[مقدمة الكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ش: ابتدأ الكتاب بالبسملة أولا، ثم ثنى بالحمدلة اقتداء بالكتاب العزيز المستفتح هكذا، وعملا بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله وبسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع.» رواه الحافظ عبد القادر الرهاوي في أربعينه: وفي رواية أبي داود والنسائي: «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» وفي رواية ابن ماجه: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع» ورواه أبو عوانة وابن حبان في صحيحيهما.
وقال ابن الصلاح: ورجاله رجال الصحيح سوى مرة بن عبد الرحمن فإنه ممن تفرد به مسلم بالتخريج له. قال: وهو حديث حسن، بل صحيح.
ومعنى: " أقطع ": قليل البركة، وكذلك: " أجذم " بالجيم من جذم بكسر الذال المعجمة يجذم بفتحها.
فإن قلت: إن بين النصين تعارضا ظاهرا، والابتداء بأحدهما مفوت الابتداء بالآخر.
قلت: يمكن الجمع بأن يقدم أحدهما على الآخر، فيقع الابتداء بالمقدم حقيقة وبالآخر بالإضافة إلى ما سواه، فعمل بالكتاب الوارد بتقديم التسمية والإجماع المنعقد عليه، فلذلك ترك العاطف لئلا يشعر بالتبعية فيخل بالتسوية.
فإن قلت: في قولك: " اقتداء بالكتاب العزيز المستفتح هكذا " نظر من وجهين: أحدهما:(1/105)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أنه إنما يتجه الابتداء بالحمد لو لم يكتب في الأول البسملة، وكيف لا، وحال المسلم ينافي قصدا ترك البسملة؟. والآخر: أن الكتاب العزيز لم يستفتح بالحمدلة؛ لأن الترتيب فيه إما بالنظر إلى النزول على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو بالنظر إلى الترتيب العثماني، فإن كان الأول فلا ثم أنه لم يستفتح بالحمد بل بسورة العلق والمدثر على الاختلاف، وإن كان الثاني فهو استفتح بالبسملة قطعا.
قلت: المراد من القول: " اقتداء بالكتاب العزيز المستفتح هكذا " بالنظر إلى ما تقرر عليه استفتاح الكتاب، فكان مطابقا لترتيبه في الابتداء بالبسملة والثني بالحمدلة.
" والباء " في بسم الله للاستعانة، وهي الداخلة عل آلة الفعل، نحو: كتبت بالقلم، ونجرت بالقدوم؛ لأن الفعل لا يتأتى على الوجه الأكمل إلا بها، لأن المؤمن لما اعتقد أن فعله لا يصير معتدا به حسب الشرع، ولا موافقا في السنة حتى يذكر الله وإلا لكان فعلا كأي فعل، لذلك جعل متقولا بسم لله كما يفعل الكاتب بالقلم، ويجوز أن يتعلق باقرأ تعلق الدهن بالإنبات في قَوْله تَعَالَى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] على معنى نتبرك باسم الله وأقرأ. وكذلك قول الداعي للعرس: بالرفاء والبنين. وهذا الوجه أقرب وأحسن. وعرفت أن الفعل الذي تعلق به الباء على الاسم محذوف، حذف لدلالة الحال عليه، والمعنى: بسم الله أقرأ، أقرأ: أتلو لأن الذي يتلوه مقروء، كما أن المسافر إذا حل أو ارتحل قال: بسم الله والبركات، كأن المعنى: بسم الله أحل وبسم الله أرتحل متبركا به. وكل فاعل يبدأ فيه باسم الله كان مضمرا بما جعل التسمية مبتدأ له.
واعلم أن الظرف أعني " باسم " في الوجه الأول على الإلغاء، وفي الوجه الثاني على الاستقرار ومحله منصوب على الحال، والعامل هو الفعل المحذوف، وإذا قدرنا: ابتدائي بسم الله كان محلها الرفع، والباء على هذا متعلقة بالخبر المحذوف هو نائب عنه كأنه قيل: ابتدائي ثابت أو مستقر بسم الله ونحو ذلك.
فإن قلت: لم لا يتعلق بابتدائي؟.
قلت: لا يجوز ذلك؛ لأنه مصدر، فلو تعلقت به لدخلت في صفاته، وبقي المبتدأ بلا خبر، وذلك أن المصدر إذا كان بمعنى: " أن فعل " و " أن يفعل " احتاج إلى صلة. ونقل بعضهم عن البصريين أن تقديره: أول ما ابتدأته به بسم الله، ولا يجوز أن يتعلق الباء في هذا الوجه بأبدأ؛ لأنه في صلة ما، وما تعلق بالموصول لا يجوز أن يكون خبرا، فتكون الباء متعلقة بمحذوف وهو خبره. وعن الكسائي أن الباء زائدة؛ لأن الباء لا تعلق بشيء، وموضع " الله " وقع تقديره وأول ما أبدأ به: اسم الله. وزيادة الباء في خبر المبتدأ عزيزة جدا لا تكاد توجد إلا ما حكي عن الأخفش: الباء في قَوْله تَعَالَى: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس: 27] م: (يونس: آية 27) ، والتقدير: مثلها، بدليل(1/106)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قَوْله تَعَالَى في موضع آخر: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] (الشورى: آية 40) ، والصواب أن الباء هاهنا متعلقة بمحذوف، والتقدير: سيئة " جزاء سيئة واقع بمثلها. ويجوز أن يتعلق بجزاء والخبر محذوف التقدير: وجزاء..... " بمثلها واقع أو حاصل، وما نقل عنه ضعيف عند المحققين.
واعلم أن الأولى أن يقدر المحذوف متأخرا قصدا إلى اختصاص الابتداء بسم الله؛ وذلك لأن العرب كانوا يبدءون بأسماء آلهتهم، فيقولون: بسم اللات، بسم العزى. وذلك أولى للموحد، كما في قَوْله تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] حيث صرح بتقديم الاسم إرادة الاختصاص. وهذا بخلاف: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] (العلق: آية 1) ، فإن هناك تقديم الفعل أوقع؛ لأنها أول سورة نزلت، فكان الأمر بالقراءة أهم.
وللباء أحد عشر معنى:
الإلصاق: نحو: مررت بزيد. أي التصق مروري بمكان يقرب منه زيد. وقد يقال: إن هذه الباء مكملة بالفعل، ومنه: حلفت بالله، ويقال: معنى الإلصاق لا يفارقها في كل الأحوال.
والتعدية: وتسمى باء الفعل أيضا: نحو: ذهب بزيد.
والاستعانة: وقد مر.
والسبب نحو: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ} [البقرة: 54] م: (البقرة: آية 54) ، {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40] م: (العنكبوت: آية 40) .
والمصاحبة: نحو: {اهْبِطْ بِسَلَامٍ} [هود: 48] (سورة هود: آية 48) أي: معه.
والظرفية: نحو: {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر: 34] (سورة القمر: آية 34) .
والبدل: كقول الحماسي:
لي بهم قوما إذا ركبوا
والمقابلة: وهي الداخلة على الأعراض: كاشتريته بألف.
والمجاورة: ك " عن "، فقيل: تختص بالسؤال نحو: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] (الفرقان: آية 59) . وقيل: لا تختص به.
والاستعلاء: نحو: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} [آل عمران: 75] (آل عمران: آية 75) .
والتبعيض: أثبته الأصمعي والفارسي وابن مالك، قيل: والكوفيون جعلوا منه: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] (الإنسان: آية 6) ، ومنه: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] (سورة المائدة: آية 6) .
والقسم: وهي أصل أحرفه.(1/107)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والغاية: نحو: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} [يوسف: 100] (سورة يوسف: آية 100) ، أي إلي.
والتوكيد: وهي الزائدة، فتكون في الفاعل: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79] (النساء: آية 79) ، وتكون في المفعول نحو: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] (البقرة: آية 195) ، وتكون في المبتدأ، نحو: " بحسبك درهم "، و " خرجت فإذا بزيد " ونحو ذلك.
وقد قيل: إن الباء في {وَكَفَى بِاللَّهِ} [النساء: 79] ليست لغوا، ويجوز أن يكون الفعل مقدرا بعد كفى، ويكون {بِاللَّهِ} [النساء: 79] صفة له قائمة مقامه، ويجوز أن يكون الفاعل مضمر العين المنصوب بعده، أعنى: شهيدا. كما تقول: نعم رجلا زيدا، أو زيد رجلا، قال هذا القائل: ولو كانت الباء زائدة هناك لكان القياس أن يلحق الفعل عليها علامة التأنيث في قَوْله تَعَالَى: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14] (الإسراء: آية 14) ؛ لأنه للنفس، وهو ما يغلب عليه التأنيث.
وقال بعضهم: إن الباء تكون للتجريد، نحو: " لقيت بزيد بحرا ". وإنما سمي تجريدا؛ لأنك إذا قلت: زيدا بحرا، كأنك لقيت زيدا وهو جواد فجردته.
فإن قلت: الحرف مبني، وحق البناء السكون.
قلت: لا ينافي الابتداء بها.
فإن قلت: حق الحرف الواحد الفتح لخفته، نحو واو العطف وفائه، وسين الاستقبال، وغيرها.
قلت: لأنهم شبهوا حركتها بحركة معمولها فكسروها.
فإن قلت: الكاف حرف، وهي مع ذلك مفتوحة.
قلت: الكاف يدل على معنيين: معنى الاسم، ومعنى الحرف، فبالأولى أن يحرك بأخف الحركات.
وحكي عن أبي علي بن عيسى أن الباء إنما حركته ليتوصل إلى النطق بها، ولو فتحت أو ضمت لجاز أيضا، وبعض العرب يفتح هذه الباء، وهي لغة قليلة.
ولفظ الاسم أحد الأسماء لعشرة التي بنوا أوائلها على السكون، فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة؛ لئلا يقع الابتداء بالسكن. وهو من الأسماء المحذوفة الأعجاز، كيد ودم.
وأصله: يسمو، واشتقاقه من السمو عند البصريين. قال الكوفيون: من وسم يسم، وقال(1/108)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البصريون: لو كان كذلك لقالوا في تصغيره: وسيم، وفي جمعه: أوسام، فلما قالوا: سمي وأسماء دل على أن أصله: سمو. ويقال: اسم وسم بالكسر فيهما، واسم وسم بالضم فيهما.
وقال المبرد: سمعت العرب تقول: اسمه، وسمه، وباسمه، وسماه.
وإنما سقطت همزة " اسم " في " الله "؛ لأنها همزة وصل، كما في: ابن وابنة، ونحوهما وسقطت في الخط أيضا لكثرة الاستعمال.
ولفظة: " الله " اسم علم على الباري جل جلاله. والمختار أنه ليس بمشتق، وهو قول الخليل وسيبويه وأكثر الأصوليين والفقهاء. وذلك لأنه لو كان مشتقا لكان معناه معنى كليا لا يمنع نفس تصور مفهومه من وقوع الشركة، وحينئذ لا يكون قولنا: " إلا الله " موجبا للتوحيد المحض. وحيث أجمع الفقهاء على أن هذا موحد محض علمنا أنه اسم علم موضوع لتلك الذات المعينة، وليست من الألفاظ المشتقة كما ذهب إليه سيبويه وآخرون، ثم اختلفوا في اشتقاقه: فقيل: من أله يأله بفتح العين فيهما إلاهة بالكسر أي عبادة.
والإله على وزن فعال بمعنى مفعول، أي مألوه أي معبود. ثم لما كان اسما لعظيم ليس كمثله شيء أرادوا تفخيمه بالتعريف الذي هو " أل "؛ لأنهم أفردوه لهذا الاسم دون غيره، فقالوا: الإله، واستثقلوا الهمزة في كلمة يكثر استعمالهم فيها فحذفوها ثم ادغموا اللام في اللام، فصار " الله " كما نزل به القرآن.
وقيل: من أله يأله بالكسر في الماضي والفتح في الحاضر ألها بفتح الفاء والعين أي سكنا، إنما سمي الله إلها لسكون الخلق إليه في جميع حوائجهم.
وقيل: من أله: أي تحير، إنما سمي به لتحير الخلق في عظمته.
وقيل: من تأله: أي تضرع يتأله تألها، إنما سمي به لتضرع الخلق إليه.
وقيل: من لاه يلوه: أي احتجب عن إدراك الأبصار، وإحاطة الأفكار. قال الشاعر:
لاه ربي عن الخلائق طرا ... خالق الخلق لا يُرى ويرانا
فإن قلت: لم قرن لفظة الاسم بلفظة الله دون سائر أسمائه؟.
قلت: لأنه اسم الذات المستجمع لجميع الصفات العلى والأسماء الحسنى، فلذلك جعل إمام سائر الأسماء، وخصت به كلمة الإخلاص، ووقعت به الشهادة فصار شعائر الإيمان. وهو اسم ممنوع لم يسم به أحد، وقد قبض الله عنه الألسن، فلم يدع به شيء سواه. وقد كان يتعاطاه المشركون اسما لبعض أصنامهم فصرفه به الله إلى اللات صيانة لحق هذا الاسم وذبا عنه، وكذلك(1/109)
الحمد لله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجواب في " الحمد لله " فافهم.
الرحمن: فعلان من رحم، كغضبان من غضب.
والرحيم: فعيل منه. وفي " رحمان " من المبالغة ما ليس في الرحيم، فلذلك قالوا: رحمان الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا. والزيادة في البناء زيادة في المعنى. واتصاف الله تعالى بالرحمة، ومعناها العطف والحنو، مجاز عن إنعامه على عباده. وذكر الرحيم بعد الرحمن من قبيل التعميم والرديف، وذلك لأنه لما قال: الرحمن، تناول جلائل النعم، ودقائقها، ثم أردفه بالرحيم ليتناول ما دق منها وما لطف، وهما مجروران بالوصفية، وهما من الصفات المادحة بمجرد الثناء والتعظيم.
وقد اختلف في صرف رحمن ومنعه، فمن شرط في المنع انتفاء فعلانه منعه، ومن شرط وجود فعلى صرفه على ما عرفت في موضعه.
م: (الحمد لله) ش: الحمد لله هو الثناء على الجميل الاختياري نعمة كانت أو غيرها، باللسان وحده. يقال: " حمدته على إنعامه وعلى شجاعته. والشكر هو الثناء على النعمة وحدها باللسان وغيره من الجوارح، قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
فبينهما عموم. والمدح هو الثناء على الجميل اختياريا أولا باللسان وحده، فيقال: حمدت الله وشكرته، ولا يقال: مدحت، فهو أعم من وجه. وقيل: الحمد: هو الثناء باللسان على قصد التعظيم سواء تعلق بالنعمة أو بغيرها. والشكر: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم لكونه منعما سواء كان باللسان أو بالجنان أو بالأركان.
فمورد الحمد لا يكون إلا باللسان، ومتعلقه يكون النعمة أو غيرها، ومتعلق الشكر لا يكون إلا النعمة ومورده يكون اللسان وغيره، فالحمد أعم من الشكر باعتبار المتعلق، وأخص باعتبار المورد، والشكر بالعكس.
وقال الزمخشري: الحمد والمدح أخوان، فالحمد على النعمة وغيرها، والشكر على نعمة خاصة بالقلب واللسان والجوارح، والحمد باللسان وحده، وهو إحدى شعب الشكر والحمد نقيضه الذم، والشكر نقيضه الكفران.
قلت: معنى قوله: أخوان: أي مشتركان في المعنى الأصلي، وهو الثناء لاشتراكهما في الحروف الأصول، غير أن كلا منهما يدل على معنى يختص هو به على حسب الاختلاف في(1/110)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اللفظ، وذلك من وجوه:
الأول: أن المدح قد يحصل للحي وغيره، فإن من رأى لؤلؤة في غايتها يمدحها ولا يحمدها، فبينت أن المدح أعم من الحمد.
الثاني: أن الحمد يكون قبل الإحسان وبعده، والمدح لا يكون إلا بعده.
والثالث: أن المدح قد يكون منهيا عنه، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «احثوا التراب في وجوه المداحين» ، والحمد مطلق.
والرابع: المدح عبارة عن القول الدال على كونه مختصا بنوع من أنواع الفضائل. والحمد هو القول الدال على كونه مختصا بفضيلة معينة، وهي فضيلة الإنعام والإحسان.
ثم اعلم أن معنى الحمد والشكر الحقيقي في العرف أن الحمد ليس عبارة عن قول القائل: الحمد لله، بل هو فعل يشعر عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما مطلقا، بمعنى أعم من أن يكون منعما للحامد أو لغيره. وذلك أن الفعل إما فعل القلب، أعني الاعتقاد باتصافه بصفات الكمال، أو فعل اللسان، أعني ذكر ما يدل عليه من القرائن والأمارات التي تدل على أن المحمود يتصف بالصفات الكاملة، أو فعل الجوارح، وهو الإتيان بأفعال دالة على اتصافه بصفات الكمال والجمال، وأن الشكر ليس قول القائل: الشكر لله، بل صرفه جميع ما أنعم الله عليه من السمع والبصر وغيرهما إلى ما خلق وأعطاه لأجله، كصرفه النظر إلى مطالعة مصنوعاته يتوصل منها إلى المصدر صانعها، والسمع إلى تلقي ما ينبئ عن مرضاته والاجتناب عن منهياته.
ثم اعلم أن الألف واللام موضوعة إما للعهد الخارجي أو الذهني، وإما لاستغراق الجنس، وإما لتعريف الطبيعة. لكن العهد هو الأصل، ثم الاستغراق، ثم تعريف الطبيعة؛ لأن اللفظ الذي يدخل عليه اللام دال على الماهية بدون اللام. فحمل اللام على الفائدة الجديدة أولى من حمله على تعريف الطبيعة، والفائدة الجديدة هذه إما تعريف العهد أو استغراق الجنس وتعريف العهد أولى من الاستغراق؛ لأنه إنما ذكر بعض أفراد الجنس خارجا وذهنا، فحمل اللام على ذلك البعض المذكور أولى من حمله على جميع الأفراد؛ لأن البعض متيقن، والكل محتمل. وبين هذا اختلفوا إذا دخلت على المفرد أو الجمع: فقالت عامة أهل الأصول والعربية: تفيد الاستغراق فيهما جميعا إلا إذا كان معهودا.(1/111)
الذي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن أبي علي الفارسي أنه لمطلق الجنس فيهما، لا للاستغراق، وهذا أحد قولي أبي هاشم المعتزلي، وقوله الآخر: أنه في المفرد لمطلق الجنس، وفي الجمع لمطلق الجمع لا للاستغراق إلا بدليل آخر. فإذا كان كذلك فقيل: الألف واللام في الحمد للجنس، أي حقيقة الحمد كما في " أرسلها العراك " ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل واحد من أن الحمد ما هو، والعراك ما هو من بين أجناس الأفعال.
وقيل: لاستغراق الجنس. أي: الحمد كله لله تعالى. وقالت المعتزلة: للعهد؛ لأنهم يرون أن خلق أفعال العباد مضاف إليهم، فيكون تقديره: المحامد التي تتعلق بالأعيان دون الأعراض لله تعالى.
والأصح أن هذه مسألة ابتدائية للخلاف في معنى الكلام لا بنائه، على الخلاف في خلق الأفعال، فإنهم قالوا: الحمد ما يعرفه كل واحد منهم بحسب الإثم. واللام عندهم المطلق الجنس.
فإن قلت: فعلى هذا قول من يقول: إن اللام لاستغراق الجنس يكون جميع المحامد التي تتعلق بالأعيان والأعراض لله تعالى، فيكون الله تعالى هو المستحق لجميع المحامد لا غير، فكيف يصح قولهم: حمدت فلانا على شجاعته.
قلت: هو في الحقيقة، راجع إلى الله تعالى؛ لأن حمد المخلوق على صفة أو فعل حمد للخالق في الحقيقة. ثم الحمد مرفوع بالابتداء، وخبره قوله: " لله "، وأصله النصب؛ لأن أصله: نحمد الحمد لله، فلما حذف " نحمد " عدل عن النصب إلى الرفع، ليدل على ثبات المعنى؛ لأنه حينئذ يصير الكلام جملة إسمية، وهي راسخة القدم بخلاف الفعلية الدالة على التجدد والحدوث، وأيضا في الفعلية يكون الحمد مقيدا بقائله وليس الأمر كذلك، بل الله محمود قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين، سواء حمده عبيده أو لم يحمدوه، فهو محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم.
م: (الذي) ش: هو صفة، اسم موصول مع صلته في محل الخبر؛ لأنه صفة الله تعالى.
واختلفوا فيما يعمل في الصفة: فذهب جماعة، منهم سيبويه والمزاني وابن كيسان والزجاج، إلى أن العامل فيها هو العامل في الموصوف. وذهب الأخفش إلى أن العامل في الصفة كونها صفة، وأن الوصف يجري على ما قبله وليس معه لفظ عمل فيه، وإنما يعمل فيه كونه وصفا، فذلك هو الذي يرفعه وينصبه ويجره، كما أن المبتدأ اسم رفعه الابتداء، والابتداء معنى عمل فيه ليس لفظا، فكذلك هذا.(1/112)
أعلى معالم العلم وأعلامه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: لم بني الذي على السكون؟
قلت: لأنه يشبه الحرف من حيث إنه لا يستقل بنفسه.
فإن قلت: لم أعرب في حال التثنية؟
قلت: بالتثنية يزول الشبه، إذ لا مثنى في الحروف فيعود إلى أصل استحقاقه في الإعراب. ومنهم من يشدد ياءه ويخفضونه أيضا من غير وجه، لاستطالتهم إياه مع صلته، فقالوا: " الذر " بحذف الياء، ثم " الذ " بحذف الحركة، ثم حذفوه رأسا واجتروا عنه باللام، وذلك في نحو: الضارب إياه زيدا، واسم الفاعل هاهنا في معنى الفعل ومعناه الذي ضرب إياه.
م: (أعلى) ش: مأخوذ من الإعلاء، وثلاثيه: علا يعلو. يقول: علا في المكان يعلو علوا، وعلي بالكسر، في الشرف، يعلى علاء بالفتح، ويقال أيضا: علا بالفتح علاء.
م: (معالم العلم) ش: كلام إضافي، مفعول أعلى. والجملة صلة الموصول. وهو جمع معلم بفتح الميم وهو موضع العلم، والمعنى رفع مواضع درك العلوم، وأراد بها أصول الشرع، لكونها مدرك العلم الشرعي، وقيل: أراد بها العلماء على معنى أنهم مواضع أخذ العلوم. وأما إعلاء الله إياهم فظاهر، قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] (المجادلة: الآية 11) ، حيث خصهم بالذكر ثانيا بعد دخولهم في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 11] إظهارا لزيادة درجاتهم عنده.
م: (وأعلامه) ش: عطف على المعالم، وهو جمع علم بفتحتين وهو الجبل، وأراد به العلماء تشبيها لهم بالجبال، لكونها أوتاد الأرض. وجه الاستعارة أن الجبال تمنع الأرض من التحرك والتمايل، فكذلك العلماء بين ظهراني الأمة، بل ينزلون منهم منزلتها، لكونهم يمنعون عن الميل إلى الزيغ والعناد، ويعني قيام أمورهم وانتظام أقوالهم على منهاج العدل في الشرع يكون منهم، ويقال: المراد من الأعلام: إثبات الأحكام الشرعية وشروطها. فعلى هذا يكون جمع علم، يعني ما يعلم به الشيء، وإعلاء الله إياها ظاهر حيث جعلها في حق العباد، وشرفها على غيرها. ومن جملة محاسن هذا التركيب أنه مشتمل على ما يلحق الجناس، وهو شيئان:
أحدهما: أن يجمع اللفظين الاشتقاق، نحو قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} [الروم: 43] (الروم: الآية 43) فإن أقم والقيم يرجعان في الاشتقاق إلى القيام.
والثاني: أن يجمعهما ما يشبه الاشتقاق وليس به، نحو قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168] (الشعراء: الآية 168) فإن " قال " و " القالين " يشبه أن يكونا راجعين في الاشتقاق إلى أصل واحد، وليس كذلك.(1/113)
وأظهر شعائر الشرع وأحكامه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فقوله أعلى مع غيره من قبيل الثاني، والثلاثة الأخر من قبيل الأول، فإن المعالم والمعلم والأعلام كلها ترجع إلى أصل واحد. والعلم في اللغة بمعنى المعرفة نقيض الجهل، من علمت الشيء أعلمه علما: عرفته. وفي الاصطلاح ما ذكره الشيخ أبو منصور الماتريدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: العلم في اللغة صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت به هي. ويقال: العلم إدراك النفس بمعنى الشيء، إذ كل من وجد له إدراك المعنى وجد له العلم من حيث إنه وجد له من ذلك الإدراك، وكل من عدم له ذلك الإدراك عدم له العلم من هذه الحيثية.
قلت: حاصل هذا أنه ليس للعلم ماهية سوى إدراك النفس لمعنى الشيء. وقد قالت طائفة، منهم الغزالي والدارمي، بعدم جواز تعريفه؛ لأن غير العلم يعرف به، فلو عرف بغيره يلزم الدور. ويمنع ذلك بأن جهة توقف غير العلم عليه من حيث إنه إدراك له، وتوقفه على غيره لا من جهة أن ذلك الغير إدراك له، بل من جهة أنه صفة مميزة له عما سواه.
م: (وأظهر) ش: عطف على " أعلى " من الإظهار، وهو من ظهر الشيء ظهورا بالفتح بينا.
م: (شعائر الشرع وأحكامه) ش: الشعائر مفعول أظهر. وهو جمع شعارة، وقال الأصمعي: جمع شعيرة، وإليه مال السراج، والأولى هو الأول؛ لأن الشعيرة واحدة الشعير الذي هو من الحبوب؛ والشعيرة أيضا: البدنة تهدى. والشعارة كل ما جعل علما لطاعة الله تعالى. قال الجوهري: الشعائر: أفعال الحج، وكل ما جعل علما لطاعة الله عز وجل. ويقال: المراد بها: ما كان أداؤه على سبيل الاشتهار، كأداء الصلاة بالجماعة، وصلاة الجمعية والعيدين، والأذان، وغير ذلك مما كان فيه اشتهار.
وقوله: " الشرع " يحتمل معاني:
أحدهما: أن يكون بمعنى المشروع فيتناول الأسباب والأحكام الشرعية.
والثاني: أن يكون بمعنى الشارع، ويكون من قبيل إقامة المظهر موضع المضمر.
الثالث: أن يكون بمعنى الشريعة، يقال: شرع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما يقال: " شريعة ".
فإن قلت: ما هذه الإضافة في " شعائر الشرع "؟.
قلت: البيان، من قولهم: خاتم فضة، وثوب خز.
فإن قلت: كيف يكون من هذا القبيل؛ لأن الثوب هو عين الخز، والخاتم هو عين الفضة، وليست الشعائر هي عين الشرع؟.
قلت: الشرع بمعنى المشروع، والشعائر على التفسير الذي ذكرنا، من عين المشروع.(1/114)
وبعث رسلا وأنبياء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: أليست هذه الإضافة إضافة الشيء إلى نفسه.
قلت: لا؛ لتغاير اللفظين، ولأن " الشعائر " قبل الإضافة يحتمل أن يكون الشعائر غير المشروع، كالثوب والخاتم قبل الإضافة، فبالإضافة نقطع الاحتمال. وفيه من صفة البديع السجع، وهو: تواطؤ الفاصلتين في النثر على حرف واحد، وهما الكلمتان اللتان هما عجز القرينتين، والفاصلة في النثر كالقافية في النظم.
فإن قلت: أي سجع هو من الأقسام؟
قلت: سجع متواز وهو: أن لا تختلف الفاصلتان في الوزن، ولكن لا يكون جميع ما في القرينة ولا أكثره بمثل ما يقابله من الأخرى نحو: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} [الغاشية: 13] {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} [الغاشية: 14] (الغاشية: الآية 13، 14) لاختلاف سرر وأكواب في الوزن والقافية.
م: (وبعث) ش: جملة حال من الفعل والفاعل، وهو الضمير المستتر فيه الذي يرجع إلى " الله "، وهو عطف على قوله: " وأظهر ". يقال: بعث يبعث بعثا، وبعثه يعني أرسله فانبعث وبعث الناقة: أي ساقها. وبعثه من منامه أي أهبه. وبعث الموتى: نشرهم ليوم القيامة. وانبعث في البيران: أي يشرع.
م: (رسلا) ش: مفعول بعث، وهو جمع رسول من أرسلت فلانا في رسالته، وهو مرسل ورسول. فالمرسل اسم مفعول، والرسول صفة مشبهة. وقد يجيء الرسول بمعنى الرسالة.
قال الأشعر الجعفي:
ألا أبلغ أبا عمر رسولا ... بأني عن فتاحتكم غني
أي رسالة. وصيغة فعول يستوي فيها الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث مثل عدو وصديق، قال الله تعلى: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] (سورة الشعراء: الآية 16) ولم يقل رسلا؛ لأن فعولا وفعيلا تستوي فيها هذه الأشياء.
م: (وأنبياء) ش: عطف على رسلا، وهو جمع نبي: فعيل بمعنى فاعل من النبأ، وهو الخبر. إلا أن أهل مكة - يشرفها الله تعالى - يهمزون هذه الحروف، ولا يهمزون في غيرها، وكذلك في أنبياء. وينبغي أن يقال: أنبئاء بالهمزتين، لكن الهمزة لما أبدلت وألزمت الإبدال جمع على ما هو الأصل؛ لأنه حرف علة، كعيد وأعياد. ويجمع النبي أيضا على نبآء بضم النون، قال العباس بن مرداس السلمي:
يا خاتم النبآء إنك مرسل ... بالخير, كل هدى السبيل هداكا(1/115)
- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم الفرق بين الرسول والنبي: أن الرسول: من بعث لتبليغ الوحي ومعه كتاب، والنبي: من بعث لتبليغ الوحي مطلقا، سواء كان بكتاب أو بلا كتاب، كيوشع - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فكان النبي أعم من الرسول: كذا قال الشيخ قوام الدين الأترازي في " شرحه "، وهو قد تبع في ذلك صاحب " النهاية " حيث قال: الرسول: هو النبي الذي معه كتاب، كموسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، والنبي: هو الذي ينبئ عن الله وإن لم يكن معه كتاب كيوشع - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ومن هنا قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» ، ولم يقل: " كرسل بني إسرائيل "، وتعبهما الشيخ أكمل الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفرق بينهما هكذا.
ثم قال: وهو الظاهر. كل هذا لا يخلو عن مناقشة، وذلك لأنه يلزم على تفسيرهم أن يخرج جماعة من الرسل عن كونهم رسلا، كآدم ونوح وسليمان، ونحوهم - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، فإنهم رسل بلا خلاف، ولم ينزل عليهم كتاب كما نزل على موسى.
والصحيح هنا أن الرسول من نزل عليه الكتاب، أو أتى إليه ملك، والنبي من يوقفه الله تعالى على الأحكام، أو تبع رسولا آخر، ولهذا قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» ، والعجب من الشيخ أكمل الدين مع ادعائه التحقيق في مصنفاته كيف رضي بالتفسير المذكور، ثم قال: وهو الظاهر؟! ومع هذا فهو ليس بظاهر على ما لا يخفى.
م: (- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -) ش: هذه الجملة إخبار في الصورة، ولكنها إنشائية في المعنى؛ لأن المعنى: الله صل عليهم صلواتك. وهو جمع صلاة، وهي في اللغة: الدعاء.
قال الأعشى:
تغايلها الرياح في دنها ... وصل على دنها وارسم
وهو اسم وضع موضع المصدر، يقال: صليت صلاة، ولا يقال: تصلية. ومعناها من الله: الرحمة، ومن الملائكة: الاستغفار، ومن المؤمنين: الدعاء. ومعناها الشرعي في حق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم عظمه في الدنيا بإعلاء كلمته، وإحياء شريعته، وفي الآخرة برفع درجته، وتشفيعه في أمته، هكذا سمعت من الأساتذة الكبار. وأما في حق غيره من الأنبياء فمعناها ما ذكرنا، من الله: الرحمة، إلى آخره.
قوله: " أجمعين ": جمع " أجمع "، وهو من ألفاظ التوكيد المعنوي وهي: النفس، والعين،(1/116)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكلاهما، وكلتاهما، وكل، وأجمع، وأكتع، وأبتع، وأبصع. ولا يؤكد بكل وأجمع إلا شيء ذو أجزاء يصح افتراقها حسا، نحو: زيد وعمر وبكر وغيرهم، أو حكما، نحو: اشتريت العبد كله أجمع، فإن العبد، وإن لم يكن له أجزاء يصح افتراقها حسا لكن له أجزاء يصح افتراقها حكما؛ لأنه يجوز أن يكون المشترى منه ربعه، أو ثلثه، أو نصفه، أو ثلثيه.
واعترض على المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأنه ترك ذكر محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مع كونه الأصل المحتاج إلى ذكره؛ لأنهم ذكروا أنه مما لا بد منه في أوائل المصنفات. الابتداء بالبسملة، ثم بالحمدلة، ثم بالصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصريح اسمه، والمصنف خالف المصنفين أصحاب التصانيف والرسائل.
وأجاب عنه الشيخ أكمل الدين بأن المراد بالرسل والأنبياء محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لكن جمعه تعظيما له وإجلالا لقدره. قال الشيخ قوام الدين: كان ينبغي أن يصلي على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصدا بذكر اسمه وصفاته؛ لأن الله تعالى قد رفع ذكره، قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] (سورة الشرح: آية 4) والغالب أنه سها، ولكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة.
قلت: كل منهما أبعد. أما الأول فلأن لفظة " أجمعين " ترد عليه؛ لأنه أكده بها، فالتأكيد يقطع احتمال المجاز، وإطلاق الجمع وإرادة الواحد مجاز. ونصره بعضهم بأن قوله: " أجمعين " باعتبار صورة اللفظ، ورد عليه بأن أجمعين لفظ معنوي ينافي أن يخص قوله: " رسلا وأنبياء " بطائفة معينة منهم.
وأما الثاني: فإنه نسبه إلى السهو، وهو ليس بجواب، بل الجواب هاهنا بوجهين:
أحدهما: أن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - قصد من ذلك المبالغة، والبلاغة في ذلك لما فيه من ذكره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مرتين؛ لأنه دخل أولا في قوله " رسلا "؛ لأنه من جملة المرسلين بل سيدهم وأشرفهم، وأفضلهم ثم دخل ثانيا في قوله: " وأنبياء "؛ لأن كل مرسل نبي فيكون ذكره مرتين، وإن كان ضمنا، أبلغ من ذكره مرة واحدة صريحا، والتضمين أبلغ من التصريح؛ لأن الاعتماد في الصريح على اللفظ، والدلالة منه، وفي التضمين على الفعل، والدلالة من جهة، وبين الدليلين والدلالتين فرق كبير.
والثاني: ما سنح في خاطري من الأنوار الإلهية في الجواب القاطع الذي ليس وراءه شيء، وهو أن المصنف إنما لم يصرح باسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة عليه بل أضمره ليكون ذلك من باب الإضمار والإبهام، وهو طريق من طرق البلاغة؛ لأن فيه إشارة إلى علو شأنه، وارتفاع قدره، وتفخيم فضله على ما لا يخفى على أحد، لما فيه من الشهادة على أنه المشهور الذي لا يشتبه، والمبين الذي لا يلتبس، كما أضمره الله تعالى في قوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253](1/117)
إلى سبل الحق هادين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(البقرة: الآية 253) ، حيث صرح أولا بما على موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقوله: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] (البقرة: الآية 253) ولا شك في اشتهار موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالكلام، ثم صرح باسم عيسى بقوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 253] (البقرة: الآية 253) ، وذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم بطريق الإبهام والإضمار بقوله: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253] (البقرة: الآية 253) إشارة إلى ما ذكرنا. وعليه قول الحطيئة لجرير: من أشعر الناس؟ فقال: زهير والنابغة، ثم قال: لو شئت لذكرت الثالث. أراد به نفسه، ولو قال: لذكرت نفسي، أو قال: زهير والنابغة وأنا لم يقع كلامه مؤذنا بتعظيمه بل كان فيه نوع نقص على ما لا يخفى.
م: (إلى سبل الحق) ش: تعلق بقوله " هادين "، وإنما أخره لإقامة السجع. والسبل بضمتين جمع سبيل، وهو الطريق، يذكر ويؤنث، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108] (يوسف: الآية 108) فأنث، وقال: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146] (الأعراف: الآية 146) فذكر، ويصح في الجمع تسكين الباء أيضا، والحق خلاف الباطل.
قلت: الحق مستعمل في معان:
أحدها: النزول، يقال: حق يحق، إذا نزل.
والثاني: الوجوب، يقال: حق عليه: إذا وجب.
والثالث: الصدق والصواب، يقال: قوله حق: أي صدق وصواب.
" ومعناه في الاصطلاح: الحق ما غلب حجة وأظهر التمويه في غيره "
م: (هادين) ش: نصب على أنه صفة لقوله: " رسلا وأنبياء " ويقال: نصب على الحال من رسلا وليس بصحيح؛ لأن الحال من النكرة لا يصح إلا بتقديم ذي الحال على الحال. وقد علم أن حق الحال أن يكون نكرة، وحق ذي الحال أن يكون معرفة، للفرق بينهما وبين الصفة والموصوف، فقيل: لأن الحال هو الخبر في الحقيقة، والخبر حقه التنكير.
قلت: هما يتفقان في هذا، ولكنهما يفترقان من وجوه، الأول: أن الحال ما يحتمل الأوصاف فيميز بأحد الأوصاف، والتمييز ما يحتمل الأجناس فيميز بأحد الأجناس. الثاني: أن الحال لا ينقسم إلى ما يقع عن المفرد والجملة والتمييز إلى ذلك، ففي الجملة نحو: طاب زيد نفسا، فالإبهام في النسبة، وعن المعرف نحو: عندي دامور خلافا الإبهام في دامور. والثالث: أن " نفسا " ليس هو " زيد " في المثال المذكور، وإنما هي شيء منه، وراكبا في قولك: جاءني زيد راكبا هو زيد كله. والرابع: التقدير في المثال المذكور، وإنما هي شيء منه، وراكبا في قولك: وطابت نفسه فالفعل للنفس وليس لزيد، وفي جاءني زيد راكبا الفعل لزيد وراكبا تبع له.(1/118)
وأخلفهم علماء إلى سننهم بينهم داعين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقوله: " هادين ": من الهداية، وهي الدلالة الموصلة إلى البغية. وأصله أن يتعدى باللام أو بإلى، كقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] (الإسراء: الآية 9) ، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] (الشورى: الآية 52) ، فجار مجرى، وقَوْله تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} [الأعراف: 155] (الأعراف: الآية 155) ، وقال الجوهري: يقال: هداه الله للذين هدى. وقَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} [السجدة: 26] (السجدة: الآية 26) . قال أبو عمرو بن العلاء: أو لم يبين لهم. وهديت الطريق، والبيت هداية: أي عرفته، هذه لغة أهل الحجاز، وغيرهم يقول: هديته إلى الطريق وإلى الدار، حكاها الأخفش، وهدى واهتدى بمعنى.
وقال الكاكي في شرحه: هداه إلى الطريق: إذا أعلمه أن الطريق في ناحية كذا، وهداه إلى الطريق: إذا ذهب به إلى رأس الطريق: أي أذهبه إلى المقصد، وذلك لا يتحقق إلا من الله تعالى، وهداه إلى الطريق: أعلمه أن الطريق في ناحية كذا، وهي وظيفة الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وهداه إلى الطريق: ذهب به وأوصله إلى رأس الطريق. واعترض عليه الشيخ قوام الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأن هذا الفرق غير صحيح، لعدمه في سائر قوانين اللغة.
قلت: هذا اعتراض صادر من غير تأمل، وذلك لأن الفرق المذكور إنما هو لسبب الاستعمال، والفارق ما ادعى أن ذلك بحسب اللغة وإن ادعى ذلك فلا يمنع؛ لأن الذي ذكره هو حاصل المعنى اللغوي.
م: (وأخلفهم علماء) ش: عطف على قوله: " وبعث رسلا "، وهي جملة من الفعل والفاعل، وهو الضمير المستتر فيه الذي يرجع إلى الله تعالى. و " أخلف " مفعولان: أحدهما: الضمير، أعني: هم، والآخر هو قوله " علماء ". والمعنى: جعل العلماء خلفاء الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وورثتهم.
وقال الشيخ قوام الدين الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأخلفهم علماء: من قولهم: خلفت الثوب: أصلحته وجعلت موضع الخلفان خلفانا، وهذا التفسير غير مرضي بل التفسير الصحيح ما ذكرناه؛ لأن مراده بيان أن العلماء خلفاء عن الأنبياء في بيان الشرائع، فحينئذ لا يفسر قوله: وأخلفهم إلا من قولهم: أخلف زيد عمرا: إذا جعله خليفة؛ لا من الثوب: إذا أصلحته. يقال: خلف فلان فلانا: إذا كان خليفة وخلفه في قومه خلافة، ومنه قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142] (الأعراف: آية 142) . وأخلفه غيره: إذا جعله خليفة له، وكذلك استخلفه.
م: (إلى سننهم بينهم داعين) ش: الجار والمجرور متعلق ب " داعين ". والسنن بفتح السين(1/119)
يسلكون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والنون: مفرد بمعنى الطريقة. يقال: استقام فلان على سنن واحد. ويقال: امض على سنتك أي على وجهك، وتنح عن سنن الجبل: أي عن وجهه. وقوله: " سننهم " بضم السين وفتح النون جمع سنة وهي الطريقة المسلوكة المرضية. وقال الجوهري: السنة: السيرة.
قال الهذلي يخاطب أبا ذؤيب:
فلا تجزعن من سنة أنت سيرتها ... وأول راض سنة من يسرها
وبين السنن والسنن تجنيس محرف، وهو من جملة محاسن الكلام. وقال الشيخ قوام الدين: فلو قال بضم السين في الموضعين ليكون تجنيسا تاما لكان أحسن، إلا أن الرواية بالمفتوح خاصة؛ لأن المضموم في معناه قليل الاستعمال.
قلت: الذي ذكره أولى وأبلغ؛ لأن اختلاف الحركات تحصل زيادة رونق في الكلام، وأنواع التجنيس كلها من محاسن الكلام ولم يرجح منها شيء على غيره. والتجنيس التام: أن يتفق اللفظان في أنواع الحروف وهيئاتها نحو الحركات والسكنات، وفي ترتيبها مع تقديم بعض الحروف على بعض وتأخيره عنه. وإن اختلفا في هيئة الحروف فقط سمي التجنيس محرفا.
قوله: " داعين " جمع داع: من دعوت فلانا: إذا صحبته واستدعيته. ويستعمل باللام وعلى وإلى، نحو: دعوت الله له، ودعوته عليه، ودعوته إلى الطعام، وهو من هذا القبيل، وقوله: " داعين وهادين " من الصفات المادحة.
فإن قلت: أليس يجوز أن يكون من الصفات الكاشفة؟
قلت: لا؛ لأنه في الصفات الكاشفة يكون الموصوف فيه نوع غموض فيكون الوصف حينئذ كاشفا لذلك الغموض، بخلاف الصفة المادحة، وهذه الصفة ليس في موصوفها ذلك على مالا يخفى، كما في " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وبينهما تجنيس متواتر.
م: (يسلكون) ش: تحتمل أمورا ثلاثة:
الأول: أن تكون صفة لهم.
الثاني: أن تكون حالا عنهم.
فإن قلت: النكرة لا يقع عنها الحال.
قلت: النكرة الموصوفة كالمعرفة يقع عنها الحال متأخرة، وهاهنا قد اتصف العلماء بقوله: داعين.(1/120)
فيما لم يؤثر عنهم مسلك الاجتهاد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثالث: أن تكون بيانا، كأن قائلا يقول: كيف دعوتهم إلى سنن سننهم؟ فقال: يسلكون.
م: (فيما لم يؤثر عنهم) ش: فإن قلت: ما موضع هذه الجملة في الأحوال الثلاثة؟.
قلت: أما الأول فالنصب؛ لأن الموصوف منصوب على المفعولية، وأما في الثاني فالنصب على الحالية، وأما في الثالث فلا محل لها من الإعراب، اللهم إلا إذا قدرنا مبتدأ محذوفا نحو: هم يسلكون، فحينئذ يكون موضع " يسلكون " من الإعراب رفعا على الخبرية، وقد علم أن الجملة لا تكتسب شيئا من الإعراب إلا إذا وقعت موقع المفرد، فحينئذ إعرابه محلا.
ويسلكون: من سلك الشيء في الشيء فانسلك، أي أدخله فيه فدخل، ومصدره: سلك بفتح اللام. وأما السلك بكسر السين وسكون اللام فهو الخيط. والمعنى هاهنا: يدخلون فيما لم يؤثر عنهم أي عن الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، وهو على صيغة المجهول أي فيما لم يرو عنهم. وأصله من أثرت الحديث أثرته أثرا: إذا ذكرته عن غيرك، ومنه: " حديث مأثور ": أي مسند ينقله خلف عن سلف. قال الأعشى:
إن الذي فيه تماريتما ... بين للسامع والآثر
والأصل فيه الهمزة، وقد تلين للتخفيف.
وكلمة " ما ": موصولة، و " لم يؤثر " صلتها.
م: (مسلك الاجتهاد) ش: كلام إضافي منصوب على المفعولية: أي: طريق الاجتهاد. وهو اسم مكان من سلك. والاجتهاد: بذل الوسع والمجهود. وكذلك الجاهد، وأصله من الجهد وهو الطاقة، وكذلك بضم الجيم. ويقال: الجهد بالضم: المشقة. والاجتهاد، عند الفقهاء: استفراغ الفقيه وسعه لتحصيل الظن بحكم شرعي.
وقيل الاجتهاد: بذل المجهود لنيل المقصود، وفيه إشارة إلى أنهم لا يخرجون عن المأثور عن الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - ويتبعونهم فيه، ولا يعدلون إلى الاجتهاد إلا فيما لم يرد عنهم، فحينئذ يأخذون في ذلك طريق الاجتهاد، وهو أيضا في نفس الأمر علم بالأثر كما في «قضية معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لما بعثني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن قال: " كيف تقضي إن عرض قضاء؟ "، قال: قلت: أقضي بما في كتاب الله عز وجل، قال: " فإن لم يكن في كتاب الله؟ "، قال: قلت: بما قضى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: فإن لم يكن قضى به الرسول؟ "، قال: قلت: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب صدري وقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله» أخرجه البيهقي(1/121)
مسترشدين منه في ذلك، وهو ولي الرشاد وخص أوائل المستنبطين بالتوفيق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وغيره.
م: (مسترشدين منه في ذلك) ش: نصب على الحال من الضمير الذي في " يسلكون ": أي حال كونهم طالبين الرشد منه، أي من الله - عز وجل -، وذلك إشارة إلى قوله: " بما لم يؤثر عنهم ". والرشد: خلاف الغي، يقال: رشد بالفتح يرشد بالضم رشدا بضم الراء وسكون الشين، ورشد بالكسر رشدا بالضم يرشد بالفتح رشدا بفتحتين لغة فيه. والإرشاد إفعال منه، يقال أرشده إرشادا إذا دله على الخير.
م: (وهو ولي الرشاد) ش: أي: الله تعالى هو المرشد والإرشاد بيده، وهو وليه. والولي: بمعنى الصاحب، وأصله: ولي على وزن فعيل، من ولي الرجل الأمر يليه ولاية: إذا تقلده. والولي: القرب والدنو. وهذه الجملة الاسمية في محل النصب على الحال، وقد علم أنها إذا وقعت حالا لا بد فيها من الواو إلا ما ندر، نحو: كلمته فيه إلى في.
م: (وخص أوائل المستنبطين بالتوفيق) ش: خص جملة من الفعل والفاعل وهو الضمير المستتر فيه الذي يرجع إلى " الله " عطف على قوله: " أعلى معالم العلم " من خصه بالشيء خصوصا وخصوصية، وخصصه واختصه بكذا، أي خصه به.
فالأوائل جمع " أول "، وهو نقيض الآخر، وأصله: أوأل على وزن أفعل مهموز الأوسط، قلبت الهمزة واوا وأدغمت الواو في الواو. وقال بعضهم: أصله: ووأل على وزن فوعل، قلبت الواو الأولى همزة، وإنما لم يجمع على واول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع.
قول: (المستنبطين) : من الاستنباط وهو الاستخراج، وأصله من نبط الماء ينبط وينبط نبوطا. وانبط العقار: بلغ الماء. وعند الأصوليين: الاستنباط: استخراج الوصف فيه. وقال الشيخ قوام الدين وغيره: المراد من " أوائل المستنبطين ": هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وصاحباه أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، ومحمد بن الحسن الأنصاري الشيباني - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، فإنهم الذين مهدوا قواعد المسائل حتى قيل: إن ما وضعه أصحابنا من المسائل الفقهية هو ألف ألف ومائة ألف وسبعون ونيف مسألة.
وقال الخطيب موفق بن أحمد المكي في مناقب أبي حنيفة عن مالك بن أنس - رضي الله(1/122)
حتى وضعوا مسائل من كل جلي ودقيق. غير أن الحوادث متعاقبة الوقوع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه - وقد قيل له: كم قال أبو حنيفة في الإسلام؟ قال: ستين ألفا، يعني مسائله.
ثم قال الخطيب: ذكر الثقة أن أبا حنيفة قال في السنة ثلاثة وثمانين ألفا وثمانية وثلاثين أصلا في العبادات، وخمسة وأربعين أصلا في المعاملات. وقال غيره: إن أبا حنيفة وضع ثلاثمائة أصل، كل أصل يخرج منه عشرة من الفروع. وذهب قوام الدين وغيره من قوله: " أوائل المستنبطين " إلى أن المراد منه أبو حنيفة وصاحباه؛ نظرا إلى أن هذا الكتاب في بيان مذهب أبي حنيفة، فلذلك خصصه به، ولكن لا يلزم من ذلك التخصيص بل الظاهر منه فقهاء الصحابة والتابعين أو سائر المجتهدين من الفقهاء المتقدمين؛ لعموم الكلام.
قوله: " بالتوفيق ": يتعلق بقوله " خص "، وهو حسن عناية الله لعبده. وقال بعض أهل الكلام: التوفيق: خلق الله قدرة الطاعة، والخذلان: خلق قدرة المعصية.
م: (حتى وضعوا مسائل من كل جلي ودقيق) ش: حتى: للغاية بمعنى إلى، والمسائل: جمع مسألة، وهو موضع السؤال، كذا قال بعضهم، وليس كذلك، بل المسألة مصدر، قال الصاغاني: بمسألة الشيء ومسألة من الشيء: سؤالا ومسألة.
قوله: " من كل جلي " كلمة " من " للبيان، وموضعها النصب على الوصفية، تقديره مسائل جلية ودقيقة. والجلي: الظاهر، وهو نقيض الخفي، وأراد به المسائل القياسية لظهور إدراكها. وقال صاحب " النهاية ": نظيرها إذا وقعت البعرة في البئر، فيه قياس واستحسان. فالقياس: أن تفسد الماء لوقوع النجاسة في الماء القليل، هذا دليل ظاهر دركه. والاستحسان: أن لا يفسد؛ لأن آبار الفلوات ليس لها رؤوس حاجزة، والمواشي تبعر حولها، وتلقيها الريح فيها، فجعل القليل عند الضرورة عفوا، ولا ضرورة في الكثير، وهذا دليل خفي دركه.
قلت: تخصيص الجلي بالمسائل القياسية فيه نظر؛ لأنه قد تكون مسألة قياسية في غاية الدقة، ومسألة استحسانية في غاية الجلاء والظهور.
قوله: " ودقيقة ": من دق الشيء يدق دقة: أي صار دقيقا، وهو خلاف الظاهر. والدقاق بالضم والدق بالكسر مثل الدقيق.
م: (غير أن الحوادث متعاقبة الوقوع) ش: هذا استثناء من قوله " حتى وضعوا " ويضاف إلى قوله " غير ". وهو اسم ملازم للإضافة في المعنى، ويجوز أن يكون صفة للنكرة، نحو قَوْله تَعَالَى: {نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37] (فاطر: الآية 37) ، أو لمعرفة قريبة منها، نحو: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] (الفاتحة: الآية 7) .(1/123)
والنوازل يضيق عنها نطاق الموضوع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثاني: أن يكون استثناء يعرب بإعراب الاسم الثاني إلا في ذلك الكلام، تقول: جاءني القوم غير زيد بالنصب، وما جاءني من رجل غير زيد، بالنصب والرفع، وهو هاهنا من هذا القبيل.
(والحوادث) جمع حادثة، وأراد بها المسائل الواقعة بين الناس.
وقوله: (متعاقبة الوقوع) : كلام إضافي مرفوع؛ لأنه خبر أن.
واعلم أن هذا الاستثناء جواب عن سؤال مقدر، تقديره أن يقال: إذا كان أوائل المستنبطين وضعوا مسائل من كل جلي ودقيق، فأي حاجة تدعو إلى الاستنباط والتصنيف بعدهم؟ فأجاب بقوله: " غير أن الحوادث " إلى آخره، تقديره أنه قال: نعم، وإن كان الأمر كذلك لكن الحوادث متعاقبة: أي يقع شيء منها عقيب شيء، فلا تنقطع. والنوازل تنزل ساعة فساعة، فلا يستوعب جمعها نطاق مصنوعات الأوائل؛ فاحتيج إلى وضع آخر على حسب حادثة تحدث ونازلة تنزل. فحاصل الكلام هذا إشارة إلى وجه شروعه في تصنيف هذا الكتاب، والكلام مع أنه قد جرى منه وعد في مبدأ البداية فلا يجوز خلفه في الديانة.
م: (والنوازل يضيق عنها نطاق الموضوع)
ش: " النوازل ": بالنصب، عطف على قوله " أن الحوادث "، تقديره: وأن النوازل، وهو جمع نازلة، وهي الأمور الواقعة بين الناس.
قوله: " يضيق ": فعل، وقوله: " نطاق الموضوع " كلام إضافي فاعله. والنطاق بكسر النون هو المنطقة. وقول الجوهري: النطاق: شقة تلبسها المرأة وتشد وسطها، ثم ترسل الأعلى على الأسفل إلى الركبة، والأسفل يجر على الأرض، وليس لها حجزة ولا نيفق ولا ساقان، والجمع نطق.
وكان يقال لأسماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ذات النطاقين. وأراد بالموضوع ما وضعه الأوائل من التي يستنبطها. والألف واللام فيه بدل من المضاف إليه، تقديره: نطاق موضوع الأوائل من المستنبطين.
وبين قوله " الوقوع " و " الموضوع " سجع مطرف، وفي قوله: " نطاق الموضوع " استعارة تخييلية؛ لأن الموضوع لا نطاق له وإنما استعير النطاق للأجوبة المنقولة عن السلف في الفتاوى.
وفي قوله: " يضيق عنها " استعارة مرشحة، وأراد بضيق النطاق عدم كفاية موضوعهم لجميع الحوادث.(1/124)
واقتناص الشوارد بالاقتباس من الموارد، والاعتبار بالأمثال من صفة الرجال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (واقتناص الشوارد بالاقتباس من الموارد) ش: هذه جملة مستقلة بذاتها، وليس لها موقع من الإعراب، لعدم وقوعها موقع المفرد، وتعلقها بما قبلها كأنها جواب عن سؤال نشأ عن الكلام المتقدم، تقديره أن يقال: لما كانت الحوادث كثر وقوعها، والنوازل تضيق عنها موضوعات الأوائل فكيف قنص ما كان شاردا منها إذا لم يوقف عليه من عين النصوص؟
فأجاب بقوله: " واقتناص الشوارد بالاقتباس من الموارد "، يعني: اكتساب النوازل من الحوادث التي تعثر دركها، ويحتاج فيها إلى الاستنباط بالقياس، والأخذ من موارد النصوص، يعني: بالإطلاع على الأوصاف المؤثرة، وفيه إشارة أيضا إلى أنه قادر على الاستنباط فيما لم يرد عن السلف، ولم يؤثر عنهم مطلقا على مناط الحكيم.
" الاقتناص ": من اقتنص: إذا اصطاد وكذلك قنص ومصدره قنص بالسكون. وأما القنص بتحريك النون، فهو الصيد، والشوارد: جمع شاردة، من شرد البعير يشرد شرودا وشرادا فهو شارد وشرود، والجمع شرد مثل خدم وخادم. والاقتباس: من اقتبست منه نارا: أي أخذت منه قبسا، وهو شعلة من نار، وكذلك المقباس، يقال: قبست منه نارا اقتبس قبسا فاقتبس [أي] : أعطاني منه قبسا. (والموارد) : من ورد فلان ورودا: حضر. وأراد بها موارد النصوص من الكتاب والسنة.
وهذا التركيب يشتمل على أنواع من محاسن البديع:
الأول: فيه استعارة تخييلية، واستعارة ترشيحية. التخييلة في قوله: " الشوارد "، حيث شبه الحوادث بالوحش الشارد على التخييل. والترشيحية في قوله: " اقتناص "، حيث أورد صفة ملائمة للمستعار منه وهو الاقتناص على سبيل الترشيح.
الثاني: فيه جناس لاحق ين قوله: " الشوارد " و " الموارد " نحو قَوْله تَعَالَى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] (الهمزة: الآية 1) ، وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ} [النساء: 83] (النساء: الآية 83) ، وقوله تعلى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75] (غافر: الآية 75) ، كل هذا جناس لاحق.
الثالث: فيه سجع ترصيع، نحو قول الحريري: فهو يقطع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه.
م: (والاعتبار بالأمثال من صفة الرجال) ش: الاعتبار مبتدأ، وخبره: من صفة الرجال، والجملة معطوفة على ما قبلها، وهي جواب عن سؤال ينشأ من الجملة المتقدمة، تقديره أن يقال: إذا كان اقتناص الشوارد، والنوادر من الأحكام لا يكون إلا بالاقتباس من موارد النصوص يكون(1/125)
وبالوقوف على المآخذ يعض عليها بالنواجذ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك أمرا عظيما؛ لا يقدر على ذلك إلا السلف المشهورون بالاستنباط وإدراك المعاني الخفية، فأجاب عنه بقوله: " والاعتبار بالأمثال من صفة الرجال "، يعني إظهار الأحكام بالأقسام بالقياس من صفة الرجال الكاملين، والسلف كانوا رجالا كاملين، ونحن أيضا رجال يسوغ لنا الاعتبار بالأمثال، كما ساغ لهم ذلك. وهذا كقول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حق التابعين: هم رجال نزاحمهم كما يزاحموننا. وهذا في الحقيقة اعتذار عن شروعه في التصنيف. " والاعتبار ": مصدر من اعتبرت الشيء: إذا رددته إلى نظيره.
" والأمثال ": جمع مثل بكسر الميم، كالأشباه جمع شبه، وأراد به المقيس عليه. وفيه من المحاسن اشتماله على سجع مطرف، وهو ما يختلف فيه الفاصلتان، نحو قَوْله تَعَالَى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 14] (نوح: الآية 13، 14) ، وإن لم يختلف فهو سجع ترصيع.
م: (وبالوقوف على المآخذ يعض عليها بالنواجذ) ش: وبالوقوف عطف على قوله بالأمثال، والتقدير: قياس الأحكام على نظائرها من صفة الرجال الكاملين، " وبالوقوف على مآخذ الأحكام من ": وقفت الدابة تقف وقوفا، ووقفانا به. تعدى ولا يتعدى.
وقوله: " يعض عليها ": جملة فعلية وقعت حالا من المآخذ. وقد عرفت أن الجملة الفعلية إذا وقعت حالا وكان فعلها مضارعا مثبتا لا يحتاج إلى الواو، بل يجوز نحو: جاء الأمير تقاد الجبائب بين يديه. وأشار بهذا التركيب إلى صعوبة الوقوف على مآخذ الأحكام، وأنه من صفة الرجال الكاملين لا من صفة كل رجل واحد. وقال الشيخ قوام الدين: قوله: " بالوقوف " إلى آخره: جواب عن سؤال مقدار، بأن يقال: نعم، إن موضوعات المتقدمين لا تكفي جميع الحوادث، لوقوعها متجددة. وهذا المعنى يقتضي التصنيف والاستنباط، ولكن هل فيك تلك الصلاحية حتى اجترأت على التصنيف؟ فأجاب عنه وقال: نعم؛ لأن السلف لم يقع صنيعهم على ما عليه من الحسن والإحكام إلا باعتبار وقوفهم على مادة الأحكام، فنحن نشاركهم في هذا المعنى.
قلت: هذا كلام بعيد جدا لا يعضد من التركيب، ولا يوافق مراد المصنف على ما [لا] يخفى على الفطن. والظاهر أن المراد من هذا الكلام والذي قبله أنه أراد بهذا هضم نفسه عنه رتبة التصنيف؛ لأن ذلك بالاعتبار بالأمثال، وبالوقوف على مآخذ الأحكام، ولكن لما جرى الوعد منه في مبدأ " بداية المبتدي " بشرح يرسم بكفاية المنتهى، على ما صرح به في المتن شرع فيه لأجل وفائه بوعده، وإن كان لا يرى نفسه من رجال هذا الميدان. وأشار بهذا إلى أن مآخذ الأحكام والوقوف عليها لا يحصل إلا بمعاناة الشدة في ذلك، وهو معنى قوله: " يعض عليها "، أي على(1/126)
وقد جرى علي الوعد في مبدأ " بداية المبتدي " أن أشرحها، بتوفيق الله تعالى، شرحا أرسمه ب " كفاية المنتهى "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المآخذ " بالنواجذ ". والعض بالنواجذ كناية عن الإحكام والإتقان بعد نصب عريض، والشخص إذا أراد شدة الأخذ يعض بالنواجذ، وهي بالذال المعجمة، جمع ناجذ، وهو آخر الأضراس، وللإنسان أربعة نواجذ، في أقصى الأسنان بعد الأرحاء، ويسمى: ضرس الحلم؛ لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل. ويقال: ضحك حتى بدت نواجذه: إذا استغرب فيه. وفيه من السجع المطرف، وقد بيناه فيما مضى.
م: (وقد جرى علي الوعد في مبدأ " بداية المبتدي " أن أشرحها بتوفيق الله - تعالى - شرحا أرسمه بكفاية المنتهي) ش: أصل جرى من الجريان، يقال: جرى الماء وغيره جريا وجريانا، وأجريته أنا: ولما ضمن جرى هاهنا معنى ورد عدي ب " على "، وهو فعل ماض وفاعله " الوعد ". وكلمة " قد " فيه للتحقيق، والمبتدأ بفتح الميم موضع البدء، والبداية، بكسر الباء، مصدر بدأ، يقال بدأت بالشيء بدءا: ابتدأت به، وبدأت الشيء: فعلته. والمبتدئ: فاعل من الابتداء. قوله: " أن أشرحها ": أي: بأن أشرحها، وهو متعلق بالوعد. و " وأن ": مصدرية. والتقدير: وقد جرى علي الوعد للأصحاب بأن أشرح " بداية المبتدي ". الباء في " بتوفيق الله " يتعلق بأشرحها، ومحلها النصب على الحال، تقديره: متلبسا بتوفيق الله - تعالى -: وهو تيسيره علي ذلك.
قوله: " أشرحها شرحا " نصب على المصدرية.
قوله: " أرسمه ": جملة من الفعل والفاعل والمفعول، في محل النصب على أنها صفة " شرحا ": من رسم الشيء: إذا علم عليه. ورسم عليه: إذا كتب. والمعنى هاهنا: أسميه. فإن قلت: الواو في " وقد جرى " ما هي؟
قلت: يجوز أن تكون عاطفة عطف جملة، ويجوز أن تكون حالية.
فإن قلت: كيف وجه ذلك في الموضعين؟
قلت: أما في الأول، فتكون فيه إشارة إلى هضم نفسه، وإلى أنه غير أهل للتصنيف؛ لأن الاعتبار بالأمثال والوقوف على المآخذ من صفة الرجال الكاملين، وهو ليس منهم، ولكن لما جرى عليه الوعد في مبدأ " بداية المبتدي " شرع فيه حال كون الوعد يسوغ بعض المساغ، لئلا يكون ممن إذا وعد أخلف، فيدخل تحت الوعيد.
وأما في الثاني: ففيه إشارة إلى أن فيه صلاحية للتصنيف، وأنه من أهله، وأنه حصل له الوقوف على المأخذ بالإتقان، كما حصل لهم، فحينئذ جاز له الاعتبار. والحال أنه قد جرى عليه(1/127)
فشرعت فيه والوعد يسوغ بعض المساغ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوعد، وهو مما يسوغ بعض المساغ، يعني منفرد عن صلاحية الوعد للإتيان بالموعود فكيف مع الصلاحية؟.
واعترض الشيخ قوام الدين في هذا المقام، فقال: قال بعض الشارحين فيه بيان أن المصنف لم تتأهل نفسه للشرح. ثم قال: يعني أن المانع، وهو عدم الصلاحية، متحقق إلا أن الوعد يحرض عليه، ولولاه لامتنع. ثم قال: قوله هذا الكلام صادر لا عن تفكر وتبصر؛ لأن سياق كلام المصنف في قوله: " غير أن الحوادث " ينفر عن ذلك أو يأباه، إلى ما نادى بأعلى صوته في قوله: " والاعتبار بالأمثال من صفة الرجال " مثبت للصلاحية مدعيا كماله، فإذا حققت ما بينته قبيل هذا عرفت مزل قدم الشارح.
قلت: أراد بهذا الحط على صاحب " النهاية وتاج الشريعة "، وكلامه هو صادر عنه غير منكر؛ لأن قوله: " غير أن الحوادث " كيف ينفر عن ذلك؟ وأي دليل من أنواع الدلالات يدل على ذلك؟ لأنه الذي يقتضيه فحوى التركيب ومعنى التركيب الوجهان اللذان ذكرناهما، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر في الوجه الذي ذهب إليه صاحب " النهاية وتاج الشريعة " لدلالة السياق عليه، فافهم.
م: (فشرعت فيه) ش: أي في الشرح المسمى ب " كفاية المنتهي ". والفاء للسببية، وذلك لأن وعده كان سببا لشروعه فيه.
م: (والوعد يسوغ بعض المساغ) ش: يسوغ، أي يجوز. يقال: ساغ له ما فعل: أي جاز له. وأنا سوغت له، أي: جوزته. والمساغ بفتح الميم، مصدر ميمي بمعنى المسوغ أي التجويز. والجملة وقعت حالا من التاء في " شرعت ".
فإن قلت: الجملة الحالية تحتاج إلى ضمير يرجع إلى ذي الحال.
قلت: يجوز خلاء الجملة الحالية عن الضمير إذا أجريت مجرى الظرف لابتعاد الشبه بينهما حينئذ، ونحو قولك: أتيتك والجيش قادم، والمعنى: أتيتك هذا الوقت. والظرف لا يفتقر إلى ضمير عائد منه إلى ما تقدمه، فكذا ما أجري مجراه. وكذلك حكم الجملة الواقعة خبرا عن ضمير الشأن على ما تقرر في موضعه.
قوله: " بعض المساغ ": كلام إضافي منصوب بقوله: " يسوغ ". وقال الشيخ قوام الدين: و " بعض المساغ " منصوب على أنه مفعول مطلق، مثل قوله تعلى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17] (نوح: الآية 17) ، فقرن بالفعل غير مصدره كما في الآية.(1/128)
وحين أكاد أتكئ عنه اتكاء الفراغ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: ليس الأمر كذلك من وجهين:
الأول: أنه يلزم، على ما ذكره، أن تكون لفظة " بعض " في حكم المطروح، وليس كذلك. بل هو مقصود بالذكر؛ لأنه أشار به إلى أن الوعد بالتبرع ليس موجبا؛ لأنه يجوز حينا. والمصنف أشار إلى ذكر ذلك بقوله: وتحقيقه إن موعدي بعض الجائزات والممكنات، فمن الجوائز وقوع بعض الممكنات وإن لم يقع موعدي؛ لأنه بعض الممكنات لا كلها، فلأجلها شرعت في الشرح رجاء أن يكون موعدي من ذلك البعض الواقع. فإذا كان كذلك كيف يكون انتصاب " بعض المساغ " على أنه مفعول مطلق؟ بل هو منصوب على أنه مفعول به. ومع هذا يلزم على تقدير هذا أن يقرأ يسوغ بالتخفيف دون التشديد.
الوجه الثاني: أن تمثيله بالآية غير صحيح؛ لأن نباتا واقع مفعولا لقوله أنبتكم على معنى " إنباتا " وليس وقع لفظ المساغ، هاهنا، مفعولا لقوله: " يسوغ "، وإنما المفعول هاهنا لفظة " بعض " على ما ذكرنا، والمفعول هاهنا مفعول به، والذي في الآية مفعول مطلق فكيف تتحقق المماثلة بينهما؟!.
م: (وحين أكاد أتكئ عنه اتكاء الفراغ) ش: بين هذا الكلام وبين ما قبله من السجع المطرف، ولهذا قدم لفظة " عنه "؛ لأجل السجع، وإلا فحقه أن يقال: أتكئ اتكاء الفراغ عنه.
قوله: " أكاد ": من أفعال المقاربة، يقال، كاد يفعل كذا يكاد كودا ومكايدة أي قارب ولم يفعل. ول " كاد " اسم وخبر، إلا أن خبره يجب أن يكون فعلا مضارعا متأولا باسم الفاعل، نحو: كاد زيد يخرج، الأصل: كاد زيد خارجا. ويستعمل بغير " أن "، وربما يستعمل استعمال عسى في إثبات " أن " بعدها. قال الشاعر:
قد كاد من طول البلى أن يمحصا
وقد يستعمل عسى بغير " أن " كما في كاد. قال الشاعر:
عسى الهم الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
قوله: " أتكئ عنه ": أي عن الشرح. يقال: اتكأ عن الشيء فهو متكئ، والموضع متكأ. وقال صاحب " النهاية ": عدى الاتكاء ب " عن "، وإن كان هو يعدى ب " على "، لتضمين معنى الفراغ، كما في قَوْله تَعَالَى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260] (سورة البقرة: آية 260) على تضمين معنى الإمالة، وتبعه على ذلك صاحب " الدراية ". وقال الشيخ قوام الدين: فيه نظر؛ لأنه حينئذ يكون معناه: أفرغ عنه فراغ الفراغ، وهو كما ترى فاسد من العبارة. وصح عندي أنه من باب التقديم والتأخير، أي: اتكاء الفراغ عنه أي عن الشرح وهو " الكفاية ". وتبعه على ذلك الشيخ أكمل(1/129)
تبينت فيه نبذا من الإطناب، وخشيت أن يهجر لأجله الكتاب فصرفت العنان والعناية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدين. ويمكن أن يقال: التضمين صحيح، والفراغ يكون بمعنى الفارغ، لما يقال: رجل عدل بمعنى عادل، للمبالغة، فلا يلزم ما ذكر من المحذور.
م: (تبينت فيه نبذا من الإطناب وخشيت أن يهجر لأجله الكتاب) ش: أي: علمت فيه، هكذا فسره الشراح. وأصل معناه. الظهور. يقال: بان الشيء بيانا: اتضح فهو بين، وكذلك أبان الشيء فهو مبين. وأبنته أنا أي: أوضحته، واستبان الشيء: ظهر. وتبينته أنا، بتقدير هذا الثلاثة ولا تتعدى. والتبيين: الإيضاح والوضوح. وفي المثل: قد بين كذا أي: تبين.
قوله: " فيه ": أي في الشرح المذكور.
قوله: " نبذا ": بفتح النون، وسكون الباء الموحدة، وفي آخره ذال معجمة، أي: شيئا يسيرا. ويقال: أصاب الأرض نبذا من مطر، أي: شيئا يسيرا.
والإطناب: من أطنب في الكلام: إذا بالغ فيه. وفي الاصطلاح: الإطناب: أداء المقصود بأكثر من العبارة المتعارف بها.
قوله: " أن يهجر ": أي: يترك، قال الجوهري: هجر، أي: ترك.
قوله: " لأجله ": أي لأجل الإطناب.
وقوله: " تبينت " عامل في قوله " حين ". وقوله " أتكئ ": جملة خبر " كاد ". وقوله: " اتكاء الفراغ ": كلام إضافي منصوب على المصدرية.
قوله: " نبذا " مفعول تبينت، وقوله: " أن يهجر " في محل نصب على المفعولية، و " أن " مصدرية. و " خشيت أن يهجر لأجله الكتاب " أي: يترك لأجل الإطناب.
م: (فصرفت العنان والعناية) ش: الفاء للسببية. و " صرفت " من الصرف، وهو الرد. يقال: صرف الله عنك الأذى، أي: رده. والمعنى هاهنا وجهت. " والعنان " بالكسر مفعول " صرفت "، وهو في الأصل، عنان الفرس، ولكن أراد به هاهنا عنان خاطره.
" والعناية ": اسم من عنى يعني، من باب ضرب يضرب. يقال: عنيت بالقول كذا، أي: أردت.
ويقال عني عناء وتعنى عنيا، ومعناه: دعني، وعنا يعنو عنوا وعنيا، معناه: خضع. والمعنى هاهنا: عناية القلب. ويقال: أراد بالعنان: الظاهر، وبالعناية: الباطن، ويقال " أراد بالعنان العلم، وبالعناية القلب.(1/130)
إلى شرح آخر موسوم ب " الهداية "، أجمع فيه بتوفيق الله تعالى بين عيون الرواية، ومتون الدراية، تاركا للزوائد في كل باب، معرضا عن هذا النوع من الإسهاب، مع ما أنه يشتمل على أصول ينسحب عليها فصول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إلى شرح آخر موسوم ب " الهداية ") ش: إلى متعلق بقوله " صرفت ". و " آخر ": على وزن أفعل غير منصرف، للصفة ووزن الفعل. " موسوم ": أي يسمى. وهذا بالجر صفة الشرح.
و" موسوم " من وسم يسم وسما وسمة. وسمته: إذا أثرت فيه بشيء. والهداية في الأصل مصدر، لكن جعلت هاهنا عملا للكتاب.
م: (أجمع فيه) ش: أي في شرح آخر، الذي سماه " الهداية "، وهو جملة من الفعل والفاعل وهو الضمير المستتر فيه، ومحلها النصب على الحال من الضمير الذي في " صرفت "، وهو من الأحوال المقدرة.
م: (بتوفيق الله تعالى) ش: أي تيسيره وعونه.
م: (بين عيون الرواية ومتون الدراية) ش: العامل في " بين " أجمع. والعيون " جمع عين الشيء، أي: خياره، وأراد به ما ينقل عن العلماء من المسائل المجازة. " والرواية ": مصدر: روى. " والمتون ": جمع متن الشيء، أي: قوته. ومنه سمي الظهر متنا؛ لأن بالظهر قوة البدن وقوامه. يقال: متن الشيء متنا، وبالضم متانة فهو متين: إذا صلب، " والدارية ": مصدر درى، وأراد ما يستنبط من العلوم. والحاصل أن عيون الرواية التي اختارها العلماء، ومتون الدراية المعاني المؤثرة والنكات اللطيفة.
م: (تاركا للزوائد في كل باب، معرضا عن هذا النوع من الإسهاب) ش: " تاركا ": حال من الضمير الذي في " أجمع "، وكذلك " معرضا ": حال، إما من المتداخلة أو من المترادفة، والمراد من " الزوائد " الفروع الأخر التي ذكرها غيره معرضا. وأشار بقوله: " عن هذا النوع من الإسهاب " إلى ما وقع في " كفاية المنتهي " من الإسهاب أي: الإكثار في الكلام.
يقال: أسهب الرجل: إذا أكثر من الكلام، فهو مسهب بفتح الهاء، ولا يقال بكسرها وهو نادر وخارج عن القانون. وأسهب الفرس: اتسع في الجري والسبق. وبين " الباب " و " الإسهاب " جناس أيضا كما بين الرواية والدراية.
م: (مع ما أنه يشتمل على أصول ينسحب عليها فصول) ش: كلمة " مع " للمصاحبة. " وما " مصدرية.
فإن قلت: " مع " اسم أو حرف؟.(1/131)
وأسال الله أن يوفقني لإتمامها، ويختم لي بالسعادة بعد اختتامها حتى إن من سمت همته إلى مزيد الوقوف يرغب في الأطول والأكبر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: اسم، بدليل دخول التنوين عليها في قولك " معا "، وتسكين عينها لغة تميم، وربيعة، بلا ضرورة خلافا لسيبويه، وتستعمل مضافة، وتكون ظرفا، ولها حينئذ ثلاثة معان:
أحدهما: موضع الاجتماع، ولهذا يكنى بها عن الذوات، نحو: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد: 35] (سورة محمد: الآية 24) .
والثانية: مرادفة عند.
والثالثة: زمانية، نحو: جئتك مع العصر.
وهاهنا على المعنى الأول، والتقدير: مع شمول الذي أجمعه على أصول تنسحب عليها فصول من الفروع.
وشمل، بفتح الميم، من شملهم الأمر: إذا عمهم، " والأصول ": جمع أصل، وهو ما يبنى عليه غيره.
وينسحب: من سحبت ذيلي فانسحب، أي: جررته فانجر. " والفصول ": جمع فصل، وهو في اللغة: القطع، يقال: فصلت بين الشيئين: إذا فرقت بينهما. وأراد بالفصل هاهنا، الحاجز بين الحكمين في الفروع التي يوردها في كتابه. وبين الأصول والفصول جناس.
م: (وأسأل الله أن يوفقني لإتمامها، ويختم لي بالسعادة بعد اختتامها) ش: أسأل، جملة دعائية ولا محل لها من الإعراب. و " أن يوفقني ": في محل النصب على المفعولية. و " أن " مصدرية، والتقدير: أسأل الله التوفيق، وقد مر تفسيره من [قبل] .
قوله: " ويختم " عطف على " يوفقني ". و " بعد ": نصب على الظرفية، والعامل فيه قوله: " يختم " وفيه من السجع والتزيين للكلام.
م: (حتى إن من سمت همته إلى مزيد الوقوف يرغب في الأطول والأكبر) ش: حتى للغاية في الأصل، ولكن هاهنا فيها معنى التعليل، وليست للجر بدليل " إن " بعدها بالكسر، ولو كانت للجر لفتحت همزة " إن "؛ لأن القاعدة أن حرف الجر إذا دخلت على إن فتحت همزتها، نحو: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج: 6] (الحج: الآية 6) .
فإن قلت: هذا يرتبط بماذا؟
قلت: بقوله: " فصرفت العنان والعناية "، ويجوز أن يرتبط بقوله: " تاركا للزوائد، في كل باب معرضا عن هذا النوع من الإسهاب "، وذكر هاهنا شيئين: تركه للزوائد، وإعراضه عن(1/132)
ومن أعجله الوقت عنه يقتصر على الأقصر والأصغر، وللناس فيما يعشقون مذاهب، والفن خير كله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التطويل، وذكر في مقابلتهما شيئين: الرغبة في الأطول والأكبر، والاقتصار على الأقصر والأصغر. وأشار إلى [أن] من كانت همته عالية يرغب في الفصل الأول، ومن كانت همته قاصرة يقتصر على الفصل الثاني.
قوله: " سمت ": أي: علت، من السمو وهو العلو. (والهمة) ، بكسر الهاء: ما يهم فيه الرجل بقلبه وقالبه. وجاء الفتح في الهاء.
قوله: " مزيد الوقوف ": أي زيادة الوقوف على الأقسام العسيرة من الفروع.
قوله: " يرغب ": من رغب في الشيء: إذا أراده، رغبة ورغبا بالتحريك، وارتغب فيه مثله. ورغب عن الشيء: إذا لم يرده. ومحل " يرغب " الرفع؛ لأنه خبر لقوله " من سمت " والأطول يقابله الأقصر، والأكبر يقابله الأصغر، والأشياء تتبين بضدها.
م: (ومن أعجله الوقت عنه يقتصر على الأقصر والأصغر) ش: أعجله بمعنى عجله أي: استحثه عن أن يريد الوقوف. وفيه من محاسن الكلام اشتماله على الطباق، ويسمى المطابقة: وهي الجمع بين المتضادين، يعني معنيين متقابلين في الجملة، فإن ذكر الأطول وذكر ما يقابله وهو الأقصر، وذكر الأكبر وذكر ما يقابله وهو الأصغر من هذا الباب. وفيه من المحاسن اشتماله على الجمع. وفيه أيضا إسناد مجازي، وهو إسناد أعجل إلى الوقت، وهو مجاز عقلي، كما في قوله: " قيام الليل وصيام النهار ". وأشار بهذا الكلام إلى أن طلاب العلم على قسمين: أحدهما: من همته عالية لا يقنع بالقليل منه، والآخر: من همته قاصرة يقنع باليسير منه. ويجوز أن تكون هذه القسمة من جهة سعة الوقت وضيقه على ما [لا] يخفى.
ومن مذهبي حب الديار لأهلها. م: (وللناس فيما يعشقون مذاهب والفن خير كله) ش: هذا شطر بيت وقبله: " ومن عادتي حب الديار لأهلها " وهو من قصيدة بائية من الطويل قالها أبو فراس واسمه همام، وقيل هميم بالتصغير ابن غالب التميمي، وفرزدق لقبه لقب به؛ لأنه كان جهم الوجه، والفرزدق في الأصل قطع العجين واحدتها فرزدقة، وقيل لقب به لفظه وقصره شبه القنينة التي يشير بها النساء وهي الفرزدقة، والأول أصح؛ لأنه أصابه جدري في وجهه ثم برأ منه فتبين وجهه جهما متقطبا، توفي بالبصرة سنة عشر ومائة، وأشار بهذا البيت إلى أن الناس لهم أهواء مختلفة، ولهم فيما يميلون إليه مذاهب وطرق مختلفة في كل فن من الفنون، ولهذا أشار إليه بعد ذلك بقوله: " والفن كله خير " أراد به إن كل فن من أي فن كان الذي يميل إليه الشخص هو خير عنده في زعمه، وإن كان غير خير عند غيره؛ لأنا ذكرنا أن الناس لهم أهواء مختلفة وهي(1/133)
ثم سألني بعض إخواني أن أملي عليهم المجموع الثاني
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فنون كلها خير بالنسبة إلى ما في زعم أصحابها، ألا ترى كيف قال الفرزدق ومن عادتي حب الديار لأهلها حيث جعل حب الديار لأجل أصحابها ملة وعادة، وذلك خير بالنسبة إلى ما في زعمه، وإن كان ذلك غير خير عند غيره، وقالت الشراح هاهنا: إنه لما قال من سمت همته إلى مزيد الوقوف إلى آخره، حرض بعد ذلك بقوله: والفن خير كله، فكأنه قال علم الفقه كله خير، فإن شئت فارغب في الأطول والأكبر كشفا وتأصيلا، وإن شئت فارغب في الأقصر والأصغر حفظا وتحصيلا، أو معناه حسن العلم فارغب في ذا أو في ذاك، أو معناه حسن العلم فارغب في أي نوع شئت.
قلت: الذي دعاهم إلى هذا كونهم جعلوا قوله: " والفن خير كله " مرتبطا بقوله: " من سمت همته إلى آخره " والذي يظهر لي أنه مرتبط بشطر البيت الذي ذكره فكأنه يحرض بذلك إلى تحصيل فن من الفنون؛ لأن الفنون كلها خير، ولكن القرينة الحالية والمقالية دلت على أن مراده تحريضه وترغيبه في فن مخصوص متن وهو علم الفقه؛ لأنه بصدد بيانه فافهم، ثم الفن واحد الفنون، وهي الأنواع وإلا فالأساليب وهي أجناس الكلام، وطرقه وقوله " خير " بفتح الخاء وسكون الياء يقال: رجل خير وخير وكذلك امرأة خيرة وخيرة، وهذا لا يراد به أفعل فإن أريد به أفعل التفضيل يقال: فلان خير الناس وفلانة خير الناس وهؤلاء خير الناس فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث قوله " كله " من ألفاظ التوكيد المعنوية فلا يؤكد به إلا المعرفة وقال الأخفش والكوفيون يؤكد به النكرة أيضا إذا كانت محدودة ويجب إضافتها إلى اسم مضمر راجع إلى المؤكد نحو قَوْله تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] (الحجر: الآية 30) فإذا أضيفت إلى المعرفة كانت لعموم الأفراد، وإذا أضيفت إلى النكرة كانت لعموم الأجزاء، فعلى هذا إذا قلت كل زمان مأكول يصح؛ لأن المعنى كل فرد من أفراد الزمان مأكول، وهذا لا يصح كما ترى، وعن هذا قالت النحاة: كل اسم موضوع لاستغراق أفراد النكرة نحو: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] (سورة آل عمران: آية 185) ، والمعرف كالمجموع نحو " كنتم " آية وأجزاء المفرد المعرف نحو كل زيد حسن، فإذا قلت: أكلت كل الرغيف لزيد كانت لعموم الأفراد فإذا أضيف الرغيف إلى زيد صارت لعموم أجزاء فرد واحد، وقوله: " الفن " مبتدأ، وخبره قوله " خير "، وقوله " كله " تأكيد للفن والمعنى كل فرد من أفراد الفن خير والألف واللام فيه إما للجنس فالمعنى أي فن كان من الفنون، وإما للعهد فالمعنى فن الفقه أي علم الفقه كله خير.
م: (ثم سألني بعض إخواني أن أملي عليهم المجموع الثاني) ش: " بعض إخواني " كلام إضافي مرفوع؛ لأنه فاعل سألني، وهو جمع أخ وأراد به الأخ في الدين، وإنما قال: " بعض إخواني "؛ لأنه لا يمكن السؤال من إخوانه كلهم؛ لأن المؤمنين شرقا وغربا إخوانه في الدين، قال الله(1/134)
فافتتحته مستعينا بالله تعالى في تحرير ما أقاوله متضرعا إليه في التيسير لما أحاوله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] (الحجرات: الآية 10) . قوله: " أن أملي عليهم " من الإملاء يقال أمليت الكتاب وأملي وأمليت لغتان جيدتان جاء بهما القرآن، وكلمة " أن " مصدرية تقديره سألني بعض إخواني إملاء المجموع الثاني عليهم، والمراد " الهداية " فكأنه بعد صرف العناية إليه لم يشرع فيه حتى سأله بعض إخوانه الإملاء عليهم، وروي أنه بقي في تصنيفه ثلاث عشرة سنة، فكأنه كان يملي عليهم في أثناء تلك المدة، وكان يصوم في تلك المدة ولا يفطر أصلا، وكان لا يطلع على صومه أحدا حتى إن خادمه كان يأتي إليه بطعام وكان يقول له ضع واذهب أنت فإذا مضى كان يطعمه أحدا من الطلبة وغيرهم، فببركة هذا الزهد صار كتابه مقبولا بين العامة والخاصة وبلغ حيث ما بلغ الإسلام.
م: (فافتتحته مستعينا بالله في تحرير ما أقاوله) ش: الفاء فيه تصلح أن تكون للسببية، ومستعينا حال من الضمير المرفوع في افتتحته قوله: " في تحرير ما أقاوله " أي في تخليص ما أقاوله وتقويمه، والمقاولة القول من الجانبين، يقال: قاول يقاول كدارس يدارس، وأشار بهذا إلى زيادة مقاساة في القول؛ لأنها من باب المفاعلة.
م: (متضرعا إليه في التيسير لما أحاوله) ش: إليه أي إلى الله تعالى، و " متضرعا " حال مثل " مستعينا " ويجوز أن تكون في الأحوال المتداخلة و " التضرع " طلب الحاجة على وجه المسكنة، يقال: ضرع الرجل ضراعة أي خضع وذلك وأضرعه غيره، وتضرع إلى الله ابتهل، قوله: لما أحاوله: من المحاولة، يقال: حاولت الشيء إذا أراد به، المحاولة طلب الشيء بحيلة ومنه الحديث: " اللهم بك أحاول "، أي بنصرك، وتوفيقك أدفع عني كيد العدو وأطلب الوثوب إليهم. وفيه من محاسن الكلام حسن الأسجاع المذكورة ومنها الازدواج بين " أقاوله " و " أحاوله " ومنها المبالغة في البيان بالتفصيل بعد الإجمال، ليكون إشارة إلى عملين فالعملان خير من عمل واحد، وذلك في قوله: " في التيسير لما أحاوله " حيث لم يقل في تيسير ما أحاوله بالإضافة فيه إشارة إلى ما ذكرنا وقصدا للمبالغة بخلاف قوله: " في تحرير ما أقاوله " حيث ذكره بالإضافة؛ لأن المبالغة حاصلة من صيغة المقاولة.
فإن قلت: فكذلك المبالغة حاصلة في صيغة المحاولة.
قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن المفاعلة فيه ليست على بابها كما في قَوْله تَعَالَى: {وَسَارِعُوا} [آل عمران: 133](1/135)
إنه الميسر لكل عسير وهو على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(سورة آل عمران: آية 133) بمعنى أسرعوا، وسافر الرجل بمعنى سفر.
م: (إنه المسير لكل عسير وهو على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير) ش: أي إن الله عز وجل هو الميسر لكل أمر صعب. قوله " قدير " وقوله " جدير " خبر مبتدأ محذوف تقديره " وهو بالإجابة جدير ": أي لائق، يقال فلان جدير بكذا أي خليق، وأنت جدير أن تفعل كذا والجمع جدر أو جديرون وفيه حسن التعليل، وهو قوله: " إنه الميسر " لأنه وقع موقع التعليل، يعني إنما فتحت إملاء " الهداية " مستعينا بالله لأنه الميسر لكل عسير.(1/136)
كتاب الطهارات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الطهارات] [تعريف الوضوء]
م: (كتاب الطهارات) ش: الكتاب والكتابة في اللغة جمع الحروف من الكتب، وهو الجمع، تقول: كتبت البلغة إذا جمعت بين شفريها بحلقة، أو سير من كتب يكتب من باب نصر ينصر، ويكتب من باب ضرب يضرب وكتبا كتابة، وكتبت القرية إذا أحرزتها فهي كتيب، والكتيبة بالضم الحرزة، والكتيبة الجيش، وكتبت الخيل إذا اجتمعت، والكتابة تصوير اللفظ بحروف هجائية؛ لأن فيها جمع الحروف والكلمات، والكتاب العرض، والحكم، والقدر، قال النابغة الجعدي:
يا بنت عمي كتاب الله أخرجني ... عنكم وهلا متعن الله ما فعلا
ويقال: أراد بالكتاب هاهنا المكتوب مجازا، كالحساب بمعنى المحسوب، ويقال في تعريف الكتاب: الكتاب طائفة من المسائل الفقهية اعتبرت مستقلة، اشتملت أنواعا أو لم تشتمل، فقوله: " طائفة " كالجنس، وقوله " من المسائل الفقهية " اخرج به غيرها، وقوله: " اعتبرت مستقلة " أي مع قطع النظر عن تبعيتها للغير أو تبعية غيرها إياها، ليدخل فيه هذا الكتاب، فإنه تابع للصلاة ويدخل كتاب الصلاة فإنه مستتبع للطهارة، وقد اعتبرا مستقلين. أما كتاب الطهارة فلكونه المفتاح، وأما كتاب الصلاة فلكونه المقصود الأصلي، فظهر من هذا أن اعتبار الاستقلال قد يكون لانقطاعه عن غيره ذاتا، كانقطاع كتاب " اللقطة " عن كتاب " الآبق "، وكتاب " المفقود " وانقطاعها عن كتاب الصلاة والزكاة، وقد يكون لمعنى يؤثر ذلك كانقطاع الصرف عن " البيوع "، و " الرضاع " عن " النكاح " و " الطهارة " عن " الصلاة " كما ذكرنا.
وقوله: " اشتملت أنواعا أو لم تشتمل " لدفع قول من يقول: الكتاب جنس يدخل تحته أنواع من الجملة، وكل نوع يسمى بالباب والباب اسم لنوع مشتمل على أشخاص تسمى فصولا فإن الكتاب قد يكون كذلك، وقد لا يكون، فإن من الكتب ما لم يذكر فيه لا باب ولا فصل، " ككتاب اللقطة واللقيط " و " الآبق " وغيرهما على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، فلو لم يذكر ذلك ربما توهم ذلك، فذكره دفعا لذلك.
الطهارة: في اللغة النظافة، وفي الاصطلاح: عبارة عن صفة تحصل لمزيل الحدث والجنب عما تعلق به الصلاة سواء كان طبعا أو شرعا.
فإن قلت:، ذكر أو في الحدود لا يجوز. قلت: أو هاهنا ليست بمانعة الجمع، فلا يضر الحد، وإنما قال: عما تعلق به الصلاة ليتناول المكان فإن طهارته شرط على ما سيأتي.
قال صاحب " الدراية ": الطهارة لغة النظافة، وشرعا نظافة الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس.(1/137)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا تعريف غير صحيح؛ لأن الطهارة أعم من الوضوء والتعريف المذكور لا يطلق إلا على الوضوء.
1 -
والوضوء نوع من أنواع الطهارة. وهي على وزن فعول بضم الفاء من الوضاءة وهي الحسن.
قال الجوهري: الوضاءة الحسن والنظافة، تقول منه: وضاء الرجل، أي صار وضيئا، وتوضأت للصلاة، ولا تقول توضيت، وبعضهم يقول ذلك.
والوضوء بالفتح: الماء الذي يتوضأ به.
والوضوء أيضا مصدر من توضأت للصلاة، مثل الولوع والقبول. وقال اليزيدي: الوضوء: بالضم المصدر، وحكي عن أبي عمرو بن العلاء القبول بالفتح مصدر لم يسمع غيره، وذكر الأخفش في قَوْله تَعَالَى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] (التحريم: الآية 6) فقال: الوقود بالفتح هو الحطب، والوقود بالضم الإيقاد وهو الفعل، قال: ومثل ذلك الوضوء وهو الماء، والوضوء وهو الفعل، ثم قال: وزعموا أنهما لغتان بمعنى واحد، تقول الوقود والوقود ويجوز أن يعني بهما الحطب ويجوز أن يعني بهما الفعل، وقال غيره: القبول والولوع مفتوحان وهما مصدران شاذان وما سواهما من المصادر فمبني على الضم، وفي اصطلاح الشريعة هو غسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس، ويقال: هو عبارة عن غسل أعضاء مخصوصة، ومسح عضو مخصوص.
فإن قلت: لم اختار لفظ الجمع في الطهارات دون المفرد، كما ذكره غيره.
قلت: للتصريح بإرادة أنواع الطهارة؛ لأنه لو ذكرها بلفظ الإفراد لكان فهم الأنواع على سبيل الاحتمال لا القطع؛ لأن الجنس واقع على الأدنى مع احتمال الكل.
فإن قلت: إذا دخلت الألف واللام على الجمع تبطل الجمعية وتكون للجنس أيضا فأي فائدة في جمعها حينئذ.
قلت: هذا فيه خلاف على ما تقرر في موضعه فيجوز أن يكون المصنف أراد به مطلق الجمع كما هو مذهب البعض في اللام إذا دخلت في الجمع.
فإن قلت: الطهارة مصدر فلا يثنى ولا يجمع.
قلت: إذا أريد به النوع يجوز أن يجمع.
فإن قلت: فلم لم يجمع الصلاة والزكاة ونحوهما.(1/138)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا لا يتمشى فيهما، أما الصلاة فلأنها متحدة أنواعها؛ لأنها عبارة عن الأركان المعهودة، وأما الزكاة فإنها عبارة عن إيتاء الربع من العشر وهو واحد، بخلاف الطهارة، فإن أنواعها مختلفة كما يرى من اختلاف طهارة الحدث، والجنب، والطهارة بالتيمم، ولا ترد علينا صلاة الجنازة؛ لأنها ليست بصلاة حقيقة لأنها دعاء، ولهذا جازت ركوبا قياسا استحسانا، ويجوز بالتيمم عند وجود الماء حتى إن الشعبي لم يشترط فيها الطهارة أصلا.
وقوله: " كتاب الطهارة " كلام إضافي مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هذا كتاب الطهارة، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر أي كتاب الطهارة هذا، ويجوز أن ينصب الكتاب على تقدير هات كتاب الطهارات، أو خذه، أو نحو ذلك.
فإن قلت: ما هذه الإضافة؟
قلت: إضافة معنوية بمعنى في، أي: هذا كتاب في الطهارات أي في بيانها؛ لأن الكتاب ليس في نفس الطهارة، ويجوز أن تكون بمعنى اللام للاختصاص وإنما قدم العبادات على غيرها من المعاملات والزواجر لكونها أهم؛ لأن العبادة هي التي تحقق معنى العبودية وما خلق الثقلان إلا لهذا، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] (الذاريات: الآية 56) .
فإن قلت: لم قدم الصلاة على غيرها من العبادة؟
قلت: لأنها ثانية الإيمان في الكتاب والسنة، ولأنها عماد الدين، والبيت لا يقوم إلا على الأعمدة.
فإن قلت: الأصل في العبادات الإيمان، فكان ينبغي أن يقدم.
قلت: هو متعلق بعلم الكلام، وهو علم مستقل بذاته فذكره هنالك أولى، وتقديم الطهارة على الصلاة؛ لأنها شرط الصلاة، وشرط الشيء يسبقه وجملته تعقبه، والشرط ما يتوقف على وجوده الشيء، ولا يكون منه فبالضرورة يكون مقدما على المشروط، فقدم عليه أيضا وضعا ليوافق الوضع الطبع، وتقديمها على سائر الشروط كاستقبال القبلة وستر العورة ونحوهما لأنها لا تسقط بالأعذار بخلاف غيرها، ولأن الله تعالى استقصى في بيانها ما لم يستقص في غيرها فكان التقديم بها أهم، وإنما قدم بيان الوضوء الذي هو طهارة صغرى على الغسل الذي هو طهارة كبرى، إما اقتداء بالكتاب العزيز، فإنه ذكر على هذا الترتيب، وإما باعتبار شدة الاحتياج إلى علم الوضوء باعتبار كثرة دورانه.
1 -
فإن قلت: ما سبب الوضوء؟ قلت: عند الظاهرية القيام إلى الصلاة لظاهر النص؛ لأنه يقتضي وجوب الطهارة بعد القيام إلى الصلاة؛ لأنه جعل القيام إليها شرطا لفعل الطهارة، وحكم الجزاء(1/139)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن يتأخر عن الشرط، ألا ترى أن من قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، إنما يقع الطلاق بعد الدخول، وهذا لا خلاف فيه بين أهل اللغة؛ لأنه مقتضى اللفظ، وحقيقته فعلى هذا كل من قام إلى الصلاة فعليه أن يتوضأ.
قلت: هذا باطل «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ لكل صلاة فلما كان يوم الفتح صلى خمس صلوات بوضوء واحد، فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رأيتك اليوم تفعل شيئا لم تكن تفعله، فقلا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " عمدا فعلت، كيلا تحرجوا» والحديث أخرجه مسلم من طريق مسلم بن يزيد عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد ومسح على خفيه، فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه، فقال: " عمدا صنعته يا عمر» رواه الترمذي أيضا، ولفظه: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ لكل صلاة، فلما كان عام الفتح صلى الصلوات الخمس كلها بوضوء واحد.» الحديث، وأخرجه الطحاوي نحو رواية مسلم، فدل هذا على أن القيام إلى الصلاة غير موجب للطهارة إذ لم يجدد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طهارة لكل صلاة، فثبت بذلك أن في الآية مقدرا يتعلق به في إيجاب الوضوء وهو: إذا قمتم إلى الصلاة من مضاجعكم، وروى الطحاوي في " معاني الآثار " وأبو بكر الرازي في " الأحكام "، والطبراني في " الكبير " من طريق جابر بن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم «عن عبد الله بن علقمة عن أبيه قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أجنب أو أهرق الماء إنما نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يرد علينا.. حتى نزل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) » ، فدل هذا الحديث على أن الآية نزلت في إيجاب الوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة، وأن التقدير في الآية في إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون.
فإن قلت: حديث جابر الجعفي غير ثابت، فلا يتم به الاستدلال.
قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن سفيان يقول: كان جابر ورعا في الحديث، ما رأيت في الحديث أورع منه، وعن شعبة: هو صدوق في الحديث، وقال: هذا الحديث مطلقا للدوران وجودا(1/140)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعدما، وهو أيضا باطل؛ لأنا نعلم أن الدوران دليل الغلبة ولئن سلمنا لكن لا نسلم أن الدوران وجودا موجود؛ لأنه قد يوجد الحديث ولا يجب الوضوء ما لم تجب الصلاة بالبلوغ ودخول الوقت، وعندنا هو الصلاة بدليل الإضافة إليها وهي أمارة السببية لكن شرطه الحدث؛ لأنه تعالى ذكر التيمم معلقا بالحدث والنص في البدل نص في الأصل؛ لأنه لا يفارقه بشرط وسببه هكذا ذكره الشيخ حافظ الدين النسفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - واعترض عليه الشيخ قوام الدين، وقال: لا نسلم أن البدل لا يفارق الأصل بشرطه وسببه وقد فارقه في النية وهي شرط في التيمم دون الوضوء.
قلت: هو عين النية؛ لأن التيمم في اللغة عبارة عن القصد، قال الشاعر:
وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يسلني
أي: إذا قصدت والقصد هو عين النية، فإذا كان كذلك كيف يطلق على النية أنها شرط التيمم والحال أن شرط الشيء خارج عن ذاته فإذا سقط الاعتراض المذكور.
فإن قلت: قد صرح بذكر الحدث في الغسل والتيمم دون الوضوء فعلم بذلك أن الحدث هو سبب الوضوء.
قلت: السبب الصلاة، وشرطه الحدث، لما ذكرنا، ولقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ} [المائدة: 6] ، أي من مضاجعكم وهو كناية عن النوم، وهو الحدث، وأما التصريح بذكر الحدث في الغسل والتيمم دون الوضوء فليعلم أن الوضوء يكون سنة وفرضا والحدث شرط في الفرض دون السنة؛ لأن الوضوء على الوضوء نور على نور، والغسل على الغسل، والتيمم على التيمم ليس كذلك، وهو المشهور فيهما عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قال المتولي من الشافعية: في موجب الوضوء: ثلاثة أوجه:
أحدها: الحدث، فلولاه لا يجب.
الثاني: القيام إلى الصلاة؛ لأنه لا يتعين عليه قبله.
الثالث: وهو الصحيح عند المتولي وغيره أنه يجب بهما ثم الحدث يحل جميع البدن في وجه كالجنابة حتى منع من مس المصحف بظهره وبطنه والاكتفاء بغسل الأعضاء الأربعة تخفيف، وفي وجه يختص بالأربعة وعدم جواز المس لعدم طهارة جميع البدن بالنجاسة الحقيقية وفي الأصح اختلاف عندهم، فقال الشافعي: العموم، وقال النووي وغيره: الاختصاص ورجحه(1/141)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النووي.
فإن قلت: ما الحكمة في تخصيص الأعضاء الأربعة في الوضوء قلت لأن الله تعالى لما نهى آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الجنة عن قربان تلك الشجرة وتناولها صارت هذه الأعضاء الأربعة مذنبة فمن الرجلين المشي ومن اليدين فإن قلت: كان ينبغي أن تجب المضمضة أيضا؛ لأن الفم حصل منه ما حصل.
قلت: آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما كان ممنوعا من الأكل، وإنما كان ممنوعا من القربان إليها بقوله: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] (البقرة: الآية 35) ولم يحصل من الفم القربان بخلاف الأعضاء المذكورة، وقيل فعل الفم كان بعد حصول ما حصل من آدم، فلم يكن له ذنب، وقيل: إنما لم يجب غسل الفم لأن مطهر الأبدان قد طهره، وهو قول: " لا إله إلا الله محمد رسول الله "، وطهارة جميع الأعضاء بالفم واللسان، ألا ترى أن الكافر إذا لم يقل ذلك يسمى نجسا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] (سورة التوبة: الآية 28) .
فإن قلت: ما الحكم في تخصيص الأعضاء الثلاثة بالغسل والرأس بالمسح قلت الرأس لم يحصل منه شيء في قضية القربان فلم يبين له الغسل ولذا اختص بالمسح باليد المقترفة إليه وذلك كما ذكرنا أنه وضع يده على رأسه لما أصابه من الغم، وقيل: إنما اختصت هذه الأعضاء الأربعة أما الوجه فلأنه أحسن الأعضاء، وأما اليدان فلأن سائر الحيوانات ليست لها أيد باطشة، ولا آخذة، بل أخذها الأشياء بفهمها حتى لا تميز بين الخبيث والطيب، وأما الرجلان فلأن الله تعالى خلق ابن آم خلقة مستوية وخلق سائر الحيوانات خلقة منكوسة فأمر بغسل هذه الأعضاء شكرا لما صنع، وأما الرأس فقد رفع عنه السيف والجزية بدين الإسلام، فاكتفى بالمسح شكرا على ذلك، وقيل: لما كانت الصلاة مناجاة ومحل القرب أمرهم بتطهير هذه الأعضاء الذميمة وقيل: إنما أمر بغسل هذه الأعضاء الثلاثة لما ارتكبوا بها من الحرام؛ لأن مباشرة العبد لا تكون إلا بهذه الأعضاء، وأما الرأس فلأنه مجمع الحواس فكذلك خص أيضا بالتطهير واكتفي فيه بالمسح لأن الغسل ربما يضره، وقيل إن العبد إذا شرع في الخدمة يجب أن يجدد نظافته وأيسرها تنقية الأعضاء التي تنكشف كثيرا لتحصل بها نظافة القلب إذ تنظيف الظاهر يوجب(1/142)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تنظيف الباطن.
م: (قال الله تعالى) : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ش: (المائدة: الآية 6) الآية الكريمة، مقول القول، وافتتح الكتاب بالآية المذكورة لكونها أصلا في استنباط مسائل هذا الباب، أو لأجل التبرك في افتتاح الكتاب، وإن كان حق الدليل أن يؤخر عن المدلول؛ لأن الأصل في الدعوى تقديم المدعي، وهي مفتتحة بالنداء الذي هو نوع الطلب؛ لأنه طلب إقبال المخاطب بحرف نائب مناب أدعو إما بحرف نداء للبعيد حقيقة أو حكما، وقد ينادى بها القريب توكيدا، وقيل: هي مشتركة بين البعيد والقريب، وقيل بينهما وبين المتوسط، وهي أكثر حروف النداء استعمالا ولهذا لا يقدر عند الحذف سواها نحو: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29] (يوسف: الآية 29) ، ولا ينادى اسم الله والاسم المستغاث وأيتها وأيها ولا المندوب إلا بها أو بهيا، وقوله من قال أن " يا " مشتركة بين القريب والبعيد هو الأصح؛ لأن أصحاب اللغة ذكروا أن " يا " حرف ينادى به القريب والبعيد.
فإن قلت: ما تقول في قول الداعي يا الله، قال الله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] (ق: الآية 6) .
قلت: هذا استقصار منه لنفسه، واستبعاد عن مظان القبول لعلمه. و " أي " اسم لخمسة معان:
الأول للشرط نحو {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] (الإسراء: الآية 110) . الثاني: الاستفهام. نحو: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة: 124] (التوبة: الآية 124) .
الثالث: يكون موصولا نحو: {لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} [مريم: 69] (مريم: الآية 69) والتقدير لننزعن الذي هو أشد، نص عليه سيبويه.
الرابع: يكون صفة للنكرة، نحو: زيد رجل: أي رجل: أي كامل في صفة الرجال، وجاء للمعرفة نحو مررت بعبد الله أي رجل.
الخامس: يكون صلة لما فيه (ال) نحو يا أيها الرجل ومنه قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) ، وزعم الأخفش أن أيا هذه هي الموصولة حذف صدر صلتها وهو العائد، والمعنى: يا من هو الرجل، وكذلك التقدير هاهنا على قوله: يا من هم الذين إذا قمتم إلى الصلاة. وها تستعمل على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يكون اسم الفعل نحو خذ تقول للمذكر " ها " بالفتح و " ها " للمؤنث بالكسر وها(1/143)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهان وهاؤم قال الله تعالى: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] (الحاقة: الآية 19) .
الثاني: أن يكون ضميرا للمؤنث نحو ضربها وغلامها.
الثالث: أن تكون للتنبيه فتدخل على أربعة:
الأول: الإشارة نحو لهذا.
الثاني: ضمير رفع المخبر عنه باسم إشارة نحو أنتم أولاء.
الثالث: اسم الله تعالى في القسم عند حذف الحرف نحو ها الله بقطع الهمزة ووصلها وكلاهما مع إثبات ألفها وحذفها.
الرابع: نعت " أي " في النداء نحو يا أيها الرجل، وهي في هذا واجبة للتنبيه على أنه المقصود بالنداء ومنه قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النساء: 43] ، والذين اسم موصول موضوع لجمع الذي؛ لأن الذين عام لذي العلم وغيره، والذي يختص بذي العلم، ولا يكون الجمع أخص من مفرده، فمن هذا قول قوام الدين في شرحه: إن الذين جمع الذي صادر من غير تحقيق، والذي لا يخلو إما أن يكون صفة لأي، أو يكون موصوفها محذوفا، تقديره: يا أيها الناس الذين آمنوا، ويا أيها القوم الذين آمنوا، ونحو ذلك؛ لأن الموصولات وضعت وصلة إلى المعارف بالجمل و " أي " ليس بمعرفة فلا يكون الذي صفة له.
فإن قلت: كيف يكون الذي صفة " لأي " وصفة " أي " هو المفرد من الناس أو القوم؟ قلت: المجموع كلمة هو صفة " أي " لا المقدر وحده، ولا الموصول وحده، فعن هذا سقط اعتراض الشيخ قوام الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الشيخ حافظ الدين النسفي في قوله: " الذين آمنوا صفه لأي " لأنه ليس كذلك لأن صفة أي هو المقدر من القوم، أو الناس ثم " آمنوا " صفة لتلك الصفة المقدرة " لأي " بواسطة " الذين، " قوله " آمنوا " فعل ماض لجمع المذكر الغائبين من أمن يؤمن إيمانا، وهي جملة من الفعل والفاعل وضعت صلة للموصول ولا محل لها من الإعراب؛ لأنها لم تقع موقع المفرد، وهي فعل الشرط.
وقوله: {فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] جواب الشرط فلذلك دخلت الفاء، ثم اعلم أن القياس في قوله: آمَنُوا أن يقال آمنتم لأن من حق المنادى بكونه مخاطبا أن يعبر عنه فيقال: يا إياك، يا أنت، إذ مقتضى الحال في المخاطب أن يعبر عنه بضميره، لكن لما كان النداء لطلب الإقبال ليخاطب بعده بالمقصود المنادى إذا ذهل عن كونه مخاطبا نزل منزلة الغائب فعبر عنه بالضمير الذي هو الغائب ليكون أقصى لحق البيان ولما جاء الاختلاف بقوله: آمنوا وآمنتم ذهب بعضهم إلى أن هذا من قبيل الالتفات؛ لأن آمنوا للغائب وآمنتم مخاطب، وممن قال ذلك الشيخ حافظ الدين(1/144)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النسفي في " المستصفى شرح المنافع "، وشنع عليه الشيخ قوام الدين في شرحه، ونسبه في ذلك إلى الغلط، وقال: ليس الأمر كذلك؛ لأن الالتفات لا يكون إلا فيما إذا كان حق الكلام بالغيبة وذكر بالخطاب أو بالعكس ولم يقع الكلام في الآية إلا في الموضع الذي اقتضاه.
قلت: على تقدير كلام النسفي صحيح، والحط عليه مردود يفهم ذلك من التقرير الذي سبق، بل الصحيح أن منع الالتفات هاهنا مبنى على أن " آمَنُوا " صلة " الذين " والموصولات غيب، والضمير الذي يكون راجعا من الصلة إلى الموصول لا يكون إلا غائبا ويكن الجملة كلها أعني قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النساء: 43] في حكم الخطاب لأنه منادى فوجب أن يكون ما بعده خطابا، فكان قولهم: قمتم بالخطاب واقعا في محله، مخرجا على مقتضى ظاهره، فلا يكون من الالتفات؛ لأنه انتقال من صيغة إلى صيغة أخرى سواء كان الضمير بعضها إلى بعض، أو من غيرها. وذهب بعضهم بناء على ما ذكر من أن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النساء: 43] في حكم الخطاب إلا أن الغائبين إنما يدخلون تحت الخطاب بالدلالة أو بالإجماع، وقال بعضهم: إنما قال: آمَنُوا دون آمنتم ليدخل تحته كل من آمن إلى يوم القيامة، ولو قال: آمنتم لاختص لمن كانوا في عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ثم اعلم أن تقييد الفعل بحرف الشرط في أكثر الكتب يكون لاعتبارات شتى لا يعرف ذلك إلا بمعرفة أدوات الشرط التي هي إن، وأما، وإذا، وإذما، وإذ، ومتى، وكيفما، وأين، وأينما، وحيث، وحيثما، ومن، وما، ومهما، وأي، ولو، وصاحب " العناية " لا يتكلم إلا في " إذا " أو " إذا " و " لو " لكثرة دورانها مع تعلق اعتبارات لفظية بهما، أما " إن " و " إذا " فللشرط في الاستقبال يعني: لتعليق الفعل في الزمان المستقبل، لكن أصل " إن " عدم الجزم بوقوع الشرط: يعني: عدم جزم القائل بوقوع شرطها، ولا وقوعه، بل بتجويز كل منهما لكونه غير متحقق الوقوع كما في " إن طلعت الشمس " وإلا لا وقوع كما في " إن طار إنسان " ونحو " إن يكرمني أكرمك: إذا لم يعلم القائل أنه يكرمه أم لا، وأصل " إذا " الجزم. أي جزم القائل بوقوع الشرط تحقيقا وخطابا كقولك إذا جاء يحيى فإن مجيئه ليس قطعيا تحقيقا كطلوع الشمس، بل تقديرا باعتبار خطابي أو ظني وهو أن المحب يزور الحبيب. فإذا تمهد هذا فنقول ذكرها في الآية الكريمة " بإذا " دون " إن " وذكر في آية الغسل بإن دون إذا، وذلك أنه لما كان القيام إلى الصلاة من الأمور الملازمة والأشياء الغالبة بالنسبة إلى حال المؤمن ذكرها " بإذا " التي تدخل على أمر كائن أو منتظر لا محالة بخلاف الجنابة فإنها بالنسبة إلى القيام إلى الصلاة قليلة جدا، وهي من الأشياء المترددة الوجود والأمور العارضة، فلذلك خصت " بإن ".
فإن قلت: ما تقول في قوله: إن مات فلان؟(1/145)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذه لجهالة وقت الموت لا في وقوعه فلا يقدح ذلك، واعلم أن هاهنا إرادة الفعل بالفعل؛ لأن معنى قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون فاغسلوا كما في قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] (النحل: الآية 98) التقدير: فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله، قال الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن قلت: لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل. قلت: لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه وإرادته له، وهي قصده إليه وخلوص داعيته فكما عبر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم الإنسان لا يطير، والأعمى لا يبصر أي لا يقدر على الطيران والإبصار، وذلك لأن الفعل مسبب عن القدرة والإرادة فأقيم المسبب مقام السبب للملاءمة بينهما ولإيجاز الكلام.
فإن قلت: ما الحكمة في إضمار الحذف؟
قلت: كراهية أن يفتتح آية الطهارة بذكر الحدث، كما في قَوْله تَعَالَى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] (سورة البقرة: الآية 2) حيث لم يقل هدى للضالين الصائرين للتقوى بعد الضلال كراهية أن يفتح أول الزهراوين بذكر الضلالة.
1 -
قوله: {إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] الصلاة على وزن فعلة من صلى كالزكاة من زكى واشتقاقها من الصلى، وهو العظم الذي عليه الإليتان؛ لأن المصلي يحرك صلويه في الركوع والسجود، وقيل للتاله من خيل السباق المصلي لأن رأسه يلي صلو التالي، ويقال للصلاة الدعاء ومنه قول الأعشى في وصف الخمر:
وقابلها الريح في دنها ... وصلي على دنها وارسم
أي: دعا لها بالسلامة والبركة.
وأما في الشرع: فهي عبارة عن الأفعال المعهودة والأركان المعلومة.
فإن قلت: كيف يكون المعنى في الوجهين؟
قلت: على الوجه الأول: تكون لفظة الصلاة من الأسماء المعتبرة شرعا، وعلى الوجه الثاني: تكون من الأسماء المنقولة شرعا لوجود المعنى اللغوي مع زيادتها شرعا، وفي الفعل المعنى اللغوي مراعى، وفي التغيير يكون باقيا، ولكنه زيد عليها شيء آخر وكلمة " إلى " تأتي لثمانية معان:
الأول: إنه للغاية الزمانية، نحو: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] (البقرة: الآية 187) ، والمكانية نحو: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] (الإسراء: الآية 1) .(1/146)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثاني: البعد، نحو: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] (آل عمران: الآية 52) .
الثالث: التبيين، وهي المبينة لفاعلية مجرورها بعدما يقعد حبا أو بغضا من فعل تعجب أو اسم التفضيل {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} [يوسف: 33] (يوسف: الآية 33) .
الرابع: بمعنى اللام، نحو: {إِلَى إِلَهِكَ} [طه: 97] (طه: الآية 97) .
الخامس: بمعنى في نحو: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [النساء: 87] (النساء: الآية 97) .
السادس: الابتداء كقوله:
تقول وقد عاليت بالكور فوقها ... فلا يلوي إلى ابن أحمر
السابع: بمعنى عند، نحو: انتهى إلي من الرحيق السلسبيل: أي عندي.
الثامن: التوكيد، وهي الزائدة، أثبت ذلك الفراء مستدلا بقراءة بعضهم: {أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] (إبراهيم: الآية 37) بالفتح.
وقوله: {إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] يتناول سائر الصلوات من الفروض والنوافل؛ لأن الصلاة اسم الجنس، فاقتضى أن يكون من شروط الصلاة الطهارة، أي صلاة كانت، واستدلت بظاهر الآية طائفة أن الوضوء لا يجوز إلا بعد دخول الصلاة، وكذلك التيمم، وهو فاسد؛ لأنه لم يقيد في النص دخول وقت الصلاة، ويؤيد ما ذكرناه ما رواه النسائي وغيره من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة وراح في الساعة الأولى، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» ، فهذا نص جلي على جواز الوضوء للصلاة قبل دخول الوقت بها؛ لأن الإمام يوم الجمعة لا بد ضرورة من أن يخرج قبل الوقت أو بعده وأي الأمرين كان يظهر هذا الربح من أول النهار كان قبل وقت الجمعة بلا شك.
[حكم الطهارة] 1
قوله: {فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] يقتضي إيجاب الغسل وهو اسم لإمرار الماء على الموضع إذا لم يكن هناك نجاسة، فإن كانت فغسلها إزالتها بإمرار الماء أو ما يقوم مقامه، وليس عليه ذلك الموضع بيده، وإنما عليه إمرار الماء حتى يجري على الموضع، وقال أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقد اختلفت في ذلك على ثلاثة أوجه، فقال مالك بن أنس: عليه إمرار الماء ودلك الموضع به وإلا لم(1/147)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يكن غاسلا، وقال أصحابنا وعامة الفقهاء: عليه إجراء الماء عليه وليس عليه دلكه به. روى هشام عن أبي يوسف أنه إن مسح الموضع بالماء كما يمسح بالدلك أجزأه، وفي " التحفة " الغسل: تسييل الماء على الموضع، والمسح: إمراره عليه، فقد فسر المسح بما فسر الرازي الغسل به، وفي " البدائع ": لو استعمل الماء من غير إسالته كالتدهين به لا يجوز في ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف أنه يجوز وعلى هذا لو توضأ بالثلج، ولم يقطر منه شيء لا يجوز، ولو قطر قطرتان أو ثلاث جاز لوجود الإسالة، وفي " الذخيرة ": تأويل ما روي عن أبي يوسف إن سال من العضو قطرة أو قطرتان، ولم يتدارك وفي " الأحكام " لابن بريدة صفة الغسل في الأعضاء المغسولة أن يبل العضو بالماء بلة، وقال أبو يوسف: إذا مسح الأعضاء كمسح الدهن يجوز، وقال بعض التابعين: ما عهدناهم يلطمون وجهوهم بالماء، وجماعة العلماء على خلاف ما قاله أبو يوسف؛ لأن تلك الهيئة التي قال بها لا تسميه العرب غسلا البتة.
قوله: {وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] جمع وجه، وحكى الفراء في الوجوه، وهي الأوجه، وقال ابن السكينة: ويفعلون ذلك كثيرا في الواو، إذا انضمت، والوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة وهي المقابلة، وحده في الطول من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين وهما عظما الحنك ويسميان التكثرة وعليهما منابت الأسنان السفلى، ومن الأذن إلى الأذن، وقال أبو بكر الرازي والأقطع: حده من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن إلى شحمة الأذن، حكى ذلك أبو الحسن الكرخي عن أبي سعيد البردعي.
وقال الرازي: ولا يعلم خلافا بين الفقهاء في هذا المعنى، ولذلك يقتضي ظاهر الاسم إذا كان إنما يسمى وجها لظهوره، ولأنه يواجهه الشيء، ويقابل به، وهذا الذي ذكرنا من تحديده هو الذي يواجهه الإنسان ويقابله من غيره فإن قيل: فينبغي أن تكون الأذنان من الوجه لهذا المعنى، قيل له: لا يجب ذلك؛ لأن الأذنين يستران بالعمامة والقلنسوة والإزار ونحوها، وفي " البدائع " لم يذكر الوجه في ظاهر الرواية وذكر في غير رواية الوصول كما ذكره في الكتاب، وقال: هذا حديث صحيح مستخرج داخل العينين والأنف والفم وأصول شعر الحاجبين واللحية والشارب وونيم الذباب ودم البراغيث بخروجه من الوجه، وقال أبو عبيد الله البلخي: لا يسقط، وبه قال الشافعي في الجديد والمزني وأبو ثور وإسحاق بن راهويه مطلقا، وحكى الرافعي قولا، وقال في " المبسوط " العين غير داخل في غسل الوجه، كما في إيصال الماء إليها حرج؛ لأنه شحم لا يقبل الماء، ومن تكلف من الصحابة فيه كف بصره في آخر عمره كابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وفي كتاب " العناية " للسروجي عن أحمد بن إبراهيم أن من غمض عينيه في غسل الوجه(1/148)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غمضا شديدا لا يجزئه الوضوء، وقيل: من رمدت عينه فرمضت الماء واجتمع رمضها تكلف إيصال الماء إلى الآماق، كذا في " المنتخبة " وفي " المغني " الوجه من منابت شعر الرأس إلى ما اتحد من اللحيين والذقن إلى أصول الأذنين ولا يعتبر كل واحد بنفسه بل لو كان أصلع ينزع شعره عن مقدم رأسه إلى منابت الشعر في الغالب، والانتزاع الذي ينزل شعره إلى الوجه يجب عليه غسل الشعر الذي ينزل من حد الغالب، وفي " الأحكام " لابن بريدة: للوجه حد طولا وعرضا فحده طولا من منابت الشعر المعتاد إلى الذقن، وقولنا: المعتاد احتراز من الأعمى، والأقرع، واختلفت المذاهب في حده عرضا على أربعة أقوال: فقيل: من الأذن إلى الأذن، وقيل: من العذار إلى العذار، في حق الملتحي، ومن الأذن إلى الأذن في حق الأمرد، والقول الرابع: إن غسل البياض الذي بين الصدغ والأذن سنة، انتهى.
واللحية يحمل أن يكون من الوجه؛ لأنها مواجهة المقابل، ولا تغطي في الأكثر كسائر الوجه فيقتضي ذلك وجوب غسلها، ويحتمل أن لا تكون من الوجه؛ لأن الوجه ما واجهك من بشرته دون الشعر النابت عليه هذا ما كانت البشرة ظاهرة دونه، فلذلك اختلفوا في غسل اللحية وتخليلها ومسحها على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وما ذكرنا من حد الوجه يدل على أن المضمضة والاستنشاق غير واجبين لمن قال بهما بالآية إذ ليس داخل الأنف والفم منه إذ هما غير مواجهين لمن قابلهما، فمن قال بإيجابهما فقد زاد على الكتاب، وهو غير جائز.
وقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] يقتضي جواز الصلاة بوجود الغسل سواء قارنته النية أو لم تقارنه، وذلك لأن الغسل اسم شرعي مفهوم المعنى في اللغة وهي إمرار الماء على الموضع، وليس عبارة عن النية، فمن شرط فيه النية فقد زاد على النص، وسيجيء مزيد الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى.
قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] أي واغسلوا أيديكم، والأمر يدل على فرضية غسل اليدين، والأيدي جمع يد وأصلها يدي على وزن فعل بسكون العين، ويدل على هذا الجمع ويجمع على يد أيضا، وأصلة يدوي على وزن فلوس، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون وأبدلت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء، وقد جمعت الأيدي في الشعر على أياد، قال جند بن المثنى:
كأنه بالفحيمان الأبخل ... قطن شجاع بأياد غزل
وهو جمع الجمع مثل أكوع، وأكاوع، ولغة بعض العرب أيد بحذف الياء من الأصل مع الألف واللام، كما يقلون في المهتدي المهتد، وبعضهم يقولك يدي مثل رحى ويثني على هذه(1/149)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اللغة يديان مثل رحيان، ويقال في التنبه: يدوي كما يقال رحوي، ثم اليد اسم يقع على هذا العضو، وهي من طرف الأصابع إلى المنكب، والدليل على ذلك «أن عمارا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تيمم إلى المنكب وقال: " تيممنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المناكب» ، وكان ذلك بعموم قَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] ، ولم ينكر عليه من جهة اللغة بل هو كان من أهل اللغة فكان عنده أن الاسم للعضو إلى المنكب فثبت بذلك أن الاسم يتناول إلى المنكب، فإذا كان الإطلاق يقتضي ذلك، ثم ذكر التحديد فجعل المرفق غاية؛ لأن ذكرها لإسقاط ما ورائها، وسيجيء الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى.
ثم اعلم أنه يجب غسل ما كان مركبا على اليدين من الأصابع الزائدة والكف الزائدة على التفسير الذي ذكرنا وإن خلق على العضد غسل ما يحاذي محل الفرض لا ما فوقه، وفي " المغني ": وإن خلق له إصبع زائدة أو يد زائدة في محل الفرض وجب عليه غسلها مع الأصلية، وإن كانت في غير محل الفرض كالعضد والمنكب لم يجب غسلها سواء كانت طويلة أو قصيرة، هذا قول ابن حامد وابن عقيل، وقال القاضي: إن كان بعضها يحاذي محل الفرض غسل ما يحاذيه منها، والأول أصح.
واختلف أصحاب الشافعي في ذلك كما ذكرنا. وإن تعلقت جلدة في غير محل الفرض حتى تدلت في محل الفرض وجب غسلها لأن أصلها في محل الفرض، فأشبهت الإصبع الزائدة، وإن تعلقت في محل الفرض غسلها قصيرة كانت أو طويلة بلا خلاف، وإن تعلقت في أحد المحلين يجب غسل ما يحاذي محل الفرض من ظاهرها وباطنها وغسل ما يجب من محل الفرض، وفي " الحلية ": لو خلق له يدان على المنكبين إحداهما ناقصة فالكاملة هي الأصلية، والناقصة خلقت زائدة، فإن حاذى منها محل الفرض وجب غسله عندنا والشافعي، ومن أصحابه من قال لا يجب غسلها بحال، وفي " الغاية " ومن شلت يده اليسرى، ولم يجد من يصب عليه الماء والماء جار لا يستنجي بيمينه وإن وجد ذلك يستنجي بيمينه، وإن شلت يداه مسح يديه بالأرض ووجهه بالحائط ولا يدع الصلاة.(1/150)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن مقطوع اليدين من المرفقين والرجلين من الكعبين يوضئ وجهه ويمسح أطراف المرفقين والكعبين بالماء ولا يجزئه غير ذلك، وهو قول أبي يوسف.
وفي " الدراية ": لو قطعت يده من المرفق لا فرض عليه.
وفي " المغني ": وإن قطعت من دون المرفق غسل ما بقي من محل الفرض، وإن قطعت من المرفق غسل العظم الذي هو طرف العضد، وإن كان من فوق المرفقين سقط الغسل لعدم محله، وإن كان أقطع اليدين فوجد من يوضؤه متبرعا لزمه ذلك لأنه قادر عليه، وإن لم يجد من يوضؤه إلا بأجر يقدر عليه لزمه أيضا كما يلزمه شراء الماء، وقال ابن عقيل: يحتمل أن لا يلزمه كما لو عجز عن القيام لم يلزمه استئجار من يعتمد عليه وإن عجز عن الأجر أو لم يقدر على من يأجر صلى على حسب حاله كعادم الماء والتراب، وإن وجد من ييممه ولم يوجد من يوضؤه لزمه التيمم وهذا مذهب الشافعي ولم أعلم فيه خلافا، وفي " مبسوط بكر " قال الإسكاف: يجب إيصال الماء إلى ما تحت العجين والطين في الأظفار دون الدرن لتولده منه، وقال الصفاء: يجب إيصال الماء إلى تحته إن طال الظفر، وإلا فلا.
وفي " النوازل ": يجب في حق المصري لا القروي؛ لأن في أظفار المصري رسومة تمنع إيصال الماء إلى ما تحته، وفي أظفار القروي طين لا تمنع ولو كان خلاب أو خبز ممصوغ جاف يمنع وصول الماء لم يجزه. وفي ونيم الذباب والبرغوث: جاز وفي " الجامع الأصغر ": إذا كان واسع الأظفار وفيها طين أو عجين أو المرأة تصنع التخي جاز، وإنما جاز في القروي والمدني إذ لا يستطاع الامتناع منه إلا بحرج، قال الدبوسي: وهذا صحيح وعليه الفتوى، وفي " فتاوى ما وراء النهر ": لو بقي من موضع الغسل قدر رأس إبرة أو لصق بأصل ظفره طين يابس لم يجزه، ولو تلطخ يده بحمرة أو حناء جاز.
وفي " المغني ": إذا كان تحت أظفاره وسخ يمنع وصول الماء إلى ما تحته فقال ابن عقيل: لا تصح طهارته حتى يزيله، ويحتمل أن لا يلزمه ذلك لأن هذا يسير عادة، وفي " الأحكام " لابن بزيزة: إذا طالت الأظفار فقد اختلف العلماء: هل يجب غسلها لأنها من اليدين حسا وإطلاقا وحكما، ومن العلماء من يوجب غسل الزائد على المعتاد، ولم يوجب بعض العلماء غسل الأظفار إذا طالت.
وفي " المجتبى ": لا يجب نزع الخاتم، وتحريكه في موضعه، إذا كان واسعا، وفي الضيق اختلاف المشايخ. وروى الحسن عن أبي حنيفة: اشتراط النزع والتحريك.(1/151)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: روى الدارقطني «أن النبي كان إذا توضأ حرك خاتمه» .
قلت: في سنده معمر بن محمد بن عبد الله هو وأبوه ضعيفان، وفي " الأحكام " لابن بزيزة تحريك الخاتم في الوضوء والغسل اختلف العلماء فيه، فقيل: يحركه في الوضوء والغسل، والتيمم، وقيل لا يحركه مطلقا، وقيل: إن كان ضيقا حركه، وإن كان واسعا لا يحركه، وقيل: يحركه في الوضوء والغسل ويزيله.
قوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] يدل على أن المرفق غاية، وهل تدخل الغاية تحت المغيا أم لا؟ فيه خلاف نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى، وهو جمع مرفق بكسر الميم وفتح الفاء، وعلى العكس، وهو مجتمع طرف الساعد والعضد. قلت: الأول على وزن اسم الآلة، كالمخلب، والثاني على وزن اسم المكان، فيجوز فيه فتح الميم والفاء على أن تكون مصدرا، أو اسم مكان على الأصل.
1 -
قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] هذا يدل على فرضية مسح الرأس وسيجيء ذكر الخلاف فيه إن شاء الله تعالى.
{وَامْسَحُوا} [المائدة: 6] أمر من مسح يمسح مسحا من باب فتح يفتح، قال الجوهري: مسح برأسه، ويمسح بالأرض، ومسح الأرض مساحة أي ذرعها، ومسح المرأة أي: جامعها، ومسحه بالسيف أي قطعه، ومسحت الإبل نوامها أي: سارت، ومسح الرجل بالكسر مسحا في الأصح وهو الذي يصيب إحدى ربليه إلى الأخرى، قلت: الربلة بفتح الراء وسكون الباء الموحدة وبفتحها أيضا هو باطن الفخذ، وقال الأصمعي: الفتح أفصح والجمع ربلات، والمسح في الشرع الإصابة، وقد يجيء بمعنى الغسل على ما نذكره إن شاء الله تعالى، والرؤوس جمع رأس، وهو جمع كثرة، وجمع القلة أرؤس.
{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) فيه ثلاث قراءات: الرفع: قرأ به الحسن البصري، تقديره وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة إلى الكعبين وقرأ به نافع، وروى عنه الوليد بن مسلم، وهي قراءة الأعمش أيضا. والنصب قرأ به على، وابن عباس، وابن مسعود، وإبراهيم، والضحاك، وابن عامر. والكسائي، والخفض: عن عاصم، وعلي بن حمزة.(1/152)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأزهري وهي قراءة الأعمش وحفص عن أبي بكر ومحمد بن إدريس الشافعي، والجر قرأ به ابن عباس في رواية عكرمة وحمزة وابن كثير، وقال الحافظ أبو بكر بن المغربي: وقرأ يونس، وعلقمة، وأبو جعفر بالخفض، والمشهور قراءة الجر، والنصب وبينهما تعارض فالحكم في تعارض القراءتين كالحكم في تعارض الآيتين، وهو أنه إن أمكن العمل بهما يعمل مطلقا، وإن لم يمكن.. يعمل بهما بالقدر الممكن، وهاهنا لا يمكن الجمع بين الغسل والمسح في عضو واحد في حالة واحدة؛ لأنه لم يقل به أحد من السلف، ولأنه يؤدي إلى تكرار المسح؛ لأن الغسل يتضمن المسح، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار، ولا يحتمله، فيعمل في حالتين، فيحمل قراءة النصب على ما إذا كانت الرجلان باديتين ويحمل على قراءة الجر على ما إذا كانتا مستورتين بالخفين توفيقا بين القراءتين وعملا بهما بالقدر الممكن، وقد يقال إن قراءة من قرأ {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بالخفض معارضة لمن نصبها فلا حاجة إذن لوجود المعارضة فإن قيل: نحن نحمل قراءة الجر على أنها منصوبة المحل فإذا حملناه على ذلك لم يكن بينهما تعارض بل يكون معناهما النصب، وإن اختلف اللفظ فيهما، ومتى أمكن الجمع لم يجز الحمل على التعارض، والاختلاف، والدليل على جواز العطف على المحل قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] (النساء: الآية 1) وقال الشاعر:
ألا حي عثمان عمرو بن عامر ... إذا ما تلاقينا اليوم أو غدا
فنصب " غدا " على المحل، ويجاب بأن العطف على المحل خلاف السنة وإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أما السنة: فحديث عمرو بن عيينة الذي أخرجه مسلم، وفيه: «ثم يغسل قدميه إلى الكعبين» ، الحديث.
وأما الإجماع فهو ما روى عاصم عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: بينما يوم والحسن يقرأ على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجلس قاعدا إلى علي يحازيه فسمع قارئا يقرأ: وأرجلكم، ففتح عليه الحسن بالخفض، فقال علي وزجره: إنما هو فاغسلوا وجوهكم واغسلوا أرجلكم في القرآن تقديم للتعظيم وتأخيره. وكذلك عن عروة ومجاهد، والحسن، ومحمد بن الحسن، وعبد الرحمن بن الأعرج، والضحاك، وعبد الرحمن بن عمرو بن غيلان، زاد البيهقي، وعطاء، ويعقوب الحضرمي، وإبراهيم بن زيد التميمي، وأبي بكر بن عباس. وذكر ابن الحاجب في " أماليه " أنه نصب على الاستئناف وقيل: المراد بالمسح في حق الرجل: الغسل، ولكن أطلق عليه لفظ المسح للمشاكلة كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] (سورة الشورى: الآية 40) ، وقيل: إنما ذكر بلفظ المسح لأن الأرجل من بين سائر الأعضاء مظنة إسراف الماء بالصب فعطف على الممسوح(1/153)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن كانت مغسولة للتنبيه على وجود الاقتصار في الصب لا التمسح، وجيء بالغاية فقيل إلى الكعبين إماطة لظن ظان يحسبها أنها ممسوحة إذ المسح لم تعرف له غاية.
ثم اعلم أن النصب له وجهان: أحدهما أن يكون معطوفا على {وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] فيشاركها في حكمها وهو الغسل، وإنما أخر عن المسح بعد المغسولين لوجوب تأخير غسلهما عن مسح الرأس عند قدوم الاستجابة عند آخرين، والوجه الثاني: أن يكون عامله مقدرا، وهو {فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] لا بالعطف على {وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] كما تقول: أكلت الخبز واللبن أي: وشربت، وإن لم يتقدم الشرب بذكر، وهاهنا تقدم للغسل ذكر فكان أولى بالإضمار، ومنه قوله: علفتها تبنا وماء باردا أي سقيتها، وقال: ورأيت زوجك في الوغا مقلدا سيفا ورمحا، أي وحاملا رمحا، وقال: تشوبت البان وتمرا أقط أي وأكل تمرا أقط، ويجاب عن الجر بأجوبة:
الأول: أنها جرت على أنها مجاورة رؤوسكم وإن كانت منصوبة كقوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] (سورة هود: الآية 26) ، على جر أليم، وإن كان صفة للعذاب، وكقولهم: هذا جحر ضب خرب بجر " خرب "، وإن كان مرفوعا. فإن قلت: جحرا ضب خربين وجحرة ضباب خربة لم يجزه الخليل في التثنية وأجازه في الجمع واشترط أن يكون الآخر مثل الأول وأجازه سيبويه في الكل.
الجواب الثاني: أنها عطف على الرؤوس؛ لأنها تغسل بصب الماء عليها فكانت مظنة لإسراف الماء المنفي عنه لا التمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصار في صب الماء عليها، فجيء بالغاية ليعلم أن حكمها مخالف لحكم المعطوف عليه؛ لأنه لا غاية في الممسوح، قاله صاحب " الكشاف ".
والجواب الثالث: أنه محمول على مسألة لبس الخف، والنصب على الغسل عند [......] ، روى همام بن الحارث «أن جرير بن عبد الله بال ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل له: أنت تفعل هذا، قال: وما يمنعني وقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله» وكان يعجبهم حديث جرير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأن إسلامه كان بعد نزول المائدة، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقال ابن العربي: اتفق الناس على صحة حديث جرير، وهذا نص يروي ما ذكروه، فإن قيل: روى محمد بن عمر الواقدي أن جريرا أسلم في سنة عشر في شهر رمضان وأن المائدة نزلت في شهر ذي الحجة يوم عرفة قيل: هذا لا يثبت لأن الواقدي ضعيف رمي بالكذب، وإنما(1/154)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نزلت يوم عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] (المائدة: الآية 3) .
الجواب الرابع: أن المسح يستعمل بمعنى الغسل الخفيف، يقال: مسح على أطرافه، إذا توضأ، قاله أبو زيد، وابن قتيبة، وأبو علي الفارسي، وفيه نظر. وما ذكر عن ابن عباس قال محمد بن جرير: إسناده ضعيف، والصحيح الثابت عنه أنه كان يقرأ: {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بالنصب، ويقول عطف على المفعول، هكذا رواه الحفاظ عنه منهم القاسم بن سلام، والبيهقي، وغيرهما، «وثبت في صحيح البخاري عنه أنه توضأ وغسل رجليه وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
» وأما قَوْله تَعَالَى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10] (سبأ: الآية 10) بالنصب على المحل فممنوع لأنه مفعول معه، ولو سلم العطف على المحل فإنما يجوز مثل ذلك عند عدم اللبس، نقل ذلك عن سيبويه وهاهنا لبس فلا يجوز، وأما البيت فغير مسلم فإنه ذكر في العقد أن سيبويه غلط فيه، وإنما قاله الشاعر بالخفض والقصيدة كلها مجرورة فكان مضطرا إلى أن ينصب هذا البيت ويحتال بحيلة ضعيفة قال:
مغاري أننا بشر فانجح ... فلسنا بالجذيل ولا الجديد
أكلتم أرضنا وجعلوا تمرنا ... فهل من قائم أو من حصيد
أتطمع في الخلود إذا هلكنا ... وليس لنا ولا لك من خلود
وقيل: هما قصيدتان مجرورة ومنصوبة وفيه بعد. فإن قلت: إن القراءتين النصب والجر نقلهما الأئمة تلقيا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يختلف أهل اللغة أن كل واحدة من القراءتين محتملة للمسح لعطفهما على الرأس ومحتملة للغسل لعطفهما على المغسول. قلت: لا يخلو القول من أحد معان ثلاثة: إما أن يقال: إن المراد هما جميعا مجموعان، فيكون عليه أن يمسح أو يغسل أو يكون أحدهما على وجه التخيير يفعل المتوضئ أيهما شاء ويكون ما يفعله هو المفروض، أو يكون المراد أحدهما بعينه لا على وجه التخيير، فلا سبيل إلى الأول لاتفاق الجميع على خلافه، وكذا لا سبيل إلى الثاني، إذ ليس في الآية ذكر التخيير ولا دلالة عليه، فتعين الوجه الثالث، ثم يحتاج في ذلك إلى طلب الدليل على المراد منهما، فالدليل على أن المراد الغسل دون المسح اتفاق الجميع على أنه إذا غسل فقد أدى فرضه، وأتى بالمراد، وأنه غير ملوم على ترك المسح، فتبين أن المراد الغسل، وأيضا فهو صار في حكم المجمل المقتصر إلى البيان فيما ورد فيه من البيان عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فعل أو قول، علمنا أنه مراد الله تعالى، وقد ورد البيان عنه بالغسل قولا وفعلا:(1/155)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أما فعلا فهو ما ثبت بالنقل المستفيض والنصوص المتواترة أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غسل رجليه في الوضوء ولم تختلف الأمة فيه، وأما قولا: فما رواه جابر، وأبو هريرة، وعائشة، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أما حديث جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه "، وقال: حدثنا أبو الأحوص عن إسحاق عن سعيد بن أبي كريب عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ويل للعراقيب من النار» وأخرجه الطحاوي ولفظه: «رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قدم رجل لمعة لم يغسلها، فقال: " ويل للعراقيب من النار.» وأخرجه ابن ماجه من طريق ابن أبي شيبة.
وأما حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فما أخرجه البخاري، وقال: حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا شعبة «حدثنا محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة وكان يمر بنا والناس يتوضؤون من المطهرة فقال: أسبغوا الوضوء فإن أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ويل للأعقاب من النار» أخرجه مسلم أيضا.
وأما حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجه مسلم من طريق سالم مولى شداد قال: دخلت على عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم توفي سعد بن أبي وقاص فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقالت: يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ويل للأعقاب من النار» وأخرجه الطحاوي أيضا.
وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أبو داود، وقال: حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن معين قال: حدثنا منصور عن هلال بن بشار عن أبي يحيى عن عبد الله بن عمرو «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى قوما وأعقابهم تلوح، فقال: " ويل للأعقاب من النار، وأسبغوا الوضوء» وهذا إسناده صحيح، ورجاله ثقات، وأبو يحيى اسمه مصدع مولى عبد الله بن عمرو، وروى له الجماعة سوى البخاري، والحديث أخرجه النسائي وابن ماجه أيضا.(1/156)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما حديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي فأخرجه أحمد في " مسنده "، وقال: حدثنا هارون قال: حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني حيوة بن شريح أخبرني عروة بن مسلم عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي وهو من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ويل للأعقاب من النار، وبطون الأقدام من النار» وإسناده حسن، وقد أخرجه الطحاوي، والطبراني أيضا. فقوله: " ويل للأعقاب من النار " وعيد لا يجوز أن يخلف إلا بترك الفروض، وهذا يوجب استيعاب الرجل بالغسل،
وفي " العناية ": وأما وظيفة الرجلين ففيها أربعة مذاهب.
الأول: هو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل السنة والجماعة أن وظيفتهما الغسل، ولا يعتد بخلاف من خالف ذلك.
الثاني: هو مذهب الإمامية من الشيعة أن الفرض مسحهما.
الثالث: وهو مذهب الحسن البصري، ومحمد بن جرير الطبري، وأبي علي الجبائي: أنه مخير بين المسح والغسل.
الرابع: مذهب أهل الظاهر وهو رواية عن الحسن أن الواجب الجمع بينهما، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هما غسلان، ومسحان، وعنه ما أمر الله بالمسح للناس إلا بالغسل، وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال: " اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من جنبه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما "، فسمع ذلك أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: صدق الله، وكذب الحجاج، قال الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] ، وكان عكرمة يمسح رجليه، ويقول: ليس في الرجلين غسل، وإنما هو مسح، وقال الشعبي: نزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالمسح، وقال قتادة: فرض الله غسلين ومسحين، ولأن قراءة الجر محله في المسح؛ لأن المعطوف يشارك المعطوف عليه في الكلمة؛ لأن العامل الأول ينصب عليهما إنصابة واحدة بواسطة الواو عند سيبويه، وعند البصريين يقدر الثاني جنس الأول، والنص يحتمل العطف على الأول على بعد، فإن أبا علي قال: قد أجاز قوم النصب عطفا على {وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] وإنما يجوز وأشبهه في الكلام المعتبر، وفي ضرورة الشعر، وما يجوز على مثله هجنة العي وظلمة للبس وتقديره أعط زيدا(1/157)
..
....
....
....
..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعمرا جوائزها، ومر ببكر وخالد فأي بيان الكلام في هذا، وأي لبس أقوى من هذا ذكره المرسي حاكيا عنه في " ري الظمآن "، ويحتمل العطف على محل {بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] كقوله تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10] (سبأ: الآية 10) بالنصب عطفا على المحل؛ لأنه مفعول به، وقد ذكرنا الجواب عن هذا عن قريب.
وورد في الأحاديث المستفيضة في صفة وضوء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه غسل رجليه، وهو حديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتفق على صحته وحديث علي، وابن عباس، وأبي هريرة، وعبد الله ابن زيد، والربيع بنت معوذ بن عفراء، وعمرو بن عنبسة، وثبت أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رأى جماعة يتوضؤون وبقيت أعقابهم تلوح لم يمسها الماء فقال، «ويل للأعقاب من النار» ، ولم يثبت عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه مسح رجليه بغير خف في حضر ولا سفر، أما تفسير " الكعب " فسيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى، ويستفاد من الآية الكريمة فوائد:
الأولى: يدل على أن الغسل مرة واحدة، إذ ليس فيها ذكر العدد فلا يوجب تكرار الفعل، فمن غسل مرة فقد أدى الفرض، وقد وردت الآثار بالمرة والمرتين والثلاث على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الثانية: إن الأمر في هذه الآية لا يدل على وجوب الترتيب، ولا على الموالاة لإطلاق النص على ذلك على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
الثالثة: تدل على أن التسمية على الوضوء ليست بفرض؛ لأنه أباح الصلاة بغسل هذه الأعضاء ومسح الرأس من غير شرط التسمية على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
الرابعة: تدل على أن الاستنجاء ليس بفرض، وأن الصلاة جائزة بتركه إذا لم يتعد الموضع، بيان ذلك أن معنى قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) : إذا قمتم وأنتم محدثون كما ذكرنا، وقال في أثناء الآية: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] (النساء: الآية 43) فحققت هذه الآية الدلالة من وجهين على ما قلنا:
أحدهما: إيجابه على المحدث غسل هذه الأعضاء، وإباحة الصلاة به، وموجب الصلاة الاستنجاء فرض ما منع من الآية، وذلك يوجب المسح وهو غير جائز، والوجه الأخر: من دلالة الآية: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] إلى آخرها، فأوجب التيمم على من جاء من الغائط، وذلك كناية عن قضاء الحاجة فأباح صلاته بالتيمم من غير استنجاء فدل على ذلك على أنه غير فرض.
الخامسة: استدل بعض الناس بقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] في قراءة الجر على جواز المسح على الخفين والمعنى: وامسحوا بأرجلكم في حال استعمال الخف، وإنما ترك ذكر الخف(1/158)
الآية
ففرض الطهارة غسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس كذلك بهذا النص
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كيلا يوهم جواز المسح على الخف بدون اللبس.
م: (الآية) ش: يجوز فيه الأوجه الثلاثة: الرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر، أي الآية مقروءة بما فيها، ويجوز أن يكون مرفوعا على تقدير تقرأ الآية بتمامها، والنصب على أنه مفعول والتقدير: اقرأ الآية ونحو ذلك، والجر على تقدير: إلى آخر الآية، وهذا أضعف الوجوه؛ لأن فيه حذف الحرف، وحذف المضاف من غير ضرورة.
[فرائض الطهارة]
م: (ففرض الطهارة غسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس كذلك بهذا النص) ش: ففرض الطهارة كلام إضافي مبتدأ، وغسل الأعضاء الثلاثة كذلك خبره، ومسح الرأس خبره، كذلك عطف عليه، وفي القضية الجملية لا بد من رابط قد يحذف، والتقدير هو غسل الأعضاء، والفاء فيه إما: للتعقيب، أو للتفسير، أو السببية، فالأول ذهب إليه الشيخ قوام الدين، والشيخ أكمل الدين، وقال الأكمل: لأنها دخلت على الحكم بعد ذكر الدليل، وقال القوام: لأنها تدخل على الحكم لما أنه يعقب العلة كما في قولك: اضرب فأوجع وأطعم فأشبع، والثاني ذهب إليه صاحب " النهاية " وصاحب " الدراية "، فقال الأول: لما كان في الآية المتلوة ذكر المسح والغسل فسرهما تتميما للمرام ولإبانة الكلام، وقال الثاني: إن الأمر في الآية يحتمل الوجوب والندب ففسره بالوجوب كما فسره في آية التيمم بقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة: 6] لأن التيمم مجمل.
والثالث: ذهب إليه بعضهم وهو أن يكون الكلام الواقع بعد الفاء نتيجة للكلام الواقع قبله، ولم يذكر أكثر أهل اللغة ألفاظ النتيجة والظاهر أنه اصطلاح. و (الفرض) هاهنا بمعنى المفروض كضرب الأمير بمعنى مضروبه، ونسج فلان بمعنى منسوجه، والإضافة فيه بمعنى أي المفروض في الطهارة هو غسل الأعضاء الثلاثة، وهذا من قبيل قَوْله تَعَالَى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33] (سبأ: الآية 34) أي مكر في الليل، وقد أنكر بعضهم هذه الإضافة وهو غير صحيح، ولكن الأكثر أن تكون الإضافة بمعنى " اللام "، أو بمعنى " من " كقولك غلام زيد وخاتم فضة، أي غلام لزيد، وخاتم من فضة.
وقال صاحب " النهاية ": الإضافة هاهنا للبيان لأن الفروض قد تكون من الطهارة، ومن غيرها، وتبعه على ذلك الشيخ الأكمل، قلت: الكلام في " الطهارة " ولا يذهب الوهم هناك إلى أن الفروض قد تكون من غير " الطهارة " حتى يقال: إن الإضافة هاهنا للبيان، وعلى قولهما تكون الإضافة بمعنى " من " نحو خاتم فضة، ويكون المعنى المفروض من الطهارة من غسل الأعضاء الثلاثة، وأراد بالطهارة الوضوء من قبيل ذكر الكل وإرادة الجزء، أو من قبيل ذكر العام وإرادة الخاص، ولو قال: فرض الطهارة لكان أولى وأحسن؛ لأن العدول عن الحقيقة بلا داع لا يحسن، والفرض في اللغة يأتي لمعان كثيرة، بمعنى القطع، يقال فرض الخياط الثوب أي قطعه،(1/159)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفرضت القرآن قطعت بالقراءة منه جزءا، قال الجوهري: الفرض الجزء في الشيء، يقال: فرضت الثريد والسواك وفرض القوس، هو الجزء الذي فيه الوتر، والمعنى التقدير، قال الله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] (سورة البقرة: الآية 237) أي قدرتم، وبمعنى التفصيل قال الله تعالى: " سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا " (النور: الآية 1) ، أي فصلناها، وبمعنى البيان قال الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] (التحريم: الآية 2) أي بين الله لكم كفارة أيمانكم، ولمعنى الحد قال الله تعالى: {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 118] (النساء: الآية 118) أي محدودا ومنه المفرض بكسر الميم، وهو الحدة التي يحد بها، وبمعنى التحرير كما في قوله: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] بالتشديد بمعنى حررناها لكم، كذا فسره بعضهم، وقال الجوهري: التفريض التحرير بمعنى التعظيم وبمعنى العطية، يقال: ما أصبت منه فرضا ولا فريضا أي عطية.
وقال الجوهري: الفرض العطية الدنيوية، وفرضت للرجل وأفرضت إذا أعطيته، وقد فرضت له في الديوان، وبمعنى التكبير يقال: فرضت البقرة تفرض فروضا أي كبرت وطعنت في السن، ومنه قَوْله تَعَالَى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} [البقرة: 68] (البقرة: الآية 68) ولمعنى العظمة [......] فارضة إذا كانت عظيمة، وقال الجوهري: الفارض الضخم في كل شيء، والفارض بمعنى الرئيس، قال: ضخم العين أنشده أبو عبيدة:
أفرضت له بمثل لمع البر ... قلت بالكف فرضا حقيقا
وفي اصطلاح الشرع: ما ثبت بدليل قطعي لا شبهة فيه كالكتاب والسنة المتواترة إذا لم يلحقهما خصوص وكالإجماع إذا لم ينتقل بطريق الآحاد، وكالقياس المنصوص عليه، والمعاني اللغوية تجري في المعنى الشرعي؛ لأنه الذي فرضه الله على عباده ومقطوع ومقدور ومفصل ومبين ومحدود ومحرر وغير ذلك من المعاني المذكورة.
فإن قلت: كيف قال الأعضاء الثلاثة والأعضاء التي يجب غسلها في الوضوء خمسة.
قلت: الأشياء الكثيرة إذا دخلت تحت خطاب واحد تجعل كالشيء الواحد، فجعلت اليدان كيد واحدة، وكذا الرجلان كرجل واحدة، وإن كانت أربعة في الحقيقة.
فإن قلت: فعلى هذا ينبغي أن يجوز أن تغسل البلة من يد إلى أخرى ومن رجل إلى رجل أخرى في الوضوء، كما يجوز ذلك في الغسل.
قلت: القياس بالفارق باطل، وذلك لأن البدن شيء واحد حقيقة، فكان في الغسل في حكم شيء واحد بخلاف اليدين والرجلين في الوضوء لأنهما مختلفان، وإنما عدت شيئا واحدا حكما لا حقيقة لدخولها تحت خطاب واحد، كما ذكرنا قوله بهذا النص إشارة إلى ما تلاه من قوله(1/160)
والغسل هو الإسالة والمسح هو الإصابة، وحد الوجه من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن وإلى شحمتي الأذن؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] الآية (المائدة: الآية 5) .
فإن قلت: الباء تتعلق بماذا؟
قلت: يجوز أن تتعلق بقوله: " ففرض الطهارة " والمعنى يثبت فرض الطهارة، وهي الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس بهذا النص، ويجوز أن تتعلق بمسح الرأس أي يثبت مسح الرأس بهذا النص، وذلك لئلا يتوهم أن فرضية المسح بالحديث والنص من نصفت الشيء رفعته، ونصفت الدابة استخرجت ثمنها أو سيرتها بالتكليف سيرا فوق سيرها المعتاد، وهو من أقسام اللفظ باعتبار ظهور المعنى، فهذا الاعتبار ينحصر في أربعة أقسام: الظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم. والاعتبار في الظاهر لظهور المراد منه سواء كان مسوقا له، أولا، وفي النص كونه مسوقا للمراد سواء احتمل النسخ أو لا، وفي لمحكم عدم احتمال شيء من ذلك.
[صفة غسل الأعضاء في الوضوء]
م: (والغسل هو الإسالة) ش: هو بفتح الغين مصدر من غسلت الشيء غسلا، وبضم الغين الاسم، وبكسر الغين ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره، وتفسيره بالإسالة تفسير لغوي ومعناه الشرعي: إسالة الماء على العضو، والتقاطر ليس بشرط، وفي " المبسوط " عن أبي حنيفة: لو سال الماء على الأعضاء بلا تقاطر يجزيه؛ لأن الإسالة تحصل به، وإن لم يتقاطر، وقال: يصلح الغسل إلا إذا سال الماء إلى حد التقاطر لأنه قبيل التقاطر متردد بين الإصابة والإسالة فلا يحصل اليقين بالغسل.
م: (والمسح هو الإصابة) ش: أما إلى الموضع الذي يمسحه، وقد مر الكلام فيه مستوفى.
فإن قلت: ما كان الداعي إلى تفسير الغسل، والمسح هاهنا؟
قلت: لما كان في الآية ذكرهما فسرهما تتميما للبيان، وقيل في تفسير المسح: دفع لما يذهب إليه الشافعي من تكرار مسح الرأس بمياه مختلفة، وفيه ثبوت المسح، والشارع أوجب المسح، وفي تفسير الغسل دفع لما روي عن أبي يوسف في الليل في المغسولات سقط الفرض.
1 -
م: (وحد الوجه من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن وإلى شحمتي الأذن) ش: هذا تفسير الوجه من حيث الشرع وإلا فالوجه في اللغة: هو العضو المعين من بني آدم وغيرهم، وقصاص الشعر حيث ينتهي بينه من مقدمه ومؤخره والقاف مثلثة والضم أعلاها والذقن بفتح الذال المعجمة والقاف، وهو مجتمع لحيته وشحمة الأذن معلق القرط وقد بسطنا الكلام عند قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] .(1/161)
لأن المواجهة تقع بهذه الجملة وهو مشتق منها،
والمرفقان والكعبان يدخلان في الغسل عندنا خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو يقول إن الغاية لا تدخل تحت المغيا كالليل في الصوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م (لأن المواجهة تقع بهذه الجملة) ش: أي المقابلة تقع بهذه الجملة، وأشار إلى ما ذكر من حد الوجه طولا وعرضا.
م: (وهو مشتق منها) ش: أي الوجه مشتق من المواجهة. فإن قلت: الوجه ثلاثي، والمواجهة مزيد الثلاثي، والثلاثي لا يكون مشتقا من المزيد. قلت: هذا الشرط في الاشتقاق الصغير وأما في الكبير والأكبر فلا يشترط ذلك بل مجرد التناسب بين اللفظ والمعنى كاف، بخلاف الصغير يشترط فيه التناسب في الحروف والترتيب والمناسبة في اللفظ والمعنى والتغاير في الصفة نحو: ضرب، فإنه مشتق من الضرب ونصر من النصر فلا يقال: الذئب مشتق من السرحان، ولا ذهب أحد النقدين من ذهب الماضي من الذهاب، وأما الاشتقاق الكبير فيجوز فيه أن يكون الثلاثي مشتقا من المزيد فقد ذكر الزمخشري في " الفائق " أن الدبر وهو النحل وهو مشتق من التدبير، والجن من الاجتنان وهو الاستتار، وذكر في " الكشاف " أن التيم مشتق من التيمم، وهذا لأن غرضهم من هذا الاشتقاق بيان حقيقة معنى تلك الكلمة، فجاز أن يكون المزيد أشهر وأقرب إلى الضم من الثلاثي لكثرة استعماله كما في الدبر مع التدبير، وأما الاشتقاق الأكبر فيكفي فيه وجود المناسبة في المخرج في الحروف نحو نعق من النهق، وقد شنع الشيخ قوام الدين هاهنا على الشيخ حافظ الدين النسفي بغير تأمل ثم تصدى للجواب، وهو في الحقيقة تحصيل ما قاله الشيخ حافظ الدين، ويعلم ذلك عند التأمل.
[حد المرفق والكعب في الوضوء]
م: (والمرفقان والكعبان يدخلان في الغسل) ش: قد مر تفسير المرفق وسيأتي تفسير الكعب.
م: (عندنا) ش: أي عند أصحابنا الثلاثة: وهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وبه قال الشافعي، وأحمد، ومالك في رواية.
م: (خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فعنده لا يدخل المرفقان والكعبان في الغسل، وبه قال مالك في رواية.
م: (وهو يقول إن الغاية لا تدخل تحت المغيا) ش: أي زفر يقول فيما ذهب إليه أن الغاية أي الحد " لا تدخل تحت المغيا " أي في المحدود.
م: (كالليل في الصوم) ش: أي كما لا يدخل الليل في الصوم في قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] (البقرة: الآية 187) بخلاف قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] (البقرة: الآية 222) حيث دخلت في الآية الغاية في المغيا لأنها إنما لم تدخل إذا كانت عينا أو وقتا، وهاهنا الغاية لا عين ولا وقت بل فعل، والفعل لا يوجد بنفسه ما لم يفعل فلا بد من وجود الفعل الذي هو غاية للنهي(1/162)
ولنا أن هذه الغاية لإسقاط ما وراءها، إذا لولاها لاستوعبت الوظيفة الكل وفي باب الصوم لمد الحكم إليها، إذ الاسم يطلق على الإمساك ساعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لانتهاء النهي فبقي الفعل داخلا في النهي ضرورة، وذكر غير المصنف كزفر تعارض الاشتباه وهو أن من الغايات ما يدخل كقوله: " قرأت القرآن من أوله إلى آخره " ومنها ما لا يدخل كما في قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] (البقرة: الآية 280) ، وقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] ، وهذه الغاية تشبه كلا منهما فلا تدخل بالشك.
م: (ولنا أن هذه الغاية لإسقاط ما وراءها إذ لولاها) ش: يعني لولا ذكر الغاية.
م: (لاستوعبت الوظيفة الكل) ش: أي لاشتملت وظيفة الغسل كل اليد، وكل الرجل، بيان ذلك أن الغاية على نوعين: غاية إسقاط، وغاية إثبات، يعلم ذلك بصدر الكلام فإن كان صدر الكلام يثبت الحكم في الغاية وما وراءها قبل ذكر الغاية فذكرها لإسقاط ما وراءها وإلا فلا تدخل الحكم إلى تلك الغاية، والغاية في صورة النزاع من قبيل الإسقاط، وفي المقيس من قبيل الإثبات فلا يصح القياس.
م: (وفي باب الصوم لمد الحكم إليها) ش: هذا جواب عن قول زفر " كالليل في الصوم "، قوله إليها: أي إلى الغاية.
م: (إذ الاسم يطلق على الإمساك ساعة) ش: أي: اسم الصوم يطلق على الإمساك أدنى ساعة حقيقة وشرعا حتى لو حلف لا يصوم يحنث بالصوم ساعة، وكذا قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} [البقرة: 187] (البقرة: الآية 187) اقتضى صومه ساعة، ومتى كان ما قبل ذكر الغاية يتناول زيادة على الغاية تدخل الغاية في الحكم، ويكون المراد بها خروج ما وراء الغاية مع بقاء الغاية والحد داخل في الحكم، واسم " اليد " يتناول من رؤوس الأصابع إلى الإبط واسم " الرجل " يتناول إلى أعلى الفخذ، فكان ذكر الغاية لإخراج ما وراءها وإسقاط من الإيجاب فبقيت الغاية، وما قبلها داخلة تحت الإيجاب وأوردا على هذا مسألة، وهو أنه لو حلف لا يكلم فلانا إلى رمضان يدخل رمضان في اليمين مع أنه لولا الغاية لكانت اليمين متأبدة ولم يكن ذكر الغاية مسقطا لما وراءها فاليد هاهنا كأيدي في اليمين.
قال خواهر زاده: لا وجه لتخريج هذا النقض إلا بالمشي على رواية الحسن عن أبي يوسف.
وقال رضي الدين النيسابوري: هذه الغاية لمد اليمين لا للإسقاط لأن قوله: لا أكلم للحال فكان من الحال إلى الأبد. قلنا: هذا ممنوع فإن المضارع مشترك بين الحال والاستقبال، والاستقبال يعم في النفي حتى لو حلف لا يكلم موالي فلان يتناول الأعلى والأسفل، ذكره في " الوصايا " و " الهداية " وغيرها، وعلى هذا قال أبو حنيفة: لو شرط الخيار في البيع والشراء إلى غد فله الخيار(1/163)
والكعب هو العظم الناتئ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في الغد كله لأنه لو اقتصر على قوله: إني بالخيار يتناول الأبد فيكون ذكر الغد لإسقاط ما وراءه إنما وجهه ظاهر وآيته في اليمين في العرف ومبنى الأيمان عليه حتى لو حلف لا يكلمه إلى عشرة أيام يدخل اليوم العاشر، ولو قال إن تزوجت إلى خمس سنين دخلت السنة الخامسة في اليمين، وكذا لو استأجر دارا إلى خمس سنين دخلت الخامسة فيها، وقيل: إن " إلى " بمعنى " مع "، قاله ثعلب وغيره من أهل اللغة، واحتجوا بقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] (النساء: الآية 2) وكقولهم الذود إلى الذود إبل وقد ضعف فإنه يجب غسل العضد لاشتمال اليد عليه، وعلى المرفوع أنا نمنع أن يكون فيهما استشهد به بمعنى " مع "؛ لأن معنى الآية ولا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم أو ولا تضموها إلى أموالكم آكلين لها وكذا الذود مضمومة إلى الذود إبل.
وقيل: إن التحديد يدخل تحت المحدود إذا كان التحديد شاملا للحد والمحدود، وقال سيبويه والمبرد وغيرهما: ما بعد إلى إن كان من نوع ما قبلها دخل فيه، واليد عند العرب من رؤوس الأصابع إلى المنكب، ولهذا لو قال: بعتك هذه الأشجار من هذه إلى هذه دخل الحد ويكون المراد بالغاية إخراج ما وراء الحد فكان المراد بذلك المرافق والكعبين وإخراج ما وراءها وقيل إن " إلى " تفيد الغاية ودخولها في الحكم وخروجها منه يدور مع الدليل فقوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] (البقرة: الآية 280) مما لم يدخل فيه لأن الاعتبار علة الإنظار فيزول بزوال علته، وكذلك الليل في الصوم لو دخل لوجب الوصال، ومما فيه دليل الدخول قولك: حفظت القرآن من أوله إلى آخره وقطعت يد فلان من الخنصر إلى السبابة فالحد يدخل في المحدود فإذا كان الدخول وعدم الدخول يقف على دليل فقد وجد دليل الدخول هاهنا بوجوه ثلاثة:
الأول: حديث «أبي هريرة " أنه توضأ فغسل يديه حتى أشرع في العضدين وغسل رجليه حتى أشرع في الساقين، ثم قال: هكذا رأيته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يتوضأ.» رواه مسلم، ولم ينقل تركها، فكان قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بيانا أنه ما يدخل قوله أشرع المعروف شرع في كذا أي دخل وروي حتى أسبغ في العضد وحتى أسبغ في الساق.
الوجه الثاني: أن المرفق من عظمي الساعد والعضد وجانب الساعد دون العضد وقد تعذر التمييز بينهما للتداخل فوجب غسل المرفقين؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
الوجه الثالث: أنه قد وجبت الصلاة في ذمته والطهارة شرط لسقوطها فلا تسقط بالشك.
م: (والكعب هو العظم الناتئ) ش: أي الناتئ في مفصل القدم والناتئ بالهمزة في آخره، ومعناه المرتفع عند ملتقى الساق والقدم، وأنكر الأصمعي قول من قال: إنه في ظهر القدم نقل عن الجوهري، وقال الزجاج: الكعبان العظمان الناتئان في آخر الساق مع القدم وكل مفصل(1/164)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للعظام فهو كعب إلا أن هذين الكعبين ظاهران عن يمنى القدم ويسرته، فلذلك لم يحتج أن يقال الكعبان اللذان من صفتهما كذا وكذا، وفي " المختصر " في كل رجل كعبان وهما طرفا عظمي الساق، وملتقى القدمين.
قال ابن جني: وقول أبي كثير وإذا انتبه من المنام رأيته عن ثوب كعب الساق، ليس بمزيل يدل على أن الكعبين هما الناتئان في أسفل كل ساق من جنبها، وليس الشاخص في ظهر القدم، وفي " الترهيب للأزهري عن ثعلب: الكعبان الشجان الناتئان، قال: وهو قول أبي عمرو بن العلاء والأصمعي، وفي كتاب " المنتهى "، و " جامع القرآن " الكعب: الناتئ عند ملتقى الساق، والقدم، ولكل رجل كعبان والجمع كعوب وكعاب. وقالت الإمامية وكل من ذهب إلى المسح: إنه عظم مستدير مثل كعب الغنم والبقر موضوع تحت عظم الساق حتى يكون مفصل الساق والقدم عند معقد الشراك.
وقال فخر الدين الخطيب: اختار الأصمعي قول الإمامية في الكعب وقال الطرفان الناتئان يسميان النجمين، وهو خلاف ما نقله عنه الجوهري ورجحه الجمهور، ولو كان الكعب ما ذكروه لكان في كل رجل كعب واحد فكان ينبغي أن يقول إلى الكعاب؛ لأن الأصل إنما يوجد من خلق الإنسان مفردا فتثنيته بلفظ الجمع كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] (التحريم: الآية 4) وتقول: رأيت الزيدين أنفسهما، ومتى كان مثنى فتثنيته بلفظ التثنية فلما لم يقل إلى الكعبات علم أنه المراد بالكعب ما أوردناه، وأيضا أنه شيء خفي لا يعرفه إلا المشرحون، وما ذكرناه معلوم لكل أحد ومناط التكليف على الظهور دون الخفاء، وأيضا «حديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثم اليسرى كذلك أخرجه مسلم،» فدل على أن في كل رجل كعبين، «وحديث النعمان بن بشير في تسوية الصفوف " فقد رأيت الرجل يلصق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه» رواه أبو داود والبيهقي بأسانيد جيدة، والبخاري في صحيحه تعليقا، ولا يتحقق إلصاق الكعب فيما ذكره. وحديث طارق بن عبد الله أخرجه إسحاق بن راهويه في " مسنده "، وقال: حدثنا الفضل بن موسى عن زيد بن زياد بن أبي الجعد عن جامع بن شداد «عن طارق بن عبد الله المحاربي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سوق ذي المجاز وعليه جبة حمراء وهو يقول: " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " ورجل يتبعه يرميه بالحجارة وقد أدمى عرقوبه وكعبه وهو يقول: أيها الناس لا تطيعوه فإنه كذاب، فقلت: من هذا؟، فقالوا ابن عبد المطلب. قلت: فمن هذا الذي يتبعه بالحجارة، قالوا: هذا عبد العزى أبو لهب،» وهذا يدل على أن(1/165)
هو الصحيح ومنه الكاعب.
قال: والمفروض في المسح مقدار الناصية وهو ربع الرأس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكعب هو العظم النابت في جانب القدم لأن الرمية إذا كانت من وراء الماشي لا تصيب ظهر القدم.
م: (هو الصحيح) ش: احترز به عما روي عن هشام بن عبد الله الرازي أنه في ظهر القدم عند معقد الشراك، قالوا: إن ذلك سهو من هشام في نقله عن محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن محمدا قال في مسألة المحرم إذا لم يجد النعلين حتى يقطع خفيه أسفل الكعبين، وأشار محمد بيده إلى موضع القطع فنقله هشام إلى باب الطهارة، وقال ابن حجر في شرح البخاري: قال أبو حنيفة الكعب هو العظم الشاخص في ظهر القدم، قال: وأهل اللغة لا يعرفون ما قال. قلت: هذا جهل منه لمذهب أبي حنيفة فإن ما ذكر ليس قولا له ولا نقله عنه أحد من أصحابه فكيف يقول قال أبو حنيفة كذا وكذا وهذا جرأة على الأئمة منه.
م: (ومنه الكاعب) ش: أي ومن الكعب اشتقاق الكاعب وهي الجارية التي يبدو ثديها للنهود، وكذلك الكعاب بفتحتين بمعنى الكاعب، وقد كعبت تكعب بالضم كعوبا وكعب بالتشديد مثله، وأشار بذلك إلى تأييد قوله: الكعب والكعب هو الناتئ؛ لأن وجوه الاشتقاق يدل على ذلك، ولذا يقال للنواشر في أطراف الأنابيب كعوب، ومنه الكعبة لارتفاعها على سائر البيوت ويقال لربعها. فرع لو قطعت رجليه وبقي بعض الكعب يجب غسل البقية وموضع القطع وكذا في المرفق.
[المقدار المفروض في مسح الرأس في الوضوء]
م: (والمفروض في المسح مقدار الناصية) ش: أي المقدار على جهة الفريضة في مسح الرأس قدر الناصية، الألف واللام فيه للعهد يعني ذلك المسح الذي يثبت بالنص لا بخبر الواحد عندنا وأراد به الفرض اللغوي لا الشرعي فإن الآية مجملة والفرض لا يثبت بخبر الواحد، ويجوز أن يراد به الفرض الشرعي على الرواية التي هي أنه مقدر بثلاثة أصابع؛ لأن دخول الآلة تحت النص بطريق الاقتضاء يكون ثابتا بمقتضى النص لا بخبر الواحد.
فإن قلت: لو دخلت الآلة تحت النص كان ينبغي أن لا يتأدى المسح بدون الآلة وهي أكثر اليد وقد يتأدى بإصابة المطر بلا استعمال اليد، وقد نص في " المبسوط " " والخلاصة " وغيرهما بذلك.، قلت: ثبوت الآلة بطريق الضرورة لا بطريق القصد فإن من أمر بالصعود على السطح دخل بنصب السلم تحت الأمر ضرورة لا قصدا حتى لو حصل الصعود من غير مضيه سقط اعتباره لكونه غير مقصود.
م: (وهو ربع الرأس) ش: أي مقدار الناصية ربع الرأس وليست الناصية ربع الرأس على الحقيقة؛ لأن هذا لا يحتاج إلى تكسر ومساحة حتى يتبين أنها ربع الرأس على الحقيقة وإنما هي مقدار الناصية، قال ابن فارس: الناصية قصاص الشعر، ثم فسر القصاص بأنه نهاية منبت الشعر(1/166)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من مقدم الرأس، فهذا أعم من أن يكون ربع الرأس على الحقيقة، أو باعتبار أنه أحد الأركان الأربعة وهي: القفا والناصية والقودان، والقفا يقاله له: القذال أيضا بفتح القاف والذال المعجمة. وقال الجوهري: القذال جمع مؤخر الرأس وهو معقد العذار من الفرس خلف الناصية، ويقال: القذالان ما اكتنفا ما بين القفا من يمين وشمال، ويجمع أقذلة وقذل، والقودان فتح القاف وسكون الواو تثنية قود، وقال الجوهري: قود الرأس جانبه. ثم اعلم أن للفقهاء في هذه المسائل ثلاثة عشر قولا: ستة عن المالكية حكاها ابن العربي والقرطبي.
قال ابن مسلمة صاحب مالك: يجزئه مسح ثلثيه، وقال أشهب، وأبو الفرج: يجزئه الثلث، وروى الرقي عن أشهب يجزئه مقدم رأسه، وهو قول الأوزاعي والليث وظاهر مذهب مالك الاستيعاب وعنهم: يجزئه أدنى ما يطلق عليه اسم المسح، والسادس: مسح كلها، ويعفى عن ترك شيء يسير منه يعزى إلى الطرطوسي، وللشافعية قولان: صرح أكثرهم بأن مسح شعرة واحدة يجزئه، وقالوا: يتصور ذلك بأن يكون رأسه مطليا بالحناء بحيث لم يبق ظاهرا إلا شعرة واحدة فأمر يده عليها وهذا ضعيف جدا، فإن الشرع لا يرد بالصورة النادرة التي يكلف في تصورها.
وقال ابن القاضي: الواجب ثلاث شعرات وهذا أخف من الأول ويحصل أضعاف ذلك بغسل الوجه وهو يجزئ عن المسح في الصحيح، والنية عند كل عضو ليست بشرط بلا خلاف عندهم، ودليل الترتيب ضعيف، وعندنا في المفروض منه ثلاث روايات في ظاهر الروايات ثلاثة أصابع ذكره في " المحيط " و " المفيد " وهو راوية هشام عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفي رواية الكرخي والطحاوي مقدار الناصية وذكر في اختلاف زفر عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف أنهما قالا: لا يجزئه إلا أن يمسح مقدار ثلث رأسه أو ربعه. وروى ابن يحيى بن أكثم عن محمد أنه اعتم ربع الرأس، وقال أبو بكر: عندنا أعني فيه روايتان الربع والثلاث أصابع، وبعض المشايخ صحح رواية ثلاث أصابع احتياطا، وفي " جوامع الفقه " عن الحسن يجب مسح أكثر الرأس. وعن أحمد: مسح جميعه وعنه يجزئ مسح بعضه، والمرأة يجزئها مسح مقدم رأسها في ظاهر قوله، وفي " المغني ": لا خلاف بين الآية في وجوب مسح الرأس، وقد نص الله سبحانه وتعالى عليه بقوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] واختلف في قدر الواجب، فروي عن أحمد وجوب مسح الجميع في حق كل أحد، وهو ظاهر كلام الخرقي، ومذهب مالك، والرواية الثانية: يجزئ مسح بعضه، قال أبو الحارث: قلت لأحمد: فإن مسح برأسه وترك بعضه، قال: يجزئه ثم قال: ومن يمكنه أن يأتي على الرأس كله، ونقل عن سلمة بن الأكوع أنه كان يمسح مقدام رأسه، وابن عمر مسح اليافوخ.(1/167)
لما روى المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على ناصيته وخفيه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وممن قال يمسح البعض الحسن، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي إلا أن الظاهر عن أحمد في حق الرجل وجوب الاستيعاب وفي حق المرأة يجزئها مقدم الرأس. قال الخلال: العمل في مذهب أبي عبد الله أنها إن مسحت مقدم رأسها أجزأها وقال مهنا: قال أحمد أرجو أن تكون المرأة في مسح الرأس أسهل. واعلم أن قول المصنف و " المفروض في مسح الرأس مقدار الناصية " إشارة إلى أن الناصية لا تتعين حتى لو مسح القذال أو أحد القودين جاز ولا يجزئ مسح الأذنين عنه؛ لأن كون الأذنين من الرأس احتمالا لثبوته بخبر الواحد فأشبه التوجه إلى الحطيم هكذا ذكره وفيه نظر؛ لأن الحطيم من المسجد الحرام قطعا وقد أمرنا بالتولية بوجوهنا شطر المسجد الحرام بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} [البقرة: 149] الآية (البقرة: الآية 149) لكن قد أريد به الكعبة بالإجماع، وهو من باب ذكر الكل وإرادة الجزء.
م: (لما روى المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على ناصيته وخفيه» ش: الكلام فيه على أربعة أنواع: الأول المغيرة بضم الميم وكسرها ابن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن صعقب بعين مهملة وبالمثاة من فوق وباء موحدة ابن مالك بن كعب بن عمرو ابن سعد بن عمرو بن قيس بن منبه وهو ثقيف بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة ابن قيس غيلان بن نصر بن نزار يكنى أبا علي ويقال: أبا عبيد الله ويقال أبا محمد أسلم عام الخندق.
وروى عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مائة وستة وثلاثين حديثا اتفقا على تسعة وللبخاري حديث ومسلم حديثان، روى عنه جماعة منهم عروة بن الزبير وأبو إدريس الخولاني والشعبي، وروى عنه بنو عروة وحمزة وعقار بنو المغيرة ومولاه، ومات بالمدينة سنة خمسين وقيل سنة إحدى وخمسين روى له الجماعة.(1/168)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثاني: أن هذا الحديث مركب من حديثين رواهما المغيرة بن شعبة، جعلهما المصنف حديثا واحدا، وقد تبع في ذلك أبا الحسن القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الشيخ أكمل الدين قيل هذا حديث واحد، وقيل حديثان، جمع القدوري بينهما. قلت: هذا عجز ظاهر منه حيث صرح بقوله: قيل: هذا حديث واحد، وهذا القول غير صحيح، والقول الثاني هو الصحيح، ومع هذا لم يبين كيف روى الحديثان، ولا التفت إليه والعجب منه ومن نظرائه الذين تصدوا لتأليف الشروح على مثل " الهداية " كيف قصروا فيما يتعلق بالأحاديث التي يستدل بها في هذا الكتاب، وهل مبنى هذا العلم إلا عليها وليس بناؤها على شفا جرف هار، فنحن بين ذلك بعون الله وتوفيقه.
أما الحديث الأول الذي فيه ذكر السباطة والبول، فأخرجه ابن ماجه في سننه حدثنا إسحاق ابن منصور حدثنا أبو داود حدثنا سعيد عن عاصم عن أبي وائل عن المغيرة بن شعبة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى سباطة قوم فبال قائما، قال شعبة قال عاصم يومئذ» .
ورواه البخاري ومسلم عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى سباطة قوم فبال قائما ثم دعا بماء فجئته به ثم توضأ. وزاد مسلم " ومسح على خفيه» ووهم الشيخ علاء الدين التركماني في هذا الحديث بعد أن حكاه بلفظ البخاري وزيادة مسلم أخرجاه وليس كذلك بل انفرد مسلم فيه بالمسح على الخفين وصرح بذلك عبد الحق بالجمع بين الصحيحين، وقال: لم يذكر البخاري فيه المسح على الخفين، ووهم المنذري أيضا فعزاه إلى المتفق وتبع في ذلك ابن الجوزي فوهم وتعقبه ابن عبد الهادي لما ذكرنا من تصريح عبد الحق.
وأما الحديث الثاني ففيه ذكر المسح على الناصية والخفين فأخرجه مسلم عن عروة بن المغيرة عن أبيه المغيرة بن شعبة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين» .
رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه مطولا ومختصرا وأخرجه الطحاوي من حديث الربيع ابن سليمان المؤذن قال: حدثنا يحيى بن حبان حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عن عمرو بن وهب الثقفي عن المغيرة بن شعبة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ وعليه عمامة فمسح على عمامته ومسح بناصيته» .(1/169)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرجه الدارقطني حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا الشافعي إلى آخره نحو رواية الطحاوي وأخرجه البيهقي من هذا الطريق في كتاب " المعرفة " وأخرجه الطبراني حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي حدثنا محمد بن بكار حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن محمد بن سيرين عن عمرو بن وهب الثقفي عن المغيرة بن شعبة قال: «مسح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ناصيته وعمامته ومسح على خفيه وأنا أشاهد ذلك» وأخرجه أحمد أيضا في مسنده مطولا. ووهم الشيخ علاء الدين أيضا في هذا الحديث حيث جعل الحديث الذي ذكره المصنف مركبا من حديث المغيرة الذي فيه المسح على الناصية وعلى الخفين ومن حديث حذيفة الذي فيه ذكر السباطة والبول، وليس كذلك بل هو مركب من حديث المغيرة كما ذكرناه واضحا.
النوع الثالث: أن السباطة بضم السين الكناسة وهي المكنوسة من التراب وغيره، وأريد به المكان الذي تلقى فيه الكناسة بطريق إطلاق اسم الحال على المحل ثم الإضافة فيه قيل للاختصاص، وقيل: للملك؛ لأنها كانت مواتا مباحة، وقيل: لا موات في المدينة، وقيل: كانت للناس عامة وأضيفت إليهم لقربها منهم، وتباح عموما لكل مائل، وقيل: خاصا برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم كانوا يكرهون ذلك من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو يحمل على الإذن في ذلك.
النوع الرابع: أن هذا الحديث صحيح لا نزاع فيه لأحد وهو حجة لمن يقول بأن الفرض في مسح الرأس مقدار الناصية فإن قلت: الحديث يقتضي بيان عين الناصية، والمدعى ربع غير معين، وهو مقدار الناصية، فلا يوافق الدليل المذكور.
قلت: الحديث يحتمل تعيين بيان المجمل وبيان المقدار وخبر الواحد يصح بيانا لمجمل الكتاب والإجمال في المقدار دون المحل؛ لأنه الرأس وهو معلوم فلو كان المراد منه العين يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد. فإن قلت: لا نسلم أن الإجمال في المقدار لأن المراد منه مطلق البعض بدليل الباء في المحل والمطلق لا يحتاج إلى البيان قلت: المراد بعض مقدار لا مطلق المقدار بوجوه:
الأول: أن المسح يطلق على أدنى ما يطلق عليه الاسم وهو مقدار شعرة غير ممكن إلا بزيادة غير معلوم.
الثاني: أن الله تعالى أفراد المسح بالذكر ولو كان المراد بالمسح مسح مطلق البعض وهو حاصل في ضمن الغسل لم يكن للإفراد بالذكر فائدة.(1/170)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثالث: أن المفروض في سائر الأعضاء غسل مقدر فكذا في هذه الوظيفة فكان مجملا في حق المقدار فيكون فعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بيانا.
الرابع: أن المذكور في الأحاديث المذكورة الإتيان إلى سباطة قوم والبول فيها قائما والتوضؤ والمسح على الناصية والخفين والعمامة مقدم عن قريب.
فإن قلت: قد روى الأربعة أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذا أراد حاجة أبعد فكيف بال في السباطة التي تقرب الدور. قلت لعله كان مشغولا بأمور المسلمين والنظر في مصالحه وطال عليه المجلس حتى خرقه البول فلم يمكنه التباعد ولو أبعد لكان تضرر وارتداد السباطة لدمسها وكان حذيفة يقربه بيده من الناس مع أنهم كانوا يؤثرون ذلك ولا يكرهون بل يضرجون به ومن كان هذا حاله جاز البول في أرضه والأكل من طعامه والاستهداد من مجرته، ولهذا ذكر علماؤنا من دخل بستان غيره يباح له الأكل من الفاكهة كالهبة إذا كان بينه وبين صاحب البستان انبساط ومحبة، وأما البول قائما فأخرجه البخاري ومسلم من حديث الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أتى سباطة قوم فبال قائما الحديث.» فيه وجوه: الأول لما كان به وجع الصلب إذ ذاك. والثاني ما رواه البيهقي برواية ضعيفة " أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «بال قائما لعلة بمأبضه» والمأبضة بهمزة ساكنة بعد الميم ثم باء موحدة وهو باطن الركبة، والثالث: أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يجد مكانا للقعود فاضطر إلى القيام لكون الطرف الذي يليه من السباطة كان غالبا مرتفعا، والرابع: ما ذكره القاضي وهو كون البول قائما حالة يؤمن فيها خروج الحدث من السبيل الآخر في الغالب بخلاف حالة القعود، وكذلك قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " البول قائما حض للدبر "، والخامس: أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فعله بيانا للجواز في هذه المرة وكان عادته المستمرة للبول قاعدا يدل عليه حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «من حدثكم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبول قائما فلا تصدقوه ما كان يبول إلا قاعدا» رواه أحمد والنسائي والترمذي بإسناد جيد.
وقد روي في النهي عن البول قائما أحاديث ثابتة ولكن حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - هذا ثابت ولهذا قال العلماء يكره البول قائما إلا لعذر وهي كراهة تنزيه لا تحريم وقال ابن المنذر:(1/171)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اختلف في البول قائما فثبت عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وزيد بن ثابت وابن عمر وسهل بن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنهم بالوا قياما وذلك عن أنس وعلي وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وفعل ذلك ابن سيرين وعروة بن الزبير. وكرهه ابن مسعود والشعبي وإبراهيم وابن سعد وكان إبراهيم لا يجيز شهادة من بال قائما.
وقال ابن المنذر: فيه قول ثالث أنه إذا كان يتطاير إليه من البول شيء فهو مكروه وإن كان لا يتطاير فلا بأس، وهو قول مالك، وقال ابن المنذر: البول جالسا أحب إلي وقائما مباح وكل ذلك ثابت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بالبول قائما، وأما تعريضه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
1 -
وأما المسح على العمامة فقد اختلف فيه أهل العلم: فذهب إلى جوازه جماعة من السلف، وقال به من فقهاء الأمصار الأوزاعي، وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور وداود وقال أحمد وجاء ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خمسة أوجه، وشرط في جواز المسح على العمامة أن يقيم الماسح عليه بعد كمال الطهارة كما يفعله من يريد المسح على الخفين، وروي عن طاووس أنه قال: يمسح على العمامة التي تجعل تحت الذقن وإلى المسح على العمامة أكثر الفقهاء، وتأولوا الخبر في المسح على العمامة على معنى أنه كان يقتصر على مسح بعض الرأس فلا يجب كله مقدمه ومؤخره ولا ينزع عمامته عن رأسه ولا ينقضها، وجعلوا خبر المغيرة بن شعبة كالمفسر له وهو أنه وصف وضوءه ثم قال: ومسح بناصيته وعلى عمامته فوصل مسح الناصية بالعمامة وإنما وقع أداء الواجب من مسح الرأس بمسح الناصية إذ هي جزء من الرأس وصارت العمامة تبعا له كما وري أنه مسح أسفل الخف وأعلاه ثم كان مسح الواجب في ذلك مسح أعلاه وصار مسح أسفله كالتبع له. وأما الحديث الذي رواه أحمد في مسنده ورواه عنه أبو داود عن ثوبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين.» فتأويله أنه يجوز أن يكون من قبيل ذكر الحال وإرادة المحل وذكر عاصب وأراد ما يحويه العصائب مجازا أو العصائب العمائم، سميت بذلك؛ لأن الرأس تعصب بها وكلما عصبت به رأسك من عمامة أو منديل أو خرقة فهو عصابة والتساخين الخفاف وقيل واحدهما تسخن أو تسخان.
وذكر حمزة الأصبهاني أن الثخان فارسي معرب تسخان، وأما الحديث الذي رواه أبو داود(1/172)
والكتاب مجمل فالتحق بيانا به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حدثنا عبد الله بن معاذ قال: حدثنا شعبة عن أبي بكر يعني ابن حفص بن عمر بن سعد سمع أبا عبيد الله عن أبيه عبد الرحمن السلمي أنه شهد «عبد الرحمن بن عوف سأل بلالا عن وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: كان يخرج فيقضي حاجته فآتيه بالماء فيتوضأ فيمسح على عمامته وموقيه» .
فالجواب عنه أن المراد به مسح ما تحته من قبيل إطلاق اسم الحال على المحل، وأوله بعض أصحابنا أن بلالا كان بعيدا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمسح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يضع العمامة من رأسه فظن بلال أنه مسح على العمامة، وفي " الغاية " وبذكر المسح على العمامة تأويلان:
أحدهما: أن المسح عليها لم يكن عن قصد بل تبع بمسح البعض كما نشاهد ذلك إذا مسح على البعض وعلى الرأس عمامة.
الثاني: أنه يحتمل أن يكون به زكام فمسح على عمامته تكميلا للسنة بعد مسح الواجب منه يدل على ذلك اقتصاره على مقدم رأسه. وذكر المسح على عمامته في حديث رواه أبو داود عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - توضأ وعليه عمامة قطرية فأدخل يده تحت العمامة ومسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة» والقطرية بكسر القاف وسكون الطاء المهملة وكسر الراء ثياب حمر بها أعلام ينسب إلى قطر موضع بين عمان وسي البحر بكسر السين وسكون الياء آخر الحروف وهو ساحله، وقال الأزهري وقع في بعض الأحاديث الاقتصار على ذكر العمامة والخمار وفي بعضها على عمامته وخفيه أخرجه البخاري، وفي حديث المغيرة معهم الناصية، قال الخطابي والبيهقي في الجواب ما تحصيله أن المحتمل يحمل على الحكم وإنما حذف الراوي الناصية في بعضها لأن بعضها معلوم مقدمة فحذفه؛ لأن الله تعالى فرض مسح الرأس والعمامة ليست من الرأس فلا يترك اليقين بالمحتمل وقياسها على الخف بعيد؛ لأنه يشق نزعه.
م: (والكتاب مجمل فالتحق بيانا به) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال حديث المغيرة من أخبار الآحاد فلا يزاد به الكتاب، وتقرير الجواب أن هذا ليس من باب الزيادة على الكتاب بل الكتاب مجمل " فالتحق الخبر بيانا به " أي بالكتاب إذ التقدير التحق فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيانا به، والمجمل ما ازدحمت فيه المعاني وأشبه المراد به اشتباها لا يدرك نفس العبارة بل الرجوع في الاستفسار ثم الطلب ثم التأمل.
فإن قلت: نسلم أن الكتاب مجمل؛ لأن المجمل ما لا يمكن العمل به، الإتيان من المجمل والعمل بهذا النص ممكن بحمله على الأقل لتيقنه، قلت لا نسلم أن العمل به قبل التبيان في(1/173)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المجمل وإلا قد يكون أقل من شعرة والمسح عليها لا يكون إلا بزيادة عليها وما لا يمكن الفرض إلا به فهو فرض والزيادة غير معلومة فتحقق الإجمال في المقدار.
فإن قلت: سلمنا أنه مجمل والخبر بيانا له ولكن الدليل أخص من المدلول فإن المدلول مقدار الناصية وهو ربع الرأس والدليل يدل على تعيين الناصية ومثله لا يفيد المطلوب.
قلت: البيان لما فيه الإجمال فكانت الناصية بيانا للمقدار لا للمجمل المسمى وهو الناصية والإجمال في المجمل فكان من باب ذكر الخاص وإرادة العام وهو مجاز شائع فكانا متساويين في العموم.
فإن قلت: لا نسلم أن مقدار الناصية فرض؛ لأن الفرض الخاص ما يثبت بدليل قطعي وخبر الواحد لا يفيد القطع ولئن سلمناه ولكن لازمه وهو تكفير الجاحد منتف فينفي الملزوم، قلت: الأصل في هذين خبر الواحد إذا لحق بيانا للمجمل كان الحكم بعده مضافا إلى المجمل دون البيان والمجمل من الكتاب والكتاب دليل قطعي ولا نسلم انتفاء اللازم؛ لأن الجاحد من لا يكون مؤولا وموجب الأقل أو الجمع متأول معتمد شبهة تقوية وقوة الشبهة تمنع التكفير من الجانبين ألا ترى أن أهل البدع لا يكفرون بما منعوا ما دل عليه الدليل القطعي في نظر أهل السنة لتأويلهم وقال السغناقي: فإن قيل الفرض هو الذي يوجب العلم اعتقادا باعتبار أنه ثابت بدليل مقطوع فيه فلهذا يكفر جاحده وكفر الجاحد غير ثابت هذا في حق أي في حق المقدار فكيف يكون فرضا؟
قلنا: إن لم يكن ثابتا في حق المقدار لكن الثلاثة أعني الوجوب والعلم وكون الدليل مقطوعا به وكفر الجاحد كلها ثابتة في حق أهل المسح فمسمى المقدار باسم أصل المسح إطلاقا للاسم المتضمن على المتضمن؛ لأن المقدار تفسير هذا المسح والمفسر متأول التفسير وإلا لا يكون تفسيرا له، ونقول الفرض على نوعين قطعي وهو ما ذكر، وظني وهو الفرض على زعم المجتهد كإيجاب الطهارة بالفصد والحجامة عند أصحابنا، فإنهم يقولون تعترض عليه الطهارة عند إرادة الصلاة، أو تقول يطلق اسم الفرض على الوجوب كما يطلق اسم الوجوب على الفرض في قوله الزكاة واجبة والحج واجب لاكتفائهما في معنى اللزوم على البدل وقال صاحب " الاختيار ": الإجمال في النص من حيث إنه يحتمل إرادة الجمع كما قال مالك ويحتمل إرادة الربع كما قلنا.
ويحتمل إرادة الأقل كما قال الشافعي وهذا ضعيف؛ لأن في احتمال إرادة الجميع تكون الباء في {بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] زائدة وهو بمنزلة المجاز لا يعارض الأصيل كما ذكرنا في الأصول والعمل هاهنا ممكن بأي بعض كان فلا يكون النص بهذين الاحتمالين مجملا، وقال أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأحكام " قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] يقتضي مسح بعضه(1/174)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذلك أنه معلوم أن هذه الأدوات موضوعة لإفادة المعاني، وإن كانت قد يجوز دخولها في بعض المواضع صلة فتكون ملغاة ويكون وجودها وعدمها سواء ولكن لما أمكن استعمالها هاهنا على وجه الفائدة لم يجزئ إلغاؤها، فلذلك قلنا إنها للتبعيض، والدليل على ذلك أنك قلت مسحت يدك بالحائط كان المفعول مسحها ببعضه دون جميعه، ولو قلت: مسحت الحائط كان المفعول مسح جميعه دون بعضه فوضح الفرق بين إدخالها وإسقاطها في العرف واللغة فإذا كان كذلك تحمل الباء في الآية على التبعيض مستوفية لحقها وإن كانت في الأصل للإلصاق إذ لا منافاة بينهما؛ لأنها تكون مستعملة للإلصاق في تفسير المفروض.
والدليل على أنها للتبعيض ما روى عمر بن علي بن مقدم عن إسماعيل بن حماد عن أبيه حماد عن إبراهيم في قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] قال إذا مسح لبعض الرأس أجزأه فإذا قال وامسحو رؤوسكم كان الفرض مسح الرأس كله فأخبر أن الباء للتبعيض وقد كان من أهل اللغة مقبول القول فيها ويدل على أنه قد أريد بها التبعيض في الآية اتفاق الجميع على جواز ترك القليل من الرأس في المسح والاقتصار على البعض وهذا هو اشتمال اللفظ فحينئذ احتاج إلى دلالة في إثبات المقدار الذي حده.
فإن قيل: إذا كانت للتبعيض لما جاز أن يقال مسحت برأسي كله كما يقال مسحت ببعض رأسي كله، قيل له قدمنا أن حقيقتها إذا أطلقت للتبعيض مع احتمال كونها ملغاة فإذا قال مسحت برأسي كله علمنا أنه أراد أن تكون الباء ملغاة نحو قَوْله تَعَالَى {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] (الأعراف: الآية 59، 65، 73) ونحو ذلك.
فإن قلت: قال ابن جني وابن برهان من زعم أن الباء للتبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه. قلت: أثبت الأصمعي، والفارسي، والقتبي، وابن مالك التبعيض، وقيل: هو مذهب الكوفيين وجعلوا منه {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] (الإنسان: الآية 6) . وقول الشاعر:
شربنا بماء البحر ثم ترفعنا
وقال بعضهم الباء في الآية للاستعانة وإن في الآية حذفا وقلبا فإن " مسح " يتعدى إلى المزال عنه بنفسه وإلى المزيل بالباء فالأصل امسحوا رؤوسكم بالماء والتحقيق في هذا الموضع أن الباء للإلصاق بأن دخلت في الآلة المسح نحو مسحت الحائط بيدي يتعدى إلى المحل تقديره ألصقوا برؤوسكم فإذا لم يتناول كل المحل يقع الإجمال في قدر المفروض منه ويكون الحديث بينا لذلك كما قدرناه.
فإن قلت: أليس أن في حكم التيمم حكم المسح بقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] (سورة النساء: الآية 43) ثم الاستيعاب شرط فيه. قلت: أما على رواية الحسن عن أبي حنيفة لا يشترط فيه الاستيعاب لهذا المعنى وأما على ظاهر الرواية فعرفناه بإشارة الكتاب وهو أن الله تعالى(1/175)
وهو حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في التقدير بثلاث شعرات وعلى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اشتراط الاستيعاب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أقام التيمم في هذين العضوين مقام الغسل عند تعذره والاستيعاب في الغسل فرض وكذا فيما أقيم مقامه أو بالسنة المشهورة وهو «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما يكفيك ضربة للوجه وضربة للذارعين» .
م: (وهو) ش: أي الحديث المذكور م: (حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: بيان كونه حجة على الشافعي أنه لما التحق بالكتاب على وجه البيان له صار الكتاب ردا له لذلك فصار حجة عليه.
م: (في التقدير بثلاث شعرات) ش: من شعر الرأس وهذا الذي نسبه إلى الشافعي وجه شاذ في مذهبه مذكور في " الروضة " والواجب في مسح الرأس ما يطلق عليه الاسم ولو بعض شعرة أو قدره في البشرة وفي وجه شاذ يشترط ثلاث شعرات، وشرط الشعر الممسوح أن لا يخرج حد الرأس لو سدل سبطا كان أو جعدا انتهى. م: (وعلى مالك) ش: أي هو حجة أيضا على مالك بن أنس، (في اشتراط الاستيعاب) ش: أي في اشتراط استيعاب الرأس بالمسح، واعلم أن الذي ذهب إليه الشافعي في مسح الرأس لم يوجد له نص في الأحاديث التي رويت في صفة وضوء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخلاف ما ذهب إليه مالك وأصحابنا.
أما ما ذهب إليه مالك فهو حديث عبد الله بن زيد بن عاصم رواه مالك، عن عمرو بن يحيى المازني «عن عبد الله قال شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأكفأ على يده من التور فغسل يديه ثلاثا، ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات، ثم أدخل يده في التور فغسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين مرة، ثم أدخل يده في التور فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه. أخرجه الجماعة كلهم من حديث مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأما ما ذهب إليه أصحابنا فهو حديث المغيرة فيما مضى» .
فإن قلت: كان ينبغي أن يكون الفرض مسح جميع الرأس بمقتضى حديث عبد الله بن زيد كما ذهب إليه مالك قلت: لما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الاقتصار على الناصية دل على أن ما فوق ذلك مسنون ونحن نقول به فقد استعملنا الخبرين وجعلنا المفروض مقدار الناصية إذ لم يرو عنه أنه مسح أقل منها وجعلنا ما زاد عليها مسنونا ولو كان المفروض أقل من قدر الناصية كما ذهب إليه(1/176)
وفي بعض الروايات قدره بعض أصحابنا بثلاث أصابع اليد؛ لأنها أكثر ما هو الأصل في آلة المسح قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشافعي لاقتصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حال مسحه على مقدار المفروض كما اقتصر على الناصية في بعض الأحوال.
م: (وفي بعض الروايات قدره أصحابنا بثلاث أصابع) ش: هذه رواية عن محمد ذكرها عنه في " نوادره " أنه إذا وضع ثلاث أصابع ولم يمدها جاز في قول محمد في الرأس والخف جميعا، ولم يجز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف حتى يمدها بقدر ما يصيب البلة ربع رأسه وهما اعتبرا الممسوح عليه ومحمد اعتبر الممسوح به وهو عشرة أصابع وربعها إصبعان ونصف، إلا أن الإصبع الواحد لا يجري جعل المفروض قدر ثلاثة أصابع وقال الشيخ قوام الدين في تفسير قوله " وفي بعض الروايات " إلى آخره وهو ظاهر الرواية؛ لأنه المذكور في الأصل فكان ينبغي على هذا أن يقول وعلى ظاهر الرواية لأن لفظة " بعض الروايات " مستعمل في غير ظاهر الرواية وقال الشيخ أكمل الدين: قيل: هي ظاهر الرواية لكونها المذكورة في الأصل فكان ينبغي أن يقول على ظاهر الرواية، قلت: ظاهر الرواية هو أن المفروض في مسح الرأس هو مقدار الناصية، والرواية التي فيها التقدير بثلاث أصابع هي رواية " النوادر " وهي غير ظاهر الرواية حتى يرد ما ذكره.
فرع: إذا وضع ثلاث أصابع ولم يمدها جاز عند محمد كما ذكرنا ولو أعاد إصبعا واحدة إلى الماء ثلاث مرات جاز. وكذا لو مسح بإصبع واحدة بجوانبها الأربعة؛ لأن ظاهرها وباطنها يقومان مقام إصبعين وجانبها مقام إصبع واحدة وقال السرخسي: الأصح عندي أنه لا يجوز، وفي " البدائع " ولو مسح بثلاث أصابع منصوبة غير موضوعة ولا ممدودة لم يجز؛ لأنه لم يأت بالمفروض ولو مدها حتى أبلغ المفروض لم يجز عندنا خلافا لزفر، وفي " المحيط " إن كان الماء يتقاطر جاز كأنه أخذ ماء جديدا أو بلة وكذا لو مسح بالإبهام والسبابة وبينهما مفتوح يجوز كذا في " المجتبى " وفيه أيضا مسح شعر رأسه وفي " شرح الوجيز " المسح على بشرة الرأس يجوز ولا يضر كونها تحت الشعر، وقال بعض أصحابنا لا يجوز لانتقال الفرض إلى الشعور، ولو غسله بدل المسح قيل لا يجوز؛ لأنه مأمور بالمسح، والأصح أنه يجوز؛ لأن الغسل مسح وزيادة، ثم هل يكره غسل بدل المسح قيل يكره؛ لأنه سرف كالغسلة الرابعة والأظهر أنه لا يكره. ولو بدأ رأسه ولم يمد اليد فيه قولان أصحهما أنه يجوز، وقال القفال: لا يجوز، ولو قطرت على رأسه قطرة لم يجزه فإن جرت كفي، وفي " مغني الحنابلة " إذا وصل إلى بشرة الرأس ولم يمسح على الشعر لم يجزه، وإن رد هذا النازل وعقده على رأسه لم يجزه المسح عليه، ولو نزل عن منبته ولم ينزل عن محل الفرض فمسح عليه أجزأه، ولو خضب رأسه بما يستره أو طينه لم يجزه المسح على الخضاب والطين نص عليه أحمد في الخضاب، وإن غسل رأسه بدل مسحه فعلى وجهين: أحدهما لا يجزئه(1/177)
وسنن الطهارة غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثاني يجزئ، ولو حصل على رأسه ماء المطر أو صب عليه إنسان ثم مسح يقصد بذلك الطهارة أجزأه وإن جعل الماء على رأسه من غير قصد أجزأه أيضا، وإن مسح رأسه بخرقة مبلولة أو خشبة أجزأه على أحد الوجهين. وإن وضع على رأسه خرقة مبلولة فانبل رأسه بها أو وضع خرقة ثم بلها حتى انبل شعره لم يجزئه ولو حلق رأسه أو لحيته لا يعيد المسح إجماعا وكذا إن قلم الظفر وكنسط الخف، وعند بعض الشافعية يجب إعادة المسح بعد حلق الشعر، وقال السروجي: ولو حلق رأسه بعد الوضوء أو جز شاربه أو قلم ظفره أو شرط خفه لا إعادة عليه، وقال ابن جرير: عليه الوضوء، وقال إبراهيم: عليه إمرار الماء على ذلك الموضع، ومسح العنق قيل سنة وقيل مستحب، ومسح الحلقوم بدعة، ولو مسحت المرأة على خمارها ووصل الماء إلى رأسها يجوز ما لم يتلون الماء ولو كانت الذؤابة مسدولة فوق رأسه كما يفعله النساء فمسح على رأسها الذؤابة لم يجز عند العامة وبعضهم جوزه إذا لم يرسل، وفي " هداية الناطفي " لو مسحت على الخضاب أو الوقاية لم يجز وإن وصل إلى الشعر، وقيل هذا قبل غسل الخضاب، وقيل هذا إذا خرج الماء من كونه ماء مطلقا، وفي " النظم " قال عامة العلماء: إن وصل إلى الشعر يجوز وإلا فلا مسح رأسه ببلل يبقى في كفه لم يجز.
[سنن الطهارة]
[غسل الكفين قبل إدخالهما الإناء]
م: (وسنن الطهارة غسل الكفين قبل إدخالهما الإناء) ش: لما فرغ من بيان فرائض الوضوء شرع في بيان سننه وتقديم الفرائض لكونها أقوى، والإضافة فيه للبيان إما بمعنى في أو اللام، والمراد من الطهارة الوضوء، وإنما ذكر الفرض بلفظ الواحد. والسنة بلفظ الجمع؛ لأن الفرض في الأصل يتناول القليل والكثير ويستغني عن الجمع بخلاف السنة فإنها اسم ولها أفراد فجمعها لتعم أفرادها، وهي بضم السين جمع سنة، وهي في اللغة: الطريقة مطلقا، وكذلك السنن بفتحتين، يقال: استقام فلان على سنن واحد ويقال امض على سنتك أي على وجهك وتنح عن سنن الجبل أي عن وجهه وعن سنن الطريق وسننه وسنته ثلاث لغات وهي: فتحة السين مع فتح النون وضمة السين وفتحة النون وضمهما معا، والسنة السيرة أيضا يقال: سنة العمرين أي سيرتهما، والسنة أيضا ضرب من التمر بالمدينة، وفي الشريعة: ما واظب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه ولم يتركه إلا مرة أو مرتين كذا في " المحيط "، وذكر في " المفيد " و " المزيد ": السنة ما واظب عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يتركه إلا لعذر والأدب ما فعله مرة ومرتين ثم تركه.
قلت: مراده أدب شأنه دائما، وفي " المنافع " قال خواهر زاده: وحد السنة ما فعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على سبيل المواظبة ويؤمر بإتيانها ويلام على تركها، وفي " البداية " السنة ما يؤجر على إتيانها ويلام على تركها وهي تتناول القولية والفعلية، وقال الأترازي: السنة ما في فعله ثواب وفي تركه عتاب لا عقاب ثم قال وإنما قلت: في تركه عتاب احترازا عن النقل وإنما. قلت: لا عقاب احترازا عن الواجب والفرض، هذا التعريف أبدعه خاطري في هذا المقام، وقال الأكمل: السنة(1/178)
إذا استيقظ المتوضئ من نومه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هي الطريقة المسلوكة في الدين وحكمها أن يثاب في الفعل ويستحق الملامة في الترك، وكل من التعريفين ناقص لا يخلو عن نظر، أما تعريف الأترازي الذي ادعى أنه من إبداع خاطره فليس بشيء، من الأول: أن في قوله: إن في فعله ثواب.. يشتمل الفرض والنفل أيضا، وقوله: في تركه عقاب.. لا يخرج الفرض؛ لأن العتاب نوع من العقاب ولئن سلمنا أن العتاب غير العقاب حينئذ يخرج السنن المؤكدة التي هي في قوة الواجب فإن في تركها عذابا أيضا، الثاني: أن تعريفه هذا يدخل في سنة غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن سيرة العمرين لا شك في فعلها ثواب وفي تركها عقاب؛ لأنا أمرنا بالاقتداء بهما لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقتدوا باللذين من بعدي» فإذا كان الاقتداء بهما مأمورا به يكون واجبا وتارك الواجب يستحق العقاب والعتاب، وأما تعريف الأكمل فإنه غير مانع لتناوله سنة غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما لا يخفى.
وأحسن التعريفات تعريف خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم كيفية غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء على أن يأخذ الإناء إن كان صغيرا ويصب علي يمينه فيغسلها ثلاثا، وإن كان كبيرا لا يمكنه رفعه يأخذ منه الماء بإناء صغير إن كان معه فيصبه على يمينه فيغسلها ثلاثا ثم يدخل اليمنى، والسنة تقديم غسل اليدين إلى الرسغ أما نفس الغسل ففرض حتى قال محمد في " الأصل ": ثم يغسل ذراعيه فلا يجب غسلهما ثانيا، وقال تاج الشريعة: قوله وسنن الطهارة غسل اليدين أي تقديم غسل اليدين لا نفس الغسل فإنه فرض.
م: (إذا استيقظ المتوضئ من نومه) ش: شرط ذلك عند استيقاظ المتوضئ من نومه نقل ذلك شمس الأئمة الكردري أنه شرط حتى إنه إذا لم يستيقظ لا يسن غسلهما، وقيل: هو شرط اتفاقي، خص المصنف غسلهما بالمستيقظ تبركا بلفظ الحديث والسنة تشمل المستيقظ وغيره وعليه الأكثرون وسيجيء مزيد الكلام في الحديث الذي يذكره المصنف. وقوله: المتوضئ يحتمل أمرين أحدهما أن يريد به من قام على وضوء فإذا سن ذلك في حقه فغيره أولى، والآخر أن يريد به من يريد الوضوء ففي الأول الكلام حقيقة وفي الثاني مجاز فافهم.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده» ش: هذا الحديث صحيح أخرجه الجماعة بألفاظ مختلفة كلهم عن أبي هريرة، فالبخاري عن عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة(1/179)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم يستنثر ومن استجمر فليوتر وإذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» وأبو الزناد بكسر الزاي المعجمة وتخفيف النون اسمه عبد الله بن ذكوان المقري المدني من رجال الستة، والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز المدني من رجال [الستة] ، ومسلم عن نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي قالا: حدثنا بشر بن المفضل عن خالد عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات فإنه لا يدري أين باتت يده» وأبو داود عن مسدد قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي رزين وأبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قام أحدكم من الليل فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات فإنه لا يدري أين باتت يده» ، وأبو معاوية اسمه محمد بن خازم بالمعجمتين من رجال الستة والأعمش اسمه سليمان بن مهران ثقة كبير وأبو رزين بفتح الراء وكسر الزاي اسمه مسعود بن مالك الأسدي أسد خزيمة من رجال مسلم والأربعة وأبو صالح اسمه زكوان الزيات ويقال النعمان من رجال الستة.
والترمذي عن الوليد الدمشقي قال: حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استيقظ أحدكم من الليل فلا يدخل يده في الإناء حتى يفرغ عليها مرتين أو ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده» ، وأبو الوليد اسمه الأوزاعي اسمه عبد الرحمن بن عمر إمام كبير مشهور ونسبته إلى أوزاع وهي من قبائل [......] وقيل الأوزاع من همدان وقيل الأوزاع قرية بدمشق والزهري محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب ونسبته إلى زهرة بن كلاب بن كعب بن لؤي بن غالب وأبو سلمة اسمه عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف ويقال اسمه وكنيته.
والنسائي عن قتيبة بن سعيد قال: حدثنا سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمسن يده في وضوئه حتى يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» ، وابن ماجه عن عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي حدثنا الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهما حدثاه أن أبا هريرة كان يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استيقظ أحدكم من الليل فلا يدخل يده في الإناء حتى يفرغ عليها مرتين أو ثلاثا فإنه لا يدري أحدكم أين باتت يده» .(1/180)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرجه الطحاوي في " معاني الآثار " قال: حدثنا سليمان بن شعيب قال: حدثنا بشر بن بكير قال: حدثنا الأوزاعي وحدثنا سعيد بن نصر قال: حدثنا الفريابي قال: حدثنا الأوزاعي قال: حدثنا ابن شهاب قال: حدثنا سعيد بن المسيب أن أبا هريرة كان يقول: «إذا قام أحدكم من الليل فلا يدخل يده في الإناء حتى يفرغ عليها مرة أو مرتين أو ثلاثا فإنه لا يدرى أين باتت يد أحدكم» . والفريابي بكسر الفاء وسكون الراء وبالياء آخر الحروف وبعد الألف باء موحدة مكسورة بعدها ياء النسبة نسبة إلى فارياب بليدة بنواحي بلخ ويقال الفريابي أيضا على الأصل وهو فيريابي بزيادة ياء بعد الفاء وهو محمد بن يوسف شيخ البخاري وغيره.
وهذا الحديث روي عن جابر وابن عمر، وأما حديث جابر فرواه الدارقطني من حديث أبي الزبير عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قام أحدكم من الليل فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها فإنه لا يدري أين باتت يده ولا على ما وضعها» إسناده حسن.
وأما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. فرواه الدارقطني من حديث ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات فإنه لا يدري أين باتت يده منه وأين طاف بيده» ، فقال له رجل: " أرأيت إن كان حوضا "، فحصبه ابن عمر، وقال: أخبرك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتقول: " أرأيت إن كان حوضا ". إسناده حسن. ورواه ابن ماجه وابن خزيمة ولفظ المصنف في هذا الحديث لا يوافق الروايات المذكورة على النسق كما تراه، بل قوله إذا استيقظ أحدكم من منامه يوافق ما في رواية البخاري والدارقطني، قوله «فلا يغمسن يده» بنون التوكيد المشددة لم يقع في رواية هؤلاء إلا أنه وقع في رواية البزار فإنه رواه من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعا «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمسن يده في طهوره حتى يفرغ علها» الحديث.
والذي وقع في رواية مسلم وهو قوله «فلا يغمسن» على صورة النهي وكذا في رواية النسائي، وقوله حتى يغسلها ثلاث مرات، وكذا وقع في رواية مسلم وأبي داود، وقع في رواية النسائي «حتى يغسلها ثلاثا» مثل لفظ المصنف وفي رواية الترمذي مرتين أو ثلاثا، وكذا في رواية أبي داود والترمذي، وفي رواية البخاري «فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» وكذا في رواية مسلم وأبي داود والترمذي وفي رواية البخاري «فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» وكذا في رواية(1/181)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النسائي وفي رواية ابن ماجه «فإن أحدكم لا يدري فيم باتت يده» وكذا في رواية الطحاوي وفي جميع الروايات عدم التعرض إلى العدد إلا في رواية البخاري «فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في وضوئه» .
وفي رواية مسلم: «فلا يغمسن يده في الإناء» وفي رواية النسائي: «فلا يغمسن يده في وضوئه.» وفي رواية أبي داود مثل رواية مسلم، وفي رواية الترمذي " حتى يفرغ عليها " من أفرغت الإناء إفراغا إذا قلبت ما فيه، وكذا أفرغته تفريغا، والمعنى حتى يصب على يديه مرتين أو ثلاثا، وفي " سنن البيهقي الكبير " " حتى يصب عليها صبة أو صبتين "، وفي جامع عبد الله بن وهب المصري صاحب مالك: «حتى يغسل يده أو يفرغ فيها فإنه لا يدري حيث باتت يده» وفي " علل ابن أبي حاتم الرازي ": " فليغرف على يديه ثلاث غرفات "، وفي لفظ: " فليغرف بيمينه من إنائه "، وعند ابن عدي من رواية الحسن عن أبي هريرة مرفوعا: «فإن غمس يده في الإناء قبل أن يغسلها فليرق ذلك الماء.»
قلت: أنكر ابن عدي على معلى بن الفضل الذي روى هذا الحديث عن الربيع بن صبيح عن الحسن عن أبي هريرة زيادة: " فليرق ذلك الماء ". والحديث منقطع عند الأكثرين بعدم صحة الحسن عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم الكلام فيه على أنواع:
الأول: استدل به أصحابنا على الغسل لليدين قبل الشروع في الوضوء سنة. بيان ذلك أن أول الحديث يقتضي وجوب الغسل للنهي عن إدخال اليد في الإناء قبل الغسل وآخره يقتضي استحباب الغسل للتعليل بقوله: «فإنه لا يدري أين باتت يده» يعني في مكان طاهر من بدنه أو نجس، فلما انتفى الوجوب لما في التعليل المنصوص تثبت فثبتت السنة؛ لأنها دون الوجوب.
فإن قلت: كان ينبغي أن لا يبين في التعليل هذه السنة؛ لأنهم كانوا يتوضئون من الأتوار فلذلك أمرهم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، وأما في هذا الزمان فقد تغير ذلك.
قلت: السنة لما وقعت سنة في الابتداء بقيت ودامت وإن لم يبق ذلك المعنى؛ لأن الأحكام إنما يحتاج إلى أسبابها حقيقة في ابتداء وجودها لا في بقائها؛ لأن الأسباب تبقى حكما، وإن لم يبق ذلك المعنى للشارع ولاية الإيجاد والإعلام فجعلت الأسباب الشرعية بمنزلة الجواهر في بقائها(1/182)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حكما، وهذا كالرمل في الطواف ونحوه.
وفي " الأحكام " لابن بزيزة: واختلف الفقهاء في غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء فذهب قوم إلى أن ذلك من سنن الوضوء. وقيل إنه مستحب، وبه صدر ابن الخلاب في شرحه، وقيل: بإيجاب ذلك مطلقا، وهو مذهب داود وأصحابه، وقيل: بإيجابه في نوم الليل دون نوم النهار، وبه قال أحمد، وقال: هل يغسلان مجتمعين أو متفرقين ففيه قولان مبنيان على اختلاف لفظ الحديث الوارد في ذلك، ففي بعض الطرق يغسل يديه مرتين مرتين، وذلك يقتضي الإفراد، وفي بعض طرقه يغسل يديه مرتين، وذلك يقتضي الجمع.
وقال السروجي: اختلف الفقهاء في غسل اليدين قبل الوضوء، فقيل: إنه سنة بإطلاق، وهو المشهور، وهكذا ذكر في " المحيط " و " المبسوط "، ويدل عليه أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يتوضأ قط إلا غسل يديه، وحديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - متفق عليه. ومثله في " التحفة " و " الحواشي " و " المنافع "، وفيه تقديم غسلهما إلى الرسغين سنة تنوب عن الفريضة، كالفاتحة تنوب عن الواجب وفرض القراءة.
وقيل: إنه مستحب للتأكيد في طهارة يده مروي عن مالك، وقوله: إنه واجب على المنتبه من النوم بالليل دون النهار، قاله أحمد لحديث الترمذي وابن ماجه بقوله من الليل، ونحن نقول إن قيد الليل باعتبار الغالب وإلا فالحكم ليس مخصوصا بالقيام من الليل بل المعتبر الشك في نجاسة اليد، فمن شك في نجاستها كره له إدخالها في الإناء قبل غسلهما سواء قام من نوم الليل أو من نوم النهار أو شك في نجاستها في غير نوم، وهذا مذهب الجمهور. وعن أحمد: إن قام من الليل كره كراهة تحريم، وإن قام من نوم النهار كره كراهة تنزيه ووافقه داود الظاهري اعتمادا على لفظ الحديث.
النوع الثاني: إن هذا النهي نهي تنزيه لا تحريم حتى لو غمس يده لم يفسد الماء ولم يأثم الغاسل وعن الحسن البصري وإسحاق بن راهويه ومحمد بن جرير الطبري - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أنه ينجس إن قام من نوم الليل.
النوع الثالث: إن قوله في الإناء محمول على ما إذا كانت الآنية صغيرة كالكوز أو كبيرة كالجب ومعه آنية صغيرة أما إذا كانت كبيرة، وليست معه آنية صغيرة فالنهي محمول على الإدخال على سبيل المبالغة وتمام الكلام قد مر.
النوع الرابع: يستفاد منه أن الماء القليل تؤثر فيه النجاسة كالقلتين بوقوع النجاسة فيه وإن لم تغيره وإلا لا يكون فائدة.(1/183)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النوع الخامس: يستفاد منه استحباب غسل النجاسات ثلاثا؛ لأنه إذا أمر به في المتوهمة ففي المتحققة أولى، ولم يزد شيء فوق الثلاث إلا في ولوغ الكلب كما سيجيء إن شاء الله تعالى.
النوع السادس: إن النجاسة المتوهمة يستحب فيها الغسل ولا يؤثر فيها الرش؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: حتى يغسلها ولم يقل حتى يرشها عليها.
النوع السابع: فيه استحباب الأخذ بالاحتياط في أبواب العبادات.
النوع الثامن: استدل به أصحابنا على أن الإناء يغسل من ولوغ الكلب ثلاث مرات، وذلك أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر القائم من الليل بإفراغ الماء على يديه مرتين أو ثلاثا وذلك أنهم كانوا يتغوطون ويتبولون ولا يستنجون بالماء وربما كانت أيديهم تصيب الموضع النجس فنجس، فإذا كانت الطهارة تحصل بهذا العدد من البول أو الغائط وهما أغلظ النجاسات كان أولى وأحرى أن يحصل بما دونهما من النجاسات.
النوع التاسع: أن الماء ينجس بورود النجاسات عليه وهذا بالإجماع وأما ورود الماء على النجاسة فكذلك عندنا خلافا للشافعي، وقال الشيخ محيي الدين النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في هذا الحديث الفرق بين ورود الماء على النجاسة وورودها عليه وأنها إذا وردت عليه تنجسه وإذا ورد عليها أزالها، وتقريره أنه قد نهى عن إدخال اليدين في الإناء لاحتمال النجاسة، وذلك يقتضي أن ورود النجاسة على الماء مؤثر فيه وأمر بغسلها بإفراغ الماء عليها للتطهير، وذلك يقتضي أن ملاقاتها الماء على هذا الوجه غير مفسد بمجرد الملاقاة للضرورة ولكن لا نسلم أنه يبقى طاهرا بعد إزالة النجاسة. وقال النووي أيضا: وفيه دلالة أن الماء القليل إذا وردت عليه نجاسة تنجسه.
وإن قلت: ما لم [......] لأن الذي يتعلق باليد ولا يرى قليل جدا، وإن كانت عادتهم استعمال الأواني الصغيرة التي تقرب من القلتين بل لا تقاربه. وقال القشيري: وفيه نظر عندي؛ لأن مقتضى الحديث أن ورود النجاسة على الماء يؤثر فيه ومطلق التأثير أعم من التأثير بالنجس ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص العين فإذا سلم الخصم أن الماء القليل بوقوع النجاسة قد يكون مكروها فقد ثبت مطلق التأثير ولا يلزم ثبوت خصوص التأثير بالتنجس.
النوع العاشر: فيه استعمال الكنايات في المواضع التي فيها استحياء ولهذا قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فإنه لا يدري أين باتت يده» ولم يقل فلعل يده وقعت على دبره أو ذكره أو نجاسة ونحو ذلك، وإن كان هذا معنى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهذا إذا علم أن السامع يفهم بالكناية المقصود فإن لم يكن كذلك فلا بد من التصريح لينفي اللبس والوقوع في خلاف المطلوب وعلى هذا يحمل ما جاء من ذلك مصرحا به.(1/184)
ولأن اليد آلة التطهير فيسن البداية بطهارتها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النوع الحادي عشر: أن قوله في الإناء، وإن كان عاما لكن القرينة دلت على أنه إناء الماء بدليل ما في الرواية الأخرى في وضوئه وهو الماء الذي يتوضأ به، ولكن الحكم لا يختلف بينه وبين غيره من الأشياء الرطبة.
النوع الثاني عشر: أن قوله: " فلا يغمسن يده " يتناول ما إذا كانت يده مطلقة أو مشدودة بشيء أو في جراب أو كون النائم عليه سراويله أو لم يكن لعموم اللفظ.
النوع الثالث عشر: أن قوله " أحدكم " خطاب للعقلاء البالغين المسلمين، فإن كان القائم من النوم صبيا أو مجنونا أو كافرا فذكر في " المغني " أن فيه وجهين: أحدهما: أنه كالمسلم البالغ العاقل؛ لأنه لا يدري أين باتت يده. والثاني: أنه لا يؤثر غمسه شيئا؛ لأن المنع من العمل إنما يثبت بالخطاب ولا خطاب في آخر هؤلاء.
النوع الرابع عشر: أن قول المصنف إذا استيقظ المتوضئ يدل على أنه كان نائما على الوضوء وهو لا يسن في حقه غسل يديه قبل إدخالهما الإناء فكيف عد ذلك من سنن الطهارة. قلت: قد مر جوابه عند قوله: " إذا استيقظ المتوضئ " وفي " المجتبى " و " الجنازية " خص المصنف غسلهما بالمستيقظ تبركا بلفظ الحديث، وإلا السنة شاملة للمستيقظ وغيره، فإنه ذكر في " المحيط " و " التحفة " وغيرهما أن غسلهما في الابتداء سنة على الإطلاق، وفي البداية قوله: «إذا استيقظ» اتفاقي، وعن شمس الأئمة الكردري كلمة الشرط تجري على حقيقتها حتى لم يسن إذا لم يستيقظ، وقيد في " الإيضاح " وفي " شرح مختصر الكرخي " وسائر شروح القدوري أن كونه سنة للمستيقظ من نومه فحسب؛ لأن النوم مظنة، واليد طوافة على البدن فلعلها أن تقع على موضع النجاسة، لكن هذا مردود بمن قام مستنجيا بالماء فإنه لا حاجة له إلى غسل اليدين أولا.
النوع الخامس عشر: أنه إذا أراد غسل يديه بعد غسل وجهه، هل يغسل ذراعيه لا غير أو يغسلهما من الأصابع، ذكر في الأصل غسل الذراعين لا غير لتقدم غسل اليدين إلى الرسغ مرة، وقال السرخسي على ما ذكره في " الذخيرة ": الأصح عندي أن يعيد غسل اليدين ظاهرهما وباطنهما؛ لأن الأول كان سنة افتتاح الوضوء فلا ينوب عن فرض الوضوء، وهو مشكل؛ لأن المقصود هو التطهير بأي طريق كان حصل فلا معنى لإعادته.
م: (ولأن اليد آلة التطهير فيسن البداية بطهارتها) ش: هذا بظاهره يدل على الوجوب باعتبار أن ما لا يتم الوجوب إلا به فهو واجب، ولكن طهارة العضو حقيقة وحكما تدل على عدم الوجوب فثبتت السنة في المستيقظ وغيره.
فإن قلت: كيف طهارة العضو حقيقة، وحكما؟(1/185)
وهذا الغسل إلى الرسغ لوقوع الكفاية به في التنظيف،
قال: وتسمية الله تعالى في ابتداء الوضوء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: أما حقيقة فظاهر، وأما حكما فلأنه لو أدخل يده في الإناء لا ينجس على قول من يقول بسنية هذا الفعل، وأما على قول من يوجب ذلك فالماء يتنجس.
وقال تاج الشريعة: فإن قلت اليد آلة التطهير فلا يتوصل إلى الطهارة إلا بها، فيفرض غسلها.
قلت: هذه الآلة كانت طاهرة بيقين؛ لأن الظاهر اضطجاعه متوضئا إذ هو السنة والمستحب وقد شككنا في تنجيسها فلا تنجس بالشك، وقال أيضا في قول المصنف فتسن البداية بطهرها أي عند التباس حالها لئلا يؤدي إلى تنجيس غيره فإنه لما كان كذلك يكون تركه مكروها إذ الكراهية لاحتمال النجاسة، فإذا كان تركه مكروها يكون البيتان به سنة، إذ السنة إعدام المكروه إذ المكروه لاحتمال النجاسة فإذن كان تركه مكروها.
م: (وهذا الغسل إلى الرسغ) ش: أشار به إلى غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء إلى الرسغ - بضم الراء وسكون السين المهملة وفي آخره غين معجمة وهو منتهى الكف عند المفصل - وفي " مغني الحنابلة ": وحد اليد المأمور بغسلها من الكوع؛ لأن اليد المطلقة في الشرع تتناول ذلك بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] (المائدة: الآية 38) ، وإنما تقطع يد السارق من مفصل الكوع.
م: (لوقوع الكفاية به في التنظيف) ش: تعليل غسل اليدين إلى الرسغ وقد قلنا: إن هذا الغسل ينوب عن الفرض؛ لأن محمدا قال في " الأصل " ثم يغسل ذراعيه.
[تسمية الله تعالى في ابتداء الوضوء]
م: (وتسمية الله تعالى في ابتداء الوضوء) ش: هذا بالرفع عطف على قوله: غسل اليدين؛ لأنه خبر لقوله: " وسنن الطهارة "، وقوله " تسمية الله " خبر بعد خبر، ويجوز أن يكون قوله: وسنن الطهارة أشياء:
الأول: غسل اليدين.
والثاني: تسمية الله.
والثالث: السواك، وكذا يقدر إلى آخر ما ذكره من السنن، وإنما قدر التسمية بقوله في ابتداء الوضوء؛ لأنه أراد به أن يسمي قبل شروعه في الوضوء لتقع جميع أفعال الوضوء فرضها وسنتها بالتسمية.
فإن قلت: لا دلالة عليه في الحديث الذي ذكره.(1/186)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا وضوء لمن لم يسم الله»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لما ثبت أنها سنة الوضوء دل على أن محلها ابتداء الوضوء ليشمل الجميع كما ذكر، ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» .
فإن قلت: دل حديث مهاجر بن قنفذ أنه سلم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يتوضأ فلم يرد عليه، فلما فرغ منه قال: «إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كرهت أن أذكر الله على غير طهارة.» إنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - توضأ قبل التسمية.
قلت: التسمية من لوازم كمال الوضوء فكان ذكرها من تمامه والذاكر لها قبل وضوئه مضطرا إلى ذكرها لإقامة هذه السنة المكملة للفرض فخصت من عموم الذكر، ومطلق الذكر ليس من ضرورات الوضوء، وقد حكي التخصيص في الأذكار المقولة على أعضاء الوضوء؛ لأنها من مكملاته. أقول يعارض هذا ما ثبت عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: كان يذكر الله في كل حين، ولا يجوز نسبة ترك الأفضل إليه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، والعجب من الأكمل أنه أجاب عن التعارض بين حديث التسمية وحديث: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وبما نسب إلى مالك في إنكاره التسمية في أول الوضوء ثم قال: وذلك كما ترى يدل على أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - توضأ قبل أن يذكر الله، وسكت على هذا ومضى.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا وضوء لمن لم يسم الله» ش: هذا الحديث بهذا اللفظ لم يخرجه أحد، وإنما أخرجه أبو داود وغيره: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه.» وذكر صاحب الكتاب هذا(1/187)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحديث، وعزاه إلى أبي داود بلفظ المصنف وليس كذلك، وإنما المذكور في " سنن أبي داود " وغيره: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله» ثم اعلم أن هذا الحديث روي عن أحد عشر صحابيا، وهم: أبو هريرة، وسعيد بن زيد، وأبو سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وأنس بن مالك، وأبو سبرة، وأم سبرة، وابن عمر، وعلي، وابن مسعود، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
أما حديث أبي هريرة فرواه أبو داود، وقال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا محمد بن موسى عن يعقوب بن سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر الله عليه» .
ورواه أحمد أيضا في مسنده بهذا الإسناد، ورواه ابن ماجه أيضا، والحاكم في " المستدرك "(1/188)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فقال فيه: عن يعقوب بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة فذكره ثم قال: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقد احتج مسلم بيعقوب بن أبي سلمة أي يعقوب بن أبي سلمة عن أبيه الماجشون واسم أبي سلمة دينار. قلت: تاه ذهن الحاكم في هذا من يعقوب بن سلمة إلى يعقوب بن سلمة الماجشون، وهذا الذي في هذا الحديث هو يعقوب بن سلمة الليثي وهذا لم يحتج به مسلم.
وقال البخاري في تاريخه الكبير: لا يعرف لسلمة سماع من أبي هريرة ولا ليعقوب من أبيه ذكره في ترجمة سلمة، وللحديث طريق أخرى عند الدارقطني والبيهقي من طريق البخاري عن يحيى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة بلفظ: «ما توضأ ما لم يذكر اسم الله عليه، وما صلى ما لم يتوضأ.» وأيوب سمعه يحيى بن معين يقول: لم أسمع من يحيى بن أبي كثير إلا حديثا واحدا: «التقى آدم وموسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» .
وفي " الأوسط " للطبراني من طريق علي بن ثابت عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا أبا هريرة إذا توضأت فقل بسم الله، والحمد لله فإن حفظتك لا تزال تكتب لك الحسنات حتى تحدث من ذلك الوضوء.» وفيه أيضا من طريق الأعرج عن أبي هريرة رفعه: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يديه في الإناء حتى يغسلها ويسمي قبل أن يدخلها» تفرد بهذه الزيادة عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة وهو متروك عن هشام عن عروة عن أبي الزناد عنه.
وأما حديث سعيد بن زيد فرواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي ثفال عن رباح بن عبد الرحمن أنه سمع جدته بنت سعيد بن زيد تحدث أنها سمعت أباها سعيد بن زيد يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» .(1/189)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه أحمد، والبزار، والدارقطني، والحاكم، والعقيلي وزاد الحاكم والعقيلي: «ولا يؤمن بالله من لا يؤمن بي، ولا يؤمن بي من لا يحب الأنصار» وقال الترمذي: قال الإمام أحمد بن حنبل: لا أعلم في هذا الباب حديثا له إسناد جيد. وقال محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - أحسن شيء في هذا الباب حديث رباح بن عبد الرحمن، وصححه الحاكم في مستدركه وعلي بن القطان في كتاب التوهم، والإبهام، وقال: فيه ثلاثة مجاهيل الأحوال، جدة رباح لا يعرف لها اسم ولا حال، ولا تعرف بغير هذا، ورباح أيضا مجهول الحال، وأبو ثفال أيضا مجهول الحال مع أنه أشهرهم لرواية جماعة عنه منهم الدارقطني والدراوردي.
وذكره ابن أبي حاتم في كتاب " العلل "، وقال: هذا الحديث عندنا ليس بذلك، والصحيح أبو ثفال مجهول، ورباح مجهول، وقال الترمذي في " علله الكبير ": سألت محمد بن إسماعيل عن اسم أبي ثفال فلم يعرفه، ثم سألت الحسن بن علي الخلال، فقال: اسمه ثمامة بن الحصين، وهو بضم الثاء المثلثة ويقال: بكسر الثاء المشددة بعدها الفاء، وقال البزار: أبو ثفال مشهور، ورباح وجدته لا نعلمهما رويا إلا هذا الحديث، ولا حدث عن رباح إلا أبو ثفال فالخبر من جهة النقل لا يثبت. وقال أبو حاتم وأبو زرعة الحديث ليس بصحيح وأما جدة رباح فقد عرف اسمها من رواية الحاكم ورواه البيهقي مصرحا باسمها، وأما جدته فقد ذكرت في الصحابة.
أما حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرواه ابن ماجه، وأحمد، والدارمي، والترمذي في " العلل " وابن عدي، وابن السكن، والبزار، والدارقطني، والبيهقي، والحاكم من طريق كثير بن زيد عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه أبي سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قال: " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله» وصححه الحاكم في " المستدرك "، وأسند إلى الأثرم أنه قال: سألت أحمد بن حنبل عن التسمية في الوضوء، فقال: أحسن ما جاء فيها حديث كثير بن زيد ولا أعلم فيها حديثا ثابتا، وأرجو أن يجزئه الوضوء؛ لأنه ليس فيه حديث به، وقال الترمذي في " علله الكبير ": قال محمد بن إسماعيل وربيح بن عبد الرحمن منكر الحديث، وقال أحمد: كثير بن زيد ليس به بأس، وعن ابن معين: ليس بالقوي، وعن أبي زرعة: صدوق فيه لين، وعن أبي حاتم: صالح الحديث، ليس بالقوي، يكتب حديثه، وربيح قال أبو حاتم: شيخ، وقال الترمذي عن البخاري: منكر الحديث.(1/190)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما حديث سهل بن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرواه ابن ماجه، وقال: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا ابن أبي فديك عن عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قال: " لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا صلاة لمن لم يصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا صلاة لمن لم يحب الأنصار.» وأخرجه الطبراني أيضا، وعبد المهيمن ضعيف لكن تابعه أخوه ابن عباس، وهو مختلف فيه.
وأما حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرواه النسائي وقال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن ثابت وقتادة عن أنس، قال: «طلب بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضوءا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هل مع أحد منكم ماء؟ " فوضع يده في إناء وهو يقول: " توضئوا باسم الله " فرأيت الماء يخرج من أصابعه حتى توضئوا من عند آخرهم، قال: قلنا لأنس: كم تراهم، قال: نحوا من سبعين» وروى عبد الملك بن حبيب الأندلسي عن أسد بن موسى عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بلفظ: «لا إيمان لمن لم يؤمن، ولا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يسم الله» وعبد الملك شديد الضعف.
وأما حديث أبي سبرة فرواه الطبراني في " الأوسط "، وقال: حدثنا أبو جعفر حدثنا يحيى بن زيد بن عبد الله بن سبرة عن أبيه عن جده، قال: «صعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر ذات يوم فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ثم قال: " أيها الناس لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا يؤمن بالله من لم يؤمن بي ولا يؤمن بي من لم يعرف حق الأنصار» ورواه الدولابي في " الكنى "، و " ألقاب الصحابة ".
وأما حديث أم سبرة فأخرجه أبو موسى في " المعرفة " فقال عن أم سبرة وهو ضعيف، وقال الذهبي: أم سبرة لها حديث لا يصح.
وأما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فرواه الدارقطني، وقال: حدثنا أحمد بن محمد(1/191)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بن زياد حدثنا محمد بن غالب حدثنا هشام بن بهرام حدثنا عبد الله بن حكيم عن عاصم بن محمد عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من توضأ فذكر اسم الله على وضوئه كان طهورا لجسده، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله على وضوئه كان طهورا لأعضائه» ورواه البيهقي أيضا، ثم قال: هذا ضعيف، وأبو بكر الزاهدي غير ثقة عند أهل العلم بالحديث.
قلت: أراد بأبي بكر الزاهدي عبد الله بن حكيم، وذكره المزي بفتح الحاء، وقال يحيى بن معين: عبد الله بن حكيم أبو بكر الزاهدي ليس بشيء، وقال السعدي: كذاب مصرح، وقال ابن حبان: يضع الحديث على الثقات.
وأما حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرواه ابن عدي في ترجمة عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن جده عن علي، وقال: إسناده ليس بمستقيم.
وأما حديث ابن مسعود فرواه الدارقطني وقال: حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن سلمة، قال: حدثنا يحيى بن هاشم حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا تطهر أحدكم فليذكر اسم الله، فإنه يطهر جسده كله، وإن لم يذكر اسم الله على طهوره لم يطهر منه إلا ما مر عليه الماء، فإذا فرغ من طهوره فليشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ثم ليصل علي فإذا قال ذلك فتحت له أبواب الرحمة» . ورواه البيهقي أيضا، ثم قال: هذا ضعيف لا أعلم رواه عن الأعمش غير يحيى بن هاشم ويحيى بن هاشم متروك الحديث.
وأما حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فرواه البزار في " مسنده "، وقال: حدثنا إبراهيم بن زياد الصائغ حدثنا أبو داود الحولي حدثنا سفيان عن حارثة بن محمد عن سمرة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا بدأ الوضوء سمى» ورواه الدارقطني أيضا ولفظه: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا مس طهورا سمى الله» «وقال أبو بكر: كان يقوم إلى الوضوء فيسمي الله(1/192)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم يفرغ الماء على يديه» .
قوله: " لا وضوء " كلمة " لا " لنفي الجنس وخبرها محذوف تقديره: لا وضوء حاصل، أو كائن لمن لم يسم: أي لم يذكر اسم الله عليه، وحذف خبر " لا " شائع، ولا سيما إذا كان الخبر عاما كالموجود، والحاصل أن غير ذلك لدلالة النفي ومنه: لا إله إلا الله، ولا فتى إلا علي، ولا سيف إلا ذو الفقار، واستدل أهل الظاهر وإسحاق بن راهويه أن الوضوء لا يصح إلا بالتسمية حتى قال إسحاق: إذا ترك التسمية عامدا يجب عليه إعادة الوضوء، وعن أحمد أنها واجبة، وروي عنه أنه قال: ليس في هذا حديث يثبت، وأرجو أن يجزئه الوضوء.
وفي " المغني " ظاهر مذهب أحمد أن التسمية مسنونة في طهارات الحدث كلها، ورواه جماعة من أصحابه عنه، وقال: الذي استقر في الروايات عنه أنه لا بأس به يعني إذا ترك التسمية وهذا قول الثوري، ومالك، والشافعي، وأبي عبيدة وابن المنذر وأصحاب الرأي، وعن أحمد رواية أخرى أن التسمية واجبة في جميع طهارات الحدث، الوضوء، والغسل، والتيمم، وهو اختيار أبي بكر، ومذهب الحسن، وإسحاق، ثم إذا قلنا بوجوبها فتركها عامدا لم تصح طهارته فإن تركها سهوا صحت، وهو قول إسحاق، وإن ذكرها في أثناء الطهارة أتى بها، وقال أبو الفرج: إذا سمى في أثناء الوضوء أجزأه يعني على كل حال؛ لأنه قد ذكر اسم الله عليه، وقال بعض أصحابنا: لا تسقط بالسهو لظاهر الحديث وقياسا على سائر الواجبات، والأول أولى. قال أبو داود: قلت لأحمد: إذا نسي التسمية في الوضوء، قال: أرجو أن لا يكون عليه شيء. انتهى.
قال القدوري: قال قوم: إن التسمية في أول الوضوء فرض وهذا غلط، وعن مالك أنه أنكر التسمية في أول الوضوء، فقال: أتريد أن تذبح، قلت: إن كان إنكاره كونها شرطا كما يكون شرطا لحل الذبيحة فهو موجه، وإن كان إنكاره كونها مستحبة أو سنة في أول الوضوء فإنكاره ليس له وجه، لما ذكرنا من الأحاديث ولما روى الحافظ عبد القادر الزهاوي في " أربعينه " من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله أو بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فهو أقطع» وصححها أبو عوانة وابن حبان، وقال " صاحب البدائع ": قال مالك إن التسمية فرض إلا إذا كان ناسيا فتقام التسمية بالقلب مقام التسمية باللسان دفعا للحرج. واحتج له بالحديث المذكور.
فإن قلت: هذا غير صحيح؛ لأن مذهب مالك أن التسمية سنة كمذهبنا على أن نقلنا عن القدوري أنه نقل عنه أنه أنكر التسمية كما ذكرنا أيضا، وقد قال صاحب " الجواهر ": وأما فضائله أي فضائل الوضوء فأربع: التسمية، وروى الواقدي أن ذلك فيما يؤمر به من شاء قال ذلك،(1/193)
والمراد به نفي الفضيلة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومن شاء لم يقله، وروى علي بن زياد إنكارها وأما صفة التسمية فقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المنقول عن السلف في تسمية الوضوء باسم الله العظيم والحمد لله على دين الإسلام. وقال الأكمل فيه أنه مرفوع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: هذا عجز منه لم يبين من رفعه ورواه من الأئمة المعتبرين. وكذا قال البخاري: هو المروي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: المروي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بسم الله والحمد لله» رواه الطبراني في " الصغير " بإسناد حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا أبا هريرة إذا توضأت فقل بسم الله والحمد لله» الحديث، وقد مر عن قريب، وعن الدبوسي الأفضل أن يقول: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، وعنه يتعوذ في ابتداء الوضوء ويبسمل.
وفي " المجتبى ": لو قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، بسم الله العظيم، والحمد لله على دين الإسلام فحسن لورود الآثار.
وقال صاحب " المحيط ": ولو قال في ابتداء الوضوء لا إله إلا الله، والحمد لله، أو أشهد أن لا إله إلا الله، يصير مقيما لسنة التسمية. قلت: هذا كما ترى كل واحد من الأئمة هؤلاء الكبار يذكر حديثا أو أثرا لم يبين مخرجه، ولا حاله من الصحة والضعف، والآفة في ذلك من التقليد.
م: (والمراد به نفي الفضيلة) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: إنكم ذكرتم التسمية في سنن الوضوء، واحتججتم عليه بالحديث المذكور، فالحديث بظاهره يدل على الوجوب وتقدير الجواب أن الحديث محمول على نفي الفضيلة حتى لا تلزم الزيادة على مطلق الكتاب بخبر الواحد ونظير ذلك قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» .
فإن قلت: الحديث المذكور نظير قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» في كونه بخبر الواحد، فكيف اختلف حكمها في السنة والوجوب.
قلت: قد أجاب أكثر الشراح بأن لا نسلم أنهما نظيران في كونهما خبر الواحد، بل خبر الفاتحة أشهر من خبر التسمية، فقد ورد مرسلا على حسب مرتبة العلوية وهذا فيه نظر؛ لأن لقائل أن يقول: إذا كان خبر الفاتحة مشهورا كان تعيين الفاتحة فرضا لجواز الزيادة على النص بالخبر المشهور.(1/194)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والأحسن أن يقال: فإذن خبر الفاتحة مواظبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها من غير ترك فهذا دليل الوجوب بخلاف التسمية حيث لم تثبت عليها المواظبة ويرد عليه التكبيرات التي تخلل في أثناء الصلاة، والجواب القاطع عندي أن يقال: خبر الفاتحة متفق على صحته وخبر التسمية ليس كذلك حتى روي عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال حين سئل عنها: " لا أعلم فيها حديثا صحيحا أقوى " فإذا كان الأمر كذلك، فمن أين المعارضة حتى يحتاج إلى الجواب، ولأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علم الأعرابي الوضوء ولم يذكر التسمية وهو جاهل أحكام الوضوء، فلو كانت شرطا لصحته لاستوى فيها العمل والنسيان كتحريمة الصلاة.
فإن قلت: روي في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سمى كما ذكرنا عن البزار.
قلت: ضعفه بعضهم، قال ابن عدي: بلغني عن أحمد أنه نظر في جامع إسحاق بن راهويه فإذا أول حديث أخرجه هذا الحديث فأنكره جدا، فقال: أول حديث يكون في الجامع عن حارثة، وكان في إسناده، حارثة بن محمد وهو ضعيف، روي عن أحمد أنه قال: هذا يزعم أنه اختار أصح شيء في إسناده، وهذا أضعف حديث، ولئن سلمنا ذلك لكن لا نسلم أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سمى باعتبار الوجوب بل باعتبار أنها مستحبة في ابتداء جميع الأفعال كما في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كل أمر ذي بال» الحديث، وقد حمل بعضهم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» على أنه الذي يتوضأ أو يغتسل ولا يتوضأ وضوءه للصلاة ولا غسل للجنابة.
كما رواه أبو داود حدثنا أحمد بن السرح قال: حدثنا ابن وهب عن الدراوردي قال: ذكر ربيعة أن تفسير حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» أنه الذي يتوضأ أو يغتسل ولا يتوضأ وضوءه للصلاة، ولا غسلا للجنابة وذلك لأن النسيان محله القلب فوجب أيضا أن يكون محلا للذكر الذي يضاد النسيان، وذكر القلب إنما هو النية، هذا توجيه كلام ربيعة ابن عبد الرحمن المدني شيخ مالك والليث والأوزاعي.
قلت: الذكر الذي يضاد النسيان بضم الذال والذكر بالكسر يكون باللسان، والمراد بالذكر المذكور في الحديث هو الذكر باللسان فكيف يلتئم كلام ربيعة وفيه تعسف وتأويل بعيد لا تدل عليه قرينة من القرائن اللفظية ولا من القرائن الحالية فلا حاجة إلى هذا التكلف إذا حملناه على نفي الفضيلة والكمال.
قيل: إن «حديث المهاجر بن قنفذ: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يتوضأ فسلمت عليه فلم يرد، فلما فرغ قال: " إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني على وضوء» أخرجه أبو داود وابن حبان في(1/195)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" صحيحه " والحاكم في " مستدركه "، وقال: إنه صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه مشكل على أحاديث التسمية والجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: أنه معلول، والآخر: أنه معارض. أما كونه معلولا فقال ابن دقيق العيد في " الإمام " سعيد بن أبي عروبة الذي يرويه عن قتادة عن الحسن عن الحصين بن المنذر عن المهاجر قال: كان اختلط في آخر عمره، فراعى فيه سماع من سمع منه قبل الاختلاط. قال ابن عدي: قال أحمد بن حنبل: زيد بن زريع سمع منه قديما، وقال قد رواه النسائي من حديث شعبة عن قتادة به، وليس فيه إنه لم يمنعني. أهـ، ورواه حماد بن سلمة عن حميد وغيره عن الحسن عن المهاجر منقطعا فصار فيه ثلاث علل.
فإن قلت: روى أبو داود في سننه عن محمد بن ثابت العبدي حدثنا نافع قال: انطلقت مع عبد الله بن عمر في حاجة إلى ابن عباس فلما قضى حاجته كان من حديثه يومئذ أن «قال مر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سكة من سكك المدينة وقد خرج من غائط أو بول إذ سلم عليه رجل فلم يرد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثم إنه ضرب بيديه الأرض أو بيده الحائط فمسح وجهه مسحا ثم ضرب ضربة فمسح» قلت: قال النووي في " الخلاصة " محمد بن ثابت العبدي ليس بالقوي عند أكثر المحدثين، وقد أنكر عليه البخاري وغيره رفع هذا الحديث، وقالوا: الصحيح أنه موقوف على ابن عمر، وقال الخطابي: وحديث ابن عمر لا يصح؛ لأن محمد بن ثابت العبدي ضعيف جدا لا يحتج بحديثه. وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال البخاري: يخالف في بعض حديثه، وقال النسائي: يروي عن نافع ليس بقوي.
وأما كونه معارضا: فروى البخاري ومسلم من حديث كريب «عن ابن عباس قال بت ليلة عند خالتي ميمونة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاضطجعت في عرض الوسادة واضجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طولها فنام - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حتى إذا انتصف الليل أو قبله» الحديث.(1/196)
والأصح أنها مستحبة وإن سماها في الكتاب سنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ففي هذا ما يدل على جواز ذكر اسم الله وقراءة القرآن مع الحديث.
ولكن وقع في الصحيح «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تيمم لرد السلام» أخرجاه «عن أبي الجهم، قال: أقبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نحو بئر خم فلقيه رجل فسلم فلم يرد عليه حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ويديه ثم رد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» ولم يصل مسلم سنده به، ولكنه روي من طريق الضحاك بن عثمان عن نافع «عن ابن عمر أن رجلا مر ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبول فسلم فلم يرد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لم يذكر فيه التيمم» .
ورواه البزار في " مسنده " من حديث أبي بكر رجل من آل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن نافع عن ابن عمر في هذه القضية «قال: فرد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وقال: " إنما رددت عليك خشية أن تقول سلمت فلم ترد علي، فإذا رأيتني هكذا فلا تسلم علي فإني لا أرد عليك» ورواه عبد الحق في أحكامه من جهة البزار، ثم قال: وأبو بكر فيما أعلم هو ابن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وروى ذلك مالك وغيره بإسناد لا بأس به ولكن حديث الضحاك بن عثمان الأصح فإن الضحاك يوثق من بكر في هذا، ولعل ذلك كان في موضعين وتعقبه ابن القطان في كتابه فقال: من أين له أنه هو، ولم يصرح في الحديث باسمه، واسم أبيه وجده.
قلت: قد جاء ذلك مصرحا في مسند السراج، فقال: حدثنا محمد بن إدريس حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا سعيد بن سلمة حدثني أبو بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن نافع عن ابن عمر فذكره. وروى ابن ماجه في سننه من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رجلا مر على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يبول فسلم عليه، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذا رأيتني على هذه الهيئة فلا تسلم علي فإنك إن فعلت ذلك لم أرد عليك» ورواه البزار وقال فيه: " فلم يرد عليه ".
م: (والأصح أنها) ش: أي التسمية م: (مستحبة وإن سماها في الكتاب سنة) ش: أي القدوري، وقيل " المبسوط "، وليس بصحيح؛ لأن المنصوص فيه على الاستحباب.
فإن قلت: أين جواب " إن " التي هي للشرط؟.
قلت: بعده سمى " إن " الواصلة وهي مستغنية عن الجواب بدلالة ما قبل الكلام عليه، وتقديره في الأصل، وإن سماها في الكتاب سنة فهي مستحبة، ويجوز أن يكون معطوفا على المحذوف تقديره، والأصح من المذهب أن التسمية مستحبة إن لم يسمها، وإن سماها.
ثم إن الشراح عللو ذلك بقولهم: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يواظب عليها، ولأن عثمان وعليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حكيا وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم ينقل عنهما التسمية.(1/197)
ويسمي قبل الاستنجاء، وبعده هو الصحيح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: كيف يكون الأصح أنها مستحبة مع ورود الأحاديث الكثيرة الدالة على سنيتها بمقتضى التأويلات التي ذكرناها، على أنا لو لم نورد لها المعارضة بأحاديث غيرها إياها لكان مقتضاها وجوب التسمية على ما ذهب إليه طائفة ممن ذكرناها فيما مضى، فلذلك نص على سنيتها في " المحيط " و " شرح مختصر الكرخي "، و " التحفة " و " الغنية "، و " الجامع " و " القدوري " وقال ابن المرغيناني: هو الصحيح وهو المختار أيضا. وقال الأكمل وغيره: وما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمى فهو من باب قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» .
قلت: هذا جواب عن الحديث الذي فيه أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمى عند الوضوء فكانت سنة، وتقديره أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمى لأنه سنة تختص بالوضوء بل إنه فعل من الأفعال والمستحب في سائر الأفعال البداية بسم الله، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل أمر ذي بال» الحديث.
قلت: هذا لا يساعدهم؛ لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل أمر ذي بال» كاد أن يدل على وجوب التسمية عند كل فعل مطلقا؛ لأن فيه ما يشبه الوعيد على ترك التسمية، وذلك أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشار إلى أن الفعل الذي لا يبدأ باسم الله أبتر، ويروى أقطع، ويروى أجزم، وأدنى ما فيه الدلالة على السنية.
م: (ويسمى قبل الاستنجاء، وبعده هو الصحيح) ش: احترز به عما قيل أنه يسمي قبل الاستنجاء؛ لأنه سنة الوضوء، فيسمي لتقع جميع أفعال الوضوء بها، وعما قيل: يسمي بعد الاستنجاء؛ لأن قبله حال انكشاف العورة وذكر الله تعالى في تلك الحالة غير مستحب تعظيما لاسم الله تعالى، وفي " جوامع الفقه ": ويبدأ بالتسمية بعد الاستنجاء وهو المختار، واختار المصنف الجمع بين القولين فقال: ويسمى قبل الاستنجاء وبعده.
قلت: ينبغي أن يكون الأصح من قول من قال: يسن قبل الاستنجاء للتعليل الذي ذكر الآن، ولأن الاستنجاء الوضوء والبداية شرعت فيه بالتسمية نص عليه في " المحيط ".
فإن قلت: الدليل من السنة على ما اختاره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - من التسمية تكون مرتين مرة قبل الاستنجاء ومرة بعده في ابتداء الوضوء.
قلت: يمكن أن يكون حديث أبي هريرة: «كل أمر ذي بال» الحديث دليلا على مدعاه وذلك لأن الاستنجاء أمر من الأمور فيبدأ فيه بذكر الله تعالى، والوضوء أيضا أمر آخر، فيبدأ به أيضا ليكون عاملا بالحديث في كل الأحوال.
فإن قلت: فعلى هذه ينبغي أن يكون عند غسل كل عضو؛ لأن كل واحد من ذلك أمر على حدة قلت: الوضوء كلها أمر واحد؛ لأنه عمل واحد بخلاف كثرة الاستنجاء والوضوء فإنهما عملان مختلفان على أنه لو سمى عند غسل كل عضو لا يمنع من ذلك ولا يكره بل هو مستحب.(1/198)
قال: والسواك؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يواظب عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[السواك من سنن الوضوء]
م: (والسواك) ش: بالرفع عطف على قوله: " تسمية الله تعالى " والمعنى: والاستعمال والمضاف فيه محذوف؛ لأن السنة استعمال السواك ونفس السواك ليس بسنة. قال الجوهري: السواك المسواك، وقال أبو زيد: السواك يجمع على سوك ككتاب وكتب قال الشاعر:
انظر الثنايا إنهم اللتان ... بمنجة سوك إلا تجمل
قال أبو حنيفة اللغوي: ربما همز سوك وسوك فاه تسويكا، وإذا قلت: استاك أو سوك لم يذكر الفم، وقال ابن الأثير في " النهاية ": السواك بالكسر والمسواك: ما يدلك به الأسنان من العيدان، يقال: ساك فاه يسوكه إذا دلكه بالسواك فإذا لم يذكر الفم قلت: استاك، وفي " المحكم " المسواك اسم العود يذكر ويؤنث، وفي " التهذيب " في العربية الحركة يقال: تساوكت الإبل إذا تمايلت في السقوط من الضعف.
م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يواظب عليه) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يواظب على استعمال السواك، والعجب من المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه ذكر أن استعمال السواك سنة، ثم احتج على ذلك بمواظبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مع هذا لم يذكر شيئا من الأحاديث الدالة على المواظبة، وقد علم أن مواظبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فعل شيء يدل على أن ذلك واجب.
وقد اعتذر عنه الشراح بأن المواظبة مع ترك دليل السنة وبدونه دليل الوجوب، وقد دل على تركه حديث الأعرابي، فإنه لم ينقل فيه تعليم السواك، فلو كان واجبا لعلمه. قال الأكمل: ويدل ترك التعليم على تركه دفعا للتعارض فإن عدم الترك يدل على الوجوب وترك التعليم على عدمه، فكان تدافع. قلت: ادعوا أن مواظبته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على السواك كان مع الترك، وهو دليل السنة، ثم احتجوا على ذلك بحديث الأعرابي، وفيه نظر من وجهين: الأول: أنهم لم يأتوا بحديث فيه تصريح بأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تركه في الجملة. والثاني: في استدلالهم على ذلك بحديث الأعرابي لا يتم؛ لأن الاستعمال للسواك هل هو من سنة الدين أو من سنة الوضوء، وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم: إنه من سنة الدين، لا من سنة الوضوء، لعدم اختصاصه به، ذكره في " المفيد "، وقال بعضهم: هو من سنة الوضوء وفيه أحاديث صحيحة ما رواه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لولا أن يشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء» قال أبو عمر: هذا يدخل في السنة لاتصاله من غير وجه، وهو(1/199)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
معروف من جهة بشر بن عمر، وروح بن عبادة صحيح عنهما عن مالك بسنده مرفوعا.
ورواه ابن خزيمة في " صحيحه "، والنسائي والدارقطني مرفوعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «السواك مع كل وضوء» وعن شعبة «افترضت عليهم السواك مع كل وضوء.» ورواه البيهقي من حديث شعبة " مع كل طهور " ذكره في " الإمام " وخرجه أحمد أيضا.
وروى البيهقي من حديث مالك بن أنس عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل فرض.» وأكثر الرواة عن مالك هكذا مرفوعا.
ورواه الطحاوي أيضا عن ابن مرزوق عن ابن عمر عن مالك نحوه، وروى الدارقطني من حديث أنس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستاك ويفصل وضوءه» وفي إسناده زيد بن خالد الجهني.
وروى أبو داود من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوضع له وضوءه وسواكه فإذا قام من الليل تحلى ثم استاك» .
وروى أيضا من حديث عائشة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يرقد من ليل ولا نهار فيستيقظ إلا تسوك قبل أن يتوضأ» . ولهذا احتج أبو داود أن السواك واجب، وحكي عن إسحاق ابن راهويه أنه واجب إن تركه عمدا بطلت صلاته.
وقال بعضهم: هو من سنة الصلاة، وفيه أحاديث منها ما رواه الستة في كتبهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة "، وقال مسلم عند كلا صلاة» .
وروى أبو داود والترمذي من حديث أبي سلمة عن زيد بن خالد الجهني مرفوعا قال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة "، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح» .
فإن قلت: كيف التوفيق بين رواية عند كل وضوء، ورواية عند كل صلاة؟
قلت: السواك الواقع عند الوضوء واقع للصلاة؛ لأن الوضوء شرع لها، فتجعل الأحاديث التي فيها عند كل صلاة على ما ذكرنا توفيقا بين الأحاديث، السواك عند كل صلاة ربما جرح الفم(1/200)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرج الدم وهو نجس بلا خلاف، وإن كان خلاف في انتقاض الوضوء فيتجنب عن ذلك، وقول من قال: إنه من سنة الدين أقوى نقل ذلك عن أبي حنيفة وفيه أحاديث تدل على ذلك:
منها ما رواه أحمد والترمذي من حديث أبي أيوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أربع من سنن المرسلين: الختان، والسواك، والتعطر، والنكاح» رواه ابن أبي شيبة وغيره من حديث مليح بن عبد الله عن أبيه عن جده نحوه.
ورواه الطبراني من حديث ابن عباس ومنها ما «رواه مسلم من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عشرة من الفطرة: فذكر منها السواك.»
ورواه أبو داود من حديث علي، ومنها ما رواه البزار من حديث أبي هريرة: «الطهارات أربع: قص الشارب، وحلق العانة، وتقليم الأظفار، والسواك.» رواه الطبراني من حديث أبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ومنها ما رواه الطبراني والبيهقي من حديث أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مرفوعا: «ما زال جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يوصيني بالسواك حتى خشيت أن يدرد في» ورواه ابن ماجه من حديث أبي أمامة، ورواه أبو نعيم من حديث جبير بن مطعم، وأبي الطفيل، وأنس، والمطلب بن عبيد الله. ورواه أحمد من حديث ابن عباس، ورواه ابن السكن من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
واعلم أنه قد جاءت أحاديث تدل على المواظبة منها: ما رواه العقيلي وأبو نعيم من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: «كان إذا سافر حمل السواك، والمشط، والمكحلة، والمعطرة، والمرآة» وأعله ابن الجوزي، وروى ابن ماجه من حديث عائشة أيضا: «كنت أصنع له ثلاث آنية مخمرة، إناء لطهوره، وإناء لسواكه، وإناء لشرابه.» وإسناده ضعيف. ومنها ما(1/201)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رواه البيهقي من حديثها أيضا: «هذه لكم سنة، وعلي فريضة: السواك، والوتر، وقيام الليل» وفي إسناده موسى بن عبد الرحمن الصغاني وهو متروك. ومنها ما رواه أحمد والطبراني من حديث واثلة بن الأسقع: «أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي» وفيه إياس بن أبي سليم، وهو ضعيف. ومنها ما رواه أبو نعيم من حديث رافع بن خديج وغيره: «السواك والوتر.» ومنها ما رواه ابن ماجه من حديث أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك» وإسنادهما ضعيف، وأقوى ما يدل على المواظبة وأصحه محافظته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للسواك حتى إنه فعله عند وفاته كما رواه البخاري في آخر كتاب المغازي من حديث القاسم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا مسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به، فأبده رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصره. فأخذت السواك فقضمته، وطيبته، ثم دفعته إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستن فما رأيته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - استن استنانا قط أحسن منه.
فما عدا أن فرغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يده أو إصبعه ثم قال: " في الرفيق الأعلى ثلاثا " ثم قضى، وكانت تقول مات بين حاقنتي وذاقنتي.» ومن ذلك ما رواه الطبراني من حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان السواك من أذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موضع القلم من أذن الكاتب» وفي إسناده يحيى بن اليمان، وقد تفرد به، وسئل أبو زرعة عنه في " العلل "، فقال: وهم فيه يحيى بن اليماني وإنما هو عبد الله بن إسحاق، عن أبي سلمة عن زيد بن خالد بن نضلة.
قلت: كذا أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي سلمة عن خالد الجهني مرفوعا: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كلا صلاة " قال أبو سلمة: فرأيت زيدا يجلس في المسجد وإن السواك من أذنه موضع القلم من أذن الكاتب وكلما قام إلى الصلاة استاك» .
وردت أحاديث فيها الأمر بالسواك منها:
ما رواه الأئمة الستة من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك» الحديث، قال الزيلعي: أحاديث الأمر بالسواك، ثم روى حديث أبي هريرة هذا.(1/202)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرج ما رواه البخاري من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أكثرت عليكم بالسواك» وذكره ابن حبان في " العلل " من حديث أبي أيوب بلفظ: «عليكم بالسواك» وأعله أبو زرعة بالإرسال، وروى مالك في " الموطأ " من حديث عبيد بن السباق مرسلا.
ومنها ما رواه أبو نعيم من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إن أفواهكم طرق القرآن فطهروها بالسواك» ووقفه ابن ماجه، ورواه أيضا أبو مسلم المكي في " السنن ".
ومنها ما رواه البزار، والطبراني والبغوي، وابن حبان، وابن أبي خيثمة من حديث العامري كانوا يدخلون على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فقال: " تدخلون علي قلحا استاكوا» والقلح بضم القاف وسكون اللام، وفي آخره حاء مهملة جمع أقلح يقال: قلح الرجل بالكسر قلحا وهو صفرة في الأسنان.
ومنها ما رواه البخاري في " تاريخه " وغيره من حديث «أبي خيرة الصباحي كنت في وفد فزودنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأراك وقال: " استاكوا بهذا.»
ووردت أحاديث في فضيلة السواك منها:
حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - علقه البخاري بلا إسناد، ووصله النسائي وأحمد وابن حبان من حديث عبد الرحمن بن أبي عتيق: سمعت أبي سمعت عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب» .
ومنها حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجه أحمد، وابن خزيمة، والحاكم، والدارقطني وابن عدي والبيهقي في " الشعب " وأبو نعيم رواه عروة عن عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فضل الصلاة التي يستاك لها على الصلاة التي لا يستاك لها سبعون ضعفا» .
ومنها حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه أبو نعيم: «إذا قام أحدكم من الليل يصلي(1/203)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فليستك فإنه إذا قام يصلى أتاه ملك فيضع فاه على فيه فلا يخرج شيء من فيه إلا وقع في في الملك.»
ومنها حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رواه أبو نعيم مرفوعا: «السواك يذهب البلغم ويفرح الملائكة، ويوافق السنة» .
ومنها ما رواه البزار من حديث مليح بن عبد الله الحطمي عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس من سنن المرسلين: الحياء، والحلم، والحجامة، والسواك، والتعطر» .
ومنها ما رواه الطبراني في " الأوسط " من حديث معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «نعم السواك الزيتون من شجرة مباركة يطيب الفم، ويذهب الحفر وهو سواكي وسواك الأنبياء قبلي» .
ومنها حديث عبد الله بن حداد، أخرجه أبو نعيم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السواك الفطرة» .
وذكر القشيري بلا إسناد عن أبي الدرداء قال: «عليكم بالسواك فلا تغفلوه فإن في السواك أربعا وعشرين خصلة، أفضلها أنه يرضي الرحمن ويضاعف صلاته سبعة وسبعين ضعفا، ويورث السعة والغنى، ويطيب النكهة ويشد اللثة ويسكن الصداع ويذهب وجع الضرس وتصافحه الملائكة لنور وجهه، وتبرق أسنانه» وذكر بقيتها.
وقد أخرج الطحاوي في " معاني الآثار " حديث السواك عن ستة من الصحابة وأخرجه لنا في شرحه عن أربعين صحابيا أخر، ... أراد الوقوف عليها فعليه بمراجعته يقر بفوائده
[فضل السواك وأوقات استحبابه] 1
وبقي الكلام في السواك من وجوه أخرى:
الأول: وقت استعماله في الوضوء، ذكره في " المحيط " و " شرح مختصر الكرخي " والطحاوي و " التحفة " و " النافع " وغيرها، وقال في " شرح الطحاوي ": إنه سنة فيه رطبا ويابسا مبلولا بالماء أو لا، في جميع الأوقات على أي حال كان وذكر في " مبسوط شيخ الإسلام " ومن السنة: حالة المضمضة الاستياك فهذا يدل على أن وقته وقت المضمضة وعليه أكثر أصحابنا إلا أن(1/204)
..
....
....
....
..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المنقول عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه من سنن الدين فحينئذ يستوي فيه كل الأحوال والاستحباب يتأكد فيه عند تغير الفم.
وقال أبو عمر: فضل السواك مجتمع عليه لا اختلاف فيه، والصلاة عند الجميع أفضل منها بغيره حتى قال الأوزاعي: هو شطر الوضوء، ويتأكد طلبه عند إرادة الصلاة، وعند الوضوء، وقراءة القرآن، والاستيقاظ من النوم، وعند تغير الفم، ويستحب بين كل ركعتين من صلاة الليل، ويوم الجمعة، وقبل النوم، وبعد الوتر، وفي السحر. وفي " الدراية ": ثم وقته عند المضمضة تكميلا للإنقاء وكذا في " مبسوط شيخ الإسلام "، وفي " كفاية المنتهى "، " والوسيلة "، " والشفاء ": يستاك قبل الوضوء وعند الشافعي: هو سنة للقيام إلى الصلاة، وعند الوضوء، وعند كل حال يتغير فيه الفم.
[كيفية الاستياك] 1
الوجه الثاني: في كيفية الاستياك: عرضا لا طولا عند مضمضة الوضوء، ونص عليه في " المحيط " وأخرج أبو نعيم من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يستاك عرضا لا طولا.»
وفي " سنن أبي داود ": «إذا استكتم فاستاكوا عرضا» وفي " المغني ": ويستاك على أسنانه ولسانه، «وقال أبو موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرأيته يستاك على لسانه» متفق عليه.
وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «استاكوا عرضا وادهنوا غبا واكتحلوا وترا» ، انتهى.
وأخرج الطبراني بإسناه إلى بهدلة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستاك عرضا» وأخرجه البيهقي بإسناده إلى ربيعة بن أكثم قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستاك عرضا، ويشرب مصا، ويقول: " هو أهنأ وأمرأ.»
وعن إمام الحرمين عن أصحاب الشافعي أنه يمر بالسواك على طول الأسنان وعرضها، فإن اقتصر على أحدهما فالعرض أولى، وقال غيره من أصحابه: يستاك عرضا لا طولا، كذا في " شرح الوجيز ".
وروى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث حذيفة بن اليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(1/205)
وعند فقده يعالج بالإصبع؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فعل كذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام تهجد يشوص فاه بالسواك» ويقال الشوص رض السواك بأن يستاك طولا، والأصح أن تفسير الشوص هو التنقية، وقال الجوهري: الشوص الغسل والتنظيف، يقال: شوص فاه بالسواك، ويقال: الشوص هذا الذي يدلك أسنانه بالسواك، وهذا أعم من أن يدلك طولا أو عرضا، ولا تقدير في السواك يستاك إلى أن يطمئن قلبه بزوال النكهة واصفرار السن ويأخذ السواك باليمنى والمستحبة فيه ثلاثة أشياء، ويكون في غلظ خنصر، وطول شبر.
[فيما يستاك به وما لا يستاك به]
الوجه الثالث: فيما يستاك به وما لا يستاك به، وفي " الدراية ": ويستحب أن يستاك بعود من أراك يابس قد ندي بالماء ويكون لينا، وقد مر في حديث أبي سبرة الاستياك بالأراك وذكرنا أيضا عن الطبراني من حديث معاذ «نعم السواك الزيتون» الحديث.
وروى الحارث في " سننه " عن سمرة بن جندب قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن السواك بعود الريحان، وقال: إنه يحرك عرق الجذام» وفي " الدارية " ويقول عند الاستياك: اللهم طهر فمي، ونور قلبي، وطهر بدني، وحرم جسدي على النار، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين، وفي " المحيط ": العلك للمرأة يقوم مقام السواك؛ لأنها تخاف سقوط أسنانها؛ لأن سنها ضعيف، والعلك مما ينقي الأسنان ويشد اللثة.
[حكم من لم يجد السواك]
الوجه الرابع: فيمن لا يجد السواك، أشار إليه المصنف بقوله:
م: (وعند فقده) ش: أي فقد السواك. م: (يعالج بالإصبع) ش: أي يزود به عن يده اليمنى، (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فعل كذلك) ش: أي عالج بإصبعه، قال الزيلعي: حديث غريب، أراد أنه لم يثبت من جهة فعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وإنما رويت أحاديث في هذا الباب من جهة قوله منها:
ما رواه البيهقي في " سننه " من حديث أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يجزئ عن السواك الأصابع» وضعفه البيهقي، وفي رواية عن أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإصبع يجزئ عن السواك.»
ومنها ما أخرجه الطبراني في " الأوسط " من «حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قلت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الرجل يدهن فاه يستاك؟، قال: " نعم "، قالت: كيف يصنع؟ قال: " يدخل(1/206)
والمضمضة والاستنشاق؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فعلها على المواظبة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إصبعه في فيه» .
ومنها ما رواه البيهقي عن رجل من الأنصار من بني عمرو بن عوف قال: «يا رسول الله إنك رغبتنا في السواك فهل دون ذلك من شيء، قال: " إصبعك سواك عند وضوئك تمرهما على أسنانك؛ لأنه لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا حسبة له» .
قلت: لو نظر الزيلعي في " مسند أحمد " بالإمعان لاطلع على حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه يؤذن بأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فعله، وهو «أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دعا بكوز من ماء فغسل وجهه وكفيه ثلاثا، وتمضمض فأدخل بعض أصابعه في فيه الحديث، وفي آخره: وهو وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
[المضمضة والاستنشاق في الوضوء]
م: (والمضمضة والاستنشاق) ش: كلاهما بالرفع معطوفان على المرفوع قبلهما، و " المضمضة " تحريك الماء في الفم، قال ابن سيده: مضمض وتمضمض وهو أن يجعل الماء في فيه، ولا يشترط إدارته على مشهور مذهب الشافعي، وقال جماعة من أصحابه: يشترط، وفي بعض شروح البخاري: المضمضة أصلها مشعر بالتحريك، ومنه مضمض النعاس في عينيه إذا تحرك، واستعمل في المضمضة تحريك الماء في الفم.
و" الاستنشاق " إدخال الماء في الأنف، استفعال من النشق وهو سعوط يجعل في المنخرين ونشقت منه ريحا طيبة أي شممت وتنشق واستنشق الماء في أنفه صبه في أنفه. وفي العرنين استنشق أي يبلغ الماء خياشيمه، وذكر ابن الأعرابي وابن قتيبة الاستنشاق والاستنثار واحد، وقال ابن طريف: ينشد الماء من أنفه دفعة، وقال ابن سيده: يقال استنثر إذا استنشق الماء ثم أخرج ذلك بنفس الأنف، والنشرة الخيشوم وما والاه، وفي جامع [......] نثرت الشيء إذا أنثره وأنثره نثرا إذا بددته فأنت ناثر والشيء منثور قال المتوضئ مستنشق إذا جذب الماء بريح أنفه ثم يستنثر.
م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فعلهما على المواظبة) ش: أي فعل المضمضة والاستنشاق، وقوله عليه(1/207)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلام فعلهما على المواظبة يدل على أنهما واجبتان كما ذهب إليه أحمد وآخرون ولكن قيد الشيخ قوام الدين بقوله: أي مع الترك، وإلا كانا واجبتين، والدليل على الترك ما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - نقلت وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم تذكر المضمضة والاستنشاق» .
ولم يذكر أيضا في حديث الأعرابي الذي علمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الواجبات وتبعه على ذلك الشيخ الأكمل.
قال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يقال المواظبة تدل على الوجوب حتى قال أهل الحديث: هما فرضان في غسل الجنابة، والوضوء استدلالا بالمواظبة؛ لأنا نقول أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يواظب في العبادات على ما فيه تحصيل الكمال كما كان يواظب على الأذكار، وفي كتاب الله تعالى أمر بتطهير أعضاء مخصوصة والزيادة على النص لا تجوز إلا بما ثبت النسخ، وعلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأعرابي الوضوء، ولم يذكرهما فيه مع أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - صرح بقوله: هما فرضان في الجنابة سنة في الوضوء، كذا في " المبسوط ".
قلت: ألا ما ترى لم يشق منهم واحد القليل، ولا روى منهم. أما القوام والأكمل فإنهما قدرا في قول صاحب " الهداية " مع الترك، وكيف يقيد بذلك وقد روى صفة وضوء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أصحابه ثلاثة وعشرون نفرا، وهم عبد الله بن زيد بن عاصم، وعثمان بن عفان، وابن عباس، والمغيرة بن شعبة، وعلي بن أبي طالب، والمقدام بن معد يكرب، والربيع بنت معوذ، وأبو مالك الأشعري، وعائشة، وأبو هريرة، وأبو بكرة، ووائل بن حجر، وجبير بن نفير الكندي، وأبو أمامة، وأنس، وكعب بن عمرو اليماني، وأبو أيوب الأنصاري، وعبد الله بن أبي أوفى، والبراء بن عازب، وأبو كاهل، وعبد الله بن أنيس، وطلحة عن أبيه عن جده، ولقيط بن صبرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وكلهم حكوا فيه المضمضة والاستنشاق كحديث عبد الله بن زيد عند الأئمة الستة.
وحديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند البخاري ومسلم.
وحديث ابن عباس عند البخاري. وحديث المغيرة عند البخاري أيضا في كتاب اللباس وفيه المضمضة والاستنشاق.
وحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الأربعة: أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن(1/208)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ماجه. وحديث المقدام عند أبي داود وحديث الربيع عند أبي داود أيضا.
وحديث أبي مالك الأشعري عند عبد الرزاق في " مصنفه " ومن طريقه رواه الطبراني في " معجمه " وأحمد في " مسنده " وابن أبي شيبة في " سننه " وإسحاق بن راهويه في " سننه "، واسم أبي مالك حارث.
وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عند النسائي في " الكبرى " وفيه المضمضة والاستنشاق.
وحديث أبي هريرة عند أحمد في " مسنده "، والطبراني في " معجمه الأوسط "، وأبي يعلى في " مسنده ".
وحديث أبي بكر عند البزار في " مسنده "، وحديث وائل بن حجر عند البزار أيضا، وحديث جبير بن نفير عند ابن حبان في صحيحه، والبيهقي في " سننه "، وحديث أبي أمامة عند أحمد في " مسنده "، وحديث أنس عند الدارقطني، والبيهقي في " سننه "، وحديث كعب بن عمرو عند أبي داود في " سننه "، وحديث أبي أيوب عند الطبراني في " معجمه " وإسحاق بن راهويه في " مسنده "، وعند ابن عدي في " الكامل ".
وحديث أبي كاهل واسمه قيس بن عامر عند الطبراني في " معجمه "، وحديث عبد الله بن أنيس عند الطبراني في " معجمه "، وحديث طلحة عن أبيه عن جده عند أبي داود، وفيه قرائن تفصل بين المضمضة والاستنشاق، وحديث لقيط بن صبرة عند الشافعي، وأحمد، وابن الجارود وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وأصحاب السنن الأربعة وفيه: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما.»
وقول قوام الدين: والدليل على الترك ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إلى آخره، ينافي ما رواه النسائي عنها على ما ذكرنا، فالعجب منه أن يدعي علم الحديث ولم يذكر هاهنا من روى حديث الترك، ولئن سلمنا ذلك فمعناه أنها اختصرت في إحدى رواياتها.
وكذلك في حديث الأعرابي لم يبين من روى الترك، ولئن سلمنا فالجواب على ما ذكرناه، وأما جواب السغناقي في قَوْله تَعَالَى لا يقال المواظبة تدل على الوجوب مع تحصيل الكمال فيدل على أن مواظبته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على عبادة لتحصيل الكمال وليس كذلك في مواظبته على شيء يدل على الوجوب مع تحصيل الكمال، وسكوت المصنف عن القيد المذكور يدل على أن المضمضة والاستنشاق سنتان مؤكدتان.(1/209)
وكيفيتهما أن يمضمض ثلاثا يأخذ لكل مرة ماء جديدا ثم يستنشق كذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والسنة المؤكدة في قوة الواجب، ومع هذا لا يحصل الفساد بتركها سواء كان عامدا أو ناسيا كما في ترك الواجب، غير أنه في ترك الواجب يكون ناقصا، وفي الشفاء هما سنتان، قوله: فإن من تركهما يأثم، وقول السغناقي في كتاب الله أمراه لا يلزمنا؛ لأنا ما ادعينا فرضية المضمضة والاستنشاق والذي ذكره إنما يلزم من يدعي فرضيتهما، وقوله مع أن ابن عباس إلى آخره ما أفاد فائدة جديدة لما ادعاه؛ لأنا لا نقول أنهما ليستا بسنتين، ومع هذا هو حديث ضعيف.
م: (وكيفيتهما) ش: أي كيفية كل واحد من المضمضة والاستنشاق.
م: (أن يمضمض ثلاثا يأخذ لكل مرة ماء جديدا ثم يستنشق كذلك) ش: إنما ذكر هذا نفيا لقول الشافعي فإن عنده الأفضل أن يتمضمض ويستنشق بكف واحد بماء واحد، واحتج الشافعي بما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وله طرق منها: «فمضمض واستنشق من كف واحدة، فعل ذلك ثلاثا» وفي لفظ البخاري: «فمضمض واستنشق ثلاثا بثلاث غرفات» وفي رواية لهما: «فمضمض واستنشق من ثلاث غرفات» .
وروى ابن حبان «فمضمض واستنشق ثلاث مرات من ثلاث حثيات» وفي لفظ البخاري «فمضمض ثلاث مرات من حفنة» .
وفي " التلويح شرح البخاري ": والأفضل أن يتمضمض ويستنشق من ثلاث غرفات كما في الصحيح وغيرها.
ووجه ثان: «يجمع بينهما بغرفة واحدة يتمضمض منها ثلاثا ثم يستنشق منها ثلاثا» رواه علي ابن أبي طالب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند أبي حنيفة وابن حبان، رواه أيضا وائل بن حجر، أخرجه البزار بسند ضعيف.
وثالث: «يجمع بينهما بغرفة وهو أن يتمضمض منها ثم يستنشق ثم الثانية كذلك ثم الثالثة» رواه عبد الله بن زيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أخرجه الترمذي وقال حسن غريب.
ورابع: يفصل بينهما بغرفتين فتمضمض من أحدهما ثلاثا، ثم استنشق من الأخرى ثلاثا.(1/210)
هو المحكي من وضوئه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وخامس: يفصل بينهما بغرفتين يتمضمض من غرفة ثلاثا ويستنشق من أخرى ثلاثا، وفي " الروضة "، وفي كيفيته وجهان: أصحهما يتمضمض من غرفة ثلاثا ويستنشق غرفات، ومذهب أحمد كمذهب الشافعي، ومذهب مالك ما ذكره في " الموطأ " و " الجواهر " حكى ابن سابق في ذلك قولين:
أحدهما: يغرف غرفة واحدة لفيه، وأنفه.
والثاني: يتمضمض ثلاثا في غرفة ويستنشق ثلاثا في غرفة، فقال: وهذا اختيار مالك، والأول اختيار الشافعي، وأشار المصنف إلى دليل أصحابنا بقوله:
م: (هو المحكي من وضوئه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: المحكي يستعمل في رواية الفعل، والمروي في رواية اللفظ، قال صاحب " الدراية ": حكى عثمان وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وضوء رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هكذا نسبه إلى " المحيط "، ولم يبين حديثهما كيف هما، وأما قوام الدين فإنه قال: ولنا أن الأنف والفم عضوان منفردان فلا يجمع بينهما بماء واحد كسائر الأعضاء، وأما أكمل الدين فإنه قال كقول قوام الدين.
وأما السغناقي فإنه قال بعد احتجاج الشافعي بما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يتمضمض ويستنشق بكف واحد وله عندنا تأويلان: أحدهما: أنه لم يستعن في المضمضة والاستنشاق باليدين كما في غسل الوجه، والثاني: أن فعلهما باليد اليمنى ردا على قول من يقول: يستعمل في الاستنشاق اليد اليسرى؛ لأن الأنف موضع الأذى كموضع الاستنجاء، ثم نسبه إلى " المبسوط " فانظر إلى هذا الشأن العجيب، بل يرد ما احتج به الشافعي من الصحيح بما ذكروه، وكان الواجب أن يذكر وربما احتجت به أصحابنا من الأحاديث، ثم يجيبوه عن أحاديثه، ثم يقووا ذلك بدلائل أخرى في التأويلين المذكورين؛ نظرا لأن الأحاديث المصرحة بأنه تمضمض واستنشق بماء واحد لا يمكن تأويلها بما ذكروه، فنقول وبالله التوفيق:
أما ما احتج به أصحابنا فما ذهبوا إليه هو الحديث الذي رواه الترمذي من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفيه: «فغسل كفيه حتى أنقاهما ثم مضمض ثلاثا، واستنشق ثلاثا.» الحديث، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
فإن قلت: لم يحك فيه أن كل واحدة من المضامض والاستنشاقات بماء واحد، بل حكى أنه تمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا.(1/211)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: مدلوله ظاهر ما ذكرناه وهو أن يتمضمض ثلاثا يأخذ لكل مرة ماء جديدا ثم يستنشق كذلك، وهو رواية البويطي عن الشافعي فإنه روى عنه أن يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة وثلاث غرفات للاستنشاق، وفي رواية غيره عنه في " الأم ": يغرف غرفة يمضمض بها ويستنشق، ثم يغرف غرفة يتمضمض بها ويستنشق، ثم يغرف ثالثة يتمضمض بها ويستنشق فيجمع في كل غرفة بين المضمضة والاستنشاق، واختلف نصه في الكيفيتين فنص في " الأم " وهو نص " مختصر المزني " أن الجمع أفضل، ونص البويطي أن الفصل أفضل، ونقله الترمذي عن الشافعي. قال النووي: قال صاحب " المهذب " القول بالجمع أكثر في كلام الشافعي، وهو أيضا أكثر في الأحاديث الصحيحة والجواب عن كل ما روي في ذلك فهو محمول على الجواز، ومن الدليل على تجديد الماء لكل مرة فيها حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده وهو كعب بن عمرو، قال ابن خزيمة الحافظ: عمرو بن كعب. والأول أصح، قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفصل بين المضمضة والاستنشاق»
فإن قلت: ليس بصريح في المقصود.
قلت: رواه الطبراني في " معجمه " من حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده كعب بن عمرو اليماني «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ فتمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا يأخذ لكل واحدة ماء جديدا الحديث» .
فإن قلت: في سنده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف تركه يحيى القطان، وابن مهدي، وابن معين، وأحمد بن حنبل. وقال النووي في " التهذيب ": العلماء على ضعفه، وأنكر ابن أبي حاتم كون جد طلحة صحابيا وقال: سألت عنه فلم يثبته، وقال: طلحة هذا رجل من الأنصار، وقال ابن القطان: فيه علة وهي جهل حال مصرف بن عمرو والد طلحة.
قلت: أما ليث بن سليم القرشي الكوفي، فقد روى عنه خلق كثير منهم سفيان الثوري، وشريك، وشعبة، وفضل بن عاصم، وأبو عوانة، والوضاح، والإمام أبو حنيفة، وآخرون كثيرون، وعن أبي داود: ليس به بأس، وعن يحيى: لا بأس به. قال الدارقطني: كان صاحب سنة. وإنما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاووس.
وأما مجاهد فحسب واستشهد به البخاري في " الصحيح "، وروى في كتاب رفع اليدين في الصلاة وغيره، وروى له مسلم مقرونا بأبي إسحاق الشيباني، وروى له الأربعة، ولما روى أبو(1/212)
ومسح الأذنين وهو سنة بماء الرأس عندنا خلافا للشافعي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
داود هذا الحديث سكت عنه، وذا يدل على أنه عنده حديث صحيح، وكذا سكت عنه المنذري في " مختصر السنن "، ونقل النووي على هذا غير صحيح، وأما إنكار أبي حاتم لكونه جد طلحة صحابيا فليس بموجه، قال الخلال: عن أبي داود: سمعت رجلا من ولد طلحة يقول: إن لجدي صحبة، وحكى عثمان الدارمي عن علي بن المديني: سألت عبد الرحمن بن مهدي عن اسم جده، فقال: عمرو بن كعب، وعمرو بن أبي كعب، وكعب بن عمرو، وكانت له صحبة، وقال الذهبي في تجزئة أسماء الصحابة: كعب بن عمرو الهمداني الثاني صحابي نزل الكوفة وجد طلحة بن مصرف حديثه عنده ذكره في باب كعب بن عمرو، وذكره أيضا في باب عمرو بن كعب، وقول ابن القطان يرده ما ذكره ابن السكن وابن مردويه أن طلحة بن مصرف وكذا ذكره يعقوب بن سفيان في " تاريخه " وابن أبي خيثمة أيضا، وآخرون.
وأما حديث مصرف، فقد قال الذهبي في " مختصر تهذيب الكمال ": وثقه أبو زرعة ثم في تقديم المضمضة والاستنشاق اختيار رائحة الماء وطعمه كيلا يكون وضوءه بما لا يجوز بسبب التغير؛ لأن اللون شاهد هنا لاختيار الرائحة والطعم، وقيل الاستنشاق بالشمال لأن اليسار للأقذار وإزالة المخاط باليد اليسرى، وفي " المجتبى " لو رفع الماء من كف واحدة للمضمضة جاز، والاستنشاق لا يجوز لصيرورة الماء مستعملا، وفي " جامع قاضي خان " و " المحيط ": المبالغة فيها سنة إجماعا لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للقيط بن صبرة «بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما فأرفق» رواه الأئمة الخمسة، وصححه الترمذي، والمبالغة في المضمضة والغرغرة وفي الاستنشاق أن يأخذ بمنخريه حتى يصعد الماء إلى ما اشتد من الأنف.
[مسح الأذنين في الوضوء]
م: (ومسح الأذنين) ش: بالرفع عطف على ما قبله، والتقدير ومن سنن الوضوء مسح الأذنين م: (وهو) ش: أي مسح الأذنين، (سنة بماء الرأس عندنا) ش: أي عند أصحابنا، م: (خلافا للشافعي) ش: متعلق بقوله بماء الرأس لا بقوله: سنة، فإنه عنده أيضا، وقال قوام الدين: متعلق بمجموع قوله " سنة بماء الرأس " لا " بسنة " وحدها، ولا " بماء الرأس " وحده، كما ظن بعض الشارحين. قلت: أراد به السغناقي، ومن تبعه، وهذا عجيب منه؛ لأن الخلاف في موضع واحد، فكيف يتعلق بالموضعين. و " خلافا " منصوب على أنه مفعول مطلق بإضمار فعله تقديره: نحن في هذا نخالف خلافا للشافعي، أو هذا المذكور في معنى يخالف خلافا للشافعي وكان مصدرا مؤكدا مضمون الجملة كقوله علي ألف درهم اعترافا.(1/213)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الأذنان من الرأس»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الأذنان من الرأس» ش: أكثر الشراح لم يتعرضوا لهذا الحديث من جهة التخريج والتصحيح ونحوهما، فنقول: هذا الحديث روي عن ثمانية أنفس من الصحابة وهم: أبو أمامة، وعبد الله بن زيد، وابن عباس، وأبو هريرة، وأبو موسى، وأنس، وابن عمر، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
فحديث أبي أمامة عند أبي داود، والترمذي، وابن ماجه عن أبي أمامة «توضأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فغسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا، وقال: " الأذنان من الرأس» ولفظ ابن ماجه وقال: قال(1/214)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأذنان من الرأس» .
وقال أبو داود والترمذي قال قتيبة: قال حماد: لا أدري هذا من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو من قول أبي أمامة يعني حديث الأذنين، وقال الترمذي: حديثه ليس بذلك القائم، ورواه الدارقطني في " سننه "، وقال رفعه، وهم شهر بن حوشب ليس بالقوي، وقد رفعه سليمان بن حرب وهو ثقة، ثم أخرجه عن سليمان بن حرب حدثهما عن حماد بن زيد به، وفيه قال أبو أمامة: «الأذنان من الرأس» وقال ابن دقيق العيد في " الإمام ": وهذا الحديث معلول بوجهين:
أحدهما: لشهر بن حوشب.
والثاني: بالشك في رفعه، قلت: شهر وثقه أحمد، ويحيى، والعجلي، ويعقوب ابن شيبة. وسنان بن ربيعة أخرج له البخاري، وصحح حديث شهر الترمذي عن أم سلمة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نشر على الحسن والحسين وعلي وفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كساء، وقال: هؤلاء أهل بيتي» ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، وقال: أشهر إسناد فيه حديث حماد بن زيد عن سنان بن ربيعة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة، وكان حماد يشك في ربيعة، وكان سليمان ابن حرب يقول: هو من قول أبي أمامة.
قلت: قد اختلف فيه على حماد، فوقفه ابن حرب عنه، ورفعه أبو الربيع، وإذا رفع ثقة حديثا ووقفه آخر وقبلهما شخص واحد في وقتين يرجح الرفع؛ لأنه أتى بزيادة، ويجوز أن يسمع الرجل حديثا فيقف به في وقت، ويرفعه في وقت آخر، وهذا أولى من تغليط الراوي.
وحديث عبد الله بن زيد عن ابن ماجه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأذنان من الرأس» وإسناده أمثل إسناد لاتصاله وثقة رواته وقواه المنذري وابن دقيق العيد.
وحيث ابن عباس عند الدارقطني قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأذنان من الرأس» قال ابن(1/215)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القطان: إسناده صحيح لاتصاله وثقة رواته فإن قلت: أعله الدارقطني بالاضطراب في إسناده، وقال: إن إسناده وهم، وإنما هو مرسل، قلت: لا يقدح ذلك، وما يمنع أن يكون فيه حديثان مسند مرسل، قال البزار: إسناد حديث ابن عباس جيد، فانظر كيف أعرض البيهقي عن حديث عبد الله بن زيد وحديث ابن عباس المذكورين واشتغل بحديث أبي أمامة وزعم أن إسناده أشهر إسناد بهذا الحديث، وترك هذين الحديثين وهما أمثل ومن هنا يظهر تحامله.
وجد حديث أبي هريرة عند ابن ماجه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأذنان من الرأس» ، وأخرجه الدارقطني في " سننه " وفي إسناده البختري بن عبيد وقال: هو ضعيف وأبوه مجهول، وفي إسناد ابن ماجه عمرو بن الحصين وبان علاثة، قال الدارقطني: كلاهما ضعيفان.
وحديث أبي موسى عند الدارقطني والطبراني، وفي إسناده عن الحسن عن أبي موسى، قال الدارقطني: الحسين لم يسمع من أبي موسى، ثم أخرجه موقوفا.
وحديث أنس عند الدارقطني من طرق عبد الحكم عن أنس وهو ضعيف.
وحديث ابن عمر عند الدارقطني من طرق وأعل جميعها.
وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عند الدارقطني أيضا، وقال: الأصح أنه موقوف، وفي إسناده محمد بن الأزهر وكذبه أحمد ثم مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الأذنين ليسا من الرأس، ولا من الوجه، نقله النووي في " شرح المهذب " ويأخذ لهما ماء جديدا، ولو أمسك بعض أصابعه عليه الماء الذي أخذه للرأس فمسح به أذنيه صح، وفي الرواية قال الشافعي: يمسح(1/216)
والمراد بيان الحكم دون الخلقة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أذنيه ظاهرهما وباطنهما بماء جديد ثلاثا، ويأخذ لصماخه ماء جديدا، وهو قول أبي ثور، وقال مالك: الأذنان من الرأس إلا ويمسحهما مع الرأس على رواية الاستيعاب ويجزئ مسحهما بماء مسح الرأس، وقال الشعبي والحسن بن صالح: ما أقبل منهما من الوجه فيغسل معه، وما أدبر منهما من الرأس فيمسح معه، وعن ابن شريح أنه كان يغسلهما مع الوجه ويمسحهما من الرأس احتياطا في العمل، هذا مذهب العلماء، وقد غلط من غلطه زاعما أن الجمع لم يقل به أحد، فإن الشافعي استحب غسل الأذنين مع الوجه وأنهما يمسحان مع الرأس، وقال ابن المنذر: روايتان الأذنان من الرأس عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي موسى، وبه قال عطاء، وابن المسيب، والحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، والنخعي، وابن سيرين، والحسن، وابن جبير، وقتادة، ومالك وهو قول أصحابنا، وقال أبو عيسى الترمذي: وهو قول أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم وبه قال السدي وابن المبارك، وأحمد، وروي عن إسحاق بن راهويه أن من تركها عمدا لم تصح صلاته وعن الشعبي لا يستحب مسحها.
م: (والمراد بيان الحكم دون الخلقة) ش: أي مراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «الأذنان من الرأس» بيان حكم مسح الأذنين دون خلقتهما؛ لأنهما مشاهدة والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث ببيان الأحكام دون حقائق الأشياء.
قال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - المراد إما أن يكون الحقيقة وهو مشاهد لا يحتاج إليه وإنهما ممسوحتان كالرأس وهذا بعيد؛ لأن اتفاق العضوين في وظيفة لا يوجب إضافة أحدهما إلى الآخر، فتعين أنهما ممسوحتان بالماء الذي مسح به الرأس.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الأذنين من أبعاض الرأس حكما حيث قرنهما بكلمة " من "، ولو كان من أبعاض الرأس حقيقة يسن مسحهما بماء واحد فكذا إذا كانتا من أبعاضه حكما إذ الحكمي يلحق بالحقيقي. ووجه ثالث: أن استيعاب الرأس بالمسح بماء واحد سنة ولا يتم بدونهما حيث جعلتا من الرأس.
فإن قلت: فعلى هذا ينبغي أن يجزئ مسحهما عن مسح الرأس.
قلت: كون الأذنين من الرأس ثبت بخبر الواحد فلا يقع مجزئا عما ثبت بالكتاب، كما أن التوجه إلى الحطيم لا يجزئ لأن كونه من البيت ثبت بخبر الواحد والتوجه إلى البيت ثابت بالكتاب فلا يجزئ عنه ما ثبت بخبر الواحد، لئلا يلزم نسخ الكتاب به، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في السنن أنه من ذلك لا يقتضي إلا المشاركة إياه في حكم، ولا يقتضي مساواة الأول للثاني في(1/217)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جميع الأحكام، وذلك عند قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «سلمان منا أهل البيت» وقوله: «إن مولى القوم منهم» لم يرد أن سلمان شارك أهل البيت في كرامتهم، واستحقاقهم التام ولأن مولى القوم الهاشمي لا يكون من غسالة الناس من الصدقات كما لا يكون الهاشمي، ألا ترى أن من حلف في شيء على أهل بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يحنث بسلمان، وكذا من حف في شيء على بني فلان فلم يكن يحنث بمواليهم.
فإن قلت: لم لا يجعل الحديث بيانا على أن وظيفتهما المسح لا الغسل من غير إثبات التبعية فكان الحديث بيانا أنهما من الممسوح.
قلت: لا يلزم من كون وظيفة الشيء المسح كونه من الرأس كالخف.
فإن قلت: إذا كانا من الرأس فينبغي أن يسقط فرض مسح الرأس إذا مسح أذنيه.
قلت: المسنون لا يقوم مقام المفروض، وفي " المبسوط ": إن مسح أذنيه دون رأسه لم يجزئ، وقال خواهر زاده: الرأس من الحلقوم إلى فوق إلا أنه تعالى فصل في الأحكام فجعل وظيفة الوجه الغسل، ووظيفة الرأس بعده المسح، فأشبه الأذنين أن وظيفتهما من أيهما، فبين - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقوله: «الأذنان من الرأس» أن وظيفتهما من الرأس؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما بعث لبيان الحقائق.
ووجه آخر في الاستدلالات أن كلمة " من " للتبعيض فوجب أن يكون بعض الرأس حقيقة وحكما، أو حكما لا حقيقة، وحكم الرأس من ذلك المسح، فكذا حكمهما ثم كيفية مسحهما، ذكر في " المجتبى " يمسحهما بالسبابتين داخلهما والإبهامين خارجهما، وفي " الأصل " يمسح داخلهما مع الوجه، وفوقهما مع الرأس، والمختار هو الأول، وعن الحلواني وشيخ الإسلام خواهر زاده يدخل الخنصر في صماخ الأذنين ويحركهما كذا فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واعلم أن الشافعي استدل بقوله: أن يأخذ لكل واحدة من الأذنين ماء جديدا بحديث عبد الله بن زيد «أنه رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ وأخذ لأذنيه ماء جديدا خلاف الماء الذي أخذه لرأسه» ورواه البيهقي(1/218)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال: إسناده صحيح، واستدل أيضا بما «رواه أبو أمامة الباهلي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخذ لأذنيه ماء جديدا» ولأن الأذن مع الرأس كالفم والأنف مع الوجه ثم يأخذ لهما ماء جديدا فهذا مثاله.
والجواب عن الأول: أنه محمول على أنه لم يبق في كفه بلل فلهذا أخذ ماء جديدا، فعلموا الدليل على ما رواه أبو داود من حديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه سئل عن الوضوء فدعا بماء أه. وفيه فأخذ ماء فمسح برأسه وأذنيه.» وفي " الغاية " للسروجي: وتأويل حديث عبد الله بن زيد «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخذ خلاف الماء الذي أخذه لرأسه» أنه لم يستعمله، ويحمل على الجواز؛ لأن السنة لا تثبت بمرة واحدة، وهكذا يكون جوابا عن الثاني. ولنا حديث أمثل من الكل، أخرجه ابن منده وابن خزيمة في " صحيحيهما " والحاكم في " مستدركه " من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: ألا أخبركم بوضوء رسول الله، فأخذ غرفة فمسح برأسه وأذنيه، وأخرجه ابن حبان في " صحيحه "، ولفظه: «ثم غرف غرفة فمسح بها رأسه وأذنيه.»
وأما الجواب عن قوله: ولأن الأذن مع الرأس إلى آخره، أن الفم والأنف وإن كانا من الوجه في وجه، ولكنهما خصا بماء جديد ليحصل الامتياز بسنة الوجه عن غسل الفم بضرب حفنة، كما يحصل الامتياز لفرض المسح عن فرض الغسل بضرب حفنة ولهذا لا يقام الثلث فيهما إلا بماء جديد.
1 -
فرع: أما مسح الرقبة، فلم يرد فيه رواية عن أصحابنا المتقدمين، قال في " شرح الطحاوي ": كان الفقيه أبو جعفر يمسح عنقه اتباعا لما روي أن ابن عمر كان يمسح عنقه، وفي " التحفة " اختلف المشايخ في مسح الرقبة قال أبو بكر الأعمش إنه سنة، وقال أبو بكر الإسكاف إنه أدب.
فإن قلت: قال محمد الجرجي: روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " غسل الرقبة أمان من الغسل " ثم قال: ولم يوهن أئمة الحديث إسناده، فحصل التردد في أن هذا الفعل سنة أو أدب، وتعقبه الإمام بما حاصله أنه لم يجز الأصحاب ترددا في حكم مع تضعيف الحديث الذي يدل عليه.
قلت: قال القاضي أبو الطيب: لم ترد فيه سنة ثابتة، وقال القاضي أبو الحسين: لم ترد فيه سنة، وقال الغوراني: لم يرد فيه خبر وأورده الغزالي في " الوسيط " وتعقبه ابن الصلاح فقال: هذا الحديث غير معروف عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما هو قول بعض السلف، وقال النووي في " شرح(1/219)
قال: وتخليل اللحية؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمره جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المهذب ": هذا حديث موضوع وليس من كلام النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وزاد في موضع آخر: لم يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه شيء، وليس هو سنة بل هو بدعة، ولم يذكره الشافعي ولا جمهور الأصحاب، وإنما قال ابن القاضي وطائفة يسيرة وتعقبه ابن الرفعة بأن البغوي من أهل الحديث قال باستحبابه، ولا مأخذ لاستحباب الأجزاء، وأثر مسح القفا ما رواه أحمد وأبو داود من حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح مؤخر أصل العنق» كذا قاله الجوهري وغيره، والقذال بفتح القاف والذال المعجمة جماعة مؤخر الرأس وهو معقد العذار من الفرس خلف الناصية، خلف الناصية، فإذا كان كذلك كيف يكون حديث طلحة مسندا في مسح الرقبة. وكلام بعض السلف الذي ذكره ابن الصلاح يحتمل بأن يريد به ما رواه أبو عبيد في كتاب الطهور عن عبد الرحمن بن مهدي عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن عن موسى بن طلحة قل: من مسح قفاه مع رأسه وقي الغل يوم القيامة. قلت: هذا وإن كان موقوفا فله حكم الرفع؛ لأنه لا مجال فيه للرأي، وروى أبو نعيم في " تاريخ أصبهان " بإسناده إلى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ ومسح عقبه وقي الغل يوم القيامة» وفي " البحر " للروياني لم يذكر الشافعي مسح العنق، وقال أصحابنا: هو سنة.
[تخليل اللحية في الوضوء]
م: (وتخليل اللحية) ش: بالرفع عطف على ما قبله من المرفوعات، وتفسيره أن يدخل أصابع يديه في خلل اللحية وهي الفرج التي بين الشعر م: (لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمره جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بذلك) ش: أي بتخليل اللحية على ما روى ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا وكيع حدثنا الهيثم بن(1/220)
وقيل هو سنة عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - جائز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حماد بن أبان عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أتاني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقال: إذا توضأت فخلل لحيتك» .
ورواه ابن عدي في " الكامل " ولفظه قال: «جاءني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقال: يا محمد خلل لحيتك بالماء عند الطهور» وأعله بالهيثم بن حماد، وأسند تضعيفه عن أحمد وابن معين.
ويقرب منه ما رواه أبو داود في سننه عن الوليد بن وردان عن أنس بن مالك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته، وقال: " هكذا أمرني ربي» ومن كتب عنه ثم المنذري بعده قال في " الإمام " الوليد بن وردان أنه روى عنه جماعة وقول ابن القطان أنه مجهول على طريقه في طلب زيادة التعديل مع رواية جماعة عن الراوي، قال قوام الدين: إنما أسند صاحب " الهداية " الأمر إلى جبريل (- عَلَيْهِ السَّلَامُ -) لكونه أمر بأمر الله عز وجل.
قلت: هذا عجز منه؛ لأنه لم يقف على الحديث الذي ذكرنا عن ابن أبي شيبة حتى أول بهذا التأويل، ثم تخليل اللحية فيه أربعة أقوال: الأول: أنه واجب، يروى ذلك عن سعيد بن جبير، وعبد الحكم من المالكية، والثاني: أنه سنة، وبه قال أبو يوسف والشافعي، ورواية عن محمد قال في خير مطلوب وهو الأصح. الثالث: أنه مستحب، وفي " المحيط " أدب، وليس بمسنون، وهو قول أبي حنيفة ومحمد على ما يشير إليه المصنف الآن.
م: (وقيل: هو سنة) ش: أي تخليل اللحية سنة (عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - جائز عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -) ، ش: معنى جائز أن صاحبه لا ينسب إلى البدعة وهو القول الرابع، وبه قال مالك في " القنية "، وفي " المبسوط ": وتخليل اللحية مستحب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما: جائز وكذا ذكر في " التحفة " و " القنية "، وفي " شرح الطحاوي " والأفضل تخليلها وإن لم يفعل أجزأه، وقال السغناقي في قوله: جائز عند أبي حنيفة ومحمد أي لا يبدع فاعله كما يبدع ماسح الحلقوم، وقال صاحب " الكافي ": يعني جائز ليس بسنة أصلية، ولو فعل لا يبدع ولا يكره؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فعله مرة فدل على الجواز لا على السنة.(1/221)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قوله فعله مرة يرده ما رواه أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته وقال: " هكذا أمرني ربي» ورواه أبو داود، وفيه شيئان يدلان على أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فعله غير مرة: أحدهما: قوله " كان " فيدل على الاستمرار، والثاني: قوله: " هكذا أمرني ربي عز وجل " والذي يأمره ربه فلا يفعله مرة.
فإن قلت: في إسناد الحديث الوليد بن وردان وهو مجهول الحال.
قلت: أبو داود لما رواه سكت عنه فهذا يدل على رضاه به على قاعدته، وله طرق أخرى منها طريق الحاكم في " مستدركه " برواية ثقات، ومنها طريق ابن عدي، ومنها طريق صححه ابن القطان.
ومع هذا روي حديث تخليل اللحية عن سبعة عشر نفرا من الصحابة وهم: عثمان بن عفان، وأنس بن مالك، وعمار بن ياسر، وابن عباس، وأبي أيوب، وابن عمر، وأبي أمامة، وعبد الله بن أبي أوفى، وأبي الدرداء، وكعب بن عمرو، وأبي بكرة، وعائشة، وجابر بن عبد الله، وأم سلمة، وجرير، وعبد الله بن عكبرة، وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
فحديث عثمان عند الترمذي وابن ماجه من حديث عامر بن شقيق الأسدي عن أبي وائل عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخلل لحيته» وقال الترمذي: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ وخلل لحيته وقال: حديث حسن صحيح، وقال محمد ابن إسماعيل - يعني البخاري -: أصح شيء في هذا الباب حديث عامر بن شقيق عن أبي وائل عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ورواه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه "، وقال: صحيح الإسناد وقد احتجا - يعني البخاري ومسلم - بجميع رواته [ ... ] غير عمار بن ياسر وأنس وعائشة، ثم أخرج أحاديثهم «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ وخلل لحيته» وزاد في حديث أنس: وقال: «بهذا أمرني ربي»
فإن قلت: تعقبه الذهبي في " مختصره "، وقال: بن عامر بن شقيق ضعفه ابن معين، وقال الشيخ تقي الدين: أخرج البخاري ومسلم حديث عثمان في الوضوء من عدة طرق، وليس في شيء منها ذكر التخليل.
قلت: قال الترمذي في " العلل الكبير ": قال محمد بن إسماعيل - يعني البخاري -: أصح(1/222)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شيء عندي في التخليل حديث عثمان، وهو حديث حسن.
وحديث أنس رواه ابن ماجه من حديث يزيد الرقاشي عن أنس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا توضأ خلل لحيته» رواه البزار في " مسنده "، والحاكم في " مستدركه ".
وحديث عمار عند الترمذي، وابن ماجه قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخلل لحيته» وفي إسناده عبد الكريم بن أبي المخارق عن حسان بن بلال، قال الترمذي: سمعت إسحاق بن منصور يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: قال ابن عيينة: لم يسمع عبد الكريم عن حسان حديث التخليل، ثم أخرج الترمذي من حديث قتادة عن حسان بن بلال.
وحديث ابن عباس عند الطبراني في " الأوسط " قال: «دخلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يتوضأ» . الحديث وفيه: «وخلل لحيته» ورواه العقيلي أيضا.
وحديث أبي أيوب عند ابن ماجه من حديث واصل بن السائب عن أبي سورة «عن أبي أيوب قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ فخلل لحيته» . قال البخاري وأبو حاتم: واصل بن السائب منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، ورواه الترمذي في " العلل "، والعقيلي، وأحمد.
وحديث ابن عمر عند ابن ماجه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك ثم يشبك لحيته بأصابعه من تحتها» ورواه الطبراني في " الأوسط ".(1/223)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحديث أبي أمامة عند ابن أبي شيبة في " مصنفه "، والطبراني في " معجمه الكبير "، وإسناده ضعيف.
وحديث عبد الله بن أبي أوفى عند الطبراني، وعند أبي عبيد في " كتاب الطهور " وفي إسناده أبو الورقاء، وهو ضعيف.
وحديث أبي الدرداء عند الطبراني، وابن عدي بلفظ: «توضأ فخلل لحيته مرتين، وقال: " هكذا أمرني ربي» وفي إسناده ثمامة بن نجيح وهو لين الحديث.
وحديث كعب بن عمرو عند الطبراني، وحديث أبي بكرة عند البزار في " مسنده " «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ وخلل لحيته» .
وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عند الحاكم في " مستدركه "، وأحمد في " مسنده "، وإسناده ضعيف.
وحديث جابر عند ابن عدي في " الكامل " من حديث أصرم بن غياث قال البخاري: هو منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، «ولفظه وضأت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث فرأيته يخلل لحيته بأصابعه كأنها أنياب مشط.»
وحديث أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عند الطبراني في معجمه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا توضأ خلل لحيته.» ورواه العقيلي في " الضعفاء ".(1/224)
لأن السنة إكمال الفرض في محله والداخل ليس بمحل له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحديث جرير عند ابن عدي، وفيه: أصرم بن غياث، وهو متروك.
وحديث عبد الله بن عكبرة عند الطبراني في " الصغير " ولفظه: عن عبد الله بن عكبرة وله صحبة، «قال: " التخليل سنة» وفيه عبد الكريم وهو ضعيف، وحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الطبراني فيما تلقاه عن ابن مردويه وإسناده ضعيف ومنقطع.
م: (لأن السنة إكمال الفرض في محله) ش: لتخليل أصابع الرجلين والمضمضة والاستنشاق؛ لأن الفم والأنف من الوجه. ولا كذلك ما تحت اللحية لسقوط منبات اللحية. م: (والداخل) ش: أي في اللحية.
م: (ليس بمحل له) ش: أي للفرض بعدم وجوب إيصال الماء إليه بالاتفاق، واعترض بأن المضمضة والاستنشاق سنتان وداخل الفم ليس محل الفرض في الوضوء، وأجيب بأن الفم والأنف من الوجه في وجه إذ هما في حكم الخارج من الوجه، والوجه محل الفرض.
فإن قلت: الأمر يقتضي الوجوب فكان ينبغي أن يكون تخليل اللحية واجبا.
قلت: أمر الوضوء في الآية خاص بظاهر اللحية لا يحتمل الخفاء. فلو قلنا: بوجوب تخليل اللحية بهذا الأمر يلزم الزيادة في كتاب الله تعالى بخبر الواحد، وهي تجري مجرى النسخ، فلذلك انحطت درجة مقتضى الأمر من الوجوب إلى السنية، وكون تخليل اللحية سنة هو الصحيح للأحاديث المذكورة ولفعل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأخرج سعيد بن منصور عن الوليد عن سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا توضأ خلل أصابعه ولحيته، وكان أصحابه إذا توضئوا خللوا لحاهم» .
فإن قلت: قال أحمد: ليس في تخليل اللحية شيء صحيح. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لا يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تخليل اللحية [حديث] .
قلت: قد مر أن الترمذي صحح حديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وحديث عائشة المذكور إسناده حسن، وقال السروجي في شرحه: ذكر أصحابنا «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان إذا خلل لحيته الكريمة شبك أصابعه كأنها أسنان مشط» وليس لذلك كله ذكر في كتب الحديث، وإنما ذكر ابن ماجه والدارقطني عن ابن عمر: «وشك لحيته بأصابعه من تحتها» ولم يزد، وذكر الراوي(1/225)
وتخليل الأصابع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
«كأنها أسنان مشط» .
قلت: العجب من السروجي كيف غفل حديث جابر الذي أخرجه ابن عدي المذكور آنفا وكيف يقول: وليس لذلك كله ذكر في كتب الحديث، ولا يلزم من اطلاعه على ذلك أن يقول: وليس لذلك كله ذكر في كتب الحديث، ثم نسبه إلى أبي بكر الرازي بأنه قال: كأنها أسنان مشط، وأبو بكر الرازي لم يقل هذا من عنده.
[تخليل الأصابع في الوضوء]
م: (وتخليل الأصابع) ش: بالرفع عطف على ما قبله من المرفوعات، وأطلق الأصابع على أصابع اليدين والرجلين، وذكر في " التحفة " و " القنية " و " المنافع " أصابع اليدين والرجلين، وسكت أكثرهم عن ذكر أصابع اليدين لحصول وصول الماء إلى أصابعهما بغسل الوجه واليدين والرجلين، وتخليلهما يكون بالتشبيك بينهما.
وفي " الذخيرة " تخليل الأصابع إذا كانت مضمومة وهو يتوضأ من الإناء فرض، قال المرغيناني: بماء يتقاطر، قيل المراد وصول الماء إلى أثنائها لا نفس التخليل ولهذا قالوا: وإن توضأ في الماء الجاري أو الحوض، وأدخل رجليه في الماء يجزيه ترك التخليل. وإن كانت منضمة.
وفي " جوامع الفقه " للعتابي: تخليل أصابع الرجلين إذا كانت منضمة واجب، وفي شرح شيخ الإسلام أن تخليلها قبل الوصول إلى أثنائها فرض، وبعده سنة، وقال شمس الأئمة الحلواني: سنة مطلقة، ومن الناس من قال: تخليل أصابع الرجلين فرض، وهو واجب في اليدين عند مالك، وقال إسحاق وأحمد وكذا في الرجلين.
وقال مالك: لا يلزم في الرجلين ذكره في " العتبية " وإنما يجب عنده في الجنابة، وإن كانت أصابع يديه ورجليه متلاصقة ذلك كله فيها، ولا يلزم فعلها عنده وفي " العتبية " تخليل أصابع الرجلين مع وصول الماء إلى باطنها فيخلل بخنصر يده اليسرى فيبدأ بخنصر يده اليمنى ويختم بخنصر رجله اليسرى بذلك ورد الخبر، وكذا قال الرافعي الأحب في كيفية تخليل أصابع الرجلين أن يجعل خنصر اليد اليسرى من أسفل الأصابع، يبتدئ بخنصر أصابع الرجل اليمنى مختما بخنصر اليسرى، ورد الخبر بذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذه الكيفية لا أصل لها وإنما روى أبو داود والترمذي من حديث المستورد بن شداد، قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا توضأ يدلك أصابع يده بخنصره» فالحديث يقتضي البداية بالخنصر فقط.(1/226)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خللوا أصابعكم كي لا تتخللها نار جهنم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خللوا أصابعكم كي لا تتخللها نار جهنم» ش: ما ورد الحديث بهذا اللفظ، والذي ورد هو ما رواه الدارقطني في " سننه " عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خللوا أصابعكم لا يخللها الله بالنار يوم القيامة» ، وخرج نحوه من حديث عائشة، وفي الأول: يحيى بن ميمون الثمار، قال ابن أبي حاتم: قال عمرو بن علي كان يحيى كذابا، وله حديث عن يحيى بن علي حدث علي عن زيد بأحاديث موضوعة، وفي الثاني: عمر بن قيس، ولقبه مستدل، قال أحمد: متروك.
وأخرجه الطبراني من حديث وائل بن حجر عن النبي، قال: «من لم يخلل أصابعه بالماء خللها الله بالنار يوم القيامة» ، وفي باب لقيط بن صبرة عند الأربعة وقد مر. وحديث ابن عباس عند الترمذي قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك» وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
وحديث الربيع بنت معوذ عند الطبراني في " الأوسط " بإسناد ضعيف. وحديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الدارقطني: «أنه خلل أصابع قدميه ثلاثا، وقال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل(1/227)
ولأنه إكمال الفرض في محله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كما فعلت» وحديث عبد الله بن مسعود عند ابن أبي شيبة وعبد الرزاق موقوفا عن علي وابن مسعود، ولفظه: «لينهكن أحدكم أصابعه قبل أن تنهكه النار» ، ورواه زيد بن أبي الورقاء عن الثوري عن أبي مسكين عن هذيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود مرفوعا، قال أبو حاتم: رفعه منكر، وهو في جامع الثوري موقوفا.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن تخليل الأصابع م: (إكمال الفرض في محله) ش: أي في محل الفرض وقد قلنا: إن غسل اليدين والرجلين فرض، وتخليل أصابعهما إكمال الفرض فيكون سنة بمقتضى الأحاديث المذكورة.
فإن قلت: ينبغي أن يكون التخليل واجبا نظرا إلى الأمر كما قال مالك في اليدين، وأحمد وإسحاق في اليدين والرجلين مع كونهما مقرونين بالوعيد لتاركه. قلت: هذا لا يفيد الفرضية؛ لأنه من أخبار الآحاد ولا يفيد الوجوب؛ لأنه إنما يقتضي الوجوب إذا لم يمنعه مانع، ولم توجد قرينة صارفة عن ظاهره كخبر صدقة الفطر والأضحية وخبر الفاتحة، أما إذا وجد لا يمكن القول بالوجوب وهاهنا عارض هذا الأمر من تعليم الأعرابي الوضوء، ولم يعلمه التخليل، فلو كان واجبا لعلمه. هذا الذي ذكره أكثر الشراح، وفيه نظر؛ لأنه يحتمل أن الراوي طوى ذكر التخليل لكونه من المكملات، وقال صاحب " الدراية ": الأخبار التي حكي فيها وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير ذكر التخليل يحتمل على الندب أو السنة التي دون الوجوب عملا بالدليلين بقدر الإمكان، وتبعه على ذلك الأكمل، وهذا أيضا فيه نظر؛ لأن في حديث وائل بن حجر رواه البزار في مسنده قال: «شهدت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأتي بماء فأكفأ على يمينه ثلاثا ... الحديث، وفيه ثم غسل بيمينه قدمه اليمنى وفصل بين أصابعه وقال: خلل بين أصابعه» .
فإن قلت: الأمر المقرون بالوعيد على التارك يدل على الوجوب.
قلت: قال السغناقي: إنما لم يفد الوجوب؛ لأن آية الوضوء خاصة ليس بمحتملة للبيان؛ لأنه بين في نفسه فحينئذ تكون الزيادة عليه بطريق النسخ لا بطريق البيان، وخبر الواحد لا يصلح لذلك، وقال الأكمل: الوعيد مصروف بما إذا لم يصل الماء بين الأصابع وقد أخذ ذلك من السروجي، وقال الشيخ حافظ الدين النسفي: لا مدخل للوجوب في الوضوء؛ لأنه شرط الصلاة(1/228)
وتكرار الغسل إلى الثلاث؛ «لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - توضأ مرة مرة، وقال: " هذا وضوء لا يقبل الله تعالى الصلاة إلا به "، وتوضأ مرتين مرتين، وقال: " هذا وضوء من يضاعف الله له الأجر مرتين "، وتوضأ ثلاثا ثلاثا، وقال: " هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي فمن زاد على هذا أو نقص فقد تعدى وظلم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيكون تبعا لها، فلو قلنا بالوجوب هاهنا كما في الصلاة لقلنا بوجوب الفاتحة ليساوي الفرع الأصل، بخلاف النصين فيهما أي في الصلاة والوضوء للتفاوت هناك حيث يثبت التبع بثبوت الأصل، ويسقط بسقوطه ولا كذلك هاهنا.
[تكرار الغسل ثلاث مرات في الوضوء]
م: (تكرار الغسل إلى الثلاث) ش: بالرفع أيضا عطفا على ما قبله، أي تكرار غسل الأعضاء المفروض غسلها إلى ثلاث مرات، أراد أنه أيضا من سنن الوضوء. م: «لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - توضأ مرة مرة، وقال: هذا وضوء لا يقبل الله - تعالى - الصلاة إلا به، وتوضأ مرتين مرتين، وقال: هذا وضوء من يضاعف الله له الأجر مرتين، وتوضأ ثلاثا ثلاثا، وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي فمن زاد على هذا أو نقص فقد تعدى وظلم» ش: أقول هذا الحديث بهذا اللفظ ما روي، ولكنه مركب من حديثين، فقوله: «توضأ مرة مرة، وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به - إلى قوله - فمن زاد» حديث واحد أخرجه الدارقطني من حديث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نحوه غير أن في حديثه «ثم توضأ مرتين، ثم توضأ ثلاثا، وفيه " وضوء المرسلين قبلي» .
وأخرجه البيهقي في " سننه "، وقال: تفرد به المسيب بن واضح وهو ضعيف، وقال في " المعرفة ": المسيب بن واضح غير محتج به، وقد روي هذا الحديث من أوجه كلها ضعيفة، وقال عبد الحق في " أحكامه ": هذا الطريق من أحسن طرق هذا الحديث، ونقل عن ابن أبي حاتم أنه قال: المسيب صدوق لكنه يخطئ كثيرا.(1/229)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرجه ابن ماجه من طرق أخرى عن ابن عمر، ولفظه: «توضأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدة واحدة، فقال: هذا وضوء من لا يقبل الله منه صلاة إلا به، ثم توضأ ثنتين ثنتين، وقال: هذا وضوء القدر من الصلاة، وتوضأ ثلاثا وقال: هذا أسبغ الوضوء، وهو وضوئي ووضوء خليل الله إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» وفي رواته عبد الرحيم بن زيد العمي قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: هو متروك الحديث وأبوه زيد ضعيف الحديث، ولا يصح هذا الحديث عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وسئل أبو زرعة عن هذا الحديث، فقال: هو عندي حديث واه وفي إسناده معاوية بن قرة عن ابن عمر ومعاوية هذا لم يلحق ابن عمر.
ورواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه عن معاوية بن قرة عن أبيه عن جده فذكره، وزيد العمي وثقه الحسن بن سفيان، وقال أحمد: صالح، وإنما سمي العمي؛ لأنه كان إذا سئل قال: حتى أسأل عمي، وروى ابن ماجه أيضا من حديث أبي بن كعب «أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دعا بماء فتوضأ مرة مرة، وقال: " هذا وظيفة الوضوء، وقال: وضوء من لم يتوضأ لم يقبل الله له صلاة "، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: " هذا وضوء من يتوضأه أعطاه الله تعالى كفلين من الأجر "، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا وقال: " هذا وضوئي ووضوء المرسلين من قبلي» وفي رواية زيد بن أبي الحواري قال ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي: ضعيف، وقال أبو زرعة: واهي الحديث، وفيه أيضا عبد الله بن عوانة الشيباني، قال ابن معين: ليس بشيء، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به.
وروي عن أبي هريرة وزيد بن ثابت كلاهما أخرجه الدارقطني «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - توضأ مرة مرة، وقال: " هذا الذي لا يقبل الله العمل إلا به " وتوضأ مرتين مرتين، وقال: " هذا يضاعف الله به الأجر مرتين " وتوضأ ثلاثا ثلاثا، وقال: " هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي» وأما «حديث توضأ مرة مرة» فأخرجه الجماعة إلا مسلم من حديث ابن عباس، «وحديث توضأ مرتين مرتين» أخرجه البخاري من حديث زيد بن عاصم، وحديث توضأ ثلاثا ثلاثا أخرجه البخاري ومسلم من حديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(1/230)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقوله: " فمن زاد على هذا " إلى آخره، حديث آخر ركبه المصنف مع الأول، وأخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رجلا أتى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال يا رسول الله كيف الطهر الحديث وفي آخره هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء وفي لفظ لابن ماجه تعدى وظلم وللنسائي فقد أساء» ، وقال تقي الدين في " الإمام ": الحديث صحيح عند من يصحح حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بصحة الإسناد إلى عمرو، قال أبو بكر بن العربي: عمرو بن شعيب ضعيف.
وثبت في " الصحيحين " أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إن أمتي يأتون غرا محجلين يوم القيامة من آثار الوضوء» ، وقال أبو محمد الأصيلي: هذا الثابت يدل على أن هذه الأمة مخصوصة بالوضوء من بين سائر الأمم، فلا يثبت ما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - توضأ ثلاثا ثلاثا، فقال: " هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي» وهو حديث لا يصح.
قلت: ما لعمرو بن شعيب، وقد روى عنه أيوب السختياني، وثابت البناني، والأوزاعي، وابن جريج، وعطاء بن أبي رباح، وهو أكبر منه، وقتادة بن دعامة، ومحمد بن إسحاق، و [ ... ] ومكحول الشامي، والإمام أبو حنيفة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وآخرون. وقال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وأبا عبيدة، وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ما تركه أحد من المسلمين. قال البخاري: بمن الناس بعدهم؟
وقول الأصيلي هذا الحديث الثابت إلى آخره غير مسلم؛ لأنه لا يلزم من كون الغرة والتحجيل لهذه الأمة أن لا يكون الوضوء موجودا في غيرهم، ولكن تكون الغرة والتحجيل لهذه الأمة خاصة بشرفهم، وفضلهم على غيرهم، ولا يحسن أن نقول إن الأمم السابقة المسلمين كانوا يصلون بلا وضوء.
وقوله: «فقد تعدى وظلم» له تأويلات سبعة:
الأول: تعدي وأساء في الأدب بترك السنة، والتأدب بآداب الشرع، وظلم نفسه بما نقصها من الثواب بترداد المرات في الوضوء.
الثاني: زاد على أعضاء الوضوء أو نقص عنها.(1/231)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثالث: زاد على المحدود أو نقص عنه.
الرابع: زاد على الثلاث يفيد أن كمال السنة لا يحصل إلا بالثلاث، أما لو زاد على الثلاث لطمأنينة القلب عند الشك أو نية وضوء آخر فلا بأس به، لحديث ابن عمر أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقول: «من توضأ على وضوئه كتب الله له عشر حسنات» رواه أبو داود، وابن ماجه، والبيهقي، والترمذي وضعفه هو وغيره؛ لأنه من رواية عبد الرحمن بن زياد، قلت: روي عن إسحاق بن راهويه أنه قال: سمعت يحيى القطان يقول: عبد الرحمن بن زياد ثقة، وعن يحيى: ليس به بأس، وقال أبو داود: قلت لأحمد بن صالح: أويحتج بحديث الأفريقي؟ قال: نعم، قلت: صحيح الكتابة؟ قال: نعم، وكان أحمد بن [......] ينكر على من يتكلم فيه، قال: من تكلم في ابن أنعم فليس بمقبول، ابن أنعم من الثقات، وأنعم جد عبد الرحمن هذا.
فإن قلت: جاء «الوضوء على الوضوء نور على نور» .
قلت: هذا مشهور في كتب الفقه لم يذكر في كتب الحديث المشهور المعتبرة.
الخامس: قيل: فمن زاد على المد في الوضوء، وعلى الصاع في الغسل أو نقص عن ذلك فقد تعدى وظلم لحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد» رواه البخاري ومسلم.
السادس: فمن زاد على الصلوات الخمس والوتر أو نقص عنها. وهو بعيد جدا.
السابع: ما ذكر من المشايخ أنه محمول على نفس الفعل وإن لم يكن ثم اعتقاد أن الزيادة على الثلاث لا يقع طهارة ولا يصير الماء به مستعملا إذا قصد به تجديد الوضوء.
فإن قلت: ذكر في الجامع أن ماء الرابعة في غسل الثوب النجس الطهور، وفي العضو النجس مستعملا يقتضي ما ذكره سنة تقع طهارة ويصير الماء به مستعملا.
قلت: ما ذكر هناك محمول على ما إذا نوى به القربة، والدليل عليه أنه قال في " العتابي ": وماء الرابعة مستعمل في العضو النجس؛ لأن الظاهر هو القربة حتى يقوم الدليل بخلافه، وفي " شرح النظم " للنسفي؛ لأن وجد فيه معنى القربة؛ لأن الوضوء على الوضوء نور على نور، فلهذا صار الماء به مستعملا.
وذكر في " المحيط " والأسبيجابي أن ماء الرابعة لا يصير مستعملا إلا بالنية وفي " الدراية " قوله: تعدى، يرجع إلى الزيادة؛ لأنه مجاوزة الحد، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229](1/232)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(البقرة: الآية 229) والظلم يرجع إلى النقصان، قال الله تعالى: {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] (الكهف: الآية 33) ، أي: لم ينقص، وأخذ الأكمل منه، وبه فسر السغناقي.
وقال البخاري: كره أهل العلم الإسراف فيه، وإن لم يجاوز فعل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: هذا من البخاري إشارة إلى نقل الإجماع على منع الزيادة عليها، وقد قال الشافعي في الأم: لا أحب الزيادة عليها فإن زاد لم أكره إن شاء الله تعالى، وذكر أصحابه ثلاثة أوجه:
أصحها: أن الزيادة عليه مكروهة كراهة تنزيه، وثانيها: أنها حرام، وثالثها: أنها خلاف الأولى، وأبعد من قال: إذا زاد على الثلاث بطل وضوءه، حكاه الدبري في " استذكاره " وهو خطأ.
فإن قلت: ما حكم الثلاث. قلت: الأولى: فرض، والثانية: سنة، والثالثة: إكمال السنة وهي المذهب، وقيل: الثانية سنة، والثالثة: نفل، وقيل: بالعكس وعن أبي بكر الإسكاف الثلاث فرض، ذكره في " مختصر المحيط "، ولو توضأ مرة مرة لقوة البرد أو لقلة الماء أو لضرورة لا يكره ولا يأثم وإلا فيأثم، وقيل: إن اعتاد يأثم وإلا فلا.
فإن قلت: كيف يكون النفل عن الثلاثة إثما وظلما، وقد ثبت «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - توضأ مرة مرة وتوضأ مرتين مرتين» . قلت: ذلك لبيان الجواز وكان ذلك الحال أفضل؛ لأن البين واجب عليه. فإن قلت: مقتضى التأويل أن من غسل ما فوق المرفق والكعب يكون مسيئا وظالما، وجاء في تلك الإطالة الغرة والتحجيل الثابتة في الصحيح، وكان أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يمر يده حتى يبلغ الإبط، فقيل له: ما هذه الوضوء، «فقال: سمعت خليلي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: " يبلغ الحلي من المؤمن حيث يبلغ الوضوء، رواه مسلم، والبخاري» رواه بمعناه. قلت: تحصيل الجواب لما ذكرنا من التأويلات في قوله: فقد تعدى وظلم، وقال ابن بطال: هذا الذي قال أبو هريرة ما لم يبالغ عليه المسلمون مجمعون على أن الوضوء لا يتعدى به ما حد الله ورسوله، ولم يتجاوز فعل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قط مواضع الوضوء.
قلت: هذا ترك الأدب في حق الصحابي، وهو لم يفعل ما فعل من تلقاء نفسه بل أخذه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ودعوى الإجماع لا يقبل مع خلاف أبي هريرة والشافعي وأصحابه، بل قالوا باستحباب غسل ما فوق المرفقين والكعبين لا خلاف فيه بين أصحابه، ذكر النووي حتى لو قطعت اليد من محل الفرض كالمنكب يستحب أن يمسح موضع القطع بلا خلاف، نص عليه(1/233)
والوعيد لعدم رؤيته سنة
قال: ويستحب للمتوضئ أن ينوي الطهارة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشافعي في " الأم "، واختلفوا في تعليله، فقال الجماعة: حتى لا يخلو العضو من طهارة.
وقال الغزالي، والبغوي، وآخرون: يستحب ذلك إطالة للغرة والتحجيل؛ لأن الغرة إنما هي في الوجه، والذي في اليد التحجيل، وأورد عليهم بأن غسل ما فوق المرفق كان تبعا للذراع، وقد زال المتبوع فينبغي أن لا يشرع التابع، كما لا يقضي السنن إذا سقط قضاء الفرائض بحيض أو جنون، وأجابوا عنه بأن سقوط القضاء عن المجنون والحائض وخصه مع إمكانه فإذا سقط الأصل مع إمكانه فالتابع أولى.
وأما سقوط غسل الذراع فلتعذره، والعذر مختص بالذراع، فيبقى العضد على ما كان في الاستحباب، وصار كالمحرم الذي لا شعر على حلق رأسه فيستحب إمرار الموسى على رأسه.
م: (والوعيد لعدم رؤيته سنة) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: إن الشارع رتب على الزيادة والنقصان وعيد مقتضاه الإطلاق، وتقدير الجواب بأن الوعيد بعدم رؤيته الثلاث سنة، والحديث ليس على ظاهره، وأشار بذلك إلى أنه اختار من تأويلات هذا الحديث التأول الذي قيل: إنه إذا زاد عل الثلاث معتقدا أن كمال السنة لا يحصل بالثلاث.
وأما إذا أراد طمأنينة القلب عند الشك أو بنيته وضوء آخر فلا بأس به ولا يدخل تحت الوعيد، ومن العجائب من دعاوى الأترازي في " شرحه " أنه نسب هذا الحديث أعني الذي فيه " فمن زاد على هذا " إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب وليس كذلك فإنه روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص كما ذكرنا، وأعجب منه أنه قال: كذا ذكره الخصاف في " شرح مختصر الطحاوي "، وسكت على ذلك من غير أن يبين من أخرجه من أئمة الحديث.
[النية في الوضوء]
م: (ويستحب للمتوضئ أن ينوي الطهارة) ش: النية بكسر النون وتشديد الياء وقد تخفف: إرادة استباحة الصلاة بوضوئه أو قصد عبادته لا تستغني عن الطهارة أو قصد امتثال الأمر كذا قال فخر الإسلام، وقيل: أن ينوي إزالة الحدث أو استباحة الصلاة والمستحب ما يثاب على فعله ولا يلام على تركه.
فإن قلت: قال المصنف: وتستحب النية في الوضوء، ثم قال: فالنية في الوضوء سنة عندنا، وهذا ما وجهه. قلت: قال الأترازي وتبعه الأكمل إنما قال سنة بعد أن قال: ويستحب لأن الاستحباب على ما اختاره القدوري فرواه بلفظه ثم ذكر ما هو المختار عنده. قلت: له وجه آخر عندي: وهو أنه ذكر استحباب النية في الطهارة، والطهارة أعم من الوضوء فالمتوضئ إذا أراد أن(1/234)
فالنية في الوضوء سنة عندنا، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فرض؛ لأنه عبادة فلا يصح بدون النية كالتيمم، ولنا أنه لا يقع عبادة إلا بالنية ولكنه يقع مفتاحا للصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يطهر ثوبه أو بدنه أو المكان الذي يصلي من النجاسة يستحب له أن ينوي لعموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الأعمال بالنيات» وهذا عمل أيضا مطلوب مرغوب فيه، فإذا نوى تطهير هذه الأشياء يحصل له الثواب فيكون مستحبا، وإذا لم ينو لا يضره ذلك؛ لأن تارك المستحب لا يلام، وأما ذكره بلفظ النية في الوضوء فلنصب الخلاف بيننا وبين الشافعي بأن النية عنده وجماعة آخرين فرض فأقل الأمر أن يذكر في مقابلة لفظ السنة.
م: (فالنية في الوضوء سنة عندنا) ش: الفاء هنا للعطف ولكنها تعد الترتيب المتقارب من بعض الوجوه كما يقال: خذ الأكمل فالأفضل واعمل الأحسن فالأجمل، وفائدة كون النية سنة في الوضوء عندنا أنه إذا نسي المسح فأصابه المطر أو أجرى الماء أو قطر على أعضاء وضوئه أو علم الوضوء إنسانا أو توضأ متبردا فعندنا يجوز، وبه قال الثوري والأوزاعي، والحسن بن حي نظر ومالك في رواية.
م: (وعند الشافعي فرض) ش: وبه قال الزهري، وربيعة، ومالك، والليث بن سعد، وإسحاق، وأحمد، وأبو ثور، وأبو عبيد، وداود م: (لأنه) ش: أي لأن الوضوء م: (عبادة فلا يصح بدون النية) ش: لأن العبادة فعل يأتي به المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيما لأمر ربه، والوضوء بهذه المثابة، وكل ما هو عبادة لا يصح بدون النية لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] (البينة: الآية 5) ، والإخلاص لا يحصل إلا بالنية، وقد جعله حالا للعابدين والأحوال شروط فتكون كل عبادة مشروطة بالنية.
م: (كالتيمم) ش: أي كما أن النية شرط في التيمم، وقاسه على ذلك في كونهما طهارتين للصلاة فلا يفترقان م: (ولنا أنه) ش: أي لا، الوضوء م: (لا يقع عبادة إلا بالنية) ش: هذا قول بموجب العلة، معناه سلمنا أن الوضوء لا يقع عبادة إلا بالنية م: (ولكنه) ش: أي ولكن الوضوء (يقع مفتاحا للصلاة) ش: معنى هذا الاستدراك أنه ليس كلامنا في أن الوضوء لا يكون عبادة إلا بالنية، وإنما كلامنا في استعمال الماء المطهر في أعضاء الوضوء، هل يوجب الطهارة بدون النية حتى يكون مفتاحا للصلاة أو لا، ولا مدخل لكونه عبادة في ذلك، ويفسد ذلك بدونها؛ لأن أعضاء الوضوء محكوم بنجاستها في حق الصلاة، ضرورة الأمر بتطهيرها، والماء طهور بطبعه فإذا لاقى النجس طهره، قصد المستعمل من ذلك كالثوب النجس؛ ولأن المطهر لا يعرف كونه مطهرا على قصد(1/235)
لوقوعه طهارة باستعمال المطهر بخلاف التيمم؛ لأن التراب غير مطهر إلا في حال إرادة الصلاة أو هو ينبئ عن القصد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العبادة، والشيء إذا خلق على أي طبع فوجد ذلك الطبع فيه سواء وجدت النية فيه أو لم توجد، كالنار طبعها الإحراق إذا وجدت محلا قابلا للإحراق، وكذا الماء يطهر بلا نية؛ لأن طبعه مطهر، والتحقيق في هذا المقام أن الوضوء جعل شرطا للصلاة بوصف كونه طهارة لا بوصف كونه قربة، وهذا؛ لأن الشارع سمى الماء طهورا، وهو ما يحصل به الطهارة فاستعماله في محل قابل يحصل الطهارة قصد أو لم يقصد كما أن الماء يروي خلقة فاستعماله يحصل الري قصد أو لم يقصد م: (لوقوعها) ش: أي لوقوع الطهارة.
م: (طهارة باستعمال المطهر) ش: وهو الماء الذي قال الله فيه: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] (الفرقان: الآية 48) .
فإن قلت: إذا سلمتم للخصم أن الوضوء لا يقع عبادة إلا بالنية فتكون النية شرطا فيه فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط.
قلت: نعم عبادة، ولكنها غير مستقلة؛ لأنها وسيلة إلى غيرها فهذا الاعتبار مستغنى عن النية على أن بعضهم قالوا: الوضوء غير عباده، ولهذا لا يصح النظر به وعدم النية تمنع العبادة ولا تمنع الطهارة.
م: (بخلاف التيمم) ش: أشار به إلى أن قياس الشافعي الوضوء على التيمم في كونهما طهارة فلا يفترقان قياسا بالفارق، وذا لا يجوز بين ذلك بوجهين:
أحدهما: قوله م: (لأن التراب غير مطهر) ش: يعني لم يعقل مطهرا؛ لأنه في ذاته ملوث ومغير فلا يكون مطهرا م: (إلا في حالة إرادة الصلاة) ش: فتكون طهارته بدلا عن الوضوء؛ لأنه بطبعه وحقيقته مطهر بخلاف الماء.
والوجه الثاني: هو قوله: (أو هو) ش: أو التيمم م: (ينبئ عن القصد) ش: يقال تيمم إذا قصد، قال الله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] (البقرة: الآية 267) أي: لا تقصدوه، وفي لفظه ما يدل اشتراط النية، فلم يكن فيه إلا معنى النية. فإن قيل في الوضوء مسح والمسح لم يعقل مطهرا طبعا فيحتاج إلى النية، أجيب بأن مسح الرأس ملحق بالغسل لقيامه وانتقاله إليه بضرب من هذا الجرح، وهذا في " شرح الأكمل " نقله من كلام السغناقي ولو نظر في قوله لأنه ينبئ عن القصد لغة، والقصد الذي هو النية إنما هو قصد خاص وهو قصد إباحة الصلاة والأعم لا دلالة له على الأخص؛ لأن الأول: مدلول اللفظ، والثاني: فعل القلب، ولا دلالة لأحدهما على الآخر. قلت: القصد لغة مطلق، والقصد الذي هو إباحة الصلاة مقيد، ويلزم من وجود المقيد(1/236)
ويستوعب رأسه بالمسح وهو السنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجود المطلق والقصد فعل القلب فافهم.
[استيعاب الرأس في الوضوء]
م: (ويستوعب رأسه بالمسح) ش: بنصب الباء أي يستحب أن يستوعب رأسه عطفا على قوله: " أن ينوي الطهارة "، والتقدير يستحب نية الطهارة، فاستيعاب الرأس أي شموله بالمسح، وهو على اختيار القدوري، وعلى اختياره سنة، أشار إليه بقوله: م: (وهو سنة) ش: أي استيعاب الرأس بالمسح سنة، ذكرها في " المحيط " و " البدائع " و " التحفة " و" القنية "و " المفيد " و " شرح المبسوط "، وهو صحيح. وأشار بقوله: وهو سنة إلى الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال: شهدت عمرو بن أبي حسين سأل عبد الله بن زيد عن وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر الحديث، وفيه «ثم أدخل يده يعني في التور فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة» .
ورواه الأربعة أيضا فأبو داود عن عبد الله بن سلمة عن مالك، والترمذي عن إسحاق بن موسى عن معن بن عيسى، والنسائي عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين كلاهما عن ابن القاسم عن مالك، وابن ماجه عن الربيع بن سليمان وحرملة بن يحيى كلاهما عن الشافعي عن مالك.
وأخرجه محمد بن الحسن في " موطئه " عن مالك، وقال: أخبرنا مالك بن أنس قال: أخبرنا عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسين المدني عن أبيه، ويحيى أنه سمع جده أبا حسين سأل عبد الله بن زيد بن عاصم، وكان من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قال: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ؟ قال عبد الله بن زيد بن عاصم: نعم، فدعا بوضوء فأفرغ على يديه فغسل يديه مرتين، ثم تمضمض ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ثم مسح من مقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه» قال محمد: هذا حسن، والوضوء ثلاثا ثلاثا أفضل الوضوء، والاثنان مجزئان والواحدة إذا أسبغت تجزئ أيضا، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
والكيفية المذكورة في هذا الحديث هي المشهورة، وبه استدل أصحابنا على أن السنة البداءة من مقدم الرأس، قال الحسن البصرى: السنة البداءة من الهامة يضع يديه عليها، ويمر بهما إلى مقدم الرأس ثم يعيدهما إلى القفا، وهكذا روى هشام عن محمد، والصحيح قول العامة للحديث المذكور، وفي " المحيط ": ويستحب فيه أن يضع من كل واحدة من يديه ثلاث أصابع عن مقدم رأسه، سوى الإبهام والسبابة، ويجافي بين كفيه، ويمرهما إلى القفا ثم يضع كفيه على مؤخر(1/237)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رأسه ويمرهما إلى مقدمه، ثم يمسح ظاهر كل أذن بكل إبهام وباطنه بمسبحة.
وفي الينابيع: والمسح أن يضع الخنصر والبنصر بكسر أولهما والصاد بينهما من كل يد على مقدم الرأس من منبت الشعر ويمررهما إلى نصف رأسه ثم يرفعهما، ويضع الوسطيين في وسط رأسه، ويمرهما إلى منبت الشعر من قفاه، ثم يعيدهما إلى وسط رأسه، ثم يضع الخنصر والبنصر في وسط رأسه ويمرهما إلى مقدم رأسه، ثم يمرهما إلى وسط رأسه، ثم يمرهما إلى قفاه، ثم يدخل السبابة في أذنه ويديرها في زواياها ويدير إبهامه من زوياها.
وفي " الدراية ": وكيفية الاستيعاب أن يبل كفه، وأصابع يديه ويضع بطون ثلاث من كل كف على مقدم الرأس، ويعزل السبابتين والإبهامتين. ويجافي الكفين ويمررهما إلى مؤخر الرأس ثم يمسح الفردين بالكفين ويمرهما إلى مقدم الرأس ويمسح ظاهر الأذنين بباطن الإبهامين وباطن الأذنين بباطن السبابتين ويمسح رقبته بظاهر اليدين، حتى يصير ماسحا ببلل لم يصر مستعملا، هكذا روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مسح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهكذا المنقول عن السلف وعن أبي حنيفة ومحمد أنه يبدأ من أعلى رأسه إلى جنبيه ثم إلى قفاه عكسه كذا في " مبسوط شيخ الإسلام ".
قلت: حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجه النسائي، «أنها وصفت وضوءه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ووضعت يديها في مقدم رأسها ومسحت إلى مؤخره، ثم مرت يديها بأذنيها، ثم مرت على خدين» قالوا: الذي ذكره صاحب " الدراية " ونسبه إلى عائشة، لم يذكره أحد من أئمة الحديث على الوجه المذكور ولا عن غير عائشة من الصحابة الذين وصفوا وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأخرج أبو داود عن محمد بن حسين، وقد ورد من حديث طلحة بن مصرف، وفيه «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح رأسه مرة واحدة حتى يبلغ القذال، وهو أول القفاء، وقال مرة: وقد مسح رأسه من مقدمه إلى مؤخره حتى يخرج يديه من تحت أذنيه، وأخرجه الطحاوي، ولفظه: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح مقدم رأسه حتى بلغ القذال من مقدم عنقه» .
وأخرج النسائي حديث عبد الله بن زيد وفيه «ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بهما إلى مؤخر رأسه ثم جره إلى قفاه ثم جره إلى مؤخره، وعند أبي داود وبدأ بالمؤخر ثم بمقدمه وبأذنيه كليهما، وفي لفظ مسح الرأس كله من قرن الشعر كل ناصيته لمنبت الشعر لا يحول الشعر عن هيئته، وفي لفظ: مسح رأسه وما أقبل وما أدبر وصدغيه» .
وأخرجه البزار من حديث أبي بكرة وفيه «مسح برأسه وما أقبل يقبل بيديه من مقدمه إلى(1/238)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: السنة التثليث بمياه مختلفة اعتبارا بالمغسول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مؤخره، ومن مؤخره إلى مقدمه» وأخرج ابن قانع من حديث أبي هريرة وفيه «ووضع يديه على النصف من رأسه ثم جرهما إلى مقدم رأسه ثم أعادهما إلى المكان الذي بدأ منه، وجرهما إلى صدغيه.» وأخرج أبو داود أيضا من حديث أنس، وفيه: «فأدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه» وأخرج ابن السكن عنه ولفظه: «فمسح باطن لحيته وقفاه.»
وأخرجه البيهقي والبغوي وابن أبي خيثمة وفيه: مسح رأسه إلى سافله، فهذا أوجه كثيرة يختار المتوضئ أيها شاء، واختار بعض أصحابنا رواية عبد الله بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وذكر السغناقي في كيفية المسح كلاما نقله عن الدراية ثم قال: كذا أعلمنا عين الأعيان الأستاذ المتفنن مولانا فخر الدين المايرمعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أن الرواية منصوصة في " المبسوط " على أن الماء لا يعطى له حكم الماء المستعمل حال الاستعمال.
قال الأترازي: إن في المسنون يستوعب الحكم جميع الرأس كما في المغسولات، فكما أن في المغسولات الماء في العضو لا يصير مستعملا فكذلك في حكم إقامة السنة في المسموح، ولكن يجب أن يستعمل فيه ثلاث أصابع اليد في الاستيعاب؛ ليقوم الأكثر مقام الكل، حتى إنه لو مسح بإصبعه بجوانبها الأربعة لا يجوز في الأصح؛ لعدم استعمال أكثر الأصابع، فانظر هل ترى أحدا من الشراح، وهم أئمة كبار، أقام من الحديث شيئا مما ذكره من الصور المذكورة في كيفية مسح الرأس بالاستيعاب.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: السنة التثليث بمياه مختلفة اعتبارا بالمغسول) ش: لا خلاف بيننا وبين الشافعي في سنية استيعاب الرأس بالمسح وإنما الخلاف في تثليث المسح، فعنده السنة في التثليث بمياه مختلفة نص عليه في كتبه، وقطع به جماعة من جماهير أصحابه، حكي هذا عن الشافعي، ولكن حكى الرافعي وجها لأصحابنا أنه يسن مرة واحدة، وهو مذهب أكثر العلماء، وحكى الترمذي عنه أنه يمسح مرة كقولنا، قال النووي: لا أعلم أحدا من أصحابنا حكى هذا عن الشافعي، لكن حكى الرافعي وجها لأصحابنا أنه مسح مرة واحدة وهو مذهب أكثر العلماء، وقال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن بعدهم.
وقال ابن عدي: كل الرواة قالوا: مسح الرأس مرة واحدة، وقال ابن المنذر: وممن قال به عبد الله بن عمر، وطلحة بن مصرف، والحاكم، وحماد، والنخعي، ومجاهد، وسالم بن عبد الله بن عمر، والحسن البصري، وأحمد، ومالك، وسفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، واختاره ابن المنذر، ومذهب الشافعي حكاه ابن المنذر عن أنس بن مالك، وسعيد بن جبير، وعطاء، وهو رواية عن أحمد، وداود، وقال ابن سيرين إنه يمسح مرتين، واحتج بحديث الربيع(1/239)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بنت معوذ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح برأسه مرتين» وعن عبد الله بن زيد مثله، وقال أبو عبيد القاسم ابن سلام: لا نعلم أحدا من السلف جاء عنه استكمال الثلاثة في مسح الرأس إلا عن إبراهيم التيمي.
قلت: ذكرنا الآن عن الجماعة الذين ذكرهم ابن المنذر، ومن الغرائب أن الشيخ أبا حامد الاسفراييني حكى بعضهم أنه أوجب الثلاثة وحكاه صاحب " الإبانة " عن ابن أبي ليلى ثم إن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - احتج للشافعي من جهة القياس ولم يحتج له بشيء من الحديث، واحتج له بعض أصحابه بحديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - توضأ ثلاثا ثلاثا» ورواه مسلم ووجه الدلالة منه أن قوله توضأ يشتمل الغسل والمسح، وحديث عثمان أيضا أنه «توضأ، ومسح رأسه ثلاثا، وقال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ هكذا» رواه أبو داود بإسناد حسن ذكره النووي، وقال أيضا ابن الصلاح: حديث حسن. وحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه توضأ فمسح رأسه ثلاثا ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل» ورواه البيهقي وقال: أحسن ما روى عن علي ابنه الحسين بن علي فذكره بإسناده وذكر مسح الرأس ثلاثا، «وهكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ» وإسناده حسن.
وأما الذي احتج به المصنف بقوله: اعتبارا بالمغسول فأراد أن المسح ركن من الوضوء فكان التثليث فيه سنة كغسل الوجه واليدين والرجلين، وأيضا الرأس أحد أعضاء الوضوء والمسح أحد قسمي الوضوء فيسن تثليثه كالغسل. قلنا: هذا القياس ضعيف؛ لأن المسموح ليس من جنس المغسول، وكان من الواجب عليه أن يقيس الممسوح على الممسوح بأن يقول: لا يصلح تكرارا إنما شرع بحكم مرة كمسح الخف والجبيرة والتيمم، وهذا مسح فلا يكرر هو الذي قاله الأترازي، وقال صاحب " المفيد " والمزيد: هذا فاسد الوضع؛ لأن المسح مبناه على التوسعة، والتخفيف بخلاف الغسل وإلحاق ما مبناه على التيسير بما مبناه على التعسير فاسد في الوضع، واعتبار المسح بالمسح وجه كمسح الخف والجبيرة، وفي " البدائع " التعسير في الغسل يفيد زيادة النظافة وبزيادة(1/240)
ولنا «أن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - توضأ ثلاثا ثلاثا ومسح برأسه مرة واحدة، وقال: هذا وضوء رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تكرار المسح لا يحصل زيادة نظافة؛ ولأن تكراره يقربه إلى السيلان فكان مخلا باسم المسح والسنة الإكمال لا الإخلال، وجواب المصنف عن ذلك يأتي عن قريب مع الجواب عن أحاديثه.
فإن قلت: اعتبارا منصوب بماذا. قلت: هو مصدر منصوب بفعل محذوف تقديره اعتبر الشافعي اعتبارا بالمغسول، ويجوز أن يكون اعتبارا بمعنى معتبرا على صيغة المفعول، ويكون نصب على الحال من التثليث.
م: (ولنا «أن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - توضأ ثلاثا ثلاثا ومسح برأسه مرة واحدة، وقال: هذا وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ش: هذا الحديث الذي نسبه إلى أنس غريب، والعجب من المصنف ذكر هذا، ولم يذكر ما «روي في " الصحيحين " من رواية عبد الله بن زيد أنه مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة» وحديث آخر أخرجه الأربعة عن سعيد بن جبير عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه أتي بإناء فيه ماء وطست.. الحديث، وفيه ماء فمسح برأسه مرة واحدة، وقال في آخره: من سره أن يعلم وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فهو هذا» .
ورواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ ثلاثا ثلاثا إلا المسح فإنه مرة مرة» وحديث آخر أخرجه أبو داود عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أنه رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ.. الحديث، وفيه مسح برأسه وأذنيه مرة واحدة.»
وحديث آخر أخرجه الدارقطني في مسنده عن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «وفيه مسح برأسه مرة واحدة، وقال في آخره: هكذا رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ وكنت على وضوئه، ولكن أحببت أن أريكم كيف توضأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وقال أبو داود: وأحاديث عثمان الصحاح كلها تدل(1/241)
والذي يروى من التثليث محمول عليه بماء واحد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على أن مسح الرأس مرة واحدة.
فإن قلت: روى أبو داود، والبزار، والدارقطني من طريق أبي سلمة عن حمران عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ فمسح رأسه ثلاثا» .
قلت: فيه عبد الرحمن بن وردان، وفيه مقال، وأخرجه البزار أيضا من طريق عبد الكريم بن حمران وإسناده ضعيف، ورواه أيضا من حديث أبي علقمة مولى ابن عباس عن عثمان وفيه ضعف، ورواه أيضا أبو داود، وابن خزيمة والدارقطني من حديث ابن دارة عن عثمان، وابن دارة مجهول الحديث. ورواه البيهقي من حديث عطاء بن أبي رباح عن عثمان، وفيه انقطاع ورواه الدارقطني أيضا من طريق السلماني عن أبيه عن عثمان والسلماني ضعيف جدا وأبوه ضعيف أيضا، وقال البيهقي: روي من أوجه غريبة عن عثمان وفيها: «مسح الرأس ثلاثا» إلا أنها مع خلاف الحفاظ الثقات ليست بحجة عند أهل المعرفة، وإن كان بعض أصحابنا احتج بها.
فإن قلت: روى أبو داود والدارقطني في " سننه " عن محمد بن محمود الواسطي عن شبيب عن أيوب عن أبي يحيى الحمال عن أبي حنيفة عن خالد بن علقمة عن عبد خير عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه توضأ.. الحديث، وفيه أنه مسح رأسه ثلاثا» ثم قال: هكذا رواه أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن علقمة بن خالد، وخالفه جماعة من الحفاظ الثقات فرووه عن خالد بن علقمة، وقالوا فيه: مسح رأسه مرة واحدة، ومع خلافه إياهم قال: إن السنة في مسح الرأس مرة واحدة.
قلت: الزيادة من الثقة مقبولة ولاسيما مثل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأما قوله: فقد خالف حكم المسح.. غير صحيح؛ لأن تكرار المسح مسنون عند أبي حنيفة أيضا، إذا كان بماء واحد على ما يذكره المصنف عن قريب.
م: (والذي يروى من التثليث محمول عليه بماء واحد) ش: هذا جواب عن الأحاديث التي فيها(1/242)
وهو مشروع على ما روى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولأن المفروض هو المسح، وبالتكرار يصير غسلا فلا يكون مسنونا فصار كمسح الخف بخلاف الغسل؛ لأنه لا يضره التكرار،
ويرتب الوضوء فيبدأ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تثليث المسح التي احتج بها الشافعي، وتقريره أن يقال: الذي يروى من التثليث على تقدير ثبوته محمول عليه أي على التثليث بماء واحد؛ لأن ذلك يقتضي العدد دون تكرار أخذ الماء، قال تاج الشريعة: قوله والذي يروى فيه من التثليث هو ما روي عن عبد الله بن أبي أوفى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ ومسح برأسه ثلاثا» .
قلت: الذي يروى عن عبد الله بن أبي أوفى المذكور الذي فيه تثليث الغسل المسح هو وحده حتى خصه به، وقد روي ذلك عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ومع هذا من أخرج حديث عبد الله بن أبي أوفى من أئمة الحديث. م: (وهو) ش: أي التثليث (مشروع على ما روى الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: وروى الحسن في " المجرد " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا مسح ثلاثا بماء واحد كان مسنونا، فإن قيل: قد صار البلل مستعملا بالمرة الأولى فكيف في إمراره ثانيا، وثالثا، أجيب بأنه يأخذ حكما واحدا، والصحيح أنه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصير مستعملا لإقامة فرض آخر لا لإقامة السنة؛ لأنها تبع للفرض، ألا ترى أن الاستيعاب يسن بماء واحد، والصحيح عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ترك التثليث. فإن قيل: روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - توضأ ثلاثا ثلاثا فكان ماسحا رأسه ثلاثا» قيل له: ثبت ذلك بمقتضى قوله: ثلاثا، وقد مر أن التثليث ليس سنة بصريح قوله أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح رأسه مرة واحدة، فالصريح أقوى.
م: (ولأن المفروض) ش: دليل آخر أي في الوضوء م: (هو المسح) ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] م: (وبالتكرار) ش: أي بالتكرار للمسح م: (يصير) ش: أي المسح م: (غسلا) ش: لأن المسح مجرد الإصابة م: (فلا يصير مسنونا) ش: مسحه للقدمين يخرج عن كونه سنة؛ لأنه يصير غسلا والغسل خلاف المسح م: (فصار كمسح الخف) ش: أي فصار مسح الرأس كالمسح على الخف، وتحقيقه أن يقال: مسح الرأس مسح في الوضوء، وكل ما هو مسح في الوضوء لا يسن تثليثه كمسح الخف، والمسح على الجبيرة م: (بخلاف الغسل؛ لأنه لا يضره التكرار) ش: هذا متصل بقوله " وبالتكرار يصير غاسلا "، ومعناه: أن المسح يفسده التكرار بخلاف الغسل فإنه لا يفسده بل يزيده نظافة وتنقية فكان قياس الشافعي الممسوح على المغسول فاسدا.
[ترتيب أعضاء الوضوء]
م: (ويرتب الوضوء) ش: بنصب الباء عطف على قوله: " ويستوعب " قاله الأكمل، وقال الأترازي: عطف على قوله أن ينوي فعلى قوله يكون الترتيب مستحبا، والمنصوص في " المبسوط " أن الترتيب سنة، وكذا عند المصنف على ما يجيء الآن، م: (فيبدأ) ش: الفاء فيه تفسيرية؛ لأنه يفسر الترتيب، ويجوز فيه النصب والرفع، فالنصب عطف على قوله: ويرتب(1/243)
بما بدأ الله تعالى بذكره، وبالميامن، والترتيب في الوضوء سنة عندنا، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فرض؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية، والفاء للتعقيب ولنا أن المذكور فيها حرف الواو وهي لمطلق الجمع بإجماع أهل اللغة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوضوء والرفع على تقدير فهو مبتدأ فتكون الجملة خبر مبتدأ محذوف، وهو أن يبدأ فيه م: (بما بدأ الله تعالى بذكره) ش: في القرآن في آية الوضوء م: (وبالميامن) ش: أي ويبدأ بالميامن، وهو جمع ميمنة وهي خلاف الميسرة وكذا الأيمن خلاف الأيسر ويجمع على أيامن، وسيأتي دليله (فالترتيب في الوضوء سنة عندنا) ش: أي الترتيب في أعضاء الوضوء سنة عند أصحابنا، وبه قال مالك، والليث، والثوري والأوزاعي، وعطاء بن السائب، ومكحول، والزهري، وربيعة، والنخعي، وداود، والمزني، وحكاه البغوي عن أكثر العلماء، واختاره ابن المنذر وصاحب " البيان "، وأبو نصير البنديجي من أصحاب الشافعي والأبهري، وروي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فرض) ش: أي الترتيب في الوضوء فرض، وقال أبو بكر الرازي ولا يروى عن أحد من السلف والخلف مثل قول الشافعي.
قلت: هذا غفلة منه، وقد قال بقوله أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقتادة، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وإليه ذهب ابن منصور، وصاحب مالك، وحكاه عن صاحبه م: (بقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية، والفاء للتعقيب) ش: أي الفاء في قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] ، وجه الاستدلال أن الفاء للتعقيب، والتعقيب يدل على الترتيب فيفيد ترتيب غسل الوجه على القيام إلى الصلاة، وإذا ثبت الترتيب فيه ثبت في غيره؛ لأنه معطوف على المرتب، والمعطوف على المرتب مرتب، وتحقيق هذا أن الفاء للتعقيب مع الوصل فإذا كان كذلك ثبت تقديم الوجه على الباقي، ويلزم ترتيب غيره عليه؛ لأن غيره معطوف عليه بحرف الواو وهو الترتيب كما في قَوْله تَعَالَى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] (الحج: الآية 77) ، وبقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] (البقرة: الآية 158) ، ونقلوا عن الفراء كون الواو للترتيب، وادعوا أن الفاء تفيد البداءة بغسل الوجه، واستدلوا أيضا بتأخر غسل الرجلين عن مسح الرأس، وقالوا: لولا وجوب الترتيب لما أخر غسلهما عن المسح ولذكره مع المغسولات وتعلقوا أيضا بوضوئه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسنجيب عن الكل إن شاء الله تعالى.
م: (ولنا أن المذكور فيها) ش: أي في الآية المذكورة م: (حرف الواو وهي لمطلق الجمع بإجماع أهل اللغة) ش: يعني المذكور بعد الفاء حرف الواو، والواو لمطلق الجمع بإجماع أهل اللغة، وبإجماع النحاة البصرية والكوفية، دون الترتيب، وقيل: نص سيبويه عليه في سبعة عشر موضعا من الكتاب، فصار المعنى كأنه قال والله أعلم: فاغسلوا هذه الأعضاء، فعملنا بحرف(1/244)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الفاء والواو، فقلنا: الفاء دخل في الفعل لا في المحل والفاء التي للتعقيب هي العاطفة وليست هذه عاطفة بل جواب الشرط ولو كانت للتعقيب فهي لتعقيب الجملة بواسطة الواو.
وقال إمام الحرمين، تكلف أصحابنا في نقل أن الواو للترتيب واستشهدوا بأمثلة فاسدة، والحال أنها لا تقتضي ترتيبا ومن ادعاه فهو مكابر، وقال النووي وهو الصواب، ولو كانت الواو للترتيب لكان قولنا جاء زيد وعمرو وبعده تكرار أو قبله أو معه نقضا، وكذا من قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق فإنه ينجزه، ولو كانت تحتمل الترتيب لما وقع ويصح تنجيز الحالف، وكذا تقول: تقابل زيد وعمرو مع امتناع الترتيب والاشتراك المجازي على خلاف الأصل. وقد شنع قوام الدين على حافظ الدين تشنيعا شنيعا لا يليق لمثله أن يذكر مثله بما ذكر، وذلك أن حافظ الدين قال في جواب الشافعي في " المستصفى ": والجواب [ب] الفاء إنما يقتضي التعقيب إذا دخلت على غير الأفعال الاختيارية، وأما إذا دخلت على الأفعال الاختيارية فلا. وقال قوام الدين: أقول ما للنسفي من جواب، فمن أين قال مثل هذا الكلام تقليدا، وما وضع أهل اللغة الفاء إلا للتعقيب مطلقا، سواء دخلت على كذا، وكذا. قلت: مراد حافظ الدين أن الفاء ما وضعت للتعقيب مطلقا، وما قاله صحيح؛ لأن الفاء إنما تكون للتعقيب إذا كانت عاطفة أما إذا كانت جواب الشرط لا تكون للتعقيب، بل تسمى حرفا رابطة، وقوله: وما وضع أهل اللغة الفاء إلا للتعقيب ليس كذلك بل وضعت لغيره، كما ذكرنا ولا يمكن أن يقال الفاء في قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون: 14] (المؤمنون: الآية 14) للتعقيب، وذلك لأن المعلوم ما بين هذه الأشياء عن المهلة، والفاء التي للتعقيب لا تقتضي المهلة إذا قلت جاء زيد فعمرو، فمدلوله مجيء عمرو عقيب مجيء زيد بزمان وإن لطف، ولا يكون بينهما مهلة، فدل على أن الفاء في الآية المذكورة للتراخي بمعنى ثم وتجيء بمعنى الواو، كما قالوا في قول امرئ القيس بين الدخول، فحومل أي وحومل، حتى ادعى بعضهم أن الصواب روايته بالواو، وقد تجيء الفاء بمعنى الغاية، كما في قَوْله تَعَالَى: {مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] (البقرة: الآية 26) وهو غريب.
فإن قلت: الحروف ينوب بعضها عن بعض.
قلت: هذا إذا كان الواضع واحدا، وأما إذا كان متعددا فلا يحتاج إلى هذا، وأما الجواب عما قالوه نصرة إلى ما ذهب إليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
أما عن الأول: فقد ذكرناه عند قوله: وأما وجه المذكور فيها حرف " الواو "، وتوضيح ذلك أيضا أن الواو لما كانت المطلق الجمع بإجماع أهل اللغة صار تقدير الآية على هذا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا كذا وامسحوا كذا، ولا يفهم منه إلا فعل الغسل والمسح مطلقا كما في قول الرجل لعبده(1/245)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إذا دخلت السوق فاشتر اللحم والخبز والبقل، لا يفهم منه إلا الجمع بين هذه الأشياء مطلقا كيفما وقع الشراء، وليس مراده أن يشتري اللحم أولا ثم البقل، فكذا فيما نحن فيه، وفيما ذهبنا إليه عمل بالسنة، ودلالة الإجماع، والمنقول، أما السنة فهي ما ذكر أبو داود في " سننه " «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تيمم فبدأ بذراعيه قبل وجهه» والخلاف فيهما واحد.
قلت: ذكر السغناقي هكذا، والذي رواه أبو داود هكذا في حديث طويل، وفيه عن عمار «فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له، فقال: " إنما يكفيك أن تضع هكذا وضرب بيده على الأرض فنفضهما ثم ضرب بشماله على يمينه، ويمينه على شماله على الكفين ثم مسح وجهه " ورواه البخاري أيضا ولفظه: فقال: أي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمار: " إنما يكفيك أن تصنع هكذا، وضرب بكفيه ضربة على الأرض ثم نفضهما ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه ثم مسح بهما وجهه ".
ورواه الإسماعيلي في كتابه " المخرج " على البخاري، ولفظه: " إنما يكفيك أن تضرب بيديك على الأرض ثم تنفضهما ثم تمسح بيمينك على شمالك، وشمالك على يمينك ثم تمسح بوجهك» ولم يذكر مسح اليدين إلا قبل الوجه، فإذا ثبت جواز تقديم مسح اليدين في التيمم على الوجه ثبت في الوضوء لعدم القائل بالفرق، وأما أدلة الإجماع فإنه لو انغمس في الماء بنية الوضوء أجزأه اتفاقا، وإن لم يوجد الترتيب، وأما المنقول فإن الواو لو اقتضى الترتيب لكان قول الرجل لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق كقوله إن دخلت الدار وأنت طالق، وليس كذلك، فإن في الواو تطلق في الحال، وفي الفاء يتعلق الطلاق.
وأما عن الثاني: وهو استدلالهم بقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] (الحج: الآية 77) فإنا لم نعلم الترتيب فيه بالواو، ولأن النصوص فيها متعارضة فإنه قال: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [آل عمران: 43] (آل عمران: 43) ، وإنما علمناه بفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما عن الثالث: وهو استدلالهم بقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] (البقرة: الآية 158) فإن الترتيب فيهما ليس بالآية وإنما هو بالحديث، ولا يتصور الترتيب لكونهما من الشعائر، غير أن السعي لا ينفك عن الترتيب فرجح الصفا بالذكر بخلاف الوضوء فإنه يمكن غسل الأعضاء دفعة كما لو انغمس في الماء للوضوء أو للغسل.
وأما عن الرابع: وهو نقلهم عن انفراد الواو تأتي للترتيب فهو خلاف ما ذكره أهل اللغة والنحو وأنكروا على الفراء ذلك، وكتب النحو مشحونة بأن الواو لمطلق الجمع، ولم يذكر خلافا وصرح في بعضها بلفظ الإجماع، ولذا قال المصنف بإجماع أهل اللغة.
فإن قلت: قد وافق الفراء في ذلك جماعة منهم قطرب، والزيلعي، وثعلب، وأبو عمرو(1/246)
فتقتضي أعقاب غسل جملة الأعضاء
والبداءة بالميامن فضيلة؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله تعالى يحب التيامن في كل شيء حتى التنعل والترجل»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزاهد، وهشام، والشافعي. قلت: قال السيرافي: إن النحويين واللغويين أجمعوا على أنها لا تفيد الترتيب وقد أنكروا عليهم بذلك، ولا يضر خلافهم إجماع الأكثرين على أن خلاف القليل لا يمنع انعقاد الإجماع عند البعض، والمصنف إما ذهب إلى قول البعض في قوله: بإجماع أهل اللغة، وإما اتفاق الجمهور فسماه إجماعا تسمية للبعض باسم الكل.
وأما عن الخامس: وهو قولهم: إن الفاء تفيد البداءة بغسل الوجه؛ لأن الفاء دخلت في الغسل مقدما على المسح، فنقول: لا نسلم ذلك؛ لأن فعل المغسول لما كان مقدما يلزم منه تقديم جنس الغسل على المسح، ولا يفهم منه الترتيب.
وأما عن السادس: وهو استدلالهم بتأخير غسل الرجلين فنقول: أعضاء الوضوء انقسمت إلى مكشوف غالبا وهو الوجه واليدان وإلى مستور غالبا وهو الرأس والرجلان، وكانت البداية بالمكشوف أولى؛ لأنه عرضة للتراب، وقدم من ذلك الوجه لشرفه ثم قدم اليمين على اليسار ثم قدم الرأس على الرجلين؛ لأنه أشرف، وقال الزمخشري: الرجلان مظنة الإسراف، فعطفهما على الممسوح ليدل على عدم الإسراف، والتوسط في الصب، وأدخل الممسوح بين الغسلين وقدم الوجه وأخر الرأس مع قربه لفائدة، ولا يلزم أن تكون تلك الفائدة الوجوب لعدم انحصارها فيه فتكون فائدة استحباب الترتيب.
وأما عن السابع: وهو تعلقهم بوضوء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرتبا، فنقول: لما لم يرو ترك الترتيب فيه عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكذلك لم يرو ترك البداءة بغسل اليدين وترك المضمضة والاستنشاق وتقديم اليد اليمني والرجل اليمني والبداءة من رؤوس الأصابع والبداية بالوجه، وليس شيء من ذلك بشرط.
م: (فيقتضي إعقاب غسل جملة الأعضاء) ش: أي لما كان حرف الواو لمطلق الجمع والفاء دخلت على هذه الجملة التي لا ترتيب فيها اقتضى ذلك إعقاب غسل جملة الأعضاء من غير ترتيب، والإعقاب بكسر الهمزة.
[البداءة بالميامن في الوضوء]
م: (والبداءة بالميامن فضيلة) ش: أي مستحبة، والفضيلة الدرجة الرفيعة في الفضل، وذكر الميامن فيما مضى الآن، وإنما أعاد ذكرها هاهنا ليبين أنها فضيلة وليست بسنة؛ لأنه ذكر شيئين: أحدهما: ترتيب الوضوء، والثاني: البداءة بالميامن، ولكن ما علم من ذلك أنهما سنة، وفضيلة بين هاهنا أن الترتيب سنة والبداية بالميامن فضيلة، وليست بسنة م: «لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إن الله يحب التيامن في كل شيء حتى التنعل والترجل) » ش: هذا الحديث بهذا اللفظ لم يخرجه أحد ولكن الأئمة الستة(1/247)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أخرجوه قريبا منه في كتبهم من حديث مسروق عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب التيامن في كل شيء حتى في طهوره وتنعله وترجله وشأنه كله» رواه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه في " الطهارة "، وأبو داود في " اللباس "، والترمذي في الصلاة وألفاظهم متقاربة.
وأخرجه ابن حبان ولفظه: «كان يحب التيامن في كل شيء في وضوئه حتى في الترجل والانتعال» وأخرجه ابن مندة ولفظه: «كان يحب التيامن في الوضوء والانتعال» وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «قال: " إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم» أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي، كلهم من طريق زهير عن الأعمش عن أبي صالح عنه، وزاد ابن حبان: «إذا لبستم.»
والنسائي والترمذي من حديث أبي هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كان إذا لبس قميصا بدأ بميامنه» وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كانت يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليمنى لطهوره وطعامه، واليسرى لخلائه وما كان من أذى» رواه أبو داود وغيره.
وعن أم عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للنسوة في غسل ابنته: " ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها» رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اغتسل أحدكم فليبدأ باليمنى، وإذا نزع فليبدأ بالشمال؛ لتكون اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تنزع» اتفقا عليه، وعن أنس ابن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى» قال الحاكم: هو صحيح على شرط مسلم، والتنعل لبس النعلين والترجل تسريح الشعر.
واتفق العلماء أنه يستحب تقديم اليمنى في كل ما هو من باب التكريم كالوضوء والغسل، ولبس الثوب، والنعل، والخف، والسراويل، ودخول المسجد، والسواك، والاكتحال وتقليم(1/248)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق الرأس، والسلام من الصلاة، والخروج من الخلاء، والأكل، والشرب، والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، والأخذ والعطاء، وغير ذلك مما هو في معناه.
ويستحب تقديم اليسار في ضد ذلك كالامتخاط، والاستنجاء، ودخول الخلاء، والخروج من المسجد، وقلع الخف، والنعل، والسراويل، والثوب، وأشباه ذلك، وعن شعبة تقديم اليمنى واجب يعني في الوضوء، وعن ابن مسعود أنه رخص بالشمال، وروى الدارقطني من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " ما أبالي بدأت بيميني أو شمالي إذا أكملت الوضوء "، وروى الدارقطني أيضا أنه جاء رجل إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فسأله عن الوضوء، فقال: " ابدأ باليمين أو الشمال، فخيره به علي، ثم دعا بماء فبدأ بالشمال قبل اليمين "، ورواه البيهقي أيضا، وروي عن علي: " ما أبالي بدأت بالشمال إذا توضأت " رواه ابن أبي شيبة.
1 -
فروع: للوضوء فرائض وسنن وواجبات وآداب ومكروهات، أما الفرائض فقد مر ذكرها وأما سننها فقد عدها المصنف وعدها في صلاة الحلواني خمس عشرة، وفي التحفة إحدى وعشرين:
1 - الاستنجاء بالأحجار أو ما يقوم مقامها.
2 - والنية.
3 - والتسمية.
4 - وغسل اليدين إلى الرسغين قبل إدخالهما في الإناء.
5 - والاستنجاء بالماء وهو كان أدبا في عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصار سنة بعد عصره بإجماع الصحابة كالتراويح.
6 - والمضمضة.
7 - والاستنشاق والترتيب فيهما.
8 - وأخذ الماء لكل واحدة منهما على حدة والمبالغة فيهما إلا في حالة الصوم.
9 - والسواك في حال المضمضة.
10 - والترتيب.(1/249)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
11 - والموالاة وهو أن لا يفصل بين أعضاء الوضوء بعمل ليس منه.
12 - وتثليث غسل الأعضاء المغسولة.
13 - والبداءة بالميامن.
14 - والبداءة من رؤوس الأصابع في غسل اليدين والرجلين.
15 - وتخليل الأصابع.
16 - واستيعاب جميع الرأس.
17 - والبداءة من مقدم الرأس.
18 - والمسح مرة واحدة.
19 - وترك التثليث.
20 - ومسح ظاهر الأذنين وباطنهما بماء الرأس لا بماء جديد.
21 - وتخليل اللحية عند أبي يوسف.
واختلف المشايخ في مسح الرقبة: قيل: سنة، وقيل: أدب. وأما مستحباته فأربعة عند المصنف: التسمية قبل الاستنجاء وبعده، وتخليل اللحية، والبداءة بالميامن، وعند القدوري النية، والترتيب، والاستيعاب من المستحبات. وأما آدابه فقد ذكر في " المحيط " سبعة: ترك الإسراف والتقتير وكلام الناس فيه، وذكر الشهادة عند كل عضو إلى المستراح، واستقاء ماء الوضوء بنفسه، وعن الوبري: لا بأس بصب الخادم على مولاه في الوضوء، وستر العورة بعد الاستنجاء، والتأهب للوضوء قبل الوقت، ويقول بعد فراغه: «سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» ولا يمسح أعضاءه بخرقة مسح بها مواضع الاستنجاء، ويستقبل القبلة في الوضوء، ويقول بعد فراغه أو في أثنائه: «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين» ويشرب فضل وضوئه مستقبل القبلة قائما، وخيره الحلواني بين القيام والقعود، وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه فعل ذلك.
وقيل: لا يستحب ذلك وإنما فعله إشارة إلى أنه لا يكره شرب الماء قائما، وقيل: لا يشرب قائما إلا في هذا وعند زمزم، ويصلي ركعتين بعده، ويتوضأ بالنية، ويتوقى التقاطر على الثياب، وزاد الغزنوي ويغسل الإناء ثلاثا ويضعه على يساره ولو كان إناء يغترف منه يضعه على يمينه ويضع يده حالة الوضوء على عرق الإناء دون رأسه، ويغسل الأعضاء بالرفق، ولا يستعجل في الوضوء، ويدلك أعضاءه خصوصا في زمان الشتاء، ويبالغ في الغسل والتخليل والدلك،(1/250)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويجاوز حد الوجه واليدين والرجلين ليتيقن بغسل الحدود، ويدخل خنصره في صماخ أذنيه ويحركهما، وينزع خاتمه أو يحركه كل مرة عند غسل اليدين وينزعه حالة الاستنجاء إن كان في يساره وعليه اسم الله، واسم نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي " التوشيح شرح الهداية " وللوضوء آداب: الوضوء قبل الوقت، وترك الإسراف ولو كان على نهر، وترك التقتير، والتشهد عند كل عضو؛ لأنه روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه فعل ذلك هكذا في كتب الفقه، وأما الأحاديث الصحيحة في كتب الحديث فيقتضي أن يتشهد بعد الفراغ من الوضوء لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه مسلم، ولفظه: «ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ أو أسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» .
وفي رواية لمسلم أيضا: «من توضأ فأحسن وضوءه ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له» وفي رواية أبي داود ثم يقول حين يفرغ من وضوئه [...... الحديث] وفي رواية الترمذي: «من توضأ فأحسن وضوءه، ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله» أه. نحو رواية مسلم.
قلت: زاد الترمذي في حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «-: " اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين» وقال: في إسناده اضطراب، وروى البزار هذه الزيادة والطبراني في " الأوسط " ورواه ابن ماجه من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وروى النسائي في " عمل اليوم والليلة ".
والحاكم في " المستدرك " من حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بلفظ: «من توضأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك كتب في ورقة ثم طبع فلم يكسر إلى يوم القيامة» واختلف في رفعه ووقفه، وصحح النسائي الموقوف، وضعف الحازمي الرواية المرفوعة، ورجح الطبراني الرواية الموقوفة أيضا، وقال النووي في " الأذكار " و " الخلاصة " أن حديث أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا ضعيف. وقال في " شرح المهذب " روي عن أبي سعيد مرفوعا وموقوفا وكلاهما ضعيف.
قلت: أما المرفوع فيمكن أن يضعف بالاختلاف والشذوذ، وأما الموقوف فلا شك في صحته، فإن النسائي قال فيه: حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن كثير حدثنا شعبة حدثنا أبو هشام، وقال ابن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن أبي هاشم الواسطي عن أبي مخلوفة عن قيس بن عبادة عنه، وهو من رواية " الصحيحين " فلا معنى لحكمه عليه بالتضعيف.(1/251)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " شرح الطحاوي " يقول عند المضمضة: " اللهم أعني على تلاوة القرآن، وذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك، واللهم أرحني برائحة الجنة، وعند غسل الوجه: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وعند غسل اليد اليمنى اللهم أعطني كتابي بيميني وحاسبني حسابا يسيرا، وعند غسل يده اليسرى: اللهم لا تعطني كتابي بشمالي، ولا من وراء ظهري، وعند مسح أذنيه: اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وعند مسح عنقه: اللهم اعتق رقبتي من النار، وعند غسل رجليه اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل الأقدام ".
قال الرافعي: من السنن المحافظة على الدعوات الواردة في الوضوء، ويقول في غسل الوجه: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وعند اليمنى: مثل ما ذكر، وعند اليسرى كذلك، وعند مسح الرأس: اللهم حرم شعري وبشرتي على النار.
وروي: اللهم احفظ رأسي وما حوى، وبطني وما وعى، وأدِّ اللهم عني برحمتك وأنزل علي بركتك وأظلني تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، وعند مسح الأذنين وغسل الرجلين مثل ما ذكرنا، قال الرافعي: وروي هذا الخبر عن الصالحين، وقال النووي في " الروضة ": هذا الدعاء لا أصل له، ولم يذكره الشافعي والجمهور، وقال في " شرح المهذب ": لم يذكره المتقدمون، وقال ابن بالصلاح: لم يصح فيه حديث.
قلت: روي فيه عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من طريق ضعيفة أوردها المستغفري في " الدعوات "، وابن عساكر في " أماليه "، وهو من رواية أحمد بن مصعب المروزي عن حبيب بن أبي حبيب الشابي عن أبي إسحاق الشعبي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفي إسناده من لا يعرف.
ورواه صاحب " مسند الفردوس " من طريق أبي زرعة الرازي عن أحمد بن عبد الله بن داود، وحدثنا محمود بن العباس حدثنا المغيث بن بديل عن خارجة بن مصعب عن يونس بن عبيد عن الحسن عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحوه.
ورواه ابن حبان في " الضعفاء " من حديث أنس نحو هذا، وفيه حديث عبادة بن صهيب وهو متروك، ورواه المستغفري أيضا من حديث البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإسناده واه.(1/252)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم اختلف العلماء في التنشيف والمسح بالمنديل أو الخرقة بعد الوضوء: فمذهبنا لا بأس به، حكى ابن المنذر إباحته عن عثمان بن عفان، والحسين بن علي، وأنس بن مالك، وبشير بن أبي مسعود، والحسن البصري، وابن سيرين، وعلقمة، والأسود، ومسروق، والضحاك، ومالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق.
وحكى كراهته عن جابر بن عبد الله، وابن أبي ليلى، وسعيد بن المسيب، والنخعي، ومجاهد، وأبي العالية، وعن ابن عباس كراهته في الوضوء دون الغسل، وقال ابن المنذر كل ذلك مباح، ونقل المحاملي الإجماع على أنه لا يحرم، وإنما الخلاف في الكراهة، وعند الشافعي خمسة أوجه: الصحيح أنه لا يكره، ولكن يستحب تركه، وقيل: يكره، وقيل: يباح، وقيل: يستحب، وقيل: إن كان في الصيف كره دون الشتاء لعذر البرد، وليس للشافعي فيه نص، وروى ابن شاهين في " الناسخ والمنسوخ ": حدثنا أحمد بن سليمان هو النجار حدثنا محمد بن عبد الله [......] حدثنا عتبة بن مكرم حدثنا يونس بن بكير عن سعيد بن ميسرة عن أنس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يمسح وجهه بالمنديل بعد الوضوء، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا علي، ولا ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.»
وروى الترمذي عن أنس أيضا «كان للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خرقة ينشف بها بعد الوضوء» هذا يعارض ذلك، وكلاهما ضعيفان، وروى الحاكم من حديث عائشة نحوه، وفيه أبو معاذ، وهو ضعيف، وقال الترمذي: ليس بالقائم ولا يصح فيه شيء، وأخرج من حديث «مطرف رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه» وإسناده ضعيف.
ثم الاستعانة في الوضوء فينبغي أن لا يستعين بغيره لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا لا نستعين على طهورنا» ذكره صاحب " الهداية " في " المفيد " و " المزيد "، وتمامه «قال لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد بادر ليصب على يديه الماء» لكن قال النووي غير صحيح.
قلت: ذكره الماوردي في الحاوي بسند آخر فقال: روي أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(1/253)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
«كان يصب على يدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الماء، فقال: " أنا لا أحب أن يشاركني في وضوئي أحد» .
قلت: تعيين أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه البزار في " كتاب الطهارة " وأبو يعلى في مسنده من طريق النضر بن منصور «عن أبي الجنوب، قال رأيت عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسقي الماء لطهوره فبادرت أن أسقي له فقال: مه يا أبا الجنوب فإني رأيت عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يستقي الماء لوضوئه، فبادرت أن أسقي له فقال: مه يا علي فإني لا أريد أن يعينني على وضوئي أحد» قال عثمان الدارمي فقلت لابن معين: النضر بن منصور عن أبي الجنوب، وعند ابن أبي سعد، فعرفه فقال: هؤلاء حمالة الحطب.
وروى ابن ماجه والدارقطني من حديث ابن عباس «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لا يكل طهوره إلى أحد» وفيه مطهر بن الهيثم، وهو ضعيف، وجاء في " الصحيحين «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان بأسامة في صب الماء على يديه في قصته منها وقفه مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عرفة في حجة الوداع، ولفظ مسلم: ثم جاء فصب على يديه الوضوء، وليس في رواية البخاري ذكر الصب» .
وفي حديث «المغيرة بن شعبة: " كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر - الحديث -، ثم جاء وعليه جبة شامية ضيقة الكمين، فذهب يخرج يده من كمها فضاق فأخرج يده من أسفلها فصببت عليه فتوضأ وضوءه للصلاة ثم مسح على خفيه» ورواه مسلم والبخاري أيضا، وقال الإمام الغزالي: كانت الاستعانة لأجل ضيق الكم وهو ظاهر، وأنكره ابن الصلاح، وقال: الحديث يدل على أنه استعان مطلقا؛ لأنه غسل وجهه أيضا وهو يصب على وجهه، وقيل: كانت الاستعانة في السفر، فأراد أن لا يتأخر عن الرفقة.
«وعن صفوان بن عسال قال: صببت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحضر، والسفر، في الوضوء» رواه ابن ماجه والبخاري في " التاريخ الكبير "، وفيه ضعف، وعن «أم عياش، قالت: كنت أوضئ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا قائمة وهو قاعد» رواه ابن ماجه أيضا وإسناده ضعيف.(1/254)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى الدارمي، وابن ماجه، وأبو مسلم الكجي من حديث «الربيع بنت معوذ أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان بها في صب الماء على يديه» وعزاه ابن الصلاح لتخريج أبي داود والترمذي، وليس في رواية أبي داود إلا أنها أحضرت الماء وحسب، وأما الترمذي فلم يتعرض فيه للماء بالكلية، نعم في " المستدرك "، وفي " سنن أبي مسلم الكجي " من طريق بشر بن المفضل عن أبي عقيل «عنها: صببت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتوضأ، وقال: " اسكبي علي " فسكبت عليه» .
وأما مكروهاته فمنها: أن ينفض يديه، ذكر في " الدراية "؛ لما «روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم فإنها مراوح الشياطين» .
قلت: رواه ابن أبي حاتم في كتاب " العلل " من حديث البختري بن عبيد عن أبي هريرة ورواه ابن حبان في " الضعفاء " من حديث البختري بن عبيد، وضعفه به، وقال: لا يحل الاحتجاج به، ولم ينفرد به البختري فقد رواه ابن طاهر في صفة التصرف من طريق ابن أبي البريء، قال: حدثنا عبد الله بن محمد الطائي عن أبيه عن أبي هريرة به، وإسناده مجهول، ومنها أن يتكلم فيه كلام الناس، ومنها لطم الماء وجهه، ومنها الإسراف في الماء، ولو كان على نهر، ومنها التقتير في الماء، روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد» رواه البخاري ومسلم.(1/255)
فصل نواقض الوضوء المعاني الناقضة للوضوء كل ما خرج من السبيلين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في نواقض الوضوء] [ما خرج من السبيلين من نواقض الوضوء]
م: (فصل في نواقض الوضوء)
ش: لما فرغ من بيان فرائض الوضوء وسننه وآدابه، شرع في بيان نواقضه، وهو جمع ناقضة لا ناقض؛ لأنه لا يجمع على فواعل إلا المؤنث وشذ " فوارس " " وهوالك " " ونواكس " جمع " فارس " و " هالك " و " ناكس " على تأويل فرقة.
والنقض في اللغة إبطال التأليف في البناء وغيره، ثم استعير لنقض العهد وللوضوء بجامع بطلان ما شرع لأجله، وهو استباحة الصلاة، أو نقول: النقض متى أضيف إلى الأجسام يراد به إبطال تأليفها، ومتى أضيف إلى المعاني يراد به إخراجه عما هو المطلوب، والمطلوب هاهنا من الوضوء استباحة الصلاة.
والفصل في اللغة القطع، وفي الاصطلاح طائفة من المسائل الفقهية تغيرت أحكامها بالنسبة إلى ما قبلها غير مترجمة " بالكتاب " و " الباب ".
فإن قلت: كيف إعراب هذا. قلت: الفصل منها: فصل لا ينون، ومنها فصل ينون؛ لأن الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب، والتقدير، هذا فصل في بيان نواقض الوضوء.
م: (المعاني الناقضة للوضوء كل ما خرج من السبيلين) ش: أي العلل المؤثرة في إخراج الوضوء عما هو المطلوب به، " كل ما خرج " أي خروج كل ما خرج من السبيلين وهما: القبل والدبر، وإنما قدر بالمضاف تصحيحا للحمل يعني لحمل الخبر على المبتدأ ولأن المبتدأ هو قوله: " المعاني " وقوله " كل ما خرج " خبره.
وحمل الذات على المعنى غير صحيح، وهي قضية حملية التي تسميها النحاة جملة إسمية، ولا بد في القضية الحملية من الضمير، وهاهنا تقديره: المعاني التي تنقض الوضوء، وهي: كل ما خرج، وإنما اختار لفظ المعاني على لفظ العلل اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث» واحترازا أيضا من عبارة الفلاسفة فإن المتقدمين كرهوا استعمال ألفاظهم إلى أن نشأ الطحاوي فاستعملها فتبعه من بعده، والمراد من السبيلين سبيل الحي، حتى إذا خرج من الميت بعد الغسل لا يعاد الغسل.
فإن قلت: هذه الكلية منتقضة بالريح الخارج من الذكر وقبل المرأة فإن الوضوء لا ينتقض به في أصح الروايتين.(1/256)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] الآية، «وقيل لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وما الحدث؟ قال: ما يخرج من السبيلين» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الذي يخرج منها اختلاج وليس بريح، وأيضا الفرج محل الوطء لا النجاسة فلا يجاوز الريح النجاسة والريح طاهر في نفسه، وهو اختيار المصنف لكن قوله: "كل ما" عامة تتناول المعتاد وغيره. وعن محمد: يجب الوضوء منهما بعموم النص، ولأنه يتعقب عن محل النجاسة ظاهرا ولهذا لو وصل إليه شيء ثم عاد نحو الحقنة ففيه الوضوء لا ينفك عن نجاسة كذا في " جامع قاضي خان "، و" التمرتاشي ".
قلت: الحاصل أنه أجمع العلماء على أن الخارج المعتاد من أحد السبيلين كالغائط والريح من الدبر، والبول، والمذي من القبل ناقض للوضوء، واختلفوا في غير المعتاد كالدود والحصاة يخرج من الدبر فعندنا ينقض وهو قول عطاء، والحسن البصري، وحماد بن أبي سليمان، والحاكم، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وقال مالك وقتادة: لا ينقض، وكذا قال مالك في الدم يخرج من الدبر والمذي لا بشهوة غير ناقض، وكذلك سلس البول ودم الاستحاضة، فإنه شرط أن يكون الخارج معتادا م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] (النساء: الآية 43)) ش: الغائط هو المكان المطمئن من الأرض ينتهي إليه الإنسان عند قضاء الحاجة تستر عن أعين الناس.
ووجه الاستدلال به أن الله تعالى رتب وجوب التيمم على المجيء من الغائط حال عدم الماء وهو لازم بخروج النجس، فكان كناية عن الحدث، لكونه ذكر اللازم وإرادة الملزوم والترتيب يدل على العلية وإذا ثبت ذلك في التيمم يثبت في الوضوء لأن البدل لا يخالف الأصل في السبب.
فإن قلت: الحدث شرط الوضوء، فكيف يكون علة نقضه.
قلت: لأنه علة لنقض ما كان، وشرط لوجوب ما سيكون، ولا تنافي بينهما. م: «وقيل لرسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: وما الحدث؟ قال: ما يخرج من السبيلين» ش: استدل أولا بالآية على مدعاه ثم بالحديث ولكن هذا الحديث بهذه العبارة لا يعرف له أصل، ولكن روى مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينقض الوضوء إلا ما خرج من قبل أو دبر» ، أخرجه الدارقطني في " غرائب مالك "، وقال: في إسناده أحمد بن اللجلاج(1/257)
وكلمة "ما" عامة فتتناول المعتاد وغيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو ضعيف.
فإن قلت: هذا حجة عليكم لأنه يدل على أن الخارج من غير السبيلين ليس بحدث.
قلت: مقصوده أن يأتي بدليل من الحديث على أن الخارج من السبيلين حدث وهو يدل على ذلك قطعا، وأما دلالته على ما ذكرنا، فلنا أحاديث سنذكرها، وحديث مالك وهذا حجة عليه لأنه شرط المعتاد، وكلمة "ما" فيه عامة تتناول المعتاد وغيره، وقال عبد الحق في " الأحكام الكبرى ": أخرج أحمد من حديث داود بن [......] قال: حدثنا شعبة عن قتادة، قال: «سئل أنس مما كان يتوضأ رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فقال: من الحدث، وأذى المسلم، قيل: وأنتم، قال: ونحن» ثم قال: وهذا لا يرويه عن شعبة غير داود وهو منكر المتن، وقال البخاري: وهو منكر الحديث، ثم قال عبد الحق: وهو ثقة في دينه.
م: (وكلمة "ما" عامة فتتناول المعتاد وغيره) ش: أي كلمة "ما" التي في قوله: "ما يخرج من السبيلين"، وأشار به إلى نفي قول مالك فإنه يقول: لا وضوء بما يخرج نادرا كالحصاة، والدود، ودم الاستحاضة مستدلا بأن الله تعالى كنى بالغائط على الوجه الذي ذكرنا وهو قضاء الحاجة المعتادة فلا يكون غيرهما ناقضا. قلنا: تقييد بلا دليل في مقابلة ما يدل على خلافه وهو عموم كلمة ما، وفي " التوشيح " استدل من قال: بأن غير المعتاد لا ينتقض بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا وضوء إلا من صوت أو ريح» ، رواه الترمذي وغيره بأسانيد صحيحة من رواية أبي هريرة. وبحديث صفوان بن عباد المراري قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا إذا سافرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، وفي رواية: إلا من جنابة أو من غائط وبول ونوم» وللجمهور حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المذي: "يغسل ذكره، ويتوضأ" وفي رواية: "يتوضأ وضوء الصلاة» رواه البخاري ومسلم. وعن ابن مسعود، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قالا. في الودي الوضوء، رواه البيهقي، والمذي والودي غير معتادين، وقد وجب فيهما الوضوء ولأنه خارج من السبيل فينقض كالريح والغائط ولأنه إذا وجب الوضوء بالمعتادة، والذي تعم به البلوى بغيره أولى.
والجواب عن حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنا أجمعنا على أنه ليس المراد حصر نواقض الوضوء في الريح، فإن زوال العقل والنوم من النواقض ولم يذكر فيه بل المراد نفي وجوب الوضوء بالشك في خروج الريح حتى يدل عليه ما يرفع الشك من ريح أو صوت بدليل ما(1/258)
والدم والقيح إذا خرجا من البدن فتجاوزا إلى موضع يلحقه حكم التطهير
والقيء ملء الفم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رواه مسلم من رواية أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا وجد واحدكم من بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» .
وثبت عن عبد الله بن زيد بن عاصم «قال: شكي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» رواه البخاري، ومسلم، والجواب عن حديث صفوان، وهو أنه بين فيه جواز المسح ونقض ما يمسح بسببه ولم يقصد بيان جميع النواقض أو بين فيه جواز المسح من الحدث الأصغر دون الأكبر. .
[خروج الدم والقيح من نواقض الوضوء]
م: (والدم والقيح إذا خرجا من البدن فتجاوزا إلى موضع يلحقه حكم التطهير) ش: هذا معطوف على قوله: "كل ما خرج من السبيلين من المعاني التي تنقض الوضوء " الدم والقيح إن أخرجا من البدن وههنا قيود.
الأول: الخروج لأن نفس النجاسة غير ناقضة ما لم يوصف بالخروج وإلا لما حصلت الطهارة لشخص ما.
والثاني: من البدن وأراد به الحي لأنه إذا خرجت من بدن الميت بعد غسله لا يوجب إعادة غسله بل توجب غسل ذلك الموضع على ما سيأتي.
والثالث: التجاوز إلى موضع يلحقه حكم التطهير وهو احتراز عما يبدو ولم يتجاوز فإنه لا يسمى خارجا، ولكن يسمى باديا وفيه رد لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه ظن أن البادي خارج فأوجب فيه الوضوء.
والشرط الرابع: أن يلحق ذلك موضع التطهير في الجملة كما في الجنابة حتى لو سال الدم من الرأس إلى قصبة الأنف ينتقض الوضوء بخلاف البول إذا نزل إلى قصبة الذكر ولم تظهر لأن النجاسة هناك لم تصل إلى موضع يلحقه حكم التطهير، وفي الأنف وصلت إلى ذلك إذ الاستنشاق فرض في الجنابة، والفاء في قوله: فتجاوز تفسيرية لأنها تفسر الخروج والإضافة في قوله: "حكم التطهير" من إضافة العام إلى الخاص كقولهم: علم الطب، أي حكمه هو تطهير في الجملة كما ذكرنا.
[القيء والدم من نواقض الوضوء]
م: (والقيء ملء الفم) ش: بالرفع عطفا على قوله: "الدم، والقيح" وسيجيء الكلام في حكم القيء مفصلا إن شاء الله تعالى، واعلم أن الخارج النجس من غير السبيلين ينقض الوضوء عند علمائنا وهو قول العشرة المبشرة بالجنة، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأبي موسى الأشعري، وأبي الدرداء وثوبان، وصدور التابعين، وقال ابن عبد البر روي ذلك عن علي وابن مسعود، وعلقمة والأسود وعامر الشعبي وعروة بن الزبير وإبراهيم(1/259)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء لما روي «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قاء فلم يتوضأ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النخعي، وقتادة، والحكم بن قتيبة وحماد، والثوري والحسن بن حي، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، وقال الخطابي: وهو قول أكثر الفقهاء.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء) ش: وبه قال مالك وهو قول ابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن أبي أوفى وجابر، وأبي هريرة، وعائشة، وسعيد بن المسيب في رواية، وسالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وطاووس وعطاء في رواية ومكحول وربيعة، وأبي ثور، وداود م: (لما روي أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قاء فلم يتوضأ) ش: هذا الحديث غريب لا ذكر له في كتب الحديث واستدل الشافعي ومن تبعه فيما ذهب إليه بأحاديث منها:
ما روي عن «النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قاء فغسل فمه فقيل له: ألا تتوضأ وضوءك للصلاة؟ فقال: "هكذا الوضوء من القيء» ، وروي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قال: «لا وضوء إلا من حدث، قيل: وما الحدث، قال: الخارج من السبيلين» .
وروى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وضوء إلا من صوت أو ريح» رواه الترمذي.
وروى ثوبان «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه» رواه الدارقطني، وفي رواية «سكت، فقال: "لو كان لوجدته في كتاب الله» .
وعن جابر أن «النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خرج من غزاة ذات الرقاع فقال من يكلؤنا في الليلة فقال رجل من الأنصار ورجل من المهاجرين نحن نعم الشعب فقام الأنصاري واضطجع المهاجري فجاء رجل من المشركين فرماه بسهم فنزعه» ورماه بآخر حتى رماه ثلاثة أسهم فلما خاف على نفسه أيقظ صاحبه، فلما رأى الدم يسيل منه قال: هلا أيقظتني في أول، فقال: كنت أتلو سورة فلم أحب ان أقطعها حتى أنفذها فلما تابع على الرمي ركعت فآذنتك، وأيم الله لولا أني أخاف ان أضيع أمرا أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحفظه لما أيقظتك فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدعا(1/260)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لهما. رواه أبو داود ولم يأمره بالوضوء ولا إعادة الصلاة.
وأخرج هذا أيضا ابن حبان في "صحيحه " والبخاري أيضا معلقا، ورواه الدارقطني والبيهقي في "سننيهما "، إلا أن البيهقي رواه بإيضاح في كتاب " دلائل النبوة "، وقال فيه: «فنام عمار بن ياسر وقام عباد بن بشر يصلي، وقال: كنت أصلي بسورة وهي الكهف، فلم أحب أن أقطعها» .
الجواب عن الحديث الأول أنه غريب فلا يعارض المشهور، والحديث الثاني: لا يعرف له أصلا، والثالث: متروك الظاهر لأن الوضوء يجب من غير الصوت والريح بالاتفاق، والرابع: فيه عتبة بن السكن، قال الدارقطني: هو متروك، والخامس: يحتمل أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يعلم بحاله على الفور ثم علم فأمره بالإعادة بغير علم الراوي، ولو وقع التعارض لطلبنا الترجيح وذلك من وجهين:
أحدهما: إجماع الصحابة على مثل مذهبنا ولو كانت الأخبار غير ثابتة لما أجمعوا، والثاني: أن أخبارنا مثبتة وأخباره منفية والمثبت يقدم كذا قاله صاحب " أرباب الإنصاف " من أصحابنا ولا يخلو عن نظر.
وقال صاحب " كتاب اللباب " وقيل هذا لا يصح الاستدلال به فإن الدم حين خرج أصاب بدنه وثوبه فينبغي أن يخرج من الصلاة ولم يخرج فلما لم يدل مضيه في الصلاة على جواز الصلاة مع النجاسة كذلك لا يدل مضيه فيها على أن خروج الدم لا ينقض الوضوء فإن قيل: أصاب الدم شيئا من بدنه، أو ثيابه شك فيه أو شك أنه يصير عمل في الصلاة أو كثير لا يحتمل فيها، وأما خروجه فإنه ينجس به لأنه خارج من بدنه، قيل له، قيل له: هذه مكابرة كيف يحصل له الشك، وقد قال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء، والمهاجري قد رآه بالليل ويقال: ما رأى الدماء ببدنه وثيابه لأنه قال: ما بالأنصاري من الدماء، ولم يقل ما بالأرض والدم السائل في الليل لا يكون يسيرا فكيف قد جمع الدم في رواية حيث قال: فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء، قال: سبحان الله وذلك لأنه وقد أصابه بثلاثة أسهم والظاهر أنها في ثلاثة مواضع، ثم إن هذا نقل واحد من الصحابة ولعل هذا كان مذهبا له وكان غيره عالما بحكمه، وقال الخطابي أكثر الفقهاء على انتقاض الوضوء بسيلان الدم وهذا أقوى إلى الاتباع.(1/261)
ولأن غسل غير موضع الإصابة أمر تعبدي فيقتصر على مورد الشرع وهو المخرج المعتاد، ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الوضوء من كل من كل دم سائل»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن غسل غير موضع الإصابة أمر تعبدي فيقتصر على مورد الشرع وهو المخرج المعتاد) ش: هذا دليل الشافعي من جهة العقل، قوله: "تعبدي" أي أمر تعبدنا به حين كلفنا الله به من غير معنى يعقل إذ العقل إنما يقتضي وجوب غسل موضع إصابة النجاسة فيقتصر على مورد الشرع وهو المخرج المعتاد، ويجوز أن يكون معناه أمر تعبدي أن القياس يقتضي وجوب غسل كل الأعضاء كما في المني بل بطريق الأولى لأن الغائط أنجس من المني للاختلاف في نجاسته دون الغائط فالاقتصار على الأعضاء الأربعة أمر تعبدي.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الوضوء من كل دم سائل» ش: هذا أخرجه الدارقطني في "سننه " من حديث عمر بن عبد العزيز عن تميم الداري، وقال الدارقطني: عمرو بن عبد العزيز لم يسمع من تميم، ورآه وفي مسنده يزيد بن خالد عن يزيد بن محمد وكلاهما مجهولان.
قلت: الحديث هذا مرسل والمراسيل عندنا حجة لما عرف في أصولنا، ويعزى هذا لزيد بن ثابت نحوه أخرجه ابن عدي في " الكامل " في ترجمة أحمد بن فرج عن بقية حدثنا عن شعبة عن محمد بن سليمان عن عاصم عن عمر بن الخطاب عن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان عن زيد بن ثابت، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الوضوء من كل دم سائل» ، قال ابن عدي: هذا الحديث لا نعرفه إلا من حديث أحمد لهذا، وهو عمن لا يحتج بحديثه ولكنه يكتب فإن الناس مع ضعفه قد احتملوا حديثه.
وقال ابن أبي حاتم: في كتاب " العلل " كتبنا عنه، ومحمله عندنا الصدق، وجه الاستدلال به أن مثل هذا التركيب يفهم منه الوجوه كما في قوله: «في خمس من الإبل شاة» ولا خلاف في الفرضية، فكان معناه توضأ من كل دم سائل من البدن، وإنما عبر بلفظ الخبر لكونه آكد في الدلالة على الوجوب كأنه أمر فامتثل أمره فأخبر عن ذلك، وهو آية كونه واجبا فإن الأمر إذا كان ممن لا يكذب في كلامه يعبر عن مطلوبه بلفظ الخبر تأكيدا للطلب، كذا قاله الأكمل وأخذه من(1/262)
وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حاصل كلام السغناقي فإنه قال: فإن قلت: هذا مبتدأ وخبره ما اقتضاه الجار والمجرور وهو مستحب، أو سنة، أو واجب فما الوجه في تعيين الواجب؟
قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن هذا إخبار آكد في الدلالة على الوجوب. الوجه الثاني: أنه وصف الدم بالسيلان والدم السائل نجس مطلقا كالغائط فكان ملحقا به بدلالة بالنص.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المراد به الوضوء اللغوي لأنه قد ورد ذلك في لسان الشرع الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم. قلت: أجاب السغناقي بأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخرج ذلك على طريق المشاكلة لجواب سائل في قوله: "ألا تتوضأ وضوءك للصلاة" وأجاب الأكمل بأن ذلك مجاز شرعي ولا تترك الحقيقة الشرعية في كلام الشارع بلا دليل.
وقال تاج الشريعة: الوضوء من كل دم سائل واجب لأنه محل صالح لإتمام الكمال، فيصار إليه وغيره من الأحكام غير ثابت بعضها نحو الحرمة والكراهة، وبعضها ثابت بدون سيلان الدم وهو الندب والإباحة، لأن كلمة "من" للجزئية والبعضية أو لبيان أن أحدهما يتفرع من الآخر وبعضه كما يقال الثمرة من النخلة، وهذه الحقيقة غير مرادة ههنا لاستحالة أن يكون الوضوء متفرعا من الدم السائل أو بعضه فيحمل على السببية لأنها من لوازم الحقيقة، إذ المتفرع لا بد له أن يكون سببا فيصير تقدير الحديث، والله أعلم بالصواب، يجب بسبب كل دم سائل، وقد وجد الدم السائل فيجب الوضوء وهذا أدق وأوجه من الوجهين اللذين ذكرهما السغناقي فلذلك قال صاحب " الدراية " فيهما تأمل.
م: (وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم» ش: قال الأكمل: رواه ابن أبي مليكة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكره(1/263)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرازي في " شرح الطحاوي "، ولذا قال الأترازي: وهذا عجز منهما، بل رواه ابن ماجه في "سننه " من حديث إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة ولفظه قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أصابه قيء أو رعاف أو قلس فلينصرف ثم يبن على صلاته وهو في ذلك» .
ورواه الدارقطني في "سننه " ولفظه: «إذا قاء أحدكم في صلاته أو قلس فلينصرف ثم يبن على ما مضى من صلاته ما لم يتكلم» . وروى الدارقطني أيضا من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قاء أحدكم أو رعف وهو في الصلاة أو أحدث فلينصرف فليتوضأ ثم ليجيء فليبن على ما مضى» .
فإن قلت: قد طعنوا في الحديثين: أما حديث عائشة، فقال الدارقطني: أصحاب ابن جريج يروونه عن ابن جريج عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلا، وقال ابن عدي: رواه ابن عياش مرة هكذا، ومرة عن ابن جريج عن أبيه عن عائشة وكلاهما غير محفوظ. وأخرجه البيهقي من حديث البزار عن ابن جريج عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن صحت فتحمل على سبيل غسل الدم لا على الوضوء. وأما حديث أبي سعيد فهو معلول بأبي بكر الداهري الذي في سنده قال ابن الجوزي عن أحمد: إنه ليس بشيء، وقال ابن حبان: يضع الحديث.
والجواب عن الأول: أن إسماعيل بن عياش وثقه ابن معين وغيره، وقال يعقوب بن سفيان ثقة عدل، وقال يزيد بن هارون: ما رأيت أحفظ منه، وما يضر الحديث إذا رواه الثقة بإسنادين مرسل ومسند في حالة واحدة، ومن رواه بالإسنادين جميعا الربيع بن نافع وداود بن رشيد وهذه المقالة تفيد الخطأ على ابن عياش فإنه لو رفع ما وقفه الناس ربما يتطرق الوهم إليه، فأما إذا وافق الناس على المرسل وزاد عليهم بالمسند فهو مشعر بتحفظ وتثبت الزيادة عن الثقة بقوله، ولئن سلمنا أنه مرسل مطلقا فنحن نحتج به.
وأما حمل الشافعي الوضوء على غسل بعض الأعضاء يدفعه ما جاء في الحديث المذكور أو المذي، فإن المذي يوجب الوضوء الشرعي ولا يكفي فيه غسل بعض الأعضاء بالإجماع، وقد يقال في دفعه أنه لو حمل هذا الوضوء في هذا الحديث على غسل الدم فقط لبطلت الصلاة التي(1/264)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هو فيها بالانصراف ثم بالغسل ولما جاز له أن يبني على صلاته بل يستقبلها.
وأما الجواب عن الثاني: فنقول إنه اعتمد بحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ولئن رددناه بالكلية فحديث عائشة كاف سواء كان مسندا أو مرسلا، ثم وجه الاستدلال بالحديث المذكور من وجوه:
الأول: أنه أمر بالبناء وأدنى درجات الأمر الإباحة، والجواز، ولا جواز للبناء إلا بعد الانتقاض فدل بعبارته على البناء وعلى الانتقاض بمقتضاه. والثاني: أنه أمر بالوضوء ومطلق الأمر للوجوب. والثالث: أنه أباح الانصراف وهو لا يباح بعد الشروع إلا به، فإن قلت: جاز أن يكون الأمر بالانصراف واقعا لغسل النجاسة الحقيقية كرعاف أصاب بدنه وثوبه لا للحدث، قلت: أخرج عليه بطريق المشاكلة لجواب السائل في قوله: ألا تتوضأ وضوءك للصلاة مع أن غسل النجاسة الحقيقية مبطل للصلاة، ومانع للبناء بها بالاتفاق ألا ترى أن فيه [مني] أو مذي، وعن المذي يجب الوضوء الشرعي فكذا بالقيء أو الرعاف كذا في " الأسرار ".
فإن قلت: البناء المعطوف على الانصراف غير واجب، فكذا الانصراف والتوضئ لتتناسب أحكام المعطوفات. قلت: هذا من الاستدلال بالأدلة الفاسدة فإن القران في النظم لا يوجب القران في الحكم، وقد يعطف الأمر المقتضي للوجوب على الأمر المقتضي للإباحة كما في قَوْله تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} [سبأ: 15] (سبأ: الآية 15) فالأكل مباح والشكر واجب في قَوْله تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] (الأنعام: الآية 141) . فالثاني للوجوب لا الأول ولما أمر بالانصراف ظن ظان أن ذلك مفسد للصلاة فأمر بالبناء لنفي هذا الظن.
وقوله: رعف بضم العين، وقال السعدي: فتح العين هو الصحيح، يقال: رعف إذا سال رعافه، أو قلس بالتحريك، وقيل: بالسكون وهو ما يخرج من الجوف ملء الفم أو دونه، وليس بقيء فإن عاد فهو قيء، واعلم أن لنا أحاديث أخر في هذا الباب: حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة، قال: "لا إنما ذلك عرق، وليست بالحيضة فإذا أقبلت فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وتوضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت» فأخرجه أحمد وابن ماجه، «وتوضئي عند كل صلاة، وإن قطر الدم على الحصير» وهذا فيه دليل على وجوب الوضوء من الدم، ونبه على العلة بقوله: "عرق".(1/265)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: قالوا: قوله: «وتوضئي لكل صلاة» من قول عروة. قلت: قد صححه الترمذي، ولا يمكن أن يقال هذا من قبيل نفسه، لأنه عطف الأمر بالتوضؤ على الأوامر المتقدمة من قوله: «فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، وتوضئي لكل صلاة» فلما قال: " توضئي شيئا " كل ما قبله من أمره - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولأن من أثبت الإسناد كان أولى.
فإن قلت: «فاغسلي عنك الدم» ، ثم صلي مشكل في ظاهره لأنه لم يذكر الغسل إلا بعد انقضاء الحيض من الغسل.
قلت: هذا مذكور في رواية أخرى صحيحة. قال فيها: «فاغتسلي» قوله " أستحاض " على بناء المفعول، قوله: «أفأدع الصلاة» سؤال قوله: " عرق " أي دم عرق، قوله: «وإذا أدبرت» المراد من الإدبار انقطاع الحيض وعلامة إدبار الحيض انقطاعه وحصوله في الطهر عندنا بالزمان والعادة وهو الفصل بينهما فإذا أظلت عادتها تحرت وإن لم يكن لها ظن أخذت بالأقل وهو اليقين، وعند الشافعي وأصحابه اختلاف الألوان هو الفصل فالأسود أقوى من الأحمر، والأحمر أقوى من الأشقر، والأشقر أقوى من الأصفر، والأصفر أقوى من الأكدر، إذا جعلا حيضا فتكون حائضا في أيام القوة مستحاضة في أيام الضعف.
وحديث سعد بن أبي طلحة عن أبي الدرداء أن «النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قاء فتوضأ فلقيته في مسجده فذكرت له ذلك، فقال: صدق أنا صببت وضوءه» رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسين المعلم أصح شيء في هذا الباب.
وحديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس في القطرة ولا القطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون دما سائلا» رواه الدارقطني. وحديث سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد سال من القيء دم الحديث لما أحدث يكفي الوضوء» رواه البزار في "مسنده"، وسكت عنه.(1/266)
ولأن خرج النجاسة مؤثر في زوال الطهارة وهذا القدر في الأصل وهو معقول والاقتصار على الأعضاء الأربعة غير معقول لكنه يتعدى ضرورة تعدي الأول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحديث ابن عباس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رعف في صلاته توضأ ثم بنى على صلاته» رواه الدارقطني وأعله بعمر بن رياح، والترجيح معنا لوجوه أربعة: الأول: أنه أكبر الصحابة. الثاني: أخبارنا مثبتة وأخبارهم نافية، والمثبت أولى بالقبول، الثالث: أن أخبارنا أكثر وأصح، وليس لهم خبر صحيح. الرابع: ما صرنا إليه أحوط في الدين في باب العبادة.
م: (ولأن خروج النجاسة مؤثر في زوال الطهارة) ش: هذا جواب لقول الشافعي حيث قال: غسل غير موضع الإصابة تعبدي ليس بمعقول، وفيه إثبات لصفة النجاسة لما يخرج من غير السبيلين بطريق القياس، ومعنى قوله: يؤثر في زوال الطهارة ظاهر لأن النجاسة إذا وجدت في محل تنفي الطهارة عن ذلك المحل، وإذا زالت عنه توجد الطهارة فيه لأن بينهما منافاة، وقال تاج الشريعة: النجاسة معنى إذا اختص بمكان يوجب الإخلال بالتقرب إلى المعبود ويمنع كمال التعظيم في العبادة، والطهارة يعني إذا اختصت بمحل يوجب كمال التقرب به إلى المعبود، وتمام التعظيم في العبادة، والنجاسة ضد الطهارة ومن الضرورات بتحقق أحد الضدين انتفاء الضد الآخر.
م: (وهذا القدر) ش: أي كون النجاسة تؤثر في زوال الطهارة م: (في الأصل وهو) ش: الخارج من السبيلين م: (معقول) ش: يعني يدركه العقل فيقاس عليه غيره، وهو الخارج من غير السبيلين م: (والاقتصار على الأعضاء الأربعة غير معقول) ش: لأنه غسل غير موضع الإصابة م: (لكنه يتعدى ضرورة تعدي الأول) ش: أي لكن الاقتصار على الأعضاء الأربعة يتعدى ضرورة تعدي المنصوص عليه وإن كان غير معقول إلى صورة النزاع حكما حتى يتعدى في ضمن الأول، وهو زوال الطهارة بخروج النجاسة.
وتحقيق هذا الكلام أن نقول: نحن لا نتعدى الحكم المخالف للقياس ضرورة أن ههنا حكمين:
أحدهما: ثبوت أحكام النجاسة، وهو المنع للصلاة ومن المضمضة وغيره أنه موافق للقياس لأنه محل تعظيم المعبود لأن القيام لعبادة الله ببدن نجس لا يكون مثل العبادة ببدن طاهر، والآخر الاقتصار على الأعضاء الأربعة وهو حكم مخالف القياس في الأصل، أعني السبيل فإذا تعدى الموافق للقياس تعدى إلى الفرع بصفة وأصل الحكم لما وافق القياس لا بد من تعديته لأنا أمرنا(1/267)
غير أن الخروج إنما يتحقق بالسيلان إلى موضع يلحقه حكم التطهير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالقياس فإذا عدي لا سبيل أنه تعدى وحده لأنه خلاف وضع القياس، إذ القياس مثل تعدي الحكم الثابت في الأصل إلى الفرع وإذا كان الحكم في الأصل موصوفا بصفة لا يجوز تعديته بدونه فتعين أن يتعدى بصفته وإن كانت مخالفة للقياس، وهذا لأن الشيء إذا ثبت في ضمن غيره لا يعطى له حكم نفسه، وإنما يعطى له حكم التضمن كالوكالة الثابتة في ضمن الرهن فإنها تلزم والجندي يصير مقيما في المغازي بنية إقامة السلطان في السفر، وقال الأترازي: يعني قوله "لكنه" أي لكن الخارج من غير السبيلين يتعدى حكمه إلى غير موضع الإصابة ويثبت فيه ضرورة تعدي الأول وهو الخارج من السبيلين لأن شمول العلة تستلزم شمول الحكم، والمراد من الأول الخارج من السبيلين لأنه مذكور أولا وغير الخارج من السبيلين مذكور آخرا.
فإن قلت: ما الأصل، وما الفرع، وما شروط القياس فإنا لم نعلم هذه من كلام المصنف قط.
نقول: أولا القياس إبانة مثل حكم أحد المذكورين بمثل علته في الآخر، فالمذكور الأول هو الأصل والثاني هو الفرع، وشرطه أن لا يكون الأصل مخصوصا بحكم آخر كشهادة خزيمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأن لا يكون معدولا به عن القياس كبقاء الصيام مع الأكل ناسيا، وإن تعدى الشرع الثابت بالنص بعينه إلى فرع هو نظيره ولا نص فيه والأصل ههنا هو الخارج من السبيلين أعني الغائط والبول، والفرع هو الخارج من غير السبيلين، وعلماؤنا استنبطوا أن الخارج من السبيلين كان حدثا لكونه نجسا خارجا من بدن الإنسان من قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] (النساء: الآية 43) وهو نص من أنه معلول بذلك الوصف لظهور أثره في عين الحكم المعلل به، وهو انتقاض الطهارة بخروج دم الحيض والنفاس، ووجدوا مثل ذلك في الخارج من غير السبيلين فتعدى الحكم الأول إليه، وتعدى الحكم الثاني وهو الاقتصار على الأعضاء الأربعة أيضا ضرورة تعدي الأول لأنه لو لم يتعد إليه تغير حكم النص بالتعليل وذلك يفسد القياس.
م: (غير أن الخروج إنما يتحقق بالسيلان إلى موضع يلحقه حكم التطهير) ش: هذا جواب إشكال وهو أن يقول: إن الحكم في الفرع لا بد وأن يكون على وفق الحكم في الأصل كما عرف ثم في الأصل يستوي القليل والكثير ولا يستوي ذلك في الفرع، وتقدير الجواب أن المؤثر في نقض الطهارة إنما هو المخروج من الباطن إلى الظاهر، والخروج إنما يتحقق إذا وجد السيلان إلى موضع يلحقه حكم التطهير في البدن كله موضع النجاسة والرطوبات والدماء السائلة فإذا انقطعت البشرة كانت الدماء والرطوبات مادية لا خارجة بخلاف البول إذا ظهر على الإحليل ولم يسل لأنه وجد الخارج من الباطن إلى الظاهر لأن موضع تلك النجاسة هي المثانة لا الإحليل، والمراد من السيلان أن يعلو الشيء على رأس الجرح وينحدر.(1/268)
وبملء الفم في القيء لأن بزوال القشرة تظهر النجاسة في محلها فتكون بادية لا خارجة بخلاف السبيلين؛ لأن ذلك الموضع ليس بموضع النجاسة فيستدل بالظهور على الانتقال والخروج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وبملء الفم في القيء) ش: أي وغير أن الخروج يتحقق بملء الفم في القيء يعني إذا قاء ولم يكن ملء الفم لا ينتقض وضوؤه وإنما اشترط ذلك باعتبار أن الفم له شبهان شبه الداخل، وشبه الخارج فاعتبر الكثير خارجا، والقليل غير خارج عملا بشبهي الفم.
فإن قلت: كان القياس أن لا يكون القيء حدثا لأن الحديث خارج بقوة نفسه، والقيء يخرج بقوة غيره فإن من طبع السليمة أن لا تسيل إلى فوق إلا بدافع يدفعها أو جاذب يجذبها كالدم الظاهر على رأس الجرح فمسحه بخرقة.
قلت: ترك القياس بالآثار عند ملء الفم فبقي مأذونا على أصل القياس لأنه من القليل يكون فإن امتلأ معدته يعلو إلى حلقه إذا ركع فجعل عفوا م: (لأن بزوال القشرة تظهر النجاسة في محلها فتكون بادية) ش: أي ظاهرة م: (لا خارجة) ش: لأن حقيقة الخروج هو الانتقال من الباطن إلى الظاهر والنجس ما دام في محله لا يأخذ حكم النجاسة لعدم إمكان تطهيره فاشترط التجاوز إلى موضع آخر م: (بخلاف السبيلين لأن ذلك الموضع ليس بموضع النجاسة) ش: أي لأن موضع الطهر ليس محل النجاسة وهو الإحليل، وموضع النجاسة المثانة فبالظهور يعلم أنه قد انتقل عن محله إلى محل آخر وهو معنى قوله م: (ويستدل بالظهور على الانتقال والخروج) ش: بخلاف غير السبيلين فإنه لم يعلم مجبر والظهور والخروج لأن تحت كل جلد رطوبة ودما فلا ينتقض الطهارة ما لم يوجد السيلان الذي هو يحقق الخروج.
فروع - تورم رأس الجرح فظهر به قيح أو نحوه لا ينقض ما لم يجاوز الورم وعن محمد لو صار أكبر من رأس الجرح نقض.
والصحيح الأول ولو نزل الدم إلى ما لان من الأنف أو إلى صماخ الأذن نقض، وقال الحسن بن زياد: الماء والقيح والصديد طاهر بمنزلة الريق، والعرق، والدمع، والمخاط، والنخامة والبصق فلا ينقض الوضوء، والصحيح أن ذلك بمنزلة الدم لأنه دم رقيق لم يتم نضجه فكان لونه لون الماء وفي " المجتبى ": الدم، والقيح، والصديد، وماء الجرح، والسفطة، والبشرة، والقذي في العين والأذن كله سواء على الأصح، وهذا يدل على أن من رمدت عينه وسال منها الماء يجب الوضوء والناس عنها غافلون ويؤمر به لوقت كل صلاة لاحتمال أن يكون من جرح في الجفون. وعن الحسن أن ماء النفطة لا ينقض. قال الحلواني: وفيه توسعة لمن به جرب أو جدري أو حكة بيده، والدم إذا أخذ من غرز الإبرة أو قطع السكين أكثر من النقبة حديث على الأصح، وذكر الحسن فيه عن محمد أنه ينتقض وعن أبي يوسف أنه لا ينتقض وبه أخذ الزمخشري.(1/269)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المحيط " مص القرادة عضوا فامتلأ إن كان صغيرا لا ينقض كما لو مص الذباب والبعوض وإن كان كبيرا ينقض كما لو مصت العلقة، ولو سال من فمه ماء أصفر نقض ولو ظهر بول المجبوب إن كان يقدر على إمساكه متى شاء نقض وإلا لا ينقض إلا بالسيلان وفي " المحيط " توضأ فرأى بللا سائلا من ذكره أعاد وضوءه وإن لم يعلم ما هو مضى على صلاته لأنه من وساوس الشيطان وينضح فرجه بالماء لتحليله عليه وفي " الذخيرة " إذا تبين أن الخنثى رجل أو امرأة فالفرج أخر منه بمنزلة القرحة لا ينقض الخارج منه ما لم يسل.
قال: وفي الكتاب قال أحب أن يعيد الوضوء وهو إشارة إلى أنه غير واجب وهو اختيار محمد بن إبراهيم الميداني وأكثر المشايخ على إيجابه، والدم المساوي للريق ينقض استحسانا كالغالب بخلاف الناقض ولو كان لون الريق أحمر نقض وإن كان أصفر لا ينتقض خرج من أذنه قيح أو صديد بدون الوجع لا ينتقض ومع الوجع ينقض لأنه دليل الجرح هكذا أفتى الحلواني. باشر امرأته من غير حائل فاشتد ذكره لها انتقض وضوؤه عندهما استحسانا خلافا لمحمد إلا بخروج شيء ولم يشترط في ظاهر الرواية مماسة الفرج بالفرج واشترط في رواية الحسن وهو الأظهر الدم السائل من الجرح إذا لم يتجاوز إلى موضع يلحقه حكم التطهير طاهر في الأظهر وهو قول أبي يوسف وبه أخذ الكرخي، وكذا كل ما لا ينقض الوضوء من القيء وغيره خلا دم الاستحاضة وبه كان يفتي أبو عبد الله القلانسي، ومحمد بن سلمة، وأبو نصر، وأبو القاسم، وأبو الليث. وعن محمد بن الحسن أنه نجس وبه كان يفتي أبو بكر الإسكاف، وأبو جعفر، وعلى الأول لو امتلأ الثوب منه لا يمنع جواز الصلاة كما يكون لأصحاب القروح يصيب ثيابهم مرة بعد مرة من غير تجاوز لمكان العذر ولا يمنع وإن كثر، روى ذلك بعض أصحابنا عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحكي عن أبي يوسف وعليه الفتوى، وفي " الينابيع " أقطر دهنا في إحليله ثم سال منه لا ينقض عند أبي حنيفة خلافا لأبي يوسف ومحمد. أدخل الحقنة في دبره ثم أخرجها لا وضوء عليه مع أنه لا يخلو من خروج شيء معها من النجاسة، وكل شيء غيبه في دبره ثم أخرجه أو خرج بنفسه نقض وأفسد الصوم وإن دخل بعضه وطرفه خارج لا ينقض ولا يفسد الصوم عمم ولم يفسد ومراده غير الذكر أما إذا لم يكن عليه بلة وفي " قاضيخان " روايتان والصحيح إذا لم تغب فيه تعتبر البلة والرائحة فإنه ليس بداخل من كل وجه حتى لا يفسد صومه ولا ينقض الوضوء بنزول البول إلى قصبة الذكر وإلى القلفة ينقض. والريح الخارج من ذكر الرجل وقبل المرأة لا ينقض الوضوء.
في " المحيط " هكذا حكاه الكرخي عن أصحابنا إلا أن يكون مفضاة وهي التي صار مسلك بولها ووطئها والتي صار مسلك الغائط والوطء منها واحد ولا يحل وطؤها إلا أن يعلم أنه لا(1/270)
وملء الفم أن يكون بحال لا يمكن ضبطه إلا بتكلف لأنه يخرج ظاهرا فاعتبر خارجا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يجاوز قبلها فحينئذ يستحب لها الوضوء لاحتمال أنها خرجت من دبرها لا من قبلها، وفي " المفيد " و " الذخيرة " عن محمد أنه حدث من قبلها قياسا على دبرها وعن الكرخي أن الريح من الذكر لا ينقض وإنما هو اختلاج.
وقال أبو حفص الكبير: يجب في المفضاة، وقيل إن كانت الريح منتنة يجب وإلا فلا، وفي " الذخيرة " والدودة الخارجة من قبل المرأة على هذه الأقوال وفي " القدوري " يوجب وفي الذكر لا ينتقض، وإن خرجت الدودة من الفم، أو الأنف، أو الأذن، لا تنقض، حشى إحليله بقطنة أو ربط الجراحة إن تعدى البلل إلى خارجها نقض وإلا فلا، وإن حشت المرأة بقطنة فابتل داخلها إن كانت على الشفرين نقض وإن كانت داخل الفرج فلا وضوء عليها، وإن أدخلت أصبعها في فرجها انتقض وضوؤها لأنها لا تخلو عن بلة ولو وصل المائع إلى الدماغ بالسعوط، أو الوجوز، أو الأقطار ثم خرج لا ينقض لأنه خرج من مكان طاهر.
وعن أبي يوسف إن خرج من الفم نقض، ولو غرز إبرة في يده وظهر الدم أكثر من رأس الإبرة لم ينتقض، وكان محمد بن عبد الله يميل إلى القول بالنقض ويراد سائلا وكذا في " فتاوى النسفي " وإذا عصرت القرحة فخرج منها شيء كثير ولو لم يعصرها لا يخرج منها شيء ينقض وضوءه كذا في " مجموع النوازل "، وفيه أيضا جرح ليس فيه شيء من الدم والصديد فدخل الحمام أو الحوض فدخل الماء الجرح وسال منه الماء لا ينقض وذكر الإمام علاء الدين أن من أكل خبزا أو فاكهة ورأى أثر الدم فيه من أصول أسنانه ينبغي أن يضع إصبعه أو طرف كفه على ذلك الموضع فإن وجد فيه أثر الدم انتقض وضوؤه وإلا فلا.
م: (وملء الفم أن يكون بحال لا يمكن ضبطه إلا بتكلف) ش: هذا التعريف عن رواية الحسن بن زياد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيل حد ملء الفم أن يمنعه من الكلام، وقيل: أن يزيد على نصف وقيل: أن يعجز عن تغطية الفم، وقيل: ما جاوز الفم، وقيل ليس فيه حد مقرر بل هو مفوض إلى رأي المبتلى به إن كان يراه ملء الفم انتقضت طهارته وإن لم يره لا ينقض وهذا أشبه مذهب أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما لم يرد فيه من الشرع تقدير ظاهر وهو اختيار شمس الأئمة الحلواني م: (لأنه) ش: أي لأنه ملء الفم وهذا دليل لقوله "وبملء الفم من القيء" وليس بدليل لقوله: وملء الفم لمن يكون بحال اه.
حتى لا يقال التعرب لا يستدل عليها لأنه ما قبل تعريف ملء الفم م: (يخرج ظاهرا) ش: لأنه لا يقدر على ضبطه إلا بكلفة م: (فاعتبر خارجا) ش: فلا يكون تبعا لذلك بخلاف ما إذا قل فإنه تبع للريق فلا يقتضي وحاصل الكلام ههنا أن الفم تجارى فيه دليلان: أحدهما يقتضي كونه باطنا والآخر يقتضي كونه ظاهرا نظير ذلك في الصائم إذا أخذ الماء بفيه ثم مسحه لا يفسد صومه، وإذا(1/271)
وقال زفر: قليل القيء وكثيره سواء، وكذا لا يشترط السيلان، اعتبارا بالمخرج المعتاد ولإطلاق قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «القلس حدث» ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ليس في القطرة والقطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون سائلا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابتلع ريقه فكذلك، فورد على الدليلين حكمها، فقيل إذا كثير ينقض وإذا قل لا ينقض.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قليل القيء وكثيره سواء) ش: وبه قال الثوري والحسن البصري ومجاهد م: (وكذا لا يشترط السيلان) ش: أي في الخارج من غير السبيلين كالدم ونحوه م: (اعتبارا) ش: أي يعتبر اعتبارا وانتصابه بالمقدر م: (بالمخرج المعتاد ولإطلاق قوله «القلس حدث» ش: هذا قياس ظاهر لأنه لما كان الخارج من غير السبيلين حدثا بما دل عليه من الدليل، وجب أن يستوي فيه القليل والكثير.
قال الأترازي والأكمل أيضا هذا الحديث رواه سوار بن مصعب عن زيد بن علي عن بعض آبائه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكره أبو بكر الرازي في شرحه لمختصر الطحاوي، وهذا عجز منهما من ثلاثة أوجه:
الأول: أن هذا أخرجه الدارقطني في "سننه " حيث لم يرجعا إليه.
والثاني: غير الإسناد إلى زيد بن علي غير سوار بن مصعب وهو متروك.
والقلس بفتح اللام وقيل بسكونها. قاله ابن الأثير واختلف فيه فقال المرغيناني القلس ما كان ملء الفم والقيء دونه، وقيل على العكس دل عليه قول محمد فإن قلس أقل من ملء الفم وقول مجاهد وطاووس لا وضوء في القلس حتى يكون القيء. ذكره النسائي وفي " المغرب " القلس ما خرج من الحلق ملء الفم أو دونه وليس بقيء فإن عاد فهو القيء. وقلس الكأس إذا قذف بالشراب لشدة الامتلاء.
وقال خواهر زاده: القلس ما يخرج من المعدة عند غثيان النفس واضطرابها والقيء ما يخرج منها عند سكون وقرار، فكان في القلس زيادة شدة ليست في القيء.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس في القطرة والقطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون سائلا» ش: رواه الدارقطني من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من طريقين كلاهما ضعيف، لأن في أحدهما محمد بن الفضل وفي الأخرى حجاج بن نصير وهما ضعيفان، والقطرة والقطرتان عبار عن قلة الدم، وسماه قطرة لأنه لم يوجد السيلان والدليل على ذلك قوله: «إلا أن يكون سائلا» فإن كان السيلان سابقا على حال القطر، فإن زاد السيلان بازدياد الدم واجتمع في موضع لو حصل له صلاحية ازدياد السيلان يحصل القطرة، فإذا كان كذلك لو كانت القطرة على حقيقتها لا يصح استثناء حالة السيلان منها، لأن استثناء الشيء بمنزله غايته، فلا يجوز تقديم الغاية على المغيا لأن(1/272)
وقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين عد الأحداث جملة أو دسعة تملأ الفم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الغاية تعقب المغيا أبدا، فكذلك حالة القطرة تعقب حالة السيلان على ما ذكرنا، ولا يجوز أن تعقب حالة السيلان حالة القطرة كذلك وهذا كما إذا قال الرجل لامرأته وهي خارجة الدار إذا قعدت وسط الدار فأنت طالق إلا إذا دخلت تلك الدار أو دخلت فإنه لا يصح لأن حال الدخول سابقة على حال القعود، نظيره ليس في اللقمة واللقمتين من أكل الجزء، واختيار قطع الصلاة إلا أن يكون المصلي أدخله في فيه لا يصح.
وحاصل معنى الحديث ليس في القطرة والقطرتين بالقود من الدم وضوء لكن إذا سال الدم ففيه الوضوء.
وفي " المغني " لا وضوء في الدم القليل لكن في الكثير وضوء وهو السليل فالاستثناء منقطع، لأن حقيقته ليست بمرادة لحصولها بعد السيلان، والمجاز وهو القليل لا يتناول السائل فلا يكون متصلا، ولا يجوز أن يكون المراد قطر الدم من رأس الجرح من غير أن يسيل فإنه قول خارق للإجماع لعدم القائل بالفصل فلا يصح، لأن كل من قال بانتقاض الطهارة بالسيلان، فقائل بانتقاضها في هذه الصورة ومن قال بعدم الانتقاض مطلقا لا يقول بالانتقاض في هذه الصورة، فالقول بالتناقض بالسيلان وبعدم الانتقاض بالقطر قول لم يقل به أحد.
م: (وقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين عد الأحداث جملة أو وسعة تملأ الفم) ش: هذا غريب لم يثبت عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والعجب من الأكمل قال: الظاهر أنه قاله سماعا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا بعد ثبوته عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وأعجب من هذا قول الأترازي أورده [......] أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عد الأحداث وقال: يعاد الوضوء من كذا ثم قال: أو وسعة تملأ الفم، ولم يقف على أصل الأثر كيف لفظه: ولا وقف على صحته، ولا عرف هل هو موقوف، أم مرفوع حتى يصرف فيه من عنده، ثم قال وذكر الناطقي في الأجناس وقال، روى زيد بن ثابت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «يعاد الوضوء من سبع: من نوم غالب، والقيء، وغائط، وبول، ودسعة تملأ الفم، ودم سائل، والقهقهة في الصلاة» الحديث.
قال "صاحب الدراية " روى البيهقي و "صاحب المحيط " عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال «يعاد الوضوء ... » إلى آخره، نحوه وليس فيه والحدث.
وذكر السروجي في شرحه كما ذكره صاحب " الدراية " وقال في آخره لا يصح وكلهم أظهروا العجز في ذلك والحديث أخرجه البيهقي في " الخلافيات " عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يعاد الوضوء في سبع: من إقطار البول، والدم السائل، والقيء، ومن وسعة تملأ الفم، ونوم المضطجع، وقهقهة الرجل في الصلاة، وخروج الدم» فأضعفه فإن فيه سهل بن عفان والجارود بن(1/273)
وإذا تعارضت الأخبار، يحمل ما رواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على القليل، وما رواه زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الكثير، والفرق بين المسلكين ما قدمناه، ولو قاء متفرقا بحيث لو جمع يملأ الفم، فعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر اتحاد المجلس، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر اتحاد السبب وهو الغثيان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
زيد وهما ضعيفان.
وقال ابن الأثير في "النهاية ": الوسيع الدفع، ثم قال: ومنه حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وذكر ما يوجب الوضوء، وقال: ووسعة تملأ الفم يريد الدفع الواحدة من القيء. وجعله الزمخشري حديثا عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقال: هي من ريع السرمومة إذا نزعها من كرشه وألقاها إلى فيه.
م: (وإذا تعارضت الأخبار، فيحمل ما رواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على القليل وما رواه زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الكثير) ش: وهذا إلى أن الأصل في تعارض الأخبار التوفيق، لأن الأصل في الأدلة الإعمال دون الإهمال. وههنا تعارض ما رواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما رواه من «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قاء فلم يتوضأ» . وما رواه - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «القلس حدث» . والعمل بهما ممكن فيحمل ما رواه الشافعي على القليل وما رواه زفر على الكثير، وذلك لأن القيء ملء الفم من كثرة الأكل. ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عن ذلك بمعزل، والقياس مصدر قلس إذا قاء ملء الفم، كذا في الأسامي، ولأن ما رواه الشافعي إن صح فهو حكاية حال فلا عموم له أو أنه لم يتوضأ عن القيء في فوره ذلك.
م: (والفرق بين المسلكين ما قدمناه) ش: أي الفرق بين المخرج المعتاد وغيره وهو جواب لزفر عن اعتباره غير المعتاد بالمعتاد، وقال صاحب " الدراية " أراد بالمسلكين السبيلين وغيرهما أو الفم أو السبيل. قال السغناقي: والفرق بين المسلكين أي: بين الفم والسبيلين ويروى والفرق بين المسألتين قوله ما قدمناه يعني في مسألة الدم من كون القليل ناقضا في السبيلين غير ناقض في غير السبيلين أو عند قوله: غير أن الخروج إلى آخره. م: (ولو قاء متفرقا) ش: أي قيئا متفرقا. وانتصابه على أنه صفة لمصدر محذوف م: (بحيث لو جمع) ش: أي القيء. فإن قلت: القيء لم يذكر، قلت: دل عليه قوله قاء م: (يملأ الفم) ش: جواب لو.
م: (فعند أبي يوسف يعتبر اتحاد المجلس) ش: أي: مجلس القيء، لأن للمجلس أثرا في جمع المتفرقات، وكذا التلاوات المتعددة للسجدة متحد باتحاد المجلس.
م: (وعند محمد: اتحاد السبب) ش: أي: ويعتبر عند محمد اتحاد السبب في القيء المتفرق م: (وهو) ش: أي السبب م: (الغثيان) ش: وهو مصدر غثت نفسه إذا جاءت. وقال الجوهري:(1/274)
ثم ما لا يكون حدثا لا يكون نجسا يروى ذلك عن أبي يوسف وهو الصحيح، لأنه ليس بنجس حكما حيث لم تنتقض به الطهارة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الغثيان خبث النفس وتدعت نفسه عينا وعناة وأما عل سبيل المرتع [......] عزا إذا جمع بعضه إلى بعض، ومنه الغثاء بالضم والمد وهو ما يحمل السيل من العمامين، وقال محمد: لأن الحكم يثبت على حسب ثبوت السبب من الصحة والفساد فيتحد باتحاده، ألا ترى أنه إذا جرح جراحات ومات منها قبل البرء يتحد الموجب، وإن تخلل البرء اختلف ويعتبر الاتحاد في الغثيان، وإن بقي ثانيا قبل سكون النفس عن الغثيان الأول فإن سكنت ثم قاء فهو حدث جديد، وقيل: قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أصح ثم المسألة على أربعة أوجه: إما أن يتحد السبب في المجلس، أو يتعدد، أو يتحد الأول دون الثاني، أو على العكس. ففي الأول: يجمع اتفاقا، وفي الثاني: لا يجمع اتفاقا، وفي الثالث: يجمع عند الثالث، وفي الرابع: يجمع عند الثاني.
م: (ثم ما لا يكون حدثا لا يكون نجسا) ش: الذي لا يكون حدثا هو القليل من القيء وغير السائل من الدم لا يكون نجسا، ألا ترى أنه لا تنقض به الطهارة فيكون طاهرا م: (يروى ذلك عن أبي يوسف) ش: وبه أخذ الكرخي وفي " جامع الكردري " هو مروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأمر به أبو عبد الله الغساني ومحمد بن سلمة وأبو نصر وأبو القاسم وأبو الليث.
م: (وهو الصحيح) ش: أي ما روي عن أبي يوسف هو الصحيح، وهو اختيار المصنف أيضا. واحترز به عن قول محمد فإنه نجس عنده، واختاره بعض المشايخ احتياطا، وأفتى به أبو بكر الإسكاف، وأبو جعفر. وفائدة الخلاف تظهر فيما أخذه بقطنة وألقاه في الماء لا ينجس الماء عند أبي يوسف أرفق خصوصا في مثل أصحاب القروح والجدري، حتى لو أصاب الثوب منه كثير لا يمنع جواز الصلاة.
م: (لأنه) ش: تعليل وجه الصحة أي لأن ما لا يكون حدثا م: (ليس بنجس حكما) ش: أي من حيث الحكم الشرعي م: (حيث لم تنتقض به الطهارة) ش: معناه أن الخارج النجس من بدن الإنسان، أي يستلزم كونه حدثا معه انتفى اللازم، وانتفاؤه يستلزم انتفاء الملزوم قيل: فيه مصادرة على المطلوب، بناء على أن معنى كلامه ليس كذلك بل معناه ما لا يكون حدثا لا يكون نجسا، لأن ما لا يكون حدثا ليس بنجس حكما لأن حكمه بالنجاسة يستلزم كونه حدثا، وليس بحدث؛ لما دل عليه من الدليل، فلا يكون نجسا.
فإن قلت: ما لا يكون حدثا لا يكون نجسا ينعكس بأن يقال: ما يكون حدثا يكون نجسا. قلت: لا ينعكس فإن النوم والإغماء والجنون أحداث وليست بنجسة.
فإن قلت: يرد عليك دم الاستحاضة، والجرح السائل فإنه ليس بحدث، قلت: بل هو حدث لكن لا يظهر أثره حتى يخرج الوقت.(1/275)
وهذا إذا قاء مرة أو طعاما أو ماء، فإن قاء بلغما فغير ناقض عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ناقض إذا قاء ملء الفم. والخلاف في المرتقي من الجوف، أما النازل من الرأس فغير ناقض بالاتفاق، لأن الرأس ليس بموضع النجاسة لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه نجس بالمجاوزة، ولهما أنه لزج لا تتخلله النجاسة وما يتصل به قليل والقليل في القيء غير ناقض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: كيف يجوز الاستدلال بعدم نقض الطهارة على عدم النجاسة لأن عدم النقض يجوز أن يكون انتفاؤه لكونه غير خارج دون انتفاء الوصف الآخر.
قلت: غير الخارج لا يعطى له حكم النجاسة لكونها في محلها فإن من صلى، وهو حامل حيوانا غير نجس أو حامل بيضة حال محها، وما جازت صلاته فكان انتفاء الخروج مستلزما لانتفاء النجاسة.
م: (هذا) ش: إشارة إلى القيء ملء الفم م: (إذا قاء مرة) ش: بكسر الميم وتشديد الراء. قال الجوهري: المرة إحدى الطبائع الأربع، وقال: المراواة التي فيها المراة والمرة القوة أيضا. قلت: المراد بها الصفراء وهي إحدى الطبائع م: (أو طعاما) ش: أي: أو قاء طعاما م: (أو ماء) ش: أي: قاء ماء فإن هذه الأشياء ربما تنقض الطهارة إذا كانت ملء الفم.
م: (فإن قاء بلغما فغير ناقض) ش: للوضوء م: (عند أبي حنيفة ومحمد) ش: إذا كان بلغما صرفا لا يشوبه طعام، ولم يذكر ما إذا اختلط بالطعام، قالوا: تعتبر فيه الغلبة فإن كان الطعام غالبا ينقض وإلا فلا.
م: (وقال أبو يوسف ناقض إذا كان ملء الفم والخلاف) ش: أي الخلاف المذكور بين الثلاثة م: (في المرتقي) ش: أي الصاعد م: (من الجوف) ش: أي المعدة م: (أما النازل من الرأس فغير ناقض بالاتفاق لأن الرأس ليس بموضع النجاسة) ش: فالنازل منها رطوبة تنزل إلى أعلى الحلق فيرق فيصير بزاقا، وإذا استقر في أسفل الحلق يتخفف فيصير بلغما م: (لأبي يوسف أنه) ش: أي البلغم المرتقي من الجوف م: (ينجس بالمجاوزة) ش: أي مجاوزة ما في المعدة من النجاسة، وقد خرج إلى موضع يلحقه حكم التطهير، فيكون ناقضا للوضوء.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (أنه) ش: أي البلغم المرتقي من الجوف م: (لزج) ش: أي لصق. وهو بفتح اللام وكسر الزاي المعجمة م: (لا تتخلله النجاسة) ش: أي لا يتداخله النجاسة ولا يدخل في أجزائه م: (وما يتصل به قليل والقليل في القيء غير ناقض) ش: لأنه لا يحتمل السيلان، والسيلان في غير السبيلين أقيم مقام الخروج ولم يوجده.(1/276)
ولو قاء دما وهو علق يعتبر فيه ملء الفم، لأنه سوداء محترقة، وإن كان مائعا فكذلك عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبارا بسائر أنواعه، وعندهما إن سال بقوة نفسه ينقض الوضوء، وإن كان قليلا؛ لأن المعدة ليست بمحل الدم فيكون من قرحة في الجوف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: ينتقض هذا ببلغم يقع في النجاسة، ثم يرفع عنها يحكم بنجاسته.
أجيب بأنه لا رواية في هذه المسألة، ولئن سلم فالفرق بينهما أن البلغم ما دام في البطن يزداد ثخانة فيزداد لزوجة، فإذا انفصل عن الباطن ثقل ثخانته فتقل لزوجته، فإذا قلت لزوجته ازدادت رقته، فجاز أن يقبل النجاسة. وكان الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يميل إلى قول أبي يوسف حتى روي عنه أنه يكره أن يأخذ الإنسان بلغمه بطرف ردائه ويصلي به، كذا في " الفوائد الظهيرية ".
وفي " جامع المحبوبي " هذا الاختلاف راجع إلى اختلافهم في أن البلغم طاهر أو نجس، فعند أبي يوسف نجس وعندهما لا.
م: (ولو قاء دما وهو علق) ش: أي والحال أنه علق بفتح العين واللام وهو المتجمدة.
م: (يعتبر فيه ملء الفم) ش: حتى إذا لم يكن ملء الفم لا ينقض م: (لأنه) ش: أي: لأن الدم العلق سوداء محترقة وليس بدم على الحقيقة.
فإن قلت: ما موصوف السواد فإنها صفة لا بد لها من موصوف. قلت: موصوفها المرة أي: مرة سوداء احترقت من شدتها، والسوداء المحترقة تخرج من المعدة وما يخرج منها لا يكون حدثا ما لم يكن ملء الفم م: (وإن كان) ش: أي: الدم م: (مانعا فكذلك) ش: أي فكان الحكم المذكور يعتبر فيه ملء الفم م: (عند محمد اعتبارا) ش: أي اعتبر محمد اعتبارا م: (بسائر أنواعه) ش: أي بسائر أنواع القيء وهي خمسة: الطعام، والماء، والمرة، والصفراء، والسوداء. كذا قال الأكمل أخذه من " الدراية "، وصاحب " الدراية " أخذه من المحبوبي وفيه نظر لأن المرة هي الصفراء كما ذكرنا، وهي السوداء أيضا، ولذلك قالت الأطباء الأخلاط أربعة: الدم، والمرة السوداء، والمرة الصفراء، والبلغم فطبع الأول حار رطب، والثاني بارد يابس، والثالث حار يابس، والرابع بارد رطب.
م: (وعندهما) ش: أي عند أبي حنيفة وأبي يوسف (إن سال بقوة نفسه ينتقض الوضوء وإن كان قليلا) ش: الاعتبار عندهما بالسيلان بقوة نفسه، لا بقوة المزاج م: (لأن المعدة ليست بمحل للدم) ش: يعني أنها ليست من مظان الدم ومواضعه م: (فتكون من قرحة في الجوف) ش: فالمعتبر هناك السيلان فكذلك هناك.
فإن قلت: لم اختص هذا الحكم بما يخرج من المعدة فينبغي أن يكون عاما ولا ينتقض الوضوء(1/277)
ولو نزل من الرأس إلى ما لان من الأنف نقض الوضوء بالاتفاق، لوصوله إلى موضع يلحقه حكم التطهير فيتحقق الخروج.
والنوم مضطجعا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بخروج دم من قرحة في الفم ما لم يملأ الفم كالقيء، قلت: إنما اختص بالقيء لأن النص متعارض فيه، فإنه روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاء ولم يتوضأ» وروى الترمذي من حديث حسين المعلم عن أبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قاء فتوضأ» . والمفهوم من الإطلاق الوضوء الشرعي لا غسل الفم منه لأن ذلك يسمى مضمضة. وروي أنه قال: «القلس حدث» . فعرفنا بذلك بأن الفم حكم الباطن في قليل القيء، وحكم الظاهر في كثيره، فأما في حق الدم، فلم يوجد دليل يدل على ذلك بل دل فيه على أن المعتبر فيه التجاوز إلى موضع يلحقه حكم التطهير.
فإن قلت: ما تقول في ماء فم النائم. قلت: النازل من الرأس أو المتخف من اللهوات طاهر، والصاعد من الجوف فإن كان أصفر أو منتنا كالقيء، وعن أبي الليث هو كالبلغم، وقيل: نجس عند أبي يوسف خلافا لمحمد. وعن أبي حنيفة إن قاء طعاما أو ماء أصاب إنسانا قيء يسير لا يمنع. قال الحسن: الأصح أنه لا يمنع ما لم يفحش وفي " القنية ": قاء دودا كبيرا لا ينقض وكذا لو قاء حية ملأت فاه.
م: (ولو نزل من الرأس إلى ما لان من الأنف) ش: أي الذي لان من الأنف وهو المازن.
م: (نقض الوضوء بالاتفاق لوصوله إلى موضع يلحقه حكم التطهير فيتحقق الخروج) ش: لأن هذا الموضع له حكم الظاهر في الشرع، ولهذا يخاطب بتطهيره في بعض الأحوال فصار النازل اليسير خارجا فيكون ناقضا، بخلاف ما إذا نزل البول إلى قصبة الذكر لأنه ليس له حكم الظاهر، ولهذا لم يخاطب بتطهيره.
فإن قلت: أليس هذا المكرر لأنه قد علم من قوله في أول الفصل والدم والقيح إذا خرجا من البدن. قلت: إنما ذكره ههنا بيانا لاتفاق أصحابنا، لأن عند زفر إذا وصل الدم إلى قصبة الأنف لا ينقض، وإنما ينقض إذا وصل إلى ما لان وإليه أشار المصنف بقوله بالاتفاق.
[النوم من نواقض الوضوء]
م: (والنوم مضطجعا) ش: برفع النوم عطفا على قوله: والقيء ملء الفم، أي: ومن نواقض الوضوء النوم مضطجعا، ولما فرغ من نواقض الوضوء بما خرج من البدن حقيقة كالبول والغائط، والدم، والقيح، والقيء شرع فيما ينقضه أيضا حكما كالنوم. ثم الأنف واللام في النوم بدل من المضاف إليه تقديره ونوم المتوضئ، وانتصاب مضطجعا على أنه حال منه، والاضطجاع أن يضع(1/278)
أو متكئا أو مستندا إلى شيء لو أزيل عنه لسقط، لأن الاضطجاع سبب لاسترخاء المفاصل فلا يعرى عن خروج شيء عادة والثابت عادة كالمتيقن به،
والاتكاء يزيل مسكة اليقظة لزوال المقعد عن الأرض وبلغ الاسترخاء في النوم غايته بهذا النوع من الاستناد غير أن السند يمنعه من السقوط.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النائم جنبه على الأرض، م: (أو متكئا) ش: أي وحال كونه متكئا على أحد وركيه، والاتكاء افتعال من وكا معتل العين مهموز اللام. ولما نقل من وكا إلى باب الافتعال صار أوتكا ثم أبدلت الواو تاء وأدغمت التاء في التاء وصار اتكا والمتكئ فاعل فيه وأصله المتوكئ م: (أو مستندا) ش: أي حال كونه مستندا م: (إلى شيء) ش: كجدار وعامود ونحوهما م: (لو أزيل عنه لسقط) ش: وهذا القياس ليس من رواية " المبسوط "، وإنما هو مما اختاره الطحاوي م: (لأن الاضطجاع سبب لاسترخاء المفاصل فلا يعرى) ش: أي فلا يخلو م: (عن خروج شيء) ش: أي الريح م: (عادة) ش: أي من عادة النائم المضطجع م: (والثابت بالعادة كالمتيقن به) ش: ألا ترى من دخل المستراح ثم شك في وضوئه فإنه يحكم بنقض وضوئه، لأن العادة جرت عند الدخول في الخلاء بالتبرز بخلاف ما إذا شك بدون الدخول.
م: (والاتكاء يزيل مسكة اليقظة) ش: أي التماسك الذي يكون لليقظان والمسكة بالضم اسم، قال الجوهري: عن أبي زيد، يقال فيه: مسكة من خير بالضم أي بقية، والمسكة أيضا من السير الصلبة التي لا تحتاج إلى طي، واليقظة بفتح الياء، وفتح القاف أيضا من استيقظ فهو يقظان. وفي دستور اللغة يقال: يقظ من باب علم يعلم، فعلى هذا هو مصدر. وقال الصاغاني في " العتابي ": يقظ بالكسر أي استيقظ يقظا، ويقظة بالتحريك فيهما، فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك فما وجه إضافة المسكة إلى اليقظة سواء كان مصدرا أو اسما، قلت: هذا إسناد مجازي، والمراد مسكة صاحب اليقظة، والمعنى أن الاتكاء يزيل مسكة اليقظان حال قوي أن يزيل مسكة النائم، ولهذا علل المصنف بشيئين الأول أشار إليه بقوله: (لزوال المقعد عن الأرض) ش: لأن مقعده إذا زال عن الأرض لا يؤمن عن خروج شيء.
والثاني: أشار إليه بقوله: (وبلغ الاسترخاء غايته لهذا النوع من الاستناد) ش: أراد بهذا النوع الاتكاء م: (غير أن السند يمنعه من السقوط) ش: جواب عن سؤال مقدر وهو أن يقال: لا نسلم أن الاسترخاء يبلغ غايته إذ لو كان كذلك سقط فلما لم يسقط علم أنه لم يبلغ غايته، فأجاب عنه بالسنة تمنعه من أن يسقط فلولا هو لسقط.
واعلم أن النائم له ثلاث عشرة حالة: نوم المضطجع، والمتورك والمتكئ وهو ناقض، والقاعد، والمتربع، والماد رجليه، والمنحني، والمقعي شبه الكلب، والراكب، والماشي، والقائم، والراكع، والساجد، وهو ليس بناقض، والمستند وهو ناقض على ما ذكره الطحاوي أنه لو نام(1/279)
بخلاف حالة القيام، والقعود، والركوع، والسجود في الصلاة وغيرها هو الصحيح لأن بعض الاستمساك باق، إذ لو زال لسقط فلم يتم الاسترخاء. والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا وضوء على من نام قائما، أو قاعدا، أو ساجدا، إنما الوضوء على من نام مضطجعا فإنه إذا نام مضطجعا استرخت مفاصله» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مستندا إلى شيء أو متكئا على يديه ولو كان بحال لو زال السند أو ما اتكأ عليه لسقط فكان حدثا وإلا لا، واختاره القدوري وصاحب " الهداية " وبه أخذ كثير من المشايخ.
ولكن روى خلف عن أبي يوسف أنه سأل أبا حنيفة عمن استند إلى شيء فنام فقال: إذا كانت إليته مستوثقة من الأرض فلا وضوء عليه، كيف ما كان، وبه أخذ عامة المشايخ، وهو الأصح. ذكره في " البدائع " و " المحيط " وفي " الكافي "، وهو ظاهر المذهب في " الذخيرة " أن النوم مضطجعا إنما يكون حدثا إذا كان اضطجاعه على غيره وأما إذا كان على نفسه لا يكون لو نام واضعا إليته شبه على وجهه واضعا بطنه على فخذيه لا ينقض الوضوء. وعن محمد من نام متكئا لا ينقض وضوؤه. وقال أبو يوسف: اضطجاعه على غيره ونفسه سواء في انتقاض الوضوء ونوم المريض المضطجع في الصلاة ينقض الوضوء في الصحيح. وقال أبو يوسف: لا وضوء عليه وهو الأصح. ولو نام خارج الصلاة على هيئة المصلي فيه اختلاف المشايخ.
م: (بخلاف حالة القيام والقعود والركوع والسجود في الصلاة) ش: يعني لا ينقض النوم الوضوء في هذه الحالات، إذا كان على هيئة سجود الصلاة من تجافي البطن عن الفخذ وعدم افتراش الذراعين، فإذا كان بخلافه ينقض م: (وغيرها) ش: أي وغير الصلاة م: (وهو الصحيح) ش: يعني كون ذلك في الصلاة وغير الصلاة هو الصحيح وظاهر الرواية، واحترز بذلك عما ذكره ابن شجاع أنه ناقض للوضوء في غير الصلاة م: (لأن بعض الاستمساك باق) ش: وقدر ما بقي من الاستمساك يمنع الخروج م: (إذ لو زال) ش: أي الاستمساك م: (لسقط فلم يتم الاسترخاء) ش: وإذا لم يكن النوم في هذه الأحوال سببا لخروج شيء عادة فلا يقام مقامه، لأن السبب إنما يقام مقام السبب إذا كان غالب الوجود بذلك السبب، أما إذا لم يغلب فلا لأنه حينئذ يقع الشك في وجود الحدث، والوضوء كان ثابتا بيقين فلا يزال بالشك.
م: (والأصل فيه) ش: أي في كون النوم غير ناقض في هذه الأحوال م: (قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا وضوء على من نام قاعدا أو قائما أو راكعا أو ساجدا إنما الوضوء على من نام مضطجعا فإنه إذا نام مضطجعا استرخت مفاصله» ش: هذا الحديث بهذا اللفظ غريب.
وإنما رواه أبو داود والترمذي من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولفظه: «إن(1/280)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوضوء لا يجب إلا على من نام مضطجعا، فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله» .
ورواه أحمد في "مسنده "، الطبراني في "معجمه " وابن أبي شيبة في "مصنفه " والدارقطني في "سننه "، ورواه البيهقي في "سننه "، ولفظه: «لا يجب الوضوء على من نام جالسا أو قائما أو ساجدا حتى يضع جنبه فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله» .
ورواه عبد الله بن أحمد في "زياداته " ولفظه: «ليس على من نام ساجدا وضوء حتى يضطجع» ، وصاحب " الهداية " لم يتعرض إلى هذا الحديث أصلا، وإنما احتج به وسكت. وقال أبو داود: قوله في الحديث: «على من نام مضطجعا» وهو حديث منكر لا يرويه إلا أبو خالد الدالاني عن قتادة.
وقال الدارقطني: تفرد به أبو خالد الدالاني ولا يصح. وقال ابن حبان: كان يزيد الدالاني كثير الخطأ فاحش الوهم، لا يجوز الاحتجاج به إلا إذا وافق الثقات، فكيف إذا تفرد عنهم بالمعضلات. وقال الترمذي في " العلل الكبير ": سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: لا شيء. وقال البيهقي في "السنن ": أنكره عليه جميع الحفاظ وأنكروا سماعه عن قتادة.
وقال في " الخلافيات ": أنكر عليه جميع أئمة الحديث.
قلت: أبو داود كيف يقول إنه حديث منكر، وقد استدل ابن جرير الطبري على أنه لا وضوء إلا من نوم اضطجاع وصحح هذا الحديث، وقال: الدالاني لا يرفع إلا عن العدالة والأمانة والأدلة تدل على صحة خبره.
وقول الدارقطني: تفرد به أبو خالد الدالاني ولا يصح غير صحيح، وقد تابعه فيه مهدي بن هلال عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا وضع جنبه فليتوضأ» .
وأخرجه ابن عدي عنه حدثنا يعقوب بن عطاء بن أبي رباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على من نام قاعدا أو قائما وضوء حتى يضطجع جنبه إلى(1/281)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأرض» .
وأخرج ابن عدي أيضا ثم البيهقي من جهته عن بحر بن كنيز عن ميمون الخياط عن ابن عباس عن «حذيفة اليماني قال: كنت في مسجد المدينة جالسا فاحتضنني رجل من خلفي فالتفت فإذا أنا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله هل وجب علي وضوء. قال: "لا حتى تضع جنبك» . قال البيهقي تفرد به بحر بن كنيز السقا وهو ضعيف لا يحتج بروايته.
وقول ابن حبان: كان بحر إلى آخره يرده ما قاله يحيى بن معين وأحمد والنسائي: ليس به بأس. وقال أبو حاتم صدوق ثقة، وروى عنه سفيان الثوري، وسعيد، وزهير بن معاية وغيرهم. وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، ويروي الناس عنه وروى عنه عبد السلام بن حرب.
وقال الأكمل: فإن قيل هذا الحديث غير صحيح لأن مداره على أبي العالية وهو ضعيف عند الثقة روى ابن سيرين أنه قال: حدث عمن شئت إلا عن أبي العالية فإنه لا يبالي عمن أخذ، أي لا يبالي أن يروي عن كل أحد. أجيب بأن أبا العالية ثقة نقل عنه الثقات كالحسن وإبراهيم النخعي والشعبي، وكونه لا يبالي عمن أخذ، يؤثر في مراسيله دون مسانيده، وقد أسند هذا الحديث إلى ابن عباس، قلت: من العجب أن الأكمل كيف رفع رأسه لبيان حال الحديث ومع هذا قال في الحديث الذي ذكره المصنف: رواه الترمذي مسندا إلى ابن عباس عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس الحديث كذلك عند الترمذي، فقد ذكرنا وقوله لأن مداره على أبي العالية ليس كذلك وإنما مداره على يزيد الدالاني وعليه اختلف في ألفاظه ومع هذا كله ليس من عنده، وإنما نقله من تاج الشريعة برمته، ثم وجه الاستدلال بهذا الحديث من وجوه:
الأول: نفي الوضوء عمن نام قائما أو راكعا.
الثاني: فيه الحصر بإنما فيمن نام مضطجعا.
فإن قلت: لا حصر ههنا لأن الوضوء لم ينحصر على من نام مضطجعا، بل هو واجب على المستند والمتكئ كما مر.
قلت: لا نسلم أن إنما ههنا للحصر بل هو لتأيد الإثبات، ولئن سلمنا أنه للحصر فإنه حصر انتقاض الوضوء المتعلق بصفة الاضطجاع فإنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علل باسترخاء المفاصل، وإنما وجب على المتكئ والمستند بدلالة النص لاستوائهما في المنصوص في المعنى وهو الاسترخاء قال صاحب " الدراية ": هذا نقل عن مولانا حميد الدين، وقال فخر الدين الرازي: إنما يحصر الشيء في الحكم. وينحصر الحكم في الشيء لأن إن للإثبات وما للنفي فيقتضي إثبات المذكور ونفي ما(1/282)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عداه. واعترض عليه بأن ما في إنما كافة عند النحاة وليست بنافية لأنها قسيمة، وقسيم الشيء لا يكون عينه ولا قسيمه، وبأن دخول إن على ما النافية لا يستقيم لأن كلا منهما له صدر الكلام فلا يجمع بينهما.
والوجه الثالث: الحديث معلل وهو قوله: «فإنه إذا نام استرخت مفاصله» فإنه يدل على عدم الوجوب على من نام قائما أو راكعا أو ساجدا لعدم الاسترخاء، وعلى وجوبه على المضطجع ومن هو بمعناه لوجوده فيه، قال الأكمل: قيل معنى قوله: استرخت مفاصله يبلغ الاسترخاء غايته لأن الأصل الاسترخاء فيمن نام قائما فحينئذ ناقض أول الحديث آخره. قلت: نقل هذا الكلام عن قائله المجهول ولكنه ما بينه كما ينبغي وتحقيقه.
أما تفسير قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإنه إذا نام استرخت مفاصله» لأنه يبلغ الاسترخاء غايته بهذا النوع من الإسناد ولو لم يفسر الذي في الحديث بالاسترخاء النائم يلزم التناقض بين أول الحديث وآخره، لأن أصل الاسترخاء يوجد من النوم حالة القعود والركوع والسجود فإذا فسرنا الاسترخاء بالنوم في الحديث، وبأن المراد ليس الاسترخاء الناقض ولا هو علة فيه يندفع التعارض فافهم.
فروع: ذكر " المبسوط " في سجود المرأة والرجل إذا ألصق بطنه بفخذه اختلاف المشايخ، والجالس إذا نام وسقط على الأرض أو عضو منه فانتبه، ذكر في " البحر المحيط " ظاهر الجواب عند أبي حنيفة أنه إن انتبه قبل أن يزايل مقعد الأرض لا ينقض. وروى الحسن عنه أنه إن انتبه حتى يضع جنبه على الأرض لا ينتقض.
وعند أبي يوسف: لا ينقض يعني مستقرا قاعدا عليها بعد السقوط. وذكر السرخسي خلافه فقال: إن نام قاعدا فسقط، فعند أبي حنيفة إن انتبه قبل أن يصل جنبه إلى الأرض لا ينقض، وعن أبي يوسف ينقض حين سقط.
وعن محمد إن زايل مقعده الأرض ينقض وعنه إن استيقظ حال ما سقط لا ينقض، وعند السقوط لو وضع يده على الأرض لا ينقض، ويستوي فيه الكف وظهر الكف، وأما في أمالي " قاضيخان " نام جالسا وهو متمايل فزال مقعده عنها، قال: قال الحلواني: ظاهر المذهب أنه ليس بحدث والنوم متوركا كالنوم جالسا مضطجعا، ولو كان متكئا على ركبتيه لا ينقض، ولو كان مربق ورأسه على فخذيه ينقض وذكر الحلواني ولا ذكر للنعاس مضطجعا والظاهر أنه ليس بحدث لأنه نوم قليل. وقال أبو علي الرازي وأبو علي الدقاق: إن كان لا يفهم عامة ما قيل حوله كان حدثا، وإن كان يفهم حرفا أو حرفين فلا.
وسجدة التلاوة كالصلاتية وكذا سجدة الشكر عند محمد خلافا لأبي حنيفة، وفي النوم في(1/283)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سجود السهو اختلاف المشايخ فيه. ولو نام في سجوده معتمدا انتقض وضوؤه عند أبي يوسف، وقال: وضوؤه باق لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نام العبد في السجود يباهي الله تعالى به ملائكته فيقول: انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في طاعتي» . فإن قلت: ما حال هذا الحديث؟
قلت: قال في " الأسرار ": وهو من المشاهير. وقال في " البدائع " وفي المشهور من الأخبار ورد ذلك. وقال السروجي وكتب أصحابنا مشحونة به، وما وقعت له على أصل. قلت: الكلام في صحته وكونه من المشاهير زيادة درجة ويرد قول السروجي ما رواه البيهقي في "الخلافيات " من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولكن في إسناده داود بن الزبير فإنه ضعيف، وروي من وجه آخر عن أبان عن أنس، وأبان متروك. ورواه ابن شاهين في " الناسخ والمنسوخ " من حديث المبارك بن فضالة.
وذكره الدارقطني في " العلل " من حديث عبادة بن راشد كلاهما عن الحسن عن أبي هريرة بلفظ: «إذا نام وهو ساجد يقول الله: انظروا إلى عبدي» قال وقيل عن الحسن تلقاه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: والحسن لم يسمع من أبي هريرة، ومرسل الحسن أخرجه أحمد في الزهد، ولفظه: «إذا نام العبد وهو ساجد يباهي الله به الملائكة، يقول: انظروا إلى روحه عندي وهو ساجد» وروى ابن شاهين عن أبي سعيد بمعناه وإسناده ضعيف.
فائدة: نوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس بحدث، وروى محمد عن أبي حنيفة بإسناده إلى «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نام على جنبه وصلى بغير وضوء، وقال: "تنام عيني ولا ينام قلبي» وهو من خصائصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال النووي: من خصائصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لا ينتقض وضوؤه بالنوم مضطجعا للأحاديث الصحيحة ثم صلى ولم يتوضأ، وقال: «إن عيني تنام، ولا ينام قلبي»
ومنها حديث «ابن عباس قال: نمت عند خالتي ميمونة الحديث وفيه: "فنام حتى أتاه بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فآذنه بالصلاة فقام وصلى ولم يتوضأ» رواه البخاري في الدعوات، ومسلم في التهجد.
فإن قلت: هذا يعارضه الحديث الصحيح «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نام في الوادي عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس» ولو كان غير نائم القلب لما ترك صلاة الصبح.(1/284)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الجواب من وجهين:
أحدهما: يحسن بما يتعلق بالبدن من الحديث وغيره وسريه القلب وليس طلوع الفجر والشمس من ذلك ولا هو مما يدرك بالقلب، وإنما يدرك بالعين والعين نائمة.
والثاني: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له نومان: أحدهما ينام قلبه، ولا ينام عيناه. والثاني: تنام عينه دون قلبه وكان الوادي من النوع الأول.
فائدة أخرى: قال ابن القطان: أجمع الفقهاء أن النوم القليل لا ينقض الوضوء، إلا المزني فإنه خرق الإجماع وجعل قليله حدثا، وذكر في العارضي أن إسحاق بن راهويه حينئذ معه في هذا، قال: وأجمعوا على أن النوم المضطجع ينقض الوضوء.
قلت: وعند أبي موسى الأشعري والطعام لا ينقض، وبه قال لاحق بن حميد، وعبيدة. وعن سعيد بن المسيب أنه كان ينام مضطجعا وقت الصلاة، ثم يصلي ولا يعيد الوضوء.
ومذهب البعض أن كثيره ينقض بكل حال، وقليله لا ينقض بكل حال وبه قال الزهري وربيعة والأوزاعي ومالك وأحمد في رواية.
ومذهب البعض أنه لا ينقض إلا نوم الراكع والساجد، وروي هذا عن أحمد، ومذهب البعض أنه لا ينقض النوم في الصلاة بكل حال، وينقض خارج الصلاة وهو قول ضعيف للشافعية - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وللشافعي في النوم خمسة أقوال: الصحيح منها أنه إن قام ممسكا مقعدته من الأرض أو نحوها لم ينقض سواء كان في الصلاة أو غيرها وسواء طال نومه أو لا. والثاني: أنه ينقض بكل حال وهذا نصه في البويطي، قال النووي: وتأول أصحابنا نصه في البويطي على أن المراد أنه نام غير متمكن. وقال إمام الحرمين قال الأئمة إنه غلط البويطي. وقال النووي: هذا الذي قاله ليس بجيد، والبويطي يرتفع عن الغلط والصواب تأويله.
قلت: المجتهد يخطئ، والغلط أدنى منه. الثالث: إن نام في الصلاة لم ينقض على أي هيئة كان، فإن نام في غيرها غير ممكن مقعدته من الأرض ينتقض، وإلا فلا. والرابع: إن نام ممكنا أو غير ممكن وهو على هيئة الصلاة سواء كان في الصلاة أو غيرها لم ينتقض، وإلا ينتقض، والخامس: إن نام ممكنا أو قائما لا ينتقض وإلا ينتقض. وقال: الصواب هو القول الأول، وما سواه ليس بشيء، وتحرير مذهب مالك على أربعة أقسام طويل ثقيل يؤثر في النقض بلا خلاف في المذهب، وقصير خفيف لا يؤثر على المعروف منه، وخفيف طويل يستحب فيه الوضوء، وثقيل خفيف في تأثيره في النقض قولان، وقيل قولان جائزان في الثالث أيضا.(1/285)
والغلبة على العقل بالإغماء والجنون لأنه فوق النوم مضطجعا في الاسترخاء، والإغماء حدث في الأحوال كلها، وهو القياس في النوم إلا أنا عرفناه بالأثر، والإغماء فوقه فلا يقاس عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الإغماء والجنون والقهقهة في الصلاة من نواقض الوضوء]
م: (والغلبة على العقل بالإغماء) ش: الغلبة مرفوع عطفا على قوله: والنوم مضطجعا أي ومن نواقض الوضوء الغلبة على العقل بالإغماء. وقال في المغرب: هو ضعيف القوى لطلب الإغماء امتلاء بطون الدماغ من بلغم بارد غليظ. وعند الكمت: هو سهو يعتري الإنسان مع فتور الأعضاء.
والإغماء من أغمي على المريض فهو مغمى عليه، وغمي عليه فهو مغمى عليه على معقوله، وأصله من غماء مثل قضاء مقصور، يقال: تركت فلانا غمي أو مغمى عليه، وكذلك الإنسان والجمع والموت وإن شئت قلت: همام غمان وهم إغماء م: (والجنون) ش: بالرفع عطف على قوله: والغلبة والجر خطأ لأن العقل في الإغماء مغلوب، وفي الجنون مسلوب. ولهذا جاز الإغماء على الأنبياء دون الجنون، والجنون زوال العقل وفساده.
ومن النواقض العشر: السكر إذا لم يعرف الرجل من المرأة وهو اختيار الصدر الشهيد، وذكر في " الملتقطات " للخوارزمي وفي " الذخيرة " الصحيح ما نقله عن شمس الأئمة الحلوائي أنه إذا دخل في مشيه اختلال ولهذا يحنث به إذا حلف لا يسكر.
وعن أحمد في رواية يجب الغسل بالإغماء والجنون، فظاهر مذهب الشافعي كمذهبنا، وقال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وجماعة من الشافعية: إن كان الغالب من حال من يجد الإنزال وجب الغسل إذا أفاق وإن لم يتحقق الإنزال، كما يوجب النوم مضطجعا الوضوء.
وقال الماوردي في الحاوي عن أصحابنا: إن كان الإغماء لا ينفك عن الإنزال وجب الغسل وإن كان قد ينفك فلا. وقال النووي: الصحيح أنه يستحب الغسل مطلقا. م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من الإغماء والجنون م: (فوق النوم مضطجعا) ش: أي حال كون النائم مضطجعا والألف واللام في النوم بدل من المضاف إليه بالتنبيه دونما م: (والإغماء حدث في الأحوال كلها) ش: يعني حال القيام والقعود والركوع والسجود لوجود الاسترخاء م: (وهو القياس في النوم) ش: يعني أن القياس على الإغماء يقتضي أن يكون النوم حدثا في الأحوال كلها، لأن خروج النجاسة أمر مظنون فدار الحكم على السبب الظاهر بالأثر م: (إلا أنا عرفناه) ش: أي النوم.
م: (بالأثر) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وضوء على من نام قائما» الحديث.
م: (والإغماء فوقه) ش: أي والحال الإغماء فوق النوم م: (فلا يقاس عليه) ش: أي على النوم(1/286)
والقهقهة في صلاة ذات ركوع وسجود تنقض الوضوء، والقياس أنها لا تنقض وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأنه ليس بخارج نجس، ولهذا لم يكن حدثا في صلاة الجنازة، وسجدة التلاوة، وخارج الصلاة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في حكم يثبت بخلاف القياس ولا يلحق به دلالة إذ لا يلزم من أن لا يكون أدنى الغفلة ناقضا أن يكون أعلاه ناقضا، فإن قلت: لم لا يعلل المصنف للجنون، قلت: لأن كون الجنون ناقضا ليس لعلة الاسترخاء لأن المجنون أقوى من الصحيح. لكن باعتبار عدم مبالاته وتمييزه فيصير في الأحوال كلها حدثا، ومنهم من علله بعلة الاسترخاء وليس بوجه.
م: (والقهقهة) ش: بالرفع وليس بالعطف على ما قبله، بل هو مبتدأ وخبره قوله ينقض، أي من النواقض قهقهة المصلي م: (في كل صلاة ذات ركوع وسجود) ش: احترز به عن صلاة الجنازة فإنها لا ينتقض الوضوء وتبطلها م: (تنقض الوضوء) ش: جملة في محل الرفع لأنها خبر المبتدأ كما ذكرنا م: (والقياس أن لا تنقض) ش: لأنها ليست بخارج نجس بل هي صوت كالبكاء والكلام.
م: (وهو) ش: أي القياس فيها م: (قول الشافعي) ش: وبه قال مالك، وأحمد، وأبو ثور، وداود، وقول ابن مسعود، وجابر، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن خارجة بن زيد بن ثابت، وسليمان بن بشار، ومكحول م: (لأنها) ش: أي لأن القهقهة م: (ليس بخارج نجس ولهذا) ش: أي ولكونها ليست بخارج نجس م: (لم تكن حدثا في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة وخارج الصلاة) ش: ولا هي حدث في حق الصبي، فلذلك قيد النفي في " الكافي " بقوله: وقهقهة المصلي البالغ، وقيد بعضهم بكونه يقظانا احتراز عن ققهقهة النائم في الصلاة. وذكر في " الذخيرة " أن قهقهة النائم لا تنقض لعدم الجناية منه. ويتعدى صلاته.
وفي " فتاوى المرغيناني " لو نام في الصلاة قائما أو راكعا أو ساجدا، ثم قهقه لا رواية لها في الأصول. وقال علام تفسد صلاته ووضوءه. وفي " المحيط ": لو قهقه بعد ما قعد قدر التشهد الأخير أو في سجود التشهد أو بعدما توضأ لحدث سبقه في الصلاة قبل أن يبني ينقض خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي " فتاوى المرغيناني " الثاني في الحدث إذا جاء متوضئا وقهقه في الطريق بعد الصلاة ولا ينقض وضوؤه، اختلفوا في الصلاة المظنونة والأصح أنها تنقض قهقهة الإمام والقوم ثم بعد التشهد تنقض وضوءهم وإن تأخرت قهقهة القوم عنه فلا وضوء عليهم، ولو قهقه في الصلاة على الدابة خارج المصر نقضت اتفاقا، وفي المصر لا خلافا لأبي يوسف، وعلى هذا الخلاف، لو أتمها خارج المصر ثم دخلها راكبا ثم قهقه، ولو كان منهزما من عدو نقضت اتفاقا.(1/287)
ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إلا من ضحك منكم قهقهة، فليعد الوضوء والصلاة جميعا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إلا من ضحك منكم قهقهة، فليعد الوضوء والصلاة جميعا» ش: روي هذا الحديث عن ستة أنفس من الصحابة مرفوعا وهم أبو موسى الأشعري، وأبو المليح واسمه أسامة بن عمرو بن عامر بن قيس الهذلي الكوفي، وقال الزهري [......] روى عنه أبو المليح، ومعبد الجهني، ورجل من الأنصار.
أما حديث أبي موسى فرواه الطبراني في "معجمه " حدثنا أحمد بن زهير السدي حدثنا محمد بن عبد الملك الدمشقي حدثنا محمد بن أبي نعيم الواسطي حدثنا مهدي بن ميمون حدثنا هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن أبي العالية عن أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس إذ دخل رجل فتردى في حفرة كانت في المسجد، وكان في بصره ضرر فضحك كثير من القوم وهم في الصلاة فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة» وذكره البيهقي في " الخلافيات " نحوه ثم أعله بأن جماعة من الثقات رووه عن هشام عن حفصة عن أبي العالية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قلت: لم يقدر البيهقي على رده إلا بكونه مرسلا، ولهذا يترك هذا، والمرسل حجة عندنا، ومرسل أبي العالية صحيح.
فإن قيل: إن أبا عمرو محمد بن سيرين مولى أنس بن مالك وكان عالما بأبي العالية والحسن البصري قال: لا تأخذوا بمراسيلهما لا يسألان عمن أخذ عنه.
الجواب: هذا لا يستقيم من وجوه ثلاثة: الأول: أن المرسل لا تقوم به حجة عندهم فلا فائدة في هذه الوصية، ولا فرق بين مرسلهما ومرسل غيرهما.
الثاني: لا تصح هذه الحكاية عن ابن سيرين، وذلك أن ابن دحية الكلبي حكي عنه أنه رأى في المنام كان الجواز أن قدمت على الزنا فأخذ في وصيته، وقال: يموت الحسن بن أبي الحسن وأموت بعده، وهو أشرف مني فمات في شوال سنة عشرة ومائة بعد الحسن بمائة يوم. ذكرها في العلم المشهور مع ثنائه على الحسن وترفعه على نفسه وزكيه.
الثالث: إن صح ذلك عنه لا يسمع منه مثل هذا الكلام في حق الحسن البصري، وأبي العالية من جلالتهما ومكانتهما من العلم والدين الذي لا يتفق لغيرهما مثله. ومخيرات يروي عمن يعرفه أنه غير مأمور به على دين الله ولا ثقة لا تعتمد روايته مرسلا ولا مسندا.
وقول ابن عدي إنما قيل في أبي العالية ما قيل لهذا الحديث وإلا فسائر أحاديثه صالحه، يرد قول ابن سيرين فيه، وإذا صلحت سائر أحاديثه فلا مانع من صلاح حديثه هذا، وهذا الحديث(1/288)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قد رواه غيره كما ذكرناه ومن أسند الحديث إلى إنسان فقد شهد عليه أنه رواه، فإذا أرسله فقد شهد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: لا يجوز الشهادة على غير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كيف يجوز الشهادة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالباطل، مع علمه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده في النار» وإذا سمع ممن لا يكون قوله معتبرا في دين الله وملته. ذلك كان عاما للمسلمين عمدا في زمنهم وذلك قادح في دينه فضلا عن عدالته، والحسن وأبو العالية من أعلام الدين ولهما المكانة العالية في الدين، والفضل والعلم والتقدم، فلا يلتفت إلى قول ساحر أو صاحب هوى. والعجب من أحمد بن حنبل أن مذهبه تقديم المراسيل والضعيف من الحديث على هذا القياس، هكذا حكاه عنه ابن الجوزي في " التحقيق "، وقد أخذ بالقياس هنا وترك أحد عشر حديثا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسألة واحدة كلها حجة عنده، ولا يجوز المصير إلى القياس عنده مع وجود حديث واحد معها. وأما مالك فالمراسيل حجة عنده.
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الدارقطني في "سننه " عن عبد العزيز بن الحصين عن عبد الكريم أبي أمية عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قهقه أعاد الوضوء والصلاة» .
فإن قلت: قال الدارقطني: عبد العزيز ضعيف وعبد الكريم متروك وفيه انقطاع بين الحسن وأبي هريرة، وأنه لم يسمع منه قلت: لما عد في " التهذيب " وغيره من روي عنه ممن قال وعن أبي هريرة، ثم قال: وقيل لم يسمع منه، ولا يضرنا هذا الخلاف، لأن المثبت يقدم على النافي، ولئن سلمنا فالمرسل حجة عندنا.
وأما حديث عبد الله بن عمر فرواه ابن عدي في " الكامل " من حديث بقية حدثنا أبي حدثنا عمرو بن قيس الكوفي عن عطاء عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ضحك في الصلاة قهقهة فليعد الوضوء والصلاة» .
فإن قلت: قال ابن الجوزي في " العلل المتناهية " هذا حديث لا يصح، فإن بقية من عادته التدليس كأنه سمعه من بعض الفقهاء، فحذف اسمه.(1/289)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا باطل لأنه قد صرح في هذه الرواية بقوله: حدثنا عمرو بن قيس المدلس متى صرح بالتحديث، وكان صدوقا زالت عنه تهمة التدليس وبقية من هذا القيد. وقد أخرج له مسلم وشرط المدلس إذا كان صدوقا أن يأتي بعبارة لا يصرح بالشرع وإلا كان كاذبا. وقال ابن عدي: وبعضهم يقول فيه عمرو بن قيس وإنما هو عمر.
وأما حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه الدارقطني عن داود المحبر عن أيوب بن حوط عن قتادة عن أنس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بنا فجاء رجل ضرير البصر مثل الأول» .
فإن قلت: قال الدارقطني داود بن محبر متروك، وأيوب ضعيف، والصواب من ذلك قول من رواه عن قتادة عن أبي العالية مرسلا، ثم أخرج عن عبد الرحمن بن عمرو بن جيلة حدثنا سالم بن أبي مطيع عن قتادة عن ابن أبي العالية أن أعمى تردى فذكره.
قلت: له طريق أخرى رواه أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي في " تاريخ جرجان " عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قهقه في الصلاة قهقهة شديدة فعليه الوضوء والصلاة» .
وأما حديث جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه الدارقطني أيضا عن محمد بن يزيد بن سنان حدثنا أبي حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ضحك منكم في صلاته فليتوضأ ثم يعيد الصلاة» .
فإن قلت: قال الدارقطني: يزيد بن سنان ضعيف، ويكنى بأبي قرة الرهاوي، وابنه ضعيف أيضا، وقد وهم في هذا الحديث في موضعين: أحدهما: في رفعه إياه، والآخر في لفظه والصحيح عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر من قوله: «من ضحك في الصلاة أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء» .
كذلك رواه عن الأعمش جماعة من الثقات منهم سفيان الثوري، وأبو معاوية الضرير،(1/290)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ووكيع، وعبد الله بن داود الخريبي وعمرو بن علي المقدمي وغيرهم، وكذلك رواه شعبة وابن جريج عن يزيد بن خالد عن أبي سفيان عن جابر ثم أخرج عن جابر أنه قال: «من ضحك في الصلاة أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء» ، وزاد في لفظه: " إنما كان منهم ذلك حتى عجلوا خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ".
قلت: الحديث المرفوع يدل على ما ذهبنا إليه، إذا كان المراد من الضحك القهقهة، وكذلك إذا كان الضحك على أصل معناه، فإن الحكم عندنا أنه ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء، وهذا الحديث حجة لنا سواء كان مرفوعا أو موقوفا، ولا يمكن لجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يقول برأيه في مثل هذا الموضع. وأمره محمول على السماع على أنا نقول: وإن كان هذا الحديث ضعيفا فقد اعتضد بغيره من الأحاديث المروية في هذا الباب. وأما حديث عمران بن الحصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه الدارقطني أيضا عن إسماعيل بن عياش عن عمرو بن قيس الملائي عن عمرو بن عبيد عن الحسن عن عمران بن الحصين قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من ضحك في الصلاة فليعد الصلاة والوضوء» .
فإن قلت: قال الدارقطني عمرو بن قيس المكي المعروف بسندل ضعيف، ذاهب الحديث، وعمرو بن عبيد قيل فيه إنه كذاب.
قلت: كان عمرو بن عبيد جالس الحسن وحفظ عنه، واشتهر بصحبته وكان له شهرة وإظهار زهد، فالكذب عنه بعيد. والبيهقي أخرجه عن عبد الرحمن بن سلامة عن عمرو بن قيس عن الحسن عن عمران بن الحصين مرفوعا، وأخرجه ابن عدي من طريق آخر عن بقية عن محمد الخزاعي عن الحسن عن عمران بن حصين، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل ضحك في الصلاة: "أعد وضوءك» . وقال: محمد الخزاعي مجهول من مشايخ بقية، ويروي محمد بن شداد عن الحسن وابن راشد مجهول، هذا مردود لأن محمد الخزاعي هو ابن راشد، وابن راشد هذا وثقه أحمد ويحيى بن معين، وقال عبد الرزاق: ما رأيت أحدا أورع في هذا الحديث منه.
وأما حديث أبي المليح عن أبيه فأخرجه الدارقطني أيضا من حديث محمد بن إسحاق حدثنا الحسن بن زياد عن الحسن البصري عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه قال: «بينا نحن نصلي خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ اقبل رجل ضرير البصر باللفظ الأول» . وقال ابن إسحاق: حدثني الحسن بن عمارة عن خالد الحذاء عن أبي المليح عن أبيه مثل ذلك.(1/291)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: قال الدارقطني: الحسن بن دينار والحسن بن عمارة ضعيفان.
قلت: قيل لابن عيينة كان الحسن بن عمارة يحفظ، قال: كان له فقيل وغيره أحفظ منه، وقال عيسى بن يونس الرملي الناخوري: سمعت ابن سويد يقول: كنت عند سفيان الثوري فذكر الحسن بن عمارة فغمزه، فقلت: يا أبا عبد الله هو عندي خير منك، قال: وكيف ذاك، قلت: جلست معه غير مرة فيجري ذكرك فيما يذكرك إلا بخير، قال أبو أيوب: قال سفيان ما ذكر الحسن بن عمارة بعد ذاك إلا بخير حتى فارقته.
وأما حديث معبد الجهني فرواه أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن منصور بن زاذان عن الحسن البصري عن معبد بن أبي معبد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قهقه في صلاته أعاد الوضوء والصلاة» .
فإن قلت: قال البيهقي: معبد لا صحبة له، وهو أول من تكلم بالبصرة في القدر.
قلت: في " معرفة الصحابة " لابن منده معبد بن أبي معبد رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صغير، ثم ذكر ابن منده مرور النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيمتي وأنه بعث معبدا وكان صغيرا. الحديث، ثم قال: روى أبو حنيفة عن منصور بن زاذان إلى آخر ما ذكرنا، ثم قال: وهو حديث مشهور عنده، رواه أبو يوسف القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأسيد بن عمرو وغيرهما، فظهر من هذا أن معبدا المذكور في هذا الحديث ليس هو الذي تكلم فيه في القدر كما زعم البيهقي، ولم يذكر ذلك بسند ينظر فيه، ثم لو سلمنا أنه الجهني المتكلم في القدر فلا نسلم أنه لا صحبة له، قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب " الاستيعاب ": ذكره الواقدي في الصحابة وقال: أسلم قديما وهو أحد الأربعة الذين حملوا ألوية الجهنية يوم الفتح.
قال: وقال أبو أحمد في " الكنى " وابن أبي حاتم: كلاهما له صحبة. وقال الذهبي في " تجريد الصحابة ": معبد بن خالد الجهني أبو رفاعة شهد الفتح له رواية. وقال ابن حزم: إنه روى مرسلا عن الحسن بن معبد بن صبيح أيضا. وقال ابن عدي: قال لنا ابن حماد وهو معبد وهو الذي ذكره البخاري في كتاب " تسمية الصحابة ". وقال الذهبي: معبد بن صبيح بصري روى عنه إسحاق حديثه في الوضوء من القهقهة ولا يثبت.
وأما حديث رجل من الأنصار فرواه الطبراني بإسناده عن وهيب عن حامد بن عبد الله الواسطي عن هشام بن حسان عن حفصة عن أبي العالية عن رجل من الأنصار عن النبي عليه(1/292)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلام. الحديث. قال الدارقطني: ولا يسميا الرجل ولا ذكرا له صحبة ولم يصنع خالد شيئا، وقد خالفه خمسة حفاظ.
قلت: زيادة خالد هذا الرجل الأنصاري زيادة عدل لا يعارضها نقصان من نقصها، وله خمسة مراسيل أيضا:
الأول: مرسل أبي العالية وهو أشهر ما روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أبي العالية، وهو عدل ثقة أن «أعمى تردى في بئر والنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصلي بأصحابه فضحك بعض من كان يصلي معه فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كان ضحك منهم أن يعيد الوضوء، ويعيد الصلاة» .
وأخرجه الدارقطني من جهة عبد الرزاق وعبد الرزاق من شيوخه من رجال الصحيحين.
الثاني: مرسل النخعي ورواه أبو معاوية عن الأعمش عن النخعي قال: جاء رجل ضرير البصر والنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصلي. الحديث. وقال ابن رشد المالكي: وهذا مرسل صحيح.
الثالث: مرسل الحسن البصري رواه الدارقطني بإسناده عن ابن شهاب عن الحسن الحديث، وهو أيضا مرسل صحيح.
الرابع: مرسل الزهري، والخامس: مرسل قتادة، وقال ابن عدي في " الكامل ": روى هذا الحديث الحسن البصري، وقتادة، وإبراهيم النخعي، والزهري مرسلا.
فإن قلت: روى البيهقي في "سننه " قال الإمام أحمد: لو كان عند الزهري أو الحسن فيه حديث صحيح لما اختار القول خلافه. وقد صح عن قتادة عن الحسن أنه كان لا يرى من الضحك في الصلاة وضوءا، وعن شعيب بن أبي حمزة أو غيره من الزهري أنه قال في الضحك في الصلاة يعاد الصلاة ولا يعاد الوضوء.
قلت: مخالفة الراوي للحديث ليس فيه جرح. وقد روى الدارقطني بسند صحيح عن أبي هريرة أنه قال: «إذا ولغ الكلب في الإناء فأهرقه ثم اغسله ثلاثا» ولم يجعلوا ذلك حرجا في روايته مرفوعا الغسل سبعا.(1/293)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: روى أحمد والترمذي وابن ماجه والبيهقي من حديث أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا وضوء إلا من صوت أو ريح» .
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، فهذا يدل على أنه لا وضوء في القهقهة.
قلت: ظاهر هذا متروك بالإجماع لأن في البول والغائط يجب الوضوء وإن لم يوجد الصوت والريح، وكذا في الدم والقيح إن أخرجا من المخرج المعتاد، وخصوصا على مذهب الشافعي، فإن عنده يجب الوضوء في مس الذكر، ومس النساء، ولا صوت، ولا ريح، فلما لم يدل هذا الحديث على نفي الوضوء فيما ذكرنا من الصوت دل على أنه لا يدل على نفي الوضوء في القهقهة أيضا، على أنا نقول: إن هذا الحديث ورد في حق من شك في خروج الريح، والحكم فيه كذلك، أما في من تحقق الريح والصوت فلا.
فإن قلت: قال الشافعي: لو كانت القهقهة حدثا في الصلاة لكان حدثا خارجها، لأن نواقض الطهارة سوى فيها الصلاة وخارجها، كما في سائر الأحداث.
قلت: الفرق بينهما ظاهر، وهو أن المصلي في مناجاة الرب سبحانه، والمقصود بالصلاة إظهار الخشوع والخضوع والتعظيم لله تعالى، فالضحك قهقهة فيها جناية عظيمة فناسب ذلك انتقاض وضوئه زجرا له كتنجيس الخمر من الشرع إهانة لها، وزجرا للشاربين ليجتنبوها.
وهذه المعاني لا توجد خارج الصلاة ولأن من بلغ هذه الغاية من الضحك وربما غاب حسه، فأشبه نوم المضطجع فجعل حدثا في الصلاة لزيادة الجنابة على العبادة. ولأن النص إذ ورد على خلاف القياس لا لقياس على غيره بل يقتصر على مورده فلأجل هذا لم يجعل حدثا خارج الصلاة، ولا في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة.
فإن قلت: لم يكن في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بئر ولا ركية ولا حفرة، فكيف وقع فيه الضرير.
قلت: المراد بالبئر حفرة عند المسجد يجتمع فيه المطر، وليس في أكثر الحديث أنه كان يصلي في المسجد، فيجوز أن يقال: كان يصلي في غير المسجد، وفي الموضع الذي كان فيه ركية. والذي فيه ذكر المسجد رواية أبي موسى وهو عدل ثقة ثبت فهو أولى.(1/294)
وبمثله يترك القياس، والأثر ورد في صلاة مطلقة فيقتصر عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: هذا لا يصح باعتبار أنه لا يتوهم على أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الضحك في الصلاة قهقهة خصوصا خلف النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قلت: كان يصلي خلفه الصحابة ومن غيرهم من المنافقين والأعراب الجهال، وهذا من باب حسن الظن بهم، وإلا فليس الضحك كبيرة، وهم ليسوا من الصغار بمعصومين، ولا من الكبائر على تقدير كونه كبيرة.
فإن قلت: ذكر البيهقي عن الشافعي أنه لو ثبت حديث الضحك في الصلاة لقال به. وقال ابن الجوزي: قال أحمد: ليس في الضحك حديث صحيح. وقال الذهبي: لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الضحك في الصلاة خبر. وقال أحمد: وحديث الأعمى الذي وقع في البئر مدرج، ومدار حديثه [على] أبي العالية، وقد اضطرب عليه فيه.
قلت: مذهب الشافعي أن المرسل إذا أرسل من وجه، وأسند من وجه آخر يقول به، وهذا الحديث أرسل من وجوه وأسند من طريق فيلزمه أن يقول به. وقال ابن حزم: كان يلزم المالكيين والشافعيين بشدة تواتره يخرج عن عدد مراسيله، قلت: ويلزم الحنابلة أيضا لأنهم يحتجون بالمراسيل، وعلى تقدير أنهم لا يحتجون به ما قيل إن أقل أحواله أن يكون ضعيفا والحديث الضعيف عندهم مقدم على القياس الذي اعتمدوا عليه في هذه المسألة، والعجب منهم أن يقولوا لعلمائنا أصحاب الرأي والقياس وينسبونهم إلى ترك كثير من الأحاديث بالقياس، وهم تركوا حديثا رواه جماعة من الصحابة ما بينا هذا عشرة فأرسله جماعة من التابعين الكبار وعملوا بالقياس. وأما قول أحمد والذهبي فنفي وما رواه أصحابنا إثبات وهو مقدم على النفي، على أنا نقول عدم علم الشخص بشيء لا يكون حجة على من علمه قبله.
م: (وبمثله) ش: أي وبمثل هذا الحديث الذي علمه الصحابة والتابعون. ولأن رواية من كان معروفا بالفقه والتقدم في الاجتهاد كأبي موسى وأصحابه م: (يترك القياس) ش: أي القياس الذي ذهب إليه الشافعي وغيره م: (والأثر) ش: أي الحديث المذكور م: (ورد في صلاة مطلقة) ش: أي كاملة م: (فيقتصر عليها) ش: أي على الصلاة المذكورة فلا يتعدى إلى صلاة الجنازة وسجدة التلاوة، وصلاة الصبي، وصلاة الباني بعد الوضوء على أحد الروايتين، وصلاة النائم؛ فإن الوضوء لا يفسد في جميع ذلك، وقوله: والأثر إلى آخره في الحقيقة جواب عن قياس الشافعي على صلاة الجنازة وسجدة التلاوة كما حققنا.(1/295)
والقهقهة ما يكون مسموعا له ولجيرانه والضحك ما يكون مسموعا له دون جيرانه وهو على ما قيل يفسد الصلاة دون الوضوء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والقهقهة ما كان مسموعا له ولجيرانه) ش: وأشار بهذا إلى تعريف القهقهة التي تفسد الصلاة والوضوء جميعا م: (والضحك ما يكون مسموعا له) ش: أي للضاحك دل عليه قوله: لأنه لا يقوم إلا بالضحك م: (دون جيرانه) ش: أراد أن لا يسمعه من كان حوله م: (وهو) ش: أي الضحك م: (على ما قيل) ش: في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الضحك م: (يفسد الصلاة دون الوضوء) ش: يعني لا ينتقض ثم إنه فرق بين القهقهة والذكر، ولم يذكر التبسم لأنه ليس بمفسد للصلاة ولا للوضوء فليس له ههنا مدخل.
وروى الطبراني وأبو يعلى الموصلي والدارقطني من حديث جابر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بأصحابه العصر فتبسم في الصلاة، فلما انصرف، قيل: يا رسول الله تبسمت وأنت تصلي قال: "إنه مر بي ميكائيل وعلى جناحه غبار فضحك لي فتبسمت» . وهو راجع من طلب القوم.
وفي " معجم الطبراني " ذكر جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مكان ميكائيل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ثم يسوي في القهقهة العمد والنسيان والسهو سواء بانت أسنانه أو لا. ويبطل التيمم أيضا دون الاغتسال وقيل يبطل الوضوء في الغسل أيضا حتى لا يجوز الصلاة بغير وضوئه، وبقولنا قال أبو موسى الأشعري والحسن البصري وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري ومحمد بن سيرين والأوزاعي وعبيد الله.
فروع: لواحق من النواقض التي عند غير أصحابنا لم يذكرها صاحب " الهداية " منها: مس الذكر معابة لا ينقض الوضوء عندنا، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعمار بن ياسر، وزيد بن ثابت، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن الحصين، وأبي الدرداء، وسعد بن أبي وقاص عند أهل الكوفة وأبي هريرة في رواية عنه، هكذا حكاه أبو عمر بن عبد البر، ومن التابعين الحسن البصري، وسعيد بن المسيب وهو مذهب سفيان الثوري. وقال الطحاوي: لم يعلم أحد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفتى بالوضوء منه غير ابن عمر، وقد خالفه في ذلك أكثر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال الشافعي وأحمد وداود: يجب الوضوء منه.
واختلف أصحاب مالك في ذلك: منهم من شرط اللذة وباطن الكف، ومنهم من أوجب(1/296)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك في العمد دون النسيان، مروي عن مالك وداود، وقيل: الوضوء منه سنة غير واجب وهو الذي استقر عليه قول مالك عند أهل العرب، والرواية عنه مضطربة فيه لهم من ذلك حديث بسرة بنت صفوان بن نوفل خالة مروان أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مس ذكره فليتوضأ» . رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد والترمذي وصححه، ولم يخرجه الشيخان، ورواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن الجارود من حديثها، ونقل عن البخاري أنه أصح شيء في هذا الباب، وصححه أيضا يحيى بن معين فيما حكاه ابن عبد البر.
قال البيهقي: هذا الحديث لم يخرجه الشيخان لاختلاف وقع في سماع عروة عنها، أو من مروان فقد احتجا بجميع رواته واحتج البخاري بمروان بن الحكم في عدة أحاديث، فهو على شرط البخاري بكل حال.
والجواب عن ذلك أن طريق حديث أبي داود والنسائي عن مالك عن عبيد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عروة بن الزبير قال: دخلت على مروان فذكرت ما يكون عند الوضوء فقال مروان: أخبرتني بسرة بنت صفوان أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مس ذكره فليتوضأ» . وطريق الترمذي وابن ماجه عن هشام بن عروة عن أبيه عن مروان عن بسرة وأن في الإسناد الأول أبي بكر بن عبيد الله، قال سفيان بن عيينة فيه: إنه من الجماعة الذين لم يكونوا يعرفون الحديث. وقد رأيناه يحدث عنهم سخرنا منه. رواه الطبراني بإسناده عن ابن عيينة، ثم أخرجه الأوزاعي حدثني الزهري حدثني أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: فثبت انقطاع هذا الخبر وضعفه.
وفي السند الثاني: فإن النسائي قال: لم يسمع هشام من أبيه هذا الحديث، وقال الطحاوي: إنما أخذه هشام من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم حدثني عروة فرجع الحديث إلى أبي بكر.
فإن قلت: يشكل عليه رواية الترمذي عن يحيى بن سعيد القطان عن هشام بن عروة قال: أخبرني أبي عن بسرة، وكذلك رواية أحمد في "مسنده " حدثنا يحيى بن سعيد عن هشام قال:(1/297)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حدثني أبي أن بسرة بنت صفوان أخبرته، قال البيهقي في "سننه ": رواه يحيى بن سعيد القطان عن هشام بن عروة عن أبيه، فصرح فيه بسماع هشام من أبيه.
قلت: أخرجه الطحاوي أيضا من خمس طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن بسرة ثم قال إن هشام بن عروة لم يسمع هذا الحديث عن أبيه، عروة ثقة ثبت لم ينكر عليه شيء إلا بعدما صار إلى العراق، فإنه انبسط في الرواية عن غير أبيه فأنكر ذلك عليه أهل بلده، وكان يشهد أنه أرسل عن أبيه مما كان يسمعه من غير أبيه. وقال ابن خراش: كان مالك لا يرضاه وكان هشام صدوقا يدخل أخباره في الصحيح، بلغني أن مالكا نقم عليه حديثه لأهل العراق، والبيهقي حط على الطحاوي ينسب هشاما إلى التدليس، فقال: وأين يكون إذا يرويه عن أبي بكر وأبو بكر ثقة حجة عند كافة أهل العلم بالحديث، وإنما يضعف الحديث بأن يدخل الثقة بينه وبين من فوقه مجهولا أو ضعيفا فإذا أدخل ثقة معروفا قامت به الحجة.
قلت: اعترف البيهقي بالتدليس في الحديث المذكور، ولكن تحامله على الطحاوي الذي دعاه إلى ما قاله، وكيف يقول هذا ولا يخلصه من التدليس أن يكون بين الراوي وبين المروي عنه واحد أو أكثر سواء كان الواسطة ثقة أو ضعيفا، فانظر إلى تمثيل ابن الصلاح في صورة التدليس ترى فيه صحة ما قلنا على أن البيهقي قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا منصور العناني يقول: سمعت الفضل بن محمد الشعراني يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: حدثني يحيى بن سعيد عن شعبة قال: لم يسمع هشام بن عروة حديث أبيه في مس الذكر. قال يحيى: فسألت هشاما فقال أخبرني أبي بهذا. شعبة صرح بأن هشاما لم يسمع هذا الحديث من أبيه عروة، فكيف يكون قول يحيى سمع من أبيه معارضا لقول شعبة أنه لم يسمع أباه.
فإن قلت: رواه عن عروة أيضا غير الزهري وغير هشام، وهو ما رواه الطحاوي حدثنا محمد بن حجاج وربيع المؤذن قال: أخبرنا أسد، قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا أبو الأسود أنه سمع عروة يذكر عن بسرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: أجاب الطحاوي فقال: كيف يحتجون بابن لهيعة، وهو ليس دائما بمرضي لهذا يحتج به في مواضع، وإنه لا يجعلونه حجرا لخصمكم فيما احتج به عليكم. وفي هذا قلب الموضوع.
فإن قلت: ابن لهيعة مرضي عند الطحاوي، ولهذا يحتج به في مواضع من كتابه فيكون الحديث صحيحا عنده من هذا الطريق.
قلت: لا نسلم أنه يحتج به، ولكن يذكره في المتابعات. ولئن سلمنا أنه يحتج به وأنه ثقة عنده فالحديث ضعيف لاضطرابه ويكون المدار على عروة في طريق هذا الحديث، وأيضا إن عروة(1/298)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يرفع بحديث بسرة يعني لم يعتبره ولم يلتفت إليه، وذلك إما لكون بسرة عنده ممن لا يوجد مثل ذلك الحكم عنها، ولو ذلك لكونها انفردت بهذه الرواية مع عموم الحاجة إلى معرفته، وما بال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل هذا بين يدي كبار الصحابة، ولم ينقله أحد منهم إنما قاله بين يدي بسرة وقد كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشد حياء من العذراء في خدرها وإما لكون مروان ليس في حال من يجب القبول عن مثله فإنه خبر شرطي مروان عن بسرة دون خبره عنها فإن كان خبر مروان عنده غير مقبول، فخبر شرطية أخرى أن لا يكون مقبولا.
فإن قلت: مروان احتج البخاري به على ما ذكرنا.
قلت: لا يلزم من ذلك أن يكون ثقة عند عروة وإنما روى عروة خبره لعلة فيه قد ظهرت لعروة ولا سيما حين خرج على عبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فإن قلت: قال ابن حزم مروان لا يعلم له خروج قبل خروجه على ابن الزبير، ولم يكن قط لقي عروة إلا قبل خروجه على أخيه لا بعد خروجه.
قلت: لا دليل على هذه الدعوى، فإذا قام دليل ينظر فيه. والجواب عن تصحيح الترمذي هذا الحديث هو أنه يعارضه قول يحيى بن معين، قلت: ثلاثة أحاديث لا تصح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها هذا، ويحيى بن معين هو العمدة في هذا الشأن، وإليه المرجع في التصحيح والتضعيف.
فإن قلت: قال بعض من عنده تعصبا فاسدا من أهل هذا الزمان سئل بعض المخالفين عن يحيى بن معين أنه قال: ثلاثة أحاديث لا تصح: حديث مس الذكر، ولا نكاح إلا بولي، وكل مسكر حرام. وقال: يعرف هذا عن سفيان ولا يعرف هذا عن ابن معين.
قلت: لم يقم الدليل على ذلك حتى ينظر فيه على أن الإثبات مقدم على النفي، وبذلك يجاب عن قول ابن الجوزي أيضا أن هذا لا يثبت عن ابن معين، والجواب عن قول البخاري أنه أصح شيء في هذا الباب، أن مراده هو على كلامه أصح من غيره من أحاديث الباب، وقد اعتد ابن العربي بهذه العبارة فحكى عن البخاري تصحيحه، وليس كذلك، فإن البخاري لو رضي به لأخرجه في صحيحه ولم يخرجه هو، ولا مسلم، ولئن تنزلنا وسلمنا بثبوته فتأويله من بال فيحمل مس الذكر كناية عن البول، لان من يبول يمس ذكره عادة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] (النساء: الآية 43) ولكنى به عن الحدث، أو يكون المراد من قوله: "فليتوضأ" غسل اليدين كما في قوله: «الوضوء قبل الأكل ينفي الفقر» .(1/299)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قال ابن حبان وليس المراد غسل اليدين وإن كانت العرب تسمي غسل اليدين وضوءا على أن في حديث بسرة فليتوضأ وضوءه للصلاة. قلت: استضعفه الطحاوي وجعله منقطعا كما ذكرنا، وعلى كل تقدير حديث بسرة معلول، وقال في " الإمام " هو عند البخاري معلول، وقال إبراهيم الحربي: حديث بسرة يرويه شرطي عن شرطي. وكان ربيعة يقول ويحكم بمثل هذا ما أخذ أحد ويعمل به لو شهدت بسرة على هذا البقل ما قبلت شهادتها. إنما قوام الدين الصلاة والصلاة بالطهور فلم يكن في أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يقيم هذا الدين إلا بسرة، قال: حديث بسرة ضعفه جماعة. وقال ربيعة: لو وضعت يدي في دم أو حيض لم ينقض وضوئي فمس الذكر أيسر منه. وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لحديث امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، أحفظت أم نسيت. ويروى أن الأسود بن زيد أخذ كفا من حصى وحصب به الشعبي وقال: ويلك تحدث بمثل هذا.
فإن قلت: في هذا الباب عن أم حبيبة وأبي موسى، وأبي هريرة، روى ابنه أنيس وعائشة، وزيد بن خالد، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وطلق بن علي، وابن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وأم سلمة، والنعمان بن بشير، ومعاوية بن حيدة، وأبي بن كعب، وقبيصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فحديث أم حبيبة عند ابن ماجه قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من مس فرجه فليتوضأ» ، وأخرجه الطبراني أيضا، وصححه أبو زرعة والحاكم.
قلت: أعله البخاري لأن فيه مكحولا عن عتبة قال: لم يسمع عتبة بن أبي سفيان، وكذا قال يحيى بن معين، وأبو حاتم، والنسائي أخرجه الطحاوي وقال: منقطع.
وحديث أبي موسى عند ابن ماجه أيضا قال: سمعت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: «من مس فرجه فليتوضأ» . وفيه إسحاق بن أبي فروة متروك باتفاقهم واتهمه بعضهم بالوضع.
وحديث أبي هريرة عند ابن حبان قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى(1/300)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فرجه وليس بينهما ستر، ولا حائل فليتوضأ» . ورواه الحاكم في "مستدركه " وصححه، ورواه أحمد في "مسنده "، والدارقطني في "سننه "، والبيهقي أيضا، ولفظه فيه: «من أفضى بيده إلى فرجه وليس دونها حجاب فقد وجب عليه وضوء الصلاة» . وفيه يزيد بن عبد الملك، وقد أغلظ العلماء القول فيه، فقال أبو زرعة: واهي الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال ضعيف سند الحديث، واختلط بآخره، فإذا عرفت تساهل ابن حبان والحاكم في الصحيح.
وحديث أروى عند ابن المنذر وأبي نعيم الأصبهاني عن هشام بن عروة عن أبيه عن أروى بنت أنيس عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من مس فرجه فليتوضأ» . وذكرها ابن الأثير في الصحابيات ثم ذكر هذا الحديث، ثم قال: وقيل أبو أروى الذؤابي حجازي، وهذا كما ترى فيه خلاف، وسئل الترمذي والبخاري عنه فقال: ما يصنع بهذا ألا تشتغل بغيره وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عند الدارقطني في "سننه " عن عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضؤون قالت عائشة بأبي وأمي هذا للرجال أفرأيت النساء قال إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ للصلاة» وفيه عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن جعفر العمري، قال أحمد: كان كاذبا، وقال أبو حاتم وأبو زرعة: متروك، زاد أبو حاتم: وكان يكذب. وقد روى أبو يعلى في "مسنده " ما ينافيه من حديث «سيف بن عبد الله الحميري قال دخلت أنا ورجل معي على عائشة فسألناها عن الرجل يمس فرجه أو المرأة تمس فرجها فقالت سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ما أبالي إياه مسست أو أنفي» .
وحديث زيد بن خالد الجهني عند أحمد في "مسنده " عن ابن إسحاق حدثني محمد بن(1/301)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مسلم الزهري عن عروة بن الزبير عن زيد بن خالد الجهني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من مس فرجه فليتوضأ» . ورواه البزار والطبراني، وقال ابن المديني: أخطأ فيه ابن إسحاق، وأخرجه الطحاوي أيضا، وقال: إنكم لا تجعلون محمد بن إسحاق حجة في شيء إذا خالفه فيه من خالفه في هذا الحديث ولا رضي إذا انفرد، ونفس هذا الحديث منكر، وأخلت به أن يكون غلطا، لأن عروة حين سأله مروان عن مس الفرج أجابه من رواية أن لا وضوء فيه، فلما قال له مروان عن بسرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قال قال له عروة: ما سمعت به وهذا بعد موت زيد بن خالد بكم ما شاء الله فكيف يجوز أن ينكر عروة على بسرة ما قد حدثه إياه زيد بن خالد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال البيهقي في كتاب "المعرفة ": وروى الطحاوي حديث زيد بن خالد الجهني من جهة محمد بن إسحاق بن يسار، ثم أخذ في الطعن على ابن إسحاق، وأنه ليس بحجة ثم ذهب إلى أنه غلط.
قلت: فيها الطعن من البيهقي كيف يفهم كلام المحققين، وكيف طعن الطحاوي على ابن إسحاق، والذي ذكره الطحاوي ليس طعنا منه فيه، وإنما قال للخصم: أنتم لا تجعلون محمد بن إسحاق حجة، وهذا القول لا يستلزم الطعن منه فيه، وإنما اشتهر بذلك عسكر الخصم، حيث يجعل محمد بن إسحاق حجة عند كون الحديث له، ويتركه ويطعن فيه عند كون الحديث حجة عليه، ولئن سلمنا أنه طعن فيه فما هو بأول طاعن فإن مالكا قال فيه: من الدجاجلة. وقال الخطيب قد أمسك عن الاحتجاج بروايات ابن إسحاق غير واحد من العلماء، بأسباب منها: أنه كان يتشيع، وينسب إلى القدر، ويدلس في حديثه، فأما الصدق فليس بمرفوع عنه. وقال الذهبي فيما انفرد به نكارة وهو سيئ في حفظه.
وحديث جابر عند ابن ماجه عن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ» . وأخرجه الطحاوي وأعله بالإرسال، وقد قال الشافعي: سمعت جماعة من الحفاظ غير أبي نافع يرويه، ولا يذكرون فيه جابرا وهم لا يحتجون بالمرسل.
وحديث عبد الله بن عمرو عند أحمد والبيهقي عن عتبة بن الوليد عن محمد بن الوليد(1/302)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزبيدي حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما رجل مس فرجه فليتوضأ وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ» . وأخرجه الطحاوي وقال لهم: أنتم تزعمون أن عمرو بن شعيب لم يسمع من أبيه شيئا عنه، وإنما حديثه عن صحيفة فهذا غير قولكم منقطع، والمنقطع لا يجب أن ترونه حجة عندكم.
فإن قلت: إذا كان الطحاوي يحتج بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فما باله لم يقل لم يعمل بحديثه هذا.
قلت: لأنه عارضه حديث طلق بن علي فلم يكن العمل به لتأخر حديث طلق عنه، فثبت بذلك انتساخ أحاديث الانتقاض بمس الفرج.
فإن قلت: حديث أبي هريرة الذي ذكرناه في هذا الباب ناسخ لحديث طلق لأن طلقا قدم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابتداء الهجرة والمسجد على العريش وأبو هريرة أسلم سنة سبع من الهجرة فكان حديثه متأخرا والأخذ بأحد الأمرين واجب لأنه ناسخ. والطبراني أيضا مال إلى أن حديث طلق منسوخ. قلت: روى أبو داود «عن ابن طلق عن أبيه قال: قدمنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاء رجل كأنه بدوي فقال: يا نبي الله: ما ترى في مس الرجل ذكره بعدما توضأ، قال: "هل هو إلا بضعة منك أو بضعة منه» ففي قوله ما ترى إلى آخره، دلالة على أنه كان بلغه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرع فيه الوضوء فأراد أن يتيقن ذلك، وإلا فالمستقر عندهم أن الأحاديث إنما كان من الخارج النجس وإلا فالعقل لا يهتدي إلى أن مس الذكر يناسبه نقض الوضوء، فعلى هذا يكون حديث طلق هو آخر الأمرين. وكان أبو هريرة تأخر سمعه من بعض الصحابة ثم أرسله.
وجواب آخر: دعوى النسخ إنما يصح بعد ثبوت صحة الحديث ونحن لا نسلم صحة حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحديث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عند الدارقطني في "سننه " عن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من مس ذكره فليتوضأ وضوء الصلاة» .(1/303)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه الطبراني في "الكبير " والبزار في "مسنده " ولفظهما: «من مس فرجه فليتوضأ» . وأخرجه الطحاوي أيضا وأعله بصدقة بن عبد الله في سنده، وفي سند الطبراني العلائي بن سليمان، وفي سند البزار هاشم بن زيد وكلاهما ضعيفان جدا، وحديث طلق بن علي عند الطبراني، وفي الكبير أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مس ذكره فليتوضأ» .
قلت: يعارضه حديثه الآخر رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن ملازم بن عمرو عن عبد الله بن زيد عن قيس بن طلق بن علي عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه سئل عن الرجل يمس ذكره في الصلاة، فقال: "هل هو إلا بضعة منك» . وقال الترمذي: هذا الحديث أحسن شيء في هذا الباب. ورواه ابن حبان في "صحيحه ".
وحديث ابن عباس عند البيهقي من جهة ابن عدي في " الكامل " وفي إسناده الضحاك بن حمزة وهو منكر الحديث، وحديث سعد بن أبي وقاص عند الحاكم وحديث أم سلمة عند الحاكم. وحديث النعمان بن بشير عند ابن منده، وأما حديث معاوية بن حيدة وحديث أبي بن كعب، وحديث قبيصة هذه الأحاديث كلها لا تخلو عن علة، والحديث الذي عليه العمدة حديث طلق، وقد ذكرنا الآن عن الترمذي ما قاله.
وذكر عبد الحق في "أحكامه " حديث طلق وسكت عنه فهو صحيح عنده على إعادته، وروي عن عمرو بن علي الفلاس أنه قال: حديث طلق عندنا أثبت من حديث بسرة، وتضعيف الخصم حديث طلق من جهة الطريق الذي فيه أيوب بن عتبة ومحمد بن جابر وهما ضعيفان ولا يضر ذلك، لأن حديث طلق له أربعة طرق:
أحدها: عند أصحاب السنن عن ملازم بن عمرو. كما ذكرنا وهو صحيح.(1/304)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثاني: عن محمد بن جابر وهو ضعيف أخرجه ابن ماجه من هذا الطريق.
والثالث: عن عبد الحميد بن جعفر وهو ضعيف أخرجه ابن عدي.
والرابع: عن أيوب بن عتبة وهو ضعيف. وأخرجه الطحاوي بالطريق الأول: قال هذا حديث مستقيم الإسناد غير مضطرب في إسناده، ولا شبه ثم أسند عن علي بن المديني أنه قال: حديث ملازم بن عمرو أحسن من حديث بسرة.
ولنا حديث آخر ولكنه ضعيف رواه أبو أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني مسست ذكري وأنا أصلي فقال: "إنما هو حدبة منك» قال ابن الأثير، قيل: هي بالكسر ما قطع من اللحم طولا.
ومن نواقض الوضوء عند الشافعي: مس المرأة على ما نذكره مفصلا وهو يحتج بدلائل وحجج، ونحن نحتج كذلك فإذا قطعنا النظر عن الكل يكفينا حديث عائشة المشهور رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سلمة «عن عائشة قالت: كنت أنام بين يدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجلاي في قبلته، وإذا سجد غمزني قبضت رجلي، فإذا قام بسطتها» والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. وفي لفظ: «فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فضممتها إلي ثم سجد» . طريق آخر أخرجه مسلم عن أبي هريرة «عن عائشة قالت: "تقدمت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة فجعلت أطلبه بيدي فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد» . للحديث طريق آخر رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل امرأة من نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ قال عروة، فقلت لها من هي إلا أنت فضحكت» .
طريق آخر أخرجه أبو داود والنسائي عن الثوري عن أبي روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقبل بعض نسائه ثم يصلي ولا يتوضأ» .
ولحديث عائشة طريق آخر وما ذهب إليه الشافعي يروى عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن عمر وزيد بن أسلم ومكحول، والنخعي، وعطاء بن السائب، والزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن(1/305)
والدابة تخرج من الدبر ناقض، فإن خرجت من رأس الجرح، أو سقط اللحم منه لا ينقض. والمراد بالدابة الدودة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عباس، وأبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في الذي صححه أبو بكر بن الحربي، وابن الجوزي، ومذهب عبيدة السلماني بفتح العين المهملة، وعبيدة الضبي بالضم وعطاء وطاووس والحسن البصري، والشعبي، والثوري، والأوزاعي، أن اللمس والملامسة كناية عن الجماع، ولا يجب الوضوء على مس المرأة أو تقبيلها إذا تيقن بعدم خروج المذي، وبه قال أصحابنا. وذهب مالك إلى أنه إن لمس بشهوة ينتقض وإلا فلا، وهو مروي عن الحكم وحماد والليث وإسحاق، وعن أحمد ثلاث روايات بالمذاهب الثلاثة. وذهب داود إلى أنه إن لمس عمدا انتقض، وإلا فلا، وعن الأوزاعي إذا لمس بأعضاء الوضوء انتقض، وإلا فلا، وروي عنه أنه لا ينتقض إلا باللمس باليد.
وذهب عطاء إلى أنه إن لمس من يحل له انتقض وحجة الجمهور قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] (النساء: الآية 43) فالملامسة واللمس الجماع. وقال ابن رشد المالكي: وإن كانت دلالته على المعنيين على السواء أو قريبا من اللمس المسمى الأظهر عندي في الجماع؛ لأن الله تعالى قد كنى بالمباشرة والمس بالجماع، ولا فرق بين اللمس والمس في اللغة، ولأن الملامسة ظاهرة في الجماع، والمس سبب الجماع؛ لأنه محرك للشهوة، وذكر السبب وإرادة المسبب من أقوى طرق المجاز. وقال القرطبي: يلزم على مذهب الشافعي أن من ضرب امرأته أو لطمها أن ينقض وضوءه، وهذا لا يقوله أحد فيما أعلم، وحديث عائشة في التقبيل قد مر بطرقه.
ومن النواقض أكل لحم الجزور عند أحمد وإسحاق وأبي ثور ومحمد بن إسحاق ويحيى بن يحيى. وعند الجمهور لا ينقض. ومنها غسل الميت عند أحمد.
م: (والدابة) ش: مبتدأ وهي الدودة التي نبتت في البطن قوله م: (تخرج من الدبر) ش: جملة في محل النصب لأنها حال من الدابة وقوله: م: (ناقض) ش: خبر المبتدأ، فإن قلت: المطابقة شرط بين المبتدأ والخبر في التذكير والتأنيث. قلت: التقدير ههنا خروج الدابة التي تخرج من الدبر ناقض لأن النقض بالخروج لا بنفس الدابة فافهم.
م: (فإن خرجت) ش: أي الدابة، والفاء في فإن خرجت تفسيرية م: (من رأس الجرح أو سقط اللحم منه لا ينقض) ش: لأن عين الخارج ليست بنجسة، وما عليها قليل وهو الناقض في السبيلين معفو عنه في غيرهما، فأشبه الخارج من الجرح الجشاء في عدم النقض، والخارج من الدبر الفساء في نقض الوضوء به.
م: (والمراد بالدابة الدودة) ش: إنما فسر الدابة بالدودة لأن الدابة ما تدب على الأرض، ربما(1/306)
وهذا لأن النجس ما عليها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يتوهم أن المراد بها ما يدخل الجرح كالذباب فيخرج منه فإنه لا ينقض، ففسره بيانا لذلك.
وقال الأترازي: إنما فسر الدابة بعد أن ذكرها مجملة ولم يقل ابتداء دودة تخرج لأنه بغير لفظ محله، ثم فسرها دفعا لتشنيع البعض بأن الدابة وهي الفرس أو الحمار كيف يخرج من الدبر، أو رأس الجرح. وهذا لأن الدابة في أصل اللغة اسم لكل ماش في الأرض.
ثم قال الأترازي: قال بعض الشارحين: وجدت بخط ثقة إنما فسر الدابة بالدودة لأن الدابة اسم لما يدب على وجه الأرض، فلو لم يفسرها بها لكان لقائل أن يقول المراد بالدابة هي التي تدخل من الذباب في الجرح ثم تخرج، فأما التي تنشأ فيه كان منشأها من الدم وخروجا كخروج الدم، فينتقض بها الوضوء في غير السبيلين، كما إذا خرج من السبيلين وهو أوجه، لكني وجدت بخط ثقة إلى آخر ما ذكرنا.
قلت: نظر الأترازي إلى أول الكلام من غير أن يستوفي ما قاله السغناقي، ثم شنع عليه بهذا التشنيع، وليس له وجه، لأنه قال: ويريد صحة هذا التفسير ما ذكره شمس الأئمة السرخسي في تعليل هذه المسألة بعلتين في " الجامع الصغير " بعدما ذكر خروجها من الجرح، فقال: بخلاف الدابة التي تخرج من الدبر لا يخلو من قليل بلة فبالنظر إلى العلة الأولى يجب أن لا ينقض الوضوء بالدابة التي تدخل الدبر ثم يخرج لأنها لم تستحل من العذرة، وكذا بالنظر إلى العلة الثانية أيضا لأنه قيد بالبلة وتحتمل أن تخرج بغير بلة، والدليل عليه ما ذكره في " المحيط " أنه إذا دخل العود في دبره وطرفه بيده ثم أخرجه فيه البلة نقض، وإن لم تكن البلة فلا وضوء عليه.
فإذا كان الأمر كذلك كيف يوجه الأترازي أن يشنع تشنيعا غير موجه سعة الغير المعرفة بقوله لأن الذباب الداخل إلى آخره فيطلق كلامه ويسكت عن تفسيره، حتى يتوصل به إلى التشنيع البارد، وهذا أشار به إلى الفرق بين المسألتين وهو قوله.
م: (وهذا لأن النجس ما عليها) ش: أو ما على الدودة، لا يقال إن المصنف ناقض في كلامه، لأنه قال فيما مضى ما لا يكون حدثا لا يكون نجسا. وههنا قال لأن النجس ما عليها، لأنا نقول هذا على قول محمد والذي هناك على قول أبي يوسف، وجوابه وقال الأكمل ويجوز أن يقال أطلق النجس على ما يخرج من الجوف بطريق المشاكلة لما كان بالنسبة إلى الدبر نجسا، ذكر في الخروج لفظ النجس. وقال الأترازي: ويريد به حقيقته اللغوية لا الشرعية، فيكون معناه حينئذ ذلك النجس اللغوي قليله حدث في السبيلين دون غيرهما. قلت: هذا كلام عجيب فمن تأمله يقف على فساده، وذكر السغناقي هنا ثلاثة أوجه، منها على تقدير الشرطية وهي لو كان ثمة نجس فهو ما عليها، ورد عليه الأكمل فقال: وهو غير صحيح لأن على تقدير الشرطية إن كان على هذا الوجه لكن ثمة نجس فيكون ما عليها لم يستقم في الجرح، لأن ما لا يكون حدثا لا يكون نجسا،(1/307)
وذلك قليل وهو حدث في السبيلين دون غيرهما؛ فأشبه الجشاء والفساء بخلاف الريح الخارجة من القبل والذكر، لأنها لا تنبعث عن محل النجاسة حتى لو كانت المرأة مفضاة فيستحب لها الوضوء احتياطا لاحتمال خروجها من الدبر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو ليس بحدث في الجرح فلا يكون نجسا.
وإن كان على هذا الوجه لكن لم يكن نجس ما عليها فلا يكون نجسا لم يستقم في الدبر لأنه نجس وحدث.
م: (وذلك) ش: أي الذي عليها م: (قليل وهو حدث في السبيلين دون غيرهما) ش: أي دون غير السبيلين فإن القليل ليس بحدث في غيرهما م: (فأشبه الجشاء والفساء) ش: هذا لف ونشر فإن قوله الجشاء يرجع إلى القليل على الدود من غير السبيلين، والفساء يرجع إلى السبيلين. والجشاء على وزن فعال. وقال الأصمعي: كأنه من باب العطاس والبوال والدوار.
قلت: هو مهموز اللام يقال: تجشى تجشية وتجشا، والاسم الجشية مثل الهمزة. والفساء بالمد أيضا على وزن فعال اسم من فسا يفسو فسوا وهو معتل اللام الواوي. والجشاء صوت مع الريح يخرج من الفم عند الشبع. والفساء ريح منتنة تخرج من الدبر بلا صوت وربما يكون الجشاء منتنا أيضا لكثرة الامتلاء وفساد المعدة م: (بخلاف الريح الخارجة من القبل) ش: أي من قبل المرأة والذكر م: (لأنها لا تنبعث من محل النجاسة حتى لو كانت المرأة مفضاة) ش: أي التي صارت سبيلاها واحدا، وفي " الكافي " المفضاة هي التي اتحد مسلكا بولها وغائطها وخرجت من قبلها ريح منتنة. وفي " البدائع " وهي التي صار مسلك البول والوطء واحدا م: (فيستحب لها الوضوء احتياطا لاحتمال خروجها من الدبر) ش: فيكون فساء، ولا يجب لأنها كانت على وضوء بيقين ولا يزول إلا بيقين مثله.
فإن قيل: ينبغي أن يجب الوضوء في الريح مطلقا كما قال الشافعي لعموم قوله «- عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين سئل عن الحدث قال: ما يخرج من السبيلين» والعبرة في النصوص بعين النص لا بمعناه.
قلنا: عن محمد أنه يجب الوضوء. ومن المشايخ من قال في المفضاة إذا كان الريح منتنا يجب الوضوء وما لا فلا. والدودة الخارجة من قبل المرأة بمنزلة الريح على الخلاف المذكور. والخارجة من ذكر المرء لا وضوء فيها والخارجة من الفم قيل: لا ينقض وكذا الخارجة من الأنف والأذن لا ينقض الوضوء.
قلت: ينبغي أن يكون عدم النقض عند عدم البلة فافهم.
ثم اعلم أنهم اختلفوا في أن عين الريح نجس أو متنجس، فمن قال: متنجس وقال بنجاسة عينها، قال: يتنجس السراويل. ومن قال بطهارة عينها لم يقل به كما لو مرت الريح بنجاسة ثم(1/308)
فإن قشرت نفطة فسال منها ماء أو صديد أو غيره إن سال عن رأس الجرح نقض الوضوء، وإن لم يسل لا ينقض، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينقض في الوجهين. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا ينقض في الوجهين وهي مسألة الخارج من غير السبيلين. وهذه الجملة نجسة لأن الدم ينضج فيصير قيحا، ثم يزداد نضجا فيصير صديدا، ثم يصير ماء هذا إذا قشرها فخرج بنفسه، وأما إذا
هذا إذا قشرها فخرج بنفسه، وأما إذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مرت بثوب مبتل فإنه لا ينجس بها. وفي قول المصنف لاحتمال خروجها من الدبر.
فائدة أخرى: وهي أن المفضاة إذا طلقها زوجها ثلاثا وتزوجت بآخر ودخل بها الزوج الثاني لا تحل للأول ما لم تحمل لاحتمال أن الوطء كان في دبرها لا في قبلها كذا في " الفوائد الظهيرية ".
م: (فإن قشرت نفطة) ش: إنما ذكرها بالفاء لأنها من فروع المسائل السابقة، والنفطة بالحركات الثلاث في نونها يخرج البدن ملآن من قولهم انتفط فلان أي امتلأ غضبا، ثم النفطة إذا قشرت م: (فسال منها ماء أو صديد أو غيره) ش: نحو القيح م: (إن سال عن رأس الجرح نقض الوضوء وإن لم يسل لا ينقض) ش: أراد إن لم يتجاوز عن رأس الجرح لا ينقض الوضوء.
وعن أبي حنيفة: إذا خرج ماء صاف لا ينقض، وإن سال. م: (وقال زفر ينقض في الوجهين) ش: يعني سال عن رأس الجرح أو لم يسل.
م: (وقال الشافعي لا ينقض في الوجهين) ش: بناء على أصله م: (وهي) ش: أي هذه المسألة هي م: (مسألة الخارج من غير السبيلين) ش: بالخلاف المذكور فيها فيما تقدم، وإنما أعادها ههنا وإن كانت تعلم مما تقدم ليعلم الفرق بين الخارج والمخرج، أو لأن الماء لم يذكر من قبل فأعادها ليعلم ههنا أن حكم الماء حكم غيره.
م: (وهذه الجملة) ش: أي الماء والصديد وغيرهما م: (نجسة لأن الدم ينضج فيصير قيحا، ثم يزداد نضجا فيصير صديدا، ثم يصير ماء) ش: أشار بهذا إلى أن اللون الأصلي هو الحمرة فيصير دما، ثم بالنضج يصير قيحا، ثم يترقى فيصير صديدا، ثم يزداد النضج فتزول صفته فيصير ماء.
وقال ابن الأثير: القيح المدة، يقال قاحت القرحة. وقال الجوهري: القيح المدة لا يخالطها دم.
وقال ابن الأثير: الصديد الدم وليس كذلك، بل الصديد ماء الجرح الرقيق المختلط بالدم قبل أن تغلظ المدة، يقال: أصد الجرح أي صار فيه المدة قاله الجوهري.
م: (وهذا) ش: أي الذي ذكرنا من النقض م: (إذا قشرها) ش: أي إذا قشر المتوضئ النفطة م: (فخرج بنفسه) ش: أي فخرج الماء أو الصديد أو القيح بنفسه من غير علاج من القاشر م: (وأما إذا(1/309)
عصرها فخرج بعصره فلا ينقض، لأنه مخرج وليس بخارج والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عصرها) ش: أي أما إذا عصر المتوضئ النفطة م: (فخرج) ش: أي أحد الأشياء المذكورة م: (بعصره) ش: أي بسبب عصره لا بنفسه م: (فلا ينقض لأنه مخرج) ش: بضم الميم م: (وليس بخارج) ش: والنقض بسبب الخارج كما عرفت. وهذا الذي ذكره اختيار بعض المشايخ واختاره المصنف أيضا.
وقال آخرون: ينقض. وقال الأكمل: قال بعض الشارحين: وهذا هو المختار عندي لأن الخروج لازم الإخراج، فلا بد من وجود اللازم عند وجود الملزوم، وفيه نظر، لأن الإخراج ليس بمنصوص عليه، وإن كان يستلزمه، فكان ثبوته غير قصدي ولا معتبر به.
قلت: أراد بقوله: قال بعض الشارحين الأترازي فإنه قال في شرحه: وقال في " الفتوى " و" الخلاصة " ينقض، وبعض مشايخنا على هذا، وهذا هو المختار عندي لأن الاحتياط فيه وإن كان الرفق بالناس في الأول، وتحقيقه من عندي أن الخروج لازم الإخراج إلى آخر ما ذكره، وجه النظر ما ذكره وفيه نظر، لأن ثبوت اللازم يستلزم ثبوت الملزوم غير قصدي، والاحتياط في كونه معتبرا لأنه من باب العبادة. وفي " النوازل " و " فتاوى العتابي " عصرت القرحة فخرج منها شيء ولو لم يعصر لا يخرج لا ينقض. ولكن قال: وفيه نظر.
وفي " الجامع" للإمام السرخسي: إذا عصرها فخرج الدم بعصرها انتقض، وهو حدث عمدا كالفصد والحجامة ولا يبني على صلاته، وفي " الكافي " الأصح أن المخرج ناقض.(1/310)
فصل في الغسل وفرض الغسل المضمضة والاستنشاق وغسل سائر البدن وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هما سنتان فيه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: عشر من الفطرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الغسل] [فرائض الغسل]
م: (فصل في الغسل) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام الغسل وقد بينا معناه لغة واصطلاحا وإعرابا أيضا فيما تقدم. والغسل بضم الغين اسم من الاغتسال. وبفتح الغين مصدر غسل يغسل من باب ضرب يضرب. وبكسر الغين ما يغسل به من خطمي ونحوه. وقال ابن الأثير: الغسل بالضم الماء الذي يغتسل به كالأكل لما يؤكل، وهو الاسم أيضا من غسله، ويقال: الغسل بفتح الغين وضمها لغتان، والفتح أفصح وأشهر عند أهل اللغة، والضم هو الذي يستعملها الفقهاء أو أكثرهم.
وزعم بعض المتأخرين أن الفقهاء غلطوا في الضم وليس كما قال بل غلط هو في إنكاره ما لم يعرفه، وقيل: بالضم اسم الاغتسال الذي يعم البدن كله ذكره الأزهري. وقال عبد الحق: وقد أولع الفقهاء باتباع المضموم على فعل الغسل لا وجه له، وإنما قدم فصل الوضوء على الغسل لأن الحاجة إلى الوضوء أكثر، ولأن محل الوضوء جزء البدن ومحل الغسل كله والجزء قبل الكل، واقتداء بكتاب الله تعالى، فإنه وقع على هذا الترتيب، أو لأن الوضوء وظيفة الحدث الأصغر والغسل وظيفة الحدث الأكبر، والأصغر مقدم على الأكبر بمعنى أنه مقدمة الأكبر ثم ترتيب الغسل عليه باعتبار أنهما طهارتان تعلقتا بالبدن.
م: (وفرض الغسل) ش: بضم الغين أي مفروض الغسل، كما يقال: هذه الدراهم ضرب الأمير أي مضروبه. والواو فيه إما للاستئناف وإما للعطف على قوله: ففرض الطهارة م: (المضمضة والاستنشاق) ش: قد مر تفسيرهما في فصل الطهارة م: (وغسل سائر البدن) ش: أي باقي البدن، وغسل الشيء عبارة عن إزالة الوسخ عنه بإجراء الماء عليه. والحاصل أن فرض الغسل ثلاثة منها: المضمضة والاستنشاق وبه قال الثوري وابن سيرين والليث وابن عرفة وهو مذهب ابن عباس وغيره من الصحابة.
م: (وعند الشافعي هما سنتان فيه) ش: أي في الغسل، وبه قال مالك، وحكاه ابن المنذر عن الحسن البصري، والزهري والحاكم وقتادة وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري ورواية عن عطاء وأحمد في رواية، وفي رواية أخرى وهي المشهورة أنهما واجبتان وشرطان لصحتهما، وهو مذهب ابن أبي ليلى وحماد وإسحاق، وقال أبو ثور وأبو عبيد وداود: الاستنشاق واجب في الوضوء والغسل دون المضمضة وهو رواية ثالثة عن أحمد. وقال ابن المنذر: وبه أقول.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عشر من الفطرة» ش: هذا الحديث رواه الجماعة إلا البخاري ورواه(1/311)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مسلم وأبو داود وابن ماجه في الطهارة والترمذي في الاستئذان، وقال: حديث حسن. والنسائي في الزينة كلهم عن مصعب بن شبيب عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، والاستنشاق بالماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء، قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة» .
وأخرج أبو داود وابن ماجه من حديث علي بن زيد عن سلمة بن محمد بن عمار بن ياسر عن عمار بن ياسر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من الفطرة المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، والاستحداد، وغسل البراجم، والانتضاح بالماء، والاختتان» ورواه أحمد في "مسنده " والطبراني في "معجمه " والبيهقي في "سننه "، وشراح الكتاب المشهورون لم يذكر أحد هذا الحديث بنصه ولا ذكروا من رواه، ولا كيف حاله، وأعجب من ذلك كله يفسرون العشر بقولهم خمس منها في الرأس، وخمس في الجسد، فالتي في الرأس الفرق، والسواك، والمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والتي في الجسد: الختان، وحلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، والاستنجاء بالماء. وذكروا الفرق ولم يذكروا الحديث المذكور وإعفاء اللحية. وذكر في الحديث المذكور وذكر الاختتان في حديث أبي داود.
وقوله: «عشر من الفطرة» مبتدأ وخبر.
فإن قلت: عشر كيف يكون وقع مبتدأ، وقد علم أن العدد إذا ذكر وأريد به المعدود فهو غير علم، وهو منصرف، كقولك: عندي ستة، لأن المراد بهذه الستة هو المعدود وليس العدد، لأن العدد ليس شيئا يكون وقع مبتدأ.
قلت: لأنه أريد به المعدود المعروف فيكون علما فيقع مبتدأ وقد علم أن العدد إذا ذكر وأريد به المعدود فهو غير علم فهو منصرف كقولك عندك ستة لأن المراد بهذه الستة هو المعدود لا العدد لأن العدد ليس شيئا يكون عندك، وإذا أريد به العدد فيحتمل أن يكون ستة من الدراهم، أو الدنانير أو غيرهما. فإذا كان كذلك يكون نكرة، وأما إذا أريد به العدد المعروف يكون علما غير منصرف للعلمية والتأنيث، تقول: عشرة ضعف خمسة، عشر، هنا منصرف لعدم التأنيث، ثم إنه يفسر باسم جمع وهو نحو خصال، والتقدير عشر خصال من الفطرة وقد علم أن عشر وأخواته إذا فسر باسم جنس أو اسم مؤنث لا يقال بالتاء، نحو ثلاث من التمر، وعشر من الإبل.(1/312)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإذا كان المعدود ما يذكر ويؤنث كحال ولسان وعين يجوز تذكيره، وتأنيثه نحو ثلاثة أحوال، وثلاث أحوال، ويمكن الوجهان في اسم جنس واحدة بالتاء كبقر ونخل فيقال ثلاث من البقر وثلاثة من البقر.
والفطرة: السنة وتأويله أن هذه العشرة من سنن الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - الذين أمرنا أن نقتدي بهم، وأول من أمر بها إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وكلمة من للتبعيض لأن السنن كثيرة. والإعفاء من أعفى وثلاثيه عفا، يقال: عفا الشيء إذا كثر وزاد من ذلك عفا الزرع، وإعفاء اللحية: إرسالها وتوفيرها.
قوله: " والسواك " أي واستعمال السواك.
قوله: " والانتقاص بالماء " بالقاف والصاد المهملة وقد فسره وكيع بأنه الاستنجاء، وقال أبو عبيد: معناه انتقاص البول بسبب استعمال الماء في غسل مذاكيره، وقيل: هو الانتضاح كما في رواية أبي داود والآخرين.
وقال الجمهور: الانتضاح نضح الفرج بماء قليل بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس. وقال ابن الأثير أنه روي انتفاص بالفاء والصاد المهملة، وقال في فصل الفاء: قيل الصواب إنه بالفاء، قال: والمراد نضحه على الذكر من قولهم نضح الماء القليل بعضه وجمعهما نقض. وقال النووي في "شرح مسلم ": هذا الذي ذكره شاذ، والصواب هو الأول.
قوله: " ونسيت العاشرة " أي الخصلة العاشرة. والاستحداد: استعمال الحديدة وهي الموسي والمراد بها حلق العانة. وغسل البراجم بفتح الباء الموحدة وبالجيم جمع برجمة بضم الباء وهي عقد الأصابع ومفاصلها كلها، وغسلها تنظيفها من الوسخ، وقال الخطابي: إنه الواجب ما بين البراجم.
وأما الفرق الذي ذكره الشراح فقد وقع في رواية ابن عباس ورواه أبو داود عنه أنه قال: " خمس كلها في الرأس، وذكر فيها الفرق، ولم يذكر إعفاء اللحية " والفرق بالسكون مصدر من فرق شعره إذا جعله فرقتين وقد انفرق شعره في مفرقه وهو وسط رأسه، وأصله من الفرق بين الشيئين وفي " المطالع ": وكانوا يفرقون بالتخفيف أشهر، وقد شددها بعضهم. ثم اعلم أن الحديث المذكور وإن كان مسلم قد أخرجه فقد أثبت فيه ابن منده علتين:
إحداهما: من جهة مصعب فإنه قال النسائي فيه في "سننه " منكر الحديث، وقال أبو حاتم:(1/313)
أي من السنة وذكر منها المضمضة والاستنشاق ولهذا كانتا سنتين في الوضوء ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ليس بقوي، ولا يوجد من وثقه.
والثاني: أن سليمان التيمي رواه عن طلق بن حبيب عن أبي الزبير مرسلا هكذا رواه النسائي في "سننه "، ولأجل هاتين العلتين لم يخرجه البخاري، ولم يلتفت مسلم إليهما لأن مصعبا عنده ثقة، والثقة إذا أوصل حديثه يقدم وصله على الإرسال.
م: (أي من السنة) ش: هذا تفسير الفطرة وليس من الحديث، وللفطرة معان بمعنى دين الإسلام وبمعنى الخلق، وبمعنى الاختراع والإبداع. وقال الخطابي فسرها أكثر العلماء بالسنة.
وقال ابن الصلاح: هذا فيه إشكال لبعد معنى السنة من معنى الفطرة في اللغة، فلعل وجهه أن أصله سنة الفطرة أراد بها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقال النووي: تفسيرها بالسنة هو الصواب، ففي " صحيح البخاري " عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «من السنة قص الشارب، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار» ، م: (وذكر منها) ش: أي في الفطرة التي هي السنة م: (المضمضة والاستنشاق ولهذا) ش: أي ولأجل كونهما من السنة م: (كانتا سنتين في الوضوء) ش: عنده وعندنا أيضا وعند أحمد فرض في الوضوء والغسل جميعا.
م: (ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ش: (المائدة: الآية 6) أي اغسلوا على وجه المبالغة، والجنب يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب، يقال: أجنب يجتنب. والجنابة الاسم وهي في اللغة العبد وسمي الإنسان جنبا لأنه نهي أن يقرب مواضع الصلاة ما لم يتطهر، وقيل: لمجانبة الناس حتى يتطهر. قال الجوهري: يقال: أجنب الرجل وجنب أيضا بالضم.
قلت: الجنب صفة مشبهة وهو الذي يجب عليه الغسل بالجماع وخروج المني ويجمع على أجناب وجنبين، قوله {فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] صيغة أمر الجماعة، أصله تطهروا فلما قصد الإدغام قلبت التاء طاء فأدغم في الطاء، واجتلبت همزة الوصل، ومعناه طهروا أبدانكم. قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرحه: قوله: {فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] أمر بالإطهار فكان يجنبه لو كانت هكذا، (ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) أمر بالإطهار. ثم شرحه بقوله: قوله أمر بالتطهر بضم الهاء لأن أصله تطهروا فأدغمت التاء في الطاء لقرب المخرج، وحتى بهمزة الوصل ليتوصل بها إلى النطق فصار اطهروا.
قلت: غالب النسخ التي عثرنا عليها هكذا، ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6](1/314)
وهذا أمر بتطهير جميع البدن
إلا أن ما تعذر إيصال الماء إليه خارج عن قضية النص
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(المائدة: الآية 6) وهو أمر بتطهير جميع البدن إلا ما يتعذر اه. فإن كان الذي نقله هو لفظ المصنف يكون قصده الإشارة إلى أن قوله: فاطهروا من باب التفعل لا من باب الافتعال، ليدل على التكلف والأعمال، ومعناه أن الفاعل تبعا في ذلك الفعل فيحصل ويصير معناه استعمل الشجاعة وكلف نفسه إياها، كذلك استعمل يصير بالتكلف، ثم شرح الأترازي ههنا بقوله: وبعض من لا خبرة له ولا دراية يقرؤه بالإطهار، وما ذلك إلا لحرمانه من العربية والمصنف بريء من عهدته.
قلت: هذا تشنيع بارد وهو تشنيع من لا خبرة له في قواعد العربية قرن الإطهار الذي قواه ذلك التشنيع عليه من باب الافتعال كان أصله الاطهار، فقلبت التاء طاء، وأدغمت الطاء في الطاء على ما هو القاعدة، وهذا الباب أيضا يدل على التكلف والاعتمال ما ليس في كسب فلذلك كما في قَوْله تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] (البقرة: الآية 286) بكلمة: على وليست بكلمة اللام ما اكتسبت على وكسبت مشكلة اللام. ثم قوله: والمصنف بريء من عهدته أبرد من تشنيعه بغير وجه لأن الذي قرأه بالاطهار هل على أمر كسب خطيئة أنزل حفظه أو ذكر خلاف ما تقتضيه القواعد، وخالف المصنف بغير وجه حتى يبرأ عنه المصنف م: (وهذا أمر بتطهير جميع البدن) ش: أي قَوْله تَعَالَى {فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] أمر لتطهير سائر البدن في حق الجنب حتى تجب عليه المضمضة، والاستنشاق وإيصال الماء إلى باطن السرة، وتحريك الخاتم.
وقد روى أبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشرة» هي ظاهر الجلد فيجب غسل جميعها ولهذا احتج أصحابنا على فريضة المضمضة والاستنشاق في الغسل. وشنع الخطابي ههنا على أصحابنا وقال من يحتج بفرضية المضمضة من الجنابة أن داخل الفم من البشرة، وهذا خلاف قول أهل اللغة لأن البشرة عندهم ما ظهر من البدن وداخل الفم والأنف ليس منها.
قلت: ليس كذلك فإن أصحابنا احتجوا بفريضة الاستنشاق في الجنابة بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن تحت كل شعرة جنابة» وفي الأنف شعور، وأما المضمضة فإن الفم من ظاهر البدن بدليل أنه لا يقدح في الصوم فيطلق عليه ما يطلق على البدن، فهذا باعتبار الفرضية لا باعتبار ما قاله الخطابي، ثم استثنى من ذلك ما يتعذر إيصال الماء إليه من البدن بقوله:
م: (إلا أن ما يتعذر إيصال الماء إليه خارج عن قضية النص) ش: أي مقتضى النص وتناوله(1/315)
بخلاف الوضوء لأن الواجب فيه غسل الوجه والمواجهة فيهما منعدمة، والمراد بما روي حالة الحدث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لجميع البدن، لأن البدن اسم للظاهر والباطن سقط لأجل التعذر في إمكان غسله، لأن تكليف ما ليس في الوسع مستحيل كما يسقط الظاهر إذ كان به جراح أو عدم الماء، والأنف والفم يمكن غسلهما فإنهما يغسلان عادة وعبادة نفلا في الوضوء، وفرضها في النجاسة الحقيقية فيتناولهما الأمر وأما القياس فلتعذر إدخال الماء فيهما والعسر معنى كالتعذر لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (الحج: الآية 78) وفي غسلهما من الحرج ما لا يخفى، ولهذا لا تغسل العين إذا تكحل بالكحل النجس.
وروى أبو داود والترمذي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشر"، ويروى فاغسلوا الفرق» . وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من ترك موضع شعرة لم يصبه الماء فعل به كذا وكذا من النار" قال علي: فمن ثم عاديت شعري وكان يجزه» رواه أبو داود وأحمد وغيرهما بإسناد حسن.
وروى الدارقطني عن ابن سيرين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالاستنشاق من الجنابة» .
وروي أيضا عن ابن عباس «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمضمضة والاستنشاق إن كان جنبا أعاد المضمضة والاستنشاق واستأنف الصلاة عليه أن فرضها في الجنابة» م: (بخلاف الوضوء) ش: جواب عن قياس الشافعي الغسل بالوضوء م: (لأن الواجب فيه) ش: أي في الوضوء م: (غسل الوجه) ش: لا جميع البدن م: (والمواجهة فيهما) ش: أي محل المضمضة والاستنشاق م: (منعدمة) ش: أي معدومة وأهل التصريف يجعلون العدم خطأ مطاوعة، لأن الفعل للمطاوعة، وهو مختص بالعلاج والتأثير، وجوابه معدومة.
م: (والمراد بما روي حالة الحدث) ش: جواب عن حديث الشافعي يحمله على الوضوء أي(1/316)
بدليل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنهما فرضان في الجنابة سنتان في الوضوء»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المراد من كونهما سنتين في الوضوء م: (بدليل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنهما فرضان في الجنابة سنتان في الوضوء» ش: لم يذكر أحد من الشراح أصل هذا الحديث، وإنما قال الأترازي وتبعه الأكمل بدليل ما روي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إنهما فرضان في الجنابة نفلان في الوضوء» .
ولفظ الأكمل: سنتان في الوضوء.
وقال السروجي: وأما قول صاحب " الهداية ": (بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنهما فرضان في الجنابة سنتان في الوضوء» فلا يعرف.
قلت: روى الدارقطني ثم البيهقي في "سننيهما " ما يقارب ذلك من حديث بركة بن محمد الجهني عن يوسف بن أسباط عن سفيان عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثا فريضة» .
ورواه الحاكم في المستدرك ولفظه قال: «جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثا فريضة» وقال الحاكم في "المستدرك " وفي " المدخل ": بركة بن محمد الحلبي يروي عن يوسف بن أسباط أحاديث موضوعة.
وقال الدارقطني: حديث بركة باطل لم يحدث به غيره وهو يضع الحديث، وقال البيهقي: رواه الثقات عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن ابن سيرين مرسلا. وقال الشيخ تقي الدين ابن الإمام: وقد روي هذا الحديث موصولا من غير حديث بركة أخرجه الإمام أبو بركة الخطيب من جهة الدارقطني حدثنا علي بن محمد بن يحيى بن مهران السواق حدثنا سليمان بن الربيع المهدي حدثنا حماد بن سلمة حدثنا سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المضمضة والاستنشاق ثلاثا للجنب فريضة» . قال الدارقطني: غريب تفرد به سليمان بن الربيع عن همام. وروى البيهقي من طريق الدارقطني بسنده عن أبي حنيفة عن عثمان بن راشد عن عائشة بنت محمد عن ابن عباس فيمن نسي المضمضة والاستنشاق قال لا يعيد إلا أن يكون جنبا.
وجواب آخر: عما استدل به الشافعي أن الختان فرض عنده وكذا انتقاص الماء وهو الاستنجاء فرض عنده، فكل جواب له عنهما فهو جواب لنا في المضمضة والاستنشاق.(1/317)
وسننه أن يبدأ المغتسل فيغسل يديه وفرجه ويزيل النجاسة إن كانت على بدنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
1 -
فروع: جنب اغتسل ولم يتمضمض إلا أنه شرب الماء هل يقوم الشرب مقام المضمضة أجاب أبو الفضل وقال: نعم. وقال الفقيه أبو جعفر: إن بلغ البلل نواحي الفم كما يبلغ له تمضمضا يجوز وما لا فلا.
وقيل: إذا كان الرجل عالما أو مصريا لا يجوز له لأنه يشرب على وجه السنة يمص مصا وإن كان غير عالم أو بدويا يعب الماء عبا فيصل الماء جميع فمه فيجوز، لأن الجنابة تحولت إلى الفم فطهر الفم بشرب الماء.
فرع آخر: والأقلف لا يجب عليه إدخال الماء داخل الجلد لأنه خلقة له وهو المختار.
[سنن الغسل]
[البدء بغسل اليدين في الغسل]
م: (وسننه) ش: أي سنن الغسل م: (أن يبدأ المغتسل) ش: أي من يريد الاغتسال من قبل قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] (النحل: الآية 98) أي إذا أردت أن تقرأ القرآن والمعنى من شرع في الاغتسال م: (فيغسل يديه) ش: بنصب اللام عطف على قوله أن يبدأ، والفاء للعطف. وقال السروجي: الفاء للتفسير.
قلت: ليس في قوله أن يبدأ إبهام حتى يفسر على ما لا يخفى م: (وفرجه) ش: بنصب فرجه والفرج يتناول القبل والدبر م: (ثم يزيل النجاسة إن كانت على بدنه) ش: وقع في بعض النسخ ويزيل نجاسة إن كانت على بدنه بواو العطف وتنكير النجاسة.
قال السغناقي: قيل والأصح أن يقال ويزيل نجاسته لأن حرف التعريف لا يخلو إما أن يراد به العهد، أو الجنس ولا يجوز الأول؛ لأن قوله إن كانت كلمة الشك يأباه لأن العهد يقتضي التقرير إما ذكرا أو علما.
ولا يجوز الثاني، لأن كون النجاسة كلها في بدنه محال وأقل النجاسة التي ليس دونها أقل وهو الجزء الذي لا يتجزأ غير مرادة، لأنه علل ذلك في الكتاب بقوله كيلا يزداد بإصابة الماء، وهذا الذي ذكرناه لا يزداد عند إصابة الماء، لما أنه ذكر الإمام التمرتاشي في " الجامع الصغير " قال وفي التفاريق عن أبي عصبة لو أصابت النجاسة مثل رؤوس الإبر ثم أصاب ذلك الموضع ماء لم يتنجس.
قلت: هذا الذي ذكره منقول عن الإمام حميد الدين الضرير في شرحه ثم قال السغناقي قلت: إلا أن الرواية بالألف واللام قد ثبتت في النسخ فوجهه أن تحمل الألف واللام على تحسين النظم من غير اعتبار تعريف الجنس وتعريف العهد فكان ينبئ عن معنى التنكير نحو قَوْله تَعَالَى {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] (الجمعة: الآية 5) ، وقَوْله تَعَالَى {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} [يس: 33] (يس: الآية 33) ، وحيث وصفها بالجملة الفعلية لبقائها على معنى التنكير، فكانت من قبيل قول(1/318)
ثم يتوضأ وضوءه للصلاة إلا رجليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القائل:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
وقال بعض الشارحين: ربما يتعين التنكير إذا انحصرت اللام في التعريفين وليس كذلك، يجوز أن تكون اللام لتعريف الماهية.
فقلت: أراد ببعض الشارحين قوام الدين فإنه قال في شرحه ثم قال الأكمل: هذا ليس بشيء؛ لأن الماهية من حيث هي لا توجد في الخارج، فإما أن توجد في الأقل أو في غيره وذلك فاسد لما مر.
وقال تاج الشريعة: ويزيل نجاسته بدون الألف واللام أولى لأنها عست أن تكون وعست أن لا تكون فذكرها منونة أولى، ثم ذكر وجه الأولوية كما ذكرناه.
قلت: هذا كله تكلف منهم لأن مثل هذا إذا وقع في الكتاب أو في كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي هو أفصح الخلائق يستقل وفي غيرهما يوقف على الصواب وإن وقع على غير نهج الصواب يبدل بالصواب.
[الوضوء من سنن الغسل]
م: (ثم يتوضأ وضوءه للصلاة) ش: بالنصب عطفا على أن يبدأ أي مثل وضوئه للصلاة، إنما قاله هكذا كيلا يتوهم إذ يريد به غسل اليدين إلى المرفقين لأنه قد يسمى وضوءا، كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر» ، وقيل احترز به عما روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أن الجنب يتوضأ ولا يمسح رأسه، لأنه لا فائدة فيه لوجود إسالة الماء من بعد وذلك بعدم معنى المسح بخلاف سائر الأعضاء لأن السيل هو الموجود فلم يكن السيل من بعد معدما له.
فإن قلت: لم يعلم من عبارته حال هذا الوضوء هل هو سنة أو فرض.
قلت: غير واجب عندنا فيدخل الوضوء في الغسل كالحائض إذا أجنبت يكفيها غسل واحد ومنهم من أوجبه إذا كان محدثا قبل الجنابة. وقال داود: يجب الوضوء والغسل في الجنابة المجردة بأن يأتي الغلام والبهيمة أو لف ذكره بخرقة فأنزل وفي أحد قولي الشافعي يلزمه الوضوء في الجنابة مع الحدث.
وفي قوله الآخر: يقتصر على الغسل لكن لا يلزم أن ينوي الحدث والجنابة في قوله وفي قول يكفي نية الغسل، ومنهم من أوجب الوضوء بعد الغسل وأنكره علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يتوضأ بعد الغسل» ، رواه مسلم والأربعة.
م: (إلا رجليه) ش: يعنى يؤخر غسل رجليه لأن في حديث ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - على ما(1/319)
ثم يفيض الماء على رأسه وسائر الجسد ثلاثا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يأتي هكذا «ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه» .
وهذا يقتضي تأخير غسل الرجلين عن إكمال الوضوء، وبعضهم أجاز التكميل ومنهم الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بظاهر حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ثم يفيض الماء على جلده كله» ، رواه البخاري ومسلم.
والعجب من الشافعي كيف اختار التكميل فإن في حديث ميمونة النص على تأخير غسل الرجلين، وحديث عائشة مطلق ومن مذهبه حمل المطلق على المقيد في حادثتين فكيف في حادثة واحدة وهو نقض لأجله، والحديثان صحيحان وليس فيهما كلام.
فإن قلت: كيف التوفيق بين الروايتين عندنا.
قلت: عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أرجح بطول الصحبة والضبط في الحديث. وفي " شرح الوجيز " كلاهما سنة والكلام في الأولى وفي " المجتبى " والأصح أنه إن لم يكن في منبع الماء يتقدم بقدم وهو التوفيق بين الروايتين.
وفي " المبسوط " إنما يؤخر غسلهما إذا كانا فيه حتى لو كان على حجر أو لوح أو آجر لا يؤخر كما ذكره في المتن على ما يأتي م: (ثم يفيض الماء على رأسه وعلى سائر جسده ثلاثا) ش: ثم يفيض بالنصب عطفا على قوله ثم يتوضأ. قوله وسائر جسده أي الباقي أي باقي جسده.
قال أبو منصور الأزهري: وفي " تهذيب اللغة " اتفقوا على أن معنى سائر: الباقي. وقال ابن الصلاح: سائر بمعنى الجميع مردود عند أهل اللغة معدود من غلط ولا يلتفت إلى قول الجوهري أن سائر بمعنى الجميع فإنه ممن لا يقبل قوله فيما ينفرد به وقال السروجي «وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لغيلان الديلمي أسلم على أكثر من أربع اختر منهن أربعا وفارق سائرهن» يعني أن يكون سائر بمعنى الباقي دون الجميع للتناقض، فهذا يؤيد ما ذكره ابن الصلاح وحكم على الجوهري بالغلط في موضعين.
أحدهما: في تفسيره بالجميع، الثاني: في ذكره في سير وحقه أن يذكر في باب سئر مهموز العين لا في معتل العين. قال: لأنه من السؤر الذي هو مهموز العين بمعنى البقية، قلنا له والجوهري لم ينفرد به وقد وافقه أبو المنصور الجواليقي في " شرح أدب الكاتب " أنه بمعنى الجميع، وأنكر أبو علي أن يكون السائر بمعنى السؤر بمعنى البقية لأنها بمعنى الأقل والسائر لأن السائر يقتضى لما كثر والبقية لما قل.(1/320)
ثم يتنحى عن ذلك المكان فيغسل رجليه هكذا حكت ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اغتسال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال ابن سيرين: من جعله سائرا من سار يسير يجوز أن يقول نفيت سائر الأديان أي نفي جميع الأديان.
ثم قال السروجي: كون السائر لما كثر لا يمنع أن يكون من السؤر ويكون قد غلب في السؤر الخاص وهو الغالب في اليسير والكثير كالنجم، والبقية أيضا في القليل بالقلة لأنها فعلية من بقي تقول: ذهب زيد وبقي القوم بعده قلت: ذكره الصاغاني في العباب في سائر مهموز العين ثم قال: وسائر القوم بقيتهم وليس معناه جماعة الناس كما زعم من قصر في اللغة باعا وعناء ففي اختيار الغرائب باعه وهو مشتق من السؤر، فكما أن السؤر البقية والفضلة فكذلك السائر الباقي قوله ثلاثا بالنصب على أنه صفة لمصدر محذوف، أي ثم يفيض الماء ثلاثا أي ثلاث مرات. وكيفية الإفاضة أن يفيض الماء على منكبه الأيمن ثلاثا ثم الأيسر ثلاثا ثم على رأسه وسائر جسده ثلاثا، كذا قاله الحلوائي وقيل يبدأ به ثلاثا ثم الرأس ثم بالأيسر، وقيل يبدأ بالرأس كما أشار إليه القدوري، وهكذا قال في كتب أصحاب الشافعي.
م: (ثم يتنحى عن ذلك المكان) ش: أي ثم يتحول من المكان الذي اغتسل فيه م: (فيغسل رجليه) ش: بنصب اللام م: (هكذا حكت ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اغتسال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: حديث ميمونة أخرجه الأئمة الستة في كتبهم مطولا ومختصرا عن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال حدثتني خالتي «ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: "أدنيت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسله من الجنابة فغسل كفيه مرتين أو ثلاثا ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ على فرجه وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكا شديدا، ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حثيات من كفه، ثم غسل سائر جسده، ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه، ثم أتيته بالمنديل فرده» ، وفي رواية «وضعت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضوء الجنابة» . وفي الترمذي " غسلا"، وفي بعض طرقه ماء.
وفي رواية: «ثم دلك بيده الحائط أو الأرض» . وفي رواية «فأتيته بخرقة فلم يردها» . وفي غير رواية الترمذي «فجعل ينفض الماء بيده» . قولها: غسله بكسر الغين وهو ما يغتسل به. قاله الإمام، وقال غيره بضم الغين وهو الماء الذي يغتسل به. قولها: وضوء الجنابة بفتح الواو. وقوله: ثلاث حفنات جمع حفنة وهي ملء الفم.
وفي رواية عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثلاث حثيات أي ثلاث غرفات، وهي جمع حثية، وفي رواية ثلاث غرفات، وجاء ثلاث غرفات فالغرفات جمع غرفة.
وفي الحديث دليل على استخدام الزوج لزوجته، وفيه تأخير الرجلين عن إكمال الوضوء،(1/321)
وإنما يؤخر غسل رجليه لأنهما في مستنقع الماء المستعمل فلا يفيد الغسل حتى لو كان على لوح لا يؤخر، وإنما يبدأ بإزالة النجاسة الحقيقية كيلا تزداد بإصابة الماء. وليس على المرأة أن تنقض ضفائرها في الغسل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروي عن مالك أنه إن أخر غسل الرجلين فيه استأنف الوضوء.
وعند أبي ثور يلزم الجمع بين الوضوء والغسل، واستدل بعضهم برده - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الخرقة على أنه لا ينشف أعضاء الوضوء، لا دليل فيه لأنه يحتمل أن يكون ذلك لمعنى في الخرقة أو غير ذلك. وقد ذكر: هذا نفض أعضاء الوضوء ولا فرق بين الوضوء والغسل، وتمسكهم [بحديث] «لا تنفضوا أيديكم فإنها مراوح الشيطان» وهو حديث ضعيف، وقد ذكرناه فيما مضى.
م: (وإنما يؤخر غسل رجليه لأنهما في مستنقع) ش: أي في مجتمع م: (الماء المستعمل فلا يفيد الغسل) ش: أي غسل الرجلين حينئذ م: (حتى لو كان على لوح لا يؤخر) ش: لعدم الماء المستعمل حينئذ.
وينبغي أن يكون هذا التعليل على رواية كون الماء المستعمل نجسا م: (وإنما يبدأ) ش: المغتسل م: (بإزالة النجاسة الحقيقية) ش: الظاهر أنه أراد بها النجاسة المعهودة في ذلك الحال وهي المني الرطبة؛ فإن ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: قالت في الحديث المذكور «ثم أفرغ على فرجه» . وفي رواية «وما أصابه من الأذى» وفيه دلالة على نجاسته.
قيل: هذا تكرار لأنه ذكره أولا وليس كذلك لأنه ذكره ههنا لبيان التعليل، لأن هذا الكتاب كالشرح على القدوري م: (كيلا تزداد) ش: أي النجاسة إن كانت م: (بإصابة الماء) ش: لأن الماء إذا أصاب النجاسة بسطت وانتشرت فيزداد عليه العمل.
م: (وليس على المرأة أن تنقض ضفائرها في الغسل) ش: الضفائر جمع ضفيرة وهي العقيصة، والضفرة بفتح الضاد المعجمة وسكون الفاء مسبح الشعر عريضا، وتحريك الفاء بالفتح بمعنى المضفور والتضفير مثله، وأضفرت المرأة شعرها ولها ضفيرتان وضفيران أي عقيصتان. ومذهب الجمهور لا يلزمها نقضه إلا أن يكون مليئة لا يصل الماء إلى أصوله فيجب نقضه. وقال النخعي: يجب نقضها بكل حال. وقال أحمد يجب في الحيض دون الجنابة وقيل: في تخصيص المرأة إشارة إلى أن حكم الرجل بخلافها.
وفي " المبسوط " إذا ضفر الرجل شعره كما يفعله العلويون والأتراك هل يجب إيصال الماء إلى انتهاء الشعر، فظاهر الحديث أنه لا يجب. وذكر الصدر الشهيد أنه يجب، والاحتياط إيصال الماء. وقال الشافعي: يجب نقضه إذا كان لا يصل الماء إلى باطنها إلا بالنقض وبل الشعر، وإن وصل بدون النقض فلا حاجة إليه. وعن مالك أنه لا يجب نقض الضفائر ولا إيصال الماء إلى(1/322)
إذا بلغ الماء أصول شعرها «لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: "أما يكفيك إذا بلغ الماء أصول شعرك» ، وليس عليها بل ذوائبها هو الصحيح لأن فيه حرجا، بخلاف اللحية لأنه لا حرج في إيصال الماء إلى أثنائها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منابت الشعور الكثيفة وما تحتها لدفع الحرج.
وفي " مبسوط بكر " في وجوب إيصال الماء إلى شعب عقاصها اختلاف المشايخ.
فإن قيل: الأصل في النساء أن لا يذكرن لأن مبنى حالهن على الستر، ولهذا يذكرن في القرآن حتى شكين فنزل {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] (الأحزاب: الآية 35) أجيب بأن الحكم إذا كان مخصوصا بهن يذكرن كهذه المسألة وكما في مسألة الحجاب، ثم إنهن مخصوصات بالضفائر ولهذا كره لهن الحلق وشرع لهن القصر في الحج.
م: (إذا بلغ الماء أصول شعرها) ش: لحصول المقصود حتى إذا لم يبلغ فعليها النقض م: «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أما يكفيك إذا بلغ الماء أصول شعرك» ش: أم سلمة إحدى زوجات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واسمها هند بنت أبي أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة هذا والراكب والحديث أخرجه الجماعة إلا البخاري من حديث عبد الله بن رافع مولى أم سلمة «عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: "قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ فقال: لا، وإنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضي عليك الماء فتطهري، أو فإذا أنت قد طهرت» .
فإن قلت: هذا خبر واحد فلا تجوز به الزيادة على قَوْله تَعَالَى {فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، قلت الشعر ليس من كل وجه ببدن، والأمر بالتطهير للبدن، أو لأن مواضع التطهير مستثناة كتداخل العينين.
م: (وليس عليها) ش: أي على المرأة م: (بل ذوائبها) ش: هي جمع ذؤابة وكان الأصل في الجمع أن يقال ذوائب، لأن الألف التي في ذؤابة كالألف التي حقها أن تبدل همزة في الجمع، ولكنهم استثقلوا أن تقع ألف الجمع بين الهمزتين فأبدلوا من الأولى واوا وأصله أذئبة ذال معجمة وهمزة وباء م: (هو الصحيح) : احترز به عما روي من وجوب البل والعصر ثلاثا، رواه الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال إنها تبل ذوائبها ثلاثا مع عصر كل بل ليبلغ الماء شعب قرونها.
والأصح: أنه غير واجب ولهذا قال هو الصحيح م: (لأن فيه حرجا بخلاف اللحية لأنه لا حرج في إيصال الماء إلى أثنائها) .
وفي " المحيط " يجب إيصال الماء إلى إنبات شعرها إذا كان معقوصا ذكره أبو جعفر الهندواني، وإن كان مضفورا قيل يجب إيصال الماء إلى إنباته لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فبلوا الشعر» والصحيح عدمه واحتجوا بحديث أم سلمة وأخرج مسلم عن عبيد بن عمر قال «بلغ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن فقالت: يا(1/323)
قال: والمعاني الموجبة للغسل:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عجبا لابن عمرو هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضهن رؤوسهن أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن فقد كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد وما أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات» . وفي " المبسوط " وغيرها بلغها عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مكان ابن عمرو وليس بصحيح، وإنما هو التباس وفي " الخلاصة " وفي شعر الرجال يفترض إيصال الماء إلى المترسل وإيصال الماء إلى البشرة فرض. وذكر الفقيه أبو الليث من اغتسل من الجنابة ينبغي أن يدخل أصبعه في سرته مبالغة في إيصال الماء إلى ما ظهر من بدنه، فإن لم يفعل إن علم أنه وصل إليها أجزأه وإلا فلا.
[المعاني الموجبة للغسل]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (والمعاني الموجبة للغسل) ش: أي العلل التي توجب الغسل، واختار لفظ المعاني لكون العلل من ألفاظ الفلاسفة وقد كره العلماء استعمالها وقد تقدم هذا فيما مضى ورد هذا بأن الأصوليين من أهل السنة استعملوا لفظ العلة والعلل في كتبهم كما قالوا استعارة العلة للمعلول وفي تخصيص العلة وتقسيمها إلى ما هو علة معنى وحكما واسما وغير ذلك، فإن كان استعمال هذا اللفظ مما يجتنب فينبغي أن يجتنب في جميع المواضع، ولكن الأولى أن يقال إنما استعمل لفظ المعاني اتباعا للسنة لورودها بلفظ المعاني في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث» ، أراد بها العلل، ولهذا يأت بالباء. وقال الأترازي: قال بعض الشارحين: هذه معان موجبة للجنابة لا للغسل على المذهب الصحيح من علمائنا فإنها تنقضه فكيف توجبه.
قلت: أراد السغناقي فإنه قال في شرحه في هذا الموضع هكذا، ثم قال الأترازي لا شك أن معنى قوله المعاني الموجبة للغسل تجب لهذه المعاني على طريق البدل على معنى أن أي معنى من هذه المعاني إذا وجد يجب به الغسل فإن تجتمع العلة والمعلول بلا نقض. والذي قاله الشراح إنما يتوجه إذا كانت هذه المعاني موجبة لوجود الغسل لا لوجوبه ولم يتقيد المصنف بالوجود حتى يورد عليه مثلها. قلت: التحقيق في هذا الكلام أن العلل الشرعية لا تكون موجبة بذواتها، فإنما الموجب للحكم هو الله تعالى إلا أن ذلك الإيجاب غيب عنا في حقنا، وجعل الشرع الأسباب التي يمكننا الوقوف عليها علة لوجوب الحكم في حقنا تيسيرا علينا، ثم إن هذه العلل الثلاث موجبة للجنابة والجنابة موجبة للغسل فيكون المعاني الموجبة علة العلة، فكما أن الحكم يضاف إلى العلة يضاف إلى علة العلة. وذكر في " مبسوط شيخ الإسلام " أن سبب وجوب الاغتسال إرادة ما لا يحل فعله بسبب الجنابة.
وأجاب الأكمل: بسبب الجنابة واجبا بما لا يحل عن هذا بقوله ورد بأن الغسل يجب بأحد المعاني المذكورة سواء وجدت الإرادة أو لم توجد. قلت: هذا جواب الأترازي في شرحه.(1/324)
إنزال المني على وجه الدفق والشهوة من الرجل والمرأة حالة النوم واليقظة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم قال الأكمل وفيه نظر ولم يبين وجه ذلك قلت: وجه ذلك أن فائدة الوجوب الأداء وهو أمر اختياري فإن إضافة الوجوب إلى الأداء بهذا المعنى وقيل السبب الجنابة قال الأكمل وأورد عليه الحيض والنفاس ولو زيد عليه أو ما في معناها لاندفع.
قلت: هذا لا يرد أيضا للأترازي، وجواب فيه أيضا له عند عامة المشايخ سبب وجوب الغسل القيام إلى الصلاة، وإرادة ما لا يحل فعله بسبب الجنابة، إما إضافة الحكم إلى الشرط فإن الحدث والجنابة من شرائطهما وجوب الوضوء والغسل وإما باعتبار أن بعضهم جعل الجنابة سببا لوجوب الغسل ولهذا ذكر في " الكافي " ويجب عند مني ذي دفق وشهوة فإن الحكم يجب عند الشرط بالعلة لا بالشرط، فإضافة الوجوب إلى الشرط مجاز كما يقال صدقة الفطر.
وقال تاج الشريعة: هذه المعاني منجسة للبدن لا موجبة للاغتسال، بل يجب الاغتسال بإرادة الصلاة لكن عند تنجس البدن بخروج هذه النجاسات منه فكانت شرطا بها فيصير البدن قابلا لوصف التطهير والوصف الذي يثبت به علة الحكم شرطا فإن المحال شروط لما يثبت به المحلية يكون شرطا أيضا فتكون إضافة الوجوب إلى الشرط مجاز، أو قيل هذه المعاني موجبة للغسل بواسطة الجنابة كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «شراء القريب إعتاقه» .
[إنزال المني من موجبات الغسل]
م: (إنزال المني) ش: المني ماء أبيض خاثر رائحته مثل الطلع يلتذ به الذكر ويتولد منه الولد م: (على وجه الدفق) ش: أي النفض م: (والشهوة) ش: وهذان قيدان لوجوب الغسل بخروج المني وسواء كان نزول المني م: (من الرجل والمرأة) ش: وسواء كان في م: (حالة النوم واليقظة) ش: فإن قيل خروج المني من النائم يوجب الغسل وإن لم يكن بشهوة، فكيف شرط المصنف الشهوة. قلت: كان القياس أن لا يجب لكنهم استحسنوا فأوجبوه، لأن الظاهر خروجه بالاحتلام.
وقال الأكمل قيل هذا اللفظ بإطلاقه يستقيم على قول أبي يوسف لاشتراطه الدفق والشهوة عند الخروج، ولا يستقيم على قولهما لأنهما لم يشترطا الدفق عند الخروج حتى قالا يجب الغسل إذا زايل المني عن مكانه بشهوة. وإن خرج من غير دفق قلت: أخذ هذا من السغناقي، وكذا قال الأترازي في شرحه.
قال بعض الشارحين: ثم ذكره ثم قال ليس كذلك بل هذا يستقيم على قول الكل، لأن إنزال المني على هذه الصفة إذا وجد يجب الغسل عند الجميع وأخذ منه الأكمل قال ورد بأنه يستقيم على قوله اه. ثم قال: ولكن كلام المصنف يوهم ترك بعض موجباته عندهما في مواضع بيانها، وربما بين قوله ثم المعتبر عند أبي حنفية ومحمد اه. لبعض بيان.
قلت: ليس من المتعين على المصنف أن يبين جميع ما تتعلق به المسألة التي هو في صددها ولا(1/325)
وعند الشافعي: خروج المني كيفما كان يوجب الغسل، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الماء من الماء» أي الغسل من المني.
ولنا أن الأمر بالتطهير يتناول الجنب والجنابة في اللغة: خروج المني على وجه الشهوة، يقال: أجنب الرجل إذا قضى شهوته من المرأة، والحديث محمول على خروج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التزام ذلك. م: (وعند الشافعي خروج المني كيفما كان يوجب الغسل) ش: يعني سواء كان بشهوة أو بغير شهوة، مثل ما إذا حمل حملا ثقيلا وسقط من مكان مرتفع أو نحو ذلك م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الماء من الماء» ش: الحديث رواه مسلم وأبو داود من حديث أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الماء من الماء» ولفظ مسلم «إنما الماء من الماء» .
م: (أي الغسل من المني) ش: أي وجوب استعمال الماء بسبب خروج الماء ومن للسببية. م: ولنا أن الأمر بالتطهير يتناول الجنب) ش: وهو الأمر الذي في قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وهذا يتناول الجنب وهو صريح في تناوله إياه. م: (والجنابة في اللغة خروج المني على وجه الشهوة) ش: قال السروجي تفسيره الجنابة بقوله والجنابة في اللغة اه. ليس كذلك فإن الجنابة في اللغة البعد، وهو اسم إسلامي لأن فيها يجتنب المساجد والصلاة وقراءة القرآن حتى يغتسل. في " الجنازية " البعد قال الله تعالى {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص: 11] (القصص: الآية، 11) أي عن بعد، ومنه سمي الأجنبي والغريب جنبا لبعد الأجنبي عن القرابة، والغريب عن وطنه. قلت: مجيء الجنابة في اللغة بمعنى البعد لا يمنع مجيئها أيضا خروج النجاسة على وجه الشهوة كما قاله المصنف. وقال السغناقي: في جنب الرجل أصابته الجنابة بعد أن قال جنبت إلى لقائك جنبا أي أشفقت. ويقال أيضا: أجنب الرجل في بني فلان يجنب جنابة إذا نزل فيهم غريبا فهو جانب والجمع جناب، فالأول بكسر النون، والثاني بفتح النون. وقال أيضا: رجل جنب من الجنابة يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.
قال الفارابي في " ديوان الأدب ": أجنب الرجل إذا أصابته الجنابة بضم الهمزة وكسر النون. فهذا كله يدل على أن لفظ الجنابة مستعمل في اللغة لمعان كثيرة. واختلف النحاة في لفظ الجنب فقال الزجاج: إنه مصدر ولهذا أفرد في الجمع، وتبعه الرازي في " أحكام القرآن "، وكذا ذكره ابن مالك في " شرح الكافية " فإنه قال المصدر يجيء على وزن فعل كجنب. وقال الزمخشرى: هو اسم أجري مجري المصدر الذي هو الاجتناب وذكره ابن الحاجب في باب الصفة المشبهة وقال ابن عصفور لم يجئ فعل في الوصف إلا جنب وشكل.
م: (يقال: أجنب الرجل إذا قضى شهوته من المرأة) ش: لم يحرر أحد من الشراح هذا الموضع كما ينبغي فقوله: أجنب الرجل بضم الهمزة وكسر النون كما ذكرنا الآن عن الفارابي، وأما أجنب بفتح الهمزة وفتح النون فمعناه يدخل في الجنوب. وقوله: من المرأة وقع اتفاقا لوقوعه من المحتلم وقيل ذكره ليخرج شهوة البطن بأن ما فيها لا يسمى جنبا م: (والحديث محمول على خروج(1/326)
المني عن الشهوة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المني عن شهوة) ش: هذا جواب عن ما قاله الشافعي في الحديث الذي استدل به وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء من الماء» . وجه حمله على الخروج عن الشهوة للتوفيق بين الأدلة فإنه روي عن حسين بن قبيصة «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال كنت رجلا مذاء فجعلت أغتسل حتى تشقق ظهري فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو ذكر له فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تفعل فإذا رأيت المذي فاغسل ذكرك» . أخرجه أبو داود، وأخرجه البخاري ومسلم من حديث محمد بن علي وهو ابن الحنفية عن أبيه بنحوه مختصرا. وأخرجه النسائي والترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه أحمد ولفظه: «إذا خذفت الماء فاغتسل، وإذا لم تكن خاذفا فلا تغتسل» فاعتبر الخذف والفضخ وذلك يكون مع المدفق والشهوة. انخذف بالخاء والذال المعجمتين والفضخ بالفاء والضاد والخاء المعجمتين الدفق والرحى.
وهذا الحديث مقيد وحديث «الماء من الماء» مطلق، والحادثة واحدة فيحمل المطلق على المقيد، كذا قال في " المفيد " و " المزيد " كذا قال في الزكاة، ثم الشافعي من أصله حمل المطلق على المقيد وإن كان في حوادث فخالف أصله.
وجه آخر في القيود الزائدة وهو أن قوله: «الماء من الماء» عام يتناول المني والمذي والودي ولم يكن إجراؤه على العموم لعدم وجوب الغسل في المذي والودي بالإجماع فيراد به الخصوص ويحمل على حال الشهوة «لحديث أم سليم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن الله لا يستحيي من الحق هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال: "نعم، إذا رأت الماء" فقالت لها أم سلمة: فضحت النساء.» أخرجه البخاري من حديث أم سلمة واللفظ للبخاري في الطهارة وله ألفاظ عندهما، ورواه مسلم من حديث أنس عن أم سليم.
وفي حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن امرأة سألت. ووقع في كلام الصيدلاني من الشافعية وإمام الحرمين والغزالي والروزباني وغيرهم أن أم سليم جدة أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وغلطهم ابن الصلاح والنووي ووقع في الصيد من كتب الشافعية أن القائلة فضحت النساء(1/327)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وغلطهم بعض الناس، ولم يصب في ذلك فقد وقع ذلك في حديث مسلم وأخرجه الطبراني في " الأوسط " من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وأخرجه النسائي من حديث خولة بنت حكيم. ووجه آخر أن الترمذي روى من حديث عكرمة عن ابن عباس قال: «إنما الماء من الماء في الاحتلام» .
وروى الطبراني حديث عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن الصباح حدثنا شريك بن أبي الجحاف عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إنما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حديث «الماء من الماء» ، لمني الاحتلام. واسم أبي الجحاف داود بن أبي عون. قال النووي: كان مرضيا.
ووجه آخر أن الحديث منسوخ لأن مفهومه عدم الغسل من الإكسال وقد ورد في " الصحيحين " صريحا من حديث «أبي بن كعب رواه البخاري ومسلم عنه قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يصيب من المرأة ثم يكسل، قال: "يغسل ما أصابه من المرأة ثم يتوضأ ويصلي» .
ورويا أيضا من حديث أبي سعيد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مر على رجل من الأنصار فأرسل إليه فخرج ورأسه تقطر ماء، فقال: لعلنا أعجلناك، فقال: نعم يا رسول الله، فقال: "إذا عجلت أو أقحطت فلا غسل عليك وعليك الوضوء» ".
وهذان أيضا منسوخان وقد ورد في ثلاثة أحاديث صريح النسخ أحدها: ما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن يونس عن الزهري عن سهل بن سعيد عن أبي بن كعب قال: «إنما كان الماء من الماء رخصة في الإسلام» . الثاني: أخرجه ابن حبان في "صحيحه " عن الحسين بن عمران «عن الزهري قال سألت عروة في الذي يجامع ولا ينزل قال على الناس أن يأخذوا بالآخر من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدثتني عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقالت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل» .(1/328)
ثم المعتبر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - انفصاله عن مكانه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثالث: رواه أحمد في "مسنده " عن بعض ولد رافع بن خديج عن «رافع بن خديج قال ناداني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا على بطن امرأتي فقمت ولم أنزل فاغتسلت وخرجت فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا غسل عليك إنما الماء من الماء» فقال رافع: ثم أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك بالغسل.
فإن قلت: الحديث الأول منقطع وقد جزم به البيهقي، فقال: وهذا الحديث لم يسمعه الزهري من سعد إنما سمعه بعض أصحابه عن سهل.
قلت: قال الشيخ تقي الدين: وقد وقع في رواية عن محمد بن جعفر من جهة أبي موسى عنه عن معمر عن الزهري وفيها قال: أخبرني سهل بن سعد.
والحديث الثاني فيه الحسين بن عمران قال المحاربي: هو كثيرا ما يأتي عن الزهري بالمناكير، وقد ضعفه غير واحد، قلت: حكم ابن حبان بصحته ونفس المحاربي قال بذلك.
والحديث الثالث فيه رشدين بن سعد أكثر الناس على ضعفه، ونفس رافع مجهول وبعض ولد رافع محمد مجهول.
قلت: ذكره الحارثي في كتابه، وقال: هذا حديث حسن، وقال الشيخ تقي الدين: وقد وقع في تسمية ولد رافع في أصل سماع الحافظ النسفي، وساقه الشيخ بسنده إلى رشدين بن سعد عن موسى بن أيوب عن سهيل بن رافع بن خديج فذكره.
ومن الاستدلال على النسخ هو أن بعض من يروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحكم الأول أفتى بوجوب الغسل ورجع عن الأول، فروى مالك عن يحيى بن سعيد بن عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن محمود بن لبيد الأنصاري سأل زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل فقال له زيد يغتسل فقال له محمد بن أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان لا يرى الغسل فقال له زيد بن ثابت: إن أبي بن كعب رجع عن ذلك قبل أن يموت.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا وجه لتركه إلا أنه ثبت له أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال بعده ما نسخه.
م: (ثم المعتبر عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - انفصاله) ش: أي انفصال المني م: (عن مكانه) ش: أي مكان المني وهو الصلب والترائب كما قال الله تعالى في كتابه. والمني في الأصل دم لكنه يبيض بتصفية الشهوة كما يبيض ماء الورد الأحمر بالنار، حتى إذا كثر الجماع. وقلت(1/329)
على وجه الشهوة، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظهوره أيضا اعتبارا للخروج بالمزايلة،
إذ الغسل يتعلق بهما. ولهما أنه متى وجب من وجه فالاحتياط في الإيجاب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشهوة خرج أحمر، والشرط إزالته عن مقره م: (على وجه الشهوة) ش: حتى إذا لم ينفصل عن مكانه بشهوة لا يجب الغسل عندهما م: (وعند أبي يوسف ظهوره أيضا) ش: أي المعتبر ظهور المني على وجه الشهوة أيضا م: (اعتبارا) ش: نصب على المصدرية أي يعتبره أبو يوسف اعتبارا م: (للخروج بالمزايلة) ش: أي بالانفصال وجه الاعتبار أن الغسل لا يجب إلا بهما فإذا وجد الانفصال ولم يوجد الخروج لا يجب الخروج بالإجماع، والشهوة حال الانفصال شرط بالاتفاق، فينبغي أن يشترط حال الخروج أيضا.
م: (إذ الغسل يتعلق بهما) ش: أي لأن الغسل يتعلق بالانفصال والظهور م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد م: (أنه) ش: أي أن الغسل م: (متى وجب من وجه) ش: أي متى وجب الغسل من جهة الانفصال دون الدفق، والشرط مطلق الشهوة لإكماله فباعتبار ما وجد يجب الغسل وباعتبار ما عدم لا يجب م: (فالاحتياط) ش: من باب العبادة م: (في الإيجاب) ش: أي الاحتياط واجب في إيجاب الغسل ترجيحا لجانبه.
وقال الأترازي: قال بعض الشارحين: الخروج على وجه الشهوة قد وجد، وإنما عدم الدفق لا غير فباعتبار ما وجد يجب الاغتسال، وباعتبار ما عدم لا يجب فيرجح حال الوجود احتياطا.
قلت: أراد ببعض الشارحين السغناقي ثم قال هذا الشرح من الشروح كالصب من البول لأن كلام المصنف إنما يساق لبيان أن الشهوة لا يشترط حال الخروج عندهما، وعند أبي يوسف تشترط وبيان التعليل من الطرفين لأجل هذا، قلت: الذي قاله السغناقي هو الصواب مع أنه نقل هذا عن " المبسوط "، قال الأترازي: محارق في التشنيع على الأكابر وكلام المصنف ما سبق للذي قاله الأترازي، وإنما الذي قاله من لوازم ما سبق له فافهم، نعم وقع في كلام السغناقي في بيان تعليلهما أن الخروج على وجه الشهوة قد وجد وإنما عدم الدفق، والظاهر أنه سهو لأنه لو كان كذلك لارتفع النزاع.
فإن قلت: دار الغسل بين الوجوب وعدمه فلا يجب بالشك، قلت إلا أن جهة الوجوب راجحة لأن الموجب أصل فالخروج بناء على المزايلة بالشهوة، وعدم الخروج بالشهوة بعد المزايلة من العوارض النادرة فلا اعتبار بهذا السؤال، والجواب لتاج الشريعة والأكمل أخذ منه.
وقال السغناقي: يشكل على هذا الريح الخارجة من المفضاة لأنه على هذا التعليل الذي ذكرناه ينبغي أن يجب عليها الوضوء بأن يقال إنها لو خرجت من القبل لا يجب، ولو خرجت من الدبر يجب فيرجح جانب الوجوب احتياطا لأمر العبادة، ولم ينقل هناك كذلك بل قيل بالاستحباب.(1/330)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأجاب بقوله: جاءك الشك هناك من الأصل فعارض الدليل الذي هو موجب مع الدليل الذي هو غير موجب لتساويهما في القوة فتساقطا، فعملنا بالأصل الذي كان ثابتا لها متعين باقيا لها بيقين وهو الطهارة، وأما هنا جاء دليل عدم الوجوب من الوصف وهو الدفق، ودليل الوجوب في الأصل وهو نفس وجود الماء مع الشهوة فكان في إيجاب الاغتسال ترجيح لجانب الأصل على جانب الوضوء، وثمرة الخلاف تظهر في خمس مسائل:
أحدها: استمنى بكفه فزال المني عن مكانه بشهوة فأمسك ذكره حتى سكنت شهوته ثم سال عنه لا عن دفق فعليه الغسل عندهما خلافا لأبي يوسف.
الثانية: جامع امرأته فيما دون الفرج أو قبلها بشهوة فزال المني عن مكانه وحصل ما ذكرنا فعلى الخلاف.
والثالثة: احتلم فلما انفصل المني عن مكانه أخذ إحليله حتى سكنت شهوته ثم خرج المني فعلى الخلاف.
الرابعة: اغتسل بعد الجماع قبل النوم أو البول ثم أمنى يعيد الغسل عندهما خلافا لأبي يوسف، وفي " المبسوط " و " السير الكبير ": لو أمنى بعد البول أو النوم لا غسل عليه بالاتفاق وعند الشافعي: يجب في الحال، وعن مالك: لا يجب في الحالين، وقال أحمد: إن خرج قبل البول يجب وبعده لا يجب كذا في " شرح الوجيز ".
والخامسة: استيقظ فوجد بفخذه وثوبه بللا ولم يذكر الاحتلام فإن تيقن أنه مذي أو ودي لا غسل، وإن تيقن أنه مني عليه الغسل، وإن شك أنه مني أو مذي يجب عندهما خلافا له، ولو بال فخرج من ذكره مني فإن كان ذكره منتشرا فعليه الغسل وإن كان منكسرا فعليه الوضوء، ولو غشي عليه ثم أفاق أو سكر ثم صحا فوجد مذيا لا غسل عليه لأنه وجد سبب خروج المذي وهو الإغماء والسكر فيحال بالخروج عليه بخلاف النائم ولو مضطحعا أو قائما أو قاعدا أو ماشيا إذا استيقظ فإنه على ثلاثة أوجه التي ذكرناها الآن، وذكر هشام في "نوادره " عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا استيقظ فوجد بللا في إحليله ولم يتذكر حلما، إن كان ذكره قبل النوم منتشرا فلا غسل عليه وإن كان غير منتشر فعليه الغسل، قال ينبغي أن يحفظ هذا فإن البلوى كثرت فيه والناس عنه غافلون، وقال في " الينابيع " يعمل بقول أبي يوسف في نفي وجوب الغسل إذا كان في بيت إنسان ويستحي منه أو يخاف أن تقع في قلبه ريبة بأنه طاف حول أهل بيته، والمرأة في الاحتلام كالرجل وعند محمد في غير رواية الأصول أنه إذا تذكرت الاحتلام والإنزال ولم تنزل فعليها الغسل، قال الحلوائي: لا يؤخذ بهذه الرواية، وقال أبو جعفر الفقيه: إن خرج إلى الفرج الخارج يجب وإلا فلا.(1/331)
والتقاء الختانين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المحيط " لو احتلمت ولم يخرج الماء إلى ظاهر فرجها فعليها الغسل، لأن فرجها بمنزلة الفم فعليها تطهيره، فأعطى له حكم الخروج، حتى لو كان الرجل أقلف فخرج المني إلى القلفة يلزمه الغسل وإلا فلا، لأن ماءها لا يكون دافقا كماء الرجل، ولو نام رجل وامرأته فوجد على فراشهما بللا لا يعرف من أيهما واختلفا فيه ينظر إن كان أصفر فعليها الغسل وإن كان أبيض فعليه.
وقيل: إن وقع طولا فمنه وإن وقع عرضا فمنها، والاحتياط أن يغتسلا، والقياس أن لا يجب على واحد منهما لوقوع الشك ولا يجوز لها أن تقتدي به، وفي " القنية " منيها أصفر ومنيه أبيض، وفائدته تظهر فيما لو اغتسلت عن جماع ثم خرج منها فإن كان أصفر فعليها الغسل وإن كان أبيض فلا غسل عليها، ولو قالت: معي جني يأتيني في النوم مرارا وأجد في نفسي ما أجد إذا جامعني زوجي لا غسل عليها لعدم الإيلاج والاحتلام، ولو احتلم في المسجد وأمكنه الخروج من ساعته يخرج ويغتسل، وقيل يتيمم ويخرج وإن لم يمكنه الخروج بأن كان في وسط الليل فيستحب له التيمم حتى لا يبقى جنبا.
[التقاء الختانين من موجبات الغسل]
م: (والتقاء الختانين) ش: بالرفع عطفا على قوله إنزال المني على وجه الدفق والشهوة، والتقاؤهما كناية عن الإيلاج، فإن نفس الملاقاة لا يوجب الغسل ولكن يوجب الوضوء عندهما، خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال السغناقي: والتقاء الختانين أي مع تواري الحشفة. قيل: لا يحتاج إلى هذا القيد لأن التقاءهما كناية عن الإيلاج كما ذكرنا.
قلت: لا حظ للشيخ في ذلك، لفظ الحديث «إذا التقى الختانات وغابت الحشفة» على ما يجيء إن شاء الله تعالى. وفي " فوائد القدوري " قوله وتوارت الحشفة ليس بقيد، بل ذكر تأكيدا لأن التقاء الختانين مستلزم لتواريها.
وقال صاحب " الدراية " قال شيخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحتمل أن ذكره للإشارة إلى المعنى المؤثر في إيجاب الغسل، كما أن ذكر في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ما أبقته الفرائض فلأولى رجل» ذكر إشارة إلى علة العصوبة أو نفي لقول الشافعي، فإن عنده يجب الغسل إذا تحاذى الفرجان، ولكن ذكر في كتبهم أن إيلاج الحشفة يوجب الغسل.
وقال بعضهم: لو قال تواري الحشفة في قبل أو دبر آدمي حي مشتهى أو قدر حشفة من مقطوعها لكان أولى، ليتناول الإيلاج في الدبر مع أنه ليس فيه التقاء الختانين، ويخرج الإيلاج في البهيمة والميتة والصغيرة التي لا تشتهى ولا يجامع مثلها في قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: لا يجب عليه شيء في ترك الأولى ولا يتعين عليه تعين العبارة ثم ختان الرجل موضع(1/332)
من غير إنزال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القطع وما دون دورة الحشفة، وختان المرأة موضع قطع جلدة منها كعرف الديك في فم الرجل وذلك لأنه مدخل ومخرج الولد والمني والحيض، وفوق مدخل الذكر مخرج البول وبينهما جلدة رقيقة وفوق مخرج البول جلدة رقيقة تقطع منها في الختان، وهو ختان المرأة فإذا غابت الحشفة في الفرج فقد حاذى ختانه ختانها، والمحاذاة هي التقاء الختانين فإنه إذا تحاذيا التقيا ولهذا يقال التقى الفارسان إذا تحاذيا وإن لم يتصادفا والتصقا، ولكن يقال موضع ختان المرأة الخفاض فذكر الختانين بطريق التغليب كالعمرين والقمرين وفي " الدراية ": ذكر الختانين بناء على عادة العرب فإنهم يختنون النساء قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الختان للرجل سنة وللنساء مكرمة» ، أي في حق الزوج فإن جماع المختونة ألذ، قلت: لم يذكر راوي الحديث ولا من أخرجه.
وقال الأترازي: روى الخصاف في باب أدب القاضي في باب من قال لا يجوز شهادة الأقلف بإسناده إلى شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الختان للرجل سنة وللنساء مكرمة» .
م: (من غير إنزال) ش: يعني الإنزال ليس بشرط في التقاء الختانين في وجوب الغسل، فإنه إذا أنزل يجب بالإجماع، إذ المعتبر أن نفس الالتقاء كاف في وجوب الغسل، والإنزال ليس بقيد أو هو يرد قول من يشترط الإنزال من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فمن المهاجرين قول ابن عمر وعلي وابن مسعود، ومن الأنصار أبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو سعيد الخدري منهم من رجع إلى موافقة الجمهور، ومنهم من لم يرجع، وبقول هؤلاء قال داود وعطاء بن أبي رباح وأبو سلمة بن عبد الرحمن وهشام بن عروة والأعمش والجهني، وممن رأى أن لا غسل من الإيلاج في الفرج إن لم يكن الإنزال عثمان بن عفان والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص ورافع بن خديج وابن عباس والنعمان بن بشير وحمزة الأنصاري انتهى.
وجمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على وجوب الغسل بالتقاء الختانين وإن لم ينزل، وروي ذلك عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أم المؤمنين وأبي بكر وعمر بن الخطاب وآخرين، وبه قال إبراهيم النخعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد، وفي " المغني " لابن قدامة تغييب الحشفة في الفرج هو الموجب للغسل سواء كانا مختتنين أو لا، وسواء أصاب موضع الختان منه موضع الختان منها أو لم يصب، ولو ألصق الختان بالختان من غير إيلاج فلا غسل بالاتفاق ويجب الغسل سواء كان الفرج قبلا أو دبرا من كل حيوان آدمي أو بهيمة حيا أو ميتا طائعا أو مكرها نائما أو مستيقظا.(1/333)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا التقى الختانان وغابت الحشفة وجب الغسل أنزل أو لم ينزل»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أبو حنيفة: لا يجب الغسل بوطء البهيمة وقال أيضا فإن أولج بعض الحشفة أو وطئ دون الفرج أو في البشرة لم يجب الغسل لأنه لم يوجد التقاء الختانين، فإن انقطعت الحشفة وكان الباقي من ذكره قدر الحشفة فأولج يجب الغسل وتعلقت به أحكام الوطء من المهر وغيره، فإن أولج في قبل خنثى مشكل أو أولج الخنثى ذكره في فرج أو وطئ أحدهما الآخر في قبله فلا غسل على واحد منهما لأنه يحتمل أن يكون خلقة زائدة فلا يزول عن الطهارة بالشك، وإذا كان الواطئ صغيرا أو الموطوءة صغيرة فقال أحمد يجب عليهما الغسل، وإذا كانت الصبية بنت تسع سنين ومثلها يوطأ وجب عليها الغسل، وسئل عن الغلام يجامع مثله ولم يبلغ فجامع امرأة يكون عليهما جميعا الغسل، قال نعم قيل له أنزل أو لم ينزل؟ قال نعم، وحمل القاضي كلام أحمد على الاستحباب، وهو قول أصحاب الرأي وأبي ثور انتهي.
ولو لف على ذكره خرقة إن كان يجد حرارة الفرج يجب كإدخال ذكر الأقلف وإلا فلا، ولو أدخلت المرأة في فرجها ذكر بهيمة أو ميتة لا يجب إلا بالإنزال، خلافا للشافعي وأحمد وفي " المحيط " لو أتى امرأة وهي بكر فلا غسل ما لم ينزل لأن ببقاء البكارة يعلم أنه لم يوجد الإنزال، ولكن إذا جومعت البكر فيما دون الفرج فحبلت فعليها الغسل لوجود الإنزال لأنه لا حبل بدونه، ولو جامعها فيما دون الفرج فدخل منيه في فرجها لا يجب عليها الاغتسال منه، فإن حبلت منه يجب من وقت دخوله حتى يجب عليها قضاء الصلوات الماضية.
وعن محمد: مراهق له امرأة بالغة جامعها فعليها الغسل لأنها مخاطبة ولا غسل عليه لعدم الخطاب، وفي العكس الحكم بالعكس لانعكاس العلة، وإذا جومعت المرأة فاغتسلت ثم خرج منها مني الرجل لا غسل عليها لعدم نزول الماء منها، وجماع الخصي يوجب الغسل على الفاعل والمفعول به.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا التقى الختانان وغابت الحشفة وجب الغسل أنزل أو لم ينزل» ش: الحديث أخرجه الإمام أبو محمد عبد الله بن وهب في "مسنده " أخبرنا الحارث بن شهاب عن محمد بن عبيد الله عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل عما يوجب الغسل فقال "إذا التقى الختانان وغابت الحشفة وجب الغسل أنزل أو لم ينزل» .
وذكر عبد الحق في "أحكامه " من جهة ابن وهب وقال: إسناده ضعيف جدا، فالظاهر إنما(1/334)
ولأنه سبب للإنزال ونفسه يتغيب عن بصره، وقد يخفى عليه لقلته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ضعفه بالحارث بن نبهان، وقد يعضد هذا ما رواه الطبراني في " الأوسط " أخبرنا عبد الله بن عمر الصفار حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا عبد الله بن سريع عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إلى آخره نحوه، ومعناه في "الصحيحين" عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قعد بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل» ، زاد مسلم في رواية وإن لم ينزل. وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذ جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل» ، رواه مسلم. وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل، وفعلته أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاغتسلنا» . رواه الترمذي وصححه. وعن عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا التقى الختانان اغتسل» . رواه الطحاوي، وعنها «إذا التقى الختانان وجب الغسل» . رواه الطحاوي موقوفا ومرفوعا. وعن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «إذا اختلف الختان الختان فقد وجب الغسل.» رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه " والطحاوي. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله رواه الطحاوي. وعن «عبد الرحمن بن الأسود قال كان أبي يبعثني إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قبل أن أحتلم فلما احتلمت جئت فناديت فقلت ما موجب الغسل قالت إذا التقت المواسي» . أخرجه الطحاوي ومحمد بن سعد في " الطبقات ".
قوله شعبها: بضم الشين النواحي وهو جمع شعبة ويروى شعبها جمع شعب، واختلفوا في الشعب الأربع فقيل هي اليدان والرجلان والفخذان. وقيل الرجلان والشفران، واختار القاضي عياض أن المراد شعب الفرج الأربع أي نواحيه الأربع، والضمير يرجع إلى المرأة وإن لم يمض ذكرها لدلالة السياق، أما قوله اختلف الختان الختان أي إذا جاوز أحدهما موضع الآخر، وهو كناية عن مجاوزة أحدهما الآخر بعد الملاقاة.
قوله: إذا التقت المواسي كناية عن التقاء الختانين لأن الختان يكون بالموسى فذكرت المواسي، والمراد بها المواضع التي يختن فيها، وهذه من أحسن الكنايات حيث صدرت من امرأة عظيم الشأن ليتناول أول ما احتلم وكلاهما بصدد الحياء.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن التقاء الختانين م: (سبب للإنزال) ش: أي إنزال المني، والشيء الذي يترتب عليه حكم إذا كان خفيفا وله سبب ظاهر يقام السبب الظاهر مقام الأمر الخفي ويرتب على الحكم وها هنا التقاء الختانين سبب للإنزال ونفسه خفي وهو معنى قوله:
م: (ونفسه) ش: أي نفس الإنزال الذي ترتب عليه الغسل م: (يتغيب عن بصره) ش: أي عن بصر المنزل م: (وقد يخفى عليه) ش: أي وقد يخفى الإنزال عن المنزل م: (لقلته) ش: أي لقلة المني م:(1/335)
فيقام مقامه، وكذا الإيلاج في الدبر لكمال السببية، ويجب على المفعول به احتياطا
بخلاف البهيمة وما دون الفرج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(فيقام) ش: أي التقاء الختانين م: (مقامه) ش: بضم الميم الأولى أي مقام الإنزال، كما في السفر مع المشقة التي ترتب عليها القصر في السفر، فقال الضمير يرجع في قوله إلى الخروج يعني على تقدير انحصار وجوب الغسل من المني، فالمني قائم في الالتقاء تقديرا والثابت في مثله الإنزال.
وقال الأترازي: قوله وقد يحقق عليه جواب سؤال مقدر وهو أن يقال سلمنا أن نفس المني يتغيب عن بصره ولكن لا نسلم الخفاء لعلم الرجل بخروج المني. فأجاب عنه بقوله وقد يخفى اه.
وقال تاج الشريعة: فإن قلت الماء من الماء يقتضي عدم وجوب الاغتسال بالالتقاء.
قلت: لا نسلم وهذا لأن قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الماء من الماء» أي من المني تحقيقا أو تقديرا إذ الغالب الإنزال. م: (وكذا الإيلاج في الدبر) ش: أي حكم الإيلاج في القبل حكم الإيلاج في الدبر م: (لكمال السببية) ش: أي لكمال سببية خروج المني، حتى إن الفسقة اللاطة يرجحون قضاء الشهوة من الدبر على قضاء الشهوة من القبل للين والحرارة والضيق، وعن هذا ذهب بعضهم أن محاذاة الأمرد في الصلاة يفسد صلاة غيره كالمرأة.
قلت: نقل ذلك عن محمد في " نوادر الصلاة " م: (ويجب) ش: أي الغسل م: (على المفعول به) ش: إن كان من أهل وجوب الاغتسال م: (احتياطا) ش: أي لأجل وجوب الاحتياط لأن من الناس صارت له تلك الفعلة الشنعاء طبيعة ويجد بها لذة كالمرأة. قلنا: بوجوب الاغتسال، كذا قاله تاج الشريعة.
قلت: هذا إنما يظهر بالمفعول به إذا كانت به أنبه، وإلا فالذي ذكره إلا في الفاعل، قال فخر الإسلام البزدوي في " شرح الزيادات ": من أتى امرأته أو أمته في غير ما أتاها لم يحد وإن كان محرما عليه لأن من الناس من يستحله بتأويل القرآن. واتفقوا على أن الغسل يجب على الفاعل والمفعول به إن كانا من أهل الاغتسال رجلا كان أو امرأة لتيقن الإيلاج عن غير إنزال أما عندهما فإنه للزنا.
وعند أبي حنيفة الاغتسال بنفس الإيلاج إنما يجب في الغسل لأنه مشتهى على الكمال، فالظاهر أنه عند انقضاء الشهوة فهو سببه نزول الماء فأقيم الإيلاج مقام الإنزال ولا خلل في الشهوة هنا فيصار تشبها للاشتباه مثل الوطء في القبل فوجب للاحتياط، ولما اعتبر الإيلاج دون الإنزال استوى الفاعل والمفعول فيه.
م: (بخلاف البهيمة وما دون الفرج) ش: هذا متصل بقوله فيقام مقامه، أي فيقام سبب الإنزال(1/336)
لأن السببية ناقصة. وقال: والحيض
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بالتشديد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في المسألتين في الآدمي بخلاف البهيمة، فإنه لا يجب فيها الغسل بمجرد الإيلاج من غير إنزال وبخلاف ما دون الفرج كالفخذ والبطن لا يجب فيه الغسل أيضا. م: (لأن السببية ناقصة) ش: عند عدم الإنزال.
م: (والحيض) ش: بالرفع عطفا على قوله والتقاء الختانين أي ومن المعاني الموجبة للغسل الحيض واختلفوا في تفسيره فقال السغناقي: أي الخروج من الحيض لأن الحيض ما دام باقيا لا يجب الغسل لعدم الفائدة.
قال الأترازي: لا حاجة إلى هذا التكليف لأنا اقتبسنا من قبل أن نفس الحيض سبب للغسل بدليل الإضافة، فلا حاجة إذن إلى قوله: المراد منه الخروج، وهو لا يضاف الغسل إليه بأن يقال غسل الخروج من الحيض حتى يتكلف المتكلف، أما قوله لا فائدة في وجوب الغسل فلا نسلم بل فيه فائدة حيث يظهر الوجوب عند وجود الشرط وهو الطهر من الحيض، وفيه نظر لأن الحيض اسم لدم مخصوص والجوهر لا يصح أن يكون سببا للمعنى، فكيف يقول الحيض سبب للغسل؟
وقال صاحب " التوضيح ": معنى قوله والحيض أي انقطاعه والخروج عنه لأن نفس الحيض ما دام باقيا لا يجب الغسل لعدم الفائدة، وإنما يجب عند الانقطاع، وفيه نظر لأن الانقطاع طهر فلا يوجب الطهارة وقد شنع الأترازي على حافظ الدين النسفي في قوله المراد بالحيض انقطاعه؛ لأنه يلازمه فقال: وفي غاية العجب ذلك ورد عليه بمنع الملازمة بينهما لوجود الحيض قبل الانقطاع ووجوب الانقطاع بعده فكان أحدهما منفكا عن الآخر فلا ملازمة بينهما.
وقال تاج الشريعة: والحيض أي خروج دم الحيض وهو الدم المخصوص يوجب الغسل، وهو الذي فسره تاج الشريعة فيكون مجازا من باب الحذف كما في قول تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] (يوسف: الآية 82) لأن نفس الدم لا يوجب شيئا، وهذا أولى وأظهر مما نسب إلى حميد الدين الضرير حيث قال: الخروج من الحيض مستلزم للغسل فوجب الاتصال فصحت الاستعارة ولأن الخروج من الحيض عين انقطاعه، والانقطاع طهر والطهر لا يوجب الإطهار.
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بالتشديد) ش:، وجه التمسك به على وجوب الاغتسال هو أن الله تعالى منع الزوج من الوطء قبل الاغتسال والوطء تصرف واقع في ملكه فلو كان الاغتسال مباحا أو مستحبا لم يمنع الزوج من حقه، فيعلم أن واجب قوله حتى يطهرن بالتشديد معناه حتى يطهرن أي يغتسلن، وقرئ بالتخفيف معناه حتى ينقطع دمهن، وكلا القراءتين يجب العمل بهما، فذهب أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن له أن يقربها في أكثر الحيض بعد انقطاع الدم،(1/337)
وكذا النفاس بالإجماع.
قال: وسن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الغسل للجمعة والعيدين وعرفة والإحرام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن لم تغتسل وفي أقل الحيض لا يقربها حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة كامل وذهب الشافعي إلى أنه لا يقربها حتى تطهر وتنظف فيجمع بين الأمرين.
م: (وكذا النفاس بالإجماع) ش: أي وكذا الخروج من النفاس يوجب الغسل بالإجماع، وسنده أنه لا نص ورد فيه واكتفوا به عن نقله أو قياس على الحيض لأنه أقوى، ونقل الإجماع ابن المنذر وابن جرير الطبري وغيرهما.
[الأغسال المسنونة]
[الغسل للجمعة والعيدين وعرفة والإحرام]
م: (وسن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغسل للجمعة والعيدين وعرفة والإحرام) ش: أما الجمعة ففي " الصحيحين " من حديث عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل» وليس الأمر للوجوب كما أخذ به أهل الظاهر، لأن الأمر بالغسل ورد على سبب وقد زال السبب فزال الحكم بزوال علته، لما رواه البخاري ومسلم من «حديث يحيى بن سعيد أنه سأل عمرة عن الغسل يوم الجمعة فقالت سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقالت: كان الناس في مهنة أنفسهم وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم فقيل لهم اغتسلوا» .
وأخرج مسلم عن عروة عنها قالت: «كان الناس يتناوبون يوم الجمعة في منازلهم ومن العوالي فيأتون الغبار ويصيبهم من الغبار فيخرج منهم الرجل فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو عندي فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو أنكم تطهرتم» ، ويأتي الكلام عن قريب إن شاء الله تعالى.
وأما العيدان فروي عن الفاكه بن سعد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يغتسل يوم الفطر ويوم الأضحى ويوم عرفة» ، وكان الفاكه بن سعد يأمر أهله بالغسل في هذه الأيام، رواه ابن ماجه ورواه الطبراني في "معجمه " والبزار في "مسنده "، وزاد فيه يوم الجمعة قال ولا يعرف للفاكه بن سعد غير هذا الحديث، وهو صحابي مشهور، وفيه يوسف بن خالد السهمي قال في " الإمام ": تكلموا فيه.
وروى ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل يوم الفطر ويوم الأضحى» . وفيه جبارة بن المغلس وهو ضعيف، وقال ابن عدي: لا بأس به. وروى البزار(1/338)
نص على السنية وقيل: هذه الأربعة مستحبة، وسمى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الغسل في يوم الجمعة حسنا في الأصل، وقال مالك: وهو واجب لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أتى الجمعة فليغتسل»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في "مسنده " عن مندل عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل للعيدين» . وذكر عبد الحق من جهة البزار وقال إسناده ضعيف.
وقال ابن القطان: وعلته محمد بن عبيد الله، قال ابن معين: ليس بشيء، وقال البخاري: منكر الحديث. وأما عرفة فقد تقدم في حديث الفاكه بن سعد.
وأما الإحرام فأخرج مسلم في الحج «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر أن يأمرها أن تغتسل وتهل» . والشجرة اسم موضع.
وأخرج الترمذي أيضا في الحج «عن خارجة بن زيد بن ثابت أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تجرد لإهلاله واغتسل» . وقال حديث غريب.
م: (نص) ش: أي القدوري م: (على السنية) ش: يعني في هذه الأربعة م: (وقيل) ش: قائله فما قيل مالك في رواية عنه وعن مالك أنه حسن على ما نذكره.
م: (هذه الأربعة) ش: يعني غسل الجمعة والعيدين وعرفة والإحرام م: (مستحبة) ش: وهو قول طائفة من العلماء م: (وسمى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الغسل يوم الجمعة حسنا) ش: نص محمد على ذلك. م: (في الأصل) ش: أي " المبسوط " م: (وقال مالك: هو واجب) ش: أي غسل الجمعة واجب وبه قال الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح والمسيب بن رافع وجماعة الظاهر.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من أتى الجمعة فليغتسل» ش: الحديث رواه الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر باللفظ المذكور، وأخرجه البخاري ومسلم ولفظهما «من جاء منكم الجمعة فليغتسل» . وحديث آخر روياه يدل صريحا على الوجوب من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» .
وحديث آخر روياه أيضا من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حق الله(1/339)
ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فهو أفضل»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام زاد البزار والطحاوي وذلك يوم الجمعة» . ثم اعلم أن نقل صاحب " الهداية " عن مالك أن غسل الجمعة واجب غير صحيح، فإن ابن عبد البر قال في " الاستدراك " وهو أعلم بمذهب مالك: لا أعلم أحدا أوجب غسل الجمعة إلا أهل الظاهر، فإنهم أوجبوه، ثم قال: روى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن غسل يوم الجمعة أواجب هو؟ قال هو سنة ومعروف، قيل في الحديث أنه واجب قال ليس كل ما جاء في الحديث يكون كذلك.
وروى أشهب عن مالك أنه سئل عن غسل يوم الجمعة أواجب هو؟ قال: حسن وليس بواجب، وهذه الرواية عن مالك تدل على أنه مستحب وذلك عندهم دون السنة.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فهو أفضل» ش: روى هذا الحديث سبعة من الصحابة وهم سمرة بن جندب وأنس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وجابر وعبد الرحمن بن سمرة وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
فحديث سمرة أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " من توضأ "، إلى آخره.
وقال الترمذي حديث حسن صحيح، واختلف في سماع الحسن عن سمرة فعن ابن المديني أنه سمع منه مطلقا وذكر عند البخاري وقال صاحب " التنقيح " قال ابن معين: الحسن لم يلق سمرة، وقال النسائي سمع منه حديث العقيقة فقط.
وحديث أنس عند ابن ماجه عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت يجزئ عنه الفريضة ومن اغتسل فالغسل أفضل» وسنده ضعيف وله طريق آخر عند الطحاوي والبزار في "مسنده " سندا ضعيفا من ذلك وله طريق آخر عند الطبراني.
وحديث الخدري رواه البيهقي في "سننه " والبزار في "مسنده " عن أسيد بن زيد الجمال عن شريك عن عون عن أبي نصرة عن أبي سعيد فذكره، قال البزار: لا نعلم رواه عن عوف إلا يزيد، ولا عن شريك إلا أسيد بن زيد، وأسيد كوفي قد احتمل حديثا عن شيعية شديدة(1/340)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كانت فيه.
وقال ابن القطان: قال الدوري: عن ابن معين أنه كذاب. وقال الساجي: له مناكير.
وقال ابن حبان: يروي عن الثقات المنكرات ومع هذا فقد أخرج البخاري له وهو ممن عيب عليه الإخراج عنه.
وحديث أبي هريرة عن البزار في "مسنده " عن أبي بكر الهذلي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة مسندا مرفوعا نحوه. ورواه ابن عدي في " الكامل " وأعله بأبي بكر الهذلي واسمه سلمى بن عبد الله.
وحديث جابر عند أبي جميل في "مسنده " وعبد الرزاق في "مصنفه " وإسحاق بن راهويه في "مسنده " وابن عدي في " الكامل ".
وحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند البيهقي في "سننه ".
قوله: "فبها ونعمت" جواب الشرط أي فبهذه الخصلة أو الفعلة ينال الفضل "ونعمت" الخصلة هي فعل الوضوء. وقيل: معناه فبالسنة أخذ ونعمت الخصلة هذه أي الأخذ بالسنة، وحذف المخصوص بالمدح.
قلت: جميع شراح كتب الحديث وكتب الفقه فسروا هذا الحديث هكذا، ولم يوفوا حقه لأن فيه أشياء وهي الباء فلا بد لها من متعلق، والضمير فلا بد له من مرجع وإلا يلزم الإضمار قبل الذكر، وضمير آخر وهو قوله: فهو والمخصوص بالمدح في قوله: "ونعمت" وتأنيث الفعل فيه وفيه أفعل التفضيل، واستعماله في أحد الأشياء الثلاثة كما علم في موضعه، فنقول وبالله التوفيق إن هذا الحديث يتضمن شيئين أحدهما: الإتيان بالوضوء وهو فعل المتوضئ، والوضوء في نفسه فاضل، والآخر الإتيان بالغسل وهو أفضل بالنسبة إلى الوضوء لأن فيه الوضوء، وأشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الأول بقوله: «من توضأ يوم الجمعة» ، يعني من فعل الوضوء يوم الجمعة فقد أتى بها أي بهذه الفعلة ونعمت هي، والمعنى: نعمت الفضيلة هي فصار قولنا أتى متعلقا بالباء(1/341)
وبهذا يحمل ما رواه على الاستحباب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والضمير صار راجعا إلى الفعلة التي دل عليها قولنا: من فعل الوضوء.
وأما قولنا: يعني من توضأ من فعل الوضوء لأن كل فعل يفعله الشخص يأتي فيه هذا التقدير، فإذا قلت: قام زيد معناه فعل القيام، وإذا قلت: أكل معناه فعل الأكل، وعلى هذا سائر الأفعال لأن الفاء والعين واللام أعم الأفعال، ولهذا اختار الصرفيون هذه المادة في وزن الأشياء وتأنيث نعمت باعتبار أن الضمير يرجع إلى الفعلة المذكورة، والمخصوص بالمدح محذوف كما قلنا.
وأشار - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى الثاني بقوله: «ومن اغتسل» بمعنى ومن فعل الغسل يوم الجمعة فهو أفضل من الوضوء، والضمير في فهو يرجع إلى الفعل الذي يتضمن من فعل وهو الغسل، وفي نفس الأمر يرجع إلى الفعل الذي يدل عليه قوله اغتسل لأن كل فعل يدل على مصدره وهو من قبيل قَوْله تَعَالَى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] (المائدة: الآية 8) أي العدل أقرب. وقد علم أن أفعل التفضيل يستعمل مجردا كما في قولنا الله أكبر أي أكبر من كل شي فإن قلت: أفعلية التفضيل تدل على الوجوب ولا تثبت المساواة، قلت: السنة بعضها أفضل من بعض فجاز أن يكون الغسل من تلك السنن، فإن قلت: ما ذكرنا يقتضي وما ذكرتم ناف فالأول راجح، قلت: قوله فبها ونعمت نص على السنة وما ذكرتم يحتمل أن يكون أمر إباحة فالعمل بما ذكرنا أولى.
م: (وبهذا) ش: أي وبهذا الحديث المذكور م: (يحمل ما رواه) ش: أي ما رواه مالك وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أتى الجمعة فليغتسل» .
م: (على الاستحباب) ش: توفيقا بين الحديثين، فإن قلت: هذا الحديث ضعيف وحديث مالك صحيح فكيف التوفيق بين الصحيح والضعيف، قلت: قد روينا هذا الحديث عن سبعة أنفس من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كما ذكرنا، فحديث سمرة صحيح كما نص عليه الترمذي.
وحديث أنس المذكور إنما ضعف لأجل يزيد بن أبان الرقاشي، قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به لرواية الثقات عنه، وقال ابن حبان: كان من خيار عباد الله القائمين بالليل، أو ضعفه لأجل الربيع بن صبيح، قال أبو زرعة: شيخ صالح صدوق، وقال ابن عدي: له أحاديث مستقيمة صالحة ولم أر له حديثا منكرا أرجو أنه لا بأس به. وصبيح بفتح الصاد. ولئن سلمنا ذلك فالأحاديث الضعيفة إذا ضم بعضها إلى بعض أخذت قوة فبها اجتمعت فيها من الحكم كذا قاله البيهقي وغيره.(1/342)
أو على النسخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أو على النسخ) ش: أي أو يحمل حديث مالك على أنه منسوخ قاله الأترازي لئلا تلزم المعارضة بين القطعي والظني، وهما آية الوضوء وخبر الواحد، قلت: ليس هذا دليل النسخ على ما لا يخفى بل يكون فيه مخالفة الكتاب بخبر الواحد لأنه يوجب غسل الأعضاء الأربعة عند القيام إلى الصلاة مع الحدث، فلو وجب الغسل لكان زيادة عليه بخبر الواحد وهذا لا يسمى نسخا بل يصير كالنسخ فافهم.
وقال الأكمل قوله: أو على النسخ: بدليل ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنهما قالا: كان الناس عمال أنفسهم، وكانوا يلبسون الصوف ويعرقون فيه ويأتون المسجد فكان يتأذى بعضهم برائحة بعض فأمروا بالاغتسال، ثم انتسخ حين لبسوا غير الصوف وتركوا العمل بأيديهم.
قلت: هذا بعينه ذكره السغناقي وهو نقله عن المبسوط وليس ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على هذه الصورة.
أما ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقد ذكرناه عن قريب.
وأما ما روي عن ابن عباس فهو ما رواه أبو داود عن عكرمة أن ناسا من أهل العراق جاءوا فقالوا: يا ابن عباس أترى الغسل يوم الجمعة واجبا؟ قال: لا، ولكن أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدأ الغسل، كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون على ظهورهم وكان مسجدهم ضيقا مقارب السقف إنما عريش فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم حار وعرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضا، فلما وجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلك الريح قال: «يا أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه» .
قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع مسجدهم، وذهب بعض الذين كان يؤذي بعضهم بعضا من العرق.
وأخرجه الطحاوي أيضا في " معاني الآثار "، ثم قال: فهذا ابن عباس يخبر أن ذلك الأمر الذي كان من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغسل لم يكن للوجوب عليهم، وإنما كان لعلة، ثم ذهبت تلك العلة فذهب الغسل.
قوله: أطهر، وفي رواية الطحاوي ولكنه طهور أي مطهر وخير لمن اغتسل في الثواب.(1/343)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: كيف بدأ الغسل أي كيف كان ابتداؤه.
قوله: مجهودين من جهد الرجل فهو مجهود إذا وجد مشقة.
قوله: عريش وهو كان ما يستظل به والمراد أن سقفه كان من الجريد والسعف.
وقوله: ثارت أي هاجت من ثار يثور ثورا وثورانا إذا مطمع:
قوله: أفضل ما يجد، وفي رواية الطحاوي أمثل ما يوجد. قوله: ومن دهنه يتناول سائر الأدهان نحو الزيت ودهن السمسم وغير ذلك، وكذلك الطيب يتناول سائر أنواع الطيب نحو المسك والعنبر وغيرهما. قوله: ثم جاء الله بالخير إشارة إلى أن الله تعالى فتح الشام ومصر والعراق على أيدي الصحابة فكثرت أموالهم ومعاشهم وخدمهم، فغيروا السقف والبناء وغير ذلك.
فإن قلت: قال ابن حزم حديث ابن عباس روي من طريقين، أحدهما: من طريق محمد بن معاوية النيسابوري، وهو معروف بوضع الأحاديث والكذب، والثاني: من طريق عمرو بن أبي عمرة عن عكرمة وهو ضعيف لا يحتج به، ثم لو صح من طريق عمرو بن أبي عمرة فليس فيه لهم بل حجة لنا عليهم، لأنه ليس فيه من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا الأمر بالغسل فإيجابه وكل يتعلقوا به في إسقاط وجوب الغسل فليس من كلامه عليه، وإنما هو من كلام ابن عباس وظنه ولا حجة لأحد دونه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
قلت: الحديث صحيح وعمرو بن أبي عمرة احتجت به جماعة، وعكرمة مولى ابن عباس، قال البخاري: ليس أحد من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة. وقال العجلي: مكي تابعي ثقة بريء مما يرميه الناس به من الحرورية فلا التفات إلى تضعيف ابن حزم إياه لترويج مذهبه وقوله: فليس فيه حجة لهم، كلام ساقط لأن ابن عباس لو لم يدر عدم وجوب الغسل يوم الجمعة لما قال: لا، حين سئل عنه، وكيف وقد روي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه كان يأمر به وهو أعلم الناس بما وافق النصوص وعللها ومواردها وما يتعلق بأحكامها، ولما كان الأمر كذلك حمل بعضهم الأمر على الاستحباب، ولفظ الوجوب على التأكيد للاستحباب، كما تقول: كان حقك واجبا علي والعدة دين وهو أضعف من الأول، ويدل عليه ما قرن به مما ليس بواجب وهو الدهن والطيب.
وقال تاج الشريعة: قوله: أو على النسخ لأنه وجد دلالة التقديم، وهي ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: كان الصحابة في بدء الإسلام عمال أنفسهم ويلبسون الجلود والحرص الحجازي والمسجد قريب السقف فأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغسل دفعا للرائحة فلما ظهرت الثروة والغنى فيهم قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من توضأ يوم الجمعة» الحديث.(1/344)
ثم هذا الغسل للصلاة عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الصحيح لزيادة فضيلتها على الوقت واختصاص الطهارة بها، وفيه خلاف الحسن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لم يرد هذا الحديث عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - على هذا الوجه، وإنما روي في " الصحيحين " أنها قالت: "كان الناس يتناوبون" الحديث وقد ذكرناه فيما مضى، واستدل تاج الشريعة بقولها: "فلما ظهرت الثروة" إلى آخره على النسخ، لأن قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: من توضأ الحديث يدل على أنه مؤخر بمقتضى ما في هذه الرواية، والمتأخر ينسخ المتقدم، ولكن هذا إنما يصح إذا ثبت هذا عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - على الوجه المذكور، على أن ابن الجوزي أنكر النسخ فقال: لا ناسخ معهم، ولكن سمعت حديث رواه ابن عدي في " الكامل " يدل على أنه ناسخ لأحاديث الوجوب، وهو ما رواه من حديث الفضل بن المختار عن أبان بن أبي عياش، عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من جاء منكم الجمعة فليغتسل فلما كان الشتاء قلت: يا رسول الله أخبرنا بالغسل للجمعة وقد جاء الشتاء ونحن نجد البرد، فقال: من اغتسل فبها ونعمت ومن لم يغتسل فلا حرج» قلت: قد شد بغيره.
فإن قلت: إذا ثبت النسخ ينبغي أن يرتفع الغسل يوم الجمعة.
قلت: المراد نسخ الوجوب لا كونه مشروعا، كما تقول نسخت الزكاة كل صدقة ونسخ صوم رمضان كل صوم.
م: (ثم هذا الغسل) : ش: أي غسل يوم الجمعة م: (للصلاة عند أبي يوسف) ش: أي لأجل الصلاة بمعنى لا يحصل له الثواب إلا إذا صلى يوم الجمعة بهذا الغسل حتى لو اغتسل أول اليوم وانتقض وضوؤه وتوضأ وصلى لا يكون مدركا لثواب الغسل. م: (وهو الصحيح) ش: أي ما ذهب إليه أبو يوسف هو الصحيح، واحترز به عن قول الحسن بن زياد فإنه قال لليوم على ما نذكره الآن. م: (لزيادة فضيلتها على الوقت) ش: أي لزيادة فضيلة الصلاة في يوم الجمعة على غيرها من الصلوات، لأنها تؤدي بجمع عظيم فلها من الفضيلة ما ليس لغيرها. م: (واختصاص الطهارة بها) ش: أي بالصلاة فإنها من شرائطها م: (وفيه) ش: أي وفي كون غسل يوم الجمعة للصلاة م: (خلاف الحسن) ش: فإنه يقول غسل يوم الجمعة لليوم إظهارا لفضيلته، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «سيد الأيام يوم الجمعة» .
والجواب عنه: أن سيادة اليوم باعتبار وقوع هذه الصلاة فيه، ويقول الحسن: قال داود في(1/345)
والعيدان بمنزلة الجمعة، لأن فيهما الاجتماع فيستحب الاغتسال دفعا للتأذي بالرائحة، وأما في عرفة والإحرام فسنبينه في المناسك إن شاء الله تعالى. قال: وليس في المذي والودي غسل، وفيهما الوضوء؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كل فحل يمذي وفيه الوضوء»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" المبسوط " وهو قول محمد وفي " المبسوط " وهو رواية عن أبي يوسف فعلى هذا عن أبي يوسف روايتان، وقيل: تظهر الفائدة من هذا الخلاف فيمن اغتسل بعد الصلاة قبل الغروب إن كان مسافرا أو عبدا أو امرأة ممن لا يجب عليه الجمعة، وهو بعيد لأن المقصود منه إزالة الروائح الكريهة لئلا يتأذى الحاضرون بها، وذلك لا يتأذى بعدها، ولو اتفق يوم الجمعة ويوم العيد أو يوم عرفة فاغتسل وقع عن الكل، وفي " صلاة الجلالي " لو اغتسل يوم الخميس أو ليلة الجمعة أتى بالسنة لحصول المقصود وهو قطع الرائحة.
م: (والعيدان) ش: أي عيد الفطر وعيد النحر م: (بمنزلة الجمعة لأن فيهما الاجتماع فيستحب الاغتسال دفعا للتأذي بالرائحة) ش: هذا التعليل يشعر أن كون الغسل في يومي العيدين سنة أو مستحب لدفع الرائحة الكريهة، فلا هو لليوم. ولا هو للصلاة، والمفهوم من كلام الجلالي أن العلة هي دفع الأذى من الروائح الكريهة في الجمعة أيضا.
م: (وأما في عرفة والإحرام فسنبينه في المناسك إن شاء الله تعالى) ش: قد بينا الأحاديث الواردة فيهما فيما مضى، واعلم أن صاحب " الخلاصة " ذكر للغسل أحد عشر نوعا: خمسة منها فريضة الغسل لالتقاء الختانين، ومن الإنزال، والاحتلام، والحيض، والنفاس، وأربعة سنة: غسل الجمعة، والعيدين، وعرفة، والإحرام، وواحد واجب: وهو غسل الميت، وواحد مستحب: وهو غسل الكافر إذا أسلم ولم يكن جنبا ولم يغتسل حتى أسلم ففيه اختلاف المشايخ.
وفي " المحيط " أنواع الغسل سبعة: ثلاثة فرض: غسل الجنابة، والحيض، والنفاس، وأربعة سنة: مثل ما ذكرنا، وواحد واجب: مثل ما ذكرنا، وواحد مستحب: وهو غسل الكافر إذا أسلم، والمجنون إذا أفاق والصبي إذا بلغ بالسن، وإن بلغ بالإنزال وجب.
وفي شرح " مختصر الطحاوي " نص على استحباب الثلاثة الكرماني في "مناسكه "، وينبغي أن يستحب الاغتسال لصلاة الكسوف والاستسقاء وكل ما كان في معنى ذلك لاجتماع الناس، وإن لم يذكر، وألا يجبر المسلم زوجته على غسل الجنابة لأنها غير مخاطبة بها ويمنعها من الخروج للكنائس.
م: (وليس في المذي والودي غسل) ش: لما روى مسلم «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال كنت رجلا مذاء فكنت أستحي أن أسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكان ابنته عندي فأمرت المقداد بن الأسود فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يغسل ذكره ويتوضأ» ، وفي رواية فيه الوضوء م: (وفيهما الوضوء لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كل فحل يمذي وفيه الوضوء» ش: هذا خبر من حديث رواه ثلاثة من الصحابة - رضي الله(1/346)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنهم - وهم عبد الله بن سعد، ومعقل بن يسار وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فحديث عبد الله بن سعد عن أبي داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن حزام بن حكيم «عن عبد الله بن سعد الأنصاري قال سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عما يوجب الغسل وعن الماء يكون بعد الماء فقال ذاك المذي وكل فحل يمذي فتغسل من ذلك فرجك وتوضأ وضوءك للصلاة» ، ورواه أحمد في مسنده.
وحديث معقل بن يسار عند الطبراني في "معجمه " من حديث إسماعيل بن عياش عن عطاء بن عجلان عن معاوية بن قرة عن معقل بن يسار أن «عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يلقى من المذي شدة فأرسل رجلا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن ذلك المذي، قال: "ذلك المذي وكل فحل يمذي، اغسله بالماء وتوضأ وصل» .
وحديث علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الطحاوي في " شرح معاني الآثار " عن صالح بن عبد الرحمن قال: "حدثنا سعيد بن منصور قال: أخبرنا هشيم قال: أخبرنا الأعمش عن منذر بن يعلى الثوري «عن محمد بن الحنفية قال سمعته يحدث عن أبيه قال كنت أجد مذيا فأمرت المقداد أن يسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك واستحييت أن أسأله لأن ابنته عندي فقال إن كل فحل يمذي فيغسل فإذا كان» . ورواه إسحاق بن راهويه أيضا في "مسنده " ولفظه: «أنه سئل عن المذي فقال: "كل فحل بمذي فيغسل ذكره ويتوضأ» .
قوله: كل فحل أي كل ذكر من بني آدم يخرج من ذكره مذي.
قوله: يمذي من أمذى ومن مذا بالتخفيف ومن مذي بالتشديد.
وأشار إلى نفي وجوب الغسل بعلة كثرة الوقوع بقوله: «كل فحل يمذي» .
فإن قلت: إذا كان الواجب الوضوء كان الواجب أن يذكرهما في فصل نواقض الوضوء.
قلت: لما كانا يشابهان المني ذكرهما في فصل الغسل. وقال الأكمل: الأوجه أن يقال: إنما ذكره هاهنا لأن أحمد يقول: بوجوب الغسل في رواية، فذكر هاهنا نفيا لما قاله. قلت: لم تجر عادة المصنف أن يذكر شيئا ليدل على نفي قول أحمد.(1/347)
والودي: هو الغليظ من البول يتعقب الرقيق منه خروجا فيكون معتبرا به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: إذا كان حكمه الوضوء كان ذكره مستغنيا عنه بالكلية لأنه علم من قوله: «يخرج من السبيلين» .
قلت: لما ذكره هنا للتأكيد وإن كان فهم من ذاك هذا الجواب للأترازي وأخذ عنه الأكمل أيضا، وقال الأكمل أيضا: وقيل ذكره تصريحا بالنفي لقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه لا يقول بوجوب الغسل والوضوء بهما. وأجاب الأترازي بجواب آخر وهو أن يكون لبيان حكمها فيمن به سلس البول لأن طهارته لا تنقض بالبول في الوقت، وربما ينتقض.
وقال تاج الشريعة: إنما ذكرهما لكونهما متشابهين للبول والحال أن الغسل لا يجب بهما فمست الحاجة إلى الذكر.
م: (والودي) ش: بفتح الواو وسكون الدال المهملة، وفي " المطالع " وقد يقال معجمة وهو غير معروف ويقال أيضا بفتح الواو وكسر الدال وتشديد الياء من ودي بفتح العين، ويقال: من أودى بالألف م: (هو الغليظ من البول يتعقب الرقيق منه) ش: أي من البول م: (خروجا) ش: أي من حيث الخروج م: (فيكون معتبرا به) ش: أي بالبول.
وقال أحمد: فإن قيل: نقض الوضوء بالودي غير متصور على التفسير المذكور في الكتاب لأنه لما خرج على أثر البول وقد وجب الوضوء بالبول فلم يجب بالودي.
أجيب بأجوبة منها: إذا بال وتوضأ للبول ثم أودى فإنه يجب عليه الوضوء، ومنها أن من به سلس البول إذا توضأ للبول ثم أودى حال بقاء الوقت تنقض طهارته، ومنها أن الوضوء يجب في الودي لو تصور الانتقاض به وفيه ضعف.
قال الأكمل: قلت هذا نظير تفريع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مسائل المزارعة، لو كان يقول بجوازها كان ذلك قياسا، ومنها أن المراد "يوجب الوضوء" يعني لا يوجد الاغتسال، ذكره الحلوائي، ومنها أن الوجوب بالبول لا ينافي الوجوب بالودي بعده فالوضوء منهما جميعا حتى لو حلف لا يتوضأ من رعاف فرعف ثم بال أو بال ثم رعف فتوضأ فالوضوء منهما جميعا ويحنث، أو حلف لا يغتسل من امرأته فلانة من جنابة فأصابها ثم أصاب غيرها واغتسل فهو منهما، هكذا في " المنتقى " ويحنث. وكذا المرأة إذا حلفت لا تغتسل من جنابة أو حيض فأصابها زوجها وحاضت فاغتسلت فهو منهما، وتحنث، وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيمن قال إن اغتسلت من زينب فهي طالق، وإن اغتسلت من عمرة فهي طالق، فجامع زينب ثم جامع عمرة فهما طالقان.
وقال أبو عبد الله الجرجاني: الاغتسال من الأول دون الثاني.(1/348)
والمني خاثر أبيض ينكسر منه الذكر عند خروجه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني إن اتحد الجنس بأن بال ثم رعف أو على العكس فالوضوء منهما جميعا، فعلى قول الجرجاني يكون الوضوء والغسل من الأول إن اتحد الجنس أو اختلف، وعلى قول الهندواني إن اتحد فمن الأول، وإن اختلف فمنهما جميعا، وعلى ظاهر الجواب الوضوء والغسل منهما جميعا كيف ما كان، وقيل: الودي ما يخرج بعيد الاغتسال من الجماع وبعد البول وهو من الزوج، فعلى هذا الإشكال ذكر الزوجة في الودي يخالف ما تقدم.
م: (والمني خاثر أبيض ينكسر منه الذكر عند خروجه) ش: وزاد غيره ويتولد منه الولد. قال الأترازي: يرد على هذا التعريف مني المرأة لأن منيها ليس بتلك الصفة فإذن يحتاج إلى التعريف الجامع بين مني الرجل والمرأة جميعا، وقال: فما وجدت فيما عندي من الكتب ولا كتب اللغة يوجد منه إلا أنه ذكر في كتاب الأجناس ناقلا عن المجرد ويقال: المني هو الماء الدافق يكون منه الولد وهذا حسن.
وقوله الماء الدافق احتراز عن الودي والمذي لأنه لا دفق فيهما. وقوله: المني يكون منه الولد، احترازا عن البول وعن ماء من الميزاب.
ثم قال: لا يقال: ماء المرأة ليس بدافق لأنا نقول: لا نسلم لأن الله تعالى أراد بالماء الدافق ماء الرجل والمرأة جميعا حيث قال: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7] (الطارق: الآية 7) قلت: هذا كلام عجيب صادر من غير روية. والتعريف الذي فسر المصنف المني به هو مني الرجل ولا يرد عليه، لأن مني كل منهما يعرف بتعريف، فمني الرجل ماء أبيض خاثر رائحته كرائحة الطلع فيه لزوجة ينكسر منه الذكر ويتولد منه الولد، ومني المرأة ماء أصفر رقيق فتعريف أحد الماهتين المختلفتين كيف يورد عليها بتعريف الماهية الأخرى، ثم استحسانه لما ذكر في " المجرد " بأن المني هو الماء الدافق الذي يكون منه الولد غير مساعد له لأن هذا أيضا مني الرجل، والدفق أيضا من صفات مني الرجل، وليس في مني المرأة دفق وقَوْله تَعَالَى: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] (الطارق: الآية 6) أي مدفوق في رحم المرأة.
قال الإمام أبو الليث السمرقندي في "تفسيره " في قَوْله تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5] (الطارق: الآية 5) يعني فليعتبر الإنسان مم خلق، قال بعضهم: نزلت في شأن أبي طالب ويقال في جميع من أنكر البعث ثم بين أول خلقهم كي يعتبروا، فقال: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] يعني من ماء مهراق في رحم الأم.
ويقال: دافق يعنى مدفوقا فهذا يدل صريحا على أن الدفق صفة ماء الرجل، جعله الله دافقا ليصل بقوة الدفق إلى قعر الرحم الذي يتولد منه الولد، ولولا الدفق لعقمت النساء الغائرات الأرحام. قال الزمخشري: الدفق صب فيه دفع وهذا لا يوجد إلا في مني الرجل وقوله:(1/349)
والمذي رقيق يضرب إلى البياض يخرج عند ملاعبة الرجل أهله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
{يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7] (الطارق: الآية 7) . قال أبو الليث: يعني خلق من ماء الأب ومن ماء الأم، فماء الأب يخرج من الصلب، وماء المرأة يخرج من الترائب، وهو موضع القلائد.
فإن قلت: كان ينبغي أن يقال من ماءين.
قلت: قال الزمخشري ولم يقل ماءين لامتزاجهما في الرحم واتحادهما حين ابتداء خلقه، وقال أيضا الدفق في الحقيقة لصاحبه، والإسناد مجازي وصاحب الدفق هو الرجل، والمرأة ليس لها دفق.
وقال أبو إسحاق العراقي: المني يخرج من الدماغ بعد نضجه ويصير دما أحمر في فقار الظهر إلى أن يصل إلى الكليتين فينضجانه، ثم يصبانه إلى أنثيين فينضجانه منيا أبيض، وهو خاثر رائحته كرائحة الطلع فيه لزوجة ينكسر الذكر عند خروجه وهذه صفة مني الرجل دون المرأة.
والعجب من الأكمل أنه رضي بما قال الأترازي فقال: والتعريف الجامع لمني الرجل والمرأة أنه ماء دافق يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة، وقد قلنا: إن المرأة ليس لها دفق وهذا يمكن أن يكون تعريفا للمني المصبوب في رحم المرأة من جهتها الذي يتولد منه الولد إذا أراد الله.
أما المني الذي تتعلق به الأحكام فاثنان: أحدهما مني المرأة والثاني مني الرجل، فلكل واحد منهما تعريف وحده، وإلا فتعريف القسمين بما ذكره كتعريف الإنسان والفرس بأنهما حيوان. ثم الفعل من المني مني وأمنى ومنى بالتشديد. وفي " نكت ابن الصلاح " في المني لغتان تشديد الياء وتخفيفها ولم يحكه الجوهري.
م: (والمذي رقيق يضرب إلى البياض يخرج عند ملاعبة الرجل أهله) ش: المذي بفتح الميم وسكون الذال المعجمة، يقال: مذى الرجل بالفتح وأمذى بالألف وفي المطالع هو ماء رقيق يخرج عند التذكار والملاعبة بسكون الذال وكسرها يقال: مذى وأمذى ومذي. وقال عياض: فيه وجهان مذي بالتخفيف ومذي بالتشديد. ويقال: المذي من المرأة أيضا قال المبرد في " الكامل ": كل فحل يمذي وكل أنثى تمذي. قلت: من مذت الشاة إذا ألقت من رحمها بياضا.
وقال الأترازي: فإن قلت: لم ذكر تعريف الودي سابقا والمني ثانيا والمذي ثالثا.
قلت: لأن المصنف ذكر المذي والودي بعدما ذكر حكم المني سابقا، واستدل على عدم الغسل في المذي لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل فحل يمذي وفيه الوضوء» . ثم احتاج إلى الدليل في الودي فذكر(1/350)
وهذا التفسير مأثور عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعريفه لقربه بالبول لأنه يخرج عقيبه، فوقع تعريفه ثانيا ثم أراد أن يعرف المني والمذي، فقدم المني على المذي لقوة في المني دون المذي، فوقع تعريف المني ثانيا، والمذي ثالثا.
قلت: هذا الذي ذكره مطولا ليس فيه مزيد الفائدة، والفقهاء لا ينظرون إلى رعاية محاسن التراكيب وإنما نظرهم في بيان المقصود ولا يرى ذلك إلا في التراكيب التي تقع في كلام الشارع لبيان الإعجاز وبيان الفصاحة، وسترى تساؤلا في كلام المصنف وغيره في الألفاظ والعبارات على ما ستقف عليه في مواضع إن شاء الله تعالى.
م: (وهذا التفسير) ش: أي التفسير المذكور في المني والمذي والودي م: (مأثور عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) ش: ثم لم يثبت هذا عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. روى عبد الرزاق في "مصنفه " عن قتادة وعكرمة قالا: هي ثلاثة المني والمذي والودي، فالمني هو الماء الدافق الذي يكون فيه الشهوة، ومنه يكون الولد ففيه الغسل، وأما المذي فهو الذي يخرج إذا لاعب الرجل امرأته فعليه غسل الفرج والوضوء، وأما الودي فهو الذي يكون مع البول وبعده. وفيه غسل الفرج والوضوء.(1/351)
باب الماء الذي يجوز به الوضوء وما لا يجوز به الطهارة من الأحداث جائزة بماء السماء والأودية والعيون والآبار والبحار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب في الماء الذي يجوز به الوضوء وما لا يجوز]
م: (باب في الماء الذي يجوز به الوضوء وما لا يجوز) ش: أي هذا باب في بيان أحكام الماء الذي يجوز به الوضوء وفي بيان الماء الذي لا يجوز به الوضوء أيضا، غير أن المطلوب الأهم بيان ما يجوز به اقتصر عليه، ومعنى الباب في اللغة النوع، وفي الاصطلاح هو طائفة من مسائل العلم الفقهية يشتمل عليه الكتاب. والكتاب يجمع الأبواب والأبواب تجمع الفصول.
ولما فرغ من بيان الوضوء والغسل وما يوجبهما شرع في بيان الآلة التي تحصل بها الطهارة في النوعين وهي الماء المطلق، والألف واللام في الماء للجنس، والماء جوهر سيال سببه خوف العطش وأصله موه قلبت الواو ألفا لتحريكها وانفتاح ما قبلها، والدليل عليه أن جمعه في القلة أمواه وفي الكثرة مياه، والهمزة فيه بدل من الهاء كما في شاء. وذكر صاحب " المحكم " ماه في لغته تدل على أن الإبدال غير لازم، ولفظة يجوز تارة تطلق على معنى يحل وتارة تستعمل بمعنى يصح وتارة بمعنى تصلح لهما.
م: (الطهارة من الأحداث) ش: هو جمع حدث والحدث ينقسم إلى الأصغر والأكبر، ويقال: الأخف والأغلظ، وفي " الزيادات ": وإذا اجتمع حدثان فالأغلظ أهم، فلو قال: من الحدثين كان أولى، ولعله جمعه باعتبار كثرة محاله أو لاختلاف أنواعه.
وقوله: "من الأحداث" ليس للاختصار لأن الأخباث تشاركهما، واللام فيه للعهد أي الطهارة من الأحداث التي سبق ذكرها، ويجوز أن تكون للجنس، والحدث اسم يطلق على الحكمي والخبث يطلق على الحسي والنجس مشترك يقع عليهما بدلا، ثم قيد الأحداث اتفاقي لأنه يجوز بالمياه التي ذكرها الطهارة من الحدث والخبث جميعا، ويجوز أن يكون قيده بها لكونه قد ذكرها فيما سبق في الطهارتين فاحتاج إلى بيان الآلة التي يحصلان بها.
وقوله الطهارة: مبتدأ وخبره قوله: م: (جائزة بماء السماء) ش: وهو المطر والثلج والبرد إذا ذابا، وقوله: م: (والأودية) ش: عطف عليه وهو جمع وادي أي وماء الأودية وهو الماء الذي يجتمع فيها من الأمطار والسيول التي تتحصل بها م: (والعيون) ش: جمع عين وهي التي تنبع من الأرض وتخرج إلى ظاهرها م: (والآبار والبحار) ش: جمع بئر أصله بهمزة ساكنة في وسطها، وجمعها في القلة أبئر وآبار بهمز بعد الباء، ومن العرب من يقلب الهمزة فيكون أبار، فإذا كثرت فهي أبيار.
وأما البحار جمع بحر قال الجوهري: البحر خلاف البر، يقال: سمي به لعمقه واتساعه(1/352)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] (الفرقان: الآية 48) وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والجمع أبحر وبحار وبحور، وكل نهر عظيم بحر.
قلت: فلذلك قيل لنهر مصر بحر النيل ولكن إذا أطلق البحر يراد به البحر المالح م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] (الفرقان: الآية 48)) ش: وجه التمسك بالآية في حق ماء السماء والأودية الحاصلة بماء السماء ظاهر وأما في حق العيون والآبار فإما لأن أصل المياه جميعا من السماء لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 21] (الزمر: الآية 21) . وإما لأن التمسك بالآية يرجع إلى ماء السماء، والتمسك بطهورية باقي المياه بالحديثين اللذين ذكرهما.
فإن قلت: ليس في الآية أن جميع المياه نزلت من السماء، لأن قوله: ماء نكرة في سياق الإثبات فلا تعم.
قلت: تعم بقرينة الامتنان به فإن الله ذكره في تعريف الامتنان به، فلو لم يدل على العموم لفات المطلوب، والنكرة في الإثبات تفيد العموم بقرينة تدل عليه كما في قَوْله تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14] (التكوير: الآية 14) . وقَوْله تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5] (الانفطار: الآية 5) .
فإن قلت: لا يتم الاستدلال بالآية ولا بالحديث، لأن الطهور من طهر الشيء وهو لازم، فلا يستفاد منه التعدي فيكون بمعنى الطاهر كما في قَوْله تَعَالَى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] (الإنسان: الآية 21) أي طاهرا فلا يتم الاستدلال في التطهير.
قلت: كون الماء مطهرا لغيره لا من حيث إن الطهور بمعنى الطهر بل من حيث إنه معدول عن صيغة الطاهر إلى صيغة الطهور التي هي المبالغة في ذلك الفعل كالغفور والشكور فيهما مبالغة ما ليس في الغافر والشاكر، فلا بد في الطهور من معنى زائد ليس في الطاهر وليس ذلك إلا بالتطهير.
م: (وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه» ش: لم يثبت هذا الحديث بهذا اللفظ إلا أن ابن ماجه رواه من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الماء طهور لا ينجسه إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه» .(1/353)
وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في البحر «هو الطهور ماؤه والحل ميتته»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي إسناده راشد بن سعد أخرجه النسائي وابن معين وابن حبان وأبو حاتم ومعاوية بن أبي صالح، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال الدارقطني: لم يروه غير راشد بن سعد وليس بالقوي.
وقال الشيخ تقي الدين: قد رفع من وجهين غير طريق راشد بن سعد أخرجهما البيهقي أحدهما عن عطية بن بقية بن الوليد عن أبيه عن ثور بن يزيد عن راشد بن سعد عن أبي أمامة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الماء طهور إلا أن يتغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه» .
الثاني: عن حفص بن عمر حدثنا ثور بن يزيد عن راشد بن سعد عن أبي أمامة مرفوعا: «الماء لا ينجس إلا ما غير طمعه أو ريحه» . وقال البيهقي: والحديث غير قوي، رواه عبد الرزاق في "مصنفه " والدارقطني في "مسنده " عن الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلا والأحوص فيه مقال.
وأخرج الدارقطني في "سننه " عن معاوية بن أبي صالح عن راشد بن سعد عن ثوبان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الماء طهور إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه» . وسنده ضعيف.
وأخرجه الأربعة والشافعي وأحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث أبي سعيد الخدري من حديث بئر بضاعة، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الماء طهور لا ينجسه شيء» . وهو لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن، وقد جوده أبو أسامة وصححه أحمد ويحيى بن معين.
وقد علمت بهذا أن الحديث الذي احتج به المصنف نصفه الأول صحيح وهو قول: «الماء طهور لا ينجسه شيء» والنصف الثاني روي من وجوه كثيرة وهو ضعيف، وروى الدارقطني والطحاوي من طريق راشد بن سعد مرسلا: «الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه» .
وزاد الطحاوي «أو لونه» وصحح أبو حاتم إرساله قاله في المذهب والروياني في "البحر " نص الشارع على الطعم والريح، وقاس الشافعي اللون عليهما وليس كذلك، فإن اللون أيضا مذكور في الحديث، وكأنهما لم يقفا عليه حتى قالا ذلك.
[ماء البحر]
م: (وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في البحر: «هو الطهور ماؤه والحل ميتته» ش: وقوله بالجر عطف على قوله الذي قبله، هذا الحديث روي عن ثمانية أنفس من الصحابة وهم: أبو هريرة، وجابر، وعلي بن(1/354)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبي طالب، وأنس، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وابن الفراسي، وأبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
فحديث أبي هريرة عند الأربعة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا فنتوضأ من البحر فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هو الطهور ماؤه والحل ميتته» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه مالك والشافعي، وابن خزيمة، وابن حبان، وابن الجارود، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي وصححه البخاري فيما حكاه عنه الترمذي، وتعقبه ابن عبد البر بأنه لو كان صحيحا لأخرجه في "صحيحه"، وهذا مردود لأنه لم يلتزم الاستيعاب، ثم حكم ابن عبد البر بعد ذلك بصحته فتلقاه العلماء بالقبول ورجح ابن منده صحته، وصححه أيضا ابن المنذر وأبو محمد البغوي. وحديث جابر عن ابن ماجه في "سننه " من طريق أحمد بن حنبل عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ماء البحر، فقال: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه " والدارقطني كذلك وابن حبان في "صحيحه ".
وحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الحاكم في "المستدرك " والدارقطني في "سننه " من حديث الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه مرفوعا سواء وسكت الحاكم عنه.
وحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند عبد الرزاق في "مصنفه " والدارقطني في "سننه " عن أنس عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مثله، وفي إسناده أبان وهو متروك قاله الدارقطني.
وحديث ابن عباس عند الدارقطني من حديث موسى بن سلمة عن ابن عباس مرفوعا نحوه، ثم قال: والصواب موقوف ورواه الحاكم في "المستدرك " وسكت [عنه] .(1/355)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحديث عبد الله بن عمرو عند الدارقطني أيضا من جهة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا نحوه، ورواه الحاكم في "المستدرك " وسكت عنه.
وحديث ابن الفراسي عند ابن عبد البر المعتد بإسناده عن مسلم بن يحيى أنه حدث أن «الفراسي قال كنت أصيد في البحر الأخضر على أرماث وكنت أحمل قربة لي فيها ماء فإذا لم أتوضأ من القربة أمس وقف ذلك لي ونصب لي ذلك بي وبقيت لي فجئت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقصصت ذلك» .
وقال عبد الحق في "أحكامه ": حديث الفراسي هذا لم يروه فيما أعلم إلا بكر بن سوادة، وقال ابن القطان في كتابه: وقد خفي على عبد الحق ما فيه من الانقطاع فإن ابن يحيى لم يسمع من الفراسي، وإنما يرويه عن ابن الفراسي عن أبيه.
ويوضح ذلك ما حكاه الترمذي في "علله " قال: سألت محمد بن إسماعيل عن حديث ابن الفراسي في ماء البحر، فقال: حديث مرسل لم يدرك ابن الفراسي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وابن الفراسي له صحبة فمسلم بن يحيى إنما يرويه عن ابن الفراسي وروايته عن الأب مرسلة، وحديث ابن الفراسي رواه ابن ماجه في "سننه " عن مسلم بن يحيى «عن ابن الفراسي قال: كنت أصيد وكانت لي قربة أجعل فيها ماء، وإني توضأت بماء البحر فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته» وقال البخاري إن مسلم بن يحيى لم يدرك الفراسي نفسه وإنما يروي عن ابنه وإن الابن ليست له صحبة.
وحديث أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الدارقطني من حديث عبد العزيز عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ماء البحر الحديث» عبد العزيز بن عمران وهو ابن أبي ثابت، قال الذهبي: مجمع على ضعفه.
ثم أخرجه عن عبيد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن عمرو بن دينار عن أبي الطفيل عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - موقوفا، قال الذهبي: هذا سند صحيح واسم الرجل الذي سأل قيل(1/356)
ومطلق الاسم يطلق على هذه المياه. قال: ولا يجوز بما اعتصر من الشجر والثمر؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عبيد وقيل عبد العزيز، وفي الحديث دليل على جواز ركوبه إلا في حال ارتجاجه، وتوقفهم على الوضوء به إما لكونه لا يشرب أو لكونه طبق جهنم على ما ورد.
فإن قلت: ما الحكمة في أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل: نعم عند سؤال الرجل، قلت: لو قال: نعم لم يجز الوضوء به إلا للضرورة، لأنه سأله بصفة الضرورة، وكان يرتبط نعم بسؤاله فاستأنف بيان الحكم لجواز الوضوء به مطلقا.
فإن قلت: لم يسأله عن السمك فكيف زاد بيان حكمه، قلت: لأن حاجة الناس إلى ذلك ولا يركبون البحر في بعض الأوقات إلا للصيد ولا سيما ركوب السائل كان لأجل الصيد وهو زيادة من الشارع حملا له على الجواب.
ومن الناس من كره الوضوء بماء البحر المالح لحديث ابن عمرو أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله فإن تحت البحر نارا أو تحت النار بحرا» أخرجه أبو داود متفردا به، وكان ابن عمر لا يرى جواز الوضوء ولا الغسل به عن جنابة، وكذا عن أبي هريرة وعن أبي العالية أنه كان يتوضأ فيه ويكره الوضوء بماء البحر لأنه طبق جهنم، وما كان طبق جهنم لا يكون طريق طهارة ورحمة على قوله: على أرماث بفتح الهمزة وسكون الراء وبعد الألف ثاء مثلثة جمع رمث بفتحتين، وهو خشب ضم بعضه إلى بعض ويركب في البحر.
[الوضوء بما اعتصر من الشجر والثمر]
م: (ومطلق الاسم يطلق على هذه المياه) ش: أي يطلق اسم الماء في الآية والحديثين المذكورين، ويطلق الاسم المتعرض للذات دون الصفات لا بالنفي ولا بالإثبات والمراد بالمطلق هنا ما سبق إلى الأفهام عند استعمال لفظ الماء. وقال الأترازي: وجه التمسك بالآية والحديث أن الماء لما ذكر فيهما مطلقا من غير قيد بواحد من هذه المياه، والمطلق ينصرف إلى تقدير البلد.
م: (ولا يجوز) ش: أي الطهارة م: (بما اعتصر من الشجر والثمر) ش: ما اعتصر بالقصد على أن ما موصولة. قال الأكمل: هكذا المسموع. وقال تاج الشريعة: ما اعتصر غير ممدود وكذا قال في " المستصفى ". وقال السغناقي: بالقصر لأنها موصولة وإن كان يصح معنى الممدود، ولكن المنقول هو الموصولة، ولأن في الممدود وهم جواز التوضؤ بماء العصر هو بنفسه وليس الأمر كذلك وقال الأترازي لا نسلم، ولئن سلمنا الوهم، لكن لا يجوز التوضؤ بالعصر بنفسه من غير إعصار، لأنه خارج بلا علاج كما ذكره في المتن حيث قال:(1/357)
لأنه ليس بماء مطلق، والحكم عند فقده منقول إلى التيمم،
والوظيفة في هذه الأعضاء تعبدية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما الذي يقطر من الكرم، على ما يجيء، يعني الماء الذي يخرج منه بالتقاطر يجوز التوضؤ به ذكره في جامع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه ماء خرج من غير علاج.
وفي " المحيط " لا يتوضأ بماء خرج من الكرم لكمال الامتزاج. وقال بعضهم: إذا قيل بالمد لوقع في الوهم أن المراد الماء المطلق. قال الأترازي: لا نسلم لأنه قيده بصفة الاعتصار فكيف يقع وهم الإطلاق لأنه عند إطلاق الماء لا يطلق عليه، مثلا: إذا كان في بيت شخص ماء بئر أو بحر أو عين وماء اعتصر من الشجر أو الثمر فقال لأحد هات لي ماء لا يسبق إلى ذهن المخاطب إلا الأول، ولا يعني بالمطلق أو المقيد إلا هو والإضافة نوعان: إضافة تعريف كغلام زيد، وأنه لا يغير المسمى، وإضافة تقييد كماء العنب، وأنه بغيره لأنه لا يفهم من مطلق اسم الماء، ولهذا يصح أن يقال: فلان لم يشرب الماء. وإن كان يشرب ماء العنب وماء الباقلاء والحقيقة لا تنفي عن المسمى بالإضافة إلى الماء وأخواته من القسم الأول وإضافته إلى المعتصر من الثاني.
م: (لأنه ليس بماء مطلق) ش: إذ لا يفهم بمطلق قولنا الماء م: (والحكم عند فقده) ش: أي عند فقد الماء المطلق، وأراد بالحكم الطهارة م: (منقول إلى التيمم) ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) ومن ضرورة النقل عدم جواز استعمال هذه المائعات، والأصل في هذا أن التوضؤ به جائز ما دامت صفة الإطلاق باقية ولم يخالطه نجاسة، وإن زالت صفة الإطلاق لا يجوز التوضؤ به أو زوالها بغلبة الممتزج وبكمال الامتزاج، وغلبة الممتزج بكثرة الأجزاء، وكمال الامتزاج بطبخ الماء بالمخلوط الطاهر أو يشرب الشارب الماء حتى يبلغ الامتزاج مبلغا يمنع خروج الماء منه إلا بعلاج، والامتزاج بالطبخ إنما يمنع التوضؤ به إذا لم يكن ذلك الامتزاج المقصود للغرض المطلوب وهو التنظيف، وأما إذا كان كالأشنان إذا خلط بالماء فإنه يجوز التوضؤ به، والامتزاج: الاختلاط بين الشيئين بحيث يسع أحدهما في الآخر حتى يمنع التمييز، فإذا عرف هذا فلا يجوز التوضؤ بما اعتصر.
م: (والوظيفة في هذه الأعضاء تعبدية) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال إن الماء المعتصر من الشجر أو الثمر وإن لم يكن ماء مطلقا لكنه في معناه في الإزالة، فيلحق بالمطلق كما ألحقه أبو حنيفة وأبو وسف - رحمهما الله - بالمطلق في إزالة النجاسة الحقيقية فيجب أن يكون في الحكمية كذلك.
وتقدير الجواب أن يقال: إن الوظيفة في هذه الأعضاء الأربعة في الوضوء تعبدية يعني غير معقولة لأن الله تعالى أمرنا بذلك وعبدنا به، فيجب علينا الامتثال من غير أن يدرك معناه، لأن أعضاء الحدث غير نجسة حقيقة لعدم إصابتها، وحكما لجواز صلاة حامل الجنب أو المحدث(1/358)
فلا تتعدى إلى غير المنصوص عليه.
وأما الماء الذي يقطر من الكرم فيجوز التوضؤ به، لأنه ماء خرج من غير علاج، ذكره في جوامع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وتطهير الطاهر محال ولكنه أمر تعبدي كما ذكرنا م: (فلا تتعدى إلى غير المنصوص عليه) ش: لأن شرط القياس أن لا يكون حكم الأصل معدولا به عن القياس، وليس فيما نحن فيه كذلك فلا يصح القياس بخلاف إزالة النجاسة الحقيقية، فإنها معقولة المعنى لوجوبها حسا فجاز فيها الإلحاق.
فإن قلت: إن لم تمكن التعدية بطريق القياس يلتحق بالدلالة فإنه كونه معقولا ليس بشرط فيه، قلت: سائر المائعات ليس في معنى الماء من كل وجه لأن الماء مبذول عادة لا يبالي نجسه، وسائر المائعات ليس كذلك.
فإن قلت: كيف ألحقته به في النجاسة الحقيقية، قلت: قياسا لا دلالة لأنه معقول المعنى.
فإن قلت: من شرط الدلالة أن يكون الملحق به في معنى الوصف الذي هو مناطق الحكم في كل وجه لا غير، والوصف فيما نحن فيه هو إزالة النجاسة والماء والمائع في ذلك سيان، وكون الماء مبذولا لا دخل له في ذلك، قلت: إنهما سيان في إزالة النجاسة الحقيقية أو مطلقا فالأول مسلم وليس الكلام فيه، والثاني ممنوع.
فإن قلت: إذا كان الغسل في هذه الأعضاء تعبديا يلزم أن تكون النية فيه شرطا، وقد قلتم: إن الماء مزيل للحدث بالطبع فيلزم أن يكون مائعا كذلك لأنه مزيل بالطبع.
قلت: إنما يكون مزيلا بالطبع إذا كان المزال نجاسة حقيقية، وأما لو كانت نجاسة حكمية فلا يكون كذلك ولكن يلزم عليه الوضوء، فإن المزال فيه حكمي فينبغي أن يشترط فيه النية.
فإن قلت: غسل النجاسة بالماء المطلق على خلاف القياس لأنه يقتضي تنجيسه بأول الملاقاة وقد عديتم إلى المائعات الطاهرة.
قلت: المزال من النجاسة مشاهد فلما ترك القياس في حق الماء للضرورة يترك في حق غيره مما يعمل عمل الماء، وكذا عند ورود النجاسة على الماء في غسل الثوب النجس في الإجابات الثلاث حتى خرج من الثالثة طاهرا.
[الوضوء بالماء الذي يقطر من الكرم]
م: (أما الماء الذي يقطر من الكرم فيجوز التوضؤ به لأنه ماء خرج من غير علاج) ش: هذا كأنه جواب عما يرد على قوله ولا يجوز بماء اعتصر من الشجر والثمر، فلذلك قال: وأما الماء الذي يقطر بكلمة أما، وقد ذكر في " المحيط " لا يتوضأ بما يسيل من الكرم لكمال الامتزاج وهذا المنقول عن شمس الأئمة م: (ذكره في جوامع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ذكر فيه ضميرا مرفوعا(1/359)
وفي الكتاب إشارة إليه حيث شرط الاعتصار،
ولا يجوز بماء غلب عليه غيره فأخرجه عن طبع الماء كالأشربة والخل وماء الورد وماء الباقلا والمرق وماء الزردج.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنصوبا، أي ذكر أبو يوسف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في "جوامعه " جواز الوضوء بالماء الذي يقطر من الكرم أياما، وهو أيام تنظيف فروعه من أطرافه ليقوي الأصول، وتطرح العنب كثيرا.
فإن قلت: فيه إضمار قبل الذكر. قلت: جاز ذلك للقرينة كما في قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] (ص: الآية 32) أي الشمس ويجوز أن يكون الضمير المرفوع فيه راجعا إلى جمع الجوامع آخذا عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وفي الكتاب) ش: أي القدوري م: (إشارة إليه) ش: أي إلى جواز التوضؤ بالماء الذي يقطر من الكرم م: (حيث شرط الاعتصار) ش: لأن الذي يقطر من الكرم منعصر بنفسه لا معتصر، ويجوز أن يقرأ شرط على صيغة المعلوم وعلى صيغة المجهول، ففي المعلوم يعود الضمير الذي فيه إلى القدوري بقرينة قوله في الكتاب لأن الألف واللام فيه بدل من المضاف إليه، أي وفي كتاب القدوري، ويكون الاعتصار منصوبا على أنه مفعول شرط وفي المجهول يكون الاعتصار على أنه نائب عن الفاعل وذكر المفعول مطوي.
[الطهارة بماء غلب عليه غيره]
م: (ولا يجوز) ش: أي الطهارة م: (بماء غلب عليه غيره) ش: أي غير الماء من المائعات الطاهرة م: (فأخرجه عن طبع الماء) ش: هذا كالتفسير لكونه غلب على غيره، فلذلك ذكره بالفاء التفسيرية وطبع الماء كونه مرويا، لأنه يقطع العطش، وقيل قوة نفوذه، وقيل: كونه غير متلون، وقيل: ما يبقى له أثر الغليان والإخراج عن طبعه أن لا يبقى له أثر بالغليان م: (كالأشربة والخل وماء الورد وما الباقلاء) ش: بالمد وتخفيف اللام وإذا شدد اللام قصر الحاصل أن فيه لغتين ونظيره المزغر أو المزغري بكسر الميم وفتحها ذكره في الفصيح.
م: (والمرق وماء الزردج) ش: بفتح الزاي وسكون الراء وفتح الدال المهملة وفي آخره جيم وهو ما يخرج من العصفر المنقوع يطرح ولا يصبغ به ذكره المطرزي. وقيل: ماء عروقه الزعفران. قال الأترازي: كأنه معرب. قلت: هو معرب زرده.
واعلم أن قوله: كالأشربة اه. إن أراد به الأشربة المتخذة من الشجر كشراب الرمان والحماض وبالخل الخالص، كان من نظير المعتصر من الشجر والثمر، وكان ماء الباقلا والمرق نظير الماء الذي غلب عليه غيره، وكان فيه صفة اللف والنشر وهو أن يلف شيئين ثم ينشرهما، نظيره من التنزيل {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73] (القصص: الآية 73) وإن أراد بالأشربة الحلو المخلوط به والخل المخلوط بالماء كانت الأربعة كلها نظير الماء الذي غلب عليه غيره.(1/360)
لأنه لا يسمى ماء مطلقا. والمراد بماء الباقلا وغيره ما تغير بالطبخ. وإن تغير بدون الطبخ يجوز التوضؤ به.
قال: ويجوز الطهارة بماء خالطه شيء طاهر فغير أحد أوصافه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأنه) ش: أي لأن الماء الذي غلب عليه غيره، أو لأن كل واحد من هذه الأشياء المذكورة م: (لا يسمى ماء مطلقا) ش: لأن مطلق الشيء ما يتبادر إليه الفهم عند ذكره، والفهم لا يتبادر إلى هذه المياه عند ذكر الماء م: (والمراد بماء الباقلاء ما تغير بالطبخ) ش: بأن صار ثخينا حتى صار كالمرق حتى إذا طبخ ولم يثخن ورقة الماء فيه باقية يجوز الوضوء به م: (وإن تغير) ش: أي ماء الباقلاء م: (بدون الطبخ يجوز التوضؤ به) ش: لإطلاق اسم الماء عليه لغلبة الماء.
[الطهارة بالماء الذي خالطه شيء طاهر فغير أحد أوصافه]
م: (ويجوز الطهارة بماء خالطه شيء طاهر فغير أحد أوصافه) ش: وهي اللون والطعم والريح، وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز التوضؤ به إذا غير وصفين، ولكن الرواية الصحيحة بخلافها، ألا ترى إلى ما قال في " شرح الطحاوي "، وأما الحوض والبئر إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه إما بمرور الزمان أو بوقوع الأوراق كان حكمه حكم الماء المطلق، ولا شك أن الماء إذا تغير لونه تغير طعمه أيضا، ولكن يشترط أن يكون باقيا على رقته، أما إذا غلب عليه غيره وصار به ثخينا فلا يجوز.
وفي الرواية في قوله: فغير أحد أوصافه إشارة إلى أنه إذا تغير اثنان أو ثلاثة لا يجوز التوضؤ به، وإن كان المغير طاهرا لكن صحة الرواية بخلافه، وكذا عن الكرخي وفي " المجتبى " لا يقبل التغير به حتى لو غير الأوصاف الثلاثة بالأشنان أو الصابون أو الزعفران أو الأوراق أو اللبن ولم يسلب اسم الماء عنه ولا معناه فإنه يجوز التوضؤ به.
وفي " زاد الفقهاء ": الماء المغلوب من الخلط الطاهر يلحق بالماء المقيد غير أنه يعتبر الغلبة أولا من حيث اللون ثم من حيث الطعم ثم من حيث الإجزاء. فإن كان لونه مخالف للون الماء كاللبن والعصير والخل وماء الزعفران فالعبرة باللون، فإن غلب لون الماء يجوز وإلا فلا، فإن توافقا لونا لكن تفاوتا طعما كماء البطيخ والمشمش والأنبذة فالعبرة للطعم، إن غلب طعم الماء يجوز وإلا فلا، وإن توافقا لونا وطعما كماء الكرم فالعبرة للإجزاء.
وسئل المداني عن الماء الذي يتغير لونه بكثرة الأوراق في الكف إذا رفع منه هل يجوز التوضؤ به قال: لا، ولكنه يجوز شربه وغسل الأشياء. وفي " فتاوي قاضيخان " إذا طبخ بما يقصد به المبالغة في التنظيف كالسدر والحرض، فإن تغير لونه ولكن لم تذهب رقته يجوز التوضؤ به، ولو صار ثخينا مثل السويق لا يجوز.
فإن قلت: قد ذكر من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه» وذلك يقتضي عدم التوضؤ به عند تغير أحد الأوصاف.(1/361)
كماء المد والماء الذي اختلط به الزعفران أو الصابون أو الأشنان قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجري في المختصر ماء الزردج مجرى المرق. والمروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه بمنزلة ماء الزعفران هو الصحيح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير.» الحديث، أي لا ينجسه شيء نجس وكلامنا في المختلط الطاهر هكذا أجاب الأكمل، وتبع في ذلك تاج الشريعة فإنه أيضا قال المعنى إلا ما غيره شيء نجس فيكون معناه حينئذ لا ينجسه شيء إلا بالمتغير النجس وهذا لأنه ورد في الماء الجاري ولا يجوز استعماله حيث ترى فيه النجاسة أو يوجد طعمها أو ريحها لأنه يدل على قيام النجاسة، وأجاب الأترازي بجوابين أحدهما مما ذكرنا والآخر إن الشرط لم يصح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: في الجميع نظر، أما في كلام الأكمل فلأن الحديث عام والتخصيص بلا مخصص لا يجوز، وأما في كلام تاج الشريعة: فلأن دعواه بأنه ورد في الماء الجاري لم يثبت، ومن ذكر هذا من شراح الحديث، وأما كلام الأترازي فلأن الشرط أراد به إلا ماء غير طعمه أو لونه أو ريحه لم يصح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن لم يصح مسندا فقد صح مرسلا كما ذكره والمرسل حجة عندنا.
م: (كماء المد) ش: أي السيل لأنه يجيء بتغير طين هذا إذا كان رقة الماء غالبة وإن كان الطين غالبا لا يجوز الوضوء به كذا في " الذخيرة " م: (والماء الذي اختلط به الزعفران أو الصابون أو الأشنان) ش: بضم الهمزة وكسرها حكاهما الجوالقي وأبو عبيدة، وهو معرب وهو الحرض بضم الحاء وسكون الراء المهملتين وفي آخره ضاد معجمة. وعن أبي يوسف ماء الصابون إذا كان ثخينا قد غلب على الماء لا يتوضأ به وإن كان رقيقا يجوز وكذا ماء الأشنان.
وعن أبي يوسف إذا طبخ الآس أو البابونج في الماء وغلب عليه حتى يقال ماء الآس والبابونج لا يجوز الوضوء بهما. وفي " الفتاوى الظهيرية " إذا طرح الزاج في الماء حتى اسود جاز الوضوء به، وكذا العفص إذا كان الماء غالبا.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي المصنف م: (أجري في المختصر) ش: أي أجري أبو الحسن القدوري في كتابه المختصر المسمى بالقدوري م: (ماء الزردج مجرى المرق) ش: أي جعل حكمها واحدا، حيث لا يجوز التوضؤ بها م: (والمروي عن أبي يوسف بمنزلة ماء الزعفران) ش: حيث يجوز التوضؤ بها م: (هو الصحيح) ش: أي المروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو الصحيح. وقال السغناقي في قوله هو الصحيح احتراز عن قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإنه يعتبر العلة بتغير اللون والطعم والريح كذا في " فتاوى قاضيخان ". وقال الأترازي أنا أقول لا خلاف في هذه المسألة في الحقيقة اه. حاصله يقتضي إلى أنه إن كان المراد به ما إذا كان الماء مغلوبا بماء الزردج فلا خلاف بينهما ثم قال في آخر كلامه فافهم، فإنه غفل عنه الشارحون.(1/362)
كذا اختاره الناطفي والإمام السرخسي، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز التوضؤ بماء الزعفران وأشباهه مما ليس من جنس الأرض؛ لأنه ماء مقيد، ألا ترى أنه يقال ماء الزعفران.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا الموضع ليس من المواضع التي فيها غموض حتى ينسب الغفلة إلى الشراح م: (كذا اختاره الناطفي) ش: أي كذا اختار المروي عن أبي يوسف الإمام الناطفي، وهو أبو العباس أحمد بن محمد بن عمرو الناطفي أحد الأئمة الأعلام، وصاحب " الواقعات " و " النوازل " ومن تصانيفه " الأجناس " و " الفروق " والواقعات "، مات بالري سنة ست وأربعين وأربعمائة، ونسبه إلى عمل الناطف وبيعه، وهو تلميذ الشيخ أبي عبد الله الجرجاني، وهو تلميذ أبي بكر الجصاص الرازي، وهو تلميذ الشيخ أبي الحسن الكرخي، وهو تلميذ أبي حازم القاضي، وهو تلميذ عيسى بن أبان، وهو تلميذ محمد بن الحسن. م: (والإمام السرخسي) ش: هو شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي، وهو تلميذ الإمام محمد بن الفضل البخاري، وهو تلميذ الشيخ عبد الله بن يعقوب السيد مولى، وهو تلميذ عبد الله بن أبي حفص الكبير وهو تلميذ أبيه وشيخه أبي حفص الكبير وهو تلميذ محمد بن الحسن - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، والإمام السرخسي هو صاحب " المبسوط " أملاه وهو في السجن باذر جند، وهو من كبار علماء ما وراء النهر صاحب الأصول والفروع كان إماما حجة من فحول الأئمة ذا فنون.
مات في حدود الأربعمائة وعشرين، ونسبته إلى سرخس بفتح السين والراء المهملتين ثم خاء معجمة ساكنة وفي آخره سين مهملة مدينة من مدن خراسان بين نيسابور ومرو في أرض سهلة.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز التوضؤ بماء الزعفران وأشباهه مما ليس من جنس الأرض) ش: كماء الصابون والأشنان ونحوهما م: (لأنه) ش: أي لأن ماء الزعفران ونحوه م: (ماء مقيد) ش: لأنه قيد بشيء آخر فخرج عن الإطلاق، ثم أوضح ذلك بقوله م: (ألا ترى أنه يقال ماء الزعفران) ش: بالإضافة فصار مقيدا فلا يجوز التوضؤ به. ومذهب الشافعي على التحرير أن الماء إذا تغير أحد أوصافه مما لا يمكن حفظ الماء عنه كالطحلب وما يرى على الماء من الملح والنورة وغيرهما جاز الوضوء به لعدم إمكان صون الماء عنه، وإن كان مما يمكن حفظه منه فإن كان ترابا طرح فيه فكذلك لأنه يوافق الماء في كونه مطهرا فهو كما لو طرح فيه ماء آخر فتغير به، وإن كان شيئا سوى ذلك كالزعفران والطحلب إذا رق وطرح فيه وغير ذلك مما يتغير الماء منه لم يجز الوضوء به، لأنه زال إطلاق اسم الماء بمخالطة ما ليس بطاهر والماء مستغن عنه فصار كاللحم والمائع المخالط بالماء إن قل جازت الطهارة به وإلا فلا. وبماذا تعرف القلة والكثرة ينظر فإن خالفه في بعض الصفات فالعبرة بالتغير، فإن غيره فكثير وإلا فقليل، وإن وافقه في صفاته كماء الورد وانقطعت رائحته، وفيما يعتبر به القلة والكثرة فيه وجهان:(1/363)
بخلاف أجزاء الأرض لأن الماء لا يخلو عنها عادة. ولنا أن اسم الماء باق على الإطلاق، ألا ترى أنه لم يتجدد له اسم على حدة وإضافته إلى الزعفران كإضافته إلى البئر والعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما إن كانت الغلبة للماء جازت الطهارة به، وإن كانت المخالطة لم تجز. ومنهم من قال إذا كان ذلك قدرا لو كان مخالفا للماء في صفاته ولم يغيره لم يمنع، ولو خالط الماء المطلق ماء مستعمل فطريقان أصحهما كالمائع وفيه وجهان وبهذا قطع جمهورهم وصححه الرافعي.
والثاني وفي " شرح الوجيز " ما تفاحش بغيره مما يستغني الماء عنه حتى زايله اسم الماء المطلق وإن لم يتجدد اسما آخر كالمتغير بالصابون والزعفران الكثير وأجناسهما سلب اسم الماء عنه لم تجز الطهارة به.
وفي " الحلية " وبه قال مالك وأحمد وعند الشافعي لو طرح فيه التراب فتغير الوضوء جائز به على الأظهر، وحكي فيه قولان، ولو طرح فيه الملح فتغير به جاز وعند بعض أصحابه لا يجوز، ولو تغير بعود أو دهن طيب فقال المزني يجوز الوضوء به، وقال البويطي لا يجوز. ولو وقع فيه الكافور فتغير به ريحه فيه وجهان. ولو وقع فيه قطران فغيره قال الشافعي في " الإمام ": لا يجوز الوضوء به، وقال بعده بأسطر لا يجوز، ولو تغير بطول المكث يجوز الوضوء به. وعن ابن سيرين لا يجوز. وشذ الحسن بن صالح بن حسن وجوز الوضوء بالخل وما جرى مجراه.
م: (بخلاف أجزاء الأرض) ش: كالطين والجص والنورة والكحل م: (لأن الماء لا يخلو عنها عادة) ش: أي لا يخلو عن أجزاء الأرض، وفي بعض النسخ عند ذكره باعتبار اللفظ.
م: (ولنا أن اسم الماء باق على الإطلاق) ش: بعد زوال صفته بمخالطة طاهر م: (ألا ترى أنه لم يتجدد له اسم على حدة) ش: كما تجدد لماء الورد ونحوه قوله على حدة أي منفردا، وأصله وحده حذفت منه الواو تبعا لفعله كما في عدة ثم عوض عنها الهاء ولكن بعد نقل حركة فاء الفعل إلى عين الفعل.
م: (وإضافته) ش: أي إضافة الماء م: (إلى الزعفران كإضافته إلى البئر والعين) ش: هذا جواب عما قاله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تعليله بقوله - لأنه ماء مقيد ألا ترى أنه يقال له ماء الزعفران - تقديره أن يقال إن الألفاظ لا تغير عن المسميات وحيث لم يتجدد له اسم آخر دل على عدم اختلاف المسمى فتكون إضافته إلى الزعفران كإضافته إلى البئر.
والحاصل أن الإضافة هنا للتعريف لا للتقييد والفرق بينهما أن المضاف إذا لم يكن خارجا من المضاف إليه بالعلاج فالإضافة للتعريف، وماء الزعفران وماء البئر وماء العين من هذا القبيل وإن كان خارجا منه فهي للتقييد كماء الورد ونحوه والتغير في اللون موجود في بعض المياه المطلقة نحو ماء المد والواقعة فيها الأوراق، وكذا ماء بعض البيار يضرب في السواد فلا يخرج عن(1/364)
ولأن الخلط القليل لا يعتبر به لعدم إمكان الاحتراز عنه كما في أجزاء الأرض فيعتبر الغالب، والغلبة بالأجزاء لا بتغير اللون هو الصحيح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كونه مطلقا.
فإن قلت: لم يتجدد لماء البقلاء اسم على حدة ومع هذا لا يجوز التوضؤ به، قلت المضاف هنا خارج من المضاف إليه بالعلاج كما ذكرنا فلا يجوز وإن لم يتجدد له اسم وقال تاج الشريعة: الدليل يقتضي الجواز ولكن الطبخ والخلط يبينان نقصانا في كونه مائعا.
م: (ولأن الخلط القليل) ش: هذا دليل ثان وهو أن الاعتبار للخلط ينظر إن كان قليلا م: (لا يعتبر به لعدم إمكان الاحتراز عنه كما في أجزاء الأرض) ش: نحو الطين والجص والنورة، فإن التوضؤ بالماء الذي اختلط به هذه الأشياء يجوز بالاتفاق إذا كان الخلط به قليلا لأن الصفرة قليل، وإن كان كثيرا لا يجوز كماء الزعفران أيضا إذا غلب عليه الزعفران كماء الأترج. ثم تعرف القلة أو الكثرة بالغلبة أشار بقوله م: (فيعتبر الغالب) ش: لقوله ثم الغلبة لما كانت على قسمين أحدهما الغلبة بالأجزاء والآخر الغلبة باللون، ولما كان الاعتبار للقسم الأول أشار بقوله م: (والغلبة بالأجزاء) ش: أي بأجزاء المخالط والمخلوط فإن كانت أجزاء الماء غالبة جاز الوضوء به وإن كانت أجزاء الذي اختلط به غالبة فلا يجوز.
فإن قلت: بما تعلم ذلك، قلت ببقائه على رقته أو تجربته، فإن كانت رقته باقية جاز الوضوء به، وإن صار ثخينا بحيث زالت عنه رقته الأصلية لم يجز.
م: (لا بتغير اللون) ش: يعني لا تعتبر الغلبة بتغير اللون كما ذهب إليه محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ثم أشار إلى الغلبة بالأجزاء أن الغلبة للأجزاء وهي المعتبرة بقوله م: (هو الصحيح) ش: لأنه حينئذ ينتفي عنه اسم الماء، وأشار به أيضا إلى نفي قول محمد، واعلم أن الماء إذا اختلط بشيء طاهر لا يخلو إما أن يكون لونه الماء أو مخالفا له، فإن كان مخالفا كاللبن والخل والعصير وماء الزعفران والمعصفر وما أشبههما فالعبرة للون، فإن غلب لون الماء يجوز الوضوء به وإن كان مغلوبا فلا يجوز وإن كان موافقا كماء البطيخ والأشجار فالعبرة بالطعم إن كان طعم الماء غالبا يجوز وإلا فلا، وإن لم يكن له طعم فالعبرة لكثرة الأجزاء فإن كان أجزاء الماء أكثر يجوز التوضؤ به وإلا فلا والماء الكثير المنتن إن كان نتنه من نجاسة لا يتوضأ به وإن لم يعلم يجوز. ولا يلزمه السؤال عنه لأن الطهارة أصل ولعل نتنه بمكثه كما قيل الماء إذا سكن سنة تحرك نتنه، وإن طال مكثه ظهر خبثه وفي " شرح مختصر الطحاوي " الماء الطاهر اختلط به نجس حتى صار طينا أو كان الماء نجسا والتراب طاهرا قال أبو بكر الإسكاف العبرة بالماء إن كان طاهرا فالماء طاهر، وإن كان نجسا فالطين نجس ولا ينظر إلى طهارة التراب ونجاسته وقال أبو نصر محمد بن محمد بن سلام: العبرة بالطهارة منهما أيهما كان طاهرا فالكل طاهر، وقال أبو القاسم الصفار: العبرة للنجس منهما(1/365)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أيهما كان نجسا فالطين نجس، وبه أخذ أبو الليث وقال في " المحيط " هذا هو الصحيح. وقيل عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الطين نجس وعند محمد طاهر، وفي " الملتقطات " إذا جعل السرقين في الطين فالطين لا ينجس للضرورة.
فروع: خمر وقعت في ماء، وجعلت في وعاء، ثم تخللت طهرت، حوض ينزل إليه الماء من الأنبوب ويغترف الناس منه متداركا لا ينجس كالجاري ولا يجوز الوضوء بماء الملح وهو يجمد في الصيف ويذوب في الشتاء عكس الماء، ولا بأس بالوضوء من جب كورة في نواحي الدار ما لم ينجسه بالحرج والطهارة أصل. وإن أدخل جنب يده في كوز ماء ولم يعلم على يده نجاسة فالمستحب ترك الوضوء به لأنه لا يبقى النجاسة عادة، وإن توضأ أجزأه للأصل. وذكر الحاكم الشهيد عن أبي يوسف فيمن أخذ بفمه ماء من إناء فغسل يده وجسده أو توضأ به لم تجز، ولو غسل به نجاسة في يده أجزأة البزاق والنخامة والمخاط يقع في إناء الوضوء يجوز التوضؤ به محدث معه ماء قليل وعلى يده نجاسة يأخذ الماء بفمه من غير أن ينوي غسل فمه ثم يغسل يده.
قال أبو جعفر على قول محمد: لا تطهر يده لأن الماء خالط البزاق فخرج من أن يكون مطلقا فالتحق بسائر المائعات غير الماء كالخل وماء الورد، وغسل اليدين بسائر المائعات غير الماء المطلق فيه روايتان عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية يطهر كالثوب، وفي رواية لا يطهر بخلاف الثوب وعن محمد رواية واحدة أن البدن لا يطهر بخلاف الثوب فإنه يطهر بالاتفاق.
التوضؤ بالثلج يجوز إن كان ذائبا يتقاطر، وإلا فلا وعلى هذا التيمم حال وجود الثلج إن كان ذائبا لا يجوز التيمم.
إذا أصاب بعض بدنه بول فبل يده ومسحها على ذلك الموضع إن كانت البلة من يده متقاطرة جاز وإلا فلا، والسيل شرط في ظاهر الرواية فلا يجوز الوضوء ما لم يتقاطر الماء. وعن أبي يوسف أنه ليس بشرط وفي مسألة الثلج إذا قطر قطرتان فصاعدا جاز اتفاقا وإلا فعلى قولهما لا يجوز وعلى قول أبي يوسف يجوز. فروع أخر: لا يكره الوضوء والاغتسال بماء زمزم. وعن أحمد يكره وفي " القنية " يكره الطهارة بالماء المشمس «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حين سخنت الماء بالشمس "لا تفعلي يا حميراء لا تفعلي فإنه يورث البرص» .(1/366)
فإن تغير بالطبخ بعدما خلط به غيره لا يجوز التوضؤ به؛ لأنه لم يبق في معنى المنزل من السماء إذ النار غيرته إلا إذا طبخ فيه ما يقصد به المبالغة في النظافة كالأشنان ونحوه، لأن الميت يغسل بالماء الذي أغلي [ب] السدر بذلك وردت السنة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: رواه البيهقي في "سننه " من حديث خالد بن إسماعيل عن هشام عن أبيه «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها سخنت ماء في الشمس "فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يا حميراء لا تفعلي فإنه يورث البرص» . قال ابن عدي: خالد يضع الحديث على الثقات قال الذهبي: تابع خالد أبو المجيري وهب بن وهب وهو مؤتمن وروى أيضا بإسناد منكر عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن هشام، قال الذهبي هكذا مكذوب على مالك وروى البيهقي أيضا من حديث الشافعي أخبرنا إبراهيم بن محمد أخبرني أبي صدقة بن عبد الله عن أبي الزبير عن جابر أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يكره الاغتسال بالماء المشمس. قال الذهبي: إبراهيم واه: م: (فإن تغير) ش: أي الماء م: (بعدما خلط به غيره) ش: قيد به، لأنه إذا طبخ به وحده وتغير يجوز الوضوء به م: (بالطبخ) ش: مع غيره م: (لا يجوز الوضوء به لأنه لم يبق في معنى المنزل من السماء) ش: أي في الماء لزوال صفة الماء لأن الناظر لو نظر إليه لا يسميه مطلقا.
م: (إلا إذا طبخ فيه) ش: أي في الماء والاستثناء من قوله لا يجوز التوضؤ به وطبخ على صيغة المجهول مسند إلى قوله م: (ما يقصد به المبالغة في النظافة كالأشنان ونحوه) ش: مثل السدر والخطمي ونحوهما فإنهم كانوا يغلون الماء بشيء من هذه الأشياء لأن الماء المغلي بذلك يستقضي إخراج الدرن والوسخ عن المغسول، ولكن يشترط أن لا يكون غليظا لما يأتي الآن، ثم أقام الدليل على ذلك بقوله م: (لأن الميت يغسل بالماء الذي أغلي بالسدر بذلك وردت السنة) ش: لم ترد السنة بذلك على الوجه المذكور، ولم أر أحدا من الشراح حققوا نظرة في هذا المكان.
أما السروجي قال بذلك: وردت السنة عن «أم عطية الأنصارية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: دخل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين توفيت ابنته زينب زوجة أبي العاص بن الربيع قال " اغسليها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك بماء السدر» الحديث رواه البخاري، ومسلم، وهذا الحديث لا يدل على ما ذكره المصنف أو هل فيه أن الماء أغلي بالسدر، وأي دليل دل على هذا.
وأما الأكمل فإنه قال لأن السنة وردت به في غسل الموتى بالماء الذي أغلي بالسدر وهذا أعجب من ذلك وأبعد وأما تاج الشريعة فإنه قال وردت لأن السنة في غسل الموتى أن يغلى الماء بالسدر (والحرض) فهو أيضا مثله.(1/367)
إلا أن يغلب ذلك على الماء فيصير كالسويق المخلوط لزوال اسم الماء عنه
وكل ماء وقعت النجاسة فيه لم يجز الوضوء به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما السغناقي والأترازي فبالكلية لم يحوما حوله وكذلك " صاحب الدراية ". وقال السروجي وحديث المحرم الذي وقصته راحلته قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «اغسلوه بماء وسدر» ش: الحديث رواه البخاري ومسلم، فلو سلب السدر الطهورية لما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل ويغسل رأسه بالخطمي وهو جنب ويجزئ بذلك ويصب عليه الماء» رواه أبو داود وقد «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتعفير بالتراب في ولوغ الكلب» فدل على أن المخالطة لا يسلب طهورية الماء.
قلت: حديث المحرم كيف دل على أنهم غسلوه بالماء المغلي بالسدر، وإنما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اغسلوه بماء وسدر» غاية ما دل أنه يجمع وقت الغسل بين الماء والسدر كما هو عادتهم أنهم يرشون عليه سدر أو يمعكونه ثم يسكبون عليه ماء.
وقوله: - لو سلب السدر الطهورية - إلخ. غير مستقيم على ما لا يخفى. وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أيضا لا يدل على ذلك لأنها ما قالت إنه كان يغلى الماء بالسدر. وحديث التعفير أيضا لا يدل على ذلك لأن معنى التعفير التمريغ بالتراب، وشيء معفر أو معفور أي مترب. وقال صاحب " المطالع ": يعني وعفروا الثامنة بالتراب اغسلوه بالتراب وليس فيه ما يدل على الإغلاء.
م: (إلا أن يغلب ذلك) ش: استثناء من الاستثناء وذلك إشارة إلى الذي يطبخ فيه ما يقصد المبالغة في التنظيف فإن ذلك إذا غلب م: (على الماء فيصير كالسويق المخلوط) ش: السويق قمح أو شعير يغلى ثم يطحن فتزود ويسق تارة بما يترى به أو بسمن أو بعسل وبسمن، وبنو المعسر يقولونه بالصادق قاله ابن دريد، وإذا خلط السويق بالماء لا يجوز التوضؤ به م: (لزوال اسم الماء عنه) ش: بغلبة ما اختلط به عليه.
[الوضوء بالماء الذي وقعت فيه نجاسة]
م: (وكل ماء وقعت النجاسة فيه لم يجز الوضوء به) ش: أراد بالماء ما لم يكن جاريا ولا ما في حكمه وهو الغدير العظيم لأنه يذكر الجاري فيما يأتي غير قريب. وقال السغناقي: أراد بالماء نحو الحوض الكبير الذي هو عشر في عشر. وقال الأترازي أراد بالماء الراكد الذي لا يبلغ قدر الغدير العظيم. وقال تاج الشريعة أراد من الماء الدائم الذي لم يبلغ عشرا في عشر سواء كان بئرا أو آنية أو غيرهما. وقال السروجي قوله وكل ماء. اه.
له وجهان أحدهما معناه لاقته النجاسة وحكمه أن لا يجوز به الوضوء قليلا كان أو كثيرا جاريا كان أو راكدا فعلى هذا لا مناقضة بين هذا، وبين قوله جاز الوضوء من الجانب الآخر لأنه(1/368)
قليلا كانت النجاسة أو كثيرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يلاق النجاسة.
والوجه الثاني في دفع المناقضة أن يقال المراد بالكثير ما لا يغيره وقوع النجاسة، وهو الذي جعله مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - كثيرا، أو القلتان وهو الذي جعله الشافعي كثيرا فيكون هذا لإثبات الكثير المختلف فيه فلا يتناول الذي لا تصل النجاسة فيه إلى الطرف الآخر فلا يمنع الوضوء منه.
قلت: المناقضة التي هي تقع ظاهرا بين قوله وكل ما وقعت فيه النجاسة لم يجز الوضوء به وبين قوله الغدير العظيم الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الآخر وإذا وقعت نجاسة في أحد جانبيه جاز الوضوء من الجانب الآخر، بيان ذلك أن قوله أولا وكل ماء يتناول الكلامين جميعا لأن لفظ كل إذا أضيف إلى النكرة يراد به عموم الأفراد، ففي كلامه الأول نفي الجواز، وفي الثاني أثبته وبينهما منافاة وبين الشارح دفع ذلك بالوجهين المذكورين.
م: (قليلا كانت النجاسة أو كثيرا) ش: هذه عبارة القدوري وفي بعض نسخ " الهداية " قليلا كانت النجاسة أو كثيرا، وتوجيه عبارة القدوري أن يكون الضمير في كان راجعا إلى الماء في قوله وكل ماء الذي أريد به الماء الراكد، والضمير اسم كان وخبره قوله قليلا مقدما عليه، وتوجيه النسخة الثانية أنه شبه فعيلا الذي هو بمعنى فاعل بفعيل الذي هو بمعنى مفعول كما في قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] (الأعراف: الآية 56) قال بعض شراح القدوري قليلا كان أو كثيرا إن كان وصفا للماء فالكثير من الماء لا ينجس بوقوع النجاسة فيه كالقاذورات في الحياض الكبار والبحار، وإن كان وصفا للنجاسة فلا بد من تاء التأنيث في القليل والكثير لأنه فعيل بمعنى فاعل، ثم قال هو وصف للماء لكن نفى جواز الوضوء بالمحل والجانب الذي وقعت فيه النجاسة.
ولمشايخنا في هذه المسألة قولان أن الغدير العظيم إذا وقعت فيه نجاسة هل يجوز التوضؤ من جانب الوقوع، ففي أكثر روايات الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وروايات بشر عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز، وفي ظاهر الأصول لا يجوز، وهو اختيار المصنف على ما أشار إليه في مسألة الغدير، ولم يذكر وجه كون القليل والكثير صفة للنجاسة. وقال صاحب " الدراية ": إن كان لفظ القليل صفة للماء كان الخلاف مع الشافعي، وإن كان صفة للنجاسة كان الخلاف مع مالك، فإن عنده لا ينجس الماء القليل بوقوع النجاسة إذا لم ير لها أثر.
وفي بعض أصحاب مالك القليل ينجس بالنجاسة القليلة وإن لم يتغير به، والقليل كاف للوضوء والغسل وإن كان لفظ القليل والكثير صفة للنجاسة فذكر فيما مر. وقال الأترازي بعد أن وجه كون القليل والكثير عند كونهما صفة للنجاسة بأن ذكر بالتذكير كما ذكره، وقال بعضهم:(1/369)
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز ما لم يتغير أحد أوصافه لما روينا. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز إن كان الماء قلتين؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إن قليلا لا يحتمل أن يكون صفة للماء وذلك سهو منه لأن كان تقتضي اسما وخبرا فالاسم هو النجاسة والخبر هو القليل والكثير، وإذا كان كذلك بأي توجيه يكون القليل والكثير صفة للماء.
قلت: كأنه أراد بقول بعضهم صاحب " الدراية " ونسبه إلى السهو وليس كذلك لأن مراده من قوله يحتمل أن يكون صفة للماء باعتبار اختلاف الجنسين.
م: (وقال مالك يجوز ما لم يتغير أحد أوصافه) ش: أي يجوز الوضوء بالقليل وإن وقعت فيه النجاسة ما لم يتغير أحد أوصافه وهو اللون والطعم والرائحة.
م: (لما روينا) ش: أراد به قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الماء طهور لا ينجسه شيء» الحديث، وقد مر توجيهه م: (وقال الشافعي يجوز إذا كان الماء قلتين لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا» ش: رواه الأربعة من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ورواه ابن ماجه في صحيحه ولفظه «لم ينجسه شيء» وأخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأظنه لاختلاف فيه على أبي أسامة عن الوليد بن كثير، ورواه الشافعي في "مسنده "، وأحمد في "مسنده " وابن خزيمة والدارقطني والبيهقي، ولفظ أبي داود: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث» وفي رواية له ولابن ماجه «فإنه لا ينجس» . وقال ابن المنذر: إسناده على شرط مسلم صحيح وأخرجه الطحاوي أيضا بسند صحيح ولكنه اعتل في تركه العمل به بجهالة مقدار القلتين.
واختلفوا في تفسير القلة فقيل خمس قرب كل قربة خمسون منا وقيل جرة تسعمائة وخمسة وعشرين منا، وقيل القلتان خمسمائة رطل بالبغدادي، وقيل ستمائة، وقيل ألف وهما بالمساحة ذراع وربع طولا وعرضا وعمقا هكذا قالوا، وليس محررا فإن الماء تختلف أوزانه، وفي " المغني " لابن قدامة القلة هي الجرة ويقع هذا الاسم على الصغيرة والكبيرة، والمراد من القلتين هاهنا من قلال هجر وهما خمس قرب كل قربة مائة رطل بالعراقي فتكون القلتان خمسمائة رطل، هذا هو المشهور في المذهب وعليه أكثر الأصحاب وهو مذهب الشافعي.
ووري الأثرم عن الأكمل أنهما أربع قرب وحكاه ابن المنذر أيضا عن أسامة. قلت: وهجر التي تنسب إليها القلال قرية كانت ببلاد المدينة، ويقال: الهجر التي باليمن والأول أصح.(1/370)
ولنا حديث المستيقظ من منامه وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا حديث المستيقظ من نومه) ش: قد مر في أوائل الكتاب وجه التمسك به أنه لما ورد النهي عن الغمس لأجل احتمال النجاسة فحقيقة النجاسة أولى أن يكون نجسا م: (وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة» ش: رواه بهذا اللفظ أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحديث، وهو في " الصحيحين " من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه» ، وفي لفظ: «ثم يغتسل منه» ، وفي لفظ الترمذي: «ثم يتوضأ منه» . وروى مسلم من حديث أبي السائب عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري وهو جنب" فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ فقال: "يتناوله تناولا» . قوله: فقال: كيف يفعل؟ القائل هو أبو السائب مولى هشام بن زهرة. وأخرجه الدارقطني وابن حبان نحوه.
وروي أيضا من حديث أبي الزبير عن جابر مرفوعا: «لا يبولن أحدكم في الماء الراكد» ، وروى البيهقي من حديث ابن عجلان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنه نهى أن يبال في الماء الراكد وأن يغتسل فيه من الجنابة» .
ووهم الشيخ علاء الدين التركماني في عزوه هذا الحديث لمسلم عن طلحة وإنما رواه مسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وروي بعضه عن جابر ولم يخرج مسلم لطلحة في كتابه إلا في خمسة أحاديث ليس هذا منها.
الأول: «جاء رجل من أهل نجد ثائر الرأس.» أخرجه في كتاب الإيمان وشاركه البخاري فيه.
الثاني: حديث «الصلاة إلى مؤخرة الرحل» أخرجه في الصلاة.
الثالث: «أهدي لنا طير ونحن حرم» أخرجه في الحج.
الرابع: حديث «لم يبق مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا طلحة» .
الخامس: «مررت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوم على رؤوس النخل» أخرجهما في الفضائل، فالمقلد ذهل والمقلد جهل وآفة كل شيء من التقليد، وأخرجه الطحاوي أيضا من حديث عطاء بن يسار عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ(1/371)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منه أو يغتسل فيه» وأخرجه الطبراني بهذا الطريق، وأخرجه الطحاوي أيضا من حديث عطاء بن سعيد عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه أو يشرب» . وأخرجه البيهقي أيضا نحوه.
قوله: «أو يشرب» أي منه، وجه التمسك بهذا الحديث أن الغسل من الجنابة لا يغير لون الماء ولا طعمه ولا ريحه وقد نهي عنه فإذا لا ينجسه بوقوع النجاسة بكل حال لم يكن للنهي فائدة ولا فصل في الحديث بين الدائم ودائم فهو على العموم إلا أن يصير في حكم الجاري كالحوض الكبير، ولأن الماء الذي يغتسل فيه أكثر من قلتين طاهر.
فإن قلت: الحوض الكبير دائم والحديث مطلق فيدخل تحت إطلاقه فيكون حجة عليه.
قلت: إنه في حكم الجاري في عدم اختلاط بعضه ببعض فإن قلت: يجوز أن يكون النهي فيه للتنزيه، قلت: لا يجوز لأن تأكيده وتقييده بالدائم ينافيه فإن الماء الجاري يشاركه في ذلك المعنى فإن البول كما أنه ليس باد في الماء الدائم فكذلك في الجاري فلا يكون للتقييد فائدة. وكلام الشارح مصون عن ذلك.
وزعم النووي أن النهي فيه للتحريم في بعض المياه والكراهة في بعضها، فإن كان الماء كثيرا جاريا لم يحرم البول فيه لمفهوم الحديث، ولكن الأولى اجتنابه. وإن كان قليلا جاريا فقال جماعة من أصحابنا يكره، والمختار أنه لا يحرم لأنه يقدره وينجسه على المشهور من مذهب الشافعي، وإن كان كثيرا دائما فقال أصحابنا: يكره ولا يحرم ولو قيل: يحرم لم يكن بعيدا. فقيل: إذا بال في الماء الراكد القليل فقد أطلق جماعة من أصحابنا أنه مكروه والصواب المختار أنه حرام، والتغوط فيه كالبول فيه وأقبح. وكذا إذا بال في إناء ثم صبه في الماء، قلت: زعم أنه من باب استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين وفيه من الخلاف ما هو معروف عند أهل الأصول. ثم نتكلم في ألفاظ الحديث فقوله: الدائم، أي الثابت الواقف. وقوله: الذي لا يجري تفسير للدائم وإيضاح لمعناه. قوله: أو الراكد - شك من الراوي من ركد إذا ثبت، قال الجوهري: ركد الماء ركودا ثبت وكل ثابت في مكان راكد. قوله: نهى حكاية النهي كما أن قوله: أمر حكاية الأمر، واختلفوا فيما إذا قال الصحابي أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو السنة كذا، فالمذهب عندنا أنه لا يفهم من هذا المطلق الإخبار بأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أنه سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم: ينصرف إلى ذلك عند الإطلاق، وفي الجديد قال: لا ينصرف إلى ذلك بدون البيان، لاحتمال أن يكون المراد سنة البلدان أو الرؤساء، حتى لو قال في(1/372)
من غير فصل.
والذي رواه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كل موضع: السنة في بلدنا كذا فإنما أراد سليمان بن بلال وكان عريفا بالمدينة. قوله: "ثم يغتسل فيه" برفع اللام لأنه خبر لمبتدأ أي: وهو يغتسل فيه، ويجوز الجزم عطفا على محل لا يبولن لأنه مجزوم، وعدم ظهور الجزم لأجل النون، وقد قيل: يجوز النصب بإضمار أن ويعطى له حكم الواو، قلت: هذا فاسد لأنه يقتضي أن يكون المنهي عنه هو الجمع بينهما دون إفراد أحدهما، ولهذا لم يقل به أحد بل البول فيه منهي سواء أراد الاغتسال فيه أو منه أو لا. وقال القرطبي: الصحيح يغتسل برفع اللام ولا يجوز نصبها إذ لا ينصب بإضمار أن بعد ثم وخالفه في ذلك ابن مالك وأجازه الذي ذكرناه، ويستنبط منه أحكام:
الأول: أن أصحابنا احتجوا به أن الماء الذي لا يبلغ الغدير العظيم إذا وقعت فيه نجاسة لم يجز الوضوء به قليلا كان أو كثيرا.
الثاني: استدل به أبو يوسف على نجاسة الماء المستعمل فإنه قرن فيه بين الغسل وبين البول فيه، وفي دلالة القران بين الشيئين على استوائهما في الحكم خلاف بين العلماء، فالمذكور عن أبي يوسف والمزني ذلك، وخالفهما غيرهما.
الثالث: أن هذا الحديث عام فلا بد من تخصيصه اتفاقا بالماء المستبحر الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر، وبحديث القلتين كما ذهب إليه الشافعي، أو بالعمومات الدالة على طهارة الماء ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة كما ذهب إليه مالك.
الرابع: أن المذكور فيه البول فيلحق به اغتسال الحائض والنفساء قياسا، وكذلك يلحق به اغتسال الجمعة، والاغتسال عند غسل الميت عند من يوجبها.
فإن قلت: يلحق به الغسل المسنون أم لا، قلت: من اقتصر على اللفظ فلا إلحاق عنده كأهل الظاهر، وأما من يعمل بالقياس فمن زعم أن العلة الاستعمال فالإلحاق صحيح، ومن زعم أن العلة رفع الحدث فلا إلحاق عنده، فاعتبر بالخلاف الذي بين أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - في كون الماء مستعملا كما علم في موضعه. م: (من غير فصل) ش: أي حجتنا حديث: «لا يبولن أحدكم» إلخ. فإنه على العموم من غير فصل بين دائم ودائم، وبين ما يتغير لونه وبين ما لا يتغير.
فإن قلت: ما محل هذا من الإعراب.
قلت: النصب على الحال من قوله: لا يبولن، أي حجتنا عموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حال كونه من غير فصل كما ذكرنا.
م: (والذي رواه مالك) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الماء طهور لا ينجسه شيء» وهذا جواب عن احتجاج مالك بهذا الحديث فيما ذهب إليه من جواز الطهارة من الماء القليل الذي وقعت ما لم(1/373)
ورد في بئر بضاعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يتغير أحد أوصافه م: (ورد في بئر بضاعة) ش: أي الذي رواه مالك في بئر بضاعة وهو ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج عن أبي سعيد الخدري قال: «قيل لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنتوضأ من بئر بضاعة وهي تلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والمنتن، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء» قال الترمذي: حسن، وضعفه ابن القطان للاختلاف في إسناده، فقوم يقولون: عبد الله بن عبيد الله بن رافع بن خديج، وقوم يقولون عبيد الله بن عبد الله بن رافع، وقوم يقولون: عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع، ومنهم من يقول عبد الرحمن بن رافع، قال: فتحصل فيه خمسة أقوال، وكيف ما كان فهو لا يعرف له حال ولا عين.
وله إسناد صحيح من رواية سهل بن سعد أخرجه قاسم بن أصبغ في "مصنفه. «قال سهل: قالوا: يا رسول الله إنك تتوضأ من بئر بضاعة. وفيها ما ينجي الناس والحائض والجنب فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الماء لا ينجسه شيء» . قال قاسم: هذا أحسن شيء في بئر بضاعة.
وحديث أبي سعيد أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أيضا وجوده أبو أسامة وصححه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، ورواه الطحاوي من حديث محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عبيد الرحمن عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يتوضأ من بئر بضاعة فقيل: يا رسول الله إنه يلقى فيها الجيف والمحائض، فقال: "إن الماء لا ينجسه شيء» .
وروي من طريق آخر عنه قال: «قيل يا رسول الله إنما نستقي لك من بئر بضاعة وهي بئر يطرح فيها عذرة النساء ومحائض النساء ولحوم الكلاب، فقال: " إن الماء طهور لا ينجسه شيء» .
وروي من طريق آخر عنه قال: «أتيت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يتوضأ من بئر بضاعة فقلت: يا رسول الله أتتوضأ منها وهي يلقى فيها ما يلقى من النتن، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الماء لا ينجسه شيء» .
قوله - أتتوضأ - بتاءين مثناتين من فوق خطاب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وبضاعة بضم الباء هو المشهور، وذكر الجوهري الضم والكسر وهو بالضاد المعجمة وحكي أيضا بالمهملة، وقال المنذري: بئر بضاعة دار لبني ساعدة بالمدينة وبئرها معلوم، وبها مال من أموال أهل المدينة. قيل: بضاعة اسم لصاحب البئر وقيل لموضعها، والحيض بكسر الحاء وفتح الياء جمع الحيضة بكسر الحاء وهي الخرق التي تحشو بها المرأة وتمسح بها دم الحيض. والمحائض(1/374)
وكان ماؤها جاريا في البساتين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جمع محيضة وهي مثل الحيض. والنتن الرائحة الكريهة ويقع أيضا على كل مستقبح.
قوله: - «ما ينجي الناس» - بضم الياء بعدها نون ساكنة ثم جيم من أنجى الرجل إذا أحدث.
قوله: - «لا ينجسه شيء» - نجس ينجس من باب علم يعلم نجسا ونجاسة وجاء فيه بضم الجيم في الماضي والمضارع أيضا. م: (وكان ماؤها) ش: أي ماء بئر بضاعة م: (جاريا في البساتين) ش: يسقى منه خمس بساتين، والماء الجاري لا ينجس بوقوع النجاسة فيه عندنا.
فإن قلت: العبرة لعموم اللفظ دون خصوص السبب فكيف اختص بئر بضاعة مع وجود دليل العموم وهو الألف واللام، أجيب بأنه ليس من باب الخصوص في شيء، وإنما هو من باب الحمل للتوفيق فإن الحديثين إذا تعارضا وجهل تاريخهما يعد كأنهما وردا معا ثم بعد ذلك إن أمكن التوفيق بالعمل بينهما يحمل كل منهما على محمل حسن، وإن لم يمكن يطلب الترجيح، وإن لم يمكن يتهاتران، وهاهنا أمكن العمل بأن يحمل هذا الحديث على بئر بضاعة، وحديث المستيقظ وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبولن أحدكم» الحديث على غيرها، فعملنا كذلك دفعا للتناقض.
قلت: تحقيق الكلام أن النظر إلى عموم اللفظ دون خصوص السبب إنما يكون إذا لم يرد ما يخصصه من القوة، وقد ورد هنا وهو حديث المستيقظ والأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب، والنهي عن البول في الماء الدائم، وما ورد من الأحاديث في تنجيس الماء بوقوع الحيوان فيها، فيكون خصوصه بها لدفع انتقاض فكان هذا من باب الحمل.
وقال تاج الشريعة: سمعت من الشيخ الأستاذ الإمام أن هذا النص خص بالحديثين فجاز أن يخص بالسبب، أو أن العبرة إنما تكون بعموم اللفظ، إذا كانت الألف واللام للجنس، أما إذا كانت للعهد فلا.
وقال الطحاوي: والمستحيل أن يكون سؤالهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن بئر بضاعة وجوابه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إياهم في ذلك بقوله: «إن الماء لا ينجس» وكانت النجاسة في البئر، ولكنه والله أعلم كان بعد أن أخرجت النجاسة من البئر فسألوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك والبئر تطهر بإخراج النجاسة منها فلا ينجس ماؤها الذي يطرأ عليها بعد ذلك، وذلك موضع مشكل لأن حيطان البئر لم تغسل وطينها لم يستخرج، فقال لهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الماء لا ينجس» يريد بذلك الماء الذي يطرأ بعد إخراج النجاسة منها، لأن الماء لا ينجس إذا خالطته النجاسة، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المؤمن لا ينجس» في حديث «أبي هريرة، قال: لقيت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأنا جنب، فمد يده إلي فقبضت يدي عنه، وقلت: إني جنب، فقال: "سبحان الله إن المؤمن لا ينجس» وهذا الحديث أخرجه الجماعة، وفي رواية الشيخين «إن المؤمن لا ينجس» وليس معناه أن بدنه لا ينجس وإن(1/375)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أصابته النجاسة وإنما أراد به لا ينجس بمعنى غير ذلك.
وكذلك قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الأرض لا تنجس» في حديث «وفد ثقيف لما قدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضرب لهم قبة في المسجد فقالوا يا رسول الله نحن قوم أنجاس فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنه ليس على الأرض من أنجاس الناس شيء إنما» رواه الحسن البصري مرسلا.
وروي عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن يونس عن الحسن قال: «جاء رهط من ثقيف فأقيمت الصلاة، فقيل: يا رسول الله إن هؤلاء مشركون، قال: "إن الأرض لا ينجسها شيء» وليس معناه أن الأرض لا تنجس وإن أصابتها النجاسة، وكيف يكون ذلك وقد «أمر بالمكان الذي بال فيه الأعرابي من المسجد أن يصب عليه ذنوب من ماء» والحديث صحيح.
وروى طاوس أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر بمكان أن يحض فكان معنى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن «الأرض لا تنجس» أنها لا تبقى نجسة في حال عدم كونها النجاسة فيها، فكذلك قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في بئر بضاعة «إن الماء لا ينجس» ليس هو على حال كون النجاسة فيها إنما هو على حال عدم النجاسة فيها، فهذا وجه قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في بئر بضاعة «الماء لا ينجسه شيء» .
وقال أبو نصر المعروف بالأقطع: لا يظن بالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه كان يتوضأ من بئر هذه صفاته مع نزاهته وإيثار الرائحة الطيبة ونهيه عن الامتخاط في الماء، فدل أن ذلك كان في الجاهلية فشك المسلمون في أمرها فبين أنه لا أثر لذلك مع كثرة النزح، وقال الخطابي: قد توهم بعضهم أن هذا كان لهم عادة وتعمدا وهذا لا يظن بذمي ولا وثني فضلا عن مسلم، فلم تزل عادة الناس قديما وحديثا مسلمهم وكافرهم من تنزيه الماء وصونه عن النجاسة فكيف يظن بأهل ذلك الزمان وهو أعلى طبقات أهل الدين، وأفضل جماعة المسلمين والماء ببلادهم أعز، والحاجة إليه أمس أن يكون هذا صنيعهم بالماء وامتهانهم له.
وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التغوط في موارد الماء ومشارعه» فكيف من اتخذ عيون الماء ومنابعه رصدا للأنجاس ومطرحا للأقذار، وإنما كان ذلك من أجل أن هذا البئر موضعها في حدود من الأرض، وكانت السيول تلم هذه الأقذار من الطرق والأفنية وتحملها فتلقيها فيها، وكان الماء لكثرته، وغزارته لا يتغير من ذلك، فكان من جوابه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن الماء الكثير الذي صفته هذه في الكثرة والمقدار لا تؤثر فيها النجاسة، لأن السؤال إنما وقع عن ذلك والجواب إنما يقع عنه.(1/376)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: ما الدليل على كون ماء بئر بضاعة جاريا في البساتين.
قلت: روى الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران عن أبي عبد الله محمد بن شجاع البلخي عن الواقدي أن بئر بضاعة كانت طريقا للماء إلى البساتين.
فإن قلت: كان أهل الحديث يشنعون على الواقدي تشنيعا عظيما، ونقل ابن الجوزي عن ابن عدي أنه كان يضع الحديث في السنة ينسبها إلى أهل الحديث متهما بها.
قلت: من جملة تصانيفه كتاب الرد على المشبهة، فكيف يصح هذا عنه وكان دينا صالحا عابدا.
وفي " التهذيب ": كان فقيه أهل الرأي في وقته، وصاحب التصانيف، فإن كان الواقدي مجروحا لما رواه عنه، وقال البخاري فيه: متروك الحديث، ثم عن الشافعي أنه قال: كتب الواقدي كذب، نقله البيهقي، وقال: الواقدي لا يحتج بروايته فيما يسنده فكيف فيما يرسله. وقد ضعفه يحيى وكذبه أحمد.
قلت: هذا تحامل من البيهقي على الطحاوي في هذا الموضع، والعجب منه أن يشنع هذا التشنيع والحال أنه يخبر عن مشاهدة لأنه من أهل المدينة وهو أدرى بحالها وحال آبارها من غيره، وفيه إسناد وإرسال فيقول ما يقول، وقد طبق الأرض شرقها وغربها ذكره وسارت الركبان بكتبه في فنون العلم كما ذكره الخطيب في ترجمته، وقال إبراهيم بن جابر الفقيه: سمعت الصاغاني وذكر الواقدي فقال: والله لولا أنه عندي ثقة ما حدثت عنه، وحدث عنه الأربعة أئمة الكبار أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو حثمة ورجل آخر، ويمكن أن يكون هو الشافعي لأنه روى عنه.
وقال مصعب بن الزبير: الواقدي ثقة مأمون، ولولا هو والبلخي ثقتان عند الطحاوي لما روى عنهما في معرض الاستدلال، وتعريض غيره وتضعيفه إياهما لا يلزمه على ما عرف. واسم الواقدي: محمد بن عمرو الأسلمي أبو عبد الله المدني قاضي بغداد وأحد مشايخ الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
فإن قلت: قد قيل إن المدينة لم يكن لها ماء جار على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأما عين الزرقاء وعيون حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فحدثت بعد ذلك، وبئر بضاعة كان ماؤها نبع غير جار وهي باقية إلى اليوم شرقي المدينة بدار بني ساعدة.(1/377)
وما رواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ضعفه أبو داود،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا يرد بما رواه الطحاوي، على أنه يحتمل أن يكون مراد هذا القائل أن المدينة لم يكن بها ماء جار على وجه الأرض مثل النهر، وبئر بضاعة كان ماؤها جاريا تحت الأرض كالقنوات التي تجري تحت الأرض.
وقال الأكمل: فإن قيل استدل المصنف في أول الباب إلخ. نقله عن صاحب " الدراية " فإنه قال ذلك ثم قال في آخره كذا قول شيخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو الإمام علاء الدين بن عبد العزيز.
تقرير السؤال أنه قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إن الماء لا ينجس» لما بين أنه ورد في بئر بضاعة لا يستقيم العمل بعمومه في أول الباب حيث أثبت صاحب " الهداية " طهارة المياه الكائنة من السماء والأودية والعيون والآبار وماء البحار بهذا الحديث، فإن كانت اللام في قوله الماء للجنس صح الاستدلال وبطل الحمل وإن كان للعهد صح الحمل ويبطل الاستدلال وتقرير الجواب أن اللام للجنس فالاستدلال صحيح والحمل ليس بباطل، لأن الحديث يشتمل على قضيتين إحداهما الماء طهور والثانية لا ينجسه شيء، والاستدلال بالأول صحيح لأنها تفيد المقصود من غير اقتضاء إلى الثانية والحمل بالثانية.
فإن قيل: الضمير في قوله لا ينجسه يرجع إلى ما دخل عليه اللام فكان المراد به الجنس فكيف يصح حمله على المعنيين.
أجيب بأن اللفظ إذا احتمل معنيين وأريد به أحدهما ثم أريد بضميره الآخر جاز ويسمى ذلك استخداما كما في قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
أريد بالسماء المطر وبضميره النبات. ونظيره قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة» . فإن القضية الأولى على العموم حتى حرم البول في الماء القليل والكثير جميعا واختصت الثانية بالقليل فوجب تخصيصه حتى لا يحرم الاغتسال في الماء الدائم الكثير مثل الغدير العظيم ونحوه، فيثبت أن حمل الحديث هنا على الماء الجاري لا يمنع التمسك به في أول الباب لعمومه. م: (وما رواه الشافعي ضعفه أبو داود) ش: أراد به حديث القلتين.
قال الأترازي: أبو داود هذا هو أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب كتاب " معالم السنن " إمام ثقة من أئمة الحديث مقبول الرواية عند كل المذاهب، وتبعه الأكمل في ذلك، قلت هذا كلام غير صحيح لأن أبا داود السجستاني الذي ذكره روى حديث القلتين في "سننه". وسكت عنه فهو صحيح عنده على عادته في ذلك قال صاحب " الهداية " لم يعين اسم أبي داود فيحتمل أن يكون أبا داود الطيالسي أو غيره ممكن يكنى بأبي داود من أئمة الحديث.(1/378)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: ويحتمل أن يكون أبو داود وهو الذي قاله الأترازي ويحتمل أنه ضعف هذا الحديث في غير سننه في موضع آخر فإنه نقل بعضهم أن أبا داود قال لا يكاد يصح لأحد من الفريقين حديث عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تقدير الماء، ويلزم من هذا تضعيف حديث القلتين ضرورة أنه حديث في الماء، قلت: الاحتمال إذا كان ناشئا عن دليل يفيد وإلا لأدى إلى أن أبا داود قال لا يصح اه.
هو أبو داود السجستاني صاحب السنن ويحتمل أن يكون غيره، وما ذكرنا من الرد على حاله.
وأما تضعيف حديث القلتين فوجهه وإن كان رواه الأربعة والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي وصححه الحاكم وابن المنذر، أنه دائر على معطوف عليه في الرواية ومضطرب فيها أو موقوف. قال أبو بكر بن العربي في " شرح الترمذي ": وحسبك أن الشافعي رواه عن الوليد بن كثير وهو أباضي منسوب إلى عبد الله بن أباض من غلاة الروافض.
واختلف في روايته قيل " قلتين أو ثلاثا " رواه يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة أخرجه الدارقطني، وروي: "أربعين قلة" عن القاسم بن عبيد الله عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا بلغ الماء أربعين قلة لم يحمل الخبث» أخرجه الحافظ أبو أحمد بن عبيد الله بن عدي الجرجاني وأبو حفص محمد بن عمرو العقيلي وأبو الحسن علي بن عمرو الدارقطني، وروي " أربعين غربا ". رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ذكر الخلاف ووقفه على أبي هريرة وعبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال أبو بكر بن العربي أيضا والمقداد والدارقطني أن يخلص من رواية هذا الحديث بخبر سفه الذقن ما مضى لها وعلى كثرة طرقه لم يخرجه على شرط الصحة، وأكثر طرقه عن محمد بن إسحاق بن يسار، قال أبو زرعة: ليس يمكن أن يقضى له وكذبه مالك وغيره.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أخبرني مسلم بن خالد بن الزنجي عن ابن جريج بالإسناد ولا يحضر في ذكره أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا» وقال في الأحاديث بقلال هجر، قال أصحاب الحديث ما حضره ولا يحضره أبدا. قال الشيخ تقي الدين في " الإمام ": هذا فيه أمران أحدهما أن الإسناد الذي لم يحضره مجهول الرجال فهو كالمنقطع فلا(1/379)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تقوم به الحجة.
والثاني قوله: قال في الحديث بقلال هجر يتوهم له أنه من لفظ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والذي وجد في رواية ابن جريج إنما هو من قول غير الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قلت: وفيه علة ثالثة وهو أن شيخه مسلم بن خالد ضعيف ضعفه جماعة منهم البيهقي الذي تنازع فيه مع أئمة الحنفية ولا سيما في هذا الباب، فإن في باب من زعم أن التراويح بالجماعة أفضل، والذي وجد في رواية ابن جريج أنه قول يحيى بن عقيل وبينه البيهقي ويحيى هذا ليس بصاحبي فلا تقوم بقوله حجة.
فإن قلت: أسند البيهقي عن محمد عن يحيى بن عقيل قال قلال فأظن أن كل قلة تأخذ فرقتين، زاد أحمد بن علي في رواية والفرق ستة عشر رطلا، قلت في هذا أربعة أشياء أحدها: أنه مرسل.
والثاني: أن أحد المذكور فيه هذا يحيى على ما قاله أبو أحمد الحافظ يحتاج إلى الكشف عن حاله.
الثالث: أنه ظن من غير جزم.
الرابع: أنه إذا كان الفرق ستة عشر رطلا يكون مجموع القلتين أربعة وستين رطلا، وهذا لا يقول به البيهقي ولا إمامه وقد أكثر العلماء في هذا الباب جدا.
وحاصله أن حديث القلتين مضطرب لفظا ومعنى، أما اللفظ فمن جهة الإسناد والمتن، أما الإسناد فلأنه روي بروايات مختلفة، وأما المتن فما تقدم وضعفه الحافظ أبو عمر بن عبد البر وابن العربي، وأما من جهة المعنى فقيل إن القلة اسم مشترك يطلق على الجرة والقلة، والقلة على رأس الجبل، وعلى قامة الرجل، والاسم المشترك لا يراد به إلا أحد المعاني الذي دل عليه المرجح، فأي دليل ترجح دل على أن المراد من القلة ما أرادوه لا غير من التقدير.
فإن قالوا: الدليل ما روي في الحديث بقلال هجر، فقد أجبنا عنه من قريب.
وقال أبو عمر في " التمهيد " في القلتين: مذهب ضعيف من جهة النظر غير ثابت في الأثر، لأن حديث القلتين قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل ولأنه لا يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع ولو كان حتما لازما لما منعوه ثم إنهم يقولون إذا تغير لونه أو طمعه أو ريحه بالنجاسة تنجس القلتان وليس في حديثهم ذلك، وإنما جاء في مطلق الماء، وقد ترك جماعة من أصحاب الشافعي مذهبه فيه لضعفه كالغزالي والديواني وغيرهما. وقال أبو عمر في " الاستذكار " حديث معلول رواه إسماعيل القاضي وتكلم فيه. وقال الطحاوي إنما لم يقل به لأن مقدار القلتين لم يثبت.(1/380)
وهو يضعف عن احتمال النجاسة والماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة جاز الوضوء منه إذا لم ير لها أثر؛ لأنها لا تستقر مع جريان الماء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهو يضعف عن احتمال النجاسة) ش: هذا تأويل معنى حديث القلتين، فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول معنى قوله لا يحمل الخبث لا يقبل النجاسة ويدفعها، ونحن نقول معناه يضعف عن احتمال النجاسة، فإذا كان كذلك لم يكن التمسك به صحيحا. قلت: معناه يضعف عن مقاومة النجاسة كما يقال فلان لا يحتمل أذى الناس، وفلان لا تحتمل الضرب، وهذه الدلالة لا تحتمل هذا المقدار من الحمل، وهذه الأسطوانة لا تحتمل ثقل السقف، وهذا استعمال عربي فلا يتعين ما ذهب إليه فصار مجملا.
وقال النووي: هذا خطأ فاحش من أوجه أحدها أن الرواية الأخرى مصرحة بغلطه وهو قوله فإنه لا ينجس، الثاني أن الضعف عن الحمل إنما يكون في الأجسام كقولنا فلان لا يحمل الخشبة أي يعجز عن حملها لثقلها، وأما في المعاني فمعناه لا يقبله. الثالث أن سياق الكلام يفسره لأنه لو كان المراد أنه يضعف عن حمله لم يكن للتقييد بالقلتين معنى فإن ما دونها أولى بذلك، وأجيب بأن التأويل المذكور في الرواية التي ذكرها المصنف صحيح على ما مر وتأويلهم في هذه الرواية.
وأما الرواية الأخرى فالجواب عنها أن العمل متعذر للاختلاف الشديد في تفسير القلتين. وقال ابن حزم لا حجة لهم في حديث القلتين لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحدد مقدار القلتين، ولاشك أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لو أراد أن يجعلهما حدا بين ما يقبل النجاسة وبين ما لا يقبلها، لما أجمل أن يحدها لنا بحد ظاهر. وأما الشافعي فليس حده في القلتين أولى من حد غيره فسرهما بغير تفسيره وكل قول لا برهان عليه فهو باطل. والقلتان ما وقع عليه في اللغة اسم قلتين صغرتا أم كبرتا، ولا خلاف أن القلة التي تسع عشرة أرطال ماء تسمى عند العرب قلة وليس هذا الخبر دال على قلال هجر، ولا شك أن لهجر قلالا صغارا [لا] كبارا فإنه قيل أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد ذكر قلال هجر في حديث الإسراء.
قلت: نعم وليس ذلك بموجب أن يكون - عَلَيْهِ السَّلَامُ - متى ذكر قلة فإنما أراد بها من قلال هجر، وليس تفسير ابن جريج القلتين بأولى من تفسير مجاهد الذي قال هما جرتان ويفسر كذلك.
م: (والماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة جاز الوضوء منه إذا لم ير لها أثر) ش: أي لم يعلم لها أثر، وفيه إشارة إلى أنها لو كانت مرئية لا يتوضأ من جانب الوقوع، وإذا لم تكن مرئية جاز له الوضوء من أي موضع شاء من موضع وقوع النجاسة فيه أو من غيره م: (لأنها) ش: أي لأن النجاسة م: (لا تستقر مع جريان الماء) ش: أي لا تستقر في موضع وقوعها مع جريان الماء بل تتحول(1/381)
والأثر هو الطعم أو الرائحة أو اللون، والجاري: ما لا يتكرر استعماله وقيل: ما يذهب بتبنة.
قال: والغدير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه م: (والأثر) ش: أي أثر النجاسة م: (هو الطعم أو الرائحة أو اللون) ش: ذكره بكلمة أو التي للتنوع على أن واحدا منها يكفي عند وجودها م: (والجاري) ش: أي حد الماء الجاري م: (ما لا يتكرر استعماله) ش: وذلك أن الرجل إذا غسل يده وسال الماء منها إلى النهر فإذا أخذه ثانيا لا يكون فيه شيء من الماء الأول. م: (وقيل ما يذهب بتبنة) ش: أو ورق، وقيل إن يضع إنسان يده في الماء عرضا لم تقطع جريانه.
وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن كان لا ينحسر وجه الأرض بالاغتراف بكفيه. وقيل ما يعده الناس جاريا وهو الأصح، ذكره في " البدائع " و " التحفة " وغيرهما.
وفي " الذخيرة " و " البدائع " و " المرغيناني " لو بال إنسان في الماء الجاري فتوضأ به إنسان من أسفل منه جاز.
وفي " البدائع " و " شرح الطحاوي " جيفة فأرة في الفرات وتوضأ إنسان أسفل منه إن وجد طعمها أو لونها أو ريحها ينجس الماء وإلا فلا. وفي المرئية كالجيفة إن كان الماء يجري على كلها أو نصفها لا يجوز الوضوء به أسفل منها، والقياس في النصف الجواز وعلى هذا التفصيل الميزاب، وإن لم تكن النجاسة على الميزاب يعتبر تغير لونه أو ريحه أو طعمه، ولو كان الماء يجري في جوف الجيفة وأكثرها لا يلاقيها فهو طهور.
وقال أبو نصر: هذا أشبه بقول أصحابنا كلب ميتة سد عرض الساقية والماء يجري من تحته وفوقه فلا بأس بالوضوء به إن لم يتغير عند أبي يوسف خلافا لهما، وعن أبي حنيفة إن كان الماء فوق الكلب مقدار ذراع جاز، وفي " الذخيرة " إذا تغير لا يحكم بطهارته ما لم يزل تغيره بورود ماء طاهر عليه حتى يزيل تغيره.
فرع: مسافر معه ميزاب واسع وأرواه ما يحتاج إليه ما يصنع فعند أبي الحسن السندي يأمر رفيقه بصب الماء من طرف الميزاب ويتوضأ من الميزاب، وعند الطرف الآخر منه إناء يجتمع فيه الماء فإن الماء المجتمع منه يكون طهورا والجاري لا يكون مستعملا عند جريانه، ومنهم من أنكر هذا لعدم المادة له، والصحيح الأول، وفي " الكبرى " ماء الثلج جرى على طريق فيه نجاسة إن لم ير أثرها فيه يتوضأ منه لأنه جار.
م: (والغدير) ش: على وزن فعيل بمعنى مفعول من غادره إذا تركه، وهو الذي تركه ماء السيل، وقيل بمعنى فاعل لأنه يغدر بأهله لانقطاعه عند شدة الحاجة إليه. وقال الأترازي الغدير القطعة من الماء يغادرها السيل، وهو فعيل بمعنى فاعل من غادره أو بمعنى مفعل من أغدره.(1/382)
العظيم الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر إذا وقعت نجاسة في أحد جانبيه جاز الوضوء من الجانب الآخر، لأن الظاهر أن النجاسة لا تصل إليه، إذ أثر التحريك في السراية فوق أثر النجاسة. ثم عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعتبر التحريك بالاغتسال، وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعنه: التحريك باليد، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالتوضؤ. ووجه الأول: أن الحاجة إلى الاغتسال في الحياض أشد منها إلى التوضؤ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: فيه نظر، لأن غديرا فعيلا من غدر لا من غادر حتى يقول بمعنى مفاعل، ولا هو من أغدر حتى يقول بمعنى مفعل مع أن الثاني منه متعد.
م: (العظيم) ش: صفة الغدير وكذا قوله م: (الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر) ش: لا بالموج م: (إذا وقعت نجاسة في أحد جانبيه جاز الوضوء من الجانب الآخر) ش: إلا أن يتغير طعمه أو لونه أو ريحه فحينئذ لا يجوز كذا في " فتاوى الولوالجي ".
فإن قلت: كيف إعراب هذا؟
قلت: الغدير مبتدأ وخبره الجملة وهو قوله إذا وقعت فيه نجاسة اه.
وفيها الضمير أعني في جانبه يرجع إلى المبتدأ، وقد علم أن الجملة تقع خبرا سواء كانت اسمية أو فعلية أو شرطية أو ظرفية م: (لأن الظاهر أن النجاسة لا تصل إليه) ش: أي إلى الجانب الآخر م: (إذ أثر التحريك) ش: كلمة إذ للتعليل معناه لأن أثر تحريك الطرف من الغدير م: (بالسراية) ش: إلى الطرف الآخر م: (فوق أثر النجاسة) ش: لأن ذلك أسرع والنجاسة الواقعة في أحد الطرفين لا تصل إلى الآخر.
م: (ثم عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعتبر التحريك بالاغتسال) ش: يعني إذا اغتسل في طرف منه لا يتحرك الطرف الآخر فإن تحرك لا يجوز الوضوء منه ولا الاغتسال عند وقوع النجاسة. واعلم أنهم اختلفوا في هذا على اثني عشر قولا الأول: هو ما ذكره عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواه أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإليه أشار بقوله:
م: (وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: صورة هذا أن يغتسل إنسان في جانب منه اغتسالا وسطا فلم يتحرك الجانب الآخر والثاني هو قوله م: (وعنه) ش: أي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعتبر م: (التحريك باليد) ش: لا غير وهو أيضا نقله أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
والثالث: هو قوله م: (وعن محمد بالتوضؤ) ش: أي روي عن محمد أنه يعتبر التحريك بالتوضؤ منه م: (ووجه الأول) ش: أي القول الأول وهو التحريك بالاغتسال م: (أن الحاجة إلى الاغتسال في الحياض أشد منها إلى التوضؤ) ش: لأن الوضوء يكون في البيوت عادة ولأن هذا(1/383)
وبعضهم قدروه بالمساحة عشرا في عشر بذراع الكرباس توسعة للأمر على الناس وعليه الفتوى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحوط ووجه الرواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو التحريك باليد لأنه أخف فكان الاعتبار به أولى توسعة على الناس.
والرابع: هو قوله م: (وبعضهم قدروه بالمساحة) ش: أي بعض العلماء وهو أبو سليمان الجرجاني وبه أخذ مشايخ بلخ، وإليه ذهب عبد الله بن المبارك، وبه قال أبو الليث وهو قول أكثر أصحابنا م: (عشرا في عشر) ش: عشرا حال من قوله - بالمساحة - وقوله - في عشر - محلها النصب على الحال أيضا والتقدير بعض العلماء قدروا الماء الذي تقع فيه النجاسة حتى يجوز الوضوء منه بالذراع حال كونه عشرا كائنا في عشر، فيكون مائة والمائة منتهى العشرات والعشر منتهى الآحاد، والألف منتهى المئين، والمائة وسط، وخير الأمور أوسطها فلذلك اختاره أكثر العلماء.
ولو كان الحوض مدورا قال في " الفتاوى الظهيرية " أنه يعتبر فيه ثمانية وأربعون ذراعا ودونها ينجس، وقيل ستة وثلاثون وهو الصحيح، وهو مبرهن عند الحساب وفي حيز مطلوب قدره بعضهم ثمانية وأربعين ذراعا. وقيل يعتبر أربعة وأربعون. وقيل أربعة وثلاثون لأن العمود عشرة أذرع فإذا ضربتها في ثلاثة وثلث فالخارج ثلاث وثلاثون وثلث فكملوا الثلث تسهيلا واحتياطا واحترازا عن الكسر، وكأن من قدره بأكثر من ذلك اعتبر الزوايا.
م: (بذراع الكرباس) ش: الباء تتعلق بقوله قدروا، ثم اختلفت ألفاظ الكتب في تعيين الذراع فجعل الصحيح في " فتاوى قاضيخان " ذراع المساحة وهو سبع مشتان فوق كل مشتية إصبع قائمة وهو ذراع الملك، واختارها في حيز مطلوب والمصنف اختار للفتوى ذراع الكرباس وهي سبع مشتيات ليس فوق كل مشتية إصبع قائمة. وقيل أربع وعشرون إصبعا بعدد حروف لا إله إلا الله محمد رسول الله م: (توسعة للأمر) ش: نصب على التعليل أي لأجل التوسعة م: (على الناس وعليه الفتوى) ش: أي على هذا القول. وفي " المحيط " أنه يعتبر في كل مكان وزمان ذراعاتهم من غير تعرض للمساحة والكرباس.
والخامس: من الأقوال الاثني عشر يعتبر فيه أكثر الرأي والتحري، فإن غلب على الظن وصول النجاسة إلى الجانب الآخر فهو نجس، وإن غلب عدم وصولها فهو طاهر، فهذا هو الأصح، وهو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة، وقال السروجي: والمذهب الظاهر التحري والتفويض إلى رأي المبتلى به من غير تحقيق بالتقدير أصلا عند الإمام وبه أخذ الكرخي.
السادس: يلقي فيه قدر النجاسة صبغ فإن لم يظهر أثره في الجانب الآخر لا ينجس، حكي عن أبي حفص الكبير في " المبسوط " و" البدائع ".
السابع: يعتبر بالتكدر روي عن أبي نصر محمد بن محمد بن سلام ذكره في " البدائع "(1/384)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
و" المفيد ".
الثامن: إذا كانت ثمانيا في ثمان قاله محمد بن سلمة.
التاسع: قدر بعضهم اثني عشر في اثني عشر أخذ من مسجد محمد بن الحسن من خارجه؛ لأنه لما سئل عن ذلك قال: مثل مسجدي هذا، فمسحوه من داخله فكان ثمانيا في ثمان ومن خارجه كان اثني عشر في اثني عشر.
العاشر: خمسة عشر في خمسة عشر قاله عبد الله بن المبارك ثانيا وبه أخذ أبو المطيع البلخي، وقال: أرجو أن يجوز.
الحادي عشر: عشرين في عشر، قال أبو مطيع حينئذ لا أجد في قلبي شيئا.
والثاني عشر: عن محمد بن الحسن لو انغمس رجل في جانب لا يتحرك الجانب من ساعته، وهذا قريب من معنى ما تقدم.
فإن قلت: نصب المقدرات بالرأي لا يجوز وكيف اخترتم في حد الماء الكثير بالعشر في العشر وما استنادكم وهذا كل أحد من الأئمة الثلاثة استند في هذا الباب على الأثر.
أما مالك فإنه اعتمد على حديث أبي سعيد الخدري وقال: إن الماء لا ينجس بشيء إلا إذا تغير أحد أوصافه وبه قال الأوزاعي والليث بن سعد وعبد الله بن وهب وإسماعيل بن إسحاق ومحمد بن بكير والحسن بن صالح وبه قال أحمد في رواية.
وأما الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه اعتبر القلتين بالحديث الوارد فيهما وبه قال أحمد في المشهور عنه.
وقالت الظاهرية: الماء لا ينجس أصلا سواء كان جاريا أو راكدا وسواء كان قليلا أو كثيرا تغير طعمه أو لونه أو ريحه أو لم يتغير لظاهر حديث أبي سعيد الخدري. وقال ابن حزم في " المحلى ": وممن روي عنه القول مثل قولنا: إن الماء لا ينجسه شيء: عائشة أم المؤمنين وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس والحسن بن علي بن أبي طالب وميمونة أم المؤمنين وأبو هريرة وحذيفة بن اليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والأسود بن يزيد وعبد الرحمن أخوه وعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير ومجاهد وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق والحسن البصري وعكرمة وجابر بن زيد وعثمان البتي وغيرهم.
قلت: حديث بئر بضاعة يصلح أن يكون استنادا في التقدير بالعشر بيان ذلك أن محمدا لما سئل عن ذلك قال: إن كان قدر مسجدي فهو كثير فلما قاسوه وجدوه ثمانيا في ثمان من داخله(1/385)
والمعتبر في العمق أن يكون بحال لا ينحسر بالاغتراف هو الصحيح، وقوله في الكتاب: جاز الوضوء من الجانب الآخر، إشارة إلى أنه ينجس موضع الوقوع، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا ينجس إلا بظهور النجاسة فيه كالماء الجاري
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعشرا في عشر من خارجه وقيل: اثني عشر في اثني عشر، وكان وسع بئر بضاعة ثمانيا في ثمان، والدليل عليه ما قله أبو داود: وقدرت بئر بضاعة بردائي مددتها عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي الباب وأدخلني إليه هل غيرتموها عما كانت عليه؟ فقال: لا، ورأيت الماء فيها متغير اللون، انتهى.
فإذا كان عرضها ستة أذرع يكون طولها أكثر منها؛ لأن الغالب أن يكون الطول أمد من العرض، ولو كانت البئر مدورة يقال: فإذا دورها ستة أذرع فإن أضيف ما في الطول من الزيادة إلى العرض يكون مقداره الثمانية أو أكثر؛ لأن منشأ ذلك على التقدير لا على التحرير، فأخذ محمد من هذا ولكن ما اعتبر إلا خارج مسجده الأصلي للاحتياط في باب العبادات.
م: (والمعتبر في العمق) ش: بفتح العين المهملة وضمها وسكون الميم م: (أن يكون الماء بحال لا ينحسر) ش: أي لا ينكشف.
م: (بالاغتراف) ش: باليد؛ لأنه إذا انحسر ينقطع الماء بعضه عن بعض ويصير الماء في مكانين فتخلص إليه النجاسة، وهو اختيار الفقيه أبي جعفر الهندواني م: (هو الصحيح) ش: أي الذي ذكره بقوله: والمعتبر في العمق اهـ.
واحترز به عن أقوال أخرى قال الكاساني: الصحيح أنه إذا أخذ الماء وجه الأرض يكفي، وقيل: مقدار ذراع بذراع الكرباس أو أكثر، وقيل: مقدار شبر، وقيل: زيادة على عرض الدرهم الكبير المثقال، ولا تقدير فيه في ظاهر الرواية.
م: (وقوله) ش: أي وقول القدوري م: (في الكتاب) ش: أي في " مختصر القدوري " م: (جاز الوضوء من الجانب الآخر إشارة إلى أنه ينجس موضع الوقوع) ش: أي موضع وقوع النجاسة ولم يفرق بين كونها مرئية وغير مرئية، وهو المحكي عن مشايخ العراق. ومشايخ بخارى وبلخ فرقوا بينهما وقالوا في غير المرئية: يتوضأ من الجانب الذي وقعت فيه النجاسة بخلاف المرئية.
م: (وعن أبي يوسف أنه) ش: أي موضع الوقوع م: (لا ينجس إلا بظهور النجاسة فيه) ش: أي في موضع الوقوع م: (كالماء الجاري) ش: يعني حكمه حكم الماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة يجوز الوضوء منه ما لم يظهر أثرها فيه؛ لأنها لا تستقر مع جريان الماء، وقيل: على هذا إذا غسل وجهه من حوض كبير فسقط غسالة وجهه في الماء فرفع الماء من موضع الوقوع قبل التحريك لا يجوز عند العراقيين، وجوزه مشايخ بخارى وبلخ توسعة على الناس لعموم البلوى به.(1/386)
قال: وموت ما ليس له نفس سائلة في الماء لا ينجسه كالبق والذباب والزنابير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيل: ماء الحمام كالماء الجاري لا ينجس بإدخال اليد النجسة للضرورة، ولو انصب ماء الحوض النجس وجفت أرضه حتى طهرت ثم دخله الماء ففي كونه نجسا روايتان عن الإمام والأصح تنجيسه. وكذا المني لو أصابه ماء بعد فركه، وجلد الميتة بعد تتريبه وتشميسه، والبئر إذا عاد ماؤها بعد ما تنجسه ثم عاد الماء. قال نصر بن يحيى: يحكم بطهارتها وهذا أرفق بالناس. وقال محمد بن سلمة: ينجس وهو أوثق. وروى هشام عن محمد كقول محمد بن سلمة.
وفي " الفتاوى الظهيرية " الماء إذا كان له طول ولا عرض له إن كان بحال لو جمع يصير عشرا في عشر وصار عمقه بقدر شبر جاز الوضوء فيه عند الميداني، وبه أخذ الزندروسي، وقال بكر ابن طرجاز: لا يجوز، وفي التجنيس ما له طول وعمق ولا عرض له ولو قدر يصير عشرا في عشر فلا بأس بالوضوء منه تيسيرا على المسلمين.
خندق طوله أربعون ذراعا وعرضه ذراع قال أبو سليمان: يجوز الوضوء منه، قيل: لو وقعت فيه نجاسة؟ قال: ينجس من كل جانب عشرة أذرع، وفي " المجتبى " حوض كبير تنجس فدخل فيه ماء طاهر حتى كثر فهو نجس، وقيل: يطهر إذا خرج مثله وإن قل، وفي " المحيط " وهو الأصح، وقيل: إذا خرج مثله، وقيل: ثلاثة أمثاله، وقيل: يطهر. وقال الوصاني: وبه يفتى. ولو تنجس حوض الماء فدخل فيه ماء حتى خرج مثله يطهر، وقيل: ثلاثة أمثاله، ولو خاض في ماء الحمام يجب غسل قدميه، وقيل: لا يجب، والأصح أنه إن علم أن في الحمام خبثا يجب، وإلا فلا والأول أحوط كذا في " المجتبى ".
[حكم موت ما ليس له نفس سائلة في الماء]
م: (قال: وموت ما ليس له نفس سائلة في الماء لا ينجسه) ش: المراد من النفس الدم وفي " المستصفى " النفس بسكون الفاء الدم وتأنيثه باعتبار لفظ النفس، قال الله تعالى {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] (النساء: الآية 1) والمراد به آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ويقال: النفس إما دم أو الدم محل النفس على حسب اختلاف الحكماء، فكان إطلاقا لاسم الحال على المحل. م: (كالبق) ش: جمع بقية وهي البعوضة. قال الجوهري: وأهل المصر يقولونه لدويبة تنشأ في الحصر والأخشاب وغير ذلك له ريحة كريهة م: (والذباب) ش: جمع ذبابة ولا يقال ذبانة، وجمع القلة أذببة، والكثير ذباب مثل غراب وأغربة وغربان، م: (والزنابير) ش: جمع زنبور بضم الزاي، قالت الشراح: إنما جمع الزنابير دون غيرها؛ لأنها أنواع شتى، قلت: الكل مذكور بلفظ الجمع كما ذكرنا ولا معنى لتخصيص الزنابير بذلك.
فإن كانت القلة في ذكر المصنف الزنابير بذكر الجمع هي كونها على أنواع شتى فكذلك البواقي هي البعوض على أنواع شتى وهي التي يقول لها أهل المصر الناموس، وكذلك الذباب(1/387)
والعقارب ونحوها، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يفسده؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على أنواع شتى.
م: (والعقارب) ش: جمع عقرب والأنثى عقربة وعقرب مصروف وغير مصروف، والذكر عقربان بالضم وهو دابة له أرجل طوال وليس ذنبه كذنب العقارب، وهذا كما رأيت جمع عقرب ذكره المصنف بلفظ الجمع، فكيف قالت الشراح: إنما جمع الزنابير دون غيرها؟
فإن قلت: البق والبقة والذباب والذبابة مثل التمر والتمرة بخلاف الزنابير فلذلك قالت الشراح: إنما جمع الزنابير دون غيرها.
قلت: يرد عليك ذكره العقارب فافهم فإنه لا يخفى.
م: (ونحوها) ش: مثل القراد والجراد والخنفساء والنحل والنمل والصراصير والجعلان وبنات وردان وحمار قبان والبرغوث والقمل، والخنفساء بضم الفاء وفتحها، والجعلان بضم الجيم جمع جعيل، وهي دويبة تكون في الزبل، وحمال قبان علم على فعلان لدويبة يمنع ويصرف بتقدير زيادة الألف والنون، وأحمالها من قب أو قب في الأرض، وهذه الأشياء طاهرة عندنا فلا تنجس بالموت.
وقال ابن المنذر في كتاب " الإجماع ": قال في " الأشراف ": ولا أعلم فيه خلافا إلا أحد قولي الشافعي، قال النووي وجماعة بعد الشافعي: أتى خرق الإجماع في قوله بالتنجيس، قال: ونقل عن محمد بن المنكدر ينجسه بموت العقرب فيه.
م: (وقال الشافعي: يفسده) ش: أي موت هذه الأشياء المذكورة ينجس الماء إذا ماتت فيه، وهذا أحد قوليه، والقول الآخر كمذهبنا وهو الذي صححه جمهور أصحابه. وشذ المحاملي في " المقنع " والروياني في " البحر " فرجح النجاسة، وقال النووي: وهذا ليس بشيء والصواب الطهارة، وهو قول جمهور العلماء، ونقل الخطابي وغيره عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: ينجس الماء بموت العقرب فيه، ونقل ذلك عن محمد بن المنكدر وهما إمامان من التابعين فلا يخرق الشافعي الإجماع.
قلت: سلمنا في العقرب وما يقال في غيره، وقال النووي: القولان عن الشافعي إنما هو في نجاسة الماء بموت هذا الحيوان، أما الحيوان نفسه ففيه طريقان:
أحدهما: أن في نجاسته القولين إن قلنا: نجس نجس الماء وإلا فلا وهذا القول اختاره البقالي.
والثاني: القطع بنجاسة الحيوان، وبهذا قطع العراقيون وغيرهم، وهو الصحيح لأنه من جملة الميتات. قال: وذكر صاحب " التقريب " قولا ثالثا في المسألة الأولى وهو أن ما يعم لا ينجسه كالذباب والبعوض ونحوهما، وما لا يعم كالخنافس والعقارب ينجسه لتعذر الاحتراز(1/388)
لأن التحريم لا بطريق الكرامة آية النجاسة، بخلاف دود الخل، وسوس الثمار؛ لأن فيه ضرورة. ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيه: «هذا هو الحلال أكله وشربه والوضوء منه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعدمه، قال: وهذا القول غريب.
م: (لأن التحريم لا بطريق الكرامة آية النجاسة) ش: أي علامة النجاسة، واحترز بقوله: لا بطريق الكرامة عن الآدمي فإنه حرام لكرامته، وقال أبو زيد: حرمة الشيء مع صلاحيته للغذاء دليل نجاسته كالكلب والخنزير م: (بخلاف دود الخل وسوس الثمار) ش: هذا من كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهذا كأنه جواب لمن يقول ما تقول في دود الخل وسوس الثمار، فقال: كلامنا في موت حيوان أجنبي عنه، أما الدود المتولد في الخل ونحوه والتين والتفاح ونحوهما لا ينجس ما مات فيه م: (لأن فيه ضرورة) ش: لأنه تولد منه، والضرورة تمنع الحكم بتنجيسه وحكاية الدارمي عن بعض أصحاب الشافعي أن ما مات فيه ينجس غلط ولا خلاف عندهم في ذلك، ولكن هذا الحيوان ينجس بالموت على المذهب عندهم ولا ينجس على قولهم.
وقال إمام الحرمين: وإن جمع منه شيئا وتعمد أكله فوجهان؛ لأنه كجزء منه طبعا وطعما ومع الطعام لا يحرمه أكله على الصحيح. م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيه) ش: أي في الماء الذي مات فيه ما ليس له نفس سائلة، وهو الذي فسر به أوجه وأحسن من قول الأكمل أي في مثل هذه الحادثة، ونقل الأكمل ذلك عن شيخه صاحب " الدراية " وعن الأترازي في " النهاية ".
م: (هذا هو الحلال أكله وشربه والوضوء منه) ش: هذا الحديث رواه سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا سلمان كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فماتت فيه فهو حلال أكله وشربه ووضوءه» رواه الدارقطني في "سننه " حدثني سعيد بن أبي سعيد الزبيدي عن بشر بن منصور عن علي بن زيد بن أحمد عن سعيد بن المسيب عن سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قال الدارقطني: لم يروه غير سعيد بن أبي سعيد الزبيدي وهو ضعيف، ورواه ابن عدي في " الكامل " وأعله بسعيد هذا، وقال: هو شيخ مجهول، وحديثه غير محفوظ، والعجب من شراح " الهداية " يذكرون هذا الحديث ولا يبينون حاله غير أن الأترازي قال: وقد روى أبو بكر الجصاص الرازي في شرحه لمختصر الطحاوي بإسناده إلى سعيد بن المسيب عن سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الحديث، ولم يذكر رجال الإسناد حتى ينظر فيه هل هم المذكورون في إسناد الدارقطني وابن عدي أم غيرهم، وذكر الأكمل نحوه. وأما صاحب "الدراية " والسغناقي فاكتفيا بمجرد الذكر، وأما السروجي فإنه نسبه إلى الدارقطني ومضى.(1/389)
ولأن المنجس هو اختلاط الدم المسفوح بأجزائه عند الموت حتى حل المذكي لانعدام الدم فيه ولا دم فيها، والحرمة ليست من ضرورتها النجاسة كالطين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الحديث المذكور وإن ضعفوه فإن حديث ميمونة زوجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنها كانت تمر بالغدير وفيه الجعلان فتسقي لها وتشرب منه وتتوضأ» . رواه أبو عبيد في كتاب الطهور. م: (ولأن المنجس هو اختلاط الدم المسفوح بأجزائه عند الموت) ش: قيد به لأنه قيدهم المذكورون في إسناد الدارقطني، وإن كان حيا لا ينجس، ولهذا قلنا: إن المصلي إذا استصحب فأرة أو عصفورة حية لم تفسد صلاته ولو كانت نجسة لفسدت، ولو ماتت حتف أنفها واستصحبها ما فسدت، وهذا لأن الدم الذي في الحي في معدته وبالموت ينصب عن مجاريها فيتنجس اللحم بتشربه إياه ولهذا لو قطعت العروق بعده لم يسل منه الدم.
م: (حتى حل المذكي) ش: أي المذبوح من ذكى يذكي تذكية، م: (لانعدام الدم فيه) ش: أي في المذكي بعد التذكية وإلا فقبلها الدم فيه، ولو قال لزوال الدم منه لكان أولى، واستعمال ما انعدم بالتذكية خطأ، م: (ولا دم فيها) ش: أي للحيوانات المذكورة إذ البعوض كذلك فلا ينجس، فإنا قد نعلم أن النجس هو اختلاط الدم المسفوح فإن ذبيحة المجوسي ليس فيها دم مسفوح وهي نجسة، وذبيحة المسلم إذا لم يسل منها الدم بعارض بأن أكلت ورق الغاب حلال مع أن الدم لم يسل.
فالجواب أن القياس في ذبيحة المجوسي الطهارة كذبيحة المسلم، إلا أن صاحب الشرع أخرجه عن أهلية الذبح لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» غير إنكاح نسائهم وأكل ذبائحهم جعل ذبحه كلا ذبح، وكما جعل لذلك جعلوا ذبيحة المسلم إذا لم يسل منها الدم كذبيحته إذا سال إقامة لأهلية الذابح، واستعمال آلة الذبح مقام الإسالة لإتيانه ما هو المأمور به الداخل تحت قدرته ولا معتبر بالعوارض؛ لأنها لا تدخل تحت القواعد الأصلية.
م: (والحرمة ليست من ضرورتها النجاسة) ش: هذا جواب عن قول الشافعي: لأن التحريم لا بطريق الكرامة آية النجاسة أراد أن الحرام لا يستلزم النجاسة م: (كالطين) ش: فإنه أكله حرام لا لكرامته مع أنه ليس بنجس، وفي " جامع الكردري " وخص من الآية السمك والجراد باعتبار عدم الدم، والمتنازع فيه بمعناهما فلحق بهما، وكل لحوم السباع إذا ذبحت طاهرة ولا تؤكل. وفي " الحاوي " جازت الصلاة مع لحم البازي المذبوح، وكذا كل شيء لم يؤمر بإعادة الصلاة من سؤره مثل الحية والعقرب والفأرة وجميع الطيور وتجوز الصلاة من لحمها إن كانت مذبوحة، وقال نصر: إذا ذبح شيء من السباع فجلده طاهر ولحمه نجس بخلاف الطيور والحية والفأرة. وفي " الذخيرة " والحية طاهرة في حال الحياة ولحمه طاهر في الأصح، وكذا لو صلى معه سنور وفأرة تجوز الصلاة معه، ولو كان معه ثعلب أو جرو لم يجز.(1/390)
قال: وموت ما يعيش في الماء فيه لا يفسده كالسمك والضفدع والسرطان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: والأصل في حق هذه المسائل أن كل ما يجوز الوضوء بسؤره تجوز الصلاة معه، وما لا فلا.
وأما حرمة أكل ما ليس له دم غير مسفوح غير السمك والجراد وإن كان طاهرا على ما مر فلأن ذلك من الحشرات والخبائث، فإن البقة والزنبور، والخنفساء وأضرابها تستخبثها النفس وتعافيها [والحية] وأضرابها يستخفها الشرع ويتاقها قال الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] (الأعراف: الآية 157) ولا يلزم من ذلك النجاسة، فإن الكافر عندهم لا ينجس بالموت على الصحيح، ولا يؤكل قولا واحدا. وموت الحية البرية في الماء وغيره ينجس ما مات فيه قاله في " الحاوي "، وكذا موت الوزغة والسحلية ودمهما نجس ذكره في " المفيد " ولهذا ينجس بالموت.
وفي " الذخيرة " وغيرها خرء الحية وبولها نجس نجاسة غليظة وجلدها إذا كان أكبر من قدر الدرهم يمنع جواز الصلاة معه؛ لأنه نجس ولو كانت مذبوحة ولا تقبل الدباغ، وللشافعية - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وجهان في الحية والأصح ينجس ما مات فيه، والوزغة على العكس عندهم، ولو حمل حية فصلى معها جازت صلاته، قال في " الذخيرة ": وهي طاهر في حالة الحياة وقميصه طاهر في الأصح وقد ذكرناه الآن.
[حكم موت ما يعيش في الماء فيه]
م: (وموت ما يعيش في الماء) ش: يعني ما يكون مولده وفي بعض النسخ ومثواه م: (فيه) ش: أي في الماء، والجار والمجرور متعلق بقوله: وموت والجار في قوله في الماء يتعلق بقوله: يعيش، وفي بعض النسخ لم يذكر كلمة فيه وأثبتها شمس الأئمة الكردري لتكون المسألة مجمعا عليها؛ لأنه إذا مات في غير الماء قيل: يفسده، وقيل: لا يفسده، قوله: وموت ما يعيش مبتدأ وخبره هو قوله: م: (لا يفسده) ش: أي لا يفسد الماء.
فإن قلت: قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المسألة الأولى في غير معدنه فيتوهم التنجيس فتناسب نفيه، وفي الثانية: في معدنه فلا يتوهم تنجيسه بواسطة الضرورة، لكن احتمل تغير صفة الماء فنفاه بقوله: لا يفسده م: (كالسمك والضفدع) ش: بكسر الضاد والدال مثل الخنصر واحد الضفادع، والأنثى ضفدعة، ومنهم من يقول: بفتح الدال. وقال الخليل: ليس في الكلام فعلل إلا أربعة درهم وهجرع وهيلع وقلعم. وقال أبو الحسن: الهاء زائدة منهما، قلت: الهجرع الطويل والهيلع الألوك. والهاء زائدة في قلعم م: (والسرطان) ش: ونحو ذلك كالعلق وحية الماء.
فإن قلت: هل في تقديم السمك على أخواته فائدة؟
قلت: نعم لأنه مجمع عليه، وهذا إذا مات حتف أنفه فأما إذا قتل جرحا فعند أبي يوسف -(1/391)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يفسده إلا السمك لما مر، ولنا أنه مات في معدنه فلا يعطى له حكم النجاسة كبيضة حال محها دما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - يفسده الماء على ما روى المعلى عنه، وفي " المجتبى " عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن ماتت حية عظيمة مائية في الماء تفسد، وفي " الحاوي " مات الضفدع في العصير، قال نصر: لا يفسد.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يفسده) ش: أي يفسد الماء م: (إلا السمك) ش: قال الأترازي: كان ينبغي أن يقول: إلا السمك والجراد لأن حكمهما واحد عندنا، كذا في " وجيزهم "، قلت: مراد المصنف نصب الخلاف ولا يلزم استيفاء الخلاف كله.
وقال النووي: ما يعيش في الماء إن كان مأكولا فميتته طاهر لا شك أنه لا ينجس الماء، وما لا يؤكل كالضفدع وغيره: إذا قلنا: لا يؤكل، فإذا مات في الماء القليل أو مائع قليل أو كثير نجسه، صرح به أصحابنا في طرقهم، وقالوا: لا خلاف فيه إلا لصاحب " الحاوي " فإنه قال في نجاسته قولان، وذكر الروياني في الضفدع وجهان أحدهما: لا نفس له سائلة، فيكون في نجاسة الماء منه قولان، والثاني: لها نفس سائلة فتنجسه قطعا، وهذا الثاني هو المشهور في كتب الأصحاب م: (لما مر) ش: يعني من قوله: لأن التحريم لا بطريق الكرامة آية النجاسة. وقال الأكمل: قيل في التعليل إشكال وهو أن الضفدع والسرطان يجوز أكلهما عند الشافعي على ما روي عنه في كتاب الذبائح على ما سيأتي.
والجواب: أن المذكور في كتاب الذبائح عن الشافعي أنه أطلق ذلك كله، فيجوز أن تكون هذه رواية أخرى فيكون الإلزام عليها، قلت: الإشكال للأترازي والجواب للأكمل فلا يرد الإشكال، ولا يحتاج إلى الجواب؛ لأن نسبة جواز أكل السرطان إلى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما ذكر في كتاب الذبائح هكذا لا يسلمها أصحابه، فإنهم ذكروا أن هذين مما لا يؤكل كما بينهما عن بعضه عن قريب فلا يرد الإشكال أصلا، ولا يحسن الجواب عنه بقوله: فيجوز أن تكون هذه رواية أخرى وهذا من باب التخمين.
م: (ولنا أنه) ش: أي ما يعيش في الماء، م: (مات في معدنه) ش: يعني في مثواه ومقره م: (فلا يعطى له حكم النجاسة) ش: لأنه لو أعطي حكم النجاسة لما في موضعها ومعدنها لما طهر إنسان أبدا لأن في بطنه وعروقه نجاسة، ثم مثل لذلك لقوله: م: (كبيضة حال) ش: أي انقلب م: (محها) شك بضم الميم وتشديد الحاء المهملة أي صفرتها م: (دما) ش: حتى لو صلى وفي كمه تلك البيضة يجوز الصلاة معها؛ لأن النجاسة في معدنها، بخلاف ما لو صلى وفي كمه قارورة فيها دم لا تجوز صلاته، لأن النجاسة ليست في معدنها.(1/392)
ولأنه لا دم فيها، إذ الدموي لا يسكن الماء، والدم هو المنجس، وفي غير الماء قيل: غير السمك يفسده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الجامع الأصغر " لا يجوز الصلاة مع البيضة المذرة عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -، وعلى قياس قول أبي حنيفة والحسن - رحمهما الله - يجوز، واختاره أبو عبيد الله البلخي. ولا يجوز مع البيضة التي فيها فرخ ميت قد علم بموته أو بضعفه. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن كان رأس القارورة قدر الدرهم فما دونه يجوز.
وعند الشافعية: البيضة إذا استحالت دما فهي نجسة في أصح الوجهين، ولو صارت مذرة التي اختلط بياضها بصفرتها فظاهرة بلا خلاف. وقال الأكمل: قيل هذا التعليل يقتضي أن لا يعطى للطيور والوحوش حكم النجاسة إذا ماتت في البئر، لأنه معدنها، قلت: قال بهذا صاحب " الدراية ".
وقوله: والذي يظهر إلخ من كلام الأكمل كأنه جواب عما قيل وهو أن المعدن عبارة عما يكون محيطا، يفهم هذا من تمثيلهم بالدم في العروق والمح في البيضة وليس الأمر كذلك.
م: (ولأنه) ش: دليل ثان أي ولأن ما يعيش في الماء من كل واحد من السمك والضفدع م: (لا دم فيها) ش: أعني في هذه الثلاثة أعني السمك والضفدع والسرطان م: (إذ الدموي لا يسكن الماء) ش: لمنافاة بين طبع الدم والماء بالحرارة والبرودة، والدم إذا شمس يسود، وما يسيل من هذه الحيوانات إذا شمس ابيض. واعلم أن كلمة إذ للتعليل، والدموي بتشديد الياء نسبة إلى الدم؛ لأن أصل دم دمويا بالتحريك، والأصل فيه أن يقال: دمي ولكن جاء دموي أيضا.
م: (والدم هو المنجس) ش: أي الدم المسفوح وليس في هذه الحيوانات دم مسفوح، وهذا التعليل هو الأصح نص عليه السرخسي، كما أنه لا يفسد الماء بموت هذه الحيوانات فيه، لا يفسد غير الماء أيضا كالخل والعصير وسواء انقطع أو لم ينقطع إلا على قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يقول: إذا انقطع في الماء أفسده بناء على قوله: إن دمه نجس وهو ضعيف؛ لأنه لا دم في السمك إنما هو آخر، ولو كان فيه دم فهو مأكول فلا يكون نجسا كالكبد والطحال.
وأشار الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن الطافي من السمك في الماء يفسده قال السغناقي: هو غلط منه فليس في الطافي أكثر فسادا من أنه غير مأكول كالضفدع والسرطان، وعن محمد: إن الضفدع إذا انغمس في الماء كرهت شربه لا لنجاسته؛ ولكن لأن أجزاء الضفدع وهو غير مأكول كذا في " المبسوط ".
م: (وفي غير الماء) ش: أي إذا مات ما يعيش في غير الماء كالعصير والدهن والخل ونحوها م: (قيل) ش: قائله نصر بن يحيى م: (غير السمك يفسده) ش: أي يفسد غير الماء، وبه قال محمد بن(1/393)
لانعدام المعدن، وقيل: لا يفسده لعدم الدم وهو الأصح، والضفدع البحري، والبري فيه سواء، وقيل: البري يفسد لوجود الدم وعدم المعدن، وما يعيش في الماء ما يكون توالده ومثواه في الماء، ومائي المعاش دون مائي المولد مفسد،
قال: والماء المستعمل لا يجوز استعماله في طهارة الأحداث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سلمة وأبو معاذ البلخي وأبو مطيع، وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: لانعدام المعدن) ش: قال الأترازي: فيه نظر لأنه لا يجوز التعليل على وجود الشيء بالعدم، وأجاب عنه الأكمل بأنه ليس بتعليل بل هو البيان انتفاء المانع، فإنا قد ذكرنا أن النجاسة لا تعطى حكمها في معدنها، فكان المعدن مانعا عن ثبوت الحكم عليها، قلت: ويمكن أن يجاب عنه بأن الموجب للتنجيس هو لدم وهو مجود إذ اللون ما دون الدم والرائحة رائحته والمانع هو المعدن وهو مفقود فعمل المقتضى عمله.
م: (وقيل) ش: قائله أبو عبد الله البلخي ومحمد بن مقاتل م: (لا يفسده لعدم الدم) ش: قال الأترازي: فيه نظر؛ لأن عدم العلة لا يوجب عدم الحكم لجواز أن يكون الحكم معلولا بعلل شتى إلا أن العلة إذا كانت متعينة يلزم من عدمها عدم المعلول لتوقفه على وجودها، وهذا النظر والذي قبله للشيخ حافظ الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - والأترازي أخذ مما بينه، وأجاب الأكمل عنه بأن العلة الشخصية يستلزم انتفاؤها انتفاء الحكم، وهاهنا كذلك لأن كونه دما ممتزجا هو المنجس لا غير.
قلت: ويجاب أيضا بأن العلة متحدة وهي الدم فإذا عدم لا يثبت الحكم في مثله، وفي مثله يجوز التعليل بالعدم كقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولكن المغصوب لم يضمن؛ لأنه لم يغصب م: (وهو الأصح) ش: أي القول الثاني هو الأصح وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهشام عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو اختيار المصنف أيضا؛ لأنه لا دم فيها.
م: (والضفدع البحري والبري فيه سواء) ش: أي في الحكم المذكور ويعرف البحري من البري، فإن البحري ما يكون بين أصابعه سترة دون البري م: (وقيل: البري يفسد لوجود الدم وعدم المعدن) ش: وجود الدم هو العلة، وعدم المعدن هو انتفاء المانع.
م: (وما يعيش في الماء) ش: كلمة ما موصولة بمعنى الذي، ويعيش في الماء صلته، وارتفاعه على الابتداء محلا وخبره هو قوله: (ما يكون توالده ومثواه) ش: أي منزله ومقره م: (في الماء) ش: أراد بهذا بيان ما يعيش في الماء؛ لأنه ذكره ولم يبينه م: (ومائي المعاش دون مائي المولد مفسد) ش: كالبط والأوز والجاموس.
[حكم استعمال الماء المستعمل في طهارة الأحداث]
[المقصود بالماء المستعمل وأقسامه]
م: (والماء المستعمل لا يجوز استعماله في طهارة الأحداث) ش: هذا حكم الماء المستعمل قدمه(1/394)
خلافا لمالك والشافعي - رحمهما الله - هما يقولان: إن الطهور ما يطهر غيره مرة بعد أخرى كالقطوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأنه هو المقصود وقيد بطاهرة الأحداث إشارة إلى أنه يطهر الأخباث فيما روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الموافق لمذهبه، فإن إزالة النجاسة المعينة بالمائعات يجوز عنده على ما يأتي. وفي " جامع الإسبيجابي " الماء المستعمل ثلاثة أنواع: نوع طاهر بالإجماع كالمستعمل في غسل الأعيان الطاهرة، ونوع نجس بالاتفاق كالمستعمل في الأعيان النجسة، وفي " الإسبيجابي " قبل أن يحكم بطهارة ذلك الموضع، ونوع مختلف فيه وهو الذي توضأ به محدث أو اغتسل به جنب إن لم تكن على أعضائه نجاسة حقيقية.
م: (خلافا لمالك والشافعي - رحمهما الله -) ش: فإن عندهما يطهر الأحداث، ونصب خلافا على الإطلاق غير موجه على ما نذكره، أما عند مالك فإن المذكور في كتبهم منها " الجواهر " أن الماء المستعمل في طهارة الحدث طاهر ومطهر إذا كان الاستعمال لم يغيره لكنه مكروه مع وجود غيره مراعاة للخلاف وهو قول الزهري والأوزاعي في أشهر الروايتين عنهما، وأبي ثور وداود، قال المنذري عن علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأبي أمامة والحسن وعطاء ومكحول والنخعي أنهم قالوا: فمن نسي مسح رأسه فوجد في لحيته بللا يكفيه مسحه بذلك البلل، وهذا يدل على أنهم يرون المستعمل مطهرا وبه أقول. وقيل: طاهر ومشكوك في تطهيره، يتوضأ وبه ويتيمم ويصلي صلاة واحدة. وقال النووي: إن في المسألة قولين وهو الصواب.
واتفقوا على أن المذهب الصحيح أنه ليس بطهور وعليه التفريع. وحكى عيسى ابن أبان أنه طهور، قال في " المهذب ": الصحيح أنه ليس بطهور، ومن أصحابنا من لم يثبت هذه الرواية. وقال المحاملي: قوله: من يدر رواية عيسى بن أبان ليس بشيء؛ لأنه ثقة وإن كان مخالفا، وقال بعضهم: عيسى ثقة لا يتهم فيما يحكيه، ففي المسألة قولان. وقال صاحب " الحاوي ": نصه في الكتب القديمة والجديدة وما نقله جميع أصحابه سماعا، ورواية أنه غير طهور. وحكى عيسى بن أبان في الخلاف عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه طهور.
وقال أبو ثور: سألت الشافعي عنه فتوقف. وقال أبو إسحاق وأبو حامد المروزي فيه قولان. وقال ابن شريح وأبو علي بن أبي هريرة: ليس بطهور قطعا وهذا أصح لأن عيسى بن أبان وإن كان ثقة فيحكي ما يحكيه أهل الخلاف ولم يلقه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليحكيه سماعا، ولا وجده منصوصا فيأخذ من كتبه، ولعله تأول كلامه بصيرورة طهارته ردا على أبي يوسف فحمله على جواز الطهارة به.
م: (هما) ش: أي مالك والشافعي (يقولان: إن الطهور ما يطهر غيره مرة بعد أخرى كالقطوع) ش: ولا يكون كذلك إلا إذا لم ينجس بالاستعمال، وتكلمت الشراح هاهنا بكلام كثير، فقال(1/395)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صاحب " الدراية " وفي " الكافي " هذا أنسب في القوانين ثم أطال الكلام، ولخصه الأكمل، فقال: والجواب أنه يحكى عن ثعلب أراد الطهور ما يطهر غيره إلى آخره. قال: ورد عليه بأن هذا إن كان لزيادة بيان نهايته في الطهارة كان سديدا، ويعضده قَوْله تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] (الأنفال: الآية 11) وإلا فليس نقول من التعليل في شيء، وإن كانت بيانا لنهاية فيها لا يستدل على تطهير الغير فضلا عن التكرار فيه.
وقال صاحب " الدراية " في آخر كلامه: ولم يتضح لي سر هذا الكلام. وقال الأترازي: قوله كالمقطوع فيه تسامح؛ لأن المشبه يقال من الفعل اللازم والمشبه به من الفعل المتعدي، إلا أن المبالغة في الطهارة بأن يظهر أثرها في العين فصار بمعنى المطهر.
وقال السغناقي: قال الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الماء مطهر لغيره؛ لأن الطهور بمعنى المطهر، بل علم ذلك بسبب العدول من صيغة الطاهر إلى صيغة الطهور التي هي للمبالغة في ذلك الفعل كالمغفور والشكور فيهما مبالغة ليس في الغافر والشاكر، وليس تكون تلك المبالغة في طهارة الماء إلا باعتبار أنه يطهر غيره؛ لأن في نفس الطهارة كلتا الصيغتين سيان، فلا بد من معنى زائدة في الطهور وليس في الطهارة، ولا ذلك إلا بالتطهير لا أن الطهور جاء بمعنى المطهر لأنه من طهر الشيء وهذا لا يستفاد منه التعدي.
قلت: تقدير هذا الكلام أن مالكا والشافعي - رحمهما الله - احتجا بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] (الفرقان: الآية 47) ووجه ذلك أن الطهور مصدر، ومنه «مفتاح الصلاة الطهور» «وطهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب» «ولا صلاة إلا بطهور» نص عليه سيبويه والخليل والمبرد في " الكامل " والأصمعي وابن السكيت.
ثم قولهما: إن الطهور ما يطهر غير مرة بعد أخرى غير مثبت في القولين، واحتج لهما من ينصرهما بما روي عن ثعلب: الطهور ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره كالقطوع فإن فيه معنى التكرار والصيغتان أوردا عليه بما ذكر الآن، وتحقيق الردين قياسه الطهور الذي هو من طهر اللازم على ما هو مشتق من الأفعال المتعدية كتطوع وتنوع غير صحيح، والصيغة إذا أخذت من الفعل اللازم كانت للمبالغة والتكثير في الفاعل نحو مات زيد وموت ونام ونوم، ولا يتعلق به الفعول البتة، وإن كان الفعل متعديا كان الثلاثي في مفعوله نحو قطعت الثوب.
والطهور مأخوذ من فعل ثلاثي لازم فكيف يتصور أن يؤخذ منه معنى الرباعي المتعدي فيكون المراد به التكرار وتكثير المفعول، ألا ترى أنك إذا قلت: فلان صبور من صبر فمعناه كثير(1/396)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصبر لا أنه يصبر مرة بعد أخرى، ومثال ذلك كثير، ويدل على تحقيق هذا قَوْله تَعَالَى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] (الإنسان: الآية 21) ومعلوم أن أهل الجنة لا يحتاجون إلى التطهير إلى التطهير من حدث أو خبث بل هو عبارة عن الطاهر الشديد الطهارة. وقال جرير:
عذاب الثنايا ... ريقهن طهور
والريق لا يطهر به عندهم، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التيمم طهور المسلم» والتيمم لا يرفع الحدث عندهم.
قلت: يمكن المناقشة بأن يقال: لا نسلم قولكم بأن المبالغة والتكرير تكون في الفاعل إذا كانت الصيغة من الفعل اللازم على الإطلاق، بل قد يكون التكثير في الفعل دون الفاعل نحو حولت وطرقت، وقد يكون في الفاعل نحو سومت الإبل، وقولكم: إن الطهور من طهر وهم لازم لا يشابه المشتق من الفعل المتعدي كتطوع وتنوع فلا يقاس عليه غير مانع قطعا؛ لأنه قد يستعمل على سبيل المجاز، أهل الصرف جوزوا ذلك فقال بعضهم: إن المراد بالتكثير في الفعول لا يستعمل بالتضعيف إلا إذا كان الفعل جمعا نحو قولهم: غلقت بالتضعيف فإنه لا يستعمل إلا إذا قال: غلقت الأبواب حتى إذا كان واحدا لا يقال: إلا غلقت بالتخفيف إلا على سبيل المجاز، فحينئذ قياسهم الفعول من اللازم على الفعول من المتعدي صحيح بهذه الطريقة.
ويؤيد ذلك ما قاله تاج الشريعة في هذا الموضع في شرحه أن الطهور وإن كان اشتقاقه من فعل وهو لازم لكنه جعل متعديا شرعا بواسطة ظهور أثره في الغير فصح الإلحاق، ويمكن أن يمنع استدلالهم بلفظ الطهور فيما احتجوا به بأن يقال: الطهور اسم لما يتطهر به كالسجود والوقود فليس فيه ما يدل على أنه مطهر غيره مرة بعد أخرى ولا فيه مبالغة.
فإن قالوا: نحن نحتج بأشياء غير ذلك الأول «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ فمسح رأسه ببل لحيته» . وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه اغتسل فنظر لمعة من بدنه لم يصبها الماء فأمر يده بما عليه ذلك» .
الموضع الثاني: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء طهور لا ينجسه شيء» . وهو حديث صحيح.(1/397)
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان المستعمل متوضئا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثالث: أن ما لاقى طاهرا يبقى مطهرا كما لو غسل به ثوبه.
والرابع: أن ما أدي به الفرض مرة لا يمنع أن يؤدى به ثانيا، كما يجوز للجماعة أن يتيمموا في موضع واحد.
والخامس: «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه» . رواه البخاري.
والسادس: أنهم كانوا يتوضؤون والماء يتقاطر على ثيابهم ولا يغسلونها.
الجواب عن الأول: أنه حديث ضعيف، فإن فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، فلا يحتج بروايته إذا لم يخالفه غيره، فكيف وقد عارضته الروايات الصحيحة منها ما رواه مسلم أبو داود وغيرهما «عن عبد الله بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ فذكر صفة الوضوء إلى أن قال: ومسح رأسه بماء غير فضل يديه وغسل رجليه» وهذا هو الموافق لروايات الأحاديث الصحيحة في أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخذ لرأسه ماء جديدا.
والذي روي عن ابن عباس ضعيف ضعفه البيهقي والدارقطني، وقال البيهقي: إنما هو كلام النخعي وعلى تقدير صحته فبدن الجنب كعضو واحد، ويجوز نقل البلة من موضع إلى آخر.
والجواب عن الثاني: أنه استعمل في الذي تغيرت صفته من الطهورية إلى الطهارة كما في الصدقة لما أقيم به القربة تغيرت صفته وزال عنه صفة كونه حلالا للجميع، حتى لا تحل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقرابته على ما يجيء عن قريب.
وعن الثالث: فقياسهم غير صحيح؛ لأن في غسل الثوب لم يرد فرض ولا أقيم به عن قريب.
وعن الرابع: فقياس على تيمم الجماعة غير صحيح؛ لأن المستعمل ما تعلق بالعضو والأرض ليست كالماء فلا تقبل صفة الاستعمال.
وعن الخامس: أنه يجوز أن يكون اقتتالهم على ما فضل من وضوئه، قال في بعض الروايات الصحيحة: «فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به» وفي لفظ النسائي في هذا الحديث: وأخرج عن بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فضل وضوئه فابتدره الناس، وليس المراد الساقط من وضوئه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وعن السادس: بأن حكم الاستعمال لا يثبت إلا بالاستقرار على الأرض أو في إناء على قوله، وإن ثبت بالمزايلة على قوله لكنه في الثياب ضروري فعفي عن ذلك.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أحد قولي الشافعي) ش: الضمير يرجع إلى القول الذي دل(1/398)
فهو طهور، وإن كان محدثا فهو طاهر غير طهور؛ لأن العضو طاهر حقيقة، وباعتباره يكون الماء طاهرا لكنه نجس حكما، وباعتباره يكون الماء نجسا، فقلنا بانتفاء الطهورية وبقاء الطهارة عملا بالشبهين. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو طاهر غير طهور،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عليه. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إن كان المستعمل متوضئا) ش: أراد أنه إن كان على وضوء م: (فهو) ش: أي الماء الذي استعمله، م: (طهور) ش: يعني طاهر في نفسه على حاله ولم يتغير منه شيء فهو طهور لغيره، م: (وإن كان) ش: أي المستعمل، م: (محدثا فهو طاهر) ش: في نفسه م: (غير مطهر) ش: لغيره م: (لأن الأعضاء) ش: أي الأعضاء المستعملة م: (طاهرة حقيقة) ش: لا [......] التنجيس كما لو غسل به ثوب طاهر م: (وباعتباره) ش: أي وباعتبار أمر الحقيقة م: (يكون الماء طاهرا) ش: وطهورا؛ لأنه لم يتغير منه شيء، والأعضاء طاهرة، ولهذا كان عرق المحدث والجنب طاهرا، وكذلك سؤرهما، وتجوز صلاة حاملهما.
م: (لكنه) ش: أي لكن الماء م: (نجس حكما) ش: أي من حيث الحكم أراد به النجاسة الحكمية بسبب إزالة الحدث أو التقرب على الاختلاف م: (وباعتباره) ش: أي وباعتبار النجس الحكمي م: (يكون الماء نجسا) ش: فإذا كان كذلك صار هنا اعتباران م: (فقلنا بانتفاء الطهورية) ش: لغيره م: (وبقاء الطهارة) ش: في نفسه م: (عملا بالشبهين) ش: شبه الطهارة، وشبه النجاسة، فباعتبار الشبه الأول يكون طاهرا مطهرا، وباعتبار الشبه الثاني لا يكون طاهرا أصلا. والحكم عليه بأوجه منها إبطال للآخر. وإعمالهما ولو بوجه أولى من إهمال أحدهما فعمل بهما بإسقاط الطهورية وبقاء الطهارة.
فإن قلت: عملا منصوب بماذا؟ قلت: يجوز أن يكون تمييزا أي من حيث العمل، ويجوز أن يكون حالا بمعنى فعلت كذا، فكذا حال كوننا عملنا بالشبهين، ويجوز أن يكون نصبه على المصدرية التقدير فعلت كذا وكذا وعملنا بالشبهين.
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو) ش: أي قول محمد دل عليه قال م: (رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو) ش: أي الماء المستعمل م: (طاهر) ش: في نفسه م: (غير طهور) ش: لغيره وبه أخذ مشايخ العراق، ورواه زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعافية القاضي قال: أو هو طاهر غير طهور عند أصحابنا، حتى كان قاضي القضاة أبو حازم عبد الحميد العراقي يقول: أرجو أن لا يثبت رواية النجاسة فيه عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو اختيار المحققين من مشايخنا بما وراء النهر. قال في " المحيط: وهو الأشهر الأقيس. قال في " المفيد ": هو الصحيح. وقال الأسبيجابي: وعليه الفتوى، وبه قال أحمد، وهو الصحيح من مذهب الشافعي وهو رواية عن مالك، ولم يذكر ابن المنذر عنه غير ذلك. قال النووي: وهو قول جمهور(1/399)
لأن ملاقاة الطاهر لا توجب التنجيس، إلا أنه أقيمت به قربة فتغيرت به صفته كمال الصدقة. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف - رحمهما الله -: هو نجس لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسلن فيه من الجنابة» ولأنه ماء أزيلت به النجاسة الحكمية فيعتبر بماء أزيلت به النجاسة الحقيقية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلف والخلف.
م: (لأن ملاقاة الطهارة الطاهر لا يوجب التنجيس) ش: الطاهر الأول الماء، والطاهر الثاني: العضو المغسول، والملاقاة مصدر لاقى مضاف إلى فاعله، والطاهر الثاني منصوب به، فإذا لاقى الطاهر لا يتغير الملاقي كما لو غسل به ثوب طاهر م: (إلا أنه) ش: أي أن الماء والاستثناء من قوله لا يوجب التنجيس م: (أقيمت به قربة) ش: أي تقرب إلى الله تعالى، والتقرب إلى الله تعالى يكون بما فيه الخير والعمل الصالح، وليس المراد منه قرب الذات والمكان على ما عرف في موضعه م: (فتغيرت بصفته) ش: فلم يكن طيبا م: (كمال الصدقة) ش: الذي أقيم به القربة، وقد تغيرت صفته حتى لم تحل لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى أهل بيته، ولكنه في نفسه طاهر حلال في نفسه حتى يحل لغيره، ومع هذا سمى الزكاة أوساخ أموال الناس فإذا أعطى هاشمي بنية الزكاة لا يجوز وبنية الهبة يجوز، وإن كان المال واحدا وفي صدقة التطوع عليه روايتان.
م: (وقال أبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله -: هو) ش: أي الماء المستعمل م: (نجس) ش: إما حقيقة وأما حكما على الخلاف كما يأتي إن شاء الله تعالى م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم» ش: الحديث في هذا الباب ورواية أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجه الاستدلال به أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كما نهى عن النجاسة الحقيقية وهي البول، فكذلك نهى عن الحكمية وهو الاغتسال، فدل على أن الاغتسال فيه كالبول فيه. الحديث يجوز فيه الرفع والنصب أما الرفع فعلى الابتداء، وخبره محذوف تقديره الحديث بتمامه، وأما النصب فعلى تقدير أمر الحديث أو أتمه وتمامه ولا يغتسل فيه من الجنابة.
م: (ولأنه) ش: دليل عقلي أي ولأن الماء المستعمل م: (ماء أزيلت به النجاسة الحكمية) ش: لأن عضو المحدث والجنب له حكم النجاسة شرعا، وقد أزيلت تلك النجاسة بالماء فينجس كما في الحقيقة، والدليل على ذلك قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 16) والتطهير عبارة عن إزالة النجاسة، وقد أزيلت تلك النجاسة بالماء فاستعمل حكم النجاسة إليه كما في الحقيقة م: (فيعتبر بماء أزيلت به النجاسة الحقيقية) ش: أي فإذا كان كذلك يعتبر الماء الذي أزيلت به النجاسة الحكمية بالماء الذي أزيلت به النجاسة الحقيقية.
فإن قلت: كيف يتصور هذا الانتقال والأعراض لا تقبل الانتقال من محل إلى محل باتفاق(1/400)
ثم في رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه نجس نجاسة غليظة اعتبارا بالماء المستعمل في النجاسة الحقيقية، وفي رواية أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه وهو قوله: نجاسة خفيفة لمكان الاختلاف،
والماء المستعمل هو ماء أزيل به حدث، أو استعمل في البدن على وجه القربة، قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لا يعني بصيرورة الماء نجسا إلا اتصافه بالخبث شرعا كمال الصدقة سلمنا عدم قبول الأعراض الانتقال من محل إلى محل آخر، ولكن الأمور الاعتبارية الحكمية يجوز أن تعتبر قائمة بعد قطع الاعتبار عن قيامها بمحل آخر، ألا ترى أن الملك للبائع أمر اعتيادي حكمي، وبعد أن قال: بعت وقبل المشتري انتقل من البائع إليه.
فإن قلت: سلمنا هذا في المحدث والجنب، فأما المتوضئ إذا توضأ ثانية بنية القربة فلا نسلم أنه يكون مستعملا؛ لأنه لم يكن بأعضائه من النجاسة الحكمية شيء حتى يزول عن أعضائه وينقل إلى الماء.
قلت: نوى القربة فقد أراد به طهارة على طهارة، ونور على ما جاء في الخبر، ولا يكون طهارة جديدة حكما إلا بإزالته حكما فصارت الطهارة على الطهارة وعلى الحدث سواء.
م: (ثم في رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه) ش: أي أن الماء المستعمل م: (نجس نجاسة غليظة) ش: أشار بهذا إلى أنه لما بين نجاسة الماء المستعمل احتيج إلى بيان صفة هذه النجاسة هل هي غليظة أم خفيفة، فاختلفت الروايات فيه، فروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه نجس مغلظ م: (اعتبارا بالماء المستعمل في النجاسة الحقيقية) ش: أي نجاسة خفيفة وارتفاعها على أنه مبتدأ وخبره قوله في رواية مقدما م: (لمكان الاختلاف) ش: أي لأجل اختلاف العلماء في الماء المستعمل، فإن عند مالك طاهر وطهور كما ذكرنا، واختلاف العلماء يورث الإخفاف.
م: (والماء المستعمل هو ماء أزيل به حدث) ش: هذا شروع في بيان حقيقة الماء المستعمل وكان حقه التقديم كل قدم الحكم؛ لأنه هو المقصود، وقوله: الماء مبتدأ والمستعمل صفته وهو قوله: مبتدأ ثان، وقوله: ما أزيل به حدث خبره والجملة خبر المبتدأ الأول، م: (أو) ش: كلمة أو للتنويع يعني يكون الماء مستعملا بأحد الأمرين إزالة الحدث م: (استعمل) ش: أي الماء م: (في البدن على وجه القربة) ش: أي التقرب إلى الله تعالى بأن يتوضأ وهو على الوضوء، أو اغتسل وهو طاهر.
م: (قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهذا) ش: أي هذا الذي(1/401)
عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقيل: هو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يصير مستعملا إلا بإقامة القربة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكرنا أن كون الماء مستعملا بأحد الأمرين م: (قول أبي يوسف) ش: فإن عنده بأحد الأمرين م: (وقيل هو) ش: أي قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا) ش: يعني استعمال الماء عنده أيضا بأحد الأمرين المذكورين.
م: (قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يصير) ش: أي الماء م: (مستعملا إلا بإقامة القربة) ش: فقط وعند زفر والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإزالة الحدث لا غير، ولو توضأ محدث بنية القربة صار مستعملا بالإجماع، ولو توضأ متوضئ للتبرد لا يصير الماء مستعملا بالإجماع، ولو توضأ المحدث للتبرد صار مستعملا عندهما وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لعدم قصد القربة، وكذا عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لعدم إزالة الحدث عنده بلا نية. ولو توضأ المتوضئ بقصد القربة صار مستعملا عند الثلاثة خلافا لزفر والشافعي - رحمهما الله -. ولو توضأ بماء الورد لا يصير مستعملا إجماعا.
وفي " المبسوط ": المحدث أو الجنب إذا أدخل يده في الماء أو الجب لأجل الاغتراف لا يصير الماء مستعملا بلا خلاف، إلا إذا نوى إيصال اليد للاغتسال، ولو أدخل رجله في البئر ولم ينو به الاغتسال ذكر الشيخ الإمام أنه يصير مستعملا لعدم الضرورة، وعلى هذا إذا وقع الكوز في الجب وأدخل يده في الجب لإخراج الكوز لا يصير الماء مستعملا في الرواية المعروفة عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي " الفتاوى " إذا أدخل في الإناء إصبعا أو أكثر منه دون الكف يريد غسله لم يتنجس الماء، ولو أدخل الكف يريد غسله يتنجس. وفي " المضمرات " هذا قول أبي يوسف، وعند محمد: طاهر وعليه الفتوى، وفي " الظهيرية " حيث رفع الماء بقية من أرى الحمام وغسل به يديه لا رواية لهذا في الأصل، وقال محمد بن الفضل فيه: نجس ويداه نجستان والماء الذي خرج من فيه نجس مستعمل، وقال بعضهم: الماء مستعمل ويداه نجستان وفمه طاهر والأول أصح.
وإذا غسل فخذه لا لنجاسة هل يأخذ حكم الاستعمال لا نص فيه عن أصحابنا، وفي " الخلاصة " الأصح أنه لا يصير مستعملا، وفي " الذخيرة " ابن سماعة عن محمد رجل على جراحته جبائر فغمسها في الإناء يريد به المسح عليها أجزأه، ولا يفسد الماء في " المبسوط " إذا غسل يده للطعام قبل الأكل، وبعده يصير الماء مستعملا، بخلاف ما لو غسل يده من الوسخ والعجين فإنه لا يصير مستعملا؛ لأنه لا قربة ولا إزالة حدث.
وفي " الطحاوي ": قال بعضهم قبل الطعام وبعده يصير مستعملا وفي الطعام لا، وإذا(1/402)
لأن الاستعمال بانتقال نجاسة الآثام إليه وأنها تزال بالقرب، وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: إسقاط الفرض مؤثر أيضا، فيثبت الفساد بالأمرين، ومتى يصير الماء مستعملا؟ الصحيح أنه كما زال عن العضو صار مستعملا؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أدخل الصبي يده في الإناء على قصد القربة فالأشبه أن يكون الماء مستعملا إذا كان الصبي عاقلا؛ لأنه من أهل القربة، وامرأة أوصلت الماء إلى ذوائبها فغسلت ذلك الشعر بالماء لا يصير مستعملا، بخلاف ما لو غسلت شعرها النابت من رأسها، ولو غسل رأس مفتول قد بان منه صار مستعملا.
م: (لأن الاستعمال بانتقال نجاسة الآثام إليه) ش: أي إلى الماء المستعمل، فإن قلت: كيف يصف الإثم بالنجاسة، وبعد الاتصاف بها كيف تقبل الأعراض لانتقالها، قلت: أما اتصافه فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أصاب من هذه القاذورات فليستتر بستر الله» ، وهذا الشارع أطلق على الاسم قذرا، والقذر نجس فلقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من غسل وجهه تساقطت خطاياه مع آخر قطر الماء» ، وأما فلها حكم الجواهر في الشرع م: (وأنها) ش: أي وأن نجاسة الآثام م: (تزال بالقربة) ش: أي بإرادة القربة، قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] (هود: الآية 114) وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أتبع السيئة الحسنة تمحها» .
م: (وأبو يوسف يقول: إسقاط الفرض) ش: وهو إزالة الحدث م: (مؤثر أيضا) ش: في كون الماء مستعملا؛ لأن الحدث الحكمي أغلظ من النجاسة العينية بالماء تنجسه، فإزالة النجاسة الحكمية أولى، ولهذا قال أبو حنيفة في رواية الحسن عنه م: (فيثبت الفساد) ش: أي فساد الماء م: (بالأمرين) ش: أي بإسقاط الفرض وهو إزالة الحدث وإقامة القربة.
م: (ومتى يصير الماء مستعملا؟) ش: كلمة متى للاستفهام نحو: متى نصر الله، وهو أحد معانيه الخمسة، وهذا بيان لوقت أخذه حكم الاستعمال م: (الصحيح أنه) ش: أي أن الماء م: (كما زال عن العضو صار مستعملا) ش: قال السغناقي: الكاف هنا للمفاجآت لا للتشبيه كما تقول: كما خرجت من البيت رأيت زيدا، أي فاجأت ساعة خروجي ساعة رؤية زيد أي يصير الماء مستعملا مفاجأة وقت زواله عن العضو وقت الاستعمال من غير توقف إلى وقت الاستقرار في موضع، كما زعم بعضهم وتبعه صاحب " الدراية " و" الأكمل " في كون الكاف هنا للمفاجأة.(1/403)
لأن سقوط حكم الاستعمال قبل الانفصال للضرورة ولا ضرورة بعده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: ذكر النحاة أن الكاف إذا كانت بعدها ما الكافة يكون لها ثلاثة معان: أحدها: تشبيه مضمون جملة لمضمون الأخرى، كما كانت قبل الكف كتشبيه المفرد، قال الله تعالى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] (الأعراف: الآية 138) والثاني أن تكون بمعنى لعل، حكى سيبويه عن العرب: انتظرني كما آتيك أي لعل ما آتيك، قال رومة: لا تشتم الناس كما لا تشتم، والثالث: أن تكون بمعنى قران الفعلين في الوجود نحو أدخل كما يسلم الإمام، وكما قام زيد قعد عمرو، الكاف في قوله: كما زائل عن العضو من هذا القبيل فالمعنى أن الماء يصير مستعملا مقارنا زواله عن العضو من غير توقف إلى استقراره في مكان.
وبعضهم قالوا: إن الكاف التي بعدها ما الكافة تكون بمعنى المبادرة أيضا نحو سلم كما تدخل وصل كما تدخل الوقت ذكره ابن الخيار والسيرافي، ومع هذا قالوا: هو غريب وهذا في المعنى مثل قران الفعلين الذي ذكرناه، ولم أر أن أحدا منهم قال: إن الكاف للمفاجأة بهذه العبارة وإن كان معناها قريبا بما ذكرنا.
م: (لأن سقوط حكم الاستعمال) ش: أي سقوط حكم كون الماء مستعملا م: (قبل الانفصال) ش: أي قبل انفصال الماء عن عضو المتوضئ م: (للضرورة) ش: أي لأجل ضرورة تعذر الاحتراز عنه م: (ولا ضرورة بعده) ش: أي عبد الانفصال وفي " المحيط " أن الماء إنما يأخذ حكم الاستعمال إذا زايل البدن، والاجتماع في المكان ليس بشرط هذا هو مذهب أصحابنا.
قلت: بل نص عليه المصنف بقوله: الصحيح أنه كما زايل عن العضو صار مستعملا. وذكر في الأصل إذا مسح رأسه بما أخذه من لحيته لم يجز عندنا، وكذا لو مسح على خفيه وبقي على كفه بلل فمسح به رأسه، وكذا لو توضأ إنسان بالماء المتقاطر عن المتوضئ بأن يكون في موضع عال وهو يأخذ الماء من الهواء قبل وصوله إلى الأرض لا يجوز.
وفي " شرح الطحاوي " الماء وإنما يأخذ حكم الاستعمال إذا زايل البدن واستقر في مكان، وبه قال سفيان الثوري وإبراهيم النخعي وبضع مشايخ بلخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وهو اختيار الطحاوي وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني. وفي " خلاصة الفتاوى " المختار أنه لا يعتبر مستعملا ما لم يستقر في مكان، وسكن عن التحرك.
فإن قلت: فعلى ما ذكر المصنف ينبغي أن ينجس ثوب المتوضئ الذي ينشف به إذا أصاب الماء. قلت: أجابوا بأن ذلك سقط للحرج.
فإن قلت: إذا أصاب ثوب غير المتوضئ، قلت: قيل: هذا لا ضرورة فيه فينجس، وقيل الضرورة في حق المتوضئ لا في حق المغتسل؛ لأنه قليل الوقوع.(1/404)
والجنب إذا انغمس في البئر لطلب الدلو، فعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الرجل بحاله لعدم الصب وهو شرط عنده لإسقاط الفرض.
والماء بحاله لعدم الأمرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: من شرط الاستقرار في مكان شرط أن يكون في أرض، قلت: لا، سواء كان أرضا أو إناء أو كف المتوضئ أو كف غيره ونحو ذلك.
فإن قلت: استدل سفيان الثوري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - علينا بمسائل زعم أنها تدل على صحة مذهبه، منها: إذا توضأ أو اغتسل وبقي في يده لمعة فأخذ البلة منها في الوضوء أو من أي عضو كما في الغسل وغسل اللمعة يجوز، ومنها: لو بقي في كفه بلة فمسح بها رأسه يجوز، ومنها: لو مسح أعضاءه بالمنديل فابتل جازت الصلاة معه، ومنها: لو تقاطر الماء من أعضائه على ثيابه وفحش لا يمنع جواز الصلاة.
قلت: أجاب من لم يشترط الاستقرار في المكان عن الأول أن مع النقل في العضو الواحد يفضي إلى الحرج، وعن الثانية: بأن الفرض تأوى بما جرى على العضو لا بالبلة الباقية في الكف، وعن الثالثة والرابعة بالحرج والضرورة وقد ذكرناه.
[الجنب إذا انغمس في البئر]
م: (والجنب إذا انغمس في البئر) ش: أراد به الجنب الذي ليس على بدنه نجاسة فإنه إذا كان على بدنه نجاسة وانغمس في البئر نجس الماء وهو على حاله جنب سواء كان انغماسه لطلب الدلو أو لغيره، وإنما قيد بقوله م: (لطلب الدلو) ش: لأنه لو انغمس لطلب الاغتسال للصلاة فسد الماء بالاتفاق م: (فعند أبي يوسف الرجل بحاله) ش: وهو كونه جنبا م: (لعدم الصب) ش: صب الماء؛ لأنه عند الصب يكون كالجاري وعند عدمه يكون راكدا وهو أضعف من الجاري، والله تعالى كلفنا بالتطهير، والقياس يأبى التطهير بالغسل؛ لأن الماء ينجس بأول الملاقاة فلا يحصل به التطهير، وإنما حكمنا بالتطهير ضرورة، وهي تندفع بالصب فلا ضرورة إلى طريق آخر، ولهذا لا يشترط الصب عند الكل في الماء الجاري والحياض الكبيرة. وروي أن أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: إن الثوب أيضا لا يطهر إلا بالصب وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا م: (وهو شرط عنده) ش: أي والصب شرط عند أبي يوسف والواو فيه للحال م: (لإسقاط الفرض) ش: الكلام فيه بالصب م: (والماء بحاله) ش: وهو كونه طاهرا م: (لعدم الأمرين) ش: وهما إسقاط الفرض، ونية القربة فإن الماء إنما يتغير عنده بأحدهما ولم يوجد.
فإن قلت: كان الحق تقديم أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الذكر وبعده ذكر أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبعده ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قلت: إنما قدم أبا يوسف لزيادة احتياجه إلى البيان بسبب تركه أصله، فإن كان يجب أن ينجس الماء عنده كما قاله أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الماء تغير عنده مستعملا لسقوط الفرض، وإن لم ينو فكأنه إنما ترك أصله في هذه المسألة لضرورة الحاجة إلى طلب الدلو فلم يسقط الغرض كيلا يصير الماء نجسا فيفسد البئر. ونظيره ما روي عنه أنه قال:(1/405)
وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كلاهما طاهران: الرجل لعدم اشتراط الصب، والماء لعدم نية القربة. وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كلاهما نجسان: الماء لإسقاط الفرض عند البعض بأول الملاقاة، والرجل: لبقاء الحدث في بقية الأعضاء، وقيل: عنده نجاسة الرجل بنجاسة الماء المستعمل، وعنه: أن الرجل طاهر؛ لأن الماء لا يعطى له حكم الاستعمال قبل الانفصال، وهو أوفق الروايات عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إذا أدخل الجنب أو المحدث يده في الإناء ليغترف الماء لا يزول الحدث عن يده، كيلا يفسد الماء للحاجة إلى الاغتراف، فكذا هذا. م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كلاهما) ش: أي الرجل والماء م: (طاهران: الرجل لعدم اشتراط الصب عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والماء لعدم نية القربة) ش: لأن عنده إنما يتغير الماء بنية التقرب ولم توجد فإن قلت: علمت بالعدم فلا يجوز. قلت: قد تقدم هذا مع جوابه م: (وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كلاهما) ش: أي الرجل والماء م: (نجسان: الماء لإسقاط الفرض عند البعض بأول الملاقاة) ش: أي النية عنده ليست بشرط لإسقاط الفرض، فإذا أسقطت الفرض صار الماء مستعملا عنده فينجس م: (والرجل: لبقاء الحديث في بقية الأعضاء) ش: أي ونجاسة الرجل لأجل بقاء الحدث في بقية الأعضاء م: (عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقيل: عنده نجاسة الرجل بنجاسة الماء المستعمل) ش: لأن النية لما لم يشترط لسقوط الفرض عنده سقط الفرض بالانغماس وصار الماء مستعملا، الرجل متصل به فينجس بنجاسته م: (وعنه) ش: أي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن الرجل طاهر؛ لأن الماء لا يعطى له حكم الاستعمال قبل الانفصال) ش: أي قبل انفصال الماء عن العضوم: (وهو) ش: أي هذا القول الثالث م: (أوفق الروايات عنه) ش: أي عن أبي حنيفة لكونه أكثر مناسبة لأصله ولكونه أسهل للمسلمين، فعلى الأول من أقواله لا تجوز له الصلاة ولا قراءة القرآن، وعلى الثاني: تجوز له قراءة القرآن دون الصلاة، وعلى الثالث: يجوز كلاهما وتسمى هذه المسألة مسألة - جحط - فالجيم عبارة عن نجاسة كل واحد من الرجل والماء؛ لأنهما نجسان، والحاء عن إبقاء حال كل واحد على ما كان، والطاء عن طهارة كل منهما، وترتيب الأحكام على ترتيب العلماء الثلاثة. وقد يقال: - نحط - بالنون موضع الجيم فالنون عبارة عن نجاسة كل منهما.
وقال شمس الأئمة: التعليل لمحمد لعدم إقامة القربة ليس بقوي فإن هذا المذهب غير مروي عنه أيضا. والصحيح أن إزالة الحدث بالماء مفسد له إلا عند الضرورة كالجنب يدخل يده في الإناء، وفي البئر ضرورة لطلب الدلو يسقط استعماله للحاجة. وقال القدوري: كان شيخنا أبو عبد الله الجرجاني يقول: الصحيح عندي من مذهب أصحابنا أن إزالة الحدث استعمال للماء فلا معنى لهذا الخلاف، وإنما لم يصر الماء مستعملا في البئر ضرورة، وقال في " قاضيخان ": ومنهم من قال: يصير الماء مستعملا عند محمد برفع الحدث أيضا إلا في البئر للضرورة، ولو غسل الطاهر شيئا من بدنه غير أعضاء الوضوء كالفخذ والجنب بنية القرب قيل: يصير الماء مستعملا(1/406)
قال: وكل إهاب دبغ فقد طهر وجازت الصلاة فيه والوضوء منه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كأعضاء الوضوء، وقيل: لا يصير مستعملا ذكره في " قاضيخان " وإذا وقع الماء المستعمل في البئر لا يفسده عند محمد، ويجوز التوضؤ به ما لم يغلب على الماء، وهذا هو الصحيح، وفي التجنيس على المذهب المختار.
وإذا وقع الماء المستعمل في المطلق القليل قال بعضهم: لا يجوز الوضوء به، وإن قيل: وقيل يجوز وهو الصحيح، ومنهم من قال: الماء المستعمل إذا وقع في البئر عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز الوضوء به بخلاف بول الشاة مع أن كل واحد منها طاهر عنده، والفرق له أن الماء المستعمل من جنس ماء البئر فلا يستهلك فيه، وبول الشاة ليس من جنسه فيعتبر الغالب، وفي " قاضيخان ": لو صب الماء الذي توضأ به في بئر عند محمد ينزح منها عشرون دلوا؛ لأنه طاهر عنده فكان دون الفأرة.
قلت: وعلى القول الثاني لا يجوز استعمال ماء البئر وعندهما ينزح أربعين دلوا وقيل: تنزح جميع الماء هذا على القول بنجاسة الماء المستعمل.
[طهارة الجلود بالدباغ]
[طهارة جلد الكلب والخنزير]
م: (قال: وكل إهاب دبغ فقد طهر) ش: كلمة: كل إذا أضيفت إلى نكره توجب عموم الأفراد، وإذا أضيفت إلى معرفة توجب عموم الأجزاء والإهاب نكرة، فالمعنى كل واحدة من أفراد الإهاب إذا دبغ فقد طهر إلا ما استثني منه. والإهاب اسم لجلد لم يدبغ فكأنه تهيأ للدباغ، يقال: فلان تأهب للحرب إذا تهيأ واستعد، ويقال: تأهب للشتاء أي استعد.
وفي " الفائق ": سمي إهابا لأنه أهبته للحي وبنا للحماية له كما يقال: مسك لإمساكه ما وراؤه، والإهاب أعم من الجلد يتناول جلد المذكى، وغير المذكى، وجلد ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل، والمدبوغ لا يسمى إهابا بل يسمى أديما أو حورا أو أدما أو جرابا. ونحو ذلك, وإنما دخلت الفاء في فقد طهر؛ لأن في صدر الكلام معنى الشرط، إذ التقدير وكل إهاب إذا دبغ فقد طهر وإن لم يدبغ فلا يطهر.
وقوله: - طهر -: بضم الهاء وفتحها من باب كرم يكرم ونصر ينصر، والمصدر فيها طهارة، والطهر أيضا نقيض الحيض، والطهور ما يثبت الطهر به كالفطور والسحور، وقوله - طهر - أعم من طهارة الظاهر والباطن.
م: (وجازت الصلاة فيه) ش: أي في إهاب المدبوغ، بأن جعل ثوبا يصلي فيه؛ لأنه طاهر م: (والوضوء منه) ش: أي من الإهاب المدبوغ، أي جاز الوضوء منه بأن جعل قربة أو دلوا أو نحو ذلك، فإذا جازت الصلاة فيه جازت عليه أيضا بأن جعل مصلى؛ لأن البيان في الثوب بيان في المكان لزيادة الاستعمال، ولأن الثوب منصوص عليه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] (المدثر:(1/407)
إلا جلد الخنزير والآدمي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الآية 4) وطهارة المكان تلحقه بالدلالة.
فإن قلت: قوله طهر أفاد حصول الطهارة فيشمل ذلك الصلاة فيه والوضوء منه، فما الفائدة في ذكرهما بعد ذلك.
قلت: أجيب بجوابين:
أحدهما: الاحتراز بذلك عن قول مالك: فإنه يقول: يطهر ظاهره دون باطنه فيصلى عليه لا فيه، ويستعمل في اليابس دون الرطب.
والثاني: أن ذلك توكيد لطهارته، ورد لقول من لا يقول بطهارة الجلد المدبوغ.
م: (إلا جلد الخنزير والآدمي) ش: الخنزير وزنه فعليل مثل قنديل رباعي والياء فيه زائدة، والنون أصلية مثلها خندريس؛ لأنها لا تزاد ثانية مطردة بخلاف الثالثة شريت وجحيل فقد نقل بأنها زائدة مطردة. وحكى ابن سيده: أنه مشتق من خزر العين أي ضيعها فهو على هذا ثلاثي مزيد فيه الياء والنون.
قلت: الشريت الغليظ الكفين والرجلين وصف به الأسيد. والجحيل بتقديم الجيم على الحاء الغليظ الشفة. الآدمي منسوب إلى آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
فإن قلت: في المسألتين منه ما هو.
قلت: معرفة هذا مبنية على معرفة شيء وهو أن جلد الخنزير يقيل الدباغ أو لا، وكذلك جلد الآدمي، فاختلف فيه، فقال بعضهم: جلد الخنزير لا يقبل الدباغ؛ لأن فيه جلودا مترادفة بعضها فوق بعض ذكره في " المحيط " و" البدائع ". وقيل: يقبل الدباغ ولكن لا يجوز استعماله؛ لأنه نجس العين لأنه رجس، والهاء في قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] (الأنعام: الآية 145) ينصرف إليه دون لحمة لقربه، فلذلك لا يجوز الانتفاع به ولا بيعه ولا جميع أنواع التملكات، ولا يضمن مثله للمسلم، وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في " المحيط "، وهو مذهب الليث بن سعد وداود.
وأما جلد الآدمي فقد ذكر في " المحيط " " والبدائع ": أن جلد الإنسان يطهر بالدباغ ولكن يحرم سلخه ودبغة والانتفاع به احتراما له كشعره. وفي أحد قولي الشافعي: الآدمي ينجس بالموت ويطهر جلده بالدباغ في أحد الوجهين إلا أن المقصود منه لما لم يحصل استثني مع المستثنى. وقيل: جلد الآدمي أيضا لا يقبل الدباغ كجلد الخنزير.
فإذا عرفت هذا فقد توجه في الاستثناء وجهان:(1/408)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما: أن يكون الاستثناء من الدبغ ويكون المعنى: وكل إهاب يقبل الدباغ إذا دبغ فقد طهر إلا جلد الآدمي والخنزير لا يطهر؛ لأنه لا يقبل الدباغ.
والوجه الثاني: أن يكون الاستثناء من قوله طهو، والمعنى: كل إهاب يقبل الدباغ إذا دبغ طهر إلا جلد الخنزير فإنه لا يطهر وإن كان يقبل الدباغ.
فإن قلت: هذا الوجه يقتضي أن يطهر جلد الآدمي؛ لأن تعليله بكرامته لا ينفي طهارته.
قلت: فعلى قول من يقول: لا يقبل الدباغ لا يطهر، وعلى قول من يقول: إنه يقبل يطهر، ولكن يحرم استعماله كما قلنا، فبالنظر إلى القول الأول قال: إلا جلد الخنزير ولم يقل إلا إهاب الخنزير؛ لأن الإهاب له تهيؤ واستعداد للدباغ، وجلد الخنزير ليس كذلك، فلذلك قال: إلا جلد الخنزير، وكذا الكلام في جلد الآدمي.
فإن قلت: إن كان عدم القابلية للدباغ يستلزم عدم الطهارة كان ينبغي أن يستثنى أيضا جلد الحية لأن في شرح الطحاوي قال: جلد الحية نجس لا يحتمل الدباغ، ويمنع جواز الصلاة أكثر من قدر الدرهم، وكذلك كان ينبغي أن يستثنى جلد الفيل عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه كالخنزير عنده.
قلت: اكتفى بذكر المتفق عليه، ولم يتعرض لما فيه الخلاف.
فإن قلت: ما تقول في مصارين الشاة والمثانة.
قلت: روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المصارين إذا أصلحت والمثانة إذا دبغت فقد طهرت؛ ولهذا يتخذ من المصارين الأوتار.
فإن قلت: الأكراس: قلت: كالمصارين والمثانة. وقال أبو يوسف: كاللحم فلا يطهر.
فإن قلت: فلم فرع الخنزير على الآدمي. قلت: الموضع موضع الإهانة لكونه في باب النجاسة وتأخير الآدمي في ذلك أولى كما في قَوْله تَعَالَى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} [الحج: 40] (الحج: الآية 40) .
فإن قلت: لم أخرج جلد الخنزير والآدمي عن العموم، وكان ينبغي أن يجوز تخصيص الميتة منه قياسا عليه أو بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب» .(1/409)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أيما إهاب دبغ فقد طهر»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا قياس فيه إبطال النص، وهو الحديث الذي يأتي، والنهي عن الانتفاع بالإهاب، وقد مر أنه اسم لجلد غير مدبوغ فليس ذلك داخل في عمومه ليجوز تخصيصه لا تعارض بينهما لاختلاف المحل.
م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» ش: الحديث رواه ابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فحديث ابن عباس أخرجه الأربعة، ورواه ابن حبان في صحيحه وأحمد في " مسنده " والشافعي وإسحاق بن راهويه والبزار في مسانيدهم، وكثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين عزوا هذا الحديث في كتبهم إلى مسلم وهو وهم، وممن فعل ذلك البيهقي في " سننه ".
وإنما رواه مسلم بلفظ: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» . واعتذر الشيخ تقي الدين بأن البيهقي وقع له مثل ذلك في كتبه كثيرا، ويزيد أصل الحديث لا كل لفظ منه ولا يقبل ذلك؛ لأن الفقهاء يختلف نظرهم باختلاف اللفظ، فلا ينبغي ذلك.
ومن أحاديث هذا الباب ما رواه البخاري ومسلم قال: «تصدق على مولاة لميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بشاة فماتت فمر بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال هلا أخذتهم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به فقالوا إنها ميتة فقال إنما حرم أكلها» . ورواه الدارقطني وزاد: «أو ليس في الماء والقرص ما يطهره» وفي لفظ: «إنما حرم عليكم لحمها، ورخص لكم في مسكها» . وفي لفظ: «إن دباغه طهور» ، أخرج هذه الألفاظ في حديث ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثم قال: وهذه الأسانيد كلها صحيحة.
وما رواه البخاري أيضا من حديث سودة زوجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها، ثم ما زلنا ننبذ فيه حتى صار شنا» .
وما رواه ابن خزيمة في " صحيحه " والبيهقي في " سننه " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «أراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتوضأ من سقاء فقيل له: إنه ميتة، فقال: "ودباغه يزيل خبثه أو نجسه أو رجسه» . وقال البيهقي: إسناده صحيح ورواه الحاكم.(1/410)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وما رواه ابن حبان في صحيحه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دباغ جلود الميتة طهورها» . وما رواه أبو داود والنسائي وابن حبان في "صحيحه" من حديث عبد الرحمن بن ثوبان عن أمه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن الرسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر أن ينتفع بجلود الميتة إذا دبغت» . وأعله البزار بأم محمد غير معروفة، ولا يعرف لمحمد غير هذا الحديث، وسئل محمد عن هذا الحديث، فقال: من هي أمه، كأنه أنكره من أجل أمه.
وما رواه أبو داود والنسائي عن جون بن قتادة عن سلمة بن المحبق «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك دعا بماء من عند امرأة، فقالت: ما عندي إلا قربة لي ميتة، قال: "ألست قد دبغتيها؟ " قالت: بلى، قال: " فإن دباغها طهورها» . ورواه ابن حبان في صحيحه وأحمد في " مسنده "، وأعله الأثرم بجون، ويحكى عن أحمد قال: لا أعرف من هذا الجون بن قتادة.
وما رواه الدارقطني ثم البيهقي من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مرفوعا: «طهور كل أديم دباغه» ، وقالا: إسناده حسن ورجاله ثقات.
وأخرج الدارقطني من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «استمتعوا بجلود الميتة إذا هي دبغت ترابا كان أو رمادا أو ملحا بعد أن يزيد صلاحه» وفيه معروف بن حسان، قال أبو حاتم: مجهول، وقال ابن عدي: منكر الحديث.
وأخرج أيضا من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «إنما حرم رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من الميتة لحمها» فأما الجلد والشعر والصوف فلا بأس به، وفيه عبد الجبار، قال(1/411)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدارقطني: ضعيف. قلت: ذكره ابن حبان في " الثقات " في هذا الحديث.
وأخرج أيضا من حديث أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ، ولا بأس بشعرها وصوفها وقرونها إذا غسل بالماء» وفيه يوسف بن السفر، قال الدارقطني: متروك ولم يأت به غيره.
وأخرج أيضا من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا الأنعام الآية ألا كل شيء من الميتة حلال إلا ما أكل منها فأما الجلد والقرون والشعر والصوف والسن والعظم فكله» . وفيه أبو بكر الهذلي قال: وهو متروك.
وما رواه البيهقي من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر على شاة فقال: "ما هذه؟ فقالوا: ميتة، قال: "ابغوا إهابها فإن دباغها طهور» وفيه القاسم بن عبد الله ضعيف. وأخرج أيضا من حديث زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «دباغ جلود الميتة طهورها» .
وما رواه الطبراني في معجمه والبزار في مسنده من حديث ابن عباس قال: «ماتت شاة لميمونة فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فهلا استمتعتم بإهابها فإن دباغ الأديم طهوره» . وفيه يعقوب بن عطاء بن أبي رباح فيه مقال. قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: منكر الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات.
وهذه الأحاديث كلها حجة لنا على المخالفين. وفي هذه المسألة للعلماء سبعة مذاهب:
الأول: مذهبنا وقد ذكره المصنف.
الثاني: مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يطهر الكل إلا جلد الكلب والخنزير، وما يتولد منهما أو من أحدهما.
الثالث: يطهر الجميع، يروى عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في " المحيط " وهو مذهب الليث وداود.(1/412)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرابع: كذلك ظاهره دون باطنه، يحكى عن مالك.
الخامس: ينتفع بها من غير دباغ في الرطب واليابس، يحكى عن الزهري.
السادس: يطهر بالدباغ جلد مأكول اللحم دون غيره، قاله الأوزاعي، وابن المبارك، وأبو ثور، وإسحاق.
السابع: لا يطهر شيء منها بالدباغ، يروى عن عمر وابنه وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وهو رواية عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وعن أحمد أحاديث التابعين منها غير ما رواه الأربعة من حديث عبد الله بن عكيم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه كتب إلى جهينة قبل موته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» . وقال الترمذي: حديث حسن ورواه ابن حبان في " صحيحه ". ومنها ما رواه ابن جرير الطبري في " تهذيب الآثار " من حديث جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنتفعوا من الميتة بشيء» .
ومنها ما رواه ابن جرير أيضا من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ينتفع من الميتة بإهاب» .
ومنها: ما رواه أبو داود والترمذي وصححه «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن جلود السباع التي تفترس» .
والجواب عن حديث ابن عكيم أنه معلول بأمور ثلاثة؛ الأول: أنه مضطرب سندا ومتنا. فالأول: عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه حدثنا شيخ لنا أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كتب إليهم أن لا يستمتعوا من الميتة بشيء. رواه ابن حبان، وفي رواية حدثنا أصحابنا «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن في أرض جهينة إني كنت رخصت لكم في جلدة الميتة فلا تنتفعوا من الميتة بجلد ولا عصب» . رواه الطبراني في " معجمه الأوسط ".
الثاني: يعني اضطراب المتن وهو ما روي قبل موته بشهر وروي بشهر أو شهرين، وقال البيهقي: وجاء في لفظ آخر قبل موته بأربعين يوما، وروي قبل موته بثلاثة أيام.
والثاني: من العلة الاختلاف في صحبته، فقال البيهقي وغيره: لا صحبة له فهو مرسل، وعن الخلال أن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - توقف فيه لما رأى تزلزل الرواة فيه، وقيل: إنه رجع عنه.(1/413)
وهو بعمومه حجة على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في جلد الميتة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثالث: قال في " الإمام " عن الحكم بن عتبة الكندي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه انطلق هو وناس إلى عبد الله بن عكيم قال: فدخلوا وقعدت على الباب فخرجوا إلي وأخبروني أن ابن عكيم أخبرهم «أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كتب إلى جهينة قبل موته بشهرين لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» . ففي هذه الرواية أنه سمع من الناس الداخلين عليه وهم مجهولون. وقال الخلال: وطريق الإنصاف أن حديث ابن عكيم ظاهر الدلالة في النسخ ولكنه كثير الاضطراب، وحديث ابن عباس سماع وحديث ابن عكيم كتاب والكتاب والوجادة والمناولة كلها موقوف لما فيها من شبهة الانقطاع لعدم المشافهة، ولو صح فهو لا يقاوم حديث ابن عباس في الصحة، ومن شرط الناسخ أن يكون أصح سندا وأقوم قاعدة من جميع الرجحان، وغير خاف على كل جماعة الحديث أن حديث ابن عكيم لا يوازي حديث ابن عباس في جهة من جهات الترجيح فضلا عن جميعها.
والجواب عن حديث جابر أن في رواته زمعة وهو ممكن لا يعتمد على نقله. وعن حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن عامة من في إسناده مجاهيل لا يعرفون.
وأما النهي عن جلود السباع فقد قيل: إنها كانت تستغل قبل الدبغ.
م: (وهو) ش: أي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» ، م: (بعمومه حجة على مالك في جلد الميتة) ش:، لأنه يقول: لا يطهر لكنه ينتفع به في الجامد من الأشياء دون المائع فيجعل جرابا للحبوب دون السمن والعسل ونحوهما، وأراد بعموم هذا النص أن الإهاب نكرة والنكرة إذا اتصفت بصفة عامة تعم، كقوله: أي عبيدي ضربك فهو حر، يعتق كلهم إذا ضربوه، تقديره أي إهاب مدبوغ فهو طاهر، وأيضا بعمومه يدل على طهارة ظاهره وباطنه فلا معنى لاستثناء باطنه.
وقال النووي: قال الماوردي يجوز هبة جلد الميتة قبل الدباغ، قال: وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجوز بيعه وهبته كالثوب النجس.
قلت: هذا سهو منه، بل لا يجوز بيع جلود الميتة قبل الدباغ ولا تمليكها، ذكره في " المحيط " و" شرح الطحاوي "، ولا يضمن بالإتلاف، ولو دبغه بالنجس صح في أحد الوجهين، ويغسل بعده عندهم وعندنا يطهر، وجلد الميتة المدبوغ مما يؤكل لحمه يحل أكله في الجديد، وكذا ما لا يؤكل لحمه في وجه ولا يحل بالذكاة.
ثم اعلم أن قوله - حجة على مالك - ليس كما ينبغي؛ لأن مالكا لا يقول بذلك، ففي " الجواهر " للمالكية أن جلد الميتة يطهر بالدباغ فهذا النقل عنه ضعيف، وإنما هذا الحديث حجة على أحمد فإن عنده جلد الميتة لا يطهر بالدباغ.(1/414)
ولا يعارض بالنهي الوارد عن الانتفاع من الميتة بإهاب، وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب» ؛ لأنه اسم لغير المدبوغ وحجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في جلد الكلب،
وليس الكلب بنجس العين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا يعارض) ش: على صيغة المجهول أي لا يعارض المذكور م: (بالنهي الوارد عن الانتفاع من الميتة بإهاب وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب لأنه") ش: أي لأن الإهاب م: (اسم لغير المدبوغ) ش: فإن دبغ يصير أديما فحينئذ لا معارضة بين الحديثين، لأن المعارض يقتضي اتحاد المحل مع اتحاد حالته واختلاف حالته ينفي التعارض، وإن كان أصلهما واحدا كحرمة الخمر وحل الخل.
م: (وحجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: عطف على قوله حجة على مالك، أي الحديث المذكور حجة أيضا على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يقول بعدم الطهارة م: (في جلد الكلب) ش: بالدباغ وقاسه الشافعي بجلد الخنزير والآدمي، وتخصيصه بالكلب ليس له زيادة فائدة؛ لأن عنده كل ما لا يؤكل لحمه لا يطهر جلده بالدباغ، والظاهر أنه إنما خص الكلب موافقة لما ذكر في " الأسرار " لأن فيه نص الخلاف بالكلب حيث قال بطهارة جلود السباع بالدباغ سوى الكلب والخنزير عند الشافعي.
وقال الأترازي: والعجب من الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقول: إن الكلب المعلم إذا أكل صيدا يحل أكله، وإن ترك على الكلاب التسمية عمدا وقت الإرسال، ثم يقول: إن جلده لا يطهر بالدباغ؛ لأنه نجس العين، فكيف جاز الانتفاع بنجس العين بلا ضرورة، وكيف جاز صيده، ومثل هذا لا يجوز في الخنزير وهو نجس العين؟
قلت: كيف يتعجب منه، وليس فيه ما يورث التعجب؛ لأن حل صيده لا يستلزم جواز دباغ جلده، وكونه نجس العين لا يستلزم تحريم صيده وكل واحد من ذلك ورد بنص مستقل ومع هذا رواية عندنا أن الكلب نجس العين وما منعنا طهارة جلده إذا دبغ؛ لأن ذلك ليس يمشي على هذا، بل على عموم النص.
[هل الكلب نجس العين]
م: (وليس الكلب بنجس العين) ش: هذا جواب عن قياس الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الكلب على الخنزير، وإن لم يذكر في الكتاب، واختلفت الروايات في كون الكلب نجس العين. ففي " المبسوط " الصحيح من المذهب عندنا عين الكلب نجسة، وقال بعض مشايخنا: ليس بنجس العين. قال في " البدائع " وهو رواية الحسن. وفي " الذخيرة " ذكره القدوري في " تجريده " أنه نجس العين عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - , وفي " العيون " روى ابن سماعة عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا خير في جلد الكلب والذئب وإن دبغا ولا تحلهما الذكاة.(1/415)
ألا ترى أنه ينتفع به حراسة؛ واصطيادا، بخلاف الخنزير؛ لأنه نجس العين إذ الهاء في قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] (الأنعام: الآية 145) منصرف إليه لقربه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الكاساني: والذي يدل على أنه ليس بنجس العين أنه جوز الانتفاع به حراسة واصطيادا وإجارة، وقال في " عمدة المعين ": لو استأجر الكلب للصيد يجوز، والسنور لا يجوز؛ لأن السنور لا يعلم. وقال في " التجريد ": لو استأجر كلبا معلما أو بايا صيودا ليصيد بهما فلا أجر له. وقال مشايخنا: ومن صلى وفي كمه جرو كلب تجوز صلاته، وقد حكم أبو حصير [ ... ] فدل على أنه ليس بنجس العين.
م: (ألا ترى) ش: كلمة ألا بفتح الهمزة وتخفيف اللام للتنبيه والتوضيح م: (أنه) ش: أي أن الكلب م: (ينتفع به حراسة) ش: أي من حيث الحراسة سيما أهل البر م: (واصطيادا) ش: أي من حيث الاصطياد، فدل ذلك على أنه ليس نجس العين، ولا يشكل بالسرقين فإنه نجس لا محالة، وينتفع به إيقادا أو غيره؛ لأنه انتفاع بالإهلاك كالدنو من الخمر للإراقة، وهو الذي اختاره المصنف أيضا.
والذين ذهبوا إلى أنه نجس العين استدلوا بما ذكر أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " العيون " أن الكلب لو وقع في الماء فانتفض فأصاب ثوب إنسان منه أكثر من قدر الدرهم منع جواز صلاته، فسئل: إذا وصل الماء إلى جلده، ويقول محمد: ليس الميت بأنجس من الكلب والخنزير، فدل على أنه نجس العين، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي.
وقال الأترازي: لا نسلم أن نجاسته تثبت في الكلب لهذا القدر من الكلام، فمن ادعى ذلك فعليه البيان، ولم يرد نص عن محمد في نجاسة العين.
قلت: قد ذكرنا الآن عن صاحب " الذخيرة " عن القدوري أنه نجس العين عند محمد.
م: (بخلاف الخنزير) ش: متصل بقوله: إلا جلد الخنزير م: (لأنه نجس العين إذا الهاء في قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] ش: كلمة إذ للتعليل أي لأن الهاء هاء الضمير في قَوْله تَعَالَى: فإنه أي فإن الخنزير {رِجْسٌ} [الأنعام: 145] أي قذر قاله الفراء، وقيل: الرجس والرجز واحد. وقال البغوي: الرجس النجاسة.
م: (منصرف) ش: خبر المبتدأ وهو قوله الهاء م: (إليه) ش: أي إلى الخنزير لا إلى اللحم في قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] (الأنعام: الآية 145) م: (لقربه) ش: أي لقرب الخنزير أراد أن الضمير إلى الخنزير أقرب من اللحم.
فإن قلت: المقصود بالذكر في الكلام هو المضاف فيجب أن يرجع الضمير إليه.(1/416)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قد يكون المضاف إليه مقصودا، وإن كان يجوز أن يعود إلى المضاف إليه، وما نحن بصدده من هذا القبيل لكونه شاملا للمضاف أشد وأحوط في العمل؛ لأن الضمير إن رجع إلى اللحم لم يحرم غيره، وإن رجع إليه يشمل الجميع.
والعجب من الأترازي أنه أخذ في الجواب عن هذا السؤال محصل كلام المصنف، ثم قال: هذا الجواب مما سنح له خاطري.
وقال: أيضا: وقيل في صرفه إلى الخنزير عمل بهما لاشتماله على اللحم، ولا ينعكس. أقول: فيه نظر؛ لأن لقائل أن يقول: لا نسلم لأن الجلد على تقدير عود الضمير إلى اللحم لا يكون نجسا، وعلى تقدير عوده إلى الخنزير يكون نجسا، وفي كون الجلد نجسا وغير نجس منافاة فيكون العمل بهما أحوط. انتهى كلامه.
أقول: قوله - وقيل: هو صاحب التوشيح -: فإني رأيت بهذه العبارة فلا أدري هل هو من عنده أو نقله عن أحد. وقوله - في كونه نجسا أو غير نجس منافاة - غير مسلم؛ لأن المنافاة إنما تكون إذا كان كونه نجسا وغير بتقدير واحد. والذي قاله القائل المذكور بتقديرين فكيف تكون المنافاة.
ثم قال الأترازي: ومما ظهر لي في فؤادي من الأنوار الربانية والأجوبة الإلهامية أن الهاء لا يجوز أن ترجع إلى اللحم؛ لأن قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] خرج في مقام التعليل، فلو رجع إليه لكن تعليل الشيء بنفسه وهو فاسد لكونه مصادرة، وهذا لأن نجاسة لحمه عرفت من قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] لأن حرمة الشيء مع صلاحيته للغذاء لا للكرامة آية النجاسة فحينئذ يكون معناه كأنه قال: لحم خنزير نجس فإن لحمه نجس.
أما إذا رجع إلى الخنزير فحينئذ يكون معناه كأنه قال: لحم خنزير نجس لأن الخنزير نجس، يعني إن هذا الجزء من الخنزير نجس، لأن كله نجس. هذا هو التحقيق في الباب لأولي الألباب.
قلت: فيما قاله نظر؛ لأن دعواه بعدم جواز رجوع الضمير إلى اللحم غير صحيحة، لأن الأصل في هذا الباب رجوع الضمير إلى المضاف، وإن كان رجوعه إلى المضاف إليه صحيحا، وذلك لأن المضاف هو المقصود بالذكر كما في قولك: رأيت غلام زيد وكلمته، فإن الأصل أن يكون التكلم للغلام، فإن كان يجوز أن يكون لزيد كما في قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [الرعد: 25] (البقرة: الآية 27) فإن الضمير يجوز أن يرجع إلى كل واحد من المضاف والمضاف إليه.
ثم تعليل الأترازي بقوله: رجس خرج في مقام التعليل اهـ -، وقوله - هذا هو التحقيق في(1/417)
وحرمة الانتفاع بأجزاء الآدمي لكرامته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذا الباب - غير تحقيق لأنه إنما يلزم ما ذكره إذا جزم بعود الضمير إلى المضاف، وقد قلنا: إنه يجوز الأمران، والتحقيق في هذا الباب أن يكون التقدير في الضمير - فإن كل واحد من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير رجس أي نجس - فيكون هذا تعليلا لقوله: محرما، فبين بذلك أن هذه الأشياء حرام لأنها نجسة، لأنه لو لم يذكر {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] لما كان يلزم من صدر الكلام النجاسة لهذه الأشياء؛ لأن الحرمة لا تستلزم النجاسة.
فإن قلت: فعلى هذا يلزم اقتصار النجاسة في الخنزير على لحمه.
قلت: الأمر كذلك فإنه قال: {عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] والطعم لا يكون إلا في اللحم دون غيره وهو المطلوب.
فإن قلت: فعلى هذا يجوز استعمال جلده بالدباغ واستعمال شعره.
قلت: أما جلده فقد اختلف فيه، هل قبل الدباغ أم لا، فقد قال بعضهم: إنه يقبل، فعلى هذا يطهر بالدباغ، وهو مذهب الليث وداود ورواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال بعضهم: إنه لا يقبل، فعلى هذا لا يطهر بالدباغ، وقد ذكرنا هذا فيما مضى عن قريب.
وأما شعره فإنه جزء ما هو نجس بعينه، وللجزء حكم الكل غير أن محمدا أباح الانتفاع به للخرازين والأساكفة للضرورة لأن في تنجيسه حرجا.
وقوله: لأن نجاسة لحمه عرفت بالنص من قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] (الأنعام: الآية 145) ليس كذلك لأن بالنص ما عرف إلا حرمة لحمه، ونجاسته عرفت من الضمير الراجع إلى كل واحد من الأشياء الثلاثة قررناه فافهم، فإنه موضع دقيق.
وقوله - لأن حرمة الشيء مع صلاحيته للغذاء لا لكرامته آية النجاسة - ينتقض بلحم الفرس لأنه حرام عند أبي حنيفة ومالك - رحمهما الله - مع صلاحيته للغذاء مع أنه غير نجس.
فإن قلت: حرمته للكرامة. قلت: لا نسلم ذلك، وإنما حرمته لكون أكله سببا لقتله لأنه آلة الجهاد، ولأن الله تعالى امتن علينا بكونه مركوبا ولم يمتن بكونه مأكولا مع أن نعمة الأكل فوق نعمة الركوب.
[الانتفاع بأجزاء الآدمي]
م: (وحرمة الانتفاع بأجزاء الآدمي لكرامته) ش: يتعلق بقوله: أو الآدمي، والمعنى بخلاف جلد الخنزير فإنه لا يطهر بالدباغ لنجاسة عينه، ولجد الآدمي لكرامته؛ لأن الله تعالى كرمه، وفي استعمال جلده ابتذال له، هكذا قرره الشيخ الأكمل. وأنا أقول: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: لما خرج جلد الآدمي عن حكم الدباغ بقوله: إلا جلد الآدمي كان ينبغي أن يجوز الانتفاع ببقية أجزائه مثل شعره وعظمه وعصبه وغير ذلك، فأجاب عن ذلك بقوله:(1/418)
فخرجا عما رويناه،
ثم ما يمنع النتن والفساد فهو دباغ وإن كان تشميسا أو تتريبا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحرمة الانتفاع اه.
م: (فخرجا) ش: أي جلد الآدمي وجلد الخنزير، م: (عما روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» ، ومراده خرجا عن عموم هذا الحديث، ثم خروجهما عنه بالكتاب، فإن كان متأخرا عن الحديث، فهو ناسخ لا محالة، وإن كان متقدما عليه فخبر الواحد لا يعارضه فضلا عن أن ينجس، وإن كان معارضا كان مخصصها.
والذين ذهبوا إلى طهارة جلد الآدمي والخنزير بالدباغ لم يخرجوهما عن عموم هذا الحديث، غير أنهم منعوا استعمال جلد الآدمي لكرامته. ونقل ابن حزم إجماع المسلمين على تحريم جلد الآدمي واستعماله. وعند الشافعي: الآدمي لا ينجس بالموت، وفي قول: نجس ويطهر جلده بالدباغ في أحد الوجهين، لكن المقصود لما لم يحصل به اشتباه.
م: (ثم ما يمنع النتن) ش: بفتح النون وسكون التاء المثناة من فوق وهو الرائحة الكريهة يقال: نتن الشيء بضم النون وانتن بمعنى فهو منتن بضم الميم، ومنتن بكسرها اتباعا لكسرة التاء؛ لأن مفعلا بالكسر ليس من الأبنية.
م: (والفساد) ش: وهو ضد الصلاح قاله الليث، والمراد هنا ما يمنع ضد صلاحية استعمال الجلد الغير المدبوغ، وهو أعم من النتن وغيره.
فإن قلت: هو مصدر أم اسم؟ قلت: مصدر من فسد الشيء يفسد فسادا وفسودا وهو فاسد وهو من باب نصر ينصر. وقال ابن دريد: فسد يفسد مثل عقد يعقد لغة ضعيفة وكذلك فسد بضم السين فسادا فهو فاسد.
م: (فهو دباغ) ش: جملة اسمية، وهو خبر المبتدأ وهو قوله: ما يمنع، ولتضمين الابتداء معنى الشرط دخلت الفاء في الخبر م: (وإن كان) ش: أي وإن كان ما يمنع النتن والفساد، وإن واصلة بما قدمنا فلذلك لا يذكر لها الجواب ظاهرا م: (تشميسا) ش: من شمست الشيء بتشديد الميم إذا وضعته في الشمس، يقال: شيء مشمس أي عمل في الشمس، والمراد هنا أن يبسط الجلد في الشمس لتشمس منه الرطوبة التي فيه وتزول عنه الرائحة الكريهة بذلك؛ لأنه دباغ حكمي، والدباغ على نوعين: حقيقي وحكمي على ما نذكره عن قريب.
م: (أو تتريبا) ش: من تربت الإهاب تتريبا إذا ترب عليها التراب أزالت ما عليه من الرطوبة والرائحة الكريهة، وكذلك يقال: تربته متربا بالتخفيف، ويقال أيضا: أتربت الشيء إذا جعلت عليه التراب، ومنه الحديث: أتربوا الكتاب فإنه أنجح للحاجة. وقال الصاغاني: قال ابن روح: كل ما يصلح فهو متروب وكل ما يفسد فهو متروب مشددا.(1/419)
لأن المقصود يحصل به فلا معنى لاشتراط غيره،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: فعلى قوله ينبغي أن يقال: أو متربا ولا يقال أو تتريبا، ولكن المشهور ما ذكرناه أولا.
م: (لأن المقصود يحصل به) ش: أي ما يمنع النتن والفساد م: (فلا معنى لاشتراط غيره) ش: نحو القرظ بالظاء المعجمة، والعفص والشث بفتح الشين المعجمة والثاء المثلثة وهو نبت طيب الرائحة كذا ذكره الجوهري وغيره.
وقال الأزهري: هو بالباء الموحدة هو ما يدفع به بعد الزاج وهو السماع، وقد صحفه بعضهم بالمثلثة وهو شجر لا أدري أيدبغه أم لا، وتابعه صاحب " الشامل " أو [ ... ] وفي تعليق الشيخ أبي حامد، قال أصحابنا: بمثلثة، وقال الشافعي: بالموحدة، وقد قيل الأمران وبأيهما كان فالدباغ به حاصل، وصرح القاضي خان أبو الطيب في تعليقه ما يجوز بهما، ولا ذكر له في حديث الدباغ، وإنما هو من كلام الشافعي.
وقال الصاغاني: الشب بالباء الموحدة منه الزاج والشث بالمثلثة نبت طيب الريح مر الطعم يدبغ به، قال الدينوري: أخبرني أعرابي من أزد السراة قال: الشث شجر مثل شجر التفاح في القدر، ورقه يشبه ورق الخلاف، ولا شوك له، وله تومة موردة، ويستقر به ذرة صغيرة فيها ثلاث حبان، وربع سود مثل الربعة يرعاه الجمال إذا يبس.
قالوا: والإبل تأكل الشث فتحصب عليه ويدبغ بورقه، ويساق بأغصانه وتعالج بفروعه الرطبة من الريح يأخذ في الجسد ويضمد به للكسير يجبر وهو مر ينبت في السهل والجبل وأكثره ينبت بجبال الفراهيد. وقال أبو عيسى البكري: الشث كأنه شجر المدبان.
ثم اعلم الدباغ على نوعين: حقيقي كالقرظ ونحوه، وحكمي كالمترب والمشثت والمشمس والإبقاء في الريح، ولو جف ولم يستحل لم يطهر، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن كان يمنع من الفساد فهو دباغ ذكره في " المحيط " وهما سواء؛ لأنه يعود نجسا إذا أصابه ماء فإن في الحكمي روايتين.
وقال في " الدراية " قول صاحب " الهداية ": فلا معنى لاشتراط غيره نفى قول الشافعي، فإن عنده لا يكون الدباغ إلا بما تزول به الرسوبات عنه، وذلك باستعمال القرظ والعفص ونحوهما؛ لأنه طهارة شرعية فيقتصر على مورد الشرع، والشرع ورد بالدباغ بالمتقوم كالقرظ والعفص دون غيرهما من التراب والشمس. انتهى.
وقال أبو العباس الجرجاني من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " التحرير ": يجوز الدباغ بالتراب، ورجحه إمام الحرمين بحصوله بالملح. وقال القاضي أبو الطيب: ولا يكفي فيه الشمس، نص عليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي وجه يجوز، حكاه الرافعي، وبه قطع الجمهور،(1/420)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفيه وجه شاذ تحصل به. وقال القاضي خان: ولم أر للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا نصا، والمرجع في ذلك إلى أهل الصنعة، فإن كان للتراب والرماد هذا الفعل جعل الدباغ منهما.
وأما الملح فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يحصل الدباغ به، وبه قطع صاحب " الشامل "، وقطع إمام الحرمين بالحصول، وفي " الحلية " قال أبو نصر: سمعت بعض أصحابنا أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: إنما يطهر الإهاب بالشمس إذا علمت به عمل الدباغ، وهذا يرفع الخلاف.
وفي جواز بيع الجلد بعده له قولان أصحهما وهو الجديد أنه يجوز وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي قوله القديم: لا يجوز وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ثم إن الشافعي احتج فيما ذهب إليه بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «مر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشاة ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقال: "هلا استنفعتم بإهابها" فقالوا: إنها ميتة، قال: "إنما حرم أكلها إذ ليس في الماء والقرظ ما يطهره» . رواه الدارقطني والبيهقي. وقال النووي: هذا حديث حسن، ورواه أبو داود والنسائي في " سننيهما " بمعناه عن ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «مر على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجال يجرون شاة لهم مثل الحمار فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يطهره الماء والقرظ» .
ولنا ما أخرجه الدارقطني عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «استمتعوا بجلود الميتة إذا هي دبغت ترابا كان أو رمادا أو ملحا أو ما كان بعد أن يزيد صلاحه» ". وقال محمد في كتاب " الآثار ": أخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن حماد عن إبراهيم قال: كل شيء يمنع الجلد من الفساد فهو دباغ، وهذا يتناول المشمس والمترب.
وحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الذي احتج به الشافعي لا يقتضي الاختصاص بل المراد به ما في معناه بالإجماع، والمرجع في ذلك إلى أهل الصنعة، نص عليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما ذكرنا.
فإن قيل: في رواية حديث عائشة الذي احتج به معروف بن حسان، قال أبو حاتم: هو مجهول، وقال ابن عدي: منكر الحديث، قلت: الذي ورد في الصحيح من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به" قالوا: إنها ميتة قال: "إنما حرم أكلها» . وقوله: فدبغتموه أعلم من أن يكون الدباغ حقيقيا أو حكميا فبعموم هذا يخص حديث عائشة المذكور، ثم عندنا يجوز بيع الجلد المدبوغ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «هلا أخذتم جلدها فدبغتموه وانتفعتم به» ، البيع من وجوه الانتفاع فجاز بيعه كالذكاة وهو قول جمهور العلماء.(1/421)
ثم ما يطهر جلده بالدباغ يطهر بالذكاة؛ لأنها تعمل عمل الدباغ في إزالة الرطوبات النجسة، وكذلك يطهر لحمه وهو الصحيح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الماوردي والروياني: إذا جوزنا بيعه جاز رهنه وإجارته، وإن لم يجز بيعه ففي جواز إجارته وجهان كالكلب المعلم. وقيل: تجوز إجارته قطعا، وإنما القولان في بيعه ورهنه.
وأما بيعه قبل الدباغ فباطل عندنا وعند جماعة من العلماء، وحكى النووي عن أبي حنيفة جوازه كالثوب النجس، وهذا سهو منه فإن مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عدم جواز بيع جلود الميتة قبل الدباغ، ذكره في " المحيط " وفي " شرح الطحاوي ".
وفي جواز أكل الجلد المدبوغ من حيوان لا يؤكل لحمه قولان للشافعي في القديم، وطائفة منهم صححوا قول الجديد.
[ما يطهر جلده بالدباغ يطهر بالذكاة]
م: (ثم ما يطهر جلده بالدباغ يطهر بالذكاة) ش: الحاصلة من الأهل بالتسمية، فإن ذكاة المجوسي ليست بمطهرة. وقال في " البدائع ": إلا الدم وهو الصحيح من المذهب. وروى الدارقطني عن ابن عباس «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مر بشاة ميمونة فقال: "هلا استمتعتم بجلدها" قالوا: يا رسول الله إنها ميتة قال: "إن دباغها ذكاتها في حق الجلد» فعلمنا أن الذكاة هي الأصل في الطهارة، وأن الدباغ قائم مقامها عند عدمها، ولأن الذكاة أبلغ من الدباغ؛ لأنها أسرع للدماء والرطوبات قبل التشوب والفساد بالموت، والعادة الفاشية بين المسلمين لبس جلد الثعلب والفهد والنمور والسنجاب ونحوها في الصلاة وغيرها من غير نكير، فدل على طهارته.
وفي " النهاية " وعند بعضهم: إنما يطهر جلد الحيوان بالذكاة إذا لم يكن سؤره نجسا. وذكر في " فتاوى قاضي خان " قيل: يشترط أن يكون الذكاة من أهلها في محلها وهو ما بين اللبة واللحيين، وقد سمي بحيث لو كان مأكولا ليحل أكله بتلك الذكاة. م (لأنها) ش: أي لأن الذكاة، وإنما ذكر الضمير لأن الذكاة بمعنى الذبح، وفي بعض النسخ فإنها ولا يحتاج إلى التأويل م: (تعمل عمل الدباغ في إزالة الرطوبات النجسة) ش: لأنه يمنع من اتصالها به والدباغ يزيل بعد الاتصال، ولما كان الدباغ بعد الاتصال مزيلا ومطهرا كانت الذكاة المانعة من الاتصال أولى أن يكون مطهرا م: (وكذلك يطهر لحمه) ش: أي لحم ما ذكي حتى إذا صلى ومعه من لحم الثعلب المذبوح أو نحوه أكثر من قدر الدرهم جازت صلاته م: (وهو الصحيح) ش: أي الحكم بطهارة لحمه هو الصحيح، واحترز به عما قال في " الأسرار " وغيره أنه نجس.
قلت: قد اختلف أصحابنا في طهارة لحمه وشحمه، فقال الكرخي: كل حيوان يطهر جلده(1/422)
وإن لم يكن مأكولا وهو الصحيح. وشعر الميتة وعظمها طاهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالدباغ يطهر بالذكاة، فهذا يدل على أنه يطهر شحمه ولحمه وسائر أجزائه. وقال بعض المشايخ: يطهر جلده لا غير. منهم نصر بن يحيى والفقيه أبو جعفر، والأول أقرب للصواب.
وقال في " المفيد ": هو الصحيح، وتظهر فائدة ذلك لو وقع في الماء هل يفسده أم لا؟ وهل يجوز له حمله إلى طيوره وكلابه ليطعمها أم لا؟ ولو صلى معه هل تجوز صلاته أم لا؟ وذكاة الآدمي كموته حتف أنفه، وذكر الناطفي إذا صلى ومعه من لحم السباع أكثر من قدر الدرهم لا تجوز صلاته، وإن كان مذبوحا، وفي " فتاوى قاضي خان ": ولو وقع في الماء أفسده.
م: (وإن لم يكن مأكولا) ش: واصل بما قبله أي: وإن لم يكن الحيوان المذبوح غير مأكول، وفي " البدائع ": الذكاة تطهر المذكى بجميع أجزائه إلا الدم المسفوح م: (وهو الصحيح) ش: وفي " الكافي ": اللحم نجس في الصحيح وكلامه هنا مخالف لما ذكر في الدباغ. قال صاحب " النهاية ": قوله - وكذلك يطهر لحمه - في هذه الرواية نوع ضعف لما أن حرمة أكل اللحم فيما سوى الآدمي ولم يتعلق به حق العباد دليل النجاسة، ولزمهم طهارة الجلد لاتصال اللحم به.
وأجابوا بأن بين الجلد واللحم جلدة تمنع مماسة اللحم الجلد الغليظ فلا ينجس، وبه أخذ المحققون من أصحابنا منهم الناطفي وشيخ الإسلام خواهر زاده وقاضي خان. وفي " الخلاصة ": هو المختار وفيه نظر؛ لأنها متوهمة وعلى تقدير تحقيقها فإما أن تكون طاهرة أو تكون نجسة، فإن كانت متصلة باللحم فليس يتصور أن تكون طاهرة واللحم نجس فيكون نجسا، والجلد الغليظ متصل به أيضا؛ لأنه لا يجيء عند السلخ بين الجلد واللحم أمر ثالث فلا تكون طاهرا، لكن الفرض أنه طاهر، وإن كانت متصلة بالجلد فليس يتصور أن تكون نجسة والجلد طاهر فتكون طاهرة واللحم متصل به اتصالا فكيف يكون نجسا، وهذا هو الذي حمل المصنف على تصحيح رواية تطهير اللحم وبه قال مالك. وفي " القنية ": قال الكرابيسي والقاضي عبد الجبار: مجوسي ذبح حمارا قيل: لا يطهر والصحيح أنه يطهر ولو ذبحه مسلم ولم يسم قال أبو حاتم الشهيد: لا يطهر.
[الأعيان الطاهرة]
[شعر الميتة وعظمها طاهر]
م: (وشعر الميتة وعظمها طاهر) ش: وكذا جميع أجزاء الميتة التي لا دم فيها إن كانت صلبة كالقرن والسن والظلف والحافر والخف والوبر والصوف والعصب في رواية، وفي رواية: نجس، والريش والأنفخة الصلبية والأجنحة الصلبية، وأما المائعة واللبن فكذلك عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما نجس.
وذهب عبد العزيز والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق، والمزني، وابن المنذر - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلى أن الشعر والصوف والوبر والريش طاهرة لا تتنجس بالموت كمذهبنا،(1/423)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والعظم والقرن والظلف والسن نجسة.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الكل نجس إلا الشعر فإنه فيه خلافا ضعيفا، وفي العظم أضعف منه، قال القاضي أبو الطيب وآخرون: الشعر والصوف والوبر والعظم والقرن والظلف تحلها الحياة وتنجس بالموت هذا هو المذهب وهو الذي رواه البويطي والربيع المرادي وحرملة، وروى المزني عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه رجع عن تنجيس شعر الآدمي.
قال النووي: أما شعر الآدمي فقيه قولان: أشهرهما عنه أنه نجس، والثاني: وهو المنصوص في "الجديد" أنه طاهر، واتفق الأصحاب أن المذهب أن شعر الآدمي وصوفه ووبره وريشه نجس بالموت.
واختلفوا في الراجح في شعر الآدمي فالذي صححه الجمهور من العراقيين نجاسته، والذي صححه جميع الخراسانيين أو جماهيرهم طهارته، فهذا هو الصحيح، فقد صح عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - رجوعه عن نجس شعر الآدمي، وأما شعر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -[......] إساءة الأدب والجرأة في الإقدام بهذا الذكر الشنيع في حق هذا الجناب الرفيع، وفي اعتقادي أن مثل هذا كاد يكون كفرا، وأنا كنت أنزه نفسي عن إيراد هذه القضية السخيفة في هذه المواضع، ولكني ذكرته ليقف عليه من لم يخطر علمه به، ويعلم أن المذهب الحق منه هو الدين الحنفي، والذي رسخت في قلوبهم قواعد الدين إجلال قدر هذا النبي الكريم حكموا بطهارة فضلات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكيف بشعره الطاهر المطهر، فنسأل الله البعد عن الزيغ والضلال.
واحتج الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما ذهب إليه بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] (الأنعام: الآية 145) وهو عام للشعر وغيره، فإن الميتة اسم لما فارقه الروح بجميع أجزائه. ولهذا لو حلف لا يمس ميتة فمس شعرها حنث، وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من الحي فهو ميت» .
والجواب عن الآية أن الميتة عبارة عما فارقه الحياة بلا ذكاة، والشعر ونحوه لا حياة لها بدليل عدم الألم بالقطع، فكيف يتصور أن يكون ميتة. ويقال أيضا: لم لا يجوز أن يكون المراد في الآية حرمة الأكل، فلا نسلم حرمة الانتفاع؟
والجواب عن الحديث أنه ليس على عمومه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] (النحل: الآية 80) ، وهذا امتنان عام، وذلك لا يكون بالنجس، ولما(1/424)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
روي عن ابن عباس أنه قال: إنما حرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الميتة لحمها، فأما الجلد والشعر والصوف فلا بأس به، رواه الدارقطني.
ولما روي عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زوجة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ ولا بأس بصوفها وشعرها وقرونها إذا غسل بالماء» رواه الدارقطني أيضا.
فإن قلت: في إسناد الحديث الأول عبد الجبار بن مسلم قال الدارقطني: ضعيف، وفي الحديث الثاني يوسف بن أبي لهيعة، قال الدارقطني: هو متروك.
قلت: ابن حبان ذكر عبد الجبار المذكور في " الثقات "، وأما يوسف فإنه لا يؤثر فيه بالضعف إلا بعد بيان جهته والجرح المبهم غير مقبول عند الحذاق من الأصوليين وهو كان كاتب الأوزاعي، ومما يؤكد ما قلنا أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين الناس وهو حديث متفق عليه، وهذا يدل على طهارة الشعر المبان.
قالوا: على القول بالنجاسة إنما قسم الشعر للتبرك وقد يكون بالنجس، وهذه التكلفات البعيدة مما يؤدي إلى ارتكاب الإثم الكبير والخطأ العظيم الذي ليس وراءه إلا الباطل المحض، وقالوا أيضا: إن الذي أخذه كل واحد كان يسيرا معفوا عنه.
قلنا: هذا أفحش من الأول؛ لأن فيه إشارة إلى الحكم بالتنجيس على ما لا يخفى، ونحن أيضا نحتج في طهارة عظم الميتة بحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امتشط بمشط من عاج» . أخرجه البيهقي في " سننه " ثم قال: رواية بقية عن شيوخه المجهولين ضعيفة.
قلت: لا نسلم أن بقية رواه عن مجهولين، فإن رواه عن عمرو بن خالد عن قتادة عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ونحتج أيضا بما رواه أبو داود في " سننه " بإسناده عن حميد الشيباني عن سليمان بن المنبهي عن ثوبان مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال له: «اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج» . وأخرجه أيضا الطبراني في "مسنده " وابن عدي في " كامله " ومحمد بن هارون في " مسنده ".(1/425)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: قال ابن الجوزي: حميد سليمان مجهولان، وقال في " التنقيح " وحميد الشامي ذكره ابن عدي، وقال: إنما عليه هذا الحديث ولا أعلم له غيره.
قلت: روي عن حميد سالم المرادي وصالح بن صالح بن حميد وغيلان بن جامع ومحمد بن جحادة فانتفت جهالته، وأما سليمان فإن ابن حبان ذكره في " الثقات ".
ونحتج أيضا بما رواه أبو بكر الهذلي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: سمعت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: «كل شيء من الميتة حلال إلا ما أكل منها» ، فأما الجلد والشعر والوبر والصوف والعظم والسن فكل هذا حلال؛ لأنه لا يذكى أخرجه الدارقطني ثم قال: الهذلي ضعيف.
قلت: ذكر في " الإمام " أن غير الهذلي أيضا رواه، فإن قلت: روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ادفنوا الأظلاف والدم والشعر فإنه ميتة» . قلت: هذا رواه البيهقي من جهة ابن أبي رواد وقال: هذا إسناد ضعيف.
ثم اعلم أن العاج جمع عاجة. قال الجوهري: العاج عظم الفيل، وكذا قال في " العباب "، ثم قال: والعاج أيضا الذبل وهو ظهر السلحفاة البحرية. قال الأزهري: لم يرو في حديث ثوبان العاج ما يخرط من أنياب الفيلة ولأن أنيابها ميتة، وإنما العاج الذبل.
وقال في " العباب ": الذبل ظهر السلحفاة البحرية يتخذ منه السوار والخاتم وغيرهما، قال جرير بن قيس الحوالي:
حوتا بكسرها لها مسكا ... من غير عاج ولا ذبل,
فهذا يدل على أن العاج غير الذبل، وكذا قال الجوهري: المسك؛ السوار من عاج أو ذبل والواحدة مسكة فدل على أن العاج غير الذبل.
وكذا قال الجوهري المسك: السوار من عاج أو ذبل والواحدة مسكة فدل على أن العاج غير الذبل.
وقال الخطابي: العاج الذبل وهو خطأ. وفي " المحكم ": والعاج أنياب الفيلة، ولا يسمى غير الناب عاجا. وحكى الأزهري عن النضر بن شميل: المسك من الذبل ومن العاج كهيئة السوار تجعله المرأة في يديها، وقال: والذبل القرون فإذا كان من عاج فهو مسك لا غير.
قلت: الذبل بفتح الذال المعجمة وسكون الباء الموحدة، والمسك بفتح الميم والسين المهملة.
م: (وقال الشافعي: نجس لأنه من أجزاء الميتة) ش: أي لأن كل واحد من الشعر والعظم من أجزاء الميتة، والميتة نجسة بجميع أجزائها ولو جز شعر أو صوف أو وبر من مأكول اللحم في حال حياته.(1/426)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: نجس لأنه من أجزاء الميتة، ولنا أنه لا حياة فيهما، ولهذا لا يتألم بقطعهما فلا يحلهما الموت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال إمام الحرمين: القياس نجاسته، لكن الإجماع على طهارته، وإن كان نحر مجوسي وإن الفضل ذلك ينتف بنفسه فهو نجس على وجه، ولا يطهر إلا المجزور وفي وجه: إن سقط بنفسه فطاهر وإن نتف فنجس. م: (ولنا أنه لا حياة فيهما) ش: الضمير في أنه ضمير الشأن، وفي فيهما يرجع إلى أجزاء الميتة م: (ولهذا لا يتألم بقطعهما) ش: أي ولأجل عدم الحياة في أجزاء الميتة لا يتألم الحيوان بقطع هذه الأجزاء، ألا ترى أنه إذا قص ظلفه أو حافره أو نشر قرنه لا يؤثر لا يؤثر فيه م: (فلا يحلهما الموت) ش: هذا حجة المدعي وأصل القضية يرجع إلى قولنا: هذا الشيء لا حياة فيه؛ لأنه لا يتألم بقطعه، وكل ما لا يتألم بقطعه لا حياة فيه، فهذا الشيء لا حياة فيه، وأما كونه طاهرا أو غير طاهر على الاختلاف، فهو حكم يترتب عليه. وفي " المبسوط ": هذا الاختلاف بناء على أن لا حياة للشعر والعظم عندنا.
وقال الشافعي: فيهما حياة، وقال مالك: في العظم حياة دون الشعر، وعن مالك: إذا ذكي الفيل فعظمه طاهر، وأورد بأن الحيوان يتألم بكسر العظم فيكون فيه الحياة، وأجيب بأن تألمه بذلك للاتصال باللحم.
فإن قيل: قال الله تعالى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] (يس: الآية 78) يدل على حصول الحياة فيها. وأجيب بأن هذا مثل قَوْله تَعَالَى: {يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50] فلا يدل على سبق الحياة فيها، والمراد به أصحاب العظام بإنبات اللحم عليها وفطرتها وإعادة الأرواح إلى الأجساد، فلا يدل على حقيقة حياة العظم.
وقال صاحب " الكشاف ": يردها غضة رطبة في بدن حساس أو يكون إحياؤها في الآخرة، فعليه يجعل الحياة في نفس العظم وأحوال الآخرة لا تضاهي أحوال الدنيا.
فإن قلت: نفس هذه الأجزاء ميتة فتكون نجسة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] (المائدة: الآية 3) ، قلت: الميتة عبارة عما فارقته الحياة بلا ذكاة، وهذا الأشياء لا حياة فيها لما بينا، والمراد من الآية حرمة الأكل، فلا يلزم من ذلك حرمة الانتفاع، والدليل عليه حديث ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - المذكور فيما مضى.
فإن قلت: في هذه الأشياء رطوبة، قلت: نحن نقول بنجاستها، فإذا غسلت وأزيل عنها الدم المتصل والرطوبة النجسة طهرت.
فإن قلت: الشعرة تنمو بنماء الأصل.(1/427)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا النماء لا يدل على الحياة الحقيقية كما في النبات والشجر، قولك: ينمو بنماء الأصل غير مسلم؛ لأنه قد ينمو مع نقصان الأصل، كما إذا ذهل الحيوان بسبب مرض وطال شعره، وفي " النهاية " وبين الناس كلام في السن أنه عظم أو طرف عصب يابس، فإن العظم لا يحدث في البدن بعد الولادة، وتأويل قَوْله تَعَالَى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ} [يس: 78] (يس: الآية 78) النفوس. وفي العصب روايتان في إحداهما فيه حياة لما فيه من الحركة، وينجس بالموت، ألا ترى أنه يتألم الحي بقطعه بخلاف العظم. انتهي.
فإن قلت: إذا طحن سن الآدمي مع الحنطة لا يؤكل.
قلت: ذلك لحرمة الآدمي لا لنجاسته. وفي " فتاوى قاضي خان ": إذا صلى وفي عنقه قلادة فيها سن كلب أو ذئب تجوز صلاته. ولو صلى ومعه جلد حية أكثر من قدر الدرهم لا تجوز صلاته وإن كانت مذبوحة لأن جلدها لا يحتمل الدباغ، فلا تقوم الذكاة مقام الدباغ.
وأما قميص الحية ففيه اختلاف المشايخ، قيل: إنه نجس، وقيل: إنه طاهر، ذكره الحلوائي، وأشار إلى أن الصحيح أنه طاهر، فإن عين الحية طاهر حتى لو صلى ومعه حية غير ميتة يجوز، فإذا كان عينها طاهرا كان قميصها طاهرا.
ولو صلى ومعه لحم آدمي مذبوح أكثر من قدر الدرهم جازت صلاته بخلاف الثعلب؛ لأن ما كان سؤرها نجسا لا يطهر لحمه بالذكاة، وما كان طاهرا يطهر، ولو خرجت البيضة من الدجاجة الحية فوقعت في الماء، قيل: إن كانت يابسة لا يفسد الماء مطلقا ما لم يعلم أن عليها قذرا؛ لأن رطوبة المخرج ليست بنجسة. فلهذا قالوا بأن مجرى البول طاهر حتى يطهر موضع المني بالفرك. وفي " الذخيرة ": أسنان الكلب طاهرة إذا كانت يابسة، ولو صلى معها جازت صلاته، وأسنان الإنسان نجسة إذا سقطت ولو صلى معها لا تجوز.
وحكى الفقيه أبو جعفر عن بعض المتقدمين من أصحابنا أن من أثبت مكان أسنانه أسنان كلب تجوز صلاته، وأسنان الآدمي لا تجوز صلاته، وهذا غريب، والفرق أن الكلب تقع عليه الذكاة فعظمه طاهر، بخلاف الآدمي والخنزير، عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - سن الإنسان طاهر في حق نفسه نجس في حق غيره حتى لو أثبتها في مكانها جازت صلاته، ولو أثبت سن غيره لا يجوز، ولو جر السن تنجس لم يجز كمن أثبته ونزعه؛ لأنه صار باطنا خلفة وسقط حكم نجاسته.
ودم الشهيد ما دام عليه فهو طاهر تجوز الصلاة عليه معه، فإذا زال صار نجسا. وماء فم الميت قيل: نجس، وماء فم النائم: طاهر عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وعليه الفتوى.(1/428)
إذ الموت زوال الحياة،
وشعر الإنسان وعظمه طاهر. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: نحبس لأنه لا ينتفع به، ولا يجوز بيعه، ولنا أن عدم الانتفاع به والبيع لكرامته، فلا يدل على نجاسته، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ونافجة المسلك إن كانت بحال لو أصابها الماء لم يفسد فهي طاهرة، والأصح أنها طاهرة بكل حال ذكرها في " الذخيرة "، هذا إذا كانت من الميتة ومن المذكاة طاهرة. ومرارة كل شيء كبوله، ولحم السباع لا يطهر بالذكاة؛ لأن سؤرها نجس هو الصحيح، بخلاف البازي ونحوه لطهارة سؤره، ذكر هذه كلها ظهير الدين المرغيناني.
م: (إذ الموت زوال الحياة) ش: كلمة "إذ" للتعليل، وهذه إشارة إلى أن بين الحياة والموت تقابل العدم والملكة. وقال السغناقي: قال شيخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا تعريف بلازم المسمى لا بنفس المسمى، بل الموت أمر وجودي يلزم منه زوال الحياة، قل تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] (الملك: الآية 2) وما يدخل تحت الخلق فهو أمر وجودي، وقيل: الموت معنى تزول به الحياة، وقيل: فساد بنية الحيوان.
وقيل: عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة. قال تاج الشريعة: قوله: إذ الموت زوال الحياة - هذا طريق مجازاة الموت حقيقة حاله يلزم منها زوال الحياة؛ لأنه أمر وجودي قال الله تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] (الملك: الآية 2) .
فإن قلت: الموت صفة وجودية بما ذكرنا والمخلوق لا يكون عدما. قلت: المراد بالخلق التقدير والعدم مقدر.
[شعر الإنسان وعظمه]
م: (وشعر الإنسان وعظمه طاهر) ش: كان يقتضي التركيب أن يقال: طاهران، ولكن التقدير وشعر الإنسان طاهر وعظمه طاهر. وعن محمد في نجاسة شعر الآدمي روايتان بنجاسته أخذ إمام الهدى أبو منصور الماتريدي وبطهارته أخذ الفقيه أبو جعفر والصفار واعتمدها الكرخي في كتابه وهو الصحيح، وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقد مضى الكلام فيه مفصلا.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نجس لأنه لا ينتفع به ولا يجوز بيعه) ش: وروى المزني عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه رجع عن تنجيس شعر الآدمي. وفي " الحلية " شعر الإنسان طاهر إذا قلنا: إنه لا ينجس بالموت في أصح القولين، وإن قلنا: إنه ينجس به لا.
م: (ولنا أن عدم الانتفاع به والبيع لكرامته) ش: أي لأجل كرامته؛ لأن الآدمي مكرم بالنص والضمير في به يرجع إلى الشعر، وفي كرامته يجوز أن يرجع إلى الشعر أيضا، ولكونه مكرما بكرامة صاحبه، ويجوز أن يرجع إلى الإنسان وهو الظاهر.
م: (فلا يدل على نجاسته) ش: أي الفاء للنتيجة أي حرمة الانتفاع به إذا كانت لأجل كونه(1/429)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مكرما فلا تدل على نجاسته، وكذا البيع، ولأن فيه ضرورة وبلوى، فإنه متى حلق الرأس أو مشط اللحية لا بد من أن يتناثر على بعض شعوره فيلتصق به، فلو منع ذلك جواز الصلاة لضاق الأمر على الناس.
والدليل على أن فيه ضرورة وبلوى ما حكي أن ضيفا نزل على الشافعي فدفع له [......] يشتري له الباقلاء الرطبة، فاشترى ثم حلق رأسه، ثم قام يصلي، فقال له الضيف: أليس هذا على مذهبك لا يجوز؟ فقال: نعم، لكن إذا اضطررنا في شيء انحططنا إلى قول العراقيين فثبت أن فيه ضرورة.(1/430)
فصل في البئر وإذا وقعت في البئر نجاسة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في البئر] [حكم وقوع النجاسة في البئر]
م: (فصل في البئر) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام ماء البئر، ولما كان أحكام مياه الآبار داخلة في باب الماء الذي يجوز به الوضوء ذكرها فيه، ولكن لما كان في هذا الفصل أحكام كثيرة تخالف أحكام ما ذكر في الباب ذكرها بفصل على حدة، فلذلك أفرد أحكام الآبار وغيرها أيضا فذكرها بفصل على حدة. وقد تكلف الشارحون في هذا الموضع وذكروا أشياء بلا فائدة زائدة.
فقال السغناقي: لما ذكر حكم الماء بأنه يتنجس كله عند وقوع النجاسة فيه حتى يراق كله، ورد عليه حكم ماء البئر نقضا أنه لا ينزح كله في بعض الصور، استدعى هو ذكر ماء البئر على حدة مرتبا عليه، لأن كونه من الماء القليل يقتضي أن يكون متصلا به من غير فصل، لكن يخالفه في الحكم، ففصله بفصل على حدة رعاية للمعنى، وتبعه صاحب " الدراية "، وساق ما ذكره بعينه، ثم ذكر الأكمل كذلك، وهذا كله لا طائل تحته، وتشويش على المحصلين بزيادة كلام لا يتعلق بالمسائل المذكورة في هذا الباب.
على أنا نقول: ما كان ينبغي أن يذكروا فيه المناسبة بين هذا الفصل وبين المسألة التي ذكرت قبلها مسألة شعر الميت وعظمها، وشعر الآدمي وعظمه، وبين هذا الفصل وبين مسألة الماء القليل مسافة بعيدة فيها مسائل كثيرة، فمن هذا عرفت أن الصواب ما ذكرناه.
م: (وإذا وقعت في البئر نجاسة) ش: الكلام أولا في التركيب ومعاني ألفاظه، فنقول: الواو فيه تسمى واو الاستفتاح يستفتح بها كلام مبتدأ، وسمعته من مشايخي الأثبات؛ منهم الشيخ العلامة حسام الدين صنف البخاري وغيره، ومع هذا لا يخرج هاهنا عن كونها عاطفة على ما قبلها، ويكون ذكر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بمعنى الذي ذكرناه مثل الجملة المعترضة، ومعنى الوقوع السقوط، والبئر يجمع في القلة على أبؤر وأبأر بهمزة بعد الباء، ومن العرب من يقلب الهمزة فيقول: آبار فإذا كثرت فهي البئار وقد بارت بئرا، والبؤرة الحفرة. وقال أبو زيد: بارت آبارا حفرت بؤرة يطبخ فيها وهي الأرض، والبئيرة على وزن فعيلة وخبره قوله م: (نزحت) ش: من نزح البئر نزحا وهو استقاء مائها، يقال: نزحت البئر ونزحتها لازم ومتعد، وفي الحديث نزل الحديبية وهي بئر نزح بالتحريك، يعني أخذ ماؤها وإذا أخذ ماء البئر يقال: بئر نزوح.
وقال الأترازي: قال الشارحون: أي نزحت البئر إطلاقا لاسم المحل على الحال، وقالوا: لأن نزح النجاسة لا يتم الجواب. أقول هذا تكلف ناشئ عن عدم البصر؛ لأن قوله: نزحت ليس بجواب وحده بل الجواب هو وما بعده من قوله:(1/431)
نزحت وكان نزح ما فيها من الماء طهارة لها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: وكان نزح ما فيها من الماء طهارة لها) ش: لأن قوله: وكان عطف على قوله: نزحت أي نزحت النجاسة وكان. . إلخ، فيكون بمعنى ما قالوا من التأويل بعد التكلف بعد هو ما قاله المصنف تصريحا؛ لأنهم قالوا: نزحت أي البئر أي ما فيها من النجاسة والماء، وبقي قوله - وكان ما فيها من الماء زائدا - فما أحسن قول من قال: في حقهم، رأى الأمر يقتضي إلخ. قصر آخره أولا.
وقال الأكمل: بل نزحت أي ماؤها بحذف المضاف بعدم الالتباس كما أن نزح العين غير ممكن، ونزح النجاسة لا يتم جواب المسألة فتعين ما قلنا، والتأنيث اعتبار للإسناد الظاهري؛ لأن قوله: وكان نزح ما فيها دليل على ما قلنا، فكان هذا من قبيل إطلاق اسم المحل على الحال كقولهم جرى النهر.
قلت: هذا بعينه كلام السغناقي، وأشار إليه بقوله: قيل والقائل هو السغناقي قال الأكمل: وفيه نظر لأنه حينئذ لم يمكن لإخراج النجاسة ذكر ولا تطهر البئر إلا بإخراجها، وعن هذا ذهب بعض الشارحين إلى أن ضمير نزحت النجاسة وجواب إذا هو المجموع من قوله: نزحت إلى قوله: طهارة لها، ويكون تقديره نزحت النجاسة. فكان نزح ما فيها من الماء طهارة لها.
يقول: أراد الأترازي بقوله: أراد الشارحون - السغناقي والكاكي وغيرهما، ثم قوله -: هذا تكلف ناشئ عن عدم التبصر إلخ - وهو بعينه عدم التبصر، بيان ذلك أن قوله: "نزحت" ليس بجواب وحده، بل الجواب هو وما بعده. . . إلخ. ليس كذلك بل الجواب هو قوله: نزحت، والضمير في نزحت لا يرجع إلى قوله نجاسة بل يرجع إلى البئر، والتقدير نزح ماء البئر من قبيل جرى النهر، وسال الميزاب ونزح ما فيها إفراغه عنها، فإذا خرج جميع ما فيها من الماء يخرج معه النجاسة بالضرورة.
وقوله: وبقي: قوله "وكان نزح ما فيها من الماء زائدا" غير صادر عن تبصر، لأن قول المصنف - فكان نزح ما فيها. . إلخ لبيان أنه لا يحتاج إلى غسل حيطانها، وإخراج ما فيها من التراب والأحجار.
ثم قول الأكمل: وفيه نظر غير سديد؛ لأن المراد من إسناد الترح إلى البئر إفراغ ما فيها، وما فيها يشمل الماء والنجاسة.
وقوله: ذهب بعض الشارحين، أراد به الأترازي؛ لأنه جعل الضمير في نزحت للنجاسة، وقوله: (والتركيب والجواب ... إلخ) محصل ما ذكرت وقررته، غير أن قوله: - والتقدير أن يقال: نزحت النجاسة والماء - ليس مقتضى التركيب، ومقتضاه ما قلنا، وكان نزح ما فيها من الماء(1/432)
بإجماع السلف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
طهارة لها إشارة بهذا إلى أن البئر تطهر بمجرد النزح من غير توقف على غسل الحيطان ونقل الأوحال، وقد علمت أن هذا الكلام مستقل بذاته بهذا المعنى من غير اشتراك بما قبله في المعنى.
م: (بإجماع السلف) ش: أراد بهم الصحابة والتابعين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولم أر أحدا من الشراح مع كثرتهم ودعوى بعضهم التحقيق في هذا الكتاب تعرض إلى متعلق الباء في قوله: بإجماع السلف، وهي متعلقة بقوله: (طهارة لها) ، أي للبئر، والمعنى أن طهارة البئر التي وقعت فيها النجاسة نزح ما فيها ثبت بإجماع السلف.
فإن قلت: كيف إجماع السلف في هذا؟
قلت: الإجماع من الصحابة في هذا هو أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أمر بنزح جميع ماء بئر زمزم حين وقع فيه زنجي، وكان ذلك في خلافة عبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلم ينكر عبد الله بن الزبير ولا أحد من الصحابة في ذلك الزمان على ابن عباس، فوقع الإجماع منهم على طهارة البئر بالنزح، وكذلك روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في هذا الباب على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما الإجماع من التابعين فقد روي في هذا الباب عن الشعبي وإبراهيم النخعي وعطاء والزهري والحسن البصرى وغيرهم، ولم ينقل عن أحد منهم خلافه فصار إجماعا، وسأذكر ذلك مفصلا عن قريب إن شاء الله تعالى.
وسقط قول السروجي في شرحه وقوله: بإجماع السلف وفيه نظر، وبعض من لا خبرة له من أصحاب الشافعي طعن في هذا الموضع، وقال: ما أكيس دلو أبي حنيفة حيث ميز الماء النجس من الطاهر، وهذا في الحقيقة تشنيع على الصحابة والتابعين حيث أجمعوا على طهارة البئر بالنزح فيقال لهم: ما أكيس قرعته حيث ميزت بين الحر والرقيق، وكذلك في تعارض البنيان تميز الحق من الباطل بالقرعة، وقرعتهم هذه أكيس من دلونا.
وفي " المبسوط " هم قالوا بالرأي ما هو أشد من هذا، فقالوا في بئر فيها قلتان، أي ماتت فيه فأرة فنزحت منها دلو، فإن حصلت الفأرة في الدلو فالماء الذي في الدلو نجس، والذي يبقى في البئر طاهر، وإن بقيت الفأرة في البئر فالدلو طاهر وما بقي في البئر نجس، ودلوهم هذا أكيس من دلونا. وقال الأترازي: فيا للدلو أيدته الشافعية كيف طهرت ظاهرها من مرة دون باطنها وعكست أخرى، وكيف طهرت البئر تارة ونجستها أخرى، وكيف وردت الجواب بقياسها على المشنعين علينا؟!(1/433)
ومسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار دون القياس، فإن وقعت فيها بعرة أو بعرتان من بعر الإبل أو الغنم لم يفسد الماء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ومسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار دون القياس) ش: لأن القياس أحد الأمرين، إما أن لا يطهر البئر طهارة ينتفع بها لاختلاط النجاسة بما فيها من الأوحال والحجارة والجدران ولا يمكن غسلها، وهو قول بشر المريسي، وإما أن لا ينجس أبدا كالماء الجاري إذا نبع الماء من أسفله وكحوض الحمام إذا سقط من جانب ويؤخذ من جانب آخر لم ينجس بإدخال يد جنب فيه، ولهذا نقل عن محمد أنه قال: اجتمع رأيي ورأي أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن ماء البئر في حكم الجاري، إلا أنا تركنا القياس واتبعنا الآثار. ففي " مصنف عبد الرزاق " عن معمر قال: سألت الزهري عن فأرة وقعت في البئر، فقال: إن أخرجت مكانها فلا بأس، وإن ماتت فيها نزحت، رواه عبد الرزاق عن معمر، قال: أخبرني من سمع الحسن يقول: إذا ماتت الدابة في البئر أخذ منها، وإن نفخت فيها نزحت أربعون دلوا.
وفي " مصنف ابن أبي شيبة " قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا عبد الله بن شبرمة عن الشعبي في دجاجة ماتت في بئر قال: تعاد منها الصلاة وتغسل الثياب. وقال ابن المنذر في " الأشراف " في الإنسان يموت في البئر تنزح كلها. وذكر أبو عبيد أن هذا قول الثوري وأصحاب الرأي. وقال الأوزاعي في ماء معين وجد فيه ميتة لم تغير الماء، قال: تنزح منها الدلاء، وإن غيرت ريح الماء وطعمها نزح بصفوف يطيب، وكذلك قال الليث بن سعد، وقال ابن القاسم عن مالك في الفأرة والوزغة يستقى حتى يطيب.
وروى قتيبة بن سعيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو مصعب عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الفأرة والوزغة تموت في البئر قال: تنزف كلها، ذكره في " العارضة "، وذكر في " البدائع " " والمحيط " و" قاضي خان " أنه «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر في الفأرة تموت في البئر أن ينزح منها عشرون دلوا أو ثلاثون» . وفي " المبسوط " عن أنس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله. وقال السغناقي: رواه أبو علي الحافظ السمرقندي بإسناده.
قلت: لم يثبت شيء من ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (فإن وقعت فيها بعرة أو بعرتان من بعر الإبل أو الغنم لم يفسد الماء) ش: أشار بالفاء التفسيرية إلى ما يجب نزحه من الماء بحيث ما يقع فيها النجاسة وما لا يجب، والبعر بسكون العين وفتحها، وعند الكوفيين فتح عين الكلمة إذا كانت حرف حلق قياسي، وعند البصريين سماعي فإنه لم ينقل في وعد، وعدو البعر للإبل والغنم، وهو يشمل الضأن والمعز، والروث للفرس والحمار، من راث الفرس من باب نصر، والخثي بكسر الخاء للبقر من خثي خثيا من باب ضرب.(1/434)
استحسانا والقياس أن تفسده لوقوع النجاسة في الماء القليل، وجه الاستحسان أن آبار الفلوات ليست لها رؤوس حاجزة، والمواشي تبعر حولها فتلقيها الريح فيها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م (استحسانا) ش: أي من حيث الاستحسان، أو التقدير استحسن ذلك استحسانا، فعلى الأول تمييز وعلى الثاني مفعول مطلق.
م: (والقياس أن تفسده) ش: أي أن تفسد الماء م: (لوقوع النجاسة في الماء القليل) ش: فصار كالوعاء إذا وقعت فيه بعرة أو بعرتان فإنها تنجس لعدم الضرورة وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الإناء كالبئر في حق البعرة والبعرتين، وكذا الحوض الصغير، لإمكان صون الماء عنها فإن كانت النجاسة جامدة، وما وقع فيها جامد كالسمن ونحوه رميت النجاسة وما حولها وأكل الباقي، لما روى البخاري عن ميمونة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه سئل عن فأرة سقطت في سمن، قال: "إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوا"، وإن وقعت في المائع نجسته» لحديث أبي هريرة قال: «سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الفأرة في السمن، فقال: "إن كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعا فلا تقربوه» . رواه أبو داود وأحمد.
ويجوز استعماله في دباغ الجلد، ودهن الدواب، والسفن، والاستصباح، ويجوز بيعه، ويجب عليه البيان، وروي «فانتفعوا به» . وقال البخاري: رواية أبي داود " "وإن كان مائعا فلا تقربوه"، خطأ، والصحيح الأول، يعني روايته، وذكر في " التوشيح " وفي الشاة تبعر في اللبن بعرة أو بعرتين، قال: ترمى البعرة ويشرب اللبن، روي ذلك عن خلف بن أيوب، ونصر بن يحيى، ومحمد بن مقاتل الرازي لمكان الضرورة، فإن الغنم لا تحلب من غير أن تبعر عند الحلب، وهو يحكى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (وجه الاستحسان أن آبار الفلوات) ش: جمع فلاة وهي المفازة، ويجمع على فلاة أيضا، وأصل فلاة فلوة قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، والجمع يرد الشيء إلى أصله، م: (ليست لها رؤوس حاجزة) ش: أي مانعة وقوع النجاسة من حجزه يحجزه حجزا إذا منعه، فالحجز وهو من باب نصر ينصر.
م: (والمواشي) ش: جمع ماشية وهي اسم يقع على الإبل والبقر والغنم، وأكثر ما يستعمل في الغنم م: (تبعر حولها) ش: أي حول الآبار خصوصا وقت إيرادها للسقي، وتبعر من باب بعر البعير والشاة بفتح العين وسكونها، وهو من باب منع يمنع م: (فتلقيها الريح فيها) ش: أي تلقي(1/435)
فجعل القليل عفوا للضرورة، ولا ضرورة في الكثير وهو ما يستكثره الناظر إليه في المروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعليه الاعتماد. ولا فرق بين الرطب واليابس، والصحيح والمنكسر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الريح البعرات حول الآبار.
م: (فجعل القليل عفوا للضرورة) ش: أي فإذا كان كذلك جعل القليل من البعر عفوا لأجل الضرورة، فلو أفسده القليل أدى إلى الحرج {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (الحج: الآية 78) ، وهو الذي ذكره هو أحد وجهي الاستحسان. قال في " المبسوط " و" المفيد ": للاستحسان وجهان أحدهما: أن في القليل ضرورة، ووجها ما ذكره المصنف. والوجه الثاني: لم يذكره المصنف وهو أن البعر شيء صلب وعلى ظاهرها رطوبة في الأمعاء كالغلاف له، وفيها لزوجة تمنع دخول الماء في أثنائه.
م: (ولا ضرورة في الكثير) ش: من البعر م: (وهو) ش: أي الكثير م: (ما يستكثره الناظر إليه) ش: بأن يقول هذا كثير م: (في المروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي في الذي روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
فإن قلت: الجار والمجرور بماذا متعلق، وما محلهما من الإعراب؟
قلت: تعلقهما بمحذوف تقديره الكثير هو الذي يستكثره الناظر المعتمد عليه في المروي عن أبي حنيفة، دل عليه قوله م: (وعليه الاعتماد) ش: أي هذا المروي العمدة في هذا الباب، إنما قال ذلك لأن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقدر شيئا بالرأي في مثل هذه المسائل التي يحتاج إلى التقدير، ولما كان هذا موافقا لمذهبه قال: وعليه الاعتماد، ولهذا قال في " البدائع " و" قاضي خان ": هو الصحيح، وأما محلهما من الإعراب فالنصب على الحال وذو الحال هو المقدر الذي ذكرناه.
وقيل: الكثير أن يغطي ربع وجه الماء. وقيل: أن لا يخلو دلو عن بعرة، وقال في " المبسوط ": هو الصحيح. وقيل: أن يأخذ جميع وجه الماء فدل على أن الثلاث يفسده، وهذا فاسد لأنه ذكر في الكتاب: إن وقعت فيها بعرة أو بعرتان لا يفسد الماء حتى يفحش، والثلاث ليس بفاحش هكذا ذكره في " المبسوط " و" المحيط " و" المفيد ".
وقال الأسبيجابي في " شرح مختصر الطحاوي ": والأول أظهر؛ لأن محمدا جعل الرجعة في البعرة والبعرتين لا غير، وجعل الرطب واليابس المنكسر نجسا وإن قل، وروى الحسن أن اليابس لا ينجس للضرورة.
م: (ولا فرق) ش: في هذا الحكم م: (بين الرطب واليابس والصحيح والمنكسر) ش: هذا على الوجه الذي ذكره المصنف من وجهي الاستحسان. وأما على الوجه الثاني: فإنه يفرق بين الرطب(1/436)
والروث والخثي والبعر؛ لأن الضرورة تشمل الكل،
وفي شاة تبعر في المحلب بعرة أو بعرتين، قالوا: ترمى البعرة ويشرب اللبن لمكان الضرورة، ولا يعفى القليل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واليابس والصحيح والمنكسر م: (والروث والخثي والبعر) ش: فجعل الرطب نجسا لوجهين: أنه ثقيل يلتصق بالأرض فلا يرفعه الريح فلا ضرورة فيه، يروى ذلك عن أبي حنيفة. والثاني: أن رطوبة الأمعاء لم تنصب عليه لعدم يبسه ذكره في " النوازل " والحاكم في " الإشارات "، والمنكسر ينجسه لدخول الماء باطنه بخلاف الصحيح.
قلنا: الضرورة في المنكسر أشد لخفته. وعن أبي يوسف: الروث اليابس إذا خرج من ساعته لا ينجس، والرطبة ينجسه. وفي " المحيط ": السرقين والروث قليله وكثيره رطبه ويابسه سواء؛ لأنه يتشقق فينتشر في الماء، وكان قليله كالكثير، وخثي البقر قيل: ينجسه وإن كان صلبا فكالبعر.
ثم اعلم أنه يفرق بين آبار الفلوات وبين آبار الأمصار، قال شيخ الإسلام في " المبسوط ": فأما إذا كان في الأمصار اختلف مشايخنا فيه؛ قال بعضهم: ينجس إذا وقع فيها بعرة أو بعرتان؛ لأنها لا تخلو عن حائط بتابوت أو حائط، فلا يتحقق فيها الضرورة. وقال بعضهم: لا ينجس اعتبارا للوجه الآخر من الاستحسان.
قال شيخ الإسلام: والصحيح أن الكل والنصف سواء فلا ينجسه، وذكره الحاكم الشهيد في كتابه " الإشارات "، فقال: إن كان رطبا نجسه، وإن كان يابسا لا ينجس، والروث والخثي والبعر هذه المجرورات عطف على قوله: والمنكسر، أراد أنه لا يفرق أيضا بين هذه الأشياء، كما لا يفرق بين الرطب واليابس، والصحيح والمنكسر، وفي الخثي خلاف ما ذكرناه آنفا.
وفي " المبسوط " في روث الحمار والفرس القليل والكثير سواء؛ لأنه ليس صلابة فيتداخل الماء في أجزائه فينجس، وكذلك المنفتة من البعر في ظاهر الرواية، إلا أنه روي عن أبي يوسف قال: القليل من الروث عفو، وهو الأوجه كذا ذكره الإمام المحبوبي.
م: (لأن الضرورة تشمل الكل) ش: أراد جميع ما ذكره من قوله: ولا فرق ... إلخ.
م: (وفي الشاة تبعر في المحلب بعرة أو بعرتين) ش: كلمة في قوله: وفي الشاة تتعلق بقوله: قالوا، والمحلب بكسر الميم آلة للحلب بفتح اللام وهو مصدر م: (قالوا) ش: أي المشايخ م: (ترمى البعرة ويشرب اللبن) ش: معناه لا ينجس إذا رميت قبل أن يتغير لونه. قال شيخ الإسلام في " مبسوطه ": لا ينجس إذا رميت من ساعته ولم يبق لها لون.
م: (لمكان الضرورة) ش: لأن الغنم يتعين حلبها بلا بعر ومن عادتها أنها تبعر عن الحلب م: (ولا يعفى القليل) ش: وهو الذي يستقله الناظر.(1/437)
في الإناء على ما قيل لعدم الضرورة، وعن أبي حنيفة أنه كالبئر في حق البعرة والبعرتين، فإن وقع فيها خرء الحمام أو العصفور لا يفسده، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وله أنه استحال إلى نتن وفساد فأشبه خرء الدجاج، ولنا إجماع المسلمين على اقتناء الحمامات في المساجد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وفي الإناء على ما قيل) ش: قول بعض المشايخ، وكلمة على بمعنى في، وما مصدرية والمعنى: ولا يعفى القليل في الإناء في قوله - وجاءت على بمعنى في - كما في قولهم كان كذا على عهد فلان أي في عهده.
م: (لعدم الضرورة) ش: لإمكان صون الإناء بالتغطية م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه) ش: أي أن الإناء م: (كالبئر) ش: أي بمنزلة البئر في الحكم م: (وفي البعرة والبعرتين) ش: أي في عدم تنجس الماء بالبعرة والبعرتين تسهيلا للأمر.
م: (فإن وقع فيها) ش: أي في البئر م: (خرء الحمام) ش: بضم الخاء وضم الراء العذرة وجمعه خروء مثل جند وجنود، والحمامة عند العرب ذوات الأطواق من نحو الفواخت والقماري وساق جرو القطا والوراشين وأشباه ذلك يقع على الذكر والأنثى؛ لأن الهاء إنما دخلت على أنه واحد من جنس لا للتأنيث.
وعند العامة الحمام هي الدواجن فقط، الواحد: الحمامة ويجمع على حمامات وحمائم أيضا، وربما قالوا: حمام للواحدة. وقال الفرزدق:
تساقط ريش غادية وغاد ... وحماما نقره قطط وقطارا
م: (أو العصفور) ش: بضم العين والأنثى عصفورة وقوله: (لا يفسده) ش: جواب إن أي لا يفسد ماء البئر م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي خالفنا فيه الشافعي م: (وله) ش: أي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعني دليله م: (أنه) ش: أي أن خرء الحمام والعصفور م: (استحال) ش: أي متحول م: (إلى نتن) ش: ش: هو الرائحة الكريهة م: (وفساد) ش: هو خروجه عن الصلاحية فصار كالبول والغائط. والتحقيق فيه أن الذي يحيله الطبع من الغذاء على نوعين نوع يحيله إلى نتن وفساد كالبول والغائط وهو نجس، ونوع يحيله إلى صلاح كالبيض واللبن والعسل، وخرء الحمام والعصفور من النوع الأول.
م: (فأشبه خرء الدجاج) ش: وهو نجس بالاتفاق. وقال السروجي وكان الأنسب تقديم خرء العصفور؛ لأن خرء الحمام إذا لم يفسد فالعصفور بالطريق الأولى فلا فائدة في ذكرها، لكن لما كان خرؤهما طاهرا فلا فرق بينهما يقدم أيهما شاء.
قلت: لا فائدة في ذكر هذا الاستغناء عنه وليس فيه مزيد فائدة.
م: (ولنا إجماع المسلمين على اقتناء الحمامات في المساجد) ش: أراد بهذا الإجماع أن الصدر(1/438)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأول ومن بعدهم أجمعوا على اقتناء الحمامات في المساجد حتى المسجد الحرام، فدل هذا الإجماع على طهارة خرء الحمام، وفي قوله: - على اقتناء الحمامات - نظر؛ لأن الاقتناء والاتخاذ من قولهم قنوت الغنم وغيرها قنوة، وقنيتها قنية أيضا إذا اقتنيتها لا للتجارة واقتناء المال وغيره اتخاذه، ولم ينقل عن أحد من الصدر الأول أو ممن بعدهم بأنه اتخذ حماما في مسجد من مساجد الله أو في مسجد الكعبة، غاية ما في الباب أنها كانت تأوي إلى المساجد، ولم يكن أحد منهم يمنعه ويسكت عند، فحينئذ يكون هذا نوعا من أنواع الإجماع السكوتي.
فإن قلت: ما كان سبب سكوتهم عن هذا حتى جعل إجماعا منهم؟
قلت: حديث أخرجه الطبراني في " معجمه " والبزار في " مسنده " والبيهقي في " دلائل النبوة " من حديث عون بن عمرو القيسي قال: سمعت أبا مصعب المكي قال: أدركت أنس بن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يتحدثون أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «أمر الله تعالى شجرة ليلة الغار فنبتت في وجهي، وأمر الله العنكبوت فنسجت فسترني الله وأمر الله تعالى حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار، وأقبل فتيان من قريش بعصيهم وهراواتهم وسيوفهم حتى إذا كانوا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدر أربعين ذراعا، فجعل بعضهم ينظر في الغاز فرأى حمامتين بفم الغار فرجع إلى أصحابه فقالوا: مالك لم تنظر في الغار، قال: رأيت بفمه حمامتين فعرفت أنه ليس فيه أحد فسمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قال فعرف أن الله قد درأ عنه بهما، فدعا لهما وشمت عليهن وأقررن في الحرم، وفرض خروجهن» وقال البزار لا نعلم روايته إلا عون بن عمر وهو بصري مشهور وضعفه العقيلي، ويقال عون بن عمرو. قوله: شمت بالشين المعجمة وتشديد الميم يقال: شمت فلانا وشمت عليه، إذا دعا له بالخير والبركة في حديث زواج فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فأتاهما فدعا لهما وشمت عليهما ثم خرج.
فإن قلت: لا ينعقد الإجماع إلا بدليل يوجب العلم قطعا ولا ينعقد بخبر الواحد والقياس.
قلت: هذا من مذهب الشيعة والقاشاني من المعتزلة وابن جريج، ومذهب أهل السنة والجماعة الحكم بالإجماع بطريق القطع، وكون الإجماع حجة قطعية لم يثبت من دليل، فنسبه الداعي إليه بل إنما ثبت من قبل ذا إن الإجماع رفعه وكرامة لهذه الأمة خاصة وأشد أمة لحجة الله(1/439)
مع ورود الأمر بتطهيرها واستحالته لا إلى نتن رائحة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعالى في الأحكام إلى يوم القيامة. وقال السغناقي: وأصله هذا الإجماع حديث أبي أمامة الباهلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شكر الحمامة فقال:» «إنها أوكرت على باب الغار حتى تلمت فجازاها الله تعالى بأن يجعل المساجد مأواها» وتبعه على هذا صاحب " الدراية " ثم الأكمل في شرحيهما، فالعجب من هؤلاء يذكرون حديثا ولا يعزونه إلى مخرجه ولا إلى حاله.
م: (مع ورود الأمر بتطهيرها) ش: أي بتطهير المساجد والأمر هو قوله عز وجل: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة: 125] (البقرة: الآية 125) ، وأما الأمر في الحديث فقد قال الأكمل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «جنبوا مساجدكم صبيانكم» ، قلت: هذا قطعة من حديث لم يذكر تمامه ولا الصحابي الذي رواه ولا من أخرجه، وروي فيه عن عائشة وسمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
أما حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فأخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه في كتاب الصلاة عن هشام بن عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت «أمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب» ورواه ابن حبان في " صحيحه " وأحمد في " مسنده ".
وأما حديث سمرة فأخرجه أبو داود عن حبيب بن سليمان بن سمرة عن أبيه سليمان عن أبيه سمرة «أنه كتب إلى ما بعد فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمرنا أن نضع المساجد في دورنا ونصلح صنعتها ونظرها» وسكت عنه، وقال سفيان بن عيينة الدور القبائل، وذكر الخطابي أنها البيوت وحكى أيضا أراد بها المحال التي فيها الدور.
قلت: الظاهر أنه أراد بها البيوت مثله فقد ورد النهي عن اتخاذ البيوت مثل المقابر.
م: (واستحالته) ش: أي استحالة خرء الحمام والعصفور هذا جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه استحال إلى نتن وفساد وجهه أن موجب التنجيس أمران النتن والفساد، والنتن هاهنا غير موجود وهو معنى قوله م: (لا إلى نتن رائحة) ش: بل إلى فساد وانتفاء الخرء يستدعي انتفاء الكل.
فإن قلت: الفساد وحده مما يوجب التنجيس، قلنا: ينقص هذا بالمني فإنه قد فسد وهو طاهر عنده وسائر الأطعمة فسد بطول المكث ولا تنجس، ولئن سلمنا ما قاله فإن سقط للضرورة.(1/440)
فأشبه الحمأة، فإن بالت فيها شاة نزح الماء كله عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا ينزح إلا إذا غلب على الماء فيخرج من أن يكون طهورا، وأصله أن بول ما يؤكل لحمه طاهر عنده نجس عندهما. له أن «النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر العرنيين بشرب أبوال الإبل وألبانها»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فأشبه الحمأة) ش: أي إذا كان الأمر كذلك فأشبه خرء الحمام والحمأة هو الطين الأسود في قعر البئر، فإنه منتن في الغالب مع أنه طاهر، والحمأة بفتح الحاء وسكون الميم وفتح الهمزة وفي آخره هاء. وأما الحمأة فهو بفتح الميم، قال الله تعالى: {من حمأ مسنون} [الحجر: 26] (الحجر: الآية 26) ، تقول منه حمأت البئر حمأ بالتسكين إذا نزحت حمأتها وحمأت البئر بالكسر حمأة بالتحريك كثرت حمأتها واحمأتها احمأ ألقيت فيها الحمأة.
م: (فإن بالت فيها) ش: أي في البئر م: (شاة نزح الماء كله عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو ثور وميمون والحسن بن أبي الحسن وحماد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (وقال محمد لا ينزح) ش: وبه قال عطاء والنخعي والزهري والشعبي والثوري ومالك وأحمد رحمهما الله إلا إذا غلب على الماء فيخرج من أن يكون طهورا لغيره م: (إلا إذا غلب) ش: بول الشاة م: (على الماء) ش: فحينئذ م: (فيخرج من كونه طهورا) ش: لغيره، وأما إنه طاهر في نفسه عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وأصله) ش: أي وأصل الحكم في هذه المسألة م: (أن بول ما يؤكل لحمه طاهر عنده) ش: أي عند محمد فعلى هذا قوله: فإن بالت فيه شاة من باب التمثيل لا من باب التمثيل لا من باب التقييد فافهم م: (أنه) ش: أي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (أمر العرنيين بشرب أبوال الإبل وألبانها) ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم، فالبخاري ومسلم في الصلاة وأبو داود وابن ماجه رحمهما الله في الحدود والترمذي في الطهارة والنسائي في تحريم الدم كلهم من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن أناسا من عرينة أصيبوا بالمدينة فوصف لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأكلوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها فقتلوا الراعي واستاقوا الذود فأرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسرهم فأتي بهم وقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم بالحرة يعضون الحجارة» .
ولفظ أبي داود والترمذي والنسائي «وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها» وفي لفظ البخاري عن أنس قال: "قدم «أناس من عكل أو عرينة اجتووا المدينة فأمر لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلقاح أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستاقوا الإبل فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم ثم ألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون» نقول: وجه الاستدلال بتسويته عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين لبنها وبولها، وتقيم بولها(1/441)
ولهما قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على لبنها مع أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يأمر بشرب النجس، فإن كان بول ما يؤكل لحمه نجسا لما أمرهم بشربه.
فإن قيل: لعله أمر بذلك للشفاء والضرورة.
قلنا: لا شفاء في النجس المحرم يدل عليه ما رواه الطحاوي مرفوعا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الخمر ذلك داء ليس بشفاء» . وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما كان الله ليجعل في رجس أو فيما حرمه شفاء وأخرجه الطحاوي.
وقوله: - عرينة - بضم العين المهملة وفتح الراء والنون بينهما ياء آخر الحروف ساكنة قال الجوهري: عرينة بالضم اسم قبيلة ورهط من العرنيين ارتدوا فقتلهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: هو تصغير عرينة وهو بحذاء عرفات. والعرنيون جمع عرني، وكان القياس العرينيون بالياء بعدها الواو، ولكنها حذفت كما في قولهم الجهنيون، والقيام الجهينيون لأن ياء فعليه تحذف في النسبة كما يقال: جهني في جهينة، وكذلك ياء فعيلة كحنيفة يقال في النسب: حنفي. وفي القياس حنيفي. العكل بضم العين وسكون الكاف اسم قبيلة.
قوله: اجتووا المدينة بالجيم أي استوجبوها، افتعال من الجوي تقول جويت نفسي إذا لم توافقك، واجتويته إذا كرهت المقام معه وبه، وإن كنت في نعمة هكذا ذكره الجوهري. قال السروجي: وهذا لا يناسب الحديث، وقال أبو الحسن في شرح البخاري: أجويت البلاد إذا كرهتها، وإن وافقك في الحديث بدنك.
قلت: هذا مثل الأول قوله: بلقاح، اللقاح جمع لقوح وهو الناقة اللبون الحديثة العهد بالولادة التي يكثر لبنها. والذود بفتح الذال المعجمة وسكون الواو وفي آخره دال مهملة وهو من الإبل ما بين الثلاث إلى التسع وقيل ما بين الثلاث إلى العشرة واللفظة مؤنثة ولا واحد لها من لفظها كالنعم. وقال أبو عبيد: الذود من الإناث دون الذكور.
وقوله: بالحرة بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء وهي في الأصل الأرض ذات الحجارة السود، والمراد هاهنا حرة المدينة وهي أرض فيها حجارة سود كبيرة، وتجمع على حرر وحرار وحرات وحرار وهو من الجموع النادرة. وقيل: إن واحد أحريرا حرة.
قوله: - وسمر أعينهم - أي أحمى لهم مسامير الحديد ثم كحلهم بها. ويروى سمل أعينهم باللام موضع الراء أي فقأها بحديدة محماة أو غيرها، وقيل: نقرها بالشوك وهو معنى الثمر.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله م: (قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه» ش:، هذا الحديث رواه ثلاثة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.(1/442)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه الدارقطني من حديث قتادة عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه» ثم قال: المحفوظ مرسل، وفي رواية أبي جعفر الرازي وهو متكلم فيه قال ابن المديني: كان يخلط، وعن أحمد ليس بالقوي، وعن أبي زرعة يهم كثيرا.
وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «استنزهوا» ... " إلخ مثل لفظ الكتاب رواه الدارقطني أيضا ورواه الحاكم في "مستدركه" من طريق أبي عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أكثر عذاب القبر من البول» ، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علة ولم يخرجاه.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من حديث مجاهد عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن عذاب القبر من البول فتنزهوا منه» ، رواه الطبراني في معجمه والدارقطني والبيهقي وكلهم سكتوا عنه.
وروى البزار عن عبادة بن الوليد عن أبيه عن جده قال: «سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البول فقال: "إذا أمسكتم منه شيئا فاغتسلوه فإني أظن أن منه عذاب القبر» وفيه الاستدلال به أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر باستنزاه البول من غير فصل، والأمر للوجوب، ولأن البول محلى بالألف واللام فيعم جميع البول، ويروى - عن البول - مكان - من البول - وفي "المغرب": وأما قولهم: استنزهوا من البول فقال تاج الشريعة في شرحه: تنزهوا عن البول. يقال: تنزه عن الأقذار إذا انصرف عنها واجتنبها، وأما الاستنزاه فلم يوجد في قوانين اللغة، فإن صح ما روي فوجهه أن استفعل فعل يشاركه تفعل نحو استكبر واستقدم بمعنى تكبر وتقدم.
قلت: قد بينا الآن أن لفظ الدارقطني تنزهوا، وقوله: إن استفعل قد يشارك تفعل، معناه أن من جملة معاني استفعل تفعل، وأصل هذا الباب للطلب، ومعناه نسبة الفعل إلى فاعله لإرادة تحصيل المشتق هو منه، ولا يعني أن يكون استفعل هاهنا على بابه والمعنى اطلبوا التنزه من(1/443)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البول.
فإن قلت: المعنى الذي ذكرته لا يتأتى هاهنا.
قلت: هو يكون صريحا نحو استكتبه أي طلب منه الكتابة، وقد يكون تقديرا نحو استخرجت الزيد من الحائط، فليس هاهنا طلب صريح، بل المعنى لم أزل أتلف وأتحيل حتى خرج ونزل ذلك منزلة الطلب هاهنا كذلك فافهم. وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومما يؤيده أي ومما يؤيد ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله - ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيع جنازة سعد بن معاذ وكان يمشي على رؤوس الأصابع من زحام الملائكة التي حضرت للصلاة عليه فلما وضع في القبر ضغطته الأرض ضغطة كادت أضلاعه تختلف فسئل رسول» .
وقال تاج الشريعة: لما توفي سعد بن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفنه، فلما فرغ خرج من قبره متغير اللون وقال: «الله تعالى أكبر لا إله الله والله أكبر لو نجا أحد من ضغطة القبر لنجا سعد بن معاذ، ولقد رأيت القبر ضمه حتى سمعت صوت أعضائه» قال الراوي: كان قميص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منخرقا فسئل عن ذلك فقال: إن سبعين من الحور العين تعلقن بي. وقالت كل واحدة منهن زوجني من سعد، ثم سئل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن سبب هذه الضغطة فقال: إنه كان لا يستنزه عن البول.
قلت: كل من الحديثين لم يذكره أحد بهذه الألفاظ، بل روى الإمام - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حديث جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لما دفن سعد ونحن مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسبح الناس معه ثم كبر فكبر الناس معه فقالوا يا رسول الله لم سبحت قال لقد تضايق على هذا البعد الصالح» .
وروى البزار بإسناد جيد من حديث نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقد هبط يوم مات سعد بن معاذ سبعون ألف ملك إلى الأرض لم يهبطوا قبل ذلك، ولقد ضمه القبر ضمة» " ثم بكى نافع وكانت وفاته بعد انصراف الأحزاب بنحو من خمس وعشرين ليلة، وكان قدوم الأحزاب في شوال سنة خمس، فأقاموا قريبا من شهر، وذكر في " المبسوط " في قوله: إنه كان لا يستنزه، لم يرد به بول نفسه، فإن من لا يستنزه منه لا تجوز صلاته، وإنما أراد أبوال الإبل عند تعالجها. وذكر السغناقي هذا في شرحه ثم أخذ عنه الأكمل.
قلت: يؤيد ذلك ما رواه البيهقي حدثنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا موسى بن بكير عن ابن إسحاق حدثني أمية بن عبد الله أنه(1/444)
ولأنه يستحيل إلى نتن وفساد فصار كبول ما لا يؤكل لحمه وتأويل ما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عرف شفاءهم فيه وحيا؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سأل بعض آل سعد ما بلغكم من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا؟ فقالوا ذكر لنا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ذلك فقال: كان يقصر في بعض الطهور من البول، وكان سعد كبير الأوس وكان حامل لوائهم يوم بدر ومعالجة الإبل وطبقة الغلمان.
وقال السغناقي وجه مناسبة عذاب القبر مع ترك استنزاه البول هو أن القبر أول منزل من منازل الآخرة، والطهارة أول منزل من منازل الصلاة، والصلاة أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة كما جاء في الحديث، وكانت الطهارة أول ما يعذب بتركها في أول منزل من منازل الآخرة وليس ذلك إلا القبر. م: (ولأنه) ش: أي ولأن بول الشاة، هذه إشارة إلى دليل معقول وهو أن بول ما يؤكل لحمه م: (يستحيل إلى نتن وفساد فصار كبول ما لا يؤكل لحمه) ش: والاستحالة إلى النتن والفساد حقيقة النجاسة، وقد مضى عن قريب تفسير النتن والفساد.
فإن قلت: قد اتفقوا على طهارة لعاب ما يؤكل لحمه وعلى طهارة عرقه، فوجب أن يكون بوله مثلهما. قلت: هذا يبطل بالآدمي فإن ريقه وعرقه طاهران، وبوله نجس بإجماع المسلمين، نقل الإجماع ابن المنذر، وبول الكبير والصغير سواء عند سائر العلماء، إلا ما يروى عن داود أن بول الصغير طاهر، وأما بول باقي الحيوانات التي لا يؤكل لحمها فينجس عند العلماء قاطبة كالأئمة الأربعة وغيرهم، إلا ما نقل عن النخعي أنه طاهر، وحكى ابن حزم عن داود أن الأبوال والأرواث طاهرة من كل حيوان إلا الآدمي، وهذا في نهاية الفساد.
م: (وتأويل ما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرف شفاءهم فيه وحيا) ش: هذا جواب عن الحديث الذي احتج به محمد. قوله تأويل مرفوع بالابتداء مضاف إلى قوله ما روي، ويجوز الوجهان في روي أحدهما أن يكون صيغة معلوم أي تأويل ما رواه محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. والثاني أن يكون صيغة مجهول أي تأويل ما روي في الحديث المذكور، وقوله "أنه" خبر المبتدأ أي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرف شفاءهم أي شفاء العرنيين فيه، أي في بول الإبل وحيا، أي من حيث الوحي وهو نصب على التمييز. فإذا كان من حيث الحكم يكون حكما ولا يوجد مثله في زماننا، فلا يحل شربه لأنه لا يتيقن بالشفاء فيه فلا يعرض من الحرمة. وقال السغناقي أيضا حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عنه فقد ذكر قتادة عن أنس أنه رخص لهم في شرب ألبان الإبل، ولم يذكر الأبوال، وإنما ذكره في حديث حميد عن أنس، فإذا دار بين أن يكون حجة وبين أن لا يكون سقط الاحتجاج به وتبعه الأكمل على ذلك، وكذلك صاحب " الدراية ".
قلت: هذا كلام واه جدا، فإن البخاري قال حدثنا مسدد وحدثنا يحيى عن شعبة حدثنا قتادة عن أنس أن أناسا من عرينة اجتووا المدينة ... الحديث وفيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، وقد(1/445)
ثم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لا يحل شربه للتداوي ولا لغيره؛ لأنه لا يتيقن بالشفاء فيه فلا يعرض عن الحرمة. وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحل للتداوي للقصة، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحل للتداوي وغيره لطهارته عنده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكرناه عن قريب، أخرجه البخاري في آخر الزكاة، وروى الزكاة في باب المحاربة وفيه من أبوالها وألبانها، وهذا عن أبي قلابة عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال في آخر حديث قتادة عن أنس تابعه أبو قلابة حميد وكاتب عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإذا كان كذلك فكيف يقول هؤلاء ذكر قتادة عن أنس أنه رخص لهم في شرب ألبان الإبل ولم يذكر الأبوال، وفي إحدى روايات البخاري ذكر الأبوال ثم الألبان، وفي الأخرى بالعكس، وفي رواية تقديم الأبوال ما يوهم تأكيد إباحة شرب بول ما يؤكل لحمه.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقيل: إنه منسوخ، ولم يبين ذلك، وجهه أنه كان في أول الإسلام ثم نسخ بعد أن نزلت الحدود، ألا ترى أن فيه قطع الأيدي والأرجل وتسميل الأعين لكونهم ارتدوا، كما أشار إليه أبو قلابة في رواية الحديث عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بقوله - لكونهم قتلوا وسرقوا وحاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا، ولم يكن جزاء المرتد إلا القتل، فعلم أن إباحة البول كالمثلة م: (ثم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحل شربه) ش: شرب بول الغنم م: (للتداوي) ش: أي لأجل التداوي م: (ولا غيره) ش: أي ولا لأجل غير التداوي م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (لا يتيقن بالشفاء فيه) ش: أي في شربه للتداوي.
م: (فلا يعرض عن الحرمة) ش: أي فإذا كان كذلك فلا تعرض عن كون شربه حراما إلا بتيقن الشفاء فلا يوجد ذلك، والمرجع إلى ذلك بقول الأطباء وقولهم ليس بحجة قطعية، فيجوز أن يكون شفاء لقوم دون قوم لاختلاف الأمزجة.
م: (وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحل) ش: أي يحل شربه م: (للتداوي) ش: لأنه لو كان حراما مطلقا لما أحله بالحديث وهو أن الله تعالى لم يجعل الشفاء في الحرام م: (للقصة) ش: يعني قصة العرنيين التي دلت على إباحة شرب بول الإبل لأجل التداوي.
م: (وعند محمد يحل للتداوي وغيره) ش: أي يحل شربه لأجل التداوي ولغير التداوي أراد أنه سوى بينه وبين اللبن، وقوله منقوض بلبن الأتان فإنه طاهر بالاتفاق ولا يحل شربه، وفي "الملتقط" لبن الأتان وعرقها، وشحمها ولحمها بعد الذبح طاهرة بالاتفاق، إلا أنها لا تؤكل، ثم من أصحابنا من منع الانتفاع بلحمها وشحمها كالأكل، ومنهم من جوزه كالزيت يخالطه دهن الميتة، والزيت غالبا ينتفع به ولا يؤكل، وإذا لم يجز التداوي بلبن الأتان باتفاق أصحابنا فبالخمر أولى؛ لأن لبنها طاهر بالاتفاق، والخمر نجس بإجماع المسلمين إلا ما حكى القاضي أبو الطيب(1/446)
وإن ماتت فيها فأرة أو صعوة أو عصفورة أو سودانية أو سام أبرص نزح منها ما بين عشرين دلوا إلى ثلاثين بحسب كبر الدلو أو صغرها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن ربيعة وداود أنهما قالا بطهارتها واعتبرها بالنبات القاتل.
قال النووي ولا يظهر من الآية دلالة ظاهرة على نجاسة الخمر؛ لأن الرجس عند أهل اللغة القذر ولا يلزم منه النجاسة، وكذا الأمر بالاجتناب كما في أجزائها في الآية، قال: وقول صاحب " المهذب " لأنه يحرم تناوله من غير ضرر فكان نجسا كالدم ولا دلالة فيه لوجهين:
أحدهما: أنه ينتقض بالمخاط عند الكل والمني عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
والثاني: العلة مختلفة فلا يصح القياس عليه؛ لأن المنع من الدم من استخباثه، ومن الخمر كونه سببا للعداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة. وقال الغزالي: يحكم بنجاستها تغليظا وزجرا عنها قياسا على الكلب وما دبغ فيه.
قلت: قد انعقد الإجماع على نجاستها وداود لا يعتبر خلافه في الإجماع ولا يصح ذلك عن شريعة.
م: (وإن ماتت فيها) ش: أي في البئر م: (فأرة أو عصفورة) ش: بضم العين، قال الجوهري: العصفور طائر والأنثى عصفورة م: (أو صعوة) ش: هي عصفورة صغيرة حمراء الرأس، وقال المطرزي: الصعو صغار العصافير. قلت: ويجمع على صعاء فرائضا م: (أو سودانية) ش: هي طويلة الذنب على قدر قبضة، ويسمى العصفور الأسود.
وقيل: الزرزر الأسود وأكلها العنب والجراد م: (أو سام أبرص) ش: هو من كبار الوزغة وجمعه سوام أبرص. ولم يتعرض أحد من الشراح فيما رأيته إلى إعراب هذا فهو معرفة إلا أنه تعريف جنس وهم اسمان جعلا واحدا، وإن شئت أعربت الأول وأضفته إلى الثاني، وإن شئت بنيت الأول على الفتح وأعربت الثاني بإعراب ما لا ينصرف، وتقول في تثنية هذا: ساما أبرص، وفي الجمع سوام أبرص، وإن شئت قلت: هؤلاء السوام ولا تذكر أبرص، وإن شئت قلت: هؤلاء البرصة ولا تذكر سام، قال الشاعر:
والله لو كنت بهذا خالصا ... لكنت عبدا يأكل الأبارص
ويسمى بالفارسية سمار.
م: (نزح منها) ش: أي من البئر م: (ما بين عشرين دلوا إلى ثلاثين بحسب كبر الدلو وصغرها) ش: يجوز في سين حسب الفتح والسكون والقدر وكبر الدلو بكسر الكاف وفتح الباء، والصغر بكسر الصاد وفتح الغين.(1/447)
يعني بعد إخراج الفأرة، لحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال في الفأرة إذا ماتت في البئر وأخرجت من ساعتها ينزح منها عشرون دلوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيل: قدر الصاع كبير وما دونه صغير، فإذا نزح بالكبير ينقض، وإن نزح بالصغير يزدد. وقيل: الكبير عشرة أرطال ذكره الأسبيجابي.
وقيل: الكبير ما زاد على الصاع والصغير دون الصاع والوسط الصاع، ولو نزح بدلو عظيم مرة واحدة قدر عشرين دلوا أو أربعين دلوا جاز. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز وهو من رواية، والدلو مؤنثة واحدة الدلاء، والدلاء بالفتح واحد دلو.
م: (يعني بعد إخراج الفأرة) ش: إشارة بهذا إلى أن المنزوح إنما يكون معتبرا إذا كان بعد إخراج الفأرة؛ لأن سبب نجاسة البئر حصول الفأرة فيها الميتة فلا تحكم بالطهارة مع بقاء السبب الموجب للنجاسة.
م: (لحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «في الفأرة إذا ماتت في البئر وأخرجت من ساعتها ينزح منها عشرون دلوا» ش: لم يذكر هذا في كتب الأحاديث المشهورة، غير أن السغناقي ذكر في شرحه رواه أبو علي الحافظ السمرقندي بإسناده، ولكن فيه عن أنس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: ... إلخ، وتبعه الأكمل في ذلك حيث نقله في شرحه هكذا، وقال صاحب " الدراية " كذا أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك في رواية أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وأما الأترازي فإنه لم يذكره أصلا، وقال الشيخ علاء الدين: روى الطحاوي هذا الأثر بطرق.
قلت: فإن كان مراده أنه رواه في " معاني الآثار " فليس له وجود فيه، وإن كان في غيره فالبيان على مدعيه، وعن قريب نذكر وجه قول المصنف عشرون دلوا إلى ثلاثين دلوا، وكذا وجه التردد في الأثر وعشرون دلوا أو ثلاثون.
فروع: عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الفأرة إلى أربع فأرات عشرون دلوا، وفي الخمس إلى التسع أربعون دلوا، وفي العشر ينزح ماء البئر كله. وعن محمد في الفأرتين عشرون وفي الثلاث أربعون، وإن كان هيئة الفأر كهيئة الدجاج ينزح أربعون وإذا فرت الفأرة من الهرة أو كانت بها جراحة أو قطع ذنبها ينزح جميع مائها سواء أخرجت حية أو ميتة.
وفي " النوادر " هرة أخذت فأرة فوقعت في البئر ولم يخرجها، وماتت الفأرة وخرجت الهرة حية ينزح عشرون، وإن ماتت الهرة وخرجت الفأرة حية ينزح أربعون، وإن خرجتا حيتين لا ينزح شيء إلا على القول بأنها تبول من الخوف.
وإن صب الدلو الأخير في بئر طاهر ينزح دلو، وفي الثاني: تسع عشر دلوا ماتت في كل واحدة منهما فأرة فينزح من إحداهما عشرون، وصب في الأخرى ينزح من الأخرى(1/448)
والعصفور ونحوها تعادل الفأرة في الجثة فأخذت حكمها ثم العشرون بطريقة الإيجاب والثلاثون بطريق الاستحباب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عشرون، ولو ماتت فأرة في بئر ثالثة فنزح من الأولين أربعون فصب في الثلاث ينزح أربعون، وإن صب فيها من إحدى البئرين عشرون ومن الأخرى عشر ينزح ثلاثون.
وفي " شرح المختصر الكرخي ": لو صب دلو العاشرة في بئر طاهرة فينزح منها عشر دلاء في رواية أبي سليمان، وفي رواية أبي حفص إحدى عشر دلوا وهو الأصح، وبعضهم وفق فقال: عشر سوى المصبوبة، وإحدى عشرة مع المصبوبة، وفي " الذخيرة " عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن ماتت في جب وصب ماؤه في بئر ينزح ماء الجب وثلاثون وعنه وعشرون، وعن محمد: ينزح الأكثر من المصبوب ولو وجب نزح عشرين فنزح عشرة فبعد الماء ثم نبع نزح عشرة عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحتاج إلى نزح شيء آخر.
م: (والعصفورة ونحوها تعادل الفأرة في الجثة فأخذت حكمها) ش: أي حكم الفأرة، وأشار بهذا إلى أن الأثر إلى ذكره وإن كان ورد في الفأرة يشمل كل حيوان قدر الفأرة فيأخذ حكمها، فيجب عشرون دلوا إلى ثلاثين.
فإن قلت: مسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار والنص ورد في الفأرة والدجاجة والآدمي قيس بما عاد بها. قلت: بعد أن استحكم هذا الأصل صار كالذي يبنى على وفاق القياس في حق التفريع عليه كما في الإجارة وسائر العقود التي يأبى القياس جوازها، هكذا قرره في " المستصفى "، والمختارة والأولى أن يقول: هذا الإلحاق بطريق الدلالة لا بالقياس.
م: (ثم العشرون بطريق الإيجاب والثلاثون بطريق الاستحباب) ش: أي العشرون من الدلاء في الفأرة إنما يتعلق بالإيجاب، فالزيادة عليه إلى الثلاثين بطريق الاستحباب، وإنما فعل ذلك لاختلاف الروايات فيه متعددة، فروى قيس أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في بئر وقعت فيها فأرة فماتت قال: ينزح ماؤها، رواه الطحاوي بإسناد صحيح.
وروى عبد الرزاق في " مصنفه " ما يخالف ذلك، فقال: حدثنا إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا سقطت الفأرة في البئر فتقطعت نزح منها تسعة دلاء، فإن كانت الفأرة كهيئتها لم تقطع ينزح منها دلوا ودلوين، فإن كانت ميتة أعظم من ذلك فلينزح من البئر ما يذهب الريح، وروى عبد الرزاق عن معمر أخبرني من سمع الحسن يقول: إذا ماتت الدابة في البئر أخذنا منها وإن تفسخت فيها نزحت.
وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن ابن عيينة عن ليث عن عطاء قال: إذا وقع الجرذ في البئر نزح منها عشرون. والجرذ بضم الجيم وفتح الراء وفي الآخر ذال معجمة وهو الذكر الكبير(1/449)
قال: فإن ماتت فيها حمامة أو نحوها كالدجاجة والسنور نزح منها ما بين أربعين دلوا إلى ستين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من الفأر، وجمعها الجرذان، وروي أيضا عن حفص عن عاصم عن الحسن في الفأرة تقع في البئر قال: يسقى منها أربعون دلوا.
وروى يوسف بن مالك عن ابن عباس في الفأرة أربعون، فلما وقع هذا الاختلاف اختار أصحابنا قول من يقول بالعشرين التي هي الوسط بين القليل والكثير، ثم زادوا عليه مقدار نصفه بطريق الاستحباب لأجل الاحتياط. وقال الأكمل: وفيه نظر لأن هذا المعنى موجود في الثلاثين فلم يتعين عشرون للوجوب.
قلت: في نظره لأن هذا المعنى موجود نظر لأنهم اختاروا الوسط الذي هو خير الأمور، ولم يرد عن أحد ستون دلوا حتى يتعين الثلاثون، ثم قال الأكمل: والأولى ما قيل أن السنة جاءت في رواية أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في الفأرة:...... الحديث، وقد مر عن قريب وأو لأحد الشيئين وكان الأقل ثابتا بيقين وهو معنى الوجوب والأكثر يؤتى به لئلا يترك اللفظ المروي، وإن كان مستغنى عنه في العمل وهو معنى الاستحباب.
قلت: سنده فيما قاله الحديث المذكور وهو غير ثابت ولا هو موجود عند أهله فمن أين تأتي الأولوية، ثم قال: - وأو لأحد الشيئين - قلنا: نعم، ولكن ما بينه هل هي للشك أو للتنويع حتى يبني عليه ما ذكره. وقال تاج الشريعة: قيل، شك الراوي في لفظ الحديث فاكتفى في حكم المسألة بلفظ الحديث المروي في الباب توفيقا للزيادة على الشرع أو النقص منه.
قلت: فعلى هذا ينبغي أن يكون الثلاثون واجبا على ما لا يخفى.
م: (فإن ماتت فيها) ش: أي في البئر م: (حمامة أو نحوها كالدجاجة والسنور نزح منها ما بين أربعين دلوا إلى ستين) ش: فهذا يشير إلى أنه نزح بعد الأربعين دلوا أو دلوين أو ثلاثة إلى أن ينتهي إلى ستين كان يكفي، أما الدليل على نفس الأربعين فما رواه الطحاوي عن أبي بكر حدثنا أبو عامر العقدي قال: حدثنا سفيان عن زكريا عن الشعبي في الطير والسنور ونحوهما يقع في البئر ينزح منها أربعون دلوا، ومن جملة ما بين أربعين إلى ستين خمسون دلوا، لأن الزيادة على الأربعين غالبا، يكون على رأس عقدة وهو الخمسون، والدليل عليه ما رواه الطبراني حدثنا ابن خزيمة قال: حدثنا حجاج قال: حدثنا حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان أنه قال في دجاجة وقعت في البئر فماتت، قال: ينزح منها قدر أربعين درهما دلوا أو خمسين ثم يتوضأ منها.
وأما الدليل على الستين فما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه " قال: حدثنا هشيم عن عبد الله بن سبرة عن الشعبي أنه قال: يدلي منها سبعين دلوا بقي من الدجاجة والستون داخل في(1/450)
وفي " الجامع الصغير " أربعون أو خمسون وهو الأظهر لما روي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال في الدجاجة إذا ماتت في البئر ينزح منها أربعون دلوا والأربعون بطريق الإيجاب، والخمسون بطريق الاستحباب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السبعين، قوله: "يدلي" من دلوت الدلو نزعتها.
م: (وفي " الجامع الصغير " أربعون أو خمسون) ش: أراد بهذا " الجامع الصغير " المنسوب إلى محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهو الأظهر) ش: أي ما ذكر في " الجامع الصغير " هو الأظهر في المذهب لأنه آخر تصانيف محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فيكون القول المذكور فيه هو المرجوع إليه.
م: (لما روي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال في الدجاجة إذا ماتت في البئر: ينزح منها أربعون دلوا) ش: ذكر المصنف هذا كما يروى موقوفا، وذكر في " مبسوط فخر الإسلام " مرفوعا وتبعه على هذا صاحب " الدراية " وليس له أصل بل ذكره الطحاوي هكذا عن حماد بن أبي سليمان وقد ذكرناه عن قريب.
م: (والأربعون بطريق الإيجاب، والخمسون بطريق الاستحباب) ش: قلت: هذا إنما يتأتى إذا كانت كلمة أو للشك على ما لا يخفى.
وفي " البدائع " وغيره أراد "بأو" أن الأقل بطريق الوجوب والأكثر بطريق الاستحباب دون التخيير إذ التخيير بين القليل والكثير لا يعتبر مع اتحاد المعنى.
وقيل: إنما قال ذلك لاختلاف الحيوان في الصغر والكبر، ففي الصغير ينزح الأقل، وفي الكبير ينزح الأكثر.
وفي رواية الحسن عنه جعله على خمس مراتب، ففي الجملة وهو القراد العظيم وولد الفأرة ونحوها عشر دلاء، وفي الفأرة والعصفور ونحوها عشرون، وفي الحمامة والفاختة ونحوهما ثلاثون ثلاثون، وفي الدجاجة والسنور ونحوهما أربعون، وفي الآدمي والشاة ونحوهما ماء البئر كله ذكره في " المبسوط " و" المحيط " و" البدائع " و" الينابيع ". وعن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - أنهما جعلاها على ثلاث مراتب في الجملة، والفأرة عشرون، وفي الحمامة، والورشان أربعون، وفي الآدمي والشاة كلها.
فإن قلت: قد قام أن مبنى مسائل الآبار على الآثار دون القياس والرأي، وما ذكرتم لا يخلو عن رأي.
قلت: للمقادير بالرأي إنما يمنع في الذي يثبت لحق الله تعالى دون المقادير التي ترد بين القليل والكثير، فإن المقادير في الحدود والعادات لا مدخل للرأي فيها أصلا، وكذا ما يكون بتلك الصفة.(1/451)
قال: وإن ماتت فيها شاة أو آدمي أو كلب نزح جميع ما فيها من الماء؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما الذي يكون من باب الفرق بين القليل والكثير فيما يحتاج إليه فللرأي فيه مدخل، ولما عرف في آثار الصحابة حكم طهارة البئر في الفصول كلها مع اختلاف الأقوال عنهم وعن غيرهم من التابعين في القليل والكثير من النزح، صار ذلك من باب الفرق، فدخل فيه الرأي لاختيار عدد دون عدد سبب صفة القضية ألا ترى أن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - حكم في البئر المعين بمائتي دلو إلى ثلاثمائة، بناء على كثرة الماء في آبار بغداد، فهذا رأي ولكنه عن دليل، وذلك لأن الشرع لما أمرنا بإخراج جميع ما فيها صار الواجب نزح ذلك الماء الذي وقعت فيه النجاسة، وغالب مياه الآبار لا تزيد على مائتي دلو فبنزح ذلك المقدار يحصل المطلوب، وأما قوله: إلى ثلاثمائة فللاحتياط في باب الطهر.
م: (وإن ماتت فيها شاة أو آدمي أو كلب نزح جميع ما فيها من الماء) ش: أي هذا حكمها في الموت، فإن أخرجت بالحياة، فإن كان نجس العين كالخنزير ينجس الماء، فإنه كالدم والبول.
واختلفوا في الكلب بناء على نجاسة عينه وعدمها، والأصح أنه لا ينجسه إذا لم يصل فيه إلى الماء. وفي " الذخيرة " لو خرج الكلب من البئر حيا نجسها عندهما. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا بأس به، وإن كان آدميا وخرج حيا ولم يكن ببدنه نجاسة حقيقية أو حكمية لا ينزح في ظاهر الرواية، وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه ينزح عشرون دلوا وإن كان كافرا ينزح ماؤها، يروى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن بدنه لا يخلو عن نجاسة حقيقية أو حكمية، حتى لو اغتسل ثم وقع في الماء فخرج من ساعته لا ينزح.
وأما سائر الحيوانات فإن علم أن ببدنه نجاسة نجس الماء، وإن لم يعلم قيام النجاسة بمخرجه أو غيره من بدنه اختلف المشايخ فيه، وقيل: العبرة لإباحة الأكل وحرمته إن كان مأكول اللحم لا ينزح شيء لطهارته، وإن لم يكن مأكولا لا ينجس، وقيل: العبرة بسؤره إن كان نجسا نجس الماء، وإن كان مكروها يستحب أن ينزح عشر دلاء، ولو كان مشكوكا فيه ينزح كله والماء مشكوك فيه.
وفي " التحفة ": الصحيح أنه لا يصير مشكوكا فيه، وكذا في " المحيط "، و" المفيد "، وعن أبي الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "خزانته" ينزح ماء البئر كله في البغل، والحمار، والكلب، والخنزير، والفهد، والنمر، والأسد، والذئب وكل ذي ناب من السباع وإن أخرج حيا. وفي " المحيط ": في الحيوان الذي لا يؤكل لحمه كسباع الطير والوحش الصحيح أنه لا ينجس الماء. وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - في الإبل والبقر ينجسان الماء لبقاء النجاسة في أفخاذهما، غير أن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينزح عشرون، وفي الشاة: عشر لأن نجاسة بولها حقيقية. وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينزح كلها لاستواء الخفيفة والغليظة في الماء. وقيل: لا ينزح شيء ذكره في " الينابيع ".(1/452)
لما روي أن ابن عباس وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أفتيا بنزح الماء كله حين مات زنجي في بئر زمزم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذكر القدوري في " شرح مختصر الكرخي " أن في الحيوان المكروه السؤر كالسنور والدجاجة المخلاة والصقر والباز والفأرة والحية والعقارب، في رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينزح منها دلاء على وجه الاستحباب، وكذا في الفرس والبرذون.
وأما النجس كالخنزير والكلب والسباع والحمار والبغل ينزح جميع الماء منه، وإن لم يمت م: (لما روي أن ابن عباس وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أفتيا بنزح الماء كله حين مات زنجي في بئر زمزم) ش: أما الذي روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" حدثنا عباد بن العوام عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس أن زنجيا وقع في زمزم فمات فأنزل إليه رجلا ثم قال: انزحوا ما فيها من الماء.
وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" عن معمر قال: سقط رجل في زمزم فمات فيها؛ فأمر ابن عباس أن تسد عيونها وتنزح، قيل له: إن فيها عينا فد غلبتنا، قال: إنها من الجنة فأعطاهم مطرفا من عنده فحشره فيها ثم نزح ماؤها حتى لم يبق فيها شيء. وأخرجه البيقهي في كتاب " المعرفة " من طريق ابن لهيعة عن عمرو بن دينار أن زنجيا وقع في زمزم فمات فأمر به ابن عباس فأخرج وسد عيونها ثم نزحت.
وأخرج البيهقي أيضا من طريق جابر الجهني عن أبي الطفيل عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال فذكره قال: ورواه جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرة أخرى عن أبي الطفيل معه أن غلاما وقع في زمزم فنزحت، لم يذكر فيه ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهذه الرواية عند الدارقطني أيضا. وأخرج الدارقطني أيضا في "سننه " حدثنا عبد الله بن محمد بن زياد وعن أحمد بن منصور عن محمد بن عبد الله الأنصاري عن هشام عن محمد بن سيرين أن زنجيا وقع في زمزم يعني فمات فأمر ابن عباس فأخرج، وأمر بها أن تنزح قال: فغلبتهم عين جاءت من الركن، قال: فأمر بها فسدت بالقباطي والمطارف حتى تنزحوها، فلما لم ينزحوها انفجرت عليهم.
وأما الذي روي عن ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فأخرجه الطحاوي حدثنا صالح بن عبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا منصور عن عطاء أن حبشيا وقع في بئر زمزم فمات فأمر ابن الزبير بنزحها فنزح ماؤها فجعل الماء لا ينقطع فنظر فإذا عين تجري من قبل الحجر الأسود، فقال ابن الزبير: حسبكم.
وأخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " قال: حدثنا هشيم عن منصور عن عطاء ... إلخ نحوه.(1/453)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: قال البيهقي في " المعرفة ": رواه قتادة عن ابن عباس مرسلا لم يلقه ولا سمع منه إنما هو بلاغ بلغه، وقال أيضا: وجابر الجهني لا يحتج به، وابن لهيعة ضعيف لا يحتج به.
قلت: المراسيل عندنا حجة ولا سيما [إذا] أرسلت من طرق مختلفة، فينبغي أن يكون حجة عند الكل على أنه ذكر البيهقي في " الخلافيات " عن شعبة أنه قال: حدثنا ابن سيرين عن ابن عباس والصحيح أن بينهما عكرمة، فإذا أرسل ابن سيرين وكان بينهما ثقة وهو عكرمة كان الحديث صحيحا محتملا به. وفي " التهذيب " لابن عبد البر مراسيل ابن سيرين عندهم حجة صحيحة كمراسيل سعيد بن المسيب.
وأما جابر فإن له أحاديث صالحة، وقد روى عنه الثوري في الكبير مقدار خمسين حديثا وقتيبة أقل رواية عنه من الثوري وقد احتمله الناس وردوا عنه ولم يختلف أحد في الرواية عنه، وعن الثوري ما رأيت أورع في الحديث من الجعفي، وعن شعبة قال: هو صدوق في الحديث، وأما عبد الله بن لهيعة فإن حسن الحديث يكتب حديثه، وقال: حدثت عنه الثقات، وقتيبة وعمرو بن الحارث والليث بن سعد، وعن أحمد من كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه في ضبطه وإتقانه، وحدث عنه أحمد بحديث كثير، وقال ابن وهب: كان ابن لهيعة صادقا، ولئن سلمنا ما قاله البيهقي فإن نزح زمزم قد روي من طرق صحاح منها رواية الطحاوي وابن أبي شيبة التي ذكر.
فإن قلت: اعتمد البيهقي في تضعيف هذه القصة بأثر رواه عن سفيان بن عيينة، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ عن أبي الوليد الفقيه عن عبد الله بن شبرمة قال: سمعت أبا قدامة يقول: سمعت سفيان بن عيينة بقول: أنا بمكة منذ سبعين سنة لم أر صغيرا ولا كبيرا يعرف حديث الزنجي، قالوا: إنه وقع في زمزم، ولا سمعت أحدا يقول: نزحت زمزم. ثم أسند عن الشافعي أنه قال: لا يعرف هذا عن ابن عباس، وكيف يروى عن ابن عباس وهو قد روى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء لا ينجسه شيء» ، ويترك وإن كان قد جعل فالنجاسة ظهرت على وجه الماء أو نزحا للتنظيف لا للنجاسة فإن زمزم للشرب.
قلت: قد عرفت هذا الأمر وأثبته أبو الطفيل عامر بن واثلة أي الصحابي، ومحمد بن سيرين وقتادة ولو أرسلاه، وعمرو بن دينار وعطاء بن أبي رباح ومعمر، والمثبت مقدم على النافي خصوصا مثل هؤلاء الأعلام، ولا يلزم من عدم سماع من لم يدرك ذلك الوقت وعدم من يعرفه عدم هذا الأمر في نفسه وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يترك بل خصصه كما خصصت أنت أيها الشافعي، وقلت بنجاسة ما دون القلتين بالنجس ولم يعتبر نجاسته ما بلغ قلتين فصاعدا.
وأما الذي قاله ابن عيينة فيجوز أن لا يكون الذي قالوا ما قالوا أدركوا الوقت الذي وقعت(1/454)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيه القضية أو كانوا غائبين في معايشهم ومصالحهم؛ ولأن البئر إذا نزحت لا يحضره جميع أهل البلد ولا أكثرهم، وإنما يحضره من له بصارة في أمر البئر وبعض من يستعان به على نزحه، ألا ترى أنك لو سألت الآن هل نزحت بئر بالقاهرة لعله ما عرفه أحد، وفيها أكثر من عشرة آلاف بئر أكثر من عين الأدبر فكيف ينزح بئر لم يكن على عهدهم ولا عهد آبائهم، ومع أن بين الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبين هذه الكائنة أكثر من مائة وخمسين سنة، فمن أين لهم ذلك، وكذا الكلام فيما قال ابن عيينة.
فإن قلت: قال الثوري بهذا أكثر أهل مكة فكيف يتوهم بعد هذا صحة هذا القضية؟
قلت: هذا مردود من وجوه:
الأول: أن قول ابن عيينة ما سمعت لا يفيد؛ الأشياء التي ما سمعها هو ولا غيره لا تعد ولا تحصى ولا يدل ذلك على عدم وقوعها.
الثاني: أن الذي شاهد هذه القضية لا يلزم أن يجيء إلى ابن عيينة ويخبره بها حتى يستدل بعدم إخباره على عدم وقوعها.
الثالث: أنه لم يقل: إني سألت عن هذا الأمر جميع أهل مكة، وسألت عنه ثم كشف فلم أجده وقع.
الرابع: ما ذكرنا من أن نقل الإثبات إثبات، وهو مقدم على النفي، ولا سيما في ابن عيينة فإنه زائد، فالإثبات مقدم على النفي بإجماع الفقهاء والأصوليين والمحدثين، ولا سيما إذا كان المنكر الثاني لم يدرك بسبب الحادثة التي ينكرها وينفيها.
فإن قلت: قال النووي: وكيف يصل هذا إلى الكوفة ويجهله أهل مكة؟
قلت: هذه غفلة عظيمة منه، وهذا القول منه مخالف لقول إمامه، فإنه حكى عنه ابن القاسم ابن عساكر أنه قال لأحمد وغيره: أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإن كان خبر صحيح فأعلموني حتى أذهب إليه كوفيا كان أو بصريا أو شاميا، فهل قال: كيف إمامه ويقتضي ما قال ينبغي أن لا يكون خبره حجة حتى يعرض على أهل مكة والمدينة، فإذا لم يعرض لا يكون حجة، وهذا خلاف الإجماع مع ما فيه من مخالفة نص إمامه.
والذي يدل على بطلان قوله أن عليا وأصحابه وعبد الله بن مسعود وأصحابه وأبا موسى الأشعري وأصحابه وعبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وجماعة من أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وسلمان الفارسي وعامة أصحابه، والتابعين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - انتقلوا إلى الكوفة(1/455)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والبصرة ولم يبق بمكة إلا القليل وانتشروا في البلاد للولايات والجهاد وسمع الناس منهم ونشر العلم على أيديهم في جميع البلاد الإسلامية، ولا ينكر هذا إلا مكابر أو صاحب بدعة وعصبة.
فإن قلت: قد قال النووي أيضا: فإن صح هذا فإنه يحمل على أن دمه غلب على الماء فغيره.
قلت: هذا أيضا فاسد من وجوه.
الأول: الغالب أن من وقع في الماء يموت من حينه ولا يخرج منه دم، فضلا عن أن يغلب على الماء فيغيره ولا سيما ماء زمزم لكثرته.
الثاني: أنها لما نزحوها جاءتهم عين من الركن فغلبتهم فسدوها ونزحوها حتى انفجرت العين فقال: حسبكم، فكيف يتصور أن يغلب دم شخص واحد ماء زمزم حتى نزحوها مرة بعد أخرى.
الثالث: قال الراوي: فمات فيها زنجي، فأمر ابن عباس بأن تنزح فجعل علة نزحها موته دون غلبة دمه كقولهم: زنى ماعز فرجم، علة قتله زناه وليست ردة ولا قتل نفس.
فإن قلت: يحمل الأمر على الاستحباب.
قلت: مطلق الأمر للوجوب.
فإن قلت: جاءت الآثار في بئر زمزم لا تنزح ولا تردم.
قلت: ليس في حديث ابن عباس وابن الزبير أنهما قدرا على استعمال الماء بالنزح حتى يكون مخالفا للآثار التي جاءت بأنها لا تنزح بل تنزح في رواية ابن أبي شيبة بأن الماء يقطع، وفي رواية البيهقي بأن العين غلبتهم حتى سدت بالقباطي والمطارف، وجعل السهيلي حديث الحسن مؤيدا لما روي في صفتها أنها لا تنزح.
ثم نذكر تفسير ما وقع في هذا الموضع من الألفاظ التي يحتاج إلى تفسيرها، قوله: زنجي نسبة إلى الزنج، وهم خيل من السودان، وجاء فيه كسر الزاي، وفي رواية الطحاوي وغيره حبشي منسوب إلى الحبش وهم جنس من السودان مشهور. وقال السهيلي: بنو حبش بن كوش ابن حام بن نوح - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وجاءني في رواية الطحاوي: فوقع غلام في زمزم ويمكن أن يكون هذا الغلام زنجيا أو حبشيا.
وزمزم بئر بمكة أصلها مزبير وهو أهل المصر ركضه جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. والمطرف بكسر الميم وفتح الراء وتضم أيضا، والجمع على مطارف، وهي أردية من حزمة لعدلها أعلام. والقباطي جمع قبط وهي الثوب من ثياب مصر رقيقة بيضاء، وكأنه منسوب إلى القبط، وضم القاف من(1/456)
ثم المعتبر في كل بئر دلوها التي يسقى بها منها، وقيل: دلو يسع فيه صاع، ولو نزح منها بدلو عظيم مرة مقدار عشرين دلوا جاز لحصول المقصود، فإن انتفخ الحيوان فيها أو تفسخ نزح جميع ما فيها صغر الحيوان أو كبر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تفسير ابن وهب، في الثاني: وأما الناس فقبطي بالكسر. وقد فسر السروجي قبطية بالبرود وما عرفت هذا التفسير والذي ذكره أهل اللغة، وبه فسرها ابن الأثير في " النهاية ". وذكر السروجي أيضا الحديث الذي رواه الدارقطني والطحاوي الذي مر ذكره وفيه فدست بالقباطي، ثم قال: ومعنى دست أي سدت، قيل: الظاهر أنه تصحيف منه أو من الناسخ؛ لأن في روايتهما فدست من الدس لا أنه دسمت من الدسم.
قلت: إنه ليس بتصحيف؛ لأنه جاء في اللغة ذكره الجوهري وغيره أن الدسم هو السد ومنه الدسام بالكسر وهو ما تسد به الأذن والجرح ونحو ذلك، تقول منه: دسمته أدسمه بالميم دسما والدسام السداد وهو ما يسد به رأس القارورة ونحوها. قوله: لا تذم أي لا يوجد ماؤها قليلا من قولهم بئر ذمة بكسر الذال المعجمة إذا كانت قليلة الماء.
م: (ثم المعتبر في كل بئر دلوها التي يسقى بها منها) ش: أشار به إلى تفسير الدلو، فإنه ذكر مبهما فاحتاج إلى تفسيره وفسره بهذا لأنه أيسر عليهم ولأن الإطلاق في الآبار ينصرف إلى الدلاء المتعارفة في كل بئر لأنه أعدل وأهون.
م: (وقيل: دلو يسع فيه صاع) ش: هذه رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقيل: دلو يسع خمسة أمناء، وقيل: أربعة، وقيل: منوين، وذكر الدلو أبين وإن لم تكن لها دلو يعتبر بدلو ثمانية أرطال في رواية. قلت: الصاع مكيال يسع أربعة أمداد، والمد مختلف فيه، فقيل: رطل وثلث بالعراقي، وبه يقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفقهاء الحجاز. وقيل: هو رطلان وبه أخذ أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفقهاء العراق فيكون الصاع خمسة أرطال وثلاث أو ثمانية أرطال وسيجيء مزيد الكلام فيه في كتاب الزكاة.
م: (ولو نزح منها بدلو عظيم مرة مقدار عشرين دلوا جاز لحصول المقصود) ش: وهو نزح المقدار الذي قدره الشرع. وفي الأصل: إذا وقع في البئر فجاءوا بدلو عظيم تسع وعشرين دلوا فاستقوا به مرة واحدة أجزأهم، وهو أحب إلي، لأن القطر الذي يعود منه إلى البئر أقل، وعن الحسن أنه لا يطهر بمرة واحدة؛ لأن بتواتر الدلاء يصر الماء في المعنى الجاري. فقال: إن المعتبر القدر المنزوح ومعنى الجريان ساقط.
م: (فإن انتفخ الحيوان أو تفسخ أخرج جميع ما فيها صغر الحيوان أو كبر) ش: يعني الحيوان الواقع في البئر إذا انتفخ أو تفسخ حتى تمزقت أعضاؤه نزح جميع ما فيها من الماء قوله: صغر بضم الغين ومضارعه كذلك فهو صغير وصغار، كبر بضم الباء أي عظم ومضارعه يكبر بالضم أيضا فهو كبير، وكبير كفعيل، وهو صفة مشبهة باسم الباء على ما إذا أفرط قيل: كبار بالتشديد، وما(1/457)
لانتشار البلة في أجزاء الماء، فإن كانت البئر معينا لا يمكن نزحها أخرجوا مقدار ما كان فيها من الماء، وطريق معرفته أن تحفر حفرة مثل موضع الماء من البئر ويصب فيها ما ينزح منها إلى أن تمتلئ أو ترسل فيها قصبة وتجعل لمبلغ الماء علامة ثم ينزح منها مثلا عشر دلاء، ثم تعاد القصبة فينظر كم انتقص فينزح لكل قدر منها عشر دلاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كبر بكسر الباء فمعناه يكبر بالفتح وهذه المسألة يحاجج فيقال في أي موضع الحمل مع الحمل.
م: (لانتشار البلة في أجزاء الماء) ش: البلة بكسر الباء الموحدة وتشديد اللام النداوة، والبلة بالفتح البلل وكلاهما يجوزها هنا وهو من باب نصر ينصر، وهذه تعليل لقوله: نزح جميع ما فيها، وذلك أن الحيوان عند الانتفاخ تنفصل منه بلة نجسة مائعة تنشر في الماء بمنزلة قطرة خمر أو بول تقسمها، ولهذا قال محمد: لو وقع فيها ذنب فأرة نزح جميع الماء؛ لأن موضع القطع لا ينفك عن نجاسة مائعة.
م: (فإن كانت البئر معينا) ش: أي ذات عين جارية من قولهم: عين معيونة، وكان القياس أن يقال: معينة كما في بعض النسخ كذلك لأن البئر مؤنثة، وإنما ذكر بلفظ التذكير نظرا إلى اللفظ أو توهم أن فعيل بمعنى مفعول. وفي " الصحاح " ماء معين أي معيون من مفعول من عنيت الماء إذا حفرت واستنبطت وبلغت العيون.
فإن قلت: الميم أصلية أو زائدة.
قلت: ما ذكرته عن " الصحاح " يدل على أن الميم زائدة، ومنه يقال: بماء معين معيون وعان الماء أي بان، ولكنه ذكر في فصل الميم معنت الأرض أي رويت، وماء معين أي جار فعلى هذا الميم أصلية.
م: (لا يمكن نزحها) ش: تفسير لقوله: معين، قاله تاج الشريعة: ويقال: صفة وهو الأصوب م: (أخرجوا مقدار ما كان فيها من الماء) ش: هذا جواب المسألة، وأشار بقوله مقدار ما كان فيها من الماء إلى أن الاعتبار للماء الذي كان زمن وقوع النجاسة.
م: (وطريق معرفته) ش: أي طريق معرفة إخراج ما فيها من الماء م: (إن تحفر حفرة مثل موضع الماء من البئر، ويصب فيها ما ينزح منها إلى أن تمتلئ) ش: أراد من موضع الماء من البئر طولا وعرضا وعمقا، ويجصص على قول بعض المشايخ حتى لا تشرب الأرض الماء المصبوب فيها.
م: (أو ترسل فيها) ش: أي في البئر م: (قصبة وتجعل لمبلغ الماء علامة ثم ينزح منها عشر دلاء ثم تعاد القصبة فينظر كم انتقص) ش: من ماء البئر م: (فينزح لكل قدر منا عشر دلاء) ش: حتى لا يبقى من القصبة شيء، حتى إذا كان طول الماء عشر قصبات انتقص عشر دلاء قصبة واحدة يعلم أن كل الماء بمائة دلو فينزح تسعون دلوا أخرى.(1/458)
وهذان عن أبي يوسف، وعن محمد نزح مائتا دلو إلى ثلاثمائة فكأنه بنى قوله على ما شاهده في بلده. وعن أبي حنيفة في " الجامع الصغير " في مثله ينزح حتى يغلبهم الماء ولم يقدر الغلبة بشيء كما هو دأبه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذان عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي هذان الوجهان مرويان عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نزح مائتا دلو إلى ثلاثمائة) ش: أي عند محمد ينزح مائتا دلو إلى ثلاثمائة دلو م: (فكأنه) ش: أي فكأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - بنى جوابه في المسألة المذكورة م: (بنى قوله على ما شاهد في بلده) ش: وهو ببغداد من كثرة الماء في آبارها لمجاورة دجلة، فالمائتان تكون من طريق الوجوب، والمائة الأخرى بطريق الاستحباب للاحتياط في أمور الدين، ولو قيل هذا نصب المقدر بالرأي، فجوابه قد مر في هذا الباب.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " في مثله) ش: أي روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مثل هذا الحكم المذكور (ينزح حتى يغلبهم الماء) ش: أي حتى يعجزوا والماء لا يبقى فحينئذ يسقط التكليف، لأنه يعتمد الإسقاط عنه. وفي " فتاوى الثعالبي " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا نزح مائتا دلو أو ثلاثمائة فقد غلبهم الماء وهو المختار، وقدره أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اشتراط الغلبة [على] قول علي وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ذكره ابن المنذر قاله بعض الشراح.
قلت: قال الطحاوي: حدثنا محمد بن حميد بن هشام الرعيني قال: حدثنا علي بن معبد قال: حدثنا موسى بن أعين عن عطاء وزاذان عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سقطت الدابة في البئر فانزحها حتى يغلبك الماء. ورواه ابن أبي شيبة في " مصنفه ": حدثنا وكيع عن حمزة عن عطاء بن السائب عن زاذان عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الفأرة تقع في البئر قال: تنزح إلى أن يغلبهم الماء.
م: (ولم يقدر) ش: أي أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (الغلبة بشيء) ش: لأنها متفاوتة، وهذا هو ظاهر الرواية. قال قاضي خان: الصحيح عنه العجز وعنه التفويض إلى رأي المبتلى به، وعنه مائتا دلو، وعنه مائة دلو أفتى به في آبار الكوفة لقلة مائها. وفسر الأسبيجابي بالغلبة بمائتي دلو وثلاثمائة ذكره في " المحيط " وقاضي خان. وفي " المحيط " وفي رواية: مائتان وخمسون دلوا؛ لأن ماءها غالبا لا يتجاوز ذلك.
م: (كما هو دأبه) ش: أي رأي أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي عادته، فإن عادته أن يفوض مثل هذا إلى رأي المبتلى به، كما فعل كذلك في تفسير البعرة الواقع الكثير حيث قال: هو ما يستكثره الناظر، وكما في حبس الغريم، وحد التقادم، وانقطاع حق الحضانة.(1/459)
وقيل: يؤخذ في هذا الحكم بقول رجلين لهما بصارة في أمر الماء، وهذا أشبه بالفقه، وإن وجدوا في البئر فأرة أو غيرها ولا يدرى متى وقعت في البئر ولم تنتفخ أعادوا صلاة يوم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: قدر أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - مدة البلوغ بالسن ثمانية عشر للغلام، وسبع عشرة للجارية بالرأي، وكذا قدر موت الفأرة الواقعة في البئر يوم وليلة وقدر تفسخها ثلاثة أيام بالرأي.
أجاب عنه السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأن الممنوع في المقادير التي تثبت لحق الله تعالى ابتداء دون المقادير المتردد بين القليل والكثير كالميل في التيمم كما ذكر في هذا الباب.
فإن قلت: ما نحن فيه من قبيل ما تردد فيه بين القليل والكثير فكيف يتم ما ذكرتم من التعليل؟
قلت: أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما يقدر ما تردد بين القليل والكثير بالرأي إذا لم تمكن معرفته بالرجوع إلى أحوال بالاستقلال والاستكثار. أما إذا أمكن فلا كما فيما نحن بصدده، ألا ترى أنه جعل الشهر فيما فوق كثيرا وما دونه قليلا وصرف الحين والزمان إلى ستة أشهر والأيام والشهور والأعياد والسنين إلى عشر من صنف.
م: (وقيل) ش: قائله أبو نصر بن محمد بن سلام م: (يؤخذ في الحكم بقول رجلين) ش: إذا قالا: ماء هذا البئر مائة دلو، أو مائتا دلو ولو نزح ذلك القدر؛ لأن الأخذ بقول الغير هو المرجح فيما لم يشتهر من الشرع فيه تقدير، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] (النحل: الآية 43) كما في جزاء الصيد حيث قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] (المائدة: الآية 95) ، والشهادة حيث قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] (الطلاق: الآية 2) .
م: (لهما بصارة في أمر الماء) ش: هذه جملة من المبتدأ المتقدم والخبر وقعت صفة لرجلين و" البصارة" بفتح الباء الموحدة، وهو مصدر من بصر يبصر بضم الصاد وبصر بالشيء علمه، والبصير العالم، والمعنى لهما بصارة أي علم بأمر البئر وحذاقة وخبرة.
م: (وهذا أشبه بالفقه) ش: أي بالمعنى المستنبط من الكتاب وسننه ففي الكتاب، الاثنان نصاب الشهادة الملزمة لما ذكرها، وفي البينة شاهدان أو يمينه، ويقال: معنى قوله: وهذا أشبه بالفقه، أي بقول الفقهاء حيث اعتبروا قول رجلين في قيم الأشياء.
م: (وإن وجدوا) ش: أي أصحاب البئر أو المصلون م: (في البئر فأرة أو غيرها) ش: من الحيوان م: (ولا يدرى متى وقعت في البئر) ش: وهي جملة وقعت حال من الفأرة، والأوجه أن تكون صفة لفأرة، وقيد به لأنهم إذا علموا زمان الوقوع يحكم بالنجاسة من ذلك الوقت بالاتفاق، م: (ولم ينتفخ) ش: جملة وقعت حالا والواو فيه واو الحال. وقوله: ولم تنتفخ عطف على الجملة الحالية م: (أعادوا) ش: جواب المسألة أي أعاد أصحاب البئر والمصلون م: (صلاة يوم(1/460)
وليلة إذا كانوا توضئوا منها وغسلوا كل شيء أصابه ماؤها، وإن كانت قد انتفخت أو تفسخت أعادوا صلاة ثلاثة أيام ولياليها، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: ليس عليهم إعادة شيء حتى يتحققوا أنها متى وقعت؛ لأن اليقين لا يزول بالشك وصار كمن رأى في ثوبه نجاسة، ولا يدري متى أصابته،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وليلة إن كانوا توضئوا منها وغسلوا) ش: عطف على أعادوا، وليس بعطف على توضئوا م: (كل شيء) ش: كلام إضافي منصوب؛ لأنه مفعول غسلوا م: (أصابه ماؤها) ش: أي ماء هذه البئر والجملة صفة شيء.
م: (وإن كانت الفأرة قد تفسخت أو انتفخت) ش: فإن قلت: إذا كان الحكم في الانفساخ م: (أعادوا صلاة ثلاثة أيام) ش: ففي التفسخ بطريق الأولى فما فائدة ذكره؟ قلت: لا شك أن مدة التفسخ تزيد على مدة الانتفاخ، فالفائدة في ذكره نفي الزيادة على ثلاثة أيام م: (ولياليها) ش: أعادوا صلاة أيام ولياليها لا غير.
م: (وهذا) ش: أي هذا الحكم في الصورتين م: (عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: وهذا لم يذكره في ظاهر الرواية، وإنما رواه الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كذا في " البدائع ".
م: (وقالا: ليس عليهم إعادة شيء حتى يتحققوا أنها متى وقعت) ش: هذه الفأرة في البئر، وقوله: شيء، يتناول عدم إعادة الصلاة وعدم غسل كل شيء أصابه ماؤها م: (لأن اليقين لا يزول بالشك) ش: اليقين هو كون الماء طاهرا، والشك في نجاسته فيما مضى، واليقين لا يزول به فلا يحكم بالنجاسة إلا زمن اليقين بوقوعها؛ لأن اليقين يزول بيقين مثله، وهو الذي ذكره هو القياس؛ لأنه يحتمل موتها في البئر ويحتمل أن تقع فيها وهي ميتة بأن ألقتها الريح العاصف أو بعض السفهاء أو الصبيان أو ألقتها بعض أعداء الدين، أو بعض من لا يعتقد تنجيس ما بها لكثرته أو لعدم تغير لون الماء وطعمه وريحه بها أو بعض الطيور كما حكي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه كان يقول بقوله يعني أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن رأى حدأة وهو جالس في بستانه في منقارها فاختة فطرحتها في بئر فرجع عن قوله، والأصل في الحوادث أن يضاف إلى أقرب الأوقات للشك في الاستناد، وذلك قبل وجودها في البئر.
فإن قلت: هلا حكمتم الحال كما في جريان ماء الطاحون.
قلت: مدة إجارة الطاحون معلومة فيجعل الماء حاجزا من أول مدة العقد إلى انقضاء المدة، وهاهنا ما قبله مجهول، وأيضا قد عارضة استصحاب الحال؛ لأن البئر كانت طاهرة، وأيضا ما ذكرناه ظاهر للدفع، وما ذكر من التحكيم للإيجاب والطاهر للدفع دون الاستحقاق والإيجاب.
م: فصار كمن رأى في ثوبه نجاسة ولا يدري متى أصابته) ش: فإنه لا يلزم إعادة شيء من(1/461)
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن للموت سببا ظاهرا وهو الوقوع في الماء فيحال به عليه إلا أن الانتفاخ والتفسخ دليل التقادم فيقدر بالثلاث، وعدم الانتفاخ والتفسخ دليل قرب العهد فقدرناه بيوم وليلة؛ ما دون ذلك ساعات لا يمكن ضبطها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصلاة بالاتفاق على الأصح ذكره الحاكم الشهيد وهو رواية بشر المريسي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في " البدائع "، وكذا لو دخل المصلي حمامة في كمه ميتة ولا يدري متى ماتت أو رأت المرأة في كرسفها وما تدري متى نزل، وكذا لو مات المسلم وله امرأة نصرانية فجاءت مسلمة بعد موته وقالت: أسلمت قبل موته، وقال الورثة بعده فالقول لهم.
م: (ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن للموت سببا ظاهرا وهو) ش: أي السبب الظاهر لموت الفأرة الواقعة في البئر م: (وهو الوقوع في الماء فيحال) ش: أي فصار الحكم وهو نجاسة الماء م: (به) ش: أي بالموت م: (عليه) ش: أي الوقوع، وإن احتمل أن يكون الموت بغيره؛ لأن السبب الموهم لا يضر في مقابلة السبب الظاهر كمن رأى إنسانا في عنقه حية ملفوفة يغلب على الظن أنها نهشته فقتلته كذا ذكره شمس الأئمة الكردري، وكمن جرح إنسانا فلم يزل صاحب فراش حتى مات، فإن الموت يضاف إلى الجرح، وإن احتمل أن يكون بسبب آخر كذا في " المبسوط "، وكذا لو وجد قتيل في محل يضاف القتل إلى أهلها، وإن احتمل أنه قتل في محل آخر ثم حمل إليها.
م: (إلا أن الانتفاخ دليل التقادم) ش: هذا كأنه جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: لما كان الحكم يضاف إلى سبب ظاهر ما وجه التفصيل قريبا بالانتفاخ وعدمه، فأجاب عن ذلك بقوله: الانتفاخ دليل التقادم؛ لأن الحيوان لا يموت بمجرد الوقوع في البئر بل يضطرب ساعات ثم يموت فقدر يوم وليلة، في غير المنتفخ؛ لأن ما دون ذلك لا يتصور دركه، وبالثلاث في المنتفخ؛ لأن الانتفاخ دليل بعد العهد وتقادمه، وأدنى التقادم ثلاثة أيام ولياليها كما في الصلاة على الميت الذي دفن بلا صلاة عليه فإنه يصلى عليه قبل الثلاثة، وبعد الثلاثة لا يصلى؛ لأن التقادم يورث انتفاخ الميت.
فإن قلت: ما هذا الاستثناء، وما المستثنى منه.
قلت: ما تقدم وهو اليوم.
م: (فيقدر بالثلاث) ش: أي بثلاثة أيام ولياليها م: (وعدم الانتفاخ والتفسخ دليل قرب العهد) ش: أي الزمان.
م: (فقدرناه بيوم وليلة؛ لأن ما دون ذلك) ش: أي ما دون اليوم والليلة م: (ساعات لا يمكن ضبطها) ش: المراد من الساعات الأوقات لا الساعة الرملية فإنها مضبوطة بالرمل، والساعات جمع ساعة ويجمع على سياع أيضا والساعات عند أهل اللغة الوقت الحاضر، وأصلها سوعة،(1/462)
وأما مسألة النجاسة فقد قال المعلى: هي على هذا الخلاف فيقدر بالثلاث في البالي وبيوم وليلة في الطري، ولو سلم فالثوب بمرأى عينه والبئر غائبة عن بصره فيفترقان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
م: (وأما مسألة النجاسة) ش: جواب عن قولهما في قياس مسألة البئر على مسألة من رأى في ثوبه نجاسة لا يدري متى أصابته، فأجاب أولا بطريق المنع وهو نظير قوله: وأما مسألة النجاسة المذكورة م: (فقد قال المعلى) ش: أي منصور الرازي تلميذ أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - روى عنهما "الست: و" الأمالي " وسمع هشاما وحماد بن زيد وغيرهما، وروى عنه محمد بن عبد الرحيم وعلي بن الهيثم في تفسير الأحزاب والبيوع و [......] في " صحيح البخاري " قال البخاري: مات ببغداد في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة ومائتين، ودخلت عليه سنة عشر ومائتين، ولم يتحدث عنه في الجامع بشيء، وأنا حدثت عن رجل عنه وكان في الورع وحفظ الفقه والحديث على جانب عظيم - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (هي على هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور في مسألة الفأرة م: (فيقدر بالثلاث في اليابس) ش: أي يقدر بثلاثة أيام ولياليها في العتيق، وأراد به النجاسة اليابسة م: (وبيوم وليلة في الطري) ش: أي يقدر يوم وليلة في النجس الطري قيل: إن المعلى قال هذا من ذات نفسه تفريقا على قياس قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيل: رواه عن أبي يوسف عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وذكر ابن رستم في " نوادره " أن من وجد ميتا في ثوبه أعاد من آخر نومة نامها فيه للشك فيما قبله، ذكره في " المحيط " و" البدائع " يعيد من آخر ما احتلم فيه.
وقيل في البول: يعتبر من آخر ما بال. وفي الدم من آخر ما رعف. وفي " المحيط " في الدم لا يعيد حتى يتيقن؛ لأن الدم قد يصيبه في الطريق بخلاف المني، فإن كان الثوب يلبسه هو وغيره فهو كالدم. وفي " البدائع " لو فتح حقة فوجد فيها فأرة ميتة ولم يعلم متى دخلت فيها، فإن لم يكن لها ثقب يعيد الصلاة من يوم وضع القطن منها، وإن كانت لها ثقب يعيدها ثلاثة أيام ولياليها عنده كما في مسألة البئر: قلت: مراده إذا كانت يابسة.
م: (ولو سلم) ش: جواب بطريق التسليم بأن يقال: سلمنا أن الأمر كما قلتم، لكن بين الثوب والبئر فرق، أشار إليه بقوله: (فالثوب بمرأى عينه) ش: أي عينه، فلو كانت النجاسة أصابته قبل ذلك لعلم، والمرأى على وزن مفعل بالفتح اسم مكان الرواية م: (والبئر غائبة عن بصره فيفترقان) ش: أي حكم الثوب وحكم البئر أراد أن قياس البئر على النجاسة قياس بالفارق فلا يصح.(1/463)
فصل في الأسآر وغيرها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الأسآر وغيرها] [سؤر الآدمي وما يؤكل لحمه]
م: (فصل في الأسآر وغيرها)
ش: أي هذا فصل في بيان أحكام الأسآر وغير الأسآر والمناسبة بين الفصلين، أعني هذا الفصل والفصل الذي قبله، وهو فصل البئر هي أنه لما بين أحكام ماء البئر من حيث وقوع الحيوانات فيها استدعى ذلك ذكر الأحكام المستنبطة بسؤرها. وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مناسبة هذا الفصل لما تقدم من حيث إن بعض الأسآر مما يجوز به الوضوء، فاحتاج إلى ذكر الأسآر ليفصل ذلك النقص منها.
قلت: ما تقدم هذا الفصل أنواع، وكان ينبغي أن يبين أي نوع منها يناسب ذكر هذا الفصل، والوجه ما ذكرناه. وقال السروجي: علم أن الماء القليل نجس بوقوع الحيوان النجس السؤر فيه فلا بد لنا من معرفة الأسآر وأنواعها وأحكامها.
قلت: هذا أبعد من الأول؛ لأن تنجيس الماء القليل لا يقتصر على وقوع الحيوان النجس السؤر، وأيضا وجه المناسبة لا يراعى إلا بين الفصلين دون أن يراعى بين فصل وبين مسألة فصل عليه فقط، ثم السؤر مهموز العين اسم للبقية بعد الشرب، يعني بقية الماء التي أبقاها الشارب في الإناء، ثم عم استعماله فيه وفي الطعم.
فإن قلت: إذا كانت السؤر اسما فما المصدر من هذا الباب، ومن أي باب هو؟
قلت: المصدر سأرا من سأر يسأر سأرا من باب فتح يفتح، ومعناه أفضل وهو فعل متعد، وفي " العباب " سئر يسأر إذ بقي، وسأر إذا أفضل فضلة والفعل على قوله الأول من باب علم يعلم والثاني من باب فتح يفتح كما ذكرنا. ثم قال في " العباب ": وأسأر بقية السؤر، يقال: إذا شربت فأسر أي أبق شيئا من الشراب في مغب الإناء، والفعل سأر على غير القياس سئر وأسأر وعلى هذا الوجه قول الأخطل:
شارب ريح بالكؤوس ما رمى ... لاقى بالحصور ولا فيها يسأر
ونظيره أخبره فهو خبار، وأدركه فهو دراك، وأقصر عن كفؤه نزع من القدرة فهو قصار، ويجوز من هذا كله مفعل على القياس. قلت: القياس مخبر ومدرك ومقصر ومنزع كما ذكره. وقال في " العباب " أيضا من همزة السورة من سؤر القرآن، فقال سؤرة جعلها بمعنى بقية من القرآن وقطعة.
فإن قلت: لم ذكر المصنف السؤر بالجمع؟
قلت: لأن السؤر على أنواع، قال في " المبسوط " و" المحيط " و" الينابيع " و" البدائع " و" التحفة "(1/464)
وعرق كل شيء معتبر بسؤره، لأنهما يتولدان من لحمه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والأسآر عندنا أنواع أربعة. وقال الأسبيجابي على خمسة أوجه، قالوا: نوع متفق على طهارته من غير كراهة كسؤر بني آدم مسلمهم، وكافرهم، صغيرهم، وكبيرهم، ذكرهم، وأنثاهم، طاهرهم، ونجسهم، حائضهم، وجنبهم، إلا في حال شرب الخمر، فإن سؤره نجس، فإن بلع ريقه ثلاث مرات طهر فيه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكذا سؤر ما يؤكل لحمه كالإبل والبقر والغنم. وهو نوع نجس وهو سؤر سباع البهائم. ونوع مكروه: وهو سؤر النمر. ونوع مشكوك فيه: كسؤر الحمار والبغل، وقال الأسبيجابي: النوع الخامس: سؤر الخنزير فإنه متفق على نجاسته والخلاف فيما عداه.
قلت: هذا ممنوع، فإن مالكا وداود قالا بطهارته مع سؤر الكلب وكراهة سؤرهما. قوله: وغيرها أي وغير الأسآر كاللعاب والعرق وعرق كل شيء معتبر بسؤره. قال الأكمل: كان الواجب أن يقول: وسؤر كل شيء معتبر بعرقه؛ لأن الكلام في السؤر لا في العرق، وليس بصحيح؛ لأن المصنف أراد أن يبين في ضمن الأسآر العرق، فلو قال: وسؤر كل شيء معتبر بعرقه لوجب أن يقول بعده عرق الآدمي كذا وعرق الكلب كذا وعرق الخنزير كذا، وكان الفصل إذ ذاك للعرق لا للسؤر.
قلت: القائل في قوله: "قيل" هو السغناقي، فإنه قال في شرحه، فإن قلت: كان من حق الكلام أن يقول: وسؤر كل شيء معتبر بعرقه؛ لأن الكلام في السؤر لا في العرق، فحقه أن يجعل السؤر مقيسا عليه.
ثم قال: قلت: نعم كذلك إلا أنهما لما كانا متولدين من أصل واحد لا مفاضلة لأحدهما على الآخر، كان كل واحد منهما بنية الآخر مقيسا ومقيسا عليه، وذكر في " الإيضاح " هكذا، وتبعه صاحب " الهداية ".
وقال صاحب " الدراية ": م: (وعرق كل شيء معتبر بسؤره) ش: أي حكمهما واحد لا مفارقة بينهما إلا أن يكون أحدهما مقيسا والآخر مقيسا عليه.
م: (لأنها يتولدان من لحمه) ش: قلت: كلام المصنف ألطف من الأكمل؛ لأن المصنف أراد أن يبين في ضمن الأسآر العرق، فليس كذلك لأن المصنف بين العرق قصدا، وكيف بيانه في ضمن الأسآر وقد فتح هذا الفصل ببيان العرق حيث قال: وعرق كل شيء معتبر بسؤره، فجعل العرق مقيسا والسؤر مقيسا عليه، فلزم من ذلك بيان المقيس عليه حتى يعلم المقيس وبين ذلك بقوله: وسؤر الآدمي. . إلخ. ولا يرد عليه النقض بسؤر الحمار لأنه مشكوك فيه، وعرقه طاهر لأن الشك في طهوريته لا في طهارته، وقول الأكمل أيضا: وكان الفصل إذ ذاك للعرق لا(1/465)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للسؤر، ليس كذلك لأن الفصل غير مخصوص بالسؤر، ألا - ترى كيف قال المصنف: فصل في الأسآر وغيرها، أي وغير الأسآر وهو العرق واللعاب والدمع. وأما قول السغناقي: إلا أنهما لما كانا متولدين من أصل واحد. . إلى آخره، فليس كذلك.
وأما كون تولد العرق من اللحم فظاهر، وأما تولد السؤر منه فليس كذلك؛ لأن السؤر بقية الماء الذي يبقيها الشارب كما ذكرنا، فمن أين يتولد من اللحم. غاية ما في الباب أنه يمتزج باللعاب، والدليل عليه ما قاله صاحب " الهداية " على ما يجيء. وسؤر الآدمي ما يؤكل لحمه طاهر، لأن المختلط باللعاب أي: المختلط بالسؤر اللعاب وقد تولد من لحم طاهر، ولكن أيضا ناقض كلامه؛ لأنه ذكرها هنا أن السؤر مختلط به اللعاب وذكر فيما قبله على ما يجيء لأنهما متولدان من لحمه، والسؤر لا يتولد من اللحم وهذا لا خفاء فيه، وإنما يمتزج من اللعاب وهو متولد من اللحم.
وأما قول صاحب " الدراية ": إلا أن يكون أحدهما مقيسا والآخر مقيسا عليه؛ لأنهما متولدان من اللحم فغير موجه أصلا لما ذكرنا من أن السؤر لا يتولد من اللحم، فإذا كان كذلك صار حكم أحدهما مقيسا، وحكم الآخر مقيسا عليه. وقال تاج الشريعة: وعرق كل شيء معتبر بسؤره، يعني يقاس العرق على السؤر مرة، ويقاس السؤر على العرق مرة أخرى، وعلى هذا ينبغي أن يكون عرق الحمار مشكوكا فيه، لكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ركب الحمار معروقا حكم بطهارته.
وقال الأترازي: في هذا الموضع وكان الأولى أن يقول المصنف: "وسؤر كل شيء معتبر بعرقه" لأن الفصل بيان للسؤر لا للعرق. قلت: ادعاء الأولوية بطريق لا يجديه لما ذكرنا، وقال السروجي: قال في "المنافع" ثم الأصل أن ما يكون لعابه طاهرا يكون معتبرا به، وهذا أوجه من قول صاحب " الهداية ": وعرق كل شيء معتبر بسؤره، لوجوه ثلاثة:
أولها: أن الفصل في السؤر وهذا إنما يعتبر باللعاب بحسب طهارته ونجاسته، فلا يناسب ذكر العرق هاهنا.
ثانيا: أن حكمها مأخوذ من غيرها وهو اللحم. فلا يؤخذ حكم أحدهما من صاحبه.
وثالثها: أن عرق البغل أو الحمار طاهر في المختار بلا شك، وسؤرهما مشكوك فيه في الصحيح. قلت: في كل من الوجوه الثلاثة نظر: أما الأول، فقوله: "الفصل في السؤر" ليس كذلك، لأنا قلنا: إنه في السؤر والعرق. وأما الثاني: فقوله: إن حكمهما مأخوذ من غيرهما وهو اللحم، غير صحيح؛ لأن السؤر غير مأخوذ من اللحم كما ذكرناه. وأما الثالث: فلأن(1/466)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
طهارة عرقهما للحرج كما ذكرنا في " المبسوط " و" الذخيرة ". عرق البغل والحمار ولعابهما طاهر في الصحيح. وذكر في " الذخيرة " عن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -: لو سقط لعابهما أو عرقهما في الماء أفسده، أراد أنه لا يبقى طهورا، وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن عرق الحمار ينجس الماء، وعنه أن لعابهما وعرقهما نجس نجاسة حقيقية. وروى الكرخي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن سؤر الحمار نجس لأنه لا يخلو عن قليل دم لما يلحقه من التعب وحمل الأثقال. وفي " المفيد " أن لعابه ينجلب من لحمه فيكون فيه قليل دم لتخلله من اللحم الممتزج بالدم، إلا أنه سقط في حق الآدمي للحرج كيلا يتنجس مأكوله ومشروبه، وكذا ما يؤكل لحمه إلحاقا به.
ومن المشايخ من قال بنجاسة سؤر الحمار دون الأتان لأن الحمار يتنجس فمه بشم البول. قال في " البدائع ": هذا موهوم فلا يتنجس. قال قاضي خان: الأصح أنه لا فرق بينهما، وقال قاضي خان: في لعابه وعرقه ثلاث روايات عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية: نجس نجاسة غليظة، وفي رواية أخرى: حقيقة، وفي رواية أخرى: لا يمنع جواز الصلاة وإن فحش وعليها الاعتماد، وفي " جامع البرامكة " عن أبي يوسف أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: لعاب ما لا يؤكل لحمه من الدواب وعرقه يفسد الثوب إذا زاد على قدر الدرهم، فجعل نجاسة غليظة، وهذا يوافق رواية الكرخي عنه، وعن أبي يوسف: لا يفسده حتى ينجس. وفي " المحيط ": عرقهما ولعابهما لا يفسدان الثوب وإن فحشا للشك. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يفسدانه إذا فحشا للنجاسة اعتبارا بلحمهما. وفي " المنتقى " عن محمد أن لبن الأتان كلعابها وعرقها يفسدان الماء دون الثوب. وذكر أبو عبد الله البلخي أن سؤرهما نجس عند الحسن وزفر نجاسة خفيفة.
قال قاضي خان: هذه رواية عن زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيل: إذا نزى الحمار على الرمكة لا يكره لحم البغل المتولد بينهما، عن محمد فعلى هذا لا يصير الماء بسؤره مشكوكا فيه لأنهما قال الشراح: أي لأن اللعاب والعرق. وقال السغناقي: ذكر ضمير اللعاب وإن لم يذكر قبله؛ لأن السؤر هو مخالطة اللعاب فكان ذكر السؤر ذكرا له فصلح ذكر ضميره، وتبعه الأكمل في هذا وقال الأترازي: لا يقال كيف رجع الضمير إليهما واللعاب غير مذكور؛ لأن الشهرة قائمة مقام الذكر لأن السؤر لما كان ممتزجا باللعاب صار ذكر السؤر كذكر اللعاب.
قلت: هو ولأنه من إعادة الضمير إلى العرق والسؤر المذكورين مما قبله لأجل أن السؤر لا يتولد من اللحم، وقد صرح السغناقي وغيره أن السؤر متولد من اللحم على ما ذكرنا من قريب. وقولهم: إن ذكر السؤر ذكر اللعاب غير ظاهر لأن هذا بطريق اللزوم والاقتصار أو بطريق أن السؤر يطلق على اللعاب. وقول الأترازي: لأن الشهرة قائمة مقام الذكر. أقله ظهورا من(1/467)
فأخذ أحدهما حكم صاحبه،
قال: وسؤر الآدمي، وما يؤكل لحمه طاهر؛ لأن المختلط به اللعاب وقد تولد من لحم طاهر فيكون طاهرا ويدخل في هذا الجواب الجنب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك، وأي شهرة موجودة من ذلك حتى يقوم مقام الذكر بل ظاهر التركيب يدل على أن الضمير يرجع إلى العرق والسؤر، ولكن يلزم التناقض في كلامه، وقد ذكرناه عن قريب ويمكن دفع ذلك بأن نقول: إن قوله: لأنهما يتولدان من اللحم أي إطلاق تولد السؤر من اللحم يكون بطريق أن السؤر يمتزج به اللعاب، فبهذا الاعتبار كأنه يتولد من اللحم.
م: (فأخذ أحدهما حكم صاحبه) ش: أي أخذ العرق والسؤر، وهاهنا لم يقل أحد منهم إن الضمير في أحدهما يرجع إلى اللعاب والعرق.
م: (وسؤر الآدمي وما يؤكل لحمه طاهر لأن المختلط به) ش: أي بالسؤر م: (اللعاب وقد تولد من لحم طاهر فيكون طاهرا) ش: فيقال: سؤر الآدمي وما يؤكل لحمه طاهر، لأنه مختلط بلعاب متولد من طاهر، وكل لعاب متولد من طاهر طاهر فالسؤر المختلط به طاهر.
م: (ويدخل في هذا الجواب) ش: أي في جواب المسألة المذكورة، وهو ثبوت طهارة سؤر الآدمي م: (الجنب) ش: لأنه آدمي، والجنابة لا تؤثر في ذلك.
قال الشراح: لما «روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فمد يده ليصافحه فقبض يده، وقال: إني جنب، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المؤمن لا ينجس» ولم يبين أحد منهم مخرج هذا الحديث. والحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه ولفظ مسلم «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيه وهو جنب فحار عنه فاغتسل ثم جاء، فقال: كنت جنبا، قال: "إن المسلم ليس بنجس» ، ولفظ أبي داود «أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لقاه فأهوى إليه، فقال: إني جنب، فقال: "إن المسلم ليس بنجس» .
وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. أما حديث أبي هريرة فأخرجه الجماعة بألفاظ مختلفة، ولفظ البخاري عن أبي هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب قال فاستحييت منه فذهبت فاغتسلت ثم جئت فقال أين كنت يا أبا هريرة قال كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة قال سبحان» . ولفظ النسائي كذلك، ولفظ مسلم: «المؤمن لا ينجس» ، وكذا ابن ماجه، ولفظ أبي داود والترمذي: «إن المسلم لا ينجس» .
وأما حديث ابن عباس فأخرجه الحاكم عنه قال: قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تنجسوا موتاكم،(1/468)
والحائض، والكافر
وسؤر الكلب نجس، ويغسل الإناء من ولوغه ثلاثا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن المسلم ليس بنجس حيا ولا ميتا» . وقال الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه.
[سؤر الحائض]
م: (والحائض) ش: بالرفع عطفا على قوله الجنب، والدليل على ذلك حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالت: «كنت أشرب وأنا حائض فأناول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيضع فاه على موضع في فيشرب» . أخرجه مسلم، وأبو داود وابن ماجه.
وممن قال بطهارة سؤر الجنب: الحسن البصري، ومجاهد، والزهري، ومالك، والأوزاعي، والثوري، والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وروي عن النخعي أنه يكره فضل شرب الحائض، وقد روي عن جابر أنه سئل عن سؤر الحائض هل يتوضأ منه للصلاة فقال: لا. ذكر ذلك كله ابن المنذر في " الأشراف ".
فإن قلت: كان ينبغي أن ينجس الماء بشرب الجنب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لسقوط الفرض به.
قلت: هذا تعليل في مقابلة النص، فلا يجوز على أنه في مكان الضرورة، فلا يصير مستعملا للحرج. وقال خواهر زاده: ولأنه يشربه ولا محذور في السؤر.
م: (الكافر) ش: طاهر أيضا لما ثبت في " الصحيحين «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكن ثمامة بن أثال من أن يمكث في المسجد قبل إسلامه» فلو كان نجسا لما مكنه من ذلك.
فإن قلت: قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] (التوبة: الآية 27) ، قلت: النجاسة في اعتقادهم لا في ذاتهم. وقال ابن المنذر: وكان ممن لا يرى بسؤر الكافر بأسا: الأوزاعي، والشافعي، والثوري، وأبو ثور، ولا أعلم أحدا كره ذلك إلا أحمد، والحسن، فإنهما قالا: لا ندري ما سؤر المشرك.
[سؤر الكلب]
م: (وسؤر الكلب نجس) ش: وقال مالك وداود: طاهر، وإن ولغ في لبن أو سمن فلا بأس بأكله. ونقل الطحاوي: وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اختلاف العلماء أنه كان يرى الكلب من أهل البيت.
م: (ويغسل الإناه من ولوغه ثلاثا) ش: أي ثلاث مرات. والولوغ من ولغ الكلب في الإناء بفتح اللام فيهما إذا شرب بأطراف لسانه. وعن ثعلب أنه يقال: يالغ بكسر اللام، ولكنها غير الصحيح، وتبعه على ذلك أبو علي وابن سيده، وابن القطان عنه، وأبو حاتم الأسبيجابي وسكن بعضهم اللام، وقال ابن جني: مستقبله يلغ بفتح اللام وكسرها، وفي مستقبل ولغ بالكسر يلغ(1/469)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالفتح، وزاد ابن القطان: ويلغ بكسر اللام كما في الماضي. وقال ابن خالويه: ولغ يلغ ولغا ولغانا، وولغ ولغا وولوغا ولغانا، قال أبو زيد: يقال ولغ الكلب بشرابنا وفي شرابنا ومن شرابنا. قال ابن الأثير: وأكثر ما يكون الولوغ في السباع. وابن فورك: كل ولغ شرب وليس كل شرب ولوغا والشرب أعم، ولا يكون الولوغ إلا للسباع، وكل من يتناول الماء بلسانه دون شفتيه، فإذن الولوغ صفة من صفات الشرب يختص بها اللسان، والشرب عبارة عن توصيل المشروب إلى محله من داخل الفم، ألا ترى أنه يقال: شربت الماء الشجر والأرض، والمصدر من ولغ الكلب الولوغ بالضم. قال الخطابي: وإذا أكثر فهو الولوغ بالفتح. وقال الترمذي: الولوغ الولغ من الكلاب والسباع كلها، هو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع يحركه تحريكا قليلا أو كثيرا، وقال مكي في شرحه: فإن كان غير مائع يقال: لعقته ولحسته، قال المطهر: فإن كان الإناء فارغا يقال له لحس، وإن كان فيه شيء يقال: ولغ، وقال ابن درستويه معنى ولغ قطعه بلسانه شرب منه أو لم يشرب، كان فيه ماء أو لم يكن، ولا يقال: ولغ في شيء من جوارحه سوى لسانه.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا) ش: هذا الحديث رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من طريقين الأول أخرجه الدارقطني في "سننه" عن عبد الوهاب ابن الضحاك عن إسماعيل بن عياش عن هشام بن عروة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا أو خمسا أو سبعا» .
الثاني: أخرجه ابن عدي في "الكامل" عن الحسين بن علي الكرابيسي حدثنا إسحاق الأزرق حدثنا عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله ثلاث مرات» .
فإن قلت: قال الدارقطني: تفرد به عبد الوهاب بن الضحاك عن ابن عياش وهو متروك وغيره يروى عن ابن عياش بهذا الإسناد «فاغسلوه سبعا» وهو الصواب، وقال البيهقي: في(1/470)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إسناده إسماعيل بن عياش وهو لا يحتج به وأنه إذا روى عن أهل الحجاز. قلت: ظاهر هذا الكلام، وإطلاق القول وأنه لا يصح الاحتجاج به وأنه إذا روى عن أهل الحجاز كان أشد في عدم الاحتجاج به، وعلى هذا قد خالف البيهقي ما ذكره هاهنا في باب ترك الوضوء من الدم، وقال: ما روى عن الشاميين صحيح، وقال القدوري في "تجريده": إن قولهم عبد الوهاب بن الضحاك عن إسماعيل بن عياش وهما ضعيفان غير معتد به حتى يبينوا صفة الضعف، فإن الجرح المبهم غير معتبر.
قلت: يلزم من كلام البيهقي أيضا أن يكون الراوي ثقة من وجه دون وجه، وهذا لا يصح، ومع هذا روى الدارقطني هذا الحديث بسند صحيح من حديث عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة: «إذا ولغ الكلب في إناء فأهرقوه، ثم اغسلوه ثلاث مرات» . وروي أيضا من حديث عطاء عن أبي هريرة أنه كان إذا ولغ الكلب في الإناء يهرقه ويغسله ثلاث مرات. وروى الطحاوي أيضا بإسناد صحيح.
فإن قلت: قال البيهقي: تفرد به عبد الملك من بين أصحاب أبي هريرة والحفاظ الثقات من أصحاب عطاء وأصحاب أبي هريرة يروونه سبع مرات وعبد الملك لا يقبل منه؛ لأنه يخالف فيه الثقات، ولمخالفة أهل الحفظ والثقة في زمانه تركة ربيعة ولم يحتج به البخاري في " صحيحه ".
وقد اختلف عليه في هذا الحديث فمنهم من يرويه عنه مرفوعا، ومنهم من يرويه عنه موقوفا على أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من قولهم: ومنهم من يرويه عنه من فعله، وقد اعتمد الطحاوي على الرواية المتواترة فيه في نسخ حديث السبع، وأن أبا هريرة لا يخالف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يرويه عنه، وكيف يجوز ترك رواية الحفاظ الأثبات من أوجه كثيرة لا يكون مثلها غلطا رواية واحد قد عرفت مخالفته الحفاظ في بعض الأحاديث. قلت: هذا تحامل منه؛ لأن الحديث الذي رواه الطحاوي صحيح، وكذلك رواه الدارقطني عنه صحيح، وقال في " الإمام ": هذا مسند صحيح، ورواه ابن عدي أيضا عن عبد الملك كما ذكرناه، وعبد الملك قد أخرج له مسلم في "صحيحه". وقال أحمد والثوري: زين الحفاظ. وعن الثوري: هو ثقة متفق عليه. وقال أحمد بن عبد الله: ثقة ثبت في الحديث. ويقال: كان الثوري يسميه الزمان، ولا يلزم من ترك(1/471)
ولسانه يلاقي الماء دون الإناء، فلما تنجس الإناء من ولوغه فالماء أولى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاحتجاج به أن يترك قوله وتشنيعه على الطحاوي بأنه اعتمد على الرواية الموقوفة في نسخ حديث السبع باطل؛ لأنه لما صح عنده هذه الرواية حمل رواية السبع على النسخ توفيقا بين الكلامين وتسحينا للظن في حق أبي هريرة ولا سيما وقد تأكدت الرواية الموقوفة بالرواية المرفوعة.
وروى عبد الرزاق في "مصنفه" أيضا عن ابن جريج قال: قال لي عطاء: يغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب، قال: كل ذلك لك سبعا وخمسا وثلاث مرات.
فإن قلت: قال البيهقي: وقد روى حماد بن زيد عن أبيه عن ابن سيرين عن أبي هريرة فتواه بالسبع كما رواه، وفي ذلك دليل على خطأ رواية عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة في الثلاث، بل يحتمل أن يكون فتواه بالسبع قبل ظهور النسخ عنده أو يكون ذلك بطريق الندب و [من] يخطئ عبد الملك مخطئ.
وقد روي عن أبي هريرة مرة واحدة أيضا. قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة في الهر يلغ في الإناء قال: غسله مرة واحدة، وإسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح. فهذا أدل دليل على ثبوت انتساخ السبع عنده، وأن مراده في رواية الثلاث هو أن يكون على الندب والاستحباب. وقال الطحاوي: ولو وجب أن يعمل بحديث السبع ولا يجع منسوخا لكان ما روى «فليغسله سبع مرات وعفروا الثامنة بالتراب» ، فهذا زاد على أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والزائد أولى من الناقص فكان ينبغي لهذا المخالف أن يقول: لا يطهر الإناء حتى يغسل ثمان مرات السابعة بالتراب والثامنة كذلك لما أخذنا بحديثين جميعا، فإن يترك هذا الحديث فقد لزمه ما ألزمه خصمه في ترك السبع، وإلا فقد بينا أن أغلظ النجاسات يطهر فيها الإناء بغسل ثلاث مرات فما دونها أحق من أن يطهره ذلك.
فإن قلت: قال ابن الجوزي في " العلل المتناهية " في حديث الكرابيسي بعد أن رواه هذا حديث لا يصح لم يرفعه غير الكرابيسي، وهو ممن لا يحتج بحديثه.
قلت: قال ابن عدي بعد أن رواه: لم أجد له حديثا منكرا غير هذا، وإنما عليه أحمد بن حنبل من جهة اللفظ بالقرآن، فأما في حديث فلم أر به بأسا؟
م: (ولسانه يلاقي الماء دون الإناء، فلما تنجس الإناء من ولوغه فالماء أولى) ش: أي لسان الكلب يلاقي الماء الذي في الإناء ولا يلاقي الإناء فلا ينجس الإناء من ولوغه، وقد انعقد الإجماع على(1/472)
وهذا الحديث يفيد النجاسة والعدد في الغسل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجوب غسل الإناء بولوغه، فالماء أولى بالتنجس بدلالة الإجماع. وقال الأكمل: قيل يجوز أن يكون المراد بولوغ الكلب في الإناء لحسه فيكون لسانه ملاقيا للإناء، فلا يتم الاستدلال، وأجيب بأن الولوغ حقيقة في شرب الكلب وأشباهه المائعات بأطراف لسانه، والكلام في الحقيقة إذا لم تصرف عنها قرينة.
قلت: هذا السؤال والجواب للسغناقي ولكن فيه نظر، لأن الولوغ هو اللط بلسانه شرب أو لم يشرب، وكان في الإناء مائع أو لم يكن.
م: (وهذا الحديث) ش: أي قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا» م: (يفيد النجاسة) ش: أي نجاسة سؤر الكلب، وفيه نفي قول مالك، لأن سؤر الكلب طاهر عنده لكون الكلب طاهرا عنده. وذكر أصحابه عنه أربعة أقوال: طهارته، ونجاسته، وطهارة سؤر المأذون في الكلب ودوده وغيره، والرابع لابن الماجشون يفرق بين البدوي والحضري.
ثم اختلف أصحابنا في الكلب، هل هو نجس العين كالخنزير أو لا، والأصح أنه ليس بنجس العين كذا في " البدائع "، وفي " الإيضاح ": فأما عين الكلب، فقد روي عن محمد أنه نجس، وكذا عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبعضهم قالوا: طاهر لأن طهارة جلده بالدباغ، وقال في فصل مسائل البئر: فأما الحيوان النجس كالكلب والخنزير والسباع ينزح كله لأنه نجس العين، ولهذا قالوا في كلب إذا ابتل وانتضح به على ثوب أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة فيه، وذكر في " قنية المنية ": الذي صح عندي من الروايات في " النوادر " و" الأماني " أن الكلب نجس العين عندهما، وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس بنجس العين، وفائدته تظهر في كلب وقع في بئر وخرج حيا فأصاب ثوب إنسان ينجس الماء والشرب عندهما خلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والظاهرية يفعلون بظاهر الألفاظ الواردة في هذا الباب وحكموا بأشياء مخالفة للإجماع. فقال ابن حزم: فإن أكل الكلب في الإناء ولم يلغ فيه أو أدخل رجله أو ذنبه أو وقع كله فيه لم يلزم غسل الإناء ولا يهراق ما فيه البتة وهو طاهر حلال أكله، وكذا لو وقع الكلب في بقعة في الأرض، أو في يد إنسان أو لا مما لا يسمى إنسانا فلا يلزمه غسل شيء من ذلك ولا يهراق ما فيه.
م: (والعدد في الغسل) ش: أي يقبل للعدد في غسل الإناء لأنه نص على الثلاث.
فإن قلت: إفادة العدد بطريق الوجوب أو الاستحباب؟
قلت: بطريق الاستحباب لأن راوي الحديث المذكور هو أبو هريرة كما ذكرناه، وقد روي عنه بإسناد صحيح أنه قال: اغسله مرة واحدة، فدل على أن مراده في رواية الثلاث الندب والاستحباب؛ ويدل على هذا انتساخ السبع للعدد على ما نذكره إن شاء الله تعالى.(1/473)
وهو حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اشتراط السبع، ولأن ما يصيبه بوله يطهر بالثلاث،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقد شنع ابن حزم هاهنا على أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأساء الأدب وقد قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يغسل الإناء من ولوغ الكلب إلا مرة واحدة، وأن كل ما في الإناء يهراق أي شيء كان، وهذا قول لا يحفظ عن أحد من الصحابة ولا من التابعين، واحتج له بعض مقلديه بأن أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قد روي عنه أنه خالفه، وهو باطل؛ لأنه روى هذا الخبر الساقط عبد السلام بن حرب وهو ضعيف، وعلى صحة رواية شرط الثلاث فلم يحصلوا إلا على خلاف السنة وخلاف ما أعرضوا به عن أبي هريرة فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتبعوا ولا أبا هريرة الذي احتجوا به قلدوا.
قلت: هذا كلام في غاية السخافة والتفاهة، لأن السخافة والتفاهة لم يقل فيه بالرأي ولا أحد من أصحابه، بل مذهبه أن يغسل ثلاث مرات كما أفتى به أبو هريرة، وكيف يقول: هذا قول لا يحفظ عن الصحابة، والحكم عن حديث عبد السلام بالسقوط ساقط باطل، وعبد السلام ثقة مأمون حافظ أخرج له الجماعة واعترض أيضا ابن قدامة [في المغني] علينا حيث قال: قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجب العدد في شيء من النجاسة إنما يغسل حتى يغلب على الظن نقاؤه من النجاسة، وفي الحديث الصحيح نص على السبع، وفي آخر خير بين الثلاث والخمس والسبع وحديثهم يرويه عبد الوهاب بن الضحاك وهو ضعيف.
قلت: قد مر الجواب عن هذا في حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المذكور فيما مضى.
م: (وهو حجة على الشافعي في اشتراط السبع) ش: أي حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المذكور حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اشتراط السبع مرات في ولوغ الكلب في الإناء، وقد ذكرنا وجه ذلك، وقال بعضهم: وكان ينبغي أن يقول: وعلى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في عدم تنجيس الماء. قلت: لم يقل ذلك لأنه روي عنه ما يقتضي أنه النجاسة، وقال أصحابه: وإذا فرضنا الغسل بعد النجاسة فهل هو على الندب أو الوجوب، فيه روايتان، وكذلك في إلحاق الخنزير، وكذلك في اختصاص ذلك بالنهي عن اتخاذ الكلب أو تعميمه في جنس الكلاب، وأيضا هل يختص هذا الحكم بالماء أو بغيره أيضا؟ ففي رواية ابن القاسم في الماء خاصة، وفي رواية ابن وهب: إن إناء الطعام بمنزلة إناء الماء، وأيضا هل يراق الماء والطعام؟ فيه ثلاثة أقوال، إراقتها، وترك الإراقة فيها، وتخصيصها بالماء دون الطعام. وهل يغسل الإناء بالماء الذي ولغ فيه الكلب؟ فقال الغزوني من علمائهم: لا أعلم من أصحابنا نصا فيه، وحكى الشيخ أبو طاهر عن بعض أشياخه أنه ذكر أن المذهب على قولين في ذلك ثم عندهم: يغسل بجماعة الكلاب سبعا وللكلب الواحد إذا تكرر منه سبعا وقيل: سبعا سبعا.
م: (ولأن ما يصيبه بوله يطهر بالثلاث) ش: أي: ولأن ما يصيبه بول الكلب من الثياب وغيرها(1/474)
فما يصيبه سؤره وهو دونه أولى، والأمر الوارد بالسبع محمول على ابتداء الإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يطهر بالغسل ثلاث مرات. قال الأترازي: أي بالإجماع وفيه نظر؛ لأن عند الشافعي بوله ودمه نجس منه لا يطهر إلا بالغسل سبعا، ذكره في " التهذيب " وفي " شرح الوجيز ": سائر فضلاته وأجزائه كلعابه، وفي وجه كسائر النجاسات.
فإن قلت: الحديث لا يدل على نجاسة لعابه لجواز أن تكون نجاسة الإناء باستعمال النجاسة غالبا لأكله الجيف والميتات.
قلت: إذا فرضنا لتطهر دمه بماء كثير فوقع في الإناء فإما أن يثبت وجوب غسله أو لا، فإن لم يثب وجب تخصيص العموم، وإن ثبت لزم ثبوت الحكم بدون علته وكلاهما على خلاف الأصل.
م: (فما يصيبه سؤره وهو دونه) ش: أي والحال أن سؤره دون بوله م: (أولى) ش: أي بالتطهير م: (والأمر الوارد بالسبع محمول على ابتداء الإسلام) ش: هذا جواب عما استدل به الشافعي بالأمر الوارد بالسبع. قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أراد بهذا ما رواه عبد الله بن مغفل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فكذا قال غيره من الشراح مع عدم تعيين الراوي، وعن قريب نذكر ما رواه ابن المغفل، والوجه أن يقال: أراد بالأمر الواقع الوارد بالسبع ما رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أولاهن وآخرهن بالتراب» . والحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم، أو وجه ذلك أن مراد المصنف بيان نسخ الأمر الوارد بالسبع، والخصم ما استدل إلا بحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا.
وفي حديث ابن المغفل ما هو حجة على ما بينه وهو أنه «روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بقتل الكلاب ثم قال: "مالي وللكلاب" ثم قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات وعفروا الثامنة بالتراب» أخرجه الطحاوي هكذا، ولفظه: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل الكلاب ثم قال: "ما بالهم وبال الكلاب"، ثم رخص في كلب الصيد وكلب الماشية» وقال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبع مرات وعفروا الثامنة بالتراب» . ورواه أبو داود نحوه والنسائي أيضا إلا أنه ليس في روايته: «مالي وللكلاب» ، وابن ماجه رواه مقتصرا على قوله: إذا ولغ الكلب. . إلخ، وهذا فيه الأمر بالغسل سبع مرات وتعفير الثامنة بالتراب، وقد تركه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولزمه ما ألزم هو خصمه في ترك السبع، وقد خصصنا فيه فيما مضى قوله: "عفروا"، قال صاحب " المطالع ": معناه اغسلوه بالتراب وهو من العفر بالتحريك وهو التراب، يقال: عفره بالتراب يعفره عفرا، وعفره تعفيرا أي إذا مرغته بشيء معفور ومعفر أي ترب. فإن قلت: ما الدليل على(1/475)
وسؤر الخنزير نجس لأنه نجس العين على ما مر، وسؤر سباع البهائم نجس خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما سوى الكلب والخنزير،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله محمول على الابتداء إي ابتداء الإسلام. قلت: هو أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يشدد في أمر الكلاب حتى يمنعوا من الاقتناء، ونهاهم عن مخالطتهم كما أمر بكسر دنان الخمر، ثم ترك ذلك وقال: مالي وللكلاب، ثم رواية أبي هريرة وجه النسخ وقد ذكرناه.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المراد بغسل الإناء التعبد لا إزالة النجاسة كما ذهب إليه مالك قلت: الجمادات لا يلحقها حكم التطهير بعد إذ لا يوجب في غير موضع الإصابة كما في الحديث.
فإن قلت: الحجر الذي يستعمل به في رمي الجمار أنه يغسل إذا رمي به ثانيا. الحجر آلة الرمي فجاز أن تعين الآلة بنقل نجاستها والآثام إليها كالماء المستعمل وما الزكاة.
فإن قلت: لو كان للنجاسة لما احتيج إلى السبع، فإن لعابه لا يكون أنجس من العذرة وبول الإنسان والحمار. قلت: الحمل على التنجيس أولى لأنه متى دار الحكم بين كونه تعبدا أو معقول المعنى كان جعله معقول المعنى هو الوجه لندرة التعبد وكثرة العقل.
[سؤر الخنزير وسباع البهائم]
م: (وسؤر الخنزير نجس) ش: خلافا لمالك وداود، فإنه عندهما طاهر، ولكنهما ألحقاه بالكلب في العدد مع كونه تعبدا عندهما م: (لأنه نجس العين) ش: أي لأن الخنزير نجس العين فصار لحمه نجسا وللعاب يتولد منه والسؤر يمتزج به م: (على ما مر) ش: في باب الماء الذي يجوز به الوضوء عند قوله: "بخلاف الخنزير لأنه نجس العين".
م: (وسؤر سباع البهائم نجس) ش: سباع البهائم كالأسد والنمر والذئب، والدب والفهد ونحوها م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي خالفنا نحن خلافا فيه للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فيما سوى الكلب والخنزير) ش: وما يتولد منهما، وبقوله قال مالك، وأحمد - رحمهما الله - ورواية ثم إن المصنف لم يذكر مستند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا من حيث النقل ولا من حيث العقل ولا مستند أصحابنا من حيث النقل. وأما مستند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حيث النقل في أحاديث:
أحدها: ما أخرجه ابن ماجه عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحياض التي بين مكة والمدينة، فقيل له: إن الكلاب والسباع ترد عليها، فقال: "لها ما أخذت في بطونها، ولنا ما بقي شراب وطهور» .(1/476)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثاني: ما أخرجه الدارقطني في " سننه " عن داود بن الحصين عن أبيه عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قيل: يا رسول الله أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: "نعم وبما أفضلت السباع» ورواه البيهقي، والشافعي، وعبد الرزاق عن إبراهيم بن أبي يحيى عن داود بن الحصين عن أبيه. ورواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا من حديث ابن أبي ذئب عن داود بن الحصين عن جابر بن عبد الرحمن من غير ذكر أبيه.
ثالثها: ما أخرجه ابن ماجه عن أبي مصعب المدني عن عبد الرحمن بن زيد عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره فسار ليلا فمر على رجل عند مقراة له، فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يا صاحب المقراة أولغت السباع الليلة في مقراتك؟ فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "يا صاحب المقراة لا تخبرنا هذا تكلف، لها ما حلمت في بطونها» .
الرابع: ما رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر وعن الطهارة بها، فقال: "لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي طهور".
والخامس: ما رواه مالك عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا أحواضا فقال عمرو بن العاص: يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "يا صاحب الحوض لا تخبره فإنا نرد على السباع وترد السباع علينا".
وأما سند الشافعي من حيث العقل فهو أنها طاهرة جلدها وحرمة أكل لحمه لصون طباع بني آدم عن تعدي طباعها بواسطة التعدي دون النجاسة.
وأما مستند أصحابنا من حيث النقل فما رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله «أنه عليه(1/477)
لأن لحمهما نجس ومنه يتولد اللعاب، وهو المعتبر في الباب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلام نهى عن كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور» والمراد بها الجوارح، فدل على أن كل ذي ناب حرام، نهي عن أكل كل ذي ناب حرام مع صلاحيته للغذاء لا لكرامته فيكون نجسا ولعابه متولد من اللحم النجس فيمزج بسؤره.
وقد استدل السغناقي وصاحب " الدراية " لأصحابنا بحديث مالك المذكور فقالا: ولولا أنهما - يعني أن عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص - كانا يريان التنجيس بورودهما وإلا لم يكن لسؤال عمرو ولا عمر لنهي. والمعنى في المسألة أنها في سؤر السباع يمكن الاحتراز عنه فكان نجسا قياسا على الخنزير. وقد استدل بعض الشراح للشافعي بهذا الحديث كما ذكرناه. ولنا من حيث العقل، فقد أشار المصنف إليه بقوله:
م: (لأن لحمهما) ش: أي لحم الكلب والخنزير م: (نجس ومنه يتولد اللعاب) ش: فيمتزج به السؤر، وفيه إيراد على المصنف وهو أنه يرى طهارة لحم الكلب وجلده بالذكاة وهو قول جماعة أيضا، وهاهنا تمسك بنجاسة السؤر بنجاسة اللحم، وقد ذكر أنه يطهر بالذكاة وكان نجسا بالمجاورة من الدماء والرطوبات النجسة فلزم أن يكون لعابه طاهرا، فإن لحم الشاة نجس أيضا بالمجاورة حتى لو لم يذك حكم بعدم تطهيرها.
وأجيب عنه بأن اللحم وإن كان نجس العين يحتمل أن يتبدل إلى الطهارة بأمر شرعي، فإن جلد الميتة نجس العين حتى لم يجز بيعه بالاتفاق، ولو كان نجسا بالمجاورة لجاز بيعه كالثوب النجس والدهن النجس، ثم الدباغ أثر فيه وطهره كتخليل الخمر، فعلم أن ما هو نجس العين يحتمل التبدل إلى الطهارة بأمر شرعي، ثم الذكاة تؤثر في الجلد الذي هو نجس العين إلى الطهارة، فيجوز أن يؤثر في اللحم أيضا فيكون اللحم نجس العين قبل الذكاة وبعدها طاهر كالخمر قبل التخليل نجس العين وبعده طاهر، ولا يلزم على هذا الخنزير؛ لأن الذبح لما لم يؤثر في جلده لإخراج الشرع إياه عن قبوله ولم يؤثر في لحمه أيضا، فثبت أن طهارة اللحم بالذبح لا تنافي النجاسة قبله، وفيه نظر لأنه يؤدي إلى تخصيص العلة، لأن نجاسة اللحم إنما عرفت من حرمة الأكل لا للكرامة مع صلاحية الغذاء وهي باقية بعد الذكاة، فلو قلنا بطهارة اللحم مع بقاء الحرمة المستدعية للتنجيس كان نقضا وتخصيصا، وحرمة بيع جلد الميتة ليست بنجاسة العين بل باعتبار اتصال الرطوبات النجسة بالجلد.
م: (وهو المعتبر في الباب) ش: أي الاستدلال بنجاسة اللعاب وطهارته المعتبرة في هذا الباب، وأراد بالباب نفس فقه هذا الموضع.
وأما الجواب عن أحاديث الشافعي، فحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - معلول(1/478)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعبد الرحمن بن زيد، فعن أحمد والنسائي وأبي زرعة ضعيف، وعن أبي حاتم: ليس بقوي في الحديث، وكان في نفسه صالحا وفي الحديث أنه رواه، قال أبو داود: أولاد زيد بن أسلم كلهم ضعفاء وأمثلهم عبد الله، وأيضا يلزم الشافعي طهارة سؤر الكلب ولم يقل به.
وحديث جابر فيه داود بن الحصين ضعفه ابن حبان، وهو لم يلق جابر أيضا، وحديثه عن طريقين: أحدهما: عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن إبراهيم بن يحيى عن داود بن الحصين. والثاني: عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن داود. قال النووي: الإبراهيمان ضعيفان عند أهل الحديث لا يحتج بهما، ثم قال: وإنما ذكرنا الحديث وإن كان ضعيفا لكونه مشهورا في كتب الأصحاب، وربما اعتمده بعضهم [ولذلك] نبهت عليه.
وحديث أبي سعيد فيه عبد الرحمن هذا أيضا.
وحديث مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه أيوب بن خالد الحراني، قال ابن عدي: حدث عن الأوزاعي بالمناكير.
قوله: "يا صاحب المقراة"، بكسر الميم غير المهموز مأخوذ من قريت الماء الحوض قريا وقرى إذا أجمعته.
وقال ابن الأثير: المقري والمقراة الحوض الذي يجتمع فيه الماء. وقال ابن سيال: هي الحوض العظيم يجمع الماء فيه. وقال الجوهري: المسيل والموضع الذي يجتمع فيه ماء المطر من كل جانب.
وقوله: "ولنا ما غبر": بفتح الغين المعجمة والباء الموحدة أي ما بقي.
ثم إنا ولئن سلمنا بثبوت هذه الأحاديث فهي محمولة على الماء الكثير، أوهي محمولة على ما قبل تحريمها، أو المراد به حمر الوحش وسباع الطير.
وأما الجواب عن دليل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حيث العقل فهو أن الله تعالى حرم أكل كل نجس بنفسه كالخمر أو للمجاورة كما وقعت فيه نجاسة، أو للاحترام كما في الآدمي، ولا احترام للسباع ولا خبث فيها فإنها كانت تؤكل قبل التحريم، فلم يبق إلا النجاسة، ولا يجوز أن تكون الحرمة لتعدي الطبع، فإن الطبائع نفرت عنها بخلاف الخمر، ولما حرم أكلها علم أنها نجس، فعلى هذا ينبغي أن لا يجوز بيعها؛ لأنها نجس العين كالخنزير، ولكن الحرمة غير شاملة للجلد، والعظم، والشعر، والعصب، وما لا يؤكل منه طاهر فأشبه دهنا نجسا والمجاورة وجلده إنما يطهر بالدباغ؛ لأن بين الجلد وللحم جلدة يمنع مماسة اللحم للجلد.(1/479)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقد رد على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعضهم بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحياض التي تكون في الفلوات وما استوى بها من السباع، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا» أخرجه الأربعة، فلو كان سؤر السباع طاهرا لم يكن لذكر هذا الشرط فائدة، وكان التقييد به ضائعا.
وأجاب النووي عن هذا بأجوبة:
أحدها: أنه تمسك بدليل الخطاب، قال: وهم لا يقولون به. وقال السروجي: ما قاله صحيح نحن لا نقول به، ولا نعتقد صحة هذا الحديث أيضا؛ لأنه مطعون فيه لكنهم زعموا أنه صحيح ومفهوم الشرط حجة عندهم، فنحن نلزمهم ما هو حجة عليهم عندهم.
الثاني: أن السؤال كان الماء الذي ترده الدواب والسباع فتشرب منه وتبول فيه غالبا، وأجيب أنه لا يجوز تقييد التنجيس ببولها وحده لوجهين: أحدهما: أن ورود السباع على الماء للشرب لا للتبول فيه فلا يجوز ترك هذا الذي سبق الحديث لأجله. الثاني: أن كلمة "ما" عامة فلا تخصيص بالبول ويصرف عن غيره بلا دليل.
الجواب الثالث: أن الكلاب من جملة ما يردهما فالتنجيس بسببها، ويدل على دخولها في ذلك أوجه: أحدها: أنه جاء في رواية الدواب، ورد عليه السروجي بأن لو كان التنجيس بسبب الكلاب دون السباع لم يكن لذكر السباع وترك الكلاب التي منها يفسد الماء عندهم معنى إذ الكلاب لم تذكر في المشهور، وأيضا لو سلم ذكرها في بعض الطرق لما كان لضم السباع فيها فائدة إذ كان فساد الماء بسبب الكلاب لا غير عندهم، وقوله: إنها من جملة الكلاب لا يصح، فإن من قال: فلان قتل سبعا لا يفهم منه قتل كلب، والأصل عدم الاشتراك والترادف. وقوله إنها داخلة في الدواب لذوات الحوافر كالفرس والبغل والحمار كانت داخلة فيها لا يجوز إخراج غيرها بلا دليل.
قلت: إنكاره الكلب من السباع غير موجه؛ لأن السبع في اللغة كل حيوان مفترس، ولهذا ورد في الحديث: «السنور سبع» مع أن الكلب أقوى منه وأشد افتراسا، واستشهاده بقوله: فإن من قال. . إلخ، ليس تحته طائل؛ لأن هذا نجسا يعرف بين الناس، ودعواه بان قوله: "دخول الكلب في الدواب باطل" غير صحيحة، لأن الدابة في اللغة ما دب على الأرض. قال الجوهري: كل ما مشى على الأرض دابة ودبيب، والدابة التي تركب.
وقوله: "لأن لذوات الحوافر كالفرس، والبغل، والحمار" غير موجه، لأن التخصيص لهذه الثلاثة من أين، والدابة منقولة عما يدب على وجه الأرض على ذوات الأربع من الحيوان،(1/480)
وسؤر الهرة طاهر مكروه وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه غير مكروه؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيشمل الجمل وغيره.
ثم اعلم أن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر نجاسة سؤر السباع، ولم يبين أن نجاسته حقيقية حتى يعتبر فيه الكثير أو غليظة يعتبر فيه أكثر من قدر الدرهم. وقد روى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غير رواية " الأصول " أنه نجس نجاسة غليظة. وروى عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن سؤر ما لا يؤكل لحمه من السباع كبول ما لا يؤكل لحمه.
[سؤر الهرة]
م: (وسؤر الهرة طاهر مكروه) ش: عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - هذا لفظ " الجامع الصغير "، وأما لفظ "كتاب الصلاة": وإن توضأ بغيره كان أحب إلي. قال الأترازي: وفائدته أنه إذا توضأ به يجوز مع الكراهة إن كان يجد ماء مطلقا، وإن لم يجد فلا كراهة، وبقولهما قال طاووس وابن سيرين وابن أبي ليلى ويحيى الأنصاري، وهو المروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
فإن قلت: أهي كراهة تحريمية أم تنزيهية، قلت: قال الطحاوي: كراهة سؤرها لحرمة لحمها؛ وهذا يدل على أنه إلى التحريم أقرب. وقال الكرخي: كراهة سؤرها لأنها تتناول الجيف، فلا يخلو فمها عن نجاسة عادة، وهذا يدل على أنه كراهة تنزيهية وهو الأصح والأقرب إلى موافقة الآثار، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - غير مكروه، وبه قال الشافعي، ومالك، وأحمد، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو عبيدة، - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وفي " المغني " لابن قدامة: السنور وما دونها في الخلقة كالفأرة وابن عرس وغيرهما من حشرات الأرض سؤرها طاهر يجوز شربه والوضوء به ولا يكره، وهذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين من أهل المدينة والشام وأهل الكوفة وأصحاب الرأي إلا النعمان فإنه كره الوضوء بسؤر الهرة فإن فعل أجزأه.
وفي " المبسوط " و" الذخيرة " تكره أن تلحس الهرة كف إنسان ثم يصلي قبل غسلها أو يأكل من بقية الطعام الذي أكلت منه لقيام ريقها بذلك. وفي " البدائع " لو أكلت فأرة وسكتت ثم شربت الماء تنجس عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - كشارب الخمر، وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا ينجسه، وقال قاضي خان: مكثت ساعة أو ساعتين. وفي " المفيد" أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم ينقل بطهارة فمها إذا غسلته بلعابها لاشتراط الصب في الأبدان عدة. وفي " الجامع الصغير " أسقط الصب للحرج م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه غير مكروه) ش: وعنه أنه لا يجوز الوضوء به، ذكره المرغيناني، ثم إن أكثر أصحابنا ذكروا قول مدحم مع أبي حنيفة رحمهما الله وكذا ذكر صاحب " المنظومة " وصاحب " الإيضاح " والمصنف، الأصح أن محمدا مع أبي يوسف، وروى محمد حديث مالك الذي يأتي ذكره إن شاء الله في " موطئه "، ثم قال محمد لا بأس بأن يتوضأ بفضل سؤر وغيره أحب إلينا منه، وهذا قول أبي حنيفة -(1/481)
«لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يصغي لها الإناء فتشرب منه ثم يتوضأ به» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ -، وذكر في " المحيط " و" التحفة" و"قاضي خان " قول أبي يوسف مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصغي لها الإناء منه ثم يتوضأ به) ش: رواه الدارقطني في "سننه" من طريقين عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أحدهما عن يعقوب بن إبراهيم الأنصاري عن عبد ربه بن سعيد عن أبيه عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تمر به الهرة فيصغي لها الإناء فتشرب منه ثم يتوضأ بفضلها» قال: ويعقوب هذا هو أبو يوسف القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعبد ربه هو عبد الله بن سعيد العنبري وهو ضعيف.
والثاني: عن محمد بن عمر الواقدي بإسناده وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. . إلخ وفي الواقدي مقال، وأخرجه الطحاوي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أيضا، ولفظه «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان يصغي الإناء للهرة ويتوضأ بفضله» وفي إسنادة صالح بن حيان البصري المدني ضعيف متروك. وأخرجه الطبراني في "الأوسط" عن عائشة برجال موثقين، وروى أبو داود من «حديث داود بن صالح التمار عن أمة أن مولاتها أرسلتها بهريسة إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فوجدتها تصلي فأشارت إلي ضعيها، فجاءت هرة فأكلت منها، فلما انصرفت أكلت من حيث أكلت الهرة، فقالت "إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم، وقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ بفضلها» ورواه الدارقطني وقال: تفرد به عبد العزيز الدراوردي عن داود بن صالح عن أمه بهذه الألفاظ. وروى ابن ماجه والدارقطني من حديث حارثة عن عمرة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت «كنت أتوضأ أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد قد أصابت منه الهرة قبل ذلك» وقال الدارقطني وحارثة لا بأس به، وأخرج ابن خزيمة في " صحيحه " عن سليمان بن مسافع بن شيبة الحجبي قال: سمعت منصور بن صفية بنت شيبة يحدث عن أمه صفية عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنها ليست بنجس إنها كبعض أهل البيت» يعني الهرة. وروى أبو(1/482)
ولهما قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الهرة سبع»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
داود عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة «أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا فجاءت هرة تشرب فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت نعم، فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات» وأخرجه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواية أبي داود والترمذي "بالواو"، ورواية الدارمي. وروي الوجهان عن مالك، وروى هذا الحديث أيضا ابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، والشافعي، وأبو يعلى، وحميدة بضم الحاء، وقيل: بفتحها بنت عبد بن رفاعة الأنصارية وابن أبي قتادة اسمه عبد الله، وأبو قتادة الحارث بن ربعي.
فإن قلت: ابن مندة أعل هذا الحديث بأن حميدة وخالتها كبشة محلهما محل الجهالة ولا يعرف لهما إلا هذا الحديث. قلت: لا نسلم ذلك لأن لحميدة حديثا آخر تشميت العاطس رواه أبو داود، ولها ثالث رواه أبو نعيم وأما خالتها فإن حميدة روى عنها إسحاق بن عبد الله وهو ثقة عند ابن معين، وأما كبشة فقال: إنها صحابية، فإن ثبت فلا يضر الجهل بها. قوله: "فيصغي لها" أي أماله ليسهل عليها الشرب. قال الجوهري: صغى يصغو يصغى صغوا أي أمال، وكذلك صغى بالكسر يصغي صغا وصغاء وصغت النجوم مالت للغروب وأصغيت أنا أملت قوله: «ليست بنجس» بفتح النون والجيم يقال: فكل المستقذر نجس سبعة الجن.
قوله: "فسكبت له وضوءا" بفتح الواو وهو الماء الذي يتوضأ به. قوله، "من الطوافين - " هم بنو آدم ويدخل بعضهم على بعض بالتكرار، والطوافات هي المواشي التي يكثر وجودها عند الناس مثل الغنم والبقر والإبل جعل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الهرة من القبيلين، لكثرة طوافها واختلاطها بالناس، وأشار إلى الكثرة بصيغة التفضيل؛ لأنه للتكثير والمبالغة، وموصوف كل واحد من الطوافين والطوافات محذوف أقيمت الصفة مقامه تقديره من الخدم الطوافين والحيوانات الطوافات.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الهرة سبع) ش:(1/483)
والمراد بيان الحكم دون الخلقة والصورة إلا أنه سقطت النجاسة لعلة الطواف فبقيت الكراهة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رواه أبو هريرة أخرجه عند الحاكم في " مستدركه " وقال: حديث صحيح ولم يخرجاه، ولكن لفظه «السنور سبع» ، وأخرجه الدارقطني أيضا بهذا اللفظ، ورواه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسانيدهم بلفظ " الهرة سبع "، وكذا في رواية مختصرة للدارقطني قال وكيع: " الهرة سبع ".
م: (والمراد به) ش: أي بهذا الحديث م: (بيان الحكم دون الخلقة والصورة) ش: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث لبيان الأحكام لأن الحقيقة لا يحتاج فيها إلى البيان النبوي لعلم كل أحد من الحاكة والرعاة أن ذلك الشيء حجر وذاك مدر وذلك شجر إلى غير ذلك، وسبعية الهرة حقيقة ظاهرة يصبو بها الحشرات، فصار المراد منه أن الهرة حكمها حكم السبع فكان ينبغي أن يكون سؤرها نجسا كسؤر سائر السباع.
م: (إلا أنه سقطت النجاسة لعلة الطواف) ش: المؤثر في التخفيف الدافع للحرج بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الهرة ليست بنجسة إنما هي من الطوافين والطوافات» م: (فبقيت الكراهة) ش: ولا يلزم من سقوط النجاسة سقوط الكراهة، وقد بين المصنف ذلك بقوله: "إلا أنه سقطت النجاسة لعلة الطواف" هذا كأنه جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: لما كانت الهرة سبعا كان ينبغي أن يكون سؤرها نجسا كسؤر سائر السباع، فأجابت بقوله: إلا أنه ... إلخ وقوله: "لعلة الطواف" يجوز أن يكون إشارة إلى ضرورة، فإن حكم النجاسة يسقط بها، ويجوز أن يكون إشارة إلى ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - المذكور عن قريب الذي رواه أبو داود والدارقطني، وذكره السغناقي في شرحه، ولفظه روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها كانت تصلي وفي بيتها قصعة من هريسة فجاءت هرة وأكلت منها، فلما فرغت من صلاتها دعت جارات لها فكن يتحابين عن موضع فمها، فمدت يدها وأخذت موضع فمها وأكلت، وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم - يقول: "الهرة ليست بنجسة إنما هي من الطوافين والطوافات عليكم"، فما لكن لا تأكلن» .
وهكذا ذكره الأكمل، وصاحب " الدراية " في شرحيهما ولم يتعرض أحد منهم إلى راويه ولا إلى مخرجه، ولا إلى هذه العبارة من ذكرها من أصحاب الحديث وليس عندهم إلا روى على أي وجه كان.
وقال الأكمل: فإن قيل: حديث أبي هريرة يدل على النجاسة فهو محرم فلا يرجح، فالجواب أن حديث أبي هريرة معلول دون حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فيقوى حديث عائشة بقوة حالها وقوة دلالته تعارض الحرمة.(1/484)
وما رواه محمول على ما قبل التحريم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: حديث أبي هريرة أقوى لأن الحاكم وغيره من أئمة الحديث صححوه، وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رواه الدارقطني وقال: تفرد به داود بن صالح، وكذا قال الطبراني والبزار وقال: لا يثبت، والذي ذكره خارج عن صنعة أهل الحديث وعن اصطلاح الفقهاء أيضا.
وكان ينبغي أن يرتب هذا السؤال والجواب من حديث أبي هريرة وحديث أبي قتادة، والذي رواه الإمام مالك وأخرجه الأربعة وصححه الترمذي.
فنقول وبالله التوفيق: إن حديث أبي هريرة لا يلحق حديث أبي قتادة في القوة فلا يخرج عليه.
فإن قلت: قال بعضهم قوله: «ليست بنجس» من قول أبي قتادة. قلت: قال ابن عبد البر هذا غلط، وروى الطبراني في " الصغير " من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن الحسين عن أنس قال: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أرض بالمدينة يقال لها بطحان فقال: "يا أنس اسكب لي وضوءا"، فسكبت له فلما قضى حاجته أقبل إلى الإناء وقد أتى هر فولغ في الإناء فوقف له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى شرب فذكرت له ذلك، فقال: " يا أنس إن الهر من متاع البيت لن يقذر شيئا ولن ينجسه» قال: تفرد به عمر بن حفص فبقيت الكراهة لأنه لا يلزم عن سقوط النجاسة سقوط الكراهة.
فإن قلت: إنما يكون كذلك لورود ذلك النص قبل هذا النص.
قلت: يراد من ذلك النص حرمة اللحم لكونه صريحا فيها ومن هذا النص كراهة السؤر.
م: (وما رواه) ش: أي ما رواه أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - من فعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يصغي له الإناء ... الحديث م: (محمول على ما قبل التحريم) ش: أي تحريم الهرة، وذلك في وقت تحريم السباع.
فإن قلت: من أين علم أن ما رواه أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - كان قبل التحريم.
قلت: إذا اجتمع المبيح والمحرم في قضية ولا يعلم التاريخ فالعمل للمحرم، وقيل: إذا لم يعلم التاريخ يجعل كأنهما وردا أيضا وإضافة الحرمة إلى ما هو صريح في التحريم أولى، وبقيت الكراهة لقصور العلة؛ لأنه يمكن أن تحفظ الأواني عنها بحيلة بأن تسد أفواهها، ويقال: يحمل ما رواه أبو يوسف على أن الهرة التي كانت في بيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كانت تأكل الفأرة كرامة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأما غيرها فيحمل على أنها شربت عقيب أكل الفأرة، ويحتمل غير ذلك فكان مكروها، وكراهة(1/485)
ثم قيل: كراهته لحرمة لحمه، وقيل: لعدم تحاميها النجاسة وهذا يشير إلى التنزه، والأول إلى القرب من التحريم، ولو أكلت الفأرة ثم شربت على فوره الماء تنجس الماء إلا إذا مكثت ساعة لغسلها فمها بلعابها، والاستثناء على مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سؤر الهرة يروى عن ابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين وعطاء ومجاهد ويحيى بن سعيد وابن أبي ليلى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (ثم قيل: كراهته لحرمة لحمه) ش: قائله الإمام أبو جعفر الطحاوي أي كون كراهة سؤر الهرة لأجل أن لحمها حرام لأنها عدت من السباع.
م: (وقيل لأجل عدم تحاميها النجاسة) ش: قائله الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعني كراهة سؤرها لأجل عدم احترازها عن النجاسة؛ لأنها تأكل الفأرة والجيفة وفمها لا يخلو عن النجاسة عادة.
م: (وهذا يشير إلى التنزه) ش: أي ما قاله الكرخي يدل على أن سؤرها مكروه كراهة تنزيهية وهو الأصح والأقرب إلى موافقة الحديث حيث قال فيه إنها ليست بنجس م: (والأول) ش: أي ما قاله الطحاوي م: (إلى القرب من التحريم) ش: وكلام المصنف أولا يدل على أنه أقرب إلى التحريم وبينهما تناقض ظاهر ويمكن دفعه بأن يقال: إن الحديث الذي فيه أنها ليست بنجس يدل على الطهارة.
وقوله: - الهرة سبع - يدل على النجاسة فدار أمر سؤرها بين الشيئين فالكرخي قال: كراهة تنزيه أخذا بالحديث الأول ولم يقل بالطهارة مطلقا من غير كراهة لعدم تجانبها النجاسة والطحاوي أخذ بالثاني ولم يقل بحرمته مطلقا لمعارضة الحديث الأول إياه، وأشار بهذا إلى أن الحرمة الأصلية باقية لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكل كل ذي ناب من السباع.
فإن قلت: كيف تقول الحرمة الأصلية باقية لنهيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنها ليست بنجس؟ قلت: إنما قال ذلك للضرورة؛ لأن لها حق الشرب من الأواني، ولهذا قال: إنها من الطوافين والطوافات وهم الخدم والمماليك ومن يخدم أهل البيت كما ذكرناه، وقد سقط الحجاب في حقهم للضرورة ومع قيام الحرمة الأصلية.
م: (فلو أكلت فأرة ثم شربت على فورها الماء) ش: أي لو أكلت الهرة فأرة ثم شربت على فورها الماء يعني قبل أن يسكن، قال الجوهري: يقال أتيت فلانا من فوري أي قبل أن أسكن، وفي بعض النسخ على فوره أي على فور الأكل أي عقبه من غير تراخ.
م: (يتنجس الماء بالإجماع) ش: وفي " المجتبى " وكذا لو شربت الخمر ثم شربت الماء على الفور يتنجس الماء بالإجماع م: (إلا إذا مكثت ساعة لغسلها فمها بلعابها والاستثناء) ش: من قوله: يتنجس الماء ولكنه م: (على مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: لأن عند محمد وزفر(1/486)
ويسقط اعتبار الصب للضرورة.
وسؤر الدجاجة المخلاة مكروه لأنها تخالط النجاسة، ولو كانت محبوسة بحيث لا يصل منقارها إلى ما تحت قدميها لا يكره لوقوع الأمن عن المخالطة، وكذا سؤر سباع الطير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا تجوز إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة غير الماء فلا يطهر فمها وفم السكران عندهم، ولو شربت الماء أو شربه السكران يطهر حينئذ فمه. وقيد المصنف المكث بالساعة وفي " المفيد" ساعة أو ساعتين، قال المرغيناني: هو الأصح. م: (ويسقط اعتبار الصب للضرورة) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: كيف يصح الاستثناء على قول أبي يوسف؛ لأن من مذهبه الصب شرط يعني صب الماء في الأبدان وتقرير الجواب: نعم الصب شرط عنده ولكنه هاهنا للضرورة. وفي " المفيد" أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يقل بطهارة فمها إذا غسلته بلعابها لاشتراط الصب في الأبدان.
[سؤر الدجاجة المخلاة وسباع الطير وما يسكن البيوت]
م: (وسؤر الدجاجة المخلاة مكروه) ش: المخلاة بالخاء المعجمة وهي الثيبة الدائرة في عذرات الناس، وقيل بالجيم وهي التي تأكل الجلة بفتح الجيم. وقال الجوهري: هي النعم، وقال أيضا هي الجلالة التي تأكل العذرة، وفي ذلك نظر، فمن يقول مجلاة بالجيم لأنه إن كان من جل البقرة يجل أي التقط من باب نصر ينصر يكون الفاعل منه جال للذكر وجالة للأنثى، والمجلاة من باب جلى يجلي تجلية واستوى الفاعل والمفعول فيه في تقدير مختلف، ولكن معنى هذا الباب لا يساعد من يدعي ذلك، وأما المخلاة بالخاء فهو من خلا يخلو تخلية ومعناه صحيح في هذا الباب م: (لأنها تخالط النجاسة) ش: أي لأن المخلاة تخالط النجاسة فيكره سؤرها لأن منقارها لا يخلو عن قذر وشك في نجاستها والشك لا يعارض اليقين فأثبت الكراهة للاحتمال.
م: (ولو كانت محبوسة) ش: أي ولو كانت الدجاجة محبوسة للمقيمين ويكون أكلها وشربها خارج البيت أشار إليه بقوله م: (بحيث لا يصل منقارها إلى ما تحت قدميها لا يكره لوقوع الأمن عن المخالطة) ش: أي من مخالطة النجاسة، وإن كانت محبوسة في بيت أو في قفص فإنها تجول في عذرات نفسها فلا تؤمن من مخالطة النجاسة فيكره حينئذ سؤرها، وهذا الذي ذكره المصنف هو الذي ذكره الإمام الحاكم عبد الرحمن.
وفي " مبسوط شيخ الإسلام " لو كانت محبوسة لا يكره لعدم النجاسة على منقارها من حيث الحقيقة ولا من حيث الاعتبار لأنها لا تجد عذارت غيرها حتى تجول فيها وهي في عذرات نفسها لا تجول وكذا سؤر الإبل الجلالة والبقر الجلالة مكروه لاحتمال نجاسة الفم.
م: (كذا سؤر سباع الطير) ش: هذا عطف على قوله - وسؤر الدجاجة المخلاة - فيكون داخلا في حكم الكراهة وسباع الطيور كالصقر والبازي والشاهين والعقاب وكل مالا يؤكل لحمه من الطيور، وهذا الذي ذكره الاستحسان والقياس بنجسه فيه كسباع البهائم والجامع حرمة اللحم،(1/487)
لأنها لا تأكل الميتات فأشبه الدجاجة المخلاة، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها إذا كانت محبوسة يعلم صاحبها أنه لا قذر على منقارها، ولا يكره لوقوع الأمن عن المخالطة، واستحسن المشايخ هذه الرواية
وسؤر ما يسكن البيوت كالحية والفأرة مكروه؛ لأن حرمة اللحم أوجبت نجاسة السؤر إلا أنه سقطت النجاسة لعلة الطواف فبقيت الكراهة، والتنبيه على العلة في الهرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجه الاستحسان ما ذكره في " المبسوط " و" المحيط " لأنها تشرب بمنقارها وهو عظم جاف بخلاف البهائم فإنها تشرب بلسانها وهو رطب لعابها، ولأن في سباع الطير ضرورة وعم بلوى فإنها تنقض من علو وهوي، ولا يمكن حول الأواني عنها لا سيما في البراري والصحاري فأشبهت الفأرة والحية، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن ما يقع على الجيف منها فسؤره نجس؛ لأن منقارها لا يخلو عن نجاسة في العادة والحية نجس والبازي والصقر ونحوهما إذا كانت تأكل اللحم الذي لا يكره، ذكره في " المحيط ".
م: (لأنها لا تأكل الميتات فأشبهت الدجاجة المخلاة) ش: أي لأنها سباع الطير تأكل الجيف والميتات فأشبه الدجاجة المخلاة فيكون سؤرها مكروها وباقي فيها تقسيم المخلاة كما ذكرنا م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنها إذا كانت محبوسة يعلم صاحبها أنه لا قذر على منقارها لا يكره لوقوع الأمن عن المخالطة) ش: أي أن سباع الطير، وفي " المحيط " وكأن أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبر الكراهة لتوهم إيصال النجاسة إلى منقارها لا وصول لعابها إلى الماء وقال: إذا لم يكن على منقارها نجاسة لا يكره التوضؤ بسؤرها م: (واستحسن المشايخ هذه الرواية) ش: أي المذكورة عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأفتوا بها.
م: (وسؤر ما يسكن البيوت كالحية والفأرة مكروه لأن حرمة اللحم أوجبت نجاسة السؤر) ش: أي سؤر ما يسكن في البيوت م: (إلا أنه) ش: أي إلا أن الشأن م: (سقطت النجاسة لعلة الطواف فبقيت الكراهة) ش: لأن سقوط النجاسة لا يستلزم عدم الكراهة. م: (والتنبيه على العلة في الهرة) ش: قال الأكمل: قيل معناه وبقي التنبيه على العلة التي كانت في الهرة: قلت: قائله السغناقي، وتمام كلامه يعني أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل سقوط النجاسة في سؤر الهرة بعلة الطواف بقوله: «إنها من الطوافين والطوافات عليكم» دفعا للحرج، فكان مقتضى ذلك التعليل أن يوجد الحكم المرتب على تلك العلة فيما وجدت تلك العلة فقد وجدت تلك العلة وهي الطواف في سواكن البيوت بعينها بل أزيد منها فيثبت ذلك الحكم المرتب عليها أيضا وهو سقوط النجاسة في سواكن البيوت كما في الهرة.
وقال الأكمل أيضا: قيل: هو جواب سؤال. قلت: قائله الأترازي فإنه قال: هذا جواب سؤال مقدر وهو أن يقال: كيف عللتم سقوط نجاسة سؤرها في سواكن البيوت بعلة الطواف، فمن أين نبهتهم هذه العلة وهل لها أثر شرعي حتى يعتبر، فأجاب عنه وقال التنبيه على علة سقوط النجاسة في سؤر سائر سواكن البيوت حاصل في الهرة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبهنا عليها وعللها في الهرة(1/488)
قال: وسؤر الحمار والبغل مشكوك فيه، وقيل: الشك في طهارته؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال: «الهرة ليست بنجسة إنما هي من الطوافين والطوافات عليكم» وأشار بتعليله إلى قول الله عز جل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58] (النور: الآية 58) سقط الاستئذان بعلة الطواف دفعا للحرج وسقط النجاسة في سؤر الهرة بعلة الطواف دفعا للحرج أيضا.
قلت: كل منهما أطال الكلام من غير حصول المراد فأقول: قوله والتنبيه مبتدأ وخبره متعلق قوله في الهرة، والتقدير والتنبيه على علة كراهة سؤر سواكن البيوت هي المذكورة في حكم الهرة، وهي علة الطواف التي أسقطت النجاسة فيها فكما أن الطواف علة في حكم سؤر الهرة فكذلك في سواكن البيوت فنبه المصنف على العلة في سؤر الهرة حتى يسقط البدل في علة سؤر سواكن البيوت فافهم.
[سؤر الحمار والبغل والفرس]
م: (وسؤر الحمار والبغل مشكوك فيه) شك وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - طاهر وطهور وفي "المغني" لابن قدامة، والنوع الثاني: ما اختلف فيه وهو سؤر السباع إلا السنور وما دونها في الخلقة، وكذلك جوارح الطير والحمار الأهلي والبغل، فعن أحمد أن سؤرها نجس إذا لم يجد غيره تيمم وتركه، وروي عن ابن عمر أنه كره سؤر الحمار وهو قول الحسن وابن سيرين والشعبي والأوزاعي وحماد وإسحاق، وعن أحمد: إذا لم يجد غير سؤر البغل والحمار يتيمم معه، ثم قال: والصحيح عندي طهارة البغل والحمار؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يركبهما في زمنه وفي عصر الصحابة، فلو كان نجسا لبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم ذلك. وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الخمر: إنها رجس أراد بها محرمة كقوله تعالى في الميسر والأنصار والأزلام: {رِجْسٌ} [المائدة: 90] . وفي " المبسوط " وكان أبو طاهر الدباس ينكر هذا ويقول: لا يجوز أن يكون في شيء من حكم الشرع مشكوكا فيه ولكن معناه يحتاط فيه فلا يجوز أن يتوضأ به في حالة الاختيار، وإذا لم يجد غيره يجمع بينه وبين التيمم احتياطا.
قلت: المشايخ قالوا بالشك لتعارض الأدلة في طهارته وعدم طهارته لا أن يعني أن يكون شيء من أحكام الشرع مشكوكا للجهل بحكم الشرع. وفي " شرح القدوري " القول بالوقف عند تعارض الأدلة دليل العلم وغاية الورع. .
م: (وقيل الشك في طهارته) ش: فلو وقع في الماء القليل يفسده، وقال قاضي خان: ولو أصاب الثوب أو البدن لا يفسده، وروى الكرخي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن سؤر الحمار نجس إلا أنه سقط في حق الآدمي للحرج، ومن المشايخ من قال بنجاسة سؤر الحمار دون الأتان؛ لأن الحمار نجس فمه لشبه البول، وفي " البدائع " هذا موهوم فلا ينجس، وقال قاضي خان: والأصح أنه لا فرق بينهما. وقال السروجي: الإجود أن يكون قيل بغيره أو لأنه أول القولين فلا عطف، وكذا قاله صاحب " الدراية ".(1/489)
لأنه لو كان طاهرا لكان طهورا ما لم يغلب اللعاب على الماء. وقيل: الشك في طهوريته لأنه لو وجد الماء المطلق لا يجب عليه غسل رأسه، وكذا لبنه طاهر، ولا يؤكل وعرقه لا يمنع جواز الصلاة وإن فحش
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لا فساد في العطف، وكيف ينفي العطف بكونه أول القولين حتى يدعى الأجودية. م: (لأنه) ش: أي لأن سؤر الحمار والبغل م: (لو كان طاهرا لكان طهورا ما لم يغلب اللعاب على الماء) ش: لأن اختلاط الطاهر بالماء لا يخرجه عن الطهورية ما لم يغلب كما إذا اختلط ماء الورد بالماء لكن ينبغي أن يمنع من شربه؛ لأن لعاب ما لا يؤكل لحمه موجود فيه كلبن الأتان. وقال الوتري: الشك في حكم الطهارة، وفي حق الشرب وغيره طاهر وكذا لو شرب الحمار من لبن أو عصر. م: (وقيل الشك في طهوريته) ش: في كونه طاهرا لغيره م: (لأنه) ش: أي لأن الذي يراد الوضوء م: (لو وجد الماء) ش: المطلق م: (لا يجب عليه غسل رأسه) ش: يعني بعد ما مسح رأسه بسؤر الحمار وجد ماء مطلقا لا يجب عليه غسل رأسه، فلو كان الشك في طهارته لو جب وإنما عين الرأس دون غيره من الأعضاء؛ لأن غيره من الأعضاء يطهر بصب الماء عليه حقيقة وحكما.
فإن قلت: هذا غير لازم لأن الرأس قبل المسح عليه بالماء المشكوك في طهارته فلا يدفع بالشك. قلت: مراده بعد ما توضأ به، فإن الحدث قد حل بالرأس فإذا مسح عليه بالمطلق يكون حكم البلة حكم الماء المشكوك في كونه طاهرا وعلى تقدير كونه نجسا يتنجس البلة فلا يرتفع به الحدث فلا يرفع الشك فيجب غسل رأسه لهذا المعنى، فلما لم يجب دل على أن الشك في طهوريته لا في طهارته.
م: (وكذا لبنه طاهر) ش: قال السروجي كان ينبغي أن يقول وكذا لبنها؛ لأن اللبن من الأتان دون الحمار. قلت: الحمار يتناول الذكر والأنثى ويقال: الأنثى خاصة حمارة، وقيل: هذا ليس بظاهر الرواية. وظاهر الرواية أنه نجس والذي ذكره هو رواية عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي " المحيط " لبنة نجس في ظاهر الرواية، واعتبر التمرتاشي والبزدوي فيه الكثير الفاحش هو الصحيح، وعن شمس الأئمة أنه نجس نجاسة غليظة؛ لأنه حرام بالإجماع وفي " فتاوى قاضي خان " في طهارته روايتان. م: (ولا يؤكل) ش: أي اللبن، وقال السروجي: والأحسن أن يقول: لا يشرب قلت: اللبن يؤكل ويشرب، وإنما اختار لفظ الأكل؛ لأنه إذا كان حراما فالشرب بطريق الأولى والأكل في الألبان أكثر من الشرب عادة، ثم الطهارة على قول محمد لا تستلزم جواز الأكل كالتراب ونحوه.
م: (وعرقه) ش: أي عرق الحمار طاهر م: (لا يمنع جواز الصلاة وإن فحش) ش: هذه إحدى الروايات عن أبي حنيفة وفي أخرى نجس مخفف، وفي أخرى مغلظ قال القدوري: إن عرق الحمار طاهر في الروايات المشهورة، كذا في " المحيط "، وفي " المنتقى " عن محمد لبن الأتان(1/490)
فكذا سؤره وهو الأصح ويروى نص عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - طهارته. وسبب الشك تعارض الأدلة في إباحته وحرمته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كلعابها وعرقها يفسدان الماء دون الثوب. وفي المغني لابن قدامة كل حيوان حكم الحيوان حكم جلده وشعره وعرقة ودمعه ولعابه حكم سؤره في الطهارة والنجاسة.
م: (فكذا سؤره) ش: أي كذا سؤره طاهر؛ لأن العرق لا يتولد منه، وكذا لبنه فإذا كانا طاهرين فالسؤر كذلك م: (وهو الأصح) ش: أي القول بأن الشك في طهوريته هو الأصح، فإذا كان الشك في طهوريته على الأصح كان بقاؤه على الطهارة بلا شك.
م: (ويروى نص عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على طهارته) ش: أي على طهارة سؤره وقال الأترازي: أي على طهارة عرقه والأول أوجه؛ لأن الذي نص عن محمد ليس فيه ذكر العرق على ما يجيء الآن وكان العرق كالسؤر. وقال السغناقي: وهو ما روي عن محمد أنه قال: أربع لو غمس فيهن الثوب لم ينجس وهو سؤر الحمار والماء المستعمل ولبن الأتان وبول ما أكل لحمه كذا في " المبسوط " لشيخ الإسلام، وذكر قاضي خان وغيره في " شرح الجامع الصغير "، قال: لو غمس الثوب فيه يجوز الصلاة مع الماء المستعمل وسؤر الحمار وبول ما يؤكل لحمه.
قلت: كان ينبغي أن يقال: ثلاثة لو غمس الثوب فيها لأن الماء والسؤر والبول كل منها مذكور فتحت تأويلات لا يعود الضمير إليها مفردا مذكورا، وكذا الكلام في قوله أربعا.
م: (وسبب الشك تعارض الأدلة في إباحته وحرمته) ش: لم يتعرض أحد من الشراح إلى بيان عود الضمير في إباحته وحرمته وبيانه.
فإن قلت: يرجع إلى السؤر كما هو الظاهر فالأدلة لم تتعارض فيه وإنما تعارضها في لحم الحمار، وإن قلت: إلى اللحم فهو غير المذكور، فأقول إنه يرجع إلى الحمار لأن الاختلاف فيه فيكون المعنى تعارض الأدلة في إباحة لحم الحمار وحرمته، وأراد بالأدلة الأخبار والآثار.
واختلف المشايخ فيه فمنهم من قال: سبب الشك في سؤر الحمار تعارض الأدلة الواردة في الأحاديث، ومنهم من قال: اختلاف الصحابة في طهارته فالقسم الأول الأحاديث الواردة، أما الحرمة ففي " الصحيحين " عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر وأذن في لحم الخيل» أخرجه البخاري.
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لحوم الخيل والبغال والحمر» وأخرجه(1/491)
أو اختلاف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في نجاسته وطهارته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبو داود والنسائي وابن ماجه.
أما الإباحة ففي " سنن أبي داود " من «حديث غالب بن أبجر أصابتنا سنة فلم يكن في مالي شيء أطعم أهلي إلا شيء من حمر، وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم لحوم الحمر الأهلية فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا رسول الله أصابتنا السنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلى إلا سمان حمر وإنك حرمت الحمر الأهلية، فقال: "أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل جوال القرية» .
وأشار إلى القسم الثاني بقوله م: (أو اختلاف الصحابة في نجاسته وطهارته) ش: أي في نجاسة سؤر الحمار وطهارته وعطف اختلاف الصحابة على تعارض الأدلة يوهم أن اختلاف الصحابة غير الأدلة وليس كذلك فإن أقوال الصحابة من جملة الأدلة واختلافهم في سؤره هو ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول: تعلف القت والطين فسؤره طاهر.
وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول: إنه رجس تعارض القولان فصار سؤر الحمار مشكوكا فيه؛ لأن التوفيق عند تعارض الأدلة واجب، والتعارض يقابل الدليلين والمعارضة المقابلة على سبيل الممانعة وذلك أن يوجب أحد الدليلين الحل والآخر الحرمة أو غير ذلك، ولما كان الأمر في سؤر الحمار وقع كذلك أو وقع الشك فقلنا: إنه لا يطهر النجس ولا ينجس الطاهر.
فإن قلت: ينبغي أن يرجح دليل الحرمة. قلت: الأصل في التعارض الجمع، وقد أمكن كما قلنا، كذا قاله تاج الشريعة، وقال شيخ الإسلام في " مبسوطه ": هذا لا يقوى، لأن لحمه حرام بلا إشكال؛ لأنه اجتمع المحرم والمبيح فغلب المحرم عليه كما لو أخبر عدل بأن هذا اللحم ذبيحة مجوسي والآخر أنه ذبيحة مسلم فإنه لا يحل أكله لعلة الحرمة فكان لحمه حراما بلا إشكال ولعابه مولد منه فيكون نجسا بلا إشكال.
وقال الأكمل: وفيه نظر؛ لأنه مستلزم نجاسة لبنه وقد تقدم من قول المصنف أنه طاهر. والجواب بالإلزام فإنه في ظاهر الرواية نجس كما تقدم.
قلت: ما تعرض شيخ الإسلام إلى لبنه حتى يستلزم ما يقوله بنجاسته فالنظر ضعيف فكذلك أجاب بالالتزام. والجواب الواضح ما قاله شيخ الإسلام أن الأصل في التعارض الجمع إلا إن لم يكن ولم يمكن في اللحم للتضاد وفي السؤر ممكنة بأن يكون واجب الاستعمال عملا بدليل الطهارة، ووجب التيمم عملا بدليل النجاسة.(1/492)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: المرجح هنا المحرم. قلت: يقوى المبيح بقوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (الحج: الآية 78) ولأن المحرم لا يرجح عند تعارض الحاجة والضرورة كما في الهرة.
فإن قلت: لا يصير الماء مشكوكا بتعارض الخبرين كما في مسألة خبر العدلين أحدهما: أخبر بطهارة الماء، والآخر بنجاسته. قلت: لا تعارض ثمة لأنه أمكن ترجيح أحدهما، فإن المخبر عن طهارته لو استقصى ذلك وقال: أخذته من البئر وسددت فم الماء ولم يخالطه شيء ورجحنا خبره لفائدة بالأصل وإن كان مبنى خبره على الاستصحاب رجحنا خبر النجاسة؛ لأنه أخبر عن محسوس مشاهد، فأما في سؤر الحمار فالتعارض قائم؛ لأن لحمه نجس وعرقه طاهر، والبلوى فيه من وجه دون وجه فلا يمكن إلحاقه بأحدهما فوجب المصير إلى ما كان ثابتا فلا يطهر به نجس ولا ينجس به طاهر، فإن عرف الماء طاهرا فوجب أن يبقى كذلك، فإن اليقين لا يزول بالشك.
قلت: وجب أن يكون مشكوكا فيه كلعاب الحمار؛ لأن الماء إذا أصابه شيء يوصف بصفة بصنعة ذلك الشيء، والأصح في التمسك أن دليل الشك هو تردد في الضرورة، فإن الحمار يربط في الدور والأبنية ويشرب من الأواني وللضرورة أثر في إسقاط النجاسة كما في الهرة والفأرة إلا أن الضرورة دون الضرورة فيهما لدخولهما تضايق البيت بخلاف الحمار، ولو لم تكن الضرورة ثابتة أصلا كما في الكلب والسباع لوجب الحكم بالنجاسة بلا إشكال، ولو كانت الضرورة فيهما لوجب الحكم بإسقاط النجاسة، فلما ثبتت الضرورة من وجه دون وجه واستوى موجب النجاسة والطهارة تساقطا للتعارض فوجب المصير إلى الأصل، والأصل هاهنا بيان الطهارة في جانب الماء والنجاسة في جانب اللعاب؛ لأن لعابه نجس كما بينا وليس أحدهما بأولى من الآخر فبقي الأمر مشكلا نجسا من وجه طاهرا من وجه، فكان الإشكال عند علمائنا بهذا الطريق لا للإشكال في لحمه ولا لاختلاف الصحابة في سؤره، وبهذا التقدير يندفع كثير من الأسئلة.
وقال الأكمل: وهاهنا نكتة لا بأس بالتنبيه عليها وبناءها على كون المراد بالنجاسة إما قبل الذبح أو بعده ثم بعد التطويل، قال: نعلم من هذا أن اللعاب المتولد من اللحم مأكول بعد الذبح طاهر بلا كراهة دون غيره إضافة الحكم إلى الفأر في صيانة حكم الشرع عن المناقضة ظاهرا هذا ما سنح لي والله أعلم.
قلت: لا دخل في الذبح وتفصيله هاهنا، والكلام في حكم السؤر وهو لا يتصور بعد الذبح والأصل في هذا الباب اللعاب، فإن كان من حيوان مأكول كان طاهرا فسؤره طاهر، وإن كان من حيوان غير مأكول كان نجسا فسؤره نجس إلا أنه خولف فيه في سؤر الحمار مع كونه غير مأكول وسؤره طاهر كما ذكرنا من الوجوه فيه.(1/493)
وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه نجس ترجيحا للحرمة والنجاسة، والبغل من نسل الحمار فيكون بمنزلته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه نجس) ش: أي روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن سؤر الحمار نجس رواه عنه وقد ذكرناه مرة م: (ترجيحا للحرمة والنجاسة) ش: ترجيحا نصب على المصدرية تقديره رجح أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ترجيحا، ويجوز أن يكون حالا أي حكم أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بنجاسة سؤر الحمار حال كونه مرجحا للحرمة لتعارض الأدلة [ ... ] لاختلاف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ويجوز أن يكون المعنى ترجيحا للحرمة؛ لأن المحرم مرجح للنجاسة، لأنه إذا ترجح المحرم تترجح النجاسة أيضا لامتناع الطهارة مع الحرمة قاله الأكمل، وفيه نظر؛ لأن الطهارة لا تمتنع بالحرمة وكم من طاهر حرام.
وقال الأكمل أيضا في هذا الموضع واستشكل بما إذا أخبر عدل بحل طعام وآخر بحرمته فإنه يترجح خبر الحل كما إذا أخبر عدل بطهارة الماء وآخر بنجاسته ترجح الطهارة.
قلت: هاهنا إشكالان أحدهما: لحافظ الدين ذكره في " الكافي " عند قوله والنجاسة، والآخر لصاحب " الدراية " عن شيخه عند قوله للحرمة. والجواب عن الأول أن تعارض الخبرين في الطعام يوجب التهاتر والعمل بالأصل وهو الحل، ولا يجوز ترجيح الحرمة بالاحتياط لاستلزامه تكذيب الخبر بالحل عن غير دليل، وأما تعارض أدلة الشرع في حل الطعام وحرمته فيوجب الترجيح بدليل وهو تعليل النسخ الذي هو خلاف الأصل.
والجواب عن الثاني: أن تعارض الخبرين في الماء يوجب التهاتر والعمل بالأصل لوقوع الشك في اختلاط النجاسة، والأصل عدمه فبقي الماء على أصلة وهو الطهارة. أم هاهنا فقد اختلط اللعاب المتولد من اللحم بالماء بيقين. وقد ترجح الحرمة فيه باتفاق الروايات عن أصحابنا وهي مبنية على النجاسة على ما بينا فيجب ترجيح النجاسة بهذا الدليل.
م: (والبغل من نسل الحمار) ش: هذا جواب عما يقال قد يثبت حكم سؤر الحمار وما فيه من الأمور المذكورة وما حكم البغل وحكم سؤره في ذلك مع أنك قلت: وسؤر الحمار والبغل مشكوك فيه؟ فأجاب بقوله: والبغل من نسل الحمار م: (فيكون بمنزلته) ش: بمنزلة الحمار في أحكامه. وقال السروجي: فيه نظر، فإن البغل متولد بين الحمار والفرس فعلى قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحتاج إلى جعله من نسل الحمار بل نسل أيهما كان يحرم، وأما على قوليهما فمشكل، فإن المنظور إليه الأم فإن كانت الأم مأكولة اللحم حل أكل ما تولد منهما، وإن كان الأب غير مأكول اللحم ويدل عليه أن الذئب إذا نزى على شاة فولدت ذئبا حل أكله ويجزئ في الأضحية ذكره صاحب " الكافي " في الأضحية.(1/494)
فإن لم يجد غيرهما يتوضأ بهما ويتيمم، ويجوز أيهما قدم. وقال زفر: لا يجوز إلا أن يقدم الوضوء؛ لأنه ماء واجب الاستعمال فأشبه الماء المطلق، ولنا أن المطهر أحدهما فيفيد الجمع دون الترتيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: في قوله فإن البغل متولد بين الحمار والفرس؛ لأن البغل قد يتولد بين الحمار والبقر فإنه يؤكل بلا خلاف وإن كان متولدا بين الحمار والفرس فيجري فيه الخلاف.
م: (فإن لم يجد غيرهما) ش: هذا تفريع على ما قبله فكذلك ذكر بالفاء أي فإن لم يوجد غير سؤر الحمار وسؤر البغل م: (يتوضأ بهما) ش: أي سؤر الحمار والبغل وينبغي أن يقول. . فإن لم تجد غيره أي غير سؤر الحمار والبغل م: (يتوضأ بهما ويتيمم ويجوز أيهما) ش: أي الاثنين أعني التوضؤ بالسؤر والتيمم م: (قدم) ش: وكلمة أي هنا شرطية كما في قَوْله تَعَالَى: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [القصص: 28] (القصص: الآية 28) .
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز إلا أن يقدم الوضوء) ش: فيجب أن يؤخر التيمم وبه قال أحمد في رواية م: (لأنه) ش: أي لأن سؤر الحمار والبغل م: (ماء واجب الاستعمال) ش: وهذا قول ابن تيمية ووافقنا زفر عليه، ووجهه أن التيمم إنما يجوز عند عدم الماء نتيجة الواجب الاستعمال، وهذا ما وجب استعماله بالإجماع، فصار كالماء المطلق به وهو معنى قوله م: (فأشبه الماء المطلق) ش: هذه نتيجة قوله: ماء واجب الاستعمال، فإذا كان واجب الاستعمال شبه الماء المطلق فوجب استعماله حتى إنه إذا تيمم ولم يتوضأ به لا يجوز.
فإن قلت: هل الجمع بينهما واجب أم لا؟
قلت: قال قاضي خان وقال في كتاب الصلاة رجل لم يجد إلا سؤر الحمار فإنه يتوضأ به والأفضل أن يتيمم معه، فإن تيمم ولم يتوضأ به لا يجوز، وقال: وهذا اللفظ لا يوجب الجمع بينهما، وجه الجمع بينهما أنه مشكوك في طهوريته على الصحيح فلا بد من التيمم لاحتمال أنه لا يرفع الحدث وحده.
م: (ولنا أن المطهر أحدهما) ش: أي أحد سؤر الحمار والتيمم م: (فيفيد الجمع دون الترتيب) ش: الضمير في - فيفيد - يرجع إلى قوله مطهر أحدهما، وقوله: - الجمع - منصوب به، وقال الأكمل: الضمير في - فيفيد - راجع إلى قوله: يتوضأ بهما ويتيمم. قلت: كان ينبغي على قوله أن يقول: - فيفيدان الجمع -، لأن المذكور اثنان سؤر الحمار والتيمم، وهذا على تقدير أن يكون قوله الجمع منصوبا، وأما إذا قرئ مرفوعا بأن يكون فاعل - فيفيد - فلا حاجة إلى هذا التكلف بل الأولى الرفع؛ لأن المفيد هو الجمع بين سؤر الحمار والتيمم والترتيب غير مفيد؛ لأن الماء إن كان طهورا فلا معنى للتيمم تقدم أو تأخر وإن لم يكن طهورا فالمطهر هو التيمم تقدم أو تأخر وجود(1/495)
وسؤر الفرس طاهر عندهما، لأن لحمه مأكول، وكذا عنده في الصحيح؛ لأن الكراهة لإظهار شرفه
فإن لم يجد إلا نبيذ التمر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذا الماء وعدمه سواء، وإنما يجمع بينهما لعدم العلم بالمطهر بهما عينا، وفي " النهاية " المراد بالجمع أن لا تخلو صلاة واحدة عنهما حتى لو توضأ بالسؤر وصلى ثم أحدث وتيمم وصلى تلك الصلاة جاز، لأنه جمعهما في صلاة واحدة.
فإن قيل: هذا الطريق مستلزم أداء الصلاة بغير طهارة في أحد المرتين لا محالة وهو مستلزم الكفر لتأديته إلى الاستخفاف بالدين فينبغي أن لا يجوز، ويجب الجمع في أداء واحد، قلت: إذا كان فيما أدى بغير طهارة بيقين، فأما إذا كان أداؤه بطهارة من وجه فلا استخفاف؛ لأنه عمل بالشرع من وجه وهاهنا كذلك لأن واحدا من السؤر والتراب مطهر من وجه دون وجه فلا يكون الأداء بغير طهارة من كل وجه، فلا يلزم منه الكفر كما لو صلى حنفي بعد الفصد والحجامة لا تجوز صلاته ولا يكون كافرا لمكان الاختلاف وهذا أولى بخلاف ما لو صلى بعد البول في " جامع المستوفى " عن نصير في رجل لم يجد إلا سؤر حمار يهرق ذلك حتى يصير عادما للماء ثم يتيمم، واختار الصفار ذلك وعن محمد "في النوادر ": توضأ بسؤر الحمار وتيمم ثم أصاب ماء نظيفا ولم يتوضأ به حتى ذهب الماء ومعه سؤر الحمار أعاد التيمم دون الوضوء؛ لأنه إذا كان مطهرا فقد توضأ به، وإن كان نجسا فليس عليه الوضوء في المرة الأولى ولا في المرة الثانية.
م: (وسؤر الفرس طاهر عندهما) ش: أي عند أبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله - م: (لأن لحمه مأكول) ش: عندهما، وذكر في الأصل لا بأس بسؤر الفرس من غير ذكر خلاف. وفي " المبسوط " سؤر الفرس طاهر في ظاهر الرواية م: (وكذا عنده في الصحيح) ش: أي وكقولهما طاهر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المروي الصحيح وهو ورواية كتاب الصلاة. وفي " المحيط ": وفي سؤر الفرس عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أربع روايات، روى البلخي عنه: أحب إلي أن يتوضأ بغيره. وروى الحسن عنه: أنه مكروه كلحمه، وروي أنه: مشكوك كسؤر الحمار، وفي رواية: طاهر كقولهما.
م: (لأن الكراهة) ش: أي كراهة لحمه م: (لإظهار شرفه) ش: لأنه يرهب به عدو الله فيقع إعزاز الدين وإعلاء كلمة الله كما يقع بالآدمي لهذا اختص من بين الحيوانات بإفراد السهم كالآدمي فلا يؤثر تحريمه في سؤره كما في الآدمي.
[حكم الطهارة بنبيذ التمر]
م: (فإن لم يجد إلا نبيذ التمر) ش: أي فإن لم يجد من يريد الصلاة وهو محدث إلا نبيذ(1/496)
قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يتوضأ به ولا يتيمم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التمر، وجه المناسبة في ذكره هذه المسألة هاهنا هو أن له شبها خاصا بسؤر البغل والحمار على قول محمد، فإنه يقول بضم التيمم إلى الوضوء به احتياطا كما يجيء عن قريب، فلذلك قال: فإن لم يجد بالفاء فإن فيه بيان الجمع بين التيمم والسؤر وهذا أحسن من ذكره بالواو؛ لأنه لمجرد العطف بخلاف الفاء، فإنه يدل على معان مختلفة مع العطف كما ذكر في موضعه.
ثم إن النبيذ فعيل بمعنى مفعول في نبذت الشيء إذا طرحته وهو الماء الذي نبذ فيه تمرات لتخرج حلاوتها إلى الماء، وفي " النهاية" لابن الأثير: النبيذ ما يعمل من الأشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير وغير ذلك، يقال: نبذت التمر والعنب إذا نزلت عليه الماء ليصير نبيذا مصرف من مفعول إلى فعيل، وأنبذته إذا اتخذته نبيذا وسواء كان مسكرا أو غير مسكر فإنه يقال له: نبيذ ويقال للخمر المعتصر من العنب نبيذ كما يقال للنبيذ خمر، وقال ابن فارس في " المجمل ": نبذت الشيء أنبذه إذا ألقيته من يدك، ونبيذ التمر يلقى في الآنية ويصب عليه الماء.
قلت: هو من باب فعل بالفتح في الماضي والكسر في المضارع كضرب يضرب وكذا ذكره صاحب " الدستور "، وقال ابن سيده: النبيذ طرحك الشيء وكل طرح نبيذ، والنبيذ التمر المطروح، والنبيذ ما نبذته من عصير ونحوه، وقد نبذ وانتبذ ونبذ، وفي " الصحاح " العامة تقول: أنبذت وكذا ذكره في كتاب " الشرح " لابن درستويه، وذكر الخيالي في " نوادره " ومن خط الحافظ أنبذت لغة لكنها قليلة وذكره أيضا في كتاب فعلت وأفعلت، وفي " الجامع " للفراء وكثرة الناس يقولون: نبذت النبيذ بغير ألف. وحكى الفراء عن الرازي: أنبذت النبيذ قال: ولم أسمعها أنا من العرب، وفي " الكافي " أنبذت النبيذ لغة عامة ونبذت الشيء نبذا شدة للمبالغة.
م: (قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتوضأ به) ش: أي نبيذ التمر م: (ولا يتيمم) ش: لتعيين نبيذ التمر، وقال أبو بكر الرازي في كتابه " أحكام القرآن " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه ثلاث روايات، وهذه هي المشهورة، قال قاضي خان: وهي قوله الأول وهو قول زفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قال الرضي وقاضي خان: ذكر في كتاب الصلاة إن تيمم معه أحب إلي وروي عنه الجمع بين سؤر الحمار وبه قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وروى عنه نوح بن أبي مريم وأسد بن عمر والحسن أنه يتيمم ولا يتوضأ، قال قاضي خان: هو الصحيح وهو قوله الأخير، وقد رجع إليه وبه قال أبو يوسف ومالك والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وغيرهم من العلماء وهو اختيار الطحاوي.
وروى الحسن والمعلى عن أبي يوسف الجمع بينهما وذكر قاضي خان ولو وجد نبيذ التمر(1/497)
(لحديث ليلة الجن)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والماء المشكوك فيه والتراب يتوضأ بالنبيذ لا غير، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجمع بين المشكوك والتيمم. وعند محمد يجمع بين الثلاث، ولو ترك واحدا منهما لا تجوز ذكر ذلك المرغيناني والأسبيحابي والتقديم والتأخير في ذلك سواء. وحكي عن ابن طاهر الدباس - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: إنما اختلفت أجوبة أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لاختلاف الأسئلة فإنه سئل عن التوضؤ إذا كانت الغلبة للحلاوة، قال: يتيمم ولا يتوضأ، وسئل عنه أيضا إذا كان الماء والحلاوة سواء ولم يغلب أحدهما على الآخر، قال: يجمع بينهما، وقال السغناقي: وعلى هذه الطريقة لا يختلف الحكم بين نبيذ التمر وسائر الأنبذة، وسئل عنه أيضا إذا كانت الغلبة للماء فقيل يتوضأ به ولا يتيمم.
وذكر القدوري في شرحه عن أصحابنا التوضؤ بنبيذ التمر لا يجوز إلا بالنية كالتيمم؛ لأنه بدل عن الماء كالتيمم حتى لا يجوز التوضؤ به حال وجود الماء، ولو توضأ بالنبيذ ثم وجد ماء مطلقا ينتقض وضوءه كما ينتقض التيمم بوجود الماء.
قلت: وبقول أبي حنيفة قال عكرمة والأوزاعي وحميد بن حبيب والحسن بن جني وإسحاق فإنهم ذهبوا إلى جواز التوضؤ بنبيذ التمر عند عدم الماء المطلق، وقال ابن قدامة في " المغني " وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بنبيذ التمر وبه قال الحسن. وفي " الحلية " النبيذ نجس عندنا. وفي " شرح الوجيز " والجمادات كلها على الطهارة إلا الخمر والنبيذ، والمسكر، والحيوانات كلها على الطهارة إلا الكلب والخنزير وفروعهما.
م: (لحديث ليلة الجن) ش: قال السغناقي: حديث الجن هو ما روى أبو رافع وابن المغيرة عن ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب ذات ليلة ثم قال: "ليقم معي من لم يكن في قلبه مثقال ذرة من كبر" فقام ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فحمله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع» نفسه، وقال عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «خرجنا من مكة فخط رسول الله حولي خطا وقال لا تخرج عن هذا الخط فإنك إن خرجت لم تلقني إلى يوم القيامة ثم ذهب يدعو الجن إلى الإيمان ويقرأ عليهم القرآن حتى طلع الفجر ثم رجع بعد طلوع الفجر» .(1/498)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال تاج الشريعة في شرحه: حديث ليلة الجن هو ما روي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذات ليلة إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فمن يتبعني قالها ثلاثا وأطرقوا إلا أنا قال فانطلقنا حتى إذا كنا على مكة في شعب الحجون خط لي خطا وقال لا» .
وقال صاحب " البدائع ": حديث ليلة الجن ما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا أصحاب النبي جلوسا في بيته فدخل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليقم منكم من ليس في قبله مثقال ذرة من كبر» فقمت، وفي رواية: «فلم يقم منا أحد فأشار إلي بالقيام فقمت ودخلت البيت فتزودت إداوة من بيته فخرجت فخط لي خطا فقال إن خرجت من هذا لم ترني إلى يوم القيامة فقمت قائما حتى انفجر الصبح فإذا أنا برسول الله صلى» فأخذ ذلك وتوضأ وصلى الفجر.
قلت: روي حديث ابن مسعود هذا من أربعة عشر طريقا وليس فيها ما يوافق ما ذكر هؤلاء لا متنا ولا إسنادا [كما] يلي:
روى ابن ماجه في "سننه" من طريق ابن لهيعة حدثنا قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليلة الجن: "أمعك ماء؟ " قال: لا إلا نبيذ التمر في سطيحة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تمرة طيبة وماء طهور صب علي" فصب عليه فتوضأ به» .
وأخرجه الطحاوي: حدثنا ربيع بن المؤذن قال: أخبرنا ابن لهيعة قال: أخبرنا قيس بن الحجاج عن حابس الصبابي عن ابن عباس «عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - خرج مع النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ليلة الجن، فسأله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "اصبب علي" فتوضأ به وقال: "شراب طهور» ورجاله ثقات غير أن عبد الله بن لهيعة فيه مقال على ما نذكره، وظاهر هذا الفظ يقتضي أنه من سند ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لكن الطبراني في معجمه جعله من سند ابن مسعود.(1/499)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكذا البزار في مسنده ولفظهما بالإسناد المذكور عن ابن عباس عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه خرجنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الجنب بنبيذ فتوضأ وقال: "ماء طهور" قال البزار: هذا حديث لا يثبت؛ لأن ابن لهيعة كان كتبه قد احترقت وبقي يروي من كتب غيره نصا في أحاديثه مناكير. ورواه الدارقطني في "سننه " وقال: تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف.
ورواه أبو داود: حدثنا هناد وسليمان بن داود العبكي قال: حدثنا شريك عن أبي فزارة عن أبي زيد عن «عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ليلة الجن: "ماذا في إداوتك؟ " فقال: نبيذ، فقال: "تمرة طيبة وماء طهور".» وقال أبو داود: قال سليمان بن داود عن أبي زيد قال: كذا قال شريك ولم يذكر هناد ليلة الجن.
وأخرجه الترمذي من حديث أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن «عبد الله بن مسعود قال: سألني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما في إداوتك؟ " قلت: نبيذ التمر، فقال: "تمرة طيبة، وماء طهور" قال: فتوضأ منه» . ووهم الشيخ علاء الدين في عزوه هذا الحديث إلى النسائي أيضا فإنه لم يخرجه، وقد ضعفوا هذا الحديث بثلاث علل: أحدها: جهالة أبي زيد، والثاني: التردد في أبي فزارة هل هو راشد بن كيسان أو غيره. والثالث: أن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يكن مع النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ليلة الجن.
بيان الأول: قال الترمذي أبو زيد رجل مجهول لا يعرف له غير هذا الحديث، وقال ابن حبان في "كتاب الضعفاء ": أبو زيد شيخ يروي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليس يدرى من هو، ولا يعرف له أبوه ولا بلده ومن كان بهذا النعت ثم لم يرو إلا خبرا واحدا خالف فيه الكتاب والسنة والإجماع والقياس استحق مجانبة ما رواه.
وقال ابن أبي حاتم في "كتاب العلل ": سمعت أبا زرعة يقول: حديث أبي فزارة في الوضوء بالنبيذ ليس بصحيح وأبو زيد مجهول، وذكر ابن عدي عن البخاري قال: أبو زيد الذي روى حديث ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ مجهول لا يعرف بصحبته عبد الله ولا يصح هذا الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو خلاف القرآن.
وبيان الثاني: وهو التردد في أبي فزارة فقيل: هو راشد بن كيسان وهو ثقة أخرج له مسلم، وقيل: هما رجلان، وأن هذا ليس براشد بن كيسان وإنما هو رجل مجهول.(1/500)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبيان الثالث: وهو إنكار كون ابن مسعود مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الجن، وروى مسلم من حديث الشعبي عن «علقمة قال: سألت ابن مسعود هل شهد منكم أحد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: لا ولكن كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة فافتقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا: استطير أو اغتيل قال: فبتنا ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، فقلت: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة قال: أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليها القرآن وانطلق بنا فأرانا آثارهم وأثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال: "لكم كل عظم، ولكم كل بعرة علقا لدوابكم، ثم قال: لا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم"، وفي لفظ مسلم، قال: لم أكن مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الجن ووددت أني كنت معه. وفي لفظ: وكانوا من جن الجزيرة» .
ورواه أبو داود مختصرا لم يذكر القصة ولفظه عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من كان منكم مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: ما كان معه منا أحد.
ورواه الترمذي بتمامه في " الجامع " في تفسير سورة الأحقاف. وقال البيقهي في دلائل النبوة وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يكن مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليلة الجن، وإنما كان معه حين انطلقوا به وبغيره يريه آثارهم وآثار نيرانهم.
والجواب عن العلة الأولى أن أبا بكر بن العربي ذكر في شرحه للترمذي وأبو زيد مولى عمرو بن حريث روى عنه راشد بن كيسان العبسي الكوفي وأبو روق وبهذا يخرج عن حد الجهالة ولا يعرف إلا بكنيته، فيجوز أن يكون الترمذي أراد به أنه مجهول الاسم، ولا يضر ذلك، فإن جماعة من الرواة لا تعرف أسماؤهم وإنما عرفوا بالكنى.
وعن العلة الثانية: أن صاحب " الإمام " قال أبو فزارة روى عنه جماعة من أهل العلم مثل سفيان الثوري وشريك بن عبد الله والجراح بن مليح الرؤاسي، ووكيع وقيس بن الربيع، وزاد ابن العربي جعفر بن برقان وجرير بن حازم وعلي ابن عائشة، فإين الجهالة بعد هذا فبطل دعوى الجهالة، وقال أبو أحمد بن عدي: أبو فزارة ثقة ثقة، وقال ابن عبد البر: أبو فزارة مشهور ثقة عندهم، وقال أبو حاتم: صالح روى له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
فإن قلت: قيل هو فيها، فهما رجلان وأن هذا ليس براشد بن كيسان وإنما هو رجل مجهول، وذكر البخاري أن أبا فزارة العبسي غير مسمى فجعلهما اثنين، وقالوا: إن أبا فزارة كان نباذا بالكوفة، وروى هذا الحديث لنفق سلعته.
قلت: روى هذا الحديث عن أبي فزارة جماعة فرواه عنه شريك كما أخرجه أبو داود والترمذي وكما رواه عنه الجراح كما أخرجه ابن ماجه ورواه عنه إسرائيل كما أخرجه البيهقي(1/501)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه عنه قيس بن الربيع كما أخرجه عبد الرزاق فأين الجهالة بعد ذلك؟ وقد جزم ابن عدي بأنه راشد بن كيسان وحكي عن الدارقطني أنه قال: أبو فزارة في حديث النبيذ اسمه راشد بن كيسان، وقولهم: كان نباذا بالكوفة باطل وهم لا يجوزون الرواية عن المستور فكيف يروي هؤلاء الأعلام عن الخمار وفساده ظاهر لا يخفى على أحد.
وعن الثالثة: بأن أربعة عشر رجلا رووه عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كما رواه أبو زيد عنه مصرح فيها أن ابن مسعود كان مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة وله سبع طرق مصرح فيها أن ابن مسعود كان معه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
الأول: عن أحمد في " مسنده " والدارقطني في " سننه " من حديث يونس عن أبي رافع عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ليلة الجن: "أمعك ماء؟ " قال: لا، قال: "أمعك نبيذ؟ " قال: أحسبه قال: نعم فتوضأ به» .
الثاني: عن الدارقطني من حديث أبي عبيدة وابن الأحوص «عن ابن مسعود قال: مر بي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "خذ معك إداوة من ماء" ثم انطلق وأنا معه. فذكر حديث ليلة الجن، ثم قال: فلما أفرغت عليه من الإداوة إذ هو نبيذ، فقلت: يا رسول الله أخطأت بالنبيذ فقال: "ثمرة حلوة وماء عذب» .
الثالث: عن الدارقطني أيضا من حديث ابن غيلان الثقفي أنه سمع «عبد الله بن مسعود يقول دعاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الجن بوضوء فجئته بإداوة فإذا فيها نبيذ فتوضأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الجن فأتاهم فقرأ عليهم القرآن فقال لي رسول» .
الرابع: عنه أيضا من حديث أبي وائل قال: سمعت ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الخامس: عن الطحاوي من حديث قابوس عن أبيه قال: «انطلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى برار فخط خطا وأدخلني فيه وقال لا تبرح حتى أرجع إليك ثم انطلق فما جاء حتى السحر وجعلت أسمع أصواتا ثم جاء فقلت أين كنت يا رسول الله قال أرسلت إلى» قال الطحاوي: ما علمنا لأهل الكوفة حديثا أثبت أن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمعك ماء؟ " قال: لا، إلا النبيذ في إداوة قال: "تمرة طيبة وماء طهور» .
السابع: عن أبي داود من حديث أبي زيد عن عبد الله بن مسعود وقد ذكرناه.(1/502)
فإن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: توضأ به حين لم يجد الماء. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يتيمم ولا يتوضأ به، وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عملا بآية التيمم لأنها أقوى، أو هو منسوخ بها لأنها مدنية، وليلة الجن كانت مكية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: هذه الطرق كلها مخالفة لما في " صحيح مسلم " أنه لم يكن معه كما ذكرناه عن قريب.
قلت: التوفيق بينها أنه لم يكن معه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين المخاطبة وإنما كان بعيدا عنه، وقد قال بعضهم إن ليلة الجن كانت مرتين، ففي أول مرة خرج إليهم ولم يكن مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ابن مسعود ولا غيره كما هو ظاهر حديث مسلم.
ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى كما روى ابن أبي حاتم في تفسيره في أول سورة الجن من حديث ابن جريح قال: قال عبد العزيز بن عمر: أما الجن الذين لقوه بنخلة فمن نينوى، وأما الجن الذين لقوه بمكة فهم من نصيبين.
قال القدوري في " شرح مختصر الكرخي ": وروي كونه يعني ابن مسعود مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خبر أجمع العلماء على العمل به وهو أنه طلب منه ثلاثة أحجار فأتاه بحجرين وروثة، الحديث، وقال ابن العربي صحته في البعض استوقفه وبعد عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثم عاد إليه فصح أنه لم يكن معه عند الجن لا نفس الخروج، وروى ابن شاهين بسنده عن ابن مسعود أنه قال: كنت مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليلة الجن، والإثبات مقدم على النفي.
م: (فإن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - توضأ به) ش: أي بنبيذ التمر م: (حين لم يجد الماء) ش: أي الماء المطلق.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتيمم ولا يتوضأ به) ش: أي بالنبيذ م: (وهو) ش: أي قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وقد ذكرنا أنه روي عنه ثلاث روايات م: (وبه) ش: أي وبقول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ومالك وأحمد والطحاوي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (عملا بآية التيمم) ش: أي عمل أبو يوسف عملا بآية التيمم فإنها تنقل التطهير من الماء ونبيذ التمر من وجه فيرد الحديث بها م: (لأنها أقوى) ش: أي لأنها أقوى من هذا الحديث م: (أو هو منسوخ بها) ش: أي أو هو هذا الحديث منسوخ بآية التيمم م: (لأنها مدنية) ش: لأن آية التيمم نزلت بالمدينة م: (وليلة الجن كانت مكية) ش: يعني قضية ليلة الجن التي ورد فيها الحديث المذكور كانت وقعت بمكة.
فإن قلت: نسخ السنة بالكتاب لا يجوز عند الشافعي فكيف يستقيم قوله: أو هو منسوخ بآية التيمم قلت: على هذا رواية رويت عنه أنه يجوز ذلك.(1/503)
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتوضأ به ويتيمم، لأن في الحديث اضطرابا وفي التاريخ جهالة، فوجب الجمع احتياطا، قلنا: ليلة الجن كانت غير واحدة فلا يصح دعوى النسخ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأكمل: ذلك جواب أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خاصة والمشترك بينهما هو قوله: عملا بآية التيمم. قلت: هذا جواب عن سؤال لصاحب " الدراية " فالأكمل أخذهما منه.
م: (وقال محمد يتوضأ به) ش: أي بالنبيذ م: (ويتيمم) ش: يعني يجمع بينهما احتياطا م: (لأن في الحديث اضطربا) ش: أي مقالا في ثبوته. قال الأترازي في معنى الاضطراب: بعضهم قالوا بتنجسه وبعضهم قالوا: بعدم تنجسه، وبعضهم قالوا: كان ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليلة الجن، وبعضهم قالوا: لم يكن، فوقع الشك، فوجب الضم احتياطا.
وقال السغناقي: معنى الاضطراب وذلك لأن مداره على أبي زيد مولى عمرو بن الحريث روى أنه كان نباذا روى هذا الحديث ليهون على الناس أمر النبيذ وتبعه على هذا المعنى الشنيع صاحب " الدراية " و" الأكمل "، وقد قلنا: إنه روى عنه الأعلام الأثبات والأئمة الثقات، فكيف يستحسن هذا الكلام فيه طعن على الذين ردوا منهم.
م: (وفي التاريخ جهالة) ش: فيه نظر لأن أهل السير ذكروا أن قدوم وفد جن نصيبين كان قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين، وفي " جامع قاضي خان ": تمسكوا في انتساخ هذا الحديث بجهالة التاريخ. قال بعضهم: نسخ ذلك بآية التيمم. وقال بعضهم: لم ينسخ؛ لأنها نزلت في شأن الأسفار والنبيذ يستعمل في المفازات فيما قرب من الأمصار فيجب الجمع احتياطا. ويحتمل أن تكون ليلة الجن بعد آية التيمم.
قلت: فيه نظر لأن الآية مدنية وليلة الجن مكية اللهم إلا إذا كانت غير واحدة كما ذكره المصنف م: (فوجب الجمع) ش: أي بين السور والنبيذ م: (احتياطا) ش: أي لأجل الاحتياط في أمر الدين، قلنا إشارة إلى الجواب عما قال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -.
م: (قلنا: ليلة الجن كانت غير واحدة) ش: يعني تكررت، وذكر النسفي في تفسيره أن الجن أتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفعتين فيجوز أن تكون الدفعة الثانية في المدينة بعد آية التيمم م: (فلا يصح دعوى النسخ) ش: قال السروجي: قوله قلنا: ليلة الجن كانت غير واحدة يوهم أنها كانت بالمدينة أيضا، ولم ينقل ذلك في كتب الحديث فيما علمته.
قلت: حفظ شيئا وغابت عنه شيئا، وقد روى أبو نعيم في كتاب " دلائل النبوة " بإسناده إلى عمرو بن غيلان الثقفي قال: «أتيت ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقلت حدثت أنك كنت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة وفد الجن فقال أجل قلت حدثني كيف كان قال إن أهل الصفة أخذ كل رجل منهم رجلا يعشيه إلا أنا فإنه لم(1/504)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يأخذني أحد، فمر بي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م، فقال: "من هذا" قلت: أنا ابن مسعود، فقال: "ما أجدك أحد يعشيك" قلت: لا يا رسول الله، قال: "فانطلق لعلي أجد لك شيئا" فانطلقنا حتى أتى حجرة أم سلمة رضي الله عنها فتركني ودخل إلى أهله، ثم خرجت الجارية، فقالت: يا ابن مسعود إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجد لك عشاء، فارجع إلى مضجعك، فرجعت إلى المسجد فجمعت حصى المسجد فتوسدته، والتففت بثوبي فلم ألبث إلا قليلا حتى جاءت الجارية وقالت: أجب رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فاتبعتها حتى بلغت مقامي فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي يده عسيب نخل، فعرض به على صدري، فقال: "انطلق أنت معي حيث أنطلقت" فانطلقنا حتى أتينا بقيع الغرقد، فخط بعصاه خطة، ثم قال: "اجلس فيها ولا تبرح حتى آتيك" ثم انطلق يمشي وأنا أنظر إليه حتى إذا كان من حيث لا أراه ثارت مثل العجاجة السوداء، ففزعت وقلت في نفسي هذه هوازن مكروا برسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليقتلوه فهممت أن أسعى إلى البيوت فأستغيث الناس، فذكرت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوصاني أن لا أبرح وسمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفزعهم بعصاه، ويقول "اجلسوا" فجلسوا حتى كاد ينشق عمود الصبح، ثم ثاروا وذهبوا، فأتاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "أنمت بعدي"؟ قلت: لا والله، ولقد فزعت الفزعة الأولى حتى هممت أن آتي البيوت فأستغيث الناس، حتى سمعتك تفزعهم بعصاك، فقال: "لو أنك خرجت من هذه الحلقة ما أمنت عليك أن يخطفك بعضهم، فهل رأيت من شيء منهم"؟ قلت: رأيت رجالا سودا مستفزين عليهم ثياب بيض، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أولئك وفد جن نصيبين، فسألوني المتاع الزاد والمتاع، فمتعتهم بكل عظم حائل أو روثة أو بعرة" فقلت: وما يغني عنهم ذلك؟ قال: "إنهم لا يجدون عظما، إلا وجدوا لحمه الذي كان عليه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبة الذي كان فيها يوم أكلت، فلا يستنقي أحد منكم بعظم ولا روثة» .
وأخرج أبو نعيم أيضا عن بقية بن الوليد: حدثني نمير بن يزيد القيني حدثنا أبي حدثنا قحافة بن ربيعة حدثني الزبير بن العوام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الصبح في مسجد المدينة، فلما انصرف قال: "أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة فأمسك القوم ثلاثا، فمر بي فأخذ بيدي فجعلت أمشي معه حتى خنست عنا جبال المدينة كلها وأفضينا إلى أرض براز فإذا رجال طوال كأنهم الرماح مستنفرين ثيابهم من بين أرجلهم، فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة» ، ثم ذكر نحو حديث ابن مسعود، فلا يصح دعواه النسخ يعني وإذا كانت ليلة الجن غير واحدة فلا(1/505)
والحديث مشهور عملت به الصحابة وبمثله يزاد على الكتاب وتمسكه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يصح دعواه النسخ. م: (والحديث مشهور) ش: أي الحديث المذكور مشهور ثبت بطرق مختلفة شتى م: (عملت به الصحابة) ش: مثل علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود، وأما الذي روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بالنبيذ وضوء من لم يجد الماء.
وأما الذي روي عن ابن مسعود فظاهر، وعن عكرمة: النبيذ وضوء من لم يجد الماء، وقال إسحاق: حلو أحب إلي من التيمم وجمعهما أحب إلي، ولهذا الذي ذكرنا، غير أن الحديث ورد مورد الشهرة والاستفاضة حتى عمل به الصحابة وتلقوه بالقبول. فصار موجبا علما استدلاليا كخبر المعراج والقدر خيره وشره من الله تعالى وأخبار الرواية والشفاعة وغير ذلك مما كان الراوي في الأصل واحدا ثم اشتهر وتلقاه العلماء بالقبول وهذا معنى قول المصنف والحديث مشهور. وقال صاحب " الدراية ": وفي كون الحديث مشهورا تأمل.
قلت: ليس التأمل إلا في قول من يقول: إنه غير مشهور، أفلا يكفي شهرته عمل هؤلاء الكبار من الصحابة، وهم أئمة كبار ونبلاء الصحابة فكان قولهم معمولا به؟
م: (وبمثله) ش: أي بمثل هذا الحديث (يزاد على الكتاب وتمسكه) ش: أي وتمسك هذا الحديث مبني على الكتاب كما في المطلقة ثلاثا فإنه يراد الدخول عليه بالحديث المشهور، وقال السروجي: فيه نظر كبير؛ لأن المشهور عندنا ما تلقته الأئمة بالقبول وعملت به.
وقال البزدوي: ما كان من الآحاد ثم انتشر بنقل قوم لا يمكن تواطؤهم على الكذب، وهذا الحديث إن عمل به واحد واثنان من الصحابة لم يعمل به الباقون فكيف يكون مشهورا.
قلت: قال شيخ الإسلام: شرط كون الخبر مشهورا أن يكون آحادا في الأصل بأن يكون الراوي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مرتبة الآحاد متواتر النقل بأن ينقله في القرن الثاني وما بعده قوم لا يتوهم تواطؤهم على الكذب.
وهذا الحديث كذلك ويعرف بالتأمل ويؤيد ذلك ما روي من فتاوى نجباء الصحابة في زمان أشد فيه باب الوحي. وقال أبو بكر الرازي في " أحكام القرآن ": يستدل بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) على جواز الوضوء بنبيذ التمر من وجهين: أحدهما: بقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] عموم في جميع المائعات؛ لأنه يسمى غاسلا بها إلا ما قام الدليل فيه، ونبيذ التمر ما شمله العموم.
الثاني: قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] (المائدة: الآية 6) ، فإن ما أباح إلا عند عدم كل جزء من الماء لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه سواء كان مخالطا بغيره أو منفردا بنفسه ولا يمنع(1/506)
وأما الاغتسال به فقد قيل: يجوز عنده اعتبارا بالوضوء استحسانا، وقيل: لا يجوز لأنه فوقه، والنبيذ المختلف فيه الذي يجوز الوضوء به أن يكون حلوا رقيقا يسيل على الأعضاء كالماء، وما اشتد منها صار حراما لا يجوز التوضؤ به وإن غيرته النار فما دام حلوا فهو على الخلاف، وإن اشتد فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز التوضؤ به لأنه يحل شربه عنده، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يتوضأ به لحرمة شربه عنده،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء فلما كان كذلك وجب أن لا يجوز التيمم مع وجوده بالظاهر، ويدل على ذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ بمكة قبل نزول الآية في التيمم
م: (وأما الاغتسال به) ش: أي بنبيذ التمر فكأن هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: قد ذكرت عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - جواز الوضوء بالنبيذ فهل حكم الاغتسال به مثل الوضوء أم لا فقال: وأما الاغتسال ... إلخ، ولا نص عن أبي حنيفة في الاغتسال به ولكنهم اختلفوا م: (فقد قيل: يجوز عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (اعتبارا بالوضوء) ش: وهو الأصح؛ لأن الخصوص عن القياس بالنص ملحق به ما هو في معناه من كل وجه وأشار إلى ذلك م: (استحسانا) ش: أي استحسنه استحسانا.
م: (وقد قيل: لا يجوز) ش: أي الاغتسال به م: (لأنه فوقه) ش: أي لأن الاغتسال فوق الوضوء؛ لأن الحديث ورد في الوضوء والاغتسال فوقه فلا يلحق به، لأن الجنابة أغلظ الحدثين والضرورة فيه دون الوضوء. وقال في " المبسوط ": الأصح فيه أنه يجوز الاغتسال به، وقال في المفيد: لا يجوز به وهو الأصح.
م: (والنبيذ المختلف فيه) ش: أشار به إلى بيان نبيذ م: (الذي يجوز الوضوء به) ش: الذي اختلفنا فيه م: (أن يكون حلوا رقيقا يسيل على الأعضاء كالماء) ش: قد بينا في أول المسألة حقيقة النبيذ وحاصله أنه لا يجوز الوضوء به إلا بشرطين: أحدهما: أن يكون رقيقا، والآخر: أن يكون سائلا كالماء ولا يكون مشتدا. وشرط آخر: أن لا يكون مسكرا أشار إليه بقول: (وما اشتد منه صار حراما لا يجوز التوضؤ به) ش: أي لا يجوز الوضوء به إجماعا لأنه صار مسكرا حراما.
م: (وإن غيرته النار) ش: وإن غيرت النبيذ النار بأن طبخوه فيها م: (فما دام حلوا فهو على هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور وهو جواز الوضوء إجماعا عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لم يخرج عن كونه طهورا كالماء، وعند أبي يوسف يتيمم، وعند محمد: يجمع بينهما م: (وإن اشتد) ش: أي وإن اشتد النبيذ الذي غيرته النار وصار مسكرا م: (فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز التوضؤ به لأنه يحل شربه عنده وعند محمد لا يتوضأ به لحرمة شربه عنده) ش: يعني شربه حرام عند محمد.
وفي " المفيد " " والمزيد ": الماء الذي ألقي فيه تمرات فصار حلوا ولم يزل عنه اسم الماء وهو رقيق يجوز الوضوء به بلا خلاف بين أصحابنا، وإن طبخ أدنى طبخة لا يجوز الوضوء به حلوا(1/507)
ولا يجوز التوضؤ بما سواه من الأنبذة جريا على قضية القياس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان أو مرا أو مسكرا، قال: وهو الأصح لأن المتنازع فيه المطبوخ الذي زال عنه اسم الماء بالحديث.
وقال الكرخي: وهو المطبوخ وأدنى طبخه يجوز الوضوء به حلوا كان أو مسكرا إلا عند محمد في المسكر. وقال أبو طاهر الدباس: لا يجوز، قال في " المحيط ": وهو الأصح كمرق الباقلاء، وقال المرغيناني والأسبيجابي: منع محمد على أبي يوسف في الزيادات فقال: يجوز التوضؤ به بسؤر الحمار، ولم يرو فيه أثرا ويمنع بنبيذ التمر، وقد ورد فيه الأثر.
قلت: ناقض المصنف كلامه الذي في باب الماء الذي يجوز به الوضوء فإنه قال هناك: وإن تغير بالطبخ بعدما خلط به غيره لا يجوز التوضؤ به لأنه لم يبق في معنى المنزل من السماء إذ النار غيرته.
م: (ولا يجوز التوضؤ بما سواه من الأنبذة) ش: أي بما سوى نبيذ التمر كنبيذ الزبيب والتين والحنطة والذرة ونحوها هذا عند عامة العلماء. وقال الأوزاعي: يجوز التوضؤ بالأنبذة كلها حلوا كان أو غير حلو، مسكرا أو غير مسكر، نيئا كان أو مطبوخا إلا الخمر خاصة. وقال ابن أبي ليلى: يجوز التوضؤ بماء العنب إذا لم يكن مشتدا كما في التمر.
م: (جريا على قضية القياس) ش: لأن القياس كان يقتضي أن لا يجوز استعمال النبيذ في إزالة الأحداث ولكنه خص بالأثر على خلاف القياس، فيقتصر على مورد النص ويبقى الباقي على موجبه؛ ولأنه في الحديث علل باسمه وصفته فقال: «تمرة طيبة» وهو من العلل القاصرة، فلما لم يوجد في غيره لم يجز غيره.
قلت: ينبغي أن يجوز التوضؤ بسائر الأنبذة كما قاله الأوزاعي إما بدلالة الأنبذة بالنص، وإما أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبه على العلة حيث قال: «تمرة طيبة» وهذا المعنى موجود في نبيذ الزبيب وغيره، فصار كالهرة الطائفة على العلة فيها بقوله: «فإنها من الطوافين والطوافات» قيس عليها سائر سواكن البيوت لوجود المعنى.
فإن قلت: جريا منصوب بماذا. قلت: الجري مصدر من جرى الماء وغيره لازم والمتعدي أجري وانتصابه على التعليل أي لأجل الجري على قضية القياس، ويجوز أن جريا بمعنى جاريا ويكون منصوبا على الحال والتقدير في الأول: عدم جواز التوضؤ بما سواه من الأنبذة لأجل الجري على قضية القياس، وفي الثاني: حالة كونه جاريا على قصية القياس.(1/508)
باب التيمم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب التيمم] [تعريف التيمم]
م: (باب التيمم) ش: أي هذا باب في بيان أحكام التيمم فيكون ارتفاع باب على الخبرية، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر والتقدير: هذا باب التيمم لما يأتي، ويجوز انتصابه على المفعولية والتقدير: خذ أو هاك باب التيمم، وجه المناسبة بين البابين من حيث إن الباب الأول في أحكام المياه، التي هي الأصل في باب الطهارة، وهذا الباب في بيان الخلف وحقه أن يكون عقيب الأصل، أو تقول: إنه ابتدأ بالوضوء الذي هو طهارة صغرى ثم ثنى بالغسل الذي هو طهارة كبرى، ثم ثلث بالتيمم لكونه خلفا وظيفته التعقيب.
وقال صاحب " الدراية ": ابتدأ بالتيمم تأسيا بكتاب الله، وابتدأ بالوضوء؛ لأنه الأعم الأغلب، ثم بالغسل لأنه الأندر، ثم بالآية التي يحصلان بها وهو الماء المطلق، ثم بالعوارض التي تعرض عليه من المخالطة طاهر أو نجس، ثم الخلف وهو التيمم.
قلت: قوله: ابتدأ بالتيمم لا وجه له أصلا إن أراد بالابتداء الابتداء في أول الكتاب فليس كذلك، وإن أراد به هاهنا فلا وجه له؛ لأنه ليس بابتداء به بل هو ذكر بالتعقيب والصواب ما ذكرنا.
وقوله أيضا: تأسيا بكتاب الله، ليس كذلك لأن المذكور في كتاب الله الوضوء ثم الغسل ثم التيمم، والتأسي لا يكون إلا بذكره هكذا ولا يقال كيف يترك التأسي في تقديم المسافر وخارج المصر على المريض، مع أن الله تعالى قدم المريض على المسافر؛ لأنا نقول: التيمم مرتب على عدم الماء وهو في المسافر وخارج المصر حقيقي، وفي المريض حكمي.
ثم اعلم أن أصل التيمم من الأم وهو القصد، يقال: أمه يؤمه أما إذا قصده، ويقال: أم وتأيم وتيمم بمعنى واحد ذكره أبو محمد في " كتاب الراعي " وفي " المحكم "، وأتيمه والتيمم أصله من ذلك؛ لأنه يقصد التراب فيمسح به، وفي " الجامع " عن الخليل: التيمم يجري مجرى التوضؤ بقوله: تيمم أطيب ما عذب وأسقانا منه، أي توضأت. وقال الفراء: ولم أسمع يممت بالتخفيف. وفي " المهذب " لأبي منصور: التيمم التعمم، وفي الصحاح: يممت فلانا أي قصدته. قال الشاعر:
وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني
أي الخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشيء الذي هو يبتغيني
قلت: اسم الشاعر اللقب العبسي، وقال الشيباني: رجل يمهم يظفر بكلامنا يطلب.(1/509)
ومن لم يجد الماء وهو مسافر أو خارج المصر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي الشرع: التيمم هو القصد إلى استعمال الصعيد في أعضاء مخصوصة على قصدر الطهارة بشرائط مخصوصة، فالاسم الشرعي فيه معنى اللغوي.
[شرائط التيمم]
[عدم وجود الماء]
م: (ومن لم يجد الماء وهو مسافر) ش: الواو في مثل هذه المواضع تسمى واو الاستفتاح كذا سمعت من مشايخي، ويجوز أن يكون العطف على ما قبله من الأحكام المتعلقة بالوضوء، وكلمة من موصولة بمعنى الذي، وقال بعض من لا خبرة له: إن كلمة من هنا تتضمن معنى الشرط، فكان ينبغي إدخال الفاء في جوابها، ولكن المصنف تركه.
قلت: هذا كلام من لا يصرف له، ولأنه إن من المتضمن معنى الشرط يكون الجزاء مجزوما نحو من يلزمني ألزمه إلا إذا كان الجزاء ماضيا فحينئذ لا يظهر فيه الجزم، وأما إذا كان الجزاء جملة فلا بد من الفاء فيه، وقد تحذف في ضرورة الشعر. وقال ابن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز في النثر نادرا.
قوله: وهو المسافر، جملة اسمية وقعت حالا، وقد علم أن الجملة الاسمية إذا وقعت حالا فلا بد فيها من الواو، وقد تحذف كما في قوله: كلمته فوه إلى في.
فإن قلت: لم قدم المسافر على المريض هنا وفي كتاب الله ذكر المريض مقدم. قلت: قدم ذكره في كتاب الله تطييبا لقلبه، ولأن المرض عارض جاء من الله تعالى من غير اختيار العبد، والسفر عارض باختياره وقد ذكرناه عن قريب.
م: (أو خارج المصر) ش: يجوز فيه النصب والرفع، أما النصب على وجوه:
أحدها: أن يكون نصبا على الحال، عطفا على الجملة الحالية التي قبله. قال السغناقي في الآية: لما جاز عطف الجملة الحالية على المفرد من الحال في قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] (آل عمران: الآية 191) أي مضطجعين على جنوبهم جاز عليه أيضا، قلت: قياما بمعنى قائمين، وقعودا بمعنى قاعدين، فحينئذ لا يكون عطف الجملة على المفرد اللهم إذا قلنا بذلك نظرا إلى اللفظ. الوجه الثاني: أن يكون مفعولا فيه تقديره أو في مكان خارج المصر، كذا قال السغناقي وغيره، ولكن تحدثه شيء وهو أن لفظة خارج عارض هنا اسم لظاهر البلد وفيما قالوا: اسم لفعل الخروج والأول هو الأولى والأوجه.
وأما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره أو هو خارج المصر فتكون الجملة عطفا على الجملة السابقة فيكون محلها النصب على الحال، ثم إن قوله: أو خارج المصر، ولقول من يقول: إنه لا يجوز إلا للمسافر.(1/510)
وبينه وبين المصر نحو ميل أو أكثر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكر في " المحيط "، وقال في الناس: من قال: لا يجوز التيمم لمن خرج من المصر إلا إذا قصد سفرا صحيحا، والمعنى: ويجوز لمن هو خارج المصر وإن لم يكن مسافرا وفيه أيضا نفي لجواز التيمم في الأمصار سوى المواضع المستثناة وهذا موافق لما ذكره في " شرح الطحاوي " حيث قال: إن التيمم في المصر لا يجوز إلا في ثلاث:
أحدها: إذا خاف من فوت صلاة الجنازة إن توضأ.
والثانية: عند خوف فوت صلاة العيد.
والثالثة: عند خوف الجنب من البرد بسبب الاغتسال.
وقال الإمام التمرتاشي: من عدم الماء في الحضر لا يجوز له التيمم لأنه نادر، وذكر في " الأسرار " جواز التيمم لعادم الماء في الأمصار.
فإن قلت: فعلى هذا لا يكون قوله: أو خارج المصر مبينا لجواز التيمم في الأمصار، والأقل جواز التيمم لعدم الماء سواء كان في المصر أو خارجه. م: (وبينه وبين المصر نحو ميل) ش: وفي بعض النسخ الميل بالألف واللام ولا وجه له، أي والحال أن بين خارج المصر وبين المصر ميل يعني قدر ميل. وقال الأترازي: ولو قال: بينه وبين الماء مكان وبين المصر لكان أحسن ليشمل الشخص جميعا المسافر والخارج عن المصر، وهذا لأن المعتبر هو الأبعد بين المتيمم وبين الماء سواء كان في المصر أو غيره.
قلت: إنما يكون ما قاله أحسن لو قال: وبينهما أي وبين المسافر والخارج عن المصر ولما رد الضمير إلى الخارج عن المصر وقال: وبين المصر؛ لأن الخارج من المصر إذا عدم الماء فالضرورة غالبا لا يجد الماء إلا في المصر فذكر المصر ليستلزم الخارج من المصر من غير عكس، ثم الميل ثلث فرسخ أربعة آلاف ذراع، قال محمد بن قدح الشامي: طولها أربعة وعشرون أصبعا، بعدد حروف لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وعرض الأصبع ست حبات شعير ملصقة ظهر البطن، وزنة الحبة من الشعيرة ستون حبة خردل وهو الذراعي الملكي وبه ذرع هارون الرشيد الرق وجعل الفرسخ ثلاثة أميال، والبريد اثني عشر ميلا.
وفسر ابن شجاع الميل: بثلاثة آلاف ذراع، وفسر الغلوة بثلاثمائة ذراع أي أربعمائة ذراع كذا في " الذخيرة "، وفي " الينابيع ": الميل ثلث الفرسخ أربعة آلاف خطوة ذراع ونصف بذراع العامة وهو أربعون وعشرون أصبعا.
م: (أو أكثر) ش: بالرفع عطف على قوله: ميل وارتفاع ميل بالابتداء وخبره قوله: وبينه وبين المصر، ويجوز بالنصب على أن يكون لفظ كان مقدرا فيه والتقدير أو كان أكثر من الميل.(1/511)
يتيمم بالصعيد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: أفعل التفضيل لا يستعمل إلا بأحد الأشياء الثلاثة بالإضافة والألف واللام وكلمة من وليس شيء من ذلك هاهنا. قلت: قد يستعمل مجردا عنها كما في قولك: الله أكبر.
فإن قلت: قوله: أو أكثر مستغنى عنه لا فائدة تحته. قلت: أجيب عنه بأجوبة:
الأول: أنه للتأكيد لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13] (الحاقة: الآية 13) ، لأن معنى التأكيد هو أن يستفاد من الثاني ما استفيد من الأول وهذا كذلك قال الأكمل: ورد بأن تخلل العاطف يأباه. قلت: الذي رد هو صاحب " الكافي ".
والوجه الثاني: أن المسافة تعرف بالحرز والظن، فلو كان في ظنه أن بينه وبين الماء نحو ميل أو أقل لا يجوز حتى يتبين أنه ميل.
قال الأكمل: وفيه نظر لأنه مبني على أنه حرزا أو ظنا فمن أين يتحقق ذلك؟ قلت: معرفة المسافة بالحرز والظن يكون مبني عليه.
الثالث: قال الأترازي: الأصل في الدلالات المطابقة لا الالتزام فذكره بفهم الحكم بالمطابقة. قلت: هذا عجيب والحكم بالمطابقة فهم من قوله: ميل؛ لأن هذا معناه المطابق ويفهم منه جواز التيمم في هذا المقدار ففي أكثر منه بالطريق الأولى.
الرابع: أنه ذكر رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الماء إن كان قدامه فالمسافة ميلان، وإن لم يكن فميل وفيه نظر؛ لأنه يلزم منه أن يكون أربعة أميال ذهابا وإيابا.
الخامس: قال السروجي: يحتمل أن يكون ذلك شكا من الراوي في قوله: فإن صلت وربع ساقها أو ثلثه مكشوف، وفيه نظر لأنه إنما قيل: ربع ساقها أو ثلثه إشارة إلى أن كل واحد منهما رواية.
والسادس: أن قوله: ميل في الجهات الثلاث، وقوله: أو أكثر فيما أمامه أو أكثر على قول من شرط ميلين ورد بما رد به الوجه الرابع.
السابع: أن الذي قدره الشرع أربعة أنواع: الأول: أن يمنع الأقل والأكثر كالحدود والصلوات المفروضة والمواريث. الثاني: أن يمنعها لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] (النساء: الآية 40) . الثالث: أن يمنع الأقل لا الأكثر كنصاب الشهادة والسرقة والزكاة. الرابع: أن يمنع الأكثر لا الأقل كمدة إمهال المرتد ومدة جواز الصلاة على الميت المدفون من غير صلاة، وما في الكتاب من قبل النوع الثالث ذكره تنبيها للناظرين.
م: (يتيمم بالصعيد) ش: خبر المبتدأ عن قوله: من لم يجد، وجواب المسألة: والصعيد(1/512)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التراب، قال الجوهري: وقال ثعلب الصعيد وجه الأرض لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40] (الكهف: الآية 40) ، والجمع: صعد وصعدات مثل طريق وطرق وطرقات سمي به لصعوده وهو فعيل بمعنى مفعول أو مصعود عليه.
حكاه ابن الأعرابي والخليل وثعلب، وفي " معاني الزجاج ": الصعيد: وجه الأرض، كان موضع تراب أو لم يكن؛ لأن الصعيد ليس وجه التراب، وإنما وجه الأرض تراباً كان أو صخراً لا تراب عليه، وقال: لا أعلم خلافاً بين أهل اللغة في أن الصعيد وجه الأرض.
وقال قتادة: الصعيد الأرض التي لا نبات فيها ولا شجر، وقال ابن دريد: المستوي، وسيأتي الخلاف في هذا الباب.
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) أشار بهذا إلى أن ثبوت التيمم بالكتاب والسنة. أما الكتاب فهو قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [المائدة: 6] كان نزولها في غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق حين أقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس معه على التماس عقد عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حين أنقطع فأصبحوا على غير ماء.
فأنزل الله تعالى آية التيمم، بحديث العقد رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود، والمريسيع بضم الميم وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف وكسر السين المهملة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة. وفي آخره عين مهملة وهو اسم ماء بناحية قديد بين مكة والمدينة. وكانت غزوة بني المصطلق في شعبان من السنة الثالثة من الهجرة، وقيل: سنة أربع.
قوله {طَيِّبًا} [المائدة: 6] أي طاهراً عند الأكثرين، وقيل: حلالاً. وقال الشافعي: الطيب المنبت الخالص ولهذا لا يجوز التيمم بغير التراب، وسيجيء الكلام فيه مستوفى إن شاء الله تعالى.
وأما السنة فقد أشار إليها بقوله: م: (وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء» ش: وقوله: مجرور؛ لأنه معطوف على قَوْله تَعَالَى، والحديث روي عن أبي هريرة وأبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
أما حديث أبي هريرة فرواه البزار في " مسنده "، حدثنا مقدم بن محمد المقدمي، حدثنا القاسم بن يحيى بن عطاء بن مقدم، حدثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله، وليمسه(1/513)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بشرته» .
وقال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه، ولم نسمعه إلا من مقدم وكان ثقة.
ورواه الطبراني في " معجمه الأوسط " حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة، حدثنا مقدم بن محمد المقدمي به، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: «كان أبو ذر في غنيمة بالمدينة، فلما جاء قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا أبا ذر " فسكت فرددها عليه فسكت، فقال: " يا أبا ذر ثكلتك أمك " قال: إني جنب، فدعا له الجارية بماء فجاءته به فاستتر براحلته ثم اغتسل، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يجزئك الصعيد ولو لم تجد الماء عشرين سنة، فإذا وجدته فأمسه جلدك» وقال: لم يروه عن ابن سيرين إلا هشام، ولا عن هشام إلا قاسم، تفرد به مقدم، وذكر ابن القطان في كتابه من جهة البزار وقال: إسناده صحيح وهو غريب من حديث أبي هريرة.
وأما حديث أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي قلابة عن عمرو بن بجدان عن أبي ذر قال: قال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين ما لم يجد الماء، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير» رواه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وفي رواية لأبي داود والترمذي: «طهور المسلم» ، ورواه ابن حبان في صحيحه، ورواه الحاكم في " مستدركه "، وقال: حديث حسن صحيح، ولم يخرجاه، إذ لم يجدا لعمرو راويا غير أبي قلابة، وضعف هذا الحديث ابن القطان في كتابه " الوهم والإيهام "؛ لأن فيه عمرو بن بجدان وهو لا يعرف حاله.
قلت: العجب منه لم يكتف بتصحيح الترمذي في معرفة حال عمرو بن بجدان مع تعريفه بالحديث، وبجدان بضم الباء الموحدة وسكون الجيم.
وقول المصنف: «التراب طهور المسلم» ، لم يقع بهذا اللفظ إلا في رواية للترمذي، وفي(1/514)
والميل هو المختار في المقدار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رواية لأبي داود: «الصعيد طهور» .
قوله: (ولو إلى عشر حجج) : أي عشر سنين، وكذا لفظ حديث أبي هريرة، والمراد نفس الكثرة لا عشرة بعينها. وتخصيص العشرة لأجل الكثرة؛ لأنه منتهى عدد الآحاد، والمعنى: له أن يفعل التيمم مرة بعد مرة أخرى، وإن بلغت مدة عدم الماء إلى عشر سنين، وليس معناه أن التيمم دفعة واحدة يكفيه عشر سنين.
قوله: (ما لم يجد الماء) المراد به الماء الذي يكفي لرفع الحدث؛ لأن ما دونه يستوي فيه وجوده وعدمه، إذ لا تثبت به استباحة الصلاة فكان كالمعدوم.
فإن قلت: " ماء " في قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) نكرة في سياق النفي فتناول ما يسمى به ماء قليلا كان أو كثيرا. قلت الآية سبقت لبيان الطهارة الحكمية فكان معنى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] طهورا محللاً للصلاة وبوجود ما لا يكفي للوضوء لم يوجد ما يحلل الصلاة.
واعلم أن المراد من الوجود القدرة، ومعنى الآية: فلم تقدروا على استعماله، ولفظ الوجود كما يستعمل للظفر بالشيء يستعمل للقدرة عليه.
يقال: الشيء ظفر به ووجده إذا قدر عليه، فحملناه على القدرة هاهنا لاعتماد التكليف عليها إلا على الوجوب مطلقاً، ألا ترى أن [ ... ] الذي إذا تعذر عليه الوضوء منه ولا يجد من يوضئه يباح له التيمم، والماء أما وضوء على الطريق لا يمنع التيمم، إلا إذا كان كثيرا يعلم أنه وضع للوضوء والشرب، والغني والفقير سواء، وما وضع للتوضؤ يجوز الشرب منه.
وفي المرغيناني: الماء الذي يحتاج إليه للعطش والخبز وكذا الثمن يحتاج إليه للعطش أو العجين تيمم معه، ولاتخاذ المرقة لا يتيمم؛ لأن حاجة الطبخ دون حاجة العطش والخبز، وكذا الثمن الذي يحتاج إليه للزاد يتيمم معه بمنزلة ماء العطش، وعطش رفيقه كعطش نفسه، وعطش دابته وكلبه كذلك.
م: (والميل هو المختار في المقدار) ش: أي في مقدار بعد الماء وجه كونه مختاراً أن المسافة القريبة جداً مانعة من جواز التيمم والبعد يجوزه له، فقدر البعيد بالميل لإلحاق الحرج إلى وصول الماء، وفيه احتراز عن غيره من الأقوال، وعند محمد: شرطه أن يكون بينه وبين المصر ميلان. وعن أبي يوسف: لو ذهب إليه وتوضأ به وتذهب القافلة وتغيب عن بصره يجوز التيمم، وهذا أحسن جداً. وقيل: إذا كان نائياً عن بصره.(1/515)
لأنه يلحقه الحرج بدخول المصر والماء معدوم حقيقة،
والمعتبر المسافة دون خوف الفوت؛ لأن التفريط يأتي من قبله،
ولو كان يجد الماء إلا أنه مريض فخاف إن استعمل الماء اشتد مرضه يتيمم لما تلونا، ولأن الضرر في زيادة المرض فوق الضرر في زيادة ثمن الماء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واختلفوا في النائي، قيل: قطع ميل، وعن محمد: قطع ميلين، وقيل: فرسخ، وقيل: جواز قصر الصلاة، وقيل: عدم سماع الأذان. وقيل: عدم سماع أصوات الناس، وقيل: لو نودي من أقصى المصر لا يسمع. وفي " البدائع " إن ذهب إليه لا ينقطع عند جلبة الغير ويحسن أصواتهم وأصوات دراء فهو قريب. وقيل: إن كان بحيث يسمع أصوات أهل الماء فهو قريب.
قال قاضي خان: وأكثر المشايخ عليه. وكذا ذكره الكرخي.
وأقرب الأقوال اعتبار الميل ولا يبلغ ميلاً، وعن محمد: يبلغ، وقال زفر: إن خشي فوت الوقت يجوز، وإن كان قريباً.
فإن قلت: النص مطلق عن اشتراط المسافة فلا يجوز تقييدها بالرأي. قلت: المسافة القريبة غير مانعة بالإجماع، والبعيدة غير مانعة بالإجماع، فجعلنا الفاصل بينهما الميل، أشار إليها بقوله م: (لأنه يلحقه الحرج بدخول المصر والماء معدوم حقيقة) ش: أي؛ لأن المكلف يلحقه الحرج وهو مدفوع شرعاً. وقال الأترازي: فلو قال بإبانة الماء لكان أولى، وتكلمنا فيه
عند قوله: " بينه وبين المصر ".
م: (والمعتبر المسافة) ش: أي الاعتبار في جواز التيمم كون الماء إلى الماء م: (دون خوف الفوت) ش: أي وقت الصلاة. وقال الأترازي: هذا يحتاج إلى قيد آخر بأن يقال: دون خوف الفوت إذا كان إلى خلف؛ لأنه إذا خاف الفوت لا إلى خلف يكون خوف الفوت معتبراً كما في صلاة العيد والجنازة حتى يحتاج إلى التيمم.
قلت: لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنه عن قريب يذكر هذا الحكم مفصلاً وفيه احتراز عن قول زفر، فإن عنده يجوز التيمم إذا خاف لفوت الوقت، وإن كان الماء قريباً أقل من ميل هو يقول لإطلاق الآية. وأشار المصنف إلى دليلنا بقوله: م: (لأن التفريط) ش: أي التقصير م: (يأتي من قبله) ش: أي من تأخيره الصلاة، فليس له أن يتيمم إذا كان الماء قريباً منه.
[العجز عن استعمال الماء لمرض ونحوه]
م: (ولو كان يجد الماء إلا أنه مريض) ش: إلا ها هنا بمعنى لكن، وفي كل موضع شأنه هذا م: (فيخاف إن استعمل الماء اشتد مرضه يتيمم) ش: واشتداد المرض تارة يكون بالتحريك كالمبطون ومن به العرق المديني، وتارة يكون باستعمال الماء بالجدري والحصبة م: (لما تلونا) ش: أراد به قوله {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) م: (ولأن الضرر في زيادة المرض فوق الضرر في زيادة ثمن الماء) ش: أي؛ لأن الضرر الحاصل له عندي خوفه من زيادة المرض إذا استعمل الماء فوق ضرره في زيادة ثمن الماء الذي يباع بأكثر من ثمنه، فإذا كان الحرج مدفوعاً عند زيادة الثمن في الماء فاندفاعه(1/516)
وذلك يبيح التيمم فهذا أولى، ولا فرق بين أن يشتد مرضه بالتحرك أو بالاستعمال، واعتبر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - خوف التلف، وهو مردود بظاهر النص.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عند الخوف من زيادة المرض أولى وأجدر؛ لأن النفس أعز من المال.
م: (وذلك) ش: إشارة لما ذكرنا من زيادة ثمن الماء م: (يبيح التيمم فهذا أولى) ش: هذا إشارة لما ذكرنا من زيادة المرض.
م: (ولا فرق) ش: في المرض م: (بين أن يشتد مرضه بالتحريك) ش: كالمبطون كما ذكرنا م: (أو بالاستعمال) ش: أي باستعمال الماء كالجدري.
م: (واعتبر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - خوف التلف) ش: أي تلف نفسه أو عضوه، وهذا الذي ذكره المصنف هو القول الجديد للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقوله القديم مثل قولنا في " شرح الوجيز "، أما مرض يخاف منه زيادة العلة وبطء البرء فقد ذكر فيه ثلاثة طرق: أحدها: أن في جواز التيمم قولان: أحدهما المنع وهو قول أحمد، وأظهرهما الجواز، وهو قول الإصطخري وعامة أصحابه وهو قول مالك وأبي حنيفة. وفي " الحلية " وهو الأصح قال: إن كان مرض لا يلحقه باستعماله ضرراً كالصداع والحمى لا يجوز له التيمم.
وقال داود: يجوز، ويحكى عن مالك، وعطاء، والحسن البصري، أنه لا يجوز للمريض إلا عند عدم الماء، ولو خاف من استعمال الماء شيئاً في المحل، قال أبو العباس: لا يجوز له التيمم على مذهب الشافعي.
وقال غيرهما: إن كانت الشين كأثر الجدري والحراقة ليس له التيمم، وإن كان يؤمن من خلفه ويؤذي من وجهه كثيراً فيه قولان. والثاني من الطرق أنه لا يجوز قطعاً. والثالث: أنه يجوز قطعاً.
وأجمعوا على أنه لو خاف على نفسه الهلاك أو على عضوه ومنفعته يباح له التيمم. وحكى صاحب " الحاوي " في خوف أحدهما فيه قولان كما في زيادة المرض، وأصحهما يقطع بالجواز كما قال الجمهور.
وقال إمام الحرمين عن العراقيين أنهم قالوا في جواز التيمم من خاف مرضا مخوفا قولين، وهذا النقل عنهم مشكل، فإن الموجود في كتبهم كلها القطع بجواز التيمم لخوف حدوث مرض مخوف، وقد أشار الشافعي أيضاً إلى الإنكار على إمام الحرمين في هذا النقل.
م: (وهو) ش: أي قول الشافعي م: (مردود بظاهر النص) ش: وهو قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) ، فإنه أباح التيمم بكل مرض من غير فصل، وهذا الرد لا يستقيم إلا على أحد قوليه الذي هو غير صحيح وغير مشهور.(1/517)
ولو خاف الجنب إن اغتسل أن يقتله البرد أو يمرضه يتيمم بالصعيد، وهذا إذا كان خارج المصر لما بينا، ولو كان في المصر فكذلك يتيمم عند أبي حنيفة خلافا لهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: كيف لا يتناول لمن لا يشتد مرضه. قلت: بسياق الآية وهو قَوْله تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) فإن الحرج إنما يلحق من يشتد مرضه فبقي الباقي على ظاهرها.
فإن قلت: لا نسلم إطلاق النص لتقييده بالعدم.
قلت: العدم شرط في حق المسافر دون المريض.
[خوف الضرر من استعمال الماء]
م: (ولو خاف الجنب إن اغتسل أن يقتله البرد) ش: كلمته الأولى مكسورة والثانية مفتوحة، في محل النصب على أنه مفعول لقوله " خاف " ثم إنه ذكر الجنب ولم يذكر المحدث. قال في " الأسرار ": إنهما سواء على قول أبي حنيفة. وذكر قاضي خان: ثم الجنب الصحيح في المصر إذا خاف الهلاك بالبرد جاز له التيمم على قوله: وأما المسافر إذا خاف الهلاك من الاغتسال جاز له التيمم بالاتفاق، وأما المحدث في المصر فاختلفوا فيه على قول أبي حنيفة في المحدث، اختلاف الرواية يجوزه شيخ الإسلام، ولم يجوزه الحلواني. وقال صاحب " الدراية " عنه أنه قال: مشايخنا في ديارنا لا يجوزون للمقيم أن يتيمم بالاتفاق؛ لأن في عرف ديارنا أجرة الحمام بعد الخروج فيمكنه أن يدخل الحمام ويغتسل ويعتذر بالعسرة.
م: (أو يمرضه) ش: عطف على قوله: " أن يقتله البرد " وهو مرفوع؛ لأنه فاعل لقوله: أن " يقتله " وهو من الأمراض أي يمرضه البرد م: (يتيمم بالصعيد) ش: جواب لرد هو جواب المسألة.
م: (وهذا) ش: إشارة إلى جواز التيمم م: (إذا كان) ش: أي الذي يريد به التيمم لأجل الخوف من استعمال الماء من الموت أو المرض م: (خارج المصر لما بينا) ش: أراد به قوله؛ لأنه يلحقه الحرج بدخول المصر.
م: (ولو كان) ش: أي لو كان الجنب الخائف من المرض أو القتل م: (في المصر فكذلك يتيمم عند أبي حنيفة خلافاً لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد، وذكر في " قاضي خان " الجنب الصحيح في المصر إذا خاف الهلاك من الاغتسال جاز له التيمم في قولهم جميعاً.
وأما المحدث في المصر إذا خاف الهلاك من التوضؤ اختلفوا فيه على قول أبي حنيفة، والصحيح: أنه لا يباح له التيمم بالاتفاق، وإن كان عنده من يعينه على استعمال الماء المتعين حراً أو امرأة جاز له التيمم في قول أبي حنيفة، وعندهما: لا يجوز وإن كان المعين مملوكاً اختلف المشايخ على قوله، وقيل: إن كان المعين بغير بدل لا يجوز له التيمم بالاتفاق، وبأجر يتيمم عنده قل أو كثر، وقالا بربع درهم.(1/518)
هما يقولان إن تحقق هذه الحالة نادر في المصر فلا يعتبر، وله أن العجز ثابت حقيقة، فلا بد من اعتباره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (هما) ش: أي أبو يوسف ومحمد م: (يقولان إن تحقق هذه الحالة) ش: أي العجز م: (نادر في المصر فلا يعتبر) ش: لأن الغالب فيه على القدرة عليه دخول الحمام فلا يعتبر النادر.
م: (له) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن العجز ثابت حقيقة) ش: إذ الغرض خوف الهلاك مع وجود الماء ومشروعية التيمم لدفع الحرج وهو شامل لهما م: (فلا بد من اعتباره) ش: ولو كان نادراً في المصر إذا تحقق فلا بد أن يجب الخروج عند عهدته، ولهذا لو عدم الماء في المصر يتيمم ولو كان نادراً كما لو عدم في البرد، ولهما نظائر على هذا الخلاف منها إذا كان لا يقدر على استعمال القيام بنفسه، ومنها إذا كان على فراش نجس، ولا يمكنه التحول إلى مكان طاهر ثم وجد من يحوله. ومنها الأعمى إذا وجد قائداً يقوده إلى الجمعة والحج.
واتفقوا على أنه إذا عجز عن القيام بنفسه وثم من يعينه يصلي قاعداً، والمقعد إذا وجد من يحمله إلى الجمعة لا جمعة عليه عند الكل ولا حج ولا حضور الجماعة. وقيل: الكل على الخلاف.
فروع: المسافر خارج المصر يجوز له جماع زوجته وأمته عند عدم الماء وعليه عامة العلماء، يروى ذلك عن ابن عباس، وجابر، وزيد، وإسحاق، وقتادة، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر.
وعن على، وابن مسعود: يمنعه لعدم جواز التيمم عند ابن مسعود، ومثله عن ابن عمر، والزهري. وقال مالك: لا أحب له أن يصيب امرأته إلا ومعه ماء، عن عطاء إن كان بينه وبين الماء ثلاثة أميال لم يصبها وإن كان أكثر جاز، وعن أحمد في كراهته وجهان، وحديث «عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: يا رسول الله الرجل يجنب ولا يقدر على الماء أيجامع زوجته؟ قال: " نعم» رواه أحمد، وفي إسناده الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف.
والتيمم عن النجاسة المعينة لا يجوز، ومعناه: إذا كان على جسده نجاسة يتيمم لها وفي وجه بيديه لا يصح، وهو قول الجمهور من أهل العلم، خلافاً لأحمد وأصحابه في إعادة صلاته، ولو كانت على بدنه لا يتيمم بها، لكن ينبغي له أن يمسح موضع النجاسة بتراب تقليداً لها.
ولنا: أن الغسل لا يكون في غير موضع النجاسة فكذا التيمم. وفي المرغيناني: المرتد(1/519)
والتيمم ضربتان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المسجون تلزمه الإعادة لصلاة التيمم، ولو جاءت قبل خروجه لا يأثم، ولو منع في السفر، وصلى بالتيمم لا يعيد، وفي صلاة الحسن لا يصلي حتى يقدر على الماء، ولو تيمم لقراءة القرآن الصحيح أنه لا تجوز الصلاة به، ولو تيمم لدخول المسجد أو مس المصحف جازت الصلاة به عند أبي بكر البلخي، وعامة المشايخ بخلافه، وعلى هذا التيمم لزيارة القبور وللتعليم لا يصلي به.
وفي " التحفة ": لو تيمم لصلاة الجنازة، أو سجدة التلاوة، أو لقراءة القرآن فجاز له أن يؤدي جميع ما لا يجوز إلا بالطهارة بخلاف التيمم لمس المصحف ودخول المسجد، حيث لا يعتبر إلا في حقهما؛ لأنهما من أجزاء الصلاة. وفي القدروي لا يجوز التيمم لسجدة التلاوة وقيل هو جائز، ولو تيمم لسجدة الشكر لا يصلي به المكتوبة، وعن محمد: يصليها بناء على أنها قربة عنده.
جنب، وحائض طهرت، وميت، معهم من الماء ما يكفي أحدهما فصاحب الماء أحق به، وبه قال مالك، وقال بعض الشافعية: يبيعه من الميت، وإن كان الماء لهم لا يجوز استعماله لأجل نصيب الميت. وفي " المحيط ": وينبغي أن يصرفا نصيبهما إلى الميت ويتيمما، وإن كان مباحاً فالجنب أولى به، وتتيمم المرأة ويتيمم الميت، وتقتدي المرأة بالرجل.
وقال أحمد: الحائض أولى به لأجل حق زوجها في الوطء، وإن كان معهم محدث فكذلك. وقال المرغيناني وقيل: الميت أولى، والأول أصح. وفي " البدائع ": المحبوس في المصر عنده تراب طاهر يصلي يتيمم ويعيد. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يصلي، وهو قول زفر، وعن أبي يوسف: يصلي ولا يعيد كالمريض والمحبوس، وإذا لم يجد ماء، ولا تراباً نظيفاً فإنه لا يصلي عند أبي حنيفة، وعامة الروايات عن محمد.
وقال أصبغ من المالكية: لا يصلي وإن خرج الوقت إلا بوضوء أو تيمم. وقال أبو يوسف: يصلي بالماء ويعيد، وبه قال محمد في رواية أبي سليمان. وقال بعض المشايخ: إنما يصلي بالإيماء إذا كان المكان رطباً، وإن كان يابساً يصلي بالركوع والسجود، والصحيح عنه أنه يؤدي كيف ما كان، ومذهب عمر، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن من لم يجد ماء لا يصلي، ذكره ابن بطال، وفي " المحيط " دل عليه أن الصلاة بغير طهارة، أو إلى غير القبلة، أو في ثوب نجس متعمداً يكفر، والصحيح أنه لا يكفر بغير طهارة ولا يكفر فيها.
متيمم يصلي، قال يهودي: خذ هذا الماء يمضي في صلاته؛ لأنه مستهزئ به، فإن أعطاه بعدها أعاد.
[أركان التيمم]
م: (والتيمم ضربتان) ش: وبه قال الشافعي في الجديد، والثوري، والنخعي، والحسن وابن(1/520)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نافع، والليث، والأوزاعي، وابن الحكم، وإسماعيل القاضي، وهو قول ابن عمر، ومالك في " المدونة " وقال مالك وأحمد: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الرسغين، والرسغ مفصل الكف وأحد طرفيه كوع، ويقال: كاع أيضاً كياع وكوع يلي الإيهام، والآخر له كرسوع يلي الخنصر.
وقال ابن أبي ليلى، وابن حي: ضربتان يمسح بكل واحدة منهما وجهه ويديه. وقال ابن سيرين: ثلاث ضربات الثالثة لهما جميعاً، وعنه: ضربة ضربة للوجه وضربة للكف وضربة للذراعين. وعن الزهري إلى المناكب، ويروى عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وروى أبو داود أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح إلى أنصاف ذراعيه، قال ابن عطية: لم يقل أحد بهذا الحديث فيما حفظت.
وفي قواعد ابن رشد روي عن مالك الاستحباب إلى ثلاث والفرض اثنان. وفي " شرح الأحكام " لابن بزيزة قالت: طائفة من العلماء: يضرب أربع: ضربتان للوجه وضربتان للذراعين، وقال ابن بزيزة: وليس له أصل في السنة. قال أبو عمر: قال الأوزاعي: التيمم ضربتان ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى الكوعين، والفرض عند مالك إلى الكوعين والاختيار إلى المرفقين، وروي عن الأوزاعي وهو الأشهر قوله: التيمم ضربة واحدة يمسح بها وجهه ويديه إلى الكوعين، والفرض هو قول عطاء والشعبي في رواية، وبه قال أحمد وإسحاق والطوسي، وفي " المغني " لابن قدامة المسنون عن أحمد التيمم بضربة واحدة، فإن تيمم بضربتين، جاز.
وقال القاضي: الإجزاء يحصل بضربة واحدة، والكمال بضربتين. وقال الأكمل: قيل في قوله ضربتان إشارة إلى أن نفس الضرب داخل في التيمم، فمن ضرب يديه على الأرض للتيمم وأحدث قبل أن يمسح بهما وجه وذراعيه ثم مسحهما بهما لم يجز؛ لأنه أحدث بعد ما أتى ببعض التيمم، وكان كمن أحدث في خلال الوضوء. وذكر الأسبيجابي جوازه كمن ملأ كفيه ماء للوضوء ثم أحدث ثم استعمله.
قلت: قيل: قائله السغناقي. وقال الأترازي عند قوله والتيمم ضربتان: والمقصود من الضرب أن يدخل الغبار في خلال الأصابع تحقيقاً بمعنى الاستيعاب كما هو ظاهر الرواية، وإنما قلنا هذا؛ لأن الوضع كاف وإن لم يوجد الضرب، وما قيل إنما اختار لفظ الضرب؛ لأن الآثار جاءت بلفظ الضرب ففيه نظر؛ لأن الله تعالى لم يقيده بالضرب في قوله: {فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] وكذا سائر الآثار كقوله: «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج» وقوله: «جعلت لي الأرض مسجداً» وقوله:(1/521)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" عليكم بالصعيد " إلا أن بعضها جاء لفظ الضرب ولا يقال بمثله جاءت الآثار بلفظ الضرب.
قلت: في نظره نظر؛ لأن استدلاله على ذلك بالآية والأحاديث الثلاثة غير صحيح؛ لأنها تدل على مشروعية التيمم ولا تدل على كيفيته، وكيفيته بأحاديث غيرها وفيها لفظ الضرب، منها في حديث عمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه البخاري ومسلم وفيه: «ثم ضرب بيده الأرض ضربة واحدة» وفي رواية أخرى: فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض» .
ومنها حديث ابن عمر رواه الحاكم في " مستدركه " والدارقطني في " سننه " قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين» وله طريقان آخران في أحدهما: «تيممنا مع رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فضربنا بيدينا على الصعيد» وفي الآخر أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «في التيمم ضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المفرقين» .
ومنها حديث جابر، رواه الحاكم في " المستدرك " عنه، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ضربتان ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين» . وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
ومنها حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رواه البزار في " مسنده " أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «في التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين» .
ومنها حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرجه أبو داود عنه «عن عمار بن ياسر قال: كنت في القوم حين نزلت الرخصة في المسح بالتراب إذا لم نجد الماء، فأمرنا فضربنا واحدة.» ومنها: حديث أبي موسى الأشعري أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وفيه: «إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، وضرب بيديه على الأرض» ، ولحديث عمار طرق كثير، وفيها لفظ الضرب، ومن جملة طرقه طريق فيه عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ومنها حديث أبي أمامة، أخرجه الطبراني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التيمم(1/522)
يمسح بإحداهما وجهه وبالأخرى يديه إلى المرفقين لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ضربتان ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» .
ومنها: حديث الأسلع خادم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيه: «ضرب رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بكفيه الأرض» .
وأخرج الطحاوي من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بأربع طرق موقوفة صحاح، وفيها لفظ الضرب، وأخرج عن الحسن أنه قال: ضربة للوجه والكفين، وضربة للذراعين إلى المرفقين. وأخرج عن سالم أنه ضرب بيديه على الأرض حين سأله أيوب عن التيمم، وأخرج الشعبي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين» . فإذا كان الأمر هكذا فكيف يقول الأترازي: وفي بعضها جاء لفظ الضرب، ولا يقال لمثله الآثار جاءت بلفظ الضرب، ولو اطلع على ذلك لم يقل هكذا.
وقوله: وما قيل، قائله تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[كيفية التيمم]
م: (يمسح بإحداهما وجهه) ش: أي يمسح المتيمم بإحدى الضربتين وجهه، م: (وبالأخرى) ش: أي ويمسح بالضربة الأخرى، م: (يديه إلى المرفقين) ش: أي مع المرفقين، وقال الأكمل: فيه نفي لقول الزهري، فإنه يمسح إلى الآباط، وهو رواية عن مالك نفي لرواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إلى الرسغ وهو مروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
قلت: أخذ هذا من " معراج الدراية "، وهذا ليس قول الزهري وحده، بل هو قوله وقول الأوزاعي، والأعمش، وقول قديم للشافعي، ثم قال: وهو مروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولم يبين مخرجه.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين» ش: إلى المرفقين، روى هذا الحديث عبد الله بن عمر، وجابر، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وقد ذكرنا جميعها عن قريب.
وقال الحاكم في حديث ابن عمر: لا أعلم أحداً أسنده إلا علي بن ظبيان، عن عبد الله وهو صدوق، وقد وقفه يحيى بن سعيد وهشيم وغيرهما، ومالك عن نافع، وقال الدارقطني: هكذا رفعه علي بن ظبيان، وقد وثقه يحيى بن القطان وغيره وهو الصواب، وكذا قال ابن عدي،(1/523)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقد ضعف بعضهم هذا الحديث بعلي بن ظبيان، فقال أبو داود: ليس بشيء، وقال النسائي، وأبو حاتم مثل ذلك. وقال أبو زرعة: واهي الحديث.
قلت: وثقه الحاكم، وقال: صدوق، ووقفه يحيى بن سعيد وهشيم وغيرهما، وحديث جابر صححه الحاكم، وقال الدارقطني رجاله كلهم ثقات، وقال ابن الجوزي: فيه عثمان بن محمد وهو متكلم فيه، وتعقبه صاحب الشيخ وقال: هذا الكلام لا يقبل منه؛ لأنه لم يبين من تكلم فيه، وقد روى عنه أبو داود، وأبو بكر بن أبي عاصم، وذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه صرح.
وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في حديث [الحريش بن الخريت] قال البخاري: فيه نظر، وأنا لا أعرف حاله.
قلت: حريش بفتح الحاء المهملة، وكسر الراء، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره شين معجمه، والخريت بكسر الخاء المعجمة، وتشديد الراء المكسورة، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره تاء مثناة من فوق. قال ابن ماكولا: روى عن ابن أبي مليكة، وروى عنه حرمي بن عمارة، ومسلم بن إبراهيم، وهذه الأحاديث حجة على قول من يقول: التيمم ضربة، وعلى من يقول: ثلاث ضربات، وحجة لمن يقول: إلى المرفقين، وعلى من يقول: إلى المناكب.
وقال الخطابي: الاقتصار على الكفين أصح في الرواية، ووجوب الذراعين أشبه بالأصول وأصح في القياس.
قلت: لأن الله تعالى أوجب في الوضوء غسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس في صدر الآية، وأسقط منها عضوين في التيمم، فبقي العضوان فيه على ما كانا عليه في الوضوء، وإنما ذكر الوجه واليدين لأجل إسقاط العضوين الآخرين؛ إذ لولا ذلك لم يحتج إلى ذكرهما؛ لأنه كان يؤخذ حكمه من الوضوءِ.
فإن قلت: فقد بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم اليدين في التيمم، ولم يحمله على الوضوء، حيث مسح على الكفين في الحديث الثالث عن عمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإن ثبت مسحه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المرفقين يحمل على الاستحباب، إذ لو كان واجبا لما تركه.
قلت: لعله عبر بالكفين المعهودين في الوضوء.
فإن قلت: وفي لفظ الدارقطني «ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين» يمنع هذا التأويل.
قلت: لم يروه مرفوعاً عن حصين غير إبراهيم بن طهمان، وثقه شعبة وزائدة وغيرهما.(1/524)
وينفض يديه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وينفض يديه) ش: النفض تحريك الشيء ليسقط ما عليه من غبار وغيره وفيه خلاف، قيل ينفض مرة، وقيل مرتين. وفي " الزاد ": الأحوط أن يضرب بيديه على الأرض وينفضهما حتى يتناثر التراب فيمسح بهما وجهه، ثم يضرب أخرى فينفضهما ويمسح بباطن أربع أصابع يده اليسرى ظاهر يده اليمنى من رؤوس الأصابع إلى المرفقين، ثم يمسح بباطن كفه اليسرى ظاهر ذراعه اليمنى إلى الرسغ، ويمر بإبهام يده اليمنى، ثم يفعل بيده اليسرى كذلك.
قال صاحب " الدراية ": هكذا حكى ابن عمر وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تيمم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأسلع كذلك.
قلت: حديث ابن عمر رواه أبو داود، وفيه: «ضرب يديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب أخرى فمسح ذراعيه» .. الحديث، وسنده ضعيف، ولابن عمر أحاديث غير هذا وقد ذكرناها عن قريب، وله حديث آخر أخرجه الحاكم والدارقطني من حديث سالم عن أبيه قال: «تيممنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضربنا بأيدينا على الصعيد الطيب، ثم نفضنا أيدينا فمسحنا بها وجوهنا، ثم ضربنا ضربة أخرى الصعيد ثم مسحنا بأيدينا من المرافق إلى الأكف على منابت الشعر من ظاهر وباطن» وفيه سليمان بن أبي داود وهو ضعيف.
وحديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذكرناه أيضاً.
وحديث الأسلع أخرجه الطبراني في كتابه الكبير بإسناده «عن الأسلع - رجل من بني الأعرج بن كعب - قال: كنت أخدم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقال: يا أسلع، قم فأرني كيف كذا وكذا، قلت: يا رسول الله أصابتني جنابة، فسكت عني ساعة حتى جاء جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالصعيد الطيب، قال: قم يا أسلع، قال الراوي: ثم رأى الأسلع كيف علمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التيمم قال: " ضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكفيه الأرض ثم نفضهما، ثم مسح بهما وجهه حتى أمر على اللحية، ثم عادهما إلى الأرض فمسح بكفيه الأرض، فدلك إحداهما بالأخرى ثم نفضهما، ثم مسح ذراعيه ظاهرهما وباطنهما» .
وأخرجه الطحاوي، والدارقطني، والبيهقي وأبو بكر الرقي في " معرفة الصحابة " والحافظ في كتاب الرجال، وابن الأثير في كتاب الصحابة، وابن حزم في " المحلى " وضعف هذا الحديث.
ثم العجب من صاحب " الدراية " يقال: هكذا حكى ابن عمر.. إلخ، فانظر! هل يناسب ما في هذه الأحاديث ما ذكره صاحب " الدراية " الذي نقله في الرواية غاية ما في الباب موافقة في(1/525)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الضربتين والنفض، وأعجب منه ما قال الأكمل، وقد حكى ابن عمر وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تيمم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكيفيته أن يضرب بيديه الأرض إلى آخر ما ذكره في " الزاد "، وذكر صاحب " الينابيع " كيفية التيمم مثل ما ذكره صاحب " الدراية ".
وقال بعض مشايخنا: ينبغي أن يضع بطن أصابع يده اليسرى على كفه اليمنى ويمسح بثلاثة أصابع أصغرها ظاهر يده اليمنى إلى المرفق، ثم يسح باطنها بالإبهام، والمسحة إلى رؤوس الأصابع، ثم يفعل في اليد اليسرى كذلك.
وفي: " المحيط " يضرب يديه على الأرض ثم ينفضهما ويمسح بهما وجهه بحيث لا يبقى شيء وإن قل، وأن يمسح الوترة التي بين المنخرين، ثم يضرب يديه على الأرض ثانياً وينفضهما، ويمسح بهما وجه كفيه وذراعيه، ولا يجوز المسح بأقل من ثلاثة أصابع كمسح الرأس والخفين.
وقال في " الذخيرة ": لم يذكر ها هنا أنه يضرب ظاهر كفيه وباطنهما، وأشار إلى أنه يضرب باطنهما، فإنه قال: لو ترك المسح على ظاهر كفه لا يجوز، فدل على أن الضرب بباطن كفه، والأصح أنه يضرب بباطن كفه وظاهرها على الأرض، ولو تيمم بالكف والأصابع جاز من غير أن يراعى ذلك.
قال أبو يوسف: - سلمه الله - سألت الإمام عن كيفية التيمم فيضرب يديه على الصعيد. قال في " البدائع: " أقبل بهما وأدبر فمسح بهما وجهه، ثم أعاد على الصحيح إلى الصعيد، ثم أقبل بهما وأدبر، ثم رفعهما ونفضهما، ثم مسح بكل كف الذراع الأخرى، قيل: يفعل ذلك حتى لا يلصق التراب بيديه فيصير مثله، وفي صلاة الأصل النفض كلما رفع يديه مرة واحدة في ظاهر الرواية. وعن أبي يوسف في صلاة الوتر: ينفضهما مرتين، وفي صلاة النوادر: أن الغبار إذا لم يدخل بين أصابعه يجب تخليلهما، وهذه تحتاج إلى ثلاث ضربات، ضربة للوجه، وضربة لليدين، وضربة للتخلل على ما روي عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، يحتاج إلى أربع ضربات، وضرب اليدين من وضعهما حتى يدخل التراب بين أصابعه يقبل بهما ويدبر عند الضرب حتى يلتصق التراب بيديه.
وذكر في " المبسوط " ويستحب تسمية الله تعالى في أوله كما في الوضوء، وفي " قاضي خان " هل يمسح الكف؟ اختلفوا فيه، والصحيح أنه لا يمسح، وضربه على الأرض يكفي. وقال النووي: قال جماعة من الخراسانيين: لا يشترط في التيمم ضربتان، بل الواجب إيصال التراب إلى الوجه واليدين بضربة أو ضربتين أو ضربات، وعندنا لو ضرب يديه مرة واحدة ومسح بهما وجهه ويديه لا يجوز، فإن التراب الذي كان على يديه يصير مستعملاً بالمسح على الوجه، واقتداء(1/526)
بقدر ما يتناثر التراب كيلا يصير مثلة،
ولا بد من الاستيعاب في ظاهر الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وعن محمد في " النوادر " رجل يرى التيمم إلى الرسغ والوتر ركعة، ثم رأى التيمم إلى المرفقين والوتر ثلاثاً لا يعيد ما صلى؛ لأنه مجتهد فيه، وإن كان فعل ذلك من غير أن يسأل أحداً ثم سأل فأمر بالثلاث في الوتر وإلى المرفقين في التيمم يعيد ما صلى؛ لأنه غير مجتهد فيه.
م: (بقدر ما يتناثر التراب كيلا يصير مثلة) ش: الباء في " بقدر " متعلق بقوله ينفض، وأشار بذلك إلى أن النفض لا يقدر بمرة كما روي عن محمد، بل إن احتاج إلى الثاني فعل، وإلا بمرتين كما روي عن أبي يوسف، بل إن تناثر بمرة لا يحتاج إلى الثاني؛ لأن المقصود هو أن لا يصير مثلة وهو يحصل بالنفض سواء كان مرة أو مرتين، و " المثلة " بضم الميم ما يتمثل منه في تبديل خلقه وبتغير هيئته، سواء كان بقطع عضو أو تسويد وجه وتغيره، هكذا فسره الأكمل أخذه من " الدراية ". وقال تاج الشريعة: المثلة ما يتمثل فيه في القبح. قال الأترازي نحوه، وزاد: وأصلها قطع الأعضاء ويريد الوجه.
قلت: المثلة: اسم لمصدر المثل بفتح الميم وسكون الثاء، يقال مثلت بالحيوان أمثل مثلاً: إذا قطعت أطرافه وشوهت به، ومثلت بالعبد إذا جدعت أنفه أو أذنه أو مذاكيره أو شيئاً من أطرافه، وهو من باب نصر ينصر، والعجب من صاحب " الهداية " أنه جعل ترك النفض مثلة، وهذا من حيث اللغة لا من حيث الشرع، لعدم وروده هكذا، ولا يصير مثلة إذا ترك النفض.
غاية ما في الباب تلوث وجهه بالتراب إن أخذه بيديه كثيراً وكان التراب رطباً، وتلوث عضو من الأعضاء بالتراب لا يسمى مثلة. قال الأترازي: تسويد الوجه ليس له فضل في المعنى اللغوي، نعم إذا سود الوجه يكون تشويها ربما يشابه المثلة، ولو قال صاحب " الهداية ": وينفض يديه اتباعاً للسنة لكان أولى، لو أراد أن يذكر الحكمة فيه لكان يمكن أن يقال: إنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فعل ذلك حتى لا ينقل أثر التراب المستعمل في يديه في الضربة الأولى.
م: (ولا بد من الاستيعاب) ش: أشار به يستوعب وجهه ويديه إلى المرفقين، وأصله استوعاب، قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وأصل الاستيعاب شرط في التيمم حتى إذا ترك شيئاً قليلاً لم يجزه كما في الوضوء، والاستيعاب أن يستوعب وجهه ويديه إلى المرفقين، وأصل الاستيعاب الإيصال في كل شيء، وكذلك الإيعاب من أوعب، والثلاثي وعب، وفي الحديث عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كان المسلمون يوعبون في السفر مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» أي يخرجون أجمعهم في الغزو.
م: (في ظاهر الرواية) ش: واحترز به عما رواه الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال:(1/527)
لقيامه مقام الوضوء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأكثر يقوم مقام الكل؛ لأن في الممسوحات الاستيعاب ليس بشرط كما في مسح الرأس والخف. وجه الظاهر أن التيمم قائم مقام الوضوء وهو شرط فيه، فكذا ما قام مقامه، وقال الحلواني: ينبغي أن يحفظ رواية الحسن لكثرة البلوى. قال النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجب إيصال التراب إلى جميع البشرة الظاهرة من الوجه والشعر الظاهر عليه.
قال وعن أبي حنيفة: روايات أحدها كمذهبنا، قال: وهي التي ذكرها الكرخي في " مختصره " قلت له: إن أراد أنه كمذهبهم في الاستيعاب فصحيح، وإن أراد به إيصال التراب فليس ذلك مذهباً له ولا رواية عنه. وقال الثانية إن ترك قدر درهم لم يجزئه ودونه يجزئه، وهذه ليس لها أصل في الكتب الأمهات لأصحابنا مثل " المبسوط " و " المحيط " و " الذخيرة " و " شرح مختصر الكرخي " و " البدائع " و " المفيد " ونحوها. وقال [ ... ] الرابع ما مع الرابع: مسح الأكثر يجزئه، ثم إنه يجب على الظاهر نزح الخاتم والسوار في حق المرأة.
وقال الأكمل: فإن قيل: قد دل الدليل على أن حقيقة اليد ليست بمرادة، فإن الباء إذا دخلت لمحل تعدى الفعل إلى الآلة، فلا يقتضي استيعاب المحل، بأن أجيب الباء صلة كما في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] (سورة البقرة: الآية 195) فلا يقتضي تبعيض المحل وفيه بحث. قلت: أصل السؤال والجواب لتاج الشريعة، ولكنه قال في الجواب أحسن منه، وهو أنه قال: إن الاستيعاب ها هنا ثابت بالسنة المشهورة، فجعلت الباء صلة كما في قوله يضرب بالسيف ويرجو بالفرح، أي يرجوه، أو بدلالة الكتاب؛ لأنه مجموع خلفاً، قلت: الباء في قوله يضرب بالسيف ليست بصلة، وإنما هي للتبعيض، وكأنه ذكر مثالين أحدهما قوله يضرب بالسيف إشارة إلى أن الباء فيه للتبعيض، كما في آية الوضوء، والباء في قوله ويرجو بالقدح إشارة أن الباء فيه صلة كما في آية التيمم، فإذا كان كذلك يكون الاستيعاب شرطاً.
وقال الأكمل: وفيه بحث، كأنه أشار به إلى أن جعل الباء في آية التيمم ليس فيه وجه؛ لأن التيمم خلف عن الوضوء، فالباء في آية الوضوء للتبعيض، فلا يقتضي استيعاب الرأس بالمسح فذلك ينبغي أن تكون في التيمم؛ لأن الخلف لا يخالف الأصل.
م: (لقيامه مقام الوضوء) ش: أي لقيام التيمم مقام الوضوء، لا يقال إنه إضمار قبل الذكر؛ لأن التيمم ذكر في أول الباب. قال الأكمل: الاستيعاب في الوضوء شرط فكذا فيما قام مقامه، ولولا الخلفية لكان المسح إلى المناكب واجبا عملا بالمقتضى، وهو ذكر الأيدي في الكتاب والسنة، ولا يلزم آية السرقة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين محل القطع وهو الزند بالقول والفعل بخلاف ما نحن فيه.
قلت: خلفية التيمم عن الوضوء تظهر في المسح فقط، ألا ترى أنه سقط فيه عضوان وبقي(1/528)
ولهذا قالوا: يخلل الأصابع وينزع الخاتم ليتم المسح،
والحدث والجنابة فيه سواء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عضوان فصار التيمم خلفاً عن البعض والاستيعاب في المسح الذي في الوضوء ليس بشرط، فكذا في خلفه وهو التيمم.
فإن قلت: لما سقط عضوان بقي عضوان من اشتراط الاستيعاب فيهما.
قلت: نعم، لولا الباء في آية التيمم، فإنهم وقوله عملاً بالمقتضى، وهو ذكر الأيدي في الكتاب والسنة.
قلت: إنما يتوجه ما ذكره لو كانت الباء فيهما صلة والغرض أنها للتبعيض فيهما، أما في آية الوضوء فقد تقرر فيما مضى كونها للتبعيض، وأما ها هنا فلأن التيمم خلف عنه فلا يخالف أصله.
قوله: ولا يلزم آية السرقة ... إلخ.
قلت: إنما يلزم ذلك إذا قلنا إن الباء صلة، وآية السرقة ليست فيها باء فاقتضى قطع اليد من المناكب، ولكن الشارع بينه بخلاف ما نحن فيه.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كون الاستيعاب شرطاً م: (قالوا) ش: أي المشايخ م: (يخلل الأصابع وينزع الخاتم ليتم المسح) ش: وكذا المرأة تنزع السوار. قوله: " ليتم المسح للوجه واليدين " فإنه اسم للكل، ويؤيد هذا ما ذكره محمد في " النوادر " أن الغبار إذا لم يدخل بين أصابعه يجب تخليلهما، وفي " المحيط " لو لم يمسح تحت الحاجبين وفوق العينين، أو لم يحرك خاتمه وهو ضيق لا يجوز به.
[تيمم الجنب]
م: (والحدث والجنابة فيه سواء) ش: أي في التيمم من حيث الجواز والكيفية والآلة، أما الجواز فكما يجوز التيمم للمحدث فكذلك يجوز للجنب، وأما الكيفية فكما ذكرنا في حق المحدث فكذلك في حق الجنب. وأما الآلة فكما يجوز للمحدث بكل ما كان من جنس الأرض فكذلك يجوز للجنب.
قال: السغناقي: قال شيخ الإسلام في " المبسوط ": وهو وقول أصحابنا وعليه العلماء. وقال بعض الناس بأنه لا يتيمم الجنب والحائض والنفساء.
قلت: عن النخعي أن الجنب يؤخر الصلاة حتى يجد الماء. وقال السغناقي: المسألة مختلفة بين الصحابة، روي عن عمر، وعبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وعبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهم كانوا لا يجوزون التيمم للجنب.
قلت: لم يبين من أخرج عنهم هذا، وكذا غيره من الشراح، فالمروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " بسنده عنه أنه قال " لا يتيم الجنب وإن لم يجد(1/529)
وكذا الحيض والنفاس، لما روي «أن قوما جاءوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالوا: إنا قوم نسكن هذه الرمال ولا نجد الماء شهرا أو شهرين وفينا الجنب والحائض والنفساء، فقال: عليكم بأرضكم» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الماء شهرا " وروى أيضاً بسنده عن ابن مسعود أنه قال: إذا كنت في سفر فأجنبت فلا تصل حتى تجد الماء.
قال النووي في " شرح المهذب ": وغيره إجماع الصحابة ومن بعدهم على جواز التيمم للحدث الأصغر والأكبر الذي هو الجنابة، وقد ذكروا رجوع عمر وابن مسعود وهو المروي عن علي، وابن عباس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ومنشأ الاختلاف فيما بينهم أن قَوْله تَعَالَى {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] (النساء: الآية 43) ، محمول على المس باليد أو على الجماع، فذهب أصحابنا وعامة العلماء إلى الثاني، وذهب النافون للجنابة إلى الأول، فقالوا: القياس ألا يكون التيمم طهورا، وإنما أباحه الله تعالى للمحدث، فلا يباح للجنب؛ لأنه ليس معقول المعنى حتى يصح القياس، وليس في معناه حتى يلحق به، بل هو فوقه.
قلنا: أريد بالملامسة الجماع مجازا لسياق الآية، فإن الله تعالى بين حكم الحدث والجنابة في آية الوضوء، ثم نقل الحكم بالتراب حال عدم الماء، وذكر الحدث الأصغر بقوله {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] (النساء: الآية 43) ، فيحمل {لَامَسْتُمُ} [النساء: 43] على الحدث الأكبر لتصير الطهارتان والحدثان مذكوران في آية البدل كما ذكرنا في آية الوضوء، ولكن سلمنا أن الله تعالى شرع التيمم للمحدث، فرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرعه للجنب أيضاً، وهو الحديث الذي ذكره المصنف على ما نبينه إن شاء الله تعالى، والشافعي أباح التيمم للجنب ومع ذلك حمل الملامسة في الآية على المس باليد، فيكون قولاً ثالثاً مخالفاً للطائفتين من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
[تيمم الحائض والنفساء]
م: (وكذا الحيض والنفاس) ش: أي وكذا التيمم في الحيض والنفاس سواء، يعني يجوز للحائض والنفساء كما يجوز للجنب والحائض م: (لما روي «أن قوماً جاءوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالوا: إنا قوم نسكن هذه الرمال ولا نجد الماء شهراً أو شهرين، وفينا الجنب والحائض والنفساء، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليكم بأرضكم» ش: هذا الحديث رواه أحمد في " مسنده "، والبيهقي في " سننه "، وإسحاق بن راهويه في " مسنده " وأبو يعلى الموصلي في " مسنده "، والطبراني في " معجمه الأوسط "، من حديث أبي هريرة، «أن ناساً من أهل البادية أتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: إنا نكون بالرمال الأشهر الثلاثة والأربعة ويكون فينا الجنب والحائض والنفساء ولا نجد الماء، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليكم بالأرض...... الحديث» وفي سنده المثنى بن الصباح.(1/530)
ويجوز التيمم عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - بكل ما كان من جنس الأرض كالتراب والرمل والحجر والجص والنورة والكحل والزرنيخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الإمام أحمد والدارمي: لا يساوي شيئاً، وقال النسائي متروك الحديث، وفي إسناد أبي يعلى ابن لهيعة وهو ضعيف، وذكره الأترازي بلفظ «أن رجلاً سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنا نكون بالرمال الأشهر وفينا الجنب والحائض والنفساء، ولا نجد الماء فكيف نصنع؟ فقال: " عليكم بالصعيد.»
قلت: ما وقعت على لفظه في كتب الأمهات.
فإن قلت: هذا الحديث ضعيف فلا يتم به الاستدلال.
قلت: قد ورد في حديث عمران بن الحصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه البخاري وغيره «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا معتزلاً لم يصل في القوم فقال: أفلان ما منعك أن تصلي في القوم؟ فقال يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصابتني جنابة ولا ماء، قال عليك بالصعيد فإنه يكفيك» .
قوله: " ولا ماء " أي ولا ماء موجود، أو أجد، أو عندي ونحو ذلك، وفي حذف الخبر نظر لعذره لما فيه من عموم النفي، فكأنه نفى وجود الماء بالكلية، بحيث لو وجد بسبب أو سقي أو غيره لحصله.
قوله: " عليكم بأرضكم " أي افعلوا التيمم بأرضكم، ولفظ عليكم هاهنا اسم للفعل بمعنى خذوا، ويقال: عليك زيداً وزيد. وقال الأترازي: " عليكم بأرضكم " أي باستعمال أرضكم.
قلت: التيمم لا يضاف إلى الأرض بل إلى الفعل.
[ما يتيمم به]
م: (ويجوز التيمم عند أبي حنيفة ومحمد بكل ما كان من جنس الأرض كالتراب، والرمل والحجر والجص) ش: بفتح الجيم وتشديد الصاد، ويقال: بكسر الجيم أيضاً. وقال الجوهري: هو ما يبنى به وهو معرب، وقال في فصل القاف القصة الجص لغة حجازية، وفي لغة المصريين الجص يسمى " الجير " بكسر الجيم وسكون الياء آخر الحروف، وفي لغة غيرهم يسمى " كلثا "، وبالفارسي يسمى كج. م: (والنورة) ش: قال الجوهري: النورة ما يطلى به، وفي " المغرب " همز النورة خطأ، م: (والكحل والزرنيخ) ش: بكسر الزاء الكبريت والتوتياء والزاجات والطين الأحمر والأبيض والأسود والحائط المطين والمجصص، والمراد سبخ والملحي الجبلي. وفي " قاضي خان ": لا يصح على الأصح؛ لأنه يذوب وبالماء لا يجوز اتفاقا، ويجوز أيضاً بالياقوت، والزبرجد، والزمرد،(1/531)
وقال أبو يوسف: لا يجوز إلا بالتراب والرمل. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز إلا بالتراب المنبت، وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] أي ترابا منبتا، قاله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والبلخش والفيروز، والمرجان، والأرض الهندية والطين الرطب. ولا يجوز بالطين المغلوب بالماء، ويجوز بالآجر في ظاهر الرواية من غير فصل، وشرط الكرخي أن يكون مدقوقاً. وقد منع أبو يوسف في غير المدقوق ذكره في " الذخيرة "، وفي رواية لا يجوز.
وفي " المحيط ": والخزاف إذا كان من طين خالص يجوز وإن كان خالطه شيء آخر ليس من جنس الأرض لا يجوز، فالزجاج المتخذ من الأرض وشيء آخر ليس من جنس الأرض. قال الثعلبي: وأجاز أبو حنيفة التيمم بالجوهر المسحوق، والجوهر عندهم هو اللؤلؤ الكبير وهو غلط منه؛ لأنه ليس من أجزاء الأرض، بل هو متولد من حيوان في البحر. ونقل القرطبي الإجماع على منع التيمم بالياقوت والزمرد، وهو وهم منه، وهما من الأجزاء النفيسة، فيجوز التيمم بهما عند أبي حنيفة، وفي " المحيط " لا يجوز بمسبوك الذهب والفضة، ويجوز بالمختلط بالتراب إذا كانت الغلبة للتراب. وقال المرغيناني: يجوز بالذهب والفضة والحديد، والنحاس وما أشبهها ما دامت على الأرض ولم يصنع منه شيء. وقال أبو عمر: وجميع العلماء على أن التيمم بالتراب دون الغبار جائز. وعند مالك يجوز بالتراب، والرمل، والجين والحر والسانح والمطبوخ بالجص والآجر. وقال الثوري والأوزاعي: يجوز كل ما كان على الأرض حتى الشجر والثلج والجمد. ونقال النقاش عن ابن علية، وابن كيسان جوازه بالمسك والزعفران، وإن إسحاق منعه بالسباخ.
م: (وقال أبو يوسف: لا يجوز إلا بالتراب والرمل) ش: هذا قوله المرجوع عنه، كان يقول أولاً هكذا ثم رجع فقال: لا يجوز إلا بالتراب الخالص، رواه المعلى عنه وهو آخر قوله.
م: (وقال الشافعي: لا يجوز إلا بالترب المنبت) ش: الذي له غبار، وبه قال أحمد، وعن أحمد في رواية في السبخة والرمل أنه يجوز التيمم به، فإن دق الخزف والطين المحرق لم يجز التيمم به.
وعن الشافعي في القديم: يجوز بالرمل، ومن أصحابه من قال: لا يجوز به قولاً واحداً، وما قاله في القديم محمول على رمل يخالطه تراب، ومنهم من قال: على قولين؛ أحدهما: الجواز، والآخر: عدمه، والمعروف من مذهبه الذي قطع به أصحاب النصوص عليه في " الإمام " لا يجوز إلا التراب، وفي " الحلية ": لا يصح التيمم عندنا إلا بتراب طاهر له غبار تعلق بالوجه واليدين، وبه قال أحمد وداود عن بعض أصحاب الشافعي: لا يصح إلا بتراب غبار تراب الحرث، وبه قال إسحاق.
م: (وهو رواية عن أبي يوسف) ش: أي قول الشافعي رواية عن أبي يوسف، وهو قوله المرجوع إليه كما ذكرنا، م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] أي تراباً منبتاً، قاله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ش: الذي قاله عبد الله بن عباس، رواه البيهقي من جهة قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه(1/532)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن ابن عباس قال: الصعيد الطيب حرث الأرض، ورواه من جهة جرير عن قابوس عن أبيه، عن ابن عباس قال: أطيب الصعيد حرث الأرض، وسئل عنه أي الصعيد أطيب؟ قال: الحرث؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] (الأعراف: الآية 58) . قلت: الاستدلال للشافعي في هذا غير موجه؛ لأنه غير قائل باشتراط الإنبات في التراب الذي يجوز به التيمم، وقال في التيمم: الإنبات ليس بشرط في الأصح.
فإن قلت: قوله في الأصح يدل على أن الإنبات شرط في غير الأصح، ويكون الاستدلال بما روي عن ابن عباس موجهاً، قيل: يخدش ذلك كون الاستدلال لأبي يوسف والشافعي، ولم يرو عن أبي يوسف كما هو شرط عند الشافعي، قال: كذا ذكره في التأويلات.
وذكر صاحب " الدراية " الاستدلال الصحيح لهما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» . رواه البخاري ومسلم، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التراب طهور المسلم» .
قلت: هذا الذي ذكره في الحقيقة استدلال لأبي حنيفة ومحمد على جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض؛ لأن اللام فيها للجنس، فلا يخرج شيء منها، ولأن الأرض كلها جعلت مسجداً، وما جعل مسجداً هو الذي جعل طهورا، وعورض بالرواية الأخرى، وهي «وجعلت تربتها لنا طهوراً» .
وأجيب بأن الأصل قد انفرد أبو مالك بها، وجميع طرقه «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» ، ولا اعتداد بمن خالف الناس، ويمنع كون التربة يراد بها التراب، بل كل مكان تراباً ما يكون فيه من التراب أو الرمل أو غير ذلك من جنس تلك الأرض بما يقابل التربة، وبأنه مفهوم اللقب، وهو ضعيف عند جميع الأصوليين، قالوا: لم يقل به إلا الدقاق، وهو يدل بمنطوقه على جميع أجزاء الأرض، وطهوراً عطف على قوله مسجداً، ومعناه: وجعلت لي الأرض طهوراً، وهو أقوى من مفهوم اللقب.
وقال ابن القطان في شرح البخاري: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أيما رجل أدركته الصلاة فليصل» دليل على أن المراد الأرض كلها، فإنه قد تدركه في أرض رمل أو جص أو غير ذلك كما تدركه في أرض عليها تراب، ويجوز أن يكون ذكر التربة خرج مخرج الغالب، لا أنه يجوز غيره.
فإن قلت: قوله " فليصل " لا يدل على أنه يتيمم ويصلي، بل إذا لم يجد تراباً يصلي بغير وضوء على حسب حاله عنده فلا حجة فيه.
قلت: المنع أولاً، فإنه لا يصلي بغير طهور عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواية عن محمد، وبأنه تلزمه الإعادة عند من يأمره بالصلاة بغير طهور، ولا إعادة ها هنا لوجهين: أحدهما لم(1/533)
غير أن أبا يوسف زاد عليه الرمل بالحديث الذي رويناه، ولهما أن الصعيد اسم لوجه الأرض، سمي به لصعوده،
والطيب يحتمل الطاهر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يذكرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلو وجبت إعادتها لبينها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثاني: وجوب الإعادة، حكم الطهارة بغير طهور، وها هنا الطهور موجود. وجواب آخر أنه قد جاء، فعنده طهوره ومسجد، والحديث يفسر بعضه بعضها.
م: (غير أن أبا يوسف زاد عليه الرمل) ش: أي على التراب الرمل، فإنه يجوز عندهما بهما لا غير، والضمير في عليه ترجع إلى التراب كما قلنا، ويجوز أن يرجع إلى الشافعي، أي: زاد أبو يوسف الرمل على ما ذهب إليه الشافعي وهو التراب الذي اتفقا فيه م: (بالحديث الذي رويناه) ش: الباء تعلق بقوله زاد، وأراد " بالحديث " هو الذي مضى ذكره، وهو أن قوما جاءوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان ينبغي للمصنف أن يقول بالحديث الذي ذكرناه أو نحو ذلك وهو لم يروه، فكيف يقول رويناه.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، م: (أن الصعيد اسم لوجه الأرض) ش: قد ذكرنا عند قوله " تيمم بالصعيد " ما قاله أهل اللغة في معنى الصعيد، والذي قاله المصنف منقول عن الأصمعي، والخليل، وثعلب، وابن الأعرابي، والزجاج. وقال في " معاني القرآن " الصعيد وجه الأرض، ولا ينافي كان في الوضع تراب أو لم يكن؛ لأن الصعيد ليس التراب، إنما هو وجه الأرض تراباً كان أو صخراً لا تراب عليه أو غيره، قال الله تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40] (الكهف: الآية 40) ، فعلم أن الصعيد يكون زلقاً. وقال الزجاج: لا أعلم فيه خلاف أهل اللغة.
وقال قتادة: الصعيد الأرض التي لا نبات فيها ولا شجر.
م: (سمي به) ش: أي سمي وجه الأرض بالصعيد م: (لصعوده) ش: أي لكونه ما يصعد إليه من باطن الأرض. وقال الأكمل: قال المصنف: سمي به لصعوده، وهو إشارة إلى أنه فعيل بمعنى فاعل، فإذا كان كذلك، فتقييده بالتراب المنبت تقييد للمطلق بلا دليل.
قلت: ليس كذلك، بل يكون بمعنى مفعول يعني مصعود، وإذا كان بمعنى فاعل على ما قاله فيكون بمعنى صاعد، وليس المراد ذلك ها هنا، وإن كانوا قالوا إنه يجيء بمعنى فاعل أيضاً، فالذي قلنا أشار إليه الخليل، وابن الأعرابي، وثعلب، وهم الذين يرجع إليهم في هذا الباب، ثم قوله فتقييده بالتراب المنبت تقييد للمطلق بلا دليل ليس كذلك؛ لأن الصعيد وإن كان مطلقاً فقد قيده بالصفة، وهي قوله طَيّباً ولكن اختلف في أن معناه طاهراً ومنبتا على ما نذكره عن قريب.
م: (والطيب يحتمل الطاهر) ش: هذا جواب عما قاله الشافعي أن معنى طيباً في قَوْله تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] تراباً منبتا، ثم استدل بنفي الطاهر على ذلك بقول ابن عباس، حيث فسر(1/534)
فحمل عليه؛ لأنه أليق بموضع الطهارة، أو هو مراد بالإجماع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الطيب بالمنبت، تقرير الجواب أن الطيب مشترك بين الطاهر، والنظيف والحلال، والمنبت والطيب بمعنى الطاهر، فإن الطيب في اللغة خلاف الخبيث، أما بمعنى النظيف، فقال أبو إسحاق: الطيب النظيف، وأما بمعنى الحلال فقوله تعالى {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] (البقرة: الآية 172) ، وأما بمعنى المنبت فقوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] (الأعراف: الآية 58) ، والأكثر على أنه بمعنى الطاهر، وقد أريد به الطاهر بالإجماع؛ لأن الطهارة شرط فيه؛ لأن النجس لا يكون طهوراً، فإذا أريد به المعنى لا يراد غيره؛ لأن المشترك لا عموم له.
م: (فحمل عليه) ش: أي على معنى الطاهر م: (لأنه) ش: أي؛ لأن معنى الطاهر ها هنا م: (أليق بموضع الطهارة) ش: لأنه قال في آخر الآية {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] ألا ترى أنه لو كان التراب المنبت نجسا لم يجز التيمم به إجماعاً، فعلم أن الإنبات ليس له أثر في هذا الباب.
فإن قلت: الطيب في الآية مقرون بالأرض، فيكون الإنبات أليق، إذ القرآن يفسر بعضه بعضاً.
قلت: آخر الآية يدل على أن المراد الطاهر؛ لأنه لو كان المراد منبتاً لكان قال موضع قوله {لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] لتزرعوا؛ لأن الإنبات يناسب الزرع.
م: (أو هو مراد بالإجماع) ش: هذا دليل آخر على أن المراد من طَيّباً أن يكون طاهراً، تقريره أنه يحتمل المعاني المذكورة، والطاهر مراد بالإجماع كما ذكرنا آنفا، فإذا تعين أحد معاني المشترك للإرادة بطل الباقي؛ لأن المشترك لا عموم له.
فإن قلت: الشافعي قائل بعموم المشترك.
قلت: شرط فيه أن لا يمنع الجمع، وأن يتجرد اللفظ عن القرينة الصارفة إلى أحد المعاني، وها هنا لم يتجرد عن القرينة، على أن المراد الطاهر، ثم إن المصنف لم يجب عن قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فالجواب: عنه أن المطلق لا يقيد بخبر الواحد فكيف الأثر؟ وأيضاً المنقول عن ابن عباس أطيب الصعيد أرض الحرث، فهو يدل على جواز التيمم بغير الحرث؛ لأنه إذا كان أطيب الصعيد دل على أنه غير طيب، وهو المأمور به، ثم الاستدلال بهذا الأثر يدل.. أن لا يجوز التيمم بالسبخية. وذكر النووي أن السبخية هي التراب الذي فيه ملوحة ولا ينبت، والتيمم به جائز.
وحديث أبي جهم الأنصاري يرد أيضاً على الشافعي، وهو أنه قال: «أقبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بئر جمل - موضع بالمدينة - فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أقبل إلى الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» رواه البخاري مسنداً ومسلم تعليقاً. قال الطحاوي: حيطان المدينة مبنية(1/535)
ثم لا يشترط أن يكون عليه غبار عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لإطلاق ما تلونا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من حجارة سودة من غير تراب، أو لم تثبت الطهارة بهذا التيمم لما فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال ابن القصار المالكي: تيمم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجدار [ ... ] على الشافعي في اشتراط التراب، وقال الماذري: قال الشافعي قول شاذ، وقال الذهبي في أبي جهم: الصواب أبو جهيم بالتصغير.
م: (ثم لا يشترط أن يكون عليه) ش: أي على الصعيد م: (غبار عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي الغبار الذي يلتزق باليد ليس بشرط عنده، فحينئذ لو تيمم بالحجر الأملس والصخرة الملساء يجوز. قال الولوالجي: إذا ضرب يده على صخرة لا غبار عليها أو على أرض يده ولم يتعلق بيده شيء يجوز عند أبي حنيفة، وبه قال مالك.
وعن محمد روايتان لا يجوز بدون الغبار، وهو قول أبي يوسف، والشافعي، وأحمد، وداود، وعند عدم الغبار عند أبي يوسف، روايتان. وفي " البدائع " قول أبي يوسف الثاني: الغبار ليس من الصعيد. وفي " قاضي خان " وعنه يتيمم به ويعيد، ثم إنه رجع وقال: الغبار ليس من الصعيد، وكذا رجع عن جواز التيمم بالرمل ولو لم يكن بثوبه غبار فليتلطخ جسده بالطين حتى جف جاز التيمم عليه، وكذا لو تيمم بالطين جاز، إلا أن فيه مثله.
وفي " الدراية " والتيمم جائز عند أبي حنيفة بالطين، وعن محمد روايتان، إلا إذا كان مغلوباً بالماء، ولو أصابه غبار فمسح به وجهه وذراعيه ناوياً التيمم جاز عند أبي حنيفة، فذكره في " الوجيز " وفي " صلاة الأصل " لو أصاب وجهه وذراعيه غبار لم يجزئه عن التيمم، قالوا: تأويله أنه يمسح به وجهه وذراعيه حتى نص على هذا في كتاب " الصلاة " للمعلى فقال: هدم حائط أو كال حنطة فأصابه غبار لم يجزئه عن التيمم حتى يمر يديه عليه، وقال الشافعي: يجوز التيمم بتراب على فخذه أو ثوب أو حصير أو جدار أو إداوة أو نحوها، ذكره النووي في " شرح المهذب ".
وقال العبدري وغيره: كذا لو ضرب يده على حنطة أو شعير للتيمم وفيه غبار، وكذا لو تيمم على ظهر كلب أو خنزير وشعره يابس جاز عند أبي حنيفة. وفي " البحر " لا يجوز بغبار الثوب النجس، إلا إذا وقع التراب بعدما جف الثوب، وعن أصحابنا: يجوز التيمم بتراب غالب على رماد، وبالعكس لا يجوز، وكذا إذا خالط التراب غير الرماد، ولا بشيء من أجزاء الأرض كالدقيق تعتبر فيه الغلبة، والشافعي فرق بين مخالطة الدقيق ونحوه ومخالطة الرمل؛ حيث جاز في الرمل دون الدقيق، ولو ضرب يده على بشرة أجنبية عليها تراب إن كان كثيراً يمنع التقاء البشرتين صح تيممه، وإلا فلا، قاله القاضي حسين. م: (لإطلاق ما تلونا) ش: وهو قَوْله تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] (النساء: الآية 43) ، ودليل أبي يوسف في رواية، قَوْله تَعَالَى {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) أي من التراب، وهو كما تراه يوجب المسح بشيء من الأرض؛ لأن كلمة " من " للتبعيض، والجواب أن الضمير في منه يرجع إلى الحدث، ولئن سلمنا أنه يرجع إلى(1/536)
وكذا يجوز بالغبار مع القدرة على الصعيد عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التراب فهي لابتداء الغاية، كقولك خرجت من البصرة، يعني ابتداء المسح من الصعيد، بدليل قَوْله تَعَالَى في موضع آخر {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) وقال صاحب " الدراية " قيل: لا يستقيم هذا الاستدلال؛ لأن المطلق والمقيد إذا وردت في حادثة واحدة في حكم واحد فيجب حمل المطلق على المقيد بالاتفاق، وكذا قوله " من لابتداء الغاية " عدول عن حقيقة هذه الكلمة؛ لأنها حقيقة للتبعيض مجاز لغيره، وفيه تأمل.
قلت: وجه التأمل أن هذا ليس ورود المطلق والمقيد في الآيتين المذكورتين في " النساء " و " المائدة " من قبيل ورودهما في حكم واحد، بل في سبب الطهارة ولا تزاحم في الأسباب، فجرى مجرى المطلق على إطلاقه، ولا يحمل على المقيد. وقوله: " لأنها حقيقة للتبعيض مجاز في غيره " غير صحيح؛ لأن الغالب على كلمة من أن تكون لابتداء الغاية، حتى ادعى جماعة أن سائر معانيها راجعة إليه. قال الأترازي: وليس قول أبي يوسف والشافعي، قال الله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) ، وهذا يدل على أن غير التراب لا يجوز به التيمم، فنقول: لا نسلم أنه يدل على ذلك إلا فيما إذا أريد به التبعيض من قوله " منه " أو فيما إذا أريد منه الابتداء فلا، فإن قلتم بالثاني فلا نسلم الدلالة على ما قلتم؛ لأنه معنى يحصل في كل جزء من أجزاء الأرض، إن قلتم بالأول فنعم يلزم ما قلتم إذا سلم، لكن لا نسلم أن التبعيض هو المراد.
قلت: هو الذي ذكره لا يوافق دليلاً إلا في الخلاف يجوز فيه التيمم بغير التراب أو لا يجوز، والدليل الموافق هو الذي ذكرناه الآن، وهو الخلاف في اشتراط التصاق الغبار وعدمه.
وقوله " لا نسلم أن التبعيض هو المراد " منع مجرد، ويمكن أن يكون للتبعيض؛ لأنه أحد معاني كلمة من.
فإن قلت: علامة كلمة التبعيض أن يسد " بعض " مسدها كقراءة عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] (آل عمران: الآية 92) .
قلت: لا يتصور ها هنا هذا التقدير فافهم.
[التيمم بالغبار مع وجود الصعيد]
م: (وكذا يجوز) ش: أي التيمم، م: بالغبار مع القدرة على الصعيد عند أبي حنيفة ومحمد) ش: بأن نفض ثوبه أو لبده وارتفع فتيمم منه يجوز عندهما، وبه قال الشافعي. وعند أبي يوسف لا يجوز، وحكي عن مالك أيضاً، وفي " الإيضاح " أن أبا يوسف رجع عن ذلك.
وقال صاحب " الدراية ": قوله مع القدرة على الصعيد نفي لقول أبي يوسف. قلت: ليس الأمر كذلك، وخلاف أبي يوسف معهم من الاقتصار على ذكر أبي حنيفة ومحمد، وإنما هذا قيد قيد به؛ لأنه إذا لم يقدر على الصعيد جاز التيمم بالغبار حينئذ اتفاقاً.(1/537)
لأنه تراب رقيق.
والنية فرض في التيمم. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليست بفرض؛ لأنه خلف عن الوضوء فلا يخالفه في وصفه، ولنا أنه ينبئ عن القصد فلا يتحقق دونه، أو جعل طهورا في حالة مخصوصة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأنه) ش: أي؛ لأن الغبار م: (تراب رقيق) ش: ألا ترى أن من نقض ثوبه يتأذى جاره بالتراب، فكل ما يجوز بالخشن منه فكذا في الرقيق. وقال أبو يوسف: الغبار ليس بتراب خالص، ولكنه تراب من وجه، والمأمور منه التيمم بالصعيد، وحالة العجوز مستثناة. قلنا: هو تراب حقيقة، ولكنه امتزج بالهواء، وفي " المبسوط " واحتج أبو حنيفة ومحمد بحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه كان مع أصحابه في سفر فمطروا بالجنابة، فأمرهم أن ينفضوا لبودهم وسروجهم فتيمموا بغبارها.
[والنية فرض في التيمم]
م: (والنية فرض في التيمم) ش: النية شرط جواز التيمم عند عامة العلماء، حتى لو تيمم بلا نية لا يجوز.
م: (وقال زفر: ليست بفرض؛ لأنه خلف عن الوضوء، فلا يخالفه في وصفه) ش: أي في وصف الوضوء الذي هو الصحة، فإن الوضوء بدون النية صحيح، فلو لم يصح التيمم بلا نية كان الخلف مخالفاً للأصل في وصفه، فلا يجوز ذلك لخروجه عن الخلف حينئذ.
م: (ولنا أنه) ش: أي التيمم م: (ينبئ عن القصد فلا يتحقق دونه) ش: أي دون القصد.
فإن قلت: لما كان التيمم القصد لغة فلا حاجة إلى النية.
قلت: مطلق القصد غير مراد بالإجماع، بل المراد القصد الشرعي، وهذا لا يكون إلا بالنية، قال الأكمل: قيل التيمم يدل على القصد، والقصد هو النية، وأمرنا بالتيمم والأمر للوجوب فتشترط النية. بخلاف الوضوء، فإن الأمر فيه ورد بالغسل والمسح، ولا دلالة لهما على النية.
قلت: قائل هذا هو الأترازي. ثم قال الأكمل: وفيه نظر؛ لأن القصد المأمور به هو قصد استعمال التراب، وتفسير النية في التيمم أن ينوي الطهارة أو رفع الحدث أو الجنابة أو استباحة الصلاة، وهذا غير ذلك لا محالة، فلا يلزم من كون أحدهما مأموراً به أن يكون الآخر شرطاً.
قلت: وفيه نظر أيضا؛ لأن قصد استعمال التراب هو عين النية؛ لأنه لا يقصد إلا لأحد الأمور الأربعة، وإلا يلزم أن يكون ها هنا نيتان، أحدهما: القصد المأمور به وهو قصد استعمال التراب، والآخر: نية أحد الأمور الأربعة، ولم يقل أحد أن التيمم يحتاج إلى نيتين.
م: (أو جعل طهوراً) ش: هذا دليل آخر على فرضية النية في التيمم، أي وجعل التراب طهوراً م: (في حالة مخصوصة) ش: وهي حالة إرادة الصلاة، والنية هي الإرادة أيضاً، فاشترطت النية فيه(1/538)
والماء طهور بنفسه على ما مر،
ثم إذا نوى الطهارة أو استباحة الصلاة أجزأه،
ولا يشترط نية التيمم للحدث أو للجنابة، وهو الصحيح من المذهب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وليس كذلك الماء، فإنه بالطبع مطهر فلم تشترط فيه النية، وأشار إلى هذا بقوله: م: (والماء طهور بنفسه على ما مر) ش: أي بطبعه فلا يحتاج إلى النية، بخلاف التراب فإنه ملوث بطبعه فافترقا، وقال الأكمل: قوله: والماء طهور بنفسه جواب سؤال تقديره أن الماء أيضاً في الآية جعل طهورا في حالة مخصوصة كما ذكرتم، فكان الواجب أن تكون النية فيه شرطاً، وتقدير الجواب أن الماء طهور بنفسه أي عامل بطبعه، فلا يحتاج إلى النية كما في إزالة النجاسة العينية.
قلت: السؤال غير موجه؛ لأنا نقول فيه أن الماء أيضاً في الآية جعل طهوراً في حالة مخصوصة وليس كذلك، بل الماء مطهر في جميع الحالات، وليست طهارته مقتصرة على إرادة الصلاة بخلاف التراب، فإن طهارته مقتصرة على وقت إرادة الصلاة كما ذكرنا، وفي الجواب أيضاً نظر؛ لأن قياس الوضوء على إزالة النجاسة المعينة غير صحيح؛ لأن الوضوء من باب المأمورات، وإزالة النجاسة من باب المتروك كترك الزنا واللواطة ورد المغصوب قبل الطهارة ترك الحدث.
وعورض بأن الوضوء ليس ترك الحدث، بدليل الوضوء على الوضوء، أجيب بأنه ليس طهارة ترك الحدث على الحقيقة لتحصيل الحاصل، وإنما جعل طهارة مجازاً في حق الآخر، ولهذا لم يجعل الغسل على الغسل مثله عندنا، وعند الخصم على المذهب الصحيح المشهور على ما مر في باب أحكام المياه.
م: (ثم إذا نوى الطهارة أو استباحة الصلاة أجزأه) ش: لأن التيمم طهارة لا يلزمه نية أسبابها كما في الوضوء، فلا يشترط التعيين، ألا ترى أنه لو توضأ للظهر يجوز أداء العصر به، وكذا على العكس.
[نية التيمم للحدث أو الجنابة]
م: (ولا يشترط نية التيمم للحدث أو الجنابة) ش: لأن الشرط يراعى وجوده لا غير، فلا يشترط التعيين م: (وهو الصحيح من المذهب) ش: أي عدم اشتراط التعيين هو الصحيح من المذهب احترازاً عما روي عن الإمام أبي بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه كان يقول: يحتاج إلى نية للحدث أو الجنابة؛ لأن التيمم لهما بصفة واحدة، فلا يتميز أحدهما عن الآخر كصلاة الفرض عن النافلة وهو صحيح، فإن محمد بن سماعة روى عن محمد أن الجنب لو تيمم يريد به الوضوء أجزأه عن الجنابة، والحاجة إلى النية لتقع طهارة واستباحة الصلاة مثلها، وفي الجنابة ينوي استباحة الصلاة، ولو نوى رفع الحدث لم يصح تيممه في أصح الوجهين.
وعن بعض أصحاب أبي حنيفة أنه يرفع الحدث، ولا بد في استباحة الصلاة في التيمم للفرض عند أصحاب الشافعي، وهو قول مالك وأحمد، وهل يفترق إلى تعيين الفرض من ظهر وعصر؟(1/539)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيه وجهان، ففي قول: يباح الفرض بنية صلاة مطلقة أو نافلة، ولو تيمم للفرض استباح به النفل قبل الفرض وبعده، وفي قول: لا يجوز به النفل، وبعده يجوز وبه قال مالك وأحمد.
ولو تيمم لمس المصحف أو لقراءة القرآن أو للطواف استباح ما نواه، وهل يبيح به النفل؟ فيه وجهان، ثم اعلم أن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يجب عن قول زفر؛ لأن الخلف لا يجوز أن يكون مخالفاً لأصله.
والجواب عنه أن الخلف قد فارق الأصل لاختلاف حالهما، ألا ترى أن الوضوء يجعل بأربعة أعضاء بخلاف التيمم، ومن التكرار في الوضوء دون التيمم.
فإن قلت: لا شك أن التيمم خلف عن الوضوء، فلا ينبغي أن يخالف الأصل قطعاً.
قلت: قد بينت لك أنه يخالف الأصل باختلاف الحال، على أنا لا نسلم أن التيمم خلف عن الوضوء عند الكل: فإن عند محمد خلف عن الوضوء، وعندهما خلف عن الماء في حصول الطهارة، حتى جازت إمامة المتيمم للمتوضئ عندهما خلافاً لما قاله، وسيجيء تحقيقه في باب الإمامة إن شاء الله تعالى.
واعلم أيضاً أن التيمم رافع للحدث أو مبيح، فعندنا رافع للحدث إلى وقت وجود الماء، وقال أبو بكر الرازي: لا يرفع، وبه قال الشافعي كالمسح على الخفين يرفع الحدث عن الرجل، والأول المذهب للحديث الذي في " الصحيحين «وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» وحديث أنس «الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر حجج» .
فإن قلت: معنى الحديثين: فإن التراب قائم مقام الطهور في إباحة الصلاة، إذ لو كان طهوراً حقيقة لما احتاج الجنب بعد التيمم أن يغتسل، والدليل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عمران بن الحصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنا في سفر مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى بالناس، فإذا هو برجل معتزل فقال: " ما منعك أن تصلي " قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: " يكفيك الصعيد» ، «واشتكى إليه الناس العطش فدعا علياً وآخر، فقال: "اذهبا فابتغيا الماء " فذهبا فجاءا بامرأة معها مزادتان، فأفرغ من أفواه المزادتين ونودي في الناس، فسقى واستقى، وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، فقال: " اذهب فأفرغه عليك» .
قلت: ليس في الحديث أنه تيمم، ويحتمل أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عاجله بالماء قبل التيمم، أو أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمره بالاغتسال استحباباً لا وجوبا، وقد روى أبو داود من «حديث عمرو بن العاص قال: (احتلمت في ليلة باردة وأنا في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت(1/540)
فإن تيمم نصراني يريد به الإسلام ثم أسلم لم يكن متيمما عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فهو متيمم؛ لأنه نوى قربة مقصودة، بخلاف التيمم لدخول المسجد ومس المصحف؛ لأنه ليس بقربة مقصودة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فثم صليت بأصحابي الصبح، ثم أخبرت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فضحك ولم يقل شيئاً» ورواه الحاكم [وقال] على شرط الشيخين.
فلو كان الاغتسال بعد التيمم واجباً لأمره به، وفيه حجة على من أمر بإعادة الصلاة التي تصلى بالتيمم؛ لأن - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يأمره بالإعادة لا صريحاً ولا دلالة، وغزوة [ذات] السلاسل كانت في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة، وذات السلاسل واد من وادي القرى بينها وبين المدينة عشرة أيام. فقوله: " فأشفقت ": أي خفت.
م: (فإن تيمم نصراني يريد به) ش: أي بالتيمم م: (الإسلام ثم أسلم لم يكن متيمما) ش: يعني لا تجوز الصلاة بذلك التيمم م: (عند أبي حنيفة ومحمد) ش: وهذه من مسائل " الجامع "، وشرط فيه كون التيمم للإسلام، فلذلك قال المصنف: يريد به الإسلام، وهو معتبر به، ولم يشترط في الأصل، وما في " الجامع " هو الصحيح، إذا الاختلاف ثابت فيما إذا أراد الإسلام، وهو بقربه، وفيما إذا لم يرده أولى أن تصح.
م: (وقال أبو يوسف: فهو متيمم) ش: يعنى إذا أرد به الصلاة فصلى به.
فإن قلت ها هنا: فإن الأولى في قوله: فإن تيمم نصراني، والثاني في قوله: فهو متيمم. قلنا: ذكرها في الأولى لكون المسألة متفرعة على ما قبلها، وفي الثاني: كأنها جواب شرط محذوف تقديره قال أبو يوسف: إن تيمم النصراني يريد الإسلام باق على تيممه م: (لأنه) ش: أي؛ لأن النصراني م: (نوى قربة مقصودة) ش: مع كونها قربة؛ لأن الإسلام أعظم القرب، وأما مقصودة فلأنها ليست في ضمن شيء آخر كالشرط، فإذا كان كذلك صح تيممه كالمسلم تيمم للصلاة. م: (بخلاف التيمم لدخول المسجد ومس المصحف) ش: أي بخلاف تيمم المسلم لدخول المسجد أو لمس المصحف، م: (لأنه) ش: أي؛ لأن تيممه لدخول المسجد أو مس المصحف م: (ليس بقربة مقصودة) ش: لحصوله في ضمن شيء آخر، وكذا لو تيمم لخروج المسجد بأن دخل متوضئاً ثم أحدث، أو تيمم للسلام، أو رده، أو للتعليم على الأصح، خلافاً لما رواه الحسن عن أبي حنيفة: تيمم لقراءة القرآن على ظهر القلب أو لزيارة القبور أو لدفن الميت أو للأذان، فإنه لا يجوز الصلاة(1/541)
ولهما أن التراب ما جعل طهورا إلا في حال إرادة قربة مقصودة لا تصح بدون الطهارة، والإسلام قربة مقصودة تصح بدونها، بخلاف سجدة التلاوة؛ لأنها قربة مقصودة لا تصح بدون الطهارة. وإن توضأ لا يريد به الإسلام ثم أسلم، فهو متوضئ عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بناء على اشتراط النية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
به عند عامة العلماء؛ لأنه ليس بقربة مقصودة، وفيه خلاف أبي سعيد البلخي، حيث قال: تجوز الصلاة به عنده.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد م: (أن التراب ما جعل طهوراً إلا في حال إرادة قربة مقصودة لا تصح بدون الطهارة، والإسلام قربة مقصودة تصح بدونها) ش: أي بدون الطهارة. قال السغناقي: في هذا اللفظ إشارة إلى أن الكافر إذا تيمم للصلاة ثم أسلم لا تجوز الصلاة بذلك التيمم، نص على هذا شيخ الإسلام في " مبسوطه "، بل المقبول في التعليل أن يقال: الكافر إذا تيمم للصلاة ثم أسلم لا تجوز الصلاة بذلك التيمم؛ لأنه ليس من أهل النية، والتيمم لا يصح بدونها، فلذلك قال: لا يصح منه التيمم، وعن هذا فرق أبو يوسف بين نية الإسلام ونية الصلاة فقال: يكون في الأول دون الثاني، وقال: لأن الإسلام يصح منه، فتصح نية التيمم منه للإسلام، بخلاف ما لو تيمم بنية الصلاة؛ لأن الصلاة قربة لا تصح من الكافر، ولا تصح نية الصلاة، فجعل وجود هذه النية وعدمها بمنزلته، فبقي التيمم من غير نية فلا يصح.
م: (بخلاف سجدة التلاوة؛ لأنها قربة مقصودة لا تصح بدون الطهارة) ش: قيل: هذا مخالف لما ذكر في الأصول حيث قال فيها: إنها قربة غير مقصودة.
قلنا: المراد بكونها مقصودة ها هنا أن لا يجب في ضمن شيء آخر بخلاف التبعية، بل شرعت ابتداء من غير أن يكون تبعاً لآخر، والمراد بما ذكر في الأصول أن هيئة السجدة ليست بمقصودة لذاتها عند التلاوة، بل لاشتمالها على التواضع المحقق لموافقة المؤمنين أو مخالفة المشركين، فلهذا لا يخص إقامة الواجب بهذه الهيئة، بل ينوب الركوع منابها، وحاصل هذا أن المعترض ادعى التناقض، والمجيب نفاه لاختلاف الجهتين على ما ذكرنا.
فإن قلت: يصح التيمم بنية الطهارة وهي ليست بمقصودة.
قلت: الطهارة شرعت للصلاة، فكانت نيتها نية إباحة للصلاة، حتى لو تيمم لتعليم الغير لا تجوز به الصلاة في الأصح على ما ذكرنا.
م: (وإن توضأ) ش: أي النصراني والحال م: (لا يريد به الإسلام) ش: أي المتوضئ الإسلام م: (ثم أسلم فهو متوضئ عندنا) ش: حتى لو صلى به يجوز م: (خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإنه عنده ليس بمتوضئ، وأشار إلى دليل الشافعي بقوله م: (بناء على اشتراط النية) ش: فإن النية شرط(1/542)
فإن تيمم مسلما ثم ارتد - والعياذ بالله - ثم أسلم فهو على تيممه. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يبطل تيممه؛ لأن الكفر ينافيه فيستوي فيه الابتداء والبقاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنده وهو ليس من أهلها، ويفهم منه أيضاً دليلنا؛ لأنه إذا لم تكن النية شرطاً عندنا صح وضوءه، وإن لم تعتبر نيته.
م: (فإن تيمم مسلم ثم ارتد - والعياذ بالله - ثم أسلم فهو على تيممه) ش: يعني له أن يصلي بهذا التيمم.
م: (وقال زفر: يبطل تيممه) ش: باعتراض الارتداد م: (لأن الكفر ينافيه) ش: أي ينافي التيمم ابتداء فكذا انتهاء م: (فيستوي فيه الابتداء والبقاء) ش: أي إذا كان الكفر ينافيه ابتداء فيستوي في هذا الحكم الابتداء والبقاء.
فإن قلت: الضمير في قوله: " فيه " يرجع إلى ماذا.
قلت: قد أشرت إليه بقولي: " فيستوي في هذا الحكم "، وقال بعضهم: أي يستوي في هذا الأمر المنافي حالة الابتداء وحالة البقاء، وهذا مثل الأول في المعنى. وذكر في " الجامع الصغير " للحسامي أن المنافاة بينهما باعتبار معنى العبادة، فإنه شرع مطهر غير معقول المعنى تعبداً فينافيه الكفر كسائر العبادات. وفي " المختلف " أنه عبادة فلا يجامع الكفر، فعلى هذا لا يتصور الخلاف المذكور إلا في التيمم المنوي؛ لأن غيره وإن كان مفتاحاً للصلاة عنده ليس بعبادة كالوضوء بلا نية فلا ينافيه الكفر، فبقي بعد الارتداد على أصله، والصحيح أن المنافاة بينهما باعتبار عدم الأهلية، فإن كافراً لو تيمم لا يصح التيمم مشروعاً في حقه، ويكون فعله كفعل البهيمة، فثبت أن الكفر مناف للتيمم يستوي فيه الابتداء والبقاء. فعلى هذا بطل تيممه عنده نوى أو لم ينو. وفي " الكافي ": ويبطل عنده؛ لأنه عبادة فينافيه الكفر، ثم سيق الكلام إلى أن قيل: فإنه إنما يصير عبادة بالنية وهي ليست بشرط عنده. قلنا: الكلام في المنوي أو في غيره لا خلاف. وقال عبد العزيز: يبعد ما ذكره.
قلت: إن أراد به أنه لا خلاف في بقائه على الصحة بعد الكفر فهو غير مستقيم؛ لأن هذا لا يصح أصلاً عندنا لعدم شرطه، فكيف بقي على الصحة، وإن أراد به لا خلاف في بطلانه وهو الظاهر فهو كما قال، إلا أن ما قال زفر على كونه عبادة فينافيه الكفر غير مستقيم لما بينا أن غير المنوي ليس بعبادة، فكيف يصح بناء بطلانه على الكفر المنافي للعبادة مع انتفاء صفة العبادة عنه.
فإن قلت: كان من حقه أن ينعكس الحكم لانعكاس العلة، فإنه من حقه أن لا يبطل تيمم المسلم بارتداده على قوله لعدم احتياجه إلى النية وهذه كالوضوء في ذلك.
قلت: قال شيخ الإسلام: هذه المسألة من زفر رواية منه أن التيمم لا يصح إلا بالنية، وروي(1/543)
كالمحرمية في النكاح. ولنا أن الباقي بعد التيمم صفة كونه طاهرا فاعتراض الكفر عليه لا ينافيه كما لو اعترض على الوضوء، وإنما لا يصح من الكافر ابتداء لعدم النية منه، وينقض التيمم كل شيء ينقض الوضوء؛ لأنه خلف عنه فأخذ حكمه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه أنه يصح بغير النية، فعلى هذا لا يبطل على مذهبه بالردة كالوضوء، فكان عنه روايتان أن التيمم من غير نية يتأدى أم لا.
وجواب آخر: أنه تكلم فيه على قول من يرى فيه وجوب النية كما تكلم أبو حنيفة في المزارعة على رأي من يرى صحتها وإن كان هو لا يرى بجوازها.
م: (كالمحرمية في النكاح) ش: بأن كان الزوجان رضيعين وقد زوج كلاً منهما أبوهما ثم أرضعتهما امرأة، أو كانا كبيرين وقد مكنت المرأة ابن زوجها بعد النكاح حيث قال: يرتفع النكاح بينهم بعد الثبوت كما لا ينعقد فيهما ابتداء. والأصل أن كل صفة منافية الحكم يستوي فيها الابتداء والبقاء م: (كالردة والمحرمية في النكاح) ش: والحدث العمد في الصلاة.
فإن قلت: لو سبقه الحدث في الصلاة لا يعيدها فينبغي أن يفسدها؛ لأنها لا تنعقد به ابتداء.
قلت: ذلك مخصوص بالنص وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من قاء أو رعف في صلاة فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم» رواه ابن ماجه من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. م: (ولنا أن الباقي بعد التيمم صفة كونه طاهراً) ش: يعني الباقي بعد التيمم صفة كون المرتد طاهراً بذلك التيمم م: (فاعتراض الكفر عليه) ش: أي على التيمم م: (لا ينافيه) ش: أي لا ينافي كونه طاهراً؛ لأن التيمم عند الكفر لا يكون موجودا حتى بطل لوجود ما ينافيه م: (كما لو اعترض على الوضوء) ش: أي كاعتراض الكفر على الوضوء، فإنه لا يبطله للبقاء فيه فكذا التيمم م: (لأنه) ش: أي لأن التيمم م: (خلف عنه) ش: أي عن الوضوء، ولا شك أن حال الخلف دون حال الأصل، فكان مبطلاً للأعلى فأولى أن يكون مبطلاً للأدنى، بخلاف الصوم والصلاة؛ لأن حكمهما بعد الفراغ عنهما الثواب، وهو لا يجامع الكفر، والتيمم له حكم آخر وراء الثواب وهو الطهارة والكفر يجامعها، فجاز أن ينفي التيمم بعد هذا الحكم، فإن السبب يبقى بعد بقاء أحد الحكمين وإن بطل الآخر، كما في الثواب والطهارة في الوضوء بعد الارتداد.
م: (فأخذ حكمه) ش: أي فأخذ الخلف حكم الأصل، فالخلف هو التيمم والأصل هو الوضوء، وقد ذكرنا أن كون التيمم خلفاً عن الوضوء مذهب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
فإن قلت: الردة تحبط العمل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] (المائدة: الآية 5) ووضوءه وتيممه من عمله، فكيف يبقيان بعد الردة.
قلت: الردة تحبط ثواب العمل، وذلك لا يمنع زوال الحدث كمن توضأ رياء، فإن الحدث يزول(1/544)
وينقضه أيضا رؤية المادة إذا قدر على استعماله؛ لأن القدرة هي المرادة بالوجود الذي هو غاية لطهورية التراب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
به وإن كان لا يثاب على عمل الوضوء.
(وإنما لا يصح التيمم من الكافر ابتداء) ش: أي ابتداء الأمر، يعني قبل أن يسلم م: (لعدم النية منه) ش: أي من الكافر، قوله: وإنما لا يصح.. إلخ كأنه جواب سؤال مقدر تقديره أن يقال: أنتم قلتم يبقى تيمم المسلم الذي ارتد، وقلتم: إن اعتراض الكفر لا ينافيه فما له لا يصح منه ابتداء، وتقدير الجواب أن يقال: إنما لا يحص من الكافر ابتداء لانعدام النية، وليس انتهاء كذلك لوجودها، قوله: "لانعدام " مصدر من انعدم، ولكنهم قالوا: أعدمه فانعدم وهو خطأ، فلا يقال ذلك كما لا يقال علمه فانعلم؛ لأن هذا البناء يختص بالفلاح والعدم ليس بفلاح.
[مبطلات التيمم]
م: (وينقض التيمم كل شيء ينقض الوضوء) ش: النقض عبارة عن خروجه عن حكمه الأصلي، وهو كونه مبيح الصلاة م: (لأنه) ش: أي لأن التيمم م: (خلف عنه) ش: أي عن الوضوء م: (فأخذ حكمه) ش: أي حكم الوضوء في النقض، ولا شك أن الأصل أقوى من الخلف، فما كان ناقضاً للأقوى كان ناقضاً للأضعف بطريق الأولى.
م: (وينقضه) ش: أي ينقض التيمم أيضاً م: (رؤية الماء) ش: الكافي حتى لو كان لم يكفه لا يلزم استعماله عندنا، وهو قول الحسن، والزهري، وحماد، وابن المنذر، وبه قال مالك. وقال الشافعية في أحد قولي الشافعي: أنه يلزم استعماله ويتيمم به للباقي، وبه قال أحمد في الجنابة، وفي الوضوء له وجهان، وإسناد النقض إلى روية الماء إسناد مجازي؛ لأن الناقض في الحقيقة هو الحدث السابق، لكن يظهر عند الرؤية فأضيف إليه مجازاً م: (إذا قدر) ش: أي المتيمم م: (على استعماله) ش: أي على استعمال الماء م: (لأن القدرة هي المرادة بالوجود الذي هو غاية لطهورية التراب) ش: أراد بالوجود هو المذكور في القرآن بقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] وفي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء» ، وإنما سماه غاية من حيث المعنى لا من حيث الصفة؛ لأنه لم يرد فيه كلمة الغاية، أما في الآية فظاهر.
وأما في الحديث فإن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما لم يجد الماء» ليس غاية للتيمم، حيث لم يقل: إلى وجود الماء، بل فيه بيان مدة التيمم كما في قوله: اجلس ما دمت جالساً، لكن معناهما يتفقان في أن الحكم في ذلك الوقت يخالف ما قبله فسمي باسم الغاية.
وقال الأكمل: بل لا يلزم من انتهاء طهورية التراب انتهاء الطهارة الحاصلة به كالماء، فإنه يصير نجساً بالاستعمال أو تنتهي طهوريته وتبقى الطهارة به.
قلت: هذا القائل هو الخبازي، ذكره في حواشيه، والجواب أن التراب مطهر مؤقت حكماً لا(1/545)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حقيقة، على معنى أنه لا تزول طهوريته بدون شيء يتصل به، فثبتت به الطهارة المؤقتة على صفة التطهير، كالماء لما كان مطهراً حقيقة على معنى أنه لا تزول طهوريته دون شيء يتصل به، فثبتت الطهارة على المائية على أن ما كان ضعيفاً لبقاء ما يشترط لابتدائه وعدم الماء شرط لابتداء التيمم، فكذا لبقائه، هذا جواب الخبازي.
وقال صاحب " الدراية ": وفيه تأمل؛ لأن كون التراب مطهراً مؤقتاً مسلم، لكن الطهارة الحاصلة به مؤقت غير مسلم، وفي زيادات القدرة على الماء تمنع الطهارة بالتيمم ابتداء وبقاء؛ لأن القدرة على الأصل قبل حصول المقصود بالخلف يبطل حكم الخلف.
وقال حافظ الدين في " المستصفى ": العمل بالحديث مشكل؛ لأنه لم يتعرض لانتقاض التيمم السابق، بل فيه بيان أن التيمم لا يجوز بعد رؤية الماء، وجاز أن تكون رؤية الماء منافية للابتداء لا للبقاء، كعدم الشهود في النكاح فإنه يمنع ابتداء النكاح لا البقاء.
تعديل الجواب أن يقول: الطهورية صفة راجعة إلى المحل، فالابتداء والبقاء فيه سواء كالمحرمية في باب النكاح، وهذا الجواب هو الذي ذكره الأكمل عن سؤال الخبازي أخذا من كلام حافظ الدين. وقال صاحب " الدراية ": مع أن هذا بعض الحديث، وتمامه «فإذا وجدت الماء فلتمسه بشرتك» ، وكذا في " المصابيح " و " المبسوط " قيل قوله: «فلتمسه بشرتك» وهذا لفظ " المصابيح " لا يدل على انتقاض الوضوء؛ لأن هذا بطريق الاستحباب، بدليل أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في آخره: " فإن ذلك خير ".
قلت: قد ذكرنا أن هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، والحاكم، والدارقطني من حديث أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولفظ أبي داود: «الصعيد الطيب وضوء لكم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك» . وبهذا اللفظ أخرجه النسائي، وابن حبان.
وأخرجه البزار من حديث أبي هريرة ولفظه: «الصعيد وضوء لكم وإن لم يجد الماء إلى عشر سنين فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته فإن ذلك خير» ، ومن أعجب العجائب أن هؤلاء الشراح أئمة كبار، فإذا وقع حديث لا يشبعون الكلام فيه من جهة الترجيح، ومن جهة الألفاظ، ومن جهة الصحة، فغالبهم يحيلونه على كتاب من كتب الفقه، وليس هذا من شأن المحققين.
وقوله قبل: فلتمسه بشرتك ... إلخ كلام غير صحيح؛ لأن قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وليمسه بشرته» للوجوب لا للاستحباب، فاستدلال هذا القائل على الاستحباب بقوله: " فإن ذلك خير "(1/546)
وخائف السبع والعدو
والعطش عاجز حكما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غير صحيح؛ لأنه ليس معناه أن الوضوء والتيمم كلاهما جائزان عند وجود الماء، لكن الوضوء خير، بل المراد به أن الوضوء واجب عند وجود الماء، ولا يجوز التيمم، وهذا نظير قَوْله تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] (الفرقان: الآية 24) مع أنه لا خير ولا حسن لمستقر أصحاب النار ومقيلهم.
ثم اعلم أن وجود الماء الفاضلة عن حاجة المقدور على استعماله ينقض الوضوء وإن كان في الصلاة عندنا، وإليه ذهب الثوري، وأحمد في مختار قوله، واختاره المزني وبان شريح، ونقله البغوي عن أكثر العلماء. وقال مالك والشافعي: لا ينقض وضوءه ويتم صلاته ولا يعيدها في صلاة السفر، وهو رواية عن أحمد وقول داود، وقيل: يجوز الخروج منها فيه وجهان للشافعي أظهرهما أنه أفضل، والثاني: أنه لا يجوز، وعن بعض أصحابه الخروج منها مكروه. وقال الأوزاعي: تصير صلاته نفلاً.
وفي " الحلية ": لو تيمم لشدة البرد في الحضر وجب عليه الإعادة عند وجود الماء الحار وإن كان في السفر ففي وجوبها قولان. وفي " شرح المجمع " صلى بالتيمم في الحضر لإعواز الماء ففي بطلان صلاته عند الشافعي قولان، أحدهما: لا تبطل صلاته، والثاني: تبطل، وفي " المجتبى ": رأى في صلاته سؤر الحمار لا تبطل صلاته فيتمها ثم يتوضأ به فيعيد، ولو رأى فيها سراباً فظنه ماء فمشى إليه بطلت صلاته، جاوز مكان الصلاة أو لا، ولو رأى ماء فظنه سراباً فصلى ثم علم بعدها يعيدها، ولو رأى فيها رجلاً في يده ماء فأتم صلاته ثم سأله فأعطاه لا يعيدها. وفي " جامع أبي الحسن " رأى فيها رجلاً معه ماء كثير لا يدري أيعطيه أم لا يتم صلاته ثم يسأله، فإن أعطاه أعادها وإلا فلا، وإن أبى ثم أعطي لا يعيد، وكذا العاري لو رأى فيها ثوباًً.
م: (وخائف السبع) ش: كلام إضافي مبتدأ، وهو الحيوان المفترس كالأسد، والنمر، والفهد، والدب، والذئب، ونحوها م: (والعدو) ش: سواء كان مسلماً أو كافراً، أو قاطع طريق أو لصاً، ونحوه الحريق والحية
م: (والعطش) ش: أي وخائف العطش على نفسه أو على رفيقه أو على حيوان معه نحو دابته، ولكبه، وسنوره، وطيره م: (عاجز) ش: مرفوع؛ لأنه خبر المبتدأ، أعني قوله: " وخائف السبع " م: (حكما) ش: أي من حيث الحكم، لا من حيث الحقيقة، لأنه واجد ظاهراً ولكنه عاجز، والقدرة شرط كما مر. وفي " التنجيس " و " فتاوى الولوالجي " رجل أراد أن يتوضأ فمنعه إنسان عنه يعيد. قيل: ينبغي أن يتيمم ويصلي ثم يعيد الصلاة عند زوال ذلك عنه؛ لأن هذا جاء من قبل العباد، فلا يسقط الفرض عنه كالمحبوس إذا صلى بالتراب في الحبس، فإذا خرج يعيد، فكذا هذا.
وفي " شرح الطحاوي ": إذا خاف على نفسه أو ماله يجوز التيمم، وذكر الولوالجي: متيمم(1/547)
والنائم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قادر تقديرا حتى لو مر النائم المتيمم على الماء بطل تيممه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مر على الماء في موضع لا يستطيع النزول عنه لخوف على نفسه أو ماله لا ينقض تيممه؛ لأنه غير قادر. وفي " شرح الوجيز ": لو خاف على نفسه أو ماله من سبع أو سارق فله التيمم، ولو احتاج إلى الماء لعطش رفيقه أو لعطش حيوان محترم جاز له التيمم، وفي " المغني " لابن قدامة: أو كان الماء عند جمع فساق فخافت المرأة على نفسها الزنا جاز لها التيمم.
م: (والنائم) ش: مرفوع على الابتداء، والمراد النائم الذي ليس بمضطجع ولا مستند في المحل؛ لأنه إذا كان كذلك ينقض تيممه بالنوم فلا تتأتى هذه المسألة، وكذا المراد النائم سواء كان راكباً أو ماشياً وقدموا على الماء وهو متيمم م: (عند أبي حنيفة قادر تقديراً حتى لو مر النائم المتيمم على الماء بطل تيممه عنده) ش: أي حكما؛ لأنه واجد للماء ظاهراً، فإذا كان قادراً ينقض تيممه عنده؛ لأنه عاجز عن الاستعمال لعذر جاء من قبله فلا يكون معذوراً، وقيل: ينبغي أن لا ينقض عند الكل؛ لأنه لو تيمم وبقربه ماء لا يعلم به يجوز تيممه عند الكل. وقال التمرتاشي: في " زيادات الحلواني " في انتقاض تيمم النائم المار بالماء روايتان من غير ذكر اختلاف. وفي " فتاوى قاضي خان ": لا ينتقض تيمم النائم المار على الماء بالاتفاق. وفي " المجتبى " الأصح أنه لا ينتقض تيممه عند الكل.
قلت: فلذلك لم ينبه المصنف على خلافهما؛ لأن المختار في الفتاوى عدم الانتقاض اتفاقاً. وقيل: في ستة وعشرين موضوعاً للنوم حكم اليقظة، هذا المسألة، وصائم نائم على قفاه فوقع المطر في فيه أو قطرت ماء في فيه فوصل إلى جوفه فسد صومه، ونائمة جامعها زوجها فسد صومها. ومحرم كذلك، ومحرم نائم حلق إنسان رأسه فعلية الجزاء، ومحرم نائم انقلب على صيد فقتله كذلك، ونائم مر بعرفات أجزأه. هو قائم وقع صيد عنده كما لو وقع عند يقظان وهو قادر على زكاته. ونائم انقلب على مال فأتلفه يضمن، ونائم وقع على مورثه فقتله على قول البعض أو وقع قائماً فوضعه تحت جدار واه فسقط عليه فمات فلا ضمان، ونائم مكثت امرأته عنده في بيت ساعة صحت خلوته، ونائمة رضع صغير من ثديها ثبتت الحرمة. ونائم في صلاته تكلم فسدت. ونائم قرأ فيها أجزأته. ونائم تلا آية السجدة تلزم صاحبه، ونائم أخبر بالتلاوة عنده يجب عليه السجدة في قول.
وقال شمس الأئمة: يفتي بعدم الوجوب فيها، ونائم يكلم من حلف أنه لا يكلمه ولم يستيقظ حنث في الأصح، ونائمة مسها مطلقها صار مراجعاً، ونائم قبلته بشهوة يثبت حرمة المصاهرة إذا علم بفعلها، ونائم يومين وليلتين يجب القضاء. ونائم احتلم في صلاته وجب الغسل ولا يمكن البناء، ونائمان عقد بينهما يصح على قول، ونائم أخبر أنك تلوت آية السجدة وجب على السامع وعليه السجدة في قول، والأصح أنها لا تجب.(1/548)
عنده، والمراد ماء يكفي للوضوء؛ لأنه لا معتبر بما دونه ابتداء فكذا انتهاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والمراد) ش: أي المراد من قوله " وينقضه أيضاً رؤية الماء "، م: (ماء يكفي للوضوء) ش: لأن الذي لا يكفي في حكم العدم، وفي هذه العبارة يجوز وجهان أحدهما: أن يكون كلمة ما في قوله " ما يكفي " موصولة. والمعنى: والمراد الماء الذي يكفي الوضوء.
والثاني: أن يكون التقدير والمراد ماء بالمد والهمزة.
وقوله: " يكفي " في الوجه الأول: صلة وفي الثاني صفة، وقال الأكمل: قوله: والمراد ما يكفي يعني الماء الذي يمر عليه النائم، قلت: تقييده بهذا غير صحيح، بل المراد ما فيه كفاية الوضوء، سواء كان ماراً نائما أو يقظان ماراً أو مقيماً أو مسافراً، سائراً أو نازلاً في موضع، وذلك لأن المصنف بين المراد من قوله: وينقضه أيضاً رؤية الماء الذي في أي حال كان إذا قدر على استعماله، وكان فيه كفاية للوضوء، فظن الأكمل أن قوله: " والمراد ما يكفي " يرجع إلى قوله " والنائم " عند أبي حنفية قادر تقديراً وليس كذلك، بل المراد ما قلنا يشمل الكل.
م: (لأنه) ش: أي؛ لأن الشأن م: (لا معتبر بما دونه) ش: أي لا اعتبار بما دون ما يكفي للوضوء م: (ابتداء) ش: أي في ابتداء الأمر، أراد أنه إذا أراد أن يصلي فلم يجد ماء يكفي للوضوء يتيمم؛ لأنه لا اعتبار له لذلك م: (فكذا انتهاء) ش: أي فكذا المراد ما يكفي للوضوء في حالة الانتهاء، أراد أنه إذا كان متيمماً فرأي ماء لا يكفي للوضوء فإنه على تيممه؛ لأنه في حكم العدم، وأراد بالانتهاء السبق والبقاء معتبراً بالابتداء، وهذا بناء على الخلاف.
وفي أن المحدث والجنب إذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته هل يجب عليه استعماله؟ فالأصح عند الشافعي وجوب استعماله بالتيمم بعده، وهو أقوي الروايتين عن أحمد وداود، وحكاه ابن الصباغ عن عطاء والحسن البصري، ومعمر بن راشد. وفي القول الآخر للشافعي: عدم وجوب الاستعمال وهو مذهبنا، ومذهب مالك والثوري، والأوزاعي، وابن المنذر، والزهري، وحماد. وقال البغوى: وهو قول أكثر العلماء.
ودليل الشافعي حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «وما أمرتكم بشيء فافعلوا منه ما استطعتم» رواه البخاري ومسلم، وقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) ، وهو نكرة في موضع النفي، فيعم الماء اليسير والكثير، كالعاري إذا وجد ثوباً يستر بعض عورته فإنه يلزمه ستر ذلك القدر، وكذا إذا كانت به نجاسة حقيقية يجب استعماله في ذلك القدر، فينبغي أن يجب في النجاسة الحكمية أيضاً.
قلنا: نحن نقول لموجب الآية أيضاً، إذ المراد منه ما يكفي للوضوء، وذلك لأن الآية سيقت لبيان الطهارة الحكمية، وكان قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) أي طهوراً محللاً للصلاة(1/549)
ولا يتيمم إلا بصعيد طاهر؛ لأن الطيب أريد به الطاهر في النص، ولأنه آلة التطهير، فلا بد من طهارته في نفسه كالماء،
ويستحب لعادم الماء وهو يرجوه أن يؤخر الصلاة إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
باستعماله في هذه الأعضاء، وبوجود ما لا يكفي للوضوء لم يوجد ما يحلل الصلاة باستعمال هذه الماء لم يثبت شيء من الحل، فإنه موقوف على الكمال، فإن الحكم والعلة غسل جميع الأعضاء، وشيء من الحكم لا يثبت ببعض العلة كبعض النصاب في حق الزكاة، بخلاف النجاسة الحقيقية وستر العورة؛ لأن المزال أمر حسي فاعتبر الزوال حسا لا حكماً، فثبت بقدر الماء الذي معه والثوب الذي معه، وأما ها هنا فالطهارة حكمية، فلا يثبت شيء من الحكم ببعض العلة؛ لأن المطلق ينصرف إلى المتعارف وهو الكافي للوضوء أو الغسل، ولأن استعمال قطرة أو قطرتين في الماء في بدن الجنب بعدها عبث، والنكرة وإن كانت تعم في النفي لكن لا يمكن إجراؤه على العموم، إذ وجود ما يحتاج إليه العطش غير مراد، فيراد به أخص الخصوص، ولأنه عجز عن بعض الأصل فيسقط الاعتداد به مع البدل في حالة واحدة، كمن عجز عن بعض الرقبة في الكفارة فصار بمنزلة من لم يستطع شيئاً، وهو الجواب عن قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فأتوا منه ما استطعتم» ولا يلزم إذا غسل لبعض الأعضاء ثم انصب الماء، ومن اعتدت بحيضة ثم ارتفع حيضها؛ لأن ما تقدم يسقط عندنا ويصير مؤدياً للفرض بالتيمم خاصة، والعدة إن بلغت المرأة الإياس بالشهور خاصة.
م: (ولا يتيمم إلا بصعيد طاهر؛ لأن الطيب) ش: المذكور في قَوْله تَعَالَى: {صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) م: (أريد به الطاهر في النص) ش: بالإجماع، إذ طهارة التراب شرط عند الأئمة الأربعة، وعن داود: والتراب إذا تغير بالنجاسة لا يجوز التيمم به، وإن لم يتغير جاز، ويجوز التيمم بالتراب المستعمل عندنا، وفي قول للشافعي وظاهر مذهبه لا يجوز، والمستعمل ما يقام في العضو. وقال بعض أصحابه: ما بقي في العضو مستعمل دون ما يتناثر عنه، كذا في " الحلية "، ولو تيمم جماعة بحجر واحد أو لبنة واحدة أو أرض جاز.
فإن قلت: لا يلزم من شرط الطهارة أن يكون المراد من الطيب الطاهر في الآية، لجواز أن تثبت شرطية الطهارة بدليل آخر.
قلت: لو لم ترد بالآية لاقتضى مطلق الآية جواز التيمم بدون طهارة، فكان الدليل الآخر معارضاً لمطلق النص، وذا لا يجوز.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الصعيد م: (آلة التطهير، فلا بد من طهارته في نفسه كالماء) ش: حيث شرط طهارته عند الاستعمال.
م: (ويستحب لعادم الماء وهو يرجوه) ش: أي والحال أنه يرجو الماء، والمراد بالرجاء غلبة الظن، أي يغلب على ظنه أنه يجد الماء في آخر الوقت، كذا في " الإيضاح " م: (أن يؤخر الصلاة إلى(1/550)
آخر الوقت،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
آخر الوقت) ش: كلمة " أن " مصدرية في تأويل: ويستحب تأخير الصلاة لمن يرجو الماء، وفي " الذخيرة " عن محمد: المسافر الذي لا يجد الماء ينتظره إلى آخر الوقت، فإن خاف فوته تيمم. وفي " القدوري ": يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت إذا كان على طمع ورجاء من وجوده وهو الصحيح، وألا يؤخر عن الوقت المستحب.
وفي " البدائع ": هذا لا يوجب اختلاف الرواية، بل يجعل تفسير الماء ما أطلقه في الأصل، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يتلو إلى آخر الوقت. وقال القدوري: التأخير مستحب لا حتم، وروي عن أبي حنفية، وأبي يوسف: أنه حتم هذا إذا كان الماء بعيداً، وإن كان قريباً لا يتيمم وإن خاف خروج الوقت، قال الفقيه أبو جعفر: أجمع أصحابنا الثلاثة على هذا.
وقيل: إذا كان بينه وبين موضع الماء الذي يرجوه ميل أو أكثر، فإن كان أقل منه لا يجزئه التيمم وإن خاف فوت وقت الصلاة. وفي " الحلية ": فإن لم يكن على ثقة من وجود الماء في آخر الوقت ولا على إياس من وجوده، فالأصل أن يصلي بالتيمم في أول الوقت في أصح القولين، وهو اختيار المزني.
والثاني: التأخير أفضل، وعن أبي حنيفة روايتان كالقولين.
وقال النووي: التأخير أفضل بكل حال، وبه قال أحمد، وقال مالك: يتيمم المريض والمسافر في وسط الوقت لا يؤخره جداً ولا يعجله، وفي الأصل أحب إلي أن يؤخره ولم يفعل.
ولا يؤخر العصر إلى تغير الشمس والمغرب عن أول وقته، وقيل: يؤخره إلى ما قبيل غيبوبة الشفق، وعن حماد والشافعي: لا يؤخر، روي أن هذا أول واقعة خالف أبو حنيفة فيها أستاذه حماد بالتيمم في أول الوقت، ووجد أبو حنيفة الماء في آخر الوقت وصلاها، وكان ذلك عن اجتهاده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصوابه فيه، وقال الأكمل: قيل: هذه المسألة تدل على أن الصلاة في أول الوقت أفضل عندنا أيضاً، إلا إذا تضمن التأخير فضيلة لا تحصل بدونه كتكثير الجماعة والصلاة بأكمل الطهارتين.
قلت: قائل هذا السغناقي ناقلاً عن شيخه تاج الشريعة، والشيخ عبد العزيز في حواشيهما، وقال الأترازي: قال الشارحون: هذه المسألة تدل إلى آخر ما ذكرناه، ثم قال: أقول هذا سهو من الشارحين، وليس مذهب أصحابنا كذلك، ألا تري ما صرح به صاحب " الهداية " وغيره من المتقدمين في كتبهم بقوله: ويستحب الإسفار بالفجر والإبراد بالظهر في الصيف بتأخير العصر ما لم تتغير الشمس، وتأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل، وأجاب الأكمل بما قاله الأترازي بقوله: ورد بأن هذا ليس مذهب أصحابنا إلى آخره، والعجب من الأكمل كيف رضي بنسبة الأترازي(1/551)
فإن وجد الماء يتوضأ ويصلي به، وإلا تيمم وصلى ليقع الأداء بأكمل الطهارتين، فصار كالطامع في الجماعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السهو إلى الشارحين، وأورد في شرحه ما قاله، بل الحق أن السهو منه لا منهم؛ لأنه فهم كلامهم على خلاف مقصودهم.
بيان ذلك: أنه فهم من قولهم بأن أداء الصلاة في أول الوقت أفضل لغي المترجي بأن المراد بأول الوقت حقيقة كما هو مذهب الشافعي، وهو خلاف المذهب، فلزم من ذلك ما ذكره، لكن ليس هذا بمراد، بل مرادهم بأن العبادات في أول الوقت المستحب المعهود في حقهم المقيم أفضل لغير راجي الماء، يعني التأخير عن أول الوقت المستحب إنما يكون مستحباً لعدم الماء إذا كان راجياً لوجدانه، وإلا فالمستحب الأداء في أول وقت الاستحباب لا التأخير.
والذي يدل على ما ذكرنا ما ذكره في " البدائع " بقوله: وإن لم يكن على طمع لا يؤخر ويتيمم ويصلي في الوقت المستحب، وكذا يدل عليه كلام الشيخ عبد العزيز عن شمس الأئمة في " الإمام "، وهو قوله: فإن كان لا يرجو ذلك لا يؤخر الصلاة عن وقتها المعهود، وأراد بذلك المعهود في حق غيره، وهو أول الوقت المستحب المعهود في المذهب، لا أول الوقت المعهود على مذهب الشافعي، ويدل عليه ما نقله الأترازي المعترض على صاحب " التحفة ": روى المعلى عن أبي حنيفة وأبي يوسف: الطامع في الماء يؤخر إلى آخر الوقت، وغير الطامع يؤخر إلى آخر الوقت المستحب، فظهر من هذا أن المراد بأول الوقت في هذا الموضع أول الوقت المستحب، وآخر الوقت المستحب، لا كما فهمه الأترازي، فإنه احترز بقوله: العادم الماء عن قول الشافعي لا غير العادم؛ لأن مذهب الشافعي: إن عادم الماء وإن رجى أن يجده في آخر الوقت قدم الصلاة، وهو غير صحيح على ما نص عليه الشافعي في " الإملاء "، فإنه موافق لمذهبنا.
وقال الأكمل: وقوله العادم الماء ليس احترازاً عن غير عادمه، بل هو احتراز عن قول الشافعي، فإن عنده أن عادم الماء آخر ما ذكرناه الآن.
قلت: هذا بعينه كلام الأترازي، وقد بينا فساده الآن.
م: (فإن وجد الماء) ش: " الفاء " فيه للتفصيل، أي: فإن وجد عادم الماء بعد تأخير الصلاة إلى آخر الوقت م: (يتوضأ ويصلي به) ش: وقوله: يتوضأ هذا جواب الشرط، وهو محذوف مقدر، م: (وإلا) ش: أي: وإن لم يجد الماء، م: (تيمم) ش: لأنه عادم الماء حقيقة م: (وصلى) ش: صلاته التي أخرها م: (ليقع الأداء) ش: أي أداء الصلاة التي أخرها إلى آخر الوقت م: (بأكمل الطهارتين) ش: وهو الوضوء، وصيغة أفعل تدل على أن التيمم طهارة كاملة، ولكن الوضوء أكمل منها م: (فصار) ش: هذا الشخص في هذه الحالة م: (كالطامع في الجماعة) ش: أي كالشخص الذي يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت طمعاً في كثرة الجماعة.(1/552)
وعن أبي حنفية، وأبي يوسف - رحمهما الله - في غير رواية الأصول أن التأخير حتم؛ لأن غالب الرأي كالمتحقق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأكمل: قوله كالطامع في الجماعة ليس احترازاً عن غير الطامع، بل إلزام على الشافعي؛ لأن مذهبه أن التأخير مستحب إذا كان طامعا في الجماعة.
قلت: هذا بعينه كلام الأترازي، وهو ليس بصحيح، بل هو احتراز عن غير الطامع، وليس بإلزام على الشافعي؛ لأن مذهبه المنصوص عليه كمذهبنا على ما ذكرنا، والطامع في الجماعة على قسمين، أحدهما: الطامع المسافر، فإن كان واجداً للماء أو غير راج فإن المستحب فيه أداء الصلاة أول الوقت؛ لأن الأصل هو المسارعة إلى أداء العبادات على ما نطق به التنزيل والرفقة كلهم حاضرون، فلا يثبت التأخير في حقه للأصل، ولهذا يستحب الأداء في أول الوقت في الشتاء لهذا المعنى، ويدل على ما قلنا قول المصنف " ويستحب لعادم الماء وهو يرجوه " لأن تخصيص الاستحباب به يدل على أن الاستحباب أداء الصلاة أول الوقت للمسافر الواجد ولغير الراجي.
والقسم الثاني: للطامع المقيم، فإن المستحب في حقه تأخيرها للطمع في كثرة الجماعة.
م: (وعن أبي حنيفة وأبي يوسف في غير رواية الأصول) ش: وهي رواية " النوادر " و " الأمالي " و " الرقيات " و " الكيسانيات " و " الهارونيات "، ورواية " الأصول " رواية " الجامعين " و " الزيادات " " والمبسوطات ". قلت: الرقيات جمع رقية نسبة إلى رقية بفتح الراء وتشديد القاف، وهي واسطة ديار ربيعة، وهي مدينة خراب كبيرة مورده على الجانب الغربي من الجانب الشمالي الشرقي.
وقال ابن حوقل: " الرقة " أكبر مدن ديار بكر ويقال لها: الراقية، وقال سعيد: واسمها البيضاء و " الرقيات " مسائل جمعها محمد حين كان قاضياً بالرقية المذكورة. و " الكيسانيات " جمع كيسانية نسبة إلى " كيسان " وكان من أصحاب محمد أبي عمرو، وسليمان بن شعيب الكيساني من قولهم ذكر محمد في " الكيسانيات " أو في " إملاء الكيساني "، وكيسان: أحمد جدار سليمان بن شعيب ونسبته إليها. والهارونيات جمع هارونية.
م: (أن التأخير) ش: أي تأخير الصلاة لعادم الماء الراجي م: (حتم) ش: أي واجب، يعني إذا كان ذلك الموضع بعيداً، نص عليه في " المبسوط "، وفي " المحيط " و " الذخيرة "؛ لأن شرع التيمم لدفع الحرج وصيانة للوقت عن الفوات فإذا تيقن أو غلب على ظنه وجود الماء آخر الوقت فقد أمن من الفوات حقيقة أو ظاهراً، فلا يجزئه التيمم ويجب التأخير، م: (لأن غالب الرأي كالمتحقق) ش: ولهذا وجب العمل بخبر الواحد، والقياس يؤيده، قال الله تعالى: {فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] (الممتحنة: الآية 10) علق عدم الرد إليهم بالعلم(1/553)
وجه الظاهر أن العجز ثابت حقيقة، فلا يزول حكمه إلا بقين مثله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بكونهن مؤمنات، والعلم بذلك لا يكون إلا لغالب الرأي وهو كالثابت حقيقة، وفي ظاهر الرواية لا يجب التأخير عنه مع بعد المسافة، ويجزئه التيمم مع غلبة الظن بوجدان الماء في آخر الوقت أو التيقن.
وأشار إلى وجه الظاهر بقوله م: (وجه الظاهر) ش: أي وجه ظاهر الرواية م: (أن العجز ثابت حقيقة فلا يزول حكمه) ش: أي حكم العجز وهو جواز التيمم م: (إلا بيقين مثله) ش: قيل: هذا ليس بوجه، فإن زوال العجز لا يتوقف على اليقين، ألا ترى أن وجود الماء لو كان مظنوناً بأن كان في العمران، ورأى من بعيد أشجاراً أو سراباً ظنه ماء لا يتيمم، فقد زال عذره بغير تغير.
ونقل الأكمل ها هنا عن الشيخ عبد العزيز إشكالاً ملخصه أن قوله: " لأن غالب الرأي كالمتحقق " يقتضي أن يجب التأخير عند التحقق في آخر الوقت مع بعد المسافة في ظاهر الروايات ليصلح مقيسا عليه، ويمكن إلحاق غالب الرأي وليس كذلك، فإنه ذكر في أول الباب أن من كان خارج المصر يجوز له التيمم إذا كان بينه وبين الماء ميل أو أكثر، وإن كان أقل لا يجوز، وإن خاف فوت الصلاة، وإن جعل هذا يعني التعليل على أن المراد منه أن التيمم لا يجوز في التحقق في غير رواية " الأصول " فألحق غالب الظن به في هذه الرواية لا يستقيم أيضاً؛ لأنه علل وجه ظاهر الرواية بأن العجز ثابت (حقيقة فلا يزول حكمه إلا بيقين مثله) وذلك يقتضي أن حكم العجز يزول عند اليقين بوجود الماء في ظاهر الرواية، وليس كذلك على ما بينا، وإن حمل على أن هذا فيما إذا كان بينه وبين ذلك الموضع أقل من ميل لا يستقيم أيضاً؛ لأنه لا فرق في تعليل ظاهر الرواية بين غلبة الظن واليقين فيما إذا كانت المسافة أقل من ميل في عدم جواز التيمم، كما أنه لا فرق بينهما إذا كانت المسافة أكثر من ميل في جواز التيمم.
وقد صرح في آخر هذا الباب أنه إذا غلب على ظنه أن بقربه ماء لا يجزئه التيمم كما لو تيقن بذلك فعلم أنه مشكل. بقي وجه آخر وهو أن يحمل هذا على ما إذا لم يعلم أن المسافة قريبة أو بعيدة، فلو ثبت أنه تيقن بوجود الماء في آخر الوقت فقد أمن من الفوات، ولما لم يثبت بعد المسافة للشك فيه لم يثبت جواز التيمم فيجب التأخير. أما لو غلب على ظنه عدم بعد المسافة، وكذلك عندهما في غير رواية " الأصول "؛ لأن الغالب كالمتحقق، وفي ظاهر الرواية لا يجب التأخير؛ لأن العجز ثابت لعدم الماء حقيقة، وحكم هذا العجز وهو جواز التيمم لا يزول إلا بيقين مثله، وهو اليقين في وجود الماء في آخر الوقت، ولم يوجد فلا يجب التأخير، ولكن هذا الوجه لا يخلو عن تمحل، ويلزم عليه أنه فرق ها هنا بين غلبة الظن واليقين في ظاهر الرواية، ولم يفرق بينهما فيما إذا غلب على ظنه أن بقربه ماء في عدم جواز التيمم، ولا فيما إذا كانت المسافة بعيدة في جواز التيمم كما بينا.(1/554)
ويصلي بتيممه ما شاء من الفرائض والنوافل، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتيمم لكل فرض؛ لأنه طهارة ضرورية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الشيخ: فالأظهر بقاء الإشكال، وقد ذكر هذا كله صاحب " الدراية " أيضاً ناقلاً عن شيخه، والعجب من الشيخ حيث لم يذكر وجه التخلص منه مع كونه من المحققين الكبار، وكذا صاحب " الدراية "، والأكمل ذكر هذا وسكتا عليه، فنقول وبالله التوفيق: نذكر وجهاً ينحل منه هذا الإشكال وهو: أنه يعتبر رجاء الماء وعدم رجائه بأسباب أخر غير بعد المسافة أو قربها، وهو أن يكون في السماء غيم رطب وغلب على ظنه أن يمطر ويقدر على الماء في آخر الوقت، فإنه يستحب له التأخير في ظاهر الرواية، ويجب عليه في غير رواية " الأصول " كما لو تحقق بوجود الماء أو يكون الماء بعيداً لكن أرسل من يسقي له، وغلب على ظنه حضور من أرسله للماء في آخر الوقت بأمارات ظهرت له، أو كان الماء في بئر ولم تكن له آله الاستسقاء من الدلو والحبل، لكن غلب على ظنه وجدانه في آخر الوقت، أو كان الماء بقرب منه ولم يعلم مكانه وجود ثمن يشتري به الماء، وعنده ما يعد للعطش وغلب على ظنه وجود ماء آخر غير مشغول بالحاجة الأصلية، أو كان الماء عند اللصوص أو السباع أو الأفاعي أو الحيات أو من يخاف منه على نفسه أو ماله، وغلب على ظنه زوال المانع آخر الوقت، وقس على هذا أسباب أخر.
والمصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يقيد الرجاء وعدمه ببعد المسافة أو قربها، بل أطلق فوجب حمله على وجه لا يرد عليه الإشكال، وليس في كلامه إشعار بما قيد الشيخ حتى يرد عليه من الإشكال ما لا مخلص له.
[ما يباح بالتيمم]
م: (ويصلي) ش: أي المتيمم الذي يريد الصلاة م: (بتيممه ما شاء من الفرائض والنوافل) ش: وبه قال ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والنخعي، والحسن البصري عنه على ما ذكره النووي عنه، وداود والمزني وقول الروياني وهو الاختيار. وقال شريك ببن عبد الله: يتيمم لكل صلاة فريضة ونافلة. وقال مالك: لكن فريضة، ومذهبه مضطرب فيه، فإنه لو صلى فرضين روى ابن القاسم أنه يعيد الثانية ما دام في الوقت، فدل على صحتها. قال أبو الفرج من أصحابه: إن من قضى صلوات كثيرة بتيمم واحد فلا شيء عليه، وذلك جائز، فقد تناقض مذهبه أن قد تركوه فجعلوا ذلك مذهباً لهم. م: (وعند الشافعي يتيمم لكل فرض) ش: أي لكل فرض مع ما شاء من النوافل، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو ثور، واختلف أصحاب الشافعي في الجمع بين الفوائت بتيمم واحد، وبقول الشافعي قال علي، وابن عمر، والشعبي، وقتادة، وربيعة الأنصاري وإسحاق م: (لأنه) ش: أي؛ لأن التيمم م: (طهارة ضرورية) ش: لأن جعل حالة الضرورة بالعجز عن الماء، إذ التراب يلوث في نفسه، ولهذا يعود حكم الحدث السابق إذا رأى الماء فلم يرتفع الحدث السابق، إذ لو ارتفع لا يعود إلا بحدث جديد، ولكن أبيحت الصلاة للضرورة، فإذا صلى الفرض(1/555)
ولنا أنه طهور حال عدم الماء فيعمل عمله ما بقي شرطه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
انتفت الضرورة.
وقال الأترازي: ثم نقول للشافعي: هل انتقض تيممه بعد أداء فرضه أم لا، فإن قال: انتقض فليقل لا يصلي نفلاً بعد ذلك؛ لأنه لا صلاة إلا بطهارة وهو خلاف مذهبه، وإن قال: لم ينقض فليقل يصلي فرضاً آخر كما يصلي نقلاً؛ لأن الطهارة تعتبر كما كانت، ولم يوجد الحدث ولا الماء حتى يبطل تيممه. ولئن قال: لا يجوز الجمع بين الفرضين لأنه طهارة ضرورية كما في طهارة المستحاضة فنقول: لا نسلم أن المستحاضة لا يجوز لها أن تجمع بين فرضين، ولا نسلم أن هذا القياس صحيح أصلاً؛ لأن طهارة المستحاضة في غاية الضعف لمقاربة الحدث لها، والتيمم لم يقارنه الحدث، وقياس ما جعلت طهارة بدون المنافاة على ما جعل طهارة مع المنافاة.
فائدة: واحتج الشافعي بما رواه الدارقطني من حديث الحسن بن عمارة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال: من السنة أن لا يصلي بالتيمم أكثر من صلاة واحدة، وبما رواه البيهقي من حديث نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: يتيمم لكل صلاة.
م: (ولنا أنه) ش: أي التراب م: (طهور حال عدم الماء) ش: بالنص وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين» رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وقد مر بيانه مستوفى. وقال النووي: التراب عندنا يطهر وإن لم يرفع الحدث، وهذا لا معنى له؛ لأن المطهر المثبت للطهارة، وبقاء الحدث مع ثبوت الطهارة متنافيان، والأصل فيه أن التيمم عندنا رافع، وعنده مبيح، وبه قال أبو بكر الرازي، وقد مر الكلام فيه.
م: (فيعمل عمله) ش: أي فيعمل التراب عمل الماء م: (ما بقي شرطه) ش: أي شرط التراب في كون التراب طهوراً، والمراد بالشرط عدم الماء وعدم الحدث، وتوضيحه أن التراب بدل عن الماء بالنص، فثبت له حكم يكون للماء، وحكمه أنه يثبت به طهارة مطلقة غير ضرورية، فكذا حكم بدله، لا يقال هذه العبارة تقتضي أن يكون وجود الشرط مستلزماً لوجود المشروط وهو غير صحيح؛ لأنا نقول بصحة ذلك عند مساواتهما، فإن كل واحد من عدم الماء، وجواز التيمم مساو للآخر بلا محالة، فجاز أن يستلزمه، وعلى الأصل المذكور قال أصحابنا: يجوز التيمم للفرض قبل دخول وقته كالنافلة وافقنا الليث، وأهل الظاهر، وابن شعبان من المالكية، والمزني من أصحاب الشافعي. وقال ابن رشد المالكي في " القواعد ": اشتراط دخول الوقت للتيمم ضعيف، فإن التأقيت في العبادات لا يجوز إلا بالسمع، ويلزم من ذلك أن لا يجوز التيمم إلا في آخر الوقت.
وفي " المغني " عن أحمد: القياس أن التيمم كالوضوء حتى يجد الماء أو يحدث، قال: فعلى(1/556)
ويتيمم الصحيح في المصر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذا يجوز قبل الوقت. وقال الشافعي: لا يجوز تقديمه على الوقت؛ لأنه مستغنى عنه. وقال النووي: ولأنه طهارة ضرورية فلا يجوز قبل الوقت كطهارة المستحاضة. قال: وهم وافقونا عليه. وقال أبو سعيد الإصطخري: لا نناظر الحنفية في جواز تقديم التيمم على الوقت، فإنهم خرقوا الإجماع فيه. وقال إمام الحرمين: يثبت جوازه بعد الوقت، فمن جوزه قبله فقد حاول إثبات التيمم المستثنى عن القاعدة بالقياس، وليس ما قبله في معنى ما بعده، ولأن القياس إلى الصلاة إنما يكون بعد دخول وقتها.
والجواب عن ذلك كله: أما احتجاج الشافعي بما رواه الدارقطني عن ابن عباس فإن في إسناده الحسن بن عمارة وهو ضعيف، ورواه عنه ابن يحيى الحماني وهو متروك، مع أن السنة لا تمنع الجواز وهو متروك الظاهر، فإن الشافعية يجوزون أكثر من صلاة واحدة من النوافل مع الفرض وليس في حديثهم ذلك.
وأما احتجاجه بما رواه البيهقي من أثر ابن عمر ففي إسناده عامر الأحول عن نافع وعامر ضعفه أحمد، وفي سماعه عن نافع نظر، وقال ابن حزم: الرواية فيه عن ابن عمر لا تصح.
وأما قوله: لأنه يستغنى عنه، فإنه ممنوع، فإن الحاجة ماسة إلى تقديمه على الوقت ليشتغل أول الوقت بأداء الفرائض والسنن الراتبة قبلها.
وأما قول النووي: وهم وافقونا عليها أي على طهارة المستحاضة، وكذا قال ابن قدامة، فإنه غلط منهما، فإن طهارة المستحاضة تصح قبل الوقت عند أبي حنيفة ومحمد، حتى إن المستحاضة لو توضأت حين طلعت الشمس يجوز لها أن تصلي به ما شاءت من الفرائض والنوافل حتى يذهب وقت الظهر، وإنما ينتقض بخروج الوقت للاستغناء عنه، وكذا أصحاب الأعذار.
وأما قول الإصطخري فإنه باطل؛ لأن جماعة من أهل العلم قالوا بقولنا وقد ذكرناهم عن قريب.
وقول إمام الحرمين فإنه وهم لا شك فيه، فإن من أثبت جوازه قبل الوقت وبعده أثبته بالنصوص الواردة في التيمم لا بالقياس، فإنها لم تفصل بين وقت ووقت، والمطلق يجري على إطلاقه.
وقال ابن الحداد من الشافعية: لو تيمم لفائتة ضحوة النهار فلم يؤد حتى زالت الشمس جاز أداء الظهر به، فقد جوز تقديمه على الوقت.
[التيمم لصلاة الجنازة والعيدين ونحوها]
م: (ويتيمم الصحيح في المصر) ش: وغيره لصلاة الجنازة وغيرها، ولياً كان أو غير ولي لعدم(1/557)
إذا حضرت جنازة والولي غيره، فخاف إن اشتغل بالطهارة أن تفوته الصلاة؛ لأنها لا تقضى فيتحقق العجز،
وكذا من حضر العيد فخاف إن اشتغل بالطهارة أن يفوته العيد يتيمم؛ لأنها لا تعاد. وقوله: والولي غيره إشارة إلى أنه لا يجوز للولي، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الصحيح؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الماء فيها غالباً
م (إذا حضرت جنازة) ش: قيد بها؛ لأن الوجوب بحضورها م: (والولي غيره) ش: والحال أن الولي غير الصحيح الذي تيمم، قيد به لأن المتيمم إذا كان وليا لا يجوز له التيمم؛ لأنه ينتظر. وفي " المحيط ": لا يجوز للسلطان أيضاً؛ لأنه ينتظر م: (فخاف إن اشتغل بالطهارة أن تفوته الصلاة) ش: قيد به؛ لأنه إذا لم تخف الفوت لا يجوز له التيمم، فكلمة " أن " من الأولى مكسورة والثانية مفتوحة؛ لأنها مصدرية في محل النصب على أنها مفعول خاف.
م: (لأنها) ش: أي؛ لأن الصلاة على الجنازة م: (إذا فاتت لا تقضى فيتحقق العجز) ش: أي عن الأداء، وبقولنا قال الزهري، والأوزاعي، والثوري، وإسحاق، ورواية عن أحمد.
وقال الشافعي ومالك: لا يجوز التيمم لصلاة العيد، والجنازة مع القدرة على الماء لخوف فوتهما، ومبنى هذا على الخلاف على صلاة الجنازة هل تقضى أم لا، فعنده لا تقضى إلا إلى بدل، فلا يتحقق العجز، وعندنا تفوت فيتحقق العجز.
م: (وكذلك من حضر العيد) ش: أي كحكم من حضر الجنازة بالتيمم عند خوف الفوات حكم من حضر صلاة العيد م: فخاف إن اشتغل بالطهارة أن يفوته العيد) ش: أي صلاة العيد م: (يتيمم لأنها) ش: أي؛ لأن صلاة العيد م: (لا تعاد) ش: لأنها تفوت لا إلى خلف. وقال النووي: قاس الشافعي صلاة الجنازة والعيد على الجمعة وقال: تفوت الجمعة بخروج الوقت بالإجماع، والجنازة لا تفوت، بل تصلى على القبر إلى ثلاثة أيام بالإجماع، ويجوز بعدها عندنا، قلنا: فوات الجمعة إلى شيء هو أصل، وهو الظهر، بخلاف صلاة الجنازة والعيد، فإنهما يفوتان لا إلى خلف.
وقوله: الجنازة لا تفوت، بل تصلى على القبر إلى ثلاثة أيام بالإجماع، صادر عن عدم تحقق موضع الخلاف، بيانه أنا قلنا: لو تيمم هذا الشخص فصلى عليها غيره فتفوته الصلاة عليها في حقه، والصلاة لا تعاد عندنا، فلا ينال أجر الصلاة على الميت، إذ الفرض قد سقط بالأولى، والنفل فيها غير مشروع.
م: (وقوله) ش: أي قول القدوري في مختصره م: (والولي غيره) ش: إشارة إلى أنه م: (لا يجوز للولي) ش: لأنه ينتظر كما ذكرنا م: (وهو) ش: أي عدم الجواز للولي م: (رواية الحسن عن أبي حنيفة وهو الصحيح) ش: أي عدم جواز التيمم للولي هو الصحيح. وفي " المجتبى ": وكذا الولي والإمام؛ لأنه ينتظر بها.(1/558)
لأن للولي حق الإعادة فلا فوات في حقه.
وإن أحدث الإمام أو المقتدي في صلاة العيد تيمم، وبنى عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: لا يتيمم؛ لأن اللاحق يصلي بعد فراغ الإمام فلا يخاف الفوت، وله أن الخوف باق؛ لأنه يوم زحمة فيعتريه عارض يفسد عليه صلاته،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن للولي حق الإعادة) ش: أي إعادة الصلاة على الميت إذا صلى غيره م: (فلا فوات في حقه) ش: أي في حق الولي. وفي ظاهر الرواية يجوز للولي أيضاً لحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا جاءت الجنازة وأنت على غير وضوء فتيمم» . رواه ابن عدي في " الكامل " ثم قال: هذا مرفوع غير محفوظ، بل هو موقوف. وفي " التحقيق " قال أحمد في " مسنده ": فعبره بابن زياد وهو ضعيف، وكذا قال البيهقي في " المعرفة " مغيرة ضعيف ويرويه غيره عن عطاء موقوفاً.
قلت: رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " بسنده عن ابن عباس قال: إذا خفت أن تفوتك الجنازة وأنت على غير وضوء فتيمم وصل، ورواه الطحاوي في " الإرشاد " والنسائي عن المعافى بن عمران به موقوفاً، وخرج ابن أبي شيبة نحوه عن عكرمة، وعن إبراهيم النخعى عن الحسن، وأخرج عن الشعبي فقال: " فصل عيها على غير وضوء ".
وروى البيهقي من طريق الدارقطني أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أتي بجنازة وهو على غير وضوء فتيمم وصلى عليها، والحديث إذا كثرت طرقه وتعاضدت قويت فلا يضره الوقف، فإن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يقفون بالحديث تارة فلا يرفعونه، وتارة يرفعونه فلا يقفونه.
م: (وإن أحدث الإمام أو المقتدي في صلاة العيد تيمم وبنى عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: هذا بعد شروعه بالوضوء، ولو كان شروعه بالتيمم تيمم للبناء اتفاقاً، وفي " البدائع " إن كان يدرك بعضها مع الإمام لا يتيمم، هذا عند الشروع في أول الصلاة وبعد الحدث فيها إن كان لا يخاف زوال الشمس ويمكنه أن يدرك شيئاً منها مع الإمام لو توضأ لا يتيمم؛ لأنه إذا أرك البعض معه تيمم الباقي وحده، ولو كان لا يدرك شيئاً منهما مع الإمام تيمم عنده.
م: (وقالا: لا يتيمم؛ لأن اللاحق) ش: وهو الذي أدرك الإمام في الأول قام ثم أشبه بعد فراغ الإمام فإنه م: (يصلي بعد فراغ الإمام) ش: من صلاته م: (فلا يخاف الفوات) ش: لأنه في حكم الصلاة بالجماعة.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن الخوف) ش: أي خوف الفوات م: (باق لأنه) ش: أي؛ لأن يوم العيد م: (يوم زحمة) ش: أي ازدحام الناس (فيعتريه عارض) ش: مثل أن يسلم عليه أحد فيرد السلام، أو يهنئه بالعيد، أو ما أشبه ذلك، فلا يسلم عما م: (يفسد عليه صلاته) ش: فيتيمم.(1/559)
والخلاف فيما إذا شرع بالوضوء، ولو شرع بالتيمم تيمم وبنى بالاتفاق؛ لأنا أوجبنا عليه الوضوء يكون واجدا للماء في صلاته فتفسد صلاته.
ولا يتيمم للجمعة وإن خاف الفوت لو توضأ، فإن أدرك الجمعة صلاها، وإلا صلى الظهر أربعا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والخلاف) ش: أي الخلاف المذكور بين أبي حنيفة وصاحبيه م: (فيما إذا شرع بالوضوء) ش: يعني إذا شرع في صلاة العيد مع الإمام وهو متوضئ فعنده يتمم ويبني خلافاً لهما كما ذكرنا.
م: (ولو شرع بالتيمم) ش: أي ولو شرع في صلاة العيد مع الإمام وهو متيمم م: (تيمم وبنى بالاتفاق؛ لأنا لو أوجبنا عليه الوضوء يكون واجداً للماء في صلاته فتفسد صلاته) ش: المتيمم وجد الماء في خلال صلاته فإنه يستأنف الصلاة. وقال الأكمل: قيل: هذا اختيار بعض المتأخرين، ومنهم من قال: يتوضأ ويبني لقدرته على الماء والأداء.
قلت: قائله صاحب " الفوائد الظهيرية "، فإنه قال: فإن كان شروعه بالتيمم فسبقه الحدث تيمم وبنى عند أبي حنفية بلا إشكال. وأما على قولهما: فاختلف المتأخرون، قال بعضهم: تيمم وبنى كما هو قول أبي حنيفة، وقال بعضهم: لا، بل يتوضأ ويبني، وفرق بين هذا وبين متيمم يجد الماء في خلال الصلاة، فإن التيمم ينتقض هناك بصفة الاستناد إلى ابتداء وجود الحدث، عند إصابة الماء؛ لأنه يصير محدثاً بالحدث السابق، إذ الإصابة ليست بحدث، وفيما نحن فيه لم ينتقض التيمم عند إصابة الماء لصفة الاستناد، بل بالحدث الطارئ على التيمم.
[التيمم لصلاة الجمعة]
م: (ولا يتيمم للجمعة وإن خاف الفوت لو توضأ، فإن أدرك الجمعة صلاها) ش: الفاء للتفصيل، يعني إذا توضأ بعدما سبقه الحدث وهو في الجمعة، فإن أدرك الجمعة صلاها م: (وإلا) ش: وإن لم يدرك الجمعة م: (صلى الظهر في الوقت) ش: أي وقت الظهر، وفي بعض النسخ: صلى الظهر أربعاً، قاله الأكمل. قيل: هو تأكيد وقطع لإرادة الجمعة بالظهر مجازاً لكونها خلفه.
قلت: قائله الأترازي: وأخذه الأترازي من " الكافي " قال فيه: وإنما يكون أربعاً؛ لأن الجمعة تسمى ظهراً باعتبار أنها خلف عن الظهر عندنا، فقال: أربعاً قطعا لذلك المجاز، وقال صاحب " الدراية ": إنما قال: أربعاً، كيلا يظن أنه يكفيه ركعتان قضاء الجمعة، أخذه صاحب " الدراية " من " البدرية ".
فإن قلت: قوله: فإن " أدرك الجمعة صلاها " ينفي هذا الاحتمال.
قلت: قوله: إن " أرك الجمعة "، أي الجمعة التي مع الإمام لا يبقى أن يصليها بدون الإمام إن لم يدرك الجمعة، فيكون احتمال إطلاق اسم الظهر عليها باقياً، ولكن على وجه الانفراد، وذكر الإمام التمرتاشي التيمم لصلاة العيد قبل الشروع فيها لا يجوز للإمام؛ لأنه ينتظر. وأما المقتدي(1/560)
لأنها تفوت إلى خلف وهو الظهر بخلاف العيد، وكذا إذا خاف فوت الوقت لو توضأ لم يتيمم ويتوضأ ويقضي ما فاته؛ لأن الفوات إلى الخلف وهو القضاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن كان الماء قريباً لو توضأ لا يخاف الفوت لا يجوز، وإلا فيجوز، فلو أحدث أحدهما بعد الشروع بالتيمم تيمم وبنى، وإن كان الشروع بالوضوء وخاف ذهاب الوقت لو توضأ فكذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافاً لهما.
وفي " المحيط " إن أحدث المؤتم في صلاة العيد في الجبانة فإن كان قبل الشروع ويرجو إدراك شيء مع الإمام لو توضأ لا يتيمم وإلا فتيمم، وإن كان الحدث بعد الشروع وهو متيمم تيمم وبنى بلا خلاف، وإن كان بالوضوء وخاف زوال الشمس لو توضأ تيمم بالإجماع، وإلا فإن كان يرجو إدراك الإمام قبل الفراغ لا يتيمم بالإجماع. وإلا تيمم وبنى عند أبي حنيفة، وقالا: يتوضأ ولا يتيمم، فمن المشايخ من قال هذا اختلاف عصر وزمان أبي حنيفة كانت الجبانة بعيدة من الكوفة، وفي زمنهما كانوا يصلون في جبانة قريبة. وكان شمس الأئمة الحلواني وشمس الأئمة السرخسي يقولان في ديارنا: لا يجوز التيمم لصلاة العيد لا ابتداء ولا بقاء؛ لأن الماء محيط لمصلي العيد، فلا يخاف الفوت حتى لو خاف تيمم، ومنهم من قال: هذا اختلاف حجة وبرهان، قال أبو بكر الإسكاف: هذه المسألة بناء على أن من شرع في صلاة العيد ثم أفسدها لا قضاء عليه عند أبي حنيفة، فكان تفوته الصلاة لا إلى بدل فكذلك جاز التيمم.
وعندهما: يلزمه القضاء، فلا تفوته لا إلى بدل فلا يجوز التيمم، وقبل الشروع إذا فاته الأداء لا يمكنه القضاء بالإجماع، فكان الفوات إلى بدل، فلا يجوز التيمم، وغيره من المشايخ جعل هذا اختلافاً مبتدأ.
م: (لأنها) ش: أي؛ لأن الجمعة م: (تفوت إلى خلف وهو) ش: أي الخلف عن الجمعة م: ش (الظهر) ش: اختلف المشايخ في فرض الوقت، فقيل فرض الوقت الجمعة، والظهر خلف عنها، وهو المروي عن زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقيل: الفرض أحدهما، وراية عن محمد، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف فرض الوقت الظهر، لكنه مأمور بإسقاطه بالجمعة، وفكان قول المصنف وهو الظهر إشارة إلى القول الأول، وعلى المذهب المختار الظهر أصل لا خلف، ولكنه تصور بصورة الخلف باعتبار أن المأمور في هذا يوم الجمعة، ولهذا سقط بالأعذار وهو يقوم مقامها عند فوتها.
م: (بخلاف العيد) ش: أي بخلاف صلاة العيد فإنها تفوت لا إلى خلف، بحيث لا تقضى فيتيمم عند خوف الفوت م: (وكذا إذا خاف فوت الوقت) ش: أي وكذا لا يتيمم إذا خاف فوت وقت صلاة من المكتوبات؛ لأنها تقضى م: (لو توضأ) ش: أي لو اشتغل بالوضوء لما عرف أن التيمم شرع رخصة لدفع حرج كثرة الفوات، لا لخوف فوت الوقت م: (لم يتيمم ويتوضأ ويقضي ما فاته) ش: لأن الفوات إلى الخلف م: (وهو القضاء) ش: لأن الفوات إلى خلف [ ... ] فوات. وقال(1/561)
والمسافر إذا نسي الماء في رحله فتيمم وصلى ثم ذكر الماء لم يعدها عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأكمل: لا يقال هذا وقع مكررا لما أن هذا الحكم عرف في أول الباب من قوله: والمعتبر المسافة دون فوت الوقت؛ لأن ذلك كان قول صاحب " الهداية "، وهذا قول القدوري.
قلت: قال الأترازي: هذا وقع تكراراً من صاحب " الهداية " فأخذه الأكمل ونقله بهذه الصورة، وأجاب الأترازي عن هذا بجوابين:
أحدهما: أخذه الأكمل، وهو الذي قاله ورضي به.
والثاني: نظر فيه وهو قوله: وقيل؛ لأنه علل بتعليل غير التعليل السابق ولا وجه لقوله: وفيه نظر؛ لأن الفرق بين التعليلين ظاهر.
فإن قلت: فضيلة الجمعة وفضيلة الوقت تفوت لا إلى خلف، فينبغي أن تيممه له كصلاة الجنازة والعيدين، ولهذا جوز للمسافر التيمم لخوف فوت الوقت، ولهذا جازت صلاة الخوف مع ترك التوجه إلى القبلة وراكباً بالإيماء. قلت: فضيلة الوقت والأداء وصف المؤدى تابع له غير مقصودة لذاتها، بخلاف صلاة الجنازة والعيدين، فإنهما أصل، فيكون فواتهما أصل مقصودة، وجوازه للمسافر بالنص، لا لخوف الوقت؛ لئلا يتضاعف عليه الفوت ويقع في الحرج في القضاء، وكذا صلاة الخوف للخوف دون خوف الوقت.
م: (والمسافر إذا نسي الماء في رحله) ش: بفتح الراء وسكون الحاء المهملة. قال الأزهري: رحل الرجل منزله من حجر أو مدر وشعر ودير قالوا: ويقع أيضاً على متاعه وأثاثه، ومنه قول الشاعر:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ... والزاد حتى نعله ألقاها
وفي " المغرب " يقال: المنزل للأفاقي وماؤه رحل وجمعه أرحل ورحال، ومنه: نسي الماء في رحله.
فإن قلت: لم قيد بالمسافر والحكم فيه، وفي خارج المصر سواء، ولهذا قال فخر الإسلام في " شرح الجامع الصغير " بأن المسافر وغيره سواء استدلالاً بعدم ذكر المسافر رجل في رحله ماء نسيه فتيمم وصلى ثم ذكر في الوقت فقد تمت صلاته. وقال السغناقي. قيد بالنسيان؛ لأن في الظن لا يجوز بالإجماع يعيد الصلاة.
م: (فتيمم وصلى ثم ذكر الماء لم يعدها) ش: أي الصلاة التي صلاها بالتيمم م: (عند أبي حنيفة ومحمد) ش: وبه قال الثوري، وأبو ثور، وداود، والشافعي في القديم، ومالك في رواية،(1/562)
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعيدها، والخلاف فيما إذا وضعه بنفسه أو وضعه غيره بأمره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وتوقف أحمد فيه.
م: (وقال أبو يوسف: يعيدها) ش: أي الصلاة، وبه قال الشافعي في الجديد وأحمد في رواية م: (والخلاف فيما إذا وضعه بنفسه أو وضعه غيره بأمره) ش: أي الخلاف المذكور فيما إذا وضع الماء في رحله بنفسه أو وضعه غيره بأمره أي بأمر صاحب الرحل أو بغير أمره، أو وضعه غيره بغير أمره بلا علم منه.
وقال الأترازي: قال بعض الشارحين: قيد بقوله: " أو وضعه غيره بأمره " فإنه لو وضعه غيره وهو لا يعلم به يجزئه بالإجماع؛ لأن المرء قط لا يخاطب بفعل الغير. أقول: دعوى الإجماع ليست بصحيحة، ألا ترى ما أورد فخر الإسلام في " شرح الجامع الصغير " قال في كتاب الصلاة: في مسافر تيمم وفي رحله ماء وهو لا يعلم به، والذي لا يعلم به إن وضعه غيره في الرحل بغير علمه، قال: ومسألة هذا الكتاب أي " الجامع الصغير " فيما إذا وضع الماء في الرحل بنفسه أو غيره بأمره ثم نسيه، ثم قال: فثبت أن الخلاف في الفصلين واحد، وكذا أن سائر نسخ " الجامع الصغير " فعلم أن دعوى الإجماع هو أشهر كلامه.
قلت: أراد بقوله: قال بعض الشارحين السغناقي، فإنه قال في شرحه: قيل بقوله أو وضعه غيره بأمره، فإنه لو وضعه غيره بغير علم اتفاقاً. وقال في " الينابيع ": والمسألة على الخلاف، وذكر المراغي أن المسألة على ثلاثة أوجه، أما إن وضعه بنفسه ولم يطلبه، أو وضعه خلافه أو جيرانه وهو لا يعلم، أو وضعه بنفسه ولكنه نسي، ففي الأول لم يجزئه التيمم بالإجماع؛ لأن التقصير جاء من قبله، وفي الثاني: يجوز بالإجماع، وفي الثالث: خلاف، وعن محمد في غير رواية " الأصول " أن الفصول الثلاثة على الاختلاف، ولو كان الإناء معلقاً على إكاف، فإن كان راكبا والماء في مؤخرة الرحل يجزئه عندهما، وإن كان ماشياً، فإن كان الماء في مقدم الرحل يجزئه عندهما، وإن كان في مؤخره لا يجزئه بالإجماع، وإن كان قائداً يجزئه كيف ما كان، ولو كان في إناء على ظهره أو معلقاً في عنقه، أو موضوعاً بين يديه لا يجزئه بالإجماع.
ولو كان على شاطئ النهر فعن أبي يوسف في الإعادة روايتان، ولو مر بالماء وهو متيمم لكنه نسي أنه تيمم ينتقض تيممه، ولو ضرب الفسطاط على رأس النهر فقد غطى رأسها لم يعلم بالماء فتيمم وصلى ثم علم بالماء أمر بالإعادة، ولو وجد بئرا في الطريق فيها ماء وهو لا يستطيع أخذه منها ولا يجد ماء غيره تيمم، ولو كان معه منديل طاهر لا يجزئه التيمم به.
وهذا قول يوافق بما ذكره الشافعية، وهو أنه لو وجد بئراً فيها ماء لا يمكنه النزول إليه وليس معه ما يدليه إلا ثوبه أو عمامته لزمه إدلاؤه ثم يعصره إن لم ينقص قيمة الثوب أكثر من ثمن الماء،(1/563)
وذكره في الوقت وبعده سواء. له أنه واجد للماء فصار كما إذا كان في رحله ثوب فنسيه، ولأن رحل المسافر معدن للماء عادة فيفترض الطلب عليه، ولهما: أنه لا قدرة بدون العلم وهو المراد بالوجود،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن زاد النقص على ثمن الماء يتيمم ولا إعادة، وإن قدر على استئجارها ينزل إليها بأجر المثل لزمه ولم يجز التيمم، وإلا جاز بلا إعادة.
ولو كان معه ثوب إن شقه نصفين وصل الماء، وإلا لم يصل، فإن كان نقصه بالشق لا يزد على الأكثر من ثمن الماء أو ثمن آلة الاستيقاء لزمه شقه ولم يجز التيمم، وإلا جاز بلا إعادة، وهذا موافق لقواعدنا.
م: (وذكره في الوقت وبعده سواء) ش: أي ذكر المتيمم الماء في وقت الصلاة أو بعد وقتها سواء، وهذا من تتمة قول أبي يوسف، ولو ظن أن ماءه قد فني ثم تبين أنه لم يفن عليه الإعادة - اتفاقاً - به.
م: (له) ش: أي لأبي يوسف م: (أنه) ش: أي أن المتيمم م: (واجد للماء) ش: لأنه في رحله، ورحله في يده، والنسيان لا يعادل الوجوه من قبله م: (فصار) ش: أي حكم الشخص المذكور م: (كما إذا كان في رحله ثوب فنسيه) ش: فصلى عاريا فإنه يعيد ما صلى، وكذا الرجل لو صلى في ثوب نجس وفي رحله ثوب طاهر قد نسيه، أو صلى مع النجاسة ونسي ما يزيلها، أو محدثا نسي غسل بعض الأعضاء أو ستر العورة، أو صلى مع النجاسة ناسياً، تجب الإعادة، أو حكم بالقياس ونسي النص، أو كفر بالصوم وفي ملكه رقبة نسيها، أو كان الماء في ركوة معلقة على رأسه أو قربة على ظهره، أو كانت معلقة بعنقه قد نسيه.
م: (ولأن رحل المسافر) ش: دليل آخر، أي: ولأن منزلة المسافة م: (معدن للماء عادة فيفترض الطلب عليه) ش: لأن كل ما كان معدنا كالماء عادة يفترض على المتيمم طلب الماء فيه كما [لو] كان في العمران، فإنه يفترض عليه طلب الماء لكونه في معدنه، فإن لم يطلب وتيمم لم تجز، فصار كمن جاء قوماً ولم ير عندهم ماء فتيمم قبل طلبه منهم ثم علم بأنه قد كان.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد م: (أنه) ش: أن الشأن م: (لا قدرة بدون العلم) ش: فلا يكون واجداً، والنص شرط عدم الوجود وهو القدرة أشار إليه بقوله: م: (وهو المراد بالوجود) ش: أي القدرة هي التي أريدت بالوجود في القرآن والحديث؛ لأنه لم يرد بقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا} [المائدة: 6] عدم الماء حقيقة، وإنما المراد به لم تقدروا على استعمال الماء فتيمموا، إلا ترى أن المريض يتيمم مع وجود الماء حقيقة؛ لأنه غير قادر على استعماله.
فإن قلت: كيف لا قدرة بدون العلم، والمكفر بالصوم إذا نسي الرقبة في ملكه لا يجزئه(1/564)
وماء الرحل معد للشرب لا للاستعمال، ومسألة الثوب على الاختلاف، ولو كانت على الاتفاق ففرض الستر يفوت لا إلى خلف،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صومه فعليه أن يعتق؟
قلت: المعتبر في التكفير الملك لا القدرة، حتى لو عرض عليه شخص الرقبة أن لا يقبله ويكفر بالصوم. وروى الحسن عن أبي حنيفة أن فصل التيمم والتكفير سواء كذا في " المجتبى "، وفي " المختار ": العلم كالآلة يتوصل به إلى استعمال الماء فكان بمنزلة الدلو والرشاء، فانعدامه بمنزلة انعدامهما.
م: (وماء الرحل معد للشرب لا للاستعمال) ش: هذا جواب عن قوله: ولأن رحل المسافر ... إلخ، وقال الأكمل: تقديره: أن رحل المسافر معدن الماء عادة معد للشرب لا للاستعمال، والأول: مسلم غير مقيد، والثاني: ممنوع.
قلت: ما قرر شيئا في الجواب، وإنما زاد فيه: والأول: مسلم غير مقيد، والثاني: ممنوع، فإن أراد بالأول: التعليل، وهو على الثوب الذي نسيه في رحله فكونه مسلماً ظاهر؛ لأن في كون كل من المقيس والمقيس عليه النسيان موجود، ولكنه لا يضاد الموجود كما ذكرنا، وكونه غير مقيد ظاهر، وإن أراد بالأول " كون الماء معداً للشراب، وبالثاني: قوله: لا للاستعمال، فلا يفسد ما قاله، فإن أراد بالأول: كون رحل المسافر معدناً للماء عادة، وبالثاني: كونه معدنا للشرب فهذا ظاهر يفهم بالتأمل.
م: (ومسألة الثوب على الاختلاف) ش: جواب عن قوله: فصار كما إذا كان في رحله ثوب نسيه، وهو المقيس عليه الذي قاس عليه أبو يوسف، وتقريره أن يقال: فإن أراد بالأول رحل المسافر معدنا للماء عادة، لا نسلم أن مسألة الثوب متفق عليها، والخلاف فيها واقع أيضاً ذكره الكرخي، وهو الأصح، فإذا كان كذلك لا ينتهض حجة.
م: (ولو كانت) ش: أي مسألة الثوب م: (على الاتفاق ففرض الستر يفوت لا إلى خلف) ش: هذا جواب بطريق التسليم، يعني: ولئن سلمنا أن مسألة الثوب على الاتفاق بيننا ولكن الفرق بينهما موجود، وهو أي ستر العورة يفوت إلى خلف بخلاف صورة النزاع. وأيضاً شرط القياس المساواة بين المقيس والمقيس عليه، ولا نسلم وجودها في صورة النزاع؛ لأن فرض الستر يفوت لا إلى خلف، وفرض الوضوء يفوت إلى بدل، وهو التيمم بعذر النسيان والقلب، والفائت بلا بدل كلا فائت فافترقا، ونظير مسألة الكتاب: إذا كان معه إناءان أحدهما: نجس، يريقهما ولا يتحرى؛ لأنه يفوت إلى خلف وهو التيمم، ولو لم يرق وتيمم، جاز، فلو توضأ بالماءين وصلى يجزئه إذا مسح في موضعين من رأسه؛ لأن النجس إن تأخر لم يجد ما يزيل به النجاسة(1/565)
والطهارة بالماء تفوت إلى خلف وهو التيمم، وليس على المتيمم طلب الماء إذا لم يغلب على ظنه أن بقربه ماء؛ لأن الغالب عدم الماء في الفلوات، ولا دليل على الوجود، فلم يكن واجدا للماء، وإن غلب على ظنه أن هناك ماء، لم يجز له أن يتيمم حتى يطلبه؛ لأنه واجد للماء نظرا إلى الدليل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فتجوز صلاته، ذكره في " المحيط "، ونظير مسألة الثوب وأخواتها لو كان ثوبان أحدهما متنجس يتحرى؛ لأن الستر يفوت لا إلى خلف فكان فائتاً أصلا، وبدلاً.
م: (الطهارة بالماء تفوت إلى خلف) ش: يعني تفوت الطهارة إلى خلف م: (وهو) ش: أي الخلف م: (التيمم وليس على المتيمم) ش: أي الذي يريد التيمم م: (طلب الماء إذا لم يغلب على ظنه أن بقربه ماء) ش: كلمة أن مصدرية في محل الرفع على أنها فاعل لم يغلب تقريره إذا لم يغلب على ظنه قرب الماء منه.
وفي " المجتبى ": هذا في الفلوات، أما في العمران فالطلب واجب بالإجماع، ولذا يجب الطلب إذا غلب على ظنه أن بقربه ماء، وغلبة الظن هي الدليل على وجوده، مثل ما إذا كان في العمران أو رأى في الفلاة طيوراً نازلين ومن حيوانات البر ما يستبين، بخلاف ما إذا كانت في براري الرمال سيما طريق الحجاز. وفي " النافعي " في إيراد هذه المسألة عقب مسألة ماء الرحل نظر، فإن الاختلاف فيها بناء على اشتراط الطلب وعدمه. م: (لأن الغالب عدم الماء في الفلوات) ش: التي ليس فيها دليل على وجود الماء، وهو معنى قوله م: (ولا دليل على الوجود، فلم يكن واجداً) ش: حكما؛ لأنه ليس كذلك في غالب الظن. م: (وإن غلب على ظنه أن هناك ماء) ش: أشار به إلى مواضع قريبة منه م: (لم يجز له أن يتيمم حتى يطلبه) ش: أي الماء م: (لأنه واجد للماء نظراً إلى الدليل) ش: وهو غلبة الظن. وقال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن المسافر لا يجد الماء يطلبه عن يمينه ويساره في طريقه، فقال: إن كان على طمع فيه فليطلبه ولا يبعد أصحابه فيضر بهم وبنفسه.
وقال الشافعي: الطلب يمنة ويسرة شرط، وفي " جامع الوجيز " قال: للمسافر حالات: إحداها: أن يتحقق عدم الماء حواليه، ففي تقديم الطلب فيها وجهان: أحدهما: أنه يجب، وأظهرهما: أنه لا يجب.
ويشترط أن يكون الطلب بعد دخول الوقت ليحصل الضرورة، وهل يجب أن يطلب بنفسه فيه وجهان: أظهرهما أنه يجوز أن يبعث غيره فيه حتى لو بعث النازلون أحداً لطلب الماء أجزأ طلبه عن الكل، ويطلب إلى حيث لو استعان بالرفقة أن يأتوا، وبقول الشافعي قال مالك وأحمد في رواية.
وقال الثوري: القطع بوجوب الطلب بكل حال هو الذي أطلقه العراقيون وبعض(1/566)
ثم يطلب مقدار الغلوة، ولا يبلغ ميلا كيلا ينقطع عن رفقته،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخراسانيين، وقالوا: إن تحقق عدم الماء حوله لم يلزمه الطلب، ولهذا قطع إمام الحرمين والغزالي وغيرهما واختاره الروياني.
وقال إمام الحرمين: إنما يجب طلبه إذا توقع وجوده قريباً، فإن قطع أن لا ماء هناك بأن كان في رمال البراري فيعلم بالضرورة استحالة وجود الماء لم يكفه التردد؛ لأن طلب ما يعلم عدمه واستحالته محال. وصفة الطلب عندهم أن ينظر يميناً وشمالا ووراء وأماما، ولا يلزمه المشي، بل يكفيه نظره في هذه الجهات وهو لا يبرح مكانه إذا كان حوله [ما] لا يستر عنه، فإن كان بقربه جبل صغير صعد ونظر حواليه.
وله أن يوكل بالطلب، ولا يجب أن يطلب من كل واحد بعينه بل ينادي فيهم: من معه ماء؟ من يجد الماء؟ ولهم وجه آخر: أنه لا يصح التوكيل بالطلب إلا للمعذور إن أراد تيمما آخر لبطلان الأول بحدث أو بفريضة أخرى إن احتمل حصول الماء، ولو انتقل من موضع التيمم وجب الطلب، فكل موضع تيقن بالطلب الأول أن لا ماء فيه ولم يحتمل حدوث الماء فيه ففي وجوب الطلب وجهان.
قال أبو حامد: وإذا طلب ثانياً ثم حضرت صلاة أخرى وجب الطلب لها ثالثاً، وهكذا كلما حضرت الصلاة، قال: ولو كان عليه فزالت يجب الطلب لكل واحدة، وكذا في الجمع بين الصلاتين يطلبه للثانية.
واستدل الشافعي فيما ذهب إليه بقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) ، يقتضي عدم الوجدان مطلقا، فمن قيد الطلب فيعمل بإطلاقه، وقال أبو بكر الرازي: الوجود لا يستدعي الطلب. قال تعالى: {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] (الأعراف: الآية 44) ، ولا طلب. وقوله: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا} [الكهف: 77] (الكهف: الآية 77) ، لم يكن منهما طلب الجدار، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وجد منكم لقطة فليعرفها» ولا طلب من الواجد.
م: (ثم يطلب مقدار الغلوة) قيل: هي رمية القوس، وفي " المغرب ": مقدار ثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة ذراع، وفي " الصحاح ": غلوات السهم إذا رميت به أبعد ما يقدر عليه، والغلوة الغاية مقدار رمية، ويقال: أول من سماها به سليمان بن عبد الملك، وعن أبي يوسف: إذا كان بحال لو ذهب لا تغيب القافلة عن بصره. وفي " المستصفى ": شرط الطلب مقدار ما يسمع صوت أصحابه، وقيل: يطلب دون الميل، وإن طلعت الشمس. م: (ولا يبلغ ميلاً) ش: أي لا يبلغ طلبه مقدار ميل م: (كيلا ينقطع عن رفقته) ش: لأنه إذا زاد عن الميل ربما انقطع عن رفقته فيحصل الضرر، والحرج والضرر مدفوع شرعاً.(1/567)
وإن كان مع رفيقه ماء، طلب منه قبل أن يتيمم لعدم المنع غالبا، فإن منعه منه تيمم لتحقق العجز.
ولو تيمم قبل الطلب أجزأه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا يلزمه الطلب من ملك الغير، وقالا: لا يجزئه؛ لأن الماء مبذول عادة، ولو أبى أن يعطيه إلا بثمن المثل وعنده ثمنه لا يجزئه التيمم لتحقق القدرة، لأن الضرر مسقط، ولا يلزمه تحمل الغبن الفاحش. والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن كان مع رفيقه ماء طلبه منه قبل أن يتيمم لعدم المنع غالباً) ش: لأن الماء مبذول عادة م: (فإن منعه منه) ش: أي فإن منع المطلوب الطالب من الماء م: (تيمم لتحقيق العجز عن الماء) ش: وفي " المحيط " لو غلب على ظنه الإعطاء وجب السؤال وإلا فلا. وفي " المجتبى: الغالب عدم الضنة بالماء حتى لو كان في موضع يجري فيه الضنة لا يجب الطلب.
م: (ولو تيمم قبل الطلب أجزأه عند أبي حنيفة؛ لأنه لا يلزمه الطلب من ملك الغير) ش: لأن في الطلب ذلا، وفيه ضرر لا يجب حمله، وذكر هذا الخلاف. وفي " الإيضاح " و " التقريب " و " شرح الأقطع " بين أبي حنيفة وصاحبيه كما ذكره المصنف. وفي " المبسوط ": وإن كان مع رفيقه ماء فعليه أن يسأله إلا على قول الحسن بن زياد، فإنه كان يقول: السؤال ذل وفيه بعض الحرج، وما شرع التيمم إلا لدفع الحرج، فإن مضى عليها وسأله بعد فراغه فأعطاه أو باعه أعادها إن كان ثمنه معه، وإن منعه لم يعد، وكذا لو أعطاه بعد منعه أو منعه قبل شروعه فيها، وبذله بعد فراغه.
وذكر الزوزني وغيره أنه لو تيمم قبل الطلب أجزأه عند أبي حنيفة في رواية الحسن عنه. وذكر في " الذخيرة " عن الخصاف أنه لا خلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه، ومراد أبي حنيفة فيما إذا غلب على ظنه منعه إياه، ومرادهما عند غلبة الظن بعدم المنع. وفي " التجريد ": لا يجب الطلب من الرفيق عند أبي حنيفة ومحمد، خلافاً لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وعند الشافعي: لا يجب الاستيهاب من صاحبه في قوله لصعوبة السؤال على أهل المروءة، والأظهر أنه يجب؛ لأنه ليس في هبة الماء كثير هبة. وفي " النهاية ": لم يذكر في عامة النسخ قول أبي حنيفة في هذا الموضع، بل قيل: لا يجوز التيمم قبل الطلب إذا كان في غالب ظنه أنه يعطيه مطلقاً من غير ذكر خلاف بين علمائنا الثلاثة، إلا على قول الحسن بن زياد فإنه يقول: السؤال ذلة وفيه ضرر.
م: (وقالا: لا يجزئه؛ لأن الماء مبذول عادة) ش: فكان قادراً على استعمال الماء ظاهراً، فلا بد من الطلب لتحقق العجز أو القدرة م: (ولو أبى) ش: أي امتنع م: (أن يعطيه إلا بثمن المثل) ش: في ذلك الموضع أو في أقرب المواضع الذي يعز وجود الماء فيه م: (وعنده ثمنه) ش: أي والحال أن عنده ثمن الماء م: (لا يجزئه التيمم لتحقق القدرة؛ لأن الضرر مسقط) ش: أي للقدرة، أي مسقط للوجوب م: (ولا يلزمه تحمل الغبن الفاحش) ش: وهو ضعف الثمن، كذا في " النوادر "، وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه يشتري ما يساوي درهماً بدرهم ونصف. وقيل: ما لا يدخل تحت تقويم المقومين.(1/568)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيل: ما لا يتغابن في مثله.
قول الحسن يلزمه الشراء بجميع ماله [ ... ] ، كما أن قول الشافعي الزيادة على ثمن المثل عذر في ترك الشراء قليلة كانت أو كثيرة تفريط. وقال النووي في ثمن المثل ثلاثة أوجه: أجرة نقله إليه، اختاره الغزالي بناء على أن الماء لا يملك، قال: وهو تخفيف، والثاني: يعتبر قيمته في ذلك الموضع في غالب الأوقات، لا في وقت عزته للضرر عليه. قال: وليس بشيء. والثالث: عن مثله في ذلك المكان في تلك الحال، قال: وهو الصحيح، فما زاد على ثمن المثل لم يلزمه الشراء بلا خلاف فيه، وهم سواء كثرت الزيادة أو قلت، وهو الصحيح، ونص عليه الشافعي في الأم، وفيه وجه آخر: أنه يلزمه شراء وبغبن يسير الذي يتغابن الناس في مثله، وبه قال البغوي وقطع به.
قال النووي بالأول، قال: وقال أبو حنيفة والنووي: يلزمه شراؤه بالغبن اليسير، وقال مالك: إن طلب منه بزيادة لا تجحف لزمه الشراء.
فروع: وإن كان مع رفيقة دلو، وليس معه دلو لا يجب عليه أن يسأل، فإن سأل الدلو فقال: انتظر حتى أستقي الماء ثم أدفع إليك فالمستحب عند أبي حنيفة أن ينتظر إلى آخر الوقت، فإن خاف فوات الوقت تيمم، وعلى هذا لو كان مع رفيقه ثوب وهو عريان، فقال له: انتظر حتى أصلي وأدفع إليك الثوب لم يجزه عريانا. وعن أبي حنيفة أنه يتيمم ويصلي عريانا. وأجمعوا على أنه إذا قال له [ ... ] لك مالي لتحج فإنه لا يجب عليه الحج؛ لأن الضرر يسقط - أي يسقط الوجوب -، هو من إسقاط باب الأفعال.(1/569)
باب المسح على الخفين
المسح على الخفين جائز بالسنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب المسح على الخفين]
م: (باب المسح على الخفين) ش: أي هذا باب في أحكام المسح على الخفين. وجه المناسبة بين البابين من حيث إن كلاً منهما بدل، فالتيمم بدل عن الوضوء، والمسح على الخفين بدل غسل الرجلين.
فإن قلت: كان ينبغي تقديم المسح على التيمم؛ لأنه بدل عن البعض، والبعض بدل مقدم على الكل.
قلت: نعم، ولكن ثبوت التيمم بالكتاب والمسح بالسنة فالأول أقوى. وقال الأترازي: قيل: وجه مناسبة هذا الباب لما تقدم من حيث الرخصة؛ لأن المسح شرع رخصة كالتيمم أو من حيث المعارضية؛ لأن الأصل هو غسل الرجل كما أن الوضوء هو الأصل، والمسح والتيمم عارضان أو من حيث التوقيت؛ لأن لكل منهما وقتاً، أو من حيث أن كلاً منهما يكتفى فيه بالبعض، انتهى.
قلت: هذه أربعة أوجه، فالوجه الثالث: أخذه عن السغناقي. قال: وللسغناقي وجهين آخرين:
أحدهما: أن كلاً منهما طهارة، غير أن أحدهما بالتراب والآخر بالماء.
والوجه الثاني: أن كلاً منهما بدل عن الغسل، والأترازي أخذ هذا الوجه، والثاني من تاج الشريعة في " شرحه ". وقال الأكمل: إنما أعقب المسح على الخفين عن التيمم؛ لأن كلاً منهما طهارة مسح، أو لأنهما بدلان عن الغسل، أو من حيث إنهما رخصة مؤقتة إلى وقت، فالأول والثاني أخذهما من " النهاية "، والثالث من " الكفاية ".
[حكم المسح على الخفين]
م: (المسح على الخفين جائز بالسنة) ش: معنى جائز أنه إن فعله جاز وإن لم يفعله جاز، فهو مخير بين المسح ونزع الخف والغسل. وفي " المستصفى ": إنما قال جائز لكون الغسل أفضل؛ لأنه أبعد عن مظنة الخلاف، وفي " القنية ": المسح أفضل أخذا باليسر. وقال الأترازي: إنما قال جائز؛ لأن الشخص إذا لم يمسح أصلاً ونزع خفيه وغسل رجليه لا يأثم.
قلت: بشرط أن لا يرى المسح ولا يكره، وقال الأكمل: المسح على الخفين جائز بالسنة، أي بقوله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفعله، ولم يزد على هذا. وقال تاج الشريعة: إنما قال جائز ولم يقل واجب؛ لأنه مخير كما ذكرناه. وقوله: نفي لما قال بعضهم أن ثبوته بالكتاب الكريم، وهو قراءة الجر في قَوْله تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] وقد تكلمنا في أول الكتاب في الآية الكريمة مستقصى، وإنما قال بالسنة، ولم يقل بالحديث؛ لأن تقرير المسح ثبت بالسنة زيادة بالمشهور على الكتاب وهي جائزة به، وإن(1/570)
والأخبار فيه مستفيضة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان ناسخاً على ما عرف في أصول الفقه.
قلت: لم يقصد المصنف ما قاله، وإنما مراده هاهنا أن أصل المسح ثبت بالسنة وإن كان مقداره أيضاً ثبت بالسنة.
م: (والأخبار فيه) ش: أي في المسح على الخفين م: (مستفيضة) ش: أي كثيرة شائعة قولاً وفعلاً، وفي " المبسوط " عن أبي حنيفة أنه قال: ما قلت بالمسح حتى جاء في مثل ضوء النهار. وفي " الأسبيجابي ": حتى وردت آثار أضوأ من الشمس. وفي " المحيط " عن أبي حنيفة: من أنكر المسح على الخفين يخاف عليه الكفر. وفي " المفيد ": لو كان المسح مما يختلف فيه لمسحنا.
وفي " النوادر ": من أنكر المسح على الخفين، عن الكرخي يخاف عليه الكفر. وفي " المفيد "، قال: لأنه ورد فيه الأخبار ما يشبه التواتر، قال: وكتب في " السمرقنديات " على قياس قول أبي يوسف وعلى قول محمد: لا يكفر؛ لأنه بمنزلة الآحاد، ومن أنكر خبر الآحاد لا يكفر، قيل لمحمد: لم جوزت [المسح] على الخفين إذا كان خبر المسح من الآحاد، وفيه نسخ لكتاب الله، فقال: ما نسخت كتاب الله بل خصصته به، قال: يريد به تخصيص الحال؛ لأنها عمت حالة الستر والكشف، والحديث بين الأمر بالغسل مختص بحالة الكشف دون الستر بالخف، قال: وتخصيص الكتاب بالآحاد جائز عندي.
قلت: مراده بالآحاد التي اشتهرت، قيل: يجوز جوازه بالكتاب أيضاً، قال: قراءة الجر.
قلت: فيه ضعف؛ لأن المسح إلى الكعبين غير واجب إجماعاً. وقال أبو البقاء القدوري عن أحمد: روى حديث المسح على الخفين سبعة وثلاثون من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال ابن أبي حاتم: رواه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحد وأربعون صحابياً، ومثله عن أحمد ذكره في " المغني "، ومثله عن أبي عمر ذكره في الاستذكار، وفي " الإشراف " عن الحسن حدثني به سبعون صحابياً، وفي " البدائع ": روي عن الحسن البصري أنه قال: أدركت سبعين بدرياً من الصحابة يرون المسح على الخفين. وقال السروجي: وممن نقل المسح على الخفين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عمر، وعلي، وسعيد، وابن مسعود، والمغيرة بن شعبة، وأبو موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، وأبو أيوب، وخالد بن زيد الأنصاري، وأبو أمامة الباهلي، وسهل بن سعد، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد، وحذيفة، وعمار، وأبو مسعود الأنصاري، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وأبو بكرة، وبلال، وصفوان، وعبد الله بن الحارث بن حزم، وأبو زيد الأنصاري، وسليمان، وثوبان، وعبادة بن الصامت، ويعلى بن مرة، وأسامة بن شريك، وعمرو بن أمية الضمري، وبريدة، وأسامة بن زيد، وأبو هريرة، وعوف بن مالك، وعبد الله بن عمر، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.(1/571)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هؤلاء تسعة وثلاثون نفراً ذكرهم مجردين ولم يذكر المخرجين عنهم. وقد ذكرت في " شرح معاني الآثار " سبعة وستين صحابياً، وأشرت إلى مخرج كل واحد بإشارة لطيفة، فمنهم الجماعة المذكورون والبقية: أبو عبيدة بن الجراح، ورجل له صحبة، وبديل بن ورقاء، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن رواحة، وفضالة بن عبيد، وأبو بردة الأسلمي، وأبو عوسجة، وشعيب بن غالب الكندي، ويسار جد عبد الله بن أسلم، وأبو زيد رجل من الصحابة، وأبي بن عمارة، وعقبة بن عامر، ومالك بن سعد، وأبو ذر، وكعب بن عجرة، وأبو طلحة، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وخالد بن سعيد بن العاص، وأبو العلاء الدارمي، وأويس الثقفي، وربيعة بن كعب، وخالد بن عرفطة، وعبد الرحمن بن حسنة، وعمرو بن حزم، وعروة بن مالك، وميمونة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأم سعد بنت ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
فحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند ابن أبي شيبة بسند حسن، وحديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند البزار: ضعيف، وحديث المغيرة عند الجماعة، وحديث خزيمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند ابن حبان في " صحيحه ". وحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عند البزار في " مسنده "، وحديث جرير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الجماعة. وحديث أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الجماعة، وابن حبان. وحديث قيس بن سعد عند البيهقي. وحديث أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند البيهقي أيضاً. وحديث عمرو بن العاص عنده أيضاً. وحديث أبي أيوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الطبراني، وإسحاق بن راهويه، وعند النيسابوري في كتاب " الآداب ": صحيح. وحديث أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند عبد الله بن وهب بسند ضعيف، وحديث سهل بن سعد عند القاضي أبي أحمد بسند جيد. وحديث جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند البزار والطبراني في " الأوسط ". وحديث أبي سعيد الخدري عند البيهقي. وحديث حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند مسلم، وحديث عمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند البيهقي.
وحديث أبي مسعود الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند أبي عمر بن عبد البر. وحديث جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند البيهقي مرفوعاً، وعند ابن أبي شيبة موقوفاً. وحديث البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الطبراني. وحديث أبي بكرة بن الحارث - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند ابن خزيمة في " صحيحه "، والطبراني في " معجمه "، والبيهقي في " سننه ". وحديث بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند مسلم، وابن خزيمة في " صحيحه ". وحديث صفوان بن غالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند النيسابوري والترمذي وابن ماجه والطحاوي والطبراني في " الكبير ". وحديث عبد الله بن الحارث - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند البيهقي. وحديث أبي زيد الأنصاري - رضي الله(1/572)