما وثلاثة طهرا، ويوما دما فعلى قول أبي زيد العشرة كلها حيض، عند محمد، وعلى قول أبي سهل: حيضها السبعة الأولى، ولو رأت يوما دما وثلاثة طهرا ويومين دما وثلاثة طهرا، ويوما دما، على قول أبي زيد: العشرة حيض لاستواء الدم والطهر، وعلى قول أبي سهل حيضها الستة الأخيرة [ ... ] ، وإن رأت يوما دما وثلاثة طهرا ويوما دما وثلاثة طهرا ثم استمر بها الدم، فعلى قول أبي زيد يحسب يوماً [من] أول الاستمرار إلى ما سبق، فتكون العشرة كلها حيض، وعلى قول أبي سهل حيضا عشرة بعد اليوم، والثلاثة الأولى أولى بالاستمرار [
] حيض، ولو رأت يومين دما وثلاثة طهرا ويوما دما وثلاثة طهرا ثم استمر بها الدم فعلى قول أبي زيد حيضها من أول ما رأت فيكون أول يوم من الاستمرار من جملة حيضها، وبه تتم العشرة، وعلى قول أبي سهل: حيضها ستة أيام من أول ما رأت فلا يكون من أول الاستمرار حيضا، وكذلك لو رأت يوماً دما وثلاثة طهرا أو يومين دما وثلاثة طهرا ثم استمر بها الدم.
وفي " المحيط ": رأت يوما دما، ويوما طهرا، ويوما دما فالثلاثة حيض عند الكل إلا زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الطهر قاض عن ثلاثة أيام فلم يفصل، وعند زفر: الدم قاض يتبعه فلا يتبع غيره. ولو رأت يومين دما وخمسة طهرا وثلاثة دما فالعشرة حيض عند الكل إلا الحسن فإن عنده الثلاثة حيض، واليومان استحاضة؛ لأنه وجد الفاصل عنده، وكذا لو رأت يوماً دما وثلاثة طهراً ويومين دماً فالستة حيض؛ لأنهما ثلثاه فلا يصير الطهر فاصلا بين الدمين عندهم وغيره ليس بشيء من ذلك بحيض لوجود الفاصل بينهما، أو لو رأت يوماً دماً وثلاثة طهراً ويوماً دما لم يكن شيء منه حيضا عند محمد وزفر والحسن، أما عند محمد فلأن الطهر ثلاثة أيام وهو غالب على الدمين فصار فاصلاً، وكذا عند الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد وجد الفاصل، وعند زفر لم يوجد الصالح للحيض. ولو رأت ثلاثة دما وستة طهرا ويوما دما، فعند محمد والحسن الثلاثة الأولى حيض؛ لأن الطهر أكثر من الدمين فيفصل بينهما لوجود الفاصل واليوم الأخير استحاضة، وكذلك لو رأت يوماً دما وستة طهرا وثلاثة دما فالثلاثة الأخيرة حيض عندهما وعند الكل حيض في المسألتين. ولو رأت ثلاثة دما وستة طهرا وثلاثة دما فالثلاثة حيض عندهما؛ لأن عدد الدمين في العشرة أربعة وعدد الطهر ستة فيكون الطهر أكثر فيفصل بينهما، والثلاثة الأخيرة استحاضة؛ لأنه لم يتخلل بين الدمين طهر صحيح، وعند الحسن وجد الطهر الصحيح لكن الطرف الأخير لا(1/658)
وأقل الطهر خمسة عشر يوما، هكذا نقل عن إبراهيم النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يصلح للحيض، ولو كان يصلح لكان أولى؛ لأنه أسرعهما إمكاناً، وعندهما العشرة من أول ما رأت حيض والباقي استحاضة.
وقال تاج الشريعة في الأقوال الستة: صورة تجمع هذه الأقوال الستة: مبتدأة رأت يوما دما وأربعة عشر طهرا ويوما دما وثمانية طهرا ويوما دما وسبعة طهرا، ويومين دما وثلاثة طهرا ويوما دما ويومين طهرا ويومين دما فهذه خمسة وأربعون يوما، فالعشرة الأولى والرابعة حيض عند أبي يوسف، وأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لقصور الطهر عن خمسة عشر يوما هو كالدم المتوالي عندهما، وجواز بداءة الحيض وختمه به عندهما، والعشرة بعد الطهر الأول حيض في رواية محمد لإحاطة الدم بطرفيه في العشرة، والعشرة بعد الطهر الثالث حيض عنده فيحسب. وعند الحسن الأربعة الأخيرة حيض لقصور الطهر فيها من الثلاثة.
[أقل الطهر]
م: (وأقل الطهر خمسة عشر يوماً) ش: أي الطهر الذي يكون بين الحيضتين، وبه قال الثوري والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قال ابن المنذر: ذكر أبو ثور أن ذلك لا يختلفون فيه فيما يعلم، وفي " المهذب ": لا أعرف فيه خلافاً. وقال الكامل: أقل الطهر خمسة عشر يوماً بالإجماع ونحوه في " التهذيب "، وقال القاضي أبو الطيب: أجمع الناس على أن أقل الطهر خمسة عشر يوماً، قال النووي - رحمه لله -: دعوى الإجماع غير صحيحة؛ لأن الخلاف فيه بين العلماء مشهور، فإن أحمد وإسحاق أنكرا التحديد في الطهر فأول أحمد الطهر بين الحيضتين على ما يكون. وقال إسحاق: توقيتهم الطهر، بخمسة عشر يوماً غير صحيح، وقال ابن عبد البر: أما أقل الطهر، فقد اختلف فيه قول مالك وأصحابه، فروى أبو القاسم عنه عشرة أيام، وروى أيضاً عنه ثمانية أيام، وهو قول سحنون، وقال عبد الملك بن الماجشون أقل الطهر خمسة أيام وهو رواية عن مالك.
م: (وهكذا نقل عن إبراهيم النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ليس هذا موجود في الكتب المتعلقة بنفس الأحاديث والأخبار، وقال بعض الشراح: الظاهر أنه سمع من الصحابي، وهو سمع من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن منصبه أجل عن الكذب. قلت: هذا يسلم إذا ثبت النقل عنه، وقال الأكمل: الظاهر أنه منقول عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قلت: هذا أيضاً إنما يصح إذا ثبت عنه أولاً، ولم يثبت، فكيف يقال: الظاهر أنه منقول؟ وهذا مثل ما يقال: اثبت العرش ثم انقشه.
واحتج بعض أصحابنا في ذلك بما روى أبو طوالة عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أقل الحيض ثلاث وأكثره عشر وأقل ما بين الحيضتين خمسة عشر يوماً» وفيه كلام. ومثله عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن(1/659)
وأنه لا يعرف إلا توقيفا ولا غاية لأكثره؛ لأنه يمتد إلى سنة وسنتين فلا يتقدر بتقدير إلا إذا استمر بها الدم، فاحتيج إلى نصب العادة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي داود النخعي ذكره في " الإمام " وتكلم في أبي داود. وفي " المحيط ": أنه قال: أقام الشهر في حق الآيسة والصغيرة مقام الطهر والحيض، وما أضيف إلى شيئين ينقسم عليهما نصفين فينبغي أن يكون نصف الشهر في حق الآيسة والصغيرة مقام حيضة ونصف طهر إلا أنه قام الدليل على نقصان الحيض عن النصف فيبقى الطهر على ظاهر القسمة، وهذا الاستدلال منقول عن أبي منصور الماتريدي.
وفي " المبسوط ": مدة الطهر نظير مدة الإقامة من حيث إنها تعيد ما كان ساقطا من الصوم والصلاة ولهذا قدرنا أقل مدة الحيض ثلاثة أيام اعتباراً بأقل مدة السفر، فإن كلاً منهما يؤثر في الصوم والصلاة، وفي كل واحد منهما نظر لا يخفى.
م: (وأنه) ش: أي وأن كون أقل الطهر خمسة عشر يوماً م: (لا يعرف إلا توقيفاً) ش: أي من حيث التوقيف على السماع، لأن المقدرات لا اهتداء للعقل فيها م: (ولا غاية لأكثره) ش: أي لأكثر الطهر، ومعناه أنه تصلي وتصوم ما ترى الطهر وإن استغرق عمرها م: (لأنه) ش: أي لأن الطهر م: (يمتد إلى سنة وسنتين) ش: ومن النساء من تحيض في الشهر مرة ومرتين، ومنهن من تحيض في شهرين مرة م: (فلا يتقدر بتقدير) ش: لأنه لا يدخل تحت الضبط م: (إلا إذا استمر بها الدم) ش: استثناء من قوله: فلا يتقدر بتقدير، يعني في وقت استمرار الدم بما له غاية.
م: (فاحتيج إلى نصب العادة) ش: أي فاحتيج عند الاستمرار إلى نصب العادة فتكون له عادة عند ذلك عند عامة العلماء خلافا لأبي عصمة سعد بن معاذ المروزي وأبي حازم القاضي فإنه لا غاية لأكثره عندهما على الإطلاق لأن نصب المقادير بالسماع ولا سماع هاهنا وعلى هذا إذا بلغت امرأة فرأت عشرة دماً وسنة أو سنتين طهراً ثم استمر بها الدم فعندهما طهرها ما رأت، وحيضها عشرة أيام تدع الصلاة في أول زمان الاستمرار عشرة أيام وتصلي سنة أو سنتين، فإن طلقها زوجها تنقض عدتها بثلاث سنين أو ست سنين وثلاثين يوماً.
وأما العامة فاختلفوا في المقادير، فقال محمد بن شجاع: طهرها تسعة عشر يوماً، لأن أكثر الحيض في كل شهر عشرة والباقي طهره تسعة عشر بيقين.
وقال محمد بن سلمة: طهرها سبعة وعشرون يوماً فما دونها لأن أقل الحيض ثلاثة أيام فيرفع عن كل شهر فيبقى سبعة وعشرون يوماً.
وقال محمد بن إبراهيم الميداني: طهرها ستة أشهر إلا ساعة وعليه الأكثر، لأن أقل المدة التي يرتفع الحيض فيها ستة أشهر، وهو أقل مدة الحمل إلا أن ما عليه الأصل أن مدة الطهر أقل(1/660)
ويعرف ذلك في كتاب الحيض،
ودم الاستحاضة كالرعاف لا يمنع الصوم ولا الصلاة ولا الوطء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من مدة الحمل فنقص منه شيء يسير وهو ساعة فتقضي عدتها بتسعة عشر شهرا إلا ثلاث ساعات لجواز أن يكون وقوع الطلاق عليها في حالة الحيض فيحتاج إلى ثلاثة أطهار كل طهر ستة أشهر إلا ساعة وكل حيض عشرة أيام.
وقال الحاكم الشهيد: طهرها شهران، وهو راية ابن سماعة عن محمد، لأن العادة مأخوذة من المعاودة والحيض والطهر ما يتكرر في الشهرين عادة، إذ الغالب أن النساء يحضن في كل شهر مرة فإذا طهرت شهرين فقد طهرت في أيام عادتها، والعادة تنتقل بمرتين فصار ذلك الطهر عادة لها فوجب التقدير به وهو اختيار أبي سهل.
قال الإمام برهان الدين عمر بن علي: الفتوى على قول الحاكم الشهيد لأنه أيسر على المفتي والنساء، وقال ابن مقاتل الرازي وأبو علي الدقاق: تقدر طهرها بنصب العادة سبعة وخمسين يوما لأنه إذا زاد على ذلك لم يبق في الشهرين ما يحصل حيضاً فتنصف هو بالكثرة.
وقال الزعفراني: أكثر الطهر في حقها مقدر بسبعة وعشرين يوماً؛ لأن الشهر في الغالب يشتمل على الحيض والطهر، وأقل الحيض ثلاثة أيام فيبقى الطهر سبعة وعشرين يوماً، حتى لو رأت مبتدأة عشرة دما وستة طهراً ثم استمر بها الدم، فعند أبي عصمة تدع من أول الاستمرار عشرة وتصلي سنة، هكذا أدامها إذ لا غاية للطهر عنده.
وقال في " الخلاصة ": أكثر مدة الطهر الذي يصلح لنصب العادة شهر كامل، وهو الذي ذكرناه في حق العادة. أما في حق سائر الأحكام لم يقدر الطهر بشيء بالاتفاق، بل تجتنب أبداً ما تجتنبه الحائض من قراءة القرآن ومسه ودخول المسجد ونحو ذلك، ولا يأتيها زوجها وتغتسل لكل صلاة فتصلي به الفرض والوتر وتقرأ فيهما قدر ما تجوز به الصلاة ولا تزيد، وقيل: تقرأ الفاتحة وسورة لأنهما واجبتان، وإن حجت تطوف طواف الزيارة لأنه ركن ثم تعيد بعد عشرة أيام وتطوف للصدر لأنه واجب وتصوم شهر رمضان لاحتمال أنها طاهرة ثم تقضي خمسة وعشرين يوماً لاحتمال أنها حاضت في رمضان خمسة عشر يوماً خمسة عشر في أوله وخمسة في آخره وبالعكس ولا يتصور حيضها في شهر واحد أكثر من ذلك، ثم يحتمل أنها حاضت في القضاء عشرة فيسلم في خمسة عشر بيقين.
م: (ويعرف ذلك في كتاب "الحيض") ش: لما كان الأقوال في المسألة المذكورة كثيرة قال: ويعرف ذلك في "كتاب الحيض" الذي صنفه محمد بن الحسن كتاباً مستقلاً في أحكام الحيض.
[حكم دم الاستحاضة]
م: (ودم الاستحاضة كالرعاف الدائم لا يمنع الصلاة ولا يمنع الصوم ولا الوطء) ش: أي ولا يمنع وطء الزوج إياها أيضاً وهو قول أكثر العلماء، ونقله ابن المنذر في " الإشراف " عن ابن عباس(1/661)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «توضئي وصلي وإن قطر الدم على الحصير»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وابن المسيب وعطاء وسعيد بن جبير وقتادة وحماد بن أبي سليمان وبكر بن عبد الله المزني والثوري وإسحاق وأبي ثور، وقال ابن المنذر: وبه أقول، وحكي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - والنخعي والحكم وابن سيرين منع ذلك، وقال البيهقي وغيره: إن تفصيل المنع عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ليس بصحيح عنها بل هو قول الشعبي أدرجه بعض الرواة في حديثها. وقال أحمد: لا يجوز الوطء إلا إذا خاف العنت، وفي رواية: لا يأتيها زوجها إلا أن يطول، واحتجوا بأن دم الاستحاضة كالحيض حتى يجب غسله من البدن والثوب والمنع في الحيض بمعنى الأذى وهو موجود فيها فأشبهت الحائض.
واحتج المصنف لنا ولمن وافقونا بحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وهو قوله: م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «توضئي وصلي وإن قطر الدم على الحصير» ش: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في "سننه " من حديث وكيع عن الأعمش عن حبيب بن ثابت عن عروة بين الزبير عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله إني امرأة مستحاضة فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال: "إنما ذلك عرق، وليس بالحيض اجتنبي الصلاة أيام حيضك ثم اغتسلي وصلي وتوضئي لكل صلاة وإن قطر الدم» . وكذا أخرجه أحمد في "مسنده " وأخرجه أبو داود ولكن لم يقل فيه: «وإن قطر الدم على الحصير» ولم ينسب عروة فيه كما نسبه ابن ماجه بأن عروة بن الزبير، وأصحاب الأطراف لم يذكروه في ترجمة عروة بن الزبير وإنما ذكروه في ترجمة عروة المزني، معتمدين في ذلك على قول ابن المديني أن حبيب بن أبي ثابت لم يسمع عن عروة بن الزبير، ورواه أحمد وإسحاق بن راهويه وابن أبي شيبة والبزار في "مسانيدهم " ولم ينسبوا عروة.
ولكن ابن ماجه والبزار أخرجاه في ترجمة ابن الزبير عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وفي لفظ لابن أبي شيبة بهذا الإسناد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تصلي المستحاضة وإن قطر الدم على الحصير» ، ورواه الدارقطني في "سننه "، وقال عروة بن الزبير في بعض ألفاظه، وضعف الحديث. قال: وزعم سفيان الثوري أن حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير ثم نقل عن أبي داود أنه ضعفه بأشياء منها أن حفص بن غياث رواه عن الأعمش فوقفه على عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وأنكر أن يكون مرفوعاً. ووقفه أيضاً أسباط بن محمد عن الأعمش أيضاً رواه مرفوعاً أوله،(1/662)
وإذا عرف حكم الصلاة ثبت حكم الصوم والوطء بنتيجة الإجماع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأنكر أن يكون عنه الوضوء عند كل صلاة، وبأن الزهري رواه عن عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وقال فيه: وكانت تغتسل لكل صلاة. قلت: حاصل الكلام أن قصدهم إبطال احتجاج الحنفية فيما ذهبوا إليه بهذا الحديث، ولكن لا يمشي هذا منهم لأنهم تعلقوا في هذا بأمور:
الأول: أنهم قالوا: ليس فيه وإن قطر الدم على الحصير، الجواب عنه: أنه ثبت ذلك في رواية ابن أبي شيبة وفي رواية الدارقطني أيضاً.
الثاني: قالوا: إن عروة لم ينسبه إلا ابن ماجه، والجواب عنه أن الدارقطني نسبه في رواية، وكذلك البزار في رواية.
الثالث: قالوا: إن حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير، الجواب عنه: أن أبا عمر قال: وحبيب لا شك أنه أدرك عروة، وقد روى عنه أبو داود في كتاب "السنن "، وقد روى حمزة الزيات عن حبيب عن عروة بن الزبير عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حديثا صحيحاً، وهذا أشد تظاهراً على أن حبيبا سمع من عروة، وهو مثبت فيقدم على من ينفي، وأيضا حبيب لا ينكر لقاءه بعروة لروايته عمن هو أكبر من عروة وأجل وأقدم ثبوتا.
الرابع: قالوا أنه موقوف، والجواب عنه إن كان هاهنا قد روي موقوفا من جهات ثقات مثل وكيع ومثله، فقد رواه أيضاً ثقات كرواية وكيع مرفوعاً عن الأعمش مثل الجريري وسعيد بن محمد الوراق وعبد الله بن نمير فهؤلاء كبار رووا عن الأعمش الرفع فوجب على مذهب الفقهاء، وأصل الأصول ترجيح روايتهم لأنها زيادة ثقة ويحمل رواية من وقفه على عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها سمعت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فروته مرة، وقالت به مرة أخرى.
م: (وإذا عرف حكم الصلاة ثبت حكم الصوم والوطء بنتيجة الإجماع) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: إنكم قلتم أن دم الاستحاضة لا يمنع الصلاة الصوم والوطء،، ودليلكم لا يدل إلا على أحكام الصلاة فقط، فأجاب عنه بأن حكم الصلاة وهو جوازها مع سيلان دم الاستحاضة إذا عرف فإنه كالعدم في حكم الصلاة مع المنافاة الثابتة بينهما لكونه منافيا للطهارة التي هي شرط الصلاة يثبت حكم الصوم والوطء مع عدم المنافاة بينهما وبينه وذلك أن الصوم نقيضه الفطر لا الدم، والوطء نقيضه تركه لا الدم.
وقال المصنف: ثبوت حكم الصوم والوطء نتيجة الإجماع. وقال صاحب " الدراية " مثله ثم قال: فإن الإجماع على أن دم العرق لا يمنع الصلاة والصوم والوطء بخلاف دم الرحم فإنه يمنع منها، فكما لم يمنع هذا الدم الصلاة على أنه دم عرق فلا يمنع الصوم والوطء بدلالة الإجماع.(1/663)
ولو زاد الدم على عشرة أيام ولها عادة معروفة دونها ردت إلى أيام عادتها والذي زاد استحاضة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الكافي " تفسير نتيجة الإجماع بدلالة غير صحيح لفظاً لا معنى، والتفسير بالحكم أشد إطباقاً، وقال الشيخ عبد العزيز - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قد يجوز أنه نتيجة من حيث إن دلالة النص أو الإجماع لا يكون إلا به، ومستحيل أن يثب قبله فكأنها نتيجة والنص والإجماع أصل، ولو فسرت بالحكم لأوهم أن دلالة النص أو الإجماع لا تكون إلا لذلك فلذلك فسرت بالدلالة.
قلت: حكم الصلاة لم يثبت ابتداء بالإجماع، وإنما يثبت بالنص، فكيف يكون حكم الصوم والوطء بدلالة الإجماع مع أنه ورد خبر صحيح بجواز وطء المستحاضة، ورواه أبو داود وغيره من حديث عكرمة عن حمنة بنت جحش أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يغشاها، وفي لفظ له قال: كانت أم حبيش مستحاضة وكان زوجها يغشاها، ورواه البيهقي وغيره، وزوج حمنة طلحة بن عبد الله.
م: (ولو زاد الدم على عشرة أيام) ش: التي أكثر الحيض فالمرأة لا تخلو إما أن تكون معتادة أو مبتدأة أو مختلفة العادة، وأشار إلى القسم الأول بقوله: (ولها عادة معروفة دونها) ش: أي دون العشرة بأن كانت عادتها ستة أيام أو سبعة أيام أو ثمانية أيام أو تسعة أيام فزاد الدم على عادتها وعلى العشرة أيضاً م: (ردت إلى أيام عادتها) ش: باتفاق أصحابنا فيكون الحيض أيام عادتها وما زاد على عادتها المعروفة إلى ما فوق العشرة إلى أن ينتهي يكون استحاضة وهو معنى قوله: م: (والذي زاد) ش: يعني على العادة المعروفة م: (استحاضة) ش: فيصير حكمها حكم المستحاضات.
وأما إذا زاد على عادتها المعروفة دون العشرة فقد اختلف فيه المشايخ، فذهب أئمة بلخ إلى أنها تؤمر بالاغتسال والصلاة لأن حال الزيادة مترددة بين الحيض والاستحاضة لأنه إذا انقطع الدم قبل العشرة كان حيضا وإن جاوز العشرة كان استحاضة فلا تترك الصلاة مع التردد.
وقال مشايخ بخارى: لا تؤمر بالاغتسال والصلاة لأنا عرفناها حائضا بيقين، ودليل بقاء الحيض وهو رؤية الدم قائم فلا تؤمر حتى يتبين أمرها، فإن جاوز العشرة أمرت بقضاء ما تركت من الصلاة بعد أيام عادتها. وفي " المجتبي ": وهو الصحيح.
وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما زاد على عادتها يميز باللون. فإن كان أسود غليظا أو أحمر غليظا أو أحمر خالصا يجعل حيضها ولا عبرة للأيام، وإن لم يكن أسود كان دم الاستحاضة، وإن لم يكن التمييز باللون بأن لم يكن أسود خالصا أو أحمر خالصا بل يشبه كلاهما فحينئذ تعتبر الأيام فترد إلى أيامها.
وفي " الحلية ": معتادة تميز وهي التي ترى في بعض الأيام دماً أسود، وفي بعضها دماً أحمر وجاوز الدم الأكثر فحيضها الأسود لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دم الحيض أسود» فهذا يبقى بظاهره كون غيره(1/664)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حيضاً.
وقال ابن حبان والإصطخري: تقدم العادة على المتميز، وقال مالك: الاعتبار للمتميز لا العادة، فإن لم يكن لها تمييزا استظهرت بقدر زمان العادة بثلاثة أيام إلى أن تجاوز خمسة عشر، وإن كانت غير مميزة فحيضها أيام عادتها.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها» ش: هذا الحديث روي عن جد عدي بن ثابت وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وأم سلمة وسودة بنت زمعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
أما حديث جد عدي فرواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث شريك عن أبي اليقظان عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي» قال الترمذي: هذا حديث تفرد به شريك عن أبي اليقظان، قال: وسألت محمداً يعني البخاري عن هذا الحديث، فقلت له: عدي بن ثابت عن أبيه عن جده، جد عدي ما اسمه؟ فلم يعرفه، وذكرت له قول يحيى بن معين أن اسمه دينار فلم يعبأ به.
وقال أبو داود: حديث عدي بن ثابت هذا ضعيف لا يصح، ورواه أبو اليقظان عن عدي ابن ثابت عن أبيه عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وشريك هذا هو ابن عبد الله النخعي الكرخي قاضي الكوفة تكلم فيه غير واحد، وأبو اليقظان اسمه عثمان بن عمر الكوفي ولا يحتج بحديثه.
قلت: قال أبو نعيم: وقال غير يحيى: أن جد عدي اسمه قيس الخطي، وقيل لا يعرف من جده، وذكر ابن حبان في " الثقات ": أن ثابتا هو ابن عدي بن عدي أخي البراء بن عازب، وعن يحيى بن معين قال: شريك صدوق ثقة، وقال أحمد بن عبد الله العجلي: كوفي ثقة.
وأما حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فرواه الطبراني في "معجمه الصغير " من حديث يزيد ابن هارون أخبرنا أيوب أبو العلاء عن عبد الله بن شبرمة القاضي عن قمراء امرأة مسروق عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في المستحاضة: «تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل مرة ثم تتوضأ إلى مثل أيام أقرائها» ، ورواه ابن حبان في "صحيحه " من حديث أبي عوانة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المستحاضة فقال: «تدع(1/665)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل غسلا واحدا ثم تتوضأ عند كل صلاة» ". وأما حديث أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فرواه الدارقطني في "سننه " من حديث معلى بن أسد أخبرنا وهيب حدثنا أيوب عن سليمان بن يسار «أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت فأمرت أم سلمة أن تسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتستدفر بثوب وتصلي» وقال الدارقطني: رواته كلهم ثقات، ورواه ابن أبي شيبة في "مسنده " حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حجاج عن نافع «عن سليمان بن يسار أن امرأته أتت أم سلمة لكي تسأل لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المستحاضة فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتستثفر بثوب وتتوضأ لكل صلاة وتصلي إلى مثل ذلك» انتهى. وهذه المرأة هي فاطمة بنت أبي حبيش يفسره رواية الدارقطني المذكورة. وأما حديث سودة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فرواه الطبراني في "معجمه الأوسط " من حديث الحكم بن عتيبة عن أبي جعفر عن سودة بنت زمعة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تجلس فيها ثم تغتسل غسلا واحدا ثم تتوضأ لكل صلاة» ".
قوله: تدع: أي تترك، والأقراء: جمع قرء بمعنى الحيض. قوله: تستثفر: أي تسد فرجها بثوب وهو مأخوذ من ثفر الدابة التي تجعل تحت دنها. وقوله: تستدفر من الدفر وهو الرائحة، ومعناه تستعمل طيباً في الثوب تزيل به الرائحة، وقد يسمى الثوب طيباً، لأنه يقوم مقام الطيب.
وأصح ما روي في هذا الباب ما روى أبو داود أخبرنا عبد الله بن مسلم عن مالك عن نافع عن سليمان بن يسار «عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستفتت لها أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصل [فيه» ، رواه مالك في "موطئه "(1/666)
ولأن الزائد على العادة يجانس ما زاد على العشرة فيلحق به
وإن ابتدأت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والشافعي في "مسنده " وأحمد في "مسنده " والنسائي في "سننه " بأسانيد صحيحة على شرط البخاري ومسلم وقد مر في أول الباب بما فيه من المعاني والأحكام.
م: (ولأن الزائد على العادة يجانس ما زاد على العشرة فيلحق به) ش: هذا دليل آخر تقديره أن يقال: الزائد على العادة يجانس الدم الذي يدل على العشرة من حيث الندرة ومن حيث كونه زائداً على العادة المعروفة ولا يجانس الواقع المعروف إلا من وجه واحد وهو أنهما وقعا في المدة الأصلية للحيض وهي العشرة فكان إلحاقها لما وقع خارج العشرة أولى، وهو معنى قوله: فيلحق أي يلحق بالزائد على العشرة.
وقال الأترازي: في هذا التعليل نظر عندي لأن للقائل أن يقول: كما أن النجاسة حاصلة بين الزائدتين فكذلك حاصلة بين ما رأت في معرفتها وبين الزائد إلى العشرة لأن كل واحد منهما في مدة الحيض لا بل المجانسة هنا أكثر لأن أحد الزائدين في مدة الحيض والآخر في غيرها.
قلت: لو تأمل الأترازي في هذا وقدح فكره لم يقل: في هذا التعليل نظر عندي والتأمل فيه يحدث عن هذا النظر بما قررناه الآن. وقال الأكمل وعورض فإن الزائد على العادة يمكن أن يكون حيضا بخلاف الزائد على العشرة فإنهما يتجانسان.
قلت: هذا الذي ذكره سأله صاحب " الدراية " بقوله فإن قيل: الزائد على العشرة لا يمكن أن يكون حيضاً والزائد على العادة يمكن أن يكون حيضاً فكيف يتجانسان ثم أجاب بقوله:
قلت: في مسألتنا لا يمكن أن يكون عليها حيضاً لأن ما زاد على العشرة استحاضة بيقين، وأما في أيام حيضها حيض يقينا، ففيما زاد إلى تمام العشرة إن ألحقناه بما بعده كان استحاضة، وإن ألحقناه بما قبله كان حيضا فوقع الشك في كونه حيضا فلا تترك الصلاة بالشك لأن وجوب الصلاة كان ثابتا بيقين فلا تترك إلا بيقين فحينئذ يتجانسان من حيث عدم منع الصلاة.
وجواب الأكمل غير هذا، وملخصه أن التجانس بين الزائد من الوجهين وبين الزائد والعادة من وجه فكان الأول أولى، وهذا محصل بما قررناه أولاً. وقال صاحب " الدراية ":
فإن قيل: كيف يكون وجوب الصلاة بيقين، فإنها لا تجب عليها في الأصح في أيام حيضها. قلنا وجوبها عليها بيقين نظراً إلى انقضاء العدة وفي كون ما زاد على العادة حيضا شك فلا يزول ذلك اليقين.
م: (وإن ابتدأت) ش: أي المرأة هذا شروع في بيان حالة المرأة المبتدأة وقد ذكرنا أن المرأة لا يخلو إما أن تكون معتادة أو مبتدأة أو مختلفة العادة، وقد ذكر حال العادة وهذا في بيان المبتدأة.(1/667)
مع البلوغ مستحاضة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقوله: ابتدأت على صيغة المبني للفاعل، ويروى على صيغة المبني للمفعول بضم التاء.
وقال الأترازي: والأول أوجه عندي من الثاني لأن المرأة مبتدأة على صيغة المفعول فلذلك اختار صاحب " النهاية " صيغة المفعول في ابتدأت.
م: (مع البلوغ) ش: يعني كما بلغت استمر عليها الدم وهو معنى قوله م: (مستحاضة) ش: وهو نصب على الحال المقدرة، أي حال كونها مقدرة للاستحاضة، وذلك لأنه لم تثبت الاستحاضة حال ابتداء رؤيتها الدم ولكن يعلم عند الزيادة على العشرة فحينئذ تكون العشرة في كل شهر أيضاً والباقي وهو الزائد على العشرة استحاضة.
وعند زفر والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ترد إلى أقل الحيض لأنه متيقن والباقي مشكوك وبه قال أحمد، وفي قول للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يعتبر حيضها بنساء عشيرتها وفي قوله الآخر بالوسط وهو ست أو سبع وبه قال الثوري وأحمد في رواية، وعند مالك تقعد ما دام يأتيها ولتستظهر بعد ذلك بثلاثة أيام ما لم يتجاوز ذلك مجموع خمسة عشر يوماً، وعن مالك رواية أخرى أنها تجلس ما دام الدم بثلاثة أيام إلى أن يبقى خمسة عشر يوماً وهو رواية عن أحمد.
فإن قلت: كيف يكون نصب العادة في المبتدأة؟.
قلت: أول ما رأت المبتدأة دما تترك الصلاة كما رأيته عند مشايخنا، وعند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنها لا تترك حتى يستمر بها الدم ثلاثة أيام، والأول أصح، ولو رأت خمسة دما خمسة عشر طهرا ثم استمر بها الدم فإنها تترك الصلاة من أول الاستمرار خمسة ثم تصلي خمسة عشر يوما وذلك عادتها لأن الانتقال عن حالة الصغر عادة في النساء فتحصل بمرة واحدة، وأما الانتقال عن العادة الثانية في العادة ليس بعادة لها فلا يحصل بالمرة عند أبي حنيفة ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وبه قال بعض الشافعية وهو رواية عن أحمد، وفي أشهر الروايتين لا يثبت إلا بالتكرار ثلاثا.
وقال أبو يوسف والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ثبت بمرة واحدة. وقال مالك: يثبت بمرة لكن إذا اختلف بالزيادة والنقصان ثم استحيضت جلست أكثر ما كانت تجلسه ثم تستظهر بالثلاث.
ثم اعلم أن العادة على نوعين أصلية وجعلية، فالأصلية على نوعين: أحدهما أن ترى دمين خالصين وطهرين خالصين متعقبين على التوالي بأن رأت مبتدأة ثلاثة دما وخمسة عشر طهراً وثلاثة دما وخمسة عشر طهرا وثلاثة دما وخمسة عشر طهرا ثم استمر بها الدم فإنها تدع الصلاة من أول الاستمرار ثلاثا وتصلي خمسة عشر يوماً.(1/668)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن ذلك صار عادة لها بالتكرار وكذا لو رأت ثلاثة دما وخمسة عشر طهراً أو أربعة دما وستة عشر طهرا ثم استمر بها الدم فحيضها ثلاثة وطهرها خمسة عشر عادة أصلية لها فتصلي من أول الاستمرار ستة عشر لأنها حين رأت أربعة دما فثلاثة منها مدة حيضها ويوم من حساب طهرها، فلما طهرت ستة عشر فأربعة عشر تمام طهرها ويومان من حيضها لم تر فيهما الدم فتصلي إلى موضع حيضها الثاني وذلك ستة عشر ثم تدع الصلاة وتصلي خمسة عشر.
والثاني: أن ترى دمين وطهرين مختلفين بأن رأت مبتدأة ثلاثة دما وخمسة عشر طهراً، ثم استمر بها الدم فعند أبي يوسف أيام حيضها وطهرها ما رأت آخر مدة، واختلفوا على قولهما: قبل عادتها ما رأته أول مدة لأن العادة لا تنتقل برؤية الخالف مرة واحدة عندهما فيكون حيضها ثلاثة وطهرها خمسة عشر فلما رأت في المرة الثانية فاليوم الرابع من طهرها ولما رأت ستة عشر فأربعة عشر منها بقية طهرها ويومان من حيضها الثاني وذلك ستة عشر.
وقيل: عادتها أقل المرتين فتترك من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر لأن العادة في المبتدأة تحصل بمرة واحدة.
وأما العادة الجعلية فهي أن ترى ثلاثة دما وأطهاراً مختلفة ثم استمر بها الدم بأن رأت خمسة دماً وسبعة عشر طهرا أو أربعة دما وستة عشر طهرا وثلاثة دما وخمسة عشر طهرا، قال بعضهم: تجعل عادتها أوسط الاعتداد فتدع من أول الاستمرار أربعة وتصلي ستة عشر. وقال بعضهم: أقل المدتين الأخيرتين تدع من أول الاستمرار [ ... ] وتصلي خمسة عشر والفتوى على هذا لأنه أيسر على النساء.
مبتدأة رأت ثلاثة دما وخمسة عشر طهرا وأربعة دما وستة عشر طهرا وخمسة دما وسبعة عشر طهرا، ثم استمر بها الدم فعادتها أربعة في الدم وستة عشر في الطهر اتفاقا، مبتدأة رأت ثلاثة دما وخمسة عشر طهراً، وأربعة دما وستة عشر طهراً، وثلاثة دما وخمسة عشر طهرا فإنها تدع الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر، وتلك العادة جعلية لها فإن طرأت الجعلية على العادة الأصلية لأنها دونها والشيء لا ينقض بما هو دونه كالوطن الأصلي لا ينقضه الوطن الإقامة.
وقال مشايخ بخارى: تنقض العادة بالجعلية، ومثاله إن كانت العادة الأصلية في الحيض خمسة لا تثبت الجعلية إلا برؤية ستة وسبعة وثمانية ويتكرر فيها بخلاف العادة الأصلية مراراً لأن سبعة وثمانية بتكرارها ستة والعادة الأصلية تنقض بالتكرار بخلافها لكونها مختلفة متفاوتة في نفسها بكون العادة الثانية جعلية لا أصلية.(1/669)
فحيضها عشرة أيام من كل شهر وباقي الشهر استحاضة لأنا عرفناه حيضا فلا يخرج عنه بالشك والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فحيضها عشرة أيام من كل شهر) ش: ففي الشهر الأول تكون العشرة من أول ما رأت حيضا م: (وباقي الشهر استحاضة) ش: فحكمها حكم الطاهرات لكنها تتوضأ لوقت كل صلاة ثم بعد ذلك حيضها أيام من كل شهر م: (لأنا عرفناه حيضا فلا يخرج عنه بالشك) ش: أي عرفنا الدم المرئي في العشرة حيضا فلا يخرج عن كونه حيضا بالشك لأنا تيقنا بالدخول فيه والأيام صالحة له، فإذا تجاوز الدم العشرة تيقنا بخروجها فكانت طاهرة حكما.(1/670)
فصل والمستحاضة ومن به سلس البول والرعاف الدائم والجرح الذي لا يرقأ يتوضؤون لوقت كل صلاة، فيصلون بذلك الوضوء في الوقت ما شاءوا من الفرائض والنوافل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في وضوء المستحاضة ومن به سلسل البول والرعاف الدائم]
م: (فصل) ش: الفصل منها فصل لا ينون ومنها فصل ينون لأن الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب وعقد هذا الفصل لأحكام الاستحاضة وقدمها على النفاس لأنها أكثر وقوعاً.
م: (والمستحاضة) ش: مبتدأ وقد تكلمنا فيها أول الباب مستقصى م: (ومن به سلس البول) ش: وكلمة "من" موصولة عطف على ما قبله، وسلس البول كلام إضافي مبتدأ وخبره مقدم وهو قوله: (به) ، والجملة صلة الموصول. وسلس البول بفتح اللام، والرجل سلس البول بالكسر يقال: شيء سلس أي سهل، وأصل سلس بالكسر أي لين معتاد وفلان سلس البول بالكسر إذا كان لا يستمسك، وسلس بوله بالكسر يسلس بالفتح من باب علم يعلم.
م: (والرعاف الدائم) ش: بالرفع عطف على ما قبله وهو دم الأنف لا يرقأ أي لا يسكن م: (والجرح الذي لا يرقأ) ش: بالرفع أيضاً عطف على ما قبله يقال: رقأ الدمع يرقأ رقاء ورقوا أي سكن وكذلك الدم.
م: (يتوضؤون) ش: جملة في محل الرفع على أنه خبر المبتدأ المذكورة أعني قوله: المستحاضة وما أضيف إليه م: (لوقت كل صلاة) ش: اللام فيه للتعليل م: (فيصلون بذلك الوضوء في الوقت ما شاءوا من الفرائض والنوافل) ش: وبه قال الأوزاعي والليث وأحمد هكذا ذكره عنه أبو الخطاب في الهداية، ولم يحك خلافاً، وفي " المغني " لابن قدامة تتوضأ لكل صلاة وبه قال الشافعي وأبو ثور، وعزى هذا إلى أصحابنا أيضاً وهو غلط منه.
وقال ابن تيمية الحراني في هذه رواية عن أحمد، وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يجب الوضوء على المستحاضة ومن به سلسل البول ونحوه، وهو قول ربيعة وعكرمة وأيوب، وأما الوضوء به مستحب لكل صلاة عنده ذكره في " التمهيد " وذكر كثير من أصحابنا في كتبهم عنه أنها تتوضأ لكل صلاة. وقال الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والمستحاضة تتوضأ لكل فريضة وهو مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا كما نذكره الآن.
وقال النخعي: تغتسل في آخر وقت الظهر، أول وقت العصر، والعصر في آخر وقته، وكذلك تغتسل في آخر وقت المغرب فتصلي وكذلك في العشاء والفجر، وعن ابن عمر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجوب الغسل عليها لكل صلاة وعندنا لا يجب عليها الغسل إلا مرة واحدة لخروجها عن الحيض وهو قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كعلي وابن(1/671)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مسعود وابن عباس وعائشة وعروة وأبي سلمة وعبد الرحمن والشافعي وأحمد ومالك في رواية.
وقال بعضهم: تغتسل كل يوم غسلا، روي ذلك عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وابن عمر وأنس وسعيد بن المسيب. وقال بعضهم: تجمع بين الظهر والعصر بغسل وبين المغرب والعشاء وتصلي الصبح بغسل.
احتج من قال بوجوب الغسل لكل صلاة بما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرها أن تغتسل لكل صلاة» والجواب عن ذلك أن هذا لم يرفعه إلا محمد بن إسحاق عن الزهري، وأما سائر أصحاب الزهري فإنهم يقولون فيه عن عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «عن أم حبيبة بنت جحش [أنها] استحيضت فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: "إنما هو عرق وليس بالحيضة، فأمرها أن تغتسل وتصلي» ففهمت ذلك عنه فكانت تغتسل لكل صلاة.
وقال أبو عمر في " التمهيد " عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها استفتت بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المستحاضة أنها تتوضأ لكل صلاة، فأفتوها بذلك بعد وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، دلت على نسخ ما روت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ لا يسوغ لها خلاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحمل ذلك على الاستحباب أو على الثانية [أي] أيام عادتها فافهم.
فإن قلت: روي أبو داود: «أن امرأة كانت تهريق على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها أن تغتسل عند كل صلاة» .
قلت: أجاب النووي عن ذلك أن الأحاديث الواردة في سنن أبي داود والبيهقي وغيرهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها بالغسل لكل صلاة، فليس فيها شيء ثابت، وقد بين البيهقي ومن قبله ضعفها، واحتج من قال: تغتسل في كل يوم مرة في أي وقت شاءت من النهار، بما رواه أبو داود في "سننه " من حديث معقل الخثعمي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: المستحاضة إذا انقضى حيضها اغتسلت كل يوم لأجل الاحتياط، وأما الصوف التي فيها السمن أو الزيت فإن بها يدفع الدم وينشفه. ومعقل بالعين المهملة وبالقاف.(1/672)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تتوضأ المستحاضة لكل مكتوبة لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المستحاضة تتوضأ لكل صلاة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واحتج من قال بأنها تغتسل من طهر إلى طهر بما رواه مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن قال: سألت سعيد بن المسيب - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن المستحاضة فقال: تغتسل من طهر إلى طهر وتتوضأ لكل صلاة، فإن كان عليها الدم استثفرت. الجواب عن ذلك أن أبا داود قال: قال مالك: إني لا أظن حديث ابن المسيب من ظهر إلى ظهر بالظاء المعجمة، إنما هو من طهر إلى طهر بالطاء المهملة ولكن الوهم دخل فيه، فعليه الناس من ظهر إلى ظهر بالمعجمة.
وقال الخطابي: لأنه لا معنى للاغتسال من وقت صلاة الظهر إلى مثلها ولا أعلمه قولاً لأحد من الفقهاء، وإنما هو من طهر إلى طهر بالمهملة فيهما وهو انقطاع دم الحيض، وقد يجيء بما روي من الاغتسال من ظهر إلى ظهر بالمعجمة فيهما في بعض الأحوال لبعض النساء، وهو أن تكون المرأة قد نسيت الأيام التي كانت عادتها ونسيت الوقت أيضاً، إلا أنها تعلم أنها كلما انقطع دمها في أيام العادة كانت وقت الطهر فهل يلزمها أن تغتسل عند كل طهر وتتوضأ لكل صلاة وما بينهما وبين الطهر من اليوم الثاني، فقد يحتمل أن يكون سعيد بن المسيب إنما سئل عن امرأة هذه حالها فنقل الراوي الجواب ولم ينقل السؤال على التفصيل.
وفي " الاستذكار " ليس في ذلك وهم لأنه صحيح عن سعيد معروف من مذهبه في الاستحاضة تغتسل كل يوم من ظهر إلى ظهر، وكذلك رواه ابن عيينة عن موسى مولى أبي بكر ابن عبد الرحمن قالت: سألت سعيد بن المسيب عن المستحاضة فقال: تغتسل من ظهر إلى ظهر وتتوضأ لكل صلاة، فإن كان عليها استثفرت وصلت.
واحتج مالك فيما ذهب إليه من أن المستحاضة ليس عليها وضوء بما رواه في الموطأ عن هشام ابن عروة عن أبيه «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إني لا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال: "إنما ذلك عرق، وليست بالحيضة [فإذا أقبلت] فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي» وأخرجه الجماعة. وجه التمسك به أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال لها: "فاغتسلي وصلي" ولم يذكر الوضوء لكل صلاة. والجواب عنه الوضوء مذكور في غيره على ما نذكره.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تتوضأ المستحاضة لكل مكتوبة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المستحاضة تتوضأ لكل صلاة» ش: الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث شريك عن أبي اليقظان عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصلي وتصوم» رواه أبو داود، ولفظه: والوضوء عند كل صلاة، وله شواهد، منها ما أخرجه أبو داود، وابن ماجه من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: جاءت فاطمة بنت أبي(1/673)
ولأن اعتبار طهارتها لضرورة أداء المكتوبة فلا تبقى بعد الفراغ منها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حبيش.. الحديث، وفي آخره: «اغتسلي وتوضئي لكل صلاة» .
ومنها: ما أخرجه ابن حبان في "صحيحه " من حديث فاطمة بنت أبي حبيش وفي آخره: «فاغتسلي وتوضئي لكل صلاة» ".
ومنها: ما رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده " من حديث جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة» .
م: (ولأن اعتبار طهارتها) ش: دليل عقلي، أي طهارة المستحاضة م: (لضرورة أداء المكتوبة فلا تبقى) ش: أي الضرورة م: (بعد الفراغ منها) ش: أي من المكتوبة، وقال الأترازي في جواب دليل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأن طهارة المستحاضة ضرورية لكن لا نسلم أن لا ضرورة لها في حكم أداء مكتوبة أخرى.
قلت: للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يقول بعد التسليم أنها ضرورية كيف يمنع عدم الضرورة في حقها مكتوبة أخرى، ومطلق الضرورة موجود عند كل مكتوبة، وتقدير الطهارة في المكتوبة والنافلة يقدر بتلك الضرورة لأنه ليس من المعقول التجاوز عن قدر الضرورة، ثم منع الأترازي هذا بقوله: ولا نسلم أنها تقدر بقدر الضرورة عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقد جاز لها أداء النوافل ما شاءت بالاتفاق، وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أن يقول: لا ضرورة في النوافل بعد أداء الفرض، ولكن هي تابعة للفرض فيدخل في حكم المتبوع بعد الشروع بخلاف مكتوبة أخرى، لأنها عبادة أخرى مستقلة تحتاج إلى طهارة أخرى، لكون الطهارة ضرورية في حق الأولى فلم يجاوز إلى غيرها.
ثم قال الأترازي: إنا نقول: هل بقيت الطهارة بعد المكتوبة الواحدة أم لا؟
فإن قلت: نعم، فقل: تصلي الفرائض والنوافل، وإن قلت: لا، فقل لا تصلي الفرائض والنوافل أصلاً، إلا بوضوء جديد، فالشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: هذه الترديد مردود، فإني لم أقل إلا أنها تصلي فرضاً واحدا مع تبعية النفل ثم لا تصلي فرضا آخر إلا بوضوء جديد، لأن الشارع لما أسقط حكم سيلان الدم لضرورة الحاجة إلى أداء فرض الوقت الذي هو الأصل سقط كذلك في حق التبع بخلاف فرض آخر كما ذكرنا، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يقول الأترازي وهذا الإلزام شيء يسكت الخصم.(1/674)
ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة» وهو المراد بالأول، لأن اللام تستعار للوقت، يقال: آتيك لصلاة الظهر أي وقتها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقد أورد الأكمل هاهنا إيرادا على الشافعية ملخصه: أن الصلاة في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لكل صلاة، أعم من أن تكون مكتوبة أو غيرها فاختصاصها بالمكتوبة تحكم. ثم أجاب عن ذلك بأن الصلاة مطلق وهو منصرف إلى الكمال والكامل هو المكتوبة ثم رد هذا بأن الصلاة عام بدخل كلمة كل فليس كما ذكرتم.
قلت: فلهم أن يقولوا سلمنا العموم ولكنه يحتمل التخصيص، وهاهنا التخصيص موجود وهو الضرورة المؤخرة للصلاة مع سيلان الدم، مع أن القياس لا يقتضي الجواز أصلاً ولكن النص حكم عليه للضرورة فيقتصر علها ويتقدر بقدرها. والجواب المسكت ورود لفظة: هذه الصلاة مقيدة بالوقت في حديث آخر على ما نقرره عن قريب.
ثم أجاب الأكمل بجواب آخر وهو أن الطهارة بعد أداء المكتوبة إن كانت باقية تساوت الفرائض والنوافل في جواز الأداء بها وإلا فلا، ثم قال: وفيه نظر. وجه التنظير هو أن يقال: نعم باقية بالنسبة إلى النوافل دون الفرائض.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة» ش: قال بعضهم: هذا غريب يعني بلفظ: لوقت كل صلاة، قلت: ليس كذلك لأنه لا يلزم من عدم اطلاعه عليه أن يكون غريباً، بل روي هذا الحديث بهذه اللفظة في بعض ألفاظ حديث فاطمة بنت أبي حبيش: "وتوضئي لوقت كل صلاة" ذكره ابن قدامة في " المغني "، ورواه الإمام أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - هكذا: «المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة» ، ذكره السرخسي في " المبسوط "، وروى أبو عبد الله بن بطة بإسناده عن حمنة بنت جحش أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أمرها أن تغتسل لوقت كل صلاة، والغسل يغني عن الوضوء فبطل الاشتراك لكل صلاة.
م: (وهو المراد بالأول) ش: هذه إشارة إلى الجواب عما احتج به الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كون الوضوء للصلاة أي لوقت الصلاة وهو المراد بالحديث الأول وهو ما احتج به الشافعي م: (لأن اللام تستعار للوقت، يقال: آتيك لصلاة الظهر أي لوقتها) ش: لأن اللام كثير الاستعمال في الوقت.
ورد ذلك في الكتاب والسنة ومتعارف الناس. أما الكتاب فقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} [مريم: 59] (مريم: الآية 59) ، أي وقت الصلاة، وأما السنة فقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا فأينما أدركتني الصلاة تيممت» أراد وقت الصلاة لأنه فعله وفعله لا يسبقه لأن المدرك هو الوقت لا الصلاة، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن للصلاة أولا وآخرا كوقتها» ، وأما تعارف الناس فيقال: آتيك لصلاة الظهر أي لوقتها، فحينئذ يكون ما(1/675)
ولأن الوقت أقيم مقام الأداء تيسيرا فيدار الحكم عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رواه الشافعي محتملاً، وما رواه الحنفي مفسراً بالوقت فيحمل المحتمل على المفسر، وهذا هو التوفيق بين الحديثين دفعاً للتعارض.
فإن قلت: لم لا ينعكس الحمل. قلت: لأنه يلزم ترجيح المحتمل على المفسر.
م: (ولأن الوقت أقيم مقام الأداء تيسيراً) ش: هذا دليل عقلي تقريره أن الشرع أسقط اعتبار الحدث للحاجة إلى الأداء، والناس يختلفون فيه، فمنهم المطول، ومنهم المقتصر، ومنهم من يرى الأداء في أول الوقت، ومنهم بالعكس، ومنهم من يحتاج إلى تأخيره لمانع منه لبعد الماء منه، ومنهم من يوسوس إلى إعادة الصلاة دفعاً للوسوسة فلذلك جعل الوقت مقام الأداء ليستوي الكل في بقاء [الأداء] تيسيراً للأمر على المأمور، فأدير الحكم على الوقت وسقط اعتبار الحدث، وإذا أقيم شيء مقام شيء آخر يكون المنظور إليه بذلك الشيء فيكون المنظور إليه هنا الوقت فتكون الطهارة باقية ما دام الوقت باقياً، فتقدير الطهارة بالوقت دفعاً للحرج.
فإن قلت: إذا قدرت طهارة كل شخص بأدائه ارتفع الحرج. قلت: هذا ممنوع، لأنه إذ قدر ذلك وفرض الفراغ منه وأوجب عليه وضوء آخر كل ما يصلي من قضاء أو واجب أو نذر في وقته أو مكتوبة أخرى في وقت آخر تحقق الحرج في موضع التخفيف وذلك باطل، ولأن الوقت معلوم ولا يتفاوت والأداء غير معلوم فيكون في تقدير الطهارة به بعض الجهالة.
م: (فيدار الحكم عليه) ش: أي على الوقت وأراد بالحكم جواز الصلاة، ودليل آخر أن الأصول شاهدة لاعتبار الوقت دون فعل الصلاة، لأنا فيها رخصة مقدرة بالوقت وهي المسح على الخفين، ولم نجد رخصة مقدرة بفعل الصلاة.
وقال الطحاوي: [ومذهبنا قوي من جهة النظر وذلك أنا عهدنا للأحداث إما خروج خارج أو خروج وقت، فخروج الخارج معروف، وخروج الوقت وانقضاء المدة حدث في المسح على الخفين، فرجعنا في هذا الحديث المختلف فيه، فجعلناه كالحديث المختلف فيه الذي أجمع عليه ووجد له أصل ولم يجعله كما لم يجمع عليه، ولم نجد له أصلاً لأنها لم يعهد الفراغ من الصلاة حدثا قط] .
وأجاب بعضهم عن الحديث الذي احتج به الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه ضعيف، وقال: اتفق الحفاظ عل ضعف الحديث الذي فيه الوضوء لكل صلاة، حكاه النووي في " المهذب ".
قلت: هذه اللفظة: أعني قوله: وتتوضأ لكل صلاة، معلقة عند البخاري عن عروة في(1/676)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
"صحيحه " وأخرجها الترمذي عن أبي معاوية متصلاً، ثم قال في آخره: حديث حسن صحيح.
وقال ابن رشد في قواعده: وصحح قوم من أهل الحديث هذه الزيادة يعني تتوضأ لكل صلاة، وقال في موضع آخر: صححها أبو عمر بن عبد البر، وذكر البيهقي عن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قيل له روينا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، قال: نعم، قد رويتم ذلك وبه نقول قياسا على سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الوضوء مما خرج من دبر أو ذكر أو فرج ولو كان محفوظاً لكان أحب إلينا من القياس. قلت: يلزم على قياس الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن لا تختص المستحاضة بفرض واحد كالوضوء مما يخرج من أحد السبيلين.
فإن قلت: الفرق أن حديث المستحاضة بعد الفرض موجود قائم.
قلت: فواجب أن لا تصلي بعد ذلك نافلة، ثم إنه خصص العموم وجوز من النوافل ما شاءت، وجعل التقدير لكل صلاة فرض، فكما أضمر ذلك فلزمه أن يضمر الوقت ويقول التقدير لوقت كل صلاة على أنا نقول قد روى ذلك على ما ذكرنا.
فإن قلت: ذكر البيهقي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة» وحكي عن أبي بكر الفقيه أنه قال: أخبر - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أن الله تعالى أمره بالوضوء إذا قام إلى الصلاة لا دخول وقت الصلاة أو خروجه.
قلت: ظاهره متروك بالإجماع بين الفقهاء، وإنما يؤمر بالوضوء من قام إلى الصلاة وهو فرض، ومن قال: بانتقاض طهارتها عند خروج الوقت أو دخوله لا يأمرها بالوضوء عند ذلك، وإنما يقول: طهارتها مقيدة بالوقت على مقتضى ما مر، فإذا خرج الوقت أو دخل على حسب اختلافهم عمل على حكم الحديث السابق.
فإذا أرادت الصلاة بعد ذلك فقد أرادتها وهي محدثة فتؤمر بالوضوء عملاً بذلك الحديث، ونظير هذا الماسح على الخف إذا انقضت مدته فإنه تنقض طهارته بلا خلاف وإن كان لم يقم إلى الصلاة، ولما ألغى الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طهارتها في حق النوافل وإن كان في ذلك مخالفة لطرد هذا الحديث أعني قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة» فلذلك خصه بنفي طهارتها في حق الصلاة كلها ما دام الوقت باقياً عملاً بحديث المستحاضة "تتوضأ لكل صلاة" بإضمار الوقت كما ذكرنا.
1 -(1/677)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فروع: المستحاضة تستوثق بالشد والثلجم وحشو فرجها بقطنة أو خرقة دفعاً للنجاسة أو تقليلاً لها إلا أن تكون صائمة أو يضرها ذلك، «وفي حديث أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لتستثفر بثوب» وهو أن تشد ثوباً تحتجز به تمسك موضع الدم، «وفي حديث حمنة بنت جحش قال: فتلجمي قالت: إنما أشج شجاً» . الحديث رواه أبو داود والترمذي وصححه أحمد.
وفي " المبسوط " و " شرح مختصر الكرخي " للقدوري: قال: فاطمة بنت قيس لم تذكر في المستحاضات، والتي قالت: أشج، هي حمنة لا فاطمة، فالوهم بينهما في موضعين في جعل فاطمة بنت قيس المستحاضة، وفي نسبة شدها وتعصيب جسمها تيسير ولأنه نجس وحدث، فإن غلب الدم وخرج بعد الشد لم يقر في الوقت لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: اعتكفت امرأة من أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكانت ترى الدم الصفرة والطست تحتها وهي تصلي، رواه البخاري، وكان زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - به سلس البول وكان يداويه ما استطاع، فإذا غلبه توضأ ولا يبالي بما أصاب ثوبه، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يصلي يثعب دما، رواه أحمد والدارقطني.
وفي " الذخيرة ": إذا حشت فرجها ومنعته من الخروج لا ينتقض وضوءها في إحدى الروايتين، وفي " الحاوي " قال: لا ينتقض، ولم يحك خلافا.
وفي " المبسوط " و" المحيط " وغيرهما: إذا أصاب ثوبها من ذلك الدم فعليها أن تغسله إن كان مقيداً بأن لا يصيبه مرة أخرى حتى لو لم تغسله وهو أكثر من قدر الدرهم لم يجزها، وإن لم يكن مقيداً بأن كان يصيبها مرة بعد مرة أخرى أجزأها ولا يجب غسله ما دام القدر قائماً، ومثله سلس البول والجرح السائل.
وفي " المحيط ": وقيل: إذا أصابه خارج الصلاة يغسله لأنه قادر على أن يفتتح الصلاة في ثوب طاهر وفي الصلاة لا يمكنه التحرز منه فسقط عنه.
وفي " الحاوي ": الرباط إذا امتنع منه السيلان لا ينتقض الوضوء وأجزأه من الحدث، فإن نشف الدم في الخرقة فهو سائل، وكان محمد بن مقاتل الرازي يقول في الدم ونحوه: عليه غسل ثوبه عند وقت كل صلاة مرة كالوضوء.
وغيره من المشايخ قال: لا يلزمه ذلك، وكذا لا يلزم عندنا إعادة الشد وغسل الدم ولا إبداله ولا الاستنجاء لوقت كل صلاة للحرج. ثم الطهارة إذا وقعت للسيلان لا ينتقض به في الوقت.
وينتقض بحدث آخر عند خروج الوقت، وشرط وقوعها السيلان بأن لا يكون السيلان مقارناً لها أو طارئاً عليها وهو يحتاج إليها لأجله، وعند خروج الوقت يظهر حكم الحدث السابق حتى يغسل التي هو فيها عند خروجه ويتوضأ ويستقبل ولا يبني، ولو كانت نافلة يجب القضاء لصحة(1/678)
وإذا خرج الوقت بطل وضوؤهم واستأنفوا الوضوء لصلاة أخرى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشروع فيها، ولو توضأ لأجل مكتوبة وسال من الأجزاء انتقض، ولو توضأ لهما فانقطع أحدهما فهو على وضوئه ما بقي الوقت. وعلى هذا القروح إن تجدد فيها زيادة بعد الوضوء أو انقطع الدم من بعضها.
م: (وإذا خرج الوقت بطل وضوؤهم واستأنفوا الوضوء لصلاة أخرى) ش: أي إذا خرج وقت صلاة المعذورين بطل وضوؤهم، وإضافة البطلان إلى الخروج مجاز لأنه لا يوصف بذلك فضلاً عن أن يكون حدثا، وإنما الانتقاض بالحدث السابق لكن أثره يظهر عنده، لأن الوقت مانع، فإذا زال أثره ظهر والشرط يقام مقام العلة في حق إضافة الحكم.
وقال: الأكمل: قيل قوله: واستأنفوا الوضوء مستدرك لأن بطلان الوضوء يستلزمه.
قلت: هذا السؤال مع جوابه للسغناقي ولكنه قال في الجواب قال شيخي في جوابه: جاز أن يبطل الوضوء بحق صلاة ولا يبطل بحق صلاة أخرى، ولا يجب عليهم الاستئناف في حق تلك الصلاة كما قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ببطلان طهارة المستحاضة للمكتوبة بعد أدائها وبقاء طهارتها للنوافل وكذلك قوله في التيمم أيضاً، وكما قال بعض أصحابنا في حق المتيمم لصلاة الجنازة، وفي المضطر ببقاء تيممه في حق جنازة أخرى لو حضرت هناك على وجه لو اشتغل بالوضوء تفوته صلاة الجنازة ويبطل في حق غيرها.
وذكر صاحب " الدراية " أيضاً هذا السؤال ثم قال في جوابه: قال مولانا حافظ الدين في جوابه ما قاله الشيخ السغناقي وهو الشيخ عبد العزيز ولكنه لم يذكر من قوله وكما قال أصحابنا إلى آخره، ثم قال الأكمل: وفيه تمحل كما ترى أراد بالتمحل أن الكلام في الوضوء لا في التيمم. قلت: فيما قاله تمحل لأنه نظر في ذلك بما قاله الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الوضوء، وأما التيمم فإنه كالوضوء لأنه خلف عنه قائم مقامه، ثم قال الأكمل: يجوز أن يكون تأكيداً.
قلت: إنما يصح ذلك لو كان في قوله: بطل وضوؤه احتمال لعدم البطلان بوجه من الوجوه، وقال أيضاً: ويجوز أن يكون كالتفسير الأول، ثم علله بعلة لا تجدي، قلت: إنما يصح ذلك لو كان قوله: بطل وضوؤهم احتمالاً أو إبهاماً، وقال أيضاً: ويجوز أن يكون الأول لبيان المذهب والثاني نفي لقول زفر فإنه يقول بقوله إذا دخل الوقت.
قلت: وهذا صادر من غير تدور لأنه لا خلاف في الاستئناف المستلزم للبطلان وإنما الخلاف في أن البطلان بدخول الوقت أو خروجه أو بكليهما على ما يأتي بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى، فكيف يقول بنفي قول زفر وهو لا يقول بالاستئناف حتى ينفي قوله، ولئن سلمنا ما ذكره وأنه لا يحتاج إلى نفي قول زفر بقوله واستأنفوا لأنه خرج بقول زفر بقوله: وقال زفر:(1/679)
وهذا عند أصحابنا الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وقال زفر: استأنفوا إذا دخل الوقت، فإن توضؤوا حين تطلع الشمس أجزأهم حتى يذهب وقت الظهر، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أجزأهم حتى يدخل وقت الظهر، وحاصله أن طهارة المعذور تنتقض بخروج الوقت بالحدث السابق عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
استأنفوا على ما نذكره الآن.
م: (وهذا عند علمائنا الثلاثة) ش: أي بطلان الوضوء بخروج الوقت عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (وقال: زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - استأنفوا) ش: أي وضوءهم م: (إذا دخل الوقت) ش: أي وقت صلاة أخرى م: (فإن توضؤوا حين تطلع الشمس أجزأهم حتى يذهب وقت الظهر) ش: أي فإن توضأ هؤلاء المعذورون وقت طلوع الشمس كفاهم هذا الوضوء إلى خروج وقت الظهر، وأصل هذا أن طهارة هؤلاء تبطل بخروج الوقت عند علمائنا الثلاثة، وعند أبي يوسف تبطل بالدخول أيضاً، وعند زفر لا تبطل بالدخول لا غير على رواية الشيخ الإمام إسماعيل الزاهد وبالدخول والخروج جمعاً على رواية الشيخ الإمام أبي عبد الله الخراجي كما هو قول أبي يوسف ذكر الروايتين عن زفر في " شرح الجامع الكبير " لأبي بكر محمد بن الحسين البخاري المعروف بخواهر زاده، وخواهر زاده ابن [ ... ] القاضي نائب قاضي سمرقند، ولأن سير المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى الأصل المذكور، وإنما قدم هذه الصورة لكون أبي يوسف مع زفر أشار إليه بقوله م: (وهذا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -) ش: أي هذا الذي ذكرنا ذكرنا من بقاء وضوئهم إلى أن يذهب وقت الظهر عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله.
م: (وقال أبو يوسف وزفر - رحمهما الله - أجزأهم حتى يدخل وقت الظهر) ش: أي كفاهم لوجود الدخول عندهما، وإنما ذكرنا هذه الصورة عقيب تلك الصورة إشارة لكون أبي يوسف مع زفر لا يخالفهما فيهما إلا أبو حنيفة ومحمد.
م: (وحاصله) ش: أي حاصل ما ذكرنا من الاختلاف في المسألة المذكورة م: (أن طهارة المعذور تنتقض) ش: محلا رفع لأنها مع اسمها وخبرها أعني قوله: تنتقض خبر المبتدأ أعني قوله: حاصله، م: (بخروج الوقت) ش: أي وقت المكتوبة أي عنده هذا تفسير لقوله: خروج الوقت يعني المراد بخروج الوقت عند الخروج م: (بالحدث السابق عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -) ش: لأن الخروج شرط الانتقاض والعلة هي الحدث السابق، وإنما لم يظهر أثره في الوقت للضرورة، فإذا خرج الوقت زالت الضرورة فظهر أثره، ولهذا لم يجز مسح المستحاضة بعد خروج الوقت على الخفين إذا كان الدم سائلاً وقت الوضوء أو اللبس.(1/680)
وبدخول الوقت عند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبأيهما كان عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفائدة الاختلاف لا تظهر إلا فيمن توضأ قبل الزوال كما ذكرنا أو قبل طلوع الشمس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأكمل: وإنما قال: أي عنده لأن خروج الوقت ليس من مقدور الإنسان فضلاً أن يكون حدثا، فكان الانتقاض بالحدث السابق لكن الوقت مانع، فإذا زال ظهر أثر الحدث فكانت السببية إلى الخروج مجازاً واعترض بأن الانتقاض لو أسند إلى الحدث السابق لما وجب القضاء على ما شرع في التطوع ثم خرج الوقت لأنه ظهر أنه شرع فيه بلا طهارة. قلت: أخذ هذا كله من " الغاية " و" الذخيرة "، وتقدير الجواب ليس هذا بظهور من وجه أيضاً ومن وجه فأظهرنا الاقتصار في القضاء والظهور في حق المسح، وإنما لم يعكس الاقتصار والظهور لما ذكرنا ليكون عملاً بالاحتياط وفي عكسه لا يكون عملاً به.
م: (وبدخول الوقت عند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي تنتقض بدخول الوقت فقط عند زفر م: (وبأيهما كان عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يعني تنتقض بأي شيء كان من الدخول والخروج عنده م: (وفائدة الخلاف لا تظهر إلا فيمن توضأ قبل الزوال كما ذكرنا) ش: يعني ثمرة الاختلاف إنما تظهر في الصورتين، إحداهما: فيمن توضأ قبل الزوال، ثم دخل الوقت لا تنتقض طهارته ويصلي بها الظهر عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - خلافا لأبي يوسف وزفر - رحمهما الله - لوجود الدخول بلا خروج.
والثانية: هي قوله م: (أو قبل طلوع الشمس) ش: أي لو توضأ قبل طلوع الشمس بعد طلوع الفجر ثم طلعت الشمس تنتقض طهارته عندهما لوجود الخروج وكذا عند أبي يوسف لوجود أحد الأمرين خلافاً لزفر لعدم الدخول.
فإن قلت: لم حصرت الفائدة في الصورتين؟ لأن في الأول دخولاً بلا خروج، وفي الثانية خروجا بلا دخول، هذا ظاهر كلام المصنف، وقال المحققون من مشايخنا مثل فخر الإسلام ومن تابعه على قول أبي يوسف: لا تنتقض طهارته بدخول بلا خروج، وإنما تنتقض بخروج بلا دخول كما هو قولهما وفيما إذا توضأت المستحاضة قبل الزوال ودخل وقت الظهر إنما يحتاج إلى الطهارة لأجل الظهر عنده لا لكون طهارتها انتقضت بدخول الوقت بلا طهارة، لأن طهارتها ضرورية ولا ضرورة في تقديم الطهارة على الوقت.
وكذا ذكر فخر الإسلام أيضاً في طرق عن زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضاً، وقال: فظن السائل أن زفر لم يجعل الخروج حدثا بل جعل الدخول حدثا وليس كذلك، بل الصحيح من مذهبه أن شيئاً من ذلك ليس بحدث، وإنما لم تنتقض الطهارة بطلوع الشمس عنده، لأن قيام الوقت جعل عذراً وقد بقيت شبهته حتى لو قضى صلاة الفجر قضاها مع سنتها فكان كمال الخروج بدخول وقت(1/681)
لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن اعتبار الطهارة مع المنافي للحاجة إلى الأداء ولا حاجة قبل الوقت فلا تعتبر. ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الحاجة مقصورة على الوقت فلا تعتبر قبله ولا بعده، ولهما أنه لا بد من تقديم الطهارة على الوقت ليتمكن من الأداء كما دخل الوقت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
آخر، ولم يوجد فبقيت شبهته فصلحت لبقاء حكم العذر تخفيفاً.
وقال السغناقي: وبهذا التقدير يعلم أن العلماء الأربعة كلهم متفقون على أن الحدث السابق إنما يعمل عند خروج الوقت لا غير إلا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - تقديم الطهارة غير معتبر لعدم الحاجة فيجب عليها الوضوء ثانياً بعد خروج الوقت، وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يوجد الخروج من كل وجه ما لم يدخل وقت مكتوبة أخرى، فلذلك يجب عليها الوضوء بعد خول الوقت عنه.
م: (لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن اعتبار الطهارة مع المنافي) ش: وهو سيلان الدم م: (للحاجة إلى الأداء ولا حاجة قبل الوقت فلا تعتبر) ش: أي الطهارة قبل الوقت.
فإن قيل: فغير المعتبر كيف يوصف بالانتقاض عند دخول الوقت. أجيب بأن عدم الاعتبار قبل الوقت إنما هو بالنسبة إلى الوقتية لقيامه مقام الأداء فلا تعتبر قبله وبعده. قلت: هذا السؤال والجواب للسغناقي ذكرهما الأكمل في شرحه.
م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الحاجة) ش: إلى الأداء م: (مقصورة على الوقت فلا تعتبر قبله ولا بعده) ش: أي فلا تعتبر الطهارة قبل الوقت ولا بعد الوقت.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (أنه) ش: أي أن الشأن م: (لا بد من تقديم الطهارة على الوقت ليتمكن من الأداء) ش: لأن الشرع أمر بالصلاة في أول الوقت، ولهذا استغرق جملة الوقت بالصلاة. فيجب أن يتمكن من ذلك ولا يتمكن منه إلا بتقديم الطهارة على الوقت، فلو كان دخول الوقت ناقضاً للطهارة لما انتفع بالتقديم.
فإن قلت: قوله: لا بد من تقديم الطهارة يورث وجوب التقديم، لأن لفظة لا بد تستعمل في الوجوب وليس كذلك. قلت: فيه تسامح، والمضاف محذوف تقديره لا بد من جواز تقديم الطهارة.
م: (كما دخل الوقت) ش: الكاف فيه للمفاجأة، وكلمة ما مصدرية وليست الكاف للتشبيه أي لتفاجئ تمكن الأداء بدخول الوقت، لأن الوقت قائم مقام الأداء وتقديمها على الأداء واجب فكان تقديمها على خلفه وهو وقت الأداء جائز.
ولهذا قال بعضهم على قياس قولهما لو توضأت للعصر قبل العصر جاز أن تصلي العصر(1/682)
وخروج الوقت دليل زوال الحاجة فظهر اعتبار الحدث عنده، والمراد بالوقت وقت المفروضة حتى لو توضأ المعذور لصلاة العيد له أن يصلي الظهر به عندهما وهو الصحيح، لأنها بمنزلة صلاة الضحى، ولو توضأ مرة للظهر في وقته وأخرى فيه للعصر فعندهما ليس له أن يصلي العصر به لانتقاضه بخروج وقت المفروضة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
به، وقال بعضهم: لا يجوز، لأن هذا دخول مشتمل على الخروج وبه تنتقض لا بالدخول، وإليه أشار المصنف بقوله: وعندهما أي عند أبي حنيفة ومحمد ليس له أن يصلي العصر به على ما يجيء عن قريب.
م: (وخروج الوقت دليل زوال الحاجة) ش: يعني أن خروج الوقت يدل على انقضاء الطهارة وانقضاؤها لا يستدعي بقاء الطهارة فنجعل الحدث السابق في انقضاء الطهارة، وأما دخول الوقت فيدل على تحقق الحاجة، وتحقق الحاجة يستدعي ثبوت الطهارة، فكان خروج الوقت الذي لا يستدعي بقاء الطهارة أحق بأن يضاف إليه انتقاض الطهارة من الدخول الذي يستدعي بقاؤها م: (فظهر اعتبار الحدث عنده) ش: أي عند خروج الوقت.
م: (والمراد بالوقت وقت المفروضة) ش: أي المراد بالوقت الذي اعتبر خروجه ودخوله وقت الصلاة المفروضة م: (حتى لو توضأ المعذور لصلاة العيد له أن يصلي الظهر به) ش: أي بذلك الوضوء وليس هذا بإضمار قبل الذكر، لأن قوله: توضأ يدل على الوضوء، كما في قَوْله تَعَالَى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] (المائدة: الآية 8) ، م: (عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد، وإنما خصهما بالذكر مع أن الحكم عند الكل كذلك لما أن الشبهة ترد على قولهما حيث جوز تقديم الوضوء على الوقت، وما قالا بالانتقاض بالدخول م: (وهو الصحيح) ش: احترز به عن قول بعضهم أنه ليس له أن يصلي الظهر به لأن خروج وقت صلاة واجبة لأن صلاة العيد واجبة م: (لأنها) ش: أي لأن صلاة العيد.
وإنما ذكر الضمير إما باعتبار المذكور، وإما باعتبار لفظ العيد م: (بمنزلة صلاة الضحى) ش: من حيث إنها ليست بمفروضة. وقال فخر الإسلام البزدوي في " شرح الجامع الصغير ": فإن توضأ صاحب العذر يوم العيد بعد طلوع الشمس لصلاة العيد هل يصلي به الظهر؟ فقد قيل: ليس له ذلك، ثم قال: ولا رواية فيه، وقيل: بل هي صلاة الضحى في الأصل فأشبه سائر الأيام.
م: (ولو توضأ مرة للظهر في وقته وأخرى فيه) ش: أي توضأ مرة أخرى في وقت الظهر م: (للعصر) ش: أي لأجل صلاة العصر م: (فعندهما) ش: أي فعند أبي حنيفة ومحمد م: (ليس له أن يصلي العصر به) ش: أي بذلك الوضوء م: (لانتقاضه) ش: أي لانتقاض ذلك الوضوء م: (بخروج وقت المفروضة) ش: وهو صلاة الظهر.(1/683)
والمستحاضة هي التي لا يمضي عليها وقت صلاة إلا والحدث الذي ابتليت به يوجد فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: ما الفائدة في وضع المسألة في وقت الظهر؟ قلت: لتبيين أنه ليس بين وقت العصر وبين وقت الظهر وقت مهمل، كما هو مذهب الحسن بن زياد فإنه روى عن أبي حنيفة أنه إذا صار الظل قائما يخرج وقت الظهر ولا يدخل وقت العصر وهو الذي تسميته بين الصلاتين وليس هذا بصحيح.
م: (والمستحاضة هي التي لا يمضي عليها وقت الصلاة إلا والحدث الذي ابتليت به يوجد فيه) ش: أي في الوقت هذا تعريف المستحاضة بعد ذكر أحكامها، وكان ينبغي تقديم تعريفها على بيان أحكامها ثم هذا الحد في حق الدوام والبقاء، وأما اشتراط استيعاب الوقت بالسيلان لثبوت العذر ليس بشرط عند المصنف، وهو الذي ذهب إليه صاحب " البدائع " و" فتاوى قاضي خان " و" المفيد " و" المزيد " و" الينابيع "، وإنما قلنا هكذا لئلا يرد عليه ما لو رأت الدم في أول الوقت ثم انقطع فتوضأت على الانقطاع ودام الانقطاع حتى خرج الوقت فإنه لا تنقض طهارتها، ولو لم يؤول كلامه إلى ما ذكرنا لما كانت طهارة المستحاضة تنتقض بخروج الوقت فلا بد من العناية المذكورة لدفع هذا الإيراد.
وذكر في " الذخيرة " و" فتاوى المرغيناني " و" الواقعات و" الحاوي " و" خير مطلوب " و" جامع الخلاطي " و" المنافع " و" الحواشي " أنه يشترط استيعاب الوقت بالسيلان فلا يثبت حكم الاستحاضة حتى يستمر الدم في وقت صلاة كامل. وذكر في " الذخيرة ": ولو سال الدم في وقت صلاة فتوضأت وصلت ثم خرج الوقت ودخل وقت صلاة أخرى، وانقطع دمها ودام الانقطاع إلى آخر الوقت توضأت وأعادت تلك الصلاة، وإن لم ينقطع في وقت الصلاة الثانية حتى يخرج الوقت لا تعيدها لأن في الوجه الأول لم يستوعب السيلان وقت صلاة، فلم يحكم باستحاضتها وفي الوجه الثاني تستوعبه فيحكم باستحاضتها.
وقال تاج الشريعة في حد المصنف للاستحاضة: هذا حد المستحاضة بقاء، ولم يتعرض إلى شيء غير ذلك، وكذلك السغناقي وصاحب " الدراية "، ولم يتعرض إليه إلا الأترازي فإنه قال: هذا الذي قاله صاحب " الهداية " فيه نظر عندي، لأن التعريف ينبغي أن يكون جامعا ومانعا وهو ليس بجامع، لأن حقيقة المستحاضة لا يوجد بهذا القدر، قال: حتى يوجد الاستغراق في الابتداء وليس بمانع لدخول الحائض تحته، لأن الحائض قد تكون بهذه المثابة بأن لا يمضي عليها وقت صلاة إلا والحدث الذي ابتليت به يوجد فيه.
قلت: نظره ضعيف، لأنه إنما يلزم ما ذكره لو لم يحمل كلامه على ما بعد الثبوت أي بعد ما ثبت أنها مستحاضة، لأنا ذكرنا أن حده الذي ذكره في حق الدوام والبقاء، وكذا قال الإمام حميد الدين الضرير في "شرحه " هذا حد المستحاضة بقاء، أما في قوله: مستحاضة ابتداء، فالشرط أن(1/684)
وكذا كل من هو في معناها وهو من ذكرناه ومن به استطلاق بطن وانفلات ريح، لأن الضرورة بهذا تتحقق وهي تعم الكل. والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يكون الحدث مستغرقا لجميع الوقت حتى لو لم تستغرق كل الوقت لا تكون مستحاضة، وإنما استغرق مدة لا تحتاج إلى الاستغراق بعد ذلك بل وجوده في الوقت مرة كاف، وقال الأترازي وبعد أن قال فيه نظر، وهذا الذي قال الإمام حميد الدين لأنه قال: هذا حد المستحاضة بقاء.. إلخ، وذلك يقتضي تعدد حقيقة الشيء وهو فاسد، وأخذ الأكمل منه فقال: يلزم اختلاف حقيقة الشيء بالنسبة إلى الحالتين والحقائق لا تختلف.
قلت: هذا أعجب من العجب لأن عدم وجواز اختلاف الحقائق بالنظر إلى ذات الشيء، وأما بالنظر إلى صفاته فلا مانع منه، لأن ذات المستحاضة من سال دمها في غير أوقات معلومة، ومن غير عرق الحيض.
وأما صفتها التي هي التعريف الشرعي فهو الذي ذكره المصنف مع قيد في الدوام والبقاء، وأما كونه مستحاضة ابتداء فله شرط آخر على ما ذكرناه، ثم طول الأترازي في حد الاستحاضة، وادعى أنه وقع في خاطره من الأنوار الربانية والأسرار الإلهية، وكذلك طول الأكمل فيه، وقال ولعل الصواب أن يقال في تعريفها إلى آخر ما ذكره، وطوينا ذكرهما خوفاً من التطويل لما فيهما من التعسف.
م: (وكذلك كل من هو في معناها) ش: أي في معنى المستحاضة أن يكون حكمه حكم المستحاضة م: (وهو من ذكرناه) ش: أراد به قوله: ومن به سلس البول الرعاف الدائم والجرح الذي لا يرقأ م: (ومن به استطلاق بطن) ش: عطف على قوله: من ذكرناه، واستطلاق البطن عبارة عن الإسهال.
وقال الجوهري: استطلاق البطن فيه م: (وانفلات ريح) ش: عطف على ما قبله، والانفلات خروج الشيء فلتة أي بغتة، كذا قاله المطرزي م: (لأن الضرورة بهذا) ش: أي بما ذكر من الانفلات أو بما ذكر من الأحداث م: (تتحقق وهي) ش: أي الضرورة م: (تعم الكل والله أعلم) ش: أي تشمل كل ما ذكر فيكون حكم الكل حكم المستحاضة، ويعرف المعذور بمن حصل به دوام حدث وقت صلاة كاملة ثم لا يخلو عنه منذ توضأ فيه.(1/685)
فصل في النفاس
والنفاس هو الدم الخارج عقيب الولادة؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في النفاس] [تعريف النفاس]
م: (فصل في النفاس) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام النفاس، أخره عن الحيض والاستحاضة لقلة وقوعه، والنفس بكسر النون ولادة المرأة، مصدر، سمي به الدم كما يسمى بالحيض ذكره المطرزي وهو مأخوذ من تنفس الرحم بخروج النفس الذي هو الدم، ومنه قول إبراهيم النخعي ما ليس له نفس سائلة إذا مات في الماء لا يفسده، أي وليس له دم سائل وهو عربي فصيح وفي الصحاح جعله حديثا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنه قول الشاعر:
تسيل على حد السيول نفسوسنا ... وليس على غير السيوف تسيل
والنفس ذات الشيء ومنه جاء زيد نفسه، في التأكيد، فسمي المولود نفسا، ومنه ما من نفس منفوسة، والنفس الروح، يقال خرجت نفسه، أي روحه، والنفس العين، يقال أصابته نفس أي عين، والنافس العائن، والنفس قدر دبغة يدبغ بها الأديم من قرظ وغيره، والنفس بالتحريك واحد الأنفاس، والنفس الجرعة.
وفي " المغرب ": النفاس مصدر نفست المرأة بضم النون وفتحها إذا ولدت فهي نفساء وهن نفاس، وقول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إن أسماء نفست أي حاضت، والضم فيها خطأ. وفي " الدراية " وأما اشتقاقه من تنفس الرحم أو خروج النفس بمعنى الولد فليس بذلك، وفي " المجتبى " مشتق من تنفس الرحم أو خروج النفس أو الولادة على ما قال الشاعر:
إذا نفس المولود من آل خالد ... بدا كرم للناظرين قريب
وأما النفساء فهي الوالدة، قال الجوهري: ليس في الكلام من فعلاء يجمع على فعال غير نفساء وعشراء وهي الحامل من البهائم.
قلت: ويجمع أيضا على نفسوان بضم النون. وقال صاحب " المطالع ": وبالفتح أيضاً، ويجمع أيضاً على نفس بضم النون، والفاء ويقال في الواحد: نفسى مثل يسرى نفسى بفتح النون أيضاً وامرأتان نفساوان:
م: (والنفاس هو الدم الخارج عقيب الولادة) ش: الواو في - والنفاس - واو الاستفتاح كذا سمعته من أساتذتي الكبار، ولم أره في الكتب ولا مانع من كونها للعطف، وقد يعترض شيء بين المعطوف والمعطوف عليه، وهذا الذي ذكره المصنف هو حد النفاس، اصطلاحاً قول: عقيب الولادة، وفي بعض النسخ - عقيب الولد - وفي بعضها - هو الدم الخارج يعقب الولد -(1/686)
لأنه مأخوذ من تنفس الرحم بالدم أو من خروج النفس بمعنى الولد، أو بمعنى الدم والدم الذي تراه الحامل ابتداء أو حال ولادتها قبل خروج الولد أو حال الحبل استحاضة وإن كان ممتدا. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حيض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأنه مأخوذ من تنفس الرحم بالدم أو من خروج النفس بمعنى الولد، أو بمعنى الدم والدم الذي تراه الحامل ابتداء أو حال ولادتها قبل خروج الولد أو حال الحبل استحاضة وإن كان ممتدا. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حيض
وهذه الجملة صف الدم لأنه لم يرد به تفسير معين فهو في معنى النكرة قاله الأكمل. قلت: إنما قال هكذا لدفع قول من قال لأن الدم معرف بالألف واللام، والجملة لا تكون صفة للمعرف.
م: (لأنه) ش: أي لأن النفاس م: (مأخوذ من تنفس الرحم بالدم أو من خروج النفس) ش: بالسكون م: (بمعنى الولد أو بمعنى الدم) ش: وقد ذكرنا هذا عن قريب م: (والدم الذي تراه الحامل ابتداء) ش: أي قبل خروج الولد م: (أو حال ولادتها قبل خروج الولد أو حال الحبل استحاضة) ش: وليس بحيض.
م: (وإن كان ممتدا) ش: أي وإن بلغ نصاب الحيض وهو ثلاثة أيام فليس بحيض، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والأوزاعي وعطاء ومحمد بن المنكدر وجابر بن زيد والشعبي ومكحول والزهري والحكم وحماد والثوري وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيض) ش: وهو قوله الأصح، وبه قال قتادة ومالك والليث، وعن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله - إنه دم فاسد - وفي " شرح الوجيز ": ما تراه الحامل على ترتيب الحيض في القديم هو دم فاسد أي استحاضة، وفي الجديد هو حيض ولا فرق على القولين بين ما تراه قبل حركة الحمل أو بعدها، وقيل القولان فيما بعد حركة الحمل أما قبل حركته فهي كالحبالى وفق الخلية، والذي يخرج مع الولد فيه وجهان:
أحدهما: أنه نفاس، والثاني: أنه حيض. وفي " شرح الهداية " لأبي الخطاب ما تراه قبل الوضع باليومين والثلاثة نفاس تترك له الصلاة والصوم وبه قال إسحاق. وقال الحسن والأوزاعي: دم المطلق المتتابع نفاس وما قبله فاسد، وإن خرج بعض الولد فالدم قبل انفصاله نفاس عند أحمد وإن قل، وإن ألقته مضغة أو علقة فليس بنفاس، وفي المضغة عنه روايتان إذا لم يستبن بعض خلقه، وعندنا إن خرج أكثر الولد يكون نفاساً وإلا فلا. وفي " المفيد ": والنفاس يثبت بخروج أقل الولد عند أبي يوسف وعند محمد بخروج أكثره، وكذا إن انقطع الولد منها وخرج فهي نفساء، وخروج أكثره كخروج أقله، وعند محمد وزفر: لا تكون نفساء والسقط إن استبان بعض خلقه تكون به نفساء على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى.
وقالت الشافعية: في " شرح المهذب " إن وضعت لحما لم يتصور بعد صورة آدمي والقوابل قلن: إن لحم آدمي يثبت حكم النفاس، ولو شرب دواء فأسقطت جنينا ميتا حتى صارت نفساء لا تقضي صلاة مدة نفاسها، وإن كانت عاصية عندهم على الأصح ذكره في " شرح المهذب " للنووي وهو ينقض قاعدتهم في منع الرخصة بالمعصية.(1/687)
اعتبارا بالنفاس إذ هما جميعا من الرحم، ولنا أن بالحبل ينسد فم الرحم كذا العادة والنفاس بعد انفتاحه بخروج الولد، ولهذا كان نفاسا بعد خروج بعض الولد فيما يروى عن أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - لأنه ينفتح فيتنفس به،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (اعتباراً بالنفاس) ش: أي الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اعتبر ما تراه الحامل حيضا اعتبارا بالنفاس يعني أن بقاء الولد في البطن لا يمنع كون الدم نفاسا، ولهذا يكون المرئي بين الولدين نفاسا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف فلا يمنع كونه حيضا م: (إذ هما جميعا من الرحم) ش: كلمة إذ للتعليل أي لأن الدم الذي تراه الحامل ودم النفاس كلاهما من الرحم والدم من الرحم حيض.
م: (ولنا أن بالحبل ينسد فم الرحم) ش: حفظا للولد، لأن النقب من السفل فلا يخرج مع وجود الانسداد م: (كذا العادة) ش: أي كذا عادة الله جرت بذلك لئلا يترك ما فيه م: (والنفاس بعد انفتاحه) ش: أي بعد انفتاح فم الرحم م: (بخروج الولد) ش: هذا جواب عن اعتبار الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الحيض بالنفاس م: (ولهذا) ش: أي ولكون النفاس بعد انفتاح فم الرحم بخروج الولد م: (كان نفاسا بعد خروج بعض الولد) ش: ولهذا كان ابتداء النفاس من خروج بعض الولد م: (فيما يروى عن أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله) ش: رواه المعلى عن أبي حنيفة وبه قال أحمد، وفي رواية خلف عن أبي يوسف عن أبي حنيفة إذا خرج أكثره، وعن محمد مثله، وعنه كله. واختار القدوري الأكثر حيث قال وما تراه الحامل حال ولادتها قبل خروج أكثر الولد استحاضة، وروى هشام عن محمد: بعد خروج الرأس ونصف البدن أو الرجلين وأكثر من نصف البدن، ولأجل هذه الاختلافات أبهم المصنف البعض.
م: (لأنه) ش: أي في فم الرحم م: (ينفتح فيتنفس به) ش: أي بالدم، ولنا في هذا الباب أحاديث وأخبار، منها «حدث سالم عن أبيه وهو ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسكها وإن شاء طلقها قبل أن يمس» ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق بها النساء، متفق عليه.
ومنها حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ورفعه أنه قال في سبايا أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة» ، رواه أبو داود.(1/688)
والسقط الذي استبان بعض خلقه ولد حتى تصير المرأة به نفساء وتصير الأمة أم ولد به، وكذا العدة تنقضي به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنها حديث رويفع بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يحل لأحد أن يسقي ماءه زرع غيره ولا يقع على أمة حتى تحيض أو تتبين حملها» . رواه أحمد، فجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجود الحيض علماً على براءة الرحم من الحبل في الحديثين، ولو جاز اجتماعهما لم يكن دليلاً على إبقائه، ولو كان بعد الاستبراء بحيض احتمال الحل لم يحل وطؤها للاحتياط في أمر الإبضاع.
ومن الأخبار ما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: "إن الله تعالى رفع الحيض من الحبل وجعل الدم رزقا للولد "، رواهما أبو حفص بن شاهين، وما روى الأرقم والدارقطني بإسنادهما عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في الحامل ترى الدم فقالت الحامل لا تحيض وتغتسل وتصلي.
وقولها: - تغتسل - استحباب لكونها مستحاضة ولا يعرف عن غيرهم خلافه إلا عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فإنه قد ثبت عنها رواية أخرى أنها قالت: الحامل لا تصليِ، وما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يدل أن الحائض قد تحبل ونحن نقول به، ولكنه يقطع حيضها ويدفعه، والخلاف في طرآن الحيض على الحبل، ولهذا لم يكن الذي تراه الحامل قبل الوضع حيضاً ولا نفاساً عند جمهور الشافعية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هكذا ذكره في العدة والخلاطي منهما لا تنقضي به العدة إلا في صورة غريبة في أحد الوجهين أن من طلق الحامل ثم وطئها بشبهة وجبت العدة في القول الذي لا تتداخل العدتان، فلو حاضت وهي حامل تنقضي العدة للشبهة.
[السقط الذي استبان بعض خلقه]
م: (والسقط) ش: بالحركات الثلاث في السين م: (الذي استبان) ش: أي ظهر م: (بعض خلفه ولد) ش: وارتفاع ولد على أنه خبر للمبتدأ، أعني قوله - والسقط - وبعض خلقه كالأصبع والشعر والظفر م: (حتى تصير المرأة به) ش: أي بالسقط م: (نفساء وتصير الأمة أم ولد به وكذا العدة تنقضي به) ش: أما في أمومية الولد إذا وجد الدعوة من المولى.
وأما انقضاء العدة ففي تعليق الطلاق بالولادة لأنه ولد ولأنه ناقص الخلقة، ونقصان الخلقة لا يمنع ثبوت أحكام الولد كما لو ولدت ولداً ليس له بعض أطرافه، فإن لم يظهر شيء من خلقه فلا نفاس لأن هذه علقة أو مضغة فلم يكن الدم الذي عنه نفاساً، ولكن أن أمكن جعله المرئي من الحيض وسمي الدم حيضاً بأن تقدمه طهر تام جعل حيضها إن كان ثلاثة أيام وإلا فهو استحاضة.(1/689)
وأقل النفاس لا حد له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم المسألة على وجهين، إما أن ترى الدم قبل إسقاط السقط أو بعده، فإن رأت قبله وقد استبان بعض خلقه ما تركت من الصلاة والصوم لأنه يتبين أنها كانت حاملاً، وإن لم يستبين خلقه فإن كانت رأت قبل السقط ثلاثة أيام وقد وافق أيام عادتها أو كان مرئياً عقيب طهر صحيح فهو حيض لأنه يتبين أنها لم تكن حاملا، وما رأته بعد السقط استحاضة، وإن رأت قبل السقط يوماً أو يومين تكمل ثلاث أيام مما رأت بعد السقط والباقي استحاضة.
وأما إذا رأت الدم بعد إسقاط السقط ولم تر ما قبله فإن أمكن جعله حيضاً يجعل حيضاً وإلا فهو استحاضة، وإن كان السقط لا يدرى بأنه كان مستبين الخلقة أو لم يكن بأن السقط في المخرج فهو على وجهين.
أما إن رأت الدم قبل إسقاط السقط أو بعده فإن رأت بعده واستمر الدم فهي مبتدأة في النفاس وصاحبة عادة في الحيض والطهر كان عادتها في الحيض عشرة وفي الطهر عشرين فنقول على تقدير السقط مستبين الخلق هي نفساء ونفاسها يكون أربعين يوما، وعلى تقدير أن السقط لم يكن مستبين الخلق لا تكون نفساء ويكون عشرة أيام عقيب الإسقاط حيضاً، وإذا وافق عادتها أو كان ذلك عقيب طهر صحيح فتترك هي الصلاة عقيب الإسقاط عشرة أيام بيقين، لأنها إما حائض أو نفساء، لأن السقط إن كان مستبين الخلق فهي نفساء وإلا فهي حائض، فلم تجب عليها الصلاة بكل حال، ثم تغتسل وتصلي عشرين بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك لتردد حالها فيه بين الحيض والنفاس ثم تترك عشرة أيام بيقين، لأن فيها إما حائض أو نفساء ثم تغتسل لتمام عدة النفاس أو الحيض.
فإن رأت الدم قبل الإسقاط تنظر إن رأت ثلاثة أيام دما قدر ما يتم به حيضها لا تدع الصلاة فيما رأته قبل الإسقاط بكل حال، لأنه إن كان السقط مستبين الخلق لم يكن ما رأته قبله حيضاً، وإن لم يكن كان حيضا فتردد حالها بين الطهر والحيض فلا تترك الصلاة بالشك.
ولو رأت قبل الإسقاط عشرة دما ثم أسقطت، صلت تلك العشرة بالوضوء ثم اغتسلت وصلت بعد السقط عشرين يوماً بالوضوء بالشك لتردد حالها فيه بين الطهر والنفاس، ثم تدع الصلاة عشرة بيقين لأنها فيها إما حائض أو نفساء ثم تغتسل وتصلي عشرين يوما بالوضوء بالشك لتردد حالها فيه بين الطهر والنفاس، ثم تغتسل وتصلي عشرة لتردد حالها فيها بين الطهر والحيض، ثم تغتسل وهكذا دأبها أن تغتسل في كل وقت لتوهم أنه وقت خروجها من الحيض من الحيض أو النفاس.
[أقل النفاس وأكثره]
م: (وأقل النفاس لا حد له) ش: وهو قول أكثر أهل العلم منهم عطاء والشعبي ومالك(1/690)
لأن تقدم الولد علم على الخروج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والشافعي وأحمد وإسحاق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قال الثوري: معنى قولهم - لا حد لأقله - أنه لا يتقيد بساعة ولا بنصفها بل يكون مجرد حجة، وقال أما إطلاق جماعة من أصحابنا أن أقله ساعة ليس معناه الساعة التي هي جزء من اثني عشر جزءا من النهار، بل المراد اللحظة فيما ذكره الجمهور هذا هو الصحيح، وحكي أبو ثور عن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن أقله ساعة، وكذا وقع في بعض نسخ المزني وأشار ابن المنذر إلى أن للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في ذلك قولين. وقال الثوري أقله ثلاثة أيام كأقل الحيض.
وقال المزني: أقله أربعة أيام كأقل الحيض أربع مرات. وروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن أقله خمسة وعشرون يوماً، ذكره أبو موسى في "مختصره "، قال وليس المراد به أنه إذا انقطع دونها لا يكون نفاسا بل المراد أنه إذا وقعت حاجة إلى نصب العادة في النفاس لا ينقص عن ذلك إذا كان عادتها في الطهر خمسة عشر يوما، إذ لو نصب لها دون ذلك أدى إلى نقص العادة فمن أصله أن الدم إذا كان محيطاً بطرفي الأربعين المتخلل بينها لا يكون فاصلاً طال الطهر أو قصر حتى لو رأت ساعة دما وأربعين يوماً إلا ساعتين طهراً ثم ساعة كان الأربعون يوما نفاسا عنده، وعندهما إن لم يكن الطهر خمسة عشر يوماً فكذلك، وكان خمسة عشر يوما فصاعدا يكون الأول نفاسا والآخر حيضا إن أمكن ثلاثة أيام وإلا كان استحاضة وهو رواية ابن المبارك عنه.
وعن أبي يوسف أنه قدر أقله بأحد عشر يوماً ليكون أكثر من أكثر الحيض في حق الأخبار بانقضاء العدة، أما لو انقطع دون ذلك فلا خلاف أنه نفاس. وذكر شيخ الإسلام في "مبسوطه " اتفق أصحابنا أن أقل مدة النفاس ما يوجد، فإنها كما ولدت إذا رأت الدم ساعة ثم انقطع عنها الدم فإنها تصوم وتصلي فكان ما رأت نفاساً لا خلاف في هذا بين أصحابنا، إنما الخلاف فيما إذا وجب اعتبار أقل النفاس في انقضاء العدة بأن قال لها إذا ولدت فأنت طالق، فقالت انقضت عدتي أي مقدار [ما] يعتبر لأقل النفاس مع ثلاث حِيض عند أبي حنيفة يعتبر أقله بخمسة وعشرين يوماً، وعند أبي يوسف بأحد عشر يوما، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بساعة. وأما في حق الصوم والصلاة فأقله ما يوجد. ولو ولدت امرأة ولدا ولم تر دما فعند أبي حنيفة وزفر هي نفساء وعليها الغسل احتياطا لأن خروج الولد لا يخلو عن قليل الدم ظاهراً فيحتاط في إيجاب الغسل، وأكثر المشايخ أخذوا بقول أبي حنيفة وبه كان يفتي الصدر الشهيد وهو الأصح عند مالك والشافعي - رحمهما الله - وفي رواية الحسن عن أبي يوسف هي طاهرة ذكره في "إملائه" فلا غسل عليها لعدم الدم، هكذا نقل عن محمد وبعضهم أخذوا بقوله، وفي " المفيد " و" الحاوي " هو الصحيح.
م: (لأن تقدم الولد علم) ش: أي أمارة ظاهرة م: (على الخروج) ش: أي على خروج الدم م:(1/691)
من الرحم، فأغنى عن امتداد ما جعل علما عليه بخلاف الحيض
وأكثره أربعون يوما، والزائد عليه استحاضة، لحديث أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وقت للنفساء أربعين يوما»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(من الرحم فأغنى) ش: أي تقدمه م: (عن امتداد ما جعل علما عليه بخلاف الحيض) ش: هكذا وقع في بعض النسخ بإضافة امتداد إلى قوله - ما جعل كلمة موصولة - وقوله بخلف الحيض جملة وقعت حالا من قوله - علما - والنتيجة الصحيحة هكذا عن امتداد جعل علما عليه بخلاف الحيض، فقوله - عن امتداد - بالتنوين، أي عن امتداد دم، وقوله - جعل علما - جملة وقعت صفة لقوله - امتداد -، و (جعل) على صيغة المجهول و (علماً) نصب على أنه مفعول بأن يجعل قوله - عليه - أي على خروج الدم من الرحم يعني لا يشترط الامتداد في النفاس لأن خروج الولد عن ذلك بخلاف الحيض، حيث يشترط فيه امتداد الدم ثلاثة أيام شرعا ليعلم بذلك أن الدم من الرحم، إذ لا دليل على كونه من الرحم إلا بالامتداد.
م: (وأكثره) ش: أي أكثر النفاس م: (أربعون يوماً) ش: وبه قال الثوري وابن المبارك وأحمد وأبو عبيد وإسحاق بن راهويه، وهو قول أكثر أهل العلم وحكى الليث بن سعد عن بعض أهل العلم أنه سبعون يوماً، وفي " المحيط " وهو قول مالك ولا أصل له.
وفي " البدائع " عن مالك والشافعي - رحمهما الله - ستون، وذكر الترمذي عن الشافعي أربعين، قال ابن القاسم: ثم رجع مالك فقال تسأل النساء عن ذلك فأحال على عادتهن، وعن الحسن البصري: خمسون، وعن الأوزاعي من الغلام خمسة وثلاثون، وعنه ثلاثون، ومن الجارية أربعون، وعن الضحك أربعة عشر يوماً. م: (والزائد عليه) ش: على الأربعين م: (استحاضة) ش: كالزائد في الحيض على عشرة أيام م: (لحديث أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقت للنفساء أربعين يوماً» ش: هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه فرواه أبو داود في "سننه " عن أحمد بن يونس عن زهير عن علي بن عبد الأعلى عن سهل عن مسة عن أم سلمة: «كانت النساء على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً وأربعين ليلة وكنا نطلي على وجوهنا الورس يعني من الكلف» ، ورواه الحاكم في "مستدركه "، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ورواه الدارقطني والبيهقي في "سننهما "، وقال الخطابي: وحديث مسة أثنى عليه محمد بن إسماعيل، وقال عبد الحق في "أحكامه " أحاديث هذا الباب معلولة وأحسنها(1/692)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حديث مسة الأزدية ولا يلتفت إلى كلام ابن القطان حيث قال: وحديث مسة معلول، لأن مسة لا يعرف حالها ولا عينها، ولا تعرف في غير هذا الحديث ولا إلى كلام ابن حبان في كتاب الضعفاء أن كثير بن زياد يروي الأشياء المقلوبات فاستحق مجانبة ما انفرد به من الروايات، لأن البخاري أفتى على هذا الحديث، وقال: مسة هذه الأزدية وكثير بن زياد ثقة، وكذا قال ابن معين: ثقة.
قلت: كثير بن زياد في رواية أخرى لأبي داود حدثنا الحسن بن يحيى قال حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنا عبد الله بن المبارك عن يونس بن نافع عن كثير بن زياد أبي سهل قال حدثتني الأزدية قالت: "حججت فدخلت على أم سلمة فقلت يا أم المؤمنين إن سمرة بن جندب يأمر النساء يقضين صلاة المحيض فقالت لا يقضين، كانت المرأة من نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقضاء صلاة النفاس ".
فإن قلت: أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن منهن نفساء معه إلا خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ونكاحها كان قبل البعثة فلا معنى لقولها قد كانت المرأة.. إلخ. قلت: أرادت بنسائه من غير أزواجه من بنات، وقريبات وسرية عارية. ومسة بضم الميم وتشديد السين المهملة وتكنى أم بسة بفتح الباء الموحدة. قوله: على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي في زمانه وأيامه. قوله - بعد نفاسها - أي بعد ولادتها. قوله - وكنا نطلي - من طلت الشيء بالدهن وغيره طليا وتطليت به، فأطليت به.
والورس بفتح الواو وسكون الراء في آخره سين مهملة نبت يكون باليمن يخرج على الرمث بين الشتاء والصيف يتخذ منه الحمرة للوجه.
وقال ابن الورس: نبت أصفر يصبغ به. والرمث بكسر الراء وسكون الميم وفي آخره ثاء مثلثة يرى في مراعي الإبل وهو من الحمض بفتح الحاء المهملة وسكون الميم وفي آخره ضاد معجمة وهو من النبات وهو للإبل كالفاكهة للإنسان. قوله - كالكلف - بفتح الكاف واللام وهو شيء يعلو الوجه كالسمسم وهو لون بين السواد والحمرة، وروي في هذا الباب أحاديث أخر: منها ما رواه ابن ماجه بإسناده عن أنس: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقت للنفساء أربعين يوماً إلا إن ترى الطهر قبل ذلك» ، ورواه الدارقطني في "سننه " ثم قال: لم يروه عن حميد غير سلام بن سليم وهو ضعيف.
ومنها ما رواه الحاكم في "مستدركه " عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص قال: «وقت(1/693)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للنساء في نفاسهن أربعين يوماً» وهو مرسل لأن الحسن لم يسمع من عثمان بن أبي العاص.
ومنها ما رواه الحاكم أيضاً عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تنتظر النفساء أربعين ليلة، فإذا رأت الطهر قبل ذلك فهي طاهرة، وإن جاوزت الأربعين فهي بمنزلة المستحاضة تغتسل وتصلي، فإن غلبها الدم توضأ لكل صلاة» ، رواه الدارقطني أيضاً، وقال: عمرو بن الحصين وابن علاثة متروكان ضعيفان وهما من رواة هذا الحديث.
ومنهما حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجه الدارقطني: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقت للنساء في نفاسهن أربعين يوماً» وأخرجه ابن حبان في " كتاب الضعفاء "، قالت: «وقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للنفساء أربعين يوما إلا أن ترى الطهر فتغتسل وتصلي، ولا يقربها زوجها في الأربعين» ، وفي إسناده عطاء بن عجلان، وهو كوفي ضعيف.
ومنها حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه الطبراني في "الأوسط " قال: «وقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين يوماً» .
ومنها حديث أبي الدرداء وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرجه ابن عدي في " الكامل " قالا قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تنتظر النفساء أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك، فإن بلغت أربعين يوماً ولم تر الطهر فلتغسل وهي بمنزلة المستحاضة» ، وفي إسناده العلاء بن كثير، [وهو] ضعيف.(1/694)
وهو حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اعتباره الستين،
وإن جاوز الدم الأربعين وكانت قد ولدت قبل ذلك ولها عادة في النفاس ردت إلى أيام عادتها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهذه الأحاديث يسند بعضها بعضا وهي حجة على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن وافقه من أن أكثر النفاس ستون يوماً، وعلى كل من قال غير الأربعين، وحكى ابن المنذر مثل هذا عن عمر وابن عباس وأنس وعثمان بن أبي العاص وعائذ بن عمرو وأم سلمة، ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم.
وقال أبو عبيد وعلى هذا جماعة المسلمين، وقال إسحاق هو السنة المجمع عليها ولا يصح في مذهب من جعله إلى شهرين نسبة، وإنما يروى عن بعض التابعين، وقال الطحاوي ولم يقل بالستين أحد من الصحابة، وإنما قاله بعض من بعدهم، وروي أيضاً مثل مذهبنا عن أبي الدرداء [ ... ] وأنس وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. م: (وهو) ش: أي حديث أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - م: (حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اعتباره) ش: أي في اعتبار النفاس م: (الستين) ش: يوماً وعلى من ذهب إلى غيره أيضاً، وقال النووي تضعيف حديث أم سلمة مردود، والحديث جيد، وبقية الأحاديث ضعفها البيهقي. قلت: قد قلنا إن بعضها يشد بعضاً فلا يفيد قوله ذلك.
م: (وإن جاوز الدم الأربعين وكانت) ش: أي والحال أنها قد كانت م: (وقد ولدت قبل ذلك ولها عادة) ش: أي والحال أن لها عادة معينة م: (في النفاس ردت إلى أيام عادتها) ش: فإن كانت عادتها في النفاس عشرين أو ثلاثين أو خمسة وعشرين فرأت أكثر من عادتها، فإن لم تجاوز الأربعين فالكل نفاس.
وإن جاوزت الأربعين بأن رأت خمسة وأربعين فنفاسها ما كانت عادتها، والباقي استحاضة سواء كانت ختم بعروقها بالدم أو بالطهر إذا كان بعدهم عند أبي يوسف، وعند محمد إن ختم بعروقها بالدم فكذلك وإن ختمها بالطهر فلإتيانه كانت عادتها في النفاس ثلاثين فولدت فرأت الدم عشرون وانقطع فرأت الطهر عشرة أيام تمام عادتها في النفاس ثم رأت الدم حتى جاوز الأربعين فإنها ترد إلى معرفتها ويجعل ذلك نفاساً في قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن حصل ختمه بالطهر وعند محمد نفاسها عشرون يوماً من أيام الرؤية لأنه لا يختم النفاس بالطهر.
وإن كانت مبتدأة بأن كان ذلك أول ما ولدت والدم مستمر فنفاسها أربعون يوماً، والزائد عليها استحاضة، ولو انقطع الدم دون الأربعين، فإن جميع ذلك نفاس سواء كانت مبتدأة أو معتادة، وإذا انقطع الدم دون الأربعين، اغتسلت وصلت بناء على الظاهر، فإن عاد الدم في الأربعين أعادت الصوم، وعند الإمام مالك النقاء الفاصل بين الدمين في مدة النفاس طهر، تصلي وتصوم ولا تقضي بعود الدم، وبه قال أحمد، وإن انقطع دون اليوم وعنه إذا كان يوما كاملاً، وللشافعي قولان أحدهما أنه طهر، والثاني: نفاس، وهو المشهور، وبه قطع(1/695)
لما بينا في الحيض، وإن لم تكن لها عادة فابتداء نفاسها أربعون يوما لأنه أمكن جعله نفاسا، فإن ولدت ولدين في بطن واحد فنفاسها من الولد الأول عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -
وإن كان بين الولدين أربعون يوما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جمهورهم.
وقال النووي: في الدم الثاني وجهان. أصحهما: مثل قول أبي يوسف ومحمد، وفي الوجه الآخر - وهو قول أبي العباس -: شرع الدمان نفاس كما لو كان الطهر أقل من خمسة عشر.
وعن مالك: إن كان النقاء يومين أو ثلاثة فهو نفاس، وإن تطاول فهو حيض، ثم قيل في حالة الطلق يؤتى بقدر فيجعل تحتها، وقيل: يحفر لها حفيرة وتجلس عليها وتصلي كيلا يؤذي ولدها.
م: (لما بينا في الحيض) ش: وهو قوله في فصل الحيض إذا تجاوز الدم على عشرة أيام ولها عادة معروفة دونها ردت إلى أيام عادتها، والذي زاد استحاضة م: (وإن لم تكن لها عادة) ش: بأن كانت مبتدأة م: (فابتداء نفاسها أربعون يوماً، لأنه أمكن جعله نفاسا) ش: أي جعل الأربعين، فلو انقطع الدم دون الأربعين فالكل نفاس، سواء كانت مبتدأة أو معتادة، وعند الانقطاع فيما دون الأربعين فتغتسل وتصلي بناء على الظاهر، فإن عاد الدم في الأربعين أعادت الصوم.
م: (فإن ولدت ولدين في بطن واحد فنفاسها من الولد الأول عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله) ش: وبه قال مالك، وأحمد في أصح روايتيه، وهو أصح الوجوه عند الشافعية، وصححه [......] وإمام الحرمين والغزالي وفي " الهداية ": وللشافعي ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو الأصح أنه يعتبر من الأول ابتداء المدة، وبه قال أبو إسحاق ومالك وأحمد في الأصح.
والثاني: أنه يعتبر ابتداء المدة من الثاني وبه قال داود.
والثالث: أنه يعتبر ابتداؤها من الأول، ثم تستأنف من الثاني.
م: (وإن كان بين الولدين أربعون يوماً) ش: احترز به عما قال بعض المشايخ فيما إذا كان بين الولدين أربعون يوماً أن النفاس فيه يكون من الولد الثاني عند أبي حنيفة، وليس هذا بصحيح، وإنما الصحيح ما اختاره المصنف، لأن أكثر مدة النفاس أربعون يوما وقد مضت فلا يجب النفاس بعده، ولو كان بين الولدين ثلاثون يوما فمن الولد الثاني عشرة أيام، وإن ولدت ثلاثة أولاد بين الأول والثاني أقل من ستة أشهر وبين الثاني والثالث كذلك، ولكن بين الأول والثالث أكثر من ستة أشهر، والصحيح أن يجعل كحمل واحد.(1/696)
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من الولد الأخير وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنها حامل بعد وضع الأول فلا تصير نفساء كما أنها لا تحيض، ولهذا تنقضي العدة بالأخير بالإجماع، ولهما أن الحامل إنما لا تحيض لانسداد فم الرحم على ما ذكرنا وقد انفتح بخروج الأول وتنفس بالدم فكان نفاسا، والعدة تعلقت بوضع حمل مضاف إليها فيتناول الجميع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - من الولد الأخير) ش: أي نفاسها من الولد الثاني م: (وهو) ش: أي قول محمد هو م: (قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وقول داود وبه قال بعض الشافعية م: (لأنها حامل بعد وضع الأول) ش: أي الولد الأول م: (فلا تصير نفساء) ش: لأن الحمل من الثاني واقع [حال] خروج الدم من الرحم فلا تكون نفساء بالولد الأول م: (كما أنها لا تحيض، ولهذا تنقضي العدة بالأخير) ش: أي بالولد الأخير م: (بالإجماع) ش: لأن الولد الأخير هو المعتبر في انقضاء العدة فكذا النفاس.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - م: (أن الحامل إنما لا تحيض لانسداد فم الرحم على ما ذكرنا) ش: عندنا خلافا للشافعي م: (وقد انفتح) ش: أي فم الرحم م: (بخروج الولد) ش: أي الولد الأول م: (وتنفس) ش: أي الرحم م:) بالدم فكان نفاسا) ش: لأن الخارج من الرحم بعد الولادة يكون نفاساً م: (والعدة تعلقت بوضع حمل مضاف إليها) ش: أي إلى المرأة، وهذا جواب عن قياس محمد: [أن] النفاس على انقضاء العدة، ووجهه أن العدة تنقضي بوضع الحمل، لقول تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] (الطلاق: الآية 4) ، والحمل اسم لكل ما في البطن، ولما بقي الولد في بطنها موجوداً كانت حاملاً فلا تنقضي العدة حتى تضع الجميع، ولهذا لو قال: إن كان حملك غلاما فأنت حرة، فولدت غلاماً وجارية لم تعتق، لأن الغلام صار بعض الحمل، والشرط كونه كل الحمل م: (فيتناول الجمع) ش: أي كل الحمل فما لم تضع الجميع لا تنقضي العدة.
1 -
فروع: امرأة ولدت في غرة رمضان فصامت رمضان كله ثم ولدت آخر فيما بعد رمضان لأقل من ستة أشهر من رمضان قضت صوم النصف الأول وصلاة النصف الأخير، لأن الولد الثاني من علوق حادث لأنه تخلل بين ولادة الولدين أقل مدة الحمل وهو ستة أشهر، والمرأة لا تلد لأقل من ستة أشهر فعلم أنها حبلت في النصف الأخير من رمضان ودم الحامل لا يكون نفاساً وكانت طاهرة في النصف الأخير فتقضي ما تركت من الصلاة فيه إلا أن تكون اغتسلت على رأس النصف الأخير، لأن الاغتسال يشترط لجواز الصلاة وتقضي صيام النصف الأول لأن صومها لم يصح فيه، ولا تقضي صلاتها لأنها كانت حائض فيه، وإن كانت اغتسلت يوم الفطر وصامت شوال بنية رمضان وصلت قضت صوم يوم واحد وصلاة خمسة عشر يوماً، لأنها قضت صيام رمضان في شوال وهي طاهرة فيجزئها إلى يوم الفطر وعليها قضاء صلوات النصف الأخير من(1/697)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رمضان لأنها كانت طاهرة ولم تصل أو صلت من غير اغتسال.
1 -
فروع أخر: ولو خرج ولدها ميتا من قبل أو دبر لا تصير نفساء، ولو سال الدم من الأسفل صارت نفساء لأنه وجد خروج الدم من الرحم عقيب الولادة، ولو كانت معتدة تنقضي عدتها لأنها وضعت حملها وتصير الجارية أم ولد له.(1/698)
باب الأنجاس وتطهيرها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الأنجاس وتطهيرها] [حكم تطهير النجاسة]
م: (باب الأنجاس وتطهيرها) ش: أي هذا باب بيان أحكام الأنجاس وبيان أحكام تطهيرها، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا، ويجوز نصبه بتقدير: خذ باب الأنجاس، قال تاج الشريعة: قد يحذف المضاف كما في قَوْله تَعَالَى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه: 96] (طه: الآية 36) وقوله: باب الأنجاس: من قبيل القسم الثاني، أي باب بيان أنواع الأنجاس. قلت: لا حاجة إلى هذا التعسف، لأن لفظ الأنجاس يشمل الأنواع، وكونه من القسم الأول أولى.
ولما فرغ من بيان النجاسة الحكمية وتطهيرها شرع في بيان النجاسة الحقيقية وتطهيرها، ولما كانت الأولى أقوى وأكثر قدمها على الثانية، والأنجاس جمع نجس بفتح النون وكسر الجيم وبسكونها مع فتح النون، وبكسر النون مع سكون الجيم وكلها مستعملة في اللغة، قاله على بعض الشراح.
قال: الأكمل: والأنجاس جمع نجس بفتحتين وهو كل مستقذر وهو في الأصل مصدر ثم استعمل اسما، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] (التوبة: الآية 28) ، وقال تاج الشريعة: الأنجاس جمع نجس بكسر الجيم وهو الشيء الذي أصابته النجاسة، والنجس بالفتح كل ما استقذرته، وقال صاحب " الدراية ": وهو في الأصل مصدر، والمراد هاهنا الاسم.
قلت: قد رأيت ما بين أحد منهم حقيقة هذه المادة، وهو من باب علم يعلم، تقول: نجس ينجس نجساً بفتح فهو نجس بكسر الجيم وفتحها، وفي دستور اللغة: نجس بكسر الجيم ينجس بفتح النون وسكون الجيم وهو مصدر، وكذلك نجس نجاسة.
وكذلك ذكره في باب فعل يفعل بالضم فيهما. وفي " العباب ": والنجَس والنجِس والنَجْس والنِجْس والنجُس ضد الطهارة، ونجس ينجس مثال سمع يسمع، ونجس ينجس مثال كرم يكرم، وإذا قلت: رجل نجس بكسر الجيم ثنيت وجمعت، وإذا قلت: نجس بفتحها لم تثن ولم تجمع وقلت: رجل نجس ورجلان نجس ورجال نجس وامرأة نجس ونساء نجس، ويقال: أنجسه ونجسه تنجيسا فعن هذا أن قول الأكمل: الأنجاس جمع نجس بفتحتين غير صحيح والصحيح ما قاله تاج الشريعة فافهم.
ثم الخبث يطلق على الحقيقي والحدث على الحكمي والنجس يطلق عليهما.
قوله: وتطهيرها: أي وفي بيان تطهير الأنجاس، والتطهير إن فسرها بالإزالة فحسن إضافة التطهير إليها، وإن فسر بإثبات الطهارة فالمراد طهارة محلها كالبدن والثوب والمكان، لأن نجاسة هذه الأشياء مجاورة النجاسة، فإذا زالت ظهرت الطهارة الأصلية، وهذا لأنه لا يمكن تطهير عين(1/699)
تطهير النجاسة واجب من بدن المصلي وثوبه والمكان الذي يصلي عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النجاسة فلا بد من التأويل فذكر الحال وأراد به المحل عكس قوله في البئر نزحت فإنه ذكر المحل وأراد به الحال، والنجاسة محل معنى إذا حلت بالمحل يوجب الاختلال بالثوب إلى المعبود ويمنع كمال التعظيم له سبحانه وتعالى.
[حكم تطهير النجاسة]
م: (تطهير النجاسة) ش: أي تطهير محل النجاسة، لأن النجاسة لا تثبت فيها صفة الطهارة أصلاً بل تثبت في محلها بإزالتها عنه، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وإنما أنشأ الضمير لأنه إضافة إلى ضمير الأنجاس. م: (واجب) ش: أي فرض، وهذا كما قالوا: الزكاة واجبة، وإنما ذكر لفظ الواجب ليشمل الكل إذ الفرض هو الأصل م: (من بدن المصلي وثوبه والمكان الذي يصلي عليه) ش: كلمة من تتعلق بقوله: تطهير النجاسة وهو في الأصل لابتداء الغاية، لكن اللائق هاهنا أن تكون للمجاورة، وهذه ثلاثة أشياء:
الأول: بدن المصلي، فإن كان عليه نجاسة أكثر من قدر الدرهم لا تجوز صلاته وفيما دونه تجوز وتكره.
الثاني: الثوب كذلك ويحتسب بغلظ النجاسة وتخفيفها، وقال أبو عمر: ذهب مالك وأصحابه [إلى] أن إزالة النجاسة من البدن والثوب سنة وليست بفرض، وقال هشام: يعيد صلاته في النجاسة والجنابة في الوقت وبعده، وهو قول أبي قلابة والشافعي وأحمد وأبي ثور والطبري.
وقال أبو عمر: روى ابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والزهري ويحيى بن سعيد في الذي يصلي في الثوب النجس ولا يعلم إلا بعد الصلاة أنه لا إعادة عليه، وبه قال إسحاق بن راهويه، وعن الحسن في الثوب يعيد في الوقت وفي جسده في الوقت وبعده.
الثالث: المكان، والمعتبر في طهارة المكان [ما] تحت قدم المصلي، حتى لو افتتح الصلاة وتحت قدميه أكثر من قدر الدرهم من النجاسة فصلاته فاسدة، فكذا إذا كان تحت إحدى قدميه وهو الأصح، وقيل يجزئه، وإذا كان في موضع السجود دون القدم ففي رواية محمد عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا يجوز، وهو الأصح وهو قولهما.
وفي رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه يجوز، وإن كان في موضع يديه أو ركبتيه يجزئه عندنا خلافاً للشافعي وزفر - رحمهما الله -، ولو صلى على مكان طاهر، وسجد عليه، لكن إذا سجد وقعت ثيابه على الأرض النجسة جازت صلاته ولو افتتحها على مكان طاهر ثم تحول إلى مكان نجس ثم تحول منه إلى مكان طاهر جازت صلاته، إلا أن يمكث. ولو صلى على بساط(1/700)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] (المدثر: الآية 4) ، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «حتيّه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء ولا يضرك أثره»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي طرف منه نجاسة، قيل: يجوز في الكبير دون الصغير وحده إذا رفع أحد طرفيه لا يتحرك الطرف الآخر وإن تحرك الصغير، والأصح أنه يجوز مطلقاً. ولو قام على النجاسة وفي رجله جوربان أو نعلان لم تجز صلاته، ولو فرش نعليه وصلى عليهما جازت لأنه بمنزلة ما لو بسط الثوب الطاهر على الأرض النجسة وصلى عليها جازت واللبنة والآجر إذا كان أحد وجهيها نجساً وقام على الوجه الطاهر وصلى عليها إن كانت مفروشة جازت، وإن لم تكن مفروشة روي عن محمد أنه لا يجوز. وعن أبي يوسف أنه يجوز، ولو سجد على مكان نجس ثم أعاد السجدة على مكان طاهر جاز، وعن محمد: لو سجد على ميت وعليه لبد إن كان لا يجد حجم الميت جاز، وإن وجد حجمه لا يجوز:
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] (المدثر: الآية 4) ش: أي طهرها من النجاسة، والأمر للوجوب، وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وابن زيد والحسن وابن سيرين: اغسلها بالماء ونقها من الدرن ومن القذر. وقال الأكمل: فإن قيل: قال المفسرون: معناه فقصر فلا يتم دليلاً على إزالة النجاسة.
أجيب بأن ذلك مجاز والأصل هو الحقيقة، على أن تقصير الثياب يستلزم الطهر عادة فيكون أمراً بتطهير الثوب اقتضاء: قلت: أخذ هذا من " الدراية "، وقوله: قال المفسرون، من هم هؤلاء المفسرون حتى يؤخذ هذا عنهم؟ ثم يحتاج إلى الجواب مع أنه قيل: وما نقل من هذا في تفسير الآية لا يوافق ظاهر اللغة.
فإن قلت: نقل ذلك عن الفراء ذكره أبو الليث في تفسيره. قلت: الأصل في التفسير تفسير ابن عباس و [من] مثله من الصحابة ومن بعدهم من التابعين الكبار كالحسن وابن سيرين وغيرهما، والفراء ومثله أئمة اللغة والنحو، مع أن تفسيره هذا خلاف اللغة.
م: (وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حتيه اقرصيه ثم اغسليه بالماء ولا يضرك أثره» ش: هذا أصل [له] في الحديث الصحيح، ولكن ما روي بهذا اللفظ، و [إنما] روى الأئمة الستة في "كتبهم" واللفظ لمسلم من حديث هشام بن عروة عن امرأته فاطمة بنت المنذر بن الزبير عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت: «جاءت امرأة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به؟ قال: "تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه» وفي رواية لأبي داود: «حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم انضحيه» .
وفي رواية له: «فإن رأت فيه دماً فلتقرصه بشيء من ماء ولتنضح ما لم تر وتصلي فيه» . رواه(1/701)
إذا وجب التطهير في الثوب وجب في البدن والمكان، لأن الاستعمال في حالة الصلاة يشتمل الكل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن أبي شيبة في "مصنفه "، وفيه قال: «اقرصيه بالماء واغسليه وصلي فيه» ، ورواه الإمام أبو محمد عبد الله بن علي بن الجارود في كتاب " المنتقى ": «حتيه واقرصيه ورشيه بالماء» .
قوله: حتيه: من حت يحت من باب نصر ينصر إذا قشر بيده. قوله: واقرصيه، من قرص يقرص من باب نصر ينصر أيضا، وهو الدلك بأطراف الأصابع والأظفار مع صب الماء عليه حتى يذهب أثره وهو أبلغ في غسل الدم من غسله بجميع يده.
وقال الخطابي: أصل القرص أن يقبض بأصبعيه على الشيء ثم يغمزه غمزاً جيدا. وقال أبو عمر في " التمهيد ": ويروى: "فلتقرصه" بفتح التاء وضم الراء وكسرها، ويروى فلتقرصه بالتشديد على التكثير أي فلتقطعه بالماء، ومنه تقريص الطحين، والنضح الرش. وقال الخطابي: وقد يكون بمعنى الصب والغسل، وقال المهلب: النضح: كثرة الصب وهو بالحاء المهملة، هي الرواية، ولو قال: بالخاء المعجمة لكان أقرب إلى معنى الغسل لأنه أكثر من المهملة، وقيل: النضح هو الرش في موضع الشك لدفع الوسوسة.
وجه الاستدلال بالحديث المذكور: أنه يدل على وجوب الطهارة في الثياب، وفيه دلالة على نجاسة الدم، وهو إجماع المسلمين ودلالة على أن العدد لا يشترط في إزالة النجاسات، بل المراد الإنقاء.
فإن قلت: استدل به البيهقي في "سننه " على أصحابنا في وجوب الطهارة بالماء دون غيره من المائعات الطاهرة. قلت: هو مفهوم لقب لا يقول به إمامه.
فإن قلت: الحدث ورد في أسماء بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حين سألت عن دم الحيض يصيب الثوب فيقتصر عليه. قلت: قال في " الدراية ": العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ثم قال: كذا قيل، وفيه تأمل ظاهر، والأوجه أن يقال: الموجب لوجوب تطهير الحيض كونه نجساً فلا خصوصية له بذلك فكل من كان نجساً يلحق به. ثم إن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - استدل بالآية والحديث المذكور على وجوب طهارة ثياب المصلي ويأتي وجه وجوب طهارة البدن والمكان.
م: (إذا وجب التطهير) ش: أي تطهير المصلي بما ذكرنا م: (في الثوب) ش: أي في اشتراط طهارة ثوب المصلي بما ذكره من الآية والحديث م: (وجب في البدن) ش: أي وجب التطهير في بدن المصلي م: (والمكان) ش: أي وفي المكان الذي يصلي عليه م: (لأن الاستعمال) ش: أي استعمال المصلي م: (في حالة الصلاة يشتمل الكل) ش: أي الثوب والبدن والمكان، وجه ذلك أن التمسك بالنص يكون بطرق أربعة: بالعبارة والدلالة والإشارة والاقتضاء، ثم وجوب تطهير الثوب ثبت(1/702)
ويجوز تطهيرها بالماء وبكل مائع طاهر يمكن إزالتها به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالعبارة والبدن والمكان بالدلالة، وهذا لأن تطهير الثوب إنما وجب للصلاة لأنها مناجاة مع الرب وهي أعلى حالة العبد، فيجب أن يكون المصلي على أحسن حاله وذلك في طهارته وطهارة ما حل به، وقد وجب عليه تطهير الثوب بالنص مع قصور اتصاله به وتصور الصلاة بدونه في الجملة فلأن يجب عليه تطهير بدنه ومكانه مع كمال اتصالهما به لقيامه بهما وعدم تصور الصلاة بدونهما بطريق الأولى.
ويستدل أيضاً في وجوب طهارة الثوب بما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال - حين أجنب في ثوبه -: أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أره، ومثله عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذكرهما أبو عمر في " التمهيد ". واستدل في وجوب طهارة بدن المصلي بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذي [أمذى] : «توضأ وانضح فرجك» رواه مسلم، والمراد من النضح الغسل، والدليل عليه ما رواه البخاري: «اغسل ذكرك وتوضأ» ، وقد ذكرنا أن النضح كثرة الصب مستدل في وجوب طهارة المكان بما رواه عن أنس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا» . قال في " الإمام ": هذا حديث صحيح أخرجه الإمام أبو بكر بن [أبي شيبة في "مصنفه "] ، فدل على اشتراط طهارة مكان الصلاة كطهارة الثياب للمتيمم ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في الأماكن السبعة، رواه ابن ماجه لأنها مظنة النجاسات، ولما حمل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن صخرة بيت المقدس التراب والزبل الذي كان عليها نهى الناس أن يصلوا عليها حتى يصبها ثلاث مطرات، رواه حرب بإسناده، فأفاد نجاسة الزبل وأنها مانعة من جواز الصلاة عليها.
[ما يجوز التطهير به وما لا يجوز]
م: (ويجوز تطهيرها) ش: أي تطهير النجاسة، وقد ذكرنا أن المراد به إما المحل أو الإزالة، وإنما قال: ويجوز ولم يقل ويجب لأن استعمال عين الماء ليس بواجب عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - بل إزالة النجاسة واجبة بأي مائع طاهر مزيل كان على ما يأتي الآن م: (بالماء) ش: الباء متعلق بالتطهير م: (وبكل مائع طاهر يمكن إزالتها به) ش: أي إزالة النجاسة بالمائع الطاهر، وشرط ثلاثة أشياء في جواز استعمال غير الماء في إزالة النجاسة:
الأول: كونه مائعا يسيل كالخل ونحوه، لأنه إذا كان نجسا ليبقا كالدبس ونحوه لا يجوز.
الشرط الثاني: أن يكون المائع طاهرا لأن النجس لا يزيل النجاسة، وقال الأكمل: قوله طاهرا، احتراز من بول ما يؤكل لحمه فإن الأصح أن التطهير لا يحصل به، وقيل: يحصل حتى لو غسل الدم بذلك رخصنا فيه ما لم يفحش. قلت: لا وجه لتخصيص الاحتراز بالطاهر عن بول(1/703)
كالخل وماء الورد ونحو ذلك مما إذا عصر انعصر وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وقال محمد وزفر والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا يجوز إلا بالماء؛ لأنه يتنجس بأول الملاقاة، والنجس لا يفيد الطهارة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما يؤكل لحمه، فإن الماء المستعمل أيضاً مائع، ولكنه غير طاهر على إحدى الروايات عن أبي حنيفة كما مر بيانه فيما مضى.
الشرط الثالث: أن يكون المائع الطاهر مزيلاً كالخل وماء الورد ونحوهما، واحترز به عن الدهن والدبس واللبن ونحوها، فإن بها يبسط النجاسة ولا تزول، وفي " الذخيرة ": روى الحسن عن أبي يوسف لو غسل الدم من الثوب بدهن أو سمن أو زيت حتى أذهب أثره جاز، ومثله رواية بشر عنه في اللبن، وفي بول ما يؤكل لحمه اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه لا يطهر، ذكره السرخسي.
وفي " المحيط ": في اللبن روايتان، وفي بعض نسخ " المحيط ": والماء المستعمل ولا حجة له إلا على رواية عن أبي حنيفة أنه طاهر. وفي " شرح أبي ذر " ويجوز إزالة النجاسة بالماء المستعمل ونحو ذلك مما إذا عصر انعصر كشراب التفاح وسائر الثمار والأشجار والبطيخ والقثاء والصابون والباقلاء والأنبذة وماء الخلاف والبنوفة واللبسان وكل ما اختلط به طاهر وغلب عليه وأخرجه عن طبع الماء وصار مقيداً فهو في حكم المائع ذكره الطحاوي.
وفي " المغني ": عن أحمد ما يدل على ذلك، وعن أبي يوسف أنه لا يجوز في البدن إلا الماء ومثله عن أبي حنيفة ذكره في " العيون ".
ثم إن المصنف ذكر هاهنا ما ذكره القدوري وهو أنه لم يفرق بين الثوب والبدن، قال: ويجوز تطهيرها بالماء وبكل مائع على ما يأتي الآن.
م: (كالخل وماء الورد) ش: والماء المستعمل بين به الطاهر المائع المزيل م: (ونحو ذلك) ش: بالجر عطف على قوله: كالخل وإنما أفرد الضمير وإن كان المعطوف عليه اثنان باعتبار كل واحد منهما م: (مما إذا عصر انعصر) ش: كماء البطيخ وسائر الثمار وقد ذكرناه. وقوله: وانعصر من باب الانفعال وهو للمطاوعة بقوله عصر مطاوع بفتح الواو، وقوله: انعصر مطاوع بالكسر لأنه طاوع الأول وهو بالفتح لأنه طاوعه الثاني.
م: (وهذا) ش: أي جواز تطهير النجاسة بالمائع الطاهر المزيل م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -، وقال محمد وزفر والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا يجوز إلا بالماء) ش: وبه قال مالك وعامة الفقهاء م: (لأنه) ش: أي لأن الماء م: (يتنجس بأول الملاقاة) ش: يعني لاختلاطه بالنجاسة م: (والنجس لا يفيد الطهارة) ش: لأن الماء صار نجساً بملاقاته النجاسة، فلم يبق له قوة الإزالة. م:(1/704)
إلا أن هذا القياس ترك في الماء للضرورة، ولهما أن المائع قالع والطهورية في الماء بعلة القلع والإزالة والنجاسة للمجاورة،
فإذا انتهت أجزاء النجاسة يبقى طاهرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(إلا أن هذا القياس ترك في الماء للضرورة) ش: هذا جواب عما أورد على ما قاله محمد تقرير الإيراد أن يقال: إن الذي قلته هو القياس في الماء أيضاً وينبغي أن لا يجوز إزالة النجاسة بالماء أيضاً.
وتقرير الجواب أن الحكم في الماء ثبت بخلاف القياس؛ لأجل الضرورة وللنظافة وسرعة اتصاله. وسائر هذه المائعات لا نص فيها فبقي على أصل القياس يؤيده قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اغسليه بالماء" فلا يجوز بغيره لأن الأمر للوجوب، ولأن الله تعالى ذكر الماء في معرض الامتنان والإنعام فقال: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] (الأنفال: الآية 11) ، فدل على اختصاص الطهر به، ولأن النجاسة الحقيقية تمنع جواز الصلاة فلا تزول بغير الماء قياسا على النجاسة الحكمية.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أن المائع قالع) ش: من قلع الشيء واقتلعه إذا أزاله من موضعه من باب فعل يفعل بالفتح فيهما، وكانت العلة في الماء الإزالة م: (والطهورية في الماء بعلة القلع والإزالة) ش: وغير الماء كالخل يشاكله في الإزالة بل أولى وأقوى: لأن الخل أقلع للنجاسة من الماء لأنه يزيل اللون والدسومة لما فيه من الشدة والحموضة، وفي الألوان ما لا يزول بالماء وماء الورد يزيل العين والرائحة.
م: (والنجاسة للمجاورة) ش: هذا جواب عن استدلال محمد ومن معه بقولهم: لأن الماء [يتنجس] بأول الملاقاة، تقديره: أن النجاسة لم تنجس المحل بعينه بل كانت للمجاورة وإن كانت نجسة بأول الملاقاة.
م: (فإذا انتهت أجزاء النجاسة) ش: بانتهاء أجزائها المتناهية لتركبها من جواهر لا يتجزأ م: (يبقى) ش: أي المحل م: (طاهراً) ش: لزوال النجاسة بالعصر، لأنه إذا عصر يخرج منه ويصحبه ما يلاقيه من أجزاء النجاسة هكذا في المرة الثانية والثالثة إلى أن يزول محل الأجزاء فيبقى المحل طاهراً لانتقال النجس إلى الماء جزءاً فجزء، لأن الشيء الواحد محال أن يكون في محلين في حالة واحدة، والحكم إذا ثبت لمعنى يزول بزوال ذلك المعنى، ولهذا لو قلع محل النجاسة بقي الثوب طاهراً.
وقال الأكمل: لا يقال التعليل بالقلع لا يجوز، لأن النص يقتضي الغسل بالماء، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اغسليه بالماء"، قلت: هذا السؤال للأترازي، وتقرير الجواب أن يقال: إن اقتضاء النص الغسل بالماء لذاته أم لغيره؟(1/705)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: لذاته فلا نسلم لأن المصلي إذا قرض موضع النجاسة وصلى بذلك الثوب جاز، فعلم أن استعمال عين الماء ليس بواجب، وإن قلت: لغيره وهو التطهير فنقول نعم، ولكن يحصل الطهارة بغيره كالخل، فإنه إذا استعمل مكررا يحصل التطهير كما يحصل بالماء. وقال تاج الشريعة: فإن قلت: لو كان القلع علة لوجب أن يجوز بشيء نجس. قلت: ولهذا إذا زالت النجاسة الغليظة ببول ما يؤكل لحمه يكون حكم ذلك الشيء بعد الغسل حكم بول ما يؤكل لحمه حتى لا يمنع جواز الصلاة ما لم يبلغ ربع الثوب.
فإن قلت: محمد ومن معه احتجوا بالحديث أيضاً وهما لا يحتجا إلا بالمعقول. قلت: ما اكتفيا بذلك بل احتجا بالحديث أيضاً وهو ما رواه البخاري في "صحيحه " عن مجاهد قال: قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم الحيض قالت بريقها فقصعته بظفرها. وروى أبو داود عن مجاهد قال: قالت: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد فيه تحيض، فإذا أصابه شيء من دم بلته بريقها ثم قصعته بظفرها، ولو كان الدم بالدلك بريقها لا يطهر لكان ذلك تكثراً للنجاسة، ومع الكثرة لا تصفى والمضغ والقصع: الحك بالظفر، ومنه قصع القملة.
فإن قلت: يعد قوله بالأمر في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اغسليه" وقالوا الأمر للوجوب، قلت: لا نسلم أنه أمر بالغسل بالماء بل الأمر متعلق بنفس الغسل والإباحة بوصف الماء، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25] (النساء: الآية 25) ، فعلق الأمر بالإذن والإباحة بنفس النكاح فثبت بهذا أن يجوز أن يكون أحدهما واجباً والآخر مباحاً.
فإن قلت: نص على الغسل بالماء. قلت: هو مفهوم اللقب وهو غير حجة، ولأنه خرج مخرج الغالب في الاستعمال لا الشرط، ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا ينفي الحكم عما عداه عندنا.
فإن قلت: غسله بالخل وماء الورد والخلاف إضاعة للمال وهي منهي عنها. قلت: إنفاق المال لغرض صحيح يجوز فلا يكون إضاعة، والماء بعد الإحراز في الأواني يكون مملوكاً، وقال: فلا يجوز استعمال إضاعة المال ويفرض المال فيما إذا كان للماء عزة فوق الخل، ولو سلم منع استعمال الخل في إزالة النجاسة فإذا استعمل فيها [ما] يزيلها كالماء الممنوع من استعماله لأجل العطش لو توضأ به وترك التيمم جاز، وكذا المغصوب.
[الماء القليل إذا ورد على النجاسة]
فروع: الماء القليل إذا ورد على النجاسة تنجس بها الماء، وقال أحمد: إن كان أرضاً فهو طاهر، وفي غير الأرض وجهان، وقال الإمام مالك: لا فرق بين ورود الماء على النجاسة وورود النجاسة على الماء، لا ينجس فيهما إلا بالتغيير، وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن ورود الماء على النجاسة يوجب تنجيسه، وورود النجاسة على الماء دون القلتين ينجسه وإن كانت النجاسة(1/706)
وجواب الكتاب لا يفرق بين الثوب والبدن، وهذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإحدى الروايتين عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعنه أنه فرق بينهما فلم يجز في البدن بغير الماء،
وإذا أصاب الخف نجاسة لها جرم كالروث والعذرة والدم والمني فجفت فدلكه بالأرض جاز، وهذا استحسان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وجواب الكتاب) ش: أي " مختصر القدوري " وهو قوله: ويجوز تطهيرها بالماء وبكل مائع ... إلخ م: (لا يفرق بين الثوب والبدن) ش: لأنه أطلق في قوله: ويجوز
إلخ. ولم يقيد الثوب م: (وهذا) ش: أي عدم الفرق م: (قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإحدى الروايتين عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعنه) ش: أي وعن أبي يوسف م: (أنه فرق بينهما) ش: أي بين الثوب والبدن بغير الماء م: (فلم يجز في البدن بغير الماء) ش: وهو راوية لخبر ابن أبي مالك عنه لأن غسل البدن طريقة العبادة، فاختص بالماء كالوضوء وغسل الثوب، طريقه إزالة النجاسة لإبعاده فلا يختص بالماء. وقال الأترازي: وذكر في بعض نسخ القدوري الماء المستعمل فقال: كالخل وماء الورد والماء المستعمل، وقال أبو نصر البغدادي في " الشرح الكبير " للقدوري: وأما جوازه بالماء المستعمل فلأنه طاهر على رواية محمد عن أبي حنيفة بمنزلة الخل.
[كيفية تطهير الخف الذي لحقته نجاسة]
م: (وإذا أصاب الخف نجاسة لها جرم) ش: أي حبسته والجملة حالية وقعت بدون الواو وهو جائز على العلة م: (كالروث والعذرة) ش: بفتح العين المهملة وكسر الذال المعجمة وهي الغائط التي لقيها الناس م: (والدم والمني فجفت) ش: أي يبست م: (فدلكه بالأرض جاز) ش: وهنا قيود:
الأول: قيد بالخف لأن الثوب لا يطهر إلا بالغسل إلا في المني.
الثاني: قيد بالجرم لأن ما لا جرم له لا يطهر بالدلك، وإن جف إلا إذا التصق به من التراب أو رمل فجف بعد ذلك.
الثالث: قيد بالجفاف لأن ما له جرم من النجس إذا أصاب الخف ولم يجف لا يطهر بالدلك إلا في رواية عن أبي يوسف.
الرابع: قيد بالدلك لأنه بالغسل يطهر اتفاقاً. وقال محمد: لا يطهر بالدلك إلا في المني على ما يجيء.
م: (وهذا استحسان) ش: أي الجواز في الصورة المذكورة استحسان، أي مستحسن بالأثر على ما يأتي. وفي " المحيط ": ذكر في " الجان ": النجاسة التي لها جرم إذا أصابت الخف فحكها أو حتها بعدما يبست بطهر في قولهما، قال القدوري: هذا في حق الصلاة، وأما لو أصاب الماء بعد ذلك يعود نجسا في رواية، وفي الأصل إذا مسحها بالتراب تطهر، وقيل: الدلك رواية(1/707)
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز وهو القياس إلا في المني خاصة، لأن المتداخل في الخف لا يزيله الجفاف والدلك بخلاف المني على ما نذكره، ولهما قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فإن كان بهما أذى فليمسحهما بالأرض فإن الأرض لهما طهور»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأصل.
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز) ش: وبه قال زفر والشافعي في الجديد، ومالك في العذرة والبول. وأما في أرواث الدواب له روايتان إحداهما: الغسل، والثانية: يمسح، وقال الشافعي في القديم: إذا دلكه بالأرض كان عفواً. وقال أحمد: يجب غسل جميع النجاسات إلا الأرض إذا أصابها نجاسة. واختلف أصحابه في ضم التراب. وفي " المحيط ": والصحيح أن محمدا رجع عن هذا القول لما رأى من كثرة السرقين في الطرق.
م: (وهو القياس) ش: أي قول محمد هو القياس كما في الثوب م: (إلا في المني خاصة) ش: الاستثناء من قوله: لا يجوز، فإنه قال: يطهر في المني بالدلك والفرك إذا جف على الثوب.
فإن قلت: لفظ خاصة منصوب بماذا وما [في] معناه. قلت: خاصة اسم بمعنى اختصاصاً من قولهم: خص بالشيء يختصه خصاً وخصوصاً بفتح الخاء وخصوصاً بالضم وخصوصية وخصيصي وخصيصاً عن ابن الأعرابي وخصه يخصه عن ابن عباد إذا فضله واختار ثعلب الخصوصية بفتح الخاء وخصه بالرد لذلك، وأما انتصابه فعلى أنه قائم مقام المصدر.
م: (لأن المتداخل في الخف لا يزيله الجفاف والدلك) ش: لأن الجلد يتشرب فيصير كالثوب والبدن فإنهما لا يطهران إلا بالغسل فكذلك الخف م: (بخلاف المني على ما نذكره) ش: لأنه خص بالنص على القياس فلا يقاس عليه غيره.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فإن كان بهما أذى فليمسحهما بالأرض فإن الأرض لهما طهور» ش: هذا الحديث روي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
أما حديث أبي هريرة فرواه أبو داود من طريقين: أحدهما: عن محمد بن كثير الصنعاني عن الأوزاعي عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب» ، رواه ابن حبان في(1/708)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
"صحيحه ". وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وقال النووي في " الخلاصة ": رواه أبو داود بإسناد صحيح.
الثاني: عن عمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي قال: أنبئت أن سعيدا المقبري حدث عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور» .
فإن قلت: قال ابن القطان في "كتابه" عن الطريق الأول: هذا الحديث رواه أبو داود من طريق لا يظن بها الصحة، فإنه رواه من حديث محمد بن كثير عن الأوزاعي، ومحمد بن كثير: الصنعاني الأصل المصيصي الدار أبو يوسف ضعيف، وأضعف ما هو من الأوزاعي، قال عبد الله بن أحمد: قال أبي: هو منكر الحديث يروي أشياء منكرة. وقال صالح بن محمد بن حنبل: قال أبي: هو عندي ليس بثقة.
وقال المنذري في "مختصره ": الأول: فيه محمد بن عجلان، وفيه مقال لم يحتجا به، والثاني: فيه مجهول. قلت: محمد بن كثير سئل عنه يحيى بن معين فقال: كان صدوقاً ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة، ومحمد بن عجلان وثقه يحيى وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي وصحح الطريق من ذكرناهم، والثاني قائل بالأول. ولنا حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرواه أبو داود أيضاً في " الصلاة " عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن أبي نعامة السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: «بينما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى القوم ذلك ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ما حملكم على إلقائكم نعالكم" قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً، وقال: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمحه وليصل فيهما» ورواه ابن حبان أيضاً في "صحيحه "، ولم يقل: "وليصل فيهما"، ورواه عبد بن حميد وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى الموصلي في "مسانيدهم " بنحو أبي داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو نعامة اسمه [......] ، وأبو نضرة اسمه المنذر بن مالك البصري.
وأما حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فرواه أبو داود أيضاً عن محمد بن الوليد أخبرني(1/709)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سعيد بن أبي سعيد عن القعقاع بن حكيم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه ولم يذكر لفظه، ورواه ابن عدي في " الكامل " عن عبد الله بن زياد بن سمعان القرشي مولى أم سلمة عن سعيد المقبري عن القعقاع بن حكيم عن أبيه «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الرجل يطأ بنعله في الأذى، قال: "التراب لهما طهور» ، وعبد الله بن زياد ضعفه البخاري ومالك وأحمد وابن معين، ورواه الدارقطني مسنداً إلى ابن سمعان وهو ضعيف، وقال ابن الجوزي: قال مالك: هو كذاب، وقال أحمد: متروك الحديث.
قوله: الأذى، أراد به النجاسة، وينحل النعل: الحذاء مؤنثة وتصغيرها فعيلة، وقال ابن الأثير: وهي التي تلبس في المشي مملوة.
وجه الاستدلال بالأحاديث المذكورة ظاهر، فإنه قال فإن طهورهما التراب أي يزيل نجاستهما، وكان الأوزاعي يستعمل هذا الحديث على ظاهره وقال: يجزئه أن يمسح القذر في نعله أو خفه بتراب ويصلي فيه، وروي مثله عن عروة بن الزبير وكان النخعي يمسح النعل والخف يكون فيه السرقين عن باب المسجد ويصلي بالقوم.
وقال أبو ثور في الخف والنعل: إذا مسحهما بالأرض حتى لا يجد له ريحاً ولا أثراً رجوت أن يجزئه.
فإن قلت: الحديث مطلق فلم قيده أبو حنيفة بقوله النجاسة التي لها جرم؟ قلت: التي لا جرم لها خرجت بالتعليل، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن التراب لهما طهور» أي مزيل نجاسته، ونحن نعلم يقيناً أن النعل والخف إذا شرب البول أو الخمر لا يزيله المسح ولا يخرجه من أجزاء الجلد فكان الخلاف في الحديث مصروفاً إلى الأذى الذي يقبل الإزالة بالمسح حتى إن البول أو الخمر لو استجر بالرمل أو التراب فجف فإنه يطهر أيضاً بالمسح على ما قال شمس الأئمة وهو الصحيح فلا فرق بين أن يكون جرر النجاسة منهما أو من غيرهما، هكذا ذكر الفقيه أبو جعفر والشيخ الإمام أبو بكر بن محمد ابن الفضل عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعن أبي يوسف مثل ذلك إلا أنه لم يشترط الجفاف.
فإن قلت: لعل الأذى المذكور في الحديث كان طيناً. قلت: الأذى في لسان الشرع يحمل على النجاسة كناية عن عينها، ولو كان طيناً لصرح باسمه ولم يذكره بالكناية لما فيه من اللبس، ويدل عليه قوله: «فإن الأرض لهما طهور» .(1/710)
ولأن الجلد لصلابته لا يتداخله أجزاء النجاسة إلا قليلا، ثم يجتذبه الجرم إذا جف، فإذا زال زل ما قام به،
وفي الرطب لا يجوز حتى يغسله لأن المسح بالأرض يكثره ولا يطهره. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا مسحه بالأرض حتى لم يبق أثر النجاسة يطهر لعموم البلوى، وعليه مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وإطلاق ما يروى: فإن أصابه بول فيبس لم يجز حتى يغسله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: لم يفصل بين النجاسة التي لا جرم لها وبين التي لها جرم، فإن اسم الأذى يطلق عليهما وكذلك لم يفصل بين الرطب واليابس وأنتم قد فصلتم؟ قلت: بل فصل الحديث بين الرطب واليابس بالتعليل الذي ذكرناه أيضاً.
فإن قلت: حديث أبي سعيد ساقط العبرة لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يستقبل الصلاة. قلت: يحتمل أن الحظر مع النجاسة ترك في ذلك الوقت ويحتمل أن يكون لأقل من قدر الدرهم كذا في " المبسوط " و " الأسرار ".
م: (ولأنه الجلد لصلابته لا يتداخله أجزاء النجاسة إلا قليلاً) ش: لأن صلبة الجلد وكثافة النجاسة يمنعان شربها فيه، ورخاوتها بعد اليسير، حذف إليها، فلا يبقى فيها إلا قليل وهو معفو م: (ثم يجتذبه الجرم إذا جف) ش: يعني يجذبه الجرم إلى نفسه م: (فإذا زال) ش: أي الجرم م: (زال ما قام به) ش: أي بالجرم، لأنه لما جذبه إلى نفسه فيبس مع الجرم فلا يبقى إلا اليسير وهو عفو بخلاف البدن، لأن رطوبته ولينه وما به من العرق يمنع من الجفاف، وبخلاف الثوب لأن النجاسة متداخلة فلا يخرجها إلا الماء والاحتراز عن النجاسة فيه ممكن.
م: (وفي الرطب) ش: أي وفي النجس الرطب م: (لا يجوز حتى يغسله، لأن المسح بالأرض يكثره) ش: أي يكثر النجس بالرطب، لأنه ينشر ويتلوث ما لم يصبه أيضاً م: (ولا يطهره) ش: أي لا يطهر الخف لانتشار النجس فيه.
م: (وعن أبي يوسف أنه إذا مسحه بالأرض) ش: أي إذا مسح النجس بالأرض يعني إذا دلكه على سبيل المبالغة م: (حتى لم يبق أثر النجاسة يطهر لعموم البلوى) ش: أي البلية، وكذلك البلية بكسر الباء وسكون اللام، والبلوى بالكسر أيضاً، والبلاء كلها أسماء وهذه من المواد الناقصة الواوية م: (وعليه مشايخنا) ش: أي على قول أبي يوسف مشايخ ما وراء النهر م: (وإطلاق ما يروى) ش: يعني إطلاق قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن كان بهما أذى، حيث لم يفصل بين الرطب واليابس، والجواب عن هذا الإطلاق قد مر آنفاً. وفي " فتاوى أهل المصر " ذكر الجلائي في صلاته لو أصابت النجاسة الخف أو الكعب أو الجرموق فأمر الماء عليه ثلاث مرات تطهر من جفاف.
م: (فإن أصابه بول) ش: أي فإن أصاب الخف بول م: (فيبس لم يجز حتى يغسله) ش: لتمكن(1/711)
وكذا كل ما لا جرم له كالخمر، لأن الأجزاء تتشرب فيه ولا جاذب يجذبها، وعن أبي يوسف أن ما يتصل به من الرمل، والرماد والتراب الناعم جرم له،
والثوب لا يجزئ فيه إلا الغسل وإن يبس، لأن الثوب لتخلخله يتداخله كثير من أجزاء النجاسة فلا يخرجها إلا الغسل،
والمني نجس يجب غسله رطبا فإذا جف على الثوب أجزأ فيه الفرك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البول فيه بالجفاف م: (وكذا كل ما لا جرم له) ش: أي وكذا لا يجوز إذا أصاب الخف كل ما لا يجرم له م: (كالخمر لأن الأجزاء) ش: لأن أجزاء الخمر أو البول م: (تتشرب فيه) ش: أي في الخف م: (ولا جاذب يجذبها) ش: أي يجذب أجزاء النجاسة [......] .
م: (وعن أبي يوسف أن ما يتصل به) ش: أي بالخف الذي أصابته النجاسة الرطبة م: (من الرمل والرماد والتراب الناعم جرم له) ش: أي الذي أصابه، فإذا جف فدلكه بالأرض طهر كالتي لها جرم.
[كيفية تطهير الثوب الذي لحقته نجاسة]
م: (والثوب لا يجزئ فيه إلا الغسل وإن يبس؛ لأن الثوب لتخلخله) ش: أي لكون فرج في خلاله، وقولهم - أجزاء الثوب يخلخله - أي في خلالها فرج لرخاوتها وتكون مجوفة غير يسيرة م: (يتداخله كثير من أجزاء النجاسة فلا يخرجها) ش: أي أجزاء النجاسة م: (إلا الغسل) ش: بالماء أو بمائع طاهر مزيل. وقال النسفي: الخف الخرساني الذي ضرمه توسخ فالقول حكمه حكم الثوب لا يطهر بالدلك بل يغسل ثلاثاً ويجفف في كل مرة.
[حكم المني وكيفية تطهيره]
م: (والمني نجس) ش: وبه قال مالك والثوري والأوزاعي والحسن بن حي وأحمد في رواية.
إلا أن مالكا قال: يغسل رطبه ويابسه، وهو قول الحسن البصري، وقول بعض مشايخ بلخ مثل: محمد بن الأزهري وأبي معاذ البلخي م: (يجب غسله رطباً) ش: أي حال كونه رطباً.
م: (فإذا جف على الثوب أجزأ فيه الفرك) ش: أي كفى فيه الدلك والحك، وقوله - أجزأ - من الإجزاء، يقال أجزأني الشيء أي كفاني وهي لغة بني تميم، وعن الأزهري: [قال] بعض الفقهاء: أجزى بمعنى قضى، والمعنى على هذا أجزى الفرك عن الغسل أي ناب عنه وأغنى.
قلت: الأول مهموز، والثاني ناقص.
وقال أبو إسحاق الحافظ: المني اليابس إنما يطهر بالفرك إذا كان رأس الذكر طاهراً وقت خروجه بأن كان بال واستنجى، أما إذا لم يكن طاهراً فلا.
وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال الفقيه أحمد بن إبراهيم: وعندي أن المني إذا خرج في رأس الإحليل عل سبيل الدفق ولم ينشر على رأسه فإنه يطهر بالفرك، لأن البول الذي هو داخل الإحليل غير معتبر، ومرور المني عليه غير مؤثر.(1/712)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «فاغسليه إن كان رطبا وافركيه إن كان يابسا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فأما إذا انتشر المني على رأس الإحليل لا يكتفي بالفرك، فعلى هذا القول إذا بال ولم يتجاوز البول ثقب الإحليل حتى لم يصل رأس الإحليل شيء من البول ثم احتلم يكفي فيه الفرك. قيل: أيضاً إذا كان رأس الإحليل طاهراً وإنما يطهر المضاف بالفرك إذا خرج المذي قبل خروج المني على رأس الإحليل ثم خرج المني لا يطهر الثوب بالفرك إلا أن يقال إنه مغلوب بالمني فيجعل تبعاً له، وروي عن محمد: إن كان المني غليظاً فجف يطهر بالفرك أعلاه، و [أما] أسفله فلا يطهر إلا بالغسل.
كذا في " المبسوط ". وفي " فتاوى قاضي خان ": الثوب إذا أصابه المني ويبس وفرك يحكم بطهارته في قولهما، وعن أبي حنيفة روايتان، وأظهرهما أن بالفرك فعل النجاسة تجوز الصلاة فيه. وإذا أصابه الماء يعود نجساً في أظهر الروايتين عن أبي حنيفة، وعندهما لا يعود نجسا، وعن الفضل أن مني المرأة لا يطهر بالفرك لأنه رقيق، وعن محمد: أن المني إذا كان غليظاً فجف يطهر بالفرك، وإن كان رقيقاً لا يطهر إلا بالغسل، وعن محمد: أن المني إذا كان غليظاً فجف يطهر بالفرك، وإن كان رقيقاً لا يطهر إلا بالغسل، والصحيح أنه لا فرق بين مني المرأة ومني الرجل كذا لو نفذ المني إلى البطانة يطهر بالفرك قال المرغناني: هو الصحيح.
واختلف المتأخرون في الطار الباقي من الثوب، والصحيح أنه يطهر بالفرك كالأعلى بخلاف لعابة الخف، ذكره في " المبسوط ".
وفي " شرح بكر ": أصاب الثوب دم عبيط فجف [فحينئذ] طهر الثوب كالمني.
م: «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: "فاغسليه إن كان رطباً وافركيه إن كان يابساً» ش: هذا الحديث بهذا اللفظ غريب، قال ابن الجوزي في " التحقيق ": والحنفية يحتجون على نجاسة المني بحديث رووه «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - "اغسليه إن كان رطباً وافركيه إن كان يابساً» قال: هذا الحديث لا يعرف، وإنما روي نحوه من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
قلت: عدم المعرفة منه أو من غيره لا يستلزم نفي معرفة غيره مع أن أصل الحديث في الصحاح، وقد روى مسلم والأربعة «من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه، وقالت أيضاً: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيصلى فيه» . أخرجه مسلم وأبو داود.(1/713)
وقال الشافعي: المني طاهر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى الدارقطني والبيهقي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: "كنت أغسل المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان رطباً وأفركه إذا كان يابساً» ، ورواه البزار في "مسنده " وقال: لا نعلم أحداً أسنده عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إلا عبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ورواه غيره عن حمزة مرسلاً، ومن الناس من حمل فرك الثوب على غير الثوب الذي يصلى فيه.
ورد هذا ما وقع في صحيح مسلم «كنت أفركه من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيصلي فيه» وعند أبي داود - ويصلي فيه - والفاء ترفع احتمال غسله بعد الفرك، وحمله بعض المالكية على الفرك بالماء، ويرده ما صح أيضاً: لقد رأيتني وإن لأحكه من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يابساً بظفري.
وأما الآثار في ذلك فكثيرة روى ابن أبي شيبة في "مصنفه " سأل رجل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال إني احتلمت على طنفسة، فقال: إن كان رطباً فاغسله، وإن كان يابساً فاحككه، وإن خفي عليك فارششه [بالماء] .
وعن عمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما يغسلان المني من الثوب، وعن أبي هريرة في المني يصيب الثوب: إن رأيته فاغسله وإلا فاغسل الثوب كله، ورواه الطحاوي، وعن جابر بن سمرة أنه سئل عن الثوب الذي يجامع أهله فيه قال صل فيه إلا أن ترى منه شيئاً فتغسله ولا تنضحه، قال لأن النضح لا يزيل الأثر، وسئل أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن قطيفة أصابها نجاسة لا يدري موضعها قال: اغسلها، وعن الحسن أن المني بمنزلة البول، فهؤلاء الصحابة والتابعون قد غسلوا المني، وأمروا بغسل الثياب منه، وهذا لإزالة النجاسة.
م: (وقال الشافعي المني طاهر) ش: هذا نص الشافعي، وحكى صاحب " البيان " وبعض الخراسانيين قولين، ومنهم من قال قولين في مني المرأة فقط، قال النووي: الصواب الجزم بطهارة منيه ومنيها والمسلم والكافر فيه سواء ينجس منيها برطوبة فرجها إن قلنا بنجاستها، كما لو بال الرجل ولم يغسل ذكره، وفي مني غير الآدمي ثلاثة أوجه أحدها: الجميع طاهر إلا مني الكلب والخنزير.
الثاني: أن الجميع نجس.
الثالث: أن مني ما يؤكل لحمه طاهر وغيره نجس. وأحمد مع الشافعي في أصح قوليه. واحتج الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يصلي فيه ولا يغسله» ، رواه الطحاوي وأخرجه البزار [عنها] ،(1/714)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما أغسله، وروى أبو بكر بن خزيمة «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله، وهو يصلي» «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كانت تحت المني من ثيابه وهو في الصلاة» قال البيهقي: ولو كان المني نجساً لما جازت الصلاة معه، «وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "يسل المني من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه» رواه أحمد. وعن ابن عباس، قال: «سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المني يصيب الثوب فقال: هو بمنزلة المخاط والبصاق وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة» رواه الدارقطني وقال: ولم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الأترازي في المني عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طاهر لأنه أصل الأنبياء، ولم يذكر له شيئاً غير ذلك من حديث أو أثر. ثم قال في جوابه قلنا: أصل الأعداء أيضاً فنمرود وفرعون وغيرهما. وهذا ليس بشديد، والذي قاله غيره، أن المني أصل البشر والطين خلق منه البشر فكان طاهراً كالطين وأيضاً هو في بني آدم كماء البيض في الطيور وهو خارج من حيوان فكان المني طاهراً كالبيض، وأيضاً أن حرمة الرضاع شبهت بحرمة النسب كاللبن الذي يحصل به الرضاع طاهر، والمني الذي يحصل به النسب أولى لأنه أصل، والرضاع مجلوبة، ومن ذلك قالت المالكية: المني [......] الشافعية. وقال النووي في " شرح المهذب " أن المني يحل أكله في وجه، فعارضهم فقالوا: الكلب يحلله بعض المالكية. [و] الجواب عن هذه الأشياء فنقول:
أما حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الذي فيه: ولا يغسله، فقد قال الطحاوي: وليس في هذا عندنا دليل على طهارته، وقد يجوز أن يكون كانت تفعل به هذا فيطهر بذلك الثوب والمني في نفسه نجس.
كما قد روي فيما أصاب الفعل من الأذى حيث قال: فطهورهما التراب فكان ذلك التراب يجري في غسلها وليس في ذلك دليل على طهارة الأذى في نفسه فكذلك ما روي في المني على أنه قد روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ما يدل على أن المني كان عندها نجساً وهو ما رواه الطحاوي ثنا ابن أبي داود قال: ثنا منذر قال: ثنا يحيى بن سعيد عن شعبة عن عبد الرحمن بن قاسم عن أبيه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت في المني إذا أصاب الثوب: إذا رأيته فاغسله وإن لم تره فانضح، وهذا إسناد صحيح.
قلت: هذا لا يجري دعوى [الطحاوي] ، لأن الطحاوي بعد أن روى هذا الحديث قال: ما(1/715)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في ذلك دليل لأنه لو كان حكمه عندها حكم سائر النجاسات من الغائط والبول والدم لأمرت بغسل الثوب كله، ولما كان الحكم عندها إذا كان موضعه من الثوب غير معلوم النضح، ثبت بذلك أن حكمه كان عندها بخلاف سائر النجاسات. قلت: قد روي في ذلك آثار كثيرة من الصحابة وهي التي ذكرناها عن قريب فكلها تدل على نجاسته كما ذكرنا على أنا نقول أن النضح يأتي بمعنى الصب والغسل، وفي حديث دم الحيض: «تقرصيه بالماء ثم تنضحيه» أي تغسله.
فإن قلت: لما اختلفت الأحاديث والآثار في حكم المني لم يدل دليل قطعاً على نجاسته ولا على طهارته.
قلت: في مثل ذلك يرجع إلى النظر والقياس، فنقول المني حدث لأنه خارج عن السبيل وكل خارج عن سبيل نجس، فالمني نجس.
فإن قلت: إذا ثبت كونه نجساً كان الواجب غسله مطلقاً رطباً كان أو يابساً كسائر النجاسات. قلت: نعم كان القياس يقتضي ذلك، ولكنه ترك، بالأحاديث الواردة بالفرك في يابسه.
وأما حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الذي فيه «إنما هو بمنزلة المخاط والبزاق» فالجواب عنه أنه موقوف، ولئن ثبت أنه مرفوع، فإنه يشهد لنا من وجه لأنه أمر بالإماطة، ومطلق الأمر للوجوب، والتشبيه بالبزاق والمخاط يشهد له فسقط الاحتجاج به.
وأما الجواب عن كونه أصل البشر فإنه لا ينفي النجاسة كالمضغة والعلقة.
وقال النووي: المني يستحيل في الرحم فيصير علقة وهي الدم الغليظ، ففي نجاستها وجهان، قال أبو إسحاق: نجسة، وقال الصيرفي: طاهرة، فإذا استحال بعده وصار قطعة لحم وهي المضغة فالمذهب عندهم القطع بطهارتها كالولد، وقيل فيها الوجهان.
فإن قلت: لم يسمع هذا الذي ذكرتم في الجواب ولا يلزم إلزامكم بالعلقة والمضغة قطعاً.
قلت: قال أبو إسحاق العراقي: المني يجري من الدماغ بعد نضجه ويصير دماً أحمر في فقار الظهر إلى أن يصل إلى الكليتين فتنضجانه ثم تبعثانه إلى الأنثيين فينضجانه منياً أبيضاً، فإذا كان كذلك ثبت أنه متولد من الدم وهو نجس، والنجس لا ينقلب عندهم طاهراً إلا الماء النجس إذا صار قلتين، والخمر إذا تخللت بنفسها، وذكر الأكمل للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حديث ابن عباس أنه قال: المني كالمخاط فأمطه عنك ولو بإذخرة، لم يحصل جوابه أنه موقوف فلا يصح الاحتجاج به. قلت: يعني عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان ينبغي أن يستدل بحديث من الأحاديث المرفوعة الصحيحة التي ذكرها، ثم يجيب عنه، فكيف يذكر له أثر وهو لا يقول به؟ وهذا عجيب وقصور ممن يتصدى لترجيح مذهبه.(1/716)
والحجة عليه ما رويناه، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما يغسل الثوب من خمس، وذكر منها: المني»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والحجة عليه) ش: أي على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (ما رويناه) ش: وهو حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - المذكور، وقال الأكمل: فإن قيل: إذا استدل الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بحديث ونحن بحديث فما وجه قول المصنف والحجة عليه ما رويناه. فالجواب أن وجه ذلك أن حديثه لا يدل عليه، لأن قوله كالمخاط لا يقتضي أن يكون طاهراً لجواز أن يكون التشبيه في اللزوجية وقلة التداخل وطهارته بالفرك والأمر بالإماطة مع كونه للوجوب يستدعي أن يكون نجساً لأن إزالة ما ليس بنجس ليست بواجبة.
قلت: هذا السؤال إنما يرد لو كان الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يرى بالأثر المذكور، ويقول به، نعم لو ذكر له حديثاً من الأحاديث كان يتوجه السؤال، وتشبيه ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - له بالمخاط إنما كان في النظر والبشاعة لا في الحكم بدليل ما ذكرنا من أدلة نجاسته، والأمر بالإماطة ليتمكن من غسل محله.
م: (وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما يغسل الثوب من خمس وذكر منها المني» ش: هذا دليل آخر عل نجاسة المني، وهذا قطعة من حديث رواه الدارقطني من حديث ثابت بن حماد عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب «عن عمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: مربي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أسقي راحلة لي في ركوة إذ انتخمت فأصابت نخامتي ثوبي، فأقبلت أغسلها، فقال: "يا عمار ما نخامتك ولا دموعك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك إنما يغسل الثوب من خمس: من البول، والغائط، والمني، والدم، والقيء» وفي " الأسرار ": الخمر مكان القيء، وجه الاستدلال به ظاهر وهو أنه يدل على نجاسة المني.
فإن قالت: الاستدلال به يقتضي غسله رطباً ويابساً، ولستم قائلين به فكان متروكاً.
قلت: حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في جواز فرك اليابس، ويحمل هذا على الرطب توفيقاً بين الحديثين، والنخامة بضم النون ما يخرج من الخيشوم.
فإن قلت: قال الدارقطني: لم يرو حديث عمار غير ثابت بن حماد وهو ضعيف جداً، ورواه ابن عدي في " الكامل " قال: لا أعلم روى هذا الحديث عن علي بن زيد غير ثابت بن حماد، وله أحاديث في أسانيد الثقات يخالف فيها وهي مناكير ومقلوبات.
وقال البيهقي: هذا حديثه باطل، إنما رواه ثابت بن حماد، وهو متهم بالوضع عن علي بن زيد وهو غير محتج به.(1/717)
ولو أصاب المني البدن قال مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يطهر بالفرك لأن البلوى فيه أشد وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يطهر إلا بالغسل، لأن حرارة البدن جاذبة فلا يعود إلا الجرم، والبدن لا يمكن فركه،
والنجاسة إذا أصابت المرآة والسيف اكتفي بمسحهما لأنه لا تتداخلهما النجاسة. وما على ظاهره يزول بالمسح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: علي بن زيد روى له مسلم مقروناً به، وقال العجلي: لا بأس به، وفي موضع آخر قال: يكتب حديثه، وروى له الحاكم في " المستدرك ".
وقال الترمذي: صدوق، وأما ثابت فلم يتهمه أحد بالوضع غير البيهقي مع أنه ذكره في كتابه " المعرفة " ولم ينسبه إلى الوضع، وإنما حكى فيه قول الدارقطني وابن عدي، وقال البزار: وثابت بن حماد: كان ثقة ولا يعرف أنه روى غير هذا الحديث، وله متابع، رواه الطبراني في معجمه الكبير " حدثنا الحسن بن إسحاق التستري ثنا علي بن بحر ثنا إبراهيم بن زكريا العجلي ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد به سنداً ومتناً.
فإن قلت: كلمة إنما تخصيص ولا حصر فيها، لأن الغسل يجب في غيرها كالخمر. قلت: غيرها في معناها فيلحق بها كما في قوله: لا قود إلا بالسيف، وقد ألحق الخنجر وغيره لما أنه في معناه.
[الحكم لو أصاب المني البدن]
م: (ولو أصاب المني البدن قال مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: أراد بهم مشايخ بخارى وسمرقند م: (يطهر بالفرك لأن البلوى فيه أشد) ش: أي لأن البلية في البدن أشد من البلية في الثوب، فلما طهر الثوب بالفرك طهر البدن بطريق الأولى دفعاً للحرج.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ورواه الحسن عنه م: (أنه) ش: أي أن البدن م: (لا يطهر إلا بالغسل) ش: ذكر هذا شمس الأئمة السرخسي في " المبسوط " م: (لأن حرارة البدن جاذبة) ش: تجذب رطوبة المني م: (فلا يعود إلى الجرم) ش: [......] فلا يزول بالفرك مثل ما يزول في الثوب، لأن المني لزج لا يتداخل أجزاء الثوب منه إلا قليل، فإذا يبس يجذبه إلى نفسه فإذا فرك زال بالكلية. فإن بقي بقي منه قليل وإنه ممنوع بخلاف رطبه لأنه لم يوجد فيه الجذب كذا في " جامع الكردري " م: (والبدن لا يمكن فركه) ش: لأنه متعذر فاحتيج إلى الماء لاستخراجه.
[النجاسة إذا أصابت المرآة والسيف]
م: (والنجاسة إذا أصابت المرآة والسيف اكتفي بمسحهما لأنه لا تتداخلهما النجاسة) ش: لصقل تام لأنه صقيل بل بقي على ظاهره م: (وما على ظاهره يزول بالمسح) ش: ولا يبقى إلا القليل، وهو(1/718)
وإن أصابت الأرض النجاسة فجفت بالشمس وذهب أثرها جازت الصلاة على مكانها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غير معتبر، ولا فرق بين الرطب واليابس والعذرة والبول، ذكره الكرخي في "مختصره ".
وذكر في الأصل: أن السيف والسكين إذا أصابه بول أو دم لا يطهر إلا بالغسل، وإن أصابه عذرة إن كانت رطبة فكذلك، وإن كانت يابسة طهرت بالحت عندهما، وبه قال مالك، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يطهر إلا بالغسل، وبه قال زفر والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - والإمام مالك، وقال الأترازي قال شيخي برهان الدين الحريفعي: إنما وضع المسألة في المرآة والسيف احترازاً عن الحديد الذي عليه الجار بأنه لا يطهر إلا بالغسل.
قلت: ذكر في " البدرية " و " الذخيرة " و " المنافع ": خصهما بالذكر لكونهما مصقولين ولا مدخل للشرب فيهما حتى لو كانت قطعة غير مصقولة وأصابتها نجاسة لا يكتفي بمسحها، وفي " جامع الكردري ": الشرط أن يمسح مخففاً من غير مشقة للرطوبة، وعن أبي القاسم: ذبح شاة ومسح السكين على صوفها أو ما يزيل تطهر.
وفي " الحلية ": ذكر القاضي حسين: لو سقى السكين بماء نجس ثم غسل يطهر ظاهره دون باطنه، والحد في تطهيره أن يسقيه بماء طاهر مرة أخرى، ومجرد الغسل يكفي في تطهير الذهب والفضة وزبر الحديد وهذا عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعند أبي يوسف يمر السكين بالماء الطاهر ثلاثاً ويجفف في كل مرة.
وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يطهر أبداً، وفي " الإيضاح ": السيف يطهر بالمسح، لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يقتلون الكفار بسيوفهم ثم يمسحونها ويصلون معها، ولأن الغسل يفسدها فكان في تركها ضرورة. وفي " الفتاوى " أيضاً: وكذا لو لحس السكين بلسانه حتى ذهب أثر الدم طهر. وعند أبي يوسف: السيف إذا أصابه دم أو عذرة فمسحه بخرقة أو تراب حتى لو قطع به بطيخة أو غيره كان طاهراً وأباح أكله.
وفي " المبسوط ": وسكين القصاب تطهر بالمسح بالتراب. وفي " المحيط " و" القنية ": ما دامت النجاسة رطبة لا تطهر إلا بالغسل، فإن جفت أو جففها بالمسح بالتراب أو غيره تطهر بالحت أو تطهر بالمسح.
[كيفية تطهير الأرض التي أصابتها نجاسة]
م: (وإن أصابت الأرض النجاسة فجفت بالشمس وذهب أثرها) ش: قيد الجفاف بالشمس وقع اتفاقاً، لأن الغالب جفاف الأرض بالشمس، وليس باحتراز على الجفاف بأمر آخر، لأن الأرض إذا جفت بالنار أو بالريح م: (جازت الصلاة على مكانها) ش: أي مكان النجاسة التي جفت، وهذا الكلام يشير إلى أنه لا يجوز التيمم به وهو ظاهر الرواية. وروى ابن طاوس والنخعي عن أصحابنا أنه يجوز التيمم به لأنه حكم بطهارته كذا في " المبسوط "، ومذهب علمائنا(1/719)
وقال زفر والشافعي - رحمهما الله - لا تجوز لأن لم يوجد المزيل. ولهذا لا يجوز التيمم بها، ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «زكاة الأرض يبسها»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثلاثة وهو قول أبي قلابة والحسن البصري ومحمد بن الحنفية.
وقال النووي: إذا جف لا بأس بالصلاة عليه.
م: (وقال زفر والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تجوز) ش: وبه قال مالك وأحمد، وللشافعي قولان في القديم، وفي " الإملاء ": يطهر، وفي " الأم ": لا يطهر، وقيل: القطع بأنها تطهر، والقولان فيما إذا لم يبق للنجاسة طعم ولا ريح ولا لون، وعند أحمد: لا يطهر، وقال إمام الحرمين: إنهم أطردوا القولين في الثوب كالأرض، وهل يطهر الثوب بالجفاف. وفي الظل وجهان ذلك كله للنووي في " شرح المهذب ".
واختلفوا في الشجر، والكلام [معناه أنه] ما دام قائماً على الأرض يطهر بالجفاف وبعد القطع لا يطهر إلا بالغسل م: (لأنه لم يوجد المزيل) ش: للنجاسة إذا أصابت فلا يطهر م: (ولهذا) ش: أي ولأجل عدم المزيل م: (لا يجوز التيمم بها) ش: أي بمكان النجاسة التي أصابت وجفت.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زكاة الأرض يبسها» ش: هذا لم يرفعه أحد إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما هو مروي عن أبي جعفر محمد بن علي أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه " عنه، قال: "زكاة الأرض يبسها "، وأخرج عن ابن الحنفية وأبي قلابة قال: "إذا جفت الأرض فقد زكت".
وروى عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة، قال: "جفوف الأرض طهورها "، في " الأسرار ": الحديث المذكور موقوف على عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وقال صاحب " الدراية ": هذا الحديث لم يوجد في كتب الحديث، وهذا لا أصل له لأنه [لم] يثبت بنقل العدل أو يكون ذلك النقل بالمعنى عند من جوزه.
وقال الأكمل: ولقائل أن يقول: معناهما واحد فيجوز أن يكون نقلاً بالمعنى فيكون مرفوعاً. قلت: إنما يجوز نقل الحديث بالمعنى عند من يجوزه إذا كان حديثان معناهما واحد، وكيف يقال فيكون مرفوعاً والمنقول عنه لم يعرف، ولكن يقال: محمد بن الحنفية الذي انتصب مفتياً في زمان الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تقلد عنه بعض مشايخنا كذا في " التقويم ".
وعند ابن إسحاق [......] ثم يروي في كتاب " طبقات الفقهاء " عن محمد بن الحنفية من فقهاء التابعين بالمدينة.
وقال فيه: روي عن محمد بن الحنفية أنه قال: الحسن والحسين خير مني وأنا أعلم بحديث(1/720)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبي منهما، وذلك لأن الصحابة لما قرروه على الفتوى منهم صار كواحد منهم [ ... ] ، كما إذا فعل فعل بين يدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسكت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما روي عنه أن زكاة الأرض يبسها ولم يرو عن غيره خلافه حل محل الإجماع ولا سيما وقد وافقه أبو جعفر محمد بن علي وأبو قلابة وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومحمد بن الحنفية مات سنة ثمانين. وقيل: سنة إحدى وثمانين وهو ابن خمس وستين سنة.
ولد في خلافة أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ومع هذا استدل أكثر أصحابنا في هذه المسألة بما رواه أبو داود عن أحمد بن صالح قال: حدثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: حدثني حمزة بن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كنت أبيت في المسجد على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكنت فتى شاباً، عزباً، فكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك، وأخرجه أيضاً أبو بكر بن خزيمة في "صحيحه ".
فإن قلت: قال الخطابي: يتأول على أنها كانت تبول خارج المسجد في مواطنها وتقبل وتدبر في المسجد [......] وإنما كان إقبالها وإدبارها في أوقات نادرة، ولم يكن على المسجد أبواب حتى تمنع عن عبورها فيه.
قلت: هذا تأويل بعيد جداً، لأن قوله في المسجد ليس ظرفاً لقوله: تقبل وتدبر، بل إنما هو ظرف لقوله: تبول وتقبل وتدبر، كلها وأيضاً قوله: يكونوا يرشون شيئاً من ذلك، يمنع التأويل لأنها كانت تبول في موطنها ما كان يحتاج إلى ذكر الرش وغيره إذ لا فائدة فيه.
وأبو داود بوب على هذا بقوله: باب طهور الأرض إذا يبست، فهذا أيضاً يرد عليه هذا التأويل الظاهر أنها كانت تبول في المسجد، ولكنها تنشف فتطهر فلا يحتاج إلى رش الماء، وإنما حمل الخطابي على هاذ التأويل الفاسدة منعه هذا الحديث أن لا يكون حجة للحنفية عليهم.
فإن قلت: احتجوا علينا بما رواه مسلم «عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مه مه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تزرموه" فتركوه حتى بال، ثم أمر رجلاً فدعا بدلو من ماء فسنه عليه» . وأخرجه البخاري أيضاً ولفظه: «فبال في طائفة من المسجد فزجره الناس فنهاهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما قضى بوله، أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذنوب من ماء فأهريق عليه» . وأخرجه النسائي وابن ماجه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أيضاً.
قوله: مه، أمر فعل من مونة، ومعناه اكفف، [و] مه الثاني تأكيد له. وقوله: لا تزرموه(1/721)
وإنما لا يجوز التيمم لأن طهارة الصعيد ثبتت شرطًا بنص الكتاب فلا تتأدى بما ثبت بالحديث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بتقديم الزاي على الراء المهملة أي لا تقطعوا عليه بوله. فسنه بالسين المهملة، ويروى بالمعجمة، فمعنى الأول الصب المتصل، ومعنى الثاني: الصب المنقطع، قوله: في طائفة من المسجد أي قطعة منه، والذنوب بفتح الذال المعجمة الدلو الكبير، وقيل: لا يسمى ذنوباً إلا إذا كان فيه ماء. قلت: نحن ما تركنا العمل، ونحن نقول أيضاً بصب الماء إذا كانت الأرض رخوة حتى ينتقل منها، فإذا لم يبق على وجهها شيء من النجاسة وانتقل الماء يحكم بطهارتها ولا يعتبر فيه العدد، فإن كانت الأرض صلبة، أو كانت صعبة الحفر [حفر] في أسفلها حفيرة ويصب عليها ثلاث مرات، وينقل [التراب] إلى الحفيرة حتى تيبس الحفيرة، وإن كانت مستوية بحيث لا يزول عنها الماء لا يغسل لعدم الفائدة بل يحفر. وعند أبي حنيفة لا تحفر الأرض حتى تجف الأرض إلى الموضع الذي وصلت إليه النداوة، وينقل التراب.
ودليلنا على الحفر ما رواه الدارقطني بإسناده إلى عبد الله بن الزبير قال: «جاء أعرابي فبال في المسجد، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكانه فاحتفر فصب عليه دلو من ماء» وما رواه عبد الرزاق في "مصنفه " عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس: قال: «بال أعرابي في المسجد فأرادوا أن يضربوه، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "احفروا مكانه واطرحوا عليه من ماء علموا ويسروا ولا تعسروا» ".
فإن قلت: الأول مرفوع ضعيف لأن في إسناده سمعان بن مالك ليس بالقوي، وقال ابن خراش مجهول. والثاني مرسل وتركتم الحديث الصحيح.
قلت: لا نسلم ذلك فإنا قد عملنا بالكل، فعملنا بالصحيح كما إذا كانت الأرض صلبة، وعملنا بالضعيف على زعمكم فيما إذا كانت الأرض رخوة، والعمل بالكل أولى من العمل بالبعض والإجمال بالبعض.
فإن قلت: كيف تحملون الأرض فيه على الصلب، وقد ورد الأمر بالحفر يدل على أنها كانت رخوة.
قلت: يحتمل أن يكون يصبان في الواحدة كانت الأرض صلبة وفي الأخرى كانت رخوة.
م: (وإنما لا يجوز التيمم، لأن طهارة الصعيد ثبتت شرطاً بنص الكتاب فلا تتأدى بما ثبت بالحديث) ش: هذا جواب عن قول زفر والشافعي ولهذا لا يجوز التيمم به، تقرير الجواب أن طهارة الصعيد الذي هو وجه الأرض تثبت ببعض الكتاب وهو قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] (النساء:(1/722)
وقدر الدرهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الآية 43) . فلا يتأدى بما ثبت بخبر الواحد، كما لا يجوز التوجه إلى الحطيم. وإن كان ورد فيه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحطيم من البيت» ولأن التيمم قائم مقام الوصف، فلما كان قليل النجاسة مانعاً بلا خلو صار مانعاً للخلو بطريق الأولى، والمراد من النص عبارة الكتاب فلا يعارض ما ثبت بخبر الواحد، بخلاف اشتراطه طهارة، فإن ذلك ثبت بدلالة النص فحينئذ يعارض بما ثبت بخبر الواحد، لأن العبارة فوق الدلالة.
فإن قلت: الثابت بها قطعي كالثابت بالعبارة فكيف يجوز معارضة خبر الواحد للدلالة.
قلت: النص الوارد في طهارة المكان مخصوص، لأنه خص من النجاسة القليلة بالإجماع فعارضه خبر الواحد بخلاف النص الوارد في التيمم قطعي بلا معارضة خبر الواحد.
وقال الأكمل: فإن قلت: أليس قد تقدم أن طهارة المكان ثبتت بدلالة قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] والثابت بالدلالة كالثابت بالعبارة في كونه قطعياً حتى ثبت الحد والكفارات بدلالة النصوص فوجب أن لا تجوز الصلاة عليها كما يجوز التيمم بها. أجيب بأن الآية هنا ظنية، لأن المفسرين اختلفوا في تفسيرها، فقيل: المراد به تطهير الثوب، وقيل: تقصيره للمنع عن التكبر والخيلاء، فإن العرب كانوا يجرون أذيالهم تكبرا، وقيل المراد تطهير النفوس عن المعائب. والأخلاق الرديئة، وإذا كان كذلك كان ظني الدلالة ولهذا لا يكفر من أنكر اشتراط طهارة الثوب وهو خطأ، وتكون الدلالة لذلك.
قلت: لا يوافق معنى الآية هاهنا، لأن من فسر بتطهير الثوب وهو الذي تقتضيه اللغة وبقية التفاسير لا تساعدها اللغة بل فيها تفسير أهل التصوف، فكيف يكون هذا ظني الدلالة، وكل واحد من هذه المعاني خلاف المعنى اللغوي غير قطعي، فكيف يصير القطعي بهذا ظنياً.
والجواب السديد أن يقال: خص من هذه الآية غير حالة الصلاة والنجاسة القليلة والثياب التي أعدت للدخول والبروز وإعمام المخصوص ظني فيجوز تخصيصه بخبر الواحد.
فإن قلت: النص لا عموم له في الأحوال، لأنها غير داخلة فيه وإنما يثبت ضرورة ولا عموم لما ثبت في الضرورة والخصوص يستدعي بسبق العموم. قلت: لا عموم له في الأحوال لأنه لما قال: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] (المدثر: الآية 4) تناول تطهير الثياب في كل حالة يلحقها الخصوص بعد ذلك فصارت ظنية الدلالة فافهم.
[ما يعفى عنه من النجاسات]
م: (وقدر الدرهم) ش: كلام إضافي مبتدأ وخبره يأتي، والمراد به الدرهم الشهليلي نسبة إلى موضع يسمى الشهليل، وفي " المغرب ": الشهليلي من الدراهم: مقدار عرض الكف، وفي " المحيط ": الدرهم ما يكون مثل عرض الكف، وفي "صلاة الأحد": الدرهم الكبير المثقال،(1/723)
وما دونه من النجس المغلظ كالدم والبول والخمر وخرء الدجاج وبول الحمار جازت الصلاة معه، وإن زاد لم تجز. وقال زفر والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قليل النجاسة وكثيرها سواء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومعناه ما يبلغ وزنه مثقالاً، وفي بعض الكتب: قدره بالدرهم البغلي.
وعند السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعتبر بدرهم زمانه، وفي " الأسرار ": دون الدرهم لا يمنع جواز الصلاة لكن تكره الصلاة معها م: (وما دونه) ش: أي ما دون قدر الدرهم وهذا الخبر لا يخفى م: (من النجس المغلظ) ش: كلمة من للبيان.
م: (كالدم والبول والخمر وخرء الدجاج وبول الحمار) ش: وخرء الحية وبولها ومرارة كل شيء كبوله م: (جازت الصلاة معه) ش: جازت الصلاة جملة فعلية في محل الرفع على أنها خبر المبتدأ، لا عن قوله: وقدر الدرهم، قوله: معه، أي مع قدر الدرهم وما دونه م: (وإن زاد لم تجز) ش: يعني: وإن زاد النجس المغلظ على قدر الدرهم لم تجز صلاته.
م: (وقال زفر والشافعي: قليل النجاسة وكثيرها سواء) ش: وفي " المبسوط ": وقال الشافعي: إذا كانت النجاسة بحيث يقع البصر عليها يمنعه، وفي " الحلية ": النجاسة دم وغير دم، فغير الدم إذا لم يدركه البصر فيه ثلاثة طرق: أحدها: يعفى، والثاني: لا يعفى، والثالث: قولان: أما الدم فيعفى عن القليل من دم البراغيث والكثير فيه وجهان: أصحهما أنه يعفى عنه.
وقال الإصطخري: لا يعفى، وفي دم غيرها ثلاثة أقوال، أصحها: أنه يعفى عن المقدار الذي يتعافاه الناس بينهم. والثاني: لا يعفى عن شيء منه، وفي القديم: يعفى عما دون الكف، وعن مالك: يعفى عن يسير الدم ولا يعفى عما تفاحش، وغيره في دم الحيض روايتان، إحداهما: أنه كغيره، والثانية: أنه يستوي فيه قليله وكثيره.
وحكي عن أحمد أنه قال: الكثير ما تفاحش وحكي عنه أيضاً أنه يعفى عن النقطة والنقطتين، واختلف عنه فيما بين ذلك.
وقال النووي: اتفق أصحابنا أنه يعفى عن قليل الدم، وفي كثيره وجهان مشهوران، أحدهما: قاله الإصطخري: لا يعفى عنه، وأصحهما باتفاق الأصحاب يعفى عنه، وهو قول ابن شريح وأبي إسحاق وسائر أصحبانا، والقليل ما يعفوه الناس أي عدوه عفواً، والكثير ما غلب على الثوب وطبعه، وقيل في القليل قدر ما دون الكف، وفي الجديد وجهان: أحدهما: الكثير ما يظهر للناظر من غير تأمل، والقليل دونه وأصحهما الرجوع إلى العادة، وهذه الأقاويل في دم غيره، وأما في دم نفسه فضربان: أحدهما: ما يخرج من بثره فله حكم دم البراغيث بالاتفاق، والثاني: ما يخرج من الفصد ففيه طريقان.(1/724)
لأن النص الموجب للتطهير لم يفصل، ولنا أن القليل لا يمكن التحرز عنه فيجعل عفوا، وقدرناه بقدر الدرهم أخذا عن موضع الاستنجاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن النص الموجب للتطهير) ش: النص هو قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] (المدثر: الآية 4) ، وغيره من الأحاديث م: (لم يفصل) ش: بين القليل والكثير، إلا أن الشافعي ومن معه لم يعتبروا إلا ما تراه العين لعدم إمكان الاحتراز عنه.
م: (ولنا أن القليل لا يمكن التحرز عنه فيجعل عفواً) ش: إجماعاً لأن ما عمت بليته سقطت قضيته. وأما الحدث فإنه لا يتجزأ ولا حرج في تكليف إزالته م: (وقدرناه) ش: أي القليل الذي هو خلاف الكثير م: (بقدر الدرهم) ش: المثقالي إن كان النجس ذا جرم وقدر عرض الكف إن كان مائعاً على ما يأتي م: (أخذا عن موضع الاستنجاء) ش: أخذاً منصوب، لأنه مفعول مطلق، قال الأكمل: مفعول مطلق من قدرناه، لأن فيه معنى الأخذ، قلت: الأحسن أن يقول: تقديره وقدرناه حال كوننا آخذين أخذاً في موضع الاستنجاء، والمراد من مواضع الاستنجاء موضع خروج الحدث، روي عن إبراهيم النخعي أرادوا أن يقولوا مقدار المقعد، واستقبحوا ذلك فقالوا مقدار الدرهم.
فإن قلت: النص، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] (المدثر: الآية 4) ، لم يفصل بين القليل والكثير فلا يعفى عن القليل، قلت: القليل غير مراد منه بالإجماع، بدليل عفو موضع الاستنجاء فيتعين الكثير. وأجاب بعضهم بما روي عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في الدم إذا كان أكثر من قدر الدرهم أعاد الصلاة، فشرط إعادتها في الزيادة على قدر الدرهم.
قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني في "سننه " عن روح بن غطيف عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تعاد الصلاة من قدر الدرهم من الدم» . وفي لفظ: «إذا كان في الثوب قدر الدرهم غسل الثوب وأعيدت الصلاة» .
وقال البخاري: هذا حديث باطل، وروح هذا منكر الحديث. وقال ابن حبان: هذا حديث موضوع لا شك فيه، لم يقله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن اخترعه عنه أهل الكوفة وكان روح ابن غطيف يروي الموضوعات عن الثقات.
ذكره ابن الجوزي في " الموضوعات " من طريق نوح بن أبي مريم عن يزيد الهاشمي، وأغلط في نوح بن أبي مريم.
وروى البيهقي عن ابن عمر: أنه رأى دماً في ثوبه وعليه ثياب فرمى بالثوب الذي فيه الدم وأقبل على صلاته، وروي عن القاسم بن محمد أنه رأى دماً في ثوبه وهو في الصلاة فخلعه ولم يستقبل، فدل على أن منع الدم دون القليل منه.(1/725)
ثم يروى اعتبار الدرهم من حيث المساحة وهو قدر عرض الكف في الصحيح، ويروى من حيث الوزن وهو الدرهم الكبير المثقال وهو ما يبلغ وزنه مثقالا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذكر في " الأسرار " عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما قدرا النجاسة بالدرهم. وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كساء فقال رجل: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه لمعة من دم، فقبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما يليها، فبعث بها إلي مصرورة في يد الغلام فقال: "اغسلي هذه ولم يعد صلاته» " فدل على أن القليل من النجاسة محتمل، وأمر بغسلها لأنه يستحسن إزالة القليل منها وإيضاعه بنظر الدم.
وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قدرها بظفره، قال في " المحيط ": وكان ظفره قريباً من كفنا، فدل على أن ما دونه لا يمنع، قال: وقول عمر يبطل قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في منع التقدير.
م: (ثم يروى اعتبار الدرهم من حيث المساحة) ش: أشار بهذا إلى بيان اختلاف عبارات عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في اعتبار الدرهم، فروي عن محمد أن اعتباره بالمساحة م: (وهو قدر عرض الكف) ش: أي ما وراء مفاصل الأصابع، وهذا الاعتبار يروى عن الكرخي عن محمد م: (في الصحيح) ش: أشار به إلى أن هذا الاعتبار هو الصحيح ذكره محمد في " النوادر "، وقال: الدرهم الكبير هو ما يكن مثل عرض الكف.
م: (ويروى من حيث الوزن وهو الدرهم الكبير المثقال) ش: أي اعتبار الوزن في الدرهم، هو الدرهم الكبير المثقال، ذكر هذا عن محمد أنه ذكره في كتاب " الصلاة " إلى اعتبار الدرهم الكبير المثقال.
قال الأترازي: وقوله: الكبير المثقال يجوز برفع اللام على أنه صفة بعد صفة، أي الدرهم الموصوف بأنه مثقال، ويجوز بجر اللام للإضافة كما في الحسن الوجه، فافهم. و [قال] بعض المتقلدين الفقه في الدين: الأحسن لم [ ... ] ،، ومن لا يعلم الإعراب يظن أن المثقال لا يجوز جره لأنه يلزم حينئذ دخول اللام في المضاف ولهذا [ذلك] إلا من سوء فهمه وقلة علمه وعدم إدراكه؛ لأن الإضافة اللفظية يجوز فيها دخول اللام في المضاف م: (وهو ما يبلغ وزنه مثقالاً) ش: أي الدرهم الكبير هو الذي يبلغ وزنه مثقالاً وانتصاب مثقالاً على أنه مفعول يبلغ ومعناه ما يصل إليه كما في قولك: بلغت لمكان كذا، معناه: وصلت إليه، وكذلك إذا شارفت عليه، ومنه قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 234] (البقرة: الآية 234) ، أي قاربنه وشارفن عليه.(1/726)
وقيل في التوفيق بينهما أن الأولى في الرقيق والثاني في الكثيف، وإنما كانت نجاسة هذه الأشياء مغلظة لأنها ثبتت بدليل مقطوع به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل) ش: قائله أبو جعفر الهندواني م: (في التوفيق بينهما) ش: أي بين الروايتين المذكورتين م: (أن الأولى في الرقيق) ش: أي أن الرواية الأولى وهي اعتبار الدرهم من حيث المساحة في النجس الرطب والمائع م: (والثانية في الكثيف) ش: أي: والرواية الثانية، وهي اعتبار الوزن في النجس [في] المسجد كالعذرة، وهو الصحيح نص عليه في " المحيط "، لأن التقدير بالعرض في المسجد قبيح.
وفي جامع " الكردري " وهو المختار في " المبسوط " و " الخلاصة " الدرهم يكون من القدر المعروف في البلد، وأما النقود المنقطع عملها كالبشهيلي وغيره، قيل: يعتبر، وهو ضعيف.
م: (وإنما كانت نجاسة هذه الأشياء) ش: يعني الأشياء المذكورة كالدم والبول والخمر ونحوها م: (مغلظة) ش: يعني موصوفة بالتغليظ م: (لأنها) ش: أي لأن هذه الأشياء أي نجاستها م: (ثبتت بدليل مقطوع فيه) ش: أي بنص وارد فيه بلا معارضة نص آخر كالخمر مثلاً، فإن نجاسته بنص القرآن لقوله (رجس) أي نجس ولم يعارضه نص آخر.
فإن قلت: لا يظهر من الآية دلالة ظاهرة على نجاسة الخمر، لأن الرجس عند أهل اللغة القذر، ولا يلزم ذلك النجاسة. وكذا الأمر الوارد بالاجتناب لا يلزمه فيه النجاسة.
قلت: لما رمى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالروثة وقال: "إنها رجس، أو ركس) دل على أن الرجس النجس.
فإن قلت: حكي عن ربيعة وداود أنهما قالا: الخمر طاهرة فأقل [ ... ] أن يكون نجساً مخففاً.
قلت: نقل أبو جسامة الإجماع على نجاستها وأراد بها النجاسة المغلظة.
فإن قلت: يلزم بما ذكرت أن يكون ما عطف على الخمر في الآية نجساً.
قلت: القران في النظم لا يوجب القران في الحكم، ويكون المراد من قوله بدليل مقطوع به الإجماع، كالدم مثلاً فإنه حرمه فأشبه بنص القرآن، ونجاسته مجمع عليها بلا خلاف وهو حجة قطعية. والمراد من الدم: الدم المسفوح، وفي " الجنازية ": والمراد بكونه قطعياً أن يكون سالماً عن الأسباب الموجبة للتخفيف من معارض النصين، [ ... ] الاجتهاد والضرورات المحققة.
قلت: لا يلزم منه سلامته عما ذكر أن يكون مقطوعاً به، لأن خبر الواحد السالم عن ذلك لا يكون الحكم الثابت به وحده متطوعاً به، وعلى هذا الأصل الاختلاف بين أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(1/727)
وإن كان مخففا كبول ما يؤكل لحمه جازت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وصاحبيه، فإن التغليظ عند أبي حنيفة يثبته بنص، فعلى نجاسته من غير معارضة نص آخر في طهارته، والتخفيف يثبت بتعارض النصين، وعندهما التغليظ يثبت بما وقع الإجماع على نجاسته، والتخفيف بما وقع الاختلاف.
وفائدة الخلاف تظهر في مثل الروث، فعنده نجس مغلظ لحديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليلة الجن، ولم يعارضه غيره، وعندهما: مخفف لأنه عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - طاهر، ومن الأشياء المذكورة فيما مضى البول وهو على أنواع أربعة:
الأول: بول الآدمي الكبير فحكمه أنه نجس مغلظ بإجماع المسلمين من أهل الحل والعقد، وابن المنذر نقل الإجماع عن أصحابنا وأصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
الثاني: بول الصبي الذي لم يطعم فكذلك عند جميع أهل العلم قاطبة إلا ما نقل عن داود الظاهري بطهارتها ولا يعتبر خلافه، وعند الشافعي نجاسة خفيفة، وقال الأوزاعي: لا بأس ببول الصبي ما دام يشرب اللبن ولا يأكل الطعام، وهو قول عبد الله بن وهب صاحب الإمام مالك، واحتجوا في ذلك بأحاديث منها: ما رواه البخاري ومسلم واللفظ له عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم، فأتي بصبي فبال عليه فدعى بماء فأتبعه بوله ولم يغسله» . قلنا: لم يغسله محمول على نفي المبالغة فيه، وما ورد في الأحاديث من النضح المراد به الصب، وقال في " المعلم في شرح صحيح مسلم ": بال في ثوبه - عائد إلى الصبي - وهو في حجره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على ثوب نفسه فنضح ثوبه خوفاً من أن يكون طار منه على ثوبه، وهو بعيد، لأن الآثار جاءت صريحة بأن المراد به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والثالث: بول الحيوان الذي لا يؤكل لحمه، فحكمه أنه نجس مغلظ عندنا، وعند الشافعي وعند الإمام مالك والفقهاء كافة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "استنزهوا" وحكي عن النخعي طهارته، وهو مردود، وحكى ابن حزم الظاهري عن داود: أن الأبوال كلها والأرواث كلها طاهرة من كل حيوان إلا الآدمي، وهذا في نهاية الفساد.
والرابع: بول الحيوان الذي يؤكل لحمه فحكمه أنه نجس عند أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي وغيرهم - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - على ما يأتي تفصيله في "النجاسة". وقال مالك وعطاء والثوري والنخعي وزفر وأحمد: بوله وروثه طاهران، واختاره الروياني وابن خزيمة من أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هكذا حكاه النووي، والصواب في مذهب زفر: أن روثه نجس مخفف كمذهب أبي يوسف ومحمد، وعند محمد والليث بوله طاهر وروثه.
م: (وإن كان) ش: النجس م: (مخففاً كبول ما يؤكل لحمه) ش: كالإبل والبقر والغنم م: (جازت(1/728)
الصلاة معه حتى يبلغ ربع الثوب، يروى ذلك عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن التقدير فيه بالكثير الفاحش والربع يلحق بالكل في بعض الأحكام، وعنه ربع أدنى ثوب تجوز فيه الصلاة كالمئزر، وقيل: ربع الموضع الذي أصابه كالذيل والدخريص، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - شبر في شبر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصلاة معه حتى يبلغ ربع الثوب) ش: أي إلى أن يبلغ النجس المخفف ربع الثوب م: (يروى ذلك عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي يروى جواز الصلاة مع النجس المخفف ما لم يبلغ ربع الثوب، رواه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (لأن التقدير فيه) ش: أي في النجس المخفف م: (بالكثير الفاحش) ش: في منع الصلاة، وذلك لأن الكثير ما يستكثره الناظر ويستفحشه م: (والربع يلحق بالكل في بعض الأحكام) ش: كمسح الرأس وانكشاف العورة، وفي حق المحرم وغيرها.
م: (وعنه) ش: أي عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (ربع أدنى ثوب تجوز فيه الصلاة كالمئزر) ش: لأنه أقصر الثياب، وفيه الاحتياط، ويقرب منه ما قال أبو بكر الرازي: يعتبر السراويل احتياطاً م: (وقيل ربع الموضع الذي أصابه كالذبل والدخريص) ش: قال في " المحيط ": وهو الأصح، وكذا قال في " التحفة ".
م: (وعن أبي يوسف: شبر في شبر) ش: أي شبر طولاً، وشبر عرضاً، أخذا في باطن الخفين يعني ما يلي الأرض من الخف، فإن باطنهما يبلغ شبراً في شبر، فيجوز تقديم الكثير الفاحش به، وعن محمد: مقدار القدمين يعني قدم في قدم، قاله في " شرح الطحاوي "، وعن أبي يوسف: ذراع في ذراع ذكره في " المفيد ".
وفي " الذخيرة ": ما روى إبراهيم عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الكثير الفاحش في الخف [ ... ] ، وإنما خص الخف والقدمين لاستدامة الضرورة في ذلك، لاسيما في حق [
] .
وفي " المبسوط ": روي عن محمد: أن الروث لا يمنع إن كان كثيراً فاحشاً، وقال في آخر أقواله: يمنع حتى كان بالري مع الخليفة هارون الرشيد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فرأى في الطرق والخانات الأرواث، وللناس فيها بلوى عظيمة، وقال: سواء عليها طين بخارى، وإنما خصها لأن شني الناس والدواب يختلط فيها مثل ديار مصر، بخلاف المدائن وغيرها في أزقها يمشي على حدة ابن آدم، فإن البلوى فيها أقل. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه كره أن يحد لذلك حداً، وقال: الفاحش يختلف باختلاف طباع الناس، [و] توقف الأمر فيه على العادة وما يستفحشه المتبلى به كما هو دأبه.
م:(1/729)
وإنما كان مخففا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - لمكان الاختلاف في نجاسته أو لتعارض النصين على اختلاف الأصلين،
وإذا أصاب الثوب من الروث أو من أخثاء البقر أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة فيه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن النص الوارد في نجاسته وهو ما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رمى بالروثة وقال هذا رجس أو»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وإنما كان) ش: يعني بول ما يؤكل لحمه م: (مخففاً عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف لمكان الاختلاف في نجاسته) ش: على أصل أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن تخفيفها عنده إنما ينشأ من سوغ الاجتهاد م: (أو لتعارض النصين) ش: على أصل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهاهنا حديث الاستنزاه من البول وحديث العرنيين، فإن تخفيفها عنده ينشأ من تعارض النصين م: (على اختلاف الأصلين) ش: أي أصل أبي يوسف وأصل أبي حنيفة في بول ما يؤكل لحمه تعارض النصين، وأصل أبي يوسف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اختلاف العلماء وكل منهما على أصله في تخفيف بول ما يؤكل لحمه.
فإن قلت: أصل محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضاً مثل أصل أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلم لم يذكر محمداً معه؟
قلت: لأن الكلام في بول ما يؤكل لحمه وهو ليس بنجس عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فكان أصل أبي يوسف وحده في هذه المسائل، فلذلك لم يذكره معه، وقال السغناقي: وإنما أخر أصل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - رعاية لفواصل الألفاظ، فإنها ما تراعى، ألا ترى أن الله تعالى أخر خلق السموات عن خلق الأرض في سورة طه في قوله: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا} [طه: 4] وفي غيرها استمر ذلك، وذكر خلق السموات فتدخل الأرض نحو: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1] (الأنعام: الآية 1) وغير ذلك من الآيات.
وقال الأكمل: وأرى أن تقديمه ما كان ينافي ذلك، ولعله من باب الترقي.
قلت: هذا الذي ذكره إنما يراعى في كلام الفصحاء البلغاء ولا يراعى ذلك في عبارات الفقهاء، بل هم مسامحون في عباراتهم بذكر ألفاظ مخالفة لقواعد الصرف واصطلاحات النحاة، [......] على ذلك في مواضع من الكتاب إن شاء الله تعالى.
[حكم الروث أو أخثاء البقر]
م: (وإذا أصاب الثوب من الروث أو من أخثاء البقر) ش: والأخثاء جمع خثي بكسر الخاء المعجمة وسكون المثلثة. قال الجوهري: الخثي للبقر.
قلت: ولكل حيوان ذو ظلف، والخثي بالفتح مصدر خثي البقر يخثي خثياً من باب ضرب يضرب ضرباً م: (أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة فيه عند أبي حنيفة لأن النص الوارد في نجاسته) ش: أي نجاسة الخثي م: (وهو) ش: أي النص م: (ما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى بالروثة وقال: هذا رجس أو(1/730)
ركس لم يعارضه غيره ولهذا يثبت التغليظ عنده والتخفيف بالتعارض، وقالا يجزئه حتى يفحش، لأن للاجتهاد فيه مساغا وبهذا يثبت التخفيف عندهما، ولأن فيه ضرورة لامتلاء الطرق بها وهي مؤثرة في التخفيف، بخلاف بول الحمار،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ركس» ش: الحديث أخرجه البخاري، وتمامه عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى الغائط فأمرني أن آتيه بثلاث أحجار فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجد، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال: "هذا ركس» . ورواه ابن ماجه وقال: "هذا رجس" بالجيم. ورواه الدارقطني ثم البيهقي فزاد فيه: "ائتني بحجر" محتجين بذلك على وجوب الاستنجاء بثلاثة أحجار، وسيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى.
م: (لم يعارضه غيره) ش: جملة في محل الرفع لأنها خبر إن في قوله: لأن النص قوله: غيره ما روي من الحديث المذكور م: (ولهذا) ش: أي بورود نص على التنجيس لم يعارضه نص آخر م: (يثبت التغليظ عنده) ش: في النجاسة فحينئذ يكون الروث والخثي من النجاسة الغليظة عند أبي حنيفة بناء على أصله م: (والتخفيف بالتعارض) ش: أي يثبت التخفيف في النجاسة بتعارض النصين كما في حديث الاستنزاه عن البول بحديث العرنيين.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (يجزئه) ش: أي يجزئ المصلي إن أصاب ثوبه من الروث والخثي أكثر من قدر الدرهم م: (حتى يفحش) ش: أي حتى يصير فاحشاً وهو أن يبلغ ربع الثوب كما ذكرنا م: (لأن للاجتهاد فيه) ش: أي التخفيف م: (مساغاً) ش: أي جوازاً، حاصله أن الاجتهاد كالنص، قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] (الحشر: الآية 2) . فلما ثبت التخفيف بالنص ثبت بالاجتهاد أيضاً، فالروث عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - طاهر وعند ابن أبي ليلى السرقين ليس بشيء قليله وكثيره لا يمنع الصلاة لأنه وقود أهل الحرمين، ولو كان نجساً لما استعملوه كالعذرة.
م: (وبهذا) ش: أي ويجوز الاجتهاد في هذا الحكم م: (يثبت التخفيف عندهما) ش: أي يثبت تخفيف النجاسة عند أبي يوسف ومحمد م: (ولأن فيه ضرورة) ش: إشارة إلى التخفيف يثبت عندهما بشيء آخر وهو الضرورة، والضمير فيه يرجع إلى الروث م: (لامتلاء الطرق بها) ش: هذا بيان الضرورة أي لأجل امتلاء طرق الناس بها، أي بالروث والخثي م: (وهي) ش: أي الضرورة م: (مؤثرة في التخفيف) ش: أي في تخفيف النجاسة، ألا ترى أنها مؤثرة في سقوط النجاسة في الهرة، إلا أن الضرورة هاهنا دون الضرورة هناك فأوجبنا التخفيف دون الإسقاط.
[بول الحمار]
م: (بخلاف بول الحمار) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: أن الضرورة في(1/731)
لأن الأرض تنشفه. قلنا الضرورة في النعال وقد أثرت في التخفيف مرة حتى تطهر بالمسح فيكتفى بمؤنتها
ولا فرق بين مأكول اللحم وغير مأكول اللحم، وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فرق بينهما، فوافق أبا حنيفة في غير المأكول، ووافقهما في المأكول، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لما دخل الري
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بول الحمار كالضرورة في روثه، وقد قلتم بتغليظه، وتقرير الجواب أنا لا نسلم ذلك م: (لأن الأرض تنشفه) ش: أي تشربه من تنشف الثوب العرق، تنشف بكسر الشين في الماضي وفتحها في المستقبل فإذا كان كذلك قد يبقى على وجه الأرض منه شيء يبتل به الماء بخلاف الروث.
م: (قلنا إن الضرورة) ش: التي ذكرها في الروث إشارة إلى الجواب عما قالا في ثبوت التخفيف في الروث إنما هي م: (في النعال وقد أثرت في التخفيف مرة حتى تطهر بالمسح فيكتفي بمؤنتها) ش: أي بمؤنة الضرورة فلا يخفف في نجاستها ثانياً إلحاقاً للروث بالعذرة، فإن الحكم فيها كذلك بالاتفاق.
فإن قلت: هذا التعليل يخالف التعليل الذي ذكره في قدر القراءة في السفر في فصل القراءة وهو قوله لأن للسفر أثر في إسقاط الصلاة، فلأن يؤثر في تخفيف القراءة أولى حيث يستدل بوجود التخفيف مرة على تخفيفه ثانياً هناك، ومنعه هاهنا فما وجه. قلت: لا مخالفة بينهما في المعنى بل كل منهما في نجس، وذلك لأن سقوط شرط الصلاة في السفر من قبل رخصة الإسقاط والحكم فيها وهو أن لا يبقى العزيمة مشروعة أصلاً لسقوط العينية في المسلم، فلما كان كذلك الساقط كأن لم يكن أصلاً شيء لو أتى بالأربع كان الفرض هو الركعتين فقط، فكان في القراءة حينئذ ابتداء لا ثانياً، فلذلك راعى المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لفظ الإسقاط في الركعتين، ولفظ التخفيف في قدر القراءة إشارة إلى ما قلنا.
م: (ولا فرق بين مأكول اللحم وغير مأكول اللحم) ش: أراد بيان [أن] الأرواث كلها نجسة نجاسة خفيفة، وحال ذلك أنه لا فرق بين علمائنا الثلاثة في أصل نجاسة الروث، غير أن اختلافهم في الصفة، ولم يفرق في ذلك إلا زفر أشار إليه بقوله م: (وزفر فرق بينهما) ش: أي بين مأكول اللحم وغير مأكول اللحم م: (فوافق) ش: أي زفر وافق م: (أبا حنيفة في غير المأكول) ش: أي غير مأكول اللحم حيث قال: إن الروث إن كان من غير مأكول اللحم فهو نجس مغلظ كما قال أبو حنفية مطلقاً م: (ووافقهما) ش: أي وافق أبا يوسف ومحمداً - رحمهما الله - م: (في المأكول) ش: أي في مأكول اللحم، حيث قال: إن الروث إن كان من مأكول اللحم فهو نجس مخفف كما قالا مطلقاً، لأن حل الأكل مؤثر في حق النجاسة كما في الأبوال، ولنا ما مر.
م: (وعن محمد أنه لما دخل الري) ش: بفتح الراء وتشديد الياء اسم مدينة في عراق العجم(1/732)
ورأى البلوى أفتى أن الكثير الفاحش لا يمنع أيضا، وقاسوا عليه طين بخارى أو عند ذلك رجوعه في الخف يروى
وإن أصابه بول الفرس لم يفسده حتى يفحش عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يمنع وإن فحش لأن بول ما يؤكل لحمه طاهر عنده مخفف نجاسته عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولحمه مأكول عندهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كبيرة، ويكون قدر عمارتها فرسخاً ونصفاً في مثله، وفيها نهران جاريان وهي أيضاً بها قبر محمد بن الحسن والكسائي وبها ولد الرشيد، لأن المهدي تركه في خلافة المنصور [......] . فلذلك سمى الري المحمدية، والنسبة إليها الرازي بزيادة الزاي في آخرها على غير القياس، وكان دخول محمد الري مع هارون الرشيد م: (ورأى البلوى) ش: أي بلية الناس في الأرواث م: (أفتى بأن الكثير الفاحش لا يمنع أيضاً) ش: لما فيه من البلوى م: (وقاسوا عليه) ش: أي قياس مشايخ بخارى على قياس قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (طين بخارى) ش: وإن فحش لما فيه من الضرورة، وإن كان ترابه مختلطاً بالعذرات، ويبتنى على هذا مسألة معروفة وهي أن الماء والتراب إذا اختلطا وصارا طيناً وأحدهما نجس، فقيل: العبرة فيه بالماء، وقيل: بالتراب، وقيل: بالغالب، وقيل: أيهما كان طاهراً فالطين طاهر، وبه قال الأكثر، وقيل: إن كانا نجسين فالطين طاهر، لأنه صار شيئاً آخر كالخمر إذا تخللت، والكلب والخنزير إذا صارا ملحاً في المملحة م: (أو عند ذلك) ش: أي عند دخول محمد الري وقرينة البلوى م: (رجوعه في الخف يروى) ش: أي رجوعه عن قوله في الخف بأنه لا يطهر به بالدلك يروى عنه وقد تقدم أن مذهبه أن النجاسة التي لها جرم إذا أصابت الخف لا يجزئ فيها الدلك، بل يشترط فيها الغسل فرجع عن قوله هذا إلى قولهما فقال: لا يجزئ فيها الدلك، ولا يحتاج إلى الغسل لما رأى من كثرة السرقين في طريق الري وكثر الزحام.
[حكم بول الفرس]
م: (وإن أصابه) ش: أي الثوب م: (بول الفرس لم يفسده) ش: أي الثوب يعني لم يضره م: (حتى يفحش) ش: أي حتى يصير فاحشاً بأن يبلغ ربع الثوب م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -) ش: وكل واحد منهما مشى على أصله، أما عند أبي حنيفة فالفرس غير مأكول وبوله نجس مخفف لتعارض الآثار، ولولا التعارض لكان نجساً مغلظاً على أصله، وأما عند أبي يوسف فلأنه مأكول وبوله مخفف وبقي الكلام في قول محمد فعنده بول الفرس طاهر.
أشار إليه بقوله م: (وعند محمد لا يمنع) ش: أي لا يمنع جواز الصلاة م: (وإن فحش) ش: يعني وإن صار فاحشاً بأن زاد على الربع م: (لأن بول ما يؤكل لحمه طاهر عنده) ش: أي عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فخفف نجاسته) ش: أي نجاسة بول الفرس م: (عند أبي يوسف) ش: على ما ذكرنا، وأشار إلى مبنى كلامهم بقوله م: (ولحمه مأكول عندهما) ش: أي لحم الفرس مأكول عند أبي يوسف ومحمد وكل منهما على أصله.(1/733)
وأما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فالتخفيف لتعارض الآثار.
وإن أصابه خرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور أكثر من قدر الدرهم أجزأت الصلاة فيه عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز، وقد قيل أن الاختلاف في النجاسة وقد قيل في المقدار.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبقي الكلام في قول أبي حنيفة أشار إليه بقوله (وأما عند أبي حنيفة فالتخفيف) ش: في بول الفرس م: (لتعارض الآثار) ش: فإن حديث العرنيين يدل على طهارة البول في الجملة، وحديث: استنزهوا من البول، يدل بعمومه على نجاسة البول مطلقاً.
فإن قلت: التعارض إنما يتحقق إن جهل التاريخ، وفي حديث العرنيين دلالة التقدم، لأن فيه المثلة فيكون منسوخاً، فلا تعارض بين الناسخ والمنسوخ.
قلت: أجاب الأكمل أخذاً من كلام السغناقي بقوله: سلمنا أن فيها تعارضاً ولكنه في بول ما يؤكل لحمه، والفرس عنده غير مأكول، والكراهة فيه كراهة التحريم فيكون بوله نجساً مغلظاً، ثم أجاب عنه بما ملخصه بأن حرمة الفرس لم تكن لنجاسته، بل تحرزاً عن تقليل مادة الجهاد فكان لحمه طاهراً، ولهذا قال بطهارة سؤره، ولكن يتحقق التعارض في بوله فيكون مخففاً.
قلت: طول الأكمل بما يشوش الناظر وخلاصة الجواب أن يقال: ذكر فخر الإسلام في الجامع الصغير: أن الفرس يؤكل لحمها، وهو قولهم جميعاً يعني عند أبي حنيفة أيضاً يؤكل، وإنما كره للتنزيه وهو المحابي عن قطع مادة الجهاد، والكراهة لا تمنع الإباحة كأكل لحم البقرة الجلالة قبل التنقية، فإن بوله كبول ما يؤكل لحمه. وقيل: أراد بالتعارض تعارض الآثار في لحمه، فإنه روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لحوم الخيل والبغال» وروي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن في لحوم الخيل» فهذا يوجب قولاً في تخفيف بوله لأنه مأكول من وجه فلا يكون كبول الكلب والحمار.
[حكم خرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور]
م: (وإن أصابه خرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور) ش: أي وإن أصاب الثوب خرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور مثل الصقر والبازي والشاهين ونحوها م: (أكثر من قدر الدرهم) ش: أكثر منصوب، لأنه حال من الخرء م: (أجزأت الصلاة فيه) ش: أي في ذلك الثوب م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يجوز، وقد قيل) ش: قائله الكرخي م: (أن الاختلاف في النجاسة) ش: يعني أنه طاهر عندهما ونجس عند محمد كاللحوم.
م: (وقد قيل) ش: قائله أبو جعفر الهندواني م: (في المقدار) ش: يعني أنه نجس بالاتفاق، لكنه خفيف عند أبي حنيفة غليظ عندهما، وأبو يوسف مع أبي حنيفة - رحمهما الله - على رواية(1/734)
وهو الأصح هو يقول إن التخفيف للضرورة، ولا ضرورة هاهنا لعدم المخالطة فلا تخفف، ولهما أنها تذوق من الهواء والتحامي عنه متعذر فتحققت الضرورة، ولو وقع في الإناء قيل: يفسده وقيل لا يفسده لتعذر صون الأواني عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكرخي ومع محمد على رواية الهندواني كما هو صريح في " المنظومة "، و " المختلف " ولا يفهم هذا من لفظ " الهداية "، بل الذي يفهم منه أن أبا يوسف في " الجامع الصغير " مع أبي حنيفة على الروايتين جميعاً، وجعل فخر الإسلام قول أبي يوسف في " الجامع الصغير " مع أبي حنيفة على رواية خفة نجاسة الخرء.
وعلى رواية طهارته م: (وهو الأصح) ش: أي كون الاختلاف في المقدار هو الأصح، نص عليه في " جامع قاضي خان " و " المحيط "، لأنه مما حاله طبع الحيوان إلى نتن وفساد، ولكن ذكر في " المبسوطين " و " محيط السرخسي " خلاف هذا فقال: ليس لما ينفصل من الطيور نتن وخبث رائحة ولا ينحى شيء من الطيور عن المساجد، فعرفنا أن خرء الجميع طاهر، ولأنه لا فرق في الخرء بين ما يؤكل لحمه وبين ما لا يؤكل لحمه.
وفي " المجتبى " قيل: خرء الحمار نجس إن كان سلطاً لكثرة علفها. وقال النووي: خرء الدجاج طاهر للبلوى، وخرء دود القز والفأرة وبولها نجس، وعن محمد: لا بأس ببولها وبول السنور الذي يعتاد من البول على الثياب لا بأس به للبلوى، وعن محمد: بوله طاهر وبه قال أبو نصر، وقيل: خفيفه، وفي " الإيضاح ": وبول الخنافس وخرؤها ليس بشيء لتعذر الاحتراز عنه، وخرء الحمام والعصفور طاهر.
م: (هو يقول أن التخفيف للضرورة) ش: أي محمد يقول بتخفيف النجاسة إنما يكون للضرورة م: (ولا ضرورة هاهنا لعدم المخالطة) ش: أي لعدم مخالطة هذه الطيور التي لا يؤكل لحمها مع الناس ولا تأوي البيوت م: (فلا تخفف) ش: بل تغلظ بخلاف الحمام والعصفور لوجود المخالطة فيهما.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أنها) ش: أي أن هذه الطيور م: (تذرق من الهواء) ش: بالذال المعجمة، من ذرق يذرق، ويذرق من باب نصر ينصر وضرب يضرب، ومعناه [رمى بسَلحِه] ، وذرق الطائر خرؤه (والتحامي عنه متعذر) أي التحفظ عنه صعب، لأنه يأتي بغتة من غير روية (فتحققت الضرورة) فتحققت للبلوى.
م: (ولو وقع) ش: خرء طير من هذه الطيور م: (في الإناء قيل: يفسده) ش: أي يفسد ما في الإناء، سواء كان ماء أو غيره من المائعات، وقال هذا أبو بكر الأعمش لإمكان صون الإناء بالتغطية ونحوها م: (وقيل: لا يفسده) ش: قائله الكرخي م: (لتعذر صون الأواني عنه) ش: أي عن(1/735)
وإن أصابه من دم السمك أو لعاب البغل أو الحمار أكثر من قدر الدرهم أجزأت الصلاة فيه، أما دم السمك فليس بدم على التحقيق. فلا يكون نجسا. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه اعتبر فيه الكثير الفاحش فاعتبره نجسا.
وأما لعاب البغل والحمار فلأنه مشكوك فيه فلا يتنجس به الطاهر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخرء المذكور، ولهذا قالوا يفسده خرء الدجاج لأنه لا ضرورة فيه حيث يمكن صون الأواني عنه.
[قدر الدرهم من دم السمك أو لعاب البغل أو الحمار]
م: (وإن أصابه) ش: أي الثوب م: (دم السمك أو لعاب البغل أو الحمار أكثر من قدر الدرهم أجزأت الصلاة فيه) ش: أي في ذلك الثوب م: (أما دم السمك فليس بدم على التحقيق) ش: لأن الدم على التحقيق يسود إذا شمس، ودم السمك يبيض، ولهذا يحل تناوله من غير ذكاة، ولأن طبع الدم حار وطبع الماء بارد، فلو كان للسمك دم لم يدم سكونه في الماء.
وفي " مبسوط شيخ الإسلام " أنه ما أخذ أي ما يتغير، وقال بعضهم: هو دم ولكنه طاهر، لأنه لو كان نجساً لأمر بالطهارة فصار حكمه حكم الكبد والطحال ودم يبقى في العروق كذا في " الإيضاح "، وفيه: أنه ما يلون، لأن الدم لا يمكن فيه.
فإن قلت: أثبت المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولاً أنه دم ثم نفاه وهذا تناقض. قلت: أجاب الأترازي بأنه أراد بالإثبات صورة الدم وبالنفي حقيقة الدم، قلت: يجوز أن يقال إن الإثبات بالنسبة إلى قول من قال: إنه دم حقيقة والنفي بالنسبة إلى قول الجمهور: أنه ليس بدم على التحقيق.
وقال أبو يوسف في قول الشافعي: هو نجس إلحاقاً بسائر الدماء، وهو ضعيف، ودم البق والبراغيث ليس بشيء، وبه قال مالك وأحمد في رواية لأنه ليس بمسفوح، ودم الحدأة والأوزاغ نجس؛ لأنه دم سائل وما يبقى في العروق واللحم طاهر لا يمنع جواز الصلاة وإن كثر لأنه ليس بمسفوح، ولهذا حل تناوله. وعن أبي يوسف أنه معفو عنه في الثياب لعدم الاحتراز فيه دون الثوب.
م: (فلا يكون نجساً) ش: هذا نتيجة قوله - فلأنه ليس بدم على التحقيق - فإذا لم يكن دماً حقيقة فلا يكون نجساً فلا يمنع الصلاة.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه اعتبر فيه) ش: أي في السمك م: (الكثير الفاحش فاعتبره نجساً) ش: مخففاً للضرورة، وهذه رواية المعلى عنه.
[لعاب البغل والحمار]
م: (وأما لعاب البغل والحمار فلأنه مشكوك فيه) ش: كسؤرها، ومعنى الشك تقدم م: (فلا يتنجس به الطاهر) ش: أي لا يتنجس بالمشكوك فيه الثوب الطاهر، فلا يمنع جواز الصلاة وإن كثر، وعن أبي يوسف أن لعاب البغل والحمار يمنعان جواز الصلاة إذا كثر، لأن اللعاب يتولد من(1/736)
وإن انتضح عليه البول مثل رءوس الإبر فذلك ليس بشيء، لأنه لا يستطاع الامتناع عنه.
قال: والنجاسة ضربان: مرئية وغير مرئية، فما كان منها مرئيا فطهارتها بزوال عينها، لأن النجاسة حلت المحل باعتبار العين فتزول بزوالها إلا أن يبقى من أثرها ما يشق إزالته لأن الحرج مدفوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اللحم النجس.
م: (وإن انتضح) ش: أي وإن ترشرش، وهو بالضاد المعجمة والحاء المهملة م: (عليه) ش: أي على المصلي م: (البول) ش: أراد به البول الذي أجمع على نجاسته بالتغليظ م: (مثل رءوس الإبر) ش: بكسر الهمزة وفتح الباء الموحدة جمع إبرة الخياط م: (فذلك ليس بشيء) ش: أي ليس بشيء معتبر، ولا مانع من جواز الصلاة معه.
فإن قلت: هذا شيء موجود فكيف يصح نفيه؟
قلت: من التفسير يعلم جوابه. وفي " الكافي " أما لو انتضح مثل رءوس المسلة يمنع لعدم الضرورة، وعن الفقيه أبي جعفر ما قاله محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الكتاب مثل رءوس الإبر دليل على أن الجانب الآخر من الإبر معتبر، وغيره من المشايخ لا يعتبر الجانبين دفعاً للحرج. ولو انتضح ويرى أثره لا بد من غسله، وإن لم يغسل حتى صلى به وهو بحال لو جمع كان أكثر من الدرهم أعاد كذا ذكر البقالي والمحبوبي في "جامعه ".
م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (لا يستطاع الامتناع عنه) ش: خصوصاً في مهب الرياح.
[أنواع النجاسة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (والنجاسة ضربان) ش: أي نوعان م: (مرئية) ش: أي يرى بالعين ويدرك بالنظر كالدم والعذرة، والآخر لا يرى ولا يدرك بالنظر وهو معني قوله م: (وغير مرئية) ش: كالبول ونحوه م: (فما كان منها) ش: أي من النجاسة م: (مرئياً فطهارتها بزوال عينها) ش: أي عين النجاسة من غير اشتراط عدد فيه م: (لأن النجاسة حلت المحل باعتبار العين فتزول بزوالها) ش: أي بزوال العين، وفي بعض النسخ بزواله بالضمير المذكر، أي بزوال العين أيضاً.
م: (إلا أن يبقى من أثرها ما يشق إزالته لأن الحرج مدفوع) ش: الكلام فيه في مواضع: الأول: في الاستثناء. قال السغناقي ما ملخصه: أن المستثنى منه محذوف غير مذكور لفظاً، لأن استثناء الأثر من العين لا يصح، لأنه ليس من جنسه فكان تقديره؛ فطهارته زوال عينه وأثره، إلا أن يبقى من أثره ما يشق إزالته، ثم استشكل بأن حذف المستثنى منه في المثبت فلا يجوز، فلا يقال: ضربني إلا زيد، ثم استدرك ذلك بأن هذا لا يجوز عند استقامة المعنى، وعند عدم الاستقامة يجوز بقولك: قرأت إلا يوم كذا، لأنه يجوز أن يقرأ الأيام كلها إلا يوماً، بخلاف: ضربني إلا زيد، فإنه لا يستقيم أن يضربه كل ويستثني زيداً، وهذا من قبيل ما يستقيم فيه المعنى، فإن قولك: فطهارته زوال عينه وأثره في جميع الصور إلا في صورة تشق إزالة أثره، مستقيم، وهو(1/737)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صاحب " الدراية " أخذ هذا يومئذ في شرحه. وأما الأكمل فإنه قال: وهذا استثناء العرض من العين فيكون منقطعاً.
قلت: لم يكن له حاجة إلى ادعاء حذف المستثنى منه ولا الاستشكال، والجواب عنه بل الأوجه هنا أن يقول: إلا هاهنا استثناء من قوله: فتزول بزوالها. والمعنى: فالنجاسة لا تبقى بزوال عينها كما حمل لفظ يأبى في قَوْله تَعَالَى {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32] (التوبة: 32) ، على معنى: لا يريد بهما بمعنى واحد، وكذلك هنا معنى قوله: فتزول، فلا تبقى، فحينئذ وجد الشرط في هذا الاستثناء وهو كون الكلام غير إيجاب، فيكون معنى فتزول النجاسة فلا تبقى النجاسة فتزول عنها إلا بقاء أثرها الذي يشق إزالته، فإنه معنوي فيجيء كلام الأكمل وهو استثناء العرض من العين فانتفى قول السغناقي، لأن استثناء الأثر من العين لا يصح.
الثاني: أن المراد من الأثر هو اللون والرائحة وتعريفهم المشقة بالاحتياج في قلعه إلى شيء أخر نحو الصابون والحرص وغيرها، ومنه قال الأكمل: ما يشق إزالته بالاحتياج إلى الإزالة إلى غير الماء كالصابون والأشنان.
قلت: هذا التفسير ليس بشيء لأن المعنى ليس على هذا، بل المعنى الذي يقتضيه التركيب؛ عدم إزالة الأثر بالماء لا يضر، والدليل عليه «حديث خولة بنت يسار سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن دم الحيض، فقال: "اغسليه" فقلت: فإن لم يخرج الدم؟، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يضرك أثره» ، أخرجه أبو داود في رواية ابن الأعرابي والبيهقي من طريقين.
وقال إبراهيم الحربي: لم يسمع بخولة بنت يسار إلا في هذا الحديث.
ورواه الطبراني في "الكبير " من حديث خولة بنت حكيم، ووهم ابن الأعرابي حيث عزاه إلى أبي داود، وليس كذلك، فإن أبا داود إنما رواه من حديث خولة بنت يسار كما ذكرنا، ولأن الأثر إذا لم يزل كان ذلك ضرورة فيسقط بهم حكم النجاسة، ولأن الأثر عبارة عن اللون والنجاسة ما كانت باعتبار اللون بل باعتبار العين والنتن وقدر الأقل.
فإن قلت: روى أبو داود عن معاذة قالت: سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن الحائض يصيب ثوبها الدم، قالت: تغسله، فإن لم يذهب أثره فلتغيره بشيء من صفرة، وفي رواية الدارمي: باصفرار الزعفران، فهذا يدل أن الاحتياج إلى شيء غير الماء.
قلت هذا موقوف، وأيضاً فلا يدل على أن الاحتياج المذكور ضروري، وإنما أمرت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بذلك لتغيير اللون لا للإزالة، فإن ذلك يشق وفيه حرج وهو مدفوع.(1/738)
وهذا يشير إلى أنه لا يشترط الغسل بعد زوال العين وإن زالت بالغسل مرة واحدة، وفيه كلام، وما ليس بمرئي فطهارته أن يغسل حتى يغلب على ظن الغاسل أنه قد طهر، لأن التكرار لا بد منه للاستخراج ولا يقطع بزواله فاعتبر غالب الظن كما في أمر القبلة، وإنما قدروا بالثلاث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت روى أبو داود وغيره من «حديث أم قيس بنت محصن تقول: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن دم الحيض يكون في الثوب، قال: "حكيه بضلع واغسليه بماء وسدر" ففيه إضافة سدر إلى الماء» .
قلت: إنما أمرها مبالغة في الإنقاء وقطع أثر دم الحيض لا غير، واسم أم قيس: أميمة، قاله السهيلي، وقيل خزامة، ويعفى بقاء ريحه بعد زوال العين، قال الكرخي في " شرح الجامع الصغير ": الثوب أصابته نجاسة كثيرة فغسل وبقيت رائحتها لم يكن لها حكم، وقال الأترازي: في هذا الموضع إلا إذا بقي ما في إزالته مشقة بأن لا يزول بالماء الصرف كاللون فيعفى عن ذلك «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دم الحيض: "حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء ولا يضرك أثره» .
قلت: ولم يبين أحد هذا الحديث ولا من خرجه ويحتج به تماماً. والحديث رواه أبو داود من «حديث أسماء بنت أبي بكر، قالت: سألت امرأة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة كيف تصنع؟ قال: "إذا أصاب إحداكن الدم من الحيض فلتقرصه ثم لتنضحه بالماء ثم لتصل» " وليس فيه ولا يضرك أثره.
الموضوع الثالث: فيه إشارة إلى أن عين النجاسة إذا زالت بمرة واحدة لا يحتاج إلى غسل بعده، أشار إليه بقول م: (وهذا) ش: أي لفظ القدوري م: (يشير إلى أنه لا يشترط الغسل بعد زوال العين) ش: أي عين النجاسة م: (وإن زالت بالغسل مرة واحدة) ش: كلمة إن واصلة بما قبله، والمعطوف عليه في الحقيقة محذوف تقديره إن لم يزل وإن زالت م: (وفيه كلام) ش: أي اختلاف المشايخ.
وقال الهندواني والطحاوي: يغسل مرتين بعد زوال العين، وقال بعضهم: يطهر وإن كانت بمرة واحدة كذا في " المبسوط " وفي " الجامع الكردري ": يغسل ثلاثاً بعده، وكذا في فخر الإسلام: يغسل ثلاثاً بعد زوال العين، ذكره في " الجامع الكبير " م: (وما ليس بمرئي) ش: أي النجس الذي لا يرى بالعين م: (فطهارته أن يغسل حتى يغلب على ظن الغاسل أنه قد طهر) ش: لأن الظن أصل في الشرع.
فإن قلت: لو غسل الصبي أو المجنون طهر ولا ظن.
قلت: غسلهما مثل الماء الذي جرى على الثوب النجس وغلب على ظنهما زوال نجاسته بزوال استعماله ولا نجاسة هاهنا.
م: (لأن التكرار لا بد منه للاستخراج ولا يقطع بزواله) ش: يعني لا يعلم قطعاً ويقيناً بزوال ما ليس بمرئي م: (فاعتبر غالب الظن كما في أمر القبلة) ش: إذا اشتبهت م: (وإنما قدروا بالثلاث) ش:(1/739)
لأن غالب الظن يحصل عندهم فأقيم السبب الظاهر مقامه تيسيرا، ويتأيد ذلك بحديث المستيقظ من منامه ثم لا بد من العصر في كل مرة في ظاهر الرواية لأنه هو المستخرج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يعني إنما قدر المشايخ المتقدمون بالثلاث م: (لأن غالب الظن يحصل عندهم) ش: أي عند الثلاث م: (فأقيم السبب الظاهر) ش: وهو الثلاث م: (مقامه) ش: بضم الميم، أي مقام غالب الظن م: (تيسيراً) ش: أي جرى التيسير لأجل التيسير وهو منصوب لأنه مفعول م: (ويتأيد ذلك) ش: أي يتأيد تقدير الثلاث م: (بحديث المستيقظ من منامه) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً» وقد مر هذا مع ما فيه من الأحكام والأبحاث في أول الكتاب، وقد شرط ثلاث في النجاسة الموهومة، ففي النجاسة المتحققة أولى.
م: (ثم لا بد من العصر في كل مرة) ش: لأن العصر له قوة الاستخراج م: (في ظاهر الرواية) ش: احترز به عما روي عن محمد في غير رواية الأصول أنه إذا غسل ثلاثاً وعصر في الثالثة يطهر.
ثم اعلم أن اشتراط العصر فيما ينعصر بالعصر، أما فيما لا ينعصر كالحنطة إذا تنجست بمائع والجرد والحديد والسكين المموه مما ينجس والحصير إذا تنجس فعند أبي يوسف يغسل ثلاثاً ويجفف في كل مرة فيطهر، وقال محمد: لا يطهر أبداً لأن النجاسة لا تزول إلا بالعصر، ولأبي يوسف أن التجفيف يقوم مقام العصر في الاستخراج إذ لا طريق سواه. م: (لأنه هو المستخرج) ش: أي لأن العصر هو الذي يستخرج النجاسة.
1 -
فروع: إذا انتضح من الغسالة المنفصلة من المرة الأولى وجب غسله ثلاثاً في ظاهر المذهب، وفي رواية الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يغسل مرتين، وفي المرة الثانية يغسل مرتين بعصر، وفي الثالثة مرة، وعند الشافعي والحنابلة على اعتبار العدد، والنفع شرط عندهم في جميع النجاسات، ذكره ابن قدامة في " المغني " والنووي.
وفي " شرح المهذب ": اغتسل جنب في عشر آبار أفسدها ولا يجزئه غسله عند أبي يوسف، وعند محمد يخرج من الثانية طاهراَ سواء كان على بدنه نجاسة حقيقية، أو لم يكن، فإن كانت على بدنه منها شيء فالمياه الثلاثة نجسة وما بعدها مستعملة، وإن لم يكن فالمياه الثلاثة مستعملة، وكذا لو أدخل يده في عشر أواني فطهر عندهما ولا يطهر عند أبي يوسف، وفي عشر جرار خل يطهر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا يطهر عند محمد.
كذا في " المحيط " وقعت فأرة في خمر وماتت ثم صارت خلاً، قيل يباح أكله، وقيل: لا، وقيل: إن انتفخت لا يحل وإلا حل، هذا إذا أخرجت قبل أن يصير الخمر خلاً، ولو صارت خلاً والفأرة فيها لا تحل.
ولو وقع الكلب في العصير ثم تخمر ثم تخلل يجب أن يكون نجساً، ولو وقع خرء الفأرة(1/740)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في قفيز حنطة وطحنت لم يجز أكلها، ويفسد الدهن عند الحسن بن زياد.
وقال محمد بن مقاتل الرازي: لا يفسد الدهن ولا الحنطة ما لم يتغير طعمه. وفي " المرغيناني ": يرمى خرء الفأرة من الخبز ويؤكل إذا كان صلباً. ولو وقع في الدهن أو الماء لا يفسده، وكذا في الحنطة إذا كان قليلاً، وفي " مسائل الشيخ الزاهد أبي حفص ": لا يفسد الخل ولا الزيت، وعن أبي إسحاق الضرير: لو كان لي لشربته.
وبول الهرة نجس إلا قولاً شاذاً، والدودة الساقطة من السبيلين نجسة، وذكر الفقيه أبو حفص في "غرائب الرواية ": أنها طاهرة، وإن سقطت من اللحم فهي طاهرة أيضاً.
وجرة البعير بكسر الجيم وتشديد الراء ما يخرج من جوفه من الاجترار نجسة، وبه قال الشافعي، والحمار لو شرب من العصير لا يجوز شربه، وقال محمد بن مقاتل: لا بأس بشربه، وقال أبو الليث: هذا خلاف قول أصحابنا، وبخار النجاسة إذا تجمد ثم سال نجس.
وقال في " المرغيناني ": لا ينجس في الصحيح. موضع الحجامة يمسح بثلاث خروق رطاب، ويجزئه عن الغسل ذكره أبو الليث وعن أبي يوسف: يشترط غسله. الحصير النجس إن كانت نجاسته يابسة دلكه، وإن كانت رطبة أجرى عليه الماء ثلاث مرات، وفي " الذخيرة ": يطهر عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافاً لمحمد.
والبساط يجعل في نهر جار ليلة ليطهر العذرة إذا صارت تراباً، قيل: تطهر كالحمار الميت إذا وقع في المملحة حتى صار ملحاً عند محمد. قال في الذخيرة: عندهما وعند قول أبي يوسف نجس، وكذا السرقين والعذرة إذا أحرقت بالنار وصارت رماداً فهي على هذا الخلاف.
وفي " الفتاوى ": رأس الشاة إذا أحرق حتى زال الدم تطهر، وكذا بلة التنور النجسة تزول بالإحراق، وعند الشافعي: الأعيان النجسة لا تطهر بالإحراق بالنار. وقال في الحضري منهم: رماد هذه الأشياء طاهرة، وفي دخان النجاسة وجهان مشهوران عندهم.
وفي " الذخيرة ": لا توقيت في إزالة النجاسة إذا أصابت الحجر أو الآجر أو الأواني بل يغسل حتى يغلب على ظن الغاسل طهارتها ولا يبقى لها رائحة ولا طعم ولا لون وسواء كانت الآنية من خذف أو غيره أو كانت قديمة أو حديثة، وعن محمد أن الخذف الجديد لا يطهر أبداً.
وفي " المرغيناني " حانة الخمر لو غسلت ثلاث مرات تطهر إذا لم تبق لها رائحة الخمر، وإن بقيت فلا. ولو صب الماء في الخمر ثم صارت خلاً تطهر في الصحيح.
الحنطة المتنجسة قبل أن تنتفخ تغسل ثلاثاً وتؤكل إذا لم يبق لها رائحة، ولا طعم.
وفي " شرح الطحاوي ": لا يحل وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإن طبخت بالخمر حتى(1/741)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[ ... ] يطبخ بعده ثلاث مرات تنتفخ في كل مرة ويجفف بعد كل طبخة. وعند أبي حنيفة: إذا طبخت بالخمر لا تطهر أبداً لقول محمد. ولو وقعت الحنطة في الخمر ثم قلبت لا تطهر أبداً.
والدقيق إذا أصابته الخمر لا يؤكل وليس له حيلة.
وفي " الذخيرة ": صب خمر في قدر [به لحم] قبل الغليان يطهر اللحم بالغسل ثلاثاً وبعده لا يطهر، وقيل: يغلى ثلاث مرات كل مرة بماء طاهر، ويجفف في كل مرة ويجففه بالزبد. والخبز الذي عجن بالخمر لا يطهر بالغسل، ولو صب فيه الخل وذهب أثرها يطهر. ولو صبغ يده بحناء نجس أو شعره بأن خلط ببول أو خمر أو دم فغسله فزالت العين وبقي اللون فهو طاهر وهو الصحيح.
قال صاحب " الحاوي ": فإن قلنا: لا يطهر وكان عليها شعر كاللحية لا يلزمه حلقها بل يصلي، فإذا اتصل أعاد الصلاة وكذا على البدن، وإن كان مما لا يصل كالوسم فإن أمن التلف يلزمه قطعه، وإن جاوز وكان غيره أكرهه عليه تركه، وإن كان هو الذي فعل فوجهان، ولو غسل يده من دهن نجس طهرت ولا يضره أثر الدهن على الأصح.
ولو تنجس العسل يكفأ ويصب عليه الماء ويغلى حتى يعود إلى المقدار الأول، هكذا يفعل ثلاثاً، وعلى هذا الدبس [ ... ] إذا اتزر في الحمام وصب الماء على جسده ثم صب الماء على الإزار يحكم بطهارته.
امرأة سجرت التنور ثم مسحته بخرقة مبتلة نجسة ثم حرقت فيه، فإن أكلت حرارة النار البلة قبل إلصاق الخبز بالتنور لا ينجس الخبز.
المسك حلال على كل حال يؤكل في الطعام ويجعل في الأدوية وإن كان أصله دماً على ما قيل بعد. وأما الزناد إن كان لبن سنور، وفي " البحر ": طاهر عرق سنور بري كما قيل: فهو عرق غير مأكول اللحم.
الذي صلى ومعه جلد حية أكثر من قدر الدرهم لا تجوز صلاته وإن كانت مذبوحة، وأما قميص الحية ففيه اختلاف المشايخ، فقيل: إنه نجس، وقيل: إنه طاهر. وأشار شمس الأئمة إلى الصحيح أنه طاهر. الماء الذي يسيل من فم النائم طاهر في الأصح.(1/742)
فصل في الاستنجاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الاستنجاء]
م: (فصل في الاستنجاء) ش: أي: هذا فصل في بيان الاستنجاء وأحكام الكلام، فيه أنواع:
الأول: أنه ذكر هذا الفصل في هذا الباب، لأن الاستنجاء إزالة النجاسة العينية، فذكره أشق، وأيضاً اتبع المصنف فيه القدوري وهو اتبع محمداً في أنه لم يورده عند ذكر سنن الوضوء.
وقيل فيه أوجه أخرى لا طائل تحتها.
الثاني: في معنى الاستنجاء وهو على وزن استفعال، تقول: استنجى يستنجي استنجاء، والسين فيه للطلب وهو على قسمين:
أحدهما: صريح نحو استكتبته، أي طلبت منه الكتابة.
والثاني: أن يكون تقديراً نحو استخرجت الوتد من الحائط، فليس هنا طلب صريح بل المعنى له أول المطلق، والحبلى حتى تخرج، ونزل ذلك منزلة الطلب.
فإن قلت: الاستنجاء من أيهما.
قلت: من الثاني، فإن المستنجي لم يزل يتلطف حتى يزول النجو عن موضعه، وهذا هو التحقيق هنا.
وأكثر الشراح قالوا: السين للطلب وسكتوا عليه، وليس ذلك يفيد المقصود على ما لا يخفى، والنجو ما يخرج من البطن، يقال: نجى وأنجى إذا أحدث، يقال: نجى الغائطة نفسه ينجو، وقال الأصمعي: استنجى أي مسح موضع النجو أو غسله ولهذه المادة معان، يقال: نجا من كذا ينجو نجاءً بالمد، ونجاة بالقصر ونجوت أيضاً نجاء ممدوداً أي أسرعت وانبعثت، واستنجى: أي أسرع، ونجوت فلاناً [.....] النحل إذا التقطت رطبها، عن الأصمعي، وقال أيضاً: نجوت غصون الشجرة إذا قطعتها، والنجاة بالقصر، والجمع نجا، والنجو السحاب [
..] والجمع نجا بكسر النون، والنجا المكان المرتفع لا يعلوه السيل [.....] ، قال: نجوته نجواً ساررته، وكذلك ناجيته، والنجوى اسم ومصدر. وفي المغرب: نجا وأنجى إذا أحدث وأصله من النجوة وهو المكان المرتفع لأنه يتستر بها وقت قضاء الحاجة، ثم قالوا: استنجى إذا مسح موضع النجو وهو ما يخرج من البطن أو غسله، وقيل: من نجى الجلد إذا مر، قلت: يمكن أن تراعى المعاني المشهورة في لفظ الاستنجاء في هذا الباب.
الثاني: أن معنى الاستنجاء والاستطابة والاستجمار كلها عبارة عن إزالة الجاري من السبيلين عن مخرجه، فالاستنجاء والاستطابة يكونان بالماء وغيره كالحجر ونحوه، والاستجمار يختص(1/743)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالأحجار مأخوذ من الجمار، وهي الحصى الصغار، والاستطابة أعم من الطيب لأنه يطيب نفسه بإزالة الخبث، قلت: فعلى هذا الاستطابة أعم وبقي الاستنجاء والاستنقاء والاستبراء والاستنزاه. فالاستنجاء قد ذكرناه.
والاستنقاء طلب النقاوة بالحجر والمدر أو نحوهما. وقال بعضهم: هو أن يدلك مقعدته حتى تذهب الرائحة الكريهة وذلك بيده اليسرى. وقال بعضهم: هو أن يدلك مقعدته حتى يتيقن أنها قربت للجفاف.
وقال بعضهم: هو أن ينشف بالمنشفة أو بالخرقة حتى لا يقطر منه شيء من الماء المستعمل على الثوب.
وأما الاستبراء فهو طلب البراءة وهو أن يركض برجله على الأرض حتى يزول عنه [.....] .
وأما الاستنزاه فهو طلب النزه بضم النون وسكون الزاء المعجمة وهو البعد عن البول.
النوع الثالث: في آداب الاستنجاء وقضاء الحاجة الإبعاد: روى مسلم من «حديث المغيرة، قال: انطلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى توارى عنا فقضى حاجته» . وروى أبو داود والترمذي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كان إذا ذهب المذهب أبعد» روى محمد بن الحسن عن عيسى بن أبي عيسى الخياط عن الشعبي عن عمر سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «اتقوا الملاعن الثلاث وأعدوا النبل» رواه أبو عبيد عن محمد بن الحسن، وقال: سمعته يقول: النبل: هي الحجارة للاستنجاء وهو بضم النون وفتح الباء الموحدة، قاله الأصمعي، وقال أبو عبيد: والمحدثون يقولون: النبل بالفتح سميت نبلاً لصغرها، وهذا من الأضداد، يقال للعظام نبل، وللصغار نبل، والكبير لقضاء الحاجة. وعن عبد الله بن جعفر قال: «كان أحب ما استنزه به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقضاء حاجته هدف أو حائش نخل» رواه مسلم.
وقال "الفارس": الهدف كل شيء عظيم، وقيل ما ارتفع من الأرض [.....] ، والحائش بالحاء المهملة والشين المعجمة جماعة النخل وإدامة الستر حتى يدنو من الأرض، وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد قضاء الحاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض»(1/744)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رواه أبو داود [ ... ] المكان للبول عن أبي موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم فأراد أن يبول فأتى دمثا في أصل جدار فبال، ثم قال: «إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله» الدمث: بفتح الدال المهملة والميم، المكان اللين السهل، وكراهة البول في الهواء عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يكره البول في الهواء» .
وفي مسند أبي يوسف النعر وهو ضعيف، وفي حديث الحضرمي وكان من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا بال أحدكم فلا يستقبل الريح ببوله فيرد عليه» ، ذكره في " الإمام ". والخاتم عليه اسم الله، عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل الخلاء وضع خاتمه» رواه أبو داود، وقال: منكر ورواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وكراهة ذكر الله في الخلاء، روي عن ابن عباس هكذا، وهو قول عطاء ومجاهد والشعبي وعكرمة، وبه قال أصحابنا وهو الاحتياط بتركها لاسم الله تعالى واحتراما له.
وروي عن مالك والنخعي إباحته واتقاء الملاعن، روى أبو داود من حديث معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتقوا الملاعن الثلاث البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل» ، والبراز بكسر الباء الموحدة الموحدة كناية عن الغائط.
وروى أبو داود أيضاً عن عبد الله بن سرجس: «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى أن يبال في الجحر» "، قال قتادة: كان يقال: إنها مساكن الجن، وفي " المراسيل " عن مكحول «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبال في أبواب المساجد» وعن أبي مجلز «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عمر أن ينهى عن أن يبال في قبلة المسجد» وعن أبي هريرة: «لا يبولن أحدكم في الماء الناقع» ، أخرجه ابن ماجه، الناقع بالنون والقاف الماء المجتمع، وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه نهى عن البول في المغتسل» ، رواه أبو داود والنسائي والدارمي.(1/745)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن عبد الله بن مغفل قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يغتسل فيه، فإن عامة الوسواس منه» أخرجه الأربعة، ويجتنب القعي في قضاء الحاجة، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من جلس على قبر يتغوط أو يبول [عليه] فكأنما جلس على جمرة» ، أخرجه أبو جعفر البغوي، ما جاء من الذكر عند دخول الخلاء فليقل: «إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» ، أخرجه الجماعة.
والخبث بضمتين جمع خبيث والخبائث جمع خبيثة، فاستعاذ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من ذكران الجن وإناثهم، وقال الخطابي: وعامة المحدثين يقولون بسكون الباء وهو غلط والصواب الضم.
قلت: يجوز تسكينها تخفيفا، وذكر أبو عبيد بالسكون ومعناه الرد والكفر أو الشيطان. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال رسول الله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول بسم الله» ، أخرجه ابن ماجه، الستر بكسر السين الحجاب: وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج من الخلاء قال: "غفران» ، أخرجه الأربعة.
وروى البيهقي من جهة ابن خزيمة زيادة: " غفرانك ربنا وإليك المصير "، وقال الخطابي: قيل في سبب غفرانك في هذا الموضوع قولان: أحدهما: أنه استغفر من تركه ذكر الله(1/746)
والاستنجاء سنة، لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - واظب عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حال لبثه على الخلاء.
فإن قيل: فتركه مأمور به فكيف يسأل المغفرة قيل: المخرج إلى الخلاء من قبل نفسه، الثاني: استغفر خوفا من تقصيره في شكر نعمة الله تعالى من خلاصه من الأذى وغفرانك مصدر منصوب بتقدير: أسألك أو اغفر بغفرانك، وعن أميمة بنت رقيقة قالت: «كان له - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قدح من عيدان تحت سريره يبول فيه بالليل» رواه أبو داود والنسائي والبيهقي، والعيدان بفتح العين المهملة، وواحدة عيدانة وهي النخل الطوال المتجردة.
[حكم الاستنجاء]
م: (والاستنجاء سنة) ش: وبه قال مالك وابن سيرين وسعيد بن جبير والمزني، وقال الشافعي: واجب من البول والغائط وكل خارج ملوث من السبيلين وهو شرط في حصة الصلاة وبه قال أحمد والحسن وداود وأبو ثور، والخلاف مبني على عفو القليل من النجاسة وعدم عفوه، وقد تقدم م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واظب عليه) ش: أي على الاستنجاء، والدليل على مواظبته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أحاديث كثيرة.
منها ما رواه ابن ماجه في "سننه " من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج من غائط قط إلا مس ماء» ".
ومنها ما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتى الخلاء أتيته بماء في تور أو ركوة فاستنجى ثم مسح يده على الأرض ثم أتيته بإناء آخر فتوضأ» .
ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخل الخلاء فأحمل أن وغلام نحوي إدواة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء» .
فإن قلت: مواظبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فعل يدل على وجوبه فكيف قال المصنف: الاستنجاء سنة؟، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واظب عليه فكان ينبغي أن يكون واجبا.
قلت: عادة المصنف على هذا الاصطلاح أنه يجعل مواظبته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دليلاً على السنة، لكن مراده السنة المؤكدة وهي في قوة الواجب، ولكنه ليس بواجب مطلقا بل تارة يكون واجبا وتارة يكون فرضاً وتارة يكون سنة وتارة يكون مستحبا وتارة يكون بدعة، وأما الواجب فهو ما(1/747)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إذا كانت النجاسة مقدار الدرهم.
وأما الفرض فهي ما إذا كانت النجاسة أكثر من قدر الدرهم، وأما السنة فهي ما إذا كانت النجاسة أقل من قدر الدرهم فالاستنجاء حينئذ سنة، وأما المستحب فهو ما إذا بال ولم يتغوط فإنه يغسل قبله دون دبره، وأما البدعة فهي ما إذا خرج من غير السبيلين شيء أو خرج ريح من دبره أو دودة فالاستنجاء فيه بدعة.
ثم إن المصنف أطلق كلامه ولم يبين أي نوع من الاستنجاء سنة، وكذلك لم يبين أنه بالماء أو بالحجر ونحوه. وفي " مبسوط شيخ الإسلام ": الاستنجاء نوعان نوع بالحجر والمدر، ونوع بالماء والاستنجاء بالحجر أو ما يقوم مقامه كالأعيان الطاهرة والعود والخرقة سنة، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فعله على سبيل المواظبة وكذلك الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اتباع الماء أدب لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يستنجي بالماء مرة وتركه أخرى وهو حد الأدب، وهكذا روي عن بعض الصحابة قال مشايخنا: إنما كان ذلك أدبا في الزمان الأول. وأما في زماننا سنة حتى قيل للحسن البصري: - رَحِمَهُ اللَّهُ - كيف يكون سنة وقد فعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مرة وتركه أخرى، وكذا الصحابة كعمر وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقال: إنهم كانوا يبعرون بعراً وأنتم تثلطون، ولا خلاف في الأفضلية. قلت: فعلى هذا قول المصنف الاستنجاء سنة محمول على الاستنجاء بالحجر ونحوه، ومع هذا تجاوزت النجاسة المخرج أكثر من قدر الدرهم لا يجوز إلا بالماء كما يصرح به عن قريب. قال الأكمل في هذا الموضع: وهو سنة لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واظب عليه، والمواظبة على ذلك والترك دليل السنة.
قلت: من ذكر من الصحابة والتابعين أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ترك الاستنجاء في الجملة حتى قيد بهذا القيد، ولم ينقل الترك عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وفي " الكافي ": أجاب عن هذا السؤال، وقال: والدليل أن المراد عدم الوجوب؛ لأن قدر الدرهم معفو يعلم أن الاستنجاء ليس بواجب.
وقال صاحب " الدراية " وفيه تأمل، فإن عند الخصم قدر الدرهم غير معفو، بل نقول: نفس المواظبة دليل السنة، وعدم الترك لم يثبت فلا يدل على الوجوب، وعدم فعل الترك لا يدل على عدمه.
قلت: الإشكال يأتي لأن المواظبة مع عدم الترك تدل على الوجوب، وقوله نفس المواظبة دليل السنة وعدم الترك لم يثبت فيه نظر، لأن نفس المواظبة قليل الوجوب، وإن لم يثبت عدم الترك لم يثبت الترك أيضاً، وذكر المواظبة من غير قيد يفهم منه الوجوب وإن كان نفس الأمر يحتمل الترك وعدمه، والاحتمال الثاني عند غيره دليل لا يعتبر ولا يترك دلالة صريح اللفظ بأمر(1/748)
ويجوز فيه الحجر وما قام مقامه يمسحه حتى ينقيه لأن المقصود هو الإنقاء فيعتبر ما هو المقصود
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
موهوم فافهم.
[ما يجوز به الاستنجاء به وما لا يجوز]
م: (ويجوز فيه الحجر) ش: أي يجوز في الاستنجاء استعمال الحجر م: (وما قام مقامه) ش: أي ويجوز أيضاً بما قام مقام الحجر كالمدر والتراب والعود والخرقة والقطن والجلد ونحو ذلك.
وفي " المفيد ": وكل شيء طاهر غير مطعوم يعمل عمل الحجر عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا قضى أحدكم حاجته فليستنج بثلاثة أحجار أو ثلاثة أعواد أو ثلاثة حثيات من الترب» ، رواه الدارقطني وبه قال مالك والشافعي، وقال أهل الظاهر: لا يجوز بغير الأحجار وضبط في " تهذيب الشافعية " بكل جامد طاهر مزيل للعين ليس له جرم ولا جزء من حيوان، قالوا: وسواء في ذلك الأحجار والأخشاب والخرق والخذف والآجر ليس من سرقين وما أشبه ذلك، ولا يشترط اتحاد جنسيته بل يجوز في الغسل جنس آخر، ويجوز أن يكون الثلاثة حجر أو خشبة أو خرقة نص عليه الشافعي.
م: (يمسحه حتى ينقيه) ش: أي يمسح الموضع إلى أن ينقيه وهو بضم الياء من الإنقاء وهو التنظيف، وأصله من نقي الشيء بالكسر ينقى بالفتح نقاوة بفتح النون فهو نقي أي نظيف، والنقاء ممدود: النظافة، والنقاء مقصور: الكثيب من الرمل، ونقاوة الشيء بضم النون: خياره، كذلك النقاية.
فإن قلت: يمسحه فيه ضميران، أحدهما: ضمير مرفوع مستتر والآخر منصوب ظاهر، وليس لهما موجع وهو إضمار قبل الذكر، وهو لا يجوز.
قلت: يجوز إذا قامت لعدم الالتباس، وهاهنا فصل الاستنجاء وهو مستلزم المستنجي، وموضع الاستنجاء، وليس لهذه الجملة محل من الإعراب لأنها ابتدائية.
م: (لأن المقصود) ش: من الاستنجاء م: (هو الإنقاء) ش: أي التنظيف م: (فيعتبر ما هو المقصود) ش: فلا حاجة إلى غير المقصود، وكيفية الاستنجاء: أن يجلس معتمداً على يساره، منحرفاً عن القبلة، والريح والشمس والقمر، ومعه ثلاثة أحجار، يدبر بأحدهما ويقبل الثاني ويدبر بالثالث وقال الفقيه أبو جعفر: هذا في الصيف وفي الشتاء يقبل بالأول ويدبر بالثاني، ويقبل بالثالث؛ لأن خصيتيه في الصيف مدلتان دون الشتاء، والمرأة تفعل في الأوقات كلها كما يفعل الرجل في الشتاء، وفي " المجتبى ": المقصود هو الإنقاء، فيختار ما هو أبلغ فيه والأسلم من زيادة التلوث، وفي " الدراية ": ولنا كيفية الاستنجاء هو أن يأخذ الذكر بشماله ويمره على حجر أو مدر، يأتي(1/749)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من الأرض ولا يأخذ الحجر بيمينه ولا الذكر به لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نهى عن الاستنجاء باليمنى ومسح الذكر به» .
وأما صفته بالماء فهو أن يستنجي بيده اليسرى بعدما ترخى موضع الاستنجاء مع الإدخال حتى يتم التنظيف إذا لم يكن صائما ويستنجى بأصبع أو أصبعين أو بثلاثة أصابع عرضاً ببطونها لا برؤوسها احترازاً عن الاستمتاع بها، ويصعد أصبعه الوسطى على سائر أصابعه صعوداً قليلا في ابتداء الاستنجاء ويغسل موضعه ثم يصعد بنصره ويغسل موضعه ثم يصعد خنصره ثم سبابته ويغسل حتى يطمئن قلبه أنه قد طهر، وعن محمد: من لم يدخل أصبعه في دبره لا تطفأ. قال " الأسبيجابي ": هذا غير معروف، وقيل ذلك يورث الباسور وينقض صومه، لأن أصبعه لا يخلو عن بلة ويبدأ فيه بالغسل حتى لا تتلوث يده، فإن كان لا ينبغي أن يقوم من موضع الاستنجاء حتى ينشف الموضع بخرقة كيلا يصل الماء باطنه فيفسد صومه.
والمرأة كالرجل إلا أنها تقعد بين رجليها وتغسل ما ظهر منها ولا تدخل الأصابع في فرجها. وقيل: تستنجي برؤوس أصابعها؛ لأنها تحتاج في تطهير فرجها الخارج، وقيل: يكفيها مزاجها. وقيل تعرض أصابعها، والعذر ألا تستنجي بإصبعها خوفا لزوال عذرتها. وفي " النظم ": المرأة تصعد ينصرها ووسطاها أولاً معا دون الواحد كيلا يقع في قبلها فتنزل فيجب الغسل، وفي "الجامع الأصغر": لها أن تغسل ما يقع من فرجها على راحتها، قاله أبو مطيع، وقد تدير أصبعها في فرجها.
قال محمد بن سلمة: قول أبي مطيع أحب إلي، ولو جرى بالاستنجاء على الخف يحكم بطهارته، وكذا لو دخل من جانب وخرج من جانب آخر وفي موضع احتاج إلى كشف العورة ليستنجي بالحجر لا بالماء، ولو كشف العورة للاستنجاء صار فاسقاً، وكشفه عند الشافعي وجهان، قال علي بن أبي هريرة: يضع حجراً على مقدم الصفحة اليمنى ويمره إلى مؤخرها ثم يدبرها إلى مؤخرها ويمره عليها إلى الموضع الذي بدأ ويأخذ الثاني فيمره مرة من مقدم صفحته اليسرى ويمره إلى مؤخرها ويدبرها إلى على ما ذكرناه، ويأخذ الثالث فيمره على الصفحتين ويمس به.
وقال عبد الحق: يأخذ حجرين للصفحتين وحجراً للمس والأول أصح، وينبغي أن يضع الحجر على موضع طاهر بالقرب من النجاسة، وإن كان يستنجي من البول أمسك ذكره باليسار ومسحه على الحجر والثيب والبكر سواء، والصحيح والواجب أن تغسل ما ظهر من فرجها عند جلوسها وذلك دون البكر كذا في " الحلية ". والاستنجاء على شط النهر يجوز عند مشايخ بخارى خلافا لمشايخ العراق، ولو أخرج دبره وهو صائم فغسله لا يقوم من مقامه حتى ينشفه بخرقة قبل(1/750)
وليس فيه عدد مسنون. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بد من الثلاث لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رده، وهو جائز في الدم والماء وغير ذلك إذا خرج من السبيلين، وفي " جوامع الفقه ": إن خرج من فرجه قيح أو دم يجب غسله، وقيل: يجوز الحجر في الكل، وفي " العتبية ": إذا أصاب موضع الاستنجاء نجاسة من الخارج أكثر من قدر الدرهم يطهر بالحجر، وقيل: الصحيح أن لا يطهر إلا بالغسل والاستنجاء من الريح والنوم بالإجماع.
م: (وليس فيه) ش: أي في الاستنجاء بالحجر ونحوه م: (عدد مسنون) ش: أي عدد فيه سنة، لأن النجاسة مرئية فكان المقصود زوال عينها أو حقيقتها فلا يعتبر بالعدد في ذلك، والحاصل أن عندنا المقصود هو التنقية دون العدد، حتى إذا حصلت التنقية بالمرة الواحدة لا يحتاج إلى الثانية، وإذا لم تحصل التنقية بثلاث مرات يزاد على الثلاث.
م: (وقال الشافعي: لا بد من الثلاثة) ش: أي من ثلاثة أحجار م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار» ش: هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وأحمد في "مسنده " كلهم بلفظ: «وكان يأمر بثلاثة أحجار» وتمام الحديث عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما أن لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بغائط ولا بول، وليستنج بثلاثة أحجار "، ونهى عن الروث والرمة وأن يستنجي الرجل بيمينه» وأخرجه البيهقي أيضاً في "سننه " بلفظ الكتاب. وروى الدارقطني أيضاً بلفظ الكتاب من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قضى أحدكم حاجته فليستنج بثلاثة أحجار أو ثلاثة أعواد أو ثلاث حثيات من تراب» ، قال زمعة بن صالح وهو أحد رواته: فحدثت به ابن طاوس فقال: أخبرني أبي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: - بهذا سواء. قال الدارقطني: لم يسنده عن غير المضري وهو كذاب، والمضري أحد رواته وهو أحمد بن الحسن وغيره يرويه عن طاوس مرسلاً ليس فيه ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وقد رواه ابن عيينة عن سلمة عن طاوس قوله.
وحديث آخر في هذا الباب رواه ابن عدي في " الكامل " عن حماد بن الجعد حدثنا قتادة حدثني خلاد الجهني عن أبيه السائب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دخل أحدكم الخلاء فليستنج بثلاثة أحجار» ، وضعف حماد بن الجعد عن ابن معين. والنسائي من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فليستطب بها(1/751)
ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من استجمر فليوتر فمن فعل فحسن ومن لا فلا حرج»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإنها تجزئ عنه» وقال: إسناده صحيح. وآخر رواه الطبراني في "معجمه " من حديث أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا تغوط أحدكم فليتمسح بثلاثة أحجار فإن ذلك كافيه» ". م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استجمر فليوتر، فمن فعل فحسن ومن لا فلا حرج» ش: الحديث رواه أبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج» ، وأخرجه أحمد في "مسنده " والبيهقي في "سننه " وابن حبان في "صحيحه " والحديث في " الصحيحين " دون هذه الزيادة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعاً: «من استجمر فليوتر» ، وفي لفظ لمسلم: «فليستجمر وترا» ".
قوله: - ومن لا فلا حرج - أي فلا إثم عليه، ولفظ الحديث - فقد أحسن - ولفظ الكتاب - فحسن - والمعنى صحيح قريب.
فإن قلت: قال البيهقي: بعد أن روى هذا الحديث: إن صح، فإنما أراد وترا بعد الثلاث، ثم استدل على هذا التأويل بحديث أخرجه عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعاً: «إذا استجمر أحدكم فليوتر، فإن الله وتر يحب الوتر، أما ترى السموات سبعاً والأراضين سبعاً والطواف؟!!» وذكر أشياء.
قلت: هذا مكابرة، فكيف يقول إن صح وقد رواه ابن حبان وصححه؟ وتأويله بوتر يكون بعد الثلاث غير صحيح لأن دعوى من غير دليل، ولو صح ذلك يلزم منه أن يكون الوتر بعد الثلاث مستحباً؛ لأمره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - به على مقتضى هذا التأويل، وعندهم لو حصل النقاء بالثلاث فالزيادة عليها ليست بمستحبة بل هي بدعة، وإن لم يحصل النقاء بالثلاث فالزيادة عليها واجبة لا يجوز تركها. ثم حديث: «أما ترى السموات سبعاً» على تقدير صحته لا يدل على أن المراد بالوتر ما يكون بعد الثلاث؛ لأنه ذكر فردا من أفراد الوتر، إذا لو أريد بذلك السبع بخصوصها للزم بذلك وجوب الاستنجاء بالسبع؛ لأنها المأمور به في ذلك الحديث.
فإن قلت: قال الخطابي: وفيه وجه آخر وهو رفع الحرج بالزيادة على الثلاث، وذلك أن مجاوزة الثلاث في الماء عدوان وترك للسنة، والزيادة في الأحجار ليست بعدوان وإن صارت شفعا.(1/752)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا الوجه لا يفهم من هذا الكلام على ما لا يخفى على الفطن، وأيضاً مجاوزة الثلاث في الماء كيف يكون عدوانا إذا لم تحصل الطهارة بالثلاث والزيادة بالأحجار وإن كانت شفعا كيف لا يصير عدوانا وقد نص عليه الأنباري فافهم.
قلت: نحن نستدل بحديث أخرجه البخاري في "صحيحه ": حدثنا أبو نعيم حدثنا زهير عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه أنه سمع عبد الله يقول: «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجد، فأخذت روثة فأتيته بها فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: "هذا ركس» ". وجه الاستدلال به ظاهر لأنه أنقى بالحجرين ولم يبتغ ثالثاً.
وقال الطحاوي: حديث عبد الله دليل على أن الثلاثة ليست بشرط، بيانه أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قعد للغائط في مكان لم يكن فيه حجارة لقوله لعبد الله: "ناولني ثلاث"، ولو كان بحضرة حجارة لما احتاج أن يناوله غيره من غير ذلك المكان، ولما اقتصر على الحجرين دل ذلك على أن الاستنجاء يجزئ بهما ما يجزئ منه الثلاثة إذ لو لم تجزئ الثلاثة لما اكتفى بالحجرين ولأمر عبد الله أن يأتيه بالثلاث، وقال ابن القصار: وقد روي في بعض الآثار التي لا تصح: أنه أتى بحجر ثالث.
قال: ولو صح ذلك فالاستدلال لنا به صحيح لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقتصر للموضعين على حجرين أو ثلاثة يحصل لكل واحد منهما أقل من ثلاثة أحجار ضرورة ولا يقتصر على الاستنجاء لأحد الموضعين ويترك الآخر، ولعل ذكر الثلاثة خرج مخرج الغالب في الاكتفاء بحصول الإنقاء بها لا مخرج الشرط أو تحمل الثلاث على الاستحباب، ولأن الثلاثة متروكة عندهم حتى إنه بالحجر الواحد إذا كان له ثلاثة أحرف فيقوم مقام الثلاث فكذا يقوم الحجر أو الحجران إذا حصل الإنقاء مقام الثلاثة لحصول المقصود من الإنقاء فلا معنى للمحمول على لفظة الثلاثة مع حصول المقصود المفهوم من الشرع. وعن محمد لا يجزئه حجر له ثلاثة أحرف.
فإن قلت: يحمل الوتر المطلق، على المقيد وهو الثلاثة.
قلت: هذا النوع على أصلنا، ولئن سلمنا فقد يقع الحرج على تاركه فانتفى وجوب الاستنجاء بثلاثة أحجار، وبين أن المراد بالأمر الاستحباب والندب
فإن قلت: قد فهمنا أن النهي لمعنى الكراهة وتركها لا يمنع الجواز.
قلت: ونحن فهمنا أيضا أن المقصود من الأمر بالتثليث تحصيل إزالة النجاسة وجعلها وتحقيقها، فإذا حصل ذلك كفى.(1/753)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: يحمل قوله - ومن لا فلا حرج - على ترك الوتر بعد الثلاث.
قلت: هذا فاسد لأنه إن حصل النقاء بالثلاث، فإن زاد على الثلاث لا تكون مستحبة عندكم، وإن لم يحصل بالثلاثة فالزيادة واجبة عندكم كما قررناه عن قريب.
فإن قلت: قال ابن المنذر: قد ثبت أنه قال لا يكفي أحدكم دون ثلاثة أحجار.
قلت: لا نسلم ذلك، ولئن سلمناه فمعناه لا يكفي لإقامة الأمر المستحب، وأيضاً قد تركوه في الحجر له ثلاثة أحرف، وأيضاً فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد اكتفى بحجرين ولم يطلب الثالث، ولأنه إذا زالت بالأول لا يكون الثاني والثالث استنجاء، لأنه أزاله، ولم يزله.
فإن قلت: الثلاثة يعد كالإقرار في العدة، لأن فراغ الرحم يحصل بالواحد.
قلت: نحوه يفسد ما في باب العدة بالصغير والآيسة وعدة الوفاة قبل الدخول بخلاف ما نحن فيه، فإنه لا يجب بخروج الصوت والريح والدودة والحصاة. وجواب آخر أن العدة على خلاف القياس.
فإن قلت: الآخر لا يستعمل إلا في الواجب.
قتل: باطل بدليل ما أخرجه البخاري عن أبي بردة في الأضحية، «قال: عندي جذعة قال: "اذبحها ولن تجزئ عن أحد بعدك» "، والأضحية غير واجبة عندكم بل هي سنة.
فإن قلت: حديث البخاري الذي استدل به فيه ثلاثة أشياء.
الأول: أن فيه الانقطاع بين أبي إسحاق وعبد الرحمن بن الأسود.
الثاني: فيه التدليس من أبي إسحاق ذكره البيهقي [في] الخلافات عن ابن الشاذكوني قال: ما سمعت بتدليس قط أعجب من هذا ولا أخفى، قال أبو عبيدة: لم يحدثني ولكن عبد الرحمن عن فلان [عن فلان] ولم يقل: حدثني، فجاز الحديث وسار الاعتراض.
الثالث: الاختلاف في إسناده، قال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول في حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استنجى بحجرين وألقى الروثة» فقال أبو زرعة: اختلفوا في إسناده، فمنهم من يقول: عن أبي إسحاق عن أبي الأسود عن عبد الله، ومنهم من يقول: عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله. ومنهم من يقول: عن أبي إسحاق عن علقمة عن عبد الله، والصحيح عندي حديث أبي عبيدة وكذلك روى إسرئيل عن أبي عبيدة، وإسرائيل أحفظهم [....] .(1/754)
وما رواه متروك الظاهر، فإنه لو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف جاز بالإجماع وغسله بالماء أفضل
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] (التوبة: الآية 108) ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[و] روى الدارقطني ثم البيهقي من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق عن علقمة ابن قيس عن ابن مسعود «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذهب في حاجته فأمر ابن مسعود أن يأتيه بثلاثة أحجار، فأتاه بحجرين وروثة فألقي الروثة وقال: "إنها ركس ائتني بحجر» .
الجواب عن الأول والثاني: أن البخاري لما خرج هذا الحديث قال: وقال إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق: حدثني عبد الرحمن هذا، فزال الانقطاع والتدليس أيضاً، ودليل آخر على رفع التدليس ما ذكره الإسماعيلي في "صحيحه " المستخرج على البخاري بعد رواية الحديث من جهة يحيى بن سعيد عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن عبد الله بن يحيى بن سعيد لا يرضى أن يأخذ عن زهير عن أبي إسحاق ما ليس بسماع لأبي إسحاق.
والجواب الثالث: إن البخاري لم ير ذلك متعارضا وجعلهما إسنادين أو أسانيد، ورجح رواية زهير لكونه أحفظ وأتقن من إسرائيل.
والجواب عن الرابع: أن الحديث في البخاري وليس فيه الزيادة المذكورة، والإيتار يقع على الواحد يعني لما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من استجمر فليوتر» ، أمر بالإيتار، والإيتار قد يقع على الواحد ولا يلزم أن يكون ثلاثاً أو خمساً؛ وأصل الإيتار أوتار، قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها. م: (وما رواه) ش: أي ما رواه الشافعي من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليستنج بثلاثة أحجار» م: (متروك الظاهر فإنه لو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف) ش: والأحرف جمع حرف، وحرف كل شيء طرفه وشفره وحده م: (جاز بالإجماع) ش: فلا يصح استدلاله به على الخصم أو يقول ما رواه يحتمل الاستحباب، وما رويناه محكم فيحمل المجمل على المحكم توفيقا بين الحديثين م: (وغسله) ش: أي غسل موضع الاستنجاء م: (بالماء أفضل) ش: من الاستنجاء بالحجر.
[ما يكون به الاستنجاء]
واختلف السلف في الاستنجاء، أما المهاجرون فكانوا يستنجون بالأحجار، وأنكر الاستنجاء بالماء سعد بن أبي وقاص وحذيفة وابن الزبير وابن المسيب قالوا: إنما ذلك وصف للنساء، وكان الغسل لا يتغسل بالماء. وقال عطاء: وكان الأنصار يستنجون بالماء، وكان ابن عمير بعد أن لم يكن يراه، وقال: جربناه ووجدناه دواء وطهوراً، وبه قال رافع بن خديج وعن أنس كان يستنجي بالحرض.
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] (التوبة: الآية 108) ش: وأنزلت في أقوام كانوا يتبعون الحجارة بالماء) أراد بالأقوام: أهل قباء، «وقال الشعبي: لما نزلت هذه الآية، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا أهل قباء ما هذا الشأن الذي أثني عليكم» ، قالوا: ما من أحد منا إلا وهو يستنجي(1/755)
وأنزلت في أقوام كانوا يتبعون الحجارة بالماء، ثم هو أدب وقيل هو سنة في زماننا. ويستعمل الماء إلى أن يقع في غالب ظنه أنه قد طهر ولا يقدر بالمرات إلا إذا كان موسوسا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالماء، وفي رواية قال: «يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء أو عند الغائط"، قالوا: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نتبع الغائط بالأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء، فتلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] » ، واحتج الطحاوي الاستنجاء بالماء بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] (البقرة: الآية 222) ، يعني المتطهرين بالماء، قال بهذا عطاء ومثله عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأبى الجواز.
م: (ثم هو أدب) ش: أي الغسل بالماء بعد استعمال الحجر أو المدر أدب لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - "أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغسل مقعدته ثلاثاً» ، رواه ابن ماجه، «وعن عائشة قالت: "مروا أزواجكن أن يغسلوا أثر الغائط والبول بالماء، فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله وأن أستحييهم» ، رواه أحمد والترمذي وصححه، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " [إن من كان قبلكم] كانوا يبعرون بعرا وأنتم تثلطون ثلطا فأتبعوا الحجارة الماء "، رواه أبو بكر بن أبي شيبة. وفي " المحيط ": ليس فيه عدد لازم بالماء، وكان أدبا في عصره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم صار سنة أشار إليه بقوله (وقيل هو سنة في زماننا) ش: رواية عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المذكورة آنفا في " الحلية ": الأفضل الجمع بينهما، فإذا اقتصر على أحدهما فالماء أولى، وإن اقتصر على الحجر جاز. وفي " شرح الوجيز ": لو كان الخارج من السبيلين نادراً كالدم والقيح ففيه قولان:
أحدهما أنه يتعين إزالته بالماء لأن الاقتصار على الحجر تخفيف على خلاف القياس فيقتصر على ما تعم به البلوى، فلا يلحق به غيره.
الثاني أنه يجوز الاقتصار على الحجر وهو الأصح نظرا إلى المخرج. وفي " المبسوط ": استنجى من الغائط والبول والمذي والودي والمني والدم الخارج من السبيلين دون سائر الأحداث، وفي " الدراية ": كون الغسل أفضل إذا أنقاه بالأحجار، لأن النص ورد على هذا الوجه.
م: (ويستعمل الماء إلى أن يقع في غالب ظنه أنه قد طهر) ش: أي يستعمل المستنجي الماء إلى وقوع غلبة ظنه أن الموضع قد طهر، وأشار بهذا إلى أن العدد فيه ليس بشرط، ونبه عليه أيضاً بقوله: م: (ولا يقدر بالمرات) ش: أي ولا يقدر استعمال الماء بالعدد، بل الاعتبار غلبة الظن م: (إلا إذ كان) ش: أي المستنجي م: (موسوسا) ش: بكسر السين على صيغة الفاعل لأنه هو الذي يلقي الوسوسة في خلده، والوسوسة حديث النفس. وقال الأترازي: ولا يقال بالفتح. قلت: لا مانع من ذلك، لأن صاحب " الكافي " قال: الوسوسة [ ... ] الذي يرى في المرأة كإيقاع الشيطان شيئاً في قلب المؤمن فهي وسوسة فتأمل، وتجد للفتح باباً، والشيطان الذي يوسوس في هذا(1/756)
فيقدر بالثلاث في حقه وقيل بالسبع،
ولو جاوزت النجاسة مخرجها لم يجز إلا الماء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحالة يسمى ولهان م: (فيقدر بالثلاث في حقه) ش: أي في حق الموسوس وذلك كما في غير الرؤية.
م: (وقيل بالسبع) ش: وقيل يقدر في حقه سبع مرات اعتباراً بالحديث الذي ورد في ولوغ الكلب، كذا قاله الأترازي والأكمل أيضاً. قلت: أصحابنا ما اعتبروا السبع هناك فكيف يعتبرونه هاهنا، وقيل: بالتسع وقيل: بالعشر، وقيل: يقدر في القبل بالثلاث وفي المقعدة بالخمس. وروى صالح بن أحمد عن أبيه أنه قال: أقل ما يقدر من الماء في الاستنجاء سبع مرات، وفي " المجتبى " يفوض ذلك إلى رأي المبتلى به.
م: (ولو جاوزت النجاسة مخرجها لم يجز إلا الماء) ش: هذا قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اشتراط الماء لإزالة النجاسة. وفي " المحيط ": إنما يجب غسلها عند محمد، ولأنه يزيد على قدر الدرهم. وفي " الذخيرة ": وما جاوز موضع الفرج وزاد على قدر الدرهم فإنه يغسل إجماعاً ولا تكفيه الأحجار، وكذا لو زاد على قدر الدرهم من البول في طرف الإحليل، وإن كانت الزيادة على قدر الدرهم على موضع الفرج يجوز فيه الحجر عندهما، وعند محمد لا يجوز إلا الماء، وكذا روي عن أبي يوسف أيضاً، وإن كانت النجاسة في موضع الاستنجاء أكثر من قدر الدرهم فإنقاؤها بالأحجار ولم يغسلها بالماء، قال الفقيه أبو بكر: لا يجوز به، وعن أبي شجاع: يجزئه، وهكذا في النجاسة فصلاته فاسدة، فكذا إذا كانت تحت إحدى قدميه وهو الأصح، وقيل: ينجسه، وإذا كان في موضع السجود دون القدم ففي رواية عن محمد عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجوز، وهو الأصح، وهو قولهما. وفي رواية أبي يوسف وأبي حنيفة أنه لا يجوز، وإن كان موضع يديه أو ركبتيه يجزئه عندنا خلافاً للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وزفر.
ولو صلى على مكان طاهر وسجد عليه لكن إذا سجد وقعت ثيابه على الأرض النجسة جازت صلاته، ولو افتتحها على مكان طاهر ثم تحول إلى مكان نجس ثم تحول منه إلى مكان طاهر جازت صلاته إلا أن يمكث.
ولو صلى على بساط وعلى طرف منه نجاسة قد يجوز في الكبير دون الصغير، وحده إذا رفع أحد طرفيه [لم يتحرك الآخر] إلا إذا كان أحد وجهيها نجسا فقام بالماء "ثم نضحه". وفي وراية له: «فإن رأت فيه دما فلتقرصه بشيء من ماء ولتنضح ما لم تر، وتصلي فيه» ، ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه " وفيه قال: «اقرصيه بالماء واغسليه وصلي فيه» . ورواه الإمام أبو عبد الله بن علي بن الجارود في كتاب " المنتقى "، في رواية: «حتيه واقرصيه ورشيه بالماء» .(1/757)
وفي بعض النسخ إلا المائع، وهذا يحقق اختلاف الروايتين في تطهير العضو بغير الماء على ما بينا، وهذا لأن المسح غير مزيل، إلا أنه اكتفي به في موضع الاستنجاء فلا يتعداه، ثم يعتبر المقدار المانع وراء موضع الاستنجاء عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لسقوط اعتبار ذلك الموضع وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع موضع الاستنجاء اعتبارا بسائر المواضع
ولا يستنجي بعظم ولا بروث، لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: - حتيه - من حت يحت من باب نصر ينصر، عن الطحاوي، قال الفقيه في " التساوي ": وبه نأخذ. وفي " الملتقطات ": لو أصاب موضع الاستنجاء نجاسة من خارج الدبر قدر الدرهم يطهر بالحجر، وقيل: الصحيح أنه لا يطهر، ذكره المرغيناني.
واتفق المتأخرون على سقوط اعتبار ما بقي من النجاسة في حق الفرد، وإن زاد عل قدر الدرهم ولم يرو عنهم فيما إذا جلس هذا المستنجي فيها قليلاً فهل تنجس؟ حكي عن الفقيه أبي جعفر أنه قال: لا ينجس فله وجه، وإن قيل: ينجس، فله وجه، وهو الصحيح، وذكر في " المبسوط ": أنه يتنجس ولم يذكر خلافاً.
م: (وفي بعض النسخ) أي وفي بعض نسخ القدوري لم يجز م: (إلا المائع) ش: أي الطاهر المزيل وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف م: (وهذا) ش: أي وهذا الذي قاله إلا الماء وإلا المائع م: (يحقق اختلاف الروايتين في تطهير العضو بغير الماء) ش: فقوله الماء يدل على أن إزالة النجس الحقيقي عن البدن لا يجوز إلا بالماء، وقوله - إلا المائع - يدل على أن إزالته يجوز بالمائع المزيل م: (على ما بينا) ش: في أول باب الأنجاس.
م: (وهذا) ش: أي هذا الذي قنا من اشتراط المائع إذا جاوزت النجاسة مخرجها م: (لأن المسح غير مزيل) ش: بالكلية م: (إلا أنه اكتفي به) ش: أي بالمسح م: (في موضع الاستنجاء) ش: بضرورة، والثابت بالضرورة يتقدر بقدرها م: (فلا يتعداه) ش: أي فلا يتعدى موضع الاستنجاء إلى غيره م: (ثم يعتبر المقدار المانع وراء موضع الاستنجاء عند أبي حنيفة وأبي يوسف لسقوط اعتبار ذلك الموضع) ش: فكان طاهراً حكما، فبقيت العبرة لما عداها، فإن كان أقل من درهم لا يمنع، وإن كان أكثر يمنع، [وفي] موضع آخر: فإنه لم يسقط اعتباره شرعاً.
م: (وعند محمد مع موضع الاستنجاء) ش: أي المعتبر عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في المقدار المانع موضع الاستنجاء م: (اعتباراً بسائر المواضع) ش: يعني أن في سائر المواضع قدر الدرهم عفواً، فإذا زاد عليه يكون مانعاً، فكذا في موضع الاستنجاء.
[الاستنجاء بالعظم والروث]
م: (ولا يستنجي بعظم ولا بروث، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذلك) ش: أي عن الاستنجاء بالعظم والروث، وفيه أحاديث، فروى البخاري في "بدء الخلق" من «حديث أبي هريرة، قال له النبي(1/758)
ولو فعل يجزئه لحصول المقصود، ومعنى النهي في الروث النجاسة، وفي العظم كونه زاد الجن، ولا يستنجي بطعام لأنه إضاعة وإسراف ولا بيمينه «لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن الاستنجاء باليمين»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ابغني أحجارا استنفض بها ولا تأتني بعظم ولا بروثة"، قلت: ما بال العظام والروثة، قال: "إنهما من طعام الجن» .
وروى الجماعة غير البخاري من حديث سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو أن نستنجي برجيع أو عظم» ، وفي لفظ: «ونهى عن الروث والعظام» .
وروى مسلم من حديث ابن مسعود حديث الوضوء بالنبيذ وفيه: "وسألوه الزاد، فقال: «لكم كل عظم ولكم بعرة علف لدوابكم"، ثم قال: "لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنهما زاد أخوانكم من الجن» .
م: (ولو فعل يجزئه) ش: أي ولو فعل الاستنجاء بالعظم أو بالروث يجزئه، ولكن يكره وبه قال مالك إذا كان العظم طاهراً، وقال الشافعي: لا يجزئه م: (لحصول المقصود) ش: وهو إنقاء الموضوع م: (ومعنى النهي في الروث: النجاسة، وفي العظم: كونه زاد الجن) ش: أشار بهذا إلى أن النهي يعد في غيره فلا ينفي المشروعية، كما لو توضأ بماء مغصوب واستنجى بحجر مغصوب.
م: (ولا يستنجى بطعام لأنه إضاعة وإسراف) ش: وهما حرام، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الاستنجاء بالعظم لكونه زاد الجن، فهي زاد الإنس بطريق الأولى، ويكره الاستنجاء بعشرة أشياء: العظم والرجيع والروث والطعام واللحم والزجاج وورق الشجر والشعر، ولو استنجى بها يجزئه مع الكراهة خلافا للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأحمد في الطعام والعظم والروث.
وفي سقوط الغرض بالطعام وجهان عند الشافعي [ ... ] . وفي " المبسوط ": يكره الاستنجاء بالآجر والخزف والفحم، وليس له قيمة أو حرمة كحرمة الديباج والأطارش، وفي " النظم ": ويستنجى بثلاثة الماء، فإن لم يجد فالأحجار، فإن لم يجد فثلاثة أكف من تراب، ولا يستنجى بما سواها من القرفة والقطن ونحوهما؛ لأنه روي في الحديث أنه يورث النقرس، وعنده يجوز الاستنجاء بقطعة من الخشب ومن الذهب والفضة في أظهر الروايتين كما يجوز بالقطعة من الديباج عنه، وروى الدارقطني من حديث رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه نهى أن يستطيبه أحدكم بعظم أو روثة أو جلد» قال الدارقطني: لا يصح ذكر الجلد.
وقال ابن القطان في رواية: مجهول م: (ولا بيمينه) ش: أي ولا يستنجي بيمينه م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن الاستنجاء باليمين» ش: أخرجه الجماعة في "كتبهم" ومختصراً من حديث أبي(1/759)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قتادة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه، وإذا أتى الخلاء فلا يتمسح بيمينه، وإذا شرب فلا يشرب نفساً واحدا» . وللجماعة غير البخاري من حديث سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيه: «نهى عن الاستنجاء باليمين» .
قوله: - لا يمس ذكره - هذا إذا كان في الخلاء، وعلى الإطلاق ما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ما تعنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا إكرام اليمين وإجلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو من باب الآداب عند الفقهاء، [فمني] أكل بالشمال لا يحرم عليه طعامه.
انتهى المجلد الأول ويليه المجلد الثاني وأوله كتاب الصلاة(1/760)
كتاب الصلاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الصلاة] [تعريف الصلاة]
م: (كتاب الصلاة)
ش: أي: هذا كتاب في بيان أحكام الصلاة، فارتفاع كتاب على أنه خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، أي كتاب الصلاة هذا، ويجوز نصب الكتاب على تقدير: خذ كتاب الصلاة. وقد مضى تفسير الكتاب في أول الكتاب.
ولما فرغ من بيان الطهارات التي فيها شروط الصلاة، شرع في بيان الصلاة التي هي مشروطة، فلذلك أخرها عن الطهارات لأن شرط الشيء يسبقه وحكمه تبع، ثم معنى الصلاة في اللغة العامة: الدعاء؛ قال الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] (التوبة: الآية 103) أي ادع لهم، وفي حديث إجابة الدعوة: «وإن كان صائما فليصل» أي فليدع بالخير والبركة، ومنه قول الأعشى:
وصهباء طاف يهود بها ... وأبرزها وعليها ختم
وقابلها الريح في دنها ... وصلى على دنها وارتسم
يصف الخمرة ودعا لها بالسلامة والبركة، والصهباء اسم من أسماء الخمر سميت بها للونها في الشعر، فإن الصهبة [حمرة] بين الشعر، قوله أبرزها أي أظهرها، قوله: وارتسم ضبطه الأترازي بالشين المعجمة وهو غلط، وإنما هو بالسين المهملة. قال الجوهري: في فصل: ارتسم الرجل كبر ودعى.
ثم قال الأعشى: وقابلها الريح إلى آخره، ومادته من الرسوم بالمهملة، وأما الرشم بالمعجمة فمعناه الختم، وهو قريب من معنى الرسم بالمهملة، ولكن هاهنا لا يصلح أن يكون قوله ارتشم بالمعجمة لأن معناه دعا عطفا على قوله: وصلى، ومضى أيضا معنى الختم في آخر البيت الأول، وسميت الصلاة الشرعية صلاة؛ لاشتمالها عليه، قالوا: هذا هو الصحيح، وبه قال الجمهور من أهل اللغة.
وقيل هي مشتقة من صليت العود على النار إذا قومته، قال النووي: وهذا باطل لأن لام الكلمة من الصلاة واو؛ بدليل الصلوات، وفي صليت ياء فكيف يصح الاشتقاق مع اختلاف الحروف الأصلية.
قلت: دعواه بالبطلان غير صحيحة لأن اشتراط اتفاق الحروف الأصلية في الاشتقاق الصغير دون الكبير والأكبر، وأيضا فإن الجوهري ذكر مادة صلى ثم قال: الصلاة الدعاء هو اسم يوضع موضع المصدر، تقول صليت صلاة، ولا يقال تصلية، وصليت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،(2/3)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وصليت العصا بالنار إذا لينتها وقومتها، وقال قيس بن هير:
فلا تعجل بأمرك واستدمه ... فما صلى عصاك المستقيم
والمصلي تالي السابق، وصليت اللحم وغيره أصليه صليا مثال رميته رميا إذا شويته، وصلي فلان بالنار بالكسر يصلي صليا أحرق واصطليت بالنار وتصليت بها، وذكر غير ذلك، ولم يفرق بين الواوية والمادة اليائية، وفي الحقيقة ما يفرق بينهما إلا برد الكلمة إلى الجمع والتصغير.
فإن قلت: الصلاة لو كانت واوية كان ينبغي أن يقال صلوات ولم يقل ذلك.
قلت: هذا لا ينبغي أن تكون واوية لأنهم يقلبون الواو ياء إذا وقعت رابعة.
وقيل: الصلاة مشتقة من الصلوين تثنية الصلاة وهو ما عن يمين الذنب وشماله. قال الجوهري: قلت: هما العظمان الناتئان عن العجيزة. وقال المطرزي: الصلا هو العظم الذي عليه الأليتان، لأن المصلي يحرك صلويه في الركوع والسجود.
وقيل: مشتقة من المصلي وهو الفرس الثاني من خيل السباق، لأن رأسه قد تكون [عند صلا] السابق، وقيل: إن أصلها في اللغة التعظيم، وسميت المادة المخصوصة صلاة لما فيها من تعظيم الرب عز وجل، وقيل: من الرحمة، وقيل: من الشواء من قولهم شاة مصلية وهي التي قربت إلى النار، وقيل: من اللزوم.
قال الزجاج: يقال صلي واصطلى إذا لزم. وقيل: هي الإقبال على الشيء وأنكر غير واحد بعض هذه الاشتقاقات لأن لام الكلمة في الصلاة واو. وفي بعض هذه الأقوال ياء فلا يصح الاشتقاق مع اختلاف الحروف.
قلت: الجواب عنه ما ذكرته.
وأما معناها الشرعي: فهو أنها عبارة عن الأركان المعهودة والأفعال المخصوصة. قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سميت بالصلاة لاشتمالها على المعنى اللغوي فهو من المنقولات الشرعية.
قلت: إذا كان فيها زيادة مع بقاء اللغة تكون تفسيرا لا نقلا لأنه لا يراعى المعنى اللغوي في النقل، وفي المعنيين يكون باقيا ولكنه زيد عليه شيء آخر.
1 -
وسبب وجوب الصلوات الخمس أوقاتها، وشرائطها ستة، الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة، والوقت، والنية، وتكبيرة الإحرام. وإنما عد الوقت من الشروط مع أنه سبب لأنه شرط للأداء وسبب للوجوب. وأركانها، القيام والقراءة والركوع والسجود والقعدة الأخيرة مقدار(2/4)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التشهد، وحكمها سقوط الواجب بالأداء في الدنيا، وحصول الثواب الموعود في الآخرة.
وحكمتها تعظيم الله تعالى بجميع الأركان بالأعضاء ظاهرها وباطنها تنزها عن عبادة الأوثان قولا وفعلا وهيئة وثبوت نفس الصلاة بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] (النساء: الآية 102) ، أي فرضا مؤقتا، وغيرها من الآيات.
وأما السنة: فحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» . متفق عليه.
وأما الإجماع، فقد أجمعت الأمة من زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا من غير نكير منكر ولا رد راد، فمن أنكر شرعيتها فقد كفر بلا خلاف.
وأما فرضية الخمس فقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] (البقرة: الآية 238) ، وهذه الآية قاطعة الدلالة على فرضية الخمس لأنه تعالى فرض جمعا من الصلوات والصلاة الوسطى معها وأقل جمع صحيح معه وسطى هو الأربع دون الثلاث، وما قيل: إن اللام إذا دخلت على الجمع يراد بها الجنس، لا يستقيم هاهنا لأنه إنما يراد به الجنس إذا لم يكن ثمة معهودة فهو منه، وهاهنا يرجع إلى المفروضات في الشرع. ولئن سلم حمله على الجنس لا يمكن حمله على أقل الجنس، هاهنا بالإجماع ولا على كله بالإجماع، فعلم أن المراد أقل الجمع الذي يصح به الوسطى خمس، وعلى قول أكثر أهل اللغة لا تصير للجنس بدخول اللام بل يبقى جمعا عاما في أنواع الجموع، وهو اختيار صاحب " الكشاف " و " المفتاح "، فحينئذ لا يرد الإشكال وهو قَوْله تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] (الروم: الآية 17) أراد به المغرب والعشاء، وحين تصبحون أراد به الصبح وعشيا أراد به صلاة العصر وحين تظهرون الظهر.
وأما من السنة، فحديث طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب قال: «جاء إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفهم ما يقول حتى دنى من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خمس صلوات في اليوم والليلة "، فقال: هل علي غيرها؟ قال: " لا، إلا أن تطوع.» رواه البخاري ومسلم. قوله ثائر الرأس أي منتفش الشعر، وطلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرة بالجنة، قتل يوم الجمل لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، ودفن بالبصرة.
1 -
فإن قلت: متى فرضت الصلاة؟ وكيف فرضت؟(2/5)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: جاء في " مسند الحارث بن أبي أسامة " من حديث أسامة بن زيد «أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أتاه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في أول ما أوحي إليه فعلمه الوضوء والصلاة» . وابن ماجه بلفظ: «علمني جبريل الوضوء» . وذكر الحربي أن الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس، وصلاة قبل طلوعها. قال الله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55] (غافر: الآية 55) . وذكر الحكيم الترمذي: أن أول فرض كتب على هذه الأمة الصلاة، وأهلها مسئولون عنها يوم القيامة، في أول حشر من الحشور السبعة.
وفي " صحيح البخاري " عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر» . وفي " الصحيح «فرضت الصلاة بمكة ركعتين ركعتين فلما هاجر فرضت أربعا وأقرت في صلاة السفر ". وفي رواية " بعد الهجرة بسنة» ، وفي " مسند أحمد ": «فرضت ركعتان ركعتان إلا المغرب فإنها كانت ثلاثا» ". وقال ابن عمر وروي «عن ابن عباس أن الصلاة فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين» وبذلك قال نافع، وابن جبير، والحسن، وابن جريج، ولا خلاف في أن فرض الصلوات الخمس كانت ليلة المعراج، وروي البيهقي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري أنه قال: أمر بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل خروجه إلى المدينة بسنة، وعن [......] : فرض على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخمس ببيت المقدس ليلة أسري به قبل ثمانية عشر شهرا، وقال القرطبي، وعياض: لا خلاف أن خديجة صلت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد فرض الصلاة وأنها توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل بخمس سنين. والعلماء مجمعون أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء.
فإن قلت: ما الحكم في كون الظهر والعصر والعشاء أربع ركعات، والصبح ركعتين، والمغرب ثلاثا؟
قلت: كل صلاة صلاها نبي؛ فالفجر صلاها آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين خرج من الجنة، وأظلمت الدنيا عليه وجن الليل، فلما انشق الفجر صلى ركعتين الأولى: شكرا للنجاة من ظلمة الليل، والثانية: شكرا لرجوع ضوء ذلك النهار، فكان متطوعا عليه وفرضا علينا. والظهر صلاها إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين أمر بذبح الولد وذلك عند الزوال. الأولى: شكرا لزوال غم الولد، والثانية لمجيء الفداء، والثالثة لرضى الله تعالى، والرابعة شكرا لصبر ولده، وكان متطوعا وفرض علينا. والعصر صلاها يونس - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين أنجاه الله تعالى من أربع ظلمات: ظلمة الذلة، وظلمة البحر، وظلمة الحوت، وظلمة الليل. والمغرب صلاها عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الأولى لنفي الألوهية عن نفسه، والثانية: لنفي الألوهية عن أمه، والثالثة: لإثبات الألوهية لله(2/6)
..
....
....
....
..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعالى. والعشاء صلاها موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين خرج من اليابس ودخل الطريق، وكان في غم المرأة، وغم أخيه هارون، وغم غرق فرعون، وغم أولاده، وشكرا لله تعالى حيث نجاه من الغرق وأغرق عدوه، فلما نجاه الله من ذلك كله، ونودي من شاطئ الوادي صلى أربعا شكرا تطوعا، فأمرنا بذلك لينجينا الله من شر الشيطان.(2/7)
باب المواقيت
أول وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب المواقيت]
م: (باب المواقيت) ش: أي: هذا باب في بيان مواقيت الصلاة؛ فإعرابه مثل إعراب كتاب الصلاة، والمواقيت جمع ميقات والميقات ما وقت به أي حدد من زمان، كمواقيت الصلاة، أو مكان كمواقيت الإحرام، ويقال: المواقيت جمع وقت على غير القياس، يقال: وقت الشيء بوقته ووقته: إذا بين حده.
والتوقيت والتأقيت: أن يجعل للشيء وقت يختص به وهو بيان مقدار المدة، وأصل ميقات موقاة، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. قال الجوهري: الميقات الوقت المضروب للمصلي والموضع أيضا، يقال هذا ميقات أهل الشام. للموضع الذي يحرمون منه.
ولما كانت الصلوات قسمين، الأول: لازمة كالخمس والجمعة والعيدين، والثاني عارضة كصلاة الجنازة والكسوف والاستسقاء ونحوها، واللازمة يلزم بأوقاتها، ووقت بعضها يتكرر في السنة مرة، وبعضها في الجمعة مرة وبعضها في كل يوم خمسا، كان معرفة الأوقات أهم معالم الصلوات. ولأن التوقيت سبب، والسبب يقدم على المسبب؛ فلذلك بدأ المصنف بباب المواقيت، وله جهتان: جهة أنه وجه الشرط لأنه سبب للوجوب، وشرط للأداء فلذلك استحق التقديم.
[وقت صلاة الفجر]
[أول وقت الفجر]
م: (أول وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني) ش: قدم بيان وقت الفجر وكان الواجب أن يبتدئ وقت الظهر، لأنها أول صلاة أمه فيها جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولكن وقت الفجر وقت متفق في أوله وآخره، ولأنه صلاة وجبت بعد النوم، والنوم أخو الموت فكان إيراده بأول وقت يخاطب المرء بأدائها إذ الخطاب على اليقظان لا على النائم، ولأن صلاة الفجر أول من صلاها آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين أهبط من الجنة كما ذكرنا عن قريب.
فإن قلت: كيف قلت وقت الفجر وقت اختلف في أوله وآخره، وقد قال أبو سعيد الإصطخري من الشافعية: إذا أسفر يخرج الوقت وتكون الصلاة بعد طلوع الشمس قضاء؟.
قلت: هذا القول خارق للإجماع فلا يلتفت إليه. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على من يصلي الصبح قبل طلوع الشمس أنه يصليها في وقتها، ولأن صلاة الفجر أول الخمس في الوجوب، إذ لم يختلفوا في أن الصلوات الخمس فرضت في ليلة الإسراء، فالفجر صبيحة ليلة وجوبها، وذلك لما روى أنس بن مالك قال: « [فرضت] على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلوات ليلة الإسراء، خمسين صلاة ثم نقصت حتى جعلت خمسا، ثم نودي يا محمد إنه لا يبدل القول لدي وإن لك بهذه الخمس خمسين» . رواه النسائي وأحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.(2/8)
وهو البياض المعترض في الأفق وآخر وقتها ما لم تطلع الشمس؛ لحديث إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فإنه أم رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيها في اليوم الأول حين طلع الفجر وفي اليوم الثاني حين أسفر جدا وكادت الشمس تطلع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[آخر وقت صلاة الفجر]
وقال السروجي: والشافعية بدءوا بصلاة الظهر لإمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ثم قال: ولنا أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بدأ بالفجر للسائل بالمدينة، وهو متأخر عن الأول الذي هو فعل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وناسخ لبعضه فلهذا استحسنوا ترتيبه.
قلت: بدأ محمد في أصل " الجامع الصغير " بصلاة الظهر. وقال الأترازي: لأن أول صلاة الفجر فالمضاف محذوف.
قوله: إذا طلع الفجر الثاني أي الصادق. وفي " الجمهرة ": اختلف المشايخ في أن العبرة لأول طلوعه أو لاستطارته وانتشاره.
م: (وهو) ش: أي الفجر الثاني م: (البياض المعترض في الأفق) ش: أي في أفق السماء وهو طرفه وناحيته. قال الجوهري: الآفاق النواحي. الواحد أفق وأفق مثل عشر وعشر، قال الأكمل: احترز به عن الفجر الكاذب، وفسره أيضا على ما يأتي عن قريب، ومقصوده هاهنا بيان الفجر الثاني، وهو الفجر الصادق الذي يدخل به وقت صلاة الصبح، وهو الفجر المعترض أي المنتشر في الأفق عرضا لا يزال يزداد، وسمي الصادق به لأنه صدق عن الصبح.
م: (وآخر وقتها) ش: أي آخر وقت صلاة الفجر م: (ما لم تطلع الشمس) ش: المراد به جزء قبل طلوع الشمس. وفي " البداية " في قوله ما لم تطلع الشمس إطلاق اسم الكل على البعض لأن قوله ما لم تطلع للشمس يتناول من أول الوقت إلى ما قبل طلوع الشمس، والمراد به الجزء كما ذكرنا.
م: (لحديث إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فإنه أم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها في اليوم الأول حين طلع الفجر، وفي اليوم الثاني حين أسفر جدا، وكادت الشمس تطلع) ش: حديث إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رواه جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - منهم ابن عباس، [وأبو] مسعود، وأبو هريرة، وعمرو بن حزم، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وابن عمر، وبريدة، وأبو موسى الأشعري، والبراء بن عازب.
أما حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرواه أبو داود، والترمذي عنه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عند البيت مرتين فصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك، ثم العصر حين كان ظل كل شيء مثله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم، وصلى المرة الثانية(2/9)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الظهر حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب لوقته الأول، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض، ثم التفت إلى جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين» . قال الترمذيِ: حديث حسن. ورواه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه "، وأبو بكر بن خزيمة في " صحيحه ".
فإن قلت: في إسناده عبد الرحمن بن الحارث تكلم فيه أحمد وقال: متروك الحديث، ولينه النسائي، وابن معين، وأبو حاتم الرازي.
قلت: هذا الحديث هو العمدة في هذا الباب، ومثل هؤلاء الأئمة صححوه، وعبد الرحمن بن الحارث وثقه ابن سعد وابن حبان. وقال ابن عبد البر في " التمهيد ": وقد تكلم بعض الناس في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا بكلام لا وجه له، ورواته كلهم مشهورون بالعلم، وأخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الرحمن بن الحارث بإسناده عن العمري عن عمر بن نافع بن حبيب بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحوه.
وأما حديث جابر فرواه الترمذي والنسائي عنه واللفظ له: «جاء جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين مالت الشمس فقال: " قم يا محمد فصل الظهر حين مالت الشمس، ثم مكث حتى إذا كان فيء الرجل مثله جاءه للعصر فقال: قم يا محمد فصل العصر، ثم مكث حتى إذا غابت الشفق جاءه فقال: قم فصل المغرب فقام فصلاها، حين غابت الشمس، ثم مكث حتى إذا غاب الشفق جاءه فقال: قم فصل العشاء فقام فصلاها ثم جاءه حين سطع الفجر بالصبح فقال: قم يا محمد فصل فقام فصلى الصبح، ثم جاءه من الغد حين كان فيء الرجل مثله، فقال: قم يا محمد فصل الظهر، ثم جاءه حين كان فيء الرجل مثليه فقال: قم يا محمد فصل العصر، ثم جاءه المغرب حين غابت الشمس وقتا واحدا لم يزل عنه فقال: قم يا محمد فصل المغرب، ثم جاءه للعشاء حين ذهب ثلث الليل الأول، فقال: قم يا محمد فصل العشاء، ثم جاءه الصبح حين أسفر جدا فقال: قم يا محمد فصل فصلى الصبح، ثم قال ما بين هذين وقت كله» .
قال الترمذي: قال محمد يعني البخاري: حديث جابر أصح شيء في المواقيت، ورواه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه "، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه لعله حديث الحسين الأصغر، وهو من جملة رواته، وثقه النسائي وابن حبان. رواه أحمد وإسحاق بن راهويه.
فإن قلت: قال ابن القطان في " كتابه ": هذا الحديث يجب أن يكون مرسلا، لأن جابرا لم يذكر من حدثه بذلك، وجابر لم يشاهد ذلك، صحة الأمر لما علم أنه أنصاري، وإنما صحت(2/10)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالمدينة، ولا يلزم بذلك من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأبي هريرة، فإنهما رويا إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: هذا إرسال غير ضار، فمن ثم يبعد أن يكون جابر سمعه من تابعي غير صحابي. وقد اشتهر أن مراسيل الصحابة مقبولة والجهالة غير ضارة.
وأما حديث أبي مسعود فرواه ابن راهويه مطولا في " مسنده "، ورواه [البيهقي] في " سننه "، ثم قال: إنه منقطع، لم يسمع أبو بكر من أبي مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإنما هو بلاغ.
قلت: أبو بكر هو ابن عمرو بن حزم، وأبو مسعود اسمه عقبة بن عمرو الأنصاري. وحديث أبي مسعود هذا في " الصحيحين " إلا أنه غير مفسر، ولفظهما عن أبي مسعود الأنصاري قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «نزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأمني فصليت معه، ثم جاء مرة أخرى فأمني فصليت معه ويحسب بأصابعه خمس صلوات ثم قال: بهذا أمرت» . وليس في " الصحيحين " غير ذلك.
وأما حديث أبي هريرة فعند البزار والنسائي والحاكم في " مستدركه "
وأما حديث عمرو بن حزم فعند عبد الرزاق في " مصنفه "، وعنه رواه إسحاق بن راهويه في " مسنده ".
وأما حديث أبي سعيد الخدري فعند أحمد في " مسنده " والطحاوي في " شرح الآثار ".
وأما حديث أنس فعند الدارقطني في " سننه "، وقال ابن القطان: في إسناده محمد بن سعيد وهو مجهول، والراوي عنه أبو حمزة إدريس بن يونس بن يناق الفراء ولا يعرف حاله.
وأما حديث ابن عمر فعند الدارقطني أيضا، ورواه ابن حبان في كتاب " الضعفاء "، وأعله بمحبوب بن الجهم أحد رواته.
وأما حديث بريدة فعند مسلم أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن وقت الصلاة أخرجه مطولا.
وأما حديث أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعند مسلم، إلا أن فيه أنه أخر المغرب في اليوم الثاني وأن ذلك كان في صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المدينة، ثم الكلام في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقوله: «أمني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عند البيت» أراد به الكعبة شرفها الله تعالى. واعترض النووي على الغزالي في قوله هذا الخبر عند باب البيت، وقال: المعروف عند البيت وليس له وجه، لأن الشافعي هكذا رواه فقال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة بن عبد العزيز عن عبد الرحمن بن الحارث، وفيه: «أمني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عند باب البيت» . وهكذا رواه البيهقي والطحاوي أيضا في " شرح الآثار ": «أمني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مرتين عند باب البيت» .
1 -(2/11)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: حين زالت الشمس، ورد أن انحطاطها عن كبد السماء يسير. قوله: قدر الشراك، هو أحد سواري النعل التي تكون على وجهها، وقدره هاهنا ليس على معنى التحديد، ولكن زوال الشمس لا يتبين إلا بأقل ما يرى من الظل، وكان حينئذ يمكن تحديد هذا القدر، والظل يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، وإنما يتبين ذلك في مثل مكة من البلاد التي ينتقل فيها الظل، فإذا كان أطول النهار، واستوت الشمس فوق الكعبة لم ير شيء من جوانبها، وظل كل بلد يكون أقرب إلى خط الاستواء، وعدل النهار يكون الظل فيه أقصر، وكل ما بعد عنها إلى جهة الشمال يكون الظل فيه أطول.
قوله: حين كان ظله مثله، وفي بعض الرواية حين صار كل شيء مثله. قوله: حين غاب الشفق، وهو البياض عند أبي حنيفة على ما يأتي. قوله: حين حرم الطعام والشراب على الصائم، وهو أول طلوع الفجر الثاني الصادق.
قوله: حين كان ظله مثليه، وهو آخر وقت الظهر عند أبي حنيفة على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
قوله: وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، يعني حين غابت الشمس، والإجماع على أن وقت المغرب غروب الشمس.
واختلفوا في آخر وقتها فقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والأوزاعي والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: لا وقت للمغرب إلا وقت واحد. وعن الشافعي: ووقت المغرب بقدر وقوع فعلها فيه مع شروطها حتى لو بقي ما يسع فيه ذلك فقد انقضى الوقت. وعند أبي حنيفة وأصحابه: وقت المغرب من غروب الشمس إلى غروب الشفق، وبه قال أحمد والثوري وإسحاق بن راهويه وهو قول الشافعي في القديم، وقال الثوري: هو الصحيح واختاره النووي والخطابي والبيهقي والغزالي. وعن مالك ثلاث روايات أحدها: كقولنا. والثانية: كقول الشافعي في الجديد. والثالثة: تبقى إلى طلوع الفجر، وهو قول عطاء وطاوس.
وقوله: وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، يجوز أن يكون إلى هاهنا بمعنى في، أي صلى في ثلث الليل ومنه قَوْله تَعَالَى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [النساء: 87] (النساء: الآية 87) أي في يوم القيامة، وهذا وقت الاستحباب، أما وقت الجواز ما لم يطلع الفجر. وقال الشافعي ومالك وأحمد: هو وقت الفجر.
وأما آخره عند أصحابنا ما لم يطلع الفجر. وقال الشافعي: إلى الإنقاء لأصحاب الرفاهية ولمن لا عذر له. وقال: ومن صلى ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس لم يفته الصبح، وهذا في أصحاب الأعذار والضرورات. وقال مالك وأحمد وإسحاق: من صلى ركعة من الصبح(2/12)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وطلعت الشمس أضاف إليها أخرى وقد أدرك الصبح.
قوله: هذا وقت الأنبياء قبلك، هذا يدل على أن الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - كانوا يصلون في هذه الأوقات، ولكن لا يلزم أن يكون قد صلى كل منهم في جميع هذه الأوقات. والمعنى أن صلاتهم كانت في هذه الأوقات [....
.....] ، وإلا فلم تكن هذه الصلوات على هذه المواقيت إلا لهذه الأمة خاصة، وإن كان غيرهم قدره لهم في بعضها. ألا ترى أن ما روى أبو داود في القسمة وفيه: «اغتنموا بهذه الصلاة فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم» .
قوله: والوقت مبتدأ.
وقوله: ما بين هذين الوقتين إشارة إلى وقت اليوم الأول والثاني الذي أم فيها جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
فإن قلت: هذا يقتضي أن لا يكون الأول والآخر وقتا لها.
قلت: لما صلى في أول الوقت وآخره وجد البيان منه فعلا وبقي الاحتياج إلى ما بين الأول والآخر فتبين ما يقول. وجواب آخر أن هذا بيان للوقت المستحب إذ الأداء في أول الوقت ما يتعين على الناس، ويؤدي أيضا إلى تقليل الجماعة، وفي التأخير إلى آخر الوقت خشية الفوات، فكان المستحب ما بينهما مع قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خير الأمور أوساطها» ، ثم إن الشافعية استدلوا بإمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على صحة إمامة المفترض بالمنتفل، وقالوا: إن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان متنفلا معلما والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مفترض.
قلنا: هذه دعوى فمن أين لهم أنه كان متنفلا أو مفترضا؟ أما كونه معلما فبين: قالوا: لا تكليف على ملك في هذه الشريعة، وإنما هو على الجن والإنس.
قلنا: هذا لا يعلم عقلا وإنما علم بالشرع، وجبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مأمور بالإمامة بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يؤمر غيره من الملائكة ملك، فلما خص بالإمامة جاز أن يخص بالفرضية، وروي في حديث أبي مسعود في " الصحيحين " الذي مضى ذكره، بهذا أمرت بضم التاء وفتحها، أما الفتح فظاهر، وأما الضم فيدل على أن جبريل كان مأمورا ولكن لم يعلم كيفية أمر الله تعالى له، هل قال له بلغ قولا أو فعلا أو كيف شئت، ولا يقال أمره أن يبلغه قولا ويبلغ فعلا لأنه يكون مخالفا غير ممتثل.
فإن قلت: لا شك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مقتديا بجبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والناس صلوا سواء.
قلت: في حديث عمرو بن حزم قال: جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فصلى بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلى النبي(2/13)
ثم قال في آخر الحديث: «ما بين هذين الوقتين وقت لك ولأمتك» .
ولا معتبر بالفجر الكاذب، وهو البياض الذي يبدو طولا ثم يعقبه الظلام؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يغرنكم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، وإنما الفجر المستطير في الأفق» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالناس الحديث.
م: (ثم قال في آخر الحديث) ش: أي قال جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في أخر حديث إمامته.
م: (" ما بين هذين الوقتين وقت لك ولأمتك ") ش: أشار بهذين إلى الوقتين اللذين صلى فيهما جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في اليوم الأول واليوم الثاني، وقد مر أن هذا الحديث أخرجه جماعة من الصاحبة، وليس في حديث واحد منهم هذا اللفظ بهذه العبارة، فعبارة حديث ابن عباس: «والوقت فيما بين هذين الوقتين» وعبارة حديث جابر: «ما بين هذين وقت كله» ، وعبارة حديث أبي مسعود الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما بين هذين وقت صلاة» .
وعبارة حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما بين هذين وقت، بدون لفظة كله مما في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وفي طريق آخر لأبي هريرة أخرجه النسائي ثم قال: " الصلاة ما بين صلاتك أمس وصلاتك اليوم ". وفي حديث أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن سائلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحديث، وفي آخره ثم قال أي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أين السائل عن وقت الصلاة؟ الوقت: فيما بين هذين» . وفي حديث أبي بريدة: «وقت صلاتكم ما بين ما رأيتم»
قوله: وقت مرفوع على الابتداء وخيره مقدم هو قوله: ما بين هذين، محل لك من الإعراب رفع لأنه صفة لقوله -: وقت - ومتعلق اللام محذوف تقديره وقت كائن لك.
م: (ولا معتبر بالفجر الكاذب) ش: يعني الاعتبار بدخول وقت الصبح، ولا في خروج وقت العشاء.
م: (وهو البياض الذي يبدو طولا ثم يعقبه الظلام) ش: هذا تفسير الفجر الكاذب وهو الذي يبدأ يظهر ضوؤه مستطيلا ذاهبا في السماء كذنب السرحان وهو الذي يعقبه ظلمة.
يعني: يمضي أثره ويصير الجو أظلم ما كان، ويسمى كاذبا لأنه يضيء ثم يسود ويذهب النور فيختلف ويعقبه ظلمة فكان كاذبا، والعرب تشبهه بذنب السرحان لمعنيين: أحدهما طوله.
والثاني: أن ضوءه يكون في الأعلى دون الأسفل، كما أن الذنب يكثر شعره في أعلاه لا في أسفله، والأحكام متعلقة بالفجر الثاني دون الأول، به يدخل وقت صلاة الصبح، ويخرج وقت العشاء، ويحرم الأكل والشرب والجماع على الصائم، وينقضي الليل ويدخل النهار، ولا يتعلق [بالأول] شيء من الأحكام بإجماع المسلمين.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يغرنكم أذان بلال، ولا الفجر المستطير، إنما الفجر المستطير في الأفق» هذا(2/14)
أي المنتشر فيها.
وأول وقت الظهر إذا زالت الشمس؛ لإمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في اليوم الأول حين زالت الشمس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - كلهم - في الصوم، واللفظ للترمذي من حديث سوادة بن حنظلة عن سمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق» .
ولفظ مسلم: «لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هذا حتى يستطير هكذا» . وحكى حماد قال: يعني مفترضا، وبلفظ الترمذي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن راهويه وأبو يعلى الموصلي في مسانيدهم، والطبراني في " معجمه "، وابن أبي شيبة في " مصنفه ".
قوله - الفجر المستطيل هو الفجر الكاذب، والفجر المستطير هو الفجر الصادق، وقد فسره المصنف بقوله م: (أي المنتشر فيها) ش: أي في الأفق، وإنما أنث الضمير فيها إلى معنى الناحية وعليه قوله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يمدح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض ... وضاءت بنورك الأفق
قوله: ضاءت، لغة في أضاءت. ويجوز أن يكون الأفق واحدا وجمعا كالفلك، والمستطير المنتشر المتفرق في نواحيها، والاستطارة والتطاير: التفرق والذهاب. والسين فيه للطلب كأنه يطلب الطيران في نواحي الأفق.
[وقت صلاة الظهر]
[أول وقت الظهر]
م: (وأول وقت الظهر) ش: أي أول وقت صلاة الظهر م: (إذا زالت الشمس) ش: وزوال الشمس عبارة عن ميلانها من جانب الشمال إلى اليمين لمستقبل القبلة، وفي " المبسوط ": لا خلاف في أول وقت الظهر أنه يدخل بزوال الشمس إلا شيء نقل عن بعض الناس أنه يدخل إذا صار الفيء بقدر الشراك. وقال النووي عن أبي الطيب: هو خلاف ما اتفق عليه الفقهاء.
م: (لإمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في اليوم الأول حين زالت الشمس) ش: قد تقدم في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أمني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عند البيت مرتين فصلى بي الظهر حين زالت الشمس» .
وقد تقدم أيضا حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «جاء جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين زالت الشمس» . أخرجه الترمذي وغيره.
وفي حديث عمرو بن حزم قال: «جاء جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فصلى بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلى النبي بالناس من حين زالت الشمس الظهر» .
وفي حديث بريدة: «ثم أمره بالظهر حين زالت الشمس عن بطن السماء» . رواه عبد الرزاق -(2/15)
وآخر وقتها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا صار ظل كل شيء مثليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأخرج مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: «وقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس ما لم يحضر وقت العصر» . وروى الترمذي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا: «أن للصلاة أولا وآخرًا وأول وقت صلاة الظهر حين زوال الشمس» . وأخرجه مسلم أيضا من حديث أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «ثم أمر فأقام بالظهر حين زالت الشمس» .
فإن قلت: جاء عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «أمني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عند البيت مرتين فصلى الظهر في المرة الأولى حين كان الفيء مثل الشراك» .
قلت: هذا محمول على الفراغ منها، والأحاديث المذكورة محمولة على الشروع فيها، توفيقا بين الأحاديث، ويدل عليه قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] (الإسراء: الآية 78) أي لزوالها، وهو قول ابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة والحسن البصري.
وقال النووي: المراد به أنه حين زالت الشمس كان الفيء حينئذ مثل الشراك من ورائه، لا أنه أخر إلى أن صار مثل الشراك، وهو أحد سيور النعل، وهو يكون على وجهها، والمعنى أن الظل قد رجع حين وقع النعل، والظل من أول النهار إلخ. والفيء لا يكون إلا بعد الزوال لأنه ظل فاء أي رجع، والفيء مهموز معناه الرجوع، والمراد هاهنا رجوع الظل من جانب المغرب إلى جانب المشرق.
[آخر وقت الظهر]
م: (وآخر وقتها) ش: أي آخر وقت الظهر م: (عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا صار ظل كل شيء مثليه) ش: قال الأكمل: قوله آخر الوقت إذا صار ظل كل شيء مثليه فيه تسامح لأن آخر الشيء منه، فماذا صار ظل كل شيء مثليه خروج وقت الظهر عنده، وكذا إذا صار مثله عندهما قال: وتأويله آخر الوقت الذي يتحقق عنده خروج الظهر بدليل قوله فيما بعد - وآخر وقت المغرب حين يغيب الشفق يتحقق الخروج.
قلت: هذا كلام السغناقي فإنه أخذ منه، وملخص كلامه: أن آخر الشيء من أجزاء ذلك الشيء فيكون وقت الظهر باقيا عنده عند المثلين، وعندهما المثل. ورواية " المنظومة " يقتضي أن لا يبقى وقت الظهر على القولين على هذا التقدير، والذي في المنظومة هو قوله:
والعصر حين المرء يلقى ظله ... قد صار مثليه وقالا مثله
فيحتاج إلى التوفيق بينهما. فأجاب عنه بجوابين: أحدهما ما ذكرناه، والآخر أن المراد بآخر الوقت هو القرب منه الذي يتحقق الخروج عنده وهو نظير قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2] (البقرة: الآية 234) أي قارب بلوغ أجلهن، فكان لفظة آخر بمنزلة لفظ الأجل لأن كل منهما اسم لتمام الشيء، ثم يذكر الأجل ويراد به القرب، ويذكر ويراد به الانقضاء.(2/16)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم اعلم أن قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا رواية محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه وهي المشهورة.
وفي تأويل رواية الحسن وأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: حتى يصير ظل كل شيء مثله وبه قال أبو يوسف ومحمد وزفر والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - واختاره الطحاوي.
وفي رواية أسد ين عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا صار ظل كل شيء مثله خرج وقت الظهر ولا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء سوى فيء الزوال.
وروى المعلى عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه إذا صار الظل أقل من قامتين يخرج وقت الظهر ولا يدخل وقت العصر حتى يصير قامتين، وصححه الشيخ أبو الحسن الكرخي.
وفي " المبسوط " جعل رواية الحسن رواية محمد عن أبي حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وجعل المثلين رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قال: وروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الحسن إذا صار ظل كل شيء قامته خرج وقت الظهر، ولا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل قامتين وبينهما وقت مهمل وهو الذي سمته الناس بين الصلاتين.
وقال مالك: إذا صار ظل كل شيء مثله دخل وقت العصر، ولم يخرج وقت الظهر، يبقى بعد ذلك قدر أربع ركعات صالحا للظهر والعصر أداء. وحكي في " المغني " عن ربيعة: أن وقت الظهر والعصر إذا زالت الشمس.
وعن عطاء وطاوس: إذا صار ظل كل شيء مثله دخل وقت العصر، وما بعده وقت لهما على سبيل الاشتراك حتى تغرب الشمس. وقال إسحاق بن راهويه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأبو ثور والمزني وابن جرير الطبري: إذا صار ظل كل شيء مثله دخل وقت العصر وبقي وقت الظهر قدر ما يصلي أربع ركعات، ثم يتمحض الوقت للعصر وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن المبارك، حتى لو صلى رجل الظهر حين صار الظل مثل الشخص وآخر [صلى] فيه العصر كانا مؤديين.
وروى أبو نصير عن مالك: وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله وقت المختار، وأما وقت الأداء يؤخر إلى أن يبقى إلى غروب الشمس قدر أربع ركعات في " المبسوط ".
وقال مالك: إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر، فإذا مضى مقدار ما يصلى فيه أربع ركعات، دخل وقت العصر ولم يخرج وقت الظهر وكان الوقت مشتركا بينهما إلى أن يصير الظل قامتين، وهو فاسد لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يدخل وقت صلاة حتى تخرج وقت صلاة أخرى» .
وفي " الوجيز " ويروى هذا عن المزني أيضا، [و] عن ابن جرير وعطاء أنه لا يكون تأخير الظهر إلى صفرة الشمس مفرطا. وعن طاوس: لا تفوت حتى الليل.(2/17)
سوى فيء الزوال، وقالا: إذا صار الظل مثله، وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وفيء الزوال هو الفيء الذي يكون للأشياء وقت الزوال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (سوى فيء الزوال) ش: وهو الظل الذي يكون للأشياء وقت الزوال. وفي " المجتبى ": زوال الشمس بفيء الزوال، وقد مر أن الفيء مهموز، وهو في اللغة الرجوع، فلا يكون إلا بعد الزوال.
م: (وقالا) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (إذا صار الظل مثله) ش: أي إذا صار ظل كل شيء مثله.
م: (وهو) ش: أي قولهما م: (رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: رواه الحسن عنه.
م: (وفيء الزوال هو الفيء الذي يكون للأشياء وقت الزوال) ش: أي وقت زوال الشمس عن كبد السماء. وقال المرغيناني: قال أبو حنيفة: ما دام القرص في كبد السماء فإنه لم يزل وإن انحط يسيرا فقد زال.
وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقوم الرجل مستقبل القبلة، فإذا زالت الشمس عن يساره فهو الزوال. وأصح ما قيل في معرفة الزوال: قول محمد بن شجاع: أنه يغرز خشبة في أرض مستوية وتخط على رأس الظل خطا، فيجعل ما بلغ الظل علامة، [و] ما دام الظل ينقص عن الخط والعلامة فإنها لم تزل فإذا وقف ولم يزدد ولم ينقص فهو وقت الزوال والاستواء، فإذا أخذ في الزيادة فقد زالت الشمس. وقال السرخسي والمرغيناني: هذا هو الصحيح.
وفي " المبسوط ": الزوال يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، وقد قيل: لا بد أن يبقى لكل شيء فيء الزوال في كل موضع إلا مكة وصنعاء والمدينة في أطول أيام السنة، فلا يبقى بمكة وصنعاء ظل على الأرض، وبالمدينة يأخذ الشمس الحيطان الأربعة، وحكي عن أبي جعفر: أن عند أطول النهار في الصيف لا يكون بمكة ظل من الأشخاص عند الزوال بستة وعشرين يوما قبل انتهاء الطول، وستة وعشرين يوما بعد انتهاء الطول، وفي هذه الأيام إذا لم ير للشخص ظل فإن الشمس لم تزل، فإذا رأى الظل بعد ذلك فإن الشمس قد زالت.
وعن أبي حامد: إنما يكون الظل في يوم واحد في السنة، وأما الزوال في نفس الأمر الذي لا يظهر فإنه يتقدم على ما يظهر لنا فلا اعتبار له ولا يتعلق به الحكم، ولو لم يجد ما تقرر لمعرفة الوقت والفيء والأمثال فيعتبر بقامته وقامة كل إنسان ستة أقدام ونصف بقدمه. وقال الطحاوي: عامة المشايخ سبعة أقدام من طرف سمت الساق، وستة ونصف من طرف الإبهام، وإليه أشار البقالي في " الأربعين ".
وحكى ابن قدامة في " المغني " عن أبي العباس السبخي على وجه التقريب: أن الشمس(2/18)
لهما إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في اليوم الأول في هذا الوقت، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم» ، وأشد الحر في ديارهم في هذا الوقت، وإذا تعارضت الآثار لا ينقضي الوقت بالشك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تزول في نصف حزيران وهو بئونة على قدم وثلث، وهو أقل ما تزول عليه الشمس، وفي نصف تموز وهو أبيب ونصف آذار وهو بشنس على قدم ونصف وثلث، وفي نصف آب وهو مسري ونيسان وهو برمودة على ثلاثة أقدام، وفي نصف آذار وأيلول وهما برمهات وتوت على أربعة أقدام ونصف، وفي نصف تشرين الأول وشباط وهما بابة وأمشير على ستة أقدام، وفي نصف تشرين ثاني وكانون ثاني وهما هاتور وطوبة على تسع أقدام، وفي نصف كانون الأول وهو كهيك على عشرة أقدام وسدس.
وهذا انتهى ما تزول عليه الشمس في إقليم العراق والشام وما بينهما من البلدان، فإذا أردت معرفة ذلك فقف على أرض مستوية وعلم الموضع الذي انتهى إليه ذلك، ثم ضع قدمك اليمنى بين يدي قدمك اليسرى وألصق عقبك بإبهامك فإذا بلغت ساعة هذا القدر بعد انتهاء النقص فهو الوقت الذي زالت عليه الشمس ووجبت صلاة الظهر قبل طول الآبار من ستة أقدام ونصف بقدم نفسه.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
م: (إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في اليوم الأول في العصر في هذا الوقت) ش: أي الوقت الذي جعل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقت الظهر، وهو ما إذا صار ظل كل شيء مثله. واختلفت نسخ " الهداية " في هذا الموضع ففي بعضها في اليوم الأول في هذا الوقت، وفي بعضها في اليوم الثاني أي إمامته للظهر وفي بعضها إمامته للعصر في اليوم الثاني.
م: (وله) ش: أي لأبي حنيفة.
م: (قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم» ش: هذا الحديث أخرجه جماعة عن خلق كثير من الصحابة وسنبين جميع ذلك في فصل بيان الأوقات المستحبة. وبلفظ المصنف رواه البخاري في " صحيحه " من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم» .
قوله: أبردوا، أمر من الإبراد والفيح بالفاء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره حاء وهو سطوع الحر وزفراته. ويقال بالواو فاحت القدر تفوح إذا غلت. وقد أخرجه مخرج التنبيه والتمثيل أي كأنه نار جهنم في حرها.
م: (وأشد الحر في ديارهم في هذا الوقت) ش: يعني وقت صيرورة ظل كل شيء مثله. وأراد(2/19)
وأول وقت العصر إذا خرج وقت الظهر على القولين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بديارهم ديار الحجاز.
1 -
م: (وإذا تعارضت الآثار لا ينقضي الوقت بالشك) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال يعارض حديث الإبراد حديث إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لأن إمامته في صلاة العصر في اليوم الأول فيما إذا صار ظل كل شيء مثله، فدل ذلك على خروج وقت الظهر.
وحديث الإبراد دل على خروج وقت الظهر؛ لأن اشتداد الحر في ديارهم في ذلك الوقت، وتقرير الجواب أن الآثار أي الأحاديث إذا تعارضت لا ينقضي الوقت الثابت بيقين بالشك، ما لم يكن ثابتا بيقين أنه وقت العصر، ولا يثبت بالشك.
فإذا قلت: هل في الإبراد تحديد.
قلت: روى أبو داود والنسائي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كان قدر صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للظهر في الصيف ثلاثة أقدام» . هذا يدل على التحديد.
اعلم أن هذا الأثر يختلف في الأقاليم والبلدان، ولا يستوي فيه جميع المدن والأمصار، وذلك لأن العلة في طول الظل وقصره هو زيادة ارتفاع الشمس في السماء وانحطاطها، فكلما كانت إلى محاذاة الرءوس في مجراها أقرب كان الظل أقصر، وكلما كانت أخفض ومحاذاتها الرءوس في مجراها أقرب كان الظل أطول، كذلك ظلال الشيء في الشتاء أبدا أطول من ظلال الصيف في كل مكان، وكانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة والمدينة ثلاثة أقدام وهما من الإقليم الثاني، ويذكرون أن الظل فيهما في أول الصيف في شهر آذار ثلاثة أقدام وشيء، ويثبت أن تكون صلاته إذا اشتد الحر متأخرة عن الوقت المعهود قبله، فيكون الظل عند ذلك خمسة أقدام.
وأما الظل في الشتاء فإنهم يذكرون أنه في تشرين الأول خمسة أقدام أو خمسة وشيء، وفي كانون سبعة أقدام أو سبعة وشيء، فبقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ينزل على هذا التقدير في ذلك الإقليم دون سائر الأقاليم والبلدان التي هي خارجة عن الإقليم الثاني.
[وقت صلاة العصر]
[أول وقت العصر]
م: (وأول وقت العصر) ش: أي أول وقت صلاة] العصر (إذا خرج وقت الظهر على القولين) ش: أي قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الرواية المشهورة عنه، وقول صاحبيه، فعنده إذا صار ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال ودخل وقت العصر، وعندهما إذا صار ظل كل شيء مثله، وإنما قيدنا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالرواية المشهورة عنه احترازا عن رواية أسد عنه حيث يخرج الظهر ولا يدخل العصر، فلا يكون أول العصر إذا خرج الظهر على تلك الرواية. وفي " المحيط ": الخلاف في وقت الظهر خلاف في أول وقت العصر.
قلت: هذا على المشهور من القولين.(2/20)
وآخر وقتها ما لم تغرب الشمس، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إذا زاد على المثل أنى يدخل أول وقت العصر. واختلف الشافعية في هذه الزيادة على ثلاثة أوجه:
أحدها: الظل إلى المثل وإلا فالوقت قد دخل قبل حصول الزيادة بمجرد المثل، فتكون الزيادة من وقت العصر.
والثاني: أنها من وقت الظهر وإنما يدخل وقت العصر بعدها وهذا مخالف لقول جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الوقت فيما بين هذين» .
الثالث: أنها ليست من وقت الظهر، ولا من وقت العصر بل هي وقت مهمل فاصل بين الوقتين.
[آخر وقت العصر]
م: (وآخر وقتها ما لم تغرب الشمس) ش: أي آخر وقت العصر غروب الشمس، وهو قول أكثر أهل العلم، وبه قال الشافعي في الصحيح الذي نص عليه. وقال الحسن بن زياد: بتغير الشمس إلى الصفرة، حكاه عنه قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال السرخسي: العبرة بتغير القرص عندنا، وهو قول الشعبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال النخعي: تغير الضوء. وقال الإصطخري: إذا صار ظل كل شيء مثليه خرج وقت العصر ويأثم بالتأخير بعدها ويكون قضاء.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها» ش: هذا الحديث رواه الأئمة الستة. فالبخاري عن عبد الله بن مسلم عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار وبشر بن سعيد وعبد الرحمن بن الأعرج عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» .
ومسلم عن يحيى قال: قرأت على مالك إلى آخره بنحوه. والترمذي عن إسحاق بن موسى الأنصاري عن معن عن مالك إلى آخره.
وابن ماجه عن محمد بن صالح عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن بشر بن سعيد وعن الأعرج يحدثون عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اهـ.
وأبو داود من حديث ابن عباس عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك، ومن أدرك من الفجر ركعة قبل أن(2/21)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تطلع الشمس فقد أدركها» .
والنسائي من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه.
وأخرجه ابن ماجه أيضا من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ومسلم أيضا، وابن حبان بعدة ألفاظ فمنها: «من صلى الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس لم تفته الصلاة، ومن صلى من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس لم تفته الصلاة» ، وفي لفظ: «فقد أدرك الصلاة كلها» ، وفي لفظ: " وليتم ما بقي "، وفي لفظ: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها» .
وأخرج النسائي عن معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن عزرة بن تميم عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا صلى أحدكم ركعة من صلاة الصبح ثم طلعت الشمس فليصل إليها أخرى» .
وأخرج أيضا عن همام قال: سئل قتادة عن رجل صلى ركعة من صلاة الصبح، ثم طلعت الشمس فقال: حدثني جلاس عن أبي رافع عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " يتم صلاته ".
وجه الاستدلال بهذا الحديث على وجوه:
الأول: أنه يدل على أن آخر وقت العصر هو غروب الشمس، وأن الذي يؤخر صلاة العصر عن صيرورة ظل كل شيء مثليه غير مفرط، وبه قال زفر ومالك في رواية ابن وهب عنه، وذلك أن معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فقط أدركها» أي أدرك وجوبها حتى إذا أدرك الصبي قبل غروب الشمس، أو أسلم الكافر، أو أفاق المجنون، أو طهرت الحائض يجب عليه صلاة العصر ولو كان الوقت الذي أدركه جزءا يسيرا لا يسع فيه الأداء، وكذلك الحكم قبل طلوع الشمس.
فإن قلت: قيل في الحديث: " ركعة " فينبغي أن لا يعتبر أقل منها.
قلت: قيد الركعة فيه خرج مخرج الغالب، فإن غالب ما يمكن معرفة الإدراك به ركعة ونحوها، حتى قال بعض الشافعية: إنما أراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذكر الركعة البعض من الصلاة لأنه قد روي عنه أنه من أدرك ركعة من العصر، ومن أدرك ركعتين من العصر، ومن أدرك سجدة من العصر، وأشار إلى بعض الصلاة مرة بركعة ومرة بركعتين ومرة بسجدة، والتكبيرة في حكم الركعة لأنها بعض الصلاة، فمن أدركها فكأنه أدرك الركعة.
فإن قلت: المراد من السجدة الركعة على ما روى مسلم: حدثني أبو طاهر وحرملة كلاهما عن ابن وهب والسياق كله لحرملة قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس، أو من الصبح قبل أن تطلع فقد أدركها» ، والسجدة إنما هي الركعة.(2/22)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: فسر السجدة حرملة، وكذا فسر الإمام لأنه يعبر بكل واحد منهما عن الآخر، وأيا ما كان فالمراد بعض الصلاة، وأدرك بشيء منها، وهو يطلق على الركعة والسجدة وما دونهما مثل تكبيرة الإحرام.
وحديث: «من أدرك سجدة» رواه أحمد عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
الوجه الثاني: أن الوقت الذي يدرك فيه قبل غروب الشمس، ولو كان جزءا يسيرا لا يسع فيه الأداء وقت وجوب الصلاة عليه، لأن معنى قوله: " فقد أدرك وجوبها " كما ذكرنا. وقال زفر: ما لم يجد وقتا يسع فيه الأداء حقيقة. وعن الشافعي قولان فيما إذا أدرك دون ركعة كتكبيرة مثلا أحدهما لا يلزمه، والآخر يلزمه وهو أصحهما.
الوجه الثالث: فيه دليل صريح في أن من صلى ركعة من العصر ثم خرج الوقت قبل سلامه لا تبطل صلاته وهذا بالإجماع، وأما في الصحيح فكذلك عند الشافعي ومالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - تبطل صلاة الصبح بطلوع الشمس فيها، وقالت الشافعية: الحديث حجة على أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث عمل به في العصر ولم يعمل به في الصبح.
قلت: من وقف على ما مر عليه أبو حنيفة عرف أن الحديث ليس بحجة عليه بل الحديث حجة عليهم، فنقول: لا شك أن الوقت سبب للصلاة وظرف لها ولكن لا يمكن أن يكون كل الوقت سببا؛ لأنه لو كان كذلك يلزم تأخير الأداء عن الوقت، فتعين أن يحصل بعض الوقت سببا وهو الجزء الأول لسلامته عن الزحام، فإن اتصل به الأداء تقرر السبب، ولا ينتقل إلى الجزء الثاني والثالث والرابع وما بعده إلى ما يمكن منه من عقد التحريمة إلى آخر جزء من أجزاء الوقت، ثم هذا الجزء إن كان صحيحا بحيث لا ينسب إلى الشيطان ولم يوصف بالكراهة كما في الفجر وجب عليه كاملا، حتى لو اعترض الفساد في الوقت بطلوع الشمس في خلال الفجر فسد خلافا لهم، لأن ما وجب كاملا لا يتأدى بالناقص كالصوم المنذور المطلق، أو صوم القضاء لا يتأدى في أيام النحر والتشريق، وإن كان هذا الجزء ناقصا بأن صار منسوبا إلى الشيطان، كالعصر في وقت الاحمرار وجب ناقصا لأن نقصان السبب مؤثر في نقصان المسبب، فساوى نصف النقصان؛ لأنه ما لزم كما إذا نذر من صوم يوم النحر وأداءه فيه، فإذا غربت الشمس في أثناء الصلاة لم يفسد العصر؛ لأنه ما بعد الغروب كامل كما دل فيه لأن ما وجب ناقصا يتادى كاملا بطريق الأولى.
فإن قلت: يلزم أن يفسد العصر إذا شرع فيه في الجزء الصحيح ومدتها إلى أن غربت.
قلت: لما كان الوقت تبعا جاز له قبله كل الوقت فينتفي الفساد الذي يصل فيه بالبناء، لأن(2/23)
وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاحتراز عنه مع الإقبال على الصلاة متعذر.
وأما الحديث الذي هو حجة عليه فهو ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت صلاة الصبح من صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة فإنها تطلع بين قرني الشيطان» وقال الطحاوي: ورد هذا الحديث أي حديث من أدرك كان قبل نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في الأوقات المكروهة.
[وقت صلاة المغرب]
[أول وقت المغرب وآخره]
م: (وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس) ش: أي أول وقت صلاة المغرب وقت غروب الشمس، قال بعض الشراح: وهذا إجماع، وعند الشيعة: لا يدخل وقتها حتى تشتبك النجوم.
قلت: وعند طاوس وعطاء بن رباح ووهب بن منبه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أول وقت المغرب حين طلوع النجم، وإنما احتجت الشيعة بما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى المغرب عند اشتباك النجوم، واحتج طاوس ومن معه بما رواه مسلم من حديث أبي بصرة الغفاري قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر بالمحمض فقال: " إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها كان له من الأجر مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد» والشاهد النجم، وأخرجه النسائي والطحاوي أيضا، وأبو بصرة بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهملة، واسمه حميل بضم الحاء والمهملة وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف، وقيل: جميل بالجيم والأول أصح.
قوله: بالمَحْمَض، بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وفي آخره ضاد معجمة، وهو الموضع الذي ترى فيه الإبل الحمض وهو ما ملح وأمر من النبات.
والجواب: عن حديث الشيعة ما قال النووي: باطل لا يعرف، ولو عرف يحمل على الجواز، وعن حديث مسلم ما قاله الطحاوي، وكان قوله عندنا والله أعلم: ولا صلاة بعدها حتى يرى الشاهد، يحتمل أن يكون هذا هو آخر الحديث من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ذكره الليث، وهو من روايته، ويكون الشاهد هو الليل، ولكن الذي رواه عن الليث فأول أن الشاهد هو النجم، فقال ذلك من رأيه لا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد تواترت الأخبار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يصلي المغرب إذا تواترت الشمس بالحجاب.
فإن قلت: إذا كانت الزيادة عن ثقة يعمل بها حينئذ إذا لم تخالفها الآثار الصحيحة، وقد تكاثرت الآثار الصحيحة أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي المغرب عقيب غروب الشمس، وحث أمته على تعجيله حيث قال ": «لا تزال أمتي بخير أو قال: على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم» رواه أبو داود والحاكم في " مستدركه " وقال: صحيح على شرط مسلم، وآخر وقتها ما(2/24)
وآخر وقتها ما لم يغب الشفق. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مقدار ما يصلي فيه ثلاث ركعات، لأن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أم في اليومين في وقت واحد، ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وآخر وقتها حين يغيب الشفق» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يغب الشفق. [وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مقدار ما يصلي فيه ثلاث ركعات] .
وبه قال الثوري وأحمد وأبو ثور وإسحاق وداود وابن المنذر، وهو قول الشافعي في القديم، واختاره من نسب إلى الحديث من أصحابه كابن خزيمة والخطابي والبيهقي والبغوي في " التهذيب " والغزالي في " الأخبار " وصححه العجلي وابن الصلاح، وقال النووي: وهو الصحيح.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مقدار ما يصلي فيه ثلاث ركعات) ش: أي قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقت صلاة المغرب قدر ما يصلي فيه ثلاث ركعات وهو قوله الجديد. وقال الغزالي: في وقت المغرب قولان:
أحدهما: أنه يمتد إلى غروب الشفق، وإليه ذهب أحمد.
والثاني: إذا مضى بعد الغروب وقت وضوئه وأذان وإقامة وقدر خمس ركعات فقد انقضى الوقت كذا في " الوسيط "، ويقال: وينبغي أن يكون سبع ركعات؛ لأنه يصلي ركعتين عندهم قبل فرض المغرب، ومقدار ما يكسر سورة الجوع من الأكل في حق الصائم لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا وضع العشاء وأحدكم صائم فابدءوا به قبل أن تصلوا» وهو قول الأوزاعي، وقال الأكمل: ما ذكره المصنف من جهة الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليس بكاف.
قلت: ما التزم المصنف أن يذكر مذهب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره من المخالفين على وجه الكفاية على أن الذي ذكره هو الذي ذكره في " الحلية "، وعن الإمام مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثلاث روايات أحدها: كقولنا، والثانية: كقول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الجديد، والثالثة: تبقى إلى طلوع الفجر وهي قول عطاء وطاووس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. م: (لأن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أم في اليومين في وقت واحد) ش: " ولو كان الوقت يمتد لم يؤم جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في اليومين في وقت واحد؛ لأنه كان يعلم أول الوقت وآخره.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أول وقت المغرب حين تغرب الشمس وآخر وقتها حين يغيب الشفق» ش: هذا الحديث بهذه العبارة لم يذكره أحد، ولكن بمعناه رواه مسلم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عن وقت الصلاة. الحديث، وفيه: «ووقت صلاة المغرب إذا غابت الشمس ما لم يسقط الشفق» ، وفي رواية: «ما لم يغب الشفق» .(2/25)
وما رواه كان للتحرز عن الكراهة.
ثم الشفق هو البياض الذي في الأفق بعد الحمرة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: وهو الحمرة، وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولمسلم أيضا من حديث أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن سائلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن مواقيت الصلاة الحديث، فأقام المغرب حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، وله أيضا من حديث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس» الحديث، وفيه «ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق» .
م: (وما رواه) ش: أي والذي رواه الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في اليومين في وقت واحد. م: (كان للتحرز عن الكراهة) ش: لأن تأخير المغرب إلى آخر الوقت مكروه فسقط التعلق به. وجواب آخر أن معناه بدأها في اليوم الثاني حتى غربت الشمس، ولم يذكر وقت الفراغ فيحتمل أن يكون الفراغ عند مغيب الشفق، ويكون بين هذين إشارة إلى ابتداء الفعل في اليومين وإلى آخر الفعل في اليوم الثاني، وفي " المبسوط " و " الأسرار ": وحجتنا ما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق» - بالثاء المثلثة - أي ثورانه وانتشاره، وفي رواية أبي داود: " فور الشفق " - بالفاء - وهو بمعناه، وهو صريح في امتداد وقت المغرب حتى يغيب الشفق.
قال النووي: وهو الصواب الذي لا يجوز غيره إلا أن التأخير عن أول الغروب مكروه، فلذلك لم يؤخره جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فإنه أتاه ليعلمه المباح من الأوقات، ألا ترى أنه لم يؤخر العصر إلى الغروب والوقت باق، ولا العشاء إلى الثلث فكان بعد وقت العشاء بالإجماع على أن المصير على ما روينا أولى لأنه كان بالمدينة، وما رواه كان بمكة، وآخر ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواها حتى يرى نجما طالعا أعتق رقبة، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى نجمتين أعتق رقبتين.
م: (ثم الشفق هو البياض الذي في الأفق بعد الحمرة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وهو قول أبي بكر الصديق وأنس ومعاذ بن جبل وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين - ورواية ابن عباس وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وبه قال عمر بن عبد العزيز والأوزاعي وزفر والمزني وابن المنذر والخطابي واختاره المبرد وثعلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. م: (وقالا) ش: أي أبي يوسف ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (وهو) أي الشفق هو (الحمرة) وبه قال مالك وأحمد وداود وعن أحمد أنه في البياض والحمرة في الصحراء.
م: (وهو) ش: أي قولهما هو كون الشفق حمرة م: (رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: رواه عنه أسد بن عمرو.
م: (وهو) ش: أي قولهما هو م: (قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وعن الصحابة قول عمر(2/26)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الشفق الحمرة» . ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
«وآخر وقت المغرب إذا اسود الأفق»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وابنه عبد الله وشداد بن أوس وعبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، والصفرة التي بين البياض والحمرة، المذهب عندهم أنها تلحقه بالبياض، وقيل الشفق اسم للحمرة والبياض لكن يطلق على أحمر غير قاني، وبياض غير واضح كالفراء، ونقل الحربي عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا غاب الشفق وهو الحمرة في السفر والبياض في الحضر، ونقلوا عن الخليل: والفراء أنه الحمرة، وقال الأزهري: الشفق عند العرب الحمرة، وقال الفراء: يقول العرب على فلان ثوب مصبوغ كأنه الشفق.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفق الحمرة» ش: هذا الحديث رواه الدارقطني في " سننه " من حديث عتيق بن يعقوب حدثني مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفق الحمرة» وذكره كذلك في كتابه " غرائب مالك " غير موصول بالإسناد، فقال: قرأت في أصل أبي بكر أحمد بن عمرو بن جابر المكي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بخط يده نبأ علي بن عبد الله الطالبي ثنا هارون بن سفيان السلمي حدثني عتيق به. وقال: حديث غريب، ورواته كلهم ثقات.
وأخرجه في " سننه " موقوفا على ابن عمر وعلى أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال البيهقي في " المعرفة ": روي هذا الحديث عن عمر وعلي [وابن] ابن عباس وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولا يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه شيء.
ورواه ابن عساكر من حديث ابن [عمر] خلافه وجعله مثالا لما رفعه المخرجون من الموقوفات.
وقال النووي: وروي هذا الحديث مرفوعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس بثابت.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وآخر وقت المغرب إذا اسود الأفق» ش: هذا الحديث بهذا اللفظ غريب، لم يرد هكذا، وإنما روى أبو داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأخبرني بوقت الصلاة» الحديث، وفيه يصلي العشاء حين اسود الأفق.
ورواه ابن حبان في " صحيحه "، وقد استدل غيره لأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بحديث النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة - صلاة العشاء - كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها حين يسقط القمر لثالثه» .
رواه أبو داود والنسائي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ويروى بسقوط القمر لثالثه. اللام في الموضعين للتوقيت أي: لوقت سقوط القمر ليلة ثالثة كما في قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78](2/27)
وما رواه موقوف على ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(الإسراء: الآية 78) أي: لوقت دلوكها. وسقوط القمر: وقوعه للغروب ويغرب القمر في الليلة الثالثة من الشهر على مضي ستة وعشرين درجة من غروب الشمس.
وقال السروجي: وقد جاء في الحديث وقت العشاء إذا ملأ الظلام الضراب، قيل هي الجبال الصغار. وقال صاحب " الدراية ": وفي رواية إذا داراهم الليل يستوي الأفق في الظلام، وإنما يكون ذلك إذا ذهب البياض كله.
قلت: لم يبين كل منهما حال الحديث الذي رواه ولا من رواه، وقال: الشفق بالبياض أليق لأنه مشتق من الرقة، ومنه شفقة القلب، وهي رقة القلب، ويقال ثوب شفيق إذا كان رقيقا، ولأن الفجر يكون قبله حمرة يتلوها بياض الفجر فكانت الحمرة والبياض في ذلك وقتا لصلاة واحدة وهي الفجر فإذا خرجا خرج وقتها، فالنظر على ذلك أن تكون الحمرة والبياض في ذلك المغرب وقتا واحدا، وقالوا: البياض يبقى إلى نصف الليل، وقيل لا يذهب البياض في ليالي الصيف بل يتفرق في الأفق ثم يجتمع عند الصبح.
وقال الخليل بن أحمد: رأيت البياض بمكة ليلا فما ذهب إلا بعد نصف الليل: قلنا إن صح هذا فهو محمول على بياض الجو وذلك يغيب آخر الليل.
وأما البياض الذي هو رقيق الحمرة فذلك يتأخر بعدها ثم يغيب، وفي " المبسوط " قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الحمرة أثر الشمس، والبياض أثر النهار، فما لم يذهب قبل ذلك لا يصير ليلا مطلقا، وقولهما أوسع للناس، وقول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أحوط.
وقيل: يؤخذ بقولهما في الصيف لقصر الليل، ويقال البياض إلى ثلث الليل أو نصفه وفي الشتاء لقوله بطولها وعدم بقاء البياض البتة كذا في " المجتبى ".
م: (وما رواه موقوف على ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ش: أي وما رواه الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - موقوف على عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - غير مرفوع على ما ذكرناه.
قال الأترازي: وإنما قال المصنف، وما رواه ولم يقل وما رووه بضمير الجمع، وإن كان أبو يوسف ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أيضا يرويان هذا الحديث إلزاما للحجة على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لأن المرسل عنده ليس بحجة فكيف يحتج بما ليس بحجة على الخصم، بخلاف أبي يوسف ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنهما يقولان بحجة المرسل والمسند جميعا فإن كونه موقوفا على الصحابي لا يكون قادحا عندهما.
وأيضا قول الصحابي محمول على السماع عندنا وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يقلد أحدا منهم أصلا فافهمه فقد غفل عنه الشارحون.(2/28)
ذكره مالك في الموطأ. وفيه اختلاف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
وأول وقت العشاء إذا غاب الشفق وآخر وقتها ما لم يطلع الفجر الثاني؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: أبو يوسف ومحمد والشافعي - رحمة الله عليهم أجمعين - متفقون معه في هذه المسألة، والثلاثة احتجوا بهذا الحديث بناء على أنه مرفوع، والإلزام فيه للحجة ليس على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحده بل الإلزام على الكل من جهة أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ثم إن الحديث لما ظهر أنه موقوف عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خصه بذكر الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنه ليس بحجة عنده، فلذلك أفرد الضمير الذي في - روى - وأما عند أبي يوسف ومحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فهو حجة وليس في هذا الموضع أمر مشكل حتى يقول قد غفل عنه الشارحون.
وقال الأكمل: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشفق هو الحمرة. موقوف على ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والموقوف لا يصلح حجة.
قلت: هذا الكلام منه بعيد جدا لأن مذهبه حجية الموقوف وهو أيضا في حكم المرفوع لأنا لا نظن في الصحابة إلا صدقا وخيرا.
م: (ذكره مالك في " الموطأ ") ش: أي ذكر هذا الموقف الإمام مالك بن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " موطئه ". وقال الأترازي: ولم يصح في هذا النقل عن " الموطأ " نظر، لأن مالكا لم يذكر فيه هذا الحديث بل قال: قال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الشفق هو الحمرة التي في المغرب، فإذا ذهبت الحمرة خرج وقت المغرب.
قلت: هذا الذي ذكره في " موطأ مالك " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من رواية يحيى، ولو نظر في غيره لما أنكر لأن له كذا وكذا موطأ، منها " الموطأ " من رواية محمد بن الحسن الشيباني - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وفيه اختلاف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أي وفي الشفق اختلاف الصحابة، وقد ذكرناه عن قريب.
[وقت صلاة العشاء]
[أول وقت العشاء]
م: (وأول وقت العشاء إذا غاب الشفق) ش: وأي وأول وقت الآخرة عند غيبوبة الشفق، هذا إجماع على الخلاف في الشفق.
م: (وآخر وقتها ما لم يطلع الفجر) ش: أي وآخر وقت صلاة العشاء عند طلوع الفجر الصادق وهو أيضا إجماع لم يخالف فيه غير الأترازي فإنه قال: بذهاب الثلث أو النصف يخرج الوقت، وتكون الصلاة بعدها قضاء.(2/29)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وآخر وقت العشاء حين يطلع الفجر» .
وهو حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في تقديره بذهاب ثلث الليل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وآخر وقت العشاء حين يطلع الفجر» ش: هذا الحديث الذي بهذه العبارة لم يرد وهو غريب.
وفي " المبسوط " روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «آخر وقت العشاء حين طلوع الفجر الثاني» ، والعجب من أكثر الشراح أنهم يستدلون بهذا الحديث ينسبون روايته إلى أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولم يصح هذا الإسناد.
وتكلم الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الآثار " هاهنا كلاما حسنا ملخصه أنه قال: يظهر من مجموع الأحاديث أن آخر وقت العشاء حين يطلع الفجر، وذلك أن ابن عباس، وأبا موسى الأشعري وأبا سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رووا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخرها إلى ثلث الليل.
وروي أبو هريرة وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه أخرها حين أنصف الليل.
وروي ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه أخرها حين ذهب ثلثا الليل.
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه أعتم بها حتى ذهب عامة الليل، وكل هذه الروايات في " الصحيح ".
قال: فثبت بذلك أن الليل كله وقت له، ولكنه على أوقات ثلاثة، فأما من حين يدخل وقتها إلى أن يمضي ثلث فاضر وقت صليت فيه.
وأما بعد ذلك إلى أن يتم نصف الليل ففي الفضل دون ذلك.
وأما بعد نصف الليل فدونه، ثم ساق سنده عن نافع بن جبير قال: كتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصل العشاء إلى الليل ولا يفصلها.
ولمسلم في قصة التعريس عن أبي قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في النوم تفريط» أن يؤخر صلاة حتى يدخل وقت الأخرى فدل بقاء الأولى إلي أن يدخل وقت الأخرى وهو طلوع الفجر الثاني.
[آخر وقت العشاء]
م: (وهو) ش: أي قوله وآخر وقت العشاء حين يطلع الفجر م: (حجة الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في التقدير بذهاب ثلث الليل) ش: أي في تقدير آخر وقت العشاء بذهاب ثلث الليل.
قال الأكمل: ووجه ذلك أنه يدل على قيام الوقت إلى الفجر، وحديث إمامة جبريل عليه(2/30)
وأول وقت الوتر بعد العشاء، وآخره ما لم يطلع الفجر؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلام يدل على آخر الوقت هو ثلث الليل فتعارضا، فإذا تعارضت الآثار لا ينفي الوقت الثابت يقينا بالشك أو يقول إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لنفي ما وراء وقت الإمامة عن وقت الصلاة بل لإثبات ما كان فيه، ألا ترى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم في اليوم الثاني حين أسفر، والوقت يبقى بعده إلى طلوع الشمس، وإذا لم يكن للنفي بقى ما روينا سالما عن المعارض فيكون حجة.
قلت: الذي قاله كله غير محرر ولا مطابق لنفس الأمر من وجوه:
الأول: أن يمنع المعارضة لأن الحديث الذي ذكره المصنف غريب، والذي استدل به الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، من إمامة جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في اليوم الثاني من ثلث الليل صحيح فكيف يتأتى فيه المعارضة.
الثاني: أن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يقل أن وقت العشاء مقدر بذهاب ثلث الليل في الجواز. وتحرير مذهبه ما ذكر في " الحلية " أن آخر وقت العشاء المختار إلى نصف الليل في القديم، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وفي الجديد " إلى ثلث الليل " وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - في رواية - وقت الجواز إلى طلوع الفجر ما لم يكن بيننا وبينه خلاف في الجواز، فكيف يكون ذلك الحديث الغريب حجة عليه.
وذكر في " شرح الوجيز " أن وقت العشاء ممتد إلى طلوع فجر.
وقال السروجي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وآخر وقت العشاء إلى طلوع الفجر الثاني إجماع لم يخالف فيه غير الاصطخري فلا يعتبر خلافه.
فإن قلت: قالوا قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في باب استقبال القبلة إذا مضى ثلث الليل فلا أراها إلا فائتة، وهو يؤيد قول الاصطخري.
قلت: في خلوه على فوات وقت الاختياري وما مراد الأكمل إلا قول المصنف وهو حجة على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولم يتأمل فيه ورجع فيه إلى كتب مذهب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بما قاله من غير تحقيق.
الثالث: أن قوله وإذا لم يكن للنفي بقي ما روينا سالما عن المعارض، وما بقي بالمعارض من المعارضة التي هي مقابلة الشيء بالشيء بالرد والمنع، وإنما بقي معنى الرد والمنع فافهم، والأترازي أيضا حكم هاهنا قريبا من كلام الأكمل، وما قلنا فيه نفي ذلك كذلك.
[وقت صلاة الوتر]
م: (وأول وقت الوتر بعد العشاء وآخره ما لم يطلع الفجر) ش: قال في " الينابيع " و " المنافع " و " المنتقى ": قوله - أول وقت الوتر بعد العشاء - على قولهما أما عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأول وقتها إذا غاب الشفق ووقتها واحد، فالفرض فرض على حدة عملا عنده، وأما عندهما(2/31)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الوتر: «فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» ، قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هذا عندهما، وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وقته وقت العشاء إلا أنه لا يقدم عليه عند التذكير؛ للترتيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سنة على ما يجيء البحث فيه محررا في باب الوتر. (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الوتر: «فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» ش: الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من حديث خارجة بن حذافة قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «إن الله أمركم بصلاة خير لكم من حمر النعم وهي الوتر فجعلها لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر» وبقريب من لفظ المصنف، أخرجه الحاكم في " المستدرك " في كتاب الفضائل من طريق ابن لهيعة حدثني عبد الله بن هبيرة أن أبا تميم أتى إلى عبد الله بن مالك رحمهما الله أخبره أنه سمع عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول سمعت أبا بصرة الغفاري يقول سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله تعالى زادكم صلاة وهي الوتر فصلوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح» وسيجيء مزيد الكلام في باب الوتر إن شاء الله تعالى.
م: (قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (هذا عندهما وأما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقته وقت العشاء) ش: أي وقت الوتر وقت العشاء، والوقت إذا جمع صلاتين واجبتين كان وقتا لهما إلا أنه يرد عليه سؤال وهو أن وقت الوتر لو كان وقت العشاء لجاز تقديمه على العشاء، فأجاب عن ذلك بقوله م: (إلا أنه) ش: أي إلا أن الوتر م: (لا يقدم عليه) ش: أي على العشاء م: (عند التذكير للترتيب) ش: يعني إذا لم يكن ناسيا للترتيب، وعلى هذا إذا أوتر قبل العشاء متعمدا أعاد الوتر بلا خلاف، وإن أوتر ناسيا للعشاء ثم تذكر لا يعيد عنده؛ لأن بالنسيان يسقط الترتيب ويعيده عندهما، لأنه سنة العشاء، ولو قدم الركعتين على العشاء لم يجز عامدا كان أو ناسيا فكذلك الوتر.
وقال السغناقي: عدم جواز تقديم الوتر على صلاة العشاء لأجل وجوب الترتيب عنده لا لأن وقت الوتر لم يدخل، وهذا الاختلاف يبقى على اختلاف آخر بينهما وهو أن الوتر فرض عملا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والترتيب بين الفرائض واجب عند التذكير عندنا، وعندهم الوتر سنة فكان تبعا للعشاء.(2/32)
فصل ويستحب الإسفار بالفجر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل ويستحب الإسفار بالفجر]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل في بيان الأوقات التي تستحب فيها الصلوات، وقد قلنا: إن الفصل مهما قصر لا ينون، ومهما وصل ينون لأن الإعراب بعد العقد والتركيب.
ولما فرغ من بيان مطلق الأوقات وأصلها شرع في بيان الأوقات التي بها الكامل وبها الناقص، وجعل لكل منهما فصلا على حدة، وقدم الأوقات المستحبة على الأوقات المكروهة وهذه هي المناسبة، أو القول أن الاستحباب والكراهة صفتان للصلاة والموصوف ينبغي تقديمه على الصفة، والصفة المستحبة مقدمة على الصفة المكروهة، وهذا هو الوجه في تقديم مطلق الوقت، ثم ذكر الوقت المستحب بعده، ثم ذكر الوقت المكروه بعده.
م: (ويستحب الإسفار بالفجر) ش: الإسفار بكسر الهمزة من أسفر الصبح إذا أضاء، وأسفر بالصلاة: إذا صلاها في الإسفار، وفي المعارضة الإسفار: قوة السفر من سفر أي يكشف وتبين وسفرت المرأة وجهها أي: كشفت، ويقال: الإسفار قوة الضوء مأخوذ من الإسفار، يقال أسفر مقدم رأسه من الشعر: إذا بقي أصلع، والسفر: بياض النهار، وأسفر وجه حسنا: أي أشرق.
قلت: أسفر يجيء متعديا إلى ما يصله، ويجيء لازما فأسفر الصبح لازم، وأسفر بالصلاة متعد لأن الباء للتعدية ثم إن المصنف أطلق الإسفار بالفجر بناء على ما ذكره في " المبسوط " فإنه قال فيه وفي " المفيد " أيضا و " التحفة " و " القنية ": الإسفار بالفجر أفضل من التغليس في الأوقات كلها.
وفي " المحيط " و " البدائع " إذا كانت السماء مصحية الإسفار أفضل إلا للحاج بمزدلفة فإن التغليس هناك أفضل ولا يؤخرها بحيث يقع الشك في طلوع الشمس بل صفرتها حتى لو ظهر فساد صلاة أمكنه أداؤها في وقتها، وفي " فتاوى قاضي خان " قراءته مسنونة ما بين أربعين آية إلى ستين مع ترتيل القراءة، وقيل تؤخر جدا لأن الفساد موهوم فلا يترك المستحب لأجله.
وروى الطحاوي بإسناده عن السائب بن يزيد قال: صليت خلف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصبح فقرأ بالبقرة فلما انصرفوا استشرفوا الشمس فقالوا: طلعت، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين، ثم أطلق المصنف بقوله أيضا يدل على أن الدور الأحمر بالإسفار، ويجمع بينهما تطويل القراءة.
وفي " المبسوط " و " البدائع " قال الطحاوي: إن كان من عزمه التطويل بالقراءة شرع بالتغليس، ويخرج منها بالإسفار، وإلا يشرع بالإسفار، وزعم أنه قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -(2/33)
لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رحمهما الله -، وظاهر الرواية هو الأول وفي " الأسرار " لا يسع التأخير على أن ينام في بيته بعد الفجر بل يحضر المسجد أول الوقت ثم ينتظر الصلاة فيكون له ثواب المصلي بالانتظار، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما إنكم في صلاة ما انتظرتم [الصلاة] » .
وفي " الصحيحين " ويكف عن الكلام باللغو، والكلام فيه إثم عليه ويشتغل بالذكر والتسبيح بالخضوع ما دام متصفا بالنومة في المسجد، ثم يصلي آخر الوقت فسلمت الدعاء قليلا عادة فتطلع الشمس.
م: (لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» ش: هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة وبلفظ المصنف رواه البزار في " مسنده " من حديث بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» . وأخرجه الطبراني ولفظه: «يا بلال أصبحوا بالصبح فإنه خير لكم» في رواية أيوب بن سيار قال يحيى: ليس بشيء. وقال النسائي: متروك الحديث.
فإن قلت: كيف أخرج الطحاوي هذا واحتج به في مذهبه؟
قلت: كان مرضيا عنده. وقال ابن عدي: أظنه مزنيا.
قلت: ليست أحاديثه بمنكرة جدا، ونقول هذه زيادة وتأكيد لأن الأحاديث الصحيحة كثيرة، ومن الصحابة الذين رووا حديث هذا الباب أبو برزة الأسلمي أخرجه الطحاوي والنسائي والطبراني - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ولفظه قال كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ينصرف من الصبح فينظر الرجل إلى الجليس الذي يعرفه فيعرفه» .
وأبو برزة بالزاي المعجمة اسمه نضلة بن عبيد بن برزة.
ومنهم محمود بن لبيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه أبو نعيم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في كتاب الصلاة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أصبحوا بالصبح فكلما أصبحتم بالصبح كان أعظم لأجوركم أو لأجرها» . وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال: محمود بن لبيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - له صحبة،(2/34)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال [......] لا تعرف صحبته، وقال أبو عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وقول البخاري أولى.
ومنهم قتادة بن النعمان أخرج حديثه البزار والطبراني في الكبير من حديث فليح بن سليمان ثنا عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسفروا بالفجر فإنه أعظم لأجركم أو للأجور» . ورجاله ثقات.
ومنهم أبو الدرداء أخرجه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبيد ثنا أبو زرعة ثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي عن محمد بن شعيب سمعت سعيد بن يسار يحدث عن أبي الزاهرية عن [جبير بن نفير عن] أبي الدرداء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أسفروا بالفجر تغنموا» .
ومنهم رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطحاوي والطبراني في الكبير والترمذي عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أسفروا بصلاة الفجر فإنه أعظم للأجر» ولفظ الطحاوي: «أسفروا بالفجر فكلما أسفرتم فهو أعظم للأجر أو لأجركم» ، وفي لفظ له: «نوروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» ، وأخرجه أبو داود ولفظه: «أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم أو أعظم للأجر» ، وأخرجه ابن ماجه مثل أبي داود.
وقال الترمذي: حديث رافع حسن صحيح. وأخرجه ابن حبان في صحيحه.
ومنهم رجال من الأنصار من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخرج حديثهم الطحاوي والنسائي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كلاهما عن زيد بن أسلم عن عاصم بن عمر وعن رجال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - من قومه من الأنصار أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أصبحتم بالصبح فهو أعظم للأجر» .(2/35)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنهم ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني مرفوعا: «أسفروا بالفجر فإنه أعظم لأجركم أو لأجوركم» .
ومنهم حواء الأنصارية أخرج حديثها الطبراني في الكبير قالت سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» وحواء هي بنت زيد بن السكن أخت أسماء بنت زيد بن السكن.
ومنهم مرة بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسفروا بصلاة الصبح فإنه أعظم للأجر» .
قوله: - أسفروا - أمر من الإسفار وقد فسرناه عن قريب، والأمر يفيد الوجوب فلا يترك عن الاستحباب.
قوله - أعظم - أفعل التفضيل فيقتضي أجرين أحدهما أكمل من الآخر، فإن صيغة أفعل تقتضي المشاركة في الأصل مع رجحان أحد الطرفين، ولفظ الإسفار يحمل على التبيين والظهور.
قلت: قد يخرج أول الوقت من أيديهم إلا اشتقاق الفجر وطلوعه يكون خفيا جدا لا يدركه الأطراف ممن يعلم علم المواقيت ثم يدركه الأمثل فالأمثل ثم يظهر لعموم الناس.
وقال أبو بكر بن العربي: من صلاها بالمنازل قبل تبينه وظهوره للإبصار فهو مبتدع فإن أوقات الصلاة علقت بالأوقات المتبينة للعامة والخاصة، والعالم والجاهل والحر والعبد، وإنما جعلت المنازل ليعلم أقرب الصباح فيكف الصائم ويتأهب المصلي، ولأنه لم يوجد من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالتغليس قط، وأما الموجود منه فعل والفعل يتطرق إليه احتمالات كثيرة ووجد الأمر بالإسفار والأمر أولى بالعمل به.
فإن قلت: الأمر بالإسفار محمول على ليالي الفجر فإنه لا يتأتى الفجر إلا بالانتظار في الإسفار.
قلت: التقييد على خلاف الدليل ولا يجوز التخصيص بدون المخصص، ويبطل هذا أيضا ما رواه ابن أبي شيبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن إبراهيم النخعي ما أجمع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على(2/36)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يستحب التعجيل في كل صلاة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شيء ما اجتمعوا على التنوير بالفجر.
فإن قلت: قال الخطابي: يحتمل أنهم لما أمروا بالتعجيل صلوا بين الفجر الأول والثاني طلبا للصواب، وقيل إنهم صلوا بعد الفجر الثاني وأصبحوا بها فإنه أعظم لأجوركم.
قلت: هذا باطل لا أصل له إذ لم يقل أنهم أمروا بالتعجيل ولم يقل أنهم صلوا صلاة الصبح قبل طلوع الفجر الثاني بعد الفجر الكاذب، ولو صلوا قبل الفجر لا يعتد بها فكيف يكون له أجر؟
فإن قلت: قال النووي: يؤجر على نيته ولا تصح صلاته.
قلت: رتب الأجر على الصلاة دون النية، والصلاة إذا لم تصح فلا أجر له فيها وعليه الوزر لبقاء الفرض، ولأن في الإسفار تكثير الجماعة وتوسع الحلال على النائم والضعيف في إدراك فضل الجماعة فكان أفضل وأولى.
م: (وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يستحب التعجيل في كل صلاة) ش: يعني إقامتها في أول وقتها وهو إذا تحقق طلوع الفجر وبه قال أحمد: وفي " الحلية " الأفضل تقديم الفجر في أول الوقت وبه قال مالك وداود وأبو ثور ومحمد والحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. في رواية. وفي " شرح الوجيز ": الأفضل عندنا تعجيل الصلوات ويستحب تعجيل العشاء على أحد القولين.
احتج الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] (آل عمران: الآية 133) وفيما قلنا إظهار المسارعة، وبحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «إن كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي العشاء فتنصرف النساء متلففات بمروطهن ثم يظهرن لا يعرفن من الغلس» . رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين -، ويروى متلفعات بالعين المهملة بعد الفاء، والمعنى متقاربات إلا أن التلفع مستعمل مع تغطية الرأس، والمروط جمع مرط بكسر الميم وسكون الراء وهي ألبسة من صوف أو خز مربعة.
وقيل سداها شعر، قوله - إن كان - كلمة إن مخففة من الثقيلة عند البصريين، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وقال الكوفيون: إن نافية، واللام بمعنى إلا كقوله: {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102] (الأعراف: الآية 102) .
والغلس: بفتحتين بقايا ظلمة الليل يخالطها بياض الفجر، والغليس مثله إلا أن الغلس لا يكون إلا في آخر الليل والغلس يكون في أوله وآخره، وهذا الحديث معتمد مذهبهم.
واحتج أيضاً بحديث أسامة بن زيد عن الزهري يسنده إلى أبي مسعود الأنصاري - رضي(2/37)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله عنه - سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «نزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأخبرني بوقت الصلاة - الحديث - وفيه صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصبح مرة بغلس ثم صلى أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى أن يسفر» ، رواه أبو داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال الخطابي: هذا حديث صحيح الإسناد.
وبحديث هشام عن قتادة عن أنس عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين - قال: «تسحرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قمنا إلى الصلاة. قلت: كم كان قدر ما بينهما قال: خمسون آية» رواه مسلم.
وبحديث القاسم بن غنام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أم فروة وكانت ممن بايعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: «سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لأول وقتها» .
وبحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا علي ثلاث لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤا» .
وبحديث نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الوقت الأول رضوان الله ووسطه رحمة الله وآخر الوقت عفو الله» .
والجواب: عن الآية أن المسارعة لهذا أسباب العبادة لا لتعجيل فيها في غير وقتها الحسن، وأيضا المسارعة إلى المغفرة تكون في المسارعة إلى الشيء الذي هو أفضل عند الله. وذلك في تكثير الجماعة لا في تقليلها وذلك لا يكون إلا في التنوير لا في التغليس.
وعن مشايخنا أن للمرأة أن تصلي الفجر بغلس لأنه أقرب إلى الستر، وفي سائر الصلوات(2/38)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ينتظرون حتى يفرغ الرجال من الجماعة، وقيل الأفضل لها في الصلوات كلها أن تنتظر فراغ جماعة الرجال، كذا في " القنية "، وعن حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أجوبة:
الأول: أنه لا حجة لهم فيه لأنهم كانوا يصلون صلاة الصبح بمسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يكن له مصابيح يعرف بها الرجل جليسه في نصف الليل، والغلس حينئذ يتم إلى وقت الإسفار في الأبنية.
ويقال هذا بيت غلس في النهار إذا كانت فيه غلسة وظلمة يسيرة، والمرأة إذا تلفعت بمرطها وغطت رأسها لا تعرف فلذلك إذا كان مع قليل ظلمة الليل وهو الغلس المذكور.
الثاني: أن العلة لعدم معرفتهن التستر بالمرط لا الغلس دل عليه ما رواه البخاري من هذا الحديث فيه «يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد» .
الثالث: أن فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد اختلف في النقل في الإسفار كما ذكرنا من الأحاديث للطرفين فرجعت إلى الأمر بالإسفار في الصبح، والأمر يفيد الوجوب فلا يترك للاستحباب.
الرابع: أن حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - كان في الابتداء حين يحضر النساء الجماعة ثم انتسخ ذلك حين أمرن بالقرار في البيوت، وقول إبراهيم النخعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما اجتمع أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على شيء مما اجتمعوا على التنوير يدل على النسخ لأن اجتماعهم على خلاف ما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله لم يكن إلا بعد نسخ ذلك وثبوته بخلافه.
وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي والدارقطني - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: ليس بالقوي.
وعن الثاني أن يحيى بن سعيد حدث عن أسامة بن زيد ثم تركه بآخره فلم يبق حجة.
فإن قلت: قال الحازمي في كتاب " الناسخ والمنسوخ ": حديث الغلس ثابت وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داوم [عليه] إلى أن فارق الدنيا ولم يكن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يداوم إلا على ما هو الأفضل، ثم روى حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي رواه أسامة بن زيد المذكور.
قلت: يرد هذا ما أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن زيد عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين - قال: «ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة لغير وقتها إلا جمع فإنه يجمع بين المغرب والعشاء بجمع وصلى صلاة الصبح من الغد» . قيل: قالت العلماء ففي وقتها المعتاد كل يوم إلا أنه صلى الصبح قبل الفجر دائما غلس بها جدا ويوضحه رواية البخاري والفجر حتى(2/39)
والحجة عليه ما رويناه وما نرويه،
قال: والإبراد بالظهر في الصيف، وتقديمه في الشتاء لما روينا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شرع، وهذا دليل على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسفر بالفجر دائما صلاها بغلس على أن أسامة قدر فيه ما ذكرنا.
والجواب: عن حديث زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه حكاه فعل واحد فيه تغليس، ونحن لا ننكر ذلك، وقد كان يفعله أحيانا تعليما للجواز وغير ذلك من الأسباب، ولأنه يجوز أن يكون قد أخروا السحور إلى آخر الوقت وهو المستحب، ثم يكثر قدر قراءته خمسين آية مرتلة بعد الوضوء ودخول الخلاء ونحو ذلك فيدخل حينئذ وقت الإسفار.
والجواب: عن حديث أم فروة أنه ضعيف مضطرب لأنه يرويه القاسم بن غنام والقاسم لم يدرك أم فروة وهي بنت أبي قحافة أخت أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأبيه، وقيل: فيه نظر لأنها أنصارية، وقيل في كونها أنصارية نظر.
والجواب: عن حديث علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه يرويه عبد الله بن معبد الجهني. قال أبو حاتم: هو مجهول غريب.
والجواب: عن حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن في رواته يعقوب بن الوليد وهو ضعيف. وقال أحمد: كان يعقوب بن الوليد من الكذابين الكبار يضع الحديث، وقال: متروك الحديث.
والجواب: عن حديث أبي محذورة أن في رواته إبراهيم بن زكريا، قال أبو حاتم: هو مجهول، وحديثه هو منكر.
وقال ابن عدي: يحدث عن الثقات بالأباطيل. وقال أحمد: هذا لا يثبت.
م: (والحجة عليه) ش: أي على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (ما رويناه) ش: يعني قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» .
وقال الأكمل: قال المصنف: والحجة عليه ما رويناه، بل الجواب يعني من حديث رافع بن خديج.
قلت: ليس لرافع بن خديج ذكر هاهنا فمن أين تعتد به؟، والحديث رواه جماعة غير رافع بن خديج بل الجواب الذي فسرناه وكونه حجة عليه أنه أمر، وأقله الندب وقد ذكرناه.
م: (وما نرويه) ش: أي والذي نرويه أيضا حجة عليه وهو حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي نذكره الآن في الإبراد بالظهر.
[الإبراد بالظهر وأخير العصر في الصيف]
م: (والإبراد بالظهر في الصيف وتقديمه) ش: في أيام.
م: (في الشتاء لما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم» وقد(2/40)
ولرواية أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان في الشتاء بكر بالظهر، وإذا كان في الصيف أبرد بها» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مر ذكره في الباب الذي قبل هذا الفصل، وحديث الإبراد بالظهر رواه جماعة من الصحابة أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أخرج حديثه الأئمة الستة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم» .
وأبو سعيد الخدري: روى حديثه البخاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم» .
وعمرو بن عقبة: روى حديثه الطبراني، والمغيرة بن شعبة: روى حديثه أحمد وابن ماجه، وابن حبان وتفرد به ابن إسحاق الأزرق وشريك بن طارق عن قيس عنه، وفي رواية للخلال وكان آخر الأمرين عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإبراد، وسئل البخاري عنه فعده محفوظا، وذكر الميموني عن أحمد أنه رجح صحته.
وقال أبو حاتم الرازي: وهو عندي صحيح، وأعله ابن معين بما رواه أبو عوانة عن طارق عن قيس عن المغيرة موقفا قال: ولو كان عند قيس عن المغيرة مرفوعا لم يفتقر إلى أن يحدث به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - موقوفا، وقوى ذلك عنده أن أبا عوانة أثبت من شريك.
وصفوان: روى حديثه ابن أبي شيبة والحاكم والبغوي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - من طريق القاسم بن صفوان عن أبيه بلفظ: «أبرودوا بصلاة الظهر» .
والحديث عن ابن عباس: روى حديثه البزار بلفظ «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك يؤخر الظهر حتى تبرد، ثم يصلي الظهر والعصر» . الحديث، وفيه عمرو بن صهبان. وعبد الله بن عمر: روى حديثه البخاري وابن ماجه ولفظه «أبردوا بالظهر» ، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين -: روى حديثها ابن خزيمة بلفظ: «أبردوا بالظهر في الحر» .
م: (ولرواية أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان في الشتاء بكر بالظهر وإذا كان في الصيف أبرد بها» ش: أخرجه البخاري من حديث خالد بن دينار قال: «صلى بنا أميرنا الجمعة ثم قلت لأنس: كيف كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الفرض؟ قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اشتد البرد عجل بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالظهر» .
فإن قلت: يعارض هذه حديث أبي إسحاق عن سعيد بن وهب عن خباب بن الأرت قال:(2/41)
وتأخير العصر ما لم تتغير الشمس في الصيف والشتاء؛ لما فيه من تكثير النوافل لكراهتها بعده،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
«أتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشكونا إليه حر الرمضاء فلم يشكنا أي لم يزل شكوانا» . والهمزة فيه للسلب.
قلت: هذا منسوخ بين نسخه البيهقي.
وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يدل على النسخ حديث المغيرة كنا نصلي بالهاجرة فقال لنا أبردوا فتبين أن الإبراد كان بعد التهجير.
م: (وتأخير العصر ما لم تتغير الشمس في الشتاء والصيف) ش: أي ويستحب تأخير صلاة العصر وهو قول ابن مسعود، وأبي هريرة وأبي قلابة عبد الملك بن محمد، وإبراهيم النخعي، والثوري، وابن شبرمة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين -، ورواية عن أحمد وقال الليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق: الأفضل تعجيلها وهو ظاهر قول أحمد، احتجوا بما رواه أنس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس مرتفعة حينئذ؛ فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة» أخرجوه، والعوالي: أربعة أميال من المدينة، وقيل ستة أميال وعند مالك: يستحب تأخيرها قليلا.
م: (لما فيه من تكثير النوافل لكراهتها بعده) ش: أي لما في تأخير العصر من التمكن على تكثير النوافل وبعده يكره التنفل، وتكثير النوافل أفضل من المبادرة إلى الأداء في أول الوقت، واكتفى المصنف بالدليل العقلي: ما رواه أبو داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من حديث يزيد بن عبد الرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه عن جده قال: «قدمنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة فكان يؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية» وروى رافع بن خديج «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر بتأخير هذه الصلاة يعني العصر» . أخرجه الدارقطني وغيره.
وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[أشد تعجيلا للظهر منكم] ،(2/42)
والمعتبر فيه تغير القرص، وهو أن يصير بحال لا تحار فيه الأعين، هو الصحيح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأنتم أشد تعجيلا للعصر منه» أخرجه الترمذي من حديث إسماعيل بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ورواه أيضا عن ابن جريج عن أبي مليكة عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين - نحوه، فدل على أنه كان يعجل الظهر ويؤخر العصر عكس ما يفعل أولئك.
وروى الطحاوي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس طالعة في حجرتي» . قال الطحاوي الشمس لا ينقطع منها إلا عند قرب الغروب.
وعن أنس: " كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس بيضاء ". رواه الطحاوي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وقال: تواترت الأخبار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن الصحابة من بعده التأخير ما لم تتغير الشمس.
والجواب: عن حديثهم أن الطحاوي وغيره قال: أدنى العوالي ميلان أو ثلاثة فيمكن أن يصلي العصر في وسط الوقت، ويأتي العوالي والشمس مرتفعة.
وفي " المبسوط " وحديث أنس قد كان في الصيف ويأتي مثله للتعجيل، أو كان ذلك في وقت مخصوص لعذر.
م: (والمعتبر فيه تغير القرص) ش: أي العبرة في تغير الشمس هو تغير قرصها، واختلفوا فيه فذهب المصنف إلى أن تغير القرص بأن لا تحار فيه الأبصار، وهو معنى قوله.
م: (وهو) ش: أي القرص.
م: (أن يصير بحال لا تحار فيه الأعين) ش: يعني لا تحار الأعين في النظر إليه لذهاب ضوئه، وعن النخعي تغير الضوء. قلنا: تغير الضوء يتحقق بعد الزوال، وقيل: أن يتغير الشعاع على الحيطان، وقيل: توضع طشت ماء الأرض المستوية فإن ارتفعت الشمس على جوانبه فقد يتغير الشمس وإن وقعت في الشمس فلم يتغير.
وفي " المحيط " تغيرها بصفرة أو حمرة، وفي " المرغيناني ": إذا كانت الشمس، مقدار رمح لم يتغير ودونه قد تغيرت، وقيل: إن كان يمكن النظر إلى القرص من غير كلفة ومشقة فقد تغيرت.
م: (وهو الصحيح) ش " أي تغير القرص وهو الذي فسره، وهو قول الشعبي هو الصحيح واحترز به عن بقية الأقوال التي ذكرناها.(2/43)
والتأخير إليه مكروه. ويستحب تعجيل المغرب لأن تأخيرها مكروه لما فيه من التشبه باليهود،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأكمل: هو الصريح واحترز عن قول سفيان وإبراهيم النخعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أن المعتبر تغير الضوء الذي يقع على الجدار، فإن قلت: أخذ هذا من صاحب " الدراية " فإنه قال: وبه أخذ الحاكم الشهيد.
والصواب: أن المصنف احترز به عن بقية الأقوال كما ذكرنا، ولا يقيد تعيين أحد الأقوال المذكورة في الاحتراز.
م: (والتأخير إليه مكروه) ش: أي إلى تغير القرص مكروه، وفي " القنية " هذه الكراهة هي كراهة تحريم، قالوا: أما الفعل فغير مكروه لأنه مأمور بالفعل ولا تستقيم إثبات الكراهة للشيء مع الأمر به.
م: (ويستحب تعجيل المغرب) ش: أعاد الفعل لما بعد المعطوف عليه ويستثنى منه ليلة النحر إذا قصد للمزدلفة فإنه لا يستحب تعجيلها وفي الآخر اختلاف، ويقال إلا أن يكون التأخير قليلا، وفي السنة لا يكره في البقرة والمائدة، أو كان يوم غيم ولو أخره لتطويل القراءة فيه خلاف.
وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لا يكره التأخير ما لم يغب الشفق.
وفي " المبسوط " كان عيسى بن أبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول الأولى تعجيلها للآثار ولكن لا يكره تأخيره مطلقا، ألا ترى أن تعذر السفر والمرض يؤخر المغرب ليجمع بينها وبين العشاء فعلا، فلو كان المذهب التأخير مطلقا لما أبيح ذلك بعد السفر والمرض كما لا يباح تأخير العصر إلى تغير الشمس.
واستدل فيه بما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قرأ سورة الأعراف في صلاة المغرب ليلة.
والجواب: عن هذا أن فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا كان من باب المد، والمد من أول الوقت إلى آخره معفو.
م: (لأن تأخيرها مكروه) ش: أي لأن تأخير المغرب مكروه للحديث الذي يأتي.
م: (لما فيه من التشبه باليهود) ش: أي لما في تأخير المغرب من التشبه باليهود والرافضة يؤخرون المغرب حتى تشتبك النجوم.
وقد أورد على قوله ويستحب تأخير المغرب لأن تأخيرها مكروه، بأن كل ما كان يكون تأخيرها مكروها لا يستلزم أن يكون تعجيلها مستحبا لجواز أن يكون مباحا، ألا ترى أن تأخير العشاء إلى النصف الأخير مكروه، ويلزم من تركه الاستحباب لأن التأخير إلى نصف الليل مباح، ولما فطن المصنف ذلك أراد أن يبرهن فقال: لما فيه من التشبه باليهود لأن ما فيه التشبه باليهود فتركه مستحب؛ لأن الإباحة فيه قد تنصرف إلى المسامحة. وذكر الأترازي: الإيراد المذكور بقوله لا نسلم ثبوت الاستحباب من نفي الكراهية، ثم أجاب بقوله: لا شك أن انتفاء أحد(2/44)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تزال أمتي بخير ما عجلوا المغرب وأخروا العشاء» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النقيضين مستلزم لوجود الآخر، وهنا بالتعجيل إذا انتفت الكراهة ثبت الاستحباب ضرورة.
وأجاب السغناقي: بأن الاستدلال على ثبوت المدعي بحكم الضد مستقيم فيما لا واسطة بينهما ولا يستقيم فيما فيه الواسطة وعن هذا افتراق الاستدلال في حق المغرب والعشاء، ألا ترى أنك لو قلت: هذا متحرك لأنه ليس بساكن يصح، ولو قلتك: هذا أبيض لأنه ليس بأسود لا يصح لجواز أن يكون أصفر أو غيره.
وقال الأكمل: وما ذكره في " النهاية " وغيره في جواب هذا السؤال مبنيا على أمر الضدين والنقيضين لا يتمشى.
قلت: من يقول الضدين على جواب السغناقي رد بقوله، أو النقيضين على كلام الأترازي.
[تعجيل المغرب]
م: (وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تزال أمتي بخير ما عجلوا المغرب وأخروا العشاء» ش: هذا الحديث له أصل ولكن بغير هذه العبارة، روى أبو داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " سننه " من حديث محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله عن أبي أيوب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تزال أمتي بخير أو قال على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم» . مختصرا وتمامه عن مرثد بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قدم علينا أبو أيوب غازيا، وعقبة بن عامر يومئذ على مصر، فأخر المغرب فقام إليه أبو أيوب فقالوا له ما هذه الصلاة يا عقبة؟ قال: شغلنا، قال: أما سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول «لا تزال أمتي بخير» اهـ.
ورواه الحاكم في " المستدرك " وقال صحيح على شرط مسلم، وأخرجه ابن ماجه عن العباس بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم» . والمراد من الفطرة السنة كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عشرة من الفطرة» .
وقوله: «إلى أن تشتبك النجوم» ، فكلمة " أن " مصدرية والتقدير إلى أن اشتباك النجوم يقال اشتبك النجوم إذا ظهرت جميعها واختلط بعضها ببعض لكثرة ما ظهر منها، وجه التمسك أن التأخير لما كان سببا لزوال الخير كان التعجيل سببا لاستجلائه وكلمة ما في المتن توقيت الفعل بمعنى المصدر إلى زمان تعجيلهم للمغرب.
وقال الأكمل: واعترض على المصنف في تأخير الحديث عن الدليل العقلي وأجيب بأنه فعل ذلك لأن الحديث فيه دلالة على تأخير العشاء، فكره الفصل بينه وبين المدلول بدليل عقلي ثم(2/45)
قال: وتأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: وليس بطائل.
قلت: هذا الاعتراض وجوابه للأترازي فإنه قال:
فإن قلت: قدم صاحب " الهداية " الدليل العقلي على النقلي وكان حقه أن يعكس.
قلت: وقع في خاطري الإلهام الرباني أن صاحب " الهداية " إنما أخر الحديث عن الدليل العقلي وذكره متصلا بما له تأخير العشاء، لأن الحديث فيه استحباب تأخير العشاء أيضا فكره أن يفصل بين الحديث وبين مسألة تأخير العشاء.
قلت: وقع في خاطري بالإلهام الرباني أن هذا الجواب غير طائل كما أشار إليه الأكمل، والجواب الطائل هو أنه إنما أخر الدليل العقلي لأنه دليل استحباب تعجيل المغرب ودليل أيضا للدليل اللفظي، لأنه علل كراهة التأخير لأجل التشبه باليهود؛ فإنهم يؤخرون المغرب إلى اشتباك النجوم، كما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عجلوا بالمغرب ولا تشبهوا باليهود» ، فأخروا عنه حتى يشمل المدلول ودليله العقلي أيضا، وكان ذكره على الطريقة المعهودة من تقديم المدلول وتأخير الدليل فافهم.
[تأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل]
م: (قال) ش " أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وتأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل) ش " أي يستحب تأخير صلاة العشاء إلى ما قبل ثلث الليل، وفي بعض نسخ القدوري إلى نصف الليل، وعن الطحاوي: التأخير إلى ثلث الليل مستحب وبه قال مالك، وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأكثر أصحابه والتابعين ومن بعدهم قاله الأترازي، وإلى النصف مباح وما بعده مكروه.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم: تقديمها أفضل، وهو لا يصح كسائر الصلوات، وفي الجديد: تأخيرها أفضل ما لم يجاز وقت الاختيار.
وحكى ابن المنذر: أن المنقول عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما إلى ما قبل ثلث الليل وهو مذهب إسحاق والليث أيضا، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في كتبه الجديدة. وفي الإملاء القيم تقديمها، وقال النووي: وهو الأصح، وقطع الأترازي في " الكافي " بتفصيل التأخير، قال: وهو أقوى دليلا.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل» ش: روي هذا عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني وعلي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين -، وروي أيضا في هذا الباب: عن ابن عباس وابن عمر وأنس وأبي هريرة وجابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -.(2/46)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فحديث أبي هريرة: رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبيد الله بن عمر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه» ، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وحديث زيد بن خالد رواه الترمذي في " الطهارة " والنسائي في " الصوم " قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، وأخرت العشاء إلى ثلث الليل» الحديث، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وذكره الشيخ علاء الدين التركماني فعزى هذا الحديث بتمامه لأبي داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولم يخرج منه إلا فضل السواك ولم يذكر فيه تأخير العشاء، والعجب من أصحاب الأطراف كابن عساكر والحافظ المزني حيث لم يتنبها إلى ذلك وما قصر الحافظ المنذري حيث بين ذلك، وقال: حديث الترمذي مشتمل فيه على الفضلين فضل السواك وفضل الصلاة.
وأعجب من ذلك ما ذكره النووي في " الخلاصة " مقتصرا على فضل تأخير العشاء وعزاه لأبي داود والتزمذي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وحديث علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رواه البزار بسنده عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت العشاء إلى ثلث الليل»
قال: ولا نعلمه يروى عن علي إلا بهذا الإسناد.
وحديث أبي سعيد: قال ابن أبي حاتم سمعت أبي وذكر حديث مروان الفزاري عن محمد بن عبد الرحمن بن مهران عن سعيد المقبري عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل» قال أبي: إنما هو عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروى ابن ماجه هذا الحديث من رواية داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صلى المغرب ثم لم يخرج حتى ذهب شطر الليل ثم خرج فصلى بهم، وقال: لولا الضعيف والسقيم لأحببت أن أؤخر هذه الصلاة(2/47)
ولأن فيه قطع السمر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى شطر الليل»
وحديث ابن عباس: رواه البخاري ومسلم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أخر العشاء حتى ذهب من الليل ما شاء فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يا رسول الله نام النساء والصبيان والولدان، فقال حين خرج لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوا هذه الساعة» .
وحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رواه مسلم قال: «مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعضه، فلا يدري أي شيء شغله في أهله أو غير ذلك، فقال حين خرج: إنكم تنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم ولولا أن أشق على أمتي لصليت بهم هذه الساعة ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى» .
وحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رواه البخاري ومسلم قال: «أخر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء إلى نصف الليل ثم صلى ثم قال: صلى الناس وناموا أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها» .
وحديث أبي بردة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رواه البخاري ومسلم قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستحب أن يؤخر العشاء التي يدعونها العتمة» .
وحديث جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رواه مسلم قال: «كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤخر العتمة» .
فإن قلت: كيف ثبت الاستحباب هاهنا والسنة في السواك مع أن " لولا " فيهما على شق واحد.
قلت: انتفى الأمر في السواك لمانع المشقة، ولو أمر لكان واجبا، فلما انتفى الأمر لمانع المشقة، يلزم فوات ما دون نقص الأمر وهو السنة، والمنتفى لمانع هو التأخير، ومفسر التأخير لم يدل على الوجوب بل يدل على الندب والاستحباب.
وقال الأترازي وصاحب " الدراية ": وأيضا وجدت المواظبة في السواك ولم توجد في التأخير.
قلت: فعلى هذا كان ينبغي أن يكون السواك واجبا على مذهب بعضهم.
م: (ولأن فيه) ش: إي في تأخير العشاء م: (قطع السمر) ش: بفتح الميم وهو المحادثة لأجل المؤانسة. وقال ابن الأثير: السمر من المسامرة وهي الحديث بالليل، وأصل السمر ضوء القمر وسموه بضوء القمر لأنهم كانوا يتحدثون فيه، وجاء بسكون الميم فيكون مصدرا.(2/48)
المنهي عنه
بعده، وقيل: في الصيف تعجل كيلا تتقلل الجماعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (المنهي عنه) ش: أي السمر هو الذي نهى عنه.
(بعده) ش: أي بعد العشاء، والحديث الذي فيه النهي عن السمر رواه الأئمة الستة في كتبهم من حديث أبي برزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستحب أن يؤخر العشاء التي يدعونها العتمة، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها» .
وقال الطحاوي: إنما يكره النوم بعدها لمن حشي فوت وقتها أو فوت الجماعة منها، وأما من دخل [ ... ] من يوقظه لوقتها يباح له النوم.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جدب لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السمر بعد العشاء» ، رواه ابن ماجه وقال: يعني زجرنا عنه، ونهانا عنه، وجدب بالجيم والدال المهملة وفي آخرها باء موحدة. قال ابن الأثير: وفي حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جدب السمر ذمه وعابه، وكل غائب جادب.
1 -
وقد أجاز العلماء السمر بعد العشاء في الخير، واستدلوا على ذلك بما أخرجه البخاري ومسلم عن سالم عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قال: «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض [أحد] ".»
وروى الترمذي في الصلاة والنسائي في المناقب عن إبراهيم عن علقمة عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسمر عند أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليلة في الأمر من أمر المسلمين وأنا معهما» .
م: (وقيل في الصيف تعجل) ش: أي العشاء، وفي " المحيط " و " البدائع " ويؤخر العشاء إلى ثلث الليل أفضل وتعجل في الصيف.
م: (كيلا تتقلل الجماعة) ش: قال شيخ الإسلام: وتأخير العشاء إلى ثلث الليل أفضل عند علمائنا في الشتاء من التعجيل في الوقت، وفي الصيف التعجيل من التأخير. وكذلك ذكر التفضيل بين الشتاء والصيف في " فتاوي قاضي خان " م: (كيلا تتقلل الجماعة) ش: لأن الليل قصير والنوم غالب.
وقال الأترازي: قال بعض الشارحين كان من حق هذا القول أن يؤخر عن التقاسم أجمع من قوله وتأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل، وقوله والتأخير إلى نصف الليل وقوله وإلى نصف الأخير مكروه، أو يقوم على القاسم أجمع.
أقول: ليس كما قال الشارح، بل كلام المصنف وقع موقعه، وأجاب نحوه لأنه لو أخر عن(2/49)
والتأخير إلى نصف الليل مباح؛ لأن دليل الكراهة - وهو تقليل الجماعة - عارضه دليل الندب وهو قطع السمر بواحدة، فتثبت الإباحة إلى النصف، وإلى النصف الأخير مكروه؛ لما فيه من تقليل الجماعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جميع التقاسم يظن ظان أن المراد من هذا التعجيل هو التأخير إلى ما قبل ثلث الليل، لأنه تعجيل أيضا بالسنة إلى نصف الليل وإلى نصف الأخير، فلما ذكر هذا القول بعد ذكر ثلث الليل لأنه تعجيل لم يفهم منه إلا التعجيل في أول الوقت، أما التقديم فلا معنى له، لأن المصنف إنما قال بلفظ قيل في المصنف، وإنما يستعمل لفظ قيل إذا سبق قبله قوله آخر، يعني أن تأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل مستحب في الصيف والشتاء، وقيل في الصيف يعجل ولا يؤخر انتهى.
قلت: أراد ببعض الشارحين السغناقي فإنه قال: نقل ما نقله عنه لكنه قال في آخر كلامه: لما أن هذه التقاسم في حق الشتاء لا في حق الصيف، وترك بقية كلام السنغاقي وبقي كلامه، وليس كذلك على ما لا يخفى.
م: (لأن دليل الكراهة وهو تقليل الجماعة عارضه دليل الندب وهو قطع السمر بواحدة) ش: بتاء التأنيث أي سمرة واحدها بالخلاف للموصوف، وفسره تاج الشريعة بقوله: أي بالكلية ومعناه بالفارسية - يكبار - وأخذ عنه هذا التفسير الأكمل وصاحب " الدراية ". وفي بعض النسخ بواحد بغير تاء التأنيث. وقال صاحب " الدراية ": أي بواحد من الناس وهذا عبارة عن المبالغة في قطع السمر، لأنه لما انقطع بواحد كان منقطعا باثنين وما فوقه أيضا. وقال الأترازي: بواحد أراد به نفي السمر عن شخص واحد، مبالغة في نفي السمر على وجه العموم، لأن السمر إذا كان منفيا عن واحد كان منفيا عن الجميع لأن النكرة إذا وقعت في موضع النفي عمت.
قلت: هذه التفاسير كلها ليست بظاهرة، أما تفسير " تاج الشريعة " فإنه ليس مما يقتضيه معنى الكلمة إلا إذا قدرنا الموصوف كما ذكرنا. وأما تفسير صاحب " الدراية " لفظ بواحد بغير التاء بقوله بغير واحد من الناس فهو أيضا خلاف الظاهر، وأما تفسير الأترازي فأبعد من الكل لأنه أين النكرة التي وقعت في موضع النفي حتى تعم.
م: (فتثبت الإباحة إلى النصف) ش: هذه نتيجة الكلام الذي قبله، أي إباحة التأخير إلى نصف الليل.
م: (وإلى النصف الأخير مكروه) ش: أي تأخيره إلى النصف الأخير من الليل مكروه.
م: (لما فيه) ش: أي في التأخير إلى نصف الليل الأخير م: (من تقليل الجماعة) ش: وفي(2/50)
وقد انقطع السمر قبله،
ويستحب في الوتر لمن يألف صلاة الليل أن يؤخره إلى آخر الليل، فإن لم يثق بالانتباه أوتر قبل النوم؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخر الليل فيوتر آخره» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" القنية ": كراهة التأخير إلى النصف الأخير للتحريم م: (وقد انقطع السمر قبله) ش: الواو فيه للحال، والغالب أن السمر لا يكون في النصف الأخير يثبت الكراهة لبقاء دليلها سالما عن المعارض.
وقال الأكمل: واعترض بتعجيل النحر في أول الوقت فإنه مباح ودليل الكراهة وهو تقليل الجماعة سالم عن معارضة دليل النجم.
وأجيب: بأن المعارض هناك أيضا موجود وهو قَوْله تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] (آل عمران: الآية 133) فإن المسارعة إلى العبادة بعد وجوب السبب مندوب إليها لو لم يكن فيها التأخير يعني تكثير الجماعة، فكان فيه تعارض دليل الندب وهو المسارعة إلى العبادة مع دليل الكراهة وهو تقليل الجماعة؛ فثبتت الإباحة لذلك بخلاف تأخير العشاء إلى النصف الأخير، فإن دليل الكراهة فيه سالم عن معارضة دليل الندب أصلا؛ لأنه ليس فيه المنازعة لأداء العبادة ولا تكثير الجماعة ولا قطع السمر لانقطاعه قبله.
قلت: أخذ الأكمل هذا من السغناقي. وقال صاحب " الدراية ": فيه تأمل.
م: (ويستحب في الوتر لمن يألف صلاة الليل) ش: أي لمن له إلفة وعادة بالصلاة في الليل أن يؤخر الوتر إلى: م: (آخر الليل) ش: في غالب النسخ، ويستحب في الوتر لمن يألف الصلاة آخر الليل فعلى هذا يجوز في لفظ آخر النصب على الظرفية، والتقدير، يوتر في آخر الليل وهذا روي، ويجوز الرفع أيضا بأن يكون مفعولا أقيم مقام فاعل يستحب، وهذا روي أيضا. وقال الأترازي وغيره: عندي الأول هو الأولى لأن في الثاني يحتاج إلى التأويل والأصل عدم التأويل.
قلت: أراد بالأول: الرفع، وبالثاني: النصب ونحوه من كلامه بأن الإسناد في الأول على وجه المجاز، فلا يخرج عن التأويل.
م: (وإن لم يثق بالانتباه أوتر قبل النوم) ش: لأن من ليس له إلفة بصلاة الليل آناء آخر الوقت لا بأس من الفوات لغلبة النوم.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخر الليل فليوتر آخره» ش: الحديث رواه مسلم عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: " متى توتر؟ قال: أول الليل بعد العتمة قال(2/51)
فإذا كان يوم غيم، فالمستحب في الفجر والظهر والمغرب تأخيرها،
وفي العصر والعشاء تعجيلهما؛ لأن في تأخير العشاء تقليل الجماعة على اعتبار المطر، وفي تأخير العصر توهم الوقوع في الوقت المكروه، ولا توهم في الفجر؛ لأن تلك المدة مديدة وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - التأخير في الكل للاحتياط،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أخذت بالوثقى، ثم قال لعمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - متى توتر؟ قال آخر الليل. قال: أخذت بالقوة» .
م: (فإذا كان يوم غيم) ش: يوم: مرفوع لأنه اسم كان، والغيم: السحاب، وفيه إشارة إلى أن الذي ذكره قبله من استحباب فيما إذا كانت السماء مضحية، أما إذا كان يوم غيم م: (فالمستحب في الفجر والظهر والمغرب تأخيرها) ش: قوله فالمستحب خبر كان ودخول الفاء عليه لتوهم معنى الشرط في كلمة. أما قوله تأخير الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة.
وفي " الينابيع " " والمحيط " " والتحفة " " والقنية " وغيرها: إن كانت السماء مغيبة فكل صلاة أولها حين عجلت، يقال: غابت السماء وأغامت بالإعلال، وأغمته بالتصحيح على الأصل إذا كان بها غيم.
وفي " المبسوط ": المستحب تعجيل المغرب في كل وقت ولم يذكر التأخير في يوم الغيم، وقال القاضي: نص العمل في رواية الجماعة على استحباب تأخير الظهر والمغرب في الغيم وتعجيل العصر والعشاء. قال ابن المنذر: عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا كان يوم غيم فأخروا الظهر وعجلوا العصر. وقال المهلب: لا يصح التبكير في الغيم إلا بصلاة العصر والعشاء.
م: (وفي العصر والعشاء تعجيلهما) ش: أي يستحب في صلاة العصر والعشاء تعجيلها، وتوحيد الضمير باعتبار لفظ الصلاة المقدرة وفي العصر والعشاء كما قدرنا.
(لأن في تأخير العشاء تقليل الجماعة على اعتبار المطر) ش: أي على اعتبار وقوع المطر، وحصول الطين والغيم الرطب سبب المطر وتكاسل الناس في الخروج إلى المسجد مترخصين بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا بلت النعال فالصلاة في الرحال» .
م: (وفي تأخير العصر توهم الوقوع في الوقت المكروه) ش: وهو وقت اصفرار الشمس.
" ولا توهم في الفجر لأن تلك المدة مديدة " يعني ما بين التنوير وطلوع الشمس مدة مديدة يؤمن أن يقع الأداء وقت طلوع الشمس.
م: (وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - التأخير في الكل) ش: أي في الصلاة، روى الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذا كان يوم غيم فالمستحب في جميع الصلوات التأخير كذا في " المبسوط "، وفي " البدائع " وهو اختيار الفقيه الجليل أبي أحمد العياضي لأن في التردد ترددا بين الأداء والقضاء، وفي التعجيل بين الصحة والفساد وأشار إلى ذلك بقوله (للاحتياط) ش: في(2/52)
ألا ترى أنه يجوز الأداء بعد الوقت لا قبله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصحة والفساد.
م: (ألا ترى أنه يجوز الأداء بعد الوقت لا قبله) ش: وصح بذلك وجه الاحتياط وذلك لأنه إذا أخر في يوم الغيم صلاة من الصلوات بوقت بعد خروج الوقت، فصلاته جائزة تسقط عنه الفرض، بخلاف ما إذا عجل ووقعت قبل دخول الوقت فإنها فاسدة فيجب عليه الإعادة.(2/53)
فصل في الأوقات التي تكره فيها الصلاة لا تجوز الصلاة عند طلوع الشمس، ولا عند قيامها في الظهيرة، ولا عند غروبها؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الأوقات التي تكره فيها الصلاة]
م: (فصل في الأوقات التي تكره فيها الصلاة) ش: أي هذا فصل في بيان الأوقات التي تكره فيها الصلاة، ولقب الفصل بما يكره مع أن فيه ما لا تجوز الصلاة فيه باعتبار الغالب، ولأن علة الجواز مستلزم الكراهة والإفراغ من بيان أحد قسمي الوقت، شرع في بيان القسم الأول.
م: (لا تجوز الصلاة عند طلوع الشمس ولا عند قيامها في الظهيرة ولا عند غروبها) ش: الظهيرة شدة الحر نصف النهار، ولا يقال في الشتاء ظهيرة، ويجمع على الظهائر. وقال الجوهري: الظهيرة: الهاجرة، يقال أتيته حر الظهيرة وحين قام قائم الظهيرة، وقال الهاجرة والهجر نصف النهار عند اشتداد الحر.
م: (قوله: لا تجوز الصلاة) ش: قال تاج الشريعة: إذا أريد منها الفرض بها نفي الجواز مطلقا وإن يراد غيره فمعناه الكراهة، والكراهة مطلق على الجائز وعلى غيره، ويجوز إطلاقها على الفرائض والواجبات التي لا تجوز في الأوقات، وعلى الفعل الذي يجوز. وقال السروجي: والمراد من قوله لا يجوز لا نبغي أن يفعل ولو فعل يجوز.
وقال صاحب " الدراية ": ففي قوله - (لا تجوز الصلاة) أي لا تجوز فعله ولو شرع يلزم كما في البيع الفاسد، لأن النهي عن الأفعال الشرعية بعض المشروعية. وفي " الزاد " أراد به ما سوى الفعل.
قلت: فعلى هذا المراد من قوله لا تجوز الصلاة نوع مخصوص، وهو الفرض وليس المراد جنس الصلاة حتى لو صلى النوافل في الأوقات المكروهة يجوز، لأنه أدى كما وجبت لأن النافلة تجب بالشروع، وشروعه حصل في الأوقات المكروهة ولهذا قال الإمام الإسبيجابي في " شرح الطحاوي ": ولو صلى التطوع في هذا الأوقات الثلاث فإنه يجوز ويكره. وقال الكرخي: ويجوز واجب البناء إذا تقدم. قال الإسبيجابي: فالأفضل له أن يقطع ويقضيها في الوقت المباح، وإنما لا تجوز الفرائض في هذه الأوقات لأنها وجبت كاملة فلا يتأدى بالناقص.
فإن قلت: قوله لا يجوز إذا استعمل في عدم الجواز بالنسبة إلى الفرائض وفي الكراهة بالنسبة إلى النوافل وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة يكون جمعا بين الحقيقة والمجاز.
قلت: على غير هذه الرواية لا يلزم ذلك، لأن في غير ظاهر الرواية لا يجوز النفل أيضا وأما(2/54)
لحديث عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ثلاثة أوقات نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا: عند طلوع الشمس حتى ترتفع، وعند زوالها حتى تزول، وحين تضيف للغروب حتى تغرب» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على ظاهر الرواية من أن النفل يجوز مع الكراهة، فلا يستقيم إلا إذا كان رأوه عدم الجواز مطلقا كما ذهب إليه البعض.
وفي " المبسوط " " والمحيط " الأوقات التي تكره فيها الصلاة خمسة. ثلاثة منها لا يصلي فيها أحد الصلاة: عند طلوع الشمس إلى أن تبيض، وعند زوالها، وعند غروبها إلا عصر يومه، ولا تتطوع بعد طلوع الفجر إلا بركعتيه إلى أن ترتفع الشمس، ولا يتطوع بعد صلاة العصر.
وذكر في " التحفة " " والقنية " " والمفيد " أن الأوقات التي تكره فيها الصلاة اثني عشر وقتا ثلاثة منها تكره لمعنى في الوقت وهي المذكورة آنفا، ففي هذا الثلاثة يكره التطوع التي ليس فيها سبب في جميع الأيام والأمكنة ولو شرع فيها صح شروعه وجاز أداؤها فيه. وفي " المحيط ": في الرواية المشهورة لكن الأولى قطعها وأداؤها في وقت غير مكروه، وقال في " المحيط " ولو قضاها في غير وقت مكروه جاز، وقد أساء خلافا لزفر.
وكذا ما له سبب كركعتي الطواف وتحية المسجد وسجدة التلاوة وصلاة الجنازة والمنذورة في هذه الأوقات، والأولى أن لا يؤخر صلاة الجنازة لأن تأخيرها مكروه. وفي " المفيد " إن حضرت في وقت مستحب لا يجوز فيها بخلاف ما ذكره، ونص الكرخي على أنه لا يجوز فيها صلاة الجنازة ولا سجدة التلاوة، ولا يقضي فرضا ولا يصلي تطوعا، وكذا يكره أداء فرض العصر عند تغير الشمس. ولا يصح الفرض عند الطلوع والزوال، وأما قضاء الفرائض والمنذورة وقضاء الواجبات الفائتة وسجدة التلاوة في وقت غير مكروه والوتر من ذلك لا يجوز في هذه الأوقات، وفي البواقي من اثني عشر بمعنى في غير الوقت وهي تسعة: بعد طلوع الفجر، وبعد فرض الفجر قبل الطلوع وقبل صلاة العصر، وبعد الغروب، قبل المغرب وعند الخطبة، وعند الإقامة، وعند خطبة العيدين، وعند خطبة الكسوف، وخطبة الاستسقاء كذا في " التحفة " ولكن بلفظ الكراهة. وفي " المجتبى " ولا تنفل بعد صلاة الجمع بعرفات والمزدلفة وذكروا أنها الصلاة قبل العيد.
م: (لحديث عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ثلاثة أوقات نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا عند طلوع الشمس حتى ترتفع، وعند زوالها حتى تزول، وحين تضيف للغروب حتى تغرب» ش: هذا الحديث رواه مسلم والأربعة من حديث موسى ابن علية بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب» وأن نقبر فيها: المراد منه الصلاة على الميت(2/55)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على ما يذكره المصنف عن قريب.
قوله: تضيف، أي تميل للغروب وقد وقعت هذه اللفظة هاهنا بتاءين وأن [......] وقعت بتاء واحدة وأصله بتاءين لأنه من تضيف، ويجوز فيه أيضا التاءين على الأصل ويجوز فيه حذف إحداهما كما في قوله: {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14] (سورة الليل: الآية 14) أصله: تتلظى فحذفت إحدى التاءين، وثلاثية ضاف يضيف أي مال، يقال: ضافت الشمس وضيفت وتضيفت أي مالت للغروب.
قوله م: (حتى ترتفع) ش: أي الشمس، وحد الارتفاع الذي يباح فيه الصلاة اختلفوا فيه في الأصل إذا ارتفعت الشمس، قدر رمح أو رمحين تباح الصلاة. وقال الفضل: ما دام الإنسان يقدر على النظر إلى قرصها فالشمس في الطلوع، ولا تباح الصلاة فيه فإذا عجز عن النظر يباح. وقال أبو حفص السفكردري: يؤتى بطست ويوضع في أرض مستوية ما دامت الشمس تقع على حيطانها فهي في الطلوع، وإذا وقعت في وسطه فقد طلعت وحلت الصلاة كذا في " المحيط ".
فإن قلت: التخصيص بالثلاث في العدد يفيد الانحصار عليه، وقد ذكرت تسعة أوقات لا يجوز فيها النفل، وتلك التسعة غير هذه الثلاثة فيلزم منه إبطال العدد.
قلت: إنما يلزم هذا أن لو كان المزيد مثل حكم المزيد عليه، فالثلاثة المنصوصة حكمها أن لا يجوز الفرائض والنوافل أيضا في بعض الروايات، وأما غيرها فليس في معناها لأنه يجوز قضاء الفوائت وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة فيها بخلاف الثلاثة المذكورة فإن ذلك لا يجوز فيها، وإذا كان المعنى يختلف لا يلزم الإبطال بل يكون كل واحد منهما ثابتا بدليل على حدة.
فأما الثلاثة المذكورة فبحديث عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأما غيرها فبأحاديث أخرى مثل «لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس» .
فإن قلت: إذا لم تجز الفرائض في هذه الأوقات فلو شرع فيها ثم قهقه هل ينقض وضوءه؟
قلت: لا ينتقض لأن شروعه لم يصح فلا تصادق قهقهته صلاة شروعه، وقال في نوادر الصلاة ": من الصلاة لو طلعت الشمس وهو في خلال صلاة الفجر ثم قهقه قبل أن يسلم فليس عليه وضوء لصلاة أخرى.
أما على قول محمد فلأنه صار خارجا عن الصلاة بطلوع الشمس، وهي وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي الرواية الأخرى وإن لم يصر خارجا من حد التحريمة فقد فسدت صلاته بطلوع الشمس لأنه لا يجوز أداء الفعل في هذا الوقت كما لا يجوز أداء الفرض، فالضحك في هذه الحال دون الضحك في صلاة الجنازة فلا يجعل حدثا، وعلى قياس قول أبي(2/56)
والمراد بقوله: " وأن نقبر ": صلاة الجنازة؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويلزمه الوضوء خصوصا على الرواية التي رويت عنه أنه يصير حتى تطلع الشمس ثم يتم الفريضة فعلى هذه الرواية أن ضحكه صادف حرمة صلاة مطلقة فكان حديثا.
م: (والمراد بقوله - وأن نقبر - صلاة الجنازة) ش: المراد مبتدأ وخبره صلاة الجنازة، أي المراد من قول عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأن نقبر فيها - الصلاة على الجنازة يقال قبر يقبر من باب نصر ينصر ومصدره مقبر يعني مدفن الميت أيضا قبر يقال قبره إذا دفنه وأقبره إذا جعل له قبرا يوارى فيه.
وقال ابن السكيت: قبرته أي جعلت له قبرا يدفن فيه وقَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] (سورة عبس: الآية 21) أي جعله ممن يقبر ولم يجعله يلقى للكلاب فأكرم الإنسان بالقبر. وقال ابن الأعرابي: أقبر إذا أمر إنسانا بحفر قبر.
فإن قيل: قلت ذكر القبر وإرادة الصلاة من أي قبيل من المجاز أو الكناية؟
قلت: قال في " المبسوط ": وهو من باب الكناية اللازمة بينهما. وقال الأترازي: هو كناية لأنه ذكر الرديف وأراد المردوف، قلت: المراد من الملازمة المذكورة ما يكون بين اللازم والملزوم على سبيل التبعية، لأن الكناية أن يذكر في اللازمين ما هو تابع ورديف ويراد به ما هو متبوع ومردوف.
فإن قلت: ما هذا الداعي إلى هذه الدعوى فلم لا يؤخذ بظاهره فيكون دفن الميت في هذه الأوقات الثلاثة مكروها؟
قلت: اختلف العلماء في هذا الباب فأخذت طائفة بظاهره وقالوا: يكره دفن الميت في هذه الأوقات الثلاثة. وقال البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ونهيه عن القبر في هذه الساعات لا يتناول الصلاة على الجنازة وهو عند كثير من أهل العلم محمول على كراهة الدفن في تلك الساعات، وكذلك حمله أبو داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على الدفن فإنه بوب عليه في كتاب الجنازة فقال: باب ما جاء من الدفن عند طلوع الشمس وعند غروبها، ثم روى حديث عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المذكور.
وذهب أكثر أهل العلم إلى كراهة الصلاة على الجنازة في هذه الأوقات، وروي ذلك عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو قول عطاء والنخعي، والأوزاعي والثوري وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه وأحمد، وإسحاق، وكذلك حمله الترمذي على الصلاة وبوب عليه " باب ما جاء في كراهة صلاة الجنازة عند طلوع الشمس وغروبها " ونقل عن ابن المبارك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يعني أن نقبر فيها موتانا يعني صلاة الجنازة انتهى. وعن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه كان يرى الصلاة على الجنائز أي ساعة شاء من ليل أو نهار وكذلك الدفن أي وقت كان من ليل أو نهار. في أحكام ابن بريدة.(2/57)
لأن الدفن غير مكروه،
والحديث بإطلاقه حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تخصيص الفرائض، وبمكة في حق النوافل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال بعض العلماء: لا يصلى عليها في الأوقات الثلاثة المذكورة في حديث عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلا أن يخاف عليها النتن، وقيل: لا يصلى عليها عند الغروب والطلوع فقط ويصلى بعد العصر ما لم تصفر الشمس، وبعد الصبح ما لم تسفر. وقال ابن عبد الحكم: يصلى عليها في كل وقت كالفرائض.
وقال الليث: يكره الصلاة عليها في الأوقات التي يكره فيها الصلاة. وقال عطاء والنخعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لا يصلى عليها في الأوقات الخمسة المنهي عنها.
فإن قلت: هل جاء ما يدل على هذا الحمل؟.
قلت: نعم روى الإمام أبو حفص عمر بن شاهين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في كتاب الجنائز من حديث خارجة بن مصعب عن ليث بن سعد عن موسى بن علي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قال: «نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نصلي على موتانا عند ثلاث: طلوع الشمس..» إلى آخره.
م: (لأن الدفن غير مكروه) ش: أي لأن دفن الميت في هذه الأوقات المذكورة غير مكروهة.
م: (والحديث بإطلاقه حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تخصيص الفرائض وبمكة في حق النوافل) ش: واختلفت نسخ " الهداية " في هذا الموضع فلذلك تردد الشراح فيه، ولم يحرروا كما ينبغي خصوصا تحرير مذهب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ما هو المسطور في كتب أصحابه المعتمد عليها. فقال السغناقي في شرحه: قوله والحديث بإطلاقه حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تخصيص الفرائض والنوافل بمكة.
وفي بعض نسخ " الهداية " لم يذكر الفرائض وذكر بمكة بالباء، وفي بعضها لم يذكر النوافل والصحيح من الرواية أن يذكر الفرائض ويذكر مكة بدون الباء.
ويقال في تخصيص الفرائض وبمكة ليكون أداء الفرائض في جميع الأمكنة، وتعميم جواز الفرائض والنوافل بمكة وذلك إنما يعاد فهذا الذي ذكرت وهكذا كان بخط شيخي، فإن عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجوز الفرائض والنوافل فإن شمس الأئمة السرخسي ذكر في " المبسوط ": حديث عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره من الأحاديث، ثم قال: والأمكنة في هذا النهي سواء عندنا لعموم الآثار. وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا بأس بالصلاة في هذه الأوقات بمكة لحديث روي في النهي إلا بمكة انتهى كلامه.
وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله: وتخصيص الفرائض أي الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يقول بعدم كراهية الفرائض في هذه الأوقات، قوله ومكة أي تخصيص مكة فإن عنده(2/58)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ينصرف هذا النهي إلى مكة حتى لا تكره النوافل فيها انتهى. وقال صاحب " الدراية ": قوله حجة على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وتخصيص الفرائض ومكة.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز في هذه الأوقات الفرائض ومن النوافل ما له سبب كتحية المسجد، وركعتي الطواف، وكذا في الجمعة بعد الزوال انتهى.
وقال الأترازي: قوله والحديث بإطلاقه حجة على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في تخصيص الفرائض ومكة. - وفي بعض النسخ وبمكة بالباء - والصحيح أن يذكر ومكة بلا باء، بيانه أن الشافعي يخص الفرائض من جميع الصلاة ويقول: إن النهي ورد في حق النفل لا في حق الفرائض بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» فإن ذلك وقتها. نعلم أن الفرض ليس بمنهي عنه حتى تجوز الفرائض في الأوقات المكروهة بلا كراهة في جميع البلدان.
أما النوافل فإنها تكره في هذه الأوقات إلا بمكة، فإن مكة مخصوصة من سائر البلدان لما روى أبو داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النهي عن الصلاة في هذه الأوقات مقرونا بقوله: " إلا بمكة، فإذن تجوز الفرائض في جميع البلدان في مكة وغيرها لأن الفرائض خصت من جميع الصلاة، وتجوز النوافل بمكة خاصة لأن مكة خصت من جميع البلدان، وعلى هذا التقدير لا يفهم إلا على رواية مكة بدون الباء فافهم، انتهى.
1 -
قال الأكمل: ما يخصه إن أراد بقوله لا يجوز الفرض وحده وإن النفل جائز مكروه، ولم يستقم جعل الحديث حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تجويز النوافل وإن كان مراده عدم الجواز في الفرض والنفل جميعا لزم عليه ما نقل عن الكرخي والإسبيجابي وهو أن النوافل تجوز وتكره، وإن كان الجواز مع الكراهة فما لم يكن الحديث حجة لنا على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلا إذا أثبته أن أصحابنا يقولون بالجواز مع الكراهة، وهو يقول بالجواز بلا كراهة.
قال: ولم أطلع على ذلك فيما وجدته من النسخ وإن كان عدم الجواز في الفرض والجواز في النفل مع الكراهة فإن في بعض الروايات لزم اختلاف معنى اللفظ للواحد مراد نزلا على سبيل الكناية وهو غير جائز. وأرى أن المراد عدم الجواز في الفرض والنفل على بعض الروايات ولا يلزمه ما نقل عن الكرخي والإسبيجابي لأنه اختار خلافه وإذا ظهر لك ما قررناه تبين لك أن النسخة الصحيحة هو أن يقال حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تخصيص الفرائض بمكة، لأنه هو الذي يقيد ما ذكرنا من مذهبه، وإن كان فيه إعلام دون ما عداه وهو ما وقع في بعضها من(2/59)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله في تخصيص الفرائض والنوافل بمكة، وفي بعضها في التخصيص بمكة، وفي بعضها ولم يذكر النوافل.
قلت: هذه الترديدات والتصرفات البحثية كلها من عدم الوقوف على نص مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعدم الرجوع إلى أمهات كتب أصحابه فنقول مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جواز الفرائض في هذه الأوقات، ومن النوافل ما له سبب كتحية المسجد وركعتي الطواف دون النوافل المطلقة، وفي مكة يجوز النوافل المطلقة أيضا.
وقال النووي في " الروضة ": يجوز في هذه الأوقات قضاء الفرائض والسنن والنوافل التي أخذها الإنسان وردا له وتجوز صلاة الجنازة وسجود التلاوة وسجود الشكر وركعتا الطواف وصلاة الكسوف، ولا يكره فيها صلاة الاستسقاء على الأصح.
وعلى الثاني يكره كصلاة الاستخارة ويكره ركعتا الإحرام على الصحيح. فأما تحية المسجد فإن اتفق دخوله الفرض كدرس علم أو اعتكاف أو انتظار صلاة ويجوز ذلك ثم يكره، وإن دخل لا لحاجة بل ليصلي التحية فوجهان أقيسهما الكراهة انتهى.
فإذا عرفت هذا عرفت أن نقل السنغاقي عن مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله: فإن عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تجوز الفرائض في هذه الأوقات في جميع الأمكنة دون النوافل، وفي مكة تجوز الفرائض في عنده والنوافل ليس كما ينبغي، وكذلك ما قاله الأترازي، فإذا قابلت كلامهما بالذي قلنا آنفا عرفت أن نقلهما عن مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس على ذلك، وكذلك ما قاله الأكمل بقوله تبين أن النسخة الصحيحة إلى آخره والأقرب إلى المطالعة ما قاله صاحب " الدراية " ثم فسر النسخة التي هي قوله: (والحديث بإطلاقه) يعني بكونه متنا ولا للفرض والنفل حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وتخصيص الفرائض بالجواز في هذه الأوقات أي فرض كان وفي أي مكان كان.
قوله م: (والنوافل) ش: أي وفي تخصيص النوافل بالجواز فيها حال كونها فيها بمكة أي نفل كان ولا تدل هذه العبارة على جواز النفل الذي له سبب في غير مكة، فقلت إن النسخ كلها قاصرة على الدلالة على ما ينبغي؛ ثم حجة الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مما ذهب إليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها» ، جعلت وقت التذكير وقتا للفائتة مطلقا وله في جواز النفل بمكة شرفها الله تعالى الوارد في حديث عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلا بمكة. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة(2/60)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شاء» .
وله في الجمعة حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة في نصف النهار إلا يوم الجمعة» .
وروى أبو الخليل عن أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة» . وقال ابن الجهم متحسر إلا يوم الجمعة.
والجواب عن ذلك: أما حديث: «من نام عن صلاة» إلى آخره فهو مخصوص بحديث عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والدليل عليه ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قفل من غزة خيبر فسار بليلة ... » الحديث، وفيه: «فناموا فما أيقظهم إلا حر الشمس» -. وفي رواية «انتبهوا - وقد بدا جانب الشمس فأداروا رحالهم شيئا ثم نزلوا للصلاة» . وإنما نقل ذلك لترتفع الشمس فلو جاز قضاء المكتوبة في حال طلوع الشمس لما أخرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الانتباه.
وعن الثاني: أن الاستثناء الوارد في حديث عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلا بمكة غريب لم يرد في المشاهير فلا يزاد به عليها أو يحتمل أنه كان قبل النهي.
وعن الثالث: أن أبا داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في إباحة الدعاء قرأ معنى صلى دعا قال أبو بكر ابن العربي: هذا الحديث لم يصح.
وعن الرابع: أن إلا في قوله - إلا يوم الجمعة بمعنى: ولا يوم الجمعة كما في قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] (النساء: الآية 92) . أي لا خطأ عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وحديث أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، منقطع لأن أبا الخليل لم يسمع من أبي قتادة قاله أبو داود، وقال أبو الفرج - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف مرة.
وفي " المغني " عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كنا ننهى عن ذلك يوم الجمعة.
وعن سعيد المقبري: أدركت الناس وهم ينهون عن ذلك وأباحه فيها عطاء في الشتاء دون الصيف، وفي بقية الأوقات يوم الجمعة وجهان عند الشافعية أحدهما يجوز لكل واحد، وفي بقية الأوقات يوم الجمعة والآخر لا يجوز إلا في وقت الاستواء يوم الجمعة، دون بقية الأوقات يوم الجمعة روي عن بعضهم تخصيص الإنشاء من بقاء الشعائر وبترجيحه قال صاحب " المهذب " وغيره.(2/61)
وحجة على أبي يوسف في إباحة النفل يوم الجمعة وقت الزوال. قال: ولا صلاة جنازة لما روينا، ولا سجدة تلاوة؛ لأنها في معنى الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: يعارض حديث عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر» . بيانه أن هذا يقتضي أنه لو شرع في صلاة الفجر وطلعت الشمس في خلالها لا تفسد الصلاة كما ذهب إليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: إنه لبيان الوجوب بإدراك جزء من الوقت قل أو كثر. ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا الباب أنه يقضي الفرائض في هذه الأوقات الثلاثة ولا يصلي النوافل سواء كان لها سبب أو لا، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أنه أجاز ركعتي الطواف وصلاة الجماعة مع إمام الحي لخوف الفوت. واختلفت الرواية عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه في صلاة الكسوف وسجود القرآن في وقت النهي.
م: (وحجة على أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في إباحة النفل يوم الجمعة) ش: وحجة عطف على قوله حجة على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: لا بأس بالصلاة م: (وقت الزوال) ش: واستدل على ذلك بحديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد ذكرناه عن قريب مع الجواب عنه.
م: (قال) ش: أي القدروي معطوف على أول الكلام.
(ولا صلاة جنازة) ش: أي ولا تجوز صلاة الجنازة في الأوقات الثلاثة المذكورة، هذا محمول على جنازة حضرت قبل العصر لأن الصلاة تجب بحضورها كاملة ولا تؤدى بالناقص، حتى لو حضرت جنازة في هذا الوقت جازت الصلاة مع الكراهة؛ لأنها ناقصة كما وجبت.
(لما روينا) ش: وهو قوله: «وأن نقبر فيها موتانا» .
م: (ولا سجدة تلاوة) ش: عطف على ما قبله، أي ولا تجوز سجدة التلاوة، وهذا إذا كان تلا أو سمع قبل هذا الزمان فسجد في هذا الزمان بعدم إجزاء الناقص عن الكامل، أما لو تلا في هذا الزمان فسجد جازت لأنها أديت ناقصة كما وجبت.
م: (لأنها في معنى الصلاة) أي لأن سجدة التلاوة في معنى الصلاة من حيث إنه يشترط لها ما شرط للصلاة من الطهارة، وستر العورة، واستقبال القبلة، ويقال باعتبار حصول التشبه لعبدة الشمس إزالة يحصل بعد الشمس بالحول، أيضا كذا في " المبسوط ". وقال الأكمل: فإن قيل ما بالها لم تلحق بها في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ضحك منهم فقهقه فليعد الوضوء والصلاة جميعا» ، فينتقض وضوء الضاحك في سجدة التلاوة كما في الصلاة.
وأجيب بأن اللام في قوله: «فليعد الوضوء والصلاة» للعهد لأنه إنما يعيد الصلاة التي وجدت(2/62)
إلا عصر يومه عند الغروب؛ لأن السبب هو الجزء القائم من الوقت؛ لأنه لو تعلق بالكل لوجب الأداء بعده، ولو تعلق بالجزء الماضي فالمؤدي في آخر الوقت قاض، وإذا كان كذلك فقد أداها كما وجبت، بخلاف غيرها من الصلوات؛ لأنها وجبت كاملة فلا تتأدى بالناقص.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيها القهقهة لا للجنس، والمعهود صلاة ذات تحريمة وركوع وسجود، والسجود المجرد ليس في معناه من كل وجه فلا يلحق به.
قلت: هذا السؤال والجواب للسنغناقي.
م: (إلا عصر يومه عند الغروب) ش: هذا استثناء من قوله - ولا عند غروبها - يعني لو صلى عصر يومه عند غروب الشمس جازت صلاته.
م: (لأن السبب) ش: أي سبب وجوب الصلاة.
م: (هو الجزء القائم من الوقت) ش: الذي يتصل به الأداء (لأنه لو تعلق بالكل) ش: أي لأن السبب لو تعلق بكل الوقت جملة م: (لوجب الأداء بعده) ش: أي لوجب أداء الصلاة بعد ذلك الوقت لوجوب تقدم السبب بجميع أجزائه على السبب فلا يكون أداء.
م: (ولو تعلق بالجزء الماضي) ش: أي ولو تعلق بسبب الوجوب بالجزء الماضي من الوقت م: (فالمؤدي) ش: بكسر الدال.
(في آخر الوقت قاض) ش: لأنه أدى بعد خروج الوقت فيكون قضاء.
م: (وإذا كان كذلك) ش: أي وإذا كان الأمر كما ذكرنا من أن السبب هو الجزء القائم إلى آخره.
(فقد أداها) ش: أي أدى الصلاة التي هي العصر.
(كما وجبت) ش: أي باتصال الأداء بها فإن كان وقتها صحيحا بأن لا يكون موصوفا بالكراهة ولا منسوبا إلى الشيطان كالظهر مثلا وجب المسبب كاملا فلا يتأدى ناقصا، وإن كان فاسدا أي ناقصا بأن يكون منسوبا إلى الشيطان كالعصر يستأنف وقت الاصفرار وجب الفرض به ناقصا فيجوز أن يتأدى ناقصا، لأنه أداه كما وجب.
م: (بخلاف غيرها من الصلوات) ش: يعني غير العصر.
(لأنها وجبت كاملة فلا تتأدى بالناقص) ش: لأن ما وجب كاملا لا تتأدى بالناقص.
وقال الأكمل: قوله - لأن السبب هو الجزء القائم من الوقت - فيه تسامح لأن السبب إما أول جزء والذي يلي الأداء الجزء والمضيق أو كل الوقت عند خروجه.
قلت: المراد بالجزء القائم من الوقت الجزء الباقي من آخر الوقت لأن السببية تنتقل من جزء(2/63)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى جزء والسبب هو الجزء القائم. وقال صاحب " الكافي ": ما قاله فالمؤدي في آخر الوقت قاضي أشكاله لأنه مؤدي باعتبار بقاء الوقت، وأيضا يلزمه على تقدير جواز قضاء العصر في هذا الوقت لأن الجزء القائم من الوقت ناقص فيجب به العصر ناقصا فينبغي أن يجوز كعصر يومه، وأجاب عنه الشيخ عبد العزيز عن الأول بأن كلامه فيمن أخر العصر إلى الغروب، ولا شك أن السبب في حقه هو الجزء القائم من الوقت هو المعبر عنه بالجزء المضيق.
وعن الثاني بأن الجزء إذا تعين السببية بحيث لا ينتقل إلى غيره كان التأخير عنه تفويتا للواجب كالجزء الأخير من الوقت في الصلاة، والجزء الأول من اليوم في الصوم. قال الأكمل: ورد عليه بأن الفوات والتفويت عن الجزء الأخير من الوقت إنما هو باعتبار خروج الوقت لا باعتبار تعينه للسببية، وكذلك الجزء الأول من اليوم لأن وقت الصوم كل النهار فإذا فات البعض فات الكل.
قلت: لا نسلم أن التفويت بمجرد اعتبار خروج الوقت بل به، وباعتبار الجزء الأخير للسبب ألا ترى أنه إذا شرع في صلاة الظهر أو المغرب أو العشاء في الجزء الأخير ثم خرج الوقت كان ذلك أداء لا قضاء، فلو أسلم الكافر عند غروب الشمس يلزمه أداء العصر، فإن لم يتمكن حتى غربت الشمس هل تلزمه أم لا؟ فهو مبني على خلاف في ذلك.
1 -
ثم اعلم أنه لا بد من جعل جزء من الوقت سببا للوجوب فقال شمس الأئمة السرخسي: سبب الوجوب الجزء الأول من الوقت فصار السبب حكم الوجوب، وصحة أداء الواجب ولكنه وجوب موسع وهو الأصح وهكذا نقله علاء الدين الحاكم السمرقندي فيش " الميزان والتقويم " لأبي زيد، ومن الناس من ظن أن الأداء لما لم يلزم في أول الوقت لم يكن وجوب الصلاة متعلقا بأوله وأنه غلط ويتعاين وقته بالفعل كالكفارة.
وفي " مختصر البزدوي ": الوجوب بأول الجزئية من أول الوقت خلافا لبعض مشايخنا، والقاضي عبد الجبار أنكر أن قوله: من قال الصلاة في أول الوقت تقع نفلا، قال: وهذا لا يصح. وقال شمس الأئمة: ومن مشايخ العراق من يقول الوجوب لا يثبت في أول الوقت وإنما تعلق الوجوب بآخره ومستدلون عليها بما لو حاضت في آخر الوقت فصلى ركعتين، فلو كان الوجوب بأول الوقت لما سقطت الصلاة بذلك، وكذا لو مات قبل خروج الوقت لا تكون الصلاة دينا في ذمته ولا شيء عليه.
ثم عند مشايخ العراق اختلاف في صفة المروي في أول الوقت فمنهم من يقول: هو نفل يمنع لزوم الفرض في آخر الوقت إذا بقي على حال يلزمه الأداء بأن لا يعارضه جنون أو حيض وغير(2/64)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك فيه لأنه يمكن، ثم نزل الأداء في أول الوقت لا إلى القضاء. ومنهم من قال: المؤدي في أول الوقت وقوف على ما يظهر من حاله في آخر الوقت فاعتبروه بتعجيل الزكاة قبل الحول.
وفي " المرغيناني " قال: أكثر أصحابنا الوجوب يتعلق بمقدار التحريمة.
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - بمقدار ما يؤدي الصلاة وهذا القول مختار القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والأول اختيار القاضي أبي زيد الدبوسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وذكر عن الكرخي ثلاث روايات عن أصحابنا فروى الشيخ أبو بكر الجصاص - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الوقت كله وقت العرض وعليه أداؤه في وقت مطلق من جميع الوقت وهو مخير في الأداء فيتعين الواجب بالأداء ويضيق الوقت، فإن أدى في أول الوقت يكون واجبا، وإن أخر لا يأثم وهو الرواية على المعتمد عليها.
ويروى أيضا أن الأداء في أوله موقوف إن بقي إلى آخر الوقت بصفة التكليف يقع واجبا فإن فات شيء من شرائط التكليف يكون نفلا، وفي رواية أخرى عنه يقع نفلا في أول الوقت فإذا بقي إلى آخر الوقت وصفة المكلفين يكون ذلك سقطا للغير من قال، وهذا الرواية مهجورة.
وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما يفرد الوجوب في أول الوقت لزمه الأداء على وجه لا تتغير بتغير حال فيعد ذلك تعارض الحيض والقرء. وقال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تجب الصلاة بأول الوقت وجوبا موسعا ويستقر الوجوب بإمكانه فعلها قاله. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية كمذهبنا وهي غريبة.
قلت: إن أراد به تعلق الوجوب بأول الوقت وجوبا موسعا فهو المذهب الصحيح عندنا وليست هذه الرواية بغريبة، وإن أراد استقرار الوجوب بإمكان فعلها فليس هذا رواية عن أصحابنا لا غريبة ولا مشهورة.
وقال ابن بطال: حكى ابن القضاء عن الكرخي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الصلاة في أول الوقت تقع نفلا، قال: والفقهاء بأسرهم على خلاف قوله.
قلت: هذا قول ضعيف نقل عن بعض الأصحاب كما ذكرنا وليس منقولا عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ثم اعلم أيضا أن الواجب الموسع الذي هو الفاضل عن الواجب لا يتعين بعض أجزائه بتعين العذر، رضا بأن يقول عينت هذا للسببية ولا قصدا بأن ينوي ذلك، وذلك لأن تعيين الأسباب والشرائط من وضع الشارع، وليس للعبد ذلك، وإنما للعبد اختيار فعل فيه رفيق وليس ذلك بتعيين جزء لأنه ربما لا يتيسر فيه الأداء بل له الاختيار في تعينه فعلا بأن يؤدي الصلاة في أي جزء يريد فيتعين بذلك الفعل ذلك الجزء وقتا لفعله كما في خصال الكفارة فإن الواجب أحد الأمور من الإعتاق والكسوة والإطعام لا يتعين شيء منها بتعيين المكلف قصدا ولا قضاء بل يختار أيها شاء.(2/65)
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والمراد بالنفي المذكور في صلاة الجنازة، وسجدة التلاوة الكراهة، حتى لو صلاها فيه أو تلا آية السجدة. فسجدها جاز لأنها أديت ناقصة كما وجبت، إذ الوجوب بحضور الجنازة والتلاوة.
ويكره أن يتنفل بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس؛ لما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيفعله هو الواجب بالنسبة إليه.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والمراد بالنفي المذكور في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة) ش: أي في قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا صلاة جنازة ولا سجدة تلاوة - م: (الكراهة) ش: مرفوع لأنه خبر المبتدأ وهو قوله والمراد.
م: (حتى لو صلاها فيه) ش: نتيجة الكراهة، أي لو صلى الجنازة في وقت من الأوقات الثلاثة، م: (أو تلا سجدة فيه) ش: أي أو قرأ آية في وقت من هذه الأوقات م: (فسجدها جاز) ش: أي فسجد لتلاوته وفيه جازت.
م: (لأنها أديت ناقصة) ش: أي لأن كل واحدة من صلاة الجنازة وسجدة التلاوة أديت حال كونها ناقصة.
م: (كما وجبت) ش: أي كما وجبت ناقصة.
م: (إذ الوجوب بحضور الجنازة والتلاوة) ش: كلمة إذ للتعليل أي لأن الوجوب حصل بحضور الجنازة وبوقوع التلاوة في الوقت الناقص وقد مر الكلام فيه مستوفى عند قوله - ولا صلاة جنازة ولا سجدة تلاوة.
م: (ويكره أن يتنفل بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس) ش: أراد أنه إذا طلع الجر وصلى صلاة الفجر يكره، لا أن يصلي إلى أن تطلع وبعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس.
م: (لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذلك) ش: لما روى مسلم من حديث أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وفيه: «فقلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبرني عن الصلاة، قال: صل الصبح ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، فإنها تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها، ثم صلى فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل كالرمح، ثم اقصر عن الصلاة فإنها حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة حتى تصلي العصر، ثم اقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان» . الحديث بطوله وروى إسحاق بن راهويه - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في " مسنده " ثم البيهقي من جهة حدثنا وكيع ثنا سفيان الثوري أخبرني أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي(2/66)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله عنه: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ركعتين دبر كل صلاة مكتوبة إلا الفجر والعصر» .
وأخرج البخاري عن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «إنكم لتصلون صلاة لقد صحبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فما رأيناه يصليها ولقد نهى عنها» يعني الركعتين بعد العصر.
وروى مسلم عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين» "، روى أبو داود عن يسار مولى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال رآني ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أصلي بعد طلوع الفجر فقال: يا يسار إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج علينا ونحن نصلي هذه الصلاة فقال: «ليبلغ شاهدكم غائبكم لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين» .
وأخرج الطبراني عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا طلع الفجر فلا تصلوا إلا ركعتين الفجر» .
وأخرج أيضا عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة إذا طلع الفجر إلا ركعتين» ومثله عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال ابن بطال - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح البخاري ": تواترت الأحاديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر، وكان عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يضرب على الركعتين بعد العصر بمحضر من الصحابة من غير نكير فدل أن صلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخصوصة به دون أمته، وكره ذلك علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبو هريرة وسمرة بن جندب وزيد بن ثابت وسلمة بن عمرو وكعب بن مرة وأبو أمامة وعمرو بن عيينة وعائشة والصالحي واسمه عبد الرحمن بن عقيلة وعبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والحسن البصري وسعيد بن المسيب والعلاء بن زياد وحميد بن عبد الرحمن - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى أجمعين. وقال النخعي: كانوا يكرهون ذلك.
1 -(2/67)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: أخرج البخاري ومسلم عن الأسود عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: «لم يكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعهما سرا ولا علانية ركعتان قبل صلاة الصبح وركعتان بعد العصر» .
وفي لفظ لهما: «ما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يأتي في يوم بعد العصر إلا [صلى] ركعتين» . وروى أبو داود من حديث قيس بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وقال: «رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الصبح ركعتان فقال الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما فصليتهما الآن، فسكت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» هكذا رواه أبو داود وقال قيس بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رواية قيس بن قهر بالقاف.
قلت: استوت القاعدة أن المبيح والحاظر إذا تعارضا جعل الحاظر متأخرا، وقد ورد نهي كثير في الأحاديث التي ذكرناها آنفا بالعمل عليها.
وأما حديث الأسود عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فإن صلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه مخصوصة به والدليل عليه ما ذكرنا أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يضرب على الركعتين بعد العصر بمحضر من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - من غير نكير.
وذكر الماوردي من الشافعية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره أيضا أن ذلك من خصوصيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال الخطابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخصوصا بهذا دون الخلق. قال ابن عقيل: لا وجه له إلا هذا الوجه.
وقال الطبري: فعل ذلك تنبيها لأمته أن نهيه كان على وجه الكراهة لا التحريم. وقال الطحاوي: الذي يدل على الخصوصية أن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - هي التي روت صلاته إياها قيل لها أفنقضيهما إذا فاتتا بعد العصر. قالت: لا. وأما حديث قيس بن عمر قال [في] " الإمام ": إسناده غير متصل ومحمد بن إبراهيم لم يسمع من قيس. وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج [به] .
ثم نفسر بعض ألفاظ الأحاديث المذكورة.
قوله - «تطلع بين قرني شيطان» - اختلفوا فيه على وجوه فقيل: معناه مقارنة الشيطان عند رؤيتها للطلوع والغروب. وقيل: قرنه قوته من قولك أنا مقرن لهذا الأمر أي بطوله يرى عليه، وذلك لأن الشيطان إنما يتولى أمره في هذه الأوقات لأنه يسول لعبدة الشمس أن يسجدوا لها في هذه الأوقات.
وقيل: قرنه حزبه وأصحابه الذين يعبدون الشمس يقال هؤلاء قوم قرن، أي قوم بعد قرن(2/68)
ولا بأس بأن يصلي في هذين الوقتين من الفوائت، ويسجد للتلاوة، ويصلي على الجنازة؛ لأن الكراهة كانت لحق الفرض ليصير الوقت كالمشغول به، لا لمعنى في الوقت، فلم تظهر في حق الفرائض، وفيما وجب لعينه كسجدة التلاوة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
آخر. وقيل: إن هذا تمثيل وتشبيه، وذلك أن تأخير الصلاة إنما هو من تسويل الشيطان وتزيينه ذلك في قلوبهم، وذوات القرون إنما تعالج الأشياء وتدفعها بقرونها، وكأنهم لما دفعوها وأخروها عن أوقاتها بتسويل الشيطان لهم حتى اصفرت الشمس صار ذلك لهم بمنزلة ما يعالجه، وذوات القرون بقرونها وتدفعه بأرواقها.
قلت: يمكن حمل الكلام على حقيقته ويكون المراد أنه يحاذيها بقرنيه عند غروبها وكذا عند طلوعها، لأن الكفار يسجدون لها حينئذ فيقارنها ليكون الساجدون لها في صورة الساجدين له، ويخيل لنفسه ولأعوانه إنما يسجدون له فيكون له ولنفسه تسلط.
قوله - مشهودة - أي تشهدها الملائكة وتحضرها.
م: (ولا بأس بأن يصلي في هذين الوقتين) ش: أراد بالوقتين ما بعد صلاة الفجر قبل طلوع الشمس، وما بعد صلاة العصر قبل غروب الشمس. م: (الفوائت) ش: بالنصب مفعول يصلي.
م: (ويسجد للتلاوة ويصلي على الجنازة لأن الكراهة) ش: الحاصلة في هذين الوقتين.
م: (كانت لحق الفرض ليصير الوقت) ش: من بعده، م: (كالمشغول به) ش: أي بالفرض فلم يجز النفل فيهما لأن الثقل التقديري بالفرض أولى من الثقل الحقيقي بالنفل م: (لا لمعنى في الوقت) ش: يعني ليست الكراهة في هذين الوقتين بالنفل لا لمعنى في الوقت، يعني ليست الكراهة في هذين الوقتين لمعنى في نفس الوقت، بل لثقل الوقت بالفرض، ولهذا لو ابتدأ العصر في أول الوقت ومده إلى المغرب لا يكره بالاتفاق، فلو كانت الكراهة لمعنى في الوقت لكان هذا مكروها.
وقوله - لا بمعنى في الوقت - تأكيد لقوله - لحق الفرض - وفيه إشارة إلى أن يفرق بين النهي الوارد في هذين، والوارد في الأوقات الثلاثة المذكورة بأن ذلك لمعنى في الوقت، وهو كونه منسوبا إلى الشيطان فيظهر في حق الفرائض والنوافل وغيرها، وهذا المعنى لثقل الوقت بالفرض كما ذكرنا.
م: (فلم يظهر في حق الفرائض) ش: هذه نتيجة ما قبله فلذلك ذكره بالفاء، أي فلم تظهر الكراهة في حق الفرائض فجازت الفوائت فيها. م: (وفيما وجب لعينه كسجدة التلاوة) ش: لكون وجوبها غير موقوف على فعل العبد بدليل وجوبها بالسماع فصارت كسائر الفرائض.
فإن قلت: قد ذكر في الأصول أن سجدة التلاوة وجبت بقربة مقصودة حتى جاز إقامة(2/69)
فظهرت في حق المنذور؛ لأنه تعلق وجوبه بسبب من جهته وفي حق ركعتي الطواف، وفي الذي شرع فيه ثم أفسده؛ لأن الوجوب لغيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الركوع مقامها بخلاف سجود الصلاة، وهذا يوهم أنها واجبة لغيرها.
قلت: أراد بما وجب بعينه هاهنا ما شرع واجبا ابتداء لأنه شرع نفلا في الأصل ثم صار واجبا بعارض كالنذر، ثم هذا الواجب قد يكون قربة مقصودة بذاتها وقد لا يكون: كالصلاة، والصوم، وسجدة التلاوة من حيث إنها وجبت ابتداء كانت واجبة بعينها، ومن حيث إنها وجبت موافقة للأبرار ومخالفة للكفار، ولم تكن مقصودة بنفسها فكانت واجبة مقصودة لنفسها لعدم التنافي، ألا ترى أن صلاة الجنازة عرفت من هذا أن الفعل مع أنها وجبت بغيرها وهو لصاحب الميت، ولكنها لما شرعت ابتداء صح جعلها واجبة بعينها من هذا الوجه.
م: (فظهرت في حق المنذور) ش: أي ظهرت الكراهة في حق المنذور من الصلاة في هذين الوقتين م: (لأنه تعلق وجوبه بسبب من جهته) ش: أي من جهة الناذر لا من جهة الشرع فصار كالصلاة التي شرعت فيها متطوعا، فإذا كان كذلك يكره أداء المنذور في هذين الوقتين، لا يقال الضمير في جهته إضمار قبل الذكر، لأنا نقول قوله المنذور يدل على الناذر، لأن النذر قائم به.
وعن أبي يوسف: لا يكره المنذور في هذين الوقتين لأنه واجب بالنذر.
م: (وفي حق ركعتي الطواف) ش: أي فظهرت الكراهة أيضا في حق ركعتي الطواف حتى كره أداؤها في هذين الوقتين لأن وجوبهما بغيرهما وهو ختم الطواف الحاصل بفعله.
وقال الشافعي: يجوز في هذين الوقتين ركعتا الطواف، وتحية المسجد، وكل فعل له سبب: كركعتي الوضوء، وسنن الرواتب، والمنذور.
قلت: في " المبسوط " أن كراهة الطواف بالأثر، وهو ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طاف بالبيت أسبوعا بعد صلاة الفجر ثم خرج من مكة حتى كان بذي طوى فطلعت الشمس فصلى ركعتين، ثم ذهب فقال: ركعتين مقام ركعتين، فقال أخر ركعتي الطواف إلى ما بعد طلوع [الشمس] . وذي طوى: ينصرف ولا ينصرف وهو بضم الطاء اسم موضع مكة.
ولو أفسدته الفجر، ثم قضاها بعد صلاة الفجر لم يجز كذا في " المحيط ". وقيل يجوز ولو في شرع في النفل قبل طلوع الفجر ثم طلع قيل يقطعه، والأصح: أنه يتمه ولا ينوب عن سنة الفجر في الأصح.
م: (وفي الذي شرع فيه ثم أفسده) ش: أي وكذا ظهرت الكراهة في النفل الذي شرع فيه حتى كره قضاؤه في هذين الوقتين.
م: (لأن الوجوب لغيره) ش: تعليل للمسألتين جميعا، ومعنى الوجوب لغيرها أنه يجب في(2/70)
وهو ختم الطواف وصيانة المؤدي
عن البطلان، ويكره أن يتنفل بعد طلوع الفجر بأكثر من ركعتي الفجر؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لم يزد عليهما مع حرصه على الصلاة. ولا يتنفل بعد الغروب قبل الفرض لما فيه من تأخير المغرب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأصل، فقوله م: (وهو ختم الطواف) ش: يرجع إلى قوله - وفي حق ركعتي الطواف م: (وصيانة المؤدي) ش: - يرجع إلى قوله - وفي الذي شرع فيه ثم أفسده - والمؤدى بفتح الدال.
فإن قلت: ركعتا الطواف واجبتان عندنا فوجوبه من جهة الشرع بعد الطواف كوجوب سجدة التلاوة بعد التلاوة فينبغي أن يؤتى بهما كسجدة التلاوة في هذين الوقتين. وقول المصنف بأن الوجوب لختم الطواف ينتقض بسجدة التلاوة فإن وجوبها للتلاوة وهي فعله أيضا.
قلت: قد تجب السجدة بتلاوة غيره إذا سمعه من غير قصد ولا كذلك ركعتا الطواف.
م: (ويكره أن يتنفل بعد طلوع الفجر بأكثر من ركعتي الفجر لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يزد عليهما) ش: أي على ركعتي الفجر اللتين هما السنة المذكورة.
م: (مع حرصه على الصلاة) ش: أي مع حرص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على النافلة. قال الأترازي: ولو لم تكره تفعل، قلت: هذا يبنى على معرفة الحديث الذي فيه عدم زيادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ركعتي الفجر وكذا قال الأكمل: أن الترك مع حرصه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على إحراز فضيلة النفل دليل الكراهة، وقد ذكرنا فيما مضى من حديث مسلم الذي رواه عن ابن عمر عن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا طلع الفجر لا يصلى إلا ركعتين خفيفتين» وهذا يدل على أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما كان يزيد على ركعتي الفجر مع حرصه على إحراز فضيلة النوافل.
وفي " المجتبى " ويخفف القراءة في ركعتي الفجر لقول ابن عمر: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ فيهما ب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] .
وفي " المبسوط " لشيخ الإسلام: والنهي عما سوى ركعتي الفجر فيه لحق ركعتي الفجر لخلل في الوقت. وفي " التجنيس " للمصنف يتطوع آخر الليل فلما صلى ركعة طلع المفجر كان الإتمام أفضل، لأنه وقع في التطوع بعد الفجر لا عن قصد.
م: (ولا يتنفل بعد الغروب قبل الفرض) ش: أي قبل صلاة المغرب. م: (لما فيه من تأخير المغرب) ش: وتأخير المغرب مكروه فيكره ما يكون سببا للتأخير.
فإن قلت: روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان المؤذن إذا أذن قام الناس من أصحاب رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبتدرون السواك حتى يخرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا خرج رآهم لذلك يصلون ركعتين قبل المغرب ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء» .
قلت: حمل ذلك على أن أول الأمر قبل النهي، أو قبل أن يعلم ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(2/71)
ولا إذا خرج الإمام للخطبة يوم الجمعة إلى أن يفرغ من خطبته؛ لما فيه من الاشتغال عن استماع الخطبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منهم. وقال أبو بكر بن العربي: اختلف الصحابة فيها ولم يفعله بعدهم أحد. وقال النخعي: إنها بدعة. وقال عميرة: كان ذلك في أول الإسلام ليعرف خروج الوقت المنهي عنه ثم أمروا بتعجيل المغرب. وروى أبو داود عن طاووس قال سئل ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الركعتين قبل المغرب فقال: ما رأيت أحدا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليهما، وروي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «بين كل أذانين صلاة إن شاء إلا المغرب» . قال الخطابي: يعني الأذان والإقامة، وعند بعض أصحاب الشافعي يستحب أن يصلي ركعتين قبل المغرب.
م: (ولا إذا خرج الإمام للخطبة يوم الجمعة) ش: أي ولا يتنفل أيضا إذا خرج الإمام من بيت الخطابة يوم الجمعة لأجل الخطبة.
م: (إلى أن يفرغ) ش: من الخطبة.
م: (لما فيه) ش: أي لما في التنفل، دل عليه قوله ولا يتنفل م: (لما فيه من الاشتغال عن استماع الخطبة) ش: وهو مكروه كراهة تحريم. وقال أبو بكر بن العربي: والجمهور على أنه لا يفعل وهو الصحيح، لأن الصلاة حرام إذا شرع الإمام في الخطبة بوجوه ثلاثة من الدليل.
الأول: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] (الأعراف: الآية 204) فكيف يترك الفرض الذي شرع الإمام فيه إذا دخل عليه بغير فرض.
الثاني: صح عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من كل طريق أنه قال: «إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب أنصت، فقد لغوت» ، فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأصل أن الفرضان في المسألة يحرمان في حال الخطبة فالنفل أولى بأن يحرم.
الثالث: أنه لو دخل والإمام في الصلاة لم يركع والخطبة صلاة من وجه يحرم فيها من الكلام والعمل ما يحرم في الصلاة.
وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى جواز تحية المسجد بركعتين لحديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «بينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة إذا جاء رجل فيه بذة فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أصليت؟ " قال: لا. قال: " قم فاركع.» وهو حديث اتفق البخاري، ومسلم عليه. وهذا الرجل هو: " سليك الغطفاني " بين ذلك مسلم وغيره.
قلت: هذا الحديث لا يعارض الأصول من أوجه أحدها أنه خبر واحد يعارض أخبار أقوى منه فوجب تركه.(2/72)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثاني: يحتمل أن يكون في الوقت الذي كان الكلام مباحا في الصلاة لأنه لا يعلم تاريخه.
الثالث: أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كلم سليكا وقال له: قم وأمره سقط عنه فرض الاستماع فإنه أقوى في هذا الباب.
الرابع: الحظر مقدم على الإباحة.
الخامس: أن سليكا [كان به] بذاذة فأراد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن يشهره فيرى حاله فيعتبر به أو يتصدق عليه لضعف حاله، والبذاذة على التواضع في اللبس وعدم الريبة، وروي «البذاذة من الإيمان» وأصله من بذ فلان الناس إذا سفههم الناس في فضل.(2/73)
باب الأذان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الأذان]
م: (باب الأذان) ش: أي هذا باب في بيان أحكام الأذان.
لما ذكر الأوقات التي هي تحصيل أسباب، وفي الحقيقة إعلام ذكر عقبها الأذان الذي هو: إعلام لتلك الإعلام وقيام الأوقات، لما أن فيها معنى السببية، والسبب يقدم على العلامة.
ثم " الأذان " له تفسير لغة وشريعة وثبوت وسبب ووصف وكيفية محل شرع فيه ووقت وسنن وما يجب على سامعه.
أما تفسيره لغة فهو: إعلام قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] (التوبة: الآية 3) من: أذن يؤذن تأذينا وأذانا، مثل كلمه يكلمه تكليما وكلاما، فالأذان والكلام اسم لمصدر قياسي.
وقال الهروي: الأذان والأذين والتأذين بمعنى وقيل الأذين المؤذن فعيل بمعنى مفعل وأصله من الأذان كأنه يلقي في أذان الناس بصوته ما تدعوهم إلى الصلاة.
وأما تفسيره شريعة: فهو إعلام مخصوص في أوقات مخصوصة.
وأما سبب ثبوته فما رواه أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن علقمة بن مزيد عن أبي زيد عن أبيه قال: «مر أنصاري على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرآه حزنا، وكان الرجل ذا طعام فرجع إلى بيته واهتم لحزنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فلم يتناول الطعام فأتاه آت فقال: أتعلم حزن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ماذا؟ هو من هذا الناقوس فمره فيعلم بلالا الأذان وذكره» أه.
وروى أبو داود في " سننه " قال: «اهتم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للصلاة كيف يجمع الناس لها وقيل له انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك قال. فذكر له القنع - يعني الشبور - فلم يعجبه ذلك فقال: هو أمر اليهود قال: فذكر له الناقوس، فقال: هو من أمر النصارى، فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتم لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأري الأذان في منامه فغدا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره فقال يا رسول الله إني لبين النائم واليقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان فقال وكان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوما، ثم أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ما منعك أن تخبرني فقال سبق عبد الله بن زيد فاستحييت فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله " قال: فأذن بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.»(2/74)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى أبو داود أيضا من حديث عبد الله بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لما أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالناقوس يعمل فيضرب به للناس لجمع الصلاة، قال طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة.
قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟
فقلت: له بلى.
قال: " تقول الله أكبر، الله أكبر. الله أكبر، الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله " قال: ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال: ثم تقول إذا أقيمت الصلاة: " الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة. حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله " فلما أصبحت أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بما رأيت، قال: " إن هذه الرؤيا حق إن شاء الله تعالى فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت، فليؤذن به فإنه أندى صوتا منك " فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فلله الحمد» .
ورواه أحمد وصححه الترمذي. وقال أبو عمر بن عبد البر: روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قصة عبد الله بن زيد هذه في بدء الأذان جماعة عن الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة، وكلها متفق على أمره عند ذلك، وكان ذلك في أول الأمر في الأذان والآثار في ذلك متواترة حسان ثابتة.
قوله: فذكر له القنع - بضم القاف وسكون النون - وقيل سمي به لإيقاع الصوت وهو دفعه، وعن ابن عمر هو القثع - بالثاء المثلثة الساكنة - يعني البوقا، وهذا أثبته أبو عمر الزاهد وأبطله الأزهري، ويروي القبع بالباء الموحدة لأنه يقبع فم صاحبه أي يستره.
قوله: الشبور تفسير: القنع - وهو بفتح الشين المعجمة وضم الباء الموحدة المشدودة قال في الصحاح: الشبور على وزن السنور على البوق، ويقال هو معرب.
والناقوس: خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها، والنصارى يعلمون بها أوقات صلاتهم قال الجوهري: السعي فأما الناقوس فينظر فيه أعربي هو أم لا؟
قلت: التفسير هو الضرب بالناقوس يدل على أنه عربي، وزنه فاعول كناقوس البحر فيكون(2/75)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الألف والواو فيه زائدتان.
قوله: مثل ما أري بضم الهمزة وكسر الراء - مثل ما رأى عب الله بن زيد وفي رواية: " مثل ما أرى " على صيغة المتكلم.
فإن قلت: ما الفاء في قوله: فلله الحمد؟ قلت: يجوز أن تكون عاطفة على محذوف تقديره لله الشكر فلله الحمد، ويجوز أن يكون زائدة قد زيدت فيه للتخيير والكلام.
1 -
فإن قلت: لِمَ لَمْ يأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن زيد أن يؤذن هو بنفسه؟
قلت: قال أبو بشر الواحدي أحد رواة الحديث حدثني أبو عمران الأنصاري ويزعم أن عبد الله بن زيد لولا أنه كان يومئذ مريضا لجعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤذنا، ومنهم من قال إن الأذان كان وحيا لا مناما، واستدلوا في ذلك بما رواه البزار في " مسنده " حدثنا محمد بن عثمان بن مخلد الواسطي ثنا داود بن المنذر عن محمد بن علي بن الحسن عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لما أراد الله تعالى أن يعلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأذان أتاه جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بدابة يقال لها البراق، فذهب يركبها فاستصعبت، فقال لها: اسكني فو الله ما ركبك عبد أكرم على الله من محمد.
قال: فركبها حتى انتهى إلى الحجاب الذي يلي الرحمن تبارك وتعالى، فبينما هو كذلك إذا خرج ملك من الحجاب فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " يا جبريل من هذا؟ " قال: والذي بعثك بالحق إني لأقرب الخلق مكانا، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه فقال الملك: الله أكبر الله أكبر، قال فقيل له من وراء الحجاب صدق عبدي، أنا أكبر أنا أكبر ثم قال الملك: أشهد أن لا إله إلا الله. قال: فقيل له من وراء الحجاب صدق عبدي، أن لا إله إلا أنا، قال الملك: أشهد أن محمدا رسول الله فقيل له من وراء حجاب: صدق عبدي أنا أرسلت محمدا ثم قال الملك: حي على الصلاة حي على الفلاح، ثم قال الملك: الله أكبر الله أكبر، فقيل له من وراء الحجاب صدق عبدي، أن لا إله إلا أنا، قال: ثم أخذ الملك بيد محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فقدمه، فأم أهل السماء فمنهم آدم ونوح - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -» .
وقال البزار: هذا حديث لم نعلمه يروى بهذا اللفظ عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلا بهذا الإسناد، ورواه الأصبهاني في كتاب " الترغيب والترهيب ": وقال حديث غريب لا أعرفه إلا من هذا الوجه.(2/76)
الأذان سنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال في " الإمام ": والخبر الصحيح أن بدء الأذان كان بالمدينة.
وروى ابن شاهين بسنده عن عمر قال: «لما أسري بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوحي إليه الأذان فنزل فعلمه بلالا» وفي رواته طلحة بن زيد قال النسائي: متروك.
ومنهم من قال الأذان نزل مع فرض الصلاة قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] (الجمعة: الآية 9) أراد بهذا النداء الأذان عند صعود الإمام على المنبر للخطبة، وقال الشعبي: وتفسير قوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] امضوا إليه وكذا كان يقرأ عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والمراد من ذكر الله صلاة الجمعة.
وعن سعيد بن المسيب موعظة الإمام. وعن بعضهم الخطبة والصلاة. ومنهم من قال: إنه أخذ من أذان إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحج {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] (الحج: الآية 27) قال: فأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقيل نزل به جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على النبي حتى قال له بريدة: أذن جبريل وما في السماء السابعة فسمعه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا منافاة بين هذه الأسباب، فليجعل كل ذلك كذا في " المبسوط ".
قال أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أحكام القرآن " ليلة أسري به كان بمكة، وقد صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة بغير أذان وأما سبب الأذان، فدخول وقت المكتوبة.
[حكم الأذان]
وأما وصفه فقوله م: (الأذان سنة) ش " عند أكثر الفقهاء. وذكر محمد ما يدل على وجوبه، فإنه قال: لو أن أهل قرية أو بلدة اجتمعوا على ترك الأذان لقاتلتهم عليه ولو تركه أحد ضربته وحبسته، وإنما يقاتل ويضرب على ترك الواجب كترك الصلاة ومنع الزكاة.
وقيل: الأذان عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - من فروض الكفاية وفي " المحيط والتحفة " الأذان سنة مؤكدة.
وفي " البدائع " وعامة مشايخنا قالوا: الأذان والإقامة سنتان مؤكدتان، لما روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه قال في قوم صلوا في المصر جماعة بغير أذان وإقامة: أنهم أخطئوا السنة و [......] سماه سنة، والقولان متقاربان، لأن السنة المؤكدة بمنزلة الواجب في الإثم. وإنما يقاتل على تركه لأنه من شعائر الإسلام وخصائص الدين. قال قاضي خان: من سنن الصلاة بالجماعة، وأنهما من الشعائر حتى لو اجتمع أهل مصر أو قرية أو محلة على تركهما أخبرهم الإمام فإن لم يفعلوا قاتلهم ولم يحك خلافا.
ومذهب الشافعي وإسحاق أنه سنة، قال النووي: وهو قول جمهور العلماء.
قال ابن المنذر: فرض في حق الجماعة في الحضر والسفر، وقال مالك: يجب في مسجد(2/77)
للصلوات الخمس والجمعة، دون ما سواها للنقل المتواتر،
وصفة الأذان معروفة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجماعة، وفي " العارضة ": وهو على البلد وليس بواجب في كل سجدة، ولكنه يستحب في مساجد الجماعات أكثر من العدد.
وقال عطاء ومجاهد: لا تصح صلاة بغير أذان، وهو قول الأوزاعي وعنه تعاد في الوقت.
وقال أبو علي الأصطخري: هو فرض في الجملة، وقال العدوي: هما سنتان عند مالك فرض كفاية عند أحمد.
قال المحاملي: وقالت الظاهرية: هما واجبان لكل صلاة.
واختلفوا في صحة الصلاة بدونهما. وقال داود: هما فرضا الجماعة وليسا بشرط لصحتها. وقال إمام الحرمين: لا يقاتل على تركهما إلا إذا قلنا أنهما من فروض الكفاية، ويسقط الفرض عند الشافعية بالأذان لصلاة واحدة في اليوم والليلة. وعن مكحول: أنهما من سنن الهدي وتركهما ضلالة يقاتلون على الضلال كذا في " المحيط ".
[ما يشرع له الأذان من الصلوات]
م: (للصلوات الخمس والجمعة) ش: هذا محله الذي شرع فيه الأذان، ولا يشرع بغير الصلوات الخمس بلا خلاف وللجمعة أيضا.
قال في " المنافع ": خص الجمعة بالترك لأنها تشبه العيد من حيث اشتراط الإمام أو المصر أو يكون ذكر الجمعة وإن كانت داخلة في الخمس لبقي قول بعض أصحاب الشافعي حيث قالوا: إنه فرض في الجماعة م: (دون ما سواها) ش: أي دون ما سوى الصلوات الخمس والجمعة كالوتر وصلاة العيدين والخسوف والكسوف والاستسقاء وصلاة الجنازة والسنن والنوافل والتراويح والصلاة المنذورة وصلاة الضحى وفي الصلاة للزلازل والأفزاع.
وقال النووي في " شرح المهذب ": ولكن ينادى للعيدين والاستسقاء والكسوف والتراويح: الصلاة جامعة، ولا يستحب ذلك. وصلاة الجنازة على أصح الوجهين عندهم، وبه قطع الدلوي والمحاملي والبغوي، وقطع الغزالي باستحبابه. والمذهب الأول عندهم قاله النووي.
وقول صاحب " الدفاتر ": وفي المنذورة يؤذن ويقيم إن سلك بها مسلك صاحب الشرع هو غلط منه. وعن معاوية وعمر بن عبد العزيز هما سنتان في العيدين.
م: (للنقل المتواتر) ش: يعني لورود النقل المتواتر من زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن بعده من الأئمة إنهم إذا نووا الصلوات الخمس إلى يومنا هذا، ولم يؤذن - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ولا أحد من الأئمة بغير الصلوات الخمس والجمعة.
[صفة الأذان]
م: (وصفة الأذان معروفة) ش: هذا كيفية الأذان.(2/78)
وهو كما أذن الملك النازل من السماء، ولا ترجيع فيه وهو أن يرجع فيرفع صوته بالشهادتين بعدما خفض بهما، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فيه ذلك؛ «لحديث أبي محذورة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمره بالترجيع» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهو) ش: أي صفة الأذان، ويذكر الضمير باعتبار المذكور أو المراد وصف الأذان م: (كما أذن الملك النازل من السماء) ش: وقد ذكرنا كيفية أذان الملك النازل من السماء من غير زيادة ولا نقصان عند عامة أهل العلم، فنقص مالك من أوله تكبيرتين، وهو رواية الحسن عن أبي يوسف. وقال أبو الحسن: رجع أبو يوسف عن هذا. وقال أصحابنا: وزاد في آخره الله أكبر بعد لا إله إلا الله، وزاد مالك والشافعي: فيه الترجيع وحاصله أن الأذان عندنا خمس عشرة كلمة لا ترجيع فيه، التكبير في أوله أربع والشهادتان أربع والدعاء إلى الصلاة والفلاح أربع، والتكبير في آخره مرتان، وختم بكلمة الإخلاص مرة واحدة، وبه قال الثوري والحسن بن علي وأحمد وإسحاق وغيرهم.
وقال الشافعي: هو سبع عشرة كلمة، وزاد فيه الترجيع أربع كلمات وهو إعادة الشهادتين على ما سنذكره.
م: (ولا ترجيع فيه) ش: أي في الأذان.
م: (وهو أن يرجع فيرفع صوته بالشهادتين بعدما خفض بهما وقال الشافعي فيه ذلك) ش: أي في الأذان الترجيع، وبه قال مالك إلا أنه قال: لا يؤتى بالتكبير في أوله إلا مرتين، وقال أحمد: إن رجع فلا بأس به وإن لم يرجع فلا بأس به.
وقال أبو إسحاق من أصحاب الشافعي: قد ثبت أذان بلال وأذان أبي محذورة فلو ترك الترجيع فالمذهب أن يعتد به، وحكى بعض أصحابنا عن الشافعي أن لا يعتد به كما لو ترك سائر كلماته وفيه نظر، كذا في " الحلية "، وفي شرح الوجيز " والأصح أنه إن ترك الترجيع لم يضر.
م: (لحديث أبي محذورة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره بالترجيع) ش: حديث أبي محذورة رواه الجماعة إلا البخاري من حديث عبد الله بن محيريز عن أبي محذورة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه الأذان: «الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله. ثم قال لي: ارجع من صوتك أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله» وفي بعض ألفاظهم علمه الأذان تسعة عشر كلمة فذكرها.
ولفظ أبي داود قلت: يا رسول الله علمني بسنة الأذان، قال: «تقول الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، ثم تقول أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله وتخفض بهما صوتك، ثم ترفع صوتك بهما» الحديث وهو لفظ ابن حبان في " صحيحه " واختصره الترمذي.(2/79)
ولنا أنه لا ترجيع في المشاهير،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولفظه عن أبي محذورة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقعده وألقى عليه الأذان حرفا حرفا قال بشر: [فقلت له:] أعد علي، فوصف الأذان بالترجيع وطوله النسائي وابن ماجه عن عبد الله بن محيريز وكان يتيما في حجر أبي محذورة بن معير حين جهزه إلى الشام فقلت له: أي عم إني خارج إلى الشام، وإني أسأل عن تأذينك فأخبرني أن أبا محذورة قال: «خرجت في نفر فلما كنا في بعض الطريق فأذن مؤذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسمعنا صوت المؤذن فصرنا نحكيه نهزأ به فسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأرسل إلينا قوما فأقعدونا بين يديه فقال: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع، فأشار القوم إلى كلهم وصدقوا، فأرسل كلهم وحبسني، وقال لي: قم فأذن فقمت ولا شيء أكره إلي من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا مما يأمرني به فقمت بين يدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فألقى علي رسول الله التأذين هو بنفسه فقال: قل الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله ثم قال لي ارفع من صوتك أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة ثم أمرها على وجهه، ثم على ثدييه، ثم على كبده، ثم بلغت يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرة أبي محذورة ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بارك الله لك وبارك عليك " فقلت يا رسول الله: مرني بالتأذين بمكة قال. نعم قد أمرتك فذهب كل شيء كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كراهية وعاد ذلك كله محبة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وهذا لفظ ابن ماجه من حديث أبي عامر عن ابن جريج ومن هذا الوجه أخرجه أبو داود. وفيه «ثم قال ارجع فمد صوتك أشهد أن لا إله إلا الله» وذكرنا الأذان وأخرجه النسائي من حديث حجاج عن ابن جريح وفيه فقفل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حنين فلقيه في بعض الطريق فظللنا نحكيه ونهزأ به فأرسلهم كلهم وفيه: " ثم قال ارجع فأدره صوتك " وحكى أبو داود أن أبا محذورة، كان لا...... ولا يعرفها لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مسح عليها وفي الباب طرق أخر، فيها ضعيف نتركها لضعفها وطولها.
وأبو محذورة: بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وبعدها ذال معجمة مضمومة وراء مفتوحة وتاء تأنيث واسمه: سمرة بن معيز بكسر الميم وسكون العين المهملة بعدها ياء آخر الحروف مفتوحة ثم راء قيل اسمه سلمان، وقيل: مسلمة وقيل أوس بن معين بن لوذان بن وهب بن سعد بن جمح.
م: (ولنا أنه لا ترجيع في المشاهير) ش: أي وحجتنا أن لا ترجيع في الآحاد والمشاهير، وهو جمع مشهور منها حديث عبد الله بن زيد من غير ترجيع وقد تقدم، ومنها ما رواه أبو داود(2/80)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والنسائي من حديث شعبة قال سمعت أبا جعفر مؤذن مسجد العربان - في مسجد بني هلال - يحدث عن مسلم أبي المثنى مؤذن المسجد الجامع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «إنما كان الأذان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرتين مرتين والإقامة مرة غير أنه يقول قد قامت الصلاة فكنا إذا سمعنا الإقامة توضأنا ثم خرجنا إلى الصلاة» . ورواه ابن خزيمة وابن حبان في " صحيحيهما " وهذا دليل صريح على أنه لم يكن فيه ترجيع. ورواه أبو عوانة في " مسنده " بلفظ: «مثنى مثنى والإقامة فرادى» .
ومنها ما رواه الطبراني في " معجمه الأوسط " حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله البغدادي حدثنا أبو جعفر بن الفضيل حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الملك بن أبي محذورة، قال سمعت جدي عبد الملك بن أبي محذورة بقوله أنه سمع أباه أبا محذورة يقول «ألقى علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأذان حرفا حرفا الله أكبر، الله أكبر إلى آخره، لم يذكر فيه ترجيعا» .
ومنها أذان بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مولى أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بحضرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سفرا وحضرا وهو مؤذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإطلاق أهل الإسلام إلى أن توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومؤذن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أن توفي أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من غير ترجيع، والعجب من الأترازي حيث يقول: ولنا حديث عبد الله بن زيد الذي هو أصل الأذان ولم يذكر فيه الترجيع وهو معنى قول صاحب " الهداية " أنه لا ترجيع في المشاهير، وقد ذكرنا أن المراد من المشاهير الآثار الشهيرة، وهو جمع فوق واحدة لأن حديث عبد الله بن زيد واحد فكيف يطلق عليه المشاهير، وأعجب منه ما ذكره صاحب " الأسرار " وتبعه الأكمل حيث ذكره في شرحه وهو أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أمره بذلك لحكمة رويت في قصته وهي أن أبا محذورة كان يبغض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الإسلام بغضا شديدا فلما أسلم أمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعرك أذنه، وقال له «ارجع وامدد بها صوتك» إما ليعلم أنه لا حياء من الحق أو ليزيده محبة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتكرير كلمات الشهادة.
قلت: هذا ضعيف فإنه خفض صوته عند ذكر اسم الله أيضا بعد أن رفع صوته بالتكبير، ولم ينقل في كتب الحديث أنه عرك أذنه والمشهور أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمره بالتكرار حالة التعلم فحسن تعلمه، وهو كان عادة النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في التعليم فظن أنه أمره بالترجيع.(2/81)
وكان ما رواه تعليما فظنه ترجيعا،
ويزيد في أذان الفجر بعد الفلاح: الصلاة خير من النوم، مرتين؛ «لأن بلالا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الصلاة خير من النوم - مرتين -، حين وجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - راقدا. فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " ما أحسن هذا يا بلال! اجعله في أذانك» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال ابن الساعاتي: هذا التأويل أشبه فإن أبا محذورة أخلص في إيمانه من أن يبقى معه حياء من قومه أو كراهة، لكن ذكر مسلم في حديثه ثم قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يأمرني به وقال: إن أبا محذورة لما لقيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان كافرا وكارها لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأذانه أعاد عليه الشهادة وكررها لتثبت عنده ويحفظها ويكررها على أصحابه المشركين، فإنهم كانوا ينفرون منها خلاف نفورهم من غيرها وفيها من الأذان وليس الأمر كذلك بدليل أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لم يأمر به بلالا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال ابن الجوزي: لا يختلف في أن بلالا كان لا يرجع ويقال أذان أبي محذورة عليه أهل مكة وما ذهبنا إليه عليه أهل المدينة وهو أولى بوجهين أحدهما: كون العمل على المتأخرين من الأمور.
والثاني: أن أذان بلال بحضرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مطلع عليه فقرر له، وأذان أبي محذورة بمكة غائب عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فلعله لا يعلم باطنه من الأذان. ونزد عليه أن الشافعي لم يجعله من أركان الأذان بل جعله من سننه على المذهب الصحيح عندهم.
فإن قلت: أذان أبي محذورة بعد فتح مكة وحديث عبد الله بن زيد في أول شروع الأذان فيكون منسوخا.
قلت: أليس قد رجع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة، وبلال يؤذن معه بالمدينة بعد رجوعه إلى أن توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلا ترجيع، فقد أمره - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - على الأذان الذي هو أذان عبد الله. وفي " المنافع ": تعارف من زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا - يعني أذان بلال - من غير ترجيع، والعرف ما استقر في النفوس من جملة [......] المنقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول.
م: (وكان ما رواه تعليما فظنه ترجيعا) ش: أي وكان ما رواه الشافعي من حديث أبي محذورة لأجل التعليم له حيث كرره له فظنه أبو محذورة أنه ترجيع وهو في أصل الأذان، وقد مر الكلام فيه مستوفى.
[زيادة الصلاة خير من النوم في أذان الفجر]
م: (ويزيد في أذان الفجر بعد الفلاح ... ) ش: أي المؤذن بالقرينة الحالية والمقالية دلت عليه فلا يكون إضمارا قبل الذكر م: (في أذان الفجر بعد الفلاح الصلاة خير من النوم مرتين؛ لأن بلالا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال الصلاة خير من النوم حين وجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راقدا فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ما أحسن هذا يا بلال! اجعله في أذانك» ش: هذا الحديث رواه الطبراني في " معجمه الكبير " حدثنا محمد بن علي الصائغ المكي ثنا يعقوب بن حميد ثنا عبد الله بن وهب عن يوسف بن يزيد عن أبي هريرة(2/82)
وخص الفجر به؛ لأنه وقت نوم وغفلة، والإقامة مثل الأذان، إلا أنه يزيد فيها بعد الفلاح: قد قامت الصلاة، مرتين هكذا فعل الملك النازل من السماء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن حفص بن عمر عن بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه أتى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤذنه بالصبح فوجده راقدا فقال: الصلاة خير من النوم مرتين فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " ما أحسن هذا يا بلال اجعله في أذانك» .
وأخرجه الحافظ أبو الشيخ في " كتاب الأذان " ثم حدثنا عبدان حدثنا محمد بن موسى الجرشي حدثنا خلف الحزان يعني البكاء قال: قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «جاء بلال إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤذنه بالصلاة فوجده راقدا قد أغفل فقال: الصلاة خير من النوم فقال " اجعله في أذانك إذا أذنت للصبح " فجعل بلال يقولها إذا أذن للصبح» .
وروى ابن ماجه في " سننه " حدثنا عمر بن رافع حدثنا عبد الله بن المبارك عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن بلال «أنه أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤذنه لصلاة الفجر فقيل هو نائم فقال: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم فأقرت في تأذين الفجر» فثبت الأمر على ذلك.
وروى ابن خزيمة في " صحيحه " والدارقطني ثم البيهقي في "سننيهما" من حديث ابن سرين عن أنس قال: «من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر حي على الفلاح قال الصلاة خير من النوم» .
م: (وخص الفجر به) ش: أي بقوله الصلاة خير من النوم.
م: (لأنه) ش: أي لأن الفجر.
م: (وقت نوم وغفلة) ش: لأن آخر الليل يحلى النوم ولا سيما إذا سهر أول الليل. م: (والإقامة مثل) ش: أي مثل الأذان في هيئته. م: (إلا أنه) ش: أي إلا أن المؤذن. م: (يزيد فيها) ش: أي في الإقامة.
م: (بعد الفلاح قد قامت الصلاة مرتين هكذا فعل الملك النازل من السماء) ش: يعني أقام بعد حد الأذان مثنى وفرادى بعد الفلاح قد قامت الصلاة مرتين. وروى أبو داود بإسناده إلى ابن أبي ليلى قال: الصلاة ثلاثة أحوال، قال: وحدثنا أصحابنا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لقد أعجبني أن تكون صلاة المسلمين أو المؤمنين واحدة، حتى لقد هممت أن أبث رجلا في الدور ينادون بخير الصلاة حتى هممت أن آمر رجالا يقومون على الآطام ينادون المسلمين بخير الصلاة حتى يقضوا وكادوا أن ينقضوا " فجاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله إني لما رجعت لما رأيت من اهتمامك رأيت(2/83)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رجلا كان عليه ثوبين أخضرين فقام على المسجد فأذن ثم قعد ثم قام فقال مثلها إلا أنه يقول قد قامت الصلاة ولولا أن تقول الناس: قال - ابن المثنى - بعد إدراك خير أو لم يقل عمر وأخذ فَمُر بلالا فليؤذن قال: فقال عمر: أما أنا فقد رأيت مثل الذي رأى ولكن لما سبقت استحييت» .
وأخرجه أحمد في " مسنده " مطولا وفيه إني رأيت شخصا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله مثنى حتى فرغ من الأذان ثم أمهل ساعة ثم قال مثل الذي قاله غيره أنه يزيد في ذلك قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " علمها بلالا " فكان بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أول من أذن بها. الحديث.
قوله: ابن أبي ليلى هو عبد الرحمن واسم أبي ليلى يسار.
قوله: أحلت الصلاة ثلاثة أحوال، أي غيرت ثلاث تغيرات أو حولت ثلاث تحويلات، وقد فسرها كما ينبغي في " مسند أحمد " وفيه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أحلت الصلاة ثلاثة أحوال فإنها أحوال الصلاة فإن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قدم المدينة وهو يصلي سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس ثم إن الله عز وجل أنزل عليه {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] (البقرة: الآية 55) فتوجه إلى مكة فهذا حول وكانوا يجتمعون للصلاة ويؤذن بها بعضهم بعضا حتى نقضوا أو كادوا أن ينقضوا ثم إن رجلا من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد أتى رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «يا رسول الله إني رأيت شخصا عليه ثوبان أخضران إلى قوله فكان بلال أول من أذن بها كما ذكرنا عن قرب قال فمضى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنه قد طاف بي» وهذا حولان.
قوله: وحديث أصحابنا إن أراد به الصحابة فهو قد سمع من جماعة من الصحابة فيكون الحديث مسندا وإلا فهو مرسل قاله المنذري.
قلت: بل أراد به الصحابة صرح بذلك ابن أبي شيبة في " مصنفه " فقال ثنا وكيع ثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال حدثنا أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن عبد الله بن زيد الأنصاري جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله رأيت في المنام كأن رجلا قام وعليه بردان أخضران، فقام على حائط فأذن مثنى مثنى» وأخرجه البيهقي في " سننه " عن وكيع به قال في " الإمام ": وهذا رجاله رجال الصحيحين، وهو متصل على مذهب الجماعة في عدالة الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأن جهالة أسمائهم لا تضر.(2/84)
وهو المشهور، ثم هو حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في قوله: إنها فرادى فرادى، إلا قوله: قد قامت الصلاة مرتين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: أو من المؤمنين شك من الراوي قوله: أن أبث أي لا فرق من البث وهو النشر وكلمة أن مصدرية.
قوله: في الدور أي القبائل.
قوله: يجيء الصلاة أي بوقتها.
قوله: على الآطام: جمع أطم بضم الهمزة والطاء وهو بناء مرتفع وآطام المدينة أبنيتهما المرتفعة. وفي الصحاح: الآطام: حصون أهل المدينة.
قوله: حتى نقض بفتح القاف من النقض وهو الضرب بالناقوس. قوله: أو كادوا أن ينقضوا بضم القاف لأنه من نَقَضَ يَنْقُضُ من باب نَصَرَ يَنْصُرُ وهو شك من الراوي والمعنى أو قربوا من نفس الناقوس؛ لأن كاد من أفعال المقاربة. قوله فجاء رجل من الأنصار هو عبد الله بن زيد الأنصاري وهو مفسر به في حديث أحمد.
قوله: كان عليه ثوبين أخضرين وفي رواية أحمد كما ذكرنا كان عليه ثوبان أخضران وهو القياس، لأن ثوبين فاعل كان وهو اسمه فيكون مرفوعا وخبره قوله عليه ووجهه رواية أبي داود وأن صحبا أن يكون كان زائدة وهي أي التي لا تخل بالمعنى الأصلي ولا يعمل في شيء أصلا، ويكون نصب ثوبين بالفعل المقدر والتقدير: رأيت رجلا ورأيت عليه ثوبين أخضرين. قلت: إذا كان بالتشديد لا يحتاج إلى هذه المكلفات اللهم إذا صحت الرواية فكان الناقض قوله ثم قعد قعدة بفتح القاف لأنه للمرة هاهنا وأما القعدة بالكسر فللهيئة. قوله: قال ابن المثنى هو محمد بن المثنى أحد مشايخ أبي داود. وقوله: ولم يقل عمرو هو عمرو بن مروان أحد شيوخ أبي داود. قوله: فمر بلالا من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخاطب به عبد الله بن زيد الأنصاري. قوله: فقال هو عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أما أنا بفتح الهمزة في أنا وبكسرها في إني سمعت على صيغة المجهول. قوله: استحييت أن أذكر ما يأتي.
فإن قلت: من هو الملك الذي قال المصنف هكذا فعل الملك النازل.
قلت: قد قيل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.... غيره والأول أظهر.
م: (وهو المشهور) ش: أي قيل الملك النازل من السماء هو المشهور وفيه من تكرار كلمات الإقامة كما في قوله قد قامت الصلاة مرتين.
م: (ثم هو حجة على الشافعي في قوله: إنها فرادى فرداى، إلا في قوله قد قامت الصلاة مرتين)(2/85)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي ثم فعل الملك النازل من السماء في الإقامة مثنى مثنى حجة على الشافعي في قوله أن الإقامة فرادى فرادى بضم الفاء جمع فرد على غير القياس كأنه جمع فردان والفرد الوتر.
قوله: إلا قد قامت الصلاة يعني هي مرتان وبه قال أحمد. وقال الشافعي في القديم ثم لفظ الإقامة أيضا مرة، وبه قال مالك لما روي عن أبي محذورة أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «الأذان مثنى مثنى والإقامة فرادى فرادى» «وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: كان الأذان في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرتين مرتين والإقامة فرادى فرادى» . ولما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر بلالا أن يشفع فيه ويوتر في الإقامة» . ولأن المقصود بالأذان الإعلام ومع تكراره أبلغ والمقصود من الإقامة إقامة الصلاة بالإفراد أعجل لإقامتها.
ولنا ما ذكرنا من حديث عبد الله بن زيد الأنصاري ومشاهير أحاديث كبار الصحابة وما رواه محمول على الجمع بين الكلمتين في الإقامة والتفريق بينهما في الأول، وعلى إتيان قوله بحيث لا ينقطع الصوت لما روي أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مر بمؤذن أوتر الإقامة فقال له اشفعها لا أبا لك كذا في " المحيط "، وما ذكروا من قولهم وبالإفراد إذا عجل يعني أسر إلى الشروع [......] بقد قامت وروي عن النخعي أنه قال: أول من أفرد معاوية وقال مجاهد: كانت الإقامة في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثنى مثنى حتى استحقه بعض أمراء الجواز لحاجة.
فإن قلت: أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال «أمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة» وأخرج أبو داود والنسائي وابن حبان عن ابن عمر قال: كان الأذان الحديث ذكرناه الآن وحديث أبي محذورة الذي احتج به الشافعي المذكور آنفا أخرجه الدارقطني في " سننه " وأخرج ابن ماجه عن معمر - بتشديد الميم - ابن محمد بن عبد الله بن أبي رافع حدثني أبي محمد عن أبيه عبد الله قال: «رأيت بلالا يؤذن بين يدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثنى مثنى ويقيم» . وأخرج الدارقطني عن سلمة بن الأكوع قال: «كان الأذان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثنى مثنى والإقامة فرادى» .
وأخرج البيهقي عن محمد بن إسحاق عن عون عن ابن أبي حنيفة عن أبيه قال «كان الأذان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثنى مثنى والإقامة مرة واحدة» .
قلت: قد قلنا أحاديث مشاهير الصحابة مثل ما ذهبنا إليه، فهذا الترمذي روى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد قال: «كان أذان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شفعا شفعا في الأذان والإقامة» وروى أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن محيريز عن أبي محذورة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه الأذان» . وقال النسائي فيه: «ثم عدها أبو محذورة تسع عشرة كلمة» . وقال الترمذي: حديث حسن صحيح ورواه ابن خزيمة في " صحيحه " ولفظه: «فعلمه الأذان والإقامة(2/86)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مثنى مثنى» وكذلك رواه ابن حبان في " صحيحه ".
فإن قلت: قال البيهقي: هذا الحديث عندي غير محفوظ بوجوه أحدها أن مسلما لم يخرجه، ولو كان محفوظا لم يتركه لأن هذا الحديث قد رواه هشام الدستوائي عن عامر الأحول دون ذكر الإقامة كما أخرجه مسلم في " صحيحه ".
والثاني: أن أبا محذورة قد روي عنه خلافه.
والثالث: أن هذا الخبر لم يدم عليه أبو محذورة، ولا أولاده ولو كان هذا حكما ثابتا لما فعل بخلافه.
قلت: عدم تخريج مسلم إياه لا يدل على عدم صحته، لأنه لم يلتزم إخراج كل الصحيح، ويتعين العدد بتسعة عشر وسبعة عشر ينفي الغلط في العدد بخلاف غيره من الروايات لأنه قد يقع فيها اختلاف وإسقاط وأيضا قد وجدت متابعة لهما.
ثم في رواية عن عامر كما أخرجه الطبراني عن سعيد بن أبي عروة عن عامر بن عبد الواحد عن مكحول عن عبد الله بن محيريز عن أبي محذورة قال: «علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة» .
والجواب عن الثالث أن هذا داخل في باب الترجيح لا في باب التضعيف؛ لأن عمدة التصحيح عدالة الراوي وترك العمل بالحديث لوجود ما هو أرجح منه لا يلزم منه ضعفه ألا ترى أن الأحاديث المنسوخة يحكم بصحتها إذا كانت رواتها عدولا ولا يعمل بها لوجود الناسخ، وإذا قال الأمر إلى الترجيح فقد يختلف الناس فيه.
قلت: وله طريق أخرى عند أبي داود أخرجه عن ابن جريج عن عثمان بن السائب وفيه «وعلمني الإقامة مرتين» ثم ذكرها مفسرة، وله طريق آخر عند الطحاوي أخرجه عن شريك بن عبد العزيز بن رفيع قال سمعت أبا محذورة يؤذن مثنى مثنى ويقيم مثنى مثنى.
وقال [في] الإمام عن يحيى بن معين عن عبد العزيز بن رفيع ثقة، وحديث [آخر] أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " أخبرنا معمر عن حماد عن إبراهيم عن الأسود «أن بلالا كان يثني الإقامة(2/87)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكان يبدأ بالتكبير ويختم بالتكبير» . ومن طريق عبد الرزاق رواه الدارقطني في " مصنفه " والطحاوي في " شرح الآثار ".
فإن قلت: قال ابن الجوزي في " التحقيق " والأسود: لم يدرك بلالا.
قلت: قال صاحب " التنقيح ": وفيما قاله نظر.
وقد روى النسائي للأسود عن بلال حديثا. وحديث آخر أخرجه الدارقطني في " سننه " بإسناده إلى بلال «أنه كان يؤذن للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثني مثنى، ويقيم مثنى مثنى» وفيه زياد البكاء وثقه أحمد، وقال أبو زرعة: صدوق واحتج به مسلم.
ويرد بهذا تعليل ابن حبان في كتاب " الضعفاء " هذا الحديث بزياد وأيضا روى الطحاوي من حديث وكيع عن إبراهيم بن إسماعيل عن مجمع بن حارثة عن عبيد مولى سلمة بن الأكوع أن سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يثني الأذان والإقامة. حدثنا محمد عن خزيمة ثنا محمد بن سنان ثنا حماد بن سلمة عن حماد عن إبراهيم قال: كان ثوبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يؤذن مثنى ويقيم مثنى. حدثنا يزيد بن سنان حدثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا فطر بن خليفة عن مجاهد قال: في الإقامة مرة مرة إنما هو شيء أحدثه الأمراء وأن الأصل التثنية.
قلت: قد ظهر لك بهذه الدلائل أن قول النووي في " شرح مسلم ": وقال أبو حنيفة الإقامة سبعة عشرة كلمة. وهذا المذهب شاذ.
قلت: رأيه لا يلتفت إليه، وكيف يكون شاذا مع وجود هذه الأحاديث والأخبار الصحيحة؟
فإن قلت: قول أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بلال الحديث في حكم المرفوع. وقال النووي قول الصحابي أمرنا هكذا ونهينا عن كذا وأمر الناس بكذا ونحوه كلمة مرفوع سواء قال الصحابي ذلك في حياة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو بعد وفاته.
قلت: من الإطلاق هنا وجوه الاحتمالات.
قوله: - سواء - اهـ غير مسلم، لجواز أن يقول الصحابي بعد رسول الله أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا ويكون الآمر والناهي أحد الخلفاء الراشدين.
فإن قلت: حديث أبي محذورة لا يوازي حديث أنس هذا من جهة واحدة، فضلا عن الجهات كلها مع أن الجماعة من الحفاظ ذهبوا إلى أن هذه اللفظة في تثنية الإقامة غير محفوظة، ثم رووا عن طريق أخرى عن عبد الملك بن أبي محذورة أنه سمع أباه أبا محذورة يقول: إن(2/88)
ويترسل في الأذان ويحدر في الإقامة؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لبلال: «إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر» وهذا بيان الاستحباب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمره أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة.
قلت: قد ذكرنا أن الترمذي وابن خزيمة وابن حبان صححوا هذه اللفظة.
فإن قلت: سلمنا أن هذه محفوظة وأن الحديث ثابت، ولكن نقول إنه منسوخ لأن أذان بلال هو آخر الأذانين.
قلت: لا نسلم أنه منسوخ لأن حديث بلال إنما كان في أول ما شرع الأذان كما يدل عليه حديث أنس، وأبي محذورة كان عام حنين وبينهما مدة مديدة.
[ما يسن في الأذان والإقامة]
م: (ويترسل في الأذان) ش: الترسل: ترك التعجيل، يقال ترسل في قرابة إذا لم يعجل، ومنه على رسلك: أي أشد وحقيقة الترسيل طلب الرسل، ومنه الرسل وهي الهينة والسكون.
م: (ويحدر في الإقامة) ش: من الحدر، وهو السرعة وهو من باب نصر ينصر وفي " الفتاوى الظاهرية " الترسل أن يفصل بين كلمتين، والأحرى أن يفصل بينهما ولا يفصل. ولو ترسل فيهما أو حدر فيه أو ترسل في الإقامة وحدر في الأذان جاز لحصول المقصود.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لبلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر» ش: هذا الحديث أخرجه الترمذي عن عبد المنعم بن نعيم ثنا يحيى بن مسلم عن الحسن وعطاء عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال: «إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر، واجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله والشارب من شربه والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته» وأريد المتغوط، قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث عبد المنعم وهو إسناد مجهول وانتهى.
وعبد المنعم هذا ضعفه الدارقطني، وقال أبو حاتم: منكر الحديث جدا لا يجوز الاحتجاج به وأخرجه الحاكم في " مستدركه " عن عمرو بن فائد الأسواري ثنا يحيى بن مسلم به سواء ثم قال: هذا الحديث ليس في إسناده مطعون فيه غير عمرو بن فائد، ولم يخرجاه، قال الذهبي: قال الدارقطني: عمرو بن فائد متروك، وروى أحمد بن عدي «وإذا أقمت فاحذر» بالحاء المهملة وكسر الذال المعجمة أي أسرع قال ابن فارس: كل شيء أسرعت فيه فقد حدرته ولتعلمه أنها الروح والأرواح. وقد روى الأترازي هذا الحديث في شرحه وقال رواه الترمذي وغيره ولم يبين حاله.
م: (وهذا بيان الاستحباب) ش: أي هذا الذي ذكر من ترسل الأذان والحدر في الإقامة بيان(2/89)
ويستقبل بهما القبلة؛ لأن الملك النازل من السماء أذن مستقبل القبلة، ولو ترك الاستقبال جاز؛ لحصول المقصود، ويكره لمخالفة السنة، ويحول وجهه للصلاة والفلاح يمنة ويسرة؛ لأنه خطاب للقوم فيواجههم به،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاستحباب. وفي " الكافي " وسأذكره في المتن مشيرا إلى عدم الكراهة حيث قال: وهذا بيان الاستحباب وفيه نظر.
م: (ويستقبل بهما القبلة) ش: أي بالأذان والإقامة، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن السنة في الأذان استقبال القبلة لأن كل واحد منهما مشتمل على الدعاء والثناء والشهادة بالوحدانية والرسالة، وأحسن أحوال الداعين والذاكرين استقبال القبلة ولأنهما يشبهان الصلاة فيستقبل بهما القبلة كما في الصلاة ويجوز أن يكون التبع مقدما كسنة الظهر وحجاب الملوك.
م: (لأن الملك النازل من السماء أذن مستقبل القبلة) ش: بعده في حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ وقال فيه «فاستقبل القبلة وقال الله أكبر الله أكبر» أخرجه أحمد في " مسنده " وأبو داود في " سننه ". قوله مستقبل القبلة حال من الضمير الذي في أذن.
م: (ولو ترك الاستقبال) ش: أي استقبال القبلة.
م: (جاز لحصول المقصود) ش: وهو الإعلام.
م: (ويكره لمخافة السنة) ش: أراد بالسنة ما روي من حديث الرؤيا الذي تقدم.
م: (ويحول) ش: أي المؤذن وليس بإضمار قبل الذكر للعلم به.
م: (وجهه للصلاة والفلاح) ش: يعني عند قوله حي على الصلاة حي على الفلاح.
م: (يمنة ويسرة) ش: بسكون الميم في يمنة وسكون السين في يسرة وبفتح الأول فيهما، والميمنة خلاف الميسرة وهما منصوبان على الظرفية. وقيل: فيه لف ونشر مرتب وذلك لأن يمنة يرجع إلى حي على الصلاة ويسرة يرجع إلى حي على الفلاح، وقيل كل واحد من الميمنة والميسرة ينصرف إلى الصلاة والفلاح، جميعا بأن يقول حي على الصلاة يمنة ثم يقول يسرة حي على الفلاح يمنة ثم يقول يسرة وقيل الأصح هو الأول.
م: (لأنه خطاب للقوم فيواجههم به) ش: فيه.
فإن قلت: فإن كانت أذان المواجهة للقوم كان ينبغي أن يوجه من كان وراءه م القوم لأنهم يخصون به.
قلت: في ذلك استدار للقبلة والنفي فيه بما يحصل لهم من بلوغ الصوت عند تحويل الوجه يمنة ويسرة. وعن الخلال: لو صلى وحده لا يحول والصحيح أنه تحول لأنه سنة فيؤتى بها على(2/90)
وإن استدار في صومعته فحسن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كل حال، قالوا لو أذن لمولود يؤتى به يحول وجهه يمنة ويسرة كذا في " المحيط " وذكر التمرتاشي أنه لا يحول في الإقامة إلا لأناس ينظرون.
م: (وإن استدار في صومعته فحسن) ش: أي وإن استدار المؤذن في صومعته وهي الموضع العالي على رأس المئذنة يقف فيها المؤذن يؤذن. وقال الأترازي: الصومعة ما على رأس المنارة من المئذنة. قلت الصومعة في الأصل للنصارى والواو فيه زائدة والشيء الدقيق المحدد الرأس يسمى مصمعا، ومنه الصومعة لأنها دقيقة الرأس. وروى حوقلة وقال الأكمل: واستدار في صومعته فهو ظاهر قلت: الظهور من أين أتى والكلام في الاستدارة حسن والحسن يرجع إلى شيء آخر في نفس الأمر.
أما الأول فقد روى الترمذي حدثنا محمود بن غيلان ثنا عبد الرزاق ثنا سفيان الثوري عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: «رأيت بلالا يؤذن ويدور ويتبع فاه هاهنا وأصبعاه في أذنيه» وقال الحديث حسن صحيح.
فإن قلت: روى أبو داود من حديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: «أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة، وهو في قبة حمراء من أدم» . الحديث وفيه «رأيت بلالا خرج إلى الأبطح فأذن، فلما بلغ حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح لوى عنقه يمينا وشمالا ولم يستدر» . وقال البيهقي الاستدارة في الأذان ليست من الطرق الصحيحة في حديث أبي جحيفة ونحن نتوهم بأن سفيان رواه عن حجاج بن أرطاة عن عروة، والحجاج غير محتج به.
وعبد الرزاق وهم فيه، ثم أسند عن عبد الله بن وليد عن سفيان به وليس فيه الاستدارة.
وقد رويناه من حديث قيس بن الربيع عن عون فيه وفيه ولم يستدر قلت: كونه مخرجا في " الصحيح " غير لازم. وقد صححه الترمذي كما ذكرناه وهو أتمه اللسان، وأما نسبة الوهم إلى عبد الرزاق متروك بمتابعة مؤمل إياه، كما أخرجه أبو عوانة في " صحيحه " عن مؤمل عن سفيان به نحوه وتابعه أيضا عبد الرحمن بن مهدي أخرجه أبو نعيم في " مستخرجه " على " كتاب البخاري " وإن توهمه أن سفيان سمع من حجاج بن أرطاة فقد جاء مصرحا به مما أخرجه الطبراني عن يحيى بن آدم عن سفيان عن عروة بن أبي جحيفة عن أبيه قال رأيت بلالا أذن فأصبع فاه هاهنا وهاهنا. وقال يحيى قال سفيان: كان حجاج بن أرطاة يذكر عن عون أنه قال: واستدار في أذانه فلما لقينا عونا لم يذكر فيه واستدار.
وأيضا فقد جاءت الاستدارة من غير جهة الحجاج. أخرجه الطبراني أيضا عن زيد بن عبد الله عن إدريس الأودي عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: «أتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحضرت(2/91)
ومراده إذا لم يستطع تحويل الوجه يمينا وشمالا، مع ثبات قدميه مكانهما كما هو السنة بأن كانت الصومعة متسعة، فأما من غير حاجة فلا،
والأفضل للمؤذن أن يجعل أصبعيه في أذنيه، بذلك أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بلالا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصلاة فقام بلال فأذن وجعل أصبعيه في أذنيه وجعل يستدير» .
وأخرج أبو الشيخ الأصبهاني «أن بلالا أذن لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالبطحاء فجعل فوضع أصبعيه في أذنيه، وجعل يستدير يمينا وشمالا» . وأخرج ابن ماجه بلفظ يخالف عن حجاج بن أرطاة عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال «أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأبطح وهو في قبة حمراء فخرج بلال فأذن فاستدار في أذانه وجعل أصبعيه في أذنيه» . وفي " سنن الدارقطني " من حديث كامل أبي العلاء عن أبي صالح عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أمر أبا محذورة أن يستدير في أذانه» . وأما الكلام في الثاني وهو قوله فحسن يحتمل أن يكون معناه وإن استدار في صومعته، فأذانه أحسن ويحتمل أن يكون معناه فاستدارته وهو أقرب في الوجه.
فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك كان ينبغي أن يقول إن استدار في صومعته فسنة للأحاديث التي ذكرناها.
قلت: لما كان فيه تفصيل على مسائل لم يحسن على أن الحسن من لوازم السنة فذكر اللازم وأراد الملزوم فافهم.
م: (ومراده) ش: أي مراد محمد بن الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الجامع الصغير " في قوله وإن استدار فحسن.
م: (إذا لم يستطع تحويل الوجه يمينا وشمالا مع ثبات قدميه مكانهما) ش: يعني إذا لم يستطع إخراج رأسه من الصومعة بدون الاستدارة مع ثبات قدميه.
م: (كما هو السنة) ش: يعني كما هو تحويل الوجه في الأذان يمينا وشمالا بدون الاستدارة، وعدم الاستدارة يدل على ثبات القدمين ثم بين المصنف اتساع الصومعة بقوله. م: (بأن كانت الصومعة متسعة) ش: لأن عند الاتساع لا يمكن الاستدارة مع ثبات القدمين.
م: (فأما من غير حاجة فلا) ش: أي ما في غير حاجة الاستدارة فلا يكون حسنا وهذا إنما يكون إذا كانت الصومعة صغيرة بحيث يمكن تحويل الوجه وإخراج الرأس فيها يمينا وشمالا مع ثبات القدمين، وبه قال النخعي والأوزاعي وأبو ثور وأحمد في رواية. وقال ابن سيرين يكره الالتفاف، وهو قول الإمام مالك إلا أن يريد إسماع الناس. وعند الحسن والشافعي لا يستدير.
م: (والأفضل للمؤذن أن يجعل أصبعيه في أذنيه، بذلك) ش: أي يجعل أصبعيه في أذنيه.
م: (أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلالا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في " سننه " عن(2/92)
ولأنه أبلغ في الإعلام فإن لم يفعل فحسن؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عبد الرحمن بن سعيد بن عمار بن سعد مؤذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدثني أبي عن أبيه عن جده أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر بلالا أن يجمع أصبعيه في أذنيه وقال: " إنه أرفع لصوتك» وأخرجه الحاكم في " المستدرك " في كتاب الفضائل عن عبد الله بن عمار بن سعد القرظي حدثني أبي عن جدي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر بلالا أن يجعل أصبعيه في أذنيه، وقال: " إنه أرفع لصوتك» مختصرا، وسكت عنه.
وأخرجه الطبراني في " معجمه " من حديث بلال «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له إذا أذنت فاجعل أصبعيك في أذنيك فإنه أرفع لصوتك» . وقال ابن القطان: عبد الرحمن هذا وأبوه وجده كلهم لا يعرف لهم حال. وقال السروجي في " الغاية ": روى ابن حبان «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أمر بلالا أن يجعل أصبعيه في أذنيه» .
قلت: ليس هذا بابن حبان صاحب " الصحيح " وإنما هو ابن حيان بالياء آخر الحروف وهو أبو الشيخ الأصبهاني رواه في كتاب الأذان وأبو حاتم بن حبان بالباء الموحدة صاحب " الصحيح ".
وروى أبو بكر بن خزيمة من حديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: «رأيت بلالا يؤذن وقد جعل أصبعيه في أذنيه» . وروى أبو الشيخ الأصبهاني في " كتاب الأذان " عن زيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد الأنصاري قال: «اهتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأذان بالصلاة» . الحديث وفيه: «حتى إذا كان قبيل الفجر رأيت رجلا عليه ثوبين أخضرين وأنا بين النائم واليقظان فقام على سطح المسجد فجعل أصبعيه في أذنيه ونادى» . الحديث ويزيد بن أبي زياد متكلم فيه.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن جعل أصبعيه في أذنيه.
م: (أبلغ في الإعلام) ش: لأنه أندى لصوته، كما ذكره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه فائدة أخرى وهي أنه إنما لا يسمع صوت الأذان والإقامة لصمم أو لبعد فيستدل بوضع أصبعيه على أذنيه على ذلك وإن جعل يديه على أذنيه فحسن لأن في حديث أبي محذورة ضم أصابعه الأربع ووضعها على أذنيه. ورواه أحمد ومثله عن ابن عمر وحكاه في " المغني ". وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه إن جعل إحدى يديه على أذنيه فحسن.
م: (وإن لم يفعل فحسن) ش: قال صاحب " الدراية " أي الأذان حسن لا ترك الفعل لأنه أمر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلالا فلا يليق به أن يوصف تركه بالحسن لكن لما لم يكن من السنن الأصلية لم يؤثر زواله في زوال حسن الأذان فكان معناه أن الأذان به أحسن ومع تركه حسن، وتبعه الأكمل على ذلك وقال السروجي: إن الأذان بدونه أحسن.(2/93)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال تاج الشريعة قريبا منه، ثم قال: وإنما كان كذلك لأنه ليس من السنن المشهورة في الأذان وهو غير مذكور في حديث الرؤيا وهو السبب الظاهر فشرع الأذان والكل أخذوه من كلام السغناقي وإسناد الحسن إلى الأذان مذكور في " الفوائد الظهيرية " قال الشيخ نظير هذا ما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمار «إن عادوا فعد» أي عادوا إلى الإكراه فعد إلى تخليص نفسك لا لسب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني به يظهر من حيث إن العدول بالضمير عن الظاهر إلى مدلول الظاهر.
وقال الأترازي: ويجوز أن يقال إن الأفضل جعل الإصبعين في الأذنين وذاك يقتضي الفاضل والفاضل حسن، فإذا كان فعله أفضل يكون تركه فاضلا حسنا.
قلت: الكل أخرجوه من الدائرة، لأن التركيب وإن كان غريبا فلا يقتضي معناه هذا لتأويلات بيانه أن قوم لم يفعل فيه ضمير مرفوع يرجع إلى المؤذن ومفعوله محذوف. والتقدير: وإن لم يفعل المؤذن جعل أصبعيه في أذنيه.
وقوله: فحسن جواب الشرط تقديره فهو حسن والمعنى عدم فعله حسن لأن الجزاء يترتب على الشرط، والشرط هنا عدم الفعل. فكيف يكون ذا حسن؟ فيكون نظير ما ذكروا إن لم يفعل خيرا فالماء موجود وهذا في غاية الهجانة.
وقوله من قال لم يكن من السنن الأصلية إلى آخره غير موجه لأن مراد هذا القائل أن السنة على نوعين: سنن أصلية، وسنن فرعية. وهذا لم يقل به أحد بل كما أمر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ فعله سنة أصلية وكيف لا يكون من السنن الأصلية؟ وقد روى جماعة من أهل الحديث أخبارا كثيرة وفيها أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك. وقد ذكرنا نبذة من ذلك.
وقال السروجي: أي الأذان بدونه حسن أيضا غير موجه لأنه كيف يكون بدونه حسنا، وقد أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقل بذلك أحد. وكذلك قول تاج الشريعة: لأنه ليس من السنن المشهورة في الأذان غير سديد، لأنه كيف لا يكون من السنن المشهورة وقد رواه جماعة من الصحابة. وقول السغناقي وأشار الحسن الأذان مذكور في كلام " الفوائد الظهيرية " كلام لا طائل تحته؛ لأن نسبة الحسن إلى الأذان غير مستبعد ولا مستغرب حين ثبت ذلك في " الفوائد الظهيرية ".
ثم قوله: وقال الشيخ إلى آخره كلام واه ولا يخفى ذلك على من له أدن ذوق من أحوال التركيب، وكيف يكون نظير هذا ما قاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن عادوا فعد» ، لأن معناه إن عاد الكفار أي أكثر أهل ما يتكلم بكلمة الكفر فعد إليها، وأنت مطمئن بالإيمان. وتفسره بقوله إن عادوا إلى الإكراه فعد إلى تخليص نفسك تأويل بعيد. ولئن سلمنا أن تقدير الخبر مثل ما قال، ولكنه لا يقدر على تخليص نفسه بالإتيان ما هو أكرهوه به من أي مكان.(2/94)
لأنها ليست بسنة أصلية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقول الأترازي ويجوز أن يقال إلى آخره خارج عن الدائرة بالكلية، لأن الذي ذكره قط لا يقتضي التركيب فكأنه لمح ما قاله من قول المصنف.
والأفضل للمؤذن أن يجعل، وذلك لأن الأفضل أفعل التفضيل وهو يقتضي الفاضل فإذا كان فعله ذاك أفضل كان فاضلا ونحن نقول تركه غير فاضل لأنه مأمور به. فكيف يكون تركه فاضلا ولا مخلص هاهنا إلا أن يقول تقدير التركيب وإن لم يفعل وضع أصبعيه في أذنيه بل وضعهما عليهما فحسن ذلك لأنه روى أحمد في حديث أبي محذورة ضم أصابعه الأربعة ووضعها على أذنيه. وقد ذكرنا هذا فيما مضى، وذكرنا أيضا أن أبا يوسف روى عن أبي حنيفة أنه إن جعل إحدى يديه على أذنيه حسن فهذا يزيل الإشكال.
م: (لأنها ليست بسنة أصلية) ش: أي لأن هذه الفعلة ليست سنة أصلية قال تاج الشريعة، وغيره لأنه لم يذكر في أصل الحديث وهو حديث الرؤيا.
قلت: هذا غير صحيح لأنا قد ذكرنا أن الشيخ الأصبهاني روى حديث عبد الله بن زيد وفيه " فقام على سطح المسجد فجعل أصبعيه في أذنيه ونادى "، وقال الأترازي السنة نوعان: الهدى وتاركها مبتدع فلا يكون تركها حسنا وزائدة وتركها لا يكون بدعة لأن الإنسان ينتقل من تركها وفعلها، وما لا يكون بدعة لا يكون حسنا، وهذا معنى قوله لأنها ليست بسنة أصلية، أي: ليست من سنة الهدى إلى آخره.
قلت: تفسيره قول المصنف لأنها ليست بسنة أصلية. فقوله: أي ليست من سنن الهدى غير صحيح فإذا لم يكن من سنن الهدى يكون فعله بدعة، ولم يقل به أحد لأنه مأمور به في أحاديث وردت به. وكيف يكون اتصافها بأنها ليست من سنن الهدى؟ بل تفسير كلامه هو الذي ذكرناه ثم اعلم أن ما قد ذكرنا في أول الباب أن للأذان تفسير لغة وشرعا، وثبوت، وسبب، ووصف، وكيفية، ومحل شرع فيه ووقت وسنن وفيما يجب على سامعه. أما الوقت للأذان فدخول وقت المكتوبة.
وأما سننه فستة أنواع: نوع يرجع إلى صفة الأذان، ونوع يرجع إلى صفة المؤذن، فالذي يرجع إلى نفس الأذان أن يرتفع المؤذن صوته وجاء في حديث أبي محذورة «ارفع من صوتك ومد من صوتك» وفي حديث عبد الله بن زيد «ألقه على بلال فإنه أندى صوتا منك» ولأن المقصود منه الإعلام وهو أتم فيه ولهذا كان الأفضل أن يؤذن في موضع يكون أسمع للجيران كالمئذنة ونحوها لحديث أبي بردة الأسلمي، قال «من السنة الأذان في المنارة والإقامة في المسجد» . رواه أبو الشيخ الأصبهاني والحافظ أبو القاسم تمام بن محمد الرازي، ولا ينبغي أن يحمل نفسه لأنه يخاف حدوث الفتق والضعف في الصوت قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأبي محذورة أما خشيت أن تفيق(2/95)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مريطا وهو ما بين السرة والعانة، والمريط، بضم الميم وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف يمد ويقصر. وذكر النووي في " شرح المهذب " ويجهر بالإقامة دون الجهر بالأذان، وأن يفصل بين كملتي الأذان بسكتة بخلاف الإقامة.
روى مالك موقوفا قال الجوهري: وعوام الناس يقولون الله أكبر بضم الراء، وكان أبو العباس المبرد: يفتح الراء في الأولى ويسكنها في الثانية فيحركها بالأول لالتقاء الساكنين بقوله تعالى: " أَمِ اللهُ " وذكر ابن بطة عن أبي نعيم النخعي قال ابن شيبان مجزومان كانوا لا يعرفونهما الأذان والإقامة، وحكاه ابن الأنباري: عن أهل اللغة قال: يعني لأهل الكلام بعضه بعض مقدما بل بالإسكان على نية الوقف، لكن يقف في كلمات الأذان حقيقة وفي الإقامة ينوي الوقف.
وفي " المجتبى ": المد في أول التكبير كفر وفي آخره خطأ. ولا بأس بالتطريب في الأذان وهو تحسين الصوت من غير تغيير وإن تغير لحن وإن مد كره، وعن الحلواني: إنما يكره التلحين في الثناء دون الدعاء والفلاح، وإذا كره التلحين في الأذان ففي قراءة القرآن أولى أن يترتب بين كلمات الأذان والإقامة حتى لو قدم البعض على البعض يعيد [......] ، ثم يؤذن وكذا لو ثوب بين الأذان والإقامة في الفجر يظن أنه في الإقامة فأتمها. ثم تذكر قبل الشروع في الصلاة فالأفضل أن يأتي بالإقامة من أولها إلى آخرها، ولو أذن فظنه الإقامة ثم علم بعد الفراغ فالأفضل أن يعيد الأذان وليستقبل الإقامة مراعاة للموالاة، وكذا إذا أخذ في الإقامة فظن أنها الأذان ثم علم يبتدئ بالإقامة فإن علم بعد قوله قد قامت الصلاة أنه في الأذان يتم الأذان ثم يقيم. وفي " المحيط " لو جعل الأذان الإقامة لا يستقبل ولو جعل الإقامة، أذانا استقبل وفي " البدائع " لو غشي عليه في الأذان والإقامة ساعة أو ارتد عن الإسلام - والعياذ بالله - ثم أسلم أو أحدث فذهب وتوضأ ثم جاء فالأفضل هو الاستقبال، ولو أذن ثم ارتد فإن تبادر أعاد وإن لم يبادر اعتدوا به بحصول الإعلام به.
ويكره له أن يتكلم في أذانه وإقامته، لأنه ذكر معظم كالخطبة، قال الأوزاعي: لم نعلم أحدا مقتدى به فعله، ورخص فيه الحسن وعطاء وقتادة وعروة. وروى عن سليمان بن حرب حكى عنه الأثرم أن اليسير من الكلام جائز دون الطويل وعن أحمد إباحته في الأذان دون الإقامة وأبطله الزهري بالكلام وهو ضعيف، ويكره له رد السلام فيه، وقال النووي: يرده وأن يؤذن قائما للجماعة ويكره أذان القاعد. قال صاحب " المحيط " والإسبيجابي والوتري: القيام سنة أذان الجماعة ويكره تركه من غير عذر وبه قال عطاء، وقال الإمام مالك: لم أر أحدا فعله وإن أذن لنفسه فلا بأس بأن يؤذن قاعدا من غير عذر موافقا لسنة الأذان وعدم الحاجة إلى إعلام الناس ولا بأس أن يؤذن راكبا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أذن يا أخا صداء قال وأنا راكب على راحلة فأذنت» رواه(2/96)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الطبراني. وقال ابن المنذر: ثبت أن عمر كان يؤذن على البعير وينزل للإقامة، ويكره في ظاهر الرواية في الحضر أن يؤذن راكبا، وعن أبي يوسف لا بأس به.
ثم المؤذن يختم الإقامة على مكانه ويتمها ماشيا، اختلف المشايخ فيه قال بعضهم يختمها على مكانه سواء كان المؤذن إماما أو غيره، كذا روي عن أبي يوسف وقيل يتمها ماشيا.
وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني فيه إذا بلغ قد قامت الصلاة فهو بالخيار إن شاء مشى وإن شاء وقف إماما كان أو غيره، وبه أخذ أبو الليث وما روي عن أبي يوسف أصح ذكره في " البدائع " ويكره أن يؤذن في مسجدين لأن التنقل بالأذان غير مشروع.
والثاني نافلة وفي " الذخيرة " أذن رجل وأقام آخر إن غاب الأول لا يكره وإن كان حاضرا ويلحقه الوحشة بذلك يكره. وفي " القدوري " إن أذن واحد وأقام آخر فلا بأس به وروي عن أبي حنيفة أنه يكره من غير فصل.
وإن رضي به لا يكره عندنا. وفي " الوبري " الذي أذن أولى بالإقامة والحق له. وإن أقام غيره بإذنه جاز.
فإن قلت: روى الترمذي وابن ماجه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم» .
قلت: في رواته عبد الرحمن الأفريقي ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره. وقال أحمد: لا أكتب حديثه الأفريقي واسم الصدائي يزيد بن الحارث. وقيل زياد نسبة إلى الصدا بضم الصاد وتخفيف الدال المهملتين وبالمد وهو حي من اليمن. وقال الشافعي يستحب أن يكون المؤذن هو الذي يقيم.
[شروط المؤذن] 1
وأما الذي يرجع إلى المؤذن، فهو أن يكون ذكرا بالغا عاقلا صحيحا تقيا عالما بالسنة، ومواقيت الصلاة جهرا بصوت مواظبا على الأذان في الصلوات الخمس ولا يستأجر عليها، ولو فعل لا يستحق الأجرة لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لعثمان بن أبي العاص، «وإن اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وبه قال الأوزاعي وأحمد وابن المنذر. ورخص فيه مالك وبعض الشافعية ولو علموا حاجته فلا بأس بأن يعينوه من غير شرط، ولو قسم القوم لم يجيز ولو فعلوا ذلك ضربوا بينهما حائطا وصار مسجدين، ويشترط أن يكون لكل واحد إمام ومؤذن وإن أذن صبي لا يعقل أو مجنون يعاد، لأنه لم يعتد به كصوت الطير ولا يعاد(2/97)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أذان الصبي العاقل. وعن أبي يوسف عن أبي حنيفة في غير ظاهر الرواية أنه قال: أكره أن يؤذن من لم يحتلم، لأن الناس لا يعتدون بأذانه. وبه قال مالك والثوري، ورخص عطاء والشعبي وابن أبي ليلى فيه ويكره أذان السكران ويستحب إعادته، وكذا يكره أذان الفاسق ولا يعاد وإن اشترط عليه أجرا فهو فاسق.
وفي العبد والأعرابي وولد الزنا والأعمى وغيرهم أحب، ذكره في " الذخيرة " " والبدائع " وفي " المحيط " يكره أذان الأعمى وبه قال الشافعي، وقال النووي لا يصح أذان الأعمى عند أبي حنيفة وداود ومالك والشافعي.
قلت: نقله عن أبي حنيفة غير صحيح.
فإن قلت: ابن أم مكتوم أحد مؤذني الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان أعمى.
قلت: هو كان يعرف الوقت بأذان بلال لأنه كان إذا نزل بلال صعد هو. وأما الذي يرجع إلى سامعه فهو أنه يجب عليه الإجابة. قال بعضهم: الإجابة بالقدم لا باللسان، وهو المشي إلى المسجد ولو كان حاضرا في المسجد حين سمع الأذان فليس عليه إجابة، فإن قال ما يقوله نال الثواب، وإن لم يقله فلا إثم عليه ولا يكره له ذلك.
[ما يستحب لمن سمع الأذان] 1
وفي " قاضي خان " يستحب لمن سمع الأذان أن يقول كما يقول المؤذن وفيه وفي " الذخيرة " إلا عند قوله حي على الصلاة حي على الفلاح، فإنه يقول عند هاتين الكلمتين لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ومكان قوله حي على الفلاح ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وعند قوله الصلاة خير من النوم، صدقت وبررت.
وجه الوجوب قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا سمعتم الأذان فقولوا مثل ما يقول المؤذن» رواه الجماعة من حديث أبي سعيد الخدري، وعن معاوية مثله إلى قوله أشهد أن محمدًا رسول الله وإذا قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله رواه البخاري.
وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «إذا سمعتم الأذان» مثل رواية معاوية رواه مسلم وحديث عمرو ومعاوية تفسير حديث الخدري وبه قال مالك والشافعي. ومنهم من قال: يقول في الكل مثل ما يقول المؤذن منهم الخرقي، وروى غيره أن أحمد معنا.
وقيل: يجمع بينهما للحديثين، ولو سمعه في الصلاة قال مالك يقول مثل قوله في التكبير والشهادتين في النافلة دون الفريضة. وهو قول الليث وقال سحنون لا يقوله في فريضة ولا نافلة، وهو قول الشافعي. وروى أبو مصعب عن مالك يقوله فيهما. وقال الطحاوي عن(2/98)
والتثويب في الفجر: حي على الصلاة حي على الفلاح مرتين بين الأذان والإقامة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أصحابنا ما يدل على أنه لا يقوله المصلي لأن كلامه يحرم في الفريضة والنافلة، وفي " المنية " إجابة المؤذن بعد الصلاة، ووجه الاستحباب رواية عبد الله بن منصور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال «كنا نسمع مناد يقول الله أكبر، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الفطرة فقال أشهد أن لا إله إلا الله فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج من النار فابتدرناه فإذا هو صاحب ماشية أدركته الصلاة فصلى» .
قال الطحاوي: فهذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع المنادي فأجاب غير ما قال فدل على أن الأمر للاستحباب وإصابة الفضل ويستحب له أن يتابع المؤذن في ألفاظ الإقامة إلا في الحيعلة وفي كلمة قد قامت الصلاة يقول أقامها الله وأدامها وفي " المفيد " ما دامت السماوات والأرض وفي حديث شهر بن حوشب عن أبي أمامة أو بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقامها وأدامها.
وقال في باب الإقامة بنحو حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الأذان، رواه أبو داود. والمتابعة لكل سامع من محدث وجنب وحائض وكبير وكذا الصغير على وجه الاستحباب لأنه ذكر. وكذا في الطواف ويستثنى منه المصلي ومن هو على الخلاء والجماع. وفي " المحيط " " والبدائع " لا ينبغي للسامع أن يتكلم في حال الأذان ويشتغل بالاستماع والإجابة. وفي " المرغيناني " لو كان يقرأ القرآن في المسجد لا يقطع ويقطع في بيته ولا يرد السلام. وفي " الخطبة" يرد سرا وجواب العطسة يكون سرا.
ولو سمع مؤذنا بعد مؤذن قال النووي لم أر فيه شيئا لأصحابنا، قال: والمختار أن يقال: يخص الأول، قلنا زيادة الفضل والثواب في المبالغة لا يختص.
[التثويب في أذان الفجر]
م: (والتثويب في الفجر) ش: أي التثويب في صلاة الفجر، وهو مبتدأ والتثويب في اللغة: الرجوع، ومنه الثواب لأنه منفعة عمله يعود إليه وهو عود إلى الإعلام بعد الإعلام، وتفسيره عند المصنف أن يقول المؤذن.
م: (حي على الصلاة حي على الفلاح مرتين بين الأذان والإقامة) ش: هذا الذي ذكر محمد في " الجامع الصغير " عن يعقوب عن أبي حنيفة، وهذا التثويب محدث أحدثه علماء الكوفة بعد عهد الصحابة لظهور التواني وتغير أحوال الناس ولم يبين التثويب القديم. وفي الأصل كان التثويب في صلاة الفجر بعد الأذان الصلاة خير من النوم مرتين.
وفي " المحيط " روي عن أبي حنيفة هكذا. وقال الطحاوي: التثويب القديم للشافعي والمسألة فيما يفتي على القديم وبه قال مالك وأحمد. وقال الشافعي في الجديد: أنه بين الأذان والإقامة، وهو المروي عن أبي حنيفة ومحمد. وعن أبي حنيفة قوله الصلاة خير من النوم بعد الأذان لما فيه وهو اختيار أبي بكر بن الفضل البخاري. وفي رواية البخاري عن أصحابنا أنه في الأذان، وكذلك عن الطحاوي لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ما أحسن هذا، اجعله في أذانك» .(2/99)
حسن؛ لأنه وقت نوم وغفلة، وكره في سائر الصلوات، ومعناه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال فخر الإسلام البزدوي: الصحيح أنه كان بعد الأذان.
م: (حسن) ش: خبر المبتدأ، أعني قوله والتثويب.
فإن قلت: هذا الذي ذكره محدث كما قلنا وكيف سمي حسنا؟ قلت: لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» .
م: (وكره) ش: أي التثويب بين الأذان والإقامة.
م: (في سائر الصلوات) ش: وقال الأترازي: لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لبلال «ثوب في الفجر، ولا تثوب في العشاء» .
قلت: هذا الحديث لم يرد على هذا الوصف ومع هذا هو لا يصلح دليلا إلا لترك التثويب في العشاء فقط فكيف يستدل بهذا على ترك التثويب في الظهر والعصر والمغرب؟ والذي ورد فيه حديثان ضعيفان:
أحدهما: للترمذي وابن ماجه عن أبي إسرائيل عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال قال: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا أثوب في شيء من الصلاة إلا في صلاة الفجر» .
قال الترمذي: هذا الحديث لا نعرفه إلا من حديث أبي إسرائيل الملائي وليس بالقوي، ولم يسمعه من الحكم، إنما رواه عن الحسن بن عمارة عن الحكم.
والثاني أخرجه البيهقي عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال قال: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا أثوب إلا في الفجر» . قال البيهقي: وعبد الرحمن لم يلق بلالا وقال ابن السكن: لا يصح إسناده. ورواه الدارقطني من طرق أخرى عن عبد الرحمن وفيه أبو سعيد البقال وهو ضعيف. وفي " المبسوط " روى أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى مؤذنا يثوب للعشاء فقال: أخرجوا هذا المبتدع من المسجد.
وقال مجاهد: دخلت مع ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مسجدا فصلى الظهر فسمع المؤذن يثوب فغضب وقال: قم حتى تخرج من هذا الموضع هذا المبتدع، وما كان التثويب على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا في صلاة الفجر. وفي " الحلية " ولا يستحب في قول الشافعي في غير أذان الصبح.
م: (ومعناه) : أي معنى التثويب.(2/100)
العود إلى الإعلام بعد الإعلام، وهو على حسب ما تعارفوه، وهذا التثويب أحدثه علماء الكوفة بعد عهد الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لتغير أحوال الناس،
وخصوا الفجر به لما ذكرنا، والمتأخرون استحسنوه في الصلوات كلها لظهور التواني في الأمور الدينية. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا أرى بأسا أن يقول المؤذن للأمير في الصلوات كلها: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، حي على الصلاة حي على الفلاح، الصلاة يرحمك الله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (العود إلى الإعلام بعد الإعلام) ش: وهذا معناه الشرعي، وفي اللغة التثويب الرجوع مطلقا كما ذكرناه.
م: (وهو) ش: أي التثويب م: (على حسب ما تعارفوه) ش: أي ما تعارفه أهل كل بلدة من التنحنح، أو قوله الصلاة، الصلاة أو قوله قامت قامت لأنه للمبالغة في الإعلام وإنما يحصل ذلك بما تعارفوه.
م: (وهذا التثويب) ش: إشارة إلى قوله والتثويب في الفجر حي على الصلاة حي على الفلاح مرتين الأذان والإقامة م: (والتثويب أحدثه علماء الكوفة بعد عهد الصحابة) ش: أي بعد زمانهم م: (لتغير أحول الناس) ش: وهو توانيهم وكسلهم في باب العبادة.
م: (وخصوا الفجر به) ش: أي خص علماء الكوفة الفجر به التثويب، يعني لم يثوبوا إلا في الفجر خاصة.
م: (لما ذكرنا) ش: وهو قوله لأنه وقت نوم وغفلة.
م: (والمتأخرون استحسنوه) ش: أي العلماء المتأخرون استحسنوا التثويب م: (في الصلوات كلها لظهور التواني في الأمور الدينية) ش: فعلى هذا استحباب المتأخرين أحداثا بعد أحداث وفي " جامع البرهاني " ترك سائر الأوقات في زماننا بتركه وقت الفجر في زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: استحسان المتأخرين التثويب في كل الصلوات ليس بلفظ معين، ولا شرطوا غير ذلك اللفظ، بل ما ذكروا متعارف. وفي " شرح مختصر الكرخي " للقدوري ويثوب وهو قائم كالأذان في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. قال الحسن: وفيه قول يسكت بعد الأذان ساعة ثم يقول حي على الصلاة حي على الفلاح وبه نأخذ، وإن صلوا ركعتي الفجر بين الأذان والتثويب فلا بأس به.
وفي قول أبي حنيفة: وقال ابن شجاع عن أبي حنيفة التثويب الأول في نفس هذا الأذان وهو الصلاة خير من النوم مرتين. والثاني: فيما بين الأذان والإقامة.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا أرى بأسا أن يقول المؤذن للأمير في الصلوات كلها السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، حي على الصلاة حي على الفلاح، الصلاة يرحمك الله) ش: قول(2/101)
واستبعده محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الناس سواسية في أمر الجماعة، وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خصهم بذلك، لزيادة اشتغالهم بأمور المسلمين، كيلا تفوتهم الجماعة، وعلى هذا القاضي والمفتي،
ويجلس بين الأذان والإقامة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبي يوسف هذا متعلق بالتثويب المحدث في سائر الصلوات بزيادة اختصاص بمن يكون مشتغلا بأمور المسلمين قال السرخسي والقدوري: عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لما كثر اشتغاله نصب من يحفظ عليه صلاته. وفي " جامع قاضي خان " ما قاله أبو يوسف في أمراء زمانه لا في أمراء زماننا، لأنهم مشغولون بالظلم لا بأمور المسلمين.
م: (واستبعده محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي استبعد محمد ما قاله أبو يوسف حتى قال: أنى لأبي يوسف، حيث خص الأمر بالتثويب والذكر ومال إليه. وقيل: إنما استبعده محمد لما بينهما من الوحشة، ويؤيده ما قال في " الجامع الصغير " محمد عن يعقوب ولم يقل عن أبي يوسف، ولكن لا يظن أنه لقي الله وهو كما قال بل تاب ورجع، والبشر لا يخلو عن هذه الحالات كذا في " الحميدية ".
م: (لأن الناس سواسية في أمر الجماعة) ش: أي متساوون في أمر الجماعة فلا يختص به الأمراء، وفي " المغرب " يقول هم سواسية أي سواء وهما سيان أي مثلان. وفي " الصحاح " هم سواء فلا يختص به الأمراء. وفي الجمع وأسواء وسواسية أي أشباه مثل ثمانية على غير قياس، وتقول هما في هذا الأمر سوى وإن شئت تقول أسواء وهم سوان للجميع وهم سواسية.
م: (وأبو يوسف خصهم بذلك) ش: هذا اعتذار من جهة أبي يوسف، يعني تخصيصه الأمراء بذلك أي يقول المؤذن السلام عليك أيها الأمير إلى آخره.
م: (لزيادة اشتغالهم بأمور المسلمين كيلا تفوتهم الجماعة) ش: أي الصلاة بالجماعة. وإنما قيد بقوله بأمور المسلمين لأن الأمراء المشتغلين باللهو والطرب، لا يثوب لهم إلا على وجه الأمر بالمعروف والنصيحة.
م: (وعلى هذا) ش: أي عل ما ذكره أبو يوسف من زيادة اشتغال الأمراء بأمور المسلمين م: (القاضي والمفتي) ش: لأنهما مشغولان بأمور المسلمين، القاضي: بفصل الأحكام والمفتي بكتابة الفتاوى والمراجعة إلى الكتب يثوب لهم كيلا تفوتهم الجماعة.
[الفصل بين الأذان والإقامة]
م: (ويجلس) ش: أي المؤذن م: (بين الأذان والإقامة) ش: أراد أن الوصل بينهما مكروه لأن المقصود بالأذان إعلام الناس بدخول الوقت ليتأهبوا للصلاة بالطهارة فيحضروا المسجد لإقامة الصلاة، وبالوصل ينتفي هذا المقصود.
وذكر التمرتاشي في " جامعه " أنه يقعد مقدار ركعتين أو أربع أو مقدار ما يفرغ الآكل من(2/102)
إلا في المغرب، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: يجلس في المغرب أيضا جلسة خفيفة؛
لأنه لا بد من الفصل، إذ الوصل مكروه، ولا يقع الفصل بالسكتة لوجودها بين كلمات الأذان، فيفصل بالجلسة كما بين الخطبتين، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن التأخير مكروه، فيكتفي بأدنى الفصل احترازا عنه، والمكان في مسألتنا مختلف، وكذا النغمة، فيقع الفصل بالسكتة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أكله، والشارب من شربه، والحاقن من قضاء حاجته. وقيل " مقدار ما يقرأ عشر آيات ثم يثوب ثم يقيم كذا في " المجتبى ".
وفي " شرح الطحاوي " يفصل بين الأذان والإقامة مقدار ركعتين أو أربع، يقرأ في كل ركعة نحو عشر آيات وينظر المؤذن للناس ويقيم للضعيف المستعجل، ولا ينظر رئيس المحلة، ولا كبيرها، ولا يؤذن إلا في فناء المسجد وناحيته.
م: (إلا في المغرب) ش: يعني لا يفصل بين الأذان والإقامة في وقت صلاة المغرب لأن تأخيرها مكروه م: (وهذا عند أبي حنيفة) ش: أي استثناء المغرب عند أبي حنيفة م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد. م: (يجلس في المغرب أيضا جلسة خفيفة) ش: وهي مقدار الجلسة بين الخطبة.
م: (لأنه لا بد من الفصل إذ الوصل مكروه) ش: اتفاقا. م: (ولا يقع الفصل بالسكتة لوجودها بين كلمات الأذان فيفصل بالجلسة كما بين الخطبتين) ش: وحاصل المذهب أن العلماء اتفقوا على أنه لا يفصل الإقامة بالأذان، بل يفصل بينهما لكنهم اختلفوا في مقدار الفصل. فعند أبي حنيفة المستحب أن يفصل بينهما بسكتة يسكت قائما ساعة ثم يقيم، ومقدار السكتة عنده قدر ما يتمكن فيه بقراءة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة. وروي عنه مقدار ما يخطو ثلاث خطوات. وعندهما يفصل بينهما بجلسة خفيفة مقدار الجلسة بين الخطبتين. وذكر الإمام الحلوائي الخلاف في الأفضلية حتى عند أبي حنيفة إن جلس جاز فالأفضل أن لا يجلس، وعندهما على العكس ذكره الإمام التمرتاشي.
م: (ولأبي حنيفة أن التأخير مكروه) ش: أي تأخير صلاة المغرب مكروه بلا خلاف. م: (فيكتفي بأدنى الفصل) ش: بين الأذان والإقامة وحده ما ذكرناه عن قريب. م: (احترازا عنه) ش: أي عن التأخير المكروه واحترازا منصوب على أنه مفعول مطلق بتقدير احتراز احترازا ونحو ذلك.
م: (والمكان في مسألتنا مختلف) ش: هذا جواب من جهة أبي حنيفة عن قولهما في الفصل بين الأذان والإقامة مقدار الجلسة بين الخطبتين، وتقديره أن القياس غير صحيح لأن المكان أي مكان الأذان والإقامة فيما نحن فيه، وهو معنى قوله في مسألتنا مختلف بكسر اللام، لأن مكان الأذان غير مكان الإقامة والمكان بين الخطبتين متحد فلا يقاس عليه.
م: (وكذا النغمة) ش: وهي الترسيل في الأذان والحدر في الإقامة شيئان مختلفان. م: (فيقع الفصل) ش: أي إذا كان الأمر كذلك فيقع الفصل بينهما م: (بالسكتة) ش: لوقوعها بين شيئين(2/103)
ولا كذلك الخطبة. وقال الشافعي: يفصل بركعتين اعتبارا بسائر الصلوات،
والفرق قد ذكرناه. قال يعقوب:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مختلفين. م: (ولا كذلك الخبطة) ش: لأن مكانها متحد فلا يقع الفصل بين الخطبتين بمجرد السكتة لأنها توجد بين كلماتها أيضا فلا بد من الجلسة.
م: (وقال الشافعي: يفصل بركعتين) ش: أي يفصل بين الأذان والإقامة بصلاة ركعتين.
م: (اعتبارا بسائر الصلوات) ش: أي قياسا عليها، ومذهب الشافعي ما ذكره النووي فإنه قال: ويستحب أن يفصل بين أذان المغرب وإقامتها فصلا يسيرا بقعدة أو سكوت أو نحوها، هذا لا خلاف فيه عندنا. ونقل المصنف عن الشافعي ما ذكره فيه نظر.
فإن قلت: ما مقدار الفصل بين الأذان والإقامة في سائر الصلوات غير المغرب.
قلت: لم يذكر في ظاهر الرواية مقدار الفصل. وروى الحسن عن أبي حنيفة في الفجر مقدار عشرين آية، وفي الظهر مقدار ما يصلح أربع ركعات يقرأ في كل ركعة قدر عشر آيات وفي العصر مقدار ركعتين يقرأ فيهما عشرين آية، والعشاء كالظهر. وإن لم يصل يجلس مقدار ذلك، وهذا ليس بتقدير لازم فينبغي أن يؤخر الإقامة مقدار ما يحضر القوم مع مراعاة الوقت المستحب. وروى محمد بن حبان الأصبهاني بسنده عن أبي هريرة أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال لبلال: «اجعل بين أذانك وإقامتك وقتا بقدر ما يفرغ المتوضئ من وضوئه في مهل والمتعشي من عشائه» .
م: (والفرق قد ذكرناه) ش: هذا إشارة إلى قوله أن التأخير مكروه بخلاف سائر الصلوات فإن التأخير فيها ليس بمكروه، والاشتغال بالركعتين يؤدي إلى التأخير فلذلك لا يفصل بينهما.
وعن هذا قلنا أيضا ويتنفل بعد الغروب قبل الفرض لما فيه من تأخير المغرب. وذكر الإمام المحبوبي والمراد من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بين كل أذانين صلاة ما سوى المغرب.
قلت: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن عبد الله بن المغفل قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بين كل أذان صلاة قال في الثالثة: لمن شاء» . وفي لفظ البخاري: «صلوا قبل المغرب ثم قال: صلوا قبل المغرب، ثم قال في الثالثة: لمن شاء» كراهة أن يتخذها الناس سنة وليس فيه هذا المغرب. والذي فيه إلا المغرب رواه الدارقطني ثم البيهقي في " سننهما " عن ابن حبان بن عبد الله العدوي ثنا عبد الله بن بريدة قال: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن عند كل أذانين ركعتين إلا المغرب» . ورواه البزار في " مسنده "، فقال: لا نعلم رواه عن ابن بريدة إلا حبان بن عبد الله، وهو رجل مشهور من أهل البصرة لا بأس به. وذكر ابن الجوزي هذا الحديث في " الموضوعات " ونقل سفيان القلاس أنه قال كان حبان هذا كذابا.
م: (قال يعقوب) ش: هو أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن بحير بن(2/104)
رأيت أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يؤذن في المغرب ويقيم، ولا يجلس بين الأذان والإقامة، وهذا يفيد ما قلناه، وأن المستحب كون المؤذن عالما بالسنة لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ويؤذن لكم خياركم» ، ويؤذن للفائتة، ويقيم، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قضى الفجر غداة ليلة التعريس بأذان وإقامة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
معاوية البجلي، وأم سعد حبتة بنت مالك من بني عمرو بن عوف، وسعد بن حبتة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإنما ذكر أبا يوسف باسمه دون كنيته لأنه ذكر محمد في " الجامع الصغير " كذلك حتى لا يتوهم التسوية في التعظيم بين الشيخين بذكر أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (رأيت أبا حنيفة يؤذن في المغرب ويقيم، ولا يجلس بين الأذان والإقامة، وهذا يفيد ما قلناه) ش: أي يفيد ما رواه عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من عدم جلوسه في أذان المغرب ما قلنا، وهو أن لا جلوس عنده في أذان المغرب.
م: (وأن المستحب) ش: ويفيد أيضا أن المستحب م: (كون المؤذن عالما بالسنة) ش: أي بأحكام الشرع. م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ويؤذن لكم خياركم» ش: هذا الحديث رواه أبو داود وابن ماجه من حديث حسين بن عيسى عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم أقرؤكم» . وفي " الإمام " وروى إبراهيم بن أبي يحيى عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «لا يؤذن لكم غلام حتى يحتلم وليؤذن لكم خياركم» . ولم يعزه. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " لو أطيق الأذان مع الخليفي لأذنت " والخليفي: الخلافة، وذكره في " الفائق " " والمغربين "، قوله خياركم من كان عالما بأحكام الشرع.
م: (ويؤذن للفائتة ويقيم) ش: يعني إذا فاتته صلاة وأراد أن يقضيها يؤذن ويقيم.
م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قضى الفجر غداة ليلة التعريس بأذان وإقامة) ش: وروى هذا الحديث أبو هريرة وعمران بن حصين وعمرو بن أمية الضميري وذو مخبر وعبد الله بن مسعود وبلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فحديث أبي هريرة رواه أبو داود في " سننه " حدثنا موسى بن إسماعيل [ثنا أبان] ثنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة في هذا الخبر يعني قصة التعريس قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحولوا من مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة» قال: فأمر بلالا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأذن وأقام وصلى. وحديث عمران [بن حصين] رواه أبو داود أيضا، وفيه «ثم أمر(2/105)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مؤذنا فأذن وصلى ركعتين قبل الفجر ثم أقام فصلى الفجر» وحديث عمرو بن أمية رواه أبو داود أيضا وفيه «ثم أمر بلالا فأذان ثم توضئوا وصلوا ركعتي الفجر، ثم أمر بلالا فأقام الصلاة وصلى بهم صلاة الصبح» . وحديث ذي مخبر رواه أبو داود أيضا وفيه «ثم أمر بلالا فأذن ثم قام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فركع ركعتين غير عجل، ثم قال لبلال: " أقم الصلاة " ثم صلى وهو غير عجل» . وحديث ابن مسعود رواه ابن حبان في " صحيحه " وفيه «ثم أمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى بنا» . وحديث بلال رواه البزار في " مسنده " عن بلال «أنهم ناموا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر حتى طلعت الشمس فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قاموا بلالا فأذن، ثم صلى ركعتين، ثم أقام بلال فصلى بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الفجر بعدما طلعت الشمس» .
فهذه الأحاديث كلها تدل صريحا على الأذان والإقامة معا. واستشهد الأترازي في " شرحه " بحديث أبي قتادة، وكذلك الأكمل في شرحه أخرجه البخاري، وفيه: «قم يا بلال فأذن بالصلاة " فتوضأ، فلما ارتفعت الشمس وأضاءت: قام فصلى بالناس جماعة» قلت: وليس فيه إلا الأذان واستشهادهما به غير واف.
فإن قلت: قد جاء في حديث أخرجه النسائي يدل على الاقتصار على الإقامة وهو ما رواه عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال «شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس فأنزل الله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] (الأحزاب: الآية 25) ، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلالا فأقام لصلاة الظهر، فصلاها كما كان يصليها لوقتها، ثم أقام العصر فصلاها كما يصليها لوقتها» .
قلت: هذه لا يمنع الأذان، لجواز أن يكون قد اقتصر على بعضهم، والزيادة أولى بالقبول. وفيه إشارة إلى الأذان حيث قال كما كان يصليها لوقتها، وصلاته - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لوقتها بالأذان والإقامة لكل صلاة.
ثم اعلم أن - التعريس - هو النزول في آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة، يقال منه عرس تعريسا، ويقال فيه أعرس، والمعرس بفتح الراء موضع التعريس.
فإن قلت: هذه القصة أين وقعت [وهل] وقعت مرة أو أكثر.
قلت: أخرج مسلم من حديث أبي هريرة ما يدل على أن القصة كانت بخيبر، وبذلك صرح ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي، وقالوا إن ذلك كان حين قفل من خيبر، وقال ابن(2/106)
وهو حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اكتفائه بالإقامة، فإن فاتته صلوات أذن للأولى وأقام، لما روينا وكان مخيرا في الباقي؛ إن شاء أذن وأقام، ليكون القضاء على حسب الأداء، وإن شاء اقتصر على الإقامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عبد البر هو الصحيح. وقيل مرجعه من حنين. وفي حديث ابن مسعود أن ذلك كان عام الحديبية. وفي حديث عطاء بن يسار أن ذلك في غزوة تبوك. قال ابن عبد البر: حسبه وهما، قال الأصل لم يعرض ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا مرة. وقال ابن الحصاد: هي ثلاث نوازل مختلفة.
م: (وهو حجة على الشافعي في اكتفائه بالإقامة) ش: أي الحديث المذكور الذي فيه قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأذان وإقامة حجة عليه فيما ذهب إليه.
فإن قلت: فللشافعي أن يستدل بما رواه النسائي الذي فيه الاكتفاء بالإقامة، وقد ذكرناه آنفا.
قلت: قد مر في حديث الصحابة المذكورة من ذكر الأذان والإقامة والعمل بالزيادة أولى.
والجواب عن حديث النسائي قد ذكرناه آنفا. وقال الأكمل: لا يقال قد روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلالا فأقام بدون ذكر الأذان، لأنا نقول العمل بالزيادة أولى لأن القصة واحدة وفيه نظر، لأن ذلك إنما يكون إذا كان راويهما واحد، ولم يثبت هاهنا ذلك.
والجواب: أن الراوي إذا كان متعددا إنما يعمل بالخبرين إذا كان يمكن العمل بهما، وهاهنا لا يمكن ذلك لكون القصة واحدة.
قلت: كون القصة واحدة غير صحيح لأن القصة متعددة كما ذكرنا آنفا.
قوله: وفيه نظر لأن أحدا لم يشترط في العمل بالزيادة عند اتحاد الراوي، بل الزيادة مقبولة إذا ثبت سواء كان الراوي واحدا أو متعددا.
م: (فإن فاتته صلاة أذن للأولى، وأقام لما روينا) ش: أشار به إلى الحديث الذي فيه قضاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الفجر غداة ليلة التعريس بأذان وإقامة. م: (وكان مخيرا في الباقي إن شاء أذن وأقام) ش: يعني إن شاء أذن وأقام لكل صلاة من الفوائت. م: (ليكون القضاء على حسب الأداء) ش: لأن القضاء على الأداء.
م: (وإن شاء اقتصر على الإقامة) ش: لما روى الترمذي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاتته يوم الخندق أربع صلوات حتى ذهب ما شاء الله من الليل، فأمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العشاء» .(2/107)
لأن الأذان للاستحضار وهم حضور.
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقيم لما بعدها ولا يؤذن، قالوا: يجوز أن يكون هذا قولهم جميعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك فالتخيير من أين؟
قلت: جاء في رواية فصلى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بأذان وإقامة. وفي رواية بأذان وإقامة للأول وإقامة لكل واحد من البواقي. وقال: الاختلاف خيرنا في ذلك.
فإن قلت: إذا كان الرفق متعينا في أحد الجانبين لا يخير بينهما، كما في قصر صلاة المسافر، وهاهنا الرفق متعين في الإقامة، فكيف يبقى التخيير؟
قلت: فإن ذلك في الواجب لا في السنن والتطوعات.
م: (لأن الأذان للاستحضار) ش: أي لاستحضار القوم إلى الصلاة بالجماعة. م: (وهم حضور) ش: أي والحال أنهم حاضرون فلا يحتاجون إلى الإعلام.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي قال المصنف. م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقيم لما بعدها) ش: أي من غير اختيار الجمع بينهما وبين إفراد الإقامة.
وفي " التحفة " وروي في غير رواية الأصول عن محمد: إذا فاتت صلوات يقضي الأول بأذان وإقامة والثاني بالإقامة لا الأذان.
م: (قالوا: يجوز أن يكون هذا قولهم جميعا) ش: أي قال المشايخ عن أبي بكر الرازي: يجوز أن يكون ما قاله محمد قولهم جميعا. والمذكور في الكتاب محمول على الصلاة الواحدة فيرتفع الخلاف بين أصحابنا.
وقال الشافعي في " الإمام ": يقيم لهما ولا يؤذن وفي القديم يؤذن للأول ويقيم ويكفي في البواقي على الإقامة وبه قال أبو ثور.
وقال النووي في " شرح المهذب " يقيم لواحدة بلا خلاف، ولا يؤذن لغير الأولى منهن، وفي الأولى ثلاثة أقوال: في الأذان أصحها أنه يؤذن ولا يعتبر تصحيح الرافعي منع الأذان والإقامة، الأول: مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور.
وقال ابن بطال: لم يذكر الأذان في الأول عن مالك والشافعي والأول قال أبو حامد.
وقال الثوري والأوزاعي وإسحاق: لا يؤذن لفائتة. وفي " البدائع " للشافعي قولان في قوله يصلي بغير أذان وإقامة.
قلت: هذا لا يصح عنده. وفي قول يقضي بالإقامة لا غير ولو صلى الرجل في بيته وحده فاكتفى بأذان الناس وإقامتهم جاز، وإن أقام فحسن، ذكره في الأصل.(2/108)
وينبغي أن يؤذن ويقيم على طهر، فإن أذن على غير وضوء جاز؛ لأنه ذكر وليس بصلاة، فكان الوضوء فيه استحبابا كما في القراءة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروي عن ابن مسعود أنه صلى بعلقمة والأسود بغير أذان ولا إقامة وقال يكفينا أذان الحي وإقامتهم.
وروي أبو يوسف عن أبي حنيفة في قوم صلوا في المصر في المنزل أو في مسجد منزل فأخبروا بأذان الناس وإقامتهم أجزأهم وقد أساءوا في تركهما. هذا في المقيمين، وأما المسافرون فالأفضل لهم أن يؤذنوا ويقيموا ويصلوا بالجماعة إذ السفر لا يسقط الجماعة فلا يسقط ما هو من لوازمها ولا يكره لهم ترك الإقامة.
والمسافر وحده لو ترك الإقامة يكره له. والمقيم لو تركها لا يكره لأن المقيم قد وجد الأذان في حقه والمسافر لم يوجد في حقه شيء من ذلك لأنه عزر في ترك الأذان دون الإقامة.
وفي " المغني " الذي يصلي في بيته يجزئه أذان المصر وإقامتها، وبه قال الشعبي والنخعي وعكرمة ومجاهد والأسود وأحمد. وقال ميمون تكفيه الإقامة. وهو قول مالك والأوزاعي وسعيد بن جبير.
وعند الشافعي يؤذن على المنصوص. ولو صلى في مسجد بأذان وإقامة لا يكره لأهله أن يعيدهما، وعند الشافعي لا يكره إن كان مسجدا ليس له أهل بأن كان على شوارع الطريق لا يكره له تكرار الأذان والإقامة فيه. وفي " المجتبى " قوم ذكروا فساد صلاتهم في المسجد في الوقت قضوها بجماعة فيه لا يعيدون الأذان والإقامة، وإن قضوها بعد الوقت في ذلك المسجد بأذان وإقامة.
[ما ينبغي للمؤذن والمقيم]
م: (وينبغي أن يؤذن ويقيم على طهر) ش: لأن الأذان والإقامة ذكر شريف فيستحب الطهارة.
م: (فإن أذان على غير وضوء جاز) ش: وبه قال الشافعي وأحمد وعامة أهل العلم. وعن مالك أن الطهارة شرط في الإقامة دون الأذان. وقال الأوزاعي وعطاء وبعض أصحاب الشافعي يشترط فيهما.
م: (لأنه ذكر وليس بصلاة فكان الوضوء فيه استحبابا كما في القراءة) ش: أي لأن الأذان ذكر فكان الوضوء فيه مستحبا كما في قراءة القرآن. ولا شك أن القراءة أفضل من الأذان فإذا جاز بلا طهارة فالأذان أولى.
قوله - استحبابا - بمعنى مستحبا، وذكر المصدر وإرادة الفاعل والمفعول من باب المبالغة.
فإن قلت: روى الترمذي من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:(2/109)
ويكره أن يقيم على غير وضوء؛ لما فيه من الفصل بين الإقامة والصلاة. ويروى: أنه لا تكره الإقامة أيضا، لأنه أحد الأذانين، ويروى: أنه يكره الأذان أيضا، لأنه يصير داعيا إلى ما لا يجيب بنفسه. ويكره أن يؤذن وهو جنب، رواية واحدة، ووجه الفرق على إحدى الروايتين أن للأذان شبها بالصلاة، فتشترط الطهارة عن أغلظ الحدثين لا دون أخفهما؛ عملا بالشبهين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
«لا يؤذن إلى متوضئ» .
قلت: قال الترمذي: الأصح أنه موقوف على أبي هريرة، وهو منقطع أيضا لأن الزهري لم يدرك أبا هريرة. ويعارضه أيضا ما رواه الشيخ الأصبهاني الحافظ عن وائل قال حق أو سنة ألا يؤذن إلا وهو طاهر وهذا يقتضي الاستحباب.
م: (ويكره أن يقيم على غير وضوء لما فيه) ش: أي لما في فعل الإقامة بغير وضوء. م: (من الفصل بين الإقامة والصلاة) ش: بالاشتغال بأعمال الوضوء والإقامة شرعت متصلا بالشروع في الصلاة. م: (ويروى) ش: الراوي وهو الكرخي م: (أنه) ش: أي ضمير الشأن م: (لا تكره الإقامة أيضا لأنه أحد الأذانين) ش: فالأذان لا يكره بلا وضوء وكذا الإقامة.
م: (ويروى) ش: الراوي هو الكرخي م: (أنه يكره الأذان أيضا لأنه يصير داعيا إلى ما لا يجيب بنفسه) ش: لأن المؤذن يدعو الناس إلى التأهب إلى الصلاة فإذا لم يكن متأهبا دخل تحت قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] (البقرة: آية 44) .
م: (ويكره أن يؤذن وهو جنب رواية واحدة) ش: قد ذكرنا أنه ذكر شريف فيكره مع أغلظ الحدثين. والواو في - وهو - للحال. ورواية منصوبة على المصدرية، وإنما وضعها بواحدة إشارة إلى أنه لم يرو عن أحد من الأصحاب عدم كراهة أذان الجنب.
م: (ووجه الفرق على إحدى الروايتين هو) ش: أي بين أذان الجنب والمحدث على الرواية التي لا يكره أذانه م: (أن للأذان شبها بالصلاة) ش: في أنهما يفتتحان بالتكبير، ويؤديان مع الاستقبال، وترتب كلمات الأذان كأركان الصلاة، ويختصان بالوقت ولا يتكلم فيها م: (فتشترط الطهارة عن أغلظ الحدثين) ش: وهو الجنابة م: (دون أخفهما) ش: وهو الحدث م: (عملا بالشبهين) ش: لم أر أحدا من الشراح بين الشبهين ما هو غاية ما في الباب أنهم قالوا ما ملخصه أن الأذان لا يكره مع الحدث فعمل بشبهه الصلاة مع الجنابة، فكره معها ولم يكره مع الحدث اعتبارا لجانب الحقيقة لأنه ليس بصلاة على الحقيقة.(2/110)
في " الجامع الصغير ": إذا أذن على غير وضوء وأقام لا يعيد،
والجنب أحب إلي أن يعيد، ولو لم يعد أجزأه أما الأول فلخفة الحدث، وأما الثاني ففي الإعادة بسبب الجنابة روايتان، والأشبه أن يعاد الأذان دون الإقامة؛ لأن تكرار الأذان مشروع دون الإقامة، وقوله: ولو لم يعد أجزأه؛ يعني الصلاة؛ لأنها جائزة بدون الأذان والإقامة. قال: وكذلك المرأة تؤذن، معناه يستحب أن يعاد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو اعتبر الشبه في الحدث لاعتبر في جانب الحقيقة بالطريق الأولى لأنها أغلظ. والذي يظهر لي أن أحدهما أشبه بالصلاة وهو الذي ذكرناه، والآخر أشبه بالذكر، فبالنظر إلى شبهه بالصلاة كره مع الجنابة، وبالنظر إلى شبهه بالذكر لم يكره مع الحدث.
فإن قلت: الأذان ذكر فكيف يقول إنه شبه الذكر وشبه الشيء غيره.
قلتك: هو ليس بذكر خالص على ما لا يخفى، وإنما أطلق اسم الذكر عليه باعتبار أن أكثر ألفاظه ذكر.
م: (وفي " الجامع الصغير ": إذا أذن على غير وضوء وأقام لا يعيد) ش: إنما ذكر رواية " الجامع الصغير " لاشتمالها على الإعادة وعدمها.
[أذان الجنب]
م: (والجنب أحب إلي أن يعيد الأذان وإن لم يعد أجزأه) ش: أي وإن لم يعد الجنب أذانه أجزأه لأن المقصود من الأذان الإعلام وقد حصل، وهذا التعليل يشير إلى أن معنى قوله أجزأه أي الأذان ولكنه فسره فيما بعده بقوله وقوله فإن لم يعد أجزأه يعني الصلاة.
م: (أما الأول) ش: وهو قوله: إذا أذن على غير وضوء وإقامة لا يعيد. م: (فلخفة الحدث وأما الثاني) ش: وهو قوله والجنب أحب إلي أن يعيد. م: (ففي الإعادة بسبب الجنابة روايتان) ش: يعني أنه يعاد إذا أذن الجنب وأقام، ففي رواية على طريق الاستحباب، لأن الأذان ذكر معظم لأنه من شعائر الدين وبسبب الجنابة ينتقص معنى التعظيم، فيستحب إعادته كما يستحب إعادة الخطبة للجنب يوم الجمعة. وفي رواية لا تعاد لحصول المقصود.
م: (والأشبه) ش: بالحق م: (أن يعاد الأذان دون الإقامة لأن تكرار الأذان مشروع) ش: في الجملة فإن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قد استحسنوه حين أحدثه عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم الجمعة على الزوراء، واستمر العمل عليه إلى اليوم. والزوراء اسم دار عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالمدينة، ومن فسرها بالمنارة فله وجه كذا ذكره تاج الشريعة.
م: (دون الإقامة) ش: يعني تكرارها غير مشروع م: (وقوله) ش: أي قول محمد في " الجامع الصغير ". م: (ولو لم يعد أجزأه يعني الصلاة لأنها جائزة بدون الأذان والإقامة) ش: لأنه قال في " الإيضاح " ويحتمل أن يكون المراد من الجواز أصل الأذان، لأن رفع الصوت زائد في الباب.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (وكذلك المرأة تؤذن، معناه يستحب أن يعاد(2/111)
ليقع على وجه السنة.
ولا يؤذن لصلاة قبل دخول وقتها، وتعاد في وقتها؛ لأن الأذان للإعلام، وقبل الوقت تجهيل وقال أبو يوسف: وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز للفجر في النصف الأخير من الليل؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ليقع على وجه السنة) ش: هذا عطف على قوله والجنب أحب إلي أن يعيد. وأذان المرأة لا يقع على وجه السنة، لأنها إن رفعت صوتها ارتكبت حراما وإن خفضت اختلت بالمقصود.
قلت: قيل في ظاهر الرواية لا يستحب أذان الأربعة، الجنب والمرأة والسكران والمعتوه الذي لا يعقل وفي غير رواية الأصول يعاد أذان هؤلاء الأربعة: وفي " المبسوط " وليس على النساء أذان وإقامة وبه قال مالك وأحمد وأبو ثور وجماعة من التابعين، وكذا لو صلين بجماعة لحديث بالياء آخر الحروف قال كان جماعة من النساء أمتهن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بلا أذان وإقامة، وللشافعي في جماعة النساء ثلاثة أقوال أصحها وهو ما نصه في الأم أنه يستحب لهن الإقامة دون الأذان.
والثاني: أنه لا أذان ولا إقامة.
والثالث: أنه يستحب الأذان والإقامة. وفي " شرح الوجيز " ولا يختص هذا الخلاف فيما إذا صلين بجماعة أو وحدهن.
[الأذان قبل دخول الوقت]
م: (ولا يؤذن لصلاة قبل دخول وقتها وتعاد في وقتها) ش: إن وقع قبلت م: (لأن الأذان للإعلام، وقبل الوقت تجهيل) ش: وهذا بالإجماع إلى في أذان الفجر فإنهم اختلفوا فيه أشار إليه بقوله م: (وقال أبو يوسف: وهو قول الشافعي يجوز للفجر في النصف الأخير من الليل) ش: وهو الأصح من أقوال الشافعي، وبه قال مالك وأحمد. وقال في " العارضة " عند المالكية: يؤذن لها عند انقضاء صلاة العتمة، وقيل: عند ثلث الليل، وقيل: عند سدسه، قال: لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في " الصحيح «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين ينصف الليل» . وروي «إذا ذهب ثلث الليل» ، وروي «إذا بقي ثلث الليل» فيؤذن المؤذن بينهما على نداء الغفلة، قيل فيكون هذا الأذان بينهما إعلام بوقت نزوله سبحانه إلى سماء الدنيا لا لصلاة الصبح.
والقول الثاني للشافعي: قبل طلوع الفجر في السحر، وبه قطع البغوي وصححه القاضي الحسين والمتولي. وقال النووي " وهذا ظاهر المنقول عن بلال وابن أم مكتوم.
والقول الثالث: يؤذن لها في الشتاء لسبع تبقى من الليل، وفي الصيف لنصف سبع يبقى منه.
والرابع: من ثلث الليل آخر الوقت المختار.
والخامس: جميع الليل وقت لأذان الصبح، حكاه إمام الحرمين وصاحب " العدة ".(2/112)
لتوارث أهل الحرمين، والحجة على الكل قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لبلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر هكذا» ومد يده عرضا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: ما أعلم أي الأذانين تقدم عندهم أذان المغرب أم أذان الصبح؟ إذا كان جميع الليل محلا لأذان الصبح فحينئذ لا يعرف أحدهما من الآخر. قال النووي: وهذا القول ضعيف الرواية بل هو غلط. وقال إمام الحرمين: لولا حكاية أبي علي له، وأنه لا ينقل إلا ما صح عنده لما استحب نقله، وكيف يحسن الدعاء لصلاة الصبح في وقت الدعاء إلى المغرب؟
م: (لتوارث أهل الحرمين) ش: أي أهل مكة والمدينة ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فيما روى ابن عمر «أن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» رواه الشعبي عن مالك، ورواه جماعة غيره مرسلا. قال صاحب الإمام: هو الصحيح.
م: (والحجة على الكل) ش: أراد بالكل أبا يوسف والشافعي ومن تابعهما. وقال الأترازي: الحجة على أبي يوسف والشافعي وأهل الحرمين.
م: (قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لبلال: «لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر هكذا ومد يده عرضا» ش: أخرج هذا الحديث أبو داود عن شداد عن بلال اه. وسكت عنه، وقال ابن القطان: وشداد مجهول لا يعرف بغير رواية جعفر بن برقان وأعله البيهقي بالانقطاع. ومعنى قول أبي داود شداد لم يدرك بلالا. قوله: - حتى يتبين لك الفجر - أي حتى يظهر. وروى أبو داود عن حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر «أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرجع فينادي ألا أن العبد نام ثلاث مرات فرجع فنادى ألا إن العبد نام» .
فإن قلت: أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال «إن بلالا يؤذن بليل» الحديث وقد مضى الآن. وفي " الصحيحين " أيضا عن ابن عمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤذنان بلال وابن أم مكتوم فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» واسمه عمرو بن قيس وقيل عبد الله بن زائدة القرشي العامري ابن خال خديجة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - استخلفه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث عشرة مرة في غزواته وشهد القادسية واستشهد بها في خلافة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قلت: قال الطحاوي: وكان ذلك من بلال خطأ على ظن طلوع الفجر، والدليل عليه حديث «لا يغرنكم أذان بلال فإن في بصره سواد» استدل عليه بحديث أخرجه وهو من حديث أبي ذر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبلال: " إنك تؤذن إذا كان الفجر سادلها وليس ذلك الصبح إنما الصبح هكذا معترضا ".
قال الطحاوي: فأخبر - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه كان يؤذن بطلوع ما يرى أنه الفجر، وليس في الحقيقة بفجر، وروى الطحاوي أيضا من حديث حفصة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «كان(2/113)
والمسافر يؤذن ويقيم؛ «لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لابني أبي مليكة: " إذا سافرتما فأذنا وأقيما» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا يؤذن حتى يصبح» .
فإن قلت أخرج ابن خزيمة في " صحيحه " عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن ابن أم مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال، وكان بلال لا يؤذن حتى يرى الفجر» .
فإن قلت: قال ابن خزيمة: هذا الخبر لا يضاد خبر ابن عمر لجواز أن يكون - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جعل الأذان بين بلال وابن أم مكتوم نوابة فأمر في بعض الليالي بلالا أن يؤذن بليل فإذا نزل بلال صعد ابن أم مكتوم فأذن في الوقت فإذا جاءت نوبة ابن أم مكتوم بدأ فنزل فأذن بليل، فإذا صعد بلال، فأذان في الوقت.
[المسافر يؤذن ويقيم]
م: (والمسافر يؤذن ويقيم لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لابني أبي مليكة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «إذا سافرتم فأذنا وأقيما» ش: هذا حديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم مختصرا ومطولا عن مالك بن الحويرث قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا وصاحب لي. وفي رواية ابن عم لي وفي رواية للنسائي وابن عمر قال فلما أردنا الانصراف قال لنا: «إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما» .
قلت: انظره في كلام الشراح ما قالوا هاهنا. وقال السغناقي: ذكر هذا الحديث في " المبسوط " بخطاب غيرها، قال: وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لمالك بن الحويرث وابن عم له: «إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما قرآنا» ، وكذا ذكر في " الجامع الصغير " لفخر الإسلام والإمام المحبوبي ما يوافق " المبسوط " ولكن ذكر فخر الإسلام «وليؤمكما أكبركما سنا» . ثم إن الأكمل نقل هذا عن السغناقي وسكت راضيا به ونقل صاحب " الدراية " ما ذكره في " المبسوط " وسكت، وقال الأترازي: روى أبو داود في " سننه " بإسناده إلى أبي قلابة عن مالك بن الحويرث أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال له ولصاحب له: «إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما، وليؤمكما أكبركما» ثم قال: ويجوز أن يسمي أحد الأخوين صاحبا للآخر، ويجوز أن يكون كنية الحويرث أبا ملكية ولكن لفظ " مبسوط شمس الأئمة "، ولفظ " الجامع الصغير " لفخر الإسلام غير ذلك حيث قالا يروى أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال لمالك بن الحويرث وابن عم له: «إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما سنا» فعلى هذا يجوز تسمية الابنين للابن ولابن عمه في قول صاحب " الهداية " بطريق التغليب على اعتبار أن ابن العم يجوز أن يسمى ابنا لأن العم يجوز أن يسمى أبا مجازا.
قلت: هذا الكلام لا يصدر إلا ممن ليس له أدنى حسن من فن الحديث. أما السغناقي فإنه صدر كلامه بما ليس في الحديث. ثم لو حمل الحديث الذي وقع في الكتب الستة بصيغة التمريض، وأما الأكمل فإنه قلده ومضى. وأما صاحب " الدراية " لأنه قصر هاهنا لأنه يمشي على طريق المحدثين، وهاهنا لم يحرز أصلا.(2/114)
فإن تركهما جميعا يكره، ولو اكتفى بالإقامة جاز؛ لأن الأذان لاستحضار الغائبين، والرفقة حاضرون. والإقامة لإعلام الافتتاح، وهم إليه محتاجون، فإن صلى في بيته في المصر يصلي بأذان وإقامة، ليكون الأداء على هيئة الجماعة، وإن تركهما جميعا جاز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما الأترازي فإن مع دعواه الفريضة حفظ كثيرا لأنه ذكر الحديث أولا على أصله ثم كلام صاحب " الهداية " عليه بتأويل أعجبه غير مقبولة، فقال ويجوز أن يسمي أحد الأخوين صاحبا من الناس الأجانب، وإما ابن عمه وإما عبد الله بن عمر على الروايات الثلاثة وليس مراده أصلا أنه كان أخاه من النسب، وإنما حمل الأترازي على ذلك قول صاحب " الهداية " لأبي مليكة فأوله بالتأويل المذكور تصحيحا لكلام الهداية وهو غلط في نفس الأمر، والصواب مالك بن الحويرث وصاحب له وابن عم له أو ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على الروايات الثلاث.
ثم أكد الأترازي غلطه بقوله ويجوز أن يكون كنية الحويرث أبا مليكة وهذا لم يقل به أحدا فزاد غلطا على غلط ثم استدرك كلامه بقوله ولكن لفظ " مبسوط شمس الأئمة " إلى آخره هو الصواب، وأوله بقوله فعلى هذا يجوز تسمية الابنين إلى آخره توفيقا للفظ الحديث.
ولفظ صاحب " الهداية " ولا جواز هاهنا ولا توفيق لا كل وقوع الأصل على الغلط على أن صاحب " الهداية " ذكر هذا الحديث في كتاب الصرف على الصواب فقال في مسألة السيف المحلى لأن الاثنين قد يراد بهما الواحد. قال الله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] (الرحمن: آية 22) ، والمراد أحدهما وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لمالك بن الحويرث وابن عمه: «إذا سافرتما فأذنا وأقيما» ، والمراد بهما أحدهما وفيه نظر أيضا.
م: (فإن تركهما جميعا يكره) ش: أي فإن ترك المسافر الأذان والإقامة جميعا يكره تركه إياهما لمخالفة السنة م: (ولو اكتفى بالإقامة جاز؛ لأن الأذان لاستحضار الغائبين والرفقة حاضرون والإقامة لإعلام الافتتاح) ش: أي لافتتاح الصلاة والشروع فيها م: (وهم) ش: أي الرفقة بضم الراء جمع رفيق.
م: (إليه محتاجون) ش: أي إلى إعلام الافتتاح يحتاجون. وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المسافر بالخيار إن شاء أذن وإن شاء أقام ولم يؤذن والقوم حاضرون في السفر بخلاف الحضر؛ لأن الناس في المصر لتفرقهم واشتغالهم بأنواع المكاسب والحرف لا يعرفون وقت الصلاة، وفي الإقامة لا فرق بين المسافر والمقيم.
م: (فإن صلى في بيته في المصر يصلي بأذان وإقامة ليكون الأداء على هيئة الجماعة) ش: بالأذان والإقامة م: (وإن تركهما جميعا جاز) ش: أي وإن ترك المصلي في بيته الأذان والإقامة جميعا جاز، لأن مؤذن الحي نائب عن أهل المحلة في الأذان والإقامة لأنهم هم الذين نصبوه لها فكان أذانه وإقامته كأذان الكل وإقامتهم، وهذا يوجد الفرق بينه وبين المسافر الذي يصلي وحده وترك(2/115)
لقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أذان الحي يكفينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإقامة فإنه يكره له ذلك.
وعن عطاء من نسي الإقامة أعاد. وقال الأوزاعي: يعيد ما بقي الوقت، وقال مجاهد: من نسي الإقامة في السفر يعيد. وعن علي بن الجعد عن أبي حنيفة وأبي يوسف صلوا في المصر الظهر والعصر جماعة بلا أذان ولا إقامة أخطئوا السنة وأتموا، هذا يدل على وجوب الأذان.
م: (لقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أذان الحي يكفينا) ش: هذا غريب والمصنف أخذه من " المبسوط " وفيه روي عن ابن مسعود: أنه صلى بعلقمة والأسود في بيته فقيل له: ألا تؤذن وتقيم؟ قال: أذان الحي يكفينا.
وروى الطبراني في " معجمه " حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبوسي عن عبد الرزاق عن الثوري عن حماد عن إبراهيم أن ابن مسعود وعلقمة والأسود صلوا بغير أذان ولا إقامة. قال سفيان: كفته إقامة المصر. وذكر التمرتاشي: إذا لم يكن أقيم في محلته يكره ترك الإقامة. وقال السرخسي له أن يصلي في بيته بلا أذان وإقامة إن شاء، وإن كانوا جماعة.
وعن أبي يوسف إن شاء ترك ذلك، وفي " جامع الكردري " رخص له ذلك. ولو أذن وأقام فحسن وكذا إن أقام ولم يؤذن وفي " المحيط " والذي يصلي في المسجد وحده لا يؤذن إجماعا لأن أذان الحي يكفيه وعند الشافعي سن الأذان في حالة الجماعة والانفراد في الجديد لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لأبي سعيد الخدري «إنك تحب البادية والغنم فإذا دخل وقت الصلاة فأذن وارفع صوتك» ، وقال أبو عبيد في كتابه " غريب الحديث " وفي حديث سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «من صلى بأرض قي فأذن وأقام الصلاة صلى خلفه من الملائكة ما لا يرى يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده ويؤمنون على دعائه» . قال: القي القطر هو بكسر القاف: وتشديد الياء والقطر بضم القاف الجانب وقطر كل شيء جانبه.(2/116)
باب شروط الصلاة التي تتقدمها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب شروط الصلاة التي تتقدمها]
م: (باب شروط الصلاة التي تتقدمها) ش: أي هذا باب في بيان الشروط التي تتقدم الصلاة، والشروط جمع شرط وهو العلامة، وفي الاصطلاح: الشرط ما يتوقف عليه وجود الشيء ولم يكن داخلا فيه، وقيل: يلزم من انتفائه انتفاء المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود المشروط، وقال السرخسي في " أصوله ": الحكم يضاف إلى الشرط وجودا عنده لا به ويضاف إلى العلة وهو ما بها والشرط والركن لا بد بهما ويفترقان كافتراق العام والخاص، فعلى هذا كل ركن شرط يعني يلزم من وجود الركن وجود الشرط ولا يلزم من انتفاء الركن وجود الشرط، ولا يلزم من انتفاء الركن انتفاء الشرط.
وكذا يلزم من وجود العام وجود الخاص، ولا يلزم من عدم العام عدم الخاص والأعم والأخص على العكس يلزم من عدم الأعم عدم الأخص، فإنه يلزم من عدم الحيوان عدم الإنسان، ولا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص فإنه لا يلزم من وجود الحيوان وجود الإنسان ثم الشرط على ثلاثة أنواع، عقلي كالقدوم للنجار، وشرعي: كالطهارة للصلاة، وجعلي كالدخول المعلق به الطلاق.
وفي " الحواشي ": شرط الصلاة مسموعة ثلاثة أنواع: شرط الانعقاد كالنية والتحريمة والوقت، والخطبة في الجمعة والجماعة للجمعة عندهما، وشرط الدوام كالطهارة، واستقبال القبلة، والوقت في الجمعة، والثالث: ما شرط وجوده في حالة البقاء، ولا يشترط فيه عدم ولا المقارنة لابتداء الصلاة وهو القراءة فإنها ركن في نفسها ويشترط في سائر الأركان، لأن القراءة موجودة في جميع الصلاة تقديرا.
قلت: ولهذا لو استخلف الإمام القارئ في الأخيرين أميا لا يجوز وبقي هنا ما هو شرط التمام كالقعدة الأخيرة فإنها شرط لتمام الأركان عند البعض. وقال السروجي: يقتضي ما ذكره أن يكون الوقت والتحريمة من شروط الصلاة التي تقدمها فينبغي أن يكونا مذكورين في هذا الباب ولم يذكرا فيه.
قلت: عقد للوقت بابا مستقلا لكثرة أحكامه فلا يحتاج إلى ذكره هنا. وأما التحريمة ففيها خلاف هل هي من الشروط أو من الأركان فافهم.
قوله: التي تتقدمها من الصفات المذكورة لا من الصفات المميزة إذ ليس من الشروط ما لا يكون متقدما حتى يكون احترازا عنه، وهو قريب من أسلوب قَوْله تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] (المائدة: الآية 44) . وقال صاحب " الدراية ": احترز بقوله تتقدمها عن القعدة الأخيرة فإنه اختلف في ركنيتها. كذا ذكره شيخ الإسلام. وعن ترتيب أفعال الصلاة فيما لم يشرع مكررا كترتيب الركوع على القراءة والسجود على الركوع فإنه شرط الجميع فلو ترك(2/117)
يجب على المصلي أن يقدم الطهارة من الأحداث والأنجاس على ما قدمنا، قال الله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الترتيب لا تجوز صلاته. وعن مراعاة المقتدي مقام الإمام وعن عدم تذكر فائتته قبلها وهو صاحب ترتيب؛ وعن عدم محاذاة المرأة، فإن هذه الأشياء شروط ولا تتقدمها، وفي " الهداية ": هذا قيد قصدي لا اتفاقي لأن في هذا الباب ذكر الشروط المتقدمة لا المتوسطة.
فإن قلت: ما وجه المناسبة بين هذا الباب وبين ما قبله؟
قلت: لما ذكر الطهارة وهي شرط الصلاة وذكر الأوقات عقيبها لكونها أسبابا وشروطا وذكر الأذان لكونه إعلاما على الأوقات شرع في بيان بقيته.
[الطهارة من الأحداث والأنجاس]
م: (يجب على المصلي أن يقدم الطهارة من الأحداث والأنجاس على ما قدمنا) ش: الأحداث جمع حدث، والأنجاس جمع نجس.
فإن قلت: ما لنا إلا حدثان الأصغر والأكبر والجمع من أين جاء؟
قلت ذكر مع الأنجاس لمناسبة إياها، ويجوز أن يذكر الجمع ويراد به الاثنان وهو كثير لا ينكر، وإنما جمعه باعتبار تعدد أسبابه.
وقال الأترازي: قيل: إنما ذكر الأحداث لأنها أقوى، لأن قليلها ليس بعفو بخلاف القليل من الأنجاس، وفيه نظر عندي لأن القطرة من الخمر أو الدم أو البول إذا وقعت في البئر نجس، والجنب أو المحدث إذا أدخل يده في الإناء لا ينجس، والأولى أن يقال ليس فيه تقديم لأن الواو لمطلق الجمع.
قلت: نظره فيه نظر لأن مراد القائل من كون الأحداث لا يعفى قليلها هو ما إذا بقيت لمعة، ولو كانت يسيرة في بدن الجنب أو في أعضاء المحدث لا يعفى بخلاف القليل من الأنجاس وأن ما دون الدرهم منه عفو كما عرف في موضعه فتكون الأحداث أقوى من الأنجاس، من هذه الحيثية.
وقوله: والأولى أن يقال ليس فيه تقديم ليس بجيد لأنه يقدم في الذكر، وفائدة التقديم لا تتطلب ما ذكره فيما مضى من بيان الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر، وما ذكره في بيان الطهارة من النجاسة المغلظة والمخففة على الثوب والمكان.
فإن قلت: لما كان علم مما تقدم كونها شرط للصلاة فلم أعادها؟
قلت: ليكون الباب مشتملا على جملة الشروط. (قال الله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] ش: (المدثر: الآية 4) إنما ذكر هذه الآية الكريمة لأنها تدل بعبارتها على تقديم الطهارة من الأنجاس وبدلالتها على تقديمها على الأحداث.(2/118)
وقال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]
ويستر عورته لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] . أي ما يواري عوراتكم عند كل صلاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " تفسيره ": وأمر الله أن تكون ثيابه طاهرة لأن طهارة الثياب شرط في الصلاة لا تصح إلا بها، وهي الأولى والأحب في غير الصلاة. ويقبح للمؤمن الطيب أن يحمل نجسا. وقيل: أمر بتقصيرها ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب وجرهم الذيول، وذلك مما لا يؤمن معه إصابة النجاسة. وقال إبراهيم وقتادة والضحاك والشعبي والزهري: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] من الرجس والإثم والمعصية. وقيل أراد طهر نفسك من الذنوب فكنى عن الجسم بالثياب لأنها تشتمل عليه. وقال ابن سيرين وابن زيد: نق ثيابك واغسلها بالماء وطهرها من النجاسة، وذلك المشركين كانوا لا يتطهرون فأمر بتطهير ثيابه، وذكر فيها وجوها كثيرة.
م: (وقال الله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ش: (المائدة: الآية 6) ذكر هذه الدلالة بعبارته على تقديم الطهارة على الأحداث. وقال الأترازي: لو لم يورد صاحب الهداية قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] (المدثر: الآية 4) وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] لكان أحسن للاختصار يفهم ذلك من قوله على ما قدمناه وكان من حقه حيث أورد أن يورد الدليل على مجموع مدعاه لئلا يكون البيان متنافيا وهو ليس كذلك لأن قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] دليل تقديم الطهارة من الأنجاس وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] دليل تقديم الطهارة من الحدث الأكبر، وبقي تقديم الطهارة من الحدث الأصغر ولم يذكره وهو أنه الوضوء.
قلت: الدليل على جميع مدعاه قائم وبيانه شاف، وذلك فهم من قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] لأنا قلنا إن بعباراته تدل على تقديم الطهارة من الأنجاس، وبدلالته على تقديمها على الأحداث، وهي تتناول الحدث الأصغر والأكبر، وقوله: ولم يذكره ليس كذلك بل ذكره على طريقة ما ذكرنا ولكنه لم يتذكره.
[ستر العورة]
م: (ويستر عورته) ش: بنصب الراء، لأنه عطف على قوله أن يقدم وتقديره وأن يستر.
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] أي ما يواري عوراتكم عند كل صلاة) ش: (الأعراف: 31) أراد بالزينة ما يواري العورة وبالمسجد والصلاة. ففي الأول: إطلاق اسم الحال على المحل. وفي الثاني: إطلاق اسم المحل على الحال لوجود الاتصال الذي بين الحال والمحل، وهذا لأن أخذ الزينة نفسها وهي عرض بحال فأريد محلها وهو الثوب مجازا. وكانوا يطوفون عراة يقولون لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها فنزلت. لا يقال: نزول الآية في الطواف فكيف يثبت الحكم في الصلاة لأنا نقول العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهنا اللفظ عام لأنه قال: {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] ولم يقل عند مسجد الحرام فدل بعمومه، ويقال: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] من قبيل إطلاق المسبب على السبب لأن الثوب سبب الزينة ومحل الزينة الشخص.(2/119)
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا صلاة لحائض إلا بخمار» أي لبالغة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيل: الزينة ما يتزين به من ثوب وغيره كما في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] (النور: آية 31) فعلى هذا يصح ما ذكروه من التأويل. وقال الزمخشري: الزينة ما زينت به المرأة من حلي أو كحل وإنما نهى عن ابتداء الزينة نفسها ليعلم أن النظر لم يحل إليها.
وقيل: أراد موضع الزينة لأن النظر إلى الزينة حلال بالإجماع والستر لا يجب لغير المسجد بدليل جواز الطواف عريانا هنا فعلم من هذا أن ستره للصلاة لا لأجل الناس، حتى لو صلى وحده ولم يستر عورته لا تجوز صلاته وإن لم يكن عنده أحد.
م: (وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا صلاة لحائض إلا بخمار» أي لبالغة) ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن حماد بن سلمة عن قتادة عن محمد بن سيرين عن صفية بنت الحارث عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» . وقال الترمذي: حديث حسن.
ورواه ابن خزيمة وابن حبان في " صحيحيهما " ولفظهما: «لا يقبل الله صلاة امرأة قد حاضت إلا بخمار» . رواه الحاكم في " المستدرك "، وقال حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. وأظنه بخلاف فيه على قتادة ثم أخرجه عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «لا صلاة لحائض إلا بخمار» . قلت: هذا مثل لفظ المصنف وهذا قد دل على افتراض ستر العورة في الصلاة وستر العورة شرط لصحة الصلاة فرضها ونفلها عندنا، وبه قال الشافعي وأحمد وعامة الفقهاء وأهل الحديث. وقال بعض المالكية: هو واجب وليس بشرط لصحة الصلاة. وقال ابن رشيد في " القواعد ": ظاهر مذهب مالك أن ستر العورة من سنن الصلاة. وقال بعضهم: هو شرط عند الذكر دون النسيان. وعن أشهب: من صلى عريانا أعاد في الوقت. وحكى أبو الفرج المالكي: أنه يجب ستر جميع الجسد، قالوا: وجوابه لا يخص الصلاة.
قلت: ستر العورة عن العيوب واجب بلا خلاف.(2/120)
عورة الرجل ما تحت السرة إلى الركبة، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: الحديث خبر الواحد فلا يفيد الفرض.
قلت: هو قطعي الدلالة لأداة الحصر ظني الثبوت لكونه خبر الواحد، فبالمجموع تحصل الدلالة على الافتراض، وأما الآية فهي قطعية الثبوت دون الدلالة، ولهذا يرد ما قيل أن الآية تفيد الوجوب في حق الطواف فلو أفادت الفريضة في حق الصلاة لكان لفظ خذوا مستعملا في الوجوب والافتراض، وهذا لا يجوز.
قوله: بخمار بكسر الخاء المعجمة هو ما تغطي به المرأة رأسها.
قوله: أي - البالغة - تفسير الحائض، وليس من متن الحديث، وهو مجاز عن البالغة لأن الحديث يستلزم البلوغ فيكون هذا إطلاق اسم الملزوم على اللازم. ويقال إن حقيقة الحائض مهجورة حيث لا يجوز للحائض الصلاة أصلا، فيصير إلى المجاز بطريق إطلاق اسم السبب وهو الحيض على المسبب وهو البلوغ.
[عورة الرجل]
م: (وعورة الرجل ما تحت السرة إلى الركبة) ش: سميت العورة عورة لقبح ظهورها، ومنه الكلمة العوراء وهي القبيحة. وعور العين نقص وعيب فيها.
قوله: عورة الرجل كلام إضافي مبتدأ. وقوله: ما تحت السرة خبره. وكلمة إلى بمعنى مع على ما يذكر وجهه عن قريب.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته» ش: في هذا الباب أحاديث كثيرة منها ما أخرجه الدارقطني في " سننه " عن سوار بن داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مروا صبيانكم» . الحديث، وفيه: «فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة من العورة» وهذا المعنى يقرب لفظ نقل المصنف.
ورواه أحمد في " مسنده " ولفظه: «فإن ما أسفل من سرته إلى ركبته من العورة» . وسوار بن داود كنية العقيلي، ورفعه ابن معين وابن حبان. وقال أحمد: شيخ بصري لا بأس به. ومنها ما أخرجه الحاكم في " المستدرك " من حديث عبد الله بن جعفر قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ما بين السرة إلى الركبة عورة» وسكت عنه. وقال: الذهبي في " مختصره ": أظنه مرفوعا فإن إسحاق بن واصل متروك، وأصرم بن حوشب متهم بالكذب، وهما من رواته. ومنها ما أخرجه(2/121)
ويروى: «ما دون سرته حتى تجاوز ركبته» وبهذا يتبين أن السرة ليست من العورة خلافا لما يقوله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والركبة من العورة، خلافا له أيضا، وكلمة " إلى " نحملها على كلمة مع، عملا بكلمة حتى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدارقطني في " سننه " من حديث أبي أيوب قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقول ما فوق الركبتين من العورة، وما أسفل السرة من العورة» .
م: (ويروى ما دون سرته حتى تجاوز ركبته) ش: هذا غريب بهذا اللفظ ولكن معناه لا يخرج من الأحاديث المذكورة.
م: (وبهذا) ش: أي وبالحديث المذكور م: (يتبين أن السرة ليست من العورة) ش: لأنه قال: ما بين سرته إلى ركبتيه ما دون سرته والمقصود من ذلك أن لا تكون السرة عورة م: (خلافا لما يقوله الشافعي في أن السرة من العورة) ش: قال النووي: في عورة الرجل خمسة أوجه: صحيحها المنصوص أنها ما بين السرة والركبة وليست من العورة.
ثانيها: أنها عورة أيضا كالرواية عن أبي حنيفة.
ثالثها: السرة دون الركبة.
رابعها: عكسه الظاهر قول الثلاثة من أصحابنا.
خامسها: القبل والدبر فقط، حكاه الرافعي عن الإصطخري. قال النووي: هو شاذ منكر، وهو رواية عن أحمد حكاه عنه في " المغني " وقال: وهو قول ابن أبي ذئب، وداود، ومحمد بن جرير. قال ابن حزم: الذكر وخلفه الدبر.
م: (والركبة من العورة خلافا له أيضا) ش: أي خلافا للشافعي، فإن الركبة ليست من العورة عنده في قوله كما ذكرنا.
م: (وكلمة إلى نحملها على كلمة مع عملا بكلمة حتى) ش: وكلمة إلى كلام إضافي مبتدأ وقوله نحملها جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل الرفع على الجزئية. قوله: على كلمة مع التي هي للمصاحبة.
قوله: عملا منصوب على المصدرية، وهذا جواب عن سؤال مقدر تقديره: أن يقال إن كلمة إلى في قوله - إلى ركبته - في الحديث للغاية وهي في هذا الموضع لمد الحكم إليها فلا يدخل، وتقرير الجواب أن إلى هاهنا تحمل على معنى مع، كما في قَوْله تَعَالَى: {أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2](2/122)
أو عملا بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الركبة من العورة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(النساء: آية 2) أي مع أموالكم، دفعا للتعارض عن كلام صاحب الشرع، والتعارض ظاهر بين قوله ما بين سرته إلى ركبتيه، وبين قوله ما دون سرته حتى يجاوز ركبته.
وقال بعض المشايخ: قوله إلى ركبتيه غاية للإسقاط لأن قوله ما بين سرته، يتناول ما تحت السرة فأخرجه ما تحتها فبقيت الركبة تحت العورة. وفي " شرح المجمع " و " الغاية " قد تدخل وقد لا تدخل والوضع موضع الاحتياط. فقلنا بأنها عورة تخرج بتغطيتها عن العهدة بيقين. وفي " الدراية " " وجامع الكردي " الركبة مركبة من عظم الساق والفخذ فيكون المحرم مختلطا مع المبيع والمباح فرجح المحرم.
وقال المصنف في " التجنيس ": الركبة إلى آخر القدم عضو واحد، والأول أصح، لأنها في الحقيقة لنفي عظم الفخذ والساق، وإنما حرم النظر إليها من الرجال لتعذر التمييز أو عملا بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الركبة من العورة» .
م: (أو عملا) ش: عطف على قوله عملا بكلمة حتى، وهذا جواب ثان، وتقديره أن قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ما بين سرته إلى ركبته» يدل على أن الركبة ليست من العورة لقضية إلى وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حتى يجاوز ركبته» يدل على أن الركبة من العورة وبينهما تعارض ظاهر، فإذا أبقينا إلى على حالها تساقطا ويعمل حينئذ في كون الركبة من العورة بحديث آخر وهو م: (بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الركبة من العورة» ش: وقال الأكمل: وفيه نظر لأن حتى إذا دخلت على الفعل كانت بمعنى إلى في مثل هذا الموضع، فلا فرق بينهما، وكان ينبغي أن يقول وعملا بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالواو؛ لأن المعارضة قائمة بكل منهما.
والجواب عن الأول: أنه بمعنى إلى لكن مع دخول الغاية.
وعن الثاني: بأن كلمة أو لمنع الخلو، لا لمنع الجمع فلا يكون منافيا.
قلت: لحتى الداخلة على المضارع المنصوب ثلاثة معان مرادفة إلى نحو {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 91] (طه: آية 91) ، ومرادفة في التعليلية نحو أسلم حتى تدخل الجنة، ومرادفة إلا في الاستثناء.
وقوله: مع دخول الغاية لا طائل تحته لأنه إذا كان بمعنى إلى يكون للغاية، ثم عند كونها للغاية لا بد من قرينة على دخول ما بعدها وعلى عدم الدخول أيضا، وإن لم تكن قرينة، الأصح أن لا يدخل كما عرف في موضعه. ثم الفرق بينهما بجواز وقوع المنصوب بعدها كما في الحديث وعدمه في إلى، والنصب بأن مضمرة لا بنفس حتى لا ينتصب إذا كان مستقبلا. ثم إن كان استقباله بالنظر إلى زمان المتكلم فالنصب واجب وإلا فيجوز الرفع أيضا. وفي الحديث النصب(2/123)
وبدن الحرة كلها عورة، إلا وجهها وكفيها، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المرأة عورة مستورة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
متعين لأن الرفع إنما يجوز بثلاثة شروط:
الأول: أن يكون حالا أو مأولا بالحال. والثاني: أن يكون سببا عما قبلها. والثالث: أن يكون فضلة فإن أردت التحقيق فليرجع إلى مكانه.
ثم الحديث وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الركبة من العورة» . أخرجه الدارقطني في سننه عن النضر بن منصور الفزاري عن عقبة بن علقمة سمعت عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الركبة من العورة» . وقال الذهبي: النضر بن منصور: واه وقال ابن حبان: لا يحتج به. وعقبة بن علقمة ضعفه أبو حاتم الرازي. وأخرج البيهقي في " الخلافيات " من جهة إبراهيم بن إسحاق القاضي عن بقية عن سفيان عن ابن جريج عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «السرة من العورة» قال: هذا مفصل مرسل.
[عورة الحرة]
م: (وبدن الحرة كلها عورة) ش: وفي بعض النسخ كله عورة، والأول بالنظر إلى الحرة والثاني بالنظر إلى البدن، ويذكر ضمير الأول لأن التأكيد للبدن والتأنيث باعتبار تأنيث المضاف إليه كما في قولهم خنصرة أصابعه.
م: (إلا وجهها وكفيها لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المرأة عورة مستورة» ش: أخرجه الترمذي في آخر الرضاع عن همام عن قتادة عن مورق عن أبي الأحوص عوف بن مالك عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان» . وقال: حديث حسن صحيح غريب.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي الأحوص به وزاد أنها لا تكون إلى الله أقرب منها في تعزيتها. وأخرجه البزار أيضا في مسنده وليس لفظ مستورة عند أحد منهم. وقال الأكمل: وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المرأة عورة مستورة» خبر بمعنى الأمر، ومثله يفيد التأكيد. وقيل معناه من حقها أن تستر.
قلت: لا حاجة إلى هذا التأويل لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أخبر أن المرأة عورة فمن ضرورة ذلك أن يكون النظر إليها حراما.
قال صاحب " الدراية ": قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عورة مستورة إخبار ونحن نشاهدها غير مستورة(2/124)
واستثناء العضوين للابتلاء بإبدائهما، قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا تنصيص على أن القدم عورة، ويروى أنها ليست بعورة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقد عصم عن الكذب والخلف فيحمل بإخباره على معنى آخر للاحتراز عنهما فحملناه على إيجاب الستر أي يجب عليها الستر. وفي " الجنازية " " والكافي " معناه من حقها أن تستر كما يقال الله معبود أي من حقه أن يعبد لا لأجل الجنة.
وإن قلت: الخبر آكد لأنه يدل على المبالغة ومعناه قد ذكرناه. والتأويل الذي ذكروه إنما هو بعد صحة قوله مستورة ولم يصح ذلك. وقوله: وكفيها يشير إلى أن ظهر الكف عورة وهو ظاهر الرواية لأن الكف عرفا لا يتناول ظهره، قاله الأكمل.
قلت: الكف اسم لظاهر اليد وباطنها إلى الرسغ وكونه لا يتناول ظهر اليد عرفا لا يبنى عليه شيء من حيث العرف والاعتبار لما قاله الشارع.
وقد روى أبو داود في المراسيل عن قتادة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الجارية إذا حاضت لم تصلح أن يرى منها إلا وجهها ويداها» أي العضد. ولفظ اليد يتناول ظاهر الكف وباطنه.
م: (واستثناء العضوين) ش: أي استثنى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العضوين وهما الوجه والكفين. وقوله المرأة عورة وعود الضمير إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما يصح إذا ثبت في الحديث إلا وجهها وكفيها.
م: (للابتلاء بإبدائهما) ش: هذا تعليل الاستثناء أي لوجود الابتلاء بإظهار الوجه والكفين عندنا. وله الابتلاء في يدها وفي كشف وجهها خصوصا عند الشهادة والمحاكمة والنكاح. وفي " المحيط " إلا الوجه واليدين إلى الرسغين والقدمين إلى الكعبين. وفي " الوتري ": جميع بدن الحرة عورة إلا ثلاثة أعضاء الوجه واليدان إلى الرسغين والقدمين. وفي " جامع البرامكة " عن أبي يوسف يباح النظر إلى ذراعيها، وكذا يباح النظر إلى ثيابها لأنها يرونها. وفي الحديث مع الرجل، وقال أبو بكر بن عبد الرحمن الشافعي: الحرة كلها عورة حتى ظفرها لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المرأة عورة» . وعن أحمد في الكفين روايتان.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - م: (وهذا) ش: أي لفظ القدوري في قوله وبدن المرأة الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها م: (تنصيص) ش: أي نص م: (على أن القدم عورة) ش: لأنها ليست بمستثناة.
م: (ويروى) ش: الراوي هو الحسن عن أبي حنيفة م: (أنها) ش: أي أن القدم م: (ليست بعورة) ش: لأنها تبتلى بإبداء القدم إذا مشت حافية أو منتعلة فربما لا تجد الخف على أن الاشتهاء لا يحصل بالنظر إلى القدم كما يحصل بالنظر إلى الوجه فإن لم يكن الوجه عورة مع كثرة(2/125)
وهو الأصح.
فإن صلت وثلث ساقها أو ربعه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاشتهاء فالقدم أولى م: (وهو الأصح) ش: أي كون القدم ليست بعورة هو الأصح. وفي " شرح الأقطع ": والصحيح أنها عورة بظاهر الخبر. وقال المرغيناني والأسبيجابي في " شرح مختصر الطحاوي ": وقدماها فيها عورة. قال الأسبيجابي: في حق النظر. والطحاوي لم يجعلها عورة في حق الصلاة.
وقال الكرخي: ليست بعورة في حق النظر. وقيل لا تكون عورة في حق الصلاة أيضا.
وفي " المفيد " في القدمين اختلاف المشايخ. وقال الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - والمزني: القدمان ليستا من العورة. وقال الثوري في قول عند الخراسانيين: وقيل وجهه أن باطن قدميها ليست بعورة.
م: (فإن صلت) ش: ذكر بالفاء لترتيب هذه المسألة التي هي من مسائل الجامع الصغير على ما قاله المصنف من قوله ويروى أن القدم ليس بعورة وهو الأصح، لأن مسألة " الجامع الصغير " تدل على جواز الصلاة مع كشف ما دون ربع الساق، فكانت القدم مكشوفة لا محالة م: (وثلث ساقها) ش: أي والحال أن ثلث ساقها م: (أو ربعه) ش: أي أو ربع ساقها قيل إذا كان الربع مانعا فإنه يغني عن ذكر الثلث فما فائدة ذكره، وأجيب بأجوبة: الأول قاله الأترازي المانع هو الكثير لا القليل والثلث كثير استدلالا بحديث الوصية وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «والثلث كثير» أما الربع ففي كثرته شك لثبوته بالرأي ولهذا ذكره بكلمة أو وهي للشك.
قلت: هذا ليس بسديد لأن الربع سواء شك بكثرته أو لم يشك فإنه أقل من الثلث، لأن الشيء لا يوصف بالكثرة إلا إذا كان مقابله صحيحه.
الثاني: قاله صاحب " الهداية " أنه أورد على هذا الوجه لبيان قول أبي يوسف لما أن عنده الربع الثلث غير مانع. قلت: هذا ليس بشيء لأن عنده إذا لم يمنع الثلث فالربع بالطريق الأولى.
الثالث: قاله هو أيضا أن محمدا تردد في الكثير، لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الربع كثير "، وروي أيضا عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «الثلث كثير» كما في الوصية فتردد بينهما فذكرهما.
قلت: هذا أيضا فيه نظر لأنه مبنى على صحة رواية كثرة الربع قاله في " الفوائد الظهيرية " فإن أبا حنيفة سئل عن هذه المسألة على هذا الوجه فأورده كذلك في الكتاب. قلت: هذا ليس بشيء لأنه كان ينبغي أن يكون إيراده على ما أجاب أبو حنيفة فإن فخر الإسلام والفقيه أبو الليث لم يذكرا لفظ الثلث في " الجامع الصغير "، وقال: ينقل عن يعقوب عن أبي حنيفة في المرأة تصلي وربع ساقها مكشوف أنها تعيد.(2/126)
مكشوف تعيد الصلاة عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وإن كان أقل من الربع لا تعيد، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا كان أقل من النصف لا تعيد الصلاة؛ لأن الشيء إنما يوصف بالكثير إذا كان ما يقابله أقل منه، إذ هما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخامس: ما قاله في " الجنازية " قيل هذا غلط من الكاتب، وكذا ذكر صدر الأكمل جوابا من الأجوبة بأن قال: إنه سهو من الكاتب، ولهذا لم يكتب فخر الإسلام وعامة المشايخ لعدم الفائدة.
قلت: لا يلزم من عدم كتابة فخر الإسلام وعامة المشايخ عدم الفائدة عند غيرهم.
السادس: قاله الأكمل بأنه شك وقع من الراوي عن محمد. قلت: وقوع الشك من الراوي عن محمد لا يستلزم وقوعه عن المصنف حتى يذكره على هذا الوجه.
السابع: نقل صاحب " الدراية " من أن الربع مانع فإذا كان كذلك كانت مانعية الثلث بطريق الدلالة، وما ثبت بالدلالة بالتنصيص عليه لا يكون قبيحا قال الله تعالى: {يَوْمٌ عَسِيرٌ} [المدثر: 9] {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 10] (سورة: المدثر: الآية 9: 10) ونقله الأكمل منه أيضا.
قلت: هذا القياس غير صحيح لأن قوله غير يسير ليس بالمعنى الذي ذكروه، وإنما معناه غير يسير على الكافرين كما هو يسير على المؤمنين فلأجل هذه النكتة ذكر وإن كان مستغنى عنه عند ذكر عسير في الحقيقة، أو هو عسير لا يرجى أن يكون يسيرا لما يرجى بتيسير العسير من أمور الدين وإليهما لمح الزمخشري في تفسيره.
الثامن: قاله صاحب " الدراية " وأخذ عنه الأكمل بأن الربع مانع قياسا والثلث استحسانا فأورده عن القياس والاستحسان.
التاسع: أورده أيضا بأن الربع مانع مع القدم والثلث مانع لا مع القدم. قلت: هذان الوجهان لا بأس بهما.
م: (مكشوف) ش: خبر لقوله وثلث ساقها م: (تعيد الصلاة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإن كان أقل من الربع لا تعيد) ش: وإن كان الذي انكشف من ساقيها أقل من ربعها لا تعيد الصلاة. والأصل أن الكثير من انكشاف العورة مانع، والقليل غير مانع، والربع ما فوقه كثير وما دونه قليل عندهما.
وقال الشافعي: لو انكشف شيء من العورة في الصلاة بطلت صلاتها ولا يعفى عن شيء منها ولو شعرة من رأس الحرة أو ظفرة منها. وعند أحمد: يعفى عن القليل ولم يحده بشيء بل جعل الكثير فاحشا في النظر والقليل لا يفحش ويرجع فيه إلى العادة.
م: (وقال أبو يوسف: إذا كان) ش: أي الانكشاف م: (أقل من النصف لا تعيد الصلاة؛ لأن الشيء إنما يوصف بالكثير إذا كان ما يقابله أقل منه إذ هما) ش: كلمة إذ للتعليل وهما أي القلة(2/127)
من أسماء المقابلة، وفي النصف عنه روايتان، فاعتبر الخروج عن حد القلة أو عدم الدخول في ضده، ولهما أن الربع يحكي حكاية الكمال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والكثرة م: (من أسماء المقابلة) ش: قال الأكمل: يريد به التقابل لا التضايف فسره هكذا لأنه احترز به عن تقابل التضاد، ولهذا قال في " الشروح " أن التقابل بينهما تقابل الضدين ليس بشيء لاجتماعهما في محل واحد، فإن الشيء الواحد يجوز أن يكون قليلا بالنسبة إلى شيء، وكثيرا بالنسبة إلى غيره. قلت: التقابل بالذات في أقسام أربعة تقابل العدم والملكة، وتقابل السلب والإيجاب، وتقابل التضاد وتقابل التضايف، هكذا ذكر في معنى التقابل بالغرض وهو التقابل بين الوحدة والكثرة فإن تقابلهما ليس بالذات بل بالعرض وما ذكرناه من الأربعة تقابل بالذات على ما عرف في موضعه.
وقال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المبسوط ": القلة والكثرة من الأسماء المشتركة فإن الشيء إذا قوبل بما هو أكثر منه يكون قليلا، وإذا قوبل بما هو أقل منه يكون كثيرا فكلتا العبارتين صحيح لأن الكثير إنما استحق القليل باعتبار المقابل، وإلا ليس له هذا الاسم، فكذا الكثير فكانت القلة والكثرة من أسماء المقابلة، وكذلك الشيء الواحد لما أطلق على معنيين مختلفين باعتبارين مقابلين كان مشتركا بينهما. قلت: أما إطلاق المقابلة بينهما فنعم ولكن الكلام في أن المراد فيها ما هو وأما الصحيحة في كون القلة والكثرة من الأسماء المشتركة فلا وجه له أصلا لا لغة ولا اصطلاحا؛ لأن قوله لأن الشيء الواحد.. الخ. رد ما قاله لأن مراده من الشيء الواحد إن كان قليلا فهو ليس بمشترك في تفسيره. وكذا إذا كان مراده هو الكثير فكذلك، وهذا ظاهر لا يخفى.
م: (وفي النصف عنه) ش: أي عن أبي يوسف، م (روايتان) ش: في رواية " الجامع الصغير " جعل النصف في حكم القليل، وفي رواية الأصل جعله في حكم الكثير.
م: (فاعتبر الخروج عن حد القلة) ش: هذا بيان جهة الروايتين فلذلك ذكره بالفاء أي اعتبر أبو يوسف الخروج أي خروج النصف عن حد القلة في كونه مانعا، وهذا ليس بخارج عنه، لأن القليل اسم لما يقابله الكثير وما يقابله هاهنا ليس بكثير، لأنه نصف والنصف اسم لأحد الجزءين المتساوين فلا يكون قليلا والقليل عفو، فإذا لم يكن قليلا يكون خارجا عن حد القلة فيكون مانعا.
م: (أو عدم الدخول في ضده) ش: أن أبا يوسف اعتبر عدم دخول النصف في ضده أي في ضد القليل وهو الكثير فيكون غير كثير لأن الكثير اسم مباين. وقول المصنف في ضده هو حد الشارحين على نفس المقابلة بالضد، وليس كذلك كما ذكر بل تقابل التضايف.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (أن الربع يحكي حكاية الكمال) ش: وفي بعض النسخ حكاية الكل أي يقوم مقام الكل في مواضع كثيرة من الأحكام واستعمال(2/128)
كما في مسح الرأس والحلق في الإحرام، ومن رأى وجه غيره يخبر عن رؤيته، وإن لم ير إلا أحد جوانبه الأربعة،
والشعر والبطن والفخذ كذلك؛ يعني على هذا الاختلاف؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكلام.
م: (كما في مسح الرأس) ش: فإن مسح ربع الرأس يقوم مقام مسح كل الرأس في الفرض م: (والحلق في الإحرام) ش: فإن المحرم إذا حلق ربع رأسه تجب الفدية كاملا، كما إذا حلق كله، وكما في الثوب الذي ربعه طاهر لا تجوز صلاته عريانا، كما لو كان كله طاهرا، وإذا كان أقل من الربع، كما لو كان كله نجسا. ومحمد مع أبي يوسف في الأضحية في اعتبار ما زاد عليه نصف العضو في المبالغة، وفي فوات النصف بينهما روايتان.
وقال الأكمل: واعترض بأن اعتبار هذا بمسح الرأس غير مستقيم؛ لأن مسح كل الرأس لم يكن واجبا حتى يقوم الربع مقامه، بل الواجب منه بعض الرأس.
أجيب: بأن الأصل في الرأس غسل كله كما في غسل الوجه؛ لأن الطهر المقصود بالوضوء يحصل به لأن الشارع اكتفى بالمسح عن الغسل ثم اكتفى بالبعض عن الكل دفعا للضرورة، فكان الربع قائما مقام الكل.
قلت: هذا أخذه من كلام صاحب " الدراية " وفيه نظر، فلذلك لما أورد صاحب " الدراية " هذا السؤال والجواب قال: كذا قيل، فهذا يشير إلى أن هذا ما أعجبه كما ينبغي وجه النظر بأنا لا نسلم أن الأصل في الرأس غسل كله، بل الأصل مسح كله؛ لأن الله تعالى شرع في الوضوء وظيفة الرأس بالمسح، ووظيفة بقية الأعضاء بالغسل، كما نطق به النص، ولكنه لما ذكر المسح بالماء وقع الاختلاف في المقدار لا في أصل المسح كما هو مقرر في موضعه.
وقال الأكمل أيضا: وقيل: هذا تشبيه القدر بالقدر لا تشبيه الواجب بالواجب، كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنكم سترون ربكم» . الحديث، فإن فيه تشبيه الرؤية بالرؤية لا تشبيه المرئي بالمرئي.
قلت: هذا أخذه من كلام صاحب " الدراية " وفيه أيضا نظر لأنه ليس المراد منه مجرد تشبيه القدر بالقدر، بل المراد تشبيه الحكم بالحكم، وإلا فلا يصح التشبيه.
م: (ومن رأى وجه غيره يخبر عن رؤيته وإن لم ير إلا أحد جوانبه الأربعة) ش: ذكر هذا تمثيلا في المحسوسات وهو أزين الأربع، وهذا من قبيل ذكر الكل وإرادة الجزء الذي هو الربع.
م: (والشعر والبطن والفخذ كذلك) ش: أي حكم شعر المرأة وبطنها وفخذها كذلك، وقد فسره بقوله: م: (يعني على هذا الخلاف) ش: يعني إذا انكشف ربع شعر المرأة يكون مانعا للصلاة عندهما. وعند أبي يوسف: إذا زاد على النصف يكون مانعا، وفي النصف روايتان، وكذا الخلاف في البطن والفخذ على هذا الوجه. وإذا انكشف سدس شعرها وسدس بطنها وسدس(2/129)
لأن كل واحد منها عضو على حدة، والمراد به النازل من الرأس، هو الصحيح، وإنما وضع غسله في الجنابة لمكان الحرج،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فخذها يجمع، فإن كان يبلغ الربع من هذه الأعضاء يكون مانعا عندهما، وإلا فلا. وذكر في " شرح الزيادات " لو كان سدس عورتها مكشوفا وسدس ساقها وسدس فخذها، وذلك يبلغ ربع الساق فلا تجزئها صلاتها، وكذا الحكم لو كان ينكشف من كل ساق أقل من الربع، ولو جمع بلغ الربع، وفي " الذخيرة ": امرأة صلت وشعرها من تحت أذنها مكشوف قدر ربعه تعيد صلاتها.
م: (لأن كل واحد منها) ش: أي من الشعر والبطن والفخذ م: (عضو على حدة) ش: أي كل واحد منها عضو وحده، فإن قلت: الشعر ليس بعضو، قلت: هذا إما من باب التغليب لأنه جزء من الآدمي حتى لا يجوز بيعه، فأطلق عليه العضو.
فإن قلت: ما الدليل على أن حكم الشعر حكم العضو؟ .
قلت: إذا حلق شعرها ولم ينبت تجب كل الدية.
م: (والمراد به النازل من الرأس) ش: أي المراد بالشعر هو الشعر النازل من الرأس لا المسترسل إلى أسفل الأذنين. وفي " الذخيرة " امرأة صلت وشعرها من تحت أذنها مكشوف قدر ربعه فسدت صلاتها. والدليل على كون الشعر النازل عورة أن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - جمع في الأصل بين الرأس والشعر، لأن المراد من الرأس ما عليه من الشعر، فثبت أن الشعر النازل منه عورة.
م: (هو الصحيح) ش: وهو اختيار الشيخ الإمام محمد بن الفضل البخاري. وقال فخر الإسلام: وهو الأصح عندنا، واحترز بقوله هو الصحيح عن قول صدر الشهيد، فإن عنده الشعر النازل ليس بعورة، وهو رواية المتقي، ذكره المحبوبي. وأما الشعر المسترسل إلى أسفل من الأذنين ففي كونها عورة روايتان، واختيار أبي الليث أنه عورة احتياطا. وعند أبي عبد الله البلخي ليس بعورة، والاحتياط فيما ذهب إليه أبو الليث وما ذهب إليه البلخي يقتضي جواز النظر إلى صدغ الأجنبية وطرف ناصيتها، وهو أمر يؤدي إلى الفتنة. وثدي المرأة الحرة إن كانت ناهدة فهي تبع لصدرها، وإن تدلت فهي عورة على حدة فيعتبر ربعها.
م: (وإنما وضع غسله في الجنابة لمكان الحرج) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: لو كان الشعر النازل عورة باعتبار أنه من بدنها لوجوب غسلها في حالة الجنابة، وتقريره الجواب: أن سقوط غسله ليس باعتبار أنه ليس من بدنها، بل هو من بدنها لاتصاله بها، ولكن غسله في الجنابة إنما سقط لأجل الخروج في بعضها إياها، بخلاف الرجل فإن الخروج فيها يسيرا، إما لقلته وإما ليسر الغسل على الرجل فوق يسره على النساء، لا لغسله الحياض والأنهار جهارا ودخوله الحمام بلا خشية في الخروج من البيوت.(2/130)
والعورة الغليظة على هذا الاختلاف،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: ما ذكر الساعد وهو عورة.
قلت: لأنها لم تدخل في الاستثناء لأن العادة لم تجر بإبرازها.
م: (والعورة الغليظة على هذا الاختلاف) ش: العورة الغليظة هي القبل والدبر، وأراد بهذا الاختلاف المذكور فيما تقدم من انكشاف النصف والربع، يعني إذا لم يكن المكشوف منها زائدا على النصف لا يكون مانعا عند أبي يوسف، وعندهما إذا لم يكن ربعها مكشوفا لا يكون مانعا. واعلم أن عند عامة العلماء العورة الغليظة حكمها حكم الخفيفة، والخلاف في الكل واحد.
والعورة الخفيفة: ما عدا القبل والدبر، وبعض المشايخ قدروا في الغليظة بما زاد على قدر الدرهم؛ احتياطا، كما في النجاسة الغليظة، وكذا في الخفيفة بالربع، والأصح الأول. ولو نظر إلى داخل فرج امرأة بشهوة حرمت عليه أمها وبنتها، ويصير مراجعا ولا تفسد صلاته. وفي " الأجناس ": تفسد صلاته أيضا. وذكر ابن شجاع أن من نظر من ربقه إلى فرجه لم تجز صلاته. وفي نوادر هشام: إذا كان قميصه محلول الجيب فانفتح حتى رأى عورة نفسه، تبطل صلاته وأعاد، وإن لم يلتزق الثوب ببردة حتى لا يراها لو نظر، لا تفسد، فعلى هذه الرواية جعل سترها من نفسه شرطا، ومن الأصحاب من قال: إن كان كثيف اللحية تجوز صلاته لأنها تسترها. وقال بعضهم: لا تجوز ولا تنفعه لحيته.
وفي " الذخيرة ": وعامة الأصحاب جعلوا الستر شرطا عن غيره لا عن نفسه؛ لأنها ليست بعورة في حق نفسه لأنه يحل له مسها والنظر إليها، وبالأول قال الشافعي وأحمد. وروى ابن شجاع نصا عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لو كان محلول الجيب فنظر إلى عورة نفسه لا تفسد صلاته، ولو نظر المصلي إلى عورة غيره لا تفسد صلاته عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال المرغيناني: هو قولهما، ولو صلى في قميص واحد لا يرى أحد عورته، لكن لو نظر إنسان من تحته فرأى عورته، فهذا ليس بشيء. والثوب الرقيق الذي يصف ما تحته لا تجوز فيه، وهو قول الشافعي وأحمد لأنه مكشوف العورة معنى.
مراهقة صلت بغير قناع جازت استحبابا لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا صلاة لحائض إلا بقناع» ، مفهومه أن غير الحائض صلاتها صحيحة بغير قناع، ولو كانت عريانة تؤمر بإعادتها، والصغيرة جدا لا بأس بالنظر إليها ومنها. وقال الشافعي: يستوي في العورة الحر والعبد والصبي، حكاه النووي. ولنا ما رواه ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرج بين فخذي الحسن وقبل زبيرته» ذكره الطبراني في معجمه الكبير.
لا يجب ستر المنكب في الصلاة ولا في غيرها، وبه قال مالك والشافعي وعامة أهل العلم.
وقال أحمد: لا تصح صلاته بدونه ستر بعض المنكبين ولو بثوب رقيق يصف ما تحته، في ظاهر(2/131)
والذكر يعتبر بانفراده، وكذا الأنثيان، وهذا هو الصحيح دون الضم. قال: وما كان عورة من الرجل فهو عورة من الأمة، وظهرها وبطنها عورة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مذهبه، وعنه ابن قدامة في " المغني ". وقال ابن المنذر: يجب ستر العاتق في الصلاة مع القدرة عليه بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء» أخرجاه. قلنا: قد عارضه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا كان الثوب واسعا فالتحف به وإن كان ضيقا فاتزر به» رواه البخاري. «وسئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في ثوب واحد فقال: "ولكل منكم ثوبان» رواه مسلم.
م: (والذكر يعتبر بانفراده) ش: من غير أن يضم إلى الأنثيين، احتياطا، كما في الدية. م: (وكذا الأنثيان) ش: أي وكذا حكم الخصيتين مثل حكم الذكر، حيث لا يضم كل منهما إلى الآخر حتى يمنع انكشاف الربع من كل واحد من الذكر والأنثيين.
م: (وهذا هو الصحيح) ش: يعني اعتبار كل واحد منهما بانفراده من غير ضم إلى آخر هو الصحيح من المذهب، واحترز به عما ذكر بعض المشايخ أن الأنثيين مع الذكر عضو واحد فجعلوهما تبعا للذكر.
وأذن المرأة عضو على حدة، والركبة تبع للفخذ على ما هو المختار في الفتاوى، حتى إن ربع الركبة لو كان مكشوفا لا يمنع الصلاة. وكعب المرأة حكمها حكم الركبة. وما بين سرة الرجل وعانته حول جميع البدن عضو على حدة.
م: (دون الضم) ش: أي دون ضم الذكر إلى أنثيين على ما ذكرناه
[عورة الأمة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وما كان عورة من الرجل فهو عورة من الأمة) ش: عورة منصوب لأنه خبر كان، قاله بعض الشراح.
قلت: يجوز الرفع أيضا على أن تكون (كان) تامة وإن كانت عورة الأمة، ما هو عورة الرجل؟ لأن حكم العورة في الإناث أغلظ، فإذا كان الشيء من الرجال عورة كان من الإناث عورة بالطريق الأولى م: (وظهرها وبطنها عورة) ش: يعني: هذان العضوان أيضا عورة من الأمة لأنهما محل من الشهوة. وقال المرغيناني: العورة من الأمة أربع: الظهر والبطن والفخذ والركبة.
قلت: ويضاف إليها المدبرة وأم الولد والمكاتبة والمستسعاة، ومن كان في رقبتها شيء من الرق فهي في معنى الأمة، والمستسعاة عندهما حرة، والمستسعاة المرهونة إذا أعتقها الراهن وهو معسر حرة بالاتفاق، ذكره في " الجامع "، وقال الشافعي في أصح أقواله: الأمة كالرجل، والتي بعضها حر فيها وجهان في " الحاوي " أحدهما: كالحرة، وعند أحمد فيما حكاه عن أبي حامد: عورة الأمة كعورة الرجل، وهو الأظهر عندهم، حتى لو انكشف فيها ما بين سرتها وركبتها فصلاتها باطلة، وإن انكشف ما عدا ذلك صحت.(2/132)
وما سوى ذلك من بدنها ليس بعورة؛ لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ألق عنك الخمار يا دفار أتتشبهين بالحرائر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الجامع ": عورة الأمة ما عدا الرأس واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين. وعن ابن سيرين: أم الولد يلزمها ستر رأسها في الصلاة، وإذا زوج الأمة سيدها أو سواها قال الحسن البصري: يلزمها ستر رأسها، ولم يوافقه أحد من العلماء. وفي " المبسوط ": عتقت الأمة أو المدبرة أو المكاتبة أو أم الولد في صلاتها، فأخذت قناعها بعمل يسير قبل أن تؤدي ركنا، لا تفسد صلاتها وإلا فسدت، وكذا لو سقط قناع الحرة في صلاتها وإزار الرجل.
وقال زفر: تفسد في الكل، ولو صلت شهرا بغير قناع ثم علمت بالعتق منذ شهر تعيدها. وفي فتاوى العتابي السغناقي: ولو كان عليها ثوب أو مقنعة تصف ما تحته فهي عريانة، وبه قال الشافعي. وفي " الحلية ": عورة الأمة كعورة الرجل، على ظاهر المذهب. وبعض أصحابنا قال: جميع بدنها عورة إلا موضع التقليب منها في الشراء كالرأس والساعد والساق.
وقال بعضهم: عورتها كعورة الحرة، إلا أنها يجوز لها كشف رأسها ولو كان نصفها حرا ونصفها رقيقا فهي كالحرة على ظاهر المذهب. وعن ابن سيرين: أم الولد تصلي بخمار وهي عورة، رواية عن أحمد، ويحكى عن مالك أيضا: ولو أعتقت الأمة في الصلاة ورأسها مكشوف وهنا سترة بعيدة، بطلت صلاتها، وفي " الحاوي ": فيه اختلاف، والصحيح أنها تبطل لقدرتها على أخذ الثوب في الحال. والثاني يبطل بالمضي وبطول العمل، وإذا انتظرت من يناولها الستر فناولها من غير أن تحدث عملا ففيه وجهان، أحدهما: لا تبطل صلاتها، والثاني: تبطل. ولو علمت بالعتق بعد الصلاة ففي وجوب الإعادة قولان، وقيل: يجب الإعادة قولا واحدا، والأول أصح.
م: (وما سوى ذلك من بدنها) ش: أي وما سوى ذلك من عورتها مثل عورة الرجل وبطنها وظهرها م: (ليس بعورة لقول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ألق عنك الخمار يا دفار أتتشبهين بالحرائر) ش: هذا الأثر غريب، قال السروجي: وفي الكتاب وغيره من كتب الفقه عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنه قال لأمة: ألقي عنك الخمار.. إلخ. لم أجده في كتب الحديث والأثر.
قلت: معناه رواه عبد الرزاق في " مصنفه ": أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب أمة لآل أنس رأسها متقنعة فقال: اكشفي رأسك لا تتشبهي بالحرائر. وعن ابن جريج عن عطاء عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان نهى الإماء عن الجلابيب أن يتشبهن بالحرائر. قال ابن جريج: وجد أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب عقيلة أمة أبي موسى الأشعري في الجلباب أن تتجلبب. وعن ابن جريج عن نافع أن صفية بنت عبيد حدثته قالت: خرجت امرأة مخمرة سجلة فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من هذه المرأة؟ فقيل له: جارية لفلان، رجل من بنيه(2/133)
ولأنها تخرج لحاجة مولاها في ثياب مهنتها عادة، فاعتبر حالها بذوات المحارم في حق جميع الرجال دفعا للحرج.
قال: ومن لم يجد ما يزيل به النجاسة صلى معها ولم يعد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فأرسل إلى حفصة فقال: ما حملك على أن تخرجي هذه الأمة وتجليها حتى هممت أن أقع لها [....
] لا تشبه الإماء من المحصنات.
وروى محمد بن الحسن في كتاب " الآثار " أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن سليمان عن إبراهيم النخغي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يضرب الإماء أن يتقنعن ويقول: لا يتشبهن بالحرائر.
وقال البيهقي: الآثار بذلك صحيحة. قوله يا دفار، بفتح الدال المهملة، وفي آخره راء مكسورة، ومعناه: يا منتنة، وهي معدولة عن دفرة أي منتنة وهي مبنية من الكسر، ويقال للدنيا: أم دفر.
قوله: ألقي، مجزوم عند الكوفيين وعلامة جزمه حذف النون، وعند البصريين مبني على الجزم.
م: (ولأنها) ش: أي ولأن الأمة م: (تخرج لحاجة مولاها في ثياب مهنتها) ش: بفتح الميم وكسرها، قاله صاحب " الدراية ". قال في " المغربين ": المهنة: الخدمة، بنصب الميم، وخفضه خطأ، قاله شمس الأئمة عن مشايخه. قال الأصمعي: المهنة بفتح الميم هي الخدمة، ولا يقال: مهنة بكسر، نقله الزمخشري عنه وهو من: مهن القوم خدمهم م: (عادة) ش: أي في عادة أصحاب الإمام.
م: (فاعتبر حالها بذوات المحارم في حق جميع الرجال) ش: يعني يجوز أن ينظر الرجل من ذوات محارمه إلى الوجه والرأس والصدر والساقين والعضدين، فكذا يجوز أن ينظر الأجنبي من الأمة إلى هذه المواضع م: (دفعا للحرج) ش: لأن البعض من غير استئذان واحتشام
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومن لم يجد ما يزيل به النجاسة صلى معها) ش: أي مع النجاسة.
وكلمة ما بالقصر ليتناول المائعات، كذا ذكره الشراح، ويجوز أن يكون بالمد، ولكن الأول أولى للعموم م: (ولم يعد) ش: أي الصلاة. وقال الشافعي: يعيد، وفي قول: يصلي عريانا، وهو ظاهر مذهبه.
وقال مالك: يصلي في الثياب النجسة ولا يعيد، ثم المذهب عندنا أن إزالة النجاسة عن الثوب والبدن والمكان شرط لصحة الصلاة عند القدرة، ولا فرق بين العلم والجهل والنسيان في الفرض والنفل وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة والشكر. وبه قال الشافعي وأحمد وجمهور الفقهاء من السلف والخلف.
وقال النووي: عن مالك فيها ثلاث روايات، أشهرها أنه لا تصح مع النسيان والجهل، وهو(2/134)
وهذا على وجهين: إن كان ربع الثوب أو أكثر منه طاهرا يصلي فيه، ولو صلى عريانا لا يجزئه؛ لأن ربع الشيء يقوم مقام كله؛ وإن كان الطاهر أقل من الربع فكذلك عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن في الصلاة فيه ترك فرض واحد، وفي الصلاة عريانا ترك للفروض، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: يتخير بين أن يصلي عريانا وبين أن يصلي فيه، وهو الأفضل؛ لأن كل واحد منهما مانع جواز الصلاة حالة الاختيار، ويستويان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قول الشافعي في القديم وفي الثانية معنا، وفي الثالثة إزالتها سنة عنده، ونقل عن ابن عباس وابن جبير وعطاء مثله.
م: (وهذا) ش: أي الحكم المذكور أو الجواب المذكور م: (على وجهين) ش: أحدهما هو قوله: م: (إن كان ربع الثوب أو أكثر منه) ش: أي أكثر من الربع م: (طاهرا يصلي فيه) ش: أي في هذا الثوب م: (ولو صلى عريانا لا يجزئه) ش: ولو قال فلو صلى، بالفاء، لكان أولى على ما لا يخفى م: (لأن ربع الشيء يقوم مقام كله) ش: فحينئذ عاره، وهو ظاهر، والوجه الثاني هو قوله: م: (وإن كان الطاهر أقل من الربع فكذلك) ش: أي فالحكم فيه كالحكم في الأول م: (عند محمد وهو أحد قولي الشافعي) ش: وقول مالك وأحمد.
وقال النووي: فإن وجد ما يستر به القبل أو الدبر ففيه وجهان، أصحهما يستر به القبل لأن الدبر يستر بالأليتين. والثاني: يستر به الدبر لأنه أفحش في حالة الركوع والسجود، ومثله في " المغني " عن الحنابلة حكما وتعليلا، وأصول أصحابنا يقتضي التخيير في ذلك لأن كل واحد منهما عورة غليظة.
م: (لأن في الصلاة فيه) ش: أي في الثوب الذي الطاهر منه أقل من الربع م: (ترك فرض واحد) ش: وهو إزالة النجاسة م: (وفي الصلاة عريانا) ش: أي حال كونه عريانا م: (ترك للفروض) ش: وهو ستر العورة والقيام والركوع والسجود، ولأن الستر أقوى لوجوبه في الصلاة وغيرها بخلاف النجاسة حيث لا يلزم إزالتها إلا للصلاة، ولهذا إذا طاف عرايا يلزمه دم، ولا يلزمه إذا طاف بثوب نجس.
م: (وعند أبي حنيفة وأبي يوسف: يتخير بين أن يصلي عريانا وبين أن يصلي فيه) ش: أي في الثوب الذي أقل من ربعه طاهر م: (وهو الأفضل) ش: أي فعله هذا هو الأفضل، وهو الصلاة بعد م: (لأن كل واحد منهما) ش: أي من ترك ستر العورة وإزالة النجاسة م: (مانع جواز الصلاة حالة الاختيار) ش: أي في حالة القدرة عليهما م: (ويستويان) ش: جملة في محل الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، تقديره: وهما يستويان، وإنما قدرنا هكذا ليكون عطف جملة اسمية على جملة اسمية؛ أي تساوي العورة والنجاسة.(2/135)
في حق المقدار، فيستويان في حكم الصلاة، وترك الشيء إلى خلف لا يكون تركا، والأفضلية لعدم اختصاص الستر بالصلاة
واختصاص الطهارة بها. ومن لم يجد ثوبا صلى عريانا قاعدا يومئ بالركوع والسجود،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (في حق المقدار) ش: هذا الكلام له وجهان، أحدهما أن يكون معناه أن القليل من كل واحد غير مانع والكثير مانع، فلما كان كذلك ثبت المساواة بينهما في الماهية من غير رجحان أحدهما على الآخر، فيختار أيها شاء.
والوجه الثاني: أن يكون معناه: في مقدار الربع، فإن المانع في النجاسة الخفيفة مقدر بالربع، وكذا المانع في العورة الربع، فلما استويا في المانع وفي المقدار استوى اختيار المصلي أيضا في أن يصلي فيه أو يصلي عريانا، وأشار إليه بقوله:
م: (فيستويان في حكم الصلاة) ش: فيكون مخيرا بين الصلاة في ذلك الثوب وبين الصلاة عريانا م: (وترك الشيء إلى خلف لا يكون تركا) ش: هذا جواب عما قاله محمد أن في ترك الصلاة عاريا ترك الفروض، يعني لا نسلم أن فيها تركا لوجود الخلف وهو الإيماء.
م: (والأفضلية) ش: هذا جواب عن قول السائل سلمنا أنه أتى بفرض وترك فرضا ولكن لا نسلم المساواة بينهما، فإن فرضية الستر أقوى من فرضية ترك استعمال النجاسة، ومن أين الأفضلية، فأجاب عن ذلك وأقام دليلا على قوله، وهو الأفضل، بقوله: والأفضلية؛ أي كون الصلاة في ذلك الثوب أفضل.
م: (لعدم اختصاص الستر بالصلاة) ش: يعني ستر العورة لا يختص بالصلاة حيث يجب سترها في غير الصلاة، وكانت رعاية ما كان واجبا دائما أولى مما كان واجبا في حال دون حال
[صلاة العريان]
م: (ومن لم يجد ثوبا) ش: أي لم يجد ثوبا أصلا لا طاهرا ولا نجسا م: (صلى عريانا) ش: أي صلى حال كونه عريانا.
م: (قاعدا يومئ بالركوع والسجود) ش: قاعدا أيضا حال، وكذا قوله: يومئ. فهذه ثلاثة أحوال، إما متداخلة أو مترادفة، وتغير القعود عن ركن الإسلام على الصفة بأن يمد رجليه نحو القبلة ليكون أقرب إلى الستر، وما ذكره المصنف هو مروي عن ابن عباس وابن عمر وعطاء وعكرمة وقتادة والأوزاعي وأحمد. وقال المزني: يصلي قاعدا حتما، وقال مجاهد وزفر وبشير ومالك والشافعي وابن المنذر: يصلي قائما يركع ويسجد. وقال النووي: حكى الخراسانيون فيه ثلاثة أوجه، أحدها وجوب القيام، كما ذكرنا عن الشافعي.
الثاني: وجوب القعود كقول المزني.
الثالث: التخيير.(2/136)
هكذا فعله أصحاب رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فإن صلى قائما أجزأه، لأن في القعود ستر العورة الغليظة وفي القيام أداء هذه الأركان، فيميل إلى أيهما شاء، إلا أن الأول أفضل؛ لأن الستر واجب لحق الصلاة وحق الناس، ولأنه لا خلف له، والإيماء خلف له عن الأركان.
قال: وينوي الصلاة التي يدخل فيها بنية لا يفصل بينها وبين التحريمة بعمل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والمذهب الصحيح عندهم الأول.
م: (هكذا فعله أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: قال الزيلعي: غريب.
قلت: روى الخلال بإسناده عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن قوما انكسرت بهم السفينة فخرجوا عراة وكانوا يصلون جلوسا يومئون بالركوع والسجود دائما برؤوسهم، ولم ينقل خلافه، وروى عبد الرزاق في " مصنفه ": أخبرنا إبراهيم ابن محمد عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: الذي يصلي في السفينة والذي يصلي عريانا يصلي جالسا. أخبرنا إبراهيم عنه عن صلاة العريان فقال: إن كان حيث يراه الناس صلى جالسا، وإن كان حيث لا يراه الناس صلى قائما.
م: (فإن صلى قائما أجزأه لأن في القعود ستر العورة الغليظة، وفي القيام أداء هذه الأركان، فيميل إلى أيهما شاء) ش: أي إلى أي الوجهين، أحدهما الصلاة قاعدا مومئا بالركوع، والآخر قائما م: (إلا أن الأول) ش: أي الصلاة قاعدا مومئا بالركوع والسجود م: (أفضل) ش: من الصلاة قائما م: (لأن الستر واجب لحق الصلاة وحق الناس) ش: لأن ستر العورة فرض، سواء كان في الصلاة أو خارجها.
م: (ولأنه) ش: دليل بأن في أفضلية الصلاة قاعدا بالإيماء، ولأن فعله قائما م: (لا خلف له) ش: لأنه عريان والستر لا خلف له م: (والإيماء خلف له عن الأركان) ش: فالترك إلى خلف كلا ترك، كما عرف، ولا إعادة عليه. قال أبو حامد: لا أعلم خلافا بين المسلمين، ذكره النووي. وذكر الحسام وقاضي خان في الزيادات وأبو نصر في شرح " القدوري " أنه يصلي قائما، ولم يذكروا جوازها قائما، وعللوا أن ترك القيام جائز في حالة الاختيار كصلاة القاعد وعلى الدابة بالإيماء في النفل.
وكشف العورة لا يجوز في حال الاختيار حتى إنها لو صلت قائمة تنكشف قائمة ربع ساقها، وقاعدة لا تنكشف، تصلي قاعدة، وذكر جوازه قائما بالركوع والسجود في " المبسوط " " والمحيط " وغيرهما.
[النية من شروط الصلاة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وينوي الصلاة التي يدخل فيها بنية لا يفصل بينها وبين التحريمة بعمل) ش: اجتمعت الأمة على أن الصلاة لا تصح بدون النية، وقطع الجمهور أن نية القلب كافية دون اللفظ، وفي قول أبي عبد الله الترمذي من الشافعية أنه لا يجوز حتى يجمع بين نية القلب(2/137)
والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الأعمال بالنيات» . ولأن ابتداء الصلاة بالقيام إليها، وهو متردد بين العبادة والعادة، ولا يقع التمييز إلا بالنية، والمتقدم من النية على التكبير كالقائم عنده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفعل اللسان، وليس بشيء. وفي " المفيد ": كره بعض مشايخنا النطق باللسان، ورواه الآخرون به.
وفي " المحيط ": النية شرط لصحة الصلاة، وهي إرادتها بالقلب فرض والذكر باللسان سنة، فينبغي أن يقول: اللهم إني أريد صلاة كذا فيسرها وتقبلها مني؛، فعلها مني، كما يقول في الحج من معرفة أي صلاة يؤديها، كذا في " المبسوط " قوله: بنية، إلى آخره، إشارة إلى أن الأصل في النية المقارنة بالشروع، والمراد بقوله: بعمل، أي عمل ينافي الصلاة حتى لم يكن المشي إليها فاصلا لعدم منافاته، وإذا فصل بينهما فعل مناف لا تكون النية موجودة عند التحريمة، فبقي بلا نية فلا يصح. وفي " الينابيع ": يشترط اتصال النية بالصلاة؛ تحقيقا لمعنى الإخلاص، وشرطت في ابتدائها لتقع كلها مستويا، ولم يشترط في حالته البقاء للحرج. والشرط أن يعلم بقلبه أية صلاة يصليها. وقيل: أدناها أنه لو سئل عنها لأمكنه أن يجيب بديهة من غير فكر.
م: (والأصل فيه) ش: أي في اشتراط النية م: (قوله عليه الصلاة والسلام: «الأعمال بالنيات» ش: هذا الحديث رواه الأئمة الستة في كتبهم عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ولفظ مسلم: «الأعمال بالنيات» ، مثل لفظ الكتاب، وفي رواية: «الأعمال بالنية» ومعنى الأعمال بالنيات: حكم الأعمال وثوابها يلصق بها، ومن جملة الأعمال عمل الصلاة، ولا يمتاز إلا بالنية، لأن ابتداء الصلاة بالقيام وهو يوجد كثيرا ولا عبادة، فاحتاج إلى النية المميزة للعبادة عن العادة، فاشترطت النية.
فإن قلت: كيف يصح الاستدلال على شرطية النية أو على عدم الفصل بينها وبين التحريمة بهذا الحديث؛ فإن قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الأعمال، من قبيل الاقتضاء، على مذهب أبي يزيد، ومن قبيل المحذوف على مذهب الشيخين. وعلى التقديرين لا عموم له، وحكم الآخرة وهو الثواب مراد بالإجماع، فلا يكون حكم الدنيا وهو الجواز والفساد مرادا لأنه لا عموم له ولا للمقتضي ولا للمنزل.
قلت: الجواز في حكم الآخرة أيضا؛ إذ الثواب يتعلق بالجواز، إذ لا ثواب بدونه. وقيل بعد كون العمل معتبرا بالنية: الحكم نوعان، فقلنا: يحتاج إلى النية بوقوعه معتبرا شرعا.
م: (ولأن ابتداء الصلاة بالقيام إليها، وهو متردد بين العبادة والعادة، ولا يقع التمييز إلا بالنية، والمتقدم من النية على التكبير كالقائم عنده) ش: أي كالموجود عند التكبير.(2/138)
إذ لم يوجد ما يقطعه، وهو عمل لا يليق بالصلاة، فلا يعتبر بالمتأخرة منها عنه؛ لأن ما مضى لا يقع عبادة لعدم النية، وفي الصوم جوزت للضرورة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إذ لم يوجد ما يقطعه) ش: أي ما يقطع المتقدم من النية م: (وهو) ش: أي الذي يقطعه م: (عمل لا يليق بالصلاة) ش: مثل أن ينوي فيشتري شيئا مثلا م: (فلا يعتبر بالمتأخرة) ش: أي بالنية المتأخرة م: (منها) ش: أي من التحريمة م: (عنه) ش: أي عن التكبير، وفي بعض النسخ لم يذكر لفظة عنه، ومعناه على هذه النسخة: لا معتبر بالنية المتأخرة من التحريمة، وعلى النسخة الأولى جعل المتأخرة صفة مطلقة، ثم بينها بقوله: منها، كذا قاله الأترازي.
قلت: الأوجه ما ذكرته فلا يحتاج إلى التكلف.
فإن قلت: لفظة (عنه) تنافي ما ذكرته.
قلت: لا، لأن لفظة (عنه) على تقدير كونها من النسخة تكون بدلا عن الضمير الذي في (منها) الذي هو كناية عن التحريمة، فافهم.
م: (لأن ما مضى) ش: يعني من الأجزاء م: (لا يقع عبادة لعدم النية) ش: والأجزاء الباقية مبنية عليه فلم يجز، وبه قال الشافعي. وعن الكرخي: يجوز بالمتأخرة ما دام في الثناء. وقيل: إلى التعوذ. وقيل: إلى ما بعد الفاتحة. وقيل: إلى الركوع، وهو مروي عن محمد. وفي " القنية " عن الحلوائي: كبر ثم غفل عن النية ثم نواها يجوز.
وفي " المحيط ": لو نوى بعد قوله: الله، قبل قوله: أكبر، لا يجزئه عند أبي حنيفة، وفيه أيضا عن محمد: لو خرج من منزله يريد الفرض في الجماعة، فلما انتهى إلى الإمام كبر ولم تحضره النية وقت الشروع، يجوز. ومثله عن أبي حنيفة وأبي يوسف. وذكر الطحاوي أن النية تكون مخالطة للتكبير باللسان، قال: وهو الأحوط، ولا يجوز بعد التكبير ويكون متطوعا.
وقال الشافعي: يجب أن تكون النية مقارنة للتكبير لا قبله ولا بعده. وقال النووي: وفي كيفية المقارنة وجهان، أحدهما بحيث يبتدئ النية بالقلب مع ابتداء التكبير باللسان، ويفرغ منها مع فراغه منه. قال: وأصحهما لا يجب هذا، بل لا يجو لئلا يخلو أول التكبير عن إتمام النية. واختيار إمام الحرمين والغزالي أنه لا يجب التدقيق وتحقيق المقارنة، وأنه تكفي المقارنة العرفية العامية، حيث يعد مستحضر الصلاة غير غافل عنها.
م: (وفي الصوم جوزت للضرورة) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر، تقديره أن يقال: كان القياس على ما ذكرت في الصلاة أن لا تجوز النية المتأخرة في الصوم أيضا؛ لاشتراط النية منهما، وتقرير الجواب أن ما ذكرت في الصوم جوزت النية المتأخرة لأجل الضرورة لأن قران النية بوقت انفجار الصبح فيه حرج عظيم لكونه وقت نوم وغفلة بخلاف الصلاة، فإن الشروع فيها حال اليقظة(2/139)
والنية هي الإرادة، والشرط: أن يعلم بقلبه أي صلاة هي، أما الذكر باللسان فلا يعتبر به، ويحسن ذلك لاجتماع عزيمته ثم إن كانت الصلاة نفلا يكفيه مطلق النية، وكذا إن كانت سنة في الصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فبقي الحكم على القياس، وهو أن تكون النية مقارنة بالشروع.
[تعريف النية]
م: (والنية هي الإرادة) ش: هذا تفسير النية؛ أي الإرادة الجازمة القاطعة م: (والشرط: أن يعلم بقلبه أي صلاة هي) ش: لأن النية الإرادة كما ذكره، والإرادة لا بد أن تكون بشيء مخصوص ليقع التميز بينه وبين غيره، والتمييز لا يكون إلا بعلمه، وعلامة علمه أنه إذا سئل عن ذلك أمكنه أن يجيب على الفور، فإن توقف في الجواب لم يكن عالما به، فعلم من ذلك أن العلم غير النية، ولكن شرطها، وقال شيخ الإسلام: الأصح أن العلم لا يكون نية لأنه غيرها، ألا ترى أن من علم الكفر لا يكفر ولو نواه يكفر، فتناول قول المصنف والشرط قصد بعد العلم. قلت: ما في كلام المصنف ما يشير إلى هذا، والأحسن ما ذكرته أولا.
م: (أما الذكر باللسان فلا يعتبر به) ش: يعني في الجواز لأنه كلام وليس بنية ومن عمل القلب، واللسان يوجه عن ذلك م: (ويحسن ذلك) ش: أي الذكر باللسان م: (لاجتماع عزيمته) ش: أي لاجتماع نيته به. وذكر في بعض الكتب أن الذكر باللسان يستحب، وعبارة " المبسوط " أنه حتم، وعند بعضهم أنه سنة مؤكدة ومكملة. وذكر في " جامع الكردري " أنه يكره الذكر باللسان عند البعض لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنكر على من يسمع ذلك منه، ولأن النية عمل القلب والله مطلع على الضمائر، فالإيضاح في حقه غير مفيد، فيكره.
م: (ثم إن كانت الصلاة نفلا يكفيه مطلق النية) ش: وهذا بيان لكيفية النية، لأن النية لها أصل ووقت وكيفية، وقد بين المصنف أصلها بقوله: والأصل فيه بين وقتها بقوله: والمتقدم على التكبير، إلى آخر، وشرع هذا في بيان كيفيتها لأن الصلاة التي يدخل فيها إما فرض أو غيره، فإن كان غير الفرض بأن كان نفلا يكفيه مطلق النية لأنها للتمييز عن العادة، وهو يحصل بمطلق النية بأن يقول: نويت أن أصلي، ولأن العمل لعموم أفرادها متعذر إذ الجمع بين الفرائض والنوافل في تحريمة واحدة لا يجوز، فيكون المراد أحدهما، فكان صرف اسم الصلاة إلى النفل أولى لأنه أدنى لأن النفل مشروع في كل الأوقات، فكان بمنزلة الحقيقة وغيره بمنزلة المجاز، والكلام على الحقيقة، كذا ذكره شيخ الإسلام. م: (وكذا إن كانت سنة) ش: أي وكذا يكفيه مطلق النية إن كانت الصلاة سنة لأن السنة نفل أيضا لكونها زيادة عبادة شرعت لتكميل الفرائض. وقوله: سنة، يشتمل سائر السنن وكذا التراويح.
م: (في الصحيح) ش: احترز به عما ذكره بعض المشايخ لأنه لا بد من أن ينوي سنة الرسول، إذ فيها صفة زائدة على النفل المطلق كما في الفرض. وفي " التجنيس " والاحتياط أن ينوي(2/140)
وإن كانت فرضا فلا بد من تعيين الفرض كالظهر مثلا لاختلاف الفروض،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
متابعة الرسول، وبه قال الشافعي، فإنه ذكر في شرح " الوجيز " و " الحلية ": النوافل ضربان: ما يتعلق بسبب أو وقت، فيشترط فيه نية فعل الصلاة والتعيين فينوي، كسنة الاستسقاء والخسوف والعيد والتراويح والضحى وغيرها. وفي الرواية يتعين بالإضافة فيقول: سنة الفجر أو الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء، وفيما عداها يكفي مطلق النية.
م: (وإن كانت فرضا) ش: أي وإن كانت الصلاة فرضا من الفرائض م: (فلا بد من تعيين الفرض كالظهر مثلا) ش: فيقول: نويت ظهر اليوم وعصر اليوم أو فرض الوقت أو ظهر الوقت، فإن نوى الظهر لا غير لا يجوز م: (لاختلاف الفروض) ش: لأنها متنوعة فلا يحصل له التمييز.
وفي " المحيط ": لو نوى الظهر بدون ذكر اليوم والوقت لا يجزئه لأنه ربما كانت عليه صلاة فائتة فلا يتعين، أما لو نوى فرض الوقت يجزئه وخارج الوقت لا، والأولى أن يقول: ظهر اليوم، سواء كان الوقت خارجا أو لا.
وفي " المجتبى " لا بد من نية الصلاة ونية الفرض ونية التعيين، حتى لو نوى الفرض لا تجزئه، ولو نوى فرض الوقت أو فرض الظهر يجزئه، وإن ظهر أنه خرج الوقت.
والصحيح أنه لا يجزئه ولو نوى الظهر لا غير.
قيل: لا يجزئه، والأصح أنه يجزئه، وإن ظهر أنه خرج الوقت، فالصحيح أنه لا يجزئه. ولو نوى الظهر لا غير قيل: لا يجزئه، والأصح أنه يجزئه، ذكره في فتاوى السغناقي. وعند الشافعي ينوي الظهر المفروضة. وقال ابن أبي هريرة من أصحابه: يجزئه نية الظهر أو العصر كما هو مذهبنا.
وفي " المجتبى ": وفي اشتراط نية فرض الصلاة ونية استقبال القبلة اختلاف المشايخ، ولم يذكره في ظاهر الرواية فعند الفضلي شرط وعند الحامدي إن أتى به فحسن، وإن تركه لا يضر، في " الخزانة ": وهو الصحيح.
وبعض المشايخ قالوا: إن كان يصلي في المحراب فكما قال الحامدي، وإن كان يصلي في الصحراء فكما قال الفضلي، كذا في " شرح الطحاوي ". ولو نوى فرض الوقت بعدما خرج الوقت لا يجوز، وإن شك في خروجه فنوى فرض الوقت جاز. وعند الشافعي لا يجوز في أصح الوجهين.
وفي " جامع الكردري " ينوي الجمعة ولا ينوي فرض الوقت لأنه مختلف فيه، وينوي الوتر لا الوتر الواجب لأنه مختلف فيه، وفي صلاة الجنازة ينوي الصلاة لله تعالى والدعاء للميت.(2/141)
وإن كان مقتديا بغيره ينوي الصلاة ومتابعته؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن كان) ش: المصلي م: (مقتديا بغيره ينوي الصلاة) ش: التي شرع فيها م: (ومتابعته) ش: أي نوى أيضا متابعة الإمام، فإذا نوى صلاة الإمام هل تجزئه؟ قال في " الخلاصة ": لا تجزئه، وقال في " شرح الطحاوي ": أجزأه، وقام مقام نيتين.
وقيل: يحتاج المقتدي إلى أربعة أشياء: نية الصلاة، وتعيينها، ونية الاقتداء، ونية القبلة، والصحيح ما ذكر أولا. وفي " المرغيناني ": يحتاج المنفرد إلى ثلاث نيات، أولها: ينوي أي هي، ثانيها ينوي لله تعالى، ثالثها ينوي استقبال عرصة القبلة، والمقتدي يحتاج إلى أربع نيات، الثلاثة منها تقدمت، والرابعة ينوي أنه اقتدى بفلان، والأفضل أن يقول من هو إمامي أو بهذا الإمام، جاز، ولا يجوز تركه نية الاقتداء، ونية الإمامة للإمام ليست بشرط عند عامة الفقهاء. وقال أبو حفص الكبير والكرخي: لا بد منه، وبه قال أحمد.
وأما نية إمامة النساء ففيها خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإمامة.
وفي " المفيد ": ويقول المقتدي: اللهم إني أريد أن أصلي فرض الوقت مستقبل القبلة مقتديا بهذا الإمام، أو بالإمام. ولو نوى الاقتداء بهذا الإمام ولم يعين الظهر أو نوى الشروع في صلاة الإمام، اختلف فيه المشايخ، قيل: لا يجزئه، والأصح أنه يجزئه. وفي " المحيط ": لو نوى الظهر ولم ينو ظهر الوقت قيل: لا يجزئه التطوع، وقيل: يجزئه إذ الفائتة عارضة.
ونية عدد الركعات والسجدات ليست بشرط عندنا، وهو المذهب عند الشافعي، وكذا نية استقبال القبلة عندهم. ولو نوى الظهر ثلاثا أو خمسا لا تنعقد صلاته عنده، وعندنا تصح صلاته ويلغو نية التفسير، ولو افتتح المكتوبة فظن أنها تطوع فأتمها على نية التطوع، فالصلاة هي المكتوبة لأن الشرط قران العزيمة بأول العبادة إذ قرانها بجميعها متعذر، ولو شرع فيها على أنها مثنية فإذا هي أحدية لا تصح، ولو ظن أنها أحدية فإذا هي مثنية يصح.
وفي " المبسوط " " والذخيرة ": ولو اقتدى بالإمام ينوي صلاته ولم يدر أنها ظهر أو جمعة تجزئه، ولو لم ينو صلاته ولكن نوى الظهر والاقتداء به فإذا هو في الجمعة، لا يصح لأنه نوى غير صلاة الإمام. وفي غير رواية أبي سليمان: إذا نوى الإمام الجمعة فإذا هي ظهر جازت، قال شمس الأئمة: وهو الصحيح. ولو نوى الإمام ولم يخطر بباله أنه زيد أو عمرو جاز الاقتداء، ولو نوى الاقتداء به ويظن أنه زيد فإذا هو عمرو صح. ولو مقال: اقتديت بزيد، أو نوى الاقتداء بزيد فإذا هو عمرو، لا يصح اقتداؤه.
وفي " الذخيرة ": قال مشايخنا: الأفضل أن ينوي الاقتداء بعد تكبيرة الإمام حتى يكون مقتديا بالمصلي، ولو نواه حتى وقف الإمام موقف الإمامة جاز عند عامة علمائنا، وبه كان يفتي الشيخ أبو إسماعيل الزاهد، والحاكم عبد الرحمن، وقال أبو سهل الكبير، والفقيه عبد الواحد،(2/142)
لأنه يلزم فساد الصلاة من جهة الإمام، فلا بد من التزامه.
قال: ويستقبل القبلة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] (البقرة: الآية 144، 150) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والقاضي أبو حزم وكثير من أئمة بخارى أنه لا يجوز.
وقال الفقيه الزاهد الجواليقي: ينوي الاقتداء بعد قوله: الله، قبل التكبير، وإن كان الإمام قال: الله أكبر، قبل أن يكبروا، ثم كبروا بعد قوله: الله، أجزأهم، وإن فرغوا قبله، عن أبي يوسف في رواية خلف بن أيوب عنه أنه قال: إن مد الإمام التكبير وجذبه رجل خلفه ففرغ منه قبل الإمام قال: يعيد بعده، ولا تجزئه تلك التحريمة، وهذا يقتضي أنه لو مد وفرغ معه يجوز.
م: (لأنه يلزم فساد الصلاة من جهة الإمام فلا بد من التزامه) ش: أي يلزم فساد صلاة المقتدي من جهة الإمام لأنه ضامن، فلا بد من التزام الضروري وضرر الفساد لا يجوز أن يلحقه بدون التزامه فيشترط نية المتابعة.
[استقبال القبلة من شروط الصلاة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ويستقبل القبلة) ش: استقبال القبلة شرط لصحة الفرض والواجبة إلا في حال الخوف. م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] (البقرة: الآية 144، 150) ش: أي شطر المسجد الحرام. وشطره: نحوه وجهته، وقرئ: إلى تلقاه. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: شطره: قبله، قال الله تعالى {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] (البقرة: الآية 144) . ثم أمر بالتوجه شطر المسجد الحرام، فدل على أن استقبال القبلة فرض. ويقال: حيثما كنتم في بر أو بحر وأردتم الصلاة فولوا وجوهكم تلقاءه، أي ثمة وجهته. وعن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما قدم المدينة صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبلة البيت، وأنه أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون، وقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت.» أخرجاه في الصحيحين. وقال أبو البقاء: وقيل ثلاثة عشر شهرا، وقيل: عشرة أشهر، وقيل: تسعة أشهر، وفي رواية أخرجاه في صلاة الصبح، ويتعلق بها مسائل أصولية وفروعية.
أما الأصولية فقبلوا خبر الواحد وجواز نسخ الكتاب والسنة المتواترة عند الظاهرية، وجواز نسخ السنة بالكتاب عند الشافعي وليس بظاهر، وحكم النسخ لا يثبت في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب، وجواز مطلق النسخ، وجواز الاجتهاد في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالضرب منه.
وأما الفروعية: فالوكيل إذا لم يعلم بعزله فهو باق على وكالته، والأمة إذا صلت مكشوفة الرأس وعلمت بالعتق في أثناء صلاتها إذا سترت رأسها من غير تراخ لأنه لم يبطل ما مضى من صلاتها قبل علمها بالعتق، وجواز الاجتهاد في أمر القبلة، ومن لم يعلم بفرض الله تعالى ولم يبلغه الدعوة ولا أمكنه الاستعلام من غيره، لا يلزمه الفرض، قاله الطحاوي، ونزلت على هذا أن(2/143)
ثم من كان بمكة، ففرضه إصابة عينها، ومن كان غائبا ففرضه إصابة جهتها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من أسلم في دار الحرب أو أطراف بلاد الإسلام، بحيث لا يجد من غيره شرائع الإسلام، لا يجب عليه أن يقضي الصلاة والصيام، وفيه خلاف الشافعي ومالك.
م: (ثم من كان بمكة ففرضه إصابة عينها) ش: أي ثم المصلي الذي كان حاضرا في مكة ففرضه في استقبال [القبلة] إصابة عين الكعبة، سواء كان بين المصلي وبينها حائل، كجدار ونحوه، أم لم يكن، حتى لو اجتهد وصلى وبان خطؤه، قال: قال الرازي: يعيد. وذكر ابن رستم عن محمد فيمن بان خطؤه بمكة وبالمدينة أنه لا إعادة عليه، وهو الأقيس. ويجب أن يكون بالمدينة والمواضع التي عرفت صلاته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قطعا فيها كذلك؛ لأن قبلتها معلومة بيقين لإخباره - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بذلك أو نقله. وقال أبو البقاء: قبلة المدينة حين وضع جبرائيل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - محراب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرفه أنه مناسب الكعبة.
وقيل: كان ذلك بالمعاينة بأن كشفت الجبال وأزيلت الحوائل، فرأى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الكعبة فوضع القبلة عليها. وقال أبو عبد الله الجرجاني وهو شيخ القدوري: الفرض إصابة عينها في حق الحاضر والغائب، ذكره في " الذخيرة " وغيرها.
م: (ومن كان غائبا عنها) ش: أي عن الكعبة م: (ففرضه إصابة جهتها) ش: أي جهة الكعبة، لأن الطاعة بحسب الطاقة، وبه قال جمهور أهل العلم، منهم الثوري، ومالك، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وأبو داود، والمزني، والشافعي في قول، أخرجه الترمذي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وفي " الحلية ": من كان غائبا ولم يجد من يخبره بالقبلة اجتهد في طلبها.
وفي فرضه قولان: قال في " الإمام ": فرضه إصابة العين بالاجتهاد. والثاني ما نقله المزني: إصابة الجهة، وهو قول الباقين من أصحابه. وفي " الدراية ": ومن كان بمكة وبينه وبين الكعبة حائل يمنع المشاهدة كالأبنية، فالأصح أن حكمه حكم الغائب، ولو كان الحائل أصليا كالجبل، فله أن يجتهد، والأولى أن يصعد على الجبل حتى تكون صلاته إلى الكعبة يقينا. وفي " النظم ": الكعبة قبلة من في المسجد الحرام، والمسجد قبلة من بمكة، ومكة قبلة الحرم، والحرم قبلة العالم، وبه قال مالك. قيل: هذا على التقريب، فأما على التحقيق فالكعبة قبلة العالم. وروى الحسن عن أبي حنيفة وجوب نية استقبال القبلة. والصحيح أن استقبالها يغني عن النية، ذكره في " المبسوط " وغيره.
وفي " الذخيرة ": كان الشيخ أبو بكر بن محمد بن الفضل يشترط نية الكعبة مع استقبال القبلة، وكان الشيخ أبو بكر بن حامد لا يشترطها، وبعضهم اختار ما قاله ابن حامد فيما إذا صلى إلى المحراب، وما قاله الفضلي في الصحراء.(2/144)
هو الصحيح؛ لأن التكليف بحسب الوسع ومن كان خائفا يصلي إلى أي جهة قدر؛ لتحقق العجز والعذر، فلا يكلف إلى التوجه، فأشبه حالة الاشتباه،
وإن اشتبهت عليه القبلة وليس بحضرته من يسأله عنها اجتهد وصلى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والمختار أنه لا يشترط، وفي " البدائع ": هو الصحيح. ولا تجزئه نية بناء الكعبة ولا نية الحجر الأسود لأن القبلة العرصة إلى عنان السماء لا البناء، لأن البناء لو وضع في مكان آخر فصلى إليه لا يجزئه وإلى العرصة يجزئه. وكذا لو صلى على أبي قبيس يجوز وإن لم يقابل البناء، ولو نوى مقام إبراهيم أو الحجر وقد أتى مكة لا يجزئه، وإن كان لم يأتها وعنده المقام والحجر والبيت واحد، أجزأه، قاله أبو أحمد العياضي. وقال أبو نصر: لا يجزئه.
وفي " الجامع الأصغر ": لو نوى أن يصلي إلى المقام أو البيت لا يجزئه، وكذا لو نوى أن قبلته محراب مسجده لم يجزئه لأنه علامة القبلة. قال خواهر زادة: لو نوى بالمقام الجهة دون عينه لا يجزئه.
قلت: يشترط مسامتة القبلة.
م: (هو الصحيح) ش: يعني كون فرض الغائب إصابة جهة القبلة هو الصحيح، واحترز به عن قول الشيخ أبي عبد الله الجرجاني أن فرضه إصابة عينها، ويريد بذلك اشتراط عين الكعبة، وقد تقدم.
م: (لأن التكليف بحسب الوسع) ش: وليس في وسع الغائب إصابة عينها م: (ومن كان خائفا) ش: من عدو أو سبع، أو الغرق بأن بقي على لوح م: (يصلي إلى أي جهة قدر لتحقق العجز والعذر، فلا يكلف إلى التوجه، فأشبه حالة الاشتباه) ش: أي فأشبه حكم هذا الخائف حكم من اشتبهت عليه القبلة في تحقيق العذر، فيتوجه إلى أي جهة قدر، لأن الكعبة تعتبر بعينها ليتحقق المقصود بالتوجه إلى أي جهة قدر.
[حكم من اشتبهت عليه القبلة]
م: (وإن اشتبهت عليه القبلة وليس بحضرته من يسأله عنها، اجتهد وصلى) ش: الواو في وليس للحال، وقوله: من، في محل الرفع لأنها اسم ليس، والضمير المنصوب في يسأله يرجع إلى من، وفي عنها إلى القبلة. وقوله: اجتهد، جواب إنما قيد بالاشتباه لأنه لو لم يشتبه لا تجوز صلاته إلى جهة التحري بل يجب التوجه إلى جهة الكعبة، وقد يعدم من يسأله لأنه إذا كان عنده من يسأله لا تجوز صلاته بالتحري، ويجب عليه الاستخبار.
وإنما قيد بالحضرة إشارة إلى أنه لا يجب عليه أن يطلب من يسأله. وقيد بقوله: اجتهد وصلى؛ لأنه إذا صلى بدون الاجتهاد لا تجوز صلاته، حتى روي عن أبي حنيفة أنه يكفر لاستخفافه بالدين. وفي " النوازل ": رجل صلى إلى غير القبلة متعمدا فوافق ذلك الكعبة، قال أبو حنيفة: هو كافر، وقال أبو يوسف: جازت صلاته، قال الفقيه أبو الليث: القول ما قاله أبو حنيفة إن كان(2/145)
لأن الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - تحروا وصلوا، ولم ينكر عليهم النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فعل ذلك على وجه الاعتقاد.
م: (لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تحروا وصلوا ولم ينكر عليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: فيه حديثان، أحدهما عن عامر بن ربيعة قال: «كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر. زاد الترمذي: في "ليلة مظلمة" قال: "قال: فتغيمت السماء وأشكلت علينا القبلة، فصلينا وأعلمنا، فلما طلعت الشمس إذا نحن قد صلينا لغير القبلة، فذكرنا ذلك للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأنزل الله عز وجل {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » (البقرة: الآية 115) .
قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذاك ولا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان وهو يضعف في الحديث. ورواه أبو داود الطيالسي في "مسنده " وزاد فيه: " فقال: قد مضت صلاتكم، وأنزل الله الآية ".
وقال ابن القطان في "كتابه": الحديث معلول بأشعث وعاصم، فأشعث مضطرب الحديث ينكر عليه أحاديث، وأشعث السمان سيئ الحفظ يروي المنكرات عن الثقات، وقال: فيه عمرو بن على وهو متروك.
والحديث الثاني عن جابر: فروي من ثلاثة طرق:
أحدها: أخرجه الحاكم في " المستدرك " عن محمد بن سالم عن عطاء بن أبي رباح عن جابر قال: «كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سرية فأظل لنا غيم، فتحيرنا فاختلفنا في القبلة، فصلى كل واحد منا على حدة فجعل كل واحد منا يخط بين يديه ليعلم مكانه، فذكرنا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يأمرنا بالإعادة وقال لنا: "قد أجزأت صلاتكم» .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح، ومحمد بن سالم لا أعرفه بعدالة ولا جرح. وقال الذهبي: محمد بن سالم يكنى أبا سهيل وهو واه، ورواه الدارقطني، ثم البيهقي في "سننهما"، فقال: محمد بن سالم ضعيف.
الطريق الثاني: أخرجه الدارقطني ثم البيهقي ولفظهما: قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرية كنت فيها، فأصابتنا ظلمة، فلم نعرف القبلة، فصلوا وخطوا خطوطا، فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فسكت فأنزل(2/146)
ولأن العمل بالدليل الظاهر واجب عند انعدام دليل فوقه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله تعالى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » (البقرة: الآية 115) . قال ابن القطان: فيه انقطاع ومجهول الحال.
والطريق الثالث: عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن عطاء عن جابر نحوه. فإن قلت: في حديث جابر اختلاف؛ لأن في أحد الطريقين: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سرية، وفي الآخر: بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرية كنت فيها.
قلت: التوفيق بينهما أن السرية كانت جريدة جردها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من العسكر فمر فيها جابر واعتراهم ما ذكر، ولما قفلوا منها إلى عسكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سألوه، أو تكون الجريدة لم تجتمع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا في المدينة، حتى يكون قوله: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقوله: بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرية، صادقين.
م: (ولأن العمل بالدليل الظاهر واجب) ش: هو الدليل الراجح وهو غلبة الظن م: (عند انعدام دليل فوقه) ش: أي فوق الدليل الظاهر. اعلم أن المجتهد في القبلة هو العالم بأدلتها وإن كان عاميا. قال تاج الشريعة: ومن الأدلة المحاريب القديمة المنصوبة في كل موضع؛ لأن نصبها كان باتفاق من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والتابعين - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فإن الصحابة فتحوا العراق وجعلوا القبلة لأهلها بين المشرق والمغرب، ثم فتحوا خراسان وجعلوا قبلة أهلها بين مسوى الصيف والشتاء، ومنهم من توفي فجعل قبره إليها من غير إنكار من أحدهم، وكفى باجتماعهم حجة، فيلزمنا اتباعهم في ذلك.
ومن الأدلة السؤال في كل موضع عن أهله عنها لأنهم أعرف بقبلتهم عادة من غيرهم، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] (النحل: الآية 43) . ومن الأدلة عند فقد هذه النجوم على ما حكي عن عبد الله بن المبارك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أهل الكوفة يجعلون الجدي خلف القضاء استقبال القبلة، وهو نجم إلى جنب القطب يعرف القبلة. قال: ونحن نجعل الجدي خلف الأذن اليمنى. وكان الشيخ أبو منصور الماتريدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: انظر إلى مغرب الشمس في أطول أيام السنة وإلى مغربها في أقصر أيام السنة، ثم دع الثلثين عن يمينك والثلث عن يسارك، فتكون مستقبل القبلة، فذلك الوضع، انتهى.(2/147)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويقال: أدلة معرفة القبلة كثير، منها الشمس من مطلعها ومغربها، والقمر في سيره ومنازله والنجوم في طلوعها وأفولها، والرياح في مهابها، والأنهار في مجاريها، والجبال في وجوهها، والمجرة.
أما الشمس: فمن أشكلت عليه القبلة وكان بالمشرق يجعل الشمس خلفه في أول النهار وتلقاء وجهه في آخره، وإن كان في المغرب فعلى العكس، وإن كان بالشام يجعلها في أول النهار على جانبه الأيسر، وفي آخر النهار على جانبه الأيمن، وإن كان باليمن فعلى العكس يجعلها.
وأما القمر: فإنه يطلع في أول الشهر على يمنة المصلي، ويختلف مطلعه في اليمنة، فربما كان مع قرب شقه اليسرى، وربما كان إلى مدائرها أقرب، ويطلع في ليلة ثمان وعشرين رفيعا لحظة ثم يغيب على يسرة المصلي. وقيل: في الليلة السابعة يكون في القبلة، ويغيب الهلال في الليلة الأولى على مضي ستة [......] .
وأما النجوم: فأقوى الدلائل وأقواها القطب الشمالي، وهو نجم صغير في بنات النعش الصغرى بين الفرقدين في مهب الشمالي على مرتفع لا يغيب شتاء ولا صيفا. وأكثر استدلال الناس على الجهات في البر والبحر لكونه غير "زائل" عن مكانه، وحوله كواكب جلبة وخفيفة تسمى السمكة، وفاس الرحى تدور حول القطب أبدا لقطب الرحى، والفرقدان يكونان أعلاه في أول الليل ثم ينزلان عنه كلما تصرم الليل، وإذا قوي نور القمر خفي، ويعرف بوضعه في الفرقدين.
وأما سهيل اليماني فإنه لا يرى بالأندلس ولا بخراسان لانخفاضه، ويرى مع الفجر في آخر السماء في السادس والعشرين بين سوى بمصر ويطلع فيه ظهوره [كان يصلي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل هجرته إلى المدينة، وهو ما بين الركنين اليماني والعراقي] ويقال القطب الشمالي في داخل السفينة عند رجل الفرقدين عند رتبة الجدي، وهو مقابل القطب الجنوبي والقطب الذي بين الجدي والفرقدين يكون خلف أذن المصلي اليمنى إذا كان بالمشرق، وخلف أذنه اليسرى إذا كان بالمغرب، وبين كتفيه إذا كان بالشام، وخلف كتفه اليسرى إذا كان بأرض جصة، وغروب بنات النعش خلف ظهره. ومطلع العقرب تلقاء وجهه.
ويصلي أهل ديار مصر على حد أسوان مشرق الشتاء، إلا أهل أسوان فإنها أشد سريعا من البلاد الشمالية، تقرب من الجنوب والقطب قبالة وجهه إذا كان باليمين.
وأما الرياح الأربعة: ريح الشمال، والجنوب، والصبا، والدبور، فيقابل أركان الكعبة، فالصبا شرقية تقابل الركن العراقي الذي به الحجر الأسود، سميت الصبا لأنها تصير إلى وجه(2/148)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكعبة، ومهبها ما بين الركن اليماني والركن العراقي إلى مصلى آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهو وسط الكعبة.
والشمال شامية تقابل الركن الشامي والركن الغربي، والدبور غربية لأنها تقابل الركن العراقي، ومهبها جبال الميزاب إلى ما بين الركن اليماني والغربي، سميت بالدبور لأنها تأتي من دبر الكعبة. والجنوب جبالية لأنها تقابل الركن اليماني ومهبها حيال الركن الغربي والركن اليماني إلى مصلى النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قبل الهجرة، وسميت الجنوب لأنها تستقبل الجانب الأيمن من الكعبة، فالصبا تقابل الدبور والشمال تقابل الجنوب وكل ريح بين ريحين من هذه الأرياح الأربعة تسمى ريحا.
وأما الأنهار والمياه: فإنها تحل جارية من يمنة المصلي إلى يسرته على انحراف قليل يقرب من كتفه اليمنى، وتنفذ من الماء في اليسرى، كدجلة والفرات، والنهرين وغيرها من الأنهار، أحدها بخراسان، والأخرى: بالشام يسمى العاصي، ويقال لهما العارض لأنهما يخالفان لجريان الماء لأنهما يجريان عن يسرة المصلي إلى يمينه، ولا اعتبار بالأنهار المحدثة والسواقي لأنها بحسب الحاجات، ونيل مصر أيضا يجري إلى الشمال على خلاف الأنهار.
وأما الجبال فوجوهها مستقبل البيت.
وأما المجرة فإنها تكون ممتدة على كتف المصلي اليسرى إلى القبلة، ثم تلتوي رأسها حتى يصير آخر الليل على كتفه اليمنى.
وقال المرغيناني: قيل: قبلة البشر الكعبة، وقبلة أهل السماء البيت المعمور، وقبلة الكروبيين: الكرسي، وقبلة حملة العرش العرش، ومطلوب الكل وجه الله تعالى.
م: (والاستخبار فوق التحري) ش: أي طلب خبر القبلة من غيره فوق التحري إذا كان المخبر من ذلك الموضع، وأما إذا كان مسافرا لا يلتفت إلى الخبر، وفي " التحفة ": إذا كان في المفازة والسماء مضحية وله علم بالاستدلال بالنجوم على القبلة، لا يجوز له التحري، والتحري في اللغة طلب أحد الأمرين وهو أولاهما، وفي الشرع يقع على أخف الأمرين وأولاهما بغالب الرأي عند تعذر الوقوف على حقيقته.
قلت: الخبر قد يكون حجة [......] ، فلذلك قلنا: إن الاستخبار فوق التحري، كما في خبر رواية الهلال ورواية الحديث، والتحري حجة حقة لا في غيره، ولا يجوز التحري مع المحاريب، وقال النووي: أحب اعتمادها ولا يجوز معها الاجتهاد، وقال: ونقل صاحب " الشمائل " إجماع المسلمين على هذا.(2/149)
والاستخبار فوق التحري، فإن علم أنه أخطأ بعدما صلى لا يعيدها، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يعيدها إذا استدبر لتيقنه بالخطأ، ونحن نقول: ليس في وسعه إلا التوجه إلى جهة التحري والتكليف مقيد بالوسع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن علم أنه أخطأ بعدما صلى لا يعيدها) ش: أي الصلاة التي صلاها، وبه قال مالك وأحمد والمزني م: (وقال الشافعي: يعيدها إذا استدبر) ش: وهو ظاهر مذهبه وقوله الآخر كمذهبنا. وفي " الحلية ": هو المختار، وقيد بالاستدبار لأن في التيامن والقياس لا يعيد اتفاقا.
م: (لتيقنه بالخطأ) ش: وتمكنه من أداء الفرض بيقين، فيعيدها كما لو تحرى في ثوبين، أحدهما نجس، ثم ظهر بعد الصلاة في أحدهما بالتحري أنه نجس فيها أنه يعيد الصلاة إجماعا، وكذا التحري في الأواني.
قلنا: الاجتهاد يقوم مقام إصابة الكعبة عند العجز عن التوجه إلى عينها، بخلاف الثوب النجس والماء النجس إذا تنجس ما أقيم مقامه الظاهر فظاهر. ولأن الحاجة إلى الاجتهاد في القبلة أمس إذ لولاه صحت الصلاة أصلا، بخلاف الثوب والماء فإنه يمكنه أن يصلي عاريا وبالتيمم، فللصلاة وجود بدونها.
م: (ونحن نقول: ليس في وسعه إلا التوجه إلى جهة التحري) ش: إذ ليس في وسع هذا المجتهد إلا التوجه إلى جهة التحري لأن المقصود من طلب الجهة رضاء الله عنه لا عين الجهة، إلا إذا أمر بالطلب تحقق معنى الابتداء، والابتداء قد تم بالتحري فسقط عنه ما لزمه من الفرض.
م: (والتكليف مقيد بالوسع) ش: قال الله تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] (البقرة: الآية 286) . قال الأكمل: قيل هذا لا يصح جوابا للشافعي اه.
قلت: هذا هو كلام السغناقي، فإنه قال: فإن قلت: هذا التعليل لا يكون جوابا كما ذكره الشافعي، فإن له أن يقول: سلمنا أن التكليف مقيد بالوسع، لكن هذا حال العمل، فإن له أن يعمل حال توجه الخطاب بالعقل لما في وسعه، ولا يأثم بما فعل عند ظهور الخطأ، فأما إذا ظهر خطؤه يقينا فكان فعله كلا فعل في حق وجوب الإعادة، كما في التحري في ثوبين أحدهما نجس، فإنه يعيد الصلاة هنا.
وملخص جوابه بأن القبلة من قبيل ما يحتمل الانتقال لأنها انتقلت من بيت المقدس إلى الكعبة ومن الكعبة إلى الجهة ومنها إلى سائر الجهات إذا كان راكبا، فإن فعل حيثما توجهت إليه راحلته فيعيد ما صلى إلى الجهة بالتحري إذا تحرك رأسه، فينتقل فرض التوجه إلى تلك الجهة، فكما يبدل الرأي فيه بمنزلة الفسخ فيعمل به في المستقبل، ولا يعمل به بطلان ما مضى، كما في النسخ الحقيقي، بخلاف النجاسة ونحوها مما لا يحتمل الانتقال من محل إلى محل، فلم يحركه العمل إلا بظاهر ما أدى إليه تحريه، فإذا ظهر ما هو أقوى منه أبطله لأنه غير قابل للانتقال.(2/150)
فإن علم ذلك وهو في الصلاة استدار إلى القبلة وبنى عليه؛ لأن أهل قباء لما سمعوا بتحول القبلة استداروا كهيأتهم في الصلاة، واستحسنه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وكذا إذا تحول رأيه إلى جهة أخرى توجه إليها؛ لوجوب العمل بالاجتهاد فيما يستقبل من غير نقض المؤدى قبله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن علم ذلك) ش: يعني خطأه م: (وهو في الصلاة) ش: أي والحال أنه في نفس الصلاة م: (استدار إلى القبلة) ش: بلا استئناف.
م: (لأن أهل قباء لما سمعوا بتحول القبلة استداروا كهيأتهم، واستحسنه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: هذا الحدث أخرجه البخاري ومسلم عن مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال: «بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أنزل عليه الليلة قرآنا، وقد أمرنا أن نستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة» وأخرجه مسلم عن أنس وفيه: " وهم ركوع في صلاة الفجر ".
وأخرج البخاري عن البراء قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، فإنه صلى أول صلاة صلاها العصر ومعه قوم» . الحديث. وفي لفظ آخر له: «وهم ركوع في صلاة العصر» . وروى ابن سعد عن الواقدي: ثنا عمر بن صالح مولى التوأمة قال: سمعت محمد بن عبد الله بن سعد يقول: «صليت القبلتين مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصرفت القبلة إلى البيت ونحن في صلاة الظهر فاستدار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستدرنا معه» .
قوله: بقباء بصم القاف والمد: قرية من قرى المدينة، قال أبو حاتم: من العرب من يصرفه ويجعله مذكرا، ومنهم من يؤنثه فلا يصرفه.
قوله: استداروا؛ أي داروا من الدوران. وفي " الكافي " كيفية الاستدارة أن يبدأ من الجانب الأيمن لا من الجانب الأيسر.
م: (وكذا إذا تحول رأيه إلى جهة أخرى توجه إليها) ش: صورته: صلى بالتحري ركعة إلى جهة ثم تبين خطؤه في الصلاة، حول وجهه إلى تلك الناحية وبقي على الأول، ولا يجب عليه شيء فيها، وبه قال ابن أبي موسى والأسدلي من الحنابلة.
م: (لوجوب العمل بالاجتهاد فيما يستقبل من غير نقص المؤدى قبله) ش: المؤدى بفتح الدال. قوله: قبله؛ أي قبل تحريه إلى جهة أخرى وهو في الصلاة، لأن تبدل الرأي بمنزلة النسخ فيعمل في المستقبل لا في الماضي، كما في النسخ.
وكذلك الأمة إذا] أعتقت في الصلاة أنها تأخذ قناعا وتبني، ولو شك وصلى من غير تحر فهو على الفساد ما لم يتبين الصواب بعد الفراغ. ولو علم في الصلاة أنه أصاب القبلة فعليه أن يستقبل صلاته لأن حاله قويت بالعلم، وبناء القوي على الضعيف لا يجوز، ذكر ذلك الأسبيجابي والمرغيناني.(2/151)
ومن أم قوما في ليلة مظلمة فتحرى القبلة وصلى إلى المشرق، وتحرى من خلفه فصلى كل واحد منهم إلى جهة، وكلهم خلفه، لا يعلمون ما صنع الإمام، أجزأهم؛ لوجود التوجه إلى جهة التحري، وهذه المخالفة غير مانعة كما في جوف الكعبة بالجماعة، ومن علم منهم بحال الإمام تفسد صلاته؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروي عن أبي يوسف جواز البناء، ولو كان في الزاوية إلى جهة فتركها وصلى إلى غيرها، فإنه لا تجوز صلاته وإن أصاب القبلة، لأنه تولى القبلة المتعينة عليه، وكذا لو أصاب في أثنائها يستقبل. وفي رواية أبي سليمان عن أبي يوسف أنه يجزئه لأنه أدرك المطلوب من الاجتهاد.
وفي " المحيط ": لو كان بحضرته من يسأله عنها فصلى بالتحري، لا يجزئه إلا إذا أصاب القبلة، لحصول المقصود، ولو قام إلى الصلاة إلى جهة من غير شك ثم شك بعد ذلك، فهو على الجواز حتى يعلم يقينا فساده، فتجب عليه الإعادة، وإن علم فيها استقبل صلاته، ولو صلى بالتحري في أحد ثوبين ثم تحول تحريه إلى الثوب الآخر، فكل صلاة صلاها في الثوب الأول تجزئه، وإن علم النجاسة في الثوب الأول أعاد.
وفي " المرغيناني ": صلى بالتحري في المفازة والسماء مصحية وهو لا يعرف النجوم، فتبين أنه أخطأ القبلة، قال ظهير الدين: يجوز، وقال غيره: لا يجوز. وفي " فتاوى السغناقي ": يجزئه ولم يقع تحريه على شيء، قيل: يؤخر الصلاة، وقيل: يصلي إلى أربع جهات، وقيل: يخير. وفي " المحيط ": دخل مصرا وعاين المحاريب لا يتحرى، وبه قال الشافعي، ولو دخل مسجدا لا محراب له وبحضرته أهله، لا يجزئه التحري إلا إن أصاب، ولو سألهم ولم يخبروه فتحرى وصلى جاز.
م: (ومن أم قوما في ليلة مظلمة فتحرى القبلة وصلى إلى المشرق، وتحرى من خلفه فصلى كل واحد منهم إلى جهة وكلهم خلفه لا يعلمون ما صنع الإمام أجزأهم) ش: أي الصلاة.
فإن قلت: قوله: لا يعلمون ما صنع الإمام، مشكل، لأنه يجوز أن يعلموا حال الإمام بصوته لأنهم في صلاة الليل بدليل قوله: في ليلة مظلمة.
قلت: يحتمل أن تكون الصلاة قضاء، أو يترك الإمام الجهر ناسيا، أو يكونوا قد عرفوا الإمام بصوته أنه قدامهم ولكن لم يميزوا من صوته إلى أي جهة توجه.
م: (لوجود التوجه إلى جهة التحري) ش: وجهة التحري هي المتعينة، وقد وجدت م: (وهذه المخالفة غير مانعة) ش: لأن جهة تحري كل واحد قبلة له، فلا بأس بالاختلاف.
م: (كما في جوف الكعبة بالجماعة) ش: فإنه لا يضر، فكذا ذاك، وبه قال الشافعي. وقال بعض أصحابه: عليهم الإعادة، كذا قال الأترازي وأخذ عنه الأكمل م: (ومن علم منهم) ش: أي من القوم المقتدين م: (بحال الإمام تفسد صلاته) ش: قال السغناقي: وهذا القيد وهو علم المقتدي حال(2/152)
فكذا لو كان متقدما على الإمام؛ لتركه فرض المقام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كونهم مأمومين ليس بلازم في سبق فساد صلاتهم، فإنه لو علم حال الإمام قبل الاقتداء فالحكم كذلك، وإن كان الإمام في وقت الاقتداء على الصحة، قال الأكمل: فيه نظر لأن قوله: ومن علم منهم حال إمامه، أعم من أن يكون علم قبل الاقتداء به أو بعده.
قلت: في نظره مخالفة إمامه في الكعبة، لأن صلاة الكل إلى القبلة. م: (فكذا لو كان متقدما عليه) ش: أي فكذا الحكم لو كان المأموم متقدما على الإمام م: (لتركه فرض المقام) ش: أي لترك المأموم فرض مقامه، وهو تأخره عن الإمام.(2/153)
باب في صفة الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب في صفة الصلاة]
م: (باب في صفة الصلاة) ش: أي هذا باب في بيان صفة الصلاة. ولما فرغ من ذكر الوسائل وهي الشروط والأسباب، شرع في بيان ما هو المقصود من ذكره وهو صفة الصلاة، والوصف والصفة مصدران كالوعد والعدة والوزن والزنة، من يصف وصفا وصفة، من باب فعل يفعل، بفتح العين من الماضي وكسرها في المستقبل.
وأصل يصف: يوصف، حذفت الواو لوقوعها بين الياء والكسرة، وأصل صفة: وصف، حذفت الواو تبعا لفعله وعوض عنها التاء، فصار صفة على وزن عدة، وجعلت التاء في آخره لأن العوض لا يكون موضع المعوض.
فإن قلت: ما تقول في تخمة وتراث، فإن أصله وخمة ووراث.
قلت: هذا بدل وليس بعوض كما عرفت في موضعه.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يقول وحده لئلا يلزم الجمع بين العوض والمعوض، فإن قلت: ما تقول في وجهة مع أن فيه الجمع بين العوض والمعوض.
قلت: هذا ليس بمصدر جار على فعله، ويجوز أن يقال وإن كان مصدرا لم يحذف منه المعوض؛ تنبيها على أصله كما في قود واستحوذ. ثم إن الصفة والوصف مترادفان عند أهل اللغة وعند المتكلمين الوصف، كما في قولك: زيد عالم، وإلحاقه بالموصوف، أعني المعنى القائم بذاته.
فإن قلت: قال: باب صفة الصلاة، ولم يقل: باب وصف الصلاة.
قلت: ظهر لك جوابه بما ذكرنا إن كنت في ذكر منه، وقال الأكمل: الظاهر أن المراد بالصفة هنا الهيئة الحاصلة للصلاة بأركانها وعوارضها.
قلت: ليس المراد الحاصلة، وإنما المراد وصف تلك الهيئة، والوصف هو لفظ الواصف مدلوله، فأطلق الصفة وأريد به الوصف إطلاقا لاسم المدلول على الدال.
فإن قلت: ما هذه الإضافة في صفة الصلاة؟
قلت: إضافة الجزء إلى الكل لأن كل صفة من هذه الصفات جزء الصلاة.
فإن قلت: الصفة عرض والصلاة كذلك فكيف يقوم العرض بالعرض؟
قلت: جاز أن يوصف العرض بالصفات الذاتية كاللونية واستحالة البقاء، فيقال: السواد عرض، ولون مستقبل البقاء، وإنما لا يوصف بالصفات الزائدة على الذات، كالبقاء والحياة والقدرة، مع أن الأفعال الشرعية لها حكم الجواهر، فلذلك يوصف بالصحة والفساد والجواز(2/154)
فرائض الصلاة ستة: التحريمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والبطلان ونحو ذلك، على أن هذا الباب مختلف فيه.
[فرائض الصلاة]
[تكبيرة الإحرام]
م: (فرائض الصلاة ستة) ش: الفرائض جمع فريضة، وهي ما ثبت بدليل قطعي لا شبهة فيه. قوله: ستة؛ أي ستة أشياء، فيقال للمذكر بتاء التأنيث وللمؤنث بدون التاء، تقول ثلاثة رجال وثلاث نسوة إلى عشرة رجال وعشر نسوة. وفي بعض النسخ فرائض الصلاة ست، وهي على القياس، وتؤول النسخة الأولى على أن المراد بالفرائض الفروض، جمع فرض، والمراد من الصلاة الفرض لأن القيام في النافلة ليس بفرض.
فإن قلت: لم لم يقل: أركان الصلاة.
قلت: لأن الفرض أعم من الأركان، لأن الفرض يطلق على الركن والشرط أيضا، وأيضا لو قال: أركان الصلاة لكان خرج منها التحريمة؛ لأنها شرط على قول عامة المشايخ لا ركن. ونقل عن فخر الإسلام أنها ركن، ولذلك اختلفوا في ركنية القعدة الأخيرة.
فإن قلت: فعلى هذا كان ينبغي أن يذكر التحريمة مع الشروط.
قلت: إنما هو ذكرها مع الأركان لشدة اتصالها بالصلاة، فحيث تنفك عنها وليست كسائر الشروط.
فإن قلت: كان ينبغي أن تكون الفروض سبعة؛ لأن الخروج عن الصلاة بفعل المصلي فرض.
قلت: أراد بها الفرائض التي اتفق عليها أصحابنا الثلاثة، على أن الكرخي نقل عن أبي حنيفة أنه ليس بفرض. والشرط ما يتوقف عليه المشروط وهو خارج عن ماهيته، والركن ما يتوقف عليه وهو داخل في ماهيته، والفرض أعم منهما.
ونقل عن مولانا حميد الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - يشترط لثبوت الشيء ستة أشياء: العين، وهو عبارة عن ماهية الشيء، والركن، وهو عبارة عن جزء الماهية، والحكم وهو الأثر الثابت به، والمحل، والشرط، والسبب. فالعين الصلاة ههنا، والأركان: القيام والقراءة، إلى آخر ما ذكر، والمحل: الآدمي المكلف، والشرط: ما تقدم من طهارة البدن والثوب وغير ذلك، والسبب: الأوقات.
م: (التحريمة) ش: أي أول الفرائض التحريمة، وهي تكبيرة الافتتاح. والتحريمة جعل الشيء محرما، والهاء فيها لتحقيق الاسمية، قاله الأكمل أحسن من صاحب " الدراية ".
قلت: الظاهر أن يكون للأفراد، وإنما اختصت التكبيرة الأولى بهذا الاسم لأنها تحرم(2/155)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] (المدثر: الآية 3) . والمراد: تكبيرة الافتتاح،
والقيام، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] (البقرة: الآية 238)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأشياء المباحة قبلها بخلاف سائر التكبيرات، كذا في " المستصفى ".
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] (المدثر: الآية: 3) والمراد تكبيرة الافتتاح) ش: الفاء فيه للتنبيه؛ كأنه قال: والذي رباك فكبر. وقال الأكمل: دخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قال: أي شيء كان فلا تدع تكبيره.
وقلت: نقله عن " الكشاف "، والأمر للوجوب وإلا لكان يجب فيه إلا في افتتاح الصلاة، والمعنى على الحقيقة: خص ربك بالتكبير، وهو الوصف بالكبرياء، وأن يقال: الله أكبر.
اعلم أنه ثبت فرضية التكبيرة الأولى بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] (الأعلى: الآية 15) نزلت هذه الآية في التكبيرة الأولى، وقَوْله تَعَالَى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] (المدثر: الآية 3) والمراد به في الصلاة إذ لا يجب خارج الصلاة بإجماع أهل التفسير.
أما بالسنة: فما روي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» . رواه الترمذي وابن ماجه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما الإجماع فلأنه لم يخالف أحد في وجوبه، كذا في " مبسوط شيخ الإسلام " قلت: ما ذكر في " مبسوط السرخسي " أنه التكبير، فلا بد فيه للشروع في الصلاة، إلا على قول أبي بكر الأصم وإسماعيل بن علية، فإنما يقولان: يصير تنازعا بمجرد النية والأذكار التكبيرية والقراءة عندهما ونية الصلاة؛ والمراد تكبيرة الافتتاح؛ أي بإجماع أئمة التفسير. ولأن سائر التكبيرات ليس بفرض بالإجماع، فتعين هذا الفرضية فلا يؤدي إلى تعطيل النص.
[القيام في صلاة الفرض]
م: (والقيام) ش: الفريضة الثانية هي القيام في الصلاة الفرض، لأن القيام في النافلة ليس بفرض على ما تقدم.
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] (البقرة: الآية 238) ش: وجه الاستدلال أن الله عز وجل أمر بالقيام، والأمر للوجوب، وليس القيام واجبا خارج الصلاة، فكان واجبا فيها ضرورة، والنفل خارج لعدم تناول الأمر إليه.
قوله: قانتين، حال من الضمير الذي في قوموا، ومعناه ساكتين وتاركين الكلام، يدل عليه حديث زيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قَوْله تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام» رواه الجماعة غير ابن ماجه، وقيل: معنى القنوت(2/156)
والقراءة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] (المزمل: الآية 20) . والركوع والسجود؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: و {اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] (الحج: الآية 77) والقعدة في آخر الصلاة مقدار التشهد؛ «لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين علمه التشهد: "إذا قلت هذا أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك".»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الطاعة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب: 35] (الأحزاب: الآية 35) . وقيل: القنوت الخشوع؛ أي خاشعين. وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - القنوت: طول القيام في الصلاة.
[قراءة القرآن والركوع والسجود في الصلاة]
م: (والقراءة) ش: أي الفريضة الثالثة قراءة القرآن.
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] المزمل: الآية 20) ش: وجه الاستدلال أنه أمر بالقراءة، والأمر للوجوب، فلا وجوب خارج الصلاة بالإجماع، فثبت في الصلاة والاعتبار كما تقدم عن أبي بكر الأصم أن القراءة ليست بفرض في الصلاة لأنه خرق للإجماع، وكذا نقل عن الحسن، وسيجيء مزيد الكلام في آخر باب النوافل، وكذلك يجيء هل هي فرض في جميع الصلاة أو ههنا؟ ثم الأمر بالقراءة أعم من أن تكون قراءة الفاتحة أو غيرها، فلأن تشترط قراءة الفاتحة للجواز لأن مطلق القراءة كما يوجد في ضمن الفاتحة يوجد في ضمن غيرها من السور.
م: (والركوع) ش: أي الفريضة الرابعة الركوع م: (والسجود) ش: أي الفريضة الخامسة السجود م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا} [الحج: 77] الحج: الآية 77) ش: الواو في قوله: واركعوا، سهو؛ لأنها ليست من القرآن، وجب الاستدلال على ما مر الآن، وقيل: كان الناس أول ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} [الحج: 77] (الحج: الآية 77) . أي اقصدوا بعبادتكم في ركوعكم وسجودكم وجه الله تعالى، كذا قال الزمخشري.
[القعدة في آخر الصلاة والتشهد والسلام]
م: (والقعدة في آخر الصلاة) ش: أي الفريضة السادسة: القعود في آخر الصلاة. م: (مقدار التشهد) ش: أي مقدار ما يأتي فيه بكلمتي التشهد، والأصح قدر ما يمكن فيه من قراءة التشهد إلى قوله: عبده ورسوله، وذكر القولين في " الينابيع ". وقال في " المحيط ": هو من جملة الفروض دون الأركان، وبه قال الشافعي وأحمد وغيرهما، وقيل: هو سنة، وبه قال مالك م: «لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين علمه التشهد: إذا قلت هذا، أو فعلت هذا، فقد تمت صلاتك» ش: أخرجه أبو داود في "سننه " حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ثنا زهير ثنا الحسن عن القاسم بن مخيمرة قال: «أخذ علقمة بيدي فحدثني أن عبد الله بن مسعود أخذه بيده وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ بيد عبد الله فعلمه التشهد في الصلاة، فذكر مثل حديث دعاء الأعمش: "إذا قلت هذا، أو قضيت هذا، فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد» ، وكذا رواه أحمد في مسنده: ثنا الفضل بن دكين الملائي ويحيى بن آدم قالا: حدثنا زهير بن معاوية بن خديج به، فذكر التشهد(2/157)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بحروفه وفي آخره: «فإذا قلت هذا فقد قضيت ما عليك، إن شئت أن تقوم فقم» .
وقول أبي داود: فذكر مثل دعاء حديث الأعمش، أراد به ما رواه أولا: حدثنا مسدد ثنا يحيى عن سليمان الأعمش قال: حدثني سفيان بن سليمان عن عبد الله بن مسعود قال: «كنا إذا جلسنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على فلان وفلان، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تقولوا السلام على الله؛ فإن الله هو السلام، ولكن إذا جلس أحدكم فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتم ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم يتخذ أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به» .
ثم اعلم أن أصحابنا استدلوا بالحديث الذي ذكره في الكتاب في مسائل، الأولى استدلوا به على فرضية القعدة الأخيرة، وذلك لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - علق الصلاة بالقعود، وما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، وهو حجة على مالك حيث لم يفرض القعدة الأخيرة.
فإن قلت: كلمة أو لأجل السبق وليس فيه دلالة على ما ادعيتم.
قلت: معناه: إذا قلت هذا وأنت قاعد أو قعدت ولم تقل، فصار الخبر في القول لا في الفعل؛ إذ الفعل ثانيه في الحالين، وتحقيق وجه الاستدلال به أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علق تمام الصلاة بالفعل قراءة ولم يقرأ لأنه علق بأحد الأمرين من قراءة التشهد والقعود، وأحدهما وهو القراءة لم تشرع بدون الآخر، حيث لم يفعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا فيه، وانعقد على ذلك الإجماع، فكان الفعل موجودا على تقدير القراءة البتة، وكان هو المعلق به في الحقيقة لاستلزامه الآخر، وكلما علق بشيء لا يوجد بدون الفعل، وتمام الصلاة واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالقعدة واجبة؛ أي فرض.
فإن قلت: هذا خبر واحد، وهو بظاهره لا يقيد الفرضية، فكيف مع هذا التكلف العظيم.
قلت: إن قَوْله تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] (البقرة: الآية 43) مجمل، وخبر الواحد لحق بيانا له، والمجمل من الكتاب إذا لحقه البيان الظني يفيد الفرضية، لأن الحكم بعده يكون مضافا إلى الكتاب لا إلى البيان في الصحيح.
فإن قلت: لم لا يكون الأمر في القراءة ويكون فرضا؟
قلت: لأن نص القراءة ليس بمجمل بل هو خاص، فتكون الزيادة عليه نسخا بخبر الواحد(2/158)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو لا يجوز. وههنا جواب آخر، وهو أن خبر الواحد إن كان متعلقا بالقبول جاز إثبات الركنية به، فبالطريق الأولى أن يثبت به الفرضية لأن درجات الركنية أعلى، وقد بينا ركنية الوقوف بعرفات لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الحج عرفة» ، والوقوف معظم أركان الحج لا محالة، والقعدة الأخيرة فرض والمصنف صرح به حيث ذكرها في الفرائض، فجاز أن تثبت بخبر تُلقي بالقبول.
وذكر في " الإيضاح ": أما القعدة الأخيرة فمن جملة الفروض وليست من الأركان، لأن ركن الشيء ما يفسر به ذلك الشيء، وتفسير الصلاة لا يقع بالقعدة وإنما يقع بالقيام والقراءة والركوع والسجود، ووجه القعدة من جملة الأركان لتوقف الحنث عليها، وإنما تقدمت الركنية في القعدة لأنها اعتبرت بغيرها لا بعينها لأن الصلاة التعظيم وهو بالقيام، ويزداد بالركوع ويتناهى بالسجود والقعدة للخروج، فافهم.
فإن قلت: هذا الكلام، أعني قوله: إذا قلت هذا إلخ. مدرج وليس من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال البيهقي: بين ذلك شبابة بن سوار في رواية عن زهير بن معاوية، وفصل كلام ابن مسعود من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو أصح من قول من جعله من كلام النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ورواه ابن ثوبان عن الحسن بن الحر أنه من كلام ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال ابن حبان بعد أن أخرج هذا الحديث في " صحيحه ": وقد أوهم هذا الحديث من لم يحكم الصناعة أن الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليست بفرض، فإنه قوله.
إذا قلت: هذه زيادة أخرجها زهير بن معاوية في الخبر عن الحسن بن الحر قال: ذكر بيان أن هذه الزيادة من قول ابن مسعود لا من قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأن زهيرا أدرجه في الحديث، ثم أخرجه عن الحسن بن الحر عن القاسم بن مخيمرة به سندا ومتنا، وفي آخره قال ابن مسعود: فإذا فرغت من صلاتك فإن شئت فاثبت وإن شئت فانصرف.
ثم أخرجه عن حسين بن على الجعفي عن الحسن بن الحر، وفي آخره قال الحسن: وزاد محمد بن أبان بهذا الإسناد قال: فإذا قلت هذا فإن شئت فقم، قال: محمد بن أبان ضعيف. وقال الدارقطني في " سننه ": هذان أخرجا هذا الحديث هكذا، أدرجه بعضهم في الحديث عن زهير ووصله بكلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفصله شبابة بن سوار عن زهير بجعله من كلام ابن مسعود وهو أشبه بالصواب.
قلت: الجواب عن جميع ما ذكروه من وجوه:
الأول: أن أبا داود روى هذا الحديث وسكت عنه، ولو كان فيه ما ذكره لبينه، لأن عادته في كتابه أن يلوح على مثل هذه الأشياء.(2/159)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثاني: أن أبا زيد الدبوسي من عم هو وغيره، وأن هذه الزيادة رواها أبو داود الطيالسي. وروى ابن داود العتبي وهشام بن القاسم ويحيى بن أبي بكر كثير، ويحيى بن يحيى النيسابوري في آخرين متصلا، فرواية من رواه مفصولا لا يقطع بكونه مدرجا؛ لاحتمال أن يكون نسيه ثم ذكره، فسمعه هؤلاء متصلا وهذا منفصلا، وجدنا في كتاب النسائي من حديث الإفريقي عن عبد الله بن عمر عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «إذا أحدث الرجل في آخر صلاته قبل أن يسلم فجازت صلاته» .
الثالث: أن عبد الرحمن بن ثابت الذي ذكره البيهقي قد ضعفه ابن معين هو بنفسه، ذكره في باب التكبير أربعا. وكذلك عنان بن الربيع الذي روى عن عبد الرحمن بن ثابت، ضعفه الدارقطني وغيره، فمثل هذا لا يعلل رواية " الجامع الصغير " الذي جعلوا هذا الكلام بالحديث، وعلى تقدير صحة السند الذي روي فيه موقوفا، فرواية من وقف لا يعلل بها رواية من رفع؛ لأن الرفع زيادة مقبولة على ما عرف من مذاهب أهل الفقه والأصول، فيحمل على أن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سمعه من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فرواه بذلك مرة وأفتى به مرة أخرى، وهذا أولى من جعله من كلامه، إذ فيه تخطئة الجماعة الذين وصلوا.
ولئن سلمنا وصوله، فالوهم في رواية من أدرجه لا يتعين أن يكون الوهم من زهير، بل ممن رواه عنه موقوفا، والثانية أن هذا ينافي فرضية الصلاة على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الصلاة؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - علق التمام بالقول، وهو حجة على الشافعي، وأيضا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم التشهد لعبد الله بن مسعود ثم أمره عقبه أن يتخذ من الدعاء ما شاء ولم يعلمه الصلاة عليه، ولو كانت فرضا لعلمه، إذ موضع التعلم لا يؤخر لبيان الواجب.
وأيضا علم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأعرابي أركان الصلاة، ولم يعلمه الصلاة عليه، ولو كانت فرضا لعلمه. وكذا لم يرو في تشهد أحد من الصحابة، فمن أوجبها فقد خالف الآثار. وقد قال جماعة من أهل العلم أن الشافعي خالف الإجماع في هذه المسألة مقتدى به، منهم ابن المنذر وابن جرير الطبري والطحاوي، وسيأتي مزيد الكلام فيه.
الثالثة: أن هذا ينافي فرضية السلام في الصلاة؛ لأنه عزم أمر المصلي بعد القعود بقوله: إن شئت أن تقوم وإن شئت أن تقعد، وهو حجة على الشافعي أيضا، حيث افترض السلام.
الرابعة: استدل به أبو يوسف ومحمد في المسائل الاثني عشرية أن الصلاة لا تبطل فيها لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علق تمام الصلاة بالقعود ولم يعلق عليه شيئا. واعتراض العوارض قبل السلام كاعتراضها بعد.(2/160)
علق التمام بالفعل، قرأ أو لم يقرأ.
قال: وما سوى ذلك فهو سنة، أطلق اسم السنة وفيها واجبات: كقراءة الفاتحة، وضم السورة إليها. ومراعاة الترتيب فيما شرع مكررا من الأفعال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (علق التمام بالفعل) ش: أي علق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إتمام الصلاة بالفعل م: (قرأ أو لم يقرأ) ش: قرأ التشهد أو لم يقرأ، فكان الفعل هو اللازم دون القول، لأن الفعل أقوى من القول، فكان اعتباره أولى، بدليل أن القادر على الفعل والعاجز عن القول يلزمه الفعل، كالأمي، والعاجز عن الفعل والقادر على القول لا يلزمه القول، كالعاجز عن القعدة، فتعلقت الفرضية بالأقوى وهو الفعل دون القول، ولأنه ثبت باتفاق الأخبار أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما سلم إلا بعد القعدة، والأمر بالصلاة مجمل، فيكون فعله بيانا، كذا في " الأسرار " وفي " الجنازية ": ذكر في القرآن: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] ولم يعلم تمامها في أي وقت، فالحديث يبين تمامها في القعدة.
فإن قلت: فعلى هذا كان ينبغي أن تكون القعدة الأولى فرضا أيضا لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أتى بها وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلى» فصار بيانا لمجمل الكتاب أيضا.
قلت: روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سها عن القعدة الأولى، فأعلم بذلك فلم يفعل فسجد للسهو، فدل على أنها ليست بفرض. وفي " الدراية ": أن الفريضة لا تثبت ابتداء بخبر الواحد، أما البيان به فيصح، كما في مسح الرأس، والتحقيق في هذا الموضع أن القعدة فرض، عملا لا اعتقادا؛ إذ بخبر الواحد يثبت هذا الفرض، كالوتر عند أبي حنيفة لأنه في درجة الواجب، ولهذا لا يكفر منكر فرضيتها، كمالك وأبي بكر الأصم والزهري؛ لأنه عندهم سنة إلا مقدار إيقاع السلام، ولأن الإتيان بالسلام واجب ومحله القعدة، فيراد القعود لغيره فيتعذر به.
[سنن الصلاة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وما سوى ذلك فهو سنة) ش: أي وما سوى ما ذكرنا من الفرائض الستة فهو سنة. وفي " المجتبى " يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى الفرائض المذكورة، وإليه ذهب أكثر الشارحين، ويحتمل أن يكون إشارة إلى قدر التشهد، فيكون إخبارا عن القعود الذي يصلي فيه على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويدعو ويسلم وهو الأشبه، لأن الفقهاء جعلوا أفعال الصلاة أقساما وواجبات. فالواجبات ثمانية، وهي مذكورة في الكتاب، والسنن ما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المواظبة ولم يترك إلا بعذر: كالثناء والتعوذ في تكبيرات الركوع والسجود، والآداب ما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرة أو مرتين، كزيادة التسبيحات فيها والزيادة على القراءة المستوية.
م: (أطلق) ش: أي القدوري م: (اسم السنة وفيها) ش: أي والحال أن في السنة م: (واجبات كقراءة الفاتحة وضم السورة إليها) ش: أي إلى الفاتحة أو ثلاث آيات، ويكره ضم آية أو آيتين إليها، نص على ذلك في " الذخيرة " و " المرغيناني " م: (ومراعاة الترتيب فيما شرع مكررا من الأفعال) ش: أي في الذي شرع حال كونه مكررا، أراد به السجود؛ لأنه شرع في كل ركعة مكررا ومراعاة الترتيب فيه واجبة، حتى ترك سجدة من الركعة الأولى لا تفسد صلاته، ويجوز قضاؤه في الثانية.(2/161)
والقعدة الأولى، وقراءة التشهد في القعدة الأخيرة، والقنوت في الوتر، وتكبيرات العيدين، والجهر فيما يجهر والمخافتة فيما يخافت فيه، ولهذا تجب عليه سجدتا السهو بتركها، هذا هو الصحيح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الحواشي ": لو تذكر في الركوع الثاني: أنه ترك سجدة من الركعة الأولى، فانحط من ركوعه فسجد، لا يلزمه إعادة الركوع، وكذا الترتيب فيما بين الركعات ليس بفرض، فإن المسبوق إذا قام إلى قضاء ما سبق به يصلي أول الثانية عن أبي حنيفة وأبي يوسف.
وفي " الجنازية ": الترتيب فرض فيها، اتخذت شرعيته في كل ركعة، كالقيام والركوع، أو اتخذت شرعيته في جميع الصلاة كالقعدة، حتى لو قعد قدر التشهد ثم عاد إلى السجدة الثانية، أو تذكر في الركوع أنه لم يقرأ السورة نقض ما أدى قبله من الركوع.
م: (والقعدة الأولى) ش: عند المتأخرين وعند الطحاوي والكرخي سنة. وفي " التحرير " القعدة الأولى في الفرض واجبة، وكذا قراءة التشهد فيها، وهو المختار، وقيل: سنة، وهو الأقيس، وعند بعضهم واجبة. قال في " المحيط ": وهو الأصح، وقال مالك: الجلسة الأولى سنة، ولو تعمد تركها تفسد صلاته، ذكره في " التمهيد ".
فإن قلت: لو لم يذكر قراءة التشهد في القعدة الأولى، وهي واجبة أيضا، كذا ذكره في باب سجود السهو من الكتاب.
قلت: لم يلزم ذلك جميع الواجبات، قاله السغناقي. قلت: يجوز أن يكون تركه ههنا إشارة إلى أنها سنة، كما قاله البعض، كما ذكرنا.
م: (وقراءة التشهد في القعدة الأخيرة) ش: وكعن أبي يوسف روايتان م: (والقنوت في الوتر) ش: في " المبسوط ": قنوت الوتر سنة م: (وتكبيرات العيدين) ش: وفي " المبسوط " سنة م: (والجهر فيما يجهر) ش: أي في الصلاة التي يجهر فيها، كالمغرب والعشاء والصبح م: (والمخافتة فيما يخافت فيه) ش: أي في الصلاة التي يخافت فيها بالقراءة، كالظهر والعصر، هذا في حق الإمام دون المنفرد.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل وجوب هذه الأشياء المذكورة م: (تجب سجدة السهو بتركها) ش: أي بترك هذه الأشياء المذكورة ساهيا تجب سجدتا السهو لأن سجود السهو لا يجب إلا بترك الواجب. م: (هذا هو الصحيح) ش: أي وجوب سجود السهو بترك كل واحد من الأشياء المذكورة هو الصحيح. واحترز به عما ذكر في " المبسوط " من جواب القياس في تكبيرات العيدين والقنوت إذا تركهما لا يجب سجود السهو. وكذا القياس في قراءة التشهد في القعدة الأولى لما أنها أذكار، وبنى الصلاة على الأفعال فلا يدخل كثير نقصان.
وفي " الاستحسان " وجوب سجود السهو تضاف إلى الصلاة، حيث قال: تكبيرات العيد(2/162)
وتسميتها سنة في الكتاب
لما أنه ثبت وجوبها بالسنة. قال: وإذا شرع في الصلاة كبر؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقنوت الوتر وتشهد الصلاة. فإذا تحصل النقصان بتركها فتجبر بالسهو، وثناء الافتتاح لا يضاف إلى الصلاة. وفي " الجنازية ": قوله: هو الصحيح، احتراز عن قول البعض: إن ترك الجهر والمخافتة مما يجهر ويخافت، لا يجب السهو؛ لأنهما ليسا بمقصودين، فكانا كالقومة بين الركوع والسجود، وقيل: تعلق بالجهر الاستماع، وهو مقصود، وبالمخافتة دفع إيذاء الكفرة، فإذا تعلق بهما معنى مقصود فصارا مقصودين بنفسيهما فيتعلق بتركهما سجود السهو، وفيه نظر. ونص أيضا في " المحيط " على وجوب سجود السهو بترك القومة، ولم يحك فيه خلافا.
م: (وتسميتها سنة) ش: أي تسمية هذه الواجبات سنة م: (في الكتاب) ش: أي في القدوري (لما أنه ثبت وجوبها بالسنة) ش: أي لأجل أن الشأن يثبت وجوب هذه الأشياء معنى بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب مجازا. وقال الأكمل: وقيل: قوله: وتسميتها سنة اهـ. ليس بجيد لأنه يلزم منه الجمع بين الحقيقة والمجاز، لأنه حينئذ يكون المراد السنة والواجب أيضا لأنه ثبت بالسنة أيضا.
قلت: هذا السؤال للأترازي، حيث قال في شرح بيانه، أن لفظ السنة إذا أريد به السنة تكون الحقيقة، وإذا أريد به الواجب يكون مجازا. وههنا أراد صاحب القدوري بقوله: وما سوى ذلك فهو سنة، الواجب والسنة جميعها؛ لأنه لم يرد به الواجب وحده أو السنة وحدها، فالجواب عنه، وقد سكت عنه الشارحون، ثم قال الأكمل: وأجيب، إلى آخره، هو جواب الأترازي، فقال: قلت: والجمع بين الحقيقة والمجاز في محلين مختلفين يجوز على مذهب بعض العراقيين من أصحابنا، والشيخ أبو الحسن العراقي منهم، فلا يرد على هذا السؤال أيضا، ثم قال الأكمل: وخلله ظاهر، والحق أنه ليس من باب الجمع بينهما، بل المراد بقوله: فهو سنة، ثابتة بالسنة والواجبات، والسنن المذكورة في هذا الباب داخلة تحت هذه اللفظة بطريق الحقيقة.
م: (قال: وإذا شرع في الصلاة كبر) ش: أي إذا أراد الشروع في الصلاة قال: الله أكبر، لأن التحريمة ليست بعد الشروع بل الشروع يتحقق بها. وقوله: في الصلاة، أعم من أن تكون فرضا أو نفلا، وهذا عند العامة. وقال ابن المنذر: وشذ الزهري وقال: يدخل فيها بمجرد النية، قال: ولم يقله أحد.
قلت: قال في " المبسوط " و " شرح مختصر الكرخي ": هو قول إسماعيل بن علي وأبي بكر الأصم، وقال أبو عمر في" التمهيد ": وهو قول الأوزاعي وطائفة، قال في " المبسوط " و " الوتري ": الأخرس والأمي الذي لا يحسن شيئا فيصير شارعا فيها بالنية ولا يلزمه تحريك اللسان، وهو الصحيح من قول أحمد خلافا للشافعي. وعن الحسن وعطاء وابن المسيب وقتادة والحكم والأوزاعي فيمن نسي التكبير أن تكبير الركوع يقوم مقامه.(2/163)
لما تلونا، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تحريمها التكبير»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
\ وللأترازي هنا سؤال، وهو أن استعارة المسبب للسبب لا يجوز، فكيف جاز ههنا، وأجاب بأن عدم الجواز إنما يكون إذا لم يكن المسبب خاصا بذلك. وأما إذا اختص به فيجوز، والشروع في الصلاة تختص بالإرادة، لا يكون بدونها، فجاز إرادة الإرادة منه مجازا.
قلت: هذا من قبيل قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} [الإسراء: 45] (الإسراء: الآية 45) أي إذا أردت قراءته، فيكون إطلاق اسم الملزوم على اللازم.
م: (لما تلونا) ش: أراد به قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] (المدثر: الآية 3) . م: (وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تحريمها التكبير» ش: هو عطف على قوله: لما تلونا. والحديث رواه خمسة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
الأول: علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن وكيع عن سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم» .
وقال الترمذي: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن، وعبد الله بن عقيل صدوق، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبيل حفظه، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان أحمد بن حنبل وإسحاق والحميدي يحتجون بحديثه، قال محمد: هو مقارب الحديث. رواه أحمد وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه والبزار في "مسانيدهم"، وقال النووي في " الخلاصة ": وهو حديث حسن.
الثاني: أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الترمذي وابن ماجه من حديث طريف بن شهاب، أبي سفيان السعدي، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم» . ورواه الحاكم في " المستدرك " وقال: حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه.
الثالث: عبد الله بن زيد، أخرج حديثه الدارقطني في سننه والطبراني في " معجمه الأوسط " عنه نحوه، وفيه الواقدي، وتفرد به، ورواه ابن حبان في كتاب " الضعفاء " وفيه محمد بن موسى بن(2/164)
وهو شرط عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حتى إن من يحرم للفرض كان له أن يؤدي بها التطوع عندنا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سليمان قاضي المدينة وأعله به، وقال أنس: يسرق الحديث، ويروي الموضوعات عن الأثبات.
الرابع: عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه أحمد والبزار والطبراني من حديث مجاهد عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيه أبو يحيى العتاب وهو ضعيف.
قوله: تحريمها، مبتدأ، وخبره: التسليم، والتحريم مصدر من حرم بالتشديد، وهو مضاف إلى فاعله، وهو الصلاة، ولا يقدر له مفعول، لأن المقصود إثبات التحريم لها لا إيقاعه على شيء آخر لأن ذلك غير شرط، وكذلك الكلام في قوله: وتحليلها التسليم.
فإن قلت: كيف قلت: إنه مضاف إلي فاعله.
قلت: لأن الصلاة هي التي تحرم وتحلل. وقال الأزهري: أصل التحريم المنع، يسمى التكبير تحريما لأنه يمنع المصلي من الكلام والأكل والشراب وغيرهما.
م: (وهو شرط عندنا) ش: أي تكبير الشروع شرط في خارج الصلاة م: (خلافا للشافعي) ش: فإنه عنده ركن، وبه قال مالك وأحمد وآخرون م: (حتى إن من يحرم للفرض جاز أن يؤدي بها) ش: أي بتلك التحريمة م: (التطوع) ش: لأن التحريمة لما كانت شرطا جاز أداء النفل بتحريمة الفرض، وعند الشافعي لما كانت ركنا فلم يجز به، وكذلك إذا كبر وفي يده نجاسة فألقاها عند فراغه منها، أو شرع في التكبيرة قبل ظهور زوال الشمس ثم ظهر الزوال عند فراغه منها، أو مكشوف العورة فسترها بعمل يسير عند الفراغ منها، أو شرع في السنة قبل السلام من غير تحريمة يصير شارعا فيها عندنا، خلافا له.
وقال شرف الأئمة: يصح بناء العصر على تحريمة الظهر وبناء الفرض على تحريمة النفل، وعلى العكس، والقضاء على الأداء لأن التكبير شرط، وبما قاله شرف الأئمة يحصل الجواب عما قاله الأكمل ناقلا عن السغناقي، وهو أن الأقسام العقلية أربعة: بناء الفرض على الفرض، وبناء النفل على النفل، وبناء النفل على الفرض، وهو المذكور في الكتاب، فهل يجوز غيره من الأقسام(2/165)
وهو يقول: إنه يشترط لها ما يشترط لسائر الأركان، وهذا آية الركنية، ولنا أنه عطف الصلاة عليه في قَوْله تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] ومقتضاه المغايرة، ولهذا لا يتكرر كتكرار الأركان ومراعاة الشرائط لما يتصل به من القيام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الباقية أو لا؟.
وأما قوله: وأما بناء الفرض على النفل، قيل: لم توجد فيه رواية، والظاهر عدم الجواز، فرد أيضا بما ذكرنا. وقوله: لم توجد فيه رواية، غير صحيح؛ لأنه روي عن أبي الرجاء جواز ذلك، ذكره في " الدراية ".
م: (وهو يقول) ش: أي الشافعي يقول: الاستدلال فيما ذهب إليه م: (إنه يشترط لها) ش: أي للتحريمة م: (ما يشترط لسائر الأركان) ش: مثل استقبال القبلة وستر العورة والطهارة والنية والوقت م: (وهذا آية الركنية) ش: أي الاشتراط لها مثل ما يشترط لسائر أركان الصلاة علامة كونها ركنا كسائر الأركان.
م: (ولنا أنه عطف الصلاة عليه) ش: الضمير في أنه يجوز أن يعود إلى الله، وعطف أيضا على صيغة المعلوم؛ أي ولنا أن الله تعالى عطف الصلاة عليه، أي على التكبير، ويجوز أن يكون الضمير ضمير الشأن وعطف على صيغة المجهول في النص، م: (في قَوْله تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] ش: (الأعلى: 15) وعطف الصلاة بحرف الفاء على الذكر، والذكر الذي تعقبه الصلاة بلا فصل ليس إلا التحريمة بالاتفاق، فيقتضي هذا النص أن يكون التكبير خارج الصلاة، إذ التكبير لا يجب مرتين بالإجماع فتكون الصلاة المعطوفة خارجة عنه، وهو معنى قوله.
م: (ومقتضاه المغايرة) ش: بين المعطوف والمعطوف عليه، ولو كان ركنا لما جاز ذلك لأنه يلزم عطف الكل على الجزء، وفيه عطف الشيء على نفسه لاشتمال الكل على جزئه م: (ولهذا) ش: أي ولأجل أن تكبير الشروع شرط م: (لا يتكرر كتكرار الأركان) ش: في كل صلاة كالركوع والسجود، فلو كان ركنا تكرر كما تكرر الأركان.
فإن قلت: القراءة ركن فلا يشترط تكرارها.
قلت: القراءة متكررة أيضا بدليل افتراضها في الركعة الثانية كما في الأولى في الفرض وفي غيره كل الركعات.
م: (ومراعاة الشرائط لما يتصل به من القيام) ش: هذا جواب عما قاله الشافعي يشترط للتكبير ما يشترط لسائر الأركان، يعني مراعاة الشرائط لأجل القيام الذي يتصل بالتكبير لأجله عملا بموجب الفاء في النص، فلو لم يشترط فيه ما يشترط في الصلاة يؤدي ذلك إلى الفصل بينه وبينها، وهذا كعبد اشتراه الهاشمي فإنه يأخذ حكم المولى في حرمان الزكاة للاتصال به لا لذاته(2/166)
قال: ويرفع يديه مع التكبير وهو سنة، لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - واظب عليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كذا في " الجنازية "، قال صاحب " الدراية ": وهذا منقوض بالنية فإنها شرط بالإجماع، ويشترط لها ما يشترط لسائر الأركان.
قلت: النية أمر باطني فلا يورد لها على الأمور الظاهرة.
[رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ويرفع يديه مع التكبير) ش: أي يرفع المصلي يديه مصاحبا للتكبير، وقال في " المحيط ": يجعل باطن يديه مستقبل القبلة ناشرا أصابع يديه؛ لحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كبر للصلاة نشر أصابعه» ، ورواه الترمذي وابن خزيمة في " صحيحه " وفي " المبسوط ": لا يكلف بتفريج الأصابع عند الرفع، ومعنى الحديث المذكور ناشر إلى الكف، وقال شيخ الإسلام: فمن الناس من ظن أنه أراد بنشر الأصابع أن يفرج بين الأصابع تفريجا، وهو غلط، ولكن أراد به [......] كما يكون في الثوب أي لا يرفع يديه مضمومتين بل يرفعهما منصوبتين حتى تكون الأصابع مستقبل القبلة بالكفين، ونشر الأصابع فيه سنة , وإخراج اليدين عن الكمين سنة [
... ] وفي " الحاوي " للماوردي: يجعل بطن كل كف إلى القبلة. وقيل: يجعل بطن كل كف إلى الأخرى.
م: (وهو سنة) ش: أي رفع اليدين سنة في أول الصلاة عنه وهو الصحيح، روي ذلك عن أبي حنيفة نصا، فإن تركه قيل: يأثم، وروي عن أبي حنيفة ما يدل على هذا القول فإنه قال: إن تركه جاز وإن رفع كان أفضل، وقال الصفار: إن اعتاد تركه أثم. ونقل القدوري عن الزيدية أنه لا يرفع يديه عند الإحرام، ولا نقل بخلافهم.
ونقل عن الحسن المروزي أن ترك رفع اليد في تكبيرة الإحرام تبطل الصلاة، وهو مردود بالإجماع. وذكر في " القواعد " لابن رشد من المالكية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن رفع اليدين فرض. وعند داود وجماعة من أصحابه الظاهرية، فمنهم من أوجبه في تكبيرة الافتتاح فقط، ومنهم من أوجبه فيه وعند الانحطاط للركوع والارتفاع منه، ومنهم من أضاف إلى ذلك السجود، أيضا يجب اختلافهم في المواضع التي يرفع فيها.
م: (لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - واظب عليه) ش: أي رفع اليدين في أول الصلاة، ومواظبته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معروفة في أحاديث صفة صلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها حديث ابن عمر، أخرج حديثه الأئمة الستة في كتبهم عن سالم عن أبيه عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استفتح الصلاة رفع يديه» . الحديث، ومنها حديث أبي حميد الساعدي قال: «كان(2/167)
وهذا اللفظ يشير إلى اشتراط المقارنة، وهو المروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - والمحكي عن الطحاوي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه» وسيأتي قريبا، أخرجه الجماعة إلا مسلما، ومنها ما أخرجه الطحاوي في " شرح الآثار " عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا قام إلى الصلاة كبر ورفع يديه حذو منكبيه» ، والعجب من الأكمل يقول: رفع اليدين في أول الصلاة سنة بلا خلاف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واظب عليه مع الترك، وهو علامة السنة، بخلاف ما إذا كان بلا ترك، فإن ذلك دليل الوجوب.
قلت: كيف يقول: واظب عليه مع الترك، فمن أين أخذ هذا وجميع الأحاديث التي رويت في صفة صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدل صريحا على رفع اليدين في أول الصلاة، حتى قال ابن المنذر: لم يختلف أهل العلم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرفع يديه إذا افتتح، فلذلك ذهب قوم إلى وجوبه كما ذكرنا. وقال قوم: بلا خلاف، يدل على عدم اطلاعه؛ فإن فيه خلافا، وإن كان الجمهور على خلافه، والعجب من الأترازي أيضا أنه يقول: رفع اليدين سنة لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم الأعرابي واجبات الصلاة، ولم يذكر رفع اليدين.
قلت: كيف يدل هذه على سنية رفع اليدين؟ بل يدل هذا صريحا على كونه غير سنة، ولا يلزم من عدم ذكره الرفع فيه عدم كونه سنة، ومع هذا شارح الكتاب وصاحب الكتاب في واد وهو في واد.
قال السغناقي: فإن قلت: المواظبة دليل الوجوب، فكيف استدل بها على السنية؟ ثم أجاب بما حاصله: أن المصنف قال في آخر باب إدراك الفريضة: لا سنية دون المواظبة، ثم قال: المواظبة إنما تكون دليل الوجوب إذا كانت من غير ترك، وثبت الترك ههنا، فإن شمس الأئمة السرخسي قال في تعليل هذه المسألة: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم الأعرابي الصلاة ولم يذكر رفع اليدين، لأنه ذكر الواجبات وواظب على رفع اليدين عند التكبير، فدل على أنه سنة.
قلت: هذا أعجب مما ذكر الأكمل والأترازي، فإنه يقول: وثبت، ففي أي موضع ثبت ذلك؟ ومن رواه من الصحابة؟ وقد قلنا أيضا ما في قصة الأعرابي.
م: (وهذا اللفظ) ش: أي لفظ القدوري في قوله: ويرفع يديه مع التكبير م: (يشير إلى اشتراط المقارنة) ش: أي مقارنة الرفع مع التكبير لأن كلمة مع للقران، وقال الصفار وشيخ الإسلام خواهر زادة: ويرفع مقارنا للتكبير.
م: (وهو المروي عن أبي يوسف) ش: أي الرفع مع التكبير مروي عن أبي يوسف، أي كان يقول ذلك فيما روي عنه م: (والمحكي عن الطحاوي) ش: أي عن الإمام أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي، المحكي عبارة عن الفعل يعني أنه كان يفعل كذلك فيما حكي(2/168)
والأصح أنه يرفع أولا ثم يكبر، لأن فعله نفي الكبرياء عن غير الله تعالى، والنفي مقدم على الإثبات. ويرفع يديه حتى يحاذي بإبهاميه شحمتي أذنيه، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرفع إلى منكبيه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه، وبه قال أحمد، وهو المشهور عن مذهب مالك.
م: (والأصح أنه يرفع أولا ثم يكبر) ش: أي الأصح في المذهب أن المصلي يرفع يديه أولا ثم يكبر، قال في " المبسوط ": وعليه أكثر مشايخنا. وللشافعي فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يبتدئ بالتكبير هذا الدال، الثاني: أن يرفع التكبير، والثالث: يكبر ويداه قارنتان حذو منكبيه.
م: (لأن فعله نفي الكبرياء عن غير الله تعالى) ش: لأن في تقلب الرفع نفي الكبرياء عما سوى الله تعالى، وبالتكبير يثبت لله تعالى. م: (والنفي مقدم على الإثبات) ش: كما في كلمة التوحيد، ولقائل أن يقول: ثبت التقدم في كلمة التوحيد ضرورة، لأنه لا يمكن التكلم بالنفي والإثبات معا بخلاف ما نحن فيه، فإن النفي بالفعل والإثبات بالقول يمكن القران، ثم الحكم في رفع اليدين الإشارة إلى نقل ما سوى الله وراء ظهره، كأنه يشير بيده اليمنى إلى الآخرة، وباليسرى إلى الدنيا، قائلا بلسان حاله: نبذت ما سوى الله، الدنيا والآخرة، وراء ظهري، وأعرضت عنهما، وأقبلت إلى عبادة الله عز وجل، والله أكبر، أبي وهو أعظم من أن يؤدى حقه بهذا المقدار.
وقال محمد بن أبي جمرة المالكي: حكم رفع اليدين أن يراه الأصم فيعلم دخوله في الصلاة، وقال ابن بطال: رفعهما تعبد، وقيل: إشارة إلى التوحيد، وقيل: هو انقياد في خبر مطلوب، يكبر بعد استقرار اليدين ويكبر للافتتاح مرة واحدة. وقالت الرافضة: يكبر ثلاث مرات، وهو باطل، وقال الوبري: يأتي بالتكبير بنية تعظيم الله تعالى، قيل: يحصل بنية التعظيم باختصاص ذكر الله تعالى عند الافتتاح، ويكون ذلك بنية لوجود نية التعظيم.
م: (ويرفع يديه حتى يحاذي بإبهاميه شحمتي أذنيه) ش: شحمة الأذن معلق القرط، وفي " المحيط ": ويرفع يديه حذاء أذنيه حتى يحاذي بإبهاميه شحمة أذنيه، ويروى: أصابعه فروع أذنيه.
م: (وعند الشافعي يرفع إلى منكبيه) ش: وعنه يحاذي أطراف أصابعه أذنيه وكفيه ومنكبيه، وإبهاماه شحمة أذنيه، وقال أبو محمد من المالكية: يرفعهما إلى المنكبين. واختار المتأخرون منهم: أن يحاذي بكوعه صدره، وبطرف كفه المنكب وأطراف أصابعه أذنيه، وهذا إنما يتهيأ إذا كانت يداه قائمتين ورؤوس أصابعهما مما يلي السماء، وهي صفة التائب، وقال سحنون: يكونان مبسوطين، بطونهما مما يلي الأرض وظهورهما مما يلي السماء، وهي صفة الخائف، وعند أحمد: يخير بين الرفع إلى الأذنين والمنكب لصحة الحديث فيهما، وعنده يضم الأصابع بعضها إلى بعض مع المد. وعند الشافعي ينشرها، وعن طاوس: أنه يرفع حتى يحاذيهما رأسه،(2/169)
وعلى هذا تكبيرات القنوت والأعياد والجنازة. له حديث أبي حميد الساعدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذا كبر رفع يديه إلى منكبيه» . ولنا ما رواه وائل بن حجر والبراء بن عازب وأنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أن النبي عيه السلام كان إذا كبر رفع يديه حذاء أذنيه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال النووي: ولا أصل له.
م: (وعلى هذا) ش: يعني وعلى هذا الخلاف م (تكبيرات الأعياد وتكبيرة القنوت وتكبيرة الجنازة) ش: فعندنا يرفع يديه إلى شحمتي أذنيه في هذه التكبيرات، وعند الشافعي: إلى المنكبين كما في تكبيرة الافتتاح، وكان ينبغي أن يقول: تكبيرة الجنازة، بلا جمع لأن عندنا لا يعرف اليد في الجنازة إلا في تكبيرة الأولى.
م: (له) ش: أي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - م: (حديث أبي حميد الساعدى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عنه قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كبر رفع يديه إلى منكبيه» ش: حديث أبي حميد رواه الجماعة إلا مسلما من حديث محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهم أبو قتادة، «قال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: ولم فوالله ما كنت بأكثرنا له تبعة ولا أقدمنا له صحبة. قال: بلى، قالوا: فأعرض، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه. الحديث. وفي آخره: "قالوا: صدقت هكذا كان يصلي» ، أخرجوه مطولا ومختصرا.
وأبو حميد اسمه عبد الرحمن بن عمرو بن سعيد، وقيل: ابن المنذر بن سعد الخزرجي، توفي في آخر خلافة معاوية، وأبو قتادة، واسمه الحارث بن ربعي، قوله: عشرة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي بين عشرة، وكلمة في تجيء بمعنى بين، كما في قَوْله تَعَالَى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] [الفجر: الآية 29] أي بين عبادي، ومحلها النصب على الحال، أي سمعه حال كونه جالسا بين عشرة أنفس من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، قوله: تبعة، أي اتباعا وهي بضم التاء المثناة من فوق، وسكون الباء الموحدة، وكذلك التبعة بفتح التاء وكسر الباء بمعناه، والتباعة أيضا بالفتح، وانتصابها على التمييز، وكذلك صحبة.
م: (ولهنا ما رواه وائل بن حجر والبراء بن عازب وأنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان إذا كبر رفع يديه حذاء أذنيه» ش: أما حديث وائل فأخرجه مسلم في " صحيحه " عن عبد الجبار عن وائل عن علقمة عن وائل ومولى لهم أنهما حدثاه «عن أبيه وائل بن حجر أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه حتى دخل في الصلاة كبر وصفهما حيال أذنيه» الحديث. وهذا الحديث رواه أيضا أبو داود، والنسائي، والطبراني، والدارقطني، وحجر بضم الحاء وسكون الجيم.(2/170)
ولأن رفع اليد لإعلام الأصم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما حديث البراء فأخرجه أحمد، وإسحاق بن راهويه في " مسنديهما " والدارقطني في " سننه " والطحاوي في " شرح الآثار " كلهم من حديث يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلي رفع يديه حتى تكون إبهاماه حذاء أذنيه» . وزاد الدارقطني فيه: «ثم لم يعد» ويجيء الكلام فيه مستقصى.
وأما حديث أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه الحاكم في " المستدرك " والدارقطني ثم البيهقي في " سننيهما " من حديث العلاء بن إسماعيل العطار، حدثنا حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن أنس قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر فحاذى بإبهاميه أذنيه ثم ركع» الحديث. وقال الحاكم: إسناده صحيح على شرط الشيخين ولا أعلم له علة ولم يخرجاه. وفي هذا الباب حديث مالك به الحويرث وأبي هريرة أيضا.
وأما حديث مالك بن الحويرث فأخرجه أبو داود عنه قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع حتى بلغ بهما فروع أذنيه» وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه والدارقطني.
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه النسائي وأبو داود من حديث بشر بن سعد، قال: قال أبو هريرة: «لو كنت قدام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرأيت إبطه، يعني إذا كبر فرفع يديه» . ووجه الاستدلال به أن من رفع يديه إلى منكبيه لا يرى إبطه، ولا يرى إلا ممن يرفع يديه إلى أذنيه.
م: (ولأن رفع اليد لإعلام الأصم) ش: يعني الأصم لا يسمع تكبير الإمام، ولا يعرف شروعه، فيكون رفع اليد لإعلامه، وهذا هو الحكم في الرفع.
وقال السغناقي: قلت: كان يجب عليه أن يقول: ورفع اليد لإعلام الأصم أيضا، بزيادة قوله: أيضا؛ لرفع التناقض صورة، لأنه ذكر أولا أن معنى رفع اليد نفي الكبرياء عن غير الله تعالى فلا يكون لغيره، حتى يكون لتخصيصه فائدة، وإنما يكون هو لغيره معه إذا كان له معنيان وهو التقى والإعلام، وهو يحصل بذكر قوله: أيضا، إلا أن المصنف اتبع شمس الأئمة السرخسي، كذلك ذكره، فإن دأبهم ترك التكلف لتفهم المعاني، والمعنيان يحصلان بما ذكروا، فلا حاجة بعد ذلك إلى زيادة(2/171)
وهو بما قلناه، وما رواه يحمل على حاله العذر،
والمرأة ترفع يديها حذاء منكبيها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التكليف. ونقل الأكمل هذا الكلام منه ثم قال: فكأنه يحوم حول أن المعلول الواحد لا يكون له علتان مستقلتان.
قلت: لا حاجة إلى ما ذكره لأن الكلام إن كان في العلة فالحكم يثبت بعلل شتى، وإن كان في الحكم فيجوز أن تكون واحدة وثنتين وما فوقهما. قال الأكمل: وقيل: لو كان لإعلام الأصم لما أتى به المنفرد، وأجيب بأن الأصل هو الأداء بالجماعة، قال الله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] (البقرة: الآية 43) فيكون الانفراد نادرا، على أن حكمة الحكم لا تراعى في كل فرد. فإن قيل: فعلى هذا يجب أن لا يأتي به المقتدي، أجيب بأن الأصم يجوز أن يكون في آخر الصفوف. قلت: هذان السؤالان مع جوابهما لتاج الشريعة. م: (وهو بما قلناه) ش: من رفع اليدين إلى أصل الأذين.
م: (وما رواه يحمل على حالة العذر) ش: أي ما رواه الشافعي من حديث أبي حميد محمول على العذر وهو عند البرد. وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الرفع إلى المنكبين كان لعذر لأن وائلا قال: «ثم أتيته من العام المقبل وعليهم الأكسية والبرانس، فكانوا يرفعون أيديهم فيها» وأشار شريك إلى صلاة فأخبر وائل بن حجر في حديثه هذا أن رفعهم إلى مناكبهم إنما كان لأن أيديهم كانت حينئذ في ثيابهم، وأخبر أنهم كانوا يرفعون إذا كانت أيديهم ليست في ثيابهم إلى حذو آذانهم، فأعلمنا روايتيه كلتيهما، فجعلنا الرفع إذا كانت اليدان في الثياب لعلة البرد إلى ما انتهى ما استطاع إليه وهو المكان.
وإذا كانتا باديتين رفعهما إلى الأذنين، كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قلت: لا حاجة إلى هذه التكلفات، وقد صح الخبر فيما قلنا وما قاله الشافعي، فاختار الشافعي حديث أبي حميد واختار أصحابنا حديث وائل في غيره، وقد قال أبو عمر بن عبد البر: اختلفت الآثار عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وعن الصحابة ومن بعدهم في كيفية رفع اليدين في الصلاة، فروي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هذا فوق الأذنين مع الرأس، وروي عنه أنه كان يرفع يديه حذاء أذنيه، وروي عنه أنه كان يرفعهما حذو منكبيه، وروي عنه أن كان يرفعهما إلى صدره، وكلها آثار محفوظة مشهورة، انتهى. وهذا يدل على التوسعة في ذلك، وقال الأترازي بعد أن ذكر حديث البراء بن عازب: ولهذا ثبت قول الشافعي في رفع اليدين إلى المنكبين.
قلت: هذا كلام غير موجه، وكيف ثبت هذا الضعف؟ وقد يثبت ذلك في الحديث وشبه هذا الضعف في الحقيقة إلى الحديث، والحديث صحيح كما ذكرناه.
م: (والمرأة ترفع يديها حذاء منكبيها) ش: وفي " التحفة " لم يذكر في ظاهر الرواية حكم المرأة، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنها كالرجل؛ لأن كفيها ليسا بعورة، وروى محمد بن مقاتل عن(2/172)
وهو الصحيح لأنه أستر لها.
فإن قال بدل التكبير: الله أجل أو عظم، أو الرحمن أكبر أو لا إله إلا الله، أو غيره من أسماء الله تعالى، أجزأه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إن كان يحسن التكبير لم يجزئه إلا قوله: الله أكبر، أو الله الأكبر، أو الله الكبير، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لا يجوز إلا بالأولين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أصحابنا: أنها ترفع يديها حذاء منكبيها كالرجل عند الشافعي، وقال في " الروضة ": لأنها لا تفتح إبطيها في السجود، فكذا في الافتتاح، وعن أم الدرداء وعطاء والزهري وحماد وغيرهم: أن المرأة ترفع يديها إلى ثدييها، ويبقى حال المرأة على القبض، ويبقى حال الرجل على البسط والتفرج، وعن أحمد في رواية: ترفع المرأة دون رفع الرجل، وفي أخرى لا ترفع عنده.
م: (وهو الصحيح) ش: يعني رفع يديها حذاء منكبيها هو الصحيح، واحترز به عن رواية الحسن عن أبي حنيفة أنها كالرجل م: (لأنه أستر لها) ش: أي لأن رفع يديها حذو منكبيها أستر للمرأة لأن مبنى أمرها على الستر.
م: (فإن قال بدل التكبير) ش: يعني إن قال المصلي عوض قوله: الله أكبر، وفيه إشارة إلى أن الأصل فيه التكبير م: (الله أجل وأعظم) ش: كلاهما أفعل التفضيل من الجليل والعظيم ومعناهما واحد (أو الرحمن أكبر) أي قال: الرحمن أكبر، موضع الله أكبر؛ أي أو قال بدل الله أكبر: لا إله إلا الله م: (أو غيره من أسماء الله تعالى) ش: أي أو قال غير ما ذكر من الألفاظ المذكورة بأن قال: لا إله غيره، أو قال: تبارك الله، أو قال: سبحان الله، أو ذكر اسما من أسماء الله التسعة والتسعين.
م: (أجزأه عند أبي حنيفة ومحمد) ش: وهذا جواب قوله: الله أكبر م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان يحسن التكبير لم يجزئه إلا الله أكبر أو الله الأكبر أو الله الكبير) ش: يعني لم يجز إلا أن يأتي بأحد من هذه الألفاظ الثلاثة، وإن لم يحسن جاز.
ولم يذكر المصنف إلا هذه الألفاظ الثلاثة، وهكذا ذكره في " البدائع " و" المفيد " " والأسبيجابي " " والتحفة " " والينابيع "، وذكر في " المبسوط " أربعة ألفاظ: هذه الثلاثة، والرابع: الله كبير، بدون الألف واللام، والحق ما ذكره فيه، وفي " قاضي خان " روى الحسن عن أبي حنيفة: إن كان يحسن التكبير يكره، وقال السرخسي: الأصح أنه لا يكره، وذكر القدوري أيضا أنه كره الافتتاح إلا بقوله: الله أكبر، وفي " الذخيرة ": لو افتتح الصلاة بالتهليل أو التحميد أو التسبيح، يصير شارعا في الصلاة عندهما ويكره، قال: وهو الأصح لترك السنة المتواترة، وقيل: لا يكره، ذكره المرغيناني.
م: (وقال الشافعي: لا يجوز إلا بالأولين) ش: وهما الله أكبر، والله الأكبر، وهو الصحيح من مذهبه، ولو قال: الله أكبر وأجل وأعظم، جاز عند الشافعي، وكذا الله أكبر كبيرا، والله أكبر من كل شيء، ولو قال: الله الجليل أكبر، أجزأه في أصح الوجهين، ولو قال: الله الذي لا إله إلا هو(2/173)
وقال الإمام مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لا يجوز إلا بالأول، لأنه هو المنقول، والأصل فيه التوقيف. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إدخال الألف واللام فيه أبلغ في الثناء، فقام مقامه. وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: إن أفعل وفعيلا في صفات الله تعالى سواء، بخلاف ما إذا كان لا يحسن أن يقول: الله أكبر؛ لأنه لا يقدر إلا على المعنى، ولهم أن التكبير هو التعظيم لغة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الملك القدوس الأكبر، لا يجوز بلا خلاف عندهم، وحكى الرافعي وغيره وجها أنه يتعذر بقوله: الرحمن أكبر أو الرحيم أكبر، ولو قال: الأكبر الله، منكوسا بغير ترتيب، جاز عندهم، وعند أحمد لا يجوز، وذكر في " وسيط الشافعية " أنه لا يجوز كما قال أحمد.
م: (وقال الإمام مالك: لا يجوز إلا بالأول) ش: وهو قوله: الله أكبر، وبه قال أحمد وداود م: (لأنه) ش: أي لأن لفظ الله أكبر م: (هو المنقول) ش: أي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة والتابعين م: (والأصل فيه التوقيف) ش: أي الأصل في المنقول التوقيف على الفعل، ولم ينقل غير لفظ الله أكبر.
فإن قلت: أخرج الطبراني ما يؤيد ما ذهب إليه مالك من حديث رفاعة بن رافع " أن رجلا دخل المسجد فصلى "، الحديث. وفيه: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء مواضعه، ثم يستقبل القبلة ثم يقول: الله أكبر» ، قلت: قد ثبتها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة ونفى قبولها، وتجوز أن تكون الصلاة جائزة ولا تكون مقبولة إذ لا يلزم من الجواز القبول، وعندهم لا تكون صلاة، ولا حجة في هذا.
م: وقال الشافعي: إدخال الألف واللام فيه) ش: يعني في لفظ أكبر الذي هو الخبر م: (أبلغ في الثناء) ش: لأنه يفيد الحصر م: (فقام مقامه) ش: أي فقام المعرف مقام المنكر م: (وأبو يوسف يقول: إن أفعل) ش: أي صيغة أفعل التي للتفضيل م: (وفعيلا) ش: أي وإن صيغة فعيلا. م: (في صفات الله سواء) ش: لأنه لا يراد بالأفعل إثبات الزيادة بعد الاشتراك في أصل المعنى، كما يراد ذلك في قولك: زيد أفضل من عمرو، ولما كان حكمه الأفعل في صفاته كذلك وهو جائز، جاز الفعيل أيضا ش: (بخلاف ما إذا كان لا يحسن أن يقول: الله أكبر؛ لأنه لا يقدر إلا على المعنى) ش: يعني الله أكبر.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد. م: (أن التكبير هو التعظيم لغة) ش: أي من حيث اللغة، كما في قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف: 31] (يوسف: الآية 31) أي عظمنه {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] (المدثر: الآية 3) أي فعظم، فكل لفظ دل على التعظيم وجب أن يجوز الشروع به، ولأن التكبير ما وجب بعينه حتى يقتصر على لغة أكبر، بل الواجب تعظيم الله تعالى بجميع البدن واللسان، فصرفناه إلى جميع الألفاظ الدالة على الثناء والتعظيم لله تعالى، والأصل في خطاب الشرع أن يكون مفهوما معلوما مقبولا، والبقية على خلاف الأصل على ما عرف في الأصول، وقال تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15](2/174)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(الأعلى: الآية 15) وذكر اسم، أعم من أن يكون باسم الله أو باسم الرحمن، فجاز الرحمن أعظم، كما جاز الله أكبر لأنهما في كونهما ذكرا سواء، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] (الأعراف: الآية 180) فأي اسم من أسمائه افتتح الصلاة به جاز.
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» ، ثم لو قال: لا إله إلا الرحمن أو العزيز، كان مسلما، فإذا جاز في الإيمان الذي هو أصل، ففي فروعه أولى، وفي " سنن" أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي العالية أنه سئل بأي شيء كان الأنبياء يفتتحون الصلاة؟ قال: بالتوحيد والتسبيح والتهليل، وعن الشعبي قال: بأي اسم من أسماء الله تعالى فتحت الصلاة أجزأك، ومثله عن النخعي، وعن إبراهيم: إذا سبح أو كبر أو هلل أجزأ في الافتتاح، ولو افتتحها بقوله: سبحانك اللهم، يصير شارعا، كما إذا قال: سبحان الله، ذكره في فتاوى النسفي ".
ولو قال: يا ألله، يصير شارعا، وكذا لو قال: لا إله غيره، ولا يصح شارعا بقوله: اللهم اغفر لي، وأستغفر الله، أو لا حول ولا قوة إلا بالله، أو ما شاء الله كان، أو أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو باسم الله الرحمن الرحيم، لأن التعوذ في نفي الداء، والمسألة للتبرك، فكأنه قال: اللهم بارك لي في هذا، وفي " المرغيناني ": قيل: يجوز، وعن محمد بن الفضل: يجوز بقوله بسم الله الرحمن، عند أبي حنيفة، والصحيح الأول، ولو قال: الله أو الرب أو الرحمن، ولم يرد، يصير شارعا عند أبي حنيفة، خلافا لمحمد. وفي " المرغيناني ": وعلى هذا الكبير والأكبر أو أكبر عند أبي حنيفة، وفي " فتاوى الفضلي " بالرحمن يصير شارعا وبالرحيم لا، لأن الرحيم مشترك، وذكر في " الذخيرة " و " البدائع " أن صحة الشروع بالاسم وحده رواية الحسن عن أبي حنيفة، وقيل: عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، وفي ظاهر الرواية يصير شارعا.
قلت: لأن الحكم بشيء على شيء إنما يتم بالخبر، والتعظيم حكم على التعظيم، فلا بد من لفظ يدل عليه، وفائدة الاختلاف تظهر في حائض طهرت في آخر الوقت، فإن اتسع للاسم فقط تجب الصلاة عليها عنده، خلافا لأبي يوسف ومحمد، ولو قال: الله الكابر، يصح شارعا لأنه لغة في الكبير.
ولو افتتحها باللهم اختلف أهل الحق فيه على قولين:
قال البصريون: يصير شارعا لأن الميم بدل من حرف النداء، قال في " الذخيرة ": وفي " المحيط ": وهو الأصح. وقال الكوفيون: لا يصير شارعا. قال في " الأسبيجابي " و " الينابيع ": وهو الأظهر، ولو كبر متعجبا ولم يرد به التعظيم لم يجز، ولو كبر في الركوع لا يصير شارعا،(2/175)
وهو حاصل. فإن افتتح الصلاة بالفارسية
أو قرأ فيها بالفارسية، أو ذبح وسمى بالفارسية، وهو يحسن العربية، أجزأه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يجزئه إلا في الذبيحة خاصة، وإن لم يحسن أجزأه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيل: عند أبي حنيفة يجوز إذا كان إلى القيام أقرب، ولو وقع (الله) قبل ركوعه، و (أكبر) في ركوعه، لا يصير شارعا، قال في " المرغيناني ": يصير شارعا على قياس قول أبي حنيفة ومحمد، وفي " العيون ": لو مد الإمام التكبير وجزم رجل خلفه، ووقع قبله يجوز عند أبي حنيفة ومحمد، لأنه لو قال: الله، ولم يزد، يجوز، فكذا هذا، وفي " المحيط ": لو أدرك الإمام في الركوع فكبر قائما ويريد به تكبيرة الركوع جاز لأن نيته تلغو.
وإن لم يحسن العربية كبر بلغته عندنا، وبه قال الشافعي وأحمد في " المجرد "، وقال في " الجامع ": لا يكبر بغير العربية، بل يكون حكمه حكم الأخرس، والأخرس لا يلزمه تحريك لسانه وشفتيه عنده خلافا للشافعي، وفي وجه: السريانية والعربية يتعين؛ لنزول الكتب بهما، وبعدهما الفارسية أولى من التركية والهندية. وفي " الجواهر ": الأبكم يدخل بالنية والعاجز بمثله باللغة ليس عليه نطق آخر يفتح الصلاة به عوضا عن التكبير، قاله أبو بكر من المالكية، وقال أبو الفرج: يدخل بالحرف الذي دخل به الإسلام، وقيل: يدخل بلسانه.
م: (وهو حاصل) ش: أي التعظيم حاصل بما ذكر من الألفاظ م: (فإن افتتح الصلاة بالفارسية) ش: أي اللغة الفارسية وهي اللغة التي تسمى في ألسن الناس بالعجمية بأن قال موضع الله أكبر حذاي برزك
م: (أو قرأ فيها) ش: أي في الصلاة م: (بالفارسية) ش: بأن قرأ تنكا موضع ضنكا، وسزا موضع جزاء، وسك أطل موضع عند، ونحو ذلك م: (أو ذبح وسمى بالفارسية) ش: بأن قال بنام حذاي برزك م: (وهو يحسن العربية) ش: أي والحال أن المصلي المكبر أو القارئ في الصلاة أو الذابح للشاة متمكن من التلفظ باللغة العربية م: (أجزأه عند أبي حنيفة، وقالا: لا يجزئه إلا في الذبيحة خاصة) ش: يعني عندهما لا يجزئه في الافتتاح والقراءة عند القدرة إلا في الذبيحة وأنها تجوز.
م: (وإن لم يحسن) ش: أي وإن لم يحسن العربية م: (أجزأه) ش: لعجزه، وقيل: الخلاف في الاعتداد بها، ولا تفسد صلاته بالاتفاق، ولو لم يكن ذلك تلاوة القرآن لما جاز عند العجز كالتفسير وإنشاد الشعر، قال في " المحيط ": ولهذا لا يجوز للجنب والحائض قراءة القرآن على نظم القرآن بالفارسية. وقال أبو سعيد البراذعي: إنما جوز أبو حنيفة القراءة بالفارسية لا بغيرها من الألسن لقرب الفارسية بالعربية لأنه ورد أنهما لسان أهل الجنة، والصحيح أن الخلاف في الكل، وقال بعض مشايخنا: إنما يجوز إذا كان على نظم القرآن، وقيل: يجوز كيف ما كان نقله الصفار، وقيل: إنما يجوز إذا كان ثناء، كسورة الإخلاص، أما إذا كان ممن ينقص لا يجوز(2/176)
أما الكلام في الافتتاح، فمحمد مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في العربية، ومع أبي يوسف في الفارسية؛ لأن لغة العرب لها من المزية ما ليس لغيرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كقوله: {اقْتُلُوا يُوسُفَ} [يوسف: 9] (يوسف: الآية 9) فقرأ يكشت يوسفرا تفسد صلاته، والأصح أنه يجوز في الكل.
وفي " المستصفى ": الشرط أن لا يحذف منها حرفا وتيقن أنه معنى العربية، قال فخر الإسلام: الشأن فيمن لا يتهم في دينه، وقال محمد بن الفضل البخاري: هذا الخلاف فيما إذا جرى على لسانه من غير قصد، فمن تعمد ذلك فهو زنديق أو مجنون، فالمجنون يداوى والزنديق يقتل، لأن الإخلال بالنظم يخل بالقرآن كالإخلال بالمعنى، حتى لو لم يضم معناه شعرا أو قراءة فسدت صلاته لأنه من كلام الناس، وعلى هذا لو خطب يوم الجمعة أو كبر أو تشهد أو قنت.
ولو أذن أو أقام بالفارسية، قيل: على الخلاف، وقيل: لا يجوز بلا خلاف، إلا أن يكونوا قد اعتادوا ذلك، وأجمعوا جواز الأيمان والذبح، والسلام ورده بأي لسان كان، ذكره في " الينابيع ".
وفي " المبسوط ": روى الحسن عن أبي حنيفة أن من أذن بالفارسية والناس يعلمون أنه أذان جاز، وإلا فلا.
وفي " المحيط ": وفي التشهد روايتان عن أبي حنيفة، وبتفسير القرآن لا يجوز لأنه غير مقطوع به، ولو قرأ مثل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ربه «الصوم لي وأنا أجزي به» ، ومثل قوله: «ما تقرب المتقربون إلي بشيء أحب إلي مما افترضته عليهم» لا يجوز، ولو قرأ من التوراة والإنجيل والزبور لم يجز، سواء كان يحسن العربية أو لا لأنه ليس بقرآن، هكذا علل محمد، وقالوا: هذا يشير إلى أنه لا بأس للجنب أن يقرأها، وفي " النوادر ": لا يكره، وقيل: إن كان معناه معنى القرآن يجوز عنده، وإن كان معناه معنى التسبيح لا يجوز ولو بعد صلاته، وإن كان يعلم معناه فسدت صلاته، وفي " الروضة ": لو قرأ من التوراة والإنجيل والزبور ما كان تسبيحا وتحميدا وتهليلا أجزأه، ومن غيره لا يجزئه. وعند الشافعي يبدأ بالقراءة بالفارسية وعند العجز وعدمه، وبه قال مالك وأحمد. وفي " الكافي ": لو قرأ بقراءة شاذة لا تفسد صلاته بالاتفاق، ولو قرأ بقراءة ليست في مصحف العامة كقراءة ابن مسعود وأبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تفسد صلاته عند أبي يوسف، والأصح أنه لا يفسد ولكن لا يعتد به من القراءة.
م: (أما الكلام في الافتتاح) ش: أي في افتتاح الصلاة م: (فمحمد مع أبي حنيفة في العربية ومع أبي يوسف في الفارسية) ش: يعني يجوز عند محمد لكل اسم من أسمائه تعالى، ومع أبي يوسف في الفارسية، يعني لا يجوز عند أبي يوسف إلا إذا كان عاجزا عن العربية م: (لأن لغة العرب لها من المزية) ش: أي من الفضيلة، يقال: له عليه مزية، ولا ينهى منه فعل، والميم أصلية م: (ما ليس لغيرها)(2/177)
وأما الكلام في القراءة فوجه قولهما أن القرآن اسم لمنظوم عربي كما نطق به النص، إلا أن عند العجز عن القراءة بالعربية يكتفى بالمعنى كالإيماء، بخلاف التسمية؛ لأن الذكر يحصل بكل لسان.
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] ولم يكن فيها بهذه اللغة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي لغة العرب، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنا عربي والقرآن عربي ولسان أهل الجنة عربي» ، ذكره السغناقي ثم قال: ذكره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في معرض الأثر وتفضيل لسان العرب على سائر الألسنة.
م: (وأما الكلام في القراءة فوجه قولهما) ش: أي قول أبي يوسف ومحمد م: (أن القرآن اسم لمنظوم عربي) ش: والعربي اسم لشيء مخصوص بلسان العرب، لأن المعنى لا اختصاص له بلسان دون لسان، فكما كان مخصوصا بلسان العرب، لم تجز القراءة بالفارسي م: (كما نطق به النص) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] (يوسف: الآية 2) والمراد بالعربي نظمه م: (إلا أن عند العجز عن القراءة بالعربية يكتفى بالمعنى) ش: للضرورة كيلا يلزم تكليف بالشيء في الوسع، وصار كمن عجز عن الركوع والسجود فإنه جاز له الإيماء.
م: (كالإيماء بخلاف التسمية) ش: عند الذبيحة وهذا في الحقيقة جواب عن إيراد يرد على قوليهما، وهو أن القرآن لما كان اسما لمنظوم عربي كان الأمر يقتضي أن لا تجوز التسمية أيضا عند الذبح بغير العربية، وتقرير الجواب أن المراد بالتسمية الذكر، قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] (الأنعام: الآية 121) فلا يتوقف على العربية.
م: (لأن الذكر يحصل بكل لسان) ش: سواء كان يحسن العربية أو لم يحسن، في قولهم جميعا، وكذلك الشهادة عند الحكام، واللعان والعقود تصح بالإجماع م: (ولأبي حنيفة قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] [الشعراء: الآية 196] ولم يكن فيها بهذه اللغة) ش: العربية، فتعين أن يكون بمعناه فيها، والمقروء بالفارسية على سبيل الترجمة يشتمل على معناه، فكان جائزا إلحاقا به.
فإن قلت: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] (يوسف: الآية 2) محكم لا يقبل التأويل، وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] [الشعراء: الآية 196] محتمل لأن بعض المفسرين ذهب إلى أن الضمير للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف يترك المحكم به؟
قلت: هذا بعيد يفضي إلى التعقيد اللفظي بتفكيك الضمائر في قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 192] (الشعراء: الآية 192) والكلام المعجز مصون عن ذلك.
فإن قلت: سلمنا تساويهما في الأحكام لكي يكونا متعارضين، فمن أين تقوم الحجة.
قلت: إعمال الدليلين ولو كان بوجه أولى من إعمال أحدهما، فيحتمل قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] (الشعراء: الآية 196) على حالة الصلاة لأنها حالة المناجاة والاشتغال بنظم خاص(2/178)
ولهذا تجوز عند العجز، إلا أنه يصير مسيئا لمخالفته السنة المتواترة،
ويجوز القراءة بأي لسان كان سوى الفارسية، هو الصحيح لما تلونا. والمعنى لا يختلف باختلاف اللغات، والخلاف في الاعتداد، ولا خلاف بينهم أنه لا فساد، ويروى رجوعه في أصل المسألة إلى قولهما وعليه الاعتماد، والخطبة والتشهد على هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يذهب بالرقة ويحمل قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] (يوسف: الآية 2) على غير حالة الصلاة.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون القرآن لم يكن في الزبر بهذا النظم م: (تجوز) ش: القراءة بالفارسية م: (عند العجز) ش: عن العربية، ولا شك أن العجز لا يجعل غير القرآن قرآنا م: (إلا أنه) ش: استثناء من قوله: أجزأه عند أبي حنيفة، أي إلا أن المصلي بالقراءة الفارسية م: (يصير مسيئا لمخالفته السنة المتواترة) ش: وهي القراءة بالعربية.
م: (ويجوز القراءة بأي لسان كان) ش: بالتركية أو الهندية وغيرهما من أي لسان كان، على قوله الأول م: (سوى الفارسية) ش: يعني غير اللغة الفارسية، وهذا ليس باستثناء، بل معناه: كما يجوز عنده بالفارسية يجوز بغيرها أيضا من أي لسان كان، لكن هذا على قوله الأول م: (وهو الصحيح) ش: أي جواز القراءة بأي لغة كانت، واحترز به عن قول أبي سعيد البرذعي فإنه قال: إنما يجوز أبو حنيفة القراءة بالفارسية دون غيرها من الألسنة لقرب الفارسية من العربية.
م: (لما تلونا) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] (الشعراء: الآية 196) فإنه لما لم يكن فيها بلغة العرب كذلك لم يكن بالفارسية م: (والمعنى لا يختلف باختلاف اللغات) ش: ولأن الاعتماد على المعنى عند النقل م: (والخلاف في الاعتداد) ش: أي أن الخلاف المذكور في أن القرآن بالفارسية هل يعتد عن القراءة بالعربية أم لا؟ فعند أبي حنيفة على قوله الأول يعتد عنها، وعندهما لا م: (ولا خلاف بينهم أنه لا فساد) ش: للصلاة. قال الأترازي: ولي فيه نظر لأن القراءة بالفارسي ليست بقراءة القرآن عندهما، فإذا لم يكن قراءة القرآن كانت من كلام الناس وهو مفسد للصلاة.
قلت: هذا نظر غير صحيح؛ لأن كون القراءة بالفارسية غير قراءة القرآن، ليس على إطلاقه، ولهذا يجوز عند العجز عندهما أيضا، فلم يكن من كلام الناس من كل وجه.
م: (ويروى رجوعه) ش: أي رجوع أبي حنيفة م: (في أصل المسألة) ش: يعني القراءة بالفارسية م: (إلى قولهما) ش: أي إلى قول أبي يوسف ومحمد، رواه أبو بكر الرازي وغيره م: (وعليه الاعتماد) ش: أي على القول بالرجوع الاعتماد، ولتنزيله منزلة الإجماع، فإن القرآن اسم للنظم والمعنى جميعا بالإجماع.
م: (والخطبة) ش: يوم الجمعة م: (والتشهد) ش: أي قراءة التحيات في القعدات م: (على هذا(2/179)
الاختلاف، وفي الأذان يعتبر التعارف. ولو افتتح الصلاة باللهم اغفر لي لم يجز؛ لأنه مشوب بحاجته، فلم يكن تعظيما خالصا، ولو افتتح بقوله: "اللهم" فقد قيل: يجزئه؛ لأن معناه يا ألله، وقيل: لا يجزئه لأنه معناه يا ألله آمنا بخير، فكان سؤالا. قال: ويعتمد بيده اليمنى على اليسرى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاختلاف) ش: يعني يجوز عند أبي حنيفة خلافا لهما م: (وفي الأذان يعتبر التعارف) ش: يعني عرف الناس، فإن كان عربيا فهو المعتبر، وإن كان بلسان آخر فذاك المعتبر لأن المقصود من الأذان الإعلام، وهو يحصل بما هو المتعارف، وقال الأكمل: قوله: وفي الأذان المعتبر المتعارف، قيل: جواب عما يقال: قراءة القرآن في الصلاة لكونها ركنا أعظم خطرا من الأذان لكونه سنة، والأذان لا يجوز بغير العربية، فكيف جازت قراءة القرآن؟ ووجهه أنا لا نسلم عدم جواز الأذان مطلقا، بل يعتبر فيه المتعارف، فإن الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى عن أبي حنيفة: لو أذن بالفارسية والناس يعلمون أنه أذان جاز، وإن كانوا لا يعلمون لا يجوز لعدم حصول المقصود، وهو الإعلام.
قلت: نقله من كلام صاحب الدراية.
م: (قال) ش: أي المصنف، أو قال محمد في " الجامع " والقدوري لم يذكر هذه المسألة وليس في بعض النسخ: قال م: (ولو افتتح الصلاة باللهم اغفر لي لم يجز) ش: افتتاحه م: (لأنه) ش: أي لأن افتتاحه بهذا م: (مشوب) ش: أي مختلط م: (بحاجته فلم يكن تعظيما خالصا) ش: والاعتبار للتعظيم الخالص م: (ولو قال: اللهم) ش: يعني افتتح بقوله: اللهم م: (فقد قيل: يجزئه) ش: وهو قول أهل البصرة م: (لأن معناه يا ألله) ش: فيتمحض ذكرا م: (وقيل: لا يجزئه) ش: وهو قول أهل الكوفة م: (لأن معناه يا ألله آمنا بخير) ش: أي اقصدنا بالخير م: (فكان سؤالا) ش: فلم يكن تعظيما، وقد حققناه فيما مضى عن قريب.
[وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ويعتمد بيده اليمنى على اليسرى) ش: الاعتماد: الاتكاء، قال الجوهري: اعتمدت على الشيء: اتكأت، وتفسير اعتماد هناك: وضع وسط كفه اليمنى على ظهر كفه اليسرى، وقال الأترازي: وما قيل يعتمد يعني يقصد والباء زائدة عند الأترازي، وما قيل يعتمد بمعنى يقصد وضع يده اليمنى، ففيه نظر.
قلت: قائله السغناقي، وفي هذا النظر ضعف لأن السغناقي نقل عن الديوان، يعني اعتمد قصد، وقصد يتعدى بدون الباء، فإذن تكون الباء زائدة، وزاغ النظر عن محله، ثم إن لوضع اليد أربعة أوجه: أصل الوضع، وصفته، ومكانه، ووقته.
أما الأول: فعندنا يضع، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وعامة أهل العلم، وهو قول علي وأبي هريرة والنخعي والثوري، وحكاه ابن المنذر عن مالك، وأشار المصنف إلى هذا بقوله: ويعتمد يده اليمنى على اليسرى، وعند مالك في المشهور: يرسل يديه، وهو قول ابن الزبير والحسن وابن سيرين، وعليه عمل أهل المغرب، وقال الأوزاعي: يخير بين الوضع والإرسال،(2/180)
تحت السرة، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن من السنة وضع اليمين على الشمال تحت السرة»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الليث بن سعد بن سلمة: فإن طال على ذلك وضع اليمنى على اليسرى للاستراح.
وأما الثاني: وهو صفة الوضع، وهي أن المصلي يضع بطن كفه اليمنى على رسغه اليسرى، يكون الرسغ وسط الكف، وقال الوبري: لم يذكر في ظاهر الرواية الوضع، قيل: يضع كفه اليمنى على كفه اليسرى، وقيل: ذراعه الأيسر، والأصح وضعها على المفصل، وقال الأسبيجابي: عن أبي يوسف يضع يده اليمنى على رسغ يده اليسرى، وقال محمد: يضعها كذلك ويكون الرسغ وسط الكف، وقال أبو جعفر الهندواني: قول أبي يوسف أحب إلي لأن فيه وضعا وزيادة، وفي " المفيد ": ويأخذ بالخنصر والإبهام وهو المختار لأنه يلزم من الأخذ الوضع، وفي " الدراية " يأخذ كوعه الأيسر بكفه الأيمن، وبه قال الشافعي وأحمد وداود، وقال أبو يوسف ومحمد: يضع باطن أصابعه على الرسغ طولا ولا يقبض، واستحسن كثير من مشايخنا الجمع بينهما بأن يضع باطن كفه اليمنى على اليسرى ويحلق بالخنصر والإبهام على الرسغ.
وأما الثالث: فكأنه أشار إليه بقوله: ويضعهما؛ أي يضع يديه م: (تحت السرة) ش: وعند الشافعي على الصدر، ذكره في " الحاوي "، وفي " الوسيط " تحت صدره، وفي رواية ابن الماجشون عن مالك: يضع اليمنى على المعصم والكوع من اليسرى تحت صدره، وهو مخير في رواية أشهب م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن من السنة وضع اليمين على الشمال تحت السرة) ش: هذا قول علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإسناده إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير صحيح.
وإنما رواه أحمد في " مسنده " والدارقطني ثم البيهقي من جهته في " سننيهما " وعزاه عند إسحاق في أحكامه لأبي داود وليس بموجود في أحد نسخ أبي داود، فلذلك لم يعزه ابن عساكر في " الأطراف " إليه ولا ذكره المنذر في " مختصره " وإنما يوجد في النسخة التي هي من رواية ابن داسة، ومن حديث عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي عن زيادة بن زيد السوائي عن أبي جحيفة عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «السنة وضع الكف على الكف تحت السرة» ، وقال أحمد وأبو حاتم: عبد الرحمن بن الحارث أبو شيبة الواسطي، منكر الحديث. وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال البخاري: فيه نظر، وزيادة بن زيد لا يعرف، وقال النووي في الخلاصة في " شرح مسلم ": هو حديث ضعيف متفق على ضعفه، وقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أي من السنة هذا اللفظ يدخل في المرفوع عندهم، وقال ابن عبد البر في " التقصي ": واعلم أن الصحابي إذا أطلق اسم السنة فالمراد به سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذا إذا أطلقها غيره ما لم تضف إلى صاحبها كقولهم: سنة العمرين، وما أشبه ذلك.(2/181)
وهو حجة على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الإرسال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهو) ش: أي حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (حجة على مالك في الإرسال) ش: أي في إرسال اليدين، وحجة على الشافعي في الوضع على الصدر، أي في وضع اليدين على الصدر.
فإن قلت: كيف يكون الحديث حجة على الشافعي وهو حديث ضعيف لا يقاوم الحديث الصحيح والآثار التي احتج بها مالك والشافعي، هو حديث وائل بن حجر أخرجه ابن خزيمة في " صحيحه " قال: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره» ".
وفي " الإمام ": روى سليمان بن موسى عن طاوس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضع يده اليمنى على صدره في الصلاة» .
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضع يده على السرة» ومنها قَوْله تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] (الكوثر: الآية 2) أي ضع يدك على صدرك، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قرأ هذه الآية ووضع يده اليمنى على اليسرى على صدره، وأخرج الطبراني من حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان إذا كان في صلاته رفع يديه قبال أذنيه، فإذا كبر أرسلهما ثم سكت، وربما أنه يضع يمينه على شماله» .
قلت: أما نفس الوضع فإنه ثبت من طرق كثيرة وكونه حجة على مالك، والحديث الذي تعلق به الذي أخرجه الطبراني عن الحصب بن جحد وكذبه شعبة ويحيى القطان، وأما كون الشافعي محجوجا بها فظاهر، لأن تعلقه بحديث وائل تعارضه الأحاديث الأخر، وحديث طاوس مرسل وهو لا يرى الاستدلال به، على أن حديث سليمان بن موسى يتكلم فيه، وحديث أبي هريرة غير ظاهر في كونه نصا في هذا الباب، واستدلاله بالآية غير ظاهر لأن المراد من قوله: (وانحر) الأضحية بعد صلاة العيد، والذي رواه عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يعارضه حديث الكتاب، وروى البيهقي من حديث عمر بن ميمونة [بن] مالك البكري عن أبي الجوزاء عن عبد الله بن عباس: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] (الكوثر: الآية 2) وضع اليمنى على الشمال في الصلاة. وقال الترمذي بعد أن أخرج حديث قبيصة بن هلب عن أبيه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤمنا فيأخذ شماله بيمنه» : حديث هلب حسن، والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين ومن بعدهم، يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة، ورأى(2/182)
وعلى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الوضع على الصدر، لأن الوضع تحت السرة أقرب إلى التعظيم، وهو المقصود،
ثم الاعتماد سنة القيام عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى حتى لا يرسل حالة الثناء. والأصل أن كل قيام فيه ذكر مسنون يعتمد فيه وما لا فلا، وهو الصحيح، فيعتمد في حالة القنوت، وصلاة الجنازة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعضهم أن يضعهما فوق السرة، ورأى بعضهم أن يضعهما تحت السرة، وكل ذلك واسع عندهم، وهلب بضم الهاء واسمه يزيد بن قتادة، قاله الأترازي.
قلت: يزيد بن قتادة، ويقال: زيد وقنافة، بضم القاف بعدها النون وبعد الألف فاء، ويقال قتادة.
فإن قلت: الوضع على الصدر أبلغ في الخشوع، وفيه حفظ نور الإيمان في الصلاة فكان أولى من إشارته إلى العورة بالوضع تحت السرة، وقال الماوردي في " الحاوي ": وضع اليدين على الصدر أبلغ في الخضوع والخشوع من وضعهما على العورة.
قلت: الوضع تحت السرة أقرب إلى التعظيم وأبعد من التشبيه بأهل الكتاب وأقرب إلى سترة العورة وحفظ الإزار عن السقوط، وما قاله الماوردي ممنوع، ووضعهما على العورة لا يضر فوق الثياب، وكذا لو كان بغير حائل لأن العورة ليس لها حكم العورة في حق نفسه، ولهذا تضع المرأة يديها على صدرها، وإن كان عورة، وما قلنا أقرب إلى التعظيم كما يفعل بين يدي الملوك، وفي وضعهما على الصدر تشبه بالنساء قد يسن.
وأشار المصنف إلى ذلك بقوله: م: (لأن الوضع) ش: أي وضع اليدين م: (تحت السرة أقرب إلى التعظيم وهو المقصود) ش: أي التعظيم من وضع اليدين، وهو المقصود في هذا الباب.
م: (ثم الاعتماد) ش: هذه إشارة إلى بيان القسم الرابع وهو وقت وضع اليدين، وقد ذكرنا أن لوضع اليدين أربعة أوجه: نفس الوضع، وصفته، ومكانه، وقد ذكرناه، والرابع وقت الوضع، وأشار المصنف إلى ذلك بقوله: ثم الاعتماد؛ أي اعتماد يده اليمنى على اليسرى م: (سنة القيام عند أبي حنيفة وأبي يوسف، حتى لا يرسل حالة الثناء) ش: أي حالة قراءة سبحانك اللهم، وعن محمد: أنه سنة القراءة فإذا أخذ في القراءة اعتمد.
م: (والأصل) ش: في هذا الباب م: (أن كل قيام فيه ذكر مسنون يعتمد فيه وما لا فلا) ش: أي وما لا يكون فيه ذكر مسنون لا يعتمد فيه م: (وهو الصحيح) ش: احترز به عن قول أصحاب الفضلي كأبي علي النسفي والإمام أبي عبد الله الخيري وغيرهما، حيث قالوا: إنه يعتمد في كل قيام، سواء كان فيه ذكر مسنون أو لا؛ تحقيقا لخلاف الروافض لعنهم الله فإن مذهبهم إرسال اليد من أول الصلاة، فنحن نخالفهم من أول الصلاة م: (فيعتمد في حالة القنوت وصلاة الجنازة) ش: هذا بحسب الأصل المذكور، فلذلك ذكره بالفاء؛ أي فيضع يديه ولا يرسلهما في حالة قراءة القنوت(2/183)
ويرسل في القومة وبين تكبيرات الأعياد.
ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، إلى آخره. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يضم إليه قوله: "وجهت وجهي" إلى آخره؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأنه ذكر مسنون، وكذلك في صلاة الجنازة.
م: (ويرسل في القومة) ش: أي في القومة من الركوع لأنه ليس فيه ذكر مسنون م: (وبين تكبيرات الأعياد) ش: أي يرسل أيضا بين تكبيرات العيدين، وأراد به التكبيرات الزوائد التي لا ذكر فيها بينها ولا قراءة، فلا يضع يديه بينهم باتفاق بين علمائنا الثلاثة، وفي " الذخيرة ": يرسل في القومة عنده لعمل محمد، وعليه الاعتماد، وقيل: يعتمد، وبه قال أبو علي النسفي، والحاكم عبد الرحمن الكاتب وإسماعيل الزاهد، أصحاب محمد بن أسفل، وقيل: معنى الإرسال أن لا يضع يمينه على يساره في القنوت والقومة وصلاة الجنازة، وقيل: أن يبطلهما حالة الداء، وعند بعضهم هو سنة القيام مطلقا، وقال أبو القاسم الصفار: يرسل إلى أن يشرع في الثناء والتسبيح، واختار الطحاوي أنه يضع يمينه على شماله لما يفرغ من التكبير، وفي صلاة الجنازة وعند القنوت عن أبي حنيفة، وعن أبي يوسف ومحمد أن يضعهما، وهو اختيار مشايخ سمرقند.
وذكر الكرخي: وعن أصحابنا أنه يرسلهما، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة، وفي " الجامع الأصغر ": عن أبي سليمة إذا رفع رأسه من الركوع يطمئن قائما ويضع يده اليمنى على اليسرى حتى ينحط للسجود، وقيل: إذا طال القيام يعتمد؛ مخالفة للشيعة.
[دعاء الاستفتاح]
م: (ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره) ش: أي ثم يقول المصلي بعد الشروع بالتكبير: سبحانك اللهم، وبه قال أكثر العلماء، منهم: أبو بكر الصديق وعمر وابن مسعود والنخعي وأحمد وإسحاق، قال الترمذي: وعليه العمل عند أهل العلم من التابعين وغيرهم، وقال محمد في كتاب الحج على أهل المدينة سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وجل ثناؤك ولا إله غيرك.
م: (وعن أبي يوسف أنه يضم إليه) ش: أي أن المصلي يضم إلى قوله: سبحانك اللهم، إلى آخره، قوله: م: (وجهت وجهي إلى آخره) ش: وتمامه: «وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق إنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها إنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يدك والشر ليس إليك، وأنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك» . رواه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه، ولكن عند أبي يوسف يقول: وجهت، إلى قوله: " وأنا أول المسلمين "، ولم يصرح المصنف أن المصلي يقول: وجهت، بعد الثناء أو قبل الثناء بعد الكبير.
وقال في " المختلف ": والحصر يقول المصلي بعد الثناء قبل القراءة، وقال في " شرح(2/184)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الطحاوي ": إن شاء قدم ذلك على التسبيح أو أخر، وكذا في شرح الأقطع حيث قال: قال أبو يوسف: يجمع بين هذا وبين هذا وبين قوله: وجهت، يقدم أيهما شاء، وفي " الدراية ": وجعل البداية سبحانك اللهم أولى، وفي رواية: مخير، وفي رواية: يبدأ بأيهما شاء.
قوله: سبحانك، منصوب على المصدرية، سبحان: علم للتسبيح لا ينصرف، ومعناه نسبحك بجميع آلائك ونحمدك سبحانك، والأصل: أسبح سبحان الله، إلا أنه ترك فعله وجعل علما للتسبيح فلم ينون ولم يرفع كغيره من المصادر، والتسبيح تنزيه من صفات النقص.
فإن قلت: لو كان سبحان علما ما أضيف إذ العلم لا يضاف إلى إذا كان مؤولا بواحد.
قلت: إنما يكون علما إذا لم يكن مضافا، أما إذا أضيف فلا، واستعماله مفرد غير مضاف قليل، قوله: وبحمدك سبحت. وعن أبي حنيفة: إذا قال: سبحانك اللهم بحمدك، بحذف الواو فقد أصاب، كذا في " فتاوى الظهيرية ".
قوله: تبارك اسمك. أي تعاظم عن أسماء المخلوقين وصفاتهم، والبركة: الخير الكثير الدائم، قيل: هي مشتقة من برك الماء في الحوض: إذا دام وكثر، ومن بروك الإبل وهو الثبوت والاستمرار، كأنه قال: دام خيرك وكثر وتزايد، قوله: وتعالى جدك؛ أي علا جلالك وعظمتك وعز ملكك وسلطانك، وقيل: غناك. قوله: وجهت وجهي، الموجه إليه محذوف. وقوله: للذي، حال من الياء، وكذا حنيفا، كأنه قيل: أقبلت خاشعا أو منقادا. قوله: فطر؛ أي خلق، والفطر: اتخاذ الشيء واختراعه.
قوله: حنيفا؛ الحنيف: المائل، والمراد: المائل إلى الحق، وقال أبو عبيد: الحنيف من كان على دين إبراهيم. قوله: ونسكي، بضم النون والسين: الطاعة والعبادة وكل ما تقرب به إلى لله تعالى، والنسك بسكون السين ما أمرت به الشريعة. والناسك: العابد، وقد نسك ينسك نسكا مثل نصر ينصر نصرا: إذا دفع، والنسك الذبيحة.
والمحيا والممات مصدران. قوله: وأنا من المسلمين، إنما يقول كذلك لئلا يلزم الكذب، ومن قال: أنا أول المسلمين، قيل: تفسد صلاته للكذب، وقيل: لا تفسد لإرادة ما في القرآن. قوله: لبيك، من التلبية، وهي إجابة المنادي؛ أي إجابتي لك يا رب، وهو مأخوذ من لب بالمكان وألب على كذا: إذا لم يفارقه، ولم يستعمل إلا على لفظ التثنية في معنى التكرير أي إجابة بعد إجابة، وهو منصوب على المصدرية بعامل لا يظهر، كأنك قلت: إلبابا بعد إلباب، والتلبية من لبيك كالتهليل من لا إله إلا الله.
قوله: سعديك؛ أي ساعدت طاعتك. ساعدت بعد، مساعدة وإسعادا بعد إسعاد، وهو(2/185)
لرواية علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقول ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من المصادر المنصوبة بفعل لا يظهر في الاستعمال، قال المزني: لم يسمع سعديك منفردا.
قوله: والشر ليس إليك قال النووي: فيه خمسة أقوال للعلماء:
أحدها: لا يتقرب به إليك، قاله الخليل والنضر بن شميل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن معين والأزهري.
الثاني: لا يضاف إليك على انفراده، فلا يقال يا خالق القردة والخنازير ورب الشر، وإن كان يقال: يا خالق كل شيء، وهو مروي عن المزني وغيره. قلت: هذا قول أصحابنا.
الثالث: الشر لا يصعد إليك، وإنما يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح.
الرابع: الشر ليس شرا بالنسبة إليك، فإنك أوجدته بحكمة بالغة، وإنما هو شر بالنسبة إلى المخلوقين والخائفين، حكاه الخطابي، إن قولك: فلان بني فلان، إذا كان عداده فيهم.
قوله: وأنا بك، مبتدأ في محل الرفع على الخبرية. قوله: وإليك، عطف على قوله: بك، أي وأنا إليك. والمعنى: وأنا ملتجئ إليك ومتوجه إليك ونحو ذلك.
م: (لرواية علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: هذا غريب من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأنه مع هذا لا يدل على الجمع بين سبحانك اللهم وبين وجهت، وإنما يدل على وجهت وحده لأن معنى قوله: م: (كان يقول ذلك) ش: أي كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: وجهت، ولا يلزم من ذلك قوله: سبحانك، معه، وكان ينبغي أن يستدل المصنف لأبي يوسف فيما ذهب إليه من الجمع بينهما بحديث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرجه الطبراني في " معجمه " عن محمد بن السكن عنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا افتتح الصلاة قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين، سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين» وفي إسناده عبد الله بن عامر، ضعفه جماعة كثيرة. وعن ابن معين: ليس بشيء، وروى البيهقي من حديث جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، وجهت وجهي» اه. وروى إسحاق بن راهويه في كتابه " الجامع " عن علي بن أبي طالب رضي الله(2/186)
ولهما رواية أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "كان إذا افتتح الصلاة كبر وقرأ سبحانك اللهم وبحمدك» إلى آخره" ولا يزيد على هذا، وما رواه محمول على التهجد، وقوله: "وجل ثناؤك" لم يذكر في المشاهير فلا يأتي به في الفرائض،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يجمع في أول صلاته بين سبحانك اللهم وبحمدك، وبين وجهت وجهي» إلى آخرها. قال إسحاق: والجمع بينهما أحب إلي، انتهى. وقال أبو حاتم: هذا حديث باطل موضوع لا أصل له لأنه من رواية خالد بن القاسم المدائني، وأحاديثه معتلة.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد م: (رواية أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا افتتح الصلاة كبر وقرأ سبحانك اللهم وبحمدك» إلى آخره) ش: هذا الحديث رواه الدارقطني من حديث حميد عن أنس: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا افتتح الصلاة كبر ثم رفع يديه حتى يحاذي بإبهامه أذنيه ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك» إلخ، وأخرج من طريق آخر عن عابد بن شريح عن أنس بن مالك «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم يقول: سبحانك اللهم» إلخ. نحوه م: (ولا يزيد على هذا) ش: أي ولا يزيد المصلي على سبحانك اللهم إلخ.
م: (وما رواه) ش: أي وما رواه أبو يوسف م: (محمول على التهجد) ش: وهو الاستقبال بالنوافل بالليل، وفي النوافل سعة، وأصل التهجد: السهر، وما ذهب إليه أبو حنيفة ومحمد مروي عن أنس وعمر وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وجابر وبريدة وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قالوا: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا افتتح الصلاة كبر قال: سبحانك اللهم» .
فإن قلت: أخرج البخاري ومسلم عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر وعثمان يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين» .
قلت: هذا محمول على افتتاح القراءة، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: معناه أنهم كانوا لا يقرأون م: (وجل ثناؤك لم يذكر في المشاهير) ش: أي لفظ جل ثناؤك، فيما روي سبحانك اللهم اه. لم يذكر في الأخبار المشهورة، وفي " شرح الطحاوي ": وليس عن المتقدمين قول في جل ثناؤك، ولو قال لا بأس به.
م: (فلا يأتي به في الفرائض) ش: نتيجة لما قبله، أي فلا يأتي بلفظ وجل ثناؤك في الفرائض(2/187)
والأولى أن لا يأتي بالتوجه قبل التكبير لتتصل النية به، هو الصحيح.
ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] معناه: إذا أردت قراءة القرآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
احترازا عن الزيادة فيها ما ليس منها م: (والأولى أن لا يأتي بالتوجه) ش: أي الأولى للمصلي أن لا يقول: وجهت وجهي. اه.
م: (قبل التكبير لتتصل النية به) ش: أي بالتكبير م: (هو الصحيح) ش: احترز به عن قول بعض المشايخ المتأخرين، فإنهم قالوا: يأتي به قبل التكبير، فيكون أجمع للعزيمة، وهو اختيار الفقيه أبي الليث، فقالوا أيضا: إنه يؤدي إلى أن يطول مكثه في المحراب قائما يستقبل القبلة ولا يصلي، وهذا مذموم شرعا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما لي أراكم سامدين» أي متحيرين، كذا في " المبسوط " وفي " النظم ": لا يقرأ: وجهت إلخ، في الفرائض عندهما، لا قبله ولا بعده ولا بعد الثناء، هو قول أبي يوسف في الأصل، وعنه أنه يقرأ بعد الثناء قبل التعوذ، واتفقوا أنه يقرأ في النفل إجماعا، واختار المتأخرون أنه يقوله قبل الافتتاح.
[حكم الاستعاذة في الصلاة]
م: (ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم) ش: أي بعد قراءة سبحانك اللهم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، خلافا لمالك فإن عنده لا يقول، واستدل بحديث أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المذكور عن قريب، وعنه أنه يتعوذ في قيام رمضان إذا قرأ.
م: (لقول تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] (النحل الآية 98) معناه: إذا أردت قراءة الْقُرْآن) ش: ظاهر الأمر يقتضي أن يكون التعوذ فرضا كما قال به عطاء، إلا أن السلف أجمعوا على أنه سنة مؤكدة، وإنما قال: معناه: إذا أردت القراءة؛ نفيا لقول بعض أصحاب الظواهر أنه يتعوذ بعد القراءة عملا بحرف الفاء؛ فإنه ليس بصحيح لما روى أبو سيعد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقول قبل القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ، كذا ذكر الأترازي لفظ الحديث. قلت: الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام من الليل كبر ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، ثم يقول: لا إله إلا الله، ثلاثا، ثم يقول: الله أكبر كبيرا، ثلاثا، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه، ثم يقرأ» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، قال الترمذي: حديث أبي سعيد أشهر حديث في الباب وقد تكلم في إسناده، وقال أحمد: لا يصح هذا الحديث.
وقال ابن خزيمة: لا نعلم في الافتتاح بسبحانك اللهم خبرا ثابتا عند أهل المعرفة بالحديث،(2/188)
والأولى أن يقول: أستعيذ بالله، ليوافق القرآن،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأحسن أسانيده حديث أبي سعيد، ثم قال: لا نعلم أحدا ولا سمعنا به استعمل هذا الحديث على وجهه، وروى أحمد نحوه وفيه: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» . وفي إسناده من لم يسم، وروى ابن ماجه وابن خزيمة من حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه» .
رواه الحاكم بلفظ: «كان إذا دخل في الصلاة» وعن أنس نحوه، ورواه الدارقطني وفيه الحسين بن علي بن الأسود، وفيه اتصال. وروي عن جبير بن مطعم «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ قبل القراءة» رواه أحمد.
ومعنى أعوذ بالله: أتوجه وأعتصم به وألجأ إليه، والشيطان اسم لكل متمرد عات لشطوته على الخير؛ أي تباعده، وقيل: لتشيطه؛ أي هلاكه واحتراقه. فعلى الأول النون أصلية والياء والألف زائدة، وعلى الثاني الياء أصلية والنون والألف زائدتان، يمنع الصرف، والرجيم المطرود، وقيل المرجوم بالشهب. قوله: " من همزه " بدل اشتمال من الشيطان وهو جمع همزة وهي ما يوسوس به، قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] (المؤمنون: الآية 97) ، وهمزاته خطراته التي يخطرها بقلب الإنسان. وقرأ أبو داود بالمغربة فقال: وهمزه: الموتة بضم الميم وسكون الواو وفتح التاء المثناة من فوق، وهي الجنون. قوله: ونفخه، بالخاء المعجمة: الكبر، كأن قوله للإنسان من الاستكبار والخيلاء فيتعاظم في نفسه كالذي نفخ فيه.
قوله: ونفثه، قال أبو داود: ونفثه الشعر، وإنما سمي به لأنه كالشيء ينفثه للإنسان من فيه كالرقية، قيل: أراد به السحر، وهو الأشبه لما في التنزيل، قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] (الفلق: الآية 4) .
م: (والأولى: أن يقول: أستعيذ بالله، ليوافق القرآن) ش: لأن المذكور في القرآن: فاستعذ، وهو أمر من الاستعاذة، فإذا قال: أستعيذ، يحصل الموافقة للقرآن، واختلف القراء في صفة الاستعاذة، واختار أبو عمرو وعاصم وابن كثير: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وبه أخذ أصحابنا والشافعي وأكثر أهل العلم، نص الشافعي أنه الأفضل، وزاد حفص من طريق هبيرة: أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، وهو قول أحمد لكن زاد في آخره أنه هو السميع العليم. واختار نافع وابن عامر والكسائي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم، وهو قول(2/189)
ويقرب منه: أعوذ بالله، ثم التعوذ تبع للقراءة دون الثناء عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لما تلونا، حتى يأتي به المسبوق دون المقتدي، ويؤخر عن تكبيرات العيد خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -
قال: ويقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هكذا نقل في المشاهير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سفيان الثوري، واختار حمزة: أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وهو قول ابن سيرين، وبكل ذلك ورد الأثر، وفي " المجتبى " وبقول حمزة نفتي، ولكن ورد في أكثر الأخبار والآثار: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلذلك قال المصنف:
م: (ويقرب منه: أعوذ بالله) ش: أي يقرب من أستعيذ، أعوذ بالله لأن المزيد قريب من الثلاثي، ومعنى كل منهما طلب الإعاذة منهما، قاله بعض الشراح.
قلت: معنى الطيب في أستعيذ ظاهر بخلاف أعوذ.
م: (ثم التعوذ تبع للقراءة دون الثناء عند أبي حنيفة ومحمد لما تلونا) ش: أي وهو قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] جعل الاستعاذة جزاء لقراءة القرآن فيكون تابعا للقراءة لا للثناء. وعند أبي يوسف تبع للثناء لأنها شرعت بعد الثناء م: (حتى يأتي به المسبوق دون المقتدي) ش: ثمرة ما قبله في قوله تبع للقراءة، فالمسبوق عليه القراءة فيأتي به. وعند أبي يوسف يأتي به المقتدي لأنه يسبح.
م: (ويؤخر عن تكبيرات العيد خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) ش: أي يؤخر الاستعاذة عن تكبيرات الزوائد فيأتي بها بعد التكبيرات عندهما، وعند أبي يوسف يؤتي بها عقيب الثناء بعد تكبيرة الافتتاح.
وقال صاحب " الخلاصة ": الأصح قول أبي يوسف، وهذا الخلاف كما رأيت بين أبي حنيفة ومحمد وبين أبي يوسف كما ذكره المصنف، وفي بعض نسخ الفقه وفي عامة النسخ " كالمبسوط " و " المنظومة " وشروحها بين أبي يوسف ومحمد، ولم يذكر قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، والتعوذ في الركعة الأولي لا غير، إلا عند ابن سيرين والشافعي على المذهب، ذكره النووي. ولا يجهر بالثناء والتعوذ اتفاقا، وعند أبي ليلى يخير، وقال أبو هريرة: يجهر وخارج الصلاة يجهر اتفاقا. وعند أحمد: المسبوق لا يستفتح ولا يتعوذ مع الإمام، فإذا قام ليقضي استفتح واستعاذ لأن ما يقضيه أول صلاته وما أدرك آخرها.
[البسملة في الصلاة]
م قال: (ويقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ش: أي بعد التعوذ يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ م: (وهكذا نقل في المشاهير) ش: أي في الأخبار المشهور، منها ما روى نعيم بن المجمر: «والذي نفسي(2/190)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بيده لأنا أشبهكم صلاة برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - ".
رواه ابن خزيمة وابن حبان في " صحيحيهما " والحاكم في " المستدرك " وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
ومنها: ما رواه ابن عباس قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم» ، أخرجه الترمذي وقال: ليس إسناده بذاك، فكأنه قال هكذا لأجل أبي خالد الوالبي الكوفي، وهو من رواته. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات" واسم أبي خالد هرمز ويقال هرم، ومنها ما رواه علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في صلاته» وأخرجه الدارقطني فقال: "إسناده علوي لا بأس به، ومنها ما روته أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في الفاتحة في الصلاة» .
وأخرجه ابن خزيمة في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه ".
ومنها ما رواه عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «كان إذا افتتح الصلاة يبتدئ ببسم الله الرحمن الرحيم» . أخرجه الدارقطني في "سننه ".
ومنها: ما روي عن بريدة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا أخرج من المسجد حتى أخبرك بآية، أو بسورة لم تنزل على نبي بعد سليمان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيري، فمشى وتبعته حتى انتهى إلى باب المسجد، فأخرج رجله وبقيت الأخرى فقلت: أنسي؟ فأقبل علي بوجهه فقال: بأي شيء تفتتح القرآن إذا افتتحت الصلاة؟ قلت: ببسم الله الرحمن الرحيم. قال: هي هي ثم خرج» وفي إسناده صالح وعبد الكريم، قال أحمد ويحيى: ليسا بشيء، وفيه يزيد أبو خالد، قال النسائي:(2/191)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
متروك الحديث.
اعلم أن الكلام في التسمية على وجوه، الأول في كونها من القرآن أم لا؟ والثاني أنها من الفاتحة أم لا؟ والثالث أنها من أول كل سورة أم لا؟ والرابع: يجهر بها أم لا؟.
أما الأول: فالصحيح من مذهب أصحابنا أنها من القرآن لأن الأمة اجتمعت على أن ما كان مكتوبا بين الدفتين بقلم الوتر، فهو من القرآن والتسمية كذلك. وكذلك روى المعلى عن محمد فقال: قلت لمحمد: التسمية آية من القرآن؟ فقال: ما بين الدفتين كله من القرآن، وكذا روى الجصاص عن محمد أنه قال: التسمية من القرآن، أنزلت للفصل بين السور والبداية منها تبركا، وليست بآية من كل واحدة منها، ويبنى على هذا أن فرض القراءة يتأدى بها عند أبي حنيفة إذا قرأها على قصد القراءة دون الثناء لأنها آية من القرآن.
وقال بعض أصحابنا: لا يتأدى لأن في كونها آية تامة احتمال، فإنه روي عن الأوزاعي أنه قال: ما أنزل الله تعالى في القرآن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلا في سورة النمل وحدها، وليست بآية تامة، في قوله: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] (النمل: الآية 30) ، فوقع الشك في كونها آية تامة، فلا يجوز بالشك، ولذا يحرم على الجنب والحائض والنفساء قراءتها على قصد القرآن. أما على قول الكرخي فظاهر لأن ما دون الآية محرم عليهم، وكذا على رواية الطحاوي؛ لاحتمال كونها آية تامة، فيحرم عليهم قراءتها احتياطا.
الثاني: أنها من الفاتحة أم لا؟ قال الشيخ أبو بكر الرازي: عن أصحابنا رواية منصوصة أنها من الفاتحة أو ليست منها. وذكر السرخسي في " أصول الفقه " عن الرازي أن الصحيح من المذهب عندنا: آية منزلة للفصل لا من أول السورة ولا من آخرها. وقال الشافعي: إنها من الفاتحة قولا واحدا، وبه قال أبو ثور. وقال أحمد في رواية: إنها من الفاتحة دون غيرها تجب قراءتها حيث تجب قراءة الفاتحة، وفي رواية وهي الأصح، أنه لا فرق بين الفاتحة وغيرها في ذلك، وإن قرأ بها في أول القراءة كقراءتها في أول السورة وللفصل بين السور وليست من القرآن إلا في النمل، فإنها بعض آية منها.
1 -
الثالث: أنها ليست من أول كل سورة عندنا. وقال الشافعي وأصحابنا: هي من أول كل سورة على الصحيح من المذهب عندهم، وبه قال عطاء والزهري وعبد الله بن المبارك، وهو مذهب ابن كثير وعاصم والكسائي من القراء، ووافقهم حمزة على أنها من الفاتحة خاصة، وبه قال الشافعي في قول في " المجتبى ". قال الأسبيجابي: أكثر مشايخنا على أنها من الفاتحة، ومذهب باقي القراء كمذهب مالك لكن يلزم قراءتها قالون ومن تابعه.(2/192)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واحتج الشافعي ومن تابعه بحديث أبي الجوزاء عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ الفاتحة فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وعدها آية منها» .
واحتج أصحابه بما رواه الشافعي عن مسلم عن ابن جريح عن عبد الله بن أبي مليكة عن أم سلمة أم المؤمنين قالت: «قرأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاتحة الكتاب فعد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية والحمد لله رب العلمين آية، الرحمن الرحيم آية، إياك نعبد وإياك نستعين آية، اهدنا الصراط المستقيم آية، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين» ذكره فخر الدين الرازي في " تفسيره الكبير ". واحتجوا أيضا بما رواه الشعبي في تفسيره عن أبيه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا أخبرك بحديث. وقد ذكرناه عن قريب.
والجواب عن هذه الأحاديث، أما حديث عائشة فالصحيح ما رواه مسلم عن بديل بن مسلمة عن أبي الجوزاء عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين» وهذا ظاهر في كون التسمية من الفاتحة.
فإن قلت: تأويله على إرادة اسم السورة.
قلت: لا يعدل عن حقيقة اللفظ وظاهره إلا بدليل.
فإن قلت: أبو الجوزاء لا يعرف له سماع عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ولئن سلم فإنه روي عنها أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجهر بها.
قلت: يكفينا أنه حديث أودعه مسلم في "صحيحه ".
وأبو الجوزاء اسمه أوس بن عبد الله الربعي، ثقة كبير لا ينكر سماعه من عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وقد احتج به جماعة، وبديل بن ميسرة تابعي صغير مجمع على عدالته وثقته، وقد حدث عنه هذا الحديث الأئمة الكبار وتلقاه العلماء بالقبول ولم يتكلم فيه أحد منهم وما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - من الجهر فكذب بلا شك، فيه الحكم بن عبد الله بن سعد، وهو كذاب دجال لا يحل الاحتجاج به، ومن العجب القدح في الحديث الصحيح والاحتجاج بالباطل. وأما حديث أم سلمة فليس بصحيح لأنه يرويه عمر بن مروان البلخي عن ابن جريج قال يحيى: ليس بشيء.
وأما حديث أبي هريرة فقد ذكرنا ما فيه من العلل، وإنما استدللنا به فيما مضى لأنه يدل على أن التسمية من القرآن وهو المختار عند بعضهم، ولا يدل على أنها من الفاتحة.(2/193)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ونقل الخطب عدة أحاديث في ذلك من تفسير الثعلبي وليس لها صحة ولا يثبت شيء منها، والثعلبي حاطب ليل يذكر الغث والسمين.
وأما احتجاجات أصحابنا فيما ذهبوا إليه فأحاديث كثيرة، منها ما رواه مسلم في "صحيحه " من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها إلي ونصفها لعبدي، يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله: حمدني عبدي، يقول العبد: الرحمن الرحيم، يقول الله: أثنى علي عبدي، يقول العبد: مالك يوم الدين، يقول الله: مجدني عبدي، يقول العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، يقول الله: هذه بيني وبين عبدي، يقول العبد اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال الله: فهؤلاء لعبدي» .
قال ابن عبد البر: هذا حديث قد رفع الإشكال في سقوط بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من الفاتحة، وهو نص لا يحتمل التأويل، ولا أعلم حديثا في سقوط البسملة أبين منه.
قلت: وجه التمسك به أنه ابتدأ القسمة بالحمد لله رب العالمين دون البسملة، فلو كانت منها لابتدأ بها. وأيضا فقد جعل النصف {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] فيكون ثلاث آيات لله تعالى في الثناء عليه وثلاث آيات للعبد، وآية بينهما، وفي جعل التسمية منها إبطال هذه القسمة فيكون باطلا. وأيضا أنه قال: يقول العبد: اهدنا الصراط المستقيم إلى آخرها، ثم قال: هؤلاء لعبدي، هكذا ذكره أبو داود والنسائي بإسنادين صحيحين، وهو جمع، فيقتضي ثلاث آيات، وعلى قول الشافعي يكون اثنين وللباري أربع ونصف إذا لم يعدوا {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] آية، وإن عدوها آية تصير ثماني آيات، وهذا كله خلاف تصريح الحديث بالنصف. والمراد بالصلاة القراءة، ألا تراه كيف فسر القراءة وقسم الآيات، ولم الأفعال.
فإن قلت: لم لا يراد بالقسمة المعنى لا الآي؟ فيكون لله الحمد والثناء والتحميد، وللعبد الخضوع والتذلل.
قلت: هذا باطل، فإن الله تعالى منفرد بالحمد والثناء، والحمد لله الذي لا يكيف بالعبد، والعبد ينفرد بالخضوع والتذلل الذي ينزه الباري عنه، ولا يجوز أن يراد ذلك بقوله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، مثاله إذا كان ثوب لزيد وعبد لعمرو لا يجوز أن يقول: قسمت(2/194)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثوب والعبد بين زيد وعمرو إذا لم يشتركا فيهما.
فإن قلت: ما المانع أن يكون قسمة الألفاظ والحروف؟.
قلت: لا يجوز لأن القسمة لا تصح مع ذلك، فلم يبق إلا عدد الآيات، على أن قسمة المعاني داخلة في قسمة الآيات.
فإن قالوا: إنما لم يذكر البسملة لأنه أدرجها في الاثنين بعدها.
قلنا: هذا ظاهر الفساد ويدعيه مكابر.
فإن قالوا في مثل العلاء بن عبد الرحمن: وتكلم فيه ابن معين فقال: ليس حديثه بحجة، مضطرب الحديث، ليس بذاك، هو حديث، وروي عنه هذه الألفاظ كلها.
وقال ابن عدي: ليس بالقوي، وقد انفرد بهذا الحديث فلا يحتج به.
قلنا: هذا جهل وفرط وتعصب ورداءة فكر ورأي، حيث يترك الحديث الصحيح والضعيف لكونه غير موافق لمذهبهم، وكيف وقد رواه عن العلاء الأئمة الثقات الأثبات كمالك، وسفيان بن عيينة، وابن جريج، وعبد العزيز الدراوردي، وإسماعيل بن جعفر ومحمد بن إسحاق، والوليد ابن كثير، وغيرهم، والعلاء نفسه ثقة صدوق.
فإن قالوا: سلمنا ما قلتم ولكن جاء في بعض الروايات عنه ذكر التسمية، كما أخرجه الدارقطني عن عبد الله بن زياد بن سمعان عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها له يقول عبدي إذا افتتح الصلاة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فيذكرني عبدي، ثم يقول: الحمد لله رب العالمين، فأقول: حمدني عبدي» " إلى آخره، فهذه الرواية وإن كان فيها ضعف ولكنها تفسر بحديث مسلم أنه أراد السورة لا الآية.
قلنا: هذا أيضا مكابرة وفساد وفرط ونقص مع علمهم بحال ابن سمعان، فقال عمر بن عبد العزيز الواحدي: سألت مالكا عنه فقال: كان كذابا، وقال يحيى بن أبي بكر: قال هشام بن عروة: لقد كذب علي وحدث عني بأحاديث لم أحدثه بها. وعن أحمد بن حنبل: متروك الحديث. وسئل ابن معين عنه فقال: كان كذابا. وقيل لابن إسحاق: إن ابن سمعان يقول: سمعت مجاهدا فقال: لا إله إلا الله، أنا والله أكبر منه ما رأيت مجاهدا ولا سمعت منه. وقال ابن حبان: كان يروي عمن لم يره ويحدث بما لم يسمع. وقال أبو داود: متروك الحديث كان يروي عن الكذابين. وقال النسائي: متروك فكيف يعلل الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه بالحديث الضعيف؟ إذ مقتضى العلم أن يعلل الحديث الضعيف بالحديث الصحيح كما(2/195)
ويسر بهما، لقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أربع يخفيهن الإمام، وذكر منها التعوذ والتسمية وآمين وربنا لك الحمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يفعل.
ونحن نذكر من الأحاديث الصحيحة التي استدللنا بها ما رواه البخاري في "صحيحه " من حديث أبي هريرة قال: «كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم أجبه فقلت: يا رسول الله كنت أصلي فقال: "ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] ، ثم قال لي: ألا أعلمك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قلت: ما هي؟ قال: الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» . فأخبر أنها السبع المثاني، ولو كانت البسملة آية منها لكانت ثمانيا، لأنها سبع آيات بدون البسملة.
ومنها ما رواه أصحاب السنن الأربعة عن شعبة عن قتادة عن عباس الجشمي عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن سورة من القرآن شفعت لرجل حتى غفر له وهي {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] » قال الترمذي: حديث حسن، ورواه أحمد في "مسنده " وابن حبان في "صحيحه " والحاكم في "مستدركه " وصححه، وعباس وثقه ابن حبان، ولم يتكلم فيه أحد.
وجه الاستدلال به أن هذه السورة ثلاثون آية بدون البسملة بلا خلاف بين العادين، وأيضا فافتتاحه بقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] (الملك: الآية 1) دليل على أن البسملة ليست منها. وأما القسم الرابع فنذكره عن قريب إن شاء الله تعالى.
م: (ويسر بهما) ش: أي يخفي بالاستعاذة والتسمية. قال الأترازي: قال المطردي: أسر الحديث: أخفاء، وزيادة الباء سهو، وكذا قال السغناقي. قلت: يستعمل باب أفعل بالباء أيضا.
م: (لقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أربع يخفيهن الإمام، وذكر منها التعوذ، والتسمية وآمين، وربنا لك الحمد) ش: وهذا غريب، ولكن معناه رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه " ثنا هشيم عن سعيد بن المرزبان ثنا أبو وائل عن ابن مسعود أنه كان يخفي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والاستعاذة وربنا لك الحمد. وروى سعد بن الحسن في كتاب "الآثار " ثنا أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ثنا حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال: أربع يخفيهن الإمام: التعوذ، وبسم الله الرحمن الرحيم، وسبحانك اللهم وبحمدك، وآمين.
ورواه عبد الرزاق في "مصنفه " ثنا معمر عن حماد، فذكره إلا أنه قال عوض سبحانك اللهم ربنا لك الحمد، ثم قال: أنا الثوري عن منصور عن إبراهيم قال: خمس يخفيهن الإمام، فذكرها، وزاد سبحانك اللهم وبحمدك. وروى أبو معمر عن عمر بن الخطاب أنه قال: يخفي الإمام أربعا: التعوذ، وبسم الله الرحمن الرحيم، وآمين، وربنا لك الحمد.(2/196)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يجهر بالتسمية عند الجهر بالقراءة، لما «روي أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - "جهر في صلاته بالتسمية» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجهر بالتسمية عند الجهر بالقراءة) ش: وبه قال أبو ثور، قال الثوري: يجهر بالبسملة حيث يجهر بالقراءة في الفاتحة والسورة جميعا، قال: وعلى هذا أكثر علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأكابر.
أما الصحابة فرواه أبو بكر الخطيب البغدادي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعمار بن ياسر وأنس وأبي هريرة وغيرهم، حتى ذكر عبد الله بن المغفل الذي ذكر الجهر به على ابنه. وأما التابعون ومن بعدهم، فمن قال بالجهر فهم لا يمكن أن يذكروا أو أن يحصوا. قال عمر بن عبد البر في " الاتفاق ": وقد روي عن عمر وعلي وعمار الجهر بها، والطرق عنهم ليست بالقوية، قال: وكذا اختلف عن أبي هريرة وابن عباس، والأشهر عن ابن عباس الجهر بها. وقال ابن أبي ليلى: إن شاء جهر بها وإن شاء خافت.
قلت: قال الترمذي: والعمل عليه؛ أي على ترك الجهر بالبسملة عند ذكر أهل العلم من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ومن بعدهم من التابعين، وقال أبو عمرو بن المنذر: هو قول ابن مسعود وابن الزبير وعمار بن ياسر وعبد الله بن المغفل والحكم والحسن والشعبي والنخعي والأوزاعي وسعيد بن جبير وعبد الله بن المبارك وقتادة وعمر بن عبد العزيز وسليمان الأعمش والزهري ومجاهد ويحيى بن جعدة وحماد بن أبي سليمان وأبي عبيد والإمام مالك وأحمد وإسحاق. وقال أبو الخطاب: والعمل عليه عند أهل المدينة، وهذا نقل خلاف قد يلتفت إلى العصبية.
م: (لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهر في صلاته بالتسمية) ش: عن أكثر الشراح هذا الحديث إلى أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وروى الدارقطني عن العلاء عن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أم الناس جهر ببسم الله الرحمن الرحيم» . ورواه ابن عدي فقال فيه: " أسر " عوض " جهر ".
وروى النسائي في "سننه " من حديث يعلمه التمرتاشي قال: «صليت وراء أبي هريرة فقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين. وفي آخره: فلما سلم قال: إني أشبهكم صلاة برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -. ورواه ابن حبان في "صحيحه "، وابن خزيمة في "صحيحه "، والحاكم في "مستدركه " وقال: إنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والدارقطني في "سننه " وقال: حديث صحيح ورواته كلهم ثقات مجمع على [ ... ] ، يحتج بهم في الصحيح.
وروى الدارقطني أيضا عن خالد بن إلياس عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة(2/197)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «علمني جبرائيل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الصلاة فقام فكبر لنا ثم قرأ ببسم الله الرحمن الرحيم فيما يجهر به في كل ركعة» .
وروى الطبراني في "الأوسط " عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هزأ منه المشركون ويقولون: محمد يذكر إله اليمامة» . وروى الحاكم في "مستدركه " من حديث علي وعمار أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يجهر في المكتوبات ببسم الله الرحمن الرحيم» . وقال: صحيح الإسناد، ورواه الدارقطني في "سننه " من حديث جابر عن أبي الطفيل عن علي وعمار نحوه. وروى الدارقطني أيضا عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «صليت خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فكانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم» . وأخرجه الخطيب من طريق آخر من حديث مسلم بن حسان قال: «صليت خلف ابن عمر فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في السورتين" فقيل له، فقال: صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى قبض، وخلف أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حتى قبض، وخلف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حتى قبض، فكانوا يجهرون بها في السورتين فلا أدع الجهر بها حتى أموت» .
وأخرج الدارقطني عن أبي الصخر عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمني جبرائيل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عند الكعبة فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم» .
وأخرج أيضا من حديث الحكم بن عمير وكان بدريا قال: «صليت خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاة الليل وصلاة الغداة وصلاة الجمعة» .
وروى الحاكم في "مستدركه " والدارقطني في "سننه «من حديث محمد بن أبي المتوكل بن(2/198)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبي السري قال: صليت خلف المعتمر بن سليمان من الصلوات ما لا أحصيها، الصبح والمغرب، فكان يجهر ببسم الله الرحمن قبل فاتحة الكتاب وبعدها. وقال المعتمر: ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي بكر. وقال أبي: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال أنس: ما آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
وأخرجه الحاكم من طريق آخر عن محمد بن السري ثنا إسماعيل ابن أبي أويس ثنا مالك عن حميد عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «صليت خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فكلهم كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم» . قال الحاكم: وأخرجته شاهدا. أخرجه الخطيب من طريق آخر من حديث حميد عن أنس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
الرد عن هذه الأحاديث:
أما حديث أبي هريرة الذي روى عنه العلاء، وروى عنه أويس، واسمه عبد الله بن أويس، وهو غير محتج به لأنه لا يحتج بما انفرد به، فكيف إذا انفرد بشيء وخالفه فيه من هو أوثق منه، مع أنه متكلم فيه، وقد ضعفه أحمد وابن معين وأبو حاتم الرازي.
فإن قلت: أخرج له مسلم في صحيحه، قلت: بناء على أن مجرد الكلام في الرجال لا يسقط العدالة ولا حديثه، ولو اعتبرنا ذلك لذهب معظم السنة إذ لم يسلم من كلام إلا من عصمه الله، بل خرج في الصحيح ممن تكلم فيهم، ومع هذا لم يترك حديثه لكلام الناس فيه، بل للتفرد به ومخالفة الثقات له، ولرواية مسلم الحديث في "صحيحه" من طريقه وليس فيه ذكر البسملة.
وأما رواية نعيم المجهول عنه فهي معلولة، البسملة فيه مما تفرد به نعيم المجمر من بين أصحاب أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهم ثمانمائة ما بين صاحب وتابع، ولا يثبت عن ثقة من أصحاب أبي هريرة أنه حديث عن أبي هريرة أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجهر بالبسملة في الصلاة، فالبخاري ومسلم أعرضا عن ذكر البسملة في حديث أبي هريرة الذي رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها، فيكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع، الحديث ثم يقول حين ينصرف: والذي نفسي بيده إني لأقربكم شبها لصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا.(2/199)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وليس في هذا الحديث ولا في الأحاديث الصحيحة عن أبي هريرة ذكر للتسمية، وهذا فيما يغلب على الظن أنه وهم على أبي هريرة.
فإن قلت: نعيم المجمر ثقة والزيادة من الثقة مقبولة.
قلت: ليس ذلك مجمعا عليه، بل فيه خلاف مشهور، فمن الناس من يقول: زيادة الثقة مطلقا غير مقبولة، ومنهم من يقبلها، والصحيح التفصيل، وهو أنها تقبل في موضع إذا كان راويها ثقة حافظا ثبتا، والذي لم يذكرها مثله أو دونه في الثقة، كما قبل الناس زيادة مالك بن أنس قوله: من المسلمين، في صدقة الفطر، واحتج بها أكثر العلماء، وتقبل في موضع آخر لقرائن تخصها يجزم بصحتها كزيادة مالك، وفي موضع يغلب على الظن صحتها، وفي موضع يجزم بخطئها كزيادة عبد الله بن زياد ذكر البسملة في حديث قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، وزيادة نعيم المجمر التسمية في هذا الحديث مما يتوقف فيه، بل يغلب على الظن ضعفه، وعلى تقدير صحتها فلا حجة فيها بالجهر لأنه قال: فقرأ أو فقال بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وذلك أعم من قراءتها سرا أو جهرا على من لا يرى قراءتها.
فإن قلت: قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: أراد به أصل الصلاة، ومقاديرها، وهيآتها، والتشبه لا يقتضي أن يكون من كل وجه بل يكفي في غالب الأفعال، وذلك محقق في التكبير وغيره دون البسملة.
وأما الحديث الذي فيه: علمني جبريل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن إسناده ساقط، وإن خالد بن إلياس مجمع على ضعفه، فعن أحمد: منكر الحديث، وعن ابن معين: ليس بشيء، لا يكتب حديثه. وعن النسائي: متروك الحديث. وعن ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات.
وأما حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس فإنه لم يذكر هل كان في فرض أو نفل.
فإن قلت: ذكر الدارقطني حديثين عن ابن عباس أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهر ببسم الله الرحمن الرحيم، والثاني: كان يفتتح الصلاة ببسم الله.
قلت: قال الترمذي: إسناده ليس بذاك، والأول لا حجة فيه.
فإن قلت: قال النووي في " صحيح مسلم ": قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنزلت علي آنفا سورة، فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] » . اه. قال: وهذا تصريح بالجهر خارج الصلاة، فكذا في الصلاة كسائر الآيات.
قلت: هذا الاحتجاج في غاية السقوط فهل يحتج بالقياس مع مخالفة النصوص الصحاح.(2/200)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما حديث علي وعمار، ففي الأول عبد الرحمن بن سعد المؤذن، وقد ضعفه ابن معين لما قال الحاكم: صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي فقال: هذا جزاؤه، كأنه موضوع. وفي الطريق الثاني: جابر الجعفي، وقد كذبه أيوب وليث بن أبي سليمان الخزرجاني. وعن أبي حنيفة: ما رأيت أكذب من جابر الجعفي، ما أتيته بشيء من رأي إلا أتاني فيه بأثر.
وأما حديث ابن عمر فله طريقان، الأول رواه الدارقطني وفيه شيخه عمر بن الحسن، وقد ضعفه الدارقطني، وفيه جعفر بن محمد بن مروان فقال فيه الدارقطني: لا يحتج به، فظهر بذلك بطلان هذا الحديث. والطريق الثاني رواه الخطيب، فهو أيضا باطل لأن فيه عباد بن زياد الأسدي، وقال الحافظ محمد بن النيسابوري: هو مجمع على كذبه، وقال أبو حاتم: كان من رؤساء الشيعة.
وأما حديث النعمان بن بشير فإنه حديث منكر بل موضوع، ومن رواته يعقوب بن يوسف الضبي، وهو ليس بمشهور، وأحمد بن حماد ضعفه الدارقطني، وسكوت الدارقطني والخطيب وغيرهما من الحفاظ عن مثل هذا الحديث بعد روايتهم له قبيح جدا، ولم يعلق ابن الجوزي في هذا الحديث إلا عن فطر بن خليفة، وهو تقصير منه، فإن البخاري روى له في صحيحه ووثقه أحمد وابن معين ويحيى القطان، فكأنه اعتمد على قول السعدي فيه: هو زائغ غير ثقة، وليس كذلك لما ذكرنا.
وأما حديث الحكم بن عمير فهو حديث باطل لوجوه:
الأول: أنه ليس بدريا ولا في البدريين أحد اسمه الحكم بن عمير، بل لا نعرف له راويا سوى ابن حبيب الراوي عنه، لم يلق صحابيا بل هو مجهول لا يحتج بحديثه. وقد ذكر الطبراني في "معجمه الكبير " الحكم بن عمير وقال في نسبته: الثمالي، ثم روى له بضعة عشر حديثا منكرا، وكلها من رواية موسى بن أبي حبيب عنه. وروى له ابن عدي في "الكامل " قريبا من عشرين حديثا ولم يذكر فيها هذا الحديث. والراوي عن موسى هو إبراهيم بن إسحاق الصيني الكوفي، قال الدارقطني: متروك الحديث.
الثاني: يحتمل أن يكون هذا الحديث صنعه، فإن الذين رووا نسخة موسى عن الحكم لم يذكروا هذا الحديث فيها كبقي بن مخلد وابن عدي والطبراني، وإنما رواه مما علمنا الدارقطني ثم الخطيب.
الثالث: أن الدارقطني وهم فقال: إبراهيم بن حبيب، وإنما هو إبراهيم بن إسحاق، وتبعه الخطيب، ورواه وزاد وهما ثانيا، فقال: الضبي، بالضاد المعجمة والباء الموحدة، وإنما الصيني بصاد مهملة ونون.(2/201)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فهو معارض بما رواه ابن خزيمة في "صحيحه " والطبراني في "معجمه" عن معتمر بن سليمان عن أبيه عن الحسن عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، وأبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -» وقوله: في الصلاة، زادها ابن خزيمة. والحديث الذي رواه الحاكم وقال: إنما ذكرته شاهدا، فقال الذهبي في "مختصره ": أما استحى الحاكم يورد في كتابه مثل هذا الحديث الموضوع، فأنا أشهد بالله والله إنه لكذب. وقال ابن عبد الهادي: سقط منه (لا) وتوثيق الحاكم لا يعارض ما يثبت في الصحيح خلافه؛ لما عرف من تساهله، وكيف وأصحاب أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الثقات الأثبات يروون عنه خلاف ذلك، حتى إن شعبة سأل قتادة عن هذا، فقال: أنت سمعت أنسا يذكر ذلك؟ فقال: نعم. وأخبره باللفظ الصريح المنافي للجهر.
واحتجت الشافعية أيضا بالآثار، ومنها ما رواه البيهقي في "الخلافيات " من حديث عمر بن ذر عن أبيه سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال: صليت خلف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وكان أبي يجهر بها. قلنا: هذا مخالف للصحيح الثابت عن عمر أنه كان لا يجهر، وروى الطحاوي بإسناده عن أبي وائل قال: كان عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لا يجهران. وقد روى عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن أبيه أيضا عدم الجهر، فإن ثبت الجهر يحمل على أنه فعله مرة لتعليم أو بسبب من الأسباب.
ومنها: ما رواه الخطيب من طريق الدارقطني بسنده عن عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. قلنا: هذا باطل، وعثمان بن عبد الرحمن هو الوقاصي، أجمعوا على ترك الاحتجاج به. قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: كذاب ذاهب الحديث. وقال ابن حبان: يروي عن الثقات الأشياء والموضوعات لا يحل الاحتجاج به، وقال النسائي: متروك الحديث.
ومنها ما أخرجه الخطيب أيضا، عن يعقوب عن عطاء بن أبي رباح عن أبيه، قال: «صليت خلف علي بن أبي طالب، وعدة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلهم يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم» . قلنا: وهذا أيضا لا يثبت، وعطاء بن أبي رباح لم يلحق عليا، ولا صلى خلفه قط، والحمل فيه على ابنه يعقوب، فقد ضعفه غير واحد من الأئمة، قال أحمد: منكر الحديث. وأما شيخ الخطيب فيه فهو أبو الحسين محمد بن الحسن بن أحمد الأصبهاني الأهوازي، ويعرف بابن أبي علي، فقد تكلموا فيه، وذكروا أنه كان يركب الأسانيد. ونقل الخطيب عن أحمد بن علي الجصاص قال: كنا نسمي ابن أبي علي الأصبهاني جراب الكذب!.
ومنها: ما أخرجه الخطيب أيضا من قوله من طريق الدارقطني عن الحسن بن محمد بن عبد الواحد(2/202)
قلنا: هو محمول على التعليم؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثنا الحسن بن الحسين ثنا إبراهيم بن أبي يحيى عن صالح بن نبهان قال: صليت خلف أبي سعيد الخدري وابن عباس وأبي قتادة وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فكانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. قلنا: وهذا أيضا لا يثبت، والحسن بن الحسين هو العربي إن شاء الله. وهو شيعي ضعيف، أو هو الحسين بن الحسن الأشقر، وانقلب اسمه، وهو أيضا شيعي ضعيف أو مجهول. وإبراهيم بن أبي يحيى قد رمي بالرفض والكذب. وصالح بن نبهان مولى التوأمة قد تكلم فيه مالك وغيره من الأئمة، وفي إدراكه الصلاة خلف أبي قتادة نظر. وهذا الإسناد لا يجوز الاحتجاج به.
وإنما كثر الكذب في أحاديث الجهر على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه لأن الشيعة ترى الجهر وهم أكذب الطوائف، فوضعوا في ذلك أحاديث، وكان أبو علي بن أبي هريرة أحد أعيان أصحاب الشافعي يترك الجهر بها، وهو يقول: الجهر بها صار من شعار الروافض. وغالب أحاديث الجهر نجد في روايتها من هو منسوب إلى التشيع.
وأما أقوال التابعين في ذلك فليست بحجة مع أنها قد اختلفت، فروي عن غير واحد منهم الجهر، وروي عن غير واحد منهم تركه، والواجب في ذلك الرجوع إلى الدليل لا إلى الأقوال.
م: (قلنا: هو محمول على التعليم) ش: هذا جواب عما احتج به الشافعي فيما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهر في صلاته بالتسمية، ويريد أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما جهر بها لأجل تعليم أنه بها يسر، أو يقال: إنه محمول على الجهر الذي يسمعه القارئ، ويقال: إنه محمول على وقوعها اتفاقا، ويقال: كان الجهر ابتداء قبل نزول قَوْله تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] (الأعراف: الآية 55) فكأنهم كانوا يجهرون بالثناء والقراءة أيضا حتى نزل قوله: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ} [الإسراء: 110] (الإسراء: الآية 110) .
قلت: كل هذا لا يجزئ ولا يرضى به الخصم ولا يندفع.
وكانت الطريقة في هذا أن يحتج المصنف نصرة لمذهبه بما روى من الأحاديث الصحيحة، ثم يجيب عما احتج به الخصم بما يجاب به عند ورود الأحاديث والأخبار المتناقضة، فنقول وبالله التوفيق:
قد ذكرنا أن للتسمية أربعة أحوال: هل هي من القرآن أم لا؟ وهل هي من الفاتحة أم لا؟ وهل هي من أول كل سورة أم لا؟ فهذه الثلاثة قد ذكرناها وبقى الرابع وهو أنها هل يجهر بها أم لا؟
فقال الشافعي ومن معه: يجهر بها، ونحن نقول: لا يجهر؛ لما روى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" من حديث شعبة: سمعت قتادة يحدث عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلف أبي بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم» . وفي لفظ لمسلم «فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله(2/203)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رب العالمين، ولا يذكرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، في أول القراءة ولا في آخرها.» رواه النسائي في "سننه " وأحمد في "مسنده " وابن حبان في "صحيحه " والدارقطني في "سننه ". وقالوا فيه: «كانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم» وزاد ابن حبان: ويجهرون بالحمد لله رب العالمين.
وفي لفظ لابن حبان والنسائي أيضا: «فلم نسمع أحدا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم» . وفي لفظ لأبي يعلى الموصلي في "مسنده ": «فكانوا يستفتحون القراءة فيما يجهر به بالحمد لله رب العالمين» . وفي لفظ للطبراني في "معجمه " وأبي نعيم في "الحلية " وابن خزيمة في مختصر "صحيحه " والطحاوي في "شرح الآثار ": «فكانوا يسرون في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» . ورجال هذه الروايات كلهم ثقات مخرج لهم في " الصحيحين ". وكل ألفاظه ترجع إلى معنى واحد يصدق بعضها بعضا وهي سبعة ألفاظ:
فالأول: كانوا لا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم.
والثاني: فلم أسمع أحدا يقول أو يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
والثالث: فلم يكونوا يقرأون ببسم الله الرحمن الرحيم.
والرابع: فلم أسمع أحدا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
والخامس: فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم.
والسادس: كانوا يسرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
والسابع: فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين.
وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه من حدث أبي نعامة الحنفي، واسمه قيس بن عباية: حدثنا ابن عبد الله بن مغفل قال: «سمعني أبي وأنا أقول: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقال: أي بني إياك والحدث! فإني لم أر أحدا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أبغض إليه الحدث في الإسلام، يعنى منه. قال: وصليت مع أبي بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فلم أسمع أحدا منهم يقولها، فلا تقلها أنت، إذا صليت فقل: الحمد لله رب العالمين» . قال الترمذي: حديث حسن.
فإن قلت: قال النووي في "الخلاصة ": وقد ضعف الحفاظ هذا الحديث، وأنكروا على الترمذي تحسينه كابن خزيمة وابن عبد البر والخطيب، وقالوا: إن مداره على ابن عبد الله بن المغفل وهو مجهول.
قلت: رواه أحمد في "مسنده " من حديث أبي نعامة عن بني عبد الله بن المغفل قال: «كان(2/204)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبونا إذا سمع أحدا منا يقول: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يقول: أي بني صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فلم أسمع أحدا منهم يقول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» .
ورواه الطبراني في "معجمه " عن عبد الله بن بريدة عن ابن عبد الله بن مغفل عن أبيه مثله. ثم أخرجه عن أبي سفيان طريف بن شهاب عن يزيد بن عبد الله بن مغفل عن أبيه قال: «صليت خلف إمام فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، فلما فرغ من صلاته قلت: ما هذا؟! غيب عنا هذه التي أراك تجهر بها! فإني قد صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومع أبي بكر وعمر فلم يجهروا بها» .
فهؤلاء ثلاثة رووا هذا الحديث عن ابن عبد الله بن المغفل عن أبيه، وهم أبو نعامة وأبو سفيان السعدي. أما أبو نعامة فقد وثقه ابن معين وغيره، وأما عبد الله بن بريدة فأشهر من أن يثنى عليه، وأما أبو سفيان مهران وإن تكلم فيه ولكنه يعتبر به ما تابعه عليه غيره من الثقات، وهو الذي سمى ابن عبد الله بن المغفل يزيد، كما هو عند الطبراني فقط، فقد ارتفعت الجهالة عن ابن عبد الله بن مغفل برواية هؤلاء الثلاثة عنه.
وقد تقدم في " مسند أحمد " عن أبي نعامة عن بني عبد الله بن المغفل، وبنوه الذي يروي عنهم يزيد وزياد ومحمد، والنسائي وابن حبان وغيرهم يحتجون بمثل هؤلاء مع أنهم ليسوا مشهورين بالرواية، ولم يرو أحد منهم حديثا منكرا ليس له شاهد ولا متابع حتى يجرح بسببه. وإنما رووا ما رواه غيرهم من الثقات.
فأما يزيد فهو الذي سمي في هذا الحديث. وأما محمد فروى له الطبراني عنه عن أبيه قال: سمعت النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يقول: «ما من إمام يبيت غاشا لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» . وأما زياد فروى له الطبراني عنه عن أبيه مرفوعا: «لا تحذفوا فإنه لا يصاد به صيد ولا ينكأ العدو ولكنه يكسر السن ويفقأ العين» . وبالجملة فهذا حديث صريح في عدم الجهر بالتسمية، وهو وإن لم يكن من أقسام الصحيح فلا ينزل عن درجة الحسن، وقد حسنه الترمذي، والحديث الحسن يحتج به لاسيما إذا تعددت شواهده وكثرت متابعاته.
فإن قلت: تركوا الاحتجاج به لجهالة ابن عبد الله بن مغفل.
[قلت] : قد احتجوا بما هو أضعف منه، بل احتج الخطيب بما يعلم هو أنه موضوع. والبيهقي لم يحسن في تضعيفه هذا الحديث، غير أنه بعد أن رواه في كتابه " المعرفة " قال: تفرد به أبو نعامة قيس بن عباية، وأبو نعامة وابن عبد الله بن مغفل لم يحتج بهما صاحبا " الصحيح "، وكل ذلك لأجل التعصب والتحامل. وقوله: تفرد به، غير صحيح، فقد تابعه عبد الله بن بريدة وأبو سفيان(2/205)
لأن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخبر أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كان لا يجهر بها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كما ذكرنا، وعدم احتجاج صاحبي الصحيح لا يستلزم تضعيف هذا الحديث الصحيح، وهما لم يلتزما إحاطة الأحاديث الصحيحة، ومع هذا فالبخاري كثيرا ما يتبع لما يرد على أبي حنيفة من السنة، فيذكر الحديث ثم يعرض بذكره فيقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذا وكذا، ثم يقول: وقال بعض الناس كذا، يشير به إليه ويشنع به عليه، ولم يجد حديثا صحيحا في الجهر حتى يذكره في "صحيحه". فهذا أبو داود والترمذي وابن ماجه مع اشتمال كتبهم على الأحاديث السقيمة والأسانيد الضعيفة، لم يخرجوا منها شيئا، ولولا أنها عندهم واهية بالكلية لما تركوها، وقد تفرد النسائي منها بحديث أبي هريرة وهو أقوى ما فيها عندهم، وقد بينا ضعفه من وجوه.
م: (لأن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخبر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يجهر بها) ش: حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه البخاري ومسلم، وقد ذكرناه عن قريب.
فإن قلت: روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن ذلك كان في الجملة، فروى أحمد والدارقطني من حديث سعيد بن زهد بن سلمة قال: «سألت أنسا أكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أو الحمد لله رب العالمين؟ قال: إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه، أو ما سألني أحد قبلك.» قال الدارقطني: إسناده صحيح.
قلت: ما روي من إنكاره لا يقاوم ما ثبت عنه خلافه في " الصحيح " ويحتمل أن يكون أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نسي في تلك الحالة لكبره، وقد وقع مثل ذلك كثيرا، كما سئل يوما عن مسألة فقال: عليكم بالحسن فاسألوه فإنه حفظ ونسينا، وكم ممن حدث ونسي. ويحتمل أنه إنما سأله عن ذكرها في الصلاة أصلا لا عن الجهر بها وإخفائها.
فإن قلت: يجمع بين الأحاديث بأن يكون أنس لم يسمعه لبعده، لأنه كان صبيا يومئذ.
قلت: هذا مردود لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هاجر إلى المدينة ولأنس يومئذ عشر سنين، ومات - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وله عشرون سنة فكيف يتصور أنه يصلي خلفه عشر سنين فلا يسمعه يوما من الدهر يجهر؟! هذا بعيد بل يستحيل. ثم قد روي هذا في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكيف وهو رجل في زمان أبي بكر وعمر، وكهل في زمان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع تقدمه في زمانهم وروايته للحديث؟!
فإن قلت: أحاديث الإخفاء شهادة على النفي، وأحاديث الجهر شهادة على الإثبات، والإثبات مقدم على النفي.
قلت: هذه الشهادة وإن ظهرت في صورة النفي فمعناها الإثبات، على أن هذا مختلف فيه، فالأكثرون على تقديم الإثبات، وعند البعض سواء، وعند البعض النافي يقدم على المثبت وإليه(2/206)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذهب الأزدي وغيره.
فإن قلت: روى الإخفاء اثنان من الصحابة أنس وعبد الله بن المغفل، وروى الجهر أربعة عشر صحابيا، فيقدم الجهر بكثرة الرواة.
قلت: الاعتماد على كثرة الرواة إنما يكون بعد صحة الدليلين. فأحاديث الجهر ليس فيها صحيح صريح، بخلاف ما روي في الإخفاء، فإنه حديث ثابت صحيح مخرج في الصحيح والمسانيد المعروفة والسنن المشهورة، مع أن جماعة من الحنفية لا يرون الترجيح بكثرة الرواة.
وأحاديث الجهر وإن كثرت رواتها لكنها كلها ضعيفة، ولم يرو أحاديث الجهر إلا الحاكم وقد عرف تساهله وتصحيحه للأحاديث الضعيفة بل الموضوعة.
وقال ابن دحية في كتابه " المعلم " المشهور: يجب على أهل الحديث أن لا يحفظوا من قول الحاكم أبي عبد الله، فإنه كثير الغلط ظاهر، وقد غفل عن ذلك كثير من مخالفيه، وقلده في ذلك الدارقطني وملأ كتابه من الأحاديث الضعيفة والغريبة والشاذة والمعللة، وكم فيه من حديث لا يوجد في غيره. وحكي أنه لما دخل مصر سأله بعض أهلها تصنيف شيء في الجهر بالبسملة [فصنف فيه جزءا] فأتاه بعض المالكية فأقسم عليه أن يخبره بالصحيح من ذلك، فقال: كل ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجهر فليس بصحيح.
وأما عن الصحابة فمنه صحيح وضعيف. والخطيب فإنه قد جاوز عن حد التحامل والتعصب، واحتج بالأحاديث الموضوعة مع علمه بذلك، وروى الخطيب عن عكرمة أنه قال: لا يصلى خلف من لا يجهر بالبسملة، وعارضته رواية الطحاوي بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس في الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قال: ذلك فعل الأعراب.
وسئل الحسن عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم فقال: إنما يفعل ذلك الأعراب. وقال أبو عمر عن ابن عباس: الجهر فيها قراءة الأعراب، وأراد جهلتهم.
وعن النخعي: أن الجهر بها بدعة. ونقل السروجي عن ابن الجوزي: والخطيب لا ينبغي أن يقبل جرحه ولا تعديله، لأن قوله ونقله يدل على قلة دين. والعجب من الثوري أيضا كيف ذكر الأحاديث الضعيفة وانتصر لها وصححها، ولم يذكر ما قيل فيها.
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
وقال الأكمل في هذا الموضع: فإن قيل: خبر الإخفاء بالبسملة مما تعم به البلوى، إلى آخر ما ذكره في شرحه، قلت: أخذ جميع ذلك عن السغناقي، ومع هذا فليس ما ذكره توفيقا بين الأحاديث الواردة في الجهر والإخفاء على طريقة أهل هذا الفن، وقد ذكرنا الذي هو الأصل(2/207)
ثم عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يأتي بها في أول كل ركعة كالتعوذ، وعنه أنه يأتي بها احتياطا، وهو قولهما، ولا يأتي بها بين السورة والفاتحة إلا عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فإنه يأتي بها في صلاة المخافتة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فللناظر فيه نظر.
م: (ثم عند أبي حنيفة أنه) ش: أي أن المصلي م: (لا يأتي بها) ش: أي بالتسمية م: (في أول كل ركعة) ش: وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة، وروي عن أبي حنيفة أن المصلي إذا سمى أول صلاته فإنه لا يعيدها لأنها شرعت لافتتاح الصلاة م: (كالتعوذ) ش: أي كقراءة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنه يقرأها مرة في أول السورة اتفاقا.
م: (وعنه) ش: أي وعن أبي حنيفة (أنه يأتي بها) ش: أي أن المصلي يأتي بالتسمية في أول كل ركعة، وهذه الرواية رواها أبو يوسف عن أبي حنيفة. وفي " قنية الفتاوى ": والأحسن أن يأتي بها في أول كل ركعة عند أصحابنا جميعا لا اختلاف فيه، ولا تختلف الرواية عنهم، ومن قال، مرة، فقد غلط على أصحابنا غلطا فاحشا عرفه من تأمل كتب أصحابنا، لكن الخلاف في الوجوب، فعندهما في رواية المعلى عن أبي حنيفة أنها تجب في الثانية كوجوبها في الأولى. ورواية الحسن عنه أنها لا تجب إلا عند افتتاح الصلاة وإن قرأها في غيره فحسن، والصحيح أنها تجب في كل ركعة حتى لو سها عنها قبل الفاتحة سجد للسهو.
وفي " المجتبى ": وأما وجوبها خارج الصلاة، فالصحيح أنها تجب، وأجمع القراء أن يقرأها أول الفاتحة وكذا في سائر السور إلا عند غيره وأبي عمرو.
م: (احتياطا) ش: أي على سبيل الاحتياط، لأنها أقرب إلى متابعة المصحف لأن عليه إعادة الفاتحة، فكذا إعادتها. وروى الحسن عن أبي حنيفة: إن قرأها عند السورة فحسن.
م: (وهو قولهما) ش: أي قول أبي يوسف ومحمد م: (ولا يأتي بها) ش: أي بالتسمية م: (بين السورة والفاتحة) ش: لأن محلها أول الصلاة م: (إلا عند محمد فإنه يأتي بها في صلاة المخافتة) ش: أي فإن المصلي يأتي بالتسمية بين الفاتحة والسورة في الصلاة التي يخافت فيها القراءة اتباعا للمصحف، وأما إذا جهر فلا، وعند الشافعي: لا تجوز الصلاة بدون التسمية، فلذلك قالوا: الأجود أن يأتي بها في كل ركعة، وهو المنقول عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومجاهد، وذلك للاحتياط.
وقال حميد الدين: لا احتياط فيه، لأن عند سعد بن أبي وقاص تسمية المقتدي مفسدة لصلاته، لكن لم يفند هذا الخلاف إذ فساد الصلاة لها بعيد، حتى إنه استحسن قراءة البعيد خلف الإمام فيما يخافت.(2/208)
قال: ثم يقرأ فاتحة الكتاب وسورة أو ثلاث آيات من أي سورة شاء، وقراءة الفاتحة لا تتعين ركنا عندنا، وكذا ضم السورة، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الفاتحة، ولمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فيهما، له قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وسورة معها» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واعتبر خلاف الشافعي لأن معه غيره ولم يعتد بخلافه في الجهر لانفراده، ومخالفة النصوص على ما ذكرنا.
[الواجب من القراءة في الصلاة]
م: (قال) : أي القدوري: (ثم يقرأ فاتحة الكتاب) ش: أي ثم بعد قراءة الثناء والتعوذ والتسمية يقرأ سورة فاتحة الكتاب، هذا بيان الواجب من القراءة دون الركن والسنة على ما يأتي إن شاء الله تعالى م: (وسورة) ش: أي ويقرأ سورة من القرآن (أو ثلاث آيات من أي سورة شاء) ش: أي ويقرأ ثلاث آيات مع الفاتحة، والخيار فيها من أي سورة شاء، وهذا أيضا بيان الواجب من القراءة.
م: (وقراءة الفاتحة لا تتعين ركنا عندنا) ش: أي من حيث الركنية، ويجوز أن ينصب على الحال. وقال أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا خلاف بين الفقهاء في جواز الصلاة مع الفاتحة وحدها، ويروى مثل مذهبنا عن ابن عباس والحسن وإبراهيم والشعبي وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وداود ومالك في رواية.
م: (وكذا ضم السورة إليها) ش: أي إلى الفاتحة م: (خلافا للشافعي في الفاتحة) ش: يعنى قراءة الفاتحة عنده فرض حتى لو لم يقرأها تبطل صلاته، ولو ترك حرفا منها وتشديدا عمدا لا تجوز صلاته، ولو ترك التشديد من لفظ الله، فإن كان عمدا تبطل صلاته، وإن كان ناسيا فيؤمر بسجود السهو، ولو ترك من "إياك نعبد" فإن تعمد ذلك وعرف معناه يكفر، وإن كان ساهيا أو جاهلا يسجد للسهو، كذا في تتمتهم. وعند عامة مشايخنا لو ترك التشديد من إياك ومن رب العالمين يعيد، والمختار أنه لا يعيد صلاته، ذكره في " الخلاصة ".
م: (ولمالك فيهما) ش: أي خلافا لمالك في قراءة الفاتحة وضم السورة إليها ونصب خلاف مالك على هذا الوجه غير صحيح، لأن " صاحب الجواهر " قال: وضم السورة إلى الفاتحة سنة عند مالك خلاف ما نقله عنه أصحابنا.
وقال غيره: المشهور عن مالك جعل أم القرآن ركنا، ولم يقل أحد أن ضم السورة إلى الفاتحة ركن فيما علمته. وأكثر الشراح سكتوا عن هذا ونسبوا إلى مالك قولا وهو لم يقل به، على أنه روي عنه أن مذهبه في هذا كمذهبنا لمالك.
م: (له قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وسورة معها» ش: هذا الحديث روي بوجوه مختلفة(2/209)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن أبي سعيد بلفظ الكتاب رواه ابن عدي في " الكامل "، وفي لفظ: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقرأ الفاتحة وما تيسر» . وفي لفظ: «لا تجزئ صلاة إلا بفاتحة الكتاب ومعها غيرها» ، وفي لفظ: «وسورة، في فريضة أو غيرها» ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، ولا صلاة لمن لا يقرأ بالحمد لله وسورة في فريضة وغيرها» . هذا لفظ الترمذي، واقتصر ابن ماجه على قوله: «لا صلاة لمن لم يقرأ بالجهر» وسكت عنه الترمذي، وهذا معلول بأبي سفيان.
وقال عبد الحق في "أحكامه ": لا يصح هذا الحديث من أجله. ورواه ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في "مسنديهما" والطبراني في " مسند الشاميين " من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد: «لا صلاة إلا بأم القرآن ومعها غيرها» وروى أبو داود عن أبي نضرة عنه قال: «أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر» ورواه ابن حبان في "صحيحه"، ولفظه: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر» . ورواه أحمد وأبو يعلى في "مسنديهما".
قال الدارقطني في "علله ": هذا يرويه قتادة وأبو سفيان السعدي عن أبي نضرة مرفوعا، ووقفه أبو سلمة عن أبي نضرة هكذا. قال أصحاب شعبة عنه: ورواه ربيعة عن عثمان بن عمر عن شعبة عن أبي سلمة مرفوعا، ولا يصح رفعه من شعبة.
وروى الطبراني في " مسند الشاميين " من حديث عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وآيتين من القرآن» . ورواه ابن عدي من حديث عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا «تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وآيتين فصاعدا» .
وفيه عمرو بن يزيد، قال ابن عدي: ضعيف منكر الحديث، ورواه أبو نعيم في " تاريخ أصبهان " من حديث أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وشيء معها» .(2/210)
وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» ولنا قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] (المزمل: الآية 20)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى أبو داود من حديث رفاعة بن رافع قال: جاء رجل ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس في المسجد. الحديث. وفي رواية: «إذا قمت وتوجهت إلى القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله» . ورواه أحمد أيضا في "مسنده".
م: (وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم من حديث محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب» . ورواه الدارقطني بلفظ: «لا تجزئ الصلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب» وقال: إسناده صحيح. وأخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" قلت: وإن كنت خلف الإمام، قال: فأخذ بيدي وقال: "اقرأ في نفسك» وجه الاستدلال بالحديث المذكور ظاهر وهو نفي حسن الصلاة عن الجواز إلا بقراءة فاتحة الكتاب.
م: (ولنا قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] (المزمل: الآية 20) ش: وجه الاستدلال بهذه أن الله تعالى أمر بقراءة ما تيسر من القرآن مطلقا وتقييده بفاتحة الكتاب زيادة على مطلق النص، وهذا لا يجوز، لأنه نسخ، فيكون أدنى ما يطلق على القرآن فرضا لكونه مأمورا به فإن قراءته لصلاة ليست بفرض يتعين أن يكون في الصلاة.
فإن قلت: هذه الآية في صلاة الليل وقد نسخت فرضيتها وكيف يصح التمسك بها؟
قلت: ما شرع ركنا لم يصر منسوخا، وإنما نسخ وجوب قيام الليل دون فروض الصلاة وشرائطها وسائر أحكامها. ويدل عليه أنه أمر بالقراءة بعد النسخ بقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] ، والصلاة بعد النسخ تثبت نفلا. وكل من شرط الفاتحة في الفرض لعدم المقابل بالفصل، وأيضا الاعتبار لعموم اللفظ لا لخصوص السبب على القول المنقول على ما عرف في موضعه.
فإن قلت: كلمة ما مجملة والحديث مبين والمبين يقضي على المبهم.
قلت: كل من قال هذا يدل قوله على عدم معرفته بأصول الفقه لأن كلمة من من ألفاظ العموم، يجب العمل بعمومها من غير توقف، ولو كانت مجملة لما جاز العمل بها قبل البيان كسائر مجملات يسير القراءة، والحديث معناه أي شيء يسير، ولا يسوغ ذلك فيما ذكروه فيلزم الترك بالقرآن والحديث، والعام عندنا لا يحمل على الخاص مع ما في الخاص من الاحتمالات.(2/211)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: هذا الحديث مشهور فإن العلماء تلقته بالقبول فيجوز الزيادة بمثله.
قلنا: لا نسلم ذلك لأن المشهور ما تلقاه التابعون بالقبول. وقد اختلف التابعون في هذه المسألة، ولئن سلمنا أنه مشهور، فالزيادة بالخبر المشهور إنما يجوز إذا كان محكما، أما إذا كان محتملا فلا. وهذا الحديث محتمل لأن مثله نفي الجواز ويستعمل لنفي الفضيلة كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» ، ولأنه معارض لما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب أو غيرها» .
وروي: «لا صلاة إلا بقراءة ولو بفاتحة الكتاب» وقد ذكرناه عن قريب. وروي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علم الأعرابي الصلاة إلى أن قال: «الله أكبر ثم اقرأ ما تيسر أو ما معك من القرآن» .
فإن قلت: نفي الجواز أصل فيكون هذا المراد.
قلت: لا نسلم أن الأصل هو المراد بالحديث لجواز ترك الأصل بدليل يقتضي الترك.
فإن قلت: أخرج مسلم وأبو داود وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام» . فهذا يدل على الركنية.
قلت: لا نسلم ذلك لأن معناه ذات خداج أي نقصان صلاة ناقصة، وهذا لا يوافق مذهبنا لأنه ثبت النقصان لا الفساد، ونحن نقول: لأن النقصان في الوصف لا في الذات، ولهذا قلنا بوجوب الفاتحة.
فإن قلت: قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ} [المزمل: 20] عام خص منه البعض وهو ما دون الآية، فإن المصنف ذكر في فصل القراءة أدنى ما يجزئ من القراءة عند أبي حنيفة أنه آية، لأن ما دون الآية خارج بالإجماع، فإذا كان كذلك يجوز تخصيصه بخبر الواحد بل القياس أيضا.
قلت: القرآن يتناول ما هو معجز عرفا فلا يتناول ما دون الآية.
فإن قلت: هذا مستقيم على قولهما لأنهما قالا: فرض القراءة ثلاث آيات قصار وآية طويلة. أما على قول أبي حنيفة لا يستقيم، لأن الفرض يتأدى عنده بالآية القصيرة وهي ليست بمعجزة.
قلت: الشرط فيه أن تكون الآية القصيرة كلمتين أو أكثر، ولا يتأدى الفرض بآية هي كلمة واحدة ك "ص" و "ن"، وقال: مذهنبا بائن في الصحيح، فإذا كان كذلك لم يدخل ما دون الآية في النص.
وقال الأترازي: فإن قلت: إن مالكا مستدل على ركنية الفاتحة وضم السورة جميعا بقوله:(2/212)
والزيادة عليه بخبر الواحد لا تجوز، لكنه يوجب العمل فقلنا بوجوبهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
«لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وسورة معها» فما جوابه؟ قلت: جوابه هو الذي سمع من ردنا على الشافعي فلا نعيده، انتهى.
قلت: هذا السؤال غير موجه أيضا، لأن مالكا لم يقل بركنية ضم السورة إلى الفاتحة كما ذكرنا.
م: (والزيادة عليه) ش: أي على النص (بخبر الواحد) ش: وهو الحديث المذكور (لا تجوز) ش: لأنه نسخ كما ذكرنا، لأن خبر الواحد دون نص الكتاب والنسخ لا يجوز بما دون المنسوخ كقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] (البقرة: الآية 106) .
فإن قلت: ما معنى النسخ هاهنا؟
قلت: الذي كان مشروعا قبل الزيادة لما كان بعضه بعد الزيادة لزم تبدله من الكل إلى البعض وليس معنى النسخ إلا التبديل.
فإن قلت: ما تيسر عام، فقال المصنف بالزيادة عليه، وهذا يدل على أنه مطلق، والمطلق خاص لا عام عندنا. قلت: كأنه أراد العام المطلق وهو العام غير المخصوص.
م: (لكنه يوجب العمل) ش: أي لكن الحديث المذكور يوجب العمل به وبين ذلك بقوله: م: (فقلنا بوجوبهما) ش: أي قلنا بوجوب قراءة الفاتحة وضم السورة حتى يأثم تاركهما إذا عمد ويلزمه سجود السهو إذا سها، والحاصل أنما نحن عملنا بالعدل باستعمالنا بالقرآن والحديث، وأثبتنا فريضة مطلق القراءة بالنص ووجوبية قراءة الفاتحة وضم السورة بالحديث، وهذا هو العدل في باب إعمال الأخبار، وليس من العدل أن يعمل بأحدهما ويهمل الآخر، وهاهنا دقيقة وهي أن الحديث الذي رواه أبو هريرة وهو الذي أخرجه أبو داود والطبراني في " الأوسط " أنه قال: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أنادي: لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب» عما إذا ترك على فريضة ما زاد على الفاتحة وليس ذلك مذهب الخصم.
ولنا جواب وهو أن الحكم يثبت بقدر دليله وخبر الواحد ليس بقطعي، فلا تثبت به الفرضية. نعم يثبت به الوجوب، ونحن نقول به.
فإن قلت: الخصم يقول: الفرض والواجب عندي سواء.
قلت: النزاع لفظي.
فإن قلت: الحديث مجمل، لأن نصبه يقتضي نفي الذات ومعلوم ثبوتها حسا.(2/213)
وإذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال: آمين، ويقولها المؤتم؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا أمن الإمام فأمنوا» ، ولا متمسك لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا قال الإمام {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فقولوا: آمين» من حيث القسمة؛ لأنه قال في آخره: "فإن الإمام يقولها".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قد أجيب عن هذا، والتحقيق أن قدر نفي الإجزاء يلزم به نفي الكمال أيضا، فيلزم نفي شيئين قبله للمخالفة، فتعين به نفي الكمال.
[قول المأموم آمين]
م: (وإذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، قال: آمين) ش: أي قال الإمام عقيب ولا الضالين آمين. قال الأترازي: خلافا لمالك. قلت: لم يقل مالك بأن الإمام لا يقول آمين ولكن يقولها على وجه الفضيلة دون السنة على ما حكاه القاضي أبو محمد عنه، ذكره في " الجواهر ".
م: (ويقولها المؤتم) ش: أي يقول المقتدي أيضا: آمين. والأترازي يقول: هذا ما كان المقتدي في علم التصريف بقوله وهو أن المؤتم به؛ أي اقتدى به، يجوز أن يكون اسم الفاعل ويجوز أن يكون اسم المفعول، لأن التقدير يختلف، وإن كان اللفظ يحتاج إلى تقدير اسم الفاعل مؤتم بكسر الميم الأولى وتقدير اسم المفعول مؤتم بفتح الميم الأولى والمراد هنا هو الثاني وهو الإمام لمناسبة الكلام.
قلت: هذا إنما يصح إذا كان الضمير في قال في قوله آمين كما ذهب إليه بعض الشراح، ويفهم من كلامه هذا أيضا وليس كذلك، وإنما الضمير فيه للإمام، ويكون من قوله ويقولها المؤتم هو المقتدي كما ذكرنا.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا أمن الإمام فأمنوا» ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» ، قال ابن شهاب: «وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول آمين» . ولفظ النسائي وابن ماجه فيه: «إذا أمن القارئ» وزاد فيه البخاري في كتاب الدعوات: «فإن الملائكة تقول آمين» .
قال ابن حبان: يريد أنه إذا أمن كتأمين الملائكة من غير إعجاب ولا سمعة ولا رياء خالصا لله تعالى، فإنه حينئذ يغفر له.
م: (ولا متمسك لمالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال الإمام: ولا الضالين، فقولوا: آمين» من حيث القسمة لأنه قال في آخره: فإن الإمام يقولها) ش: أي ولا حجة لغير مالك في هذا الحديث فيما ذهب إليه من أن الإمام لا يقول عند فراغه من قراءة الفاتحة آمين من حيث أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم ذلك بينه وبين القوم، لأن القسمة تنافي الشركة.
ثم بين المصنف عدم احتجاجه بذلك بقوله: (لأنه قال) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في آخر(2/214)
قال: ويخفونها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحديث المذكور: «فإن الإمام يقولها» أي يقول لفظ آمين، ولفظ الحديث: «فإن الإمام يقول آمين» كما نذكره يقطع بتلك الشركة، فصار الإمام والقوم مشتركين في الإتيان بلفظ آمين. ثم إن المالكية حملوا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا أمن الإمام، على بلوغ موضع التأمين وقالوا: سنة الدعاء تأمين السامع دون الداعي، وآخر الفاتحة دعاء فلا يؤمن الإمام لأنه داع. وقال القاضي أبو الطيب: هذا غلط بل الداعي أولى بالاستيجاب. واستبعد أبو بكر بن العربي تأويلهم لغة وشرعا، وقال: الإمام أحسن الداعين وأولهم وأولاهم. وفي " المعارضة ": قال الإمام مالك: لا يؤمن الإمام في صلاة الجهر. وقال ابن حبيب: يؤمن. وقال ابن كليب: هو ما يختار. وروى الحسن عن أبي حنيفة مثل قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإمام لا يأتي بها.
وفي " المبسوط ": قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يخفي الإمام آمين، ثم قال: وقد طعنوا فيه، وقالوا: إن مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإمام لا يقوله أصلا فكيف يستقيم جوابه: ويخفي به، لكنا نقول: عرف أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن بعض الأئمة لا يأخذون بقوله لحرمة قول علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ففرع الجواب على قولهما كما فرع مسائل المزارعة على قول من يرى جوازها.
فإن قلت: إذا كان مذهب أبي حنيفة أن الإمام لا يقول آمين، كما روى عنه الحسن فما جوابه عن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا أمن الإمام؟
قلت: جوابه أنه إنما سمى الإمام مؤمنا باعتبار المسبب والمسبب يجوز أن يسمى باسم المباشر كما يقال بنى الأمير داره. ثم الحديث الذي في آخره: فإن الإمام يقولها، أخرجه النسائي في "سننه " من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» . ورواه عنه عبد الرزاق في "مصنفه ": أخبرنا معمر عن الزهري، ومن طريقه رواه ابن حبان في "صحيحه " بسنده، والحديث في " الصحيحين " وليس فيه: فإن الإمام يقول: آمين.
م: (ويخفونها) ش: أي يخفي الإمام والقوم جميعا لفظة آمين، وبه قال الشافعي في قوله الجديد، ومالك في رواية. وعند الشافعي يجهر الإمام، وبه قال أحمد وعطاء وداود لما روي عن أبي هريرة أنه قال: «كان إذا أمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمن من خلفه حتى كان في المسجد ضجة» . وفي رواية(2/215)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بجة، وهو اختلاف الأصوات. وروي عن بعض أصحابه أنه قال: كنت أسمع من الأئمة كابن الزبير ومن بعده يقولون آمين ويقول من خلفهم آمين، حتى يكون في المسجد ضجة. وكذا روي عن عكرمة، كذا ذكره صاحب " الدارية " عنهم.
قلت: حديث الجهر بالتأمين رواه أبو داود والترمذي عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن حجر بن عنبس عن وائل بن حجر، واللفظ لأبي داود قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته» ، وقال: حديث حسن. وأخرج أبو داود والترمذي من طريق آخر عن علي بن صالح، ويقال العلاء بن صالح، الأسدي عن سلمة بن كهيل عن عمر عن عنبس عن وائل بن حجر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه صلى فجهر بآمين وسلم عن يمينه وشماله» انتهى وحكى عنه.
وروى النسائي أنا قتيبة ثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق «عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه قال: "صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما افتتح الصلاة كبر ورفع يديه حتى حاذيا أذنيه ثم قرأ فاتحة الكتاب، فلما فرغ منها قال: آمين، رفع بها صوته» .
وروى أبو داود وابن ماجه عن ميسر بن رافع عن أبي عبد الله بن عمر عن أبي هريرة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا تلى {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال: آمين حتى تسمع من الصف الأول» وزاد ابن ماجه: «فيرتج بها المسجد» . ورواه ابن حبان في "صحيحه " والحاكم في "مستدركه " وقال: على شرط الشيخين. رواه الدارقطني في "سننه " قال: إسناده حسن.
وروى إسحاق بن راهويه في "مسنده " أخبرنا النضر بن شميل حدثنا هارون الأعور عن إسماعيل بن مسلم عن أبي إسحاق «عن ابن أم الحصين عن أمه: أنها صلت خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال: آمين، فسمعته وهي في صف النساء» .
قلت: أما الحديث الأول الذي رواه الشافعية من حديث أبي هريرة وفيه: «حتى كان في المسجد ضجة» فليس كذلك لفظه، بل لفظه في زيادة ابن ماجه: «فيرتج بها المسجد» كما ذكرناه، وهو حديث ضعيف، وفي إسناده بشر بن رافع الحارثي، ضعفه البخاري والترمذي والنسائي وأحمد(2/216)
لما روينا من حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه دعاء فيكون مبناه على الإخفاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وابن معين، وقال ابن القطان في كتابه: بشر بن رافع أبو الأسباط الحارثي، ضعيف، وهو يروي هذا الحديث عن أبي عبد الله ابن [عم] أبي هريرة، وأبو عبد الله هذا لا يعرف له حال ولا روى عنه غير بشر، والحديث لا يصح من أجله فقط بذلك [....
... ] قول الحاكم: على شرط الشيخين، وتحسين الدارقطني إياه.
وأما قولهم: وروي عن بعض أصحابه؛ أي بعض أصحاب الشافعي، فإن الذي رواه هو الشافعي في " الأم " أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن عطاء قال: كنت أسمع الأئمة كابن الزبير ومن بعده أه. ومسلم بن خالد شيخ الشافعي ضعيف.
فإن قلت: قال النووي: ذكر البخاري هذا الأثر عن ابن الزبير تعليقا.
قلت: التعليق ليس بحجة. وأما الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي من حديث وائل بن حجر فيعارضه ما رواه الترمذي أيضا عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن حجر بن العنبس عن وائل عن أبيه وقال فيه: «وخفض لها صوته» .
فإن قلت: قال الترمذي: سمعت محمدا يقول: حديث سفيان أصح من حديث شعبة، وأخطأ شعبة في مواضع فقال: عن حجر أبي العنبس، وإنما هو حجر بن العنبس، ويكنى أبا السكن، وزاد فيه علقمة وليس فيه علقمة وإنما هو حجر عن وائل، وقال: خفض بها صوته وإنما هو مد بها صوته.
قلت: تخطئه مثل شعبة خطأ، وكيف وهو أمير المؤمنين في الحديث وقوله حجة هو ابن عنبس وليس بأبي عنبس، وليس هو كما قاله بل هو ابن عنبس، وجزم به ابن حبان في " الثقات "، فقال: كنيته كاسم أبيه. وقول محمد: كونه أبا السكن لا ينافي أن يكون كنيته أيضا أبا عنبس؛ لأنه لا مانع أن يكون لشخص كنيتان المختار، زاد فيه علقمة لا يضر لأن الزيادة كانت من الثقة مقبولة، ولا سيما من قبل شعبة. وقوله: قال وخفض بها صوته وإنما هو ومد بها صوته، يؤيده ما رواه الدارقطني عن وائل بن حجر قال: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجمعة حين قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال: آمين، وأخفى صوته» . وحجر بضم الجيم. وعنبس بفتح العين المهملة وسكون النون وفتح الباء الموحدة وفي آخره سين مهملة.
م: (لما روينا من حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: وهو الذي ذكره فيما تقدم عن قريب عند قوله: ويلزمها، وقد مر الكلام فيه مستقصى م: (ولأنه) ش: أي ولأن التأمين أي التلفظ به.
(دعاء فيكون مبناه على الإخفاء) ش: أي الأصل فيه الإخفاء، قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] (الأعراف: الآية 55) ، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خير الدعاء ما خفي وخير الرزق ما يكفي» ولأن بإخفائها يقع التمييز بين القرآن وغيره، فإنه إذا جهر بها مع الجهر بالفاتحة يلبس أنها(2/217)
والمد والقصر فيه وجهان والتشديد فيه خطأ فاحش.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من القرآن.
فإن قلت: ورد الجهر والإخفاء فماذا يعمل؟.
قلت: إذا تعارضت الأخبار والآثار يعمل بالأصل [والأصل] في الدعاء الإخفاء كما ذكرنا، أو يحمل ما فيه على أنه وقع اتفاقا وعلى التعليم أو على أصل الأمر.
وفي " المحيط " و " فتاوى الظاهرية ": لو سمع المقتدي من الإمام: ولا الضالين، في صلاته يجهر بها، هل يؤمن؟ قال بعض مشايخنا: لا يؤمن لأن ذلك الجهر لغو فلا يتبع وعن الهندواني: يؤمن لظاهر الحديث.
م: (والمد والقصر فيها وجهان) ش: أي مد ألف آمين وقصرها فيه لغتان، وفي " الخلاصة ": المد اختيار الفقهاء لموافقته للمروي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والقصر اختيار الأصوليين، وعلى الوجهين هو مبني على الفتح قطعا كيف كان لاجتماع الساكنين. وفي " الجنازية ": فيه أربع لغات: فتح الألف ومدها وقصرها، وفتح النون في الوجهين وتسكينه، وحكى الواحدي فيه لغة أخرى وهو إمالة مع. وحكي أيضا المد والتشديد.
قال: وروي ذلك عن الحسن. وحكى القاضي عياض عنه أنها مردودة. وقال ابن السكيت وغيره من أهل اللغة: على أن التشديد لغة العوام وهو خلاف المذاهب الأربعة.
واختلف الشافعية في بطلان الصلاة بذلك، وفي " التجنيس ": ولو قال آمين بتشديد الميم في آمين لا تفسد، أشار إليه المصنف بقوله: م: (والتشديد فيه خطأ فاحش) ش: أي تشديد الميم فيه، ولكنه لم يذكر هنا فساد الصلاة به ها هنا لأن فيه خلافا، وهو أن الفساد، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما لا تفسد لأنه يوجد في القرآن مثله وهو قَوْله تَعَالَى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] م: (المائدة: الآية 2) وعلى قولهما الفتوى، فلذلك لم يتعرض إلى الفساد هنا.
وأما معنى آمين رواية وأصله فوزنه ليس من أوزان كلام العرب وهي مثل هابيل وقابيل، وأصله يا ألله استجب دعاءنا، اسم من أسماء الله تعالى، إلا أنه أسقط ياء النداء فأقيم المد مقامه، فلذلك أنكر جماعة القصر فيه، وقالوا: المعروف فيه المد، وهو اسم فعل مثل صه بمعنى اسكت، ويوقف عليه بالسكون، فإن وصل بغيره تحرك لالتقاء الساكنين، ويفتح طلبا للخفة لأجل البناء كأين وكيف، أو معناه، فقيل: لكن كذلك، وقيل: أعقل، وقيل: لا يخيب رجانا. وقيل: لا يقدر على هذا غيرك. وقيل: طالع الله على عباده يدفع به عنهم الآفات. وقيل: هو كنز من كنوز العرش لا يعلم تأويله إلا الله، وقيل: اسم من أسماء الله تعالى.(2/218)
قال: ثم يكبر ويركع، وفي " الجامع الصغير ": ويكبر مع الانحطاط،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال النووي: وهو ضعيف. وفي " المنافع ": قيل: هو معرب همين وعن أبي زهير البحتري قال: «وقف رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على رجل ألح في الدعاء فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "وجب؛ أي ختم، فقال رجل من القوم: بأي شيء يختم؟ فقال: بآمين، فإنه إن ختم بآمين فقد وجب» رواه أبو داود، وأبو زهير اسمه معاذ.
وفي " المجتبى ": لا خلاف أن آمين ليس من القرآن حتى قالوا بارتداد من قال: إنه منه، وأنه مسنون في حق المنفرد والإمام والمأموم والقارئ خارج الصلاة.
واختلف القراء في التأمين بعد الفاتحة إذا أراد ضم السورة إليها، والأصح أنه يأتي بها.
فروع: ينبغي أن يراوح المصلي بين قدميه في القيام، وهو أفضل من أن ينصبهما نصبا، والرواية إن تمكن على هذا القدم مرة وعلى الأخرى مرة، نص عليه عن أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله في صلاة الأكثر، ولم يرو عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافه. وفي " النسفي " أي الاستراحة من رجل إلى رجل أخرى مكروهة ومثله في " المرغيناني "، وكذا القيام على إحدى الرجلين إلا لعذر.
وفي " الواقعات ": ينبغي أن يكون بين قدمي المصلي قدر أربع أصابع اليد لأنه أقرب إلى الخشوع، والمراد من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الصقوا الكعاب بالكعاب» اجتماعهما.
[التكبير قبل الركوع وبعد الرفع منه]
م: (قال: ثم يكبر ويركع) ش: أي بعد الفراغ من قراءة الفاتحة وضم السورة يكبر ويركع، وهذا يقتضي أن يكون التكبير في محل القيام، وهذه رواية القدوري، وبه قال بعض مشايخنا.
(وفي " الجامع الصغير " ويكبر مع الانحطاط) ش: وهذا يقتضي مقارنة التكبير للركوع لأن كلمة مع للمقارنة، وبه قال بعض مشايخنا، وإنما صرح " بالجامع الصغير " لأن دأبه إذا وقع نوع مخالفة بين رواية " الجامع الصغير " ورواية " القدوري " التصريح بلفظ الجامع الصغير.
وفي " شرح الإرشاد ": ينبغي أن يكون بين حالة الانحناء وحالة الرفع لا في حالة الاستواء ولا في حالة تمام الانحناء. وقال بنو أمية: لا يكبر حال ما يركع بل يكبر حال ما يرفع رأسه من الركوع لأنه روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فعل هذا، وأن الحديث الذي يأتي لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كان يكبر عند كل خفض ورفع، المراد بالخفض والرفع ابتداء كل ركن وانتهاؤه، ومعناه: الله أعظم من أن يؤدى حقه بهذا القدر من العبادة، لا يقال: إذا كان المعنى هذا فلم لا يكبر عند رفع الرأس من الركوع، لأنا نقول: المراد من التكبير أن لا يخلو جزء من أجزاء الصلاة خاليا عن الذكر، فبعد الركوع الإمام يسمع والمقتدي يحمد والمنفرد يأتي بهما، فلا يخلو ذلك الجزء عن الذكر، فلم يسن التكبير لأجل هذا.(2/219)
«لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، كان يكبر عند كل خفض ورفع، ويحذف التكبير حذفا؛»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كان يكبر عند كل خفض ورفع) ش: هذا دليل قوله ثم يكبر، والحديث رواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الرحمن بن الأسود بن علقمة، رواه الأسود عن عبد الله بن مسعود قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود، وأبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -» قال الترمذي: حديث حسن صحيح، رواه أحمد وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه والدارقطني في "مسانيدهم" والطبراني في "معجمه ".
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي سلمة «عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يصلي بهم فيكبر كلما خفض ورفع، فلما انصرف قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -.
وفي " الموطأ " عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عن ابن شهاب الزهري عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع، فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله عز وجل» .
وقد قلت: ينبغي الخفض والرفع، ومذهب الشافعي في هذا كما ذكر في " الجامع الصغير ". وقال الطحاوي: يخر راكعا مكبرا، وفي " خزانة الأكمل ": لا يكره وصل القراءة بتكبير الركوع.
وعن أبي يوسف: ربما فعلت وربما تركت. وقال أبو حفص: فعلها وصلا وربما أن أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ترك الأفضل خلافا للرافضة.
وفي " المجتبى ": واختلف في وقت الركوع والأصح أنه بعد الفراغ من القراءة، وقال: إنه في حالة الخروج حرف أو كلمة عن القراءة لا بأس به، ثم هذه التكبيرات كلها سنة عند الجمهور من الصحابة والتابعين والعلماء من بعدهم. وقال ابن المنذر: وبه قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وجابر والشعبي والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ومالك والشافعي، - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وروي عن سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري: أنه لا يشرع إلا بتكبيرة الإحرام بلفظه، ونقله ابن المنذر أيضا عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر، ونقله ابن بطال في "شرح البخاري " عن جماعة منهم معاوية وابن سيرين وسعيد بن جبير.
وقال البغوي: اتفقت الأمة أنها سنة وليس كما قاله، وقد قالت الظاهرية وأحمد في رواية أنها واجبات.
م: (ويحذف التكبير حذفا) ش: أي لا يمد في غير موضع المد، والحذف في الأصل الإسقاط،(2/220)
لأن المد في أوله خطأ من حيث الدين، لكونه استفهاما، وفي آخره لحن من حيث اللغة.
ويعتمد بيديه على ركبتيه ويفرج بين أصابعه؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويعتبر به عن ترك التطويل والتخليط في القراءة.
(لأن المد في أوله خطأ من حيث الدين لكونه استفهاما) ش: أي في أول التكبير، وهو الهمزة، فإذا مدها عامدا يكفر، ولا تجوز صلاته لكونه شاكا في كبرياء الله تعالى باستفهامه، هكذا قاله الأترازي، والذي قاله المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو الحق لأن الهمزة للإنكار، لكن من حيث إنها تجوز أن تكون للتقرير لا يلزمه الكفر.
وفي " الخلاصة ": لو قال: الله أكبر، بمد الألف من أكبر، تكلموا في كفره، ولا تجوز صلاته لأنه إن لزمه الكفر فظاهر، وإن لم يلزمه يكون كلاما فيه احتمال الكفر فيخشى عليه الكفر، وهو خطأ أيضا شرعا، لأن الهمزة إذا دخلت على كلام منفي كما في قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] (الانشراح: آية1) ، تكون للتقرير بخلاف الكلام المثبت، وفيه ضعف من حيث اللغة وذلك لأن العرف بالقرآن.
م: (وفي آخره لحن من حيث اللغة) ش: أي المد في آخر التكبير، وهو أن يمد الباء؛ أي خطأ من لحن الكلام فيه في كلامه إذا أخطأ، يقال: فلان لحان ولحانة؛ أي مخطئ، ولكن لا تفسد صلاته. وعن بعض المشايخ: لا يصير شارعا، ولو شرع تفسد صلاته، وبه قال الفقيه أبو جعفر.
وفي " المبسوط ": ولو مد ألف الله لا يصير شارعا، وخيف عليه الكفر إن كان قاصدا، وكذا لو مد ألف أكبر، وكذا لو مد باءه لا يصير شارعا، لأن إكبار جمع كبر، فكان فيه إثبات الشركة. وقيل: إكبار اسم للشيطان. وقيل: إكبار جمع كبر وهو الطبل.
فإن قلت: يجوز أن تشبع فتحة الباء، فصارت ألفا.
قلت: هذا في ضرورة الشعر، ويجزم الراء في أكبر، وإن كان أصله الرفع بالخبرية، لأنه روي عن إبراهيم التكبير جزم والسلام جزم، وفي رواية: والإقامة جزم أيضا، وهو بالجيم والزاي، وروي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حزم بالحاء المهملة والزاء المعجمة، ومعناه سريع، والجزام في اللسان السرعة ومنه حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاجزم.
م: (ويعتمد بيديه على ركبتيه) ش: أي يعتمد المصلي بيديه على ركبتيه في الركوع (ويفرج بين أصابعه) ش: يعني لا يضمها، وبه قال الثوري والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق. وذهب جماعة إلى التطبيق بين ركبتيهم إذا ركعوا، وصورته أن يضم إحدى ركبتيه إلى الأخرى ويرسلهما إلى بين فخذيه. وفي " المبسوط ": كان ابن مسعود وأصحابه يقولون بالتطبيق.
وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضع يديه على ركبتيه في الركوع، ونقله عمر(2/221)
لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذا ركعت فضع يديك على ركبتيك وفرج بين أصابعك» ، ولا يندب إلى التفريج إلا في هذه الحالة، ليكون أمكن من الأخذ، ولا إلى الضم إلا في حالة السجود وفيما وراء ذلك يترك على العادة.
ويبسط ظهره؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كان إذا ركع بسط ظهره»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعلي وسعيد وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وجماعة، وقد ثبت نسخ التطبيق. قال مصعب بن سعيد بن أبي وقاص: «فجعلت يدي بين ركبتي فنهاني أبي فقال: "كنا نفعل هذا فنهينا عنه، وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب» متفق عليه. وفي " شرح الإرشاد ": عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ما فعل التطبيق إلا مرة واحدة.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذا ركعت فضع يديك على ركبتيك وفرج بين أصابعك» ش: هذا الحديث أخرجه الطبراني في "معجمه الصغير" و "الأوسط " من طريق سعيد بن المسيب عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة وأنا يؤمئذ ابن ثمان سنين، الحديث مطولا، وفيه: «يا بني إذا ركعت فضع كفيك على ركبتيك وفرج بين أصابعك وارفع يديك عن جنبيك» ورواه أبو سعيد الموصلي أيضا في "مسنده ". وعن أبي مسعود وعقبة بن عامر: «أنه ركع فجافى يديه ووضعهما على ركبتيه وفرج بين أصابعه من وراء ركبته، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي» رواه أبو داود والترمذي وأحمد.
م: (ولا يندب إلى التفريج إلا في هذه الحالة) ش: أي لا يستحب تفريج الأصابع أي كشفها إلا في حالة الركوع. (ليكون أمكن من الأخذ) ش: بالركب وبه يأمن السقوط (ولا إلى الضم إلا في حالة السجود) ش: أي ولا يندب إلى ضم الأصابع إلا في حالة السجود، ولأن اليد أقوى في الإقعاد عليها وازدياد قوتها عند الضم، ولتقع رؤوس الأصابع مواجهة إلى القبلة. م: (وفيما وراء ذلك يترك على العادة) ش: أي فيما وراء الركوع والسجود ترك الأصابع على العادة، يعني لا يفرج كل التفريج ولا يضم كل الضم كما هو العادة، وما روي من نشر الأصابع في رفع اليدين عند التحريمة فهو عندنا محمول على النشر الذي هو ضد الطي لا التفريج بين الأصابع.
م: (ويبسط ظهره) ش: في الركوع م: (لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كان إذا ركع بسط ظهره)(2/222)
ولا يرفع رأسه ولا ينكسه؛ «لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - "كان إذا ركع لا يصوب رأسه ولا يقنعه» ،
ويقول: سبحان ربي العظيم، ثلاثا، وذلك أدناه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: الحديث رواه أبو العباس محمد بن السراج في "مسنده " من حديث البراء قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا ركع بسط ظهره وإذا سجد وجه أصابعه قبل القبلة» .
وروى ابن ماجه من حديث راشد قال: سمعت وابصة بن معبد يقول: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي فكان إذا ركع سوى ظهره حتى لو صب عليه الماء لاستقر» . وروى الطبراني من حديث ابن عباس مثل وابصة سواء، وروى أيضا من حديث أبي بردة الأسلمي مثله.
م: (ولا يرفع رأسه) ش: أعلى من عجزه ولا عجزه أعلى من رأسه م: (ولا ينكسه) ش: أي ولا ينكس رأسه أي لا يطأطئه، يقال: نكست الشيء أنكسه نسكا: إذا قلبته على رأسه ونكسته تنكسيا، وإنما يسمى المطأطئ رأسه. وحاصله أنه يسوي رأسه بعجزه.
م: (لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان إذا ركع لا يصوب رأسه ولا يقنعه) ش: والحديث رواه الترمذي من حديث أبي حميد الساعدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مطولا وفيه: «ثم قال: الله أكبر، ثم اعتدل ولم يصوب رأسه ولم يقنع» وقال: حديث حسن صحيح. رواه ابن حبان في "صحيحه ".
وروى مسلم من حديث عائشة مطولا وفيه: «وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه، ولكن بين ذلك» . وفي البخاري في حديث: «ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه ثم يعتدل فلا ينصب رأسه ولا يقنع» .
قوله: ولا يصوب، من صوب رأسه: إذا خفضه، وكذلك صبى، وفي رواية: لا يصبي رأسه، يقال: صبى رأسه يصبيه: إذا خفضه جدا.
قوله: ولا يقنعه، من " الإقناع " يقال: أقنع رأسه: إذا رفعه، ومنه قَوْله تَعَالَى: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} [إبراهيم: 43] (إبراهيم: الآية 43) .
[قول سبحان ربي العظيم في الركوع]
م: (ويقول: سبحان ربي العظيم ثلاثا) ش: أي ثلاث مرات، هذا قول عامة أهل العلم، يختارون التسبيح للركوع، وأن لا ينتقص عن ثلاث، وهو مذهب أحمد، وأشار إلى ذلك بقوله: م: (وذلك أدناه) ش: أي القول ثلاث مرات أدناه. واختلفوا في الضمير الذي في أدناه فقيل: يرجع إلى المصدر الذي دل عليه قوله: ويقول في أدنى القول المسنون، وقال الشيخ حافظ الدين: راجع إلى الاستحباب أو الندب، فإن الركوع بدون هذا الذكر جائز، وقيل: أدنى كمال التسبيح(2/223)
لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا ركع أحدكم فليقل في ركوعه: سبحان ربي العظيم» ، ثلاثا، وذلك أدناه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المسنون. وقيل: أدنى التسبيح المسنون.
قلت: على كل، التقدير هو إضمار قبل الذكر، ولكن يفتقر إلى هذا إذا دلت قرينة على ذلك كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت» . أي فبالسنة أحسن ونعمت الخصلة.
وفي " الذخيرة ": إذا زاد على الثلاث في تسبيحات الركوع والسجود فهو أفضل، هذا إن كان الختم على وتر فيقول خمسا أو سبعا، هذا في حق المنفرد، وأما الإمام فلا ينبغي له أن يطول على وجه يمل القوم.
وقال الثوري: يقول الإمام خمسا ليتمكن القوم أن يقولوا ثلاثا.
وفي " شرح الطحاوي ": قيل: يقول الإمام ثلاثا، وقيل: يقول أربعا ليتمكن المقتدي من أن يقول ثلاثا.
وفي " التحفة ": المقتدي يسبح إلى أن يرفع الإمام رأسه.
وفي " الغزنوي ": إن زاد على الثلاث حتى ينتهي إلى اثنتي عشرة فهو أفضل عند الإمام ليكون جمع الجمع.
قلت: ينبغي أن يكون تسعا. قال: وعند صاحبيه إلى سبع لأنها عدد كامل. وعند الشافعي: عشرة لانتهاء الركعة، وإذا ترك التسبيح أصلا أو أتى به مرة فقد روي عن محمد أنه يكره.
وفي " الحاوي ": التسبيح في الركوع لا يكون أقل من ثلاث، حتى لو رفع الإمام رأسه أتم المقتدي تسبيحه ثلاثا، روي كذا عن المرغيناني.
وقال أبو الليث: الصحيح أنه تابع للإمام، وقال الوبري: يقول الإمام في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاثا على تؤدة حتى يتمكن القوم من أن يقولوا ثلاثا قبل رفع رأسه، وعن الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التسبيح التام سبع والوسط خمس وأدناه ثلاث، وكان عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يسبح عشر تسبيحات.
وقال الشافعي وأحمد رحمهما الله: واحدة، ولو سبح مرة كان آتيا بسنة التسبيح عندهما، والكمال عند الشافعي أحد عشر.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ركع أحدكم فليقل في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاثا، وذلك أدناه» ش: هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث عون بن عبد الله عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات سبحان ربي العظيم(2/224)
أي أدنى كمال الجمع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل: سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات، وذلك أدناه» هذا لفظ أبي داود وابن ماجه.
ولفظ الترمذي: «إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات فقد تم ركوعه، وذلك أدناه، وإذا سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تم سجوده وذلك أدناه» .
وقال أبو داود: وهذا مرسل، وعون بن عبد الله لم يدرك عبد الله بن مسعود. وقال الترمذي: هذا الحديث ليس إسناده بمتصل، عون لم يلق عبد الله.
م: (أي أدنى كمال الجمع) ش: هذا تفسير المصنف معنى قوله: وذلك أدناه، بقوله: أي كمال الجمع؛ جمعا بين لفظي " المبسوطين "، فإن شمس الأئمة في "مبسوطه " لم يرد بهذا اللفظ أدنى الجواز إنما المراد به أدنى الكمال، فإن الركوع والسجود يجوز بدون هذا الذكر. وقال شيخ الإسلام في "مبسوطه": يريد به أدنى من حيث جمع العدد؛ فإن أقل جمع العدد ثلاثا، والمصنف جمع بينهما فقال: إن كمال الجمع قلته أخذ كلام السغناقي، وليس له وجه لأن الجمع ليس له ذكر في الحديث ولا له معنى، بل الصواب أدنى كمال السنة، أو أدنى كمال التسبيح، ثم قال الأكمل: فإن قيل: المشهور في مثله أدنى الجمع ثلاثة فما معنى كمال الجمع، فالجواب: أن أدنى الجمع لغة يتصور في الاثنين لأن فيه جمع واحد مع واحد، وأما كماله فهو ثلاثة لأن فيه معنى الجمع لغة واصطلاحا وشرعا.
فإن قيل: كمال الجمع ليس بمذكور ولا يحكمه فيرجع إلى غير مذكور، أجيب بأنه سبق ذكره دلالة بذكر الثلاث.
قلت: إذا أطلق الجمع لا يراد به المعنى اللغوي، وقوله: وأما كماله فهو ثلاثة. ليس كذلك بل الثلاث أقل الجمع وكماله ليس له نهاية.
فروع متعلقة بالركوع: قال مالك: ليس عندنا ذكر محدود في الركوع والسجود، وأنكر قول الناس في الركوع: سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى، وقال: لا أعرفه وإن قاله جاز، قال صاحب " المنظومة " في مقالة مالك: وترك تسبيح السجود يفسد، ليس مذهبه والنقل به عنه غير صحيح. وعند أبي صالح البلخي تلميذ أبي حنيفة: ذكر التسبيحتين في الركوع والسجود ثلاث مرات فرض، وتكره قراءة القرآن في الركوع والسجود بإجماع الأئمة(2/225)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأربعة.
وفي " المحيط ": متى محل القعدة؟ قال محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: محلها عند الركوع، وقال أبو يوسف: عند السجود، وقيل: هذان بعيدان لأن وضع اليدين على الركبتين سنة فلا بد من محلها للوضع.
وفي " الروضة ": يكره أن يجيء ركبته فيها شبه القوس عند أهل العلم.
وفي " الذخيرة ": سمع الإمام في الركوع خفق النعال ينتشر، قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن أبي ليلى عن ذلك فكرهاه، وقال أبو حنيفة: أخشى عليه أمرا عظيما، يعني الشرك. وروى هشام عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه كره ذلك، وعن مطيع أنه كان لا يرى به بأسا، وبه قال الشعبي إذا كان ذلك مقدار التسبيحة أو التسبيحتين، وقال بعضهم: يطول التسبيحات ولا يزيد في العدد. وقال أبو القاسم الصفار: إن كان الجائي غريبا لا يجوز وإن كان مقيما يجوز انتظاره. وقال أبو الليث: إن كان الإمام عرف الجائي لا ينتظره، وإن لم يعرفه فلا بأس به إذ فيه إعانة على الطاعة، وقيل: إن طال الركوع لإدراك الجائي خاصة، ولا يزيد إطالة الركوع للتقرب إلى الله تعالى، فهذا مكروه، وقيل: إن كان الجائي شريرا ظالما لا يكره دفعا لشره، ومن أدرك الإمام في الركوع فقد أدرك الركعة بخلاف القومة.
وفي قول ابن أبي ليلى ورواية عن الحسن وظاهر قول أحمد: إذا أدركه في طمأنينة الركوع يصير مدركا للركعة. وعن ابن عمر، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قالا: إن وجدهم وقد رفعوا رءوسهم من الركوع كبر وسجد ولم يعتد بها.
وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن المسيب وميمون: من يكبر قبل أن يرفعوا رءوسهم فقد أدرك الركعة، ويأتي بتكبيرة أخرى للركوع، فإن اقتصر على الأولى جاز، وروي ذلك عن عمر، وزيد بن ثابت، وابن المسيب، وعطاء، والحسن، والنخعي، وميمون بن مهران، والحكم، والثوري، ومالك، والشافعي، وأحمد.
وعن عمر بن عبد العزيز أن عليه تكبيرتين، وهو قول حماد بن سليمان، شيخ الإمام، هذا إذا نوى بالأولى الافتتاح، وكذا لو نوى بها الركوع عندنا جاز ولغت نيته، ذكره في " المحيط " و " المرغيناني ".
وعند أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز، وإن لم ينو الركوع ولا الافتتاح جاز عنده، وإن نواهما جاز اتفاقا. وفي " الذخيرة ": إذا أدرك الإمام في السجدة الأولى والثانية أتى بالبناء وترك التعوذ ثم خر ساجدا.(2/226)
ثم يرفع رأسه ويقول: سمع الله لمن حمده، ويقول المؤتم: ربنا لك الحمد، ولا يقولها الإمام عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وقالا: يقولها في نفسه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[قول سمع الله لمن حمده]
م: (ثم يرفع رأسه ويقول: سمع الله لمن حمده) ش: أي ثم يرفع المصلي رأسه من الركوع ويقول: سمع الله لمن حمده، يقال له: استمعت، وتسمعت إليه وسمعت له، وكل بمعنى أي أضيفت إليه، قال الله تعالى: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} [فصلت: 26] (فصلت: الآية 26) ، وقال الله تعالى: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} [الصافات: 8] (الصافات: الآية 8) ، المراد منه التسميع مجاز بطريق إطلاق اسم السبب وهو الإصغاء على المسبب وهو القبول والإجابة، أي أجاب له، وقيل: يعني قبل الله حمد من حمده، يقال: سمع الأمير كلام فلان: إذا قبله، ويقال: ما سمع كلامه؛ أي رده ولم يقبله وإن سمعه حقيقة. وفي الحديث: «أعوذ بك من دعاء لا يسمع» أي لا يستجاب.
وفي " الفوائد الحميدية ": الهاء في حمده للسكتة والاستراحة لا للكناية، كذا نقل عن الثقات. وفي " المستصفى ": الهاء للكناية كما في قوله: واشكروا له.
م: (ويقول المؤتم: ربنا لك الحمد) ش: أي المقتدي يقول: ربنا لك الحمد؛ ليوافق مبدأ الركعة بالحمد لله رب العالمين، ويختمها بربنا لك الحمد، وفي " شرح الطحاوي ": اختلفت الأخبار في التحميد، في بعضها يقول: ربنا لك الحمد، وفي بعضها: اللهم ربنا لك الحمد، وفي بعضها: اللهم ربنا ولك الحمد، والأول أظهر.
وقلت: ثبت في الأحاديث الصحيحة من روايات كثيرة: ربنا لك الحمد، ولك الحمد بالواو، واللهم ربنا لك الحمد، والكل صحيح. قال في " المحيط " و " الذخيرة ": اللهم ربنا لك الحمد أفضل لزيادة الثناء. وعن الفقيه أبي جعفر أنه قال: هذه زائدة، يقول العرب يعني هذا الشراب فيقول المخاطب: نعم، وهو لك بدرهم، فالواو زائدة، وقيل: يحتمل أن تكون عاطفة على محذوف أي: ربنا حمدناك ولك الحمد.
م: (ولا يقولها الإمام عند أبي حنيفة) ش: أي لا يقول الإمام: ربنا لك الحمد عند أبي حنيفة، وبه قال مالك وأحمد وحكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وأبي هريرة والشعبي، قال: وبه أقول.
م: (وقالا: يقولها في نفسه) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد: يقول الإمام: ربنا لك الحمد، سرا، وهو معنى قوله في نفسه، وبه قال الثوري والأوزاعي وأحمد في رواية، ويقتصر المأموم على ربنا لك الحمد، وقال الشافعي: يستحب له أن يقول: سمع الله لمن حمده، فإذا استوى فإنما يستحب له أن يقول: "ربنا [لك] الحمد ملء السموات والأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، كلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد"، هذا في كتبهم، والذي في الحديث أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد بالواو في كلنا.(2/227)
لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - "كان يجمع بين الذكرين» ، ولأنه حرض غيره فلا ينسى نفسه. وله قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: في " سنن النسائي ": يحذفها، ويستوي عندهم في استحباب الأذكار الإمام والمأموم والمنفرد، وبه قال عطاء وابن سيرين وداود وجد أصحابنا هذا وأمثاله في النوافل، ويدل عليه حديث ابن أبي ليلى أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - زاد بعد ذلك: «اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس» رواه مسلم، هذا كله لا يقال في الفرض اتفاقا.
م: (لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجمع بين الذكرين» ش: يعني سمع الله لمن حمده، وربنا لك الحمد. وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «كان النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذا أقام الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد، ثم يكبر حين يهوي ساجدا» .
وأخرج البخاري عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا افتتح رفع يديه حذو منكبيه" وفيه: "وكان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد» .
وأخرج مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع قال: "سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد» .
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الإمام م: (حرض غيره فلا ينسى نفسه) ش: لئلا يدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] (البقرة: الآية 44) وفى " فتاوى الظاهرية ": كان الفضلي والطحاوي وجماعة من المتأخرين يميلون إلى قوله، وهو قول أهل المدينة، فاختاروا قولهما، وفي " المحيط ": قولهما رواية إسحاق عن أبي حنيفة.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة (قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال الإمام: سمع لله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد» ش: روي هذا الحديث عن أنس، وأبي هريرة، وأبي موسى، وأبي سعيد الخدري، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. أما حديث أنس وأبي هريرة فرواه البخاري ومسلم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد» .
وأما حديث أبي موسى الأشعري فرواه مسلم والنسائي وابن ماجه وأحمد عنه أن رسول الله(2/228)
هذه قسمة، وأنها تنافي الشركة، ولهذا لا يأتي المؤتم بالتسميع عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولأنه يقع تحميده بعد تحميد المقتدي، وهو خلاف موضوع الإمامة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قال الإمام سمع الله من حمده فقولوا: ربنا لك الحمد يسمع الله لكم» .
وأما حديث أبي سعيد الخدري فرواه الحاكم في "مستدركه " عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال الإمام الله أكبر، فقولوا: الله أكبر، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد» : وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه.
م: (هذه قسمة) ش: أي هذه الكلمات المذكورة وهي الحديث قسمة؛ أي ذات قسمة لأنه قسم التسميع والتحميد فجعل التسميع للإمام والتحميد للمأموم (وأنها) ش: أي ولأن القسمة (تنافي الشركة) ش: أي تقطعها، كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» وقال الأكمل: فإن قيل: هذا الحديث يعارضه ما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "أربع يخفيهن الإمام، وعد منها التحميد".
أجيب: بأنه قال في " الأسرار " أنه غريب.
قلت: هذا أخذه من السغناقي، ولكن الآخذ والمأخوذ منه لو تأمل هذا الموضوع لم يورد هذا السؤال ولا الجواب عنه لأنه ساقط جدا، فمن أين المعارضة هاهنا والحديث مذكور في " الصحيحين ". وما روي عن ابن مسعود موقوف عليه، مع أنه لم يصل إلى الصحة عنده. وقال الأكمل أيضا: أو بأن الرجحان بحديث القسمة لأنه مرفوع إلى النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - برواية أبي موسى الأشعرى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قلت: إنما يطلب الرجحان من الخبرين إذا كانا ثابتين فظهر التعارض بينهما، وأما إذا كان أحدهما مرفوعا صحيحا والآخر موقوفا لم تثبت صحته، فكيف يقال بالرجحان؟.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كون القسمة تنافي الشركة (لا يأتي المؤتم بالتسميع عندنا) ش: لأن الذي أصابه من القسمة التحميد لا التسميع معه م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن عنده المؤتم يجمع بينهما، وروي عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الإمام والمؤتم يجمعان بين التسميع والتحميد كما هو مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكر الأقطع هذه الرواية في " شرحه للقدوري " وهذه رواية شاذة.
م: (ولأنه يقع تحميده) ش: دليل آخر؛ أي ولأن الشأن يقع تحميد الإمام م: (بعد تحميد المقتدي وهو خلاف موضوع الإمامة) ش: لأن الاقتداء عقد موافقة ومتابعة لا مسابقة، وفيه نظر لإمكان(2/229)
والذي رواه محمول على حالة الانفراد، والمنفرد يجمع بينهما في الأصح، وإن كان يروى الاكتفاء بالتسميع، ويروى بالتحميد، والإمام بالدلالة عليه آت به معنى.
قال: ثم إذا استوى قائما كبر وسجد، أما التكبير والسجود فلما بينا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مقارنة تحميد المقتدي، وفيه نظر م: (والذي رواه) ش: أي الحديث الذي رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كان يجمع بين الذكرين» (محمول على حالة الانفراد) ش: أي على حالة انفراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة النقل توفيقا بين الحديثين (والمنفرد يجمع بينهما) ش: أي بين التسميع والتحميد (في الأصح) ش: أي في الأصح من الروايات عن أبي حنيفة، فإنه جاء عنه في رواية ذكرها الصدر الشهيد في شرح " الجامع الصغير " أن المنفرد يأتي بالتسميع لا غير، وجاء في رواية رواها الحسن عنه أنه يأتي بهما، كما هو مذهبنا، وجاء عنه في رواية أنه لا يجمع بينهما، وأشار المصنف إلى أن الأصح من هذه الروايات هو رواية الجمع بينهما. وفي "شرح الأقطع ": الصحيح أنه لا يأتي بهما. وروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يأتي بالتحميد لا غير، قال في " المبسوط ": وهو الأصح، قال قاضي خان: وعليه أكثر مشايخنا.
م: (وإن كان يروى الاكتفاء بالتسميع ويروى بالتحميد) ش: كلمة إن واصلة لما قبلها، وأشار بهذا إلى أن ها هنا روايتين أخريين، إحداهما: الاكتفاء بالتسميع والأخرى بالتحميد، وأن الرواية التي رويت بالجمع بينهما هي الأصح من هاتين الروايتين، ورواية الاكتفاء بالتسميع هي رواية " النوادر "، ورواية الاكتفاء بالتحميد هي رواية " الجامع الصغير ".
م: (والإمام بالدلالة عليه آت به معنى) ش: هذا جواب عن قولهما أنه حرض غيره فلا ينسى نفسه، تقريره: لا نسلم أن الإمام ينسى نفسه، لأنه أتى بالتحميد أيضا بدلالة غيره عليه؛ أي على التحميد لأن الدال على الخير كفاعله بالحديث.
فإن قلت: مثل هذه الدلالة موجود في حق المنفرد أيضا فينبغي أن يكتفي هو بالتسميع.
قلت: لا دلالة على اكتفاء المنفرد بالتسميع من جهة الشارع بخلاف الإمام، فإنه قام الدليل على ترك التحميد في حقه، وفي " المجتبى " ثم في الرواية التي يجمع بينهما يأتي بالتسميع حال الرفع.
م: (ثم إذا استوى قائما) ش: قال: ربنا لك الحمد ثم إذا استوى قائما (كبر وسجد) ش: أي بعد فراغ المصلي عن الركوع إذا استوى حال كونه قائما منتصبا يقول الله أكبر ويهوي للسجود م: (أما التكبير والسجود فلما بينا) ش: أراد به بين التكبير قبل هذا بقوله: لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يكبر عند كل خفض ورفع، وبين السجود في أول الباب بقوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] (الحج: الآية 77) .(2/230)
وأما الاستواء قائما فليس بفرض، وكذا الجلسة بين السجدتين، والطمأنينة في الركوع والسجود، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف: يفترض ذلك كله، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وأما الاستواء قائما فليس بفرض) ش: وهو الذي يسمى القومة (وكذا الجلسة بين السجدتين) ش: أي ليست بفرض (والطمأنينة في الركوع والسجود) ش: أي وكذا الطمأنينة في الركوع ليس بفرض في نفس الركوع ونفس السجود، والطمأنينة مصدر من اطمأن الرجل اطمئنانا وطمأنينة، أي سكن، وهو مطمئن إلى كذا وكذا طبأن بالباء الموحدة على الإبدال، وهذا مزيد الرباعي وأصله طمأن على وزن فعلل فنقل إلى باب افعلل بالتشديد في اللام الأخيرة، فصار اطمأن، وأصله اطمأن، فنقلت حركة النون الأولى إلى الهمزة، وأدغمت النون في النون مثل اقشعر، أصله اقشعرر ورباعيه قشعر على ما عرف في موضعه.
م: (وهذا) ش: أي الذي ذكرنا من عدم فرضية القومة والجلسة والطمأنينة (عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله) ش: وبه قال بعض أصحاب مالك، فإذا لم تكن هذه الأشياء فرضا عندهما فهي سنة، وهذا في تخريج الجرجاني، وفي تخريج الكرخي واجبة، ويجب سجود السهو بتركها. وفي " الجواهر" للمالكية: لو لم يرفع رأسه من ركوعه، وجبت الإعادة في رواية ابن القاسم عن مالك، ولم يجز في رواية علي بن زياد. وقال ابن القاسم: من يرفع من الركوع والسجود رأسه ولم يعتدل يجزئه ويستغفر الله ولا يعود، وقال أشهب: لا يجزئه.
قال أبو حنيفة: إن من كان إلى القيام أقرب الأولى أن يجب، فإن قلنا بوجوب الاعتدال يجب الطمأنينة وقيل: لا تجب.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يفترض ذلك كله) ش: أي المذكور من القومة والجلسة والطمأنينة، وفي " التحفة ": فقال أبو يوسف: فرض طمأنينة الركوع والسجود مقدار تسبيحة واحدة. وفي " الأسبيجابي ": الطمأنينة ليست بفرض في ظاهر الرواية، وروي عن أبي يوسف أنها فرض. قال أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يذكر الاختلاف في الكتاب ولكن تلقيناه من أبي جعفر وكذلك لم يذكر في " الأسرار ".
م: (وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي ما ذهب إليه أبو يوسف هو قول الشافعي وبه قال أحمد أيضا. وقال إمام الحرمين: في قلبي شيء من وجوب الطمأنينة في الاعتدال، وسببه أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لم يذكرها في الاعتدال قائما وإنما ذكرها في غيره، فلو أتى بالركوع الواجب فعرضت علة منعته من الانتصاب، سجد في ركوعه وسقط عنه الاعتدال، فإن زالت العلة قبل بلوغ جبهته الأرض وجب أن يرفع وينتصب قائما ويعتدل ثم يسجد، وإن زالت بعد قطع صلاته كان عالما بتحريمه.(2/231)
لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «قم فصل فإنك لم تصل» قاله لأعرابي حين أخف الصلاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال في " المفيد " و " المنافع ": وهذه المسألة بلغت بتعديل الأركان. وقال السرخسي: من ترك الاعتدال تلزمه الإعادة، وقال أبو الليث: تلزمه الإعادة وتكون الثانية هي الفرض.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «قم فصل فإنك لم تصل، قاله لأعرابي حين أخف الصلاة» ش: الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني يا رسول الله، قال: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم اجلس حتى تطمئن جالسا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» .
وقال القعنبي: عن سعيد بن أبي سعيد المقبري [عن أبيه] عن أبي هريرة، وقال في آخره «فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك، وما انتقصت من هذا فإنما انتقصته من صلاتك» .
والترمذي رواه عن رفاعة بن رافع «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينما هو جالس في المسجد يوما، قال رفاعة: ونحن معه، إذ جاء رجل كالبدوي فصلى فأخف صلاته ثم انصرف فسلم على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال له: "وعليك، ارجع فصل فإنك لم تصل» . الحديث، وقال: حديث حسن. والنسائي رواه عن علي بن يحيى بن خلاد بن رافع بن مالك الأنصاري، حدثني أبي عن عم له بدري قال: «كنت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالسا في المسجد فدخل رجل فصلى ركعتين ثم جاء فسلم على النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وقد كان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يرمقه في الصلاة فرد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثم قال: ارجع فصل فإنك لم تصل» .. الحديث.
وأصل الحديث في " الصحيحين " عن سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ أبي داود في المسيء الصلاة، وليس فيه: إذا انتقصت من هذا فإنما ينقصه من صلاتك، والعجب من شراح " الهداية " كيف يتركون الكلام في الحديث الذي احتج به المصنف ويذكرون الأحاديث من الخارج، ومع هذا لا يتعرضون إلى بيان حالها ولا إلى مخرجها من الصحابة والرواة.
وأما الأترازي: فإنه ذكر حديث الأعرابي بقوله لأبي يوسف قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للأعرابي حين خفض الركوع والسجود قم فصل فإنك لم تصل، ولم يروه أحد من المحدثين بهذه العبارة. وقال أيضا وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إن أسوأ الناس سرقة من سرق من صلاته، ولم ينسبه إلى أحد.(2/232)
ولهما أن الركوع هو الانحناء، والسجود هو الانخفاض لغة فتتعلق الركنية بالأدنى فيهما، وكذا في الانتقال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما الأكمل فإنه قال: وأعدل أبو يوسف حديث الأعرابي وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين رآه ينقر نقر الديك: قم فصل فإنك لم تصل، ولم يرو أحد في الكتب المشهورة بهذه العبارة.
وأما صاحب " الدراية " فإنه قال ولأبي يوسف ما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: لا يقبل الله صلاة من لم يقم صلبه في الركوع والسجود، وما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رأى رجلا تاركا للتعديل فلما فرغ قال له: «إن أسوأ الناس سرقة من سرق من صلاته» ، وما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال للمسيء صلاته: «أقم الركوع حتى تعتدل قائما» . وما روي أنه رأى حذيفة بن اليمان رجلا يصلي ولا يتم الركوع والسجود فقال له: مذ كم تصلي هكذا؟ فقال: مذ كذا، فقال له: ما صليت لله صلاة، فإنك لم تصل بكذا وكذا، ومثل هذا كما ترى وليس فيه نسبة حديث إلى مخرجه ولا يتعرض إلى حاله.
وأما السغناقي فكذلك سلك مسلكهم.
وأما حديث: لا يقبل الله صلاة من لم يقم صلبه في الركوع والسجود، فقد رواه الأربعة عن عبد الله بن سخبرة عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها ظهره في الركوع والسجود» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأما حديث حذيفة فأخرجه البخاري وبعد قوله مذ كذا، قال حذيفة: ما صليت لله صلاة، وأحسبه قال: ولو مت مت على غير سنة محمد، - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد (أن الركوع هو الانحناء) ش: يقال ركع الشيخ: انحنى من الكبر، وركعت النخلة: إذا مالت إلى الأرض م: (والسجود هو الانخفاض) ش: وإمساس جبهته بالأرض عندهم أو أنفه عند أبي حنيفة، والمزيد على ذلك للأكمل وترك الأكمل لا يكون مفسدا، وهذا لأن الأمر بالفعل يوجب أصل الفعل دون الدوام عليه، ولهذا يحنث إذا حلف لا يركع بالانحناء.
م: (لغة) ش: أي من حيث اللغة، وهو يرجع إلى المذكورين (فتتعلق الركنية بالأدنى فيهما) ش: أي بأدنى الانحناء والانخفاض في الركوع والسجود، والركنية لا تثبت إلا بالنص، وإنما ورد النص بالركوع وهو الانحناء والسجود وهو الانخفاض.
م: (وكذا في الانتقال) ش: أي وكذا الطمأنينة في حال الانتقال من ركن إلى ركن، يعنى ليست(2/233)
إذ هو غير مقصود، وفي آخر ما روي تسميته إياه صلاة حيث قال: «وما نقصت من هذا شيئا فقد نقصت من صلاتك» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بفرض (إذ هو) ش: أي الانتقال م: (غير مقصود) ش: يعني لذاته، وإنما المقصود أداء الركن، وفي " الخلاصة ": والاعتدال في الانتقال سنة بالاتفاق.
م: (وفي آخر ما روي تسميته إياه صلاة حيث قال: «وما نقصت من هذا شيئا فقد نقصت من صلاتك» ش: أي تسمية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مبتدأ والضمير في إياه يرجع إلى الأعرابي، وقوله صلاة منصوب لأنه مفعول ثان للتسمية، وقوله في آخر ما روي جملة في محل الرفع لأنها وقعت خبرا للمبتدأ، وروي، يجوز أن يكون صفة المعلوم؛ أي ما رواه أبو يوسف، ويجوز أن يكون على صيغة المجهول أي فيما روي من حديث الأعرابي، وتقرير الجواب عنه أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سمى ما صنعه الأعرابي في صلاته حيث قال: وما نقصت من هذا فقد نقصت من صلاتك، فلو كان ترك التعديل مفسدا لما سماه صلاة، كما لو ترك الركوع والسجود.
وقال الأكمل: ولأنه لو كان فاسدا كان الاشتغال به عبثا وكان تركه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى الفراغ منه حراما، فكان الحديث بمنزلة الإكرام من الوجهين، قلت: لقائل أن يقول: لا نسلم أن تسميته إياه صلاة يرجع إلى ما صلاه الأعرابي أولا بل يرجع إلى الصلاة التي صلاها بعد قوله: «والذي بعثك بالحق نبيا ما أحسن غير هذا فعلمني يا رسول الله، قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر» إلى آخره، وقد ذكرناه عن قريب، على أن أصل الحديث في " الصحيحين " وليس فيهما ذكر تسمية الصلاة كما ذكرناه، ولئن سلمنا ذلك فيجوز أن يكون تسميته صلاة باعتبار ما عند الأعرابي من زعمه أنه صلاة، وتعليل الأكمل بقوله: ولأنه لو كان فاسدا إلى آخره، غير سديد ولا موجه من وجوه:
الأول: أن قوله: لو كان فاسدا لعلة غير صحيح لأنه كان فاسدا، ولهذا أمره بإتيان صلاة صحيحة بعد تعليمه إياه.
الثاني: أن قوله: كان الاشتغال به عبثا وتركه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وبالفراغ منه حراما ليس كذلك لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - منزه عن تقرير آخر عن الاشتغال بالعبث أو بتركه على الحرام، وإنما كان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يرمقه حتى ينظر كيف يصلي كما ذكرناه فيما مضى عن قريب، وفي الحديث: حتى فعل ذلك ثلاث مرات، ولو كان فعل الأعرابي عبثا وتقريره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عليه غير جائز لكان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - منعه في المرة الأولى وعلمه الصلاة الكاملة بعدها، وإنما صبر عليه لأنه ربما يهتدي إلى الصلاة الصحيحة ولم ينكر عليه لأنه كان من أهل البادية وعندهم جفاء وغلظ، فلو أمره ابتداء لكان يقع في خاطره شيء وكان المقام مقام تعليم وإرشاد، ففي تمكينه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في فعله ذلك ثلاث مرات لذلك المعنى.(2/234)
ثم القومة والجلسة سنة عندهما، وكذا الطمأنينة في تخريج الجرجاني - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وفي تخريج الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - واجبة حتى تجب سجدتا السهو بتركها ساهيا عنده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثالث: أن قوله: فكان الحديث مشترك الالتزام، بطل بما ذكرنا، ومن جملة ما قال أبو يوسف في هذا الموضع: إن القومة والجلسة والطمأنينة فرض لأنها ركن من أركان الصلاة فوجبت أن لا تتأدى بأدنى ما يطلق عليه الاسم بل بزيادة توجد بعد قياسا على القيام والقراءة والقعدة الأخيرة، ولأن الركوع ركن شرع فيه تسبيح فوجب أن يكون رفع الرأس ركنا قياسا على السجدة، وأجابوا بأن اعتباره بالقيام، فالركن في القيام عندنا ما يطلق عليه اسم القيام وإنما التقدير بسبب القراءة، ألا ترى أنه متى سقطت القراءة كان نفس القيام يكفيه كما في الثالثة والرابعة وفيمن أدرك الإمام في الركوع.
وأما القراءة فالركن عندنا فيها أدنى ما يطلق عليها اسم القراءة وذلك آية وما دونها، وإن كان قرآنا حقيقة فليس بقرآن حكما حتى حلت قراءته للجنب والحائض.
وأما القعدة فإنما لم يكتف فيها بأدنى ما يطلق عليه الاسم لأن الخروج يلاقي القعدة ويتصل بها، والجزء الذي يلاقيه القطع يخرج من أن يكون صلاة، والباقي مما يطلق عليه اسم القطع، وإذا وجبت الزيادة فقدرت بالتقدير الذي ورد به الشرع بخلاف غيرها من الأركان، فإنه لا يتصل بها، فيبقى القدر الذي وجد تاركا.
وأما قوله: لأن الركوع ركن شرع فيه تسبيح، فقلنا: رفع الرأس في السجدة ليس بفرض وإنما الفرض هو الاشتغال لأنه لا يمكنه أداء الثانية إلا به، إلا أنه لا يمكنه الاشتغال، حتى لو أمكنه الاشتغال من غير الرفع بأن سجد على وسادة فأزيلت الوسادة حتى سقطت جبهته على الأرض أجزأه، هكذا قال القدوري في " التجريد ". وأما في الركوع فالاشتغال إلى السجود يمكن من غير الرفع فلا يحصل الرفع ركنا.
م: (ثم القومة) ش: أي بعد الركوع (والجلسة) ش: أي بين السجدتين (سنة عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد باتفاق الروايات. وفي " المحيط ": الاعتدال في القومة والجلسة سنة قدر التسبيحة (وكذا الطمأنينة) ش: أي وكذا الاطمئنان في الركوع والسجود سنة عندهما م: (في تخريج الجرجاني) ش: وهو الشيخ أبو عبد الله الجرجاني تلميذ الشيخ أبي بكر الرازي وهو تلميذ الشيخ أبي الحسن الكرخي، وجه تخريجه أن الطمأنينة شرعت لإكمال ركن، وما كان مشروعيته للإكمال فهو سنة لا واجبة كطمأنينة الاشتغال، فعلى هذا لا يجب سجود السهو بتركها.
م: (وفي تخريج الكرخي واجبة) ش: أي الطمأنينة لأنها شرعت لإكمال ركن مقصود فصارت كطمأنينة القراءة. (حتى تجب سجدت السهو بتركها ساهيا) ش: أي بترك الطمأنينة (عنده) ش: أي عند الكرخي، وسئل الزهري عمن لا يتم الركوع والسجود أيشتغل بالتطوع أم بقضاء ما صلى(2/235)
ويعتمد بيديه على الأرض؛ «لأن وائل بن حجر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصف صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسجد وادعم على راحتيه ورفع عجيزته» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بلا اعتدال على قول أبي يوسف والشافعي؟ . قال: ما دام في الوقت يؤمر بالإعادة، فإذا خرج لا يؤمر، ولكن يثاب بها. قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله الاشتغال بقضائها أولى في الحالتين، كذا في " التتمة ".
م: (ويعتمد بيديه على الأرض) ش: يعني في حالة السجود، وفي " شرح الطحاوي " كيفية الانتقال إلى السجود والقيام منه أول ما يكون يقع على الأرض ركبتاه ثم يداه ثم جبهته، فقال بعضهم: يضع أنفه ثم جبهته، والأولى أن يضع أولا ما كان أقرب إلى الأرض، وإذا رفع يرفع ما كان أقرب إلى السماء، وبه قال الشافعي وأحمد، هذا إذا كان حافيا، فلو كان ذا خف ولا يمكنه ما قلنا، يضع يديه أولا ويقدم اليمنى على اليسرى.
وقال الأوزاعي: يضع يديه ثم ركبتيه، قال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا سجد أحدكم فلا ببرك بروك الجمل وليضع يديه قبل ركبتيه» رواه النسائي وأبو داود، وقال أصحاب مالك: إن شاء وضع يديه وركبتيه أولا، وإن شاء يديه، والبداءة بوضع اليدين أحسن.
م: (لأن وائل بن حجر وصف صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فسجد وادعم على راحتيه ورفع عجيزته» ش: هذا الحديث لم يرو عن وائل بن حجر وإنما روي عن البراء بن عازب، رواه أبو يعلى الموصلي في " مسنده " حدثنا محمد بن الصباح حدثنا شريك عن أبي إسحاق قال: «وصف البراء بن عازب السجود فسجد وادعم على كفه ورفع عجيزته، وقال: هكذا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسجد» ورواه أبو داود عن أبي توبة عن شريك، والنسائي عن علي بن حجر عن شريك به.
وقال النووي في " الخلاصة ": ورواه ابن حبان والبيهقي، وهو حديث حسن ولم أر أحدا من الشراح تعرض لهذا الحديث، وإنما فسروا معنى ادعم والعجيزة، وسكتوا ومضوا، وادعم بتشديد الدال من يدعم، يقال: أدعمت الشيء دعما: إذا جعلته دعامة، فنقل إلى باب الافتعال فصار اتدعم أي أتكأ. والراحة: الكف، والعجيزة بفتح العين وكسر الجيم وسكون الباء للمرأة، وقد يستعار للرجل. والعجز بفتح العين وضم الجيم وهو ما بين الوركين.
وقال الأترازي: وكأن صاحب " الهداية " استعار العجيزة للعجزاء، ويحتمل أنها جاءت كالعجز سواء. قلت: لم يستعر صاحب " الهداية " ذلك أيضا، وإنما هو وقع هكذا في حديث البراء كما ذكرناه الآن.
وقوله: أو يحتمل إلخ، ليس كذلك لأن العجز خاص للمرأة نص عليه أصحاب اللغة وإنما(2/236)
قال: ووضع وجهه بين كفيه ويديه حذاء أذنيه؛ لما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فعل كذلك قال: وسجد على أنفه وجبهته؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
استعماله في موضع العجز بطريق الاستعارة كما ذكرنا.
م: (قال) ش: أي القدوري (ووضع وجهه بين كفيه ويديه) ش: أي وضع يديه (حذاء أذنيه) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن آخر الركعة معتبر بأولها، فكما يجعل رأسه بين يديه في أول ركعة عند التكبير، فكذلك في آخرها. وفي " الكافي ": لو وضع وجهه بين كفيه يكون واضعا يديه حذاء أذنيه، فلهذا صرح بلفظ اليد، وذكر اليد لأجل التأكد كما في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وقال الشافعي: يضع يديه حذو منكبيه.
م: (لما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فعل كذلك) ش: يعني لما سجد وضع وجهه بين كفيه ويديه حذاء أذنيه، فهذا لا يوجد إلا معرفا ففي " صحيح مسلم " من حديث وائل «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد فوضع وجهه بين كفيه مختصرا» . وفي " مسند إسحاق بن راهويه " عن وائل «رمقت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما سجد وضع يديه حذاء أذنيه» وكذلك رواه الطحاوي في " شرح الآثار ". ورواه عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا الثوري به، ولفظه: «كانت يداه حذو أذنيه» . والعجب من الأترازي أنه يقول في هذا الموضع: قال في " شرح الأقطع ": روى وائل بن حجر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد وضع جبهته بين كفيه» وهذا التقصير منه [له] وجهان، الأول: أنه نسب الحديث إلى ما ذكره الأقطع في شرحه ولم ينسبه إلى مخرجه.
والثاني: المذكور ها هنا اثنتان: وضع الوجه بين الكفين في السجدة، ووضع اليدين حذو الأذنين، فذكر دليل أحدهما وترك الآخر، ثم قال: والذي روي أنه وضع يديه حذاء منكبيه يحتمل أنه فعل ذلك حالة التكبير.
قلت: هذا رواه البخاري في حديث أبي حميد «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سجد وضع كفيه حذو منكبيه» . ورواه أبو داود والترمذي ولفظهما: «كان إذا سجد مكن أنفه وجبهته ونحى يديه عن جنبيه ووضع كفيه حذو منكبيه» ، وإليه ذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
والجواب الذي قاله الأترازي عن هذا الحديث ليس بكاف، والأحسن يقال: إن الذي روينا أولى بالأخذ من حديث أبي حميد، لأن في سنده فليح بن سليمان وهو وإن أخرج له الأئمة الستة وهو من كبار العلماء، فقد تكلم فيه، فضعفه النسائي وابن معين وأبو حاتم وأبو داود ويحيى القطان والساجي، قاله الذهبي في "ميزانه ".
م: (قال) ش: أي القدوري (وسجد على أنفه وجبهته) ش: والجمع بينهما مستحب عندنا، وبه(2/237)
لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - واظب عليه. فإن اقتصر على أحدهما جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الشافعي وأبو ثور، وقال سعيد بن جبير والنخغي وإسحاق: يجب السجود عليهما. وعن مالك وأحمد رحمهما الله روايتان كالمذهبين، ثم إذا جمع بينهما قيل يقدم الجبهة على الأنف، وقيل يقدم الأنف عليهما، حكاه الأسبيجابي.
م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واظب عليه) ش: أي على السجود على الأنف والجبهة، ومواظبته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك تفهم من أحاديث جاءت في هذا الباب، منها حديث أبي حميد رواه البخاري في "صحيحه "، وفيه: «ثم سجد فأمكن أنفه من جبهته من الأرض» ، ورواه أبو داود والنسائي كذلك. ومنها حديث وائل رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده، والطبراني في "معجمه " وفيه: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضع أنفه على الأرض مع جبهته» .
ومنها حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رواه ابن عدي في "الكامل " وفيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يلصق أنفه مع جبهته بالأرض إذا سجد لم تجز صلاته» وفيه الضحاك بن حمزة، قال ابن معين: ليس بشيء.
ومنها حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجه الدارقطني قالت: «أبصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة من أهله تصلي ولا تضع أنفها بالأرض فقال: "ما هذا؟ ضعي أنفك بالأرض فإنه لا صلاة لمن لم يضع أنفه بالأرض مع جبهته في الصلاة» وفيه ثابت بن عمرو الشيباني، وهو ضعيف.
(فإن اقتصر على أحدهما جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) الاقتصار على الأنف والجبهة يجوز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - مطلقا، لكن بلا عذر يكره. وفي " المبسوط ": السجدة جائزة عند أبي حنيفة وتكره في " التجنيس " لو وضع جبهته على حجره. غير أن وضع أيسرها على الأرض يجوز وإلا فلا.
أبو حنيفة يقول: ينبغي أن يضع مع جبهته مقدار الأنف حتى جاز وإلا فلا. وفي " البدائع " و " التحفة ": إن وضع الجبهة وحدها من غير عذر تجوز عند أبي حنيفة بلا كراهة، وفي الأنف وحده يجوز مع الكراهة، والمستحب الجمع بينهما في حالة الاختيار بلا خلاف، وفي " المفيد " و " المزيد " وضع الجبهة وحدها والأنف وحده يكره ويجزي عنده.
فإن قلت: قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا سبقه إلى هذا القول ولا تابعه عليه، حكي ذلك عن النووي في " شرح المهذب " وابن قدامة في " المغني ".(2/238)
وقالا: لا يجوز الاقتصار على الأنف إلا من عذر، وهو رواية عنه لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم» وعد منها الجبهة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: ذكر الطحاوي في " شرح الآثار " أن حكم الجبهة والأنف سواء. وقال أبو يوسف عن طاووس أنه سئل عن السجود على الأنف وقال: أليس أكرم للوجه؟ قال أبو هلال: سئل ابن سيرين عن الرجل يسجد على أنفه فقال: أوما تقرأ {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107] (الإسراء: الآية 107) ، فالله مدحهم بخرورهم على الأذقان في السجود، فإذا يسقط السجود على الذقن بالإجماع بصرف الجواز إلى الأنف لأنه أقرب إلى الحقيقة لعدم الفصل بينهما بخلاف الجبهة، إذ الأنف فاصل بينهما فكان من الجبهة، وقال تقي الدين العبدي: وهو قول مالك.
وذكر في " المبسوط " جواز الاقتصار على الأنف عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال في العارض: في بعض طرق حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة أعظم، الجبهة أو الأنف» وقال بعض شراح مسلم أن المراد من ذكر الجبهة أو الأنف لئلا تصير ثمانية، ويدل عليه أو الأنف في الرواية المذكورة.
وقول ابن المنذر: لا أعلم أيضا فيه منه إذ ما جهله أكثر مما علمه. وما ذكر تحامل منه وتعصب، وقد بينا من قال بقوله قبله وبعده من السلف والخلف.
م: (وقالا: لا يجوز الاقتصار على الأنف إلا من عذر وهو رواية عنه) ش: أي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو رواية أسد بن عمرو عنه، وفي " الوبري ": لو كان على أحدهما عذر جاز السجود على الآخر بلا كراهية في قولهم جميعا، ولو ترك السجود على المعذور منها وأدى لا يجوز اتفاقا، وإن كان بهما عذر يومئ ولا يسجد على غيرهما كالخد والذقن، ويومئ قاعدا وإن قدر على القيام، وبقولهما قال الشافعي وأحمد رحمهما الله في رواية، وقال أحمد في رواية: يجب السجود، وقال إسحاق وبعض أصحاب مالك: إن اقتصر على وضع الجبهة أعاد في الوقت، وإن اقتصر على الأنف أعاد أبدا، وفي " المجمع ": وعلى قولهما الفتوى.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، وعد منها الجبهة» ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن طاووس عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين» ، وفي لفظ لهم: «أمر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أن يسجد على سبعة أعضاء» فذكرها.
وجه الاستدلال به ظاهر لأنه ذكر الجبهة من السبعة.
فإن قلت: لا يتم الاستدلال لهما بهذا الحديث، ألا ترى أنه لو ترك وضع اليدين والركبتين جازت سجدته بالإجماع، وهذه الأعضاء الأربعة من تلك السبعة، فحينئذ يستقيم لأبي حنيفة أن(2/239)
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن السجود يتحقق بوضع بعض الوجه، وهو المأمور به، إلا أن الخد والذقن خارج بالإجماع، والمذكور فيما روي الوجه في المشهور،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يحتج عليهما بجواز ترك الجبهة بهذا الحديث، لأن كونها فيها في كونه مأمور به سواء.
قلت: أورد الحديث لبيان أن هذه الأعضاء هي محل السجدة؛ لأنه غيرها لا لبيان أن وضع هذه الأعضاء السبعة لازم لا محالة، والأنف غير هذه الأعضاء المذكورة، فيجب أن لا يتأدى الفرض بوضع الأنف مجردا كما لو وضع الذقن مجردا، لأن نص الحديث لم يتناوله، فلم يكن الأنف محلا للسجدة، فلذلك تعرض في الكتاب لتصريح الجبهة بقوله: وعد منها الجبهة، ولم يعد الأنف، فكان نفيا لمحلية الأنف للسجدة ليفيد التخصيص، فلما لم يكن محلا لا يقع الفرض بوضعه منفردا.
م: (ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن السجود يتحقق بوضع بعض الوجه) ش: لأن السجود ينبئ عن الوضع على الأرض، يقال: سجدت الناقة: إذا وضعت جرانها على الأرض، فإذا كان كذلك يتحقق بوضع بعض الوجه على الأرض (وهو المأمور به) ش: أي وضع بعض الوجه على الأرض هو المأمور به لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بين أن محل السجدة هو الوجه، ولا يمكن بكله فيكون بالبعض مأمورا بها والأنف بعضه م: (إلا أن الخد والذقن خارج) ش: عن إرادة البعض (بالإجماع) ش: فتعين الجبهة والأنف، والاقتصار على الجبهة يجوز بالاتفاق لكونها بعض الوجه وسجد، أثم الاقتصار على الأنف لأنها بعض الوجه، وسجد إلا أنه يكره لمخالفة السنة.
م: (والمذكور فيما روي الوجه في المشهور) ش: هذا جواب عن الحديث الذي احتج به أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تقريره أن الذي ذكره في الحديث الذي رواه لفظ الوجه موضع الجبهة، وهو الذي رواه أصحاب السنن الأربعة من حديث العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب: وجهه وكفاه، وركبتاه، وقدماه» .
ورواه ابن حبان في "صحيحه " والحاكم في "مستدركه " وسكت عنه. ورواه البزار في "مسنده " بلفظ: «أمر العبد أن يسجد على سبعة» قال البزار: وقد روى هذا الحديث سعد، وابن عباس، وأبو هريرة، وغيرهم ولا نعلم أحدا قال: آراب، إلا العباس.
قلت: قد قالها ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا، أخرجه أبو داود في "سننه " عنه مرفوعا: «أمرت أن أسجد، وربما قال: أمر نبيكم أن يسجد على سبعة آراب» .
وقالها سعد أيضا كما رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده " والطحاوي في " شرح الآثار " من حديث عبد الله بن جعفر عن إسماعيل بن محمد عن عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «أمر العبد أن يسجد على سبعة آراب» فذكرها بلفظ السنن وزاد:(2/240)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
«أيها لم يضعه فقد انتقص» . وأخطأ المنذري أن عزاه في " مختصره " هذا الحديث للبخاري ومسلم إذ ليس فيهما لفظة الآراب أصلا.
وقول المصنف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: في المشهور عنه، نظر، لأن المشهور هو ذكر الجبهة، ولم أر أحدا من الشراح حقق هذا الموضع.
فإن قلت: ذكر الأنف في رواية مسلم حيث قال: «أمرت أن أسجد على سبعة: الجبهة، والأنف، واليدين، والركبتين، والقدمين» ".
قلت: الأنف تابع للجبهة، ألا ترى كيف أصحاب التشريح قالوا: إن عظمي الأنف يبتدآن من قرنة الحاجب وينتهيان إلى الموضع الذي فوق الثنايا والرباعيات، فعلى هذا يكون الأنف والجبهة التي هي أعلى الخد واحدا، وهو المعنى المشار إليه في حديث عبد الله بن طاوس عن أبيه قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة، وأشار بيده على أنفه والرجلين وأطراف القدمين ولا تكفت الثياب ولا الشعر» فقد سوى بينهما، ولأن أعضاء السجود سبعة إجماعا، ولا تكون سبعة إلا إذا كانت الجبهة والأنف عضوا واحدا.
والآراب: جمع إرب بكسر الهمزة وسكون الراء وهو العضو.
فإن قلت: حديث العباس بن عبد المطلب خبر ومعناه الأمر وإلا يلزم الكذب.
قلت: لا نسلم ذلك، ويجوز أن يكون خرج مخرج الغالب إذ الظاهر من حال المصلي الإتيان بالسنة فلا يلزم منه الأمر، وجعل الخبر معنى الأمر خلاف الأصل فيه، في " الواقعات ": لو لم يضع يديه وركبتيه على الأرض عند سجوده لا يجزئه.
قال: كذا قاله أبو الليث، قال: وفتوى مشايخنا على الجواز حتى لو كان موضع ركبته نجسا يجوز. وقال في " الذخيرة ": لم يصحح أبو الليث هذه الرواية. وفي عمدة الفتاوى ": الصحيح أن موضع الركبة لو كان نجسا لا يجوز وكذا موضع اليد.
قال: هذه العلة غير سديدة فإنه لو صلى واقفا إحدى رجليه يجوز، وواضعها على النجاسة لا يجوز، ولو رفع أصابع رجليه في سجوده لا يجوز. وقال في " الذخيرة ": كذا ذكره الكرخي في "كتابه " والجصاص في "مختصره "، وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجوب هذه الأعضاء قولان، أشهرهما: أنه لا يجب، أي لا يجب الإتمام بها إذا عجز كالجبهة.
ونص في " الأمالي ": إن وضعها مستحب، قال أبو الطيب: مذهب الشافعي أنه لا يجب، وهو قول عامة العلماء، وقال صاحب " المهذب " والبغوي: هذا القول الأشهر وصححه الجرجاني في التحرير والروياني في " الحلية "، وعند زفر وأحمد: واجب، وعند أحمد في(2/241)
ووضع اليدين والركبتين سنة عندنا، لتحقق السجود بدونهما، وأما وضع القدمين فقد ذكر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أنه فريضة في السجود. قال: فإن سجد على كور عمامته أو فاضل ثوبه جاز،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأنف روايتان. وروى الترمذي عن أحمد أن وضع منه كقولنا.
م: (ووضع اليدين والركبتين سنة عندنا) ش: احترز بقوله: عندنا، عن قول زفر. فإنه عنده واجب، وهو أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقد استوفينا الكلام فيه آنفا.
(لتحقق السجود بدونهما) ش: أي دون وضع اليدين، وأما الركبتان فإذا تحقق فلا يشترط وضعهما م: (وأما وضع القدمين فقد ذكر القدوري أنه فريضة في السجود) ش: فقد ذكره القدوري والكرخي والجصاص، ووضع القدمين على الأرض حال السجود فرض.
وذكر الجلالي في صلاته سنة، وما ذكره القدوري يقتضي أنه إذا رفع إحدى رجليه لا يجوز.
وفي " الخلاصة ": لو رفع إحدى رجليه يجوز، ولم يذكر الكراهة، وذكر الكراهة في " فتاوى قاضي خان " وفي " الجامع مع التمرتاشي ": لو لم يضع القدمين واليدين جاز. وفي " المحيط ": لو لم يضع ركبتيه على الأرض عند السجود لا يجوز.
م: (فإن سجد على كور عمامته) ش: كور العمائم: دورها إذا أدارها على رأسه، كذا في " المغرب ". وفي " الصحاح ": الكور مصدر كار العمامة على رأسه أي لفها، وكل دور كور م: (أو فاضل ثوبه) ش: أي أو سجد على فاضل ثوبه من ذيله أو أكمامه (جاز) ش: فعل ذلك فلا يضر صلاته، وقال بالجواز على كور العمامة والقلنسوة والكم والذيل والذؤابة الحسن وعبد الله بن يزيد الأنصاري الخطمي ومسروق وشريح والنخغي والأوزاعي وسعيد بن المسيب والزهري ومكحول والإمام مالك وإسحاق وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في أصح الروايتين عنه.
قال صاحب " التهذيب " من الشافعية: وبه قال أكثر العلماء، وقال الشافعي وأحمد رحمهما الله في رواية: لا يجوز على كورها، وكذا طرتها وطرفها وعلى كمه.
وفي " التجنيس " و " المختلف ": والخلاف فيما إذا وجد حر الأرض، أما بدونه فلا يجوز إجماعا، وتفسير وجدان الحر ما قالوا أنه لو بالغ [......] رأسه أبلغ من ذلك.
وفي " المفيد ": لو سجد على الجبهة بحائل يتصل به يتحرك بحركته في القيام أو القعود لا يجوز، واتفقوا على سقوط مباشرة الأرض في بقية الأعضاء غير الجبهة لحديث ابن مسعود(2/242)
«لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - "كان يسجد على كور عمامته» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في النعلين والخفين» رواه ابن ماجه، «وسئل أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "أكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في النعلين؟ قال: نعم» متفق عليه، وفي الركبتين أولى لأنهما عورة فلا يكشفان.
وقال ابن تيمية: سقوط مباشرة اليدين قول أكثر أهل العلم، واحتج الشافعي بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مكن جبهتك وأنفك من الأرض» وفي رواية: «ألصق جبهتك من الأرض» . وعما روى خباب قال: «شكونا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حر الرمضاء في جباهنا، فلم يشكنا" أي لم يزل شكوانا [....
... ] إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ترب جبينك يا رباح» فأمره بتتريب جبينه، ودليلنا يأتي الآن مع الجواب عن أحاديثهم.
م: (لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كان يسجد على كور عمامته) ش: هذا الحديث رواه أبو هريرة وابن عباس وابن أبي أوفى وجابر وأنس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فحديث أبي هريرة رواه عبد الرزاق في "مصنفه "، أخبرنا عبد الله بن محرر أخبرنى يزيد بن الأصم أنه سمع أبا هريرة يقول: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسجد على كور عمامته» .
وحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه أبو نعيم في " الحلية " في ترجمة إبراهيم بن أدهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وحديث عبد الله بن أبي أوفى رواه الطبراني في "معجمه الأوسط " عنه «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسجد على كور عمامته» .
وحديث جابر رواه ابن عدي في " الكامل " نحوه.
وحديث أنس رواه ابن أبي حاتم في كتابه " العلل " عنه «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سجد على كور عمامته» .(2/243)
ويروى «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صلى في ثوب واحد يتقي بفضوله حر الأرض وبردها» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحديث ابن عمر رواه الحافظ أبو القاسم همام بن محمد الرازي في "فوائده " عنه «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسجد على كور عامته» .
فإن قلت: قال البيهقي في " المعرفة ": وأما ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسجد على كور عمامته، فلا يثبت منه شيء.
وفي حديث أبي هريرة: عبد الله بن محرر، ضعيف، وفي حديث جابر: عمرو بن شمر ضعيف. وقال أبو حاتم: حديث أنس منكر.
قلت: حديث ابن عباس وابن أبي أوفى والضعيف يسند بالقوي.
وأخرج البيهقي في "سننه " عن هشام عن الحسن قال: كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسجدون وأيديهم في ثيابهم ويسجد الرجل منهم على عمامته، وذكر البخاري في صحيحه تعليقا فقال: وقال الحسن: كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة.
وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه " عن أبي الورقاء قال: رأيت ابن أبي ليلى يسجد على كور عمامته.
م: (ويروى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في ثوب واحد يتقي بفضوله حر الأرض وبردها) ش: هذا الحديث رواه ابن عباس ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عنه أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه. ورواه أحمد وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى في "مسانيدهم" والطبراني في "معجمه " وابن عدي في "كامله "، وبمعناه أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن بكر بن عبد الله المزني «عن أنس قال: كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شدة الحر، فإذا لم نستطع أخذنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود» .
والجواب عن أحاديث الشافعي أنها مجملة، وما روينا بحكم المجمل المحتمل على الحكم، أو يقول بموجبها وهو وجدان أحجم الأرض حتى إذا بيع حجمها لا يجوز إلا بدليل ما لو سجد على البساط يجوز بالإجماع.
وحديث ابن حبان ليس فيه ذكر الجبهة والأنف في المسانيد المشهورة، وإن ثبت فهو محمول على التأخير الكثير حتى يبرد للرمضاء، وذلك يكون في أرض الحجاز ليعط الصغير، ويقال: إنه منسوخ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم» ويدل عليه ما رواه عبد الله بن عبد الرحمن قال: «حيانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى في بيتي في مسجد بني عبد الأشهل فرأيته واضعا يديه في ثوبه إذا سجد» . رواه أحمد وابن ماجه.(2/244)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: هذا محمول على الثوب المنفصل الذي لا يتحرك بحركته.
قلت: هذا بعيد لقلة الثياب عندهم، وبقوله: بسط ثوبه فسجد عليه، إذ الفاء فيه للتعقيب.
فروع: لو وضع كفيه وسجد عليهما جاز، ذكره في " عدة المفتي "، وروى ابن عساكر ذلك عن عبد الله بن عمر.
وفي " الذخيرة ": قال عبد الكريم الفقيه: لا يجوز، وقال غيره: يجوز، قال المرغيناني: هو الأصح، ولو بسط كمه على النجاسة وسجد عليه قيل: يجوز وهو الصحيح، وقيل: لا يجوز، وفي " الذخيرة " و " الواقعات ": لو سجد على ظهر من هو في صلاته يجوز للضرورة، وعلى ظهر من يصلي صلاة أخرى لا يجوز لعدم الضرورة، وسجود على فخذيه من غير حاجة لا يجوز على المختار، وبعذر يجوز على المختار، وإن سجد على ركبتيه لا يجوز بعذر وبغيره، لكن يكفيه الإيماء.
وفي " الذخيرة ": لو سجد على ظهر غيره بسبب الزحام، ذكر في الأصل أنه يجوز، وقال الحسن بن زياد: لا يجوز، وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه إنما يجوز إذا سجد على ظهر المصلي.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: على ذيل غيره أو ظهر رجل أو امرأة أو شاة أو حمار أو كلب عليه ثوب، تصح صلاته، وكذا إن سجد على ميت وعليه لبد لا يجد حجم الميت يجوز.
وفي " المجتبى ": إذا سجد على الثلج أو الحشيش الكثير أو القطن المحلوج يجوز إن اعتمد حتى إذا استقرت جبهته ووجد حجم الأرض جاز وإلا فلا.
وفي "فتاوى أبي حفص ": لا بأس بأن يصلي على الحمل أو البرد والشعير والكدس والتبن والذرة، ولا يصلي على الأرز لأنه لا يستمسك، ولا يجوز على الثلج المنحال والجص وما أشبهه حتى تلبده يجد حجمه.
ولو سجد على ظهر ميت عليه لبد وجد حجمه جاز وإلا فلا. وقيل: إن كان مغسولا جاز وإن لم يكن عليه إزار. وفي " النظم: لو تبدل الإزار والبساط عليه الأشجار الأربعة وصلى عليه لا يجوز، وعلى قطنة جمد يجري في الماء كالسفينة، وقيل: إنما يجوز إذا أبطلت طرفاه، وفي " المبسوط ": يكبر ولو كان موضع السجود أرفع من موضع القدمين بعد ركبتيه أو بشين منصوبتين يجوز، وإن زاد لم يجز، ويجوز السجود على جلد وسخ خلافا لمالك، وقالت الرافضة: لا يجوز إلا على ما أخرجته الأرض من قطن أو كتان أو خشب أو قصب أو حشيش، ولا يجوز على ما يتخذ من الحيوان فافهم.(2/245)
ويبدي ضبعيه، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وأبد ضبعيك» . ويروى: "وأبد" من الإبداد وهو المد، والأول من الإبداء، وهو الإظهار. ويجافي بطنه عن فخذيه؛ «لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "كان إذا سجد جافى حتى إن بهيمة لو أرادت أن تمر بين يديه لمرت» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ويبدي ضبعيه) ش: من الابتداء، وفي " المغرب ": ابتداء الضبعين: تفريجهما، والضبع بسكون الباء، قال الأترازي: بالسكون لا غير، وفي " مبسوط شيخ الإسلام ": فيه لغتان الضم والسكون، وهو العضد، وهي ضبع الرجل وسطه وباطه.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأبد ضبعيك") ش: هذا غريب لم يرد مرفوعا هكذا، وإنما روى عبد الرزاق في "مصنفه " عن سفيان الثوري عن آدم بن علي البكري قال: «رآني ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأنا أصلي لا أتجافى عن الأرض بذراعي، فقال: يا ابن أخي لا تبسط بسط السبع، وادعم على راحتيك وأبد ضبعيك، فإنك إذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك» . ورفعه ابن حبان في "صحيحه " بلفظ: «وجاف بين ضبعيك» . وكذلك الحاكم في " المستدرك " وصححه عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا: «لا تبسط بسط السبع» إلى آخره.
م: (ويروى وأبد من الإبداد وهو المد) ش: هذه الرواية ليست لها أصل، ولا لها وجود في كتب الحديث، وكان ينبغي أن يحتج في هذا بما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مالك بن بحينة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد يتحلج في سجوده حتى يرى وضح إبطيه» ، والوضح: البياض. وروي أيضا أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كان إذا سجد فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه» وينون مالك لأن ابن بحينة ليس صفة لمالك، وبحينة اسم أم عبد الله، وقيل: أم مالك، والأول أصح، وهي بضم الباء الموحدة وفتح الحاء المهملة.
وبما رواه أنس أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» رواه الجماعة، وبما رواه أبو حميد في صفة صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "وإذا «سجد فرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه» رواه أبو داود، وروى مسلم أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نهى أن يفترش المصلي ذراعيه افتراش السبع» . وفي " سنن أبي داود " وابن ماجه «نهى عن فرشة السبع» .
م: (والأول) ش: وهو قوله: وأبد ضبعيك (من الإبداء وهو الإظهار) ش: يقال: أبدى يبدي إبداء، من باب الإفعال بالكسر. م: (ويجافي بطنه عن فخذيه) ش: أي يباعد، وثلاثيه جفى يقال: جفى السرج عن ظهر الفرس، وأجفيته أنا: إذا رفعته، وجافاه عنه يتجافى ويجافي عليه عن الفراش؛ أي ما قال الله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} [السجدة: 16] (السجدة: الآية 16) ، أي تتباعد م: (لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا سجد جافى» ش: بطنه عن فخذيه (حتى إن بهيمة لو أرادت أن تمر بين يديه لمرت) ش: هذا الحديث أخرجه مسلم عن زيد بن الأصم عن ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كان إذا سجد» .. الحديث، وهو في " مسند أبي يعلى " أن تمر تحت يديه، ورواه الحاكم(2/246)
وقيل: إذا كان في الصف لا يجافي كيلا يؤذي جاره.
ويوجه أصابع رجليه نحو القبلة؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا سجد المؤمن سجد كل عضو منه، فليوجه من أعضائه القبلة ما استطاع»
ويقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاثا، وذلك أدناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في "مستدركه " والطبراني في "معجمه " وقالا فيه: بهيمة بالياء الساكنة بعد الهاء المكسورة، والصواب: بهيمة بضم الباء تصغير بهمة، والبهمة واحدة البهم وهي صغار الضأن والمعز جميعا، وربما خص الضأن بذلك، كذا في " الجهيرة "، واقتصر الجوهري على أولاد الضأن، وخصه القاضي عياض بأولاد المعز.
م: (وقيل: إذا كان) ش: أي المصلي (في الصف لا يجافي كيلا يؤذي جاره) ش: هذا إذا كان في الصف ازدحام وقرب البعض من البعض، وإذا لم يكن كذلك لا يترك السنة لأنه حينئذ لا إيذاء، وفي " الروضة ": إن أعيا فاستعان بركبتيه فوضع ذارعيه عليهما فلا بأس به.
م: (ويوجه أصابع رجليه نحو القبلة لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا سجد المؤمن سجد كل عضو منه، فليوجه من أعضائه القبلة ما استطاع» ش: هذا الحديث غريب، نعم جاء في رواية النسائي عن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: «من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى واستقباله بأصابعها القبلة ما استطاع والجلوس على اليسرى» وبوب على باب الاستقبال بأطراف الأصابع القدم القبلة عند القعود للتشهد. وجاء في حديث أبي حميد الذي أخرجه البخاري: «واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة» .
[قول سبحان ربي الأعلى في السجود]
(ويقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثا وذلك أدناه) ش: أي ثلاث مرات، وقال الشافعي: يضيف إلى ذلك وهو الأفضل: «اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين» لحديث على - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كان إذا سجد قال ذلك، رواه مسلم، قلنا: هذا وأمثاله محمولة على النوافل لأن بابها أوسع.
قوله: شق سمعه وبصره أي فتقهما ومعنى تبارك وتعالى قال ابن الأنباري: يتبرك العباد بتوحيده وذكر اسمه، وقال الخليل: تمجيده، وقال إسحاق: أحسن الخالقين أي المصورين والمقدرين.
فروع: وفي الأسبيجابي: لو خفف سجوده وهو إلى القعود أقرب يجوز، وإن كان إلى السجود والأرض أقرب لا يجوز، روي ذلك عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال محمد بن(2/247)
لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا سجد أحدكم فليقل في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاثا، وذلك أدناه» أي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سلمة: لو رفع رأسه وهو لا يشكل على الناظر أنه رفع رأسه، يجوز، ذكرها في " العيون ". وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إذا رفع رأسه من السجود مقدار ما يمر الريح بينه وبين الأرض جازت صلاته. وروى أبو يوسف عنه إذا رفع مقدار ما سمي به رافعا جاز لوجود الفصل بين السجدتين، قال في " المحيط: وهو الأصح بخلاف الركوع، حيث ترجح بالأكثر، وقيل: إذا أزيلت جبهته عن الأرض ثم عادت جاز، ذكره المرغيناني، وفي " الروضة ": لا يجوز ذلك عندهما.
وفي " جمل النوازل ": يستحب البكاء في السجود لأنه تعالى أثنى بقوله: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] (مريم: الآية 58) ، ويسن النظر إلى أرنبة الأنف فيه، وفي " فتاوى الظاهرية ": وليس بين السجدتين ذكر مسنون. وعن الحسن بن أبي مطيع أنه يقول: سبحان الله والحمد لله أستغفر الله العظيم. وعند الشافعي: يستحب أن يدعو في جلوسه بين السجدتين لما روى حذيفة أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول بينهما: «اللهم اغفر لي وارحمني واهدني واجبرني وعافني وارزقني» وفي "تتمتهم": ولا يتعين عليه دعاء، ولكن يستحب أن يدعو كما وردت به السنة.
قلنا: هذا كله وارد في التهجد لا في الفرائض والأمر فيه واسع.
فإن قلت: ما الحكمة في تكرار السجود دون الركوع.
قلت: مذهب الفقهاء أنه تعبد لا يطلب فيه المعنى كعدد الركعات، والسجدة الثانية فرض كالأولى بالإجماع، والجلوس بينهما قدر التسبيح، وأما عند أهل الحكمة فقد اختلفوا فيه فقيل: ترغيما للشيطان؛ فإنه أمر بالسجود فلم يفعل، فنحن نسجد مرتين ترغيما له، وإليه أشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سجود السهو، وقال: هما سجدتان ترغيما للشيطان، وقيل: الأولى إشارة إلى أنه خلق من الأرض والثانية إشارة إلى أنه يعود إليها، قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه: 55] (طه: الآية 55) وقيل: لما أخذ الله الميثاق على ذرية آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حيث قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172] (الأعراف: الآية 172) ، أمرهم بالسجود تصديقا لما قالوا، فسجد الملائكة والمؤمنون كلهم ولم يسجد الكفار، فلما رفعوا رؤوسهم ورأوهم لم يسجدوا، سجدوا ثانيا شكرا لما وفقهم الله تعالى، صار المفروض سجدتين وذلك أدناه، وقد استقصينا الكلام فيه عند ذكر الركوع.
(لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا سجد أحدكم فليقل في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاثا، وذلك أدناه؛» أي(2/248)
أدنى كمال الجمع. ويستحب أن يزيد على الثلاث في الركوع والسجود بعد أن يختم بالوتر؛ «لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "كان يختم بالوتر» وإن كان إماما لا يزيد على وجه يمل القوم حتى لا يؤدي إلى التنفير، ثم تسبيحات الركوع والسجود سنة لأن النص تناولهما دون تسبيحاتهما، فلا يزاد على النص. والمرأة تنخفض في سجودها وتلزق بطنها بفخذيها؛ لأن ذلك أستر لها. قال: ثم يرفع رأسه من السجدة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أدنى كمال الجمع) ش: وقد تقدم الحديث هناك، ووقع في أكثر النسخ: وإذا سجد أحدكم، بواو العطف، عطف على قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذا ركع أحدكم؛ لأنها في حديث واحد وإنما ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مقطعا لأن نصفه الركوع ونصفه السجود.
(ويستحب أن يزيد على الثلاث) ش: أي ثلاث تسبيحات بأن يقول خمسا أو سبعا أو تسعا، وهي سنة عند أكثر العلماء، وقال أبو مطيع تلميذ أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فرض، ولم يجزه أقل من ثلاث، فقال أحمد وداود: ويستحب مرة إذ الأمر لا يوجب التكرار، إلا أن عند أحمد إذا تركه ناسيا لا تبطل صلاته، وعنه ولو كان عامدا.
(في الركوع والسجود بعد أن يختم بالوتر) ش: أي بعد أن يختم تسبيحه بالأوتار كما قلنا م: (لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يختم بالوتر) ش: يعني في تسبيحات الركوع والسجود، وهذا الحديث غريب جدا م: (وإن كان المصلي إماما لا يزيد على وجه يمل القوم) ش: بضم الياء من الإملال، والقوم منصوب على المفعولية (حتى لا يؤدي إلى التنفير) ش: أي حتى لا يؤدي مجاوزته عن الثلاث إلى تنفير الجماعة، وعن سفيان: يقول الإمام خمسا حتى يمكن القوم من الثلاث.
م: (ثم تسبيحات الركوع والسجود سنة) ش: عند أكثر العلماء، والآن مضى الكلام فيه (لأن النص) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] م: (الحج: الآية 77) . م: (تناولهما) ش: أي تناول الركوع والسجود م: (دون تسبيحاتهما) ش: أي لم يتناول تسبيحات الركوع والسجود. م: (فلا يزداد على النص) ش: بخبر الواحد وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اجعلوها في ركوعكم واجعلوها في سجودكم» قالوا: إنما قال ذلك حين نزل قَوْله تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] ، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] (الأعلى: الآية 1) ، وإنما لا يزاد على النص بخبر الواحد لأنها تكون نسخا فلا يجوز، ويؤيده أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لما علم الأعرابي واجبات الصلاة لم يعلمه تسبيحات الركوع والسجود، ولأنه ذكر جائز على كل حال فيكون كالتأمين، وهذا لأن مبنى الفرائض على الشهرة والإعلان، ومبنى التطوعات على الخفية والكتمان.
م: (والمرأة تنخفض في سجودها وتلزق بطنها) ش: أي تلصق بطنها (بفخذيها لأن ذلك) ش: أي الانخفاض والإلزاق (أستر لها) ش: أي لأن مبنى حالها على الستر.
م: (قال) ش: أي القدوري (ثم يرفع رأسه من السجدة) ش: وقد بينا مقدار الرفع، ويذكره(2/249)
ويكبر؛ لما روينا، فإذا اطمأن جالسا كبر وسجد؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في حديث الأعرابي: «ثم ارفع رأسك حتى تستوي جالسا» ولو لم يستو جالسا وكبر وسجد أخرى أجزأه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقد ذكرناه، وتكلموا في مقدار الرفع. والأصح أنه إذا كان إلى السجود أقرب لا يجوز؛ لأنه يعد ساجدا، وإن كان إلى الجلوس أقرب جاز؛ لأنه يعد جالسا، فتتحقق الثانية، قال: فإذا اطمأن ساجدا كبر، وقد ذكرناه، واستوى قائما على صدور قدميه، ولا يقعد ولا يعتمد بيديه على الأرض،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المصنف على ما يجيء الآن، وقوله (ويكبر) ش: حال (لما روينا) : أشار به إلى قوله «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يكبر عند كل خفض ورفع» .
م: (فإذا اطمأن جالسا) ش: أي حال كونه جالسا عقيب السجدة الأولى (كبر وسجد) ش: السجدة الثانية، وقد ذكرنا أن الجلوس بين السجدتين قدر تسبيحة (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث الأعرابي: «ثم ارفع رأسك حتى تستوي جالسا» ش: وقد تقدم حديث الأعرابي مستقصى، وفيه: ثم اجلس حتى تطمئن جالسا، وعند النسائي: «ثم ارفع رأسك حتى تطمئن قاعدا» وعند البيهقي: «حتى تطمئن جالسا» .
م: (ولو لم يستو جالسا وسجد أخرى) ش: أي لو لم يستو في الجلوس بعد السجدة الأخرى (أجزأه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقد ذكرناه) ش: أي في قوله: وأما الاستواء قائما فليس بفرض، وكذا الجلسة بين السجدتين.
م: (وتكلموا في مقدار الرفع) ش: يعنى قد تكلم علماؤنا في مقدار الرفع الذي يكون فاصلا بين السجدتين فقال بعضهم: إذا زالت جبهته عن الأرض ثم أعادها جاز، وعن القدوري: أدنى ما يطلق عليه اسم الرفع، وهو رواية عن أبي يوسف، وفيه أقوال أخرى قد ذكرناها عن قريب، وأشار المصنف إلى الأصح من ذلك بقوله: م: (والأصح أنه إذا كان إلى السجود أقرب لا يجوز) ش: أي سجوده م: (لأنه يعد ساجدا وإن كان إلى الجلوس أقرب جاز لأنه يعد ساجدا وإن كان إلى الجلوس أقرب جاز لأنه يعد جالسا) ش: فتتحقق السجدة الثانية.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (فإذا اطمأن ساجدا كبر، وقد ذكرناه) ش: أراد بأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كان يكبر عند كل خفض ورفع، وفي حديث مسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه كان يكبر كلما خفض ورفع، ويحدث أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك» م: (واستوى قائما على صدور قدميه ولا يقعد ولا يعتمد بيديه على الأرض) ش: يعني بعد رفع رأسه من السجدة الثانية، وفي " جمل النوازل ": جلسة الاستراحة مكروهة عندنا لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا ينهضون على صدور أقدامهم.
م: (ولا يعتمد بيديه على الأرض) ش: بأن يعتمد براحتيه على الأرض، منصوص عليه عن أبي(2/250)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجلس جلسة خفيفة، ثم ينهض معتمدا على يديه على الأرض، لما روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فعل ذلك. ولنا حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "كان ينهض في الصلاة معتمدا على صدور قدميه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " الوبري ": لا بأس بأن يعتمد على الأرض عند النهوض من غير فصل، وقال مالك: ينهض على صدور قدميه من غير اعتماد، وهو قول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وقال الشافعي يجلس جلسة خفيفة ثم ينهض معتمدا على يديه على الأرض لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك) ش: أي الاعتماد على الأرض، والمروي هنا ما أخرجه البخاري «عن مالك بن الحويرث أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان في الوتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا» .
وقال النووي: وقال الأكثر: لا يستحب ذلك؛ أي الجلسة بعد السجدة الثانية، قال: حكاه ابن المنذر عن علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وأبي الزناد والثوري والنخعي ومالك وإسحاق وأحمد، وقال النعمان بن أبي عياش: أدركت غير واحد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل هذا، وقال أحمد: أكثر الأحاديث على هذا، ولم يذكر ذلك في حديث المسيء في صلاته. وقال أبو إسحاق المروزي والشافعي: إن كان ضعيفا جلس للاستراحة وإن كان قويا لا يجلس، وقال الإمام حميد الدين في "شرحه " ناقلا عن شمس الأئمة الحلوائي: الخلاف في الأفضلية حتى إذا جلس لا بأس به عندنا، وإذا لم يجلس لا بأس به عند الشافعي.
م: (ولنا حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كان ينهض في الصلاة معتمدا على صدور قدميه» ش: هذا الحديث رواه الترمذي عن خالد بن إياس عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهض في الصلاة على صدور قدميه» وقال الترمذي: هذا حديث عليه العمل عند أهل العلم.
فإن قلت: خالد ويقال ابن إياس وقيل إلياس، ضعيف ضعفه البخاري والنسائي وأحمد وابن معين.
قلت: قاله الترمذي، ومع ضعفه يكتب حديثه، ويقويه ما روي عن الصحابة في ذلك، فأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان ينهض في الصلاة على صدور قدميه ولم يجلس، وأخرج نحوه عن علي وابن الزبير وعمر بن الخطاب رضي الله(2/251)
وما رواه محمول على حالة الكبر، ولأن هذه قعدة استراحة، والصلاة ما وضعت لها.
ويفعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الركعة الأولى؛ لأنه تكرار الأركان، إلا أنه لا يستفتح ولا يتعوذ، لأنهما لم يشرعا إلا مرة واحدة. ولا يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الركوع وفي الرفع منه؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: تكبيرة الافتتاح، وتكبيرة القنوت، وتكبيرات العيدين» . وذكر الأربع في الحج والذي يروى من الرفع محمول على الابتداء. كذا نقل عن ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعالى عنهم وأخرج عن الشعبي قال: كان عمر وعلي وأصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهضون في الصلاة على صدور أقدامهم. وأخرج عن النعمان عن ابن عباس قال: أدركت غير واحد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رفع أحدهم رأسه من السجود الثاني في الركعة الأولى ينهض كما هو ولم يجلس. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه " عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر نحوه. وأخرج البيهقي عن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقوم على صدور قدميه في الصلاة ولم يجلس إذا صلى في أول ركعة حتى يقضي السجود.
م: (وما رواه محمول على حالة الكبر) ش: وما رواه الشافعي وهو حديث مالك بن الحويرث محمول على فعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بعدما كبر وأسن، وفيه تأمل، لأن نهاية عمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثلاث وستون سنة، وفي هذا القدر لا يعجز الرجل عن النهوض، اللهم إذا كان لعذر مرض أو جراحة أو نحوها.
والدليل الثاني أوجه وهو قوله: م: (ولأن هذه قعدة استراحة والصلاة ما وضعت لها) ش: أي للاستراحة، بل هي مشقة في نفسها، ولأنه اعتمد على غيره في صلاته فيكون مسيئا قياسا على ما قالوا: لو اتكأ على حائط أو على عصا، بخلاف ما لو اعتمد على ركبتيه.
م: (ويفعل في الركعة الثانية) ش: أي يفعل المصلي في الركعة الثانية م: (مثل ما فعل في الأولى) ش: أي في الركعة الأولى (لأنه) ش: أي لأن الركعة الثانية، وذكر الضمير باعتبار الخبر وهو قوله: (تكرار الأركان) ش: والتكرار يقتضي إعادة الأولى، وكان ينبغي أن يزاد عليه ولا ينوي ولا يكبر للإحرام.
م: (إلا أنه لا يستفتح ولا يتعوذ لأنهما لم يشرعا إلا مرة واحدة، ولا يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى؛ خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الركوع والرفع منه، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: تكبيرة الافتتاح، وتكبيرة القنوت، وتكبيرات العيدين» . وذكر الأربع في الحج، والذي يروى من الرفع محمول على الابتداء، كذا نقل عن ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي إلا أن المصلي لا يقول: سبحانك اللهم، اهـ. وهذا الدعاء يسمى الاستفتاح، وعلى هذا قيل: لكل صلاة مفتاح وافتتاح(2/252)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واستفتاح، فمفتاح الصلاة الطهور، وافتتاحها تكبيرة الإحرام، واستفتاحها سبحانك اللهم اهـ، وأخرجه الترمذي أيضا.
وبحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه ابن ماجه والطحاوي عنه، قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه في الصلاة حذاء منكبيه حين يفتتح الصلاة وحين يركع وحين يسجد» .
وبحديث وائل بن حجر قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين يكبر للصلاة وحين يركع وحين يرفع رأسه من الركوع يرفع يديه حذاء أذنيه» أخرجه أبو داود والنسائي.
وبحديث علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه الأربعة وفيه: «ورفع يديه حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته إذا أراد أن يركع، ويضعه إذا فرغ ورفع من الركوع» واحتج أصحابنا بحديث البراء بن عازب قال: «كان النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذا كبر لافتتاح الصلاة رفع يديه حتى يكون إبهاماه قريبا من شحمتي أذنيه ثم لا يعود» أخرجه أبو داود والطحاوي من ثلاث طرق، وابن أبي شيبة في "مصنفه " ومحمد بن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه كان يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود» أخرجه أبو داود والطحاوي وابن أبي شيبة في "مصنفه ".
وبالحديث الذي ذكره المصنف ولكنه بغير اللفظ الذي ذكره، فروى البخاري معلقا في كتابه المفرد في "رفع اليدين" وقال: قال وكيع: عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: في افتتاح الصلاة، وفي استقبال الكعبة، وعلى الصفا والمروة وبجمع، وفي المقامين، وعند الجمرتين» ، رواه البزار عن نعيم عن ابن عباس.
وعن نافع عن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ترفع الأيدي في سبع مواطن: افتتاح الصلاة واستقبال البيت، والصفا والمروة، والموقفين وعند الحجر» . ورواه الطبراني في "معجمه " عن نعيم عن ابن عباس عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: حين يفتتح الصلاة، وحين يدخل المسجد الحرام فينظر إلى البيت، وحين يقوم على الصفا والمروة مع الناس عشية عرفة وبجمع والمقامين حين يرمي الجمرة» ورواه ابن أبي شيبة موقوفا في "مصنفه" حدثنا ابن فضيل عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «ترفع الأيدي في سبع مواطن: إذا قام إلى الصلاة، وإذا رأى البيت، وعلى الصفا والمروة، وفي جمع، وفي عرفات، وعند الجمار» . وقال السروجي: ورواية أصحابنا في كتب الفقه: لا يرفع الأيدي إلا في سبع مواطن.(2/253)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: ليس كما قاله؛ فإن اللفظين رويا كما ذكرناه، قول المصنف، وذكر الأربع في الحج: وهي عند استلام الحجر، وعند الصفا والمروة، وفي الموقفين، وعند الجمرتين، وعند المقامين، والمتنازع فيه خارج عن السبع على ما ذكره البخاري والبزار والطبراني وغيرهم، فانظر إلى باقي رواياتهم هل تجد فيها ذكر رفع اليدين عند القنوت؟ وإنما يوجد هذا عند أصحابنا في كتبهم، منهم المصنف، ويذكر رفع اليدين عند تكبيرة تكون المواطن ثمانية، وسنذكر بقية الكلام فيه في باب صلاة الوتر إن شاء الله تعالى.
واستدل أصحابنا بحديث جابر بن سمرة قال: «خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ما لي أراكم رافعين أيديكم كأنها أذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة» ، أخرجه مسلم.
فإن قالوا في حديث البراء: قال أبو داود: روى هذا الحديث هشيم وخالد بن إدريس عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلي عن البراء، ولم يذكروا: ثم لا يعود، وقال الخطابي: لم يقل رجل في هذا: ثم لا يعود، غير شريك، وقال أبو عمر في " التمهيد ": تفرد به يزيد ورواه عنه الحفاظ فلم يذكر واحد منهم قوله: ثم لا يعود وقال البراز: لا يصح حديث يزيد في رفع اليدين: ثم لا يعود، وقال عباس الدوري عن يحيى: ليس هو بصحيح الإسناد. وقال البيهقي عن أحمد: هذا حديث واه، قد كان يزيد يحدث به لا يذكر: ثم لا يعود، فلما كبر أخذ يذكره فيه. وقال جماعة: إن يزيد يحدث به لا يذكر: ثم لا يعود، فلما لقن أخذ يذكره فيه.
وقال غيره: إن يزيد كان تغير بآخره وصار يتلقن، واحتجوا على ذلك بأنه أنكر الزيادة كما أخرجه الدارقطني عن علي بن عاصم: ثنا محمد بن أبي ليلى عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قام إلى الصلاة كبر ورفع يديه حتى ساوى بهما أذنيه» فقلت: أخبرني ابن أبي ليلى أنك قلت: ثم لم يعد، قال: لا أحفظ هذا، ثم عاودته فقال: لا أحفظه.
وقال البيهقي: سمعت الحاكم أبا عبد الله يقول: يزيد بن أبي زياد كان يذكر الحفظ، فلما كبر نسي حفظه، وكان يقلب عليه الأسانيد ويزيد في المتون ولا يميز.
قلت: تعارض قول أبي داود وقول ابن عدي في " الكامل " رواه هشيم وشريك وجماعة معهما عن يزيد بإسناده، وقالوا فيه: لم يعد، يظهر أن شريكا لم يتفرد برواية هذه الزيادة، فسقط(2/254)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أيضا بذلك كلام الخطابي: لم يقل في هذا: ثم لا يعود غير شريك؛ لأن شريكا قد توقع عليها كما أخرجه الدارقطني عن إسماعيل بن زكريا ثنا يزيد بن أبي زياد نحوه، أخرجه البيهقي في " الخلافيات " من طريق النضر بن شميل عن إسرائيل، هو ابن يونس بن إسحاق عن يزيد بلفظ: «رفع يديه حذو أذنيه ثم لم يعد» وأخرجه الطبراني في " الأوسط " من حديث حفص بن عمر: ثنا حمزة الزيات كذلك، وقال: لم يروه عنه إلا حفص، تفرد به محمد بن حرب.
فإن قلت: تفرد به يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف.
قلت: لا نسلم ذلك لأن عيسي بن عبد الرحمن رواه أيضا عن ابن أبي ليلى، فلذلك أخرجه الطحاوي إشارة إلى أن يزيد قد توقف في هذا، وأما يزيد في نفسه فهو ثقة يقال جائز الحديث، وقال يعقوب بن سفيان: هو وإن تكلم فيه لتغيره فهو مقبول القول عدل ثقة. وقال أبو داود: ثبت لا أعلم أحدا ترك حديثه، وغيره أحب إلي منه. وقال ابن معين في كتاب " الثقات ": قال أحمد بن صالح: يزيد ثقة ولا يعجبني قول من تكلم فيه. وخرج حديثه ابن خزيمة في "صحيحه".
وقال الساجي: صدوق، وكذا قال ابن حبان، وخرج مسلم حديثه في "صحيحه" واستشهد به البخاري، فإذا كان حاله كذلك جاز أن يحمل أمره على أنه حدث ببعض الحديث تارة وبجملة أخرى، أو يكون قد نسي أولا ثم ذكر.
فإن قلت: إن عارضونا برواية إبراهيم بن بشار عن سفيان: ثنا يزيد بن أبي زياد بمكة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا افتتح الصلاة رفع يديه، وإذا أراد أن يركع، وإذا رفع رأسه من الركوع» . قال سفيان: فلما أتيت الكوفة سمعته يقول: يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود، فظننت أنه يخيره.
قلت: هذا لا يخير لأنه لم يرو هذا المتن بهذه الزيادة غير إبراهيم بن بشار، كذا قال الشيخ في " الإمام " عن الحاكم، وابن بشار، قال النسائي فيه: ليس بالقوي، وذمه أحمد ذما شديدا. وقال ابن معين: ليس بشيء، لم يكن يكتب عند سفيان وما رأيت في يده قلما قط، وكان يحكي على الناس ما لم يقله سفيان، وما رواه البخاري وابن الجارود بالوهم فجاز أن يكون وهم في هذا.
فإن قلت: قال ابن قدامة في " المغني " ما ملخصه: حديث يزيد بن أبي زياد ضعيف، ولئن سلمنا فأحاديثنا ترجح عليه بصحة الإسناد وعند أكثر الرواة، وظن الصدق في الكثير أقوى والغلط منهم أبعد والمثبت يخبر عن شيء شاهده ورواه، والنافي لم ير شيئا فلا يؤخذ بقوله، ورواه حديثا فصلوا في روايتهم ونصبوا في الرفع على الحالتين المختلف فيهما، والمخالف لهم عمم رواية(2/255)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المختلف فيه وغيره، فيجب تقديم أحاديثنا لنصها وخصوصها على أحاديثهم العامة التي لا نص فيها، كما يقدم الخاص على العام والنص على الظاهر المحتمل، والسلف من الصحابة والتابعين تحملوا بها، فدل ذلك كله على قولنا.
قلت: حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صحيح، نص عليه الترمذي وغيره، وما يذكره الرواة في الترجيح إنما يكون إذا كان راوي الخبر واحدا، وراوي الخبر الذي يعارضه صفة اثنان أو أكثر، فالذي نحن فيه روي عن جماعة، وهم عبد الله بن مسعود والبراء بن عازب وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فحينئذ تساوت الأخبار في ظن الصدق بقولهم وبعدم الغلط، ولا نسلم تقديم خبر المثبت على خبر النافي مطلقا، وإذا كان خبر النفي عن دليل يوجب العلم به يتساوى مع المثبت فتتحقق المعارضة بينهما، ثم يجب طلب المخلص، فإن كان خبر النافي لا عن دليل يوجب العلم، يقدم خبر المثبت كما في حديث بلال أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لم يصل في الكعبة، مع حديث ابن عمر أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صلى فيها عام الفتح، فإنهم اتفقوا أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ما دخلها يومئذ إلا مرة واحدة، ومن آخر أنه لم يصل فيها فإنه لم يعتمد دليلا موجبا للعلم لأنه لم يعاين صلاته فيها، والآخر عاين ذلك، وكان المثبت أولى من النافي.
وأما الذي نحن فيه عن دليل يوجب العلم به لأن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شاهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعاينه أنه رفع يديه في أول تكبيرة ثم لم يعد، فحينئذ تساويا في القوة والضعف، فكيف يرجح الإثبات على النفي، وكما أن الخاص يوجب الحكم فيما تناوله مطلقا، فكذلك العام يوجب له فيما تناوله مطلقا، وكل واحد من الحديثين نص، فكيف يقال: والنص يقدم على الظاهر المحتمل؟ وأحاديثنا أيضا عمل بها السلف من الصحابة والتابعين، وقد ذكرناه عن قريب.
فإن قلت: حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - معترض فيه بما رواه الترمذي بسنده عن ابن المبارك قال: لم يثبت عندي حديث ابن مسعود أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يرفع يديه إلا في أول مرة، وثبت حديث ابن عمر أنه رفع عند الركوع وعند الرفع وعند القيام من الركعتين.
وقال المنذري: وعبد الرحمن لم يسمع من علقمة قاله. وقال الحاكم: عاصم بن كليب لم يخرج حديثه في " الصحيحين " وكان يختصر الأحكام فيؤديها بالمعنى، وأن لفظة: ثم لا يعود غير محفوظة، قاله البيهقي عن الحاكم.
قلت: عدم ثبوت الخبر عند ابن المبارك لا يمنع ثبوته عند غيره، فقد قال الترمذي: حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حديث صحيح، وصححه ابن حزم في " المحلى " وهو يدور على عاصم بن كليب وقد وثقه ابن معين، وأخرج له مسلم، فلا يسأل عنه للاتفاق على الاحتجاج به، وقول(2/256)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المنذري غير قادح عن رجل مجهول وهو قول عجيب؛ لأنه تعليل برجل مجهول شهد على النفي، وقال الشيخ في " الإمام " تتبعت هذا القائل فلم أجده، وقد صرح في كتاب " المتفق والمفترق " في ترجمة عبد الرحمن هذا أنه سمع أباه وعلقمة وكذا قال في الحمال سمع عائشة وأباه وعلقمة بن قيس، وعاصم بن كليب وثقه ابن معين، وأنه من رجال الصحيح وقول الحاكم أن حديثه لم يخرج في الصحيح غير صحيح فقد أخرج له مسلم حديثه عن أبي بردة عن الهذلي.
فإن قلت: الحديث الذي ذكره المصنف فيه الحكم عن نعيم قال البخاري: قال شعبة لم يسمع الحكم من نعيم إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها فهو مرسل وغير محفوظ؛ لأن أصحاب نافع خالفوا، وأيضا فهم قد خالفوا هذا الحديث ولم يعتمدوا عليه في تكبيرات العيدين وتكبيرة القنوت.
قلت: قول شعبة مجرد دعوى ولئن سلمنا فمرسل الثقات مقبول يحتج به، وكونهم لم يعتمدوا عليه في تكبيرات العيدين وتكبيرة القنوت لا توجب المخالفة؛ لأن الحديث لا يدل على الحصر.
فإن قالوا: هذا الحديث رواه غير واحد موقوفا وابن أبي ليلى لم يكن بالحافظ. قلنا: ابن أبي ليلى من كبار التابعين أدرك مائة وعشرين رجلا من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فإن لم يعمل يرفع مثله يعمل يرفع من.
إن قلت: حديث جابر بن سلمة لا يدل على ما ادعيتم؛ لأنه لم يرو لما ذكرتم وإنما ورد لمنع الإشارة؛ لأنهم كانوا يشيرون بأيديهم إلى الجانبين يرون بذلك السلام على من على الجانبين، والدليل على رواية مسلم أيضا عن جابر بن سمرة أنه قال: «كنا إذ صلينا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علام تفعلون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ وإنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه من يمينه وشماله» .
وقال النووي: واحتجاجهم بحديث جابر بن سمرة من أعظم الأشياء وأقبح أنواع الجهالة بالسنة؛ لأن الحديث لم يرو في رفع الأيدي في الركوع والرفع عنه، ولكنهم كانوا يرفعون أيديهم في حالة السلام من الصلاة ويشيرون بها إلى الجانبين يريدون بذلك السلام، وهذا لا خلاف بين أهل الحديث ومن له أدنى اختلاط بأهل الحديث، قال ومثله عن البخاري.
قلت: في الحديث الأول إنكار لرفع اليد في الصلاة وأمر بالسكون فيها فكيف يحمل هذا على الإيماء باليد والإشارة بهما بعد السلام كما في الحديث الثاني؟ وليس فيه ذكر رفع الأيدي ولا(2/257)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأمر بالسكون إذا خرجوا من الصلاة بالسلام، وحديث إنكار رفع اليدين والأمر بالسكون مقيد بداخل الصلاة، وحديث إنكار الإيماء والإشارة بالأيدي مقيد بحال السلام الذي قد خرجوا به من الصلاة، والمقيد بقيد لا يندرج تحته مقيد آخر بقيد آخر، فالحديث الثاني غير الحديث الأول قطعا، فكيف يجعل هو فاتحة بيان يختلفان في الحكم الذي يحمل أحدهما على الآخر بلا دليل مع إنكار إفادتهما تأييد بين منقلبين هو الذي أتي بأعظم الأشياء وأقبح أنواع الجهالة بالسنة، على أن الثوري، ومالك بن أنس شيخ إمام، وأجيد بالحديث، وأعلم بالسنة، وقد رفع اليدين في الصلاة إلا عند التحريمة وهي رواية ابن القاسم عنه ورواية متقدمة على المالكية على جميع أصحابه حتى كانت القضاة بالضرب يكتبون في تقاليدهم أن لا يحكموا إلا برواية ابن القاسم الذي روى من الرفع محمول على الابتداء.
هذا جواب عما احتج به الشافعي من الذي روي من رفع اليدين في الركوع وفي الرفع سنة. وأراد بقوله: - محمول على الابتداء - أنه كان في ابتداء الإسلام ثم نسخ كذا نقل عن ابن الزبير بن العوام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وابن الزبير من الأسماء العالية على بعض [.....] المسلمين به كابن عمر وابن عباس والذي نقل عن ابن الزبير هو ما نقله البعض «أن ابن الزبير رأى رجلا يرفع يديه في الصلاة عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع فقال له: لا تفعل فإن هذا شيء فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم تركه» قال ابن الجوزي في " التحقيق ": زعمت الحنفية أن أحاديث الرفع منسوخة بحديثين رووا.
أحدهما: عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه كلما ركع وكلما رفع، ثم صار إلى افتتاح الصلاة ترك ما سوى ذلك» .
والثاني: رووه «عن ابن الزبير أنه رأى رجلا يرفع يديه من الركوع فقال: مه فإن هذا شيء فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم تركه» وهذان الحديثان لا يعرفان أصلا، وإنما المحفوظ عن ابن عباس وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خلاف ذلك فأخرج أبو داود عن ميمون، لكن أنه رأى ابن الزبير وصلى بهم يشير بكفيه حين يقوم وحين يركع وحين يسجد، قال: فذهبت إلى ابن عباس فأخبرته بذلك فقال: إن أحببت أن تنظر إلى صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاقتد بصلاة عبد الله بن الزبير، ولو صح ذلك لم يصح دعوى النسخ؛ لأن شرط الناسخ أن يكون أقوى من المنسوخ.
قلت: قوله: لا يعرفان أصلا لا يستلزم عدم معرفة أصحابنا هذا ودعوى النافي ليست بحجة على المثبت وأصحابنا أيضا ثقات لا يرون الاحتجاج بما لم يثبت عندهم صحته،؛ لأن هذا أمر الدين، فالمسلم لا يستهزئ فيه، ويؤيد ما روي من عدم الرفع عند الركوع وعند الرفع منه ما رواه الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حديث ابن أبي داود قال: أنبأ أحمد بن عبد الله بن يونس قال: ثنا أبو بكر(2/258)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بن عياش، عن حصين، عن مجاهد قال: صليت خلف ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلم يكن يرفع يديه في التكبير الأول من الصلاة.
قال الطحاوي: فهذا ابن عمر قد رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع ثم ترك هو الرفع بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يكون ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخ ما قد كان رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله، وإسناد ما رواه الطحاوي صحيح وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة في "مصنفه " ثنا أبو بكر بن عياش، عن مجاهد قال: ما رأيت ابن عمر يرفع يديه إلا في أول ما يفتح.
فإن قلت: هذا حديث مسند؛ لأن طاوسا قد ذكر أنه رأى ابن عمر يفعل ما يوافق ما روي عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذلك.
قلت: يجوز أن يكون ابن عمر فعل ما رواه طاوس يفعلها قبل أن تقوم الحجة عنده بنسخه، ثم قامت الحجة عنده بنسخه فيه له وفعل ما ذكره عنه مجاهد وهكذا ينبغي أن يحمل ما روى عنهم وينفي عنهم الوهم حتى يتحقق ذلك، ولا يكثر أكثر الروايات.
وأما الجواب عن أحاديث الخصم فنقول: أما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه روي عنه خلاف ذلك فقال الطحاوي: أما ابن أبي داود إلى آخر ما ذكرناه الآن.
أما حديث أبي حميد الساعدي، فإن أبا داود وقد أخرجه من وجوه كثيرة أحدها عن أحمد بن حنبل، وليس فيه ذكر رفع اليدين عند الركوع والطريق الذي فيه عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمعت أبا حميد في عشر من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الحديث، وعبد الحميد عندهم ضعيف فكيف يحتجون به في مثل هذا الموضع في معرض الاحتجاج على خصمهم؟ وقالوا: عبد الحق مطعون في حديثه، روى ذلك عن يحيى بن معين، وهو إمام في هذا الباب.
فإن قلت: عبد الحميد من رجال مسلم، واحتجت به الأربعة، واستشهد به البخاري في "الصحيح "، وعن أحمد ويحيى: ثقة.
قلت: إن سلمنا ذلك ولكن الحديث معلول بحجة أخرى، وهو محمد بن عمرو بن عطاء لم يسمع هذا الحديث من أبي حميد بن عدي، ولا ممن ذكر معه في هذا الحديث مثل: أبي قتادة وغيره، وذلك؛ لأن سنده لا يحتمل ذلك؛ لأن أبا قتادة قتل مع على - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصلي عليه كذا قال الهيثم بن عدي.
وقال ابن عبد البر: هو الصحيح، وقيل: توفى بالكوفة سنة ثمان وثلاثين، ومحمد بن عمرو بن عطاء توفي في خلافة وليد بن يزيد بن عبد الملك، وكانت خلافته في سنة خمس وعشرين ومائة، ولهذا قاله ابن حزم ولعله وهم يعني عبد الحميد.(2/259)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: قال البيهقي في " المعرفة " حكم البخاري في "تاريخه " أنه سمع أبا حميد، وأبا قتادة، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وقوله: - قتل مع على - رواية شاذة رواه الشعبي، والصحيح الذي أجمع عليه أهل التاريخ أنه بقي إلى سنة أربع وخمسين، ونقله عن الترمذي، والواقدي، والليث، وابن منده.
قلت: القائل بأنه لم يسمع من أبي حميد هو بين الحجة في هذا الباب، وهو قول الهيثم بن عدي، وهذا صححه ابن عبد البر، فكيف يقول البيهقي هذه رواية شاذة، فلم لا يجوز أن تكون رواية البخاري شاذة؟ بل هي شاذة بلا شك؛ لأن قوله لا يرجح على قول الشعبي، والهيثم بن عدي، وفي هذا الحديث علة أخرى وهي أن بين محمد بن عمرو بن عطاء، وبين أبي حميد رجل مجهول، بين ذلك الطحاوي، فقال: حدثنا سهيل بن سليمان، ثنا يحيى وسعيد بن أبي مريم، قال: ثنا عطاف بن خالد، قال: حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء، قال حدثنا رجل أنه وجد عشرة من أصحاب النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جلوسا.. الحديث. وعطاف وثقة ابن معين، وعنه صالح، وليس به بأس. وقال أحمد: من أهل مكة ثقة صحيح الحديث.
والدليل على أن بينهما واسطة أن أبا حاتم بن حبان أخرج هذا الحديث في "صحيحه" من طريق عيسى بن عبد الله، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن عباس بن سهل الساعدي أنه كان في مجلس فيه أبوه، وأبو هريرة، وأبو أسيد، وأبو حميد الساعدي. الحديث، وذكر المزني، ومحمد بن طاهر المقدسي في أطرافها، عن أبي داود أخرجه من هذا الطريق، فظهر من ذلك أن هذا الحديث منقطع ومضطرب السند والمتن أيضا.
وأما حديث أبي هريرة فإنه من طريق إسماعيل بن عياش عن صالح بن كيسان وهم لا يجعلون إسماعيل فيما روى عن غير الشاميين حجة، فكيف يحتجون على خصمهم بما لو احتج بمثله عليهم لم يسوغني إياه، وقال [......] إسماعيل في الشاميين غاية وخلط عن المدنيين وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن حبان: كثير الخطأ في حديثه، فخرج عن حد الاحتجاج به. وقال ابن خزيمة لا يحتج به.
وأما حديث وائل بن حجر فقد ضاده ما رواه إبراهيم النخغي، عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنه لم يكن رأى النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نقل مما ذكرنا من رفع اليدين من غير تكبيرة الإحرام فعبد الله أقدم صحبة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأفهم بأفعاله من وائل، وقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب أن يليه المهاجرون ليحفظوا عنه، وكان عبد الله أكثر الولوج على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ووائل بن حجر أسلم في المدينة في سنة تسع من الهجرة وبين إسلامهما اثنان وعشرون سنة، فحينئذ حفظ ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لم يحفظه وائل وأمثاله، ولهذا قال إبراهيم للمغيرة حين(2/260)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: إن وائلا حدث أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، إن كان وائل رآه مرة يفعل ذلك فقد رآه عبد الله خمسين مرة لا يفعل ذلك.
فإن قلت: ما ذكرتموه عن إبراهيم لم يدرك عبد الله؛ لأن عبد الله توفي سنة اثنين وثلاثين من الهجرة بالمدينة، وقيل: بالكوفة وولد إبراهيم سنة خمسين كما صرح به ابن حبان.
قلت: كانت عادة إبراهيم إذا أرسل حديثا عن عبد الله لم يرسله إلا بعد صحته عنده من الرواة عنه بعد تكاثر الرواة عنه، ولا شك أن خبر الجماعة أقوى من خبر الواحد وأولى.
وأما حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المذكور فقد روي عنه ما ينافيه ويعارضه أيضا فإن عاصم بن كليب روى عن أبيه أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يرفع يديه في تكبيره من الصلاة، ثم لا يرفعه فقد رواه الطحاوي، وأبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه "، ولا يجوز لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يرى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع ثم يترك هو الرفع بعده، ولا يجوز ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخ الرفع في غير تكبيرة الإحرام؛ لأن هذا هو حسن الظن بالصحابة، وحديث عاصم بن كليب صحيح على شرط مسلم.
وفي سنن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله بن المبارك، عن الأعمش، عن الشعبي أنه كان يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يرفعهما فيما بقي. وعن شعبة، عن أبي إسحاق قال: كان أصحاب عبد الله وأصحاب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لا يرفعون أيديهم إلا في افتتاح الصلاة.
وقال وكيع: ثم لا يعودون، وعن إبراهيم أنه كان يقول: إذا كبرت في فاتحة الكتاب فارفع يديك، ثم لا ترفعهما فيما بقي وبغيره عن إبراهيم: لا ترفع يديك إلا في افتتاح الأولى.
وعن طلحة، عن خيثمة كان لا يرفع يديه إلا في بدء الصلاة. وعن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل كان قيس يرفع يديه أول ما يدخل في الصلاة، ثم لا يرفعهما.
وعن مسلم الجهني قال كان ابن أبي ليلى يرفع يديه في أول شيء إذا كبر، قال عبد الملك: ورأيت الشعبي، وإبراهيم، وأبا إسحاق لا يرفعون أيديهم إلا حين يفتتحون الصلاة، ذكر ذلك كله أبو بكر بن أبي شيبة. ويحكى في " المبسوط " أن الأوزاعي لقي أبا حنيفة في المسجد الحرام فقال: ما بال أهل العراق لا يرفعون أيديهم عند الركوع، وعند رفع الرأس من الركوع، وقد حدثني الزهري، عن سالم، عن ابن عمر أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يرفع يديه عندهما، فقال أبو حنيفة حدثني حماد، عن إبراهيم النخغي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كان يرفع يديه عند تكبيرة الافتتاح ثم لا يعود» .
قال عجبا من أبي حنيفة أحدثه بحديث الزهري عن سالم، وهو يحدثني بحديث حماد عن إبراهيم، فأشار إلى علو إسناده.(2/261)
وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الثانية افترش رجله اليسرى وجلس عليها، ونصب اليمنى نصبا، ووجه أصابعه نحو القبلة، هكذا وصفت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قعود رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فقال أبو حنيفة: أما حماد فكان أفقه من الزهري، وأما إبراهيم فكان أفقه من سالم، ولولا سبق ابن عمر لقلت بأن علقمة أفقه منه. أما عبد الله فرجح بفقه رواته فسكت الأوزاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: لأبي حنيفة ترجيح آخر وهو أن ابن عمر راوي الحديث في الرفع كان لا يرفع إلا عند الإحرام للوجه الذي ذكرناه.
[الافتراش عند التشهد الأوسط]
(وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الثانية افترش رجله اليسرى) ش: وفي " المبسوط " يجعلها بين إليتيه م: (وجلس عليها ونصب اليمني) ش: أي رجله اليمني (نصبا ووجه أصابعه نحو القبلة) ش: وباطنها على الأرض في القعدتين، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم وبه قال الثوري، وابن المبارك، والحسن بن حي، وأهل الكوفة، وقال مالك: يجلس متوركا فيهما ويفضي بإليتيه إلى الأرض، وينصب رجله اليمني، ويثني اليسرى كجلوس المرأة وكذا بين السجدتين.
والشافعي أخذ بقولنا في التشهد الأول ويقول بقول مالك في الأخيرة.
وقال مالك يتورك في كل تشهد أول وثان، وعند الشافعي في كل تشهد يعقبه السلام ولا يتورك عند أحمد في الصبح والجمعة والعيدين، وعند الشافعي يتورك.
م: (هكذا وصفت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قعود رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة) ش: توصيف عائشة قعود رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته في حديث أخرجه مسلم، عن أبي الجوزاء، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين» .. الحديث، وفيه كان يفترش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى إلى آخره.
قوله: - يفرش - بفتح الياء وضم الراء هو المشهور.
قال النووي وضبطه صاحب " مشارق الأنوار " بكسر الراء، وذكره أبو حفص بن أعلى في " لحن العوام "، وروى أبو داود، والنسائي، وأحمد «عن وائل بن حجر: أنه نظر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي فسجد ثم قعد فافترش رجله اليسرى ونصب اليمنى» .
وروى أحمد من حديث رفاعة بن رافع «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال للأعرابي: فإذا جلست فاجلس على رجلك اليسرى» .(2/262)
قال ووضع يديه على فخذيه وبسط أصابعه وتشهد، ويروى ذلك في حديث وائل بن حجر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ ولأن فيه توجيه أصابع يديه إلى القبلة، فإن كانت امرأة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى النسائي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: «من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى، واستقباله بأصابعها القبلة، والجلوس على اليسرى» .
م: (قال) ش: أي القدوري (ووضع يديه على فخذيه وبسط أصابعه) ش: وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غير رواية الأصول: السنة أن يضع اليمنى على فخذه الأيمن، وكفه اليسرى على فخذه الأيسر. وقال الطحاوي يضع يديه على ركبتيه كما في حالة الركوع. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينبغي أن يكون أطراف الأصابع عند الركبة.
(وتشهد) ش: أي قرأ التحيات إلى آخره وسمى هذه الثناء تشهدا إطلاقا لاسم البعض على الكل؛ لأن فيه ذكر الشهادتين كما في الأذان فإنه في الحقيقة حي على الصلاة، حي على الفلاح مع إطلاق الأذان على الكل.
م: (ويروى ذلك في حديث وائل بن حجر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: ذلك إشارة إلى وضع اليدين على الفخذين، وبسط الأصابع، وقراءة التشهد باعتبار المذكور، ولكن ليس كل ذلك في حديث وائل بن حجر، وقد تقدم حديثه.
فإن قلت: فعلى هذا لا يتم استدلال المصنف بهذا.
قلت: أما وضع اليدين على الفخذين في " صحيح مسلم " من رواية ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلا أن فيه كان قبض أصابعه، وأما بسط الأصابع فليس في حديث وائل، وإنما فيه أن يعقد أصابعه ويجعل حلقة الإبهام والوسطى. قال الفقيه أبو جعفر: هكذا روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقول المصنف -: وبسط أصابعه - مخالف لما في حديث وائل، وكذلك ما ذكره صاحب " المحيط "، وعن محمد أنه يضع يديه على فخذيه؛ لأن فيه توجه الأصابع إلى القبلة أكثر. وعن بعضهم أنه يفرق أصابعه وهذا كله مخالف لما في حديث وائل.
م: (ولأن فيه) ش: أي في بسط الأصابع على الفخذين (توجيه أصابع يديه إلى القبلة) ش: هذا ظاهر وما رأيت أحدا من الشراح استقصى بيان هذا الموضع، لا من جهة الحديث الذي هو العمدة في الاستدلال، ولا من جهة صحة المنقول عن الأصحاب في هذا الموضع.
م: (فإن كانت امرأة) ش: ذكره بالفاء التفريعية لأنه ذكر أولا صفة جلوس الرجل في القعدة، ثم عقب ذلك ببيان صفة جلوس المرأة، وضبط بعضهم امرأة بالنصب فوجهه أن يكون التقدير، فإن كانت المصلية امرأة والأوجه على أن تكون كانت ناقصة.
وقوله: - جلست - جواب إن في الوجهين.(2/263)
جلست على إليتها اليسرى وأخرجت رجليها من الجانب الأيمن؛ لأنه أستر لها.
والتشهد: التحيات لله، والصلوات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (جلست على إليتها اليسرى وأخرجت رجليها من الجانب الأيمن؛ لأنه أستر لها) ش: لأن مراعاة فرض الستر أولى من مراعاة سنية القعدة. وفي " المرغيناني " وجهت ما فيها، وكانت أم الدرداء تجلس كالرجل، وكانت فقيهة، ذكره ابن بطال، وهو قول النخعي ومالك ومن الصحابة أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكانت صفية، ونساء ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يجلسن متربعات؛ لأن ذلك أستر لهن. وعن سلمة: الأمة كالرجل في رفع اليد، وكالحرة في الركوع والسجود والقعود.
[التشهد الأوسط وصيغته]
م: (والتشهد التحيات لله) ش: أي التشهد الذي هو جزء أطلق عليه الكل، قراءة التحيات هذا، وهو جمع تحية من حي يحيي تحية.
وعن الليث معان: الأول: البقاء من قولهم: حياك الله، أي أبقاك الله، روي ذلك عن الأزهري، الثاني: الملك أي الملك لله من قولهم: حياك الله أي ملك الله، وروى ذلك الأزهري عن أبي علي. الثالث: السلامة من الآفات، كما قاله خالد بن يزيد. الرابع: السلام على الله من قولهم: حياك الله أي سلام الله عليك. قال الأترازي: فيه نظر عندي لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى في صدر حديثي ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أن يقال: السلام على الله.
قلت: وجه النهي أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، فمن هذا الوجه لا يوجه القول بالسلام على الله، وأما إذا قصد معنى السلامات من الآفات والزوالات والعوارض لله تعالى فلا يبعد.
فإن قلت: ما معنى الجمع فيه؟ قلت: لأنه كان في الأرض ملوك يحيون بتحيات مختلفة فيقال لبعضهم: أبيت اللعن، ولبعضهم: أسلم وأنعم صباحا، ولبعضهم عش ألف سنة، فقيل لنا: قولوا: التحيات لله أي: الألفاظ التي تدل على الملك والبقاء والسلامة عن الآفات لله عز وجل، نقل ذلك عن العقبي، وعن الخطابي.
روي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في تفسير التحيات لله والصلوات والطيبات. فقيل: هي أسماء الله السلام المؤمن المهيمن الحي القيوم العزيز الأحد الصمد، قال: التحيات لله بهذه الأسماء وهي الطيبات التي لا يحيا بها غيره.
م: (والصلوات) ش: أي الأدعية وهي جمع صلاة وهي الدعاء الذي أصل معناه هذا في كلام العرب، وفي " المغربين " الصلاة رحمة، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] (الأحزاب: الآية 56) أي يترحمون.
وعن الأزهري الصلاة من الملائكة دعاء واستغفار ومن الله رحمة. وعن ابن المبارك في قوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 157] (البقرة: الآية 157) ، أي رحمات، وقوله في التشهد التحيات لله والصلوات أي: الثناء(2/264)
والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته إلى آخره،
وهذا تشهد عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه قال: «أخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي، وعلمني التشهد كما كان يعلمني سورة من القرآن، وقال: قل: التحيات لله إلى آخره»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحسن والحمد والتسبيح لله تعالى.
م: (والطيبات) ش: أي الطيبات من الكلام مصروفات إلى الله تعالى. وعن الليث: وأحسن الكلام وأفضله لله تعالى. وعن مشايخنا الفقهاء: التحيات لله أي: العبادات القولية لله تعالى لا يستحقها غيره، والصلوات أي: العبادات البدنية لله تعالى، والطيبات أي: العبادات المالية لله تعالى، يعني الجميع لله تعالى لا يستحقها غيره. وهذا على مثال من يدخل على الملوك يقدم السلام والثناء أولا، ثم يقوم في الخدمة، ثم يبذل المال.
م: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته إلى آخره) ش: هذا من الله تعالى على نبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليلة المعراج فإنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما قال: التحيات لله، والصلوات والطيبات، رد الله تعالى من مقابلته بقوله: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته والزيادة، ولما زاد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بهذه الألفاظ أشرك النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمته فيه بقوله السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ثم لما سمعت الملائكة بذلك فرحوا وقالوا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وذكر زين الأئمة الفرودي في ثواب العبادات عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «لما عرج بي ليلة المعراج إلى السماء أمرني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن أسلم على ربي فقلت: كيف أسلم؟ فقال: قل: التحيات لله والصلوات والطيبات، قال: قلت: فقال جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقلت: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أشهد أن لا إله الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» ".
م: (وهذا تشهد عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه قال: «أخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي وعلمني التشهد كما كان يعلمني سورة من القرآن، وقال: قل: التحيات لله إلى آخره» ش: تشهد ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه الأئمة الستة عن ابن مسعود واللفظ لمسلم، قال: «علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد كما يعلمني السورة من القرآن، فقال: "إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإذا قالها أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» . زاد في رواية [إلا] الترمذي وابن ماجه «ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به» .(2/265)
والأخذ بهذا أولى من الأخذ بتشهد ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو قوله: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا.. إلى آخره؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والأخذ بهذا) ش: أي بتشهد ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (أولى من الأخذ بتشهد ابن عباس -- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) - ش: ولهذا قال الترمذي أصح حديث عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في التشهد حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ثم أخرج عن معمر عن خصيف قال: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنام فقلت له: إن الناس قد اختلفوا في التشهد، فقال: عليك بتشهد ابن مسعود.
وأخرج الطبراني في "معجمه " عن بشر بن المهاجر عن ابن بريدة عن أبيه قال: ما سمعت من التشهد أحسن من حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وذلك لأنه رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووافق ابن مسعود في روايته عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا التشهد جماعة من الصحابة والتابعين - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -.
فمنهم معاوية وحديثه عند الطبراني في "معجمه " أخرجه عن إسماعيل بن عياش، عن حريز ابن عثمان، عن راشد بن سعد، «عن معاوية بن أبي سفيان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يعلم الناس التشهد وهو على المنبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التحيات لله والصلوات والطيبات..» الخ سواء.
ومنهم سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحديثه عند البزار في "مسنده "، والطبراني في "معجمه " أيضا عن سلمة بن الصلت، عن عمر بن يزيد الأزدي «عن أبي راشد قال: سألت سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن التشهد، فقال: أعلمكم كما علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، التحيات لله والصلوات والطيبات» .. إلخ سواء.
ومنهم عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وحديثها عند البيهقي في "سننه" عن القاسم عنها قالت: «هذا تشهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التحيات لله.. الخ» . وقال النووي في " الخلاصة ": إسناده جيد.
م: (وهو قوله) ش: أي تشهد ابن عباس هو قوله. م: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا وعلى عباد الله إلخ) ش: تشهد ابن عباس أخرجه الجماعة إلا البخاري عن سعيد بن جبير وطاوس «عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، وكان يقول: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن(2/266)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» ". وهاهنا تشهد آخر لأبي موسى الأشعرى، وتشهد لجابر، وتشهد لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وتشهد أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه مسلم وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن عطاء بن عبد الله الرقاشي، «عن أبي موسى قال: خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال: "إذا صليتم فكان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم التحيات، الطيبات، الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» ".
الرابع: تشهد جابر، أخرجه النسائي وابن ماجه عن أيمن بن نابل، ثنا أبو الزبير، «عن جابر قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن "بسم الله وبالله التحيات لله والصلوات والطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أسأل الله الجنة أعوذ بالله من النار» . رواه الحاكم في "مستدركه " وصححه، وضعفه جماعة من الحفاظ أجل من الحاكم، وأتقى منهم: البخاري، والترمذي، والبيهقي، وقال الترمذي: سألت البخاري [عنه] فقال: هو خطأ.
والخامس: تشهد عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه مالك في " الموطأ " أخبرنا الزهري عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه سمع عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو على المنبر ويعلم الناس التشهد يقول: قولوا: التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وهذا إسناد صحيح.
والسادس: تشهد ابن عمر رواه الطحاوي، بسم الله التحيات لله والصلوات لله، الزاكيات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، شهدت أن لا إله إلا الله، شهدت أن محمدا رسول الله.
السابع: تشهد علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذكره الكرخي، التحيات لله والصلوات والطيبات الغاديات الزاكيات.
والثامن: تشهد سمرة، التحيات الطيبات الصلوات، السلام والملك لله.(2/267)