ذكر فى رواية غيره عن على رضى الله عنه كما حكيناه آنفا وبما سمعته تعلم أن ما أورده المصنف دليل على بعض المطلوب والبعض الآخر وهو ضرب الرأس ملحق بالمعنى الذى ذكره وهو أنه مجمع الخواس الباطنة فربما تفسد وهو إهلاك معنى وهذا من المصنف ظاهر فى القول بأن العقل فى الرأس إلا أن يؤول وهى مختلفة بين الأصوليين وما قيل فى المنظومة والكافى إن الشافعى رحمه الله يخص الظهر واستلالال الشارحين عليه بقوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية البينة وإلا فحد فى ظهرك غير ثابت فى كتبهم بل الذى فيها كقولنا وإنما تلك رواية عن مالك أنه خص الظهر وما يليه وأجيب بأن المراد بالظهر نفسه أى حد عليك بدليل مما ثبت عن كبار الصحابة عن عمر وعلى وابن مسعود رضى الله عنهم وما استبطناه من قوله صلى الله عليه وسلم إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه وأنه فى نحو الحد فما سواه داخل فى الضرب ثم خص منه الفرج بدليل الإجماع وعن محمد رحمه الله في التعزير يضرب الظهر وفي الحدود الأعضاء والمذاكير جمع ذكر بمعنى العضو فرقوا فى جمعه بين الذكر بمعنى الرجل حيث قالوا ذكران وذكورة وذكارة وبمعنى العضو ثم جمعه باعتبار تسمية ما حوله من كل جزء ذكرا كما قالوا شابت مفارقه وإنما له مفرق واحد قوله وقال أبو يوسف يضرب الرأس ضربة واحدة رجع إليه بعد أن كان أولا يقول لا يضرب كما هو المذهب لحديث أبى بكر الذى ذكره ورواه ابن أبى شيبة حدثنا وكيع عن المسعودى عن القاسم أن أبا بكر رضى الله عنه أتى برجل انتفى من أبيه فقال اضرب الرأس فإن فيه شيطانا والمسعودى مضعف ولكن روى الدارمى فى مسنده عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وأعد له عراجين النخل فقال له من أنت فقال أنا عبد الله صبيغ فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه على رأسه وقال أنا عبدالله عمر وجعل يضربه حتى دمى رأسه فقال يا أمير المؤمنين حسبك فقد ذهب الذى كنت أجد فى رأسى وهذا ينافى جواب المصنف بأن ذلك كان فى مستحق القتل ولو قلنا إن وقعة أبى بكر رضى الله عنه كانت فيه فإن ضرب عمر الرأس كان لرجل مسلم وكذا ضرب أبى بكر للذى انتفى من أبيه هذا واستثنى بعض المشايخ وهو رواية عن أبى يوسف أيضا الصدر والبطن وفيه نظر بل الصدر من المحامل والضرب بالسوط المتوسط عددا يسيرا لا يقتل فى البطن فكيف بالصدر نعم إذا فعل بالعصا كما يفعل فى زماننا فى بيوت الظلمة ينبغى أن لا يضرب البطن قوله ويضرب فى الحدود كلها وكذا التعزير قائما غير ممدود لقول على رضى الله عنه الخ روى عبد الرزاق فى مصنفه قال أخبرنا الحسن بن عمارة عن الحكم عن يحيى بن الجزار عن على رضى الله عنه قال يضرب الرجل قائما والمرأة قاعدة فى الحدود ولأن مبنى الحد على التشهير زجرا للعامة عن مثله والقيام أبلغ فيه والمرأة مبنى أمرها على الستر فيكتفى بتشهير الحد فقط بلا زيادة وقوله غير ممدود قيل المد أن يلقى على الأرض
____________________
(5/232)
كما يفعل فى زماننا وقيل أن يمد السوط بأن يرفعه الضارب فوق رأسه وقيل أن يمده بعد وقوعه على جسد المضروب على الجسد وفيه زيادة ألم وقد يفضى إلى الجرح وكل ذلك لا يفعل فلفظ ممدود معمم فى جميع معانيه لأنه فى النفى فجاز تعميمه وإن امتنع الرجل ولم يقف ويصبر لا بأس بربطه على إسطوانة أو يمسك قوله وإن كان عبدا جلده خمسين لقوله تعالى { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } نزلت فى الإماء وهو أيضا مما يعرف من أول الكلام ولا فرق بين الذكر والأنثى يتنقيح المناط فيرجع به إلى دلالة النص بناء على أنه لا يشترط فى الدلالة أولوية المسكوت بالحكم من المذكور بل المساواة تكفى فيه وقول بعضهم يدخلون بطريق التغليب عكس القاعدة وهى تغليب الذكور والنص عليهن فقط لأن الكلام كان فى تزوج الإماء بقوله تعالى { ومن لم يستطع منكم طولا } إلى قوله { من فتياتكم المؤمنات } ثم تمم حكمهن إذا زنين ولأن الداعية فيهن أقوى وهو حكمة تقديم الزانية على الزانى فى الآية وهذا الشرط أعنى الإحصان لا مفهوم له فإن على الأرقاء نصف المائة أحصنوا أو لم يحصنوا واند أبو بكر الرازى عن أبى هريرة وزيد بن خالد الجهنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير وهو الحبل والقائلون بمفهوم المخالفة يجوزون أن لا يراد بدليل يدل عليه وروى مسلم وأبو داود والنسائى عن على قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن ومن لم يحصن ونقل عن ابن عباس وطاوس أن لا حد عليها حتى تحصن بزوج وعلى هذا هو معتبر المفهوم إلا أنه غير صحيح وقرىء { فإذا أحصن } بالبناء للفاعل وتؤول على معنى أسلمن وحين ألزم سبحانه نصف ما على المحصنات إذا أحصن لزم أن لا رجم على الرقيق لأن الرجم لا يتنصف ولأن الرق منصف للنعمة فتنقص العقوبة به لأن الجنابة عند توافر النعم أفحش فيكون أدعى إلى التغليظ ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } قوله والرجل والمرأة فى ذلك سواء لشمول النصوص إياهما فإن كان كل منهما محصنا رجم وإلا فعلى كل الجلد أو أحدهما محصنا فعلى المحصن الرجم وعلى الآخر
____________________
(5/233)
الجلد وكذلك فى ظهور الزنا عند القاضى بالبينة أو الإقرار يكون على ما شرط وقوله غير أن المرأة الخ استثناء من قوله سواء فلا ينزع عن المرأة ثيابها إلى الحشو والفرو ولأن فى تجريدها كشف العورة لأن بدنها كله عورة إلا ما عرف ووجهه ظاهر وتضرب المرأة جالسة لما روينا يعنى من كلام على ولأنه أستر لها قوله وإن حفر لها فى الرجم جاز لهذا ولذلك حفر عليه الصلاة والسلام للغامدية إلى ثندوتها والثندؤة بضم الثاء والهمزة مكان الواو وبفتحها مع الواو مفتوحة والدال مضمومة فى الوجهين ثدى الرجل أو لحم الثديين وما قيل الثدى للمرأة والثندؤة للرجل هو غير صحيح بحديث الذى وضع سيفه بين ثدييه ولذا حفر على لشراحة الهمدانية بسكون الميم وهى قبيلة كانت عيبة على وقد مدحهم وقال فى مديحه لهم ** فلو كنت بوابا على باب جنة ** لقلت لهمدان ادخلى بسلام **
وتقدم حديث شراحة وفيه من رواية أحمد عن الشعبى أنه حفر لها إلى السرة ثم قال المصنف وإن ترك الحفر لم يضره لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك يعنى لم يوجبه بناء على أن حقيقة الأمر هو الإيجاب وقال إنه عليه الصلاة والسلام حفر للغامدية ومعلوم أن ليس المراد إلا أنه أمر بذلك فيكون مجازا عن أمره وإلا كانت مناقضة غريبة فإن مثلها إنما يقع عند بعد العهد أما معه فى سطر واحد فغريب وهو هنا كذلك والله الموفق قوله ولا يحفر للرجل لأنه عليه الصلاة والسلام لم يحفر لماعز تقدم من رواية مسلم وتقدم من روايته أيضا من حديث بريدة الأسلمى أنه حفر له وهو منكر لمخالفته الروايات الصحيحة المشهورة والروايات الكثيرة المتضافرة قوله ولأن مبنى الحد على التشهير فى الرجال لا حاجة إلى التخصيص بل الحد مطلقا مبنى على التشهير غير أنه يزاد فى شهرته فى حق الرجل لأنه لا يضره ذلك ويكتفى فى المرأة بالإخراج والإتيان بها إلى مجتمع الإمام والناس وخصوصا فى الرجم وأما فى الجلد فقد قال تعالى { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } أى الزانية والزانى فاستحب أن يأمر الإمام طائفة أى جماعة أن يحضروا إقامة الحد وقد اختلف فى هذه الطائفة فعن ابن عباس واحد وبه قال أحمد وقال عطاء وإسحاق اثنان وقال الزهرى ثلاثة وقال الحسن البصرة عشرة وعن الشافعى ومالك أربعة وأم قوله والربط والإمساك مشروع فلما تقدم من قول ابن مسعود وليس فى هذه الأمة تجريد ولا مد ولأن ماعزا انتصب لهم قائما لم يسمك ولم يربط إلا أن لا يصبر
____________________
(5/234)
وأعياهم فحينئذ يمسك فيربط فإذا هرب فى الرجم فإن كان مقرا لا يتبع وترك وإن كان مشهودا عليه اتبع ورجم حتى يموت لأن هربه رجوع ظاهرا ورجوعه يعمل فى إقراره لا فى رجوع الشهود وذكر الطحاوى صفة الرجم أن يصفوا ثلاثة صفوف كصفوف الصلاة كلما رجمه صف تنحوا ولم يذكره فى الأصل بل فى حديث على فى قصة شراحة على ما قدمناه من رواية البيهقى عن الأجلح عن الشعبى وفيه أحاط الناس بها وأخذوا الحجارة قال ليس هكذا الرجم إذن يصيب بعضكم بعضا صفوا كصف الصلاة صفا خلف صف إلى أن قال ثم رجمها ثم امرهم فرجم صف ثم صف ثم صف ولا يقام حد فى مسجد بإجماع الفقهاء ولا تعزير إلا ما روى عن مالك أنه لا بأس بالتأديب فى المسجد خمسة أسواط قال ابو يوسف أقام ابن أبى ليلى الحد فى المسجد فخطأه أبو حنيفة وفى الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وشراءكم وبيعكم وإقامة حدودكم وجمروها فى جمعكم وصفوا على أبوابها المطاهر ولأنه لا يؤمن خروج النجاسة من المحدود فيجب نفيه عن المسجد قوله ولا يقيم المولى الحد على عبده إلا بإذن الإمام وقال الشافعى ومالك وأحمد يقيمه بلا إذن وعن مالك إلا فى الأمة المزوجة واستثنى الشافعى من المولى أن يكون ذميا أو مكاتبا أو امرأة وهل يجرى ذلك على العموم حتى لو كان قتلا بسبب الردة أو قطع الطريق أو قطعا للسرقة ففيه خلاف عندهم قال النووى الأصح المنصوص نعم لإطلاق الخبر وفى التهذيب الأصح أن القتل والقطع إلى الإمام لهم ما فى الصحيحين من حديث أبى هريرة قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير قال ابن شهاب لا أدرى أبعد الثالثة أو الرابعة والضفير الحبل وفى السنن عنه عليه الصلاة والسلام أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ولأنه يملك تعزيره صيانة لملكه عن الفساد فكذا الحد ولأن له ولاية مطلقة عليه حتى ملك منه مالا يملك الإمام من التصرف فملكه للإقامة عليه أولى من الإمام ولنا ما روى الأصحاب فى كتبهم عن ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير موقوفا ومرفوعا أربع إلى الولاة الحدود والصدقات والجمعات والفىء ولأن الحد خالص
____________________
(5/235)
حق الله تعالى فلا يستوفيه إلا نائبه وهو الإمام وهذا الاستدلال يتوقف على صحة هذا الحديث وكونه حق الله فإنما يستوفيه نائبه مسلم ولكن الاستنابة تعرف بالسمع وقد دل على أنه استناب فى حقه المتوجه منه على الأرقاء مواليهم بالحديث السابق ودلالته على الإقامة بنفسه ظاهرة وإن كنا نعلم أنه ليس المراد الإقامة بنفسه فإنه لو أمربه غيره كان ممتثلا فجاز كون المراد ذكره الإمام ليأمر بإقامته لكن مالم يثبت المعارض المذكور لا يجب الحمل على ذلك بل على الظاهر المتبادر من قول القائل أقام فلان الحد على فلان أو جلد فلان فلانا والمتبادر أنه باشره أو أمر به على ان المتبادر أحد دائر فيهما لا فى ثلاثة وهما هذان مع رفعه إلى الحاكم ليحده نعم من استقر اعتقاده على أن إقامة الحدود إلى الإمام فالمتبادر إليه من ذلك اللفظ الأخير بخصوصه قوله وإحصان الرجم أن يكون حرا عاقلا بالغا مسلما قد تزوج امرأة نكاحا صحيحا ودخل بها وهما على صفة الإحصان قيد بإحصان الرجم لأن إحصان القذف غير هذا كما سيأتى والإحصان فى اللغة المنع قال تعالى { لتحصنكم من بأسكم } وأطلق فى استعمال الشارح بمعنى الإسلام وبمعنى العقل وبمعنى الحرية منه { أن ينكح المحصنات } وبمعنى التزويج وبمعنى الإصابة فى النكاح وبمعنى العفة يقال أحصنت أى عفت وأحصنها زوجها قال فى المبسوط المتقدمون يقولون إن شرائط الإحصان سبعة وعد ما ذكرنا ثم قال فأما العقل والبلوغ فهما شرطا الأهلية للعقوبة وإلى
____________________
(5/236)
ذلك أشار المصنف بقوله فالعقل والبلوغ شرط لأهلية العقوبة والحرية شرط تكميل العقوبة لا شرط الإحصان على الخصوص وشرط الدخول ثبت بقوله صلى الله عليه وسلم الثيب بالثيب والثيابة لا تكون إلا بالدخول اه واختلف فى اثنين من هذه الإسلام وسيذكره المصنف وكون كل واحد من الزوجين مساويا للآخر فى شرائط الإحصان وقت الإصابة بحكم النكاح فهو شرط عندنا خلافا للشافعى حتى لو تزوج الحر المسلم البالغ العاقل أمة أو صبية أو مجنونة أو كتابية ودخل بها لا يصير الزوج محصنا بهذا الدخول حتى لو زنى بعده لا يرجم عندنا وكذا لو تزوجت الحرة البالغة العاقلة المسلمة من عبد أو مجنون أو صبى ودخل بها لا تصير محصنة فلا ترجم لو زنت ولو تزوج مسلم ذمية فأسلمت بعد ما دخل بها فقبل أن يدخل بها بعد الإسلام أى أن يطأها إذا زنى لا يرجم وكذا لو أعتقت الأمة التى هى زوجة الحر البالغ العاقل المسلم بعد ما دخل بها لا يرجم لو زنى مالم يطأها بعد الإعتاق وعلى هذا لو بلغت بعد ما دخل بها وهى صغيرة وكذا لو كانت تحته حرة مسلمة وهما محصنان فارتدا معا بطل إحصانهما فإذا أسلما لا يعود إحصانهما حتى يدخل بها بعد الإسلام وقولنا يدخل بها نكاح صحيح يعنى تكون الصحة قائمة حال الدخول حتى لو تزوج من علق طلاقها بتزوجها يكون النكاح صحيحا فلو دخل بها عقيبة لا يصير محصنا لوقوع الطلاق قبله واعلم أن الإضافة فى قولنا شرائط الإحصان الذى هو شرط الرجم هو الأمور المذكورة فهى أجزاوه وهو هيئة تكون باجتماعها فهى أجزاء علة وكل جزء علة فكل واحد حينئذ شرط وجوب الرجم والمجموع علة لوجود الشرط المسمى بالإحصان والشرط يثبت سمعا أو قياسا على ما اختاره فخر الإسلام وغيره لا يقال كما أن الحد لا يثبت قياسا فكذا شروطه لأنا نقول بل يجب أن تثبت شروطه قياسا لأن عدم جواز نفس الحد إما لعدم المعقولية أو لأنه لا يثبت بما ازدادت فيه شبهة وإثبات الشرط احتيال للدرء لا لإيجابه بقى الشأن فى تحقيقه وقد أثبت المصنف شرط اتفاقهما فى صفة الإحصان مع غيره بقوله وهذه الأشياء من جلائل النعم فإن من النعم كون كل من الزوجين مكافئا للآخر فى صفاته الشريفة ثم قال وقد شرع الرجم بالزنا عند استجماعها فيناط به أى استجماعها وإذا نيط بكلها يلزم أن ينتفى الحد بانتفاء كل منها ومن جملتها كون كل مثل الآخر فيلزم اشتراطه لظهور أثر وجود الشبهة فى درء الحد وعدم تماثلهما شبهة فى تصور الصارف فيندرىء به وبيانه ما ذكر فى بيان كونها من جلائل النعم الصارفة عن الزنا بكمال اندفاع حاجته إلى الوطء عندها فكونه بالغا لأن الصغير لا تكمل فيه رغبة الكبيرة وبالعكس وكذا المجنونة لا يرغب فيها بل هى محل نفرة الطباع وكذا ينفر المسلم عن صحبة من يفارقه فى دينه منه ومنها وكذا يرى الحر انحطاطا بتزوج الرقيق
____________________
(5/237)
فلا تكمل الرغبة من الجانبين وإذا ظهر تكامل الصارف وفيه تكامل النعمة كانت الجنابة عندها أفحش فناسب كون العقوبة أغلظ فشرعت لذلك وهى الرجم عند استجماعها فنيط به أى بالاستجماع لها بخلاف الشرف والعلم لأن الشرع ما ورد باعتبارهما ونصب الشرع بالرأى ممتنع ووجه عدم اعتبارهما فى تكميل العقوبة أنهما لا مدخل لهما فى تكميل الصارف وإن كانتا من جلائل النعم وذلك هو المعتبر وأورد كيف يتصور كون الزوج كافرا وهى مسلمة كما يفيده ما ذكر فى نفرة المسلم واجيب بأن يكونا كافرين فتسلم هى فيطأها قبل عرض القاضى الإسلام عليه وإبائه وما لم يفرق القاضي بينهما بإبائه هما زوجان قوله والشافعى يخالفنا فى اشتراط الإسلام أى فى الإحصان وكذا أبو يوسف فى رواية وبه قال أحمد وقول مالك كقولنا فلو زنى الذمى الثيب الحر بجلد عندنا ويرجم عندهم لهم ما فى الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا قد زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجدون فى التوراة فى شأن الزنا فقالوا نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام كذبتم إن فيها الرجم فأتوا
____________________
(5/238)
بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال عبد الله ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقال صدق يا محمد فأمر بهما النبى صلى الله عليه وسلم فرجما والذى وضع يده على آية الرجم عبد الله بن صوريا وأجاب المصنف بأنه إنما رجمهما بحكم التوراة فإنه سألهم عن ذلك أولا وأن ذلك إنما كان عندما قدم عليه الصلاة والسلام المدينة ثم نزلت آية حد الزنا ليس فيها اشتراط الإسلام فى الرجم ثم نزل حكم الإسلام بالرجم باشتراطه للإحصان وإن كان غير متلو وعلم ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم من أشرك بالله فليس بمحصن رواه إسحاق بن راهويه فى مسنده أخبرنا عبد العزيز بن محمد حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال من اشرك بالله فليس بمحصن فقال إسحاق رفعه مرة فقال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقفه مرة ومن طريقه رواه الدارقطنى فى سننه وقال لم يرفعه غير إسحاق بن راهويه ويقال إنه رجع عن ذلك والصواب أنه موقوف قال فى العناية ولفظ إسحاق كما تراه وليس فيه رجوع وإنما ذكر عن الراوى أنه مرة رفعه ومرة أخرجه مخرج الفتوى فلم يرفعه ولا شك أن مثله بعد صحة الطريق إليه محكوم برفعه على ما هو المختار فى علم الحديث من أنه إذا تعارض الرفع والوقف حكم بالرفع وبعد ذلك إذا خرج من طرق فيها ضعف لم يضر وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا يحصن المسلم اليهودية ولا النصرانية ولا الحر الأبة ولا الحرة العبد فالله أعلم به ومعناه رواه الدارقطنى وابن عدى من حديث أبى بكر بن أبى مريم عن على من أبى طلحة عن كعب بن مالك أنه أراد أن يتزوج بيهودية فقال له صلى الله عليه وسلم لا تتزوجها فإنها لا تحصنك وضعف ابن أبى مريم وعلى بن أبى طلحة لم يدرك كعبا لكن رواه بقية بن الوليد عن عتبة بن تميم عن على ابن أبى طلحة عن كعب بن مالك وهو منقطع وأنت تعلم أن الانقطاع عندنا داخل فى الإرسال بعد عدالة الرواة وبقية قدمنا الكلام فيه أول هذا الشرح والله أعلم وعلى كل حال هو شاهد للحديث الأول فيحتج به ولا معنى لفصل المصنف بين هذا الحديث والحديث الأول بالفروع التى ذكرها وهما معا فى غرض واحد وهو الاحتجاج على أبى يوسف ومن معه بل كان الوجه جمعهما ثم يقول هنا لما ذكرنا واعلم أن الأسهل مما ادعى أن يقال حين رجمهما كان الرجم ثبت مشروعيته فى الإسلام وهو الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم ما تجدون فى التوراة فى شأن الرجم ثم الظاهر كون اشتراط الإسلام لم يكن ثابتا وإلا لم يرجمهم لانتساخ شريعتهم وإنما يحكم بما أنزل الله إليه وإنما سألهم عن الرجم فى التوارة ليبكتهم بترك ما أنزل عليهم فحكم برجمهما بشرعه الموافق لشرعهم وإذا لزم كون الرجم كان ثابتا فى شرعنا حال رجمهم بلا اشتراط الإسلام وقد ثبت الحديث المذكور المفيد لاشتراط الإسلام وليس تاريخ يعرف به تقدم اشتراط الإسلام على عدم اشتراطه أو تأخره فيكون رجمه اليهوديين وقوله المذكور متعارضين فيطلب الترجيح والقول يقدم على الفعل وفيه وجه آخر وهو أن تتقديم هذا القول يوجب درء الحد وتقديم ذلك الفعل يوجب الاحتياط فى إيجاب الحد والأولى فى الحدود ترجيح الدافع عند التعارض ولا يخفى أن كل مرجح فهو محكوم بتأخره اجتهادا ولقد طاح بهذا دفع بعض المعترضين قوله والمعتبر فى الدخول المحقق للإحصان إيلاج فى القبل على وجه يوجب الغسل وهو بغيبوبة الحشفة
____________________
(5/239)
فقط أنزل أو لم ينزل وقوله حتى لو دخل بالمنكوحة الكافرة الخ تقدم بيانه قوله ولا يجمع فى المحصن بين الرجم والجلد وهو قول مالك والشافعى ورواية عن أحمد ويجمع فى رواية أخرى عنه وأهل الظاهر إلى أنه يجمع للجمهور أنه عليه الصلاة والسلام لم يجمع وهذا على وجه القطع فى ماعز والغامدية وصاحبة العسيف وقد تظافرت الطرق عنه عليه الصلاة والسلام أنه بعد سؤاله عن الإحصان وتلقينه الرجوع لم يزد على الأمر بالرجم فقال اذهبوا به فارجموه وقال اغد با أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولم يقل فاجلدها ثم ارجمها وقال فى باقى الحديث فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت وكذا فى الغامدية والجهنية إن كانت غيرها لم يزد على الأمر برجمها وتكرر ولم يزد أحد على ذلك فقطعنا بأنه لم يكن غير الرجم فقوله عليه الصلاة والسلام خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة
____________________
(5/240)
ورجم أو رمى بالحجارة يجب قطعا كونه منسوخا قال ولأن الجلد يعرى عن المقصود وهو الانزجار أو قصد الانزجار لأن القتل إذا كان لاحقا كان الجلد خلوا عن الفائدة الدنيوية التى شرع لها الحد والنسخ قد تحقق فى حق الزنا فإنه كان أولا الأذى باللسان على ما أمر به تعالى من قوله { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } ثم نسخ بالحبس فى حقهن بقوله تعالى { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } إلى قوله { فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا } فإنه كان قبل سورة النور لقوله عليه الصلاة والسلام خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا وإلا لقال خذوا عن الله ولا يخفى أن ذلك غير لازم والصواب ما ذكرنا من القطع بأنه لم يجمع بين الجلد والرجم فلزم نسخه وإن لم يعلم خصوص الناسخ وأما جلد على رضى الله عنه شراحة ثم رجمها فإما لأنه لم يثبت عنده إحصانها إلا بعد جلدها أو هو رأى لا يقاوم إجماع الصحابة رضى الله عنهم ولا ما ذكرنا من القطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ولا يجمع فى البكر بين الجلد والنفى والشافعى يجمع بينهما وكذا أحمد والثورى والأوزاعى والحسن بن صالح وله فى العبد أقوال يغرب سنة نصف سنة لا يغرب أصلا وأما تغريب المرأة فمع محرم وأجرته عليها فى قول وفى بيت المال فى قول ولو امتنع ففى قول يجبره الإمام وفى قول لا ولو كانت الطريق آمنة ففى تغريبها بلا محرم قولان لقوله صلى الله عليه وسلم خذوا عنى الحديث قوله لقوله صلى الله عليه وسلم البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام أخرجه مسلم وأبو داود والترمذى من رواية عبادة بن الصامت عنه صلى الله عليه وسلم خذوا عنى الحديث وتقدم لأن فيه حسم مادة الزنا لقلة المعارف لأنه هو الداعية إلى ذلك ولذا قيل لامرأة من العرب ما حملك على الزنا مع فضل عقلك قالت طول السواد وقرب الوساد والسواد المسارة من ساوده إذا ساره ولنا قوله تعالى { الزانية والزاني فاجلدوا }
____________________
(5/241)
شارعا فى بيان حكم الزنا ما هو فكان المذكور تمام حكمه وإلا كان تجهيلا إذ يفهم أنه تمام الحكم وليس تمامه فى الواقع فكان مع الشروع فى البيان أبعد من ترك البيان لأنه يوقع فى الجهل المركب وذلك فى البسيط ولأنه هو المفهوم لأنه جعل جزاء للشرط فيفيد أن الواقع هذا فقط فلو ثبت معه شىء آخر كان شبهة معارضة لا مثبتة لما سكت عنه فى الكتاب وهو الزيادة الممنوعة وأما ما يفيده كلام بعضهم من أن الزيادة بخبر الواحد إثبات مالم يوجبه القرآن وذلك لا يمتنع وإلا بطلت أكثر السنن وأنها ليست نسخا وتسميتها نسخا مجرد اصطلاح ولذا زيد فى عدة المتوفى عنها زوجها الإحداد على المأمور به فى القرآن وهو التربص فهو يفيد عدم معرفة الاصطلاح وذلك أنه ليس المراد من الزيادة إثبات مالم يثبته القرآن ولم ينفه لا يقول بهذا عاقل فضلا عن عالم بل تقييد مطلقه على ما عرف من أن الإطلاق مما يراد وقد دل عليه باللفظ المطلق وباللفظ يفاد المعنى فأفاد أن الإطلاق مراد وبالتقييد ينتفى حكمه عن بعض ما أثبته فيه اللفظ المطلق ثم لا شك أن هذا نسخ وبخبر الواحد لا يجوز نسخ الكتاب وظن المعترض أن الإحداد زيادة غلط لأنه ليس تقييدا للتربص وإلا لو تربصت ولم تحد فى تربصها حتى انقضت العدة لم تخرج عن العدة وليس كذلك بل تكون عاصية بترك واجب فى العدة فإنما أثبت الحديث واجبا إلا أنه قيد مطلق الكتاب نعم ورد عليه أن هذا الخبر مشهور تلقته الأمة بالقبول فتجوز الزيادة به اتفاقا والمصنف رحمه الله عدل عن هذه الطريقة فلا يلزمه ذلك إلى ادعاء نسخ هذا الخبر مستأنسا له بنسخ شطره
____________________
(5/242)
الثانى وهو الدال على الجمع بين الجلد والرجم فكذا نصفه الآخر وأنت تعلم أن هذا ليس بلازم بل يجوز أن تروى جمل بعضها نسخ وبعضها لا ولو سلك الطريق الأول وادعى أنه آحاد لا مشهور وتلقى الأمة بالقبول إن كان إجماعهم على العمل به فممنوع لظهور الخلاف وإن كان إجماعهم على صحته بمعنى صحة سنده فكثير من أخبار الآحاد كذلك فلم تخرج بذلك عن كونها آحادا وقد خطىء من ظنه يصير قطعيا فادعى فيما رواه البخارى ذلك وغلط على ما يعرف فى موضعه وإذا كان آحادا وقد تطرق إليه احتمال النسخ بقرينة نسخ شطره فلا شك أنه ينزل عن الآحاد التى لم يتطرق ذلك إليها فأحرى أن لا ينسخ به ما أفاده الكتاب من أن جميع الموجب الجلد فإنه يعارضه فيه لا أن الكتاب ساكت عن نفى التغريب فكيف وليس فيه ما يدل على أن الواجب من التغريب بطريق الحد فإن أقصى ما فيه دلالة قوله البكر بالكبر جلد مائة وتغريب عام وهو عطف واجب على واجب وهو لا يقتضيه بل ما فى البخارى من قول أبى هريرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفى عام وإقامة الحد ظاهر فى أن النفى ليس فى الحد لعطفه عليه وكونه استعمل الحد فى جزء مسماه وعطفه على الجزء الآخر بعيد ولا دليل يوجبه وما ذكر من الألفاظ لا يفيده فجاز كونه تغريبا لمصلحة وأما مالك رحمه الله فرأى أن الحديث ما دل إلا على الرجل بقوله البكر بالبكر فلم تدخل المرأة ولا شك أنه كغيره من المواضع التى تثبت الأحكام فى النساء بالنصوص المفيدة إياها للرجال يتنقيح المناط وأيضا فإن نفس الحديث يجب أن يشملهن فإنه قال خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر الحديث فنص على أن النفى والجلد سبيل لهن والبكر يقال على الأنثى ألا ترى إلى قوله البكر تستأذن ثم عارض ما ذكر الشافعى من المعنى بأن فى النفى فتح باب الفتنة لانفرادها عن العشيرة وعمن تستحى منهم إن كان لها شهوة قوية فتفعله وقد تفعله لحامل آخر وهو حاجتها إلى ما يقوم بأودها ولا شك أن هذا المعنى فى إفضائه إلى الفساد أرجح مما ذكره من إفضاء قلة المعارف إلى عدم الفساد خصوصا فى مثل هذا الزمان لمن يشاهد أحوال النساء والرجال فيترجح عليه ويؤيده ما روى عبد الرزاق ومحمد بن الحسن فى كتاب الآثار أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبى سليمان عن إبراهيم النخعى قال قال عبد الله بن مسعود فى البكر يزنى بالبكر يجلدان مائة وينفيان سنة قال وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه حسبهما من الفتنة أن ينفيا وروى محمد بن الحسن أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبى سليمان عن إبراهيم النخعى قال كفى بالنفى فتنة وروى عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهرى عن ابن المسيب قال غرب عمر رضى الله عنه ربيعة بن أمية بن خلف فى الشراب إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصر فقال عمر لا أغرب بعده مسلما نعم لو غلب على ظن الإمام مصلحة فى التغريب تعزيرا له أن يفعله وهو محمل التغريب الواقع للنبى صلى الله عليه وسلم وللصحابة من ابى بكر وعمر وعثمان ففى الترمذى حدثنا كريب ويحيى بن أكثم قالا حدثنا عبد الله بن إدريس عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب وأن عمر ضرب وغرب إلا أنه قال حديث غريب وكذا رواه غير واحد عن عبد الله بن إدريس عن عبيد الله فرفعوه ورواه بعضهم عن ابن إدريس عن نافع عن ابن عمر أن أبا بكر ضرب وغرب الحديث وهكذا روى
____________________
(5/243)
من غير رواية ابن إدريس عن عبد الله بن عمر ومن رواية محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر أن أبا بكر لم يقولوا فيه عن النبى صلى الله عليه وسلم اه وقال الدارقطنى بعد أن ذكر رواية ابن نمير وأبى سعيد الأشج عن ابن إدريس عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر إن أبا بكر ضرب وغرب الحديث لم يقل فيه أن النبى صلى الله عليه وسلم هى الصواب لكن روى النسائى حدثنا محمد بن العلاء حدثنا عبد الله بن إدريس به مرفوعا ورواه الحاكم فى المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وذكره ابن القطان من جهة النسائى وقال رجاله ليس فيهم من يسأل عنه لثقته وشهرته وقال أيضا عندى أن الحديث صحيح ولا يمتنع أن يكون عند ابن إدريس فيه عن عبد الله جميع ما ذكر والحاصل أن فى ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم اختلافا عن الحفاظ
____________________
(5/244)
وأما عن أبى بكر وعمر فلا اختلاف فيه وقد أخرج ذلك عنهما أيضا فى الموطا وأما روايته عن عثمان ففى مصنف ابن أبى شيبة حدثنا جرير عن مغيرة عن ابن يسار مولى لعثمان قال جلد عثمان امرأة فى زنا ثم أرسل بها مولى له يقال له المهرى إلى خيبر نفاها إليه فهذا التغريب المروى عمن ذكرنا كتغريب عمر رضى الله عنه نصر بن حجاج وغيره بسبب أنه لجماله افتتن به بعض النساء حتى سمع قول قائلة ** هل من سبيل إلى خمر فأشربها ** أو من سبيل إلى نصر بن حجاج ** ** إلى فتى ماجد الأعراق مقتبل ** سهل المحيا كريم غير ملجاج **
وذلك لا يوجب نفيا وعلى هذا كثير من المشايخ السلوك المحققين رضى الله عنهم ورضى عنا بهم وحشرنا معهم كانوا يغربون المريد إذا بدا منه قوة نفس ولجاج لتنكسر نفسه وتلين ومثل هذا المريد أو من هو قريب منه هو الذى ينبغى أن يقع عليه رأى القاضى فى التغريب لأن مثله فى ندم وشدة وإنما زل لغلبة النفس أما من لم يستحى وله حال يشهد عليه بغلبة النفس فنفيه لا شك أنه يوسع طرق الفساد ويسهلها عليه قوله وإذا زنى المريض وحده الرجم بأن كان محصنا حد لأن المستحق قتله ورجمه فى هذه الحالة أقرب إليه وإن كان حده الجلد لا يجلد حتى يبرأ لأن جلده فى هذه الحالة قد يؤدى إلى هلاكه وهو غير المستحق عليه ولو كان المرض لا يرجى زواله كالسل أو كان خدلجا ضعيف الخلقة فعندنا وعند الشافعى يضرب بعثكال فيه مائة شمراخ فيضرب به دفعة وقد سمعت فى كتاب الأيمان أنه لا بد من وصول كل شمراخ إلى بدنه وكذا قيل لا بد أن تكون حينئذ مبسوطة ولخوف التلف لا يقام الحد فى البرد الشديد والحر الشديد بل يؤخر إلى اعتدال الزمان وهذا فى البرد عند من يرى تجريد المحدود ظاهر لأنه قد يمرض أما الحر فلا نعم لو كان ضرب الحد مبرحا صح ذلك لكنه شديد غير مبرح ولا جارح فلا يقتضي الحال تأخير حده للبرد والحر بخلاف القطع على ما ذكره المصنف فإنه جرح عظيم يخاف منه السراية بسبب شدة الفصلين قوله وإذا زنت الحامل لم تحد حتى تضع حملها ولو جلدا كيلا يؤدى إلى هلاك الولد لأنه نفس محترمة لأنه مسلم لا جريمة منه فلو ولدت أو كانت نفساء فحتى تتعالى
____________________
(5/245)
من نفاسها فى الجلد ولو أطالت فى التأخير وتقول لم اضع بعد أو شهد على امرأة بالزنا فقالت أنا حبلى ترى للنساء ولا يقبل قولها فإن قلن هى حامل أجلها حولين فإن لم تلد رجمها ثم الحبلى تحبس إن ثبت زناها بالبينة إلى أن تلد وإن ثبت بالإقرار لا تحبس لعدم الفائدة لأن لها الرجوع متى شاءت وعن أبى حنيفة إذا ولدت لا تحد حتى تفطم الولد إذا لم يكن له من يربيه وتقدم فى حديث الغامدية أنه ردها حتى يستغنى فرجعت ثم جاءت به وفى يده كسرة وقالت ها قد فطمته وفى حديث آخر قال اذهبى حتى تضعى ما فى بطنك قال فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت ثم أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال قد وضعت الغامدية فقال إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه فقام رجل من الأنصار فقال إلى رضاعه قال فرجمها وهذا يقتضى أنه رجمها حين وضعت بخلاف الأول والطريقان فى مسلم وهذا اصح طريقا لأن فى الأول بشير بن المهاجر وفيه مقال وقيل يحتمل أن تكون امرأتين ووقع فى الحديث الأول نسبتها إلى الأزد وفى حديث عمران ابن حصين جاءت امرأة من جهينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه رجمها بعد أن وضعت & باب الوطء الذى يوجب الحد والذى لا يوجبه
لما كان الكتاب إنما هو معقود لبيان الحدود كان الحد هو المقصود الأصل فلزم الابتداء بتعريفه لغة وشرعا ففعل المصنف ذلك ثم أراد تقديم حد الزنا فقدمه وأعطى أحكامه لأنها هى المقصودة وذلك بثبوت سببه وحاصل أحكامه كيفية ثبوته وشروطها وكيفية إقامته وشروطها فكان تصور حقيقة السبب الذى هو الزنا من المقاصد الأصلية وذكر أن الزنا فى عرف اللغة والشرع يعنى لم يزد عليه فى الشرع قيد وعرفه على هذا
____________________
(5/246)
التقدير بأنه وطء الرجل المرأة فى القبل فى غير الملك وشبهة الملك وهذا لأن فى اللغة معنى الملك أمر ثابت قبل مجىء هذا الشرع وإن كان هو فى نفسه أمرا شرعيا لكن ثبوته بالشرع الأول بالضرورة والناس لم يتركوا سدى فى وقت من الأوقات فيكون معنى الملك أمرا مشروعا من بعث آدم عليه السلام أو من قبل بعثه بوحى يخصه أى يخص الملك فكان ثبوته شرعا مع اللغة مطلقا فى الوجود الدنيوى سواء كانت اللغة عربية أم غيرها مخصوصة بالدنيا إن كان الوضع قبلها فثبوت المسمى فى الدنيا والوضع لمعنى معقول قبل تحققه ولا شك فى أنه تعريف للزنا فى اللغة والشرع فإن الشرع لم يخص اسم الزنا بما يوجب الحد منه بل هو أعم والموجب للحد منه بعض أنواعه ولذا قال صلى الله عليه وسلم العينان تزينان وزناهما النظر ولو وطىء رجل جارية ابنه لا يحد للزنا ولا يحد قاذفه بالزنا فدل على أن فعله زنا وإن كان لا يحد به فلولا قول المصنف الموجب للحد هو الزنا وهو فى عرف الشرع الخ لصح تعريفه ولم يرد عليه شىء لكنه لما قال ذلك كان ظاهرا فى قصده إلى تعريف الزنا الموجب للحد وحينئذ يرد على طرده وطء الصبية التى لا تشتهى ووطء المجنون والمكره بخلاف الصبى فإن الجنس وطء الرجل فالأولى فى تعريفه أنه وطء مكلف طائع مشتهاة حالا أو ماضيا فى القبل بلا شبهة ملك فى دار الإسلام فخرج زنا الصبى والمجنون والمركه وبالصبية التى تشتهى والميتة والبهيمة ودخل وطء
____________________
(5/247)
العجوز ولكن يرد على عكسه زنا المرأة فإنه زنا ولا يصدق عليه جنس التعريف وما أجيب به من أن زناها يدخل بطريق التبعية بسبب التمكين طوعا إن كان معناه آن لها زنا حقيقة وأن ذلك التمكين هو مسمى زنا لغة وتسمى هي زانية حقيقة لغوية بالتمكين فلا شك في أنه لا يشمله الجنس الذي هو وطء المكلف لأنه ليس هو عين تمكين المرأة ففساد الحد بحاله وكون فعلها تبعا لفعله إنما هو فى الوجود الخارجى والكلام فى تناول اللفظ وإن أريد أنها لا تسمى زانية حقيقة أصلا وأن تسميتها فى قوله تعالى { الزانية والزاني } بطريق المجاز فلا حاجة إلى أنه تبع بل لا يجوز إدخاله فى التعريف وعلى هذا كلام السرخسى والمصنف وغيرهما فى مسئلة ما إذا مكنت البالغة العاقلة المسلمة مجنونا أو صبيا على قول أبى حنيفة لا يحد واحد منهما على ما سيأتى وبما ذكرنا يظهر فساد ما أجاب به بعضهم بأن فعل الوطء أمر مشترك بينهما فإذا وجد فعل الوطء بينهما يتصف كل منهما به وتسمى هى واطئة ولذا سماها سبحانه زانية وأعجب من هذا الجواب أنه قال فى الإيراد المذكور على التعريف مغالطة والقطع بأن وطأة ليس يصدق على تمكبنها بهو هو فإذا جعل الجنس وطء الرجل فكيف ينتظم اللفظ تمكين المرأة وكون الفعل الجزئى الخارجى إذا وجد من الرجل فى الخارج يستدعى فعلا آخر منها إذا كانت طائعة لا يقتضى أن اللفظ الخاص بفعله يشمله والله الموفق فالحق أنها إن كانت زانية حقيقة وأريد شمول التعريف لزناها فلا بد من زيادة قوله أو تمكينها بل يجب أن يقال ذلك بالنسبة إلى كل منهما فيقال إدخال المكلف الطائع قدر حشفته قبل مشتهاة حالا أو ماضيا بلا ملك وشبهة أو تمكينه من ذلك أو تمكينها ليصدق على ما لو كان مستلقيا فقعدت على ذكره فتركها حتى أدخلته فإنهما يحدان فى هذه الصورة وليس الموجود منه سوى التمكين وقوله لأنه فعل الخ تعليل لأخذ عدم الملك وشبهته فى الزنا أى إنما شرط ذلك لأن الزنا محظور فلا بد فى تحققه من ذلك وقوله يؤيده الحديث أى يؤيد الأمرين معا وذلك أنه لما أفاد عدم الحرمة المطلقة بسبب درء الحد بالشبهة أفاد عدمها ودرء الحد عند حقيقة الملك كما فى الجارية المشتركة بطريق أولى فهو بدلالته ثم الحديث المذكور قيل لم يحفظ مرفوعا وذكر أنه فى الخلافيات للبيهقى عن على رضى الله عنه وهو فى مسند أبى حنيفة عن مقسم عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادرءوا الحدود بالشبهات وأسند ابن أبى شيبة عن إبراهيم هو النخعى قال قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلى من أن أقيمها بالشبهات وأخرج عن معاذ وعبد الله بن مسعود وعقبة بن عامر رضى الله عنهم قالوا إذا اشتبه عليك الحد فادرأه ونقل ابن حزم عن اصحابهم الظاهرية أن الحد بعد ثبوته لا يحل أن يدرأ بشبهة وشنع بأن الآثار المذكورة لإثبات الدرء بالشبهات ليس فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شىء بل عن بعض الصحابة من طرق لا خير فيها وأعل ما عن ابن مسعود مما رواه عبد الرزاق عنه بالإرسال وهو غير رواية ابن ابى شيبة فإنها معلولة بإسحاق بن ابى فروة وأما التمسك بما فى البخارى من قوله عليه الصلاة والسلام ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أو شك أن يواقع ما استبان والمعاصى حمى الله تعالى من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه فإن معناه أن من جهل حرمة شىء وحله فالورع أن يمسك عنه ومن جهل وجوب أمر وعدمه فلا يوجبه ومن جهل أوجب الحد أم لا وجب أن يقيمه ونحن نقول إن الإرسال لا يقدح وأن الموقوف فى هذا له حكم المرفوع
____________________
(5/248)
لإن إسقاط الواجب بعد ثبوته بشبهة خلاف مقتضى العقل بل مقتضاه أن بعد تحقق الثبوت لا يرتفع بشبهة فحيث ذكره صحابى حمل على الرفع وايضا فى إجماع فقهاء الأمصار على أن الحدود تدرأ بالشبهات كفاية ولذا قال بعض الفقهاء هذا الحديث متفق عليه وأيضا تلقته الأمة بالقبول وفى تتبع المروى عن النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة ما يقطع فى المسئلة فقد علمنا أنه عليه الصلاة والسلام قال لماعز لعلك قبلت لعلك لمست لعلك غمزت كل ذلك يلقنه أن يقول نعم بعد إقراره بالزنا وليس لذلك فائدة إلا كونه إذا قالها ترك وإلا فلا فائدة ولم يقل لمن اعترف عنده بدين لعله كان وديعة عندك فضاعت ونحوه وكذا قال للسارق الذى جىء به إليه أسرقت ما إخاله سرق وللغامدية نحو ذلك وكذا قال على رضى الله عنه لشراحة على ما أسلفناه لعله وقع عليك وأنت نائمة لعله استكرهك لعل مولاك زوجك منه وأنت تكتمينه وتتبع مثله عن كل واحد يوجب طولا فالحاصل من هذا كله كون الحد يحتال فى درئه بلا شك ومعلوم أن هذه الاستفسارات المفيدة لقصد الاحتيال للدرء كلها كانت بعد الثبوت لأنه كان بعد صريح الإقرار وبه الثبوت وهذا هو الحاصل من هذه الآثار ومن قوله ادرءوا الحدود بالشبهات فكان هذا المعنى مقطوعا بثبوته من جهة الشرع فكان الشك فيه شكا فى ضرورى فلا يلتفت إلى قائله ولا يعول عليه وإنما يقع الاختلاف أحيانا فى بعض أهى شبهة صالحة للدرء أو لا بين الفقهاء إذا عرف هذا فنقول الشبهة ما يثبت الثابت وليس بثابت وللفقهاء فى تقسيمها وتسميتها اصطلاحات فالشافعية قالوا الشبهة ثلاثة أقسام فى المحل والفاعل والجهة أما الشبهة فى المحل فوطء
____________________
(5/249)
زوجته الحائض والصائمة والمحرمة وأمته قبل الاستبراء وجارية ولده ولا حد فيه ولو وطىء أمته المحرمة عليه برضاع أو نسب أو صهرية كأخته أو بنته منهما أو أمه من الرضاع أو موطوءة أبيه أو ابنه يجب الحد على الظهر وأما الشبهة فى الفاعل فمثل أن يجد امرأة على فراشه فيطأها ظانا أنها امرأته فلا حد وإذا ادعى أنه ظن ذلك صدق بيمينه وأما الشبهة فى الجهة قال الأصحاب كل جهة صححها بعض العلماء وأباح الوطء بها لا حد فيها وإن كان الواطىء يعتقد التحريم كالوطء فى النكاح بلا ولى وبلا شهود وأصحابنا قسموا الشبهة قسمين شبهة فى الفعل وتسمى شبهة اشتباه وشبهة مشابهة أى شبهة فى حق من اشتبه عليه دون من لم يشتبه عليه وشبهة فى المحل وتسمى شبهة حكمية وشبهة ملك أى الثابت شبهة حكم الشرع بحل المحل قوله فالأولى تتحقق فى حق من اشتبه عليه ألخ أى من اشتبه عليه الحل والحرمة ولا دليل فى السمع يفيد الحل بل ظن غير الدليل دليلا كما يظن أن جارية زوجته تحل له لظنه أنه استخدام واستخدامها حلال له فلا بد من الظن وإلا فلا شبهة أصلا لفرض أن لا دليل أصلا لتثبت الشبهة فى نفس الأمر فلو لم يكن ظنه الحل ثابتا لم تكن شبهة أصلا والثانية وهى الشبهة الحكمية تتحقق بقيام الدليل النافى للحرمة فى ذاته كقوله عليه الصلاة والسلام أنت ومالك لأبيك سواء ظن الحل أو علم الحرمة لأن الشبهة بثبوت الدليل قائمة فى نفس الأمر علمها أحد أو لم يعلمها قوله والحد يسقط بكل منهما لإطلاق الحديث يعنى قوله عليه الصلاة والسلام ادرءوا الحدود بالشبهات وقوله والنسب يثبت فى الثانى أى فى شبهة المحل إذا ادعى الولد ولا يثبت فى الأول وإن ادعاه لأن الفعل تمحض زنا لفرض أن لا شبهة
____________________
(5/250)
ملك إلا أن الحد سقط لظنه فضلا من الله وهو أمر راجع إليه أي إلى الواطىء لا إلى المحل فكان المحل ليس فيه شبهة حل فلا يثبت نسب بهذا الوطء وكذا لا تثبت به عدة لأنه لا عدة من الزاني قيل هذا غير مجرى على عمومه فإن المطلقة الثلاث يثبت النسب منها لأنه وطء في شبهة العقد فيكفي ذلك لإثبات النسب وفي الإيضاح المطلقة بعوض والمختلعة ينبغي أن تكون كالمطلقة ثلاثا قال شارح بل هو على ظاهرة وثبوت نسب المبتوتة عن ثلاث أو خلع ليس باعتبار وطء في العدة بل باعتبار علوق سابق على الطلاق ولذا ذكروا أن نسب ولدها يثبت إلى أقل من سنتين ولا يثبت لتمام سنتين يعني لأنه إذا كان لأقل من سنتين أمكن اعتبار العلوق قبل الطلاق بخلاف ما إذا كان لتمامهما وأنت علمت في باب ثبوت النسب أنها إذا جاءت به لتمام سنتين إنما لا يثبت نسبه إذا لم يدعه أما إذا ادعاه فإنه قد نص على أنه يثبت ويحمل على وطء في العدة بشبهة والكلام ههنا مطلق في عدم ثبوت النسب معللا بأنه زنى محض فلا بد من الجمع بحمل أحد النصين على ما هو الأولى في النظر وذلك بما ذكرنا من شبهة العقد بخلاف باقي محال شبهة الاشتباه كجارية أبيه وأمه ونحوهما فإنه لا شبهة عقد فيهما فلا يثبت النسب بالدعوة فشبهة الفعل في ثمانية مواضع أن يطأ جارية أبيه أو أمه وكذا جده وجدته وإن عليا أو زوجته أو المطلقة ثلاثا
____________________
(5/251)
في العدة أو بائنا على مال وكذا المختلعة بخلاف البينونة بلا مال فهي من الحكمية أو أم ولده التي اعتقها وهي في عدته والعبد يطأ جارية مولاه والمرتهن يطأ المرهونة في رواية كتاب الحدود وهو الأصح والمستعير للرهن في هذا بمنزلة المرتهن ففي هذه المواضع لا حد إذا قال ظننت أنها تحل لي ولو قال علمت أنها حرام على وجب الحد ولو ادعى أحدهما الظن والآخر لم يدع لأحد عليهما حتى يقرأ جميعا بعلمهما الحرمة لأن الشبهة إذا ثبتت في الفعل من أحد الجانبين تعدت إلى الآخر ضرورة والشبهة في المحل في ستة مواضع جارية ابنه والمطلقة طلاقا بائنا بالكنايات والجارية المبيعة إذا وطئها البائع قبل تسليمها إلى المشتري والمجعولة مهرا إذا وطئها الزوج قبل تسليمها إلى الزوجة لأن الملك فيهما لم يستقر للزوجة والمشتري والمالك كان مسلطا على وطئها بتلك اليد مع الملك وملك اليد ثابت والملك الزائل مزلزل والمشتركة بين الواطىء وغيره والمرهونة إذا وطئها المرتهن في رواية كتاب الرهن وعلمت أنها ليست بالمختارة ففي هذا المواضع لا يجب الحد وإن قال علمت أنها على حرام
____________________
(5/252)
لأن المانع هو الشبهة وهي ههنا قائمة في نفس الحكم أي الحرمة القائمة فيها شبهة أنها ليست بثابتة نظرا إلى دليل الحل على ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم أنت ومالك لأبيك ونحوه ولا اعتبار بمعرفته بالحرمة وعدمها وفي الإيضاح في المرهونة إذا قال ظننت أنها تحل لي ذكر في كتاب الرهن أنه لا يحد وفي كتاب الحدود يحد فلا يعتبر ظنه لأنه لا استيفاء من عينها بل من معناها فلم يكن الوطء حاصلا في محل الاستيفاء أصلا فلا شبهة فعل وصار كالغريم إذا وطىء جارية الميت وجه عامة الروايات أنه انعقد فيها سبب الملك في الحال ويصير مستوفيا ومالكا بالهلاك من وقت الرهن فصار كجارية اشتراها والخيار للبائع ووجه رواية كتاب الحدود أن عقد الرهن لا يفيد ملك المتعة بحال فهي كالمستأجرة للخدمة ومقتضاه أن يجب الحد وإن اشتبه إلا أن ملك العين في الجملة سبب لملك المتعة وإن لم يكن في الرهن سببا بخلاف الإجارة فإن الثابت بها ملك المنفعة ولا يمكن كونه سببا لملك المتعة وبخلاف البيع بالخيار فإنه يفيد الملك حال قيام الجارية بخلاف المرهونة لا يفيد الملك إلا مع هلاكها فلا يتصور كون ملكها سببا للاستمتاع بها فكان كملك المنفعة هذا وقد دخل في سبب الملك صور مثل وطء جارية عبده المأذون والمديون ومكاتبه ووطء البائع الجارية المبيعة بعد القبض في البيع الفاسد والتي فيها الخيار للمشتري وينبغي أن يزاد جاريته التي هي أخته من الرضاع وجاريته قبل الاستبراء والاستقراء يفيدك غير ذلك ايضا كالزوجة التي حرمت بردتها أو بمطاوعتها لابنه أو جماعة أمها ثم جامعها وهو يعلم أنها عليه حرام فلا حد عليه ولا على قاذفه لأن بعض الائمة لم يحرم به فاستحسن أن يدرأ بذلك الحد فالاقتصار على الستة لا فائدة فيه قوله ثم الشبهة عند أبي حنيفة تثبت بالعقد وإن كان العقد متفقا على تحريمه وهو عالم به وعند الباقين لا تثبت هذه الشبهة إذا علم بتحريمه ويظهر ذلك في نكاح المحارم فصارت الشبهة على قول أبي حنيفة ثلاثة شبهة الفعل وشبهة المحل وشبهة العقد وكذا قسمها في المحيط وذكر في شبهة العقد أن يطأ التي تزوجها بغير شهود أو بغير إذن مولاها وهي أمة أو وطىء العبد من تزوجها بغير إذن مولاه قال ولو تزوج أمة على حرة أو مجوسية أو خمسا في عقد أو جمع بين أختين بوطء وقال علمت أنها حرام لا حد عليه عند أبي حنيفة وعندهما يجب الحد
____________________
(5/253)
قوله وقد نطق الكتاب بانتفاء المحل إذ قال تعالى فإن طلقها يعني الثالثة فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره وعلى ذلك الإجماع فلا يعتبر قول المخالف فيه أي في المحل وهم الإمامية والزيدية والقائلون بأن الطلاق الثلاث بكلمة لا يقع به إلا واحدة فتكون حلالا لزوجها لأنه خلاف بعد تقرر الإجماع فلا يعتبر لا اختلاف كائن بين الأمة حال تردد الواقعة بينهم قبل تقرر الإجماع ليعتبر وهذا لما قدمناه في أول كتاب الطلاق من أن إجماع الصحابة تقرر في زمن عمر على ذلك وأن الأحاديث الواردة في أنها تكون واحدة يجب كونها كانت مقيدة إلى آخر ما يعلم فيما أسلفناه وهو صح عن علي رضي الله عنه وقوع الثلاث خلاف ما نقلوا عنه ثم لا يخفى أن ترتيب المصنف بالفاء قوله فلا يعتبر إنما هو على الإجماع لا على المجموع منه ومن قوله نطق الكتبا بانتفاء الحل لأن محل انتفاء الحل في الكتاب ما إذا أوقع الثالثة بعد تقدم ثنتين ولا خلاف لأحد فيها إنما خلافهم في الثلاث بمرة واحدة وليس هو متناول النص قوله ولو قال ظننت أنها تحل لي لا يحد لأن الظن في موضعه لأن أثر الملك قائم بقيام العدة حتى يثبت النسب إذا ولدت وله حبسها عن الخروج وعليه نفقتها ولذا يحرم عندنا نكاح أختها وأربع سواها وتمتنع شهادة كل منهما لصاحبه فأمكن أن تقيس حل الوطء على بعض هذه الأحكام فتجعل الاشتباه عليه عذرا في سقوط الحد عنه بخلاف مالو وطىء امرأة اجنبية وقال ظننت أنها تحل لي أو جارية أجنبية على ما يأتي لأنه في غير موضعه قوله وأم الولد إذا أعتقها مولاها وهي في العدة والمختلعة والمطلقة على مال كالمطلقة ثلاثا لثبوت الحرمة بالإجماع يريد حرمة أن يطأها في العدة بخلاف الرجعية فإنه لا إجماع في حرمته وبخلاف ما إذا طلقها بالكناية كأن قال أنت خلية أو أمرك بيدك فاختارت نفسها ونحوه ثم وطئها في العدة وقال علمت أنها على حرام لا يحد لاختلاف الصحابة في الكتابة فمن مذهب عمر أنها أي الكنايات رجعية وكذا عن ابن مسعود ففي مصنف عبد الرزاق حدثنا الثوري عن منصور حدثني إبراهيم عن علقمة والأسود أن ابن مسعود جاء إليه رجل فقال كان بيني وبين امرأتي كلام فقالت لو كان الذي بيدك من أمري بيدي لعلمت كيف أصنع قال فقلت لها قد جعلت أمرك بيدك فقالت أنا طالق ثلاثا قال ابن مسعود أراها واحدة وأنت
____________________
(5/254)
أحق بالرجعة وسألنا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقال ماذا قلت قال قلت أراها واحدة وهو أحق بها قال وأنا أرى ذلك وزاد من طريق آخر ولو رأيت غير ذلك لم تصب وأخرج ابن أبي شيبة عنهما في مصنفة أنهما قالا في البرية والخلية وهي تطليقة واحدة وهو أملك برجعتها وأخرج محمد بن الحسن في الآثار أخبرنا ابو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما كانا يقولان في المرأة إذا خيرها زوجها فاختارته فهي امرأته وإن اختارت نفسها فهي تطليقة وزوجها أملك بها ومن مذهب على في خلية وبرية أنها ثلاث على ما أخرجه عنه ابن أبي شيبة إلى غير ذلك مما عن غيرهم فيها أنها واحدة أو ثلاث وبهذا يعرف خطأ من بحث في المختلعة وقال ينبغي كونها من ذوات الشبهة الحكمية لاختلاف الصحابة في الخلع وهذا غلط لأن اختلافهم فيه إنما هو في كونه فسخا أو طلاقا وعل كل حال الحرمة ثابتة فإنه لم يقل أحد إن المختلعة على مال تقع فرقتها طلاقا رجعيا وكذا لو نوى ثلاثا بالكناية فوقعن فوطئها في العدة عن الطلاق الثلاث وقال علمت أنها حرام لا يحد لتحقق الاختلاف وإذا كان كذلك كان هذا من قبيل الشبهة الحكمية وعرف أن تحققها لقيام الدليل والثابت هنا قيام الخلاف ولم يعتبره أبو حنيفة حتى لم يخفف النجاسة به فوجهه أن قول المخالف عن دليل قائم البتة وإن كان غير معمول به كما أن قوله عليه الصلاة والسلام أنت ومالك لأبيك غير معمول به في إثبات حقية ملك الأب لمال ابنه نفسه وهذه المسئلة يلغز بها فيقال مطلقة ثلاثا وطئت في العدة وقال علمت حرمتها لا يحد وهي ما وقوع الثلاث عليها بالكناية قوله ولا حد على من وطىء جارية ولده أو ولد ولده وإن كان ولده حيا وإن لم تكن له ولاية تملك مال ابن ابنه حال قيام ابنه وتقدمت هذه المسئلة في باب نكاح الرقيق ثم في الاستيلاد وهذا لأن الشبهة حكمية لأنها عن دليل هو ما رواه ابن ماجه عن جابر بسند صحيح نص عليه ابن القطان والمنذري عن جابر أن رجلا قال يا رسول الله إن لي مالا وولدا وابي يريد أن يجتاح مالي فقال أنت ومالك لأبيك وأخرج الطبراني في الأصغر والبيهقي في دلائل النبوة عن جابر جاء رجل إليه عليه الصلاة والسلام فقال يا رسول الله إن أبيه يريد أن يأخذ ماليه فقال عليه الصلاة والسلام ادعه ليه فلما جاء قال له عليه الصلاة والسلام إن ابنك يزعم أنك تريد أن تأخذ ماله فقال سله هل هو إلا عماته أو قراباته أو ما أنفقه على نفسي وعيالي قال فهبط جبريل عليه السلام فقال يا رسول الله إن الشيخ قال في نفسه شعرا لم تسمعه أذناه فقال له عليه الصلاة والسلام قلت في نفسك شعرا لم تسمعه أذناك فهاته فقال لا يزال يزيدنا الله بك بصيرة ويقينا ثم أنشأ يقول ** غذوتك مولودا ومنتك يافعا ** تعل بما أجنى عليك وتنهل ** ** إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت ** لسقمك إلا ساهرا أتململ **
____________________
(5/255)
** تخاف الردى نفسي عليها وإنها ** لتعلم أن الموت حتم موكل ** ** كأني أنا المطروق دونك بالذي ** طرقت به دوني فعيني تهمل ** ** فلما بلغت السن والغاية التي ** إليك مراما فيك كنت أؤمل ** ** جعلت جزائي غلظة وفظاظة ** كأنك أنت المنعم المتفضل ** ** فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ** فعلت كما الجار والمجاور يفعل ** ** فأوليتني حق الجوار ولم تكن ** على بمال دون مالك تبخل **
قال فبكى صلى الله عليه وسلم ثم أخذ بتلبيب ابنه وقال اذهب أنت ومالك لأبيك وروى حديث جابر الأول من طرق كثيرة وقول المصنف بعد هذا ويثبت النسب يقتضي بإطلاقه أن يثبت نسب ولد الجارية من وطء والد سيدها وجده وإن كان ولده الذي هو سيد الأمة حيا فإنه قال في وضع المسئلة لاحد على من وطىء جارية ولده وولد ولده ثم قال ويثبت النسب أي من واطىء جارية ولده وولد ولده لكنه إنما أراد من واطىء جارية ولده فقط بدليل قوله وعليه قيمة الجارية وهو فرع تملكها والجد لا يتملكها حال حياة الأب وما وقع في نسخ النهاية مما نقله عن خزانة الفقه لأبي الليث إذا زنى بجارية نافلته والأب في الأحياء وقال ظننت أنها على حرام لا يحد ويثبت النسب يجب الحكم بغلطه وأنه سقط عنه لفظة لا لأن جميع الشارحين لهذا المكان مصرحون بعدم ثبوته ونفس أبي الليث صرح في شرح الجامع الصغير أنه لا يثبت لأنه محجوب بالأب وصرح به في الكافي وفي المبسوط أن من وطىء جارية ولد ولده فجاءت بولد فادعاه فإن كان الأب حيا لم تثبت دعوة الجد إذا كذبه وكذا الولد لأن صحة الاستيلاد تبتنى على ولاية نقل الجارية إلى نفسه وليس للجد ولاية ذلك في حياة الأب ولكن إن أقر به ولد الولد عتق بإقراره لأنه زعم أنه ثابت النسب من الجد وأنه عمه فيعتق عليه بالقرابة ولا شيء على الجد من قيمة الأمة لأنه لم يتملكها وعليه العقر لأن الوطء ثبت بإقراره وسقط الحد للشبهة الحكمية وهي البنوة فيجب العقر وكذلك إن كانت ولدته بعد موت الأب لأقل من ستة أشهر لأنا علمنا أن العلوق كان في حياة الأب وأنه لم يكن للجد عند ذلك ولاية نقلها إلى نفسه وإن كانت ولدته بعد موته بستة أشهر فهو مصدق في الدعوة صدقه ابن الابن أو كذبه لأن العلوق حصل بعد موت الأب والجد عند عدم الأب كالأب في الولاية فله أن ينقلها إلى نفسه بدعوة الاستيلاد قوله وإذا وطىء جارية أبيه أو أمه أو زوجته وقال ظننت حلها لي فلا حد عليه ولا على قاذفه وزفر يحده لقيام الوطء الخالي عن الملك وشبهته ولا عبرة بتأويله الفاسد كما لو وطىء جارية أخيه أو عمه على ظن الحل وكذا العبد إذا وطىء جارية مولاه فقال ظننت حلها لاي لا يحد وإن قال علمت حرمتها حد لأن بين هؤلاء أي بين الإنسان وبين أبيه وأمه وزوجته والعبد وأمة سيده انبساطا في الانتفاع فظن أن منه الاستمتاع بخلاف ما بين الإنسان وأخيه وعمه على ما يأتي فكان شبهة اشتباه إلا أنه زنا
____________________
(5/256)
حقيقة فلا يحد قاذفه وقوله وكذا الجارية أي إذا قالت الجارية ظننت أن عبد مولاي أو ابن مولاي أو مولاتي يحل لي أو زوج سيدتي وكذا في الأخريين والفحل لم يدع ذلك لا يحد في ظاهر الرواية لأن الفعل واحد وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يحد الفحل لأن الشبهة إنما تمكنت في التبع وهي المرأة لأنها تابعة في الزنا فلا تكون متمكنة في الأصل بخلاف ثبوتها في جانب العبد إذا قال ظننت حلها لأن الثبوت في الأصل يستتبع التبع وأجيب بأن الفعل لما كان واحدا له نسبة إليهما كان ما يثبت فيه ما يتعلق بكل من طرفيه وأورد عليه مالو زنى البالغ بصبية يحد هو دونها أجيب بأن سقوط الحد عن الصبية لا للشبهة في الفعل فإنه لم تثبت شبهة فوجب الحكم عليه وإنما تعذر إيجابة عليها لأنها ليست أهلا للعقوبة بخلاف ما نحن فيه فإن الشبهة لما تحققت في الفعل نفت الحد عن طرفيه وإذا سقط الحد كان عليه العقر لزوجته وغيرها ولا يثبت نسب ولدها لو جاءت به جارية الزوجة وغيرها وإن صدقته الزوجة أنه ولده قوله وإن وطىء جارية أخيه أو عمه ونحوهما من كل قرابة غير الولاد كالخال والخالة وقال ظننت أنها تحل لي حد لأنه لا شبهة في الملك ولا في الفعل لعدم انبساط كل في مال الآخر فدعوى ظنه الحل غير معتبرة ومعنى هذا أنه علم أن الزنا حرام لكنه ظن أن وطأه هذه ليس زنا محرما فلا يعارض ما في المحيط من قوله شرط وجوب الحد أن يعلم أن الزنا حرام وإنما ينفيه مسئلة لحربي إذا دخل دار الإسلام فأسلم فزنى وقال ظننت أنه حلال لا يلتفت إليه ويحد وإن كان فعله أول يوم دخل الدار لأن الزنا حرام في جميع الأديان والملل لا تخلتف في هذه المسئلة فكيف يقال إذا ادعى مسلم أصلي أنه لا يعلم حرمة الزنا لا يحد لانتفاء شرط الحد ولو اراد أن المعنى أن شرط الحد في نفس الأمر علمه بالحرمة في نفس الأمر فإذا لم يكن عالما لا حد عليه كان قليل الجدوى أو غير صحيح لأن الشرع لما أوجب على الإمام أن يحد هذا الرجل الذي ثبت زناه عنده عرف ثبوت الوجوب في نفس الأمر لأنه لا معنى لكونه واجبا في نفس الأمر إلا وجوبه على الإمام لأنه لا يجب على الزاني أن يحد نفسه ولا أن يقر بالزنا بل الواجب عليه في نفس الأمر بينه وبين الله تعالى التوبة والإنابة ثم إذا اتصل بالإمام ثبوته وجب الحد على الإمام هذا وأورد أنه لو سرق من بيت أخيه وعمه ونحوهم لا يقطع فظهر أن بينهما انبساطا أجيب بأن القطع منوط بالأخذ من الحرز ودخوله في بيت هؤلاء بلا حشمة واستئذان عادة
____________________
(5/257)
ينفي معنى الحرز فانتفى القطع أما الحد فمنوط بعدم الحل وشبهته وهو ثابت هنا قوله ومن زفت أي بعثت إليه غير امرأته وقال السناء هي روجتك فوطئها لا حد عليه وعليه المهر وهذه إجماعية لا يعلم فيها خلاف ثم الشبهة الثابتة فيها شبهة اشتباه عند طائفة من المشايخ ودفع بأنه يثبت بالنسب من هذا الوطء ولا يثبت من الوطء عن شبهة الاشتباه نسب فالأوجه أنها شبهة دليل فإن قول النساء هي زوجتك دليل شرعي مبيح للوطء فإن قول الواحد مقبول في المعاملات ولذا حل وطء الأمة إذا جاءت إلى رجل وقالت مولاي أرسلني إليك هدية فإذا كان دليلا غير صحيح في الواقع أوجب الشبهة التي يثبت معها النسب وعلى المزفوفة العدة قوله ولا يحد قاذفه إلا في رواية عن أبي يوسف فإن إحصانه لا يسقط عنده بهذا الوطء لأنه وطئها على أنه نكاح صحيح معتمدا دليلا ولذا يثبت النسب والمهر بإجماع الصحابة فيكون وطأ حلالا ظاهرا وأجيب بأنه لما تبين خلاف الظاهر بقى الظاهر معتبرا في إيراث الشبهة وبالشبهة سقط الحد لكن سقط إحصانه لوقوع الفعل زنا وهذا التوجيه يخالف مقتضى كونها شبهة محل لأن في شبهة المحل لا يكون الفعل زنا والحاصل أنه لو اعتبر شبهة اشتباه أشكل عليه ثبوت النسب وأطلقوا أن فيها لا يثبت النسب وإن اعتبر شبهة محل اقتضى أنه لو قال علمتها حراما على لعلمي بكذب النساء لا يحد ويحد قاذفه والحق أنه شبهة اشتباه لانعدام الملك من كل وجه وكون الإخبار يطلق الجماع شرعا ليس هو الدليل المعتبر في شبهة المحل لأن الدليل المعتبر فيه هو ما مقتضاه ثبوت الملك نحو أنت ومالك لأبيك والملك القائم للشريك لا ما يطلق شرعا مجرد الفعل غير أنه مستثنى من الحكم المرتب عليه أعنى عدم ثبوت النسب للإجماع فيه وبهذه والمعتدة ظهر عدم انضباط ما مهدوه من أحكام الشبهتين قوله ومن وجد امرأة على فراشه فوطئها فعليه الحد خلافا للائمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد قاسوها على المزفوفة بجامع ظن الحل ولنا أن المسقط
____________________
(5/258)
شبهة الحل ولا شبهة ههنا أصلا سوى أن وجدها على فراشه ومجرد وجود امرأة على فراشه لا يكون دليل الحل ليستند الظن إليه وهذا لانه قد ينام على الفراش غير الزوجة من حبائبها الزائرات لها وقراباتها فلم يستند الظن إلى ما يصلح دليل حل فكان كما لو ظن المستأجرة للخدمة والمودعة حلالا فوطئها فإنه يحد قال وكذا إذا كان أعمى لأن الوجود على الفراش كا ذكرنا ليس صالحا لاستناد الظن إليه وغيره مثل ما يحصل بالنعمة والحركات المألوفة فيحد أيضا إلا إذا دعاها فأجابته اجنبية وقالت أنا زوجتك فواقعها لأن الأخبار دليل وجاز تشابه النغمة خصوصا لو لم تطل الصحبة وقيد بقوله وقالت أنا زوجتك لأنها لو لم تقله بل اقتصرت على الجواب بنعم ونحوه فوطئها يحد لأنه يمكن التمييز بأكثر من ذلك بحيث يكون الحال متوسطا في اطمئنان النفس إلى أنها هي قوله ومن تزوج امرأة لا يحل له نكاحها بأن كانت من ذوي محارمه بنسب كأمه أو ابنته فوطئها لم يجب عليه الحد عند أبي حنيفة وسفيان الثوري وزفر وإن قال علمت أنها على حرام ولكن يجب عليه بذلك المهر ويعاقب عقوبة هي أشد ما يكون من التعزير سياسة لاحدا مقدرا شرعا إذا كان عالما بذلك وإذا لم يكن عالما لاحد ولا عقوبة تعزيز وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي وكذا مالك وأحمد يجب الحد إذا كان عالما بذلك وكان يجب أن يوسط الضمير المنفصل فيقول وقالا هما والشافعي لما عرف أن العطف على ضمير الرفع المتصل
____________________
(5/259)
لا يجوز إلا أن يفصل بضمير منفصل أو غيره على قول وإلا فشاذ ضعيف وعلى هذا الخلاف كل محرمة برضاع أو صهرية متفق عليه وأما غير ذلك ففي الكافي لحافظ الدين منكوحة الغير ومعتدته ومطلقته الثلاث بعد التزوج كالمحرم قال وإن كان النكاح مختلفا فيه كالنكاح بلا ولي وبلا شهود فلا حد عليه اتفاقا لتمكن الشبهة عند الكل وكذا إذا تزوج أمة على حرة أو تزوج مجوسية أو أمة بلا إذن سيدها أو تزوج العبد بلا إذن سيده فلا حد عليه اتفاقا أما عنده فظاهر وكذا عندهما لأن الشبهة إنما تنتفى عندهما إذا كان مجمعا على تحريمه وهي حرام على التأييد وفي بعض الشروح أراد بنكاح من لا يحل له نكاحها نكاح المحارم والمطلقة الثلاث ومنكوحة الغير ومعتدة الغير ونكاح الخامسة وأخت المرأة في عدتها والمجوسية والأمة على الحرة ونكاح العبد أو الأمة بلا إذن المولى والنكاح بغير شهود ففي كل هذا لا يجب الحد عند أبي حنيفة وإن قال علمت أنها على حرام وعندهم يجب إذا علم بالتحريم وإلا فلا ثم قال ولكنهما قالا فيما ليس بحرام على التأبيد لا يجب الحد كالنكاح بغير شهود فقد تعارضا حيث جعل في الكافي الأمة على الحرة والمجوسية والأمة بلا إذن السيد وتزوج العبد بلا إذن السيد محل الاتفاق على سقوط الحد وجعلها هذا الشارح من محل الخلاف فعندهما يحد وأضاف إلى ذلك ما سمعت ثم لا يخفى ما في عبارته من عدم التحرير ثم قول حافظ الدين في الكافي في تعليل سقوطه الحد في تزوج المجوسية وما معها لأن الشبهة إنما تنتفى عندهم يعني حتى يجب الحد إذا كان مجمعا على تحريمه وهي حرام على التأبيد يقتضي حينئذ أن لا يحد عندهما في تزوج منكوحة الغير وما معها لأنها ليست محرمة على التأبيد فإن حرمتها مقيدة ببقاء نكاحها وعدتها كما أن حرمة المجوسية مغياة بتمجسها حتى لو أسلمت حلت كما أن تلك لو طلقت وانقضت عدتها حلت وأنه لا يحد عندهما إلا في المحارم فقط وهذا هو الذي يغلب على ظني والذين يعتمد على نقلهم وتحريرهم مثل ابن المنذر كذلك ذكروا فحكى ابن المنذر عنهما أنه يحد في ذات المحرم ولا يحد في غير ذلك قال مثل أن يتزوج مجوسية أو خامسة أو معتدة وعبارة الكافي للحاكم تفيد ذلك حيث قال رجل تزوج امرأة ممن لا يحل له نكاحها فدخل بها قال لاحد عليه وإن فعله على علم لم يحد ايضا ويوجع عقوبة في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد إن علم بذلك فعليه الحد في ذوات المحارم إلى هنا لفظه فعمم في المرأة التي لا تحل له في سقوط الحد على قول ابي حنيفة ثم خص مخالفتهما بذوات المحارم من ذلك العموم فاللفظ ظاهر في ذلك على ما عرف في الروايات وفي مسئلة المحارم رواية عن جابر رضي الله عنه أنه يضرب عنقه ونقل عن أحمد وإسحاق وأهل الظاهر وقصر ابن حزم قتله على ما إذا كانت امرأة أبيه قصرا للحديث الآتي على مورده وفي رواية أخرى عن أحمد تضرب عنقه ويؤخذ ماله لبيت المال وذلك لحديث البراء قال لقيت خالي ومعه راية فقلت له أين تريد قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه أن
____________________
(5/260)
أضرب عنقه وآخذ ماله وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن وروى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من وقع على ذات محرم منه فاقتلوه وأجيب بأن معناه أنه عقد مستحلا فارتد بذلك وهذا لأن الحد ليس ضرب العنق وأخذ المال بل ذلك لازم للكفر وفي بعض طرقه عن معاوية بن قرة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جده معاوية إلى رجل عرس بامرأة أبيه أن يضرب عنقه ويخمس ماله وهذا يدل على أنه استحل ذلك فارتد به ويدل على ذلك أنه ذكر في الحديث أنه عرس بها وتعريسه بها لا يستلزم وطأه إياها وغير الوطء لا يحد به فضلا عن القتل فحيث كان القتل كان للردة وهذا لا يخلو عن نظر فإن الحكم لما كان عدم الحد والقتل بغير الوطء كان قتله جائزا كونه لوطئه وكونه لردته فلا يتعين كونه للردة ويجاب بأنه أيضا لا يتعين كونه للوطء فلا دليل فيه على أحدهما بعينه وذلك يكفينا وقالوا جاز فيه أحد الأمرين أنه للاستحلال أو أمر بذلك سياسة وتعزيزا وجه القائل بالحد أنه وطء في فرج مجمع على تحريمه من غير ملك ولا شبهة ملك والواطىء أهل للحد عالم بالتحريم فيجب الحد كما لو لم يوجد العقد وليس العقد شبهة لأنه نفسه جناية هنا توجب العقوبة انضمت إلى الزنا فلم تكن شبهة كما لو أكرهها وعاقبها ثم زنى بها ومدار الخلاف أن هذا العقد يوجب شبهة أم لا فعندهم لا كما ذكر وعند أبي حنيفة وسفيان وزفر نعم ومدار كونه يوجب شبهة على أنه ورد على ما هو محله اولا فعندهم لا لأن محل العقد ما يقبل حكمه وحكمه الحل وهذه من المحرمات في سائر الحالات فكان الثابت صورة العقد لا انعقاده لأنه لا انعقاد في غير المحل كما لو عقد على ذكر وعنده نعم لأن المحلية ليست لقبول الحل بل لقبول المقاصد من العقد وهو ثابت ولذا صح من غيره عليها وبتأمل يسير يظهر أنهم لم يتواردوا على محل واحدة في المحلية فهم حيث نفوا محليتها أرادوا بالنسبة إلى خصوص هذا العاقد أي ليست محلا لعقد هذا العاقد ولذا عللوه بعدم حلها ولا شك في حلها لغيره بعقد النكاح لا محليتها للعقد من حيث هو العقد وهو حيث أثبت محليتها أراد محليتها لنفس العقد لا بالنظر إلى خصوص عاقد ولذا علل بقبولها مقاصده فإن قلت فقد أطلق الكل من الحنفية في الفقه والأصول عدم محلية المحارم لنكاح المحرم ففي الأصول حيث قالوا إن النهي عن المضامين والملاقيح ونكاح المحارم مجاز عن النفي لعدم محله وفي الفقه كثير ومنه قولهم محل النكاح أنثى من بنات آدم ليست من المحرمات فالجواب أن المراد نفى المحلية لعقد الناكح الخاص وأنت علمت أن ابا حنيفة إنما أثبت محليتها للنكاح في الجملة لا بالنظر إلى خصوص ناكح ولا شك في ذلك بقى النظر في أن أي الاعتبارين في ثبوت المحلية أولى كونه قابلا للمقاصد أو كونه حلالا إن نظرنا إلى المعنى وهو أن الأصل أن يتبع الحل قيام الحاجة لتدفع به وهو المقصود ترجح قوله أو إلى السمع أعنى محل الإجماع وهو قول الكل إن الميتة ليست محلا للبيع مع أنها إنما فيها عدم الحل ترجحوا وقد رجح قول أبي حنيفة بقوله صلى الله عليه وسلم ايما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها حكم بالبطلان وأوجب المهر وهو مسقط للحد بالانفاق وكونه لا يعتقده على ظاهره لا يضر لأنه مؤول بتأويلين أحدهما أنه آيل إلى البطلان باعتراض الولي بأن كان غير كفء والآخر تخصيصه بما إذا لم يكن للمرأة ولاية على نفسها كالأمة والصبية وعلى هذا فهو باطل على ظاهره وهو
____________________
(5/261)
أقرب التأويلين لندرة فسخ ولى بسبب عدم كفاءة من زوجت المرأة نفسها منه وقد حكم فيه بالمهر أن دخل لكن في الخلاصة قال الفتوى على قولهما ولعل وجهه أن تحقق الشبهة يقتضى تحقق الحل من وجه لأن الشبهة لا محالة شبهة الحل لكن حلها ليس ثابتا من وجه وإلا وجبت العدة وثبت النسب ودفع بأن من المشايخ من التزم ذلك وعلى التسليم فثبوت النسب والعدة أقل ما يبتنى عليه وجود الحل من وجه وهو منتف في المحارم وشبهة الحل ليس ثبوت الحل من وجه فإن الشبهة ما يشبه الثابت وليس بثابت فلا ثبوت لما له شبهة الثبوت بوجه من الوجوه ألا ترى أن أبا حنيفة ألزم عقوبته بأشد ما يكون وإنما لم يثبت عقوبة هي الحد فعرف أنه زنا محض عنده إلا أن فيه شبهة فلا يثبت نسبه ومن شبهة العقد ما إذا استأجرها ليزنى بها ففعل لاحد عليه ويعزر وقال هما والشافعي ومالك وأحمد يحد لأن عقد الإجارة لا يستابح به البضع فصار كما لو أستأجرها للطبخ ونحوه من الأعمال ثم زنى بها فإنه يحد اتفاقا وله أن المستوفي بالزنا المنفعة وهي المعقود عليه في الإجارة لكنه في حكم العين فبالنظر إلى الحقيقة تكون محلا لعقد الإجارة فأورث شبهة بخلاف الاستئجار للطبخ ونحوه لأن العقد لم يضف إلى المستوى بالوطء والعقد المضاف إلى محل يورث الشبهة فيه لا في محل آخر وفي الكافي لو قال أمهرتك كذا لآزنى بك لم يجب الحد وهكذا لو قال استأجرتك أو خذي هذه الدراهم لأطأك والحق في هذا كله وجوب الحد إذ المذكور معنى يعارضه كتاب الله قال الله تعالى { الزانية والزاني فاجلدوا } فالمعنى الذي يفيد أن فعل الزنا مع قوله أزنى بك لا يجلد معه للفظة المهر معارض له قوله ومن وطىء أجنبية فيما دون الفرج بأن أولج في مغابن بطها ونحوه وليس المراد ما يعم الدبر وهي المسئلة الآتية يعزر لأنه منكر محرم ليس فيه تقدير ففيه التعزير ومثله ما إذا أتت امرأة امرأة أخرى فإنهما يعزران لذلك قوله ومن أتى امرأة أي اجنبية في الموضع المكروه أي دبرها أو عمل عمل قوم لوط فلا حد عليه عند أبي حنيفة ولكنه يعزر ويسجن حتى يموت أو يتوب ولو اعتاد اللواطة قتلة الإمام محصنا كان أو غير محصن سياسة أما الحد المقدر شرعا فليس حكما له وقالا هو كالزنا وهذه العبارة تفيد اعترافهما بأنه ليس من نفس الزنا بل حكمه حكم الزنا فيحد جلدا إن لم يكن أحصن ورجما إن أحصن وذكر في الروضة أن الخلاف في الغلام أما لو وطىء امرأة في دبرها حد بلا خلاف والأصح أن الكل على الخلاف نص عليه في الزيادات ولو فعل هذا بعبده أو أمته أو زوجته بنكاح صحيح أو فاسد لا يحد إجماعا كذا في الكافي نعم فيه ما ذكرناه من التعزير والقتل لمن اعتاده إن رأى الإمام ذلك لكن
____________________
(5/262)
للشافعي في عبده وأمته ومنكوحته قولان وهل تكون اللواطة في الجنة أي هل يجوز كونها فيها قيل إن كان حرمتها عقلا وسمعا لا تكون وإن كان سمعا فقط جاز أن تكون والصحيح أنها لا تكون فيها لأنه تعالى استبعده واستقبحه فقال ما سبقكم بها من أحد من العالمين وسماه خبيثة فقال كانت تعمل الخبائث والجنة منزهة عنهما وقال الشافعي في قول يقتلان ففي وجه بالسيف بكل حال أي بكرين كانا أو ثيبين وفي قول برجمان بكل حال وبه قال مالك وأحمد وفي قول آخر وهو المصحح من مذهبه يحد جلدا وتغريبا إن كان بكرا ورجما إن أحصن وجه القتل ما روى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجدتموه يعمل عمل قول لوط فاقتلوه الفاعل والمفعول به قال الترمذي إنما يعرف هذا من حديث ابن عباس عنه عليه الصلاة والسلام من هذا الوجه ورواه محمد بن إسحاق عن عمرو بن أبي عمرو فقال ملعون من عمل عمل قوم لوط ولم يذكر فيه القتل وروى عن عاصم بن عمر عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن ابي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام قال اقتلوا الفاعل والمفعول به وفي إسناده مقال ولا يعلم أحد رواه عن سهيل بن
____________________
(5/263)
أبي صالح غير عاصم بن عمر العمري وهو يضعف في الحديث من قبل حفظه وبسند السنن رواه أحمد في مسنده والحاكم وقال صحيح الإسناد وقال البخاري عمرو بن أبي عمرو صدوق لكنه روى عن عكرمة مناكير وقال النسائي ليس بالقوي وقال ابن معين ثقة ينكر عليه حديث عكرمة عن ابن عباس عنه عليه الصلاة والسلام اقتلوا الفاعل والمفعول به وقد أخرج له الجماعة وأخرجه الحاكم بطريق آخر وسكت عنه وتعقبه الذهبي بأن عبد الرحمن العمري ساق وإذا كان الحديث بهذه المثابة من التردد في امره لم يجز أن يقدم به على القتل مستمرا على أنه حد ولو سلم حمل على قتله سياسة ولهما أنه في معنى الزنا لأنه قضاء الشهوة في محل مشتهى على وجه الكمال لمجرد قصد سفح الماء بل أبلغ حرمة وتضييعا للماء لأن الحرمة قد تنكشف في الزنا بالعقد وقد يتوهم الولد فيه بخلاف اللواطة فيهما فيثبت حكم الزنا له بدلالة نص حد الزنا لا بالقياس ولأبي حنيفة أنه ليس بزنا ولا معناه فلا يثبت فيه حد وذلك لأن الصحابة اختلفوا في موحبه فمنهم من أوجب فيه التحريق بالنار ومنهم من قال يهدم عليه الجدار ومنهم من يلقيه من مكان مرتفع مع إتباع الأحجار فلو كان زنا في اللسان أو في معناه لم يختلفوا بل كانوا يتفقون على إيجاب حد الزنا عليه فاختلافهم في موجبه وهم أهل اللسان أدل دليل على أنه ليس من مسمى لفظ الزنا لغة ولا معناه وأما الاستدلال بقول القائل ** من كف ذات حر في زي ذي ذكر ** لها محبان لوطي وزناء **
فلعدم معرفة من ينسب إليه البيت وقول من قال حيث قال قائلهم وذكر البيت غلط وذلك أنه ليس بعربي بل هو من شعر أبي نواس من قصيدته ألتي أولها ** دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ** ودواني بالتي كانت هي الداء ** وهي قصيدة معروفة في ديوانه وهو مولد لا تثبت اللغة بكلامه مع أنه ينبغي تطهير كتب الشريعة عن أمثاله وأيضا لا يثبت دلالة لأن المعنى المحرم في الزنا ليس إضاعة الماء من حيث هو إضاعته لجواز إضاعته بالعزل بل إفضاؤه إلى أضاعة الولد الذي هو إهلاك معنى فإن ولد الزنا ليس له اب يربيه والأم بمفردها عاجزة عنه فيشب على أسوإ الأحوال ولأنه قد يدعيه بعض السفهاء وإن لم يثبت نسبه شرعا ليختص به وينفعه ويشتبه على من هو له فيقع التقاتل والفتنة وليس شيء من ذلك في اللواط وكذا هو أنذر وقوعا من الزنا لانعدام الداعي من الجانبين على الاستمرار بخلاف الزنا لتحققه من الجانبين فيه على وجه الاستمرار لندرة وقوع الزنا بصبية لا تشتهي أصلا إذ قلما يكون ذلك ولا عبرة بأوكدية الحرمة في ثبوت عين موجب الآخر ولذا لا يحد بشرب البول المجمع على نجاسته ويحد بشرب الخمر فيلزم من هذا أن لا يثبت الحد بطريق الدلالة إلا إذا كان في المساوي من كل وجه دون الأعلى بل ذلك قد يكون له زاجر قوي وقد لا إلا إيعاد عقاب الآخرة وأما تخريج ما عن الصحابة فروى البيهقي في شعب الإيمان من طريق ابن أبي الدنيا حدثنا عبد الله بن عمر حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن داود بن بكر عن محمد بن المنكدر أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر أنه وجد رجلا في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة فجمع ابو بكر الصحابة فسألهم فكان من أشدهم في ذلك قولا علي رضي الله عنه قال هذا ذنب لم يعص به إلا أمة واحدة صنع الله بها ما علمتم نرى أن نحرقه بالنار فاجتمع رأى الصحابة على ذلك
____________________
(5/264)
قال ورواه الواقدي في كتاب الردة في آخر ردة بني سليم وروى ابن أبي شيبة في مصنفه حدثن غسان بن مضر عن سعيد بن يزيد عن أبي نضرة قال سئل ابن عباس ما حد اللواطة قال ينظر إلى أعلى بناء في القرية فيرمى منه منكسا ثم يتبع بالحجارة ورواه البيهقي أيضا من طريق ابن أبي الدنيا وكأن مأخذ هذا أن قوم لوط أهلكوا بذلك حيث حملت قراهم ونكست بهم ولا شك في اتباع الهديم بهم وهم نازلون وذكر مشايخنا عن ابن الزبير يحبسان في أنتن المواضع حتى يموتا نتنا وأما استدلالهم بتسميتها فاحشة في قوله تعالى أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين فمدفوع بأن الفاحشة لا تخص لغة الزنا قال تعالى ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن وقول المصنف إلا أنه يعزر لما بينا أي من أنه منكر ليس فيه شيء مقدر قوله ومن وطىء بهيمة فلا حد عليه وكذا إذا زنى بميتة لأنه للزجر وإنما يحتاج إلى الزجر فيما طريق وجوده منفتح سالك وهذا ليس كذلك لأنه لا يرغب فيه العقلاء ولا السفهاء وإن اتفق لبعض ذلك لغلبة الشبق فلا يفتقر إلى الزاجر لزجر الطبع عنه ولهذا لا يجب ستره في البهيمة إلا أنه يعزر لما بينا من أنه منكر ليس فيه تقدير شرعي ففيه التعزير والذي يروي أنه تدبح البهيمة وتحرق فذلك لقطع امتداد التحدث به كلما رئيت فيتأذى الفاعل به وليس بواجب وإذا ذبحت وهي مما لا تؤكل ضمن قيمتها إن كان مالكها غيره لأنها ذبحت لأجله وإن كانت مما تؤكل أكلت وضمن عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف لا تؤكل والمراد بالمروي ما روى أصحاب السنن الأربعة عن عكرمة عن ابن عباس عنه عليه الصلاة والسلام من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها قلت له ما شأن البهيمة قال ما أراه قال ذلك إلا أنه كره أن يؤكل لحمها أو ينتفع بها وقد عمل بها ما عمل ولعل قول ابن عباس هذا هو المتمسك لأبي يوسف في عدم أكلها إلا أن المعنى الذي عينه الأصحاب من قطع التعيير أقرب إلى النفس رواه ابن ماجه عن إبراهيم بن إسماعيل عن داود ابن الحصين عن عكرمة والباقون عن عمرو بن أبي عمرو وتقدم الكلام على عمرو هذا وأما إبراهيم بن إسماعيل ابن أبي حنيفة قال أحمد ثقة وقال البخاري منكر الحديث وضعفه غير واحد من الحفاظ وضعف أبو داود هذا الحديث بطريق آخر وهو أنه روى عن عاصم بن أبي النجود عن أبي رزين عن ابن عباس موقوفا عليه ليس على الذي يأتي البهيمة حد وهو الذي روى عنه الرفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما وتأويله المذكور آنفا ومحال أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل ثم يخالفه وكذا اخرجه الترمذي والنسائي وقال الترمذي وهذا أصحح من الأول ولفظه من أتى بهيمة فلا شيء عليه وأخرج الحاكم حديث عمرو بن
____________________
(5/265)
أبي عمرو بزيادة وقال صحيح الإسناد قوله ومن زنى في دار الحرب أو في دار البغي ثم خرج إلينا فأقر عند القاضي به لا يقام عليه الحد وعند الشافعي ومالك يحد لأنه التزم بإسلامه أحكام الإسلام أينما كان مقامه قلنا سلمنا أنه ملتزم للأحكام لكن الحد ليس يجب عليه حتى يكون ملتزمه بالتزامه أحكام الإسلام بل إنما يتضمن التزامه تسليم نفسه إذا وجب عليه الحد عند القاضي فقضى بإقامته عليه وليس الكلام في هذا بل في نفس وجوب الحد وإنما يجب على الإمام عند ثبوته عنده فهذا الدليل في غير محل النزاع فالوجه أن يقال وجب على الإمام الإقامة على الزاني مطلقا أينما كان زناه وحينئذ نقول امتنع بالنص وهو قوله عليه الصلاة والسلام لاتقام الحدود في دار الحرب ولأن الوجوب مشروط بالقدرة ولا قدرة للإمام عليه حال كونه في دار الحرب فلا وجوب وإلا عري عن الفائدة لأن المقصود منه الاستيفاء ليحصل الزجر والفرض أن لا قدرة عليه وإذا خرج والحال أنه لم ينعقد سببا للإيجاب حال وجوده لم ينقلب موجبا له حال عدمه لكن الحديث المذكور وهو قوله عليه الصلاة والسلام لا تقام الحدود في دار الحرب لم يعلم له وجود وروى محمد في كتاب السير الكبير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من زنى أو سرق في دارالحرب وأصاب بها حدا ثم هرب فخرج إلينا فإنه لا يقام عليه الحد والله أعلم به وعن الشافعي قال قال أبو يوسف حدثنا بعض أشياخنا عن مكحول عن زيد
____________________
(5/266)
ابن ثابت قال لا تقام الحدود في دار الحرب مخافة أن يلحق أهلها بالعدو قال وحدثنا بعض اصحابنا عن ثور ابن يزيد عن حكيم بن عمير أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمير بن سعد الأنصاري وإلى عماله أن لا تقيموا الحدود على أحد من المسلمين في أرض الحرب حتى يخرجوا إلى أرض المصالحة قال الشافعي ومن هذا الشيخ ومكحول لم يدرك زيد بن ثابت وأنت تعلم أن هذا نوع انقطاع ومعتقد أبي يوسف أنه داخل في الإرسال وأن حذف الشيخ لا يكون من العدل المجتهد إلا للعلم بثقته فلا يضر على رأى مثبتي المرسل شيء من ذلك بعد كون المرسل من ائمة الشأن والعدالة وهذا الأخير رواه ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا ابن المبارك عن أبي بكر بن أبي مريم عن حكيم بن عمير به وزاد لئلا تحمله حمية الشيطان أن يلحق بالكفار انتهى أثر آخر رواه ابن ابي شيبة أيضا حدثنا ابن المبارك عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم عن حميد بن عقبة بن رومان أن أبا الدرداء نهى أن يقام على أحد حد في أرض العدو وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن بسر بن أرطاة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تقطع الأيدي في السفر انتهى ولفظ الترمذي في الغزو وقال الترمذي حديث غريب والعمل عليه عند بعض أهل العلم منهم الأوزاعي يرون أن لا يقام الحد في الغزو بحضرة العدو مخافة أن يلحق من يقام عليه الحد بالعدو فإذا رجع الإمام إلى دار الإسلام أقام عليه الحد واعلم أن مع الأوزاعي أحمد وإسحاق فمذهبهم تأخير الحد إلى القفول وبسر بن أرطأة ويقال ابن أبي ارطاة اختلف في صحبته قال البيهقي في المعرفة أهل المدينة ينكرون سماع بسر من النبي صلى الله عليه وسلم وكان يحيي بن معين يقول بسر بن أرطاة رجل سوء قال البيهقي وذلك لما اشتهر من سوء فعله في قتال أهل الحرة اه فلو أنه سمعه منه عليه الصلاة والسلام لا تقبل رواية من رضي ما وقع عام الحرة وكان من أعوانها والحق أن هذه الآثار لو ثبتت بطريق موجب للعمل معللة بمخافة لحاق من أقيم عليه بأهل الحرب وأنه يقام إذا خرج وكونه يقيمه إذا خرج إلى دار الإسلام خلاف المذهب فإن قيل ليس معنى قوله في الآثار المتقدمة حتى يخرجوا إلى أرض المصالحة أنه حينئذ يقيم حد الزنا الذي كان في دار الحرب بل أنه إذا صار إلى أرض المصالحة يقيم عليه حد الزنا إذا زنا قلنا أظهر الاحتمالين الأول ولو سلم أحتمالهما على السواء فلا يترجح الثاني وعلى اعتبار الاحتمال الأول هو خلاف المذهب مع أنه معارضة بما أخرجه أبو داود في المراسيل عن مكحول عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أقيموا حدود الله في السفر والحضر على القريب والبعيد ولا تبالوا في الله لومة لائم والمرسل حجة موجبة قال ورويناه بإسناد موصول في السنن فلا شك في عدم صحة الاحتجاج بمثل هذا الحديث على عدم الوجوب من الأصل وأيضا معارض إطلاق فاجلدوا ونحوه فيكون زيادة فإن أجيب بأنه عام خص منه مواضع الشبهة فهو مدفوع بأن الزنا نفسه مأخوذ فيه عدمها فإنه الوطء في غير ملك وشبهته فترتيبه سبحانه إيجاب الحد على الزنا ترتيب ابتداء على مالا شبهة فيه فتكون هذه الأخبار مخصصا أول وأما الدليل العقلي المذكور فعليه أن يقال لا نسلم أن عجز الإمام عن الإقامة حال دخول الزنا في الوجود يوجب أن لا فائدة في الإيجاب إنما ذلك لو عجز مطلقا فجاز أن يثبت الوجوب في الحال معلقا بالقدرة ولكنه يجاب بأنه لا معنى لهذا الكلام وتصحيحه أن يقال جاز أن يثبت في الحال تعليق الإيجاب بالقدرة أي إذا قدرت فأقم عليه فالوجوب معدوم في الحال وموجود عند تحقق القدرة في المأكل لأن المعلق بالشرط كذلك وحينئذ جوابه أن هذا المعنى ممكن لكن أين دليل فإن الآيات
____________________
(5/267)
إنما تفيد تنجيز الوجوب لا تعليقه ونحن نعلم أن القدرة شرط التكليف فنعلم انتفاء مقتضاها في الزاني في دار الحرب فأين دليل تعليق الإيجاب حال زنا الزاني في دار الحرب باقتدار الإمام عليه فإذا لم يثبت لم يثبت تعليقه كما لم يثبت تنجيزه فإن أجيب بأن تعليقه يثبت بما تقدم من الآثار المفيدة أنه إذا رجع إلى دار الإسلام أقامه يدفع بأنه معارض بحديث مراسيل أبي داود وهو يرجح الاحتمال المخالف للمذهب من ذينك الاحتمالين وأيضا قد يقال عليه لا نسلم أن حال الزنا يجب على الإمام الإقامة بل إنما يجب إذا ثبت عنده فقبل الثبوت عنده لا يتعلق به وجوب أصلا وفرض المسئلة أنه زنى في دار الحرب ثم أقر عند القاضي بعد الخروج أو شهد به عليه في غير تقادم وعند ذلك هو قادر ويتعلق به إيجاب الإقامة والمذهب خلافه والله أعلم قال ولو غزا من له ولاية الإقامة بنفسه كالخليفة وأمير المصر يقيم الحد على من زنى في معسكره لأنه تحت يده فالقدرة ثابتة عليه بخلاف ما لو خرج من المعسكر فدخل دار الحرب فزنى ثم عاد إلى المعسكر لا يقيمه ويفيد أنه لو زنى في العسكر والعسكر في دار الحرب في ايام المحاربة قبل الفتح له أن يقيمه للولاية حينئذ أما أمير العسكر والسرية فلا يقيمه لأنه لم تفوض إليهما الإقامة قوله وإذا دخل حربي دارنا بأمان وهو المستأمن فزنى بذمية الخ حاصل المسئلة إذا زنى الحربي المستأمن بالمسلمة أو الذمية فعليهما الحد دون الحربي في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف أولا لا حد على واحد منهما ثم رجع وقال عليهما الحد جميعا وقال محمد بقوله الأول فصار فيها ثلاثة اقوال قول أبي حنيفة تحد المزني بها المسلمة والذمية وقول محمد لا يحد واحد منهم وقول أبي يوسف يحد كلهم وتقييد المسئلة بالمسلمة والذمية لأنه لو زنى بحربية مستأمنة لا يحد واحد منهما عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف
____________________
(5/268)
يحدان ذكره في المختلف وإن زنى المسلم أو الذي بالحربية المستأمنة حد الرجل في قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف يحدان جميعا والأصل أ عند أبي حنيفة ومحمد لا يجب على الحربي حد من الحدود سوى حد القذف فلا يجب عليه حد زنا ولا سرقة ولا شرب خمر وعند أبي يوسف يجب الكل إلا حد الشرب فحد الشرب لايجب اتفاقا لأنه يعتقد حله وحد القذف يجب اتفاقا لأن فيه حق العبد واختلفوا في حد الزنا والسرقة عند أبي يوسف يجب وعندهما لا يجب وجه قول أبي يوسف أن المستأمن التزم أحكامنا مدة مقامه في دارنا في المعاملات والسياسات كما أن الذمي التزمها مدة عمره ولهذا يحد للقذف ويقتل قصاصا ويمنع من الزنا وشراء
____________________
(5/269)
العبد المسلم والمصحف ويجبر على بيعهما بخلاف حد الشرب لأنه معتقد إباحته ووجه قول أبي حنيفة ومحمد أنه لما لم يدخل للقرار بل لحاجة يقضيها ويرجع وعلينا أن نمكنه من الرجوع بشرطه لم يكن بالاستئمان ملتزما جميع أحكامنا في المعاملات بل ما يرجع منها إلى تحصيل مقصده وهو حقوق العباد غير أنه لا بد من اعتباره ملتزما الإنصاف وكف الأذى إذ قد التزمنا له بأمانة مثل ذلك والقصاص وحد القذف من حقوقهم فلزماه أما حد الزنا فخالص حق الله سبحانه وكذا المغلب في السرقة حقه لم يلتزمه وصاحبه تعالى منعنا من استيفائه عند إعطاء أمانه بخلاف المنع من شراء العبد المسلم والمصحف والإجبار على بيعهما فإنه من حقوق العباد لأن استخدامه قهرا وإذلالا للمسلم وكذلك في استخفافه بالمصحف والزنا مستثنى من كل عهودهم ولمحمد وهو الفرق بين المسلم أو الذمي إذا زنى بمستأمنة حيث يجب الحد عنده على الفاعل وبين المسلمة أو الذمية إذا زنت بمستأمن حيث لا يجب الحد عنده عليهما أن الأصل في الزنا فعل الرجل والمرأة تبع لكونها محلا على ما سنذكره فامتناع الحد في حق الأصل يوجب
____________________
(5/270)
امتناعه في التبع بخلاف امتناعه في التبع لا يوجب امتناعه في حق الأصل أي دليله إذا زنى البالغ العاقل بصيبة أو مجنونة يحد هو دونها وفي تمكين البالغة الصبي أو المجنون لا تحد وتمكينها إنما يوجب الحد عليها إذا مكنت من فعل موجب له وفعل الحربي ليس موجبا له فلا يكون تمكينها موجبا عليها ولأبي حنيفة أن فعل المستأمن زنا لكونه مخاطبا بالحرمات كحرمة الكفر والزنا حق أحكام الدنيا على ما هو المختار بخلاف قول العراقيين إلا أنه امتنع حده لأن إقامته بالولاية والولاية مندفعة عنه بإعطاء المان إلا فيما التزمه من حقوق العباد فقد مكنت من فعل هو زنا لاقصور فيه وهو الموجب للحد عليها وصار كما لو مكنت مسلما فهرب تحد هي لأن المانع خصه وتبعيها في الفعل لا في حكمه بخلاف تمكنيها صبيا أو مجنونا لأنها لما لم يخاطبا لم يكن فعلهما زنا فلم تمكن من الزنا ونظيره لو زنى مكره بمطاوعة تحد عند أبي حنيفة وبه قالت الائمة الثلاثة وعند محمد لا تحد قوله وإذا زنى الصبي أو المجنون بامرأة طاوعته فلا حد عليه ولا عليها وقال زفر والشافعي يجب الحد عليها وهو أي قول زفر والشافعي رواية عن أبي يوسف وهو قول مالك وأحمد وإن زنى صحيح أي عاقل بالغ بمجنونة أو صغيرة يجامع مثلها حد الرجل خاصة وهذا بالإجماع لهما أن العذر من جانبها لا يوجب سقوط الحد من جانبه فكذا العذر من جانبه لا يوجب سقوطه من جانبها وهذا لأن كلا منهما مؤاخذ بفعله وقد فعلت ما هي به زانية لأن حقيقة زناها انقضاء شهوتها بآلته وقد وجد ألا يرى أنه سبحانه وتعالى سماها زانية وهو ليس إلا بذلك ويدل على أنها زانية حقيقة كونها يحد قاذفها فلو لم يتصور زناها لم يحد قاذفها كالمجبوب ولنا أن فعل الزنا إنما يتحقق منه لأن أهل اللغة أخذوا جنس تعريفه وطء الرجل فكانت خارجة وإنما هي محل ولهذا يسمى هو واطئا وزانيا وهي موطوءة ومزنيا بها إلا أنها سميت زانية مجازا تسمية للمفعول باسم الفاعل كعيشة راضية و ما
____________________
(5/271)
دافق أي مرضية ومدقوق أو لكونها مسببة لزنا الزاني بالتمكين فتعلق الحد حينئذ في حقها بالتمكين من فعل هو زناها والزنا فعل من هو منهي عنه آثم به وفعل الصبي ليس كذلك فلا يناط به الحد وعلى هذا لو قلنا إنها بالتمكين زانية حقيقة لغة لا يضرنا لأنها إنما تسمى زانية حقيقة بالتمكين مما هو زنا وهو منتف من الصبي والمجنون فإن قيل كيف يتصور أن يطلق عليها زانية حقيقة مع أنه لا شك أنه يطلق عليها مزني بها حقيقة فيلزم كون إطلاق اسم الفاعل والمفعول بالنسبة إلى فعل واحد لشخص واحد حقيقة وهو باطل فالجواب بأنه إنما يبطل لو كان من جهة واحدة وهو منتف فإن تسميتها زانية باعتبار تمكينها طائعة لقضاء شهوتها من فعل هو زنا ومزنية باعتبار كونها محلا للفعل الذي هو زنا فلو منع وقيل بل ترتب الحد إنما هو على تمكينها من الوطء المفضي إلى اشتباه النسب وتضييع الولد وهو المعنى المحرم للزنا سواء وقع زنا أو لا فالجواب أن تسميتها زانية حقيقة أو مجازا كونه بالتمكين من الزنا أنسب من كونه بما ليس زنا ولو لم يلزم جاز كونه لكل منهما فدار تمكينها الصبي والمجنون بين كونه موجبا للحد وكونه غير موجب فلا يكون موجبا لوجوب الدرء في مثله بذلك لكن بقى أن يقال كون الزنا في اللغة هو الفعل المحرم ممن هو مخاطب ممنوع بل إدخال الرجل قدر حشفته قبل مشتهاة حالا أو ماضيا بلا ملك وشبهة وكونه بالغا عاقلا لاعتباره موجبا للحد شرعا فقد مكنت من فعل هو زنا لغة وإن لم يجب على فاعله حد والجواب أن هذا يوجب التفصيل بين تمكينها صبيا فلا تحد ومجنونا فتحد لأن قولهم وطء الرجل يخص البالغ لكن لا قائل بالفصل والذي يغلب على الظن من قوة كلام هل اللغة أنهم لا يسمون فعل المجنون زنا ولو احتمل ذلك والموضع موضع احتياط في الدرء لا في الإيجاب فلا تحد به والله أعلم ومما ذكرناه يندفع ما قيل لو كان تمكين المرأة صبيا أو مجنونا يمنع الحد عنها لاستفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الغامدية حين أقرت بالزنا هل زنى بك مجنون أو صبي كما أنه استفسر ما عزا فقال أبك جنون حين كان جنونه يسقط عنه الحد لأنها لما قالت زنيت فقد اعترفت بتمكين غير صبي ومجنون فلا معنى لاستفسارها عن ذلك بخلاف ماعز فإنه
____________________
(5/272)
استراب أمره على ما تقدم ولذا لم يسأل الغامدية أبك جنون مع أنها مثل ماعز في سقوط الحد بجنونها وأورد أنه ينبغي أن يجب العقر على الصبي والمجنون لأن الوطء في غير الملك لا يخلو عن أحدهما أما العقر وهو مهر المثل أو الحد كما لو زنى الصبي بصبية أو مكرهة يجب عليه المهر وهنا لا يجب أجيب بالفرق وهو أن الإيجاب عليه هنا لا فائدة فيه لأنا لو أوجبنا عليه لرجع ولي الصبي على المرأة لأنها لما طاوعته صارت آمرة له بالزنا معها وقد لحق الصبي غرم بذلك الأمر وصح الأمر منها لولايتها على نفسها فلا يفيد الإيجاب بخلاف ما لو كانت مكرهة أو صبية لا يرجع ولي الصبي على المرأة لعدم صحة أمرها لعدم ولايتها وفي المكرهة عدم الأمر أصلا فكان الإيجاب مفيدا وأما ايراد أن القاعدة أن كلما انتفى الحد عن الرجل انتفى عن المرأة وهي منقوضة بزنا المكره بالمطاوعة والمستأمن بالذمية والمسلمة فوروده بناء على كون هذه قاعدة وهو ممنوع بل الحكم في كل موضع بمقتضى الدليل فلا حاجة إلى الإيراد ثم تكلف الدفع قوله ومن أكرهه السلطان حتى زنى فلا حد عليه وكان أبو حنيفة أولا يقول يحد وهو قول زفر وهو قول أحمد لأن الزنا من الرجل لا يتصور إلا بعد انتشار الآلة وهذا آية الطواعية فاقترن بالإكراه ما ينفيه قبل تحقق الفعل المكره عليه بحيث كان حال فعله إياه غير مكره فبطل أثر الإكراه السابق ووجب الحد بخلاف إكراه المرأة على الزنا فإنه بالتمكين وليس مع التمكين دليل الطواعية فلا تحد إجماعا ثم رجع أبو حنيفة فقال لا يحد الرجل المكره ايضا لأن السبب الملجىء إلى الفعل قائم ظاهرا وهو قيام السيف ونحوه والانتشار لا يستلزم الطواعية بل هو محتمل له إذ يكون معه ويكون طبعا لقوة الفحولية وقد يكون لريح تسفل إلى الحجر حتى يوجد من النائم ولا قصد منه فلا يترك أثر اليقين وهو الإكراه إلى المحتمل فإن أكرهه غير السلطان حد عند أبي حنيفة لعدم تحقق الإكراه من غيره فكان مختارا في الزنا وكذا عند زفر وأحمد لأنه وإن تحقق الإكراه من غير السلطان عندهما لكن قال الانتشار دليل الطواعية فقالا يحد وقال أبو يوسف ومحمد لا يحد لتحقق الإكراه من غير السلطان والانتشار لا يستلزم الطواعية إلى آخر ما ذكرناه آنفا قال المشايخ وهذا اختلاف عصر وزمان ففي زمن أبي حنيفة ليس لغير السلطان من القوة مالا يمكن دفعه بالسلطان وفي زمنهما ظهرت القوة لكل متغلب فيفتى بقولهما وعليه مشى صاحب الهداية في الإكراه حيث قال والسلطان وغيره سيان عند تحقق القدرة على إيقاع ما توعد به قوله ومن قرأ أربع مرات الخ هذا على وجهين أحدهما أن يقر الرجل في اربعة مجالس أنه
____________________
(5/273)
زنى بفلانة حتى كان إقراره موجبا للحد وقالت هي بل تزوجني أو أقرت هي كذلك بالزنا مع فلان وقال الرجل بل تزوجتها لم يحد واحد منهما في الصورتين لأن دعوى النكاح تحتمل الصدق وبتقدير صدق مدعي النكاح منهما يكون النكاح ثابتا فلا حد وبتقدير كذبه لا نكاح فيجب الحد فلا يحد وعليه المهر في صورتي دعواه النكاح ودعواه الزنا وإن كانت المرأة في صورة دعواه النكاح معترفة بأن لا مهر لها لدعواها الزنا لأنه لما حكم الشرع بسقوط الحد عنها مع ثبوت الوطء باعترافهما به وإن اختلفا في جهته كانت مكذبة شرعا والوطء لا يخلو عن عقر أو عقر فلزم لها المهر وإن ردته إلا أن تبرئه منه واعلم أن وجوب المهر هو فيما إذا كانت الدعوى قبل أن يحد المقر فإن حد ثم ادعى الآخر النكاح لا مهر لأن الحد لا ينقض بعد الإقامة ثانيهما أن يقر أربعا كذلك أنه زنى بفلانة وقالت فلانة ما زنى بي ولا أعرفه أو أقرت هي بالزنا أربع مرات مع فلان وقال فلان ما زنيت بها ولا أعرفها لا يحد المقر بالزنا عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي وأحمد يحد المقر لأن الإقرار حجة في حق المقر وعدم ثبوت الزنا في حق غير المقر لا يورث شبهة العدم في حق المقر كما لو كانت غائبة وسماها ولأبي حنيفة أن الحد انتفى في حق المنكر بدليل موجب للنفي عنه فأورث شبهة الانتفاء في حق المقر لأن الزنا فعل واحد يتم بهما فإن تمكنت فيه شبهة تعدت إلى طرفيه وهذا لأنه ما أقر بالزنا مطلقا إنما أقر بالزنا بفلانة وقد درأ الشرع عن فلانة وهو عين ما أقر به فيندرىء عنه ضرورة بخلاف ما لو أطلق فقال زنيت فإنه وإن احتمل كذبه لكن لا موجب شرعي يدفعه وبخلاف ما لو كانت غائبة لأن الزنا لم ينتف في حقها بدليل يوجب النفي وهو الانكار حتى لو حضرت وأقرت أربعا حدت فظهر أن الغيبة ليست معتبرة بل الاعتبار للإنكار وعدم معرفته فإذا أنكرت ثبتت شبهة يدرأ بها الحد عنه وإذا لم يعلم إنكارها فلا شبهة فيحد فإن قيل ينبغي أن لا يجب الحد على الرجل في هذه الصورة عندهما كما في صورة دعوى النكاح لأن الحد لما سقط بإنكار وصف الفعل وهو الزنا كما في المسئلة السابقة بدعوى النكاح فإنكار أصل الفعل أولى قلنا خصا تلك المسئلة بوجوب الحد على الرجل لحديث سهل بن سعد فإنه روى أن رجلا أقر بالزنا أربعا بامرأة فأنكرت فحده رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود في شرح الطحاوي ولو لم تدع المرأة النكاح وأنكرت وادعت على الرجل القذف يحد حد القذف ولا يحد حد الزنا قوله ومن زنى بجارية فقتلها أي بفعل الزنا فإنه يحد وعليه قيمتها وإنما قيد بالجارية لتكون
____________________
(5/274)
صورة الخلاف فإنه لو زنى بحرة فقتلها يحد اتفاقا ويجب عليه الدية وقوله وعن أبي يوسف أنه لا يحد ذكره بلفظ عن ليفيد أنه ليس ظاهر المذهب عنه فإن محمدا لم يذكر فيها خلافه في الجامع الصغير وعادته إذا كان خلافه ثابتا ذكره وكذا الحاكم الشهيد لم يذكر في الكافي خلافا وإنما نقل الفقيه أبو الليث خلافه فقال ذكر أبو يوسف في الأمالي أن هذا قول أبي حنيفة خاصة وفي قول أبي يوسف لاحد عليه وحيث نقل قوله خاصة ذكره في المنظومة في باب قول أبي يوسف على خلاف قول أبي حنيفة ولا قول لمحمد فيها وقيل الأشبه كون قول محمد مثل قول ابي حنيفة وبه قال الشافعي وأحمد لأنه لو قال لاقول له بأن توقف لذكره وإنما قال أبو يوسف هذا قول أبي حنيفة خاصة لأن محمدا كان في عداد تلامذته فلم يعتبر ما قاله قولا ينقله هو وعلى كون الخلاف هكذا مشى المصنف حيث قال ولهما أنه ضمان قتل وجه قول أبي يوسف أنه لا يحد لأن تقرر ضمان القيمة على الزاني بسبب أن قتله سبب لملك الأمة وإذا ملكها قبل إقامة الحد سقط الحد كما لو ملك السارق والمسروق قبل القطع حيث يسقط بخلاف الحرة لأنها لا تملك بالضمان وعلى هذا قال فيما لو زنى بها ثم قتلها أو ملكها بالفداء بأن زنى بجارية جنت عليه فدفعت إليه بالجنابة أو بالشراء أو النكاح أنه لا يحد في ذلك كله وعند أبي حنيفة يحد في الكل وقال أبو يوسف بالدفع يثبت الملك مستندا وكذا إذا ملكها بالشراء أو النكاح لأن اعتراض سبب الملك قبل إقامة الحد يسقط الحد على ما ذكرنا ولأبي حنيفة أنه زنى وجنى فيؤاخذ بموجب كل من الفعلين ولا منافاة فيجمع بين الحد والضمان وكون الضمان يمنع الحد لاستلزامه الملك ممنوع لأن هذا ضمان دم حتى وجب في ثلاث سنين على العاقلة ولا تجب بالغة ما بلغت وهو لا يوجب ملكا لأن محل الملك المال والدم ليس بمال ثم تنزل فقال ما حاصله إنه لو فرض أن الضمان يوجب الملك لكان يوجبه في العين القائمة لأنه يثبت بطريق الاستناد والاستناد إنما يظهر في القائم دون الفائت ومنافع البضع التي استوفيت فائتة وليس محلها وهو العين قائما ليثبت شبهة قيام المنافع فتثبت شبهة ملكها فلم يظهر الملك فيها ولا شبهته فلم يكن كالمسروق ولم يفد
____________________
(5/275)
الملك المسبب عن الضمان ملك تلك المنافع ليسقط الحد بخلاف السرقة فإن شرط إقامة حد السرقة الخصومة وبالهبة انقطعت بخلاف حد الزنا فبطل القياس ومآل هذا التقرير إلى أن الثابت بهذا الضمان شبهة شبهة ملك تلك المنافع لأن الثابت شبهة ملك العين لا حقيقته وبحقيقته تثبت شبهة ملك المنافع فإذا كان الثابت شبهة ملك العين فهو شبهة شبهة ملك المنافع وشبهة الشبهة غير معتبرة وحاصل التقرير أن أبا يوسف أثبت شبهة ملك المنافع المستوفاة ونحن نفيناه وليس أحد يثبت بالضمان حقيقة ملك المنافع وعلى الوجه الذي قررناه بقليل تأمل يظهر ما في تقرير المصنف للتنزل من التساهل وبالوجه الذي قررناه يتضح حسن اتصال قوله بخلاف ما إذا زنى بها فأذهب عينها حيث يجب عليه قيمتها ويسقط به الحد لأن الملك ثمة يثبت في الجنة العمياء وهي عين فأورث شبهة أي في ملك المنافع تبعا فيندرىء عنها الحد أما ههنا فالعين فائتة بالقتل فلا تملك بعد الموت ولا يقال هذا التمليك بطريق الاستناد فلا يضره انتفاء المملوك لأنا نقول المستند يثبت أولا ثم يستند فاستدعى ثبوت المحل حال الأولية وهو منتف وثمرته أن الثابت في المنافع شبهة على ما ذكرنا فإن قيل ينبغي أن لا يجب الحد ولو تم
____________________
(5/276)
ملك المقتول لأن بعض القيمة لا بد أن يصير بإزاء منافع البضع التي يجب الحد لأجلها فيجب أن لا يحد وإلا وجب ضمانان بإزاء مضمون واحد أجيب بأنه لما لم يوضع الفعل للقتل كان أوله كجراحة اندملت ثم حدث القتل فكان الضمان كله بإزائه وفي الفوائد الظهيرية لو غصبها ثم زنى بها ثم ضمن قيمتها فلا حد عليه عندهم جميعا خلافا للشافعي أما لو زنى بها ثم غصبها وضمن قيمتها لم يسقط الحد وفي جامع قاضيخان لو زنى بحرة ثم نكحها لا يسقط الحد بالاتفاق قوله وكل شيء فعله الإمام الذي ليس فوقه إمام مما يجب به الحد كالزنا والشرب والقذف والسرقة لا يؤاخذ به إلا القصاص والمال فإنه إذا قتل إنسانا أو أتلف مال إنسان يؤاخذ به لأن الحد حق الله تعالى وهو المكلف بإقامته وتعذر إقامته على نفسه لأن إقامته بطريق الخزي والنكال ولا يفعل أحد ذلك بنفسه ولا ولاية لأحد عليه ليستوفيه وفائدة الإيجاب الاستيفاء فإذا تعذر لم يجب بخلاف حقوق العباد كالقصاص وضمان المتلفات لأن حق استيفائها لمن له الحق فيكون الإمام فيه كغيره وإن احتاج إلى المنعة فالمسلمون منعته فيقدر بهم على الاستيفاء فكان الوجوب مفيدا والمغلب في حد القذف حق الشرع فكان كبقية الحدود وبهذا يعلم أنه يجوز استيفاء القصاص بدون قضاء القاضي والقضاء لتمكين الولي من استيفائه لا أنه شرط وأورد عليه ما المانع من أن يولي غيره الحكم فيه بما يثبت عنده كما في الأموال غير أنه إذا صحت هذه الاستنابة فوجب عليه حق للعبد استوفاه العبد أو حق لله استوفاه ذلك النائب وقيل لا مخلص إلا إن ادعى أن قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما يفهم أن المخاطب فيه بالجلد الإمام أن يجلد غيره والله أعلم وقد يقال أين دليل إيجاب الاستنابه والله سبحانه أعلم
____________________
(5/277)
& باب الشهادة على الزنا والرجوع عنها قدم أن الحد يثبت بالبينة والإقرار وقدم كيفية الثبوت بالإقرار لأن وجود ماثبت منه بالبينة بالنسبة إلى ما ثبت بالإقرار أندر نادر لضيق شروطه المقتضى لإعدامه وهو أن يرى ذكر الرجل في فرجها كالميل في المكحلة وأيضا لم يثبت قط الزنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وابي بكر وعمر وعثمان وعلى بالبينة فإنهم كلهم لم يحدوا إلا بالإقرار فقدم ما يكثر وجوده وما كان الثبوت به عنده علي الصلاة والسلام وعند الصحابة رضي الله عنهم قوله وإذا شهد الشهود بحد متقادم لم يمنعهم عن إقامته بعدهم عن الإمام لم تقبل شهادتهم إلا في حد القذف خاصة فقوله متقادم إسناده في الحقيقة إلى ضمير السبب أي متقادم سببه وهو الزنا مثلا وهو المشهود به وقوله شهدوا بحد تساهل فإنهم إنما يشهدون بسبب الحد والتقادم صفة له في الحقيقة وقوله لم يمنعهم الخ جملة في محل جر لأنها صفة للنكرة وهي حد والفاعل بعدهم ولا شك أنه لا يتعين البعد عذرا بل يجب أن يكون كل من نحو مرض أو خوف طريق ولو من بعد يومين ونحوه من الأعذار التي يظهر أنها مانعة من المسارعة ثم ذكر عبارة الجامع الصغير لاشتمالها على زيادات مفيدة وهي قوله وإذا شهد عليه الشهود بسرقة أو بشرب خمر أو بزنا بعد حين لم يؤخذ به وضمن السرقة ثم قال فإن أقر هو بعد حين بذلك أخذ به إلا الشرب فإنه لا يؤخذ بذلك في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد يؤخذ به كما يؤخذ بالسرقة والزنا ولا يخفى ما اشتمل عليه من الزيادات قال المصنف وغيره والأصل فيه أن الحدود الخالصة حقا لله تعالى تبطل بالتقادم
____________________
(5/278)
خلافا للشافعي وفي العبارة تساهل مشهور فإن الذي يبطل بالتقادم الشهادة بأسبابها ثم لا يجب الحد على الإمام من الأصل لعدم الموجب والحاصل أن في الشهادة بالحدود القديمة والإقرار بها أربعة مذاهب الأول رد الشهادة بها وقبول الإقرار بما سوى الشرب وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف الثاني ردها وقبول الإقرار حتى بالشرب القديم كالزنا والسرقة وهو قول محمد بن الحسن الثالث قبولهما وهو قول الشافعي ومالك وأحمد الرابع ردهما نقل عن ابن أبي ليلى ولم يقل أحد بقلب قول محمد واستدل للشافعي والآخرين بإلحاقه بالإقرار لأنهما حجتان شرعيتان يثبت بكل منهما الحد فكما لا يبطل الإقرار بالتقادم كذا الشهادة وبحقوق العباد ولنا وهو الفرق أن الشهادة بعد التقادم شهادة متهم وشهادة المتهم مردودة أما الكبرى فلقوله عليه الصلاة والسلام لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين أي متهم وذكر محمد عن عمر رضي الله عنه في الأصل أنه قال أيما شهود شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته فإنما شهدوا على ضغن فلا شهادة لهم وأما الصغرى فلأن الشاهد بسبب الحد مأمور بأحد أمرين الستر احتسابا لقوله عليه الصلاة والسلام من ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة مع ما قدمنا من الحديث في ذلك أو الشهادة به احتسابا لمقصد إخلاء العالم عن الفساد للانزجار بالحد فأحد الأمرين واجب مخير عل الفور كخصال الكفارة لأن كلا من الستر وأخلاء العالم عن الفساد لا يتصور فيه طلبه على التراخي فإذا شهد بعد التقادم لزمه الحكم عليه بأحد الأمرين إما الفسق وإما تهمة العداوة لأنه إن حمل على أنه من الأصل اختار الأداء وعدم الستر ثم أخره لزم الأول أو على أنه أختار الستر ثم شهد لزم الثاني وذلك أنه سقط عنه الواجب باختيار أحدهما فانصرافه بعد ذلك إلى الشهادة موضع ظن أنه حركه حدوث عداوة بخلاف الإقرار بالزنا والسرقة لا يتحقق فيه أحد الأمرين من الفسق وهو ظاهر ولا التهمة إذ الإنسان لا يعادى نفسه فلا يبطل بالتقادم إذ لم يوجب تحقق تهمة وبخلاف حقوق العباد لأن الدعوى شرط فيها فتأخير الشاهد لتأخير الدعوى لا يلزم منه فسق ولا تهمة وفي القذف حق العبد فتوقف على الدعوى كغيره فلم يبطل بالتقادم فإن قيل لو كان اشتراط الدعوى مانعا من الرد بالتقادم لزم في السرقة أن لا ترد الشهادة بها عند التقادم لاشتراط الدعوى فيها لكنها ترد أجاب أولا بما حاصله أن السرقة فيها أمران الحد والمال فما يرجع إلى الحد لاتشترط فيه الدعوى لأنه خالص حق الله تعالى وباعتبار المال تشترط والشهادة بالسرقة لا تخلص لأحدهما بل لا تنفك عن الأمرين فاشترطت الدعوى للزوم المال لا للزوم الحد ولذا يثبت المال بها بعد التقادم لأنه لا يبطل به ولا نقطعه لأن الحد يبطل به ويدل على تحقق الأمرين فيها أنه إذا شهدوا بها على إنسان والمدعي غائب وهو صاحب المال يحبس المشهود عليه حتى يحضر المدعى لما فيه من حق الله تعالى وفي القذف لا يحبس المشهود عليه به حتى يحضر المدعى كما في حقوق العباد الخالصة وإنما لا يقطع قبل حضوره لاحتمال أن يكون سرق ملكه الذي كان عنده أو ملكه إياه فلا بد من تضمن الشهادة بالسرقة الشهادة بملك المسروق منه والشهادة بالملك لإنسان يتوقف قبولها على حضور المشهود له بالملك ودعواه فإذا أخر رددناه في حق الحد لا المال بل ألزمناه المال بخلاف ما إذا قال زنيت بفلانة أو قلبه وهي غائبة لا يدري جوابها يحد ولا يستأني بالحد لأن الثابت هناك شبهة الشبهة ولا تعتبر وفي السرقة لا تثبت
____________________
(5/279)
أصلا إلا بثبوت المال ولا يثبت المال بالشهادة إلا بالدعوى وإنما يحبس للتهمة كما تقدم ولأن الثابت في غيبة المسروق منه الشبهة لأن الثابت احتمال أن يقول هو ملكه وقوله هو ملكه ليس شبهة بل حقيقة المبرىء بخلاف دعواها النكاح مثلا لو حضرت لأنه نفس الشبهة فاحتماله شبهة الشبهة والله أعلم وأجاب ثانيا بأن بطلان الشهادة بالتقادم لما كان للتهمة في حقوق الله سبحانه فأقيم التقادم في حقوق الله مقامها فلا ينظر بعد ذلك إلى وجود التهمة وعدمها كالرخصة لما كانت للمشقة وهي غير منضبطة أدير على السفر فلم يلاحظ بعد ذلك وجودها ولا عدمها فترد بالتقادم ولا يخفى أن رد الشهادة بالتقادم ليس إلا للتهمة ومحل التهمة ظاهر يدركه كل أحد فلا يحتاج إلى إناطته بمجرد كونه حقا لله تعالى ولا يصح تشبيهه بالمشقة مع السفر لأن المشقة أمر خفي غير منضبط فلا تمكن الإناطة به فنيط بما هو منضبط فالعدول للحاجة للانضباط ولا حاجة فيما نحن فيه فإن قلت فظاهر انتفاء التهمة مع رد الشهادة في حق الحد فيما لو علم المدعي بالسرقة فلم يدع إلا بعد حين فشهدوا فإنه لا تهمة بتأخيرهم ومع هذا لا يقطع بل يضمن المال فالجواب أن ما كان فيه تهمة فالرد يضاف إليها وما لم يكن فإلى المدعي على ما قال قاضيخان إنما لا تقبل في السرقة بعد التقادم لا لتهمة في الشهود لأن الدعوى شرط القبول بل لخلل في الدعوى فإن صاحب المال كان مخيرا في الابتداء فإذا أخر فقد اختار الستر فلم يبق له حق دعوى السرقة والحد بل بقي له حتى دعوى المال فقط فيقضي بالمال دون القطع كما لو شهد رجل وامرأتان على السرقة يقضي
____________________
(5/280)
بالمال دون القطع اه فيجعل هذا الاعتبار فيما إذا كان تأخير الشهود الشهادة لتأخير الدعوى بعد علم صاحب المال بالسرقة أما لو أخروا لا لتأخير المسروق منه الدعوى بعد علمه وعلمهم بعلمه بإعلامهم أو بغيره ثم شهدوا فالوجه الأخير وهو قوله ولأن السرقة تقام على الاستسرار على غرة من المالك فيجب على الشاهد إعلامه وبالكتمان يصير فاسقا آثما يقتضي أن ترد في حق المال أيضا للفسق ولكن ما ذكر من أنهم إذا شهدوا بعد التقادم تثبت التهمة المانعة عن قبول الهشادة فلا تقبل في حق الحد لكن السارق يضمن السرقة لأن وجوب المال لا يبطل بالتقادم بإطلاقه يقتضي فيما إذا لم يكن التأخير لعدم تأخير الدعوى بعد علمه فهو مشكل على الوجه المذكور قوله ثم التقادم كما يمنع قبول الشهادة في الابتداء يمنع الإقامة بعد القضاء عندنا خلافا لزفر حتى لو هرب بعد ما ضرب بعض الحد ثم أخذ بعد ما تقادم الزمان لا يقام عليه وقول زفر هو قول الائمة الثلاثة لأن التأخير بعذر هربه وقد زال العذر ولنا أن الإمضاء أي الاستيفاء من القضاء بحقوق الله تعالى بخلاف حقوق غيره وهذا لأن الثابت في نفس الأمر استنابته تعالى الحاكم في استيفاء حقه إذا ثبت عنده بلا شبهة فكان الاستيفاء من تتمة القضاء أو هو هو هنا إذ لم يحتج إلى التلفظ بلفظ القضاء حتى جاز له الاستيفاء من غير تلفظ به بخلافه في حقوق غيره تعالى فإنه فيها لإعلام من له الحق بحقية حقه وتمكينه من استيفائه والله سبحانه مستغن عنهما فإنما هو في حقوقه تعالى استيفاؤها وإذا كان كذلك كان قيام الشهادة شرطا حال الاستيفاء كما هو شرط حال القضاء بحق غيره إجماعا وبالتقادم لم تبق الشهادة فلا يصح هذا القضاء الذي هو الاستيفاء فانتفى وهذا رد المختلف إلى المختلف فإن كون قيام الشهادة وقت القضاء شرطا صحيح لكن الكلام في معنى قيامها فعندهم مالم يطرأ ما ينقضها من الرجوع هي قائمة حتى لو شهدوا ثم غابوا أو ماتوا جاز الحكم بشهادتهم وعندنا قيامها بقيامهم على الأهلية والحضور ثم قد يقال لو سلم ترجح هذا لكن التقادم إنما يبطل في ابتداء الأداء للتهمة وقد وجدت الشهادة بلا تقادم ووقعت صحيحة موجبة فاتفاق تقادم السبب بلا توان منهما لا يبطل الواقع صحيحا ولو قلنا إن ردها أنيط بالتقادم فلم يلتفت إلى التهمة بعد ذلك يجب كونه
____________________
(5/281)
أنيط بتقادم عن توان من الشاهدين وإلا فممنوع ونذكر فيما يلي هذه القولة ما فيه زيادة إن شاء الله تعالى قوله واختلفوا في حد التقادم وأشار محمد في الجامع الصغير إلى أنه ستة أشهر حيث قال شهدوا بعد حين وقد جعلوه عند عدم النية ستة أشهر على ما تقدم في الأيمان إذا حلف لا يكلمه حينا وأبو حنيفة لم يقدره قال أبو يوسف جهدنا بأبي حنيفة أن يقدره لنا فلم يفعل وفوضه إلى رأي القاضي في كل عصر فما يراه بعد مجانبة الهوى تفريطا تقادم وما لا يعد تفريطا غير تقادم وأحوال الشهود والناس والعرف تختلف في ذلك فإنما يوقف عليه بنظر نظر في كل واقعة فيها تأخير فنصب المقادير بالرأي متعذر وعن محمد أنه قدره بشهر لأن ما دونه عاجل على ما في مسئلة الحلف ليقضين دينه عاجلا فقضاه فميا دون الشهر لا يحنث وبعده يحنث وهو رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف وهو الأصح ومأخذ هذه الرواية مما في المجرد قال أبو حنيفة لو سأل القاضي الشهود متى زنى بها فقالوا منذ أقل من شهر أقيم الحد وإن قالوا شهر أو أكثر درىء عنه قال أبو العباس الناطفي فقدره على هذه الرواية بشهر وهو قول لأبي يوسف ومحمد وهذا أعنى كون الشهر فصاعدا يمنع قبولها إذا لم يكن بينهم وبين القاضي مسيرة شهر أما إذا كان تقبل شهادتهم بعد الشهر لأن المانع بعدهم عن الإمام فلا تتحقق التهمة
____________________
(5/282)
فقد نظر في هذا التقادم إلى تحقق التهمة فيه وعدمه وهو يخالف ما ذكره من قريب أنه بعد ما أنيط بالتقادم لا يراعي وجود التهمة في كل فرد إلا أن يقال إذا كان المانع البعد أو المرض ونحوه من الموانع الحسية والمعنوية حتى تقادم لم يكن ذلك التقادم المناط به بل هو مالم يكن معه هذه الموانع من الشهادة ويجاب بأن هذا رجوع في المعنى إلى اعتبار التقادم المناط به ما يلزمه أحد الأمرين من الفسق والتهمة ثم هذا التقادم المقدر بشهر بالاتفاق في غير شرب الخمر أما فيه فكذلك عند محمد وعندهما يقدر بزوال الرائحة فلو شهدوا عليه بالشرب بعدها لم تقبل عندهما وستأتي هذه المسئلة إن شاء الله تعالى قوله وإذا شهدوا على رجل أنه زنى بفلانة وهي غائبة فإنه يحد أجمع الائمة الأربعة عليه وكذا لو أقر بالزنا بغائبة يحد الرجل بإجماعهم لحديث ماعز فإنه أقر بغائبة على ما تقدم ذكره ورحمه عليه الصلاة والسلام ونقل أبو الليث عن أبي حنيفة أنه كان يقول أولا لا يحد حتى تحضر المرأة لاحتمال أن تحضر فتدعى ما يسقط الحد من نكاح مثلا ونحوه ثم رجع إلى قول الكل وسيظهر وجه بطلان القول الأول وإن شهدوا أنه سرق من فلان وهو غائب لم يقطع والفرق أن بالغيبة تنعدم الدعوى والدعوى شرط في السرقة للعمل بالبينة لأن الشهادة بالسرقة تتضمن الشهادة بملك المسروق للمسروق منه والشهادة للمرء على المرء لا تقبل بلا دعوى وليست شرطا لثبوت الزنا عند القاضي وطولب بالفرق بين القصاص إذا كان بين شريكين وأحدهما غائب ليس للحاضر استيفاؤه لجواز أن يحضر فيقر بالعفو وبين الشهادة بزنا الغائبة فإن الثابت في كل منهما شبهة الشبهة أجيب بالمنع بل الثابت في صورة القصاص نفس الشبهة وهي احتمال العفو فإن العفو ليس شبهة بل حقيقة المسقط فاحتماله هو الشبهة وإنما تكون شبهة الشبهة لو كان العفو نفسه شبهة فيكون احتماله شبهة الشبهة بخلاف الغائبة فإن نفس دعواها النكاح مثلا شبهة فاحتمال دعواها ذلك شبهة الشبهة واعتبارها باطل إلا أدى إلى نفي كل حد فإن ثبوته بالبينة أو الإقرار والذي يثبت به يحتمل أن يرجع عنه وكذا الشهود يحتمل أن يرجعوا فلو اعتبرت شبهة الشبهة انتفى كل حد وجه أنه شبهة الشبهة أن نفس رجوع المقر والشاهد شبهة لأنه
____________________
(5/283)
يحتمل كذبه في الرجوع فاحتمال الرجوع شبهة الشبهة قوله وإن شهدوا أنه زنى بامرأة لا يعرفونها لم يحد لأن الظاهر أنها امرأته أو أمته فلو قال المشهود عليه المرأة التي رأيتموها معي ليست زوجتي ولا أمتي لم يحد أيضا لأن الشهادة وقعت غير موجبة للحد وهذا اللفظ منه ليس إقرارا موجبا للحد فلا يحد وأما ما قيل ولو كان إقرار فبمرة لا يقام الحد يقتضي أنه لو قال أربعا حد وليس كذلك وإن أقر أنه زنى بامرأة لا يعرفها حد لأنه لا تشتبه عليه امرأته فإن قيل قد تشتبه عليه بأن لم تزف إليه قلنا الإنسان كما لا يقر على نفسه كاذبا لا يقر على نفسه حال الاشتباه فلما أقر بالزنا كان فرع علمه أنها لاتشتبه عليه بزوجته التي لم تزف وصار معنى قوله لم أعرفها أي باسمها ونسبها ولكن علمت أنها أجنبية فكان هذا كالمنصوص عليه بخلاف الشاهد فإنه يجوز أن يشهد على من يشتبه عليه فكان قوله لا يعرفها ليس موجبا للحد قوله وإن شهد اثنان حاصلها أنه شهد أربعة على رجل أنه زنى بفلانة إلا أن رجلين قالا استكرهها وآخرين قالا طاوعته فعند أبي حنيفة يندرىء الحد عنهما وهو قول زفر والائمة الثلاثة وقالا يحد الرجل خاصة لاتفاقهم أي الشهود الأربعة على الموجب للحد عليه كذا في بعض النسخ وهو الأحسن وفي غالبها لاتفاقهما أي الفريقين وعليه قوله وتفرد أحدهما بزيادة جناية أي تفرد أحد الفريقين بزيادة جناية منه هي الإكراه وهو لا يوجب التخفيف عنه بخلاف جانبها لأن طواعيتها شرط وجوب الحد عليها ولم يثبت إذ قد اختلفوا فيه وتعارضوا فعدم الوجوب عليها لمعنى غير مشترك فلا يسقط عنه كما لو زنا بصغيرة مشتهاة أو مجنونة ولأبي حنيفة أنه قد اختلف المشهود عليه قرره في النهاية على ظاهره فقال اختلف المشهود عليه فإن المشهود عليه اثنان على تقدير وهو ما إذا كانت طائعة لأن الفعل أي الزنا يكون مشتركا بينهما وكل منهما مباشر له فكانا مشهودا عليهما فيجب الحدان وواحد على تقدير وهو ما إذا كانت مكرهة
____________________
(5/284)
فإن الرجل هو المنفرد بالفعل فيجب حد واحد فكان المشهود عليه واحدا لأن الإكراه يخرج المرأة من أن تكون فاعلة للزنا حكما ولهذا لا تأثم بالتمكين مكرهة فاختلاف الفعل المشهود به أورث اختلاف المشهود عليه واختلاف الفعل من أقوى الشبهة أه ولا يخفي أن المؤثر في إسقاطه عن الرجل ليس إلا اختلاف الفعل المشهود به فإنه هو المستقل بذلك فكونه يستلزم الشهادة على اثنين أو واحد لا يؤثر في الحكم لأن حاصل ذلك أن الرجل مشهود عليه بنصاب الشهادة عل كل حال وهو الموجب لحده عندهما ولا فائدة لأبي حنيفة في إيراد هذا الكلام بل الذي يفيده اختلاف الفعل المشهود به فاشتغاله بزيادة كلام لا أثر له ولا يفيد في المقصود فائدة بعيد وكونه على تقدير آخر مشهودا عليها معه والفرض أن ذلك التقدير وهو طواعيتها غير ثابت فإنما هو أمر مفروض فرضا لا فائدة فيه أصلا ولذا حمل شارح لفظة عليه على به وعليه اقتصر في الكافي فقال وله أن المشهود به اختلف وليس على أحدهما أي على أحد الوجهين اللذين بهما الاختلاف نصاب الشهادة فلا يجب شيء وهذا لأن الزنا فعل واحد يقوم بهما وقد اختلف في جانبها فيكون مختلفا في جانبه ضرورة يعني أن الزنا بطائعة غير الزنا بمكرهة وشهادتهم بزنا دخل في الوجود والشاهدان بزناه بطائعة ينفيان زناه بمكرهة والآخران ينفيان زناه بطائعة فلم يتحقق على خصوص الزنا المتحقق في الخارج شهادة أربعة وقول المصنف يقوم بهما لا يريد قيام العرض بعد فرض أنه واحد بالشخص بل أنه يتحقق قيامه أي وجوده بهما قوله ولأن شاهدي الطواعية لما اندرأ الحد عنها صارا قاذفين لها بالزنا فصارا خصمين لها ولا شهادة للخصم وكان مقتضاه أن حدا حد القذف لكن سقط بشهادة الآخرين بزناه مكرهة فإن الزنا مكرها يسقط الإحصان في حد القذف والإحصان يثبت بشهادة اثنين فلما سقطت شهادتهما في حقها سقطت في حقه بناء على اتحاد الفعل فصار على زناه شاهدان فلا يحد وهذا الاعتذار في سقوط حد القذف يحتاج إليه عندهما على ما ذكر في جامع شمس الائمة حيث قال لم يجب حد القذف على الشهود عند أبي حنيفة لأنهم اتفقوا على النسبة إلى الزنا بلفظة الشهادة وذلك مخرج لكلامهم عن كونه قذفا كما في المسئلة التي تلى هذه واما عندهما فلأن شاهدي الطواعية صارا قاذفين لها لكن شاهدي الإكراه أسقطاه إلى آخر ما ذكرنا قوله وإن شهد اثنان الخ أي شهد أربعة على رجل بالزنا اثنان منهم شهدا أنه زنى بها بالكوفة والآخران يشهدان أنه زنى بها بالبصرة درىء الحد عنهما جميعا لأن المشهود به فعل الزنا وقد اختلف باختلاف المكان لأن الزنا بالكوفة ليس هو الزنا بالبصرة ولم يتم على كل واحد منهما نصاب الشهادة وهو شهادة أربعة ولا يحد الشهود
____________________
(5/285)
للقذف وفيه خلاف زفر فعنده يحدون للقذف وهو قول الشافعي لأن العدد لما لم يتكامل بكل زنا صاروا قذفة كما لو كانوا ثلاثة شهدوا به فإنهم يحدون قلنا كلامهم وقع شهادة لوجود شرائطها من الأهلية ولفظة الشهادة وتم العدد في حق المشهود عليه فإن شبهة الاتحاد في نسبة الزنا لامرأة واحدة وصيغة الشهادة ثابتة وبذلك حصل شبهة اتحاد الزنا المشهود به فيندرىء الحد عنهم والحاصل أن في الزنا شبهة أوجبت الدرء عن المشهود عليه وفي القذف شبهة أوجبت الدرء عن الشهود قال قاضيخان وكلامنا أظهر لقوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم وقد وجد الإتيان بأربعة قوله وإن اختلفوا في بيت واحد حد الرجل والمرأة ومعناه أن يشهد كل اثنين على الزنا في زاوية وهذا أعنى حد الرجل والمرأة مع هذا الاختلاف استحسان والقياس أن لا يحدوا لاختلاف المكان حقيقة وبه يختلف الفعل المشهود به فتصير كالتي قبلها من البلدين والدارين والقياس قول الزفر والشافعي ومالك وجه الاستحسان أنهم اتفقوا على فعل واحد حيث نسبوه إلى بيت واحد صغير إذ الكلام فيه بخلاف الكبير وبعد ذلك تعيينهم زواياه واختلافهم فيها لا يوجب تعدد الفعل لأن البيت إذا
____________________
(5/286)
كان صغيرا والفعل وسطه فكل من كان في جهة يظن أنه إليه أقرب فيقول إنه في الزواية التي تليه بخلاف الكبير فإنه لا يحتمل هذا فكان كالدارين فكان اختلافهم صورة لا حقيقة أو حقيقة والفعل واحد بأن كان ابتداء الفعل في زاوية ثم صار إلى أخرى بتحركهما عند الفعل وأما ما قيل فإنهم اختلفوا فيما لم يكلفوا نقله فليس بجيد لأن ذلك أيضا قائم في البلدتين نعم إنما هم مكلفون بأن يقولوا مثلا في دار الإسلام فالوجه ما اقتصرنا عليه فإن قيل هذا توفيق لإقامة الحد وهو احتياط في الإقامة والواجب درؤه أجيب بأن التوفيق مشروع صيانة للقضاء عن التعطيل فإنه لو شهد أربعة على رجل بالزنا بفلانة قبلوا مع احتمال شهادة كل منهم على زناها في غير الوقت وقبوله مبنى على اعتبار شهادة كل منهم على نفس الزنا الذي شهد به الاخر وإن لم ينص عليه في شهادته فإن قيل الاختلاف في مسئلتنا منصوص عليه وفي هذه مسكوت عنه أجيب بأن التوفيق مشروع في كل من الاختلاف المنصوص والمسكوت ومن الأول ما إذا اختلفوا في الطول والقصر أو في السمن والهزال أو في أنها بيضاء أو سمراء أو عليها ثوب أحمر أو أسود تقبل في كل ذلك وقد استشكل على هذا مذهب أبي حنيفة فيما إذا شهدوا فاختلفوا في الإكراه والطواعية فإن هذا التوفيق ممكن بأن يكون ابتداء الفعل كرها وانتهاؤه طواعية قال في الكافي يمكن أن يجاب عنه بأن ابتداء الفعل كرها إذا كان عن إكراه لا يوجب الحد فبالنظر إلى الابتداء لا يجب وبالنظر إلى الانتهاء يجب فلا يجب بالشك وهنا بالنظر إلى الزوايتين يجب فافترقا قوله ولو شهد أربعة أنه زنى بامرأة عند طلوع الشمس بالنخيلة بالنون والخاء المعجمة تصغير نخلة مكان بظاهر الكوفة وقد يقال بجيلة بالباء منهم أما عنهما فللتيقن بكذب أحد الفريقين غير عين إذ الإنسان لا يتصور منه الزنا في ساعة واحدة في مكانين متباعدين فلا يجب حدهما بالشك وأما في الشهود فللتيقن بصدق أحد الفريقين فلا يحدون بالشك فلو كان المكانان متقاربين جازت شهادتهم لأنه يصح كون الأمرين فيهما في ذلك الوقت لأن طلوع الشمس يقال لوقت ممتد امتدادا عرفيا إلا أنه يخص أن ظهورها من الأفق ويحتمل تكرار الفعل ودير هند دير بظاهر الكوفة وهند إمارته على الكوفة فقالت والصليب ما في رغبة لجمال ولا كثرة مال إنما أراد أن يفتخر بنكاحي فيقول نكحت بنت النعمان بن المنذر وإلا فأي رغبة لشيخ أعور في عجوز عمياء فصدقها المغيرة وقال في ذلك ** أدركت مامنيت نفسي خاليا ** لله درك يا ابنة النعمان ** ** فلقد رددت على المغيرة دهية ** إن الملوك ذكية الأذهان **
____________________
(5/287)
** إني لحلفك بالصليب مصدق ** والصلب أصدق حلفة الرهبان **
وكانت بعد ذلك تدخل عليه ويسألها فسآلها يوما عن حالها فقالت ** فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ** إذا نحن فيهم سوقة ننتصف ** ** فأف لدينا لا يدوم نعيمها ** تقلب تارات بنا وتصرف **
ذكر هذا ابن الشجري في أماليه على القصيدة المنازلة للشريف الرضي التي أولها ** ما زلت أطرق المنازل باللوى ** حتى نزلت منازل النعمان **
عند قوله ** ولقد رأيت بدير هند منزلا ** ألما من الضراء والحدثان ** ** أغضى كمستمع الهوان تغيبت ** أنصاره وخلا عن الأعوان ** ** بالى المعالم أطرقت شرفاته ** إطراق منجذب القرينة عان ** ** وذكرت مسحبها الرياط بجوه ** من قبل بيع زمانها بزمان ** وبما ترد على المغيرة دهيه ** نزع النوار بطيئة الإذعان **
والنوار من النساء التي تنفر من الريبة يقال نارت المرأة تنور نورا إذا نفرت عن القبيح قوله وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وهي بكر بأن نظر النساء إليها فقلن هي بكر درىء الحد عنهما أي عن المشهود عليهما بالزنا وعنهم أي ويدرأ حد القذف عن الشهود وهو أحد قولى الشافعي وأحمد وعند مالك تحد المرأة والرجل أما الدرء عنهما فلظهور كذب الشهود إذ لا بكارة مع الزنا وقول النساء حجة فيما لا يطلع عليه الرجال فتثبت بكارتها بشهادتهن ومن ضرورته سقوط الحد والوجه أن يقال إن لم تعارض شهادتهن شهادتهم تثبت بشهادتهن بكارتها وهو لا يستلزم عدم الزنا لجواز أن تعود العذرة لعدم المبالغة في إزالتها فلا يعارض شهادة الزنا فينبغي أن لا يسقط الحد وإن عارضت بأن لا يتحقق عود العذرة يجب أن تبطل شهادتهن لأنها لا تقوى قوة شهادتهم قلنا سواء انتهضت معارضة أولا لا بد أن تورث شبهة بها يندرىء ولذا يسقط بقولهن هي رتقاء أو قرناء ويقل في ذلك قول امرأة واحدة وأما عن الشهود فلتكامل عددهم في الشهادة على الزنا وإنما امتنع الحد بشهادتهم لقولهن فقولهن حجة في إسقاط الحد لا في إيجابه والحاصل أنه لم يقطع بكذبهم لجواز صدقهم وتكون العذرة قد عادت لعدم المبالغة في إزالتها بالزنا أو لكذبهن قوله وإن شهد أربعة على رجل الزنا وهم عميان أو محدودون في قذف أو أحدهم عبد أو محدود في قذف يحد الشهود ولا يحد المشهود عليه الأصل أن الشهود باعتبار التحمل والأداء أنواع
____________________
(5/288)
أهل للتحمل والأداء على وجه الكمال وهو الحر البالغ العاقل العدل وأهل لهما على وجه القصور كالفساق لتهمة الكذب ومقابل القسمين ليس أهلا للتحمل ولا للأداء وهم العبيد والصبيان والمجانين والكفار وأهل للتحمل لا الأداء كالمحدودين في قذف والعميان فالأول يحكم بشهادته وتثبت الحقوق بها والثاني يجب التوقف فيها ليظهر صدقه أو لا فلا والثالث لا شهادة له أصلا حتى لم يعتبر فيما لم يعتبر للأداء فلا يصح النكاح بحضورهما وشهادتهما والرابع يعتبر في هذا فصح النكاح بحضور العميان والقذفة ولو شهدوا بعد ذلك لم تقبل إذا عرف هذا ففي المسئلة المذكور عدم الحد للزنا ظاهر لأنه لا يثبت بشهادة هؤلاء أي العميان والمحدودين في القذف ما يثبت مع الشبهات كالمال فكيف يثبت بها ما لا يثبت معها من الحدود وهذا لأن العميان والمحدودين ليسوا أهلا للأداء والعبد ليس أهلا للتحمل أيضا فلم يثبت بشهادتهم شبهة الزنا لأن الزنا يثبت بالأداء فصاروا قذفة فيحدون بخلاف الفساق إذا شهد أربعة منهم على الزنا لا يحدون وإن لم يقبلوا لأنهم أهل للأداء مع قصور حتى لو حكم حاكم بشهادة الفساق نفذ غير أنه لا يحل له ذلك فاحتطنا في الحد فسقط عن المشهود عليه لعدم الثبوت وعن الشهود لثبوت شبهة الثبوت ويأتي فيه خلاف الشافعي بناء على اصله أن الفاسق ليس من أهل الشهادة وكذا قال أحمد في رواية عنه قوله وإن نقص عدد الشهود عن أربعة بأن كانوا ثلاثة فأقل حدوا حد القذف يعنى إذا طلب المشهود عليه بالزنا ذلك لأنه حقه فتوقف على طلبه وهذه إجماعية لقوله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } وحين شهد على المغيرة رضي الله عنه وأبو بكر ونافع بن علقمة وشبل بن معبد ولم تكمل بشهادة زياد حد عمر رضي الله عنه الثلاثة الشهود بمحضر من الصحابة فكان إجماعا
____________________
(5/289)
والأربعة إخوة لم واسم أمهم سمية وأما وجهه من جهة المعنى فلأن اللفظ لا شك في أنه قذف وإنما يخرج عن حكم القذف إذا اعتبر شهادة ولا يعتبر شهادة إلا إذا كانوا نصابا قوله وإن شهد أربعة على رجل بالزنا فضرب بشهادتهم الخ حاصلها أنه إذا حد بشهادة شهود جلدا فجرحه الحد أو مات منه لعدم احتماله إياه ثم ظهر بعض الشهود عبدا أو محدودا في قذف أو أعمى أو كافرا فإنهم يحدون بالاتفاق لأن الشهود حينئذ أقل من أربعة ومتى كانوا أقل حدوا حد القذف ثم قال أبو يوسف ومحمد أرش الجراحة ودية النفس فيما إذا مات في بيت المال وقال أبو حنيفة رحمه الله لا شيء عليهم ولا على بيت المال ولو كان الحد الرجم فرجم ثم ظهر أحد الشهود على ما ذكرنا فديته على بيت المال اتفاقا قال المصنف وعلى هذا إذا رجع الشهود يعني بعد ما ضرب فجرح أو مات لا يضمنون عنده وعندهما يضمنون أرش الجراحة إن لم يمت والدية إن مات وظاهر أنه لا يحسن كل الحسن لفظ وعلى هذا هنا لأن مثله يقال إذا كان الخلاف في المشار إليها كالخلاف المشبه به وليس هنا كذلك فإن ذلك الخلاف هو أن الأرش والدية في بيت المال عندهما وعنده ليس على بيت المال شيء وهنا عندهما على الشهود وعنده ليس عليهم شيء وقال الشافعي ومالك وأحمد الأرش والدية على الحاكم قوله لهما أن الواجب مطلق الضرب إذ الاحتراز عن الجرح خارج الوسع فينتظم الخارج وغيره فيضاف الجرح والموت إلى شهادتهم فصاروا كالمباشرين لما أوجبوه بشهادتهم فرجوعهم اعتراف بأنهم جناة في شهادتهم كمن ضرب شخصا بسوط فجرحه أو مات وكشهود القصاص والقطع إذا رجعوا هذا إذا رجعوا وأما إذا لم يرجعوا بل ظهر بعضهم عبدا أو محدودا الخ وهو ما أراد بقوله وعند عدم الرجوع لم يكونوا معترفين بجنايتهم فيجب على بيت المال لأنه ينتقل فعل الجلاد إلى القاضي لأنه الآمر له وفعل المأمور ينتقل إلى الآمر عند صحة
____________________
(5/290)
الأمر فكأنه ضرب بنفسه ثم ظهر خطؤه وفيه يكون الضمان في بيت المال لأنه عامل للمسلمين لا لنفسه فتجب الغرامة التي لحقته بسبب عمله لهم في مالهم وصار الجرح والموت من الجلد كالرجم والقصاص إذا قضى به فإن الضمان عند ظهور الشهود محدودين أو عبيدا الخ في بيت المال اتفاقا قوله ولأبي حنيفة أن الواجب بشهادتهم هو الحد وهو ضرب مؤلم غير جارح ولا مهلك فتضمن هذا منع قولهما الواجب مطلق الضرب وقولهما في إثباته أن الاحتراز عن الجارح خارج عن الوسع ممنوع بل ممكن غير عسر ايضا ولا يقع جارحا إلا لحرق الضارب وقلة هدايته وترك احتياطه فاقتصر عليه فلم يتعد إلى الشهود ولا القاضي بخلاف الرجم فإنه مضاف إلى قضاء القاضي لأنه قضى به ابتداء ثم ظهر خطؤه ومصلحة عمله للعامة فيكون موجب ضرر خطئه عليهم في مالهم لأن الغرم بالغنم أما الجلد الجارح فلم يقض به فلا يلزمه فيكون في بيت المال بل يقتصر على الجلاد إلا أنه لا يجب عليه الضمان في الصحيح لأنه لم يتعمده فلو ضمناه لامتنع الناس من الإقامة مخافة الغرامة وإذا لم تجب الغرامة عليه ولا على الشهود ولا على القاضي لتثبت في بيت المال لم تجب أصلا وهو المطلوب وقوله في الصحيح احتراز عن قول فخر الإسلام في مبسوطه لو قال قائل يجب الضمان على الجلاد فله وجه لأن ليس مأمورا بهذا الوجه بل بضرب مؤلم لا جارح ولا كاسر ولا قاتل فإذا وحد فعله على هذا الوجه رجع متعديا فيجب عليه الضمان وهذا أوجه من جعله احتراز عن جواب القياس وإنما يقال ذلك لضرورة عدم الخلاف في الواقع قوله وإن شهد أربعة على شهادة أربعة على رجل بالزنا لم يحد لما فيها أي في هذه الشهادة التي هي الشهادة على الشهادة من زيادة شبهة لتحققها في موضعين في تحميل الأصول وفي نقل الفروع وهو قول مالك وأحمد والأصح من مذهب الشافعي أنه يحد بها إذا تكاملت شروطها ونحن بينا زيادة الشبهة وهي وإن لم تمنع في الشرع لأن
____________________
(5/291)
الشرع اعتبر الشهادة على الشهادة وألزم القضاء بموجبها في المال لكنها ضعيفة بما ذكرنا ولا يلزم من اعتبارها في الجملة اعتبارها في كل موضع كشهادة النساء فإنها معتبرة صحيحة لذلك وليست معتبرة في الحدود لزيادة شبهة فيها فعلم أن الشهادة مع زيادة مثل تلك الشهبة معتبرة إلا في الحدود وسببه أنه يحتاط في درئها فكان الاحتياط رد ما كان كذلك من الشهادة كما ردت شهادة النساء فيها ولأنها بدل واعتبار البدل في موضع يحتاط في إثباته لا فيما يحتاط في إبطاله فإن جاء الأولون يعني الأصول فشهدوا بالمعاينة بنفس ما شهد به الفروع من الزنا فعنده لا تقبل ايضا لأن شهادة هؤلاء الأصول قد ردها الشرع من وجه برده شهادة الفروع في عين الحادثة التي شهد بها الأصول إذ هم قائمون مقامهم فصار شبهة في درء الحد عن المشهود عليه بالزنا ثم لا يحد الشهود الأصول ولا الفروع لأن عددهم متكامل فلم تكن شهادتهم قذفا غير انه امتنع الحد عن المشهود عليه لنوع شبهة وهي كافية لدرء الحد لا لإيجابه فلا يوجب حد القذف على الشهود قوله وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فرجم حاصل وجوه رجوع واحد ثلاثة إما قبل القضاء أو بعده قبل الأمضاء أو بعده ذكرها المصنف كلها فذكر أولا ما إذا رجع واحد من الأربعة بعد الإمضاء وهو الرجم مثلا وأن حكمه أنه وحده يغرم ربع الدية أما غرامة ربع الدية فلأنه بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباعها فيكون التالف بشهادة الراجع ربعها لإتلافه بها ربع النفس حكما فيضمن بدل الربع وقال الشافعي يجب القتل لا المال بناء على أصله في شهود القصاص أنهم إذا رجعوا يقتلون قال المصنف وسنبينه في الديات قيل وقعت الحوالة غير رائجة لأنه لم يذكره فيه وأما حد الراجع وحده فمذهب علمائنا الثلاثة أنه يحده وقال زفر لا يحد لأنه إن كان قاذف حي برجوعه فقد بطل بالموت لأن حد القذف لا يورث لأن الغالب فيه حق الله فيورث شبهة وإن كان قاذف ميت فهو مرجوم بحكم
____________________
(5/292)
القاضي وحكمه برجمه يوجب شبهة في إحصانه ولهذا لا يحد الباقون إجماعا قوله ولنا الخ حاصه اختيار الشق الثاني وهو أنه قذف ميت ثم نفى الشهبة الدارئة لحد القذف عنه أما أنه قذف ميت فلأن بالرجوع تنفسخ شهادته فتصير قذفا للحال لا أنه بالرجوع يتبين أن تلك الشهادة كانت قذفا من الأول لأنها حين وقعت كانت معتبرة شهادة غير أن بالرجوع تنفسخ فتصير قذفا للحال كمن علق الطلاق ثم وجد الشرط بعد سنة فوقع يقع الآن لا أنه يتبين أنه وقع حين التكلم به وكذا إذا فسخ وارث المشتري البيع مع البائع بعد موت المشتري يثبت به الملك في الحال للبائع بخلاف ما لو ظهر أحدهم عبدا بعد الحد فإنهم يحدون كلهم لأنه ظهر أن الراجع وغيره قذفه لأن العبد لا شهادة له فكأن عدد الشهود ناقصا فيحدون وإنما لا يحدون بعد الرجم عند ظهور أحدهما عبدا لأنه قذف حيا فمات وأما أن كونه مرجوما ليس شبهة في حقه دارئة للحد عنه فلأنه لما انفسخت الحجة انفسخ ما بني عليها وهو القضاء يرجمه في حقه يزعمه واعترافه فإذا انفسخ تلاشى فكأنه لم يكن لكن ذلك في حق الراجع خاصة فلم يكن بحيث يوجب شبهة في حقه لأن زعمه معتبر في حقه بخلاف غيره لأنه لم ينفسخ في حق غيره فلذا حد الراجع ولم يحد غيره لو قذفه لأن القضاء لما كان قائما في حق الغير صار المرجوم غير محصن في حقه ثم
____________________
(5/293)
ذكر المصنف رجوع الواحد قبل الإمضاء بعد القضاء فقال فإن لم يحد المشهود عليه بالزنا حتى رجع واحد منهم أي بعد القضاء وقبل الإمضاء حدوا جميعا وقال محمد وزفر يحد الراجع وحده لأن الشهادة تأكدت بالقضاء فلم يبق طريق إلى وقوعها قذفا فالرجوع بعد القضاء قبل الإمضاء إنما يؤثر فسخ القضاء في حقه خاصة كالرجوع بعد الاستيفاء ولهما أن الإمضاء أي استيفاء الحد من القضاء وقد تقدم بيان كون الإمضاء من القضاء بحقوق الله تعالى في مسئلة التقادم فكان رجوعه قبل الإمضاء كرجوعه قبل القضاء وتظهر ثمرة كون الإمضاء من القضاء فيما إذا اعترضت أسباب الجرح في الشهود أو سقوط إحصان المقذوف أو عزل القاضي يمتنع استيفاء حذ القذف وغيره ثم ذكر رجوعه قبل القضاء فقال ولو رجع واحد منهم قبل القضاء حدوا جميعا وهو قول الائمة الثلاثة وقال زفر يحد الراجع خاصة لأن رجوعه عامل في حق نفسه دون غيره فتبقى شهادتهم على ما هي عليه لا تنقلب قذفا ولنا أن كلامهم قذف في الأصل وإنما يصير شهادة باتصال القضاء به ولم يتصل به لأن رجوعهم منع من ذلك فبقى قذفا فيحدون والأولى أن يقال كلامهم قذف في الأصل وإنما يصير شهادة ما دام بصفة أيجابة القضاء على القاضي وبالرجوع انتفى فكان قذفا وهذا لأن كونه لا يخرج عن القذف إلى الشهادة إلا باتصاله بحقيقة القضاء مما يمنع إذا عرف هذا قلنا لو امتنع الرابع عن الأداء يحد الثلاثة ولا يكون ذلك بسكوت الرابع بل بنسبة الثلاثة إياه إلى الزنا قولا فكذا إذا رجع أحدهم يحد ثلاثتهم بقولهم زنى قوله فإن كانوا خمسة عطف على أول المسئلة ولو شهد أربعة فرجع أحدهم أي بعد الرجم لا شيء عليه أي لا حد ولا غرامة لأنه بقى بعد رجوعه من يبقى بشهادته كل الحق وهو شهادة الأربعة وهو قول الائمة الأربعة سوى قول للشافعي رحمه الله غير الأصح عندهم وإن رجع آخر مع الأول حد كل منهما وغرما ربع الدية وللشافعي تفصيل وهو أنهما إن قالا أخطأنا وجب عليهما قسطهما من الدية وفيه وجهان في وجه خمساها وفي وجه ربعها كقولنا ولو قالا تعمدنا الكذب يقتلان أما الحد فلما ذكرنا يعني من أن الشهادة تنقلب قذفا للحال فعلهيما الحد
____________________
(5/294)
يعني عند رجوع الثاني تنفسخ شهادتهما قذفا لعدم بقاء تمام الحجة بعد رجوع الثاني لا أن رجوع الثاني هو الموجب للحد وأما الغرامة فلأنه بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق والمعتبر في قدر لزوم الغرامة بقاء من بقى لا رجوع من رجع على ما عرف قوله وإن شهد أربعة على رجل بالزنا وزكوا أي بأن قال المزكون هم أحرار مسلمون عدول أما لو اقتصروا على قولهم عدول فلا ضمان على المزكين بالاتفاق إذا ظهروا عبيدا فإذا زكوا كما قلنا فرجم ثم ظهر بعضهم كافرا أو عبدا فإما أن يستمر المزكون على تزكيتهم قائلين هم أحرار مسلمون فلا شيء عليهم اتفاقا ومعناه بعد ظهور كفرهم حكمهم بأنهم كانوا مسلمين وأنما طرأ كفرهم بعد وإن قالوا أخطأنا في ذلك فكذلك لا يضمنون بالاتفاق فلم يبق لصورة الرجوع التي فيها الخلاف إلا أن يقولوا تعمدنا فقلنا هم أحرار مسلمون مع علمنا بخلاف ذلك منهم ففي هذه الصورة قال أبو حنيفة رحمه الله الدية على المزكين وقال أبو يوسف ومحمد على بيت المال وهو قول الائمة الثلاثة إذا عرف هذا فقول المصنف وقيل هذا إذا قالوا تعمدنا التزكية مع علمنا بحالهم ليس على ما ينبغي بعد قوله إذا رجعوا عن التزكية لأنه يوهم أن في صورة الرجوع الخلافية قولين أن يرجعوا بهذا الوجه أو بأعم منه وليس كذلك لهما أنهم لو ضمنوا لكان ضمان عدوان وهو بالمباشرة أو التسبب وعدم المباشرة ظاهر وكذا التسبب لأن سبب الأتلاف الزنا وهم لم يثبتوه
____________________
(5/295)
وإنما أثتوا على الشهود خيرا فصار كما لو أثتوا على المشهود عليه بالإحصان فكما لا يضمن شهود الإحصان بعد رجم المشهود عليه به إذا ظهر غير محصن لأنهم لم يثبتوا السبب كذلك لا يضمن المزكون ولأبي حنيفة أن الشهادة بالزنا إنما تصير حجة موجبة للحكم بالرجم على الحاكم بالتزكية فكانت التزكية في معنى علة العلة للإتلاف لأنها موجبة موجبية الشهادة للحكم به وعلة العلة كالعلة في إضافة الحكم إليها على ما عرف بخلاف الإحصان فإنه ليس موجبا للعقوبة ولا لتغليظها بل الزنا هو الموجب فعند الإحصان يوجبها غليظة لأنه كفران نعمة الله فلم تضف العقوبة إلى نفس الإحصان الذي هو النعمة بل إلى كفران النعمة فكانت الشهادة به شهادة بثبوت علامة على استحقاق تغليظ العقوبة والسبب وضع الكفران في موضع الشكر ثم أفاد المصنف أنه لا يشترط في التزكية لفظ الشهادة بأن قالوا نشهد أنهم أحرار الخ بن ذلك أو الإخبار كأن يقولوا هم أحرار وكذا لا يشترط مجلس القضاء اتفاقا ثم لا يشترط العدد في المزكي عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد فيشترط الاثنين في سائر الحقوق الأربعة في الزنا ويجوز شهادة رجل وامرأتين في الإحصان ثم لا يحد الشهود حد القذف لأنهم قذفوا حيا فمات ولا يورث استحقاق حد القذف واعلم أنه وقع في المنظومة قوله ** على المزكين ضمان من رجم ** إن ظهر الشاهد عبدا وعلم ** ** وأوجبا ضمان هذا المتلف ** من بيت مال المسلمين فاعرف ** ** وفي المزكين إذا هم رجعوا ** كذا وقالوا عزروا وأوجعوا **
وفي المختلف ما يوافق ما في المنظومة لأنه قال بعد ذكر الخلاف مطلقا عن قيد الرجوع وعلى هذا الخلاف إذا رجع المزكون قال في المصفى شرح المنظومة وهنا إشكال هائل فإنا إن أولنا المسئلة بالرجوع يلزم التكرار وإن لم نؤولها بالرجوع يلزم المخالفة بين الروايات فيحتمل أن يكون في المسئلة روايتان ويدل عليه أنه ذكر فخر الإسلام في الجامع الصغير مطلقا كما ذكر هنا وفي الشرح خلافه ثم قال ويحتمل أن يؤول بالرجوع
____________________
(5/296)
ولا يلزم التكرار لأن المسئلة الأولى فيما إذا ظهر الشهود عبيدا ورجع المزكون ايضا والمسئلة الثانية يعني التي في البيت الثالث فيما إذا رجع المزكون فحسب والتفاوت ظاهر أه وعلى هذا فالخلاف في موضعين ما إذا ظهروا عبيدا ورجعوا وما إذا رجعوا فقط وأما تعزيرهم فباتفاق وقول صاحب المجمع ولو شهدوا فزكوا فرجم ثم ظهر أحدهم عبدا فالضمان على المزكين أن تعمدوا وقالا في بيت المال ولو رجع المزكون عزر وإلا يفيد تحقق الخلاف في الضمان في مجرد رجوعهم بل أفاد مجرد الاتفاق على التعزير فالإشكال قائم على صاحب المنظومة على ما مشى هو عليه وحاصل الجمع اشتراط الرجوع مع الظهور لتحقق الخلاف فلا ينفرد الظهور بالتضمين الخلافي بل الاتفاق أنه في بيت المال كما سيذكر وينفرد رجوع المزكين بالتضمين المختلف فيه أهو عليهم أو على بيت المال وبه يزول الإشكال عنه غير ان من العجب كون مجرد رجوع المزكين موجبا للضمان على الخلاف ولا يذكر في الأصول كالجامع والأصل قوله وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فأمر القاضي برجمه الخ استوفى أقسامها في كافي حافظ الدين فقال إن شهد أربعة على رجل بالزنا فأمر الإمام برجمه فقتله رجل عمدا أو خطأ بعد الشهادة قبل التعديل يجب القود في العمد والدية في الخطأ على عاقلته وكذا إذا قتله بعد التزكية قبل القضاء بالرجم وإن قضى برجمه فقتله رجل عمدا أو خطأ لاشيء عليه وإن قتله عمدا بعد القضاء ثم وجد الشهود عبيدا أو كفارا أو محدودين في قذف فالقياس أن يجب القصاص لأنه قتل نفسا محقوق الدم عمدا لكنه لما ظهر أن الشهود عبيد تبين أن القضاء لم يصح ولم يصر مباح الدم وقد قتله بفعل لم يؤمر به إذ المأمور به الرجم وهو قد حز رقبته فلم يوافق أمر القاضي ليصير فعله منقولا إليه فبقى مقصورا عليه وفي الاستحسان تجب الدية بأن قضاء القاضي بالرجم نفذ من حيث الظاهر وحين قتله كان القضاء صحيحا فأورث شبهة الإباحة وهذا لأن لو نفذ ظاهرا وباطنا تثبت حقيقة الإباحة فإذا نفذ من وجه دون وجه تثبت شبهة الإباحة بخلاف ما لو قتله قبل القضاء لأن الشهادة لم تصر حجة يعني فيقتص منه في العمد فصار كمن قتل إنسانا على ظن أنه حربي وعليه علامتهم ثم ظهر مسلم فعليه الدية في ماله لأنه عمد والعاقلة لا تعقل العمد وتجب في ثلاث سنين لأنه وجب بنفس القتل وما يجب بنفس القتل يجب مؤجلا كالدية بخلاف ما وجب بالصلح عن القود حيث يجب حالا لأنه مال وجب بالعقد لا بنفس القتل فأشبه الثمن وما في الكتاب لا يخفى بعد ذلك وقوله وإن رجم ضبطه
____________________
(5/297)
الأساتذة بالنباء للفاعل ليرجع ضميره إلى الرجل في قوله فضرب رجل عنقه ويطابق قول السرخسي في المبسوط ما في مبسوط شمس الائمة حيث قال فيه وإن كان هذا الرجل قتله رجما ثم وجدوا عبيدا تجب الدية في بيت المال لما ذكرنا يعني في مسئلة الجلاد إذا جرح من قوله ينتقل فعل الجلاد إلى القاضي وهو عامل للمسلمين فتجب الغرامة في مالهم كذا هذا أي الرجل القاتل بالجرم بعد أمر القاضي بخلاف ما إذا ضرب عنقه ثم ظهروا عبيدا تجب الدية في ماله كما ذكرنا لأنه لم يأتمر أمره فلم ينتقل فعله إليه كما ذكرناه آنفا ولهذا يؤدبه على القتل بالسيف ولا يؤدبه هنا لأنه لم يخالف قوله وإذا شهدوا على رجل بالزنا وقالوا تعمدنا النظر أي إلى فرجيهما قبلت شهاتهم وبه قال الشافعي في المنصوص ومالك وأحمد لأنه لضرورة ثبوت القدرة على إقامة الحسبة والنظر إلى العورة عند الحاجة لا يوجب فسقا كنظر القابلة والخافضة والختان والطبيب وعد في الخلاصة مواضع حل النظر إلى العورة للضرورة فزاد الاحتقان والبكارة في العنة والرد بالعيب والمرأة في حق المرأة أولى وإن لم توجد ستر ما وراء موضع الضرورة بخلاف مالو قالوا تعمدنا النظر للتلذذ لا تقبل إجماعا ونسب إلى بعض العلماء أنه لا تقبل شهادتهم إلا إذا لم يبينوا كيفية النظر فيحتمل أنه وقع اتفاقا لا قصدا وقلنا إن النظر يباح للحاجة على ما قلنا قوله وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا فأنكر الإحصان وله امرأة قد ولدت منه فإنه يرجم قال المصنف معناه أنه ينكر الدخول بها بعد وجود سائر الشرائط أي شرائط الإحصان لأن الحكم شرعا بثبوت النسب منه حكم الدخول أي يستلزم ذلك ولذا لو طلقها طلقة يعقب الرجعة ولو كانت غير مدخول بها بانت بالواحدة الصريحة والفرض أنهما مقران بالولد ولو ثبت الدخول بشهادة شاهدين ثبت الإحصان فإذا ثبت بشهادة الشرع وباقرارهما أولى وعلى كون المعنى ما ذكر المصنف من أن الفرض وجود سائر شرائط الإحصان يدخل فيه أن بينهما نكاحا صحيحا فما عن الائمة الشافعي ومالك وأحمد من أنه لا يثبت بذلك
____________________
(5/298)
لاحتمال كونه من دخول لا على وجه الصحة ليس بخلاف لأن بفرض أنها امرأته لا يكون من وطء شبهة الغير المنكوحة ولا من نكاح فاسد لأن النكاح الفاسد لا يسترم ظاهرا مولدا على وجه الديمة والاستقرار كما يفيده قوله وله امرأة قوله فإن لم تكن ولدت منه وشهد عليه الخ المقصود من هذه أن الإحصان يثبت بشهادة النساء مع الرجال خلافا لزفر والشافعي ومالك وأحمد إلا أن المبني مختلف فعندهم شهادتهن في غير الأموال لا تقبل وعند زفر إن قبلت إلا أنه يقول الإحصان شرط في معنى العلة والشأن إثبات أنه في معنى العلة ونفيه لأنه المدار فقال لأن تغليظ العقوبة يثبت عنده بخلاف الشرط المحض فأشبه حقيقة العلة فلا تقبل شهادة النساء فيه احتيالا للدرء وصار كما إذا شهد ذميان على ذمي زنى عبده المسلم وهو محصن أنه أعتقه قبل زناه لا تقبل مع أن شهادة أهل الذمة على الذمي بالعتق مقبولة في غير هذه الحالة لما ذكرنا من أنه شرط في معنى العلة فصار كشهادتهم على زناه إذ كان المقصود تكميل العقوبة ولزم من أصله هذا وهو أنه شرط في معنى العلة أنه إذا رجع شهود الإحصان يضمنون عنده وعندنا لا يضمنون إذ كان علامة محضة ولنا في نفي أنه في معنى العلة إن الإحصان ليس إلا عبارة عن خصال حميدة بعضها غير داخل تحت قدرته كالحرية والعقل وبعضها فرض عليه كالإسلام وبعضها مندوب إليه كالنكاح الصحيح والدخول فيه فلا يتصور كونها سببا للعقوبة ولا سببا لسببه فإن سببها المعصية والإحصان بحسب الوضع مانع من سبب العقوبة لأنه سبب لضد سببها وهو الطاعة والشكر فيستحيل أن تكون في معنى علة الحكم وهو مانع لسببه فالسبب ليس إلا الزنا إلا أنه مختلف الحكم ففي حال الإحصان حكمه الرجم وفي غيره الجلد فكان الإحصان السابق على الزنا معرفا لخصوص الحكم الثابت بالزنا أعنى خصوص العقوبة والعلامة المحضة قط لا يكون لها تأثير فلا تكون علة ولا في معناها فكيف يضاف الحكم إليها وظهر أن الواقع أن الإحصان يثبت معه بالزنا عقوبة غليظة وبالشهادة يظهر ما ثبت بالزنا عند الحاكم فلما
____________________
(5/299)
لم يكن سببا للعقوبة ولا علة جاز أن يدخل في إثباته شهادة النساء كما لو شهدنا مع الرجل بالنكاح في غير هذه الحالة والدخول في غرض آخر كتكميل المهر حتى يثبت إحصانه ثم اتفق أنه شهد عليه بالزنا أليس أنه يرجم كذا إذا شهدتا بعد ظهور الزنا به فكما يثبت قبله لعدم كونه سببا كذا بعده وصار كما لو علق عتق عبده بظهور دين لفلان عليه فشهد اثنان بالدين عتق العبد ولا يضاف العتق إلى الشهادة بالدين بل إلى المعلق كذا هنا لا يضاف الرجم بعد الشهادة بالإحصان إلى هذه الشهادة بل إلى الزنا بخلاف ما ذكر لأن العتق يثبت بشهادة الذميين على الذمي بشهادتهما عليه بالإعتاق وإنما لا يعتق بسبق التاريخ لأنه ينكره العبد المسلم أو يتضرر به فلا تنفذ شهادتهما عليه لأنه تتغلظ العقوبة عليه فتصير مائة بعد أن كانت خمسين واستشكل كونه ليس في معنى العلة للحد بأنه لو أقر بالإحصان ثم رجع عنه صح رجوعه كالزنا ولذا تقبل بينة الإحصان حسبة بلا دعوى فيجب أن يشترط في الشهادة به الذكور كالتزكية عند أبي حنيفة أجيب بأن صحة الرجوع لا تتوقف على كون المقر به علة للعقوبة بل على كون المقر به لا مكذب له فيه إذا رجع عنه ولا مكذب له في سبب الحد بخلاف الإقرار بالدين فإن المقر له يكذبه في رجوعه وإنما صحت الحسبة فيه لأنه من إظهار حق الله تعالى والمانع من شهادة النساء ليس هذا القدر بل كونه سببا لأصل العقوبة فحين ثبتت العقوبة بشهادة الرجال بسببها كان كالشهادة على عتق الأمة تسمع بلا دعوى عند أبي حنيفة لتضمنه تحريم الفرج
فروع من المبسوط شهد أربعة على رجل بالزنا فأنكر الإحصان فشهد رجلان أنه تزوج امرأة نكاحا صحيحا ودخل بها يثبت الإحصان فيرجم وعند محمد لا يثبت فلا يرجم كما لو شهد أنه أقربها أو أتاها فهذا ليس بصريح وهذا لأن الدخول يراد به الجماع ويراد به الخلوة ولا يثبت الإحصان بالشك ولهما أن الدخول يراد به الجماع عرفا مستمرا حتى صار يتبادر مع النكاح والتزويج والنساء قال الله تعالى من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فلا إجمال فيه عرفا فكانت كشهادتهم على الجماع ولو شهد أربعة على الزنا بفلانة وأربعة غيرهم شهدوا به بأمرأة أخرى فرجم فرجع الفريقان ضمنوا ديته إجماعا وحدوا للقذف عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد لا يحدون لأن رجوع كل فريق معتبر في حقهم لا في حق غيرهم فصار في حق كل فريق كأن الفريق الآخر ثابت على الشهادة ولهما أن كل فريق أقر على نفسه بالتزام حد القذف لأن كل فريق يقول إنه عفيف قتل ظلما وأنهم قذفه بغير حق ولو شهد أربعة على رجل بالزنا فأقر مرة بعد حد عند محمد لأن البينة وقعت معتبرة فلا تبطل إلا بإقرار معتبر والإقرار مرة هنا كالعدم وعند أبي حنيفة وابي يوسف لا يحد وهو
____________________
(5/300)
الأصح لأن شرط قبول البينة إنكار الخصم وهو مقر ولا حكم لإقراره فبطل الحد ولأن الإقرار وإن فسد حكما فصورته قائمة فيورث شبهة & باب حد الشرب
قدم حد الزنا عليه لأن سببه أعظم جرما ولذا كان حده أشد وأخر عنه حد الشرب لتيقن سببه بخلاف حد القذف لأن سببه هو القذف قد يكون صدقا وأخر حد السرقة وإن كان أشد لأن شرعيته لصيانة أموال الناس وصيانة الأنساب والعقل آكذ من صيانة المال بقي أنه أخره عن حد القذف لأن المال دون العرض فإنه جعل وقاية للنفس عن كل ما تكره قوله ومن شرب الخمر فأخذ أي إلى الحاكم وريحها موجودة وهو غير سكران منها ويعرف كونه يحد إذا كان سكران بطريق الدلالة أو سكران أي جاءوا به إليه وهو سكران من غير الخمر من النبيذ فشهد الشهود عليه بذلك أي بالشرب في الأول وهو عدم السكر منها وفي الثاني وهو السكر من غيرها فإنه يحد والشهادة بكل منهما مقيدة بوجود الرائحة فلا بد من شهادتهما بالشرب أن يثبت عند الحاكم أن الريح قائم حال الشهادة وهو بأن يشهدا به وبالشرب أو يشهد بالشرب فقط فيأمر القاضي باستنكاهه فيستنكه ويخبره بأن ريحها موجود وأما إذا جاءوا به من بعيد فزالت الرائحة فلا بد أن يشهد بالشرب ويقولا أخذناه وريحها موجود لأن مجيئهم به من مكان بعيد لا يستلزم كونهم أخذوه في حال قيام الرائحة فيحتاجون إلى ذكر
____________________
(5/301)
ذلك للحاكم خصوصا بعد ما حملنا كونه سكران من غير الخمر فإن ريح الخمر لا توجد من السكران من غيرها ولكن المراد هذا لأن الحد لا يجب عند أبي حنيفة وأبي يوسف بالشهادة مع عدم الرائحة فالمراد بالثاني أن يشهدوا بأنه سكر من غيرها مع وجود رائحة ذلك المسكر الذي هو غير الخمر وكذلك عليه الحد إذا أقر وريحها موجود لأن جناية الشرب قد ظهرت بالبينة والإقرار ولم يتقادم العهد والأصل في ثبوت حد الشرب قوله صلى الله عليه وسلم من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه إلى أن قال فإن عاد الرابعة فاقتلوه أخرجه اصحاب السنن إلا النسائي من حديث معاوية وروى من حديث أبي هريرة فإذا سكر فاجلدوه ثم إن سكر الخ قال الترمذي سمعت محمد بن إسماعيل يقول حديث ابي صالح عن معاوية أصح من حديث أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه وصححه الذهبي ورواه الحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه والنسائي في سننه الكبرى ثم نسخ القتل أخرج النسائي في سننه الكبرى عن محمد بن إسماعيل عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعا من شرب الخمر فاجلدوه الخ قال ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر في الرابعة فجلده ولم يقتله وزاد في لفظ فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وأن القتل قد ارتفع ورواه البزار في مسنده عن ابن إسحق به أنه عليه الصلاة والسلام أتى بالنعمان قد شرب الخمر ثلاثا فأمر به فضرب فلما كان في الرابعة أمر به فجلد الحد فكان نسخا وروى أبو داود في سننه قال حدثنا أحمد بن عبدة الضبي حدثنا سفيان قال الزهري أنبأنا قبيصة بن ذؤيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه فأتى برجل قد شرب فجلده ثم أتى به فجلده ثم أتى به فجلده ورفع القتل وكانت رخصة وقال سفيان حدث الزهري بهذا الحديث وعنده منصور بن المعتمر ومخول بن راشد فقال لهما كونا وافدي أهل العراق بهذا الحديث اه وقبيصة في صحبته خلاف وإثبات النسخ بهذا أحسن مما أثبته به المصنف في كتاب الأشربة من قوله عليه الصلاة والسلام لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث الحديث فإنه موقوف على ثبوت التاريخ نعم يمكن أن يوجه بالنسخ الاجتهادي أي تعارضا في القتل فرجح النافي له فيلزم الحكم بنسخه فإن هذا لازم في كل ترجيح عند التعارض قوله وإن أقر بعد ذهاب رائحتها لم يجد عند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد يحد وكذلك إذا شهدوا عليه بعد ما ذهب ريحها أو ذهب السكر من غيرها لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد يحد فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق
____________________
(5/302)
غير أنه أي هذا التقادم مقدر بالزمان عند محمد اعتبارا بحد الزنا أنه ستة أشهر أو مفوض إلى رأي القاضي أو بشهر وهو المختار وهذا لأن التأخير يتحقق بمضى الزمان بلا شك بخلاف الرائحة لأنها قد تكون من غيره كما قيل ** يقولون لي انكه شربت مدامة ** فقلت لهم بل أكلت السفرجلا ** وانكه بوزن امنع ونكه من بابه أي أظهر رائحة فمه وقال الآخر ** سفرجلة تحكى ثدي النواهد ** لها عرف ذي فسق وصفرة زاهد **
فظهر أن رائحة الخمر مما تلتبس بغيرها فلا يناط شيء من الإحكام بوجودها ولا بذهابها ولو سلمنا أنها لا تلتبس على ذوي المعرفة فلا موجب لتقييد العمل بالبينة بوجودها لأن المعقول تقيد قبولها بعدم التهمة والتهمة لا تتحقق في الشهادة بسبب وقوعها بعد ذهاب الرائحة بل بسبب تأخير الأداء تأخيرا يعد تفريطا وذلك منتف في تأخير يوم ونحوه وبه تذهب الرائحة أجاب المصنف وغيره بما حاصله أن اشتراط قيام الرائحة لقبول الشهادة عرف من قول ابن مسعود وهو ما روى عبد الرزاق حدثنا سفيان الثوري عن يحيى بن عبد الله التميمي الجابر عن أبي ماجد الحنفي قال جاء رجل بابن أخ له سكران إلى عبد الله بن مسعود فقال عبد الله ترتروه ومزمزوه واستنكهوه ففعلوا فرفعه إلى السجن ثم عاد به من الغد ودعا بسوط ثم أمر به فدقت ثمرته بين حجرين حتى صارت درة ثم قال للجلاد اجلد وأرجع يدك وأعط كل عضو حقه ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبراني ورواه إسحاق بن راهويه أخبرنا جرير عن عبد الحميد عن يحيى بن عبد الله الجابر به ودفع بأن محل النزاع كون الشهادة لا يعمل بها إلا مع قيام الرائحة والحديث المذكور عن ابن مسعود ليس فيه شهادة منع من العمل بها لعدم الرائحة وقت أدائها بل ولا إقرار إنما فيه أنه حده بظهور الرائحة بالترترة والمزمزة والمزمزة التحريك بعنف والترترة والتلتلة التحريك وهما بتاءين مثناتين من فوق قال ذو الرمة يصف بعيرا ** بعيد مساف الخطو غوج شمردل ** تقطع أنفاس المهارى تلاتله **
أي حركاته والمساف جمع مسافة والغوج بالغين المعجمة الواسع الصدر ومعنى تقطيع تلاتله أنفسا المهارى أنه إذا باراها في السير أظهر في أنفاسها الضيق والتتابع لما يجهدها وإنما فعله لأن بالتحريك تظهر الرائحة من
____________________
(5/303)
المعدة التي كانت خفيت وكان ذلك مذهبه ويدل عليه ما في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قرأ سورة يوسف فقال رجل ما هكذا أنزلت فقال عبد الله والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحسنت فبينا هو يكلمه إذ وجد منه رائحة الخمر فقال أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب فضربه الحد وأخرج الدارقطني بسند صحيح عن السائب بن يزيد عن عمر بن الخطاب أنه ضرب رجلا وجد منه ريح الخمر وفي لفظ ريح شراب والحاصل أن حده عند وجود الريح مع عدم البينة والإقرار لا يستلزم اشتراط الرائحة مع أحدهما ثم هو مذهب لبعض العلماء منهم مالك وقول للشافعي ورواية عن أحمد والأصح عن الشافعي وأكثر أهل العلم نفيه وما ذكرناه عن عمر يعارض ما ذكر عنه أنه عزر من وجد منه الرائحة ويترجح لأن أصح وإن قال ابن المنذر ثبت عن عمر أنه جلد من وجد منه ريح الخمر حدا تاما وقد استبعد بعض أهل العلم حديث ابن مسعود من جهة المعنى وهو أن الأصل في الحدود إذا جاء صاحبها مقرا أن يرد أو يدرأ ما استطيع فكيف يأمر ابن مسعود بالزمزة عند عدم الرائحة ليظهر الريح فيحده فإن صح فتأويله أنه كان رجلا مولعا بالشراب مدمنا عليه فاستجاز ذلك فيه وأما قوله ولأن قيام الرائحة من أقوى دلالة على القرب وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتبار القرب ثم أجاب عما يتوهم من أن الرائحة مشتبهة بقوله والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل ونما تشتبه على الجهال فليس بمفيد لأن كونها دليلا على القرب لا يستلزم انحصار القرب فيها ليلزم من انتفائها ثبوت البعد والتقادم لأن القرب يتحقق بصور كثيرة لا بصورة واحدة هي عند قيام الرائحة لأن ذلك عين المتنازع فيه وهو المانع فقوله بعده وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتباره أن أراد أن اعتبار القرب بالرائحة فهو محل النزاع فقول محمد هو الصحيح قوله وأما الإقرار فالتقادم لا يبطله عند محمد كما في حد الزنا لا يبطل الإقرار بالتقادم اتفاقا على ما مر تقريره من أن البطلان للتهمة والإنسان لا يتهم على نفسه وعندهما لا يقام الحد على المقر بالشرب إلا إذا أقر عند قيام الرائحة لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولا إجماع إلا برأى ابن مسعود وقد شرط قيام الرائحة على ما روينا بمعنى أنه لم يقل بالحد إلا إذا كان مع الرائحة فيبقى
____________________
(5/304)
انتفاؤه في غيرها بالأصل لا مضافا إلى لفظ الشرط وأما إضافة ثبوته إلى الإجماع بعد قوله والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام الخ فقيل لأنه من الآحاد وبمثله لا يثبت الحد والإجماع قطعى ولا يخفى أن هذا مذهب الكرخي فأما قول الجصاص وهو قول أبي يوسف فيثبت الحد بالآحاد بعد الصحة وقطعية الدلالة وهو المرجح فإن كان المصنف يرى أنه لا يثبت به أشكل عليه جعله إياه أولا الأصل وإن لم يره أشكل نسبة الإثبات إلى الإجماع وأنت علمت أنه إنما ألزم قيامها عند الحد بلا إقرار ولا بينة كما هو ظاهر ما قدمناه فإن ادعى أن ذلك كان مع إقراره فليبين في الرواية وفي نوادر ابن سماعة عن محمد قال هذا أعظم عندي من القول أن يبطل الحد بالإقرار وأنا أقيم عليه الحد وإن جاء بعد أربعين عاما قوله فإن أخذه الشهود وريحها توجد منه أو سكران من غيرها وريح ذلك الشراب يوجد منه وذهبوا به إلى مصر فيه الإمام أو مكان بعيد فانقطع ذلك أي الريح قبل أن ينتهوا به إليه حد في قولهم جميعا لأن التأخير إلى انقطاعها لعذر بعد المسافة فلا يتهم في هذا التأخير والأصل أن قوما شهدوا عند عثمان على عقبة بشرب الخمر وكان بالكوفة فحمله إلى المدينة فأقام عليه الحد قوله ومن سكر من النبيذ حد فالحد إنما يتعلق في غير الخمر من الأنبذة بالسكر وفي الخمر بشرب قطرة واحدة وعند الائمة الثلاثة كل ما أسكر كثيره حرم قليله وحد به لقوله عليه الصلاة والسلام كل مسكر خمر رواه مسلم فهذا مطلوبان ويستدلون تارة بالقياس وتارة بالسماع فتارة بالاستدلال على أن اسم الخمر لغة
____________________
(5/305)
لكل ما خامر العقل وتارة بغير ذلك فمن الأول ما في الصحيحين من حديث ابن عمر نزل تحريم الخمر وهي من خمسة العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير وما في مسلم عنه عليه الصلاة والسلام كل مسكر خمر وكل مسكر حرام وفي رواية أحمد وابن حبان في صحيحه وعبد الرزاق وكل خمر حرام وأما ما يقال من أن ابن معين طعن في هذا الحديث فلم يوجد في شيء من كتب الحديث وكيف له بذلك وقد روى الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة وفي الصحيحين من حديث أنس كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر وما شرابهم إلا الفضيخ البسر والتمر وفي صحيح البخاري قول عمر رضي الله عنه الخمر ما خامر العقل وإذا ثبت عموم الاسم ثبت تحريم هذه الأشربة بنص القرآن ووجوب الحد بالحديث الموجب ثبوته في الخمر لأنه مسمى الخمر لكن هذه كلها محمولة على التشبيه بحذف أذاته فكل مسكر خمر كزيد أسد أي في حكمه وكذا الخمر من هاتين أو من خمسة هو على الادعاء حين اتحد حكمها بها جاز تنزيلها منزلتها في الاستعمال ومثله كثير في الاستعمالات اللغوية والعرفية تقول السلطان هو فلان إذا كان فلان نافذا الكلمة عند السلطان ويعمل بكلامه أي المحرم لم يقتصر على ماء العنب بل كل ما كان مثله من كذا وكذا فهو هو لا يراد إلا الحكم ثم لا يلزم في التشبيه عموم وجهه في كل صفة فلا يلزم من هذه الأحاديث ثبوت الحد بالأشربة التي هي غير الخمر بل يصحح الحمل المذكور فيها ثبوت حرمتها في الجملة إما قليلها وكثيرها أو كثيرها المسكر منها وكون التشبيه خلاف الأصل يجب المصير إليه عند الدليل عليه وهو أن الثابت في اللغة من تفسير الخمر بالنىء من ماء العنب إذا اشتد وهذا مالا يشك فيه من تتبع مواقع استعمالاتهم ولقد يطول الكلام بإيراده ويدل على أن الحمل المذكور على الخمر بطريق التشبيه قول ابن عمر رضي الله عنهما حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء أخرجه البخاري في الصحيح ومعلوم أنه إنما أراد ماء العنب لثبوت أنه كان بالمدينة غيرها لما ثبت من قول أنس وما شرابهم يؤمئذ أي يوم حرمت إلا الفضيح البسر والتمر فعرف أن ما أطلق هو وغيره من الحمل لغيرها عليها بهو هو كان على وجه التشبيه وأما الاستدلال بغير عموم الاسم لغة فمن ذلك ما روى أبو داود والترمذي من حديث عائشة عنه عليه الصلاة والسلام كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام وفي لفظ للترمذي فالحسوة منه حرام قال الترمذي حديث حسن وراه ابن حبان في صحيحه وأجود حديث في هذا الباب حديث سعد بن أبي وقاص أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن قليل ما أسكر كثيره أخرجه السنائي وابن حبان قال المنذري لأنه من حديث محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وهو أحد الثقات عن الوليد بن كثير وقد احتج به به الشيخان عن الضحاك بن عثمان وقد احتج به مسلم عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن عامر بن سعد بن أبي وقاص وقد احتج بهما الشيخان وحينئذ فجوابهم بعدم ثبوت هذه غير صحيح وكذا حمله على ما به حصل السكر وهو القدح الأخير لأن صريح هذه الروايات القليل وما أسند إلى ابن مسعود كل مسكر حرام قال هي الشربة
____________________
(5/306)
التي أسكرتك أخرجه الدارقطني ضعيف فيه الحجاج بن أرطاة وعمار بن مطر قال وإنما هو من قول إبراهيم يعني النخعي وأسند إلى ابن المبارك أنه ذكر له حديث ابن مسعود هذا فقال حديث باطل على أنه لو حسن عارضه ما تقدم من المرفوعات الصريحة الصحيحة في تحريم قليل ما أسكر كثيره ولو عارضه كان المحرم مقدما وما روى عن ابن عباس من قوله حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والمسكر من كل شراب فإنه لم يسلم نعم هو من طريق جيدة هي عن أبي عون عن ابن شداد عن ابن عباس حرمت الخمر بعينها والمسكر من كل شراب وفي لفظ وما أسكر من كل شراب قال وهذا أولى بالصواب من حديث ابن شبرمة فهذا إنما فيه تحريم الشراب المسكر وإذا كانت طريقة أقوى وجب أن يكون هو المعتبر ولفظ السكر تصحيف ثم لو ثبت ترجح المنع السابق عليه بل هذا الترجيح في حق ثبوت الحرمة ولا يستلزم ثبوت الحرمة ثبوت الحد بالقليل إلا بسماع أو بقياس فهم يقيسونه بجامع كونه مسكرا ولأصحابنا فيه منع خصوصا وعموما أما خصوصا فمنعوا أن حرمة الخمر معللة بالإسكار وذكروا عنه عليه الصلاة والسلام حرمت الخمر بعينها والسكر الخ وفيه ما علمت ثم قوله بعينها ليس معناه أن علة الحرمة عينها بل إن عينها حرمت ولذا قال في الحديث قليلها وكثيرها والرواية المعروفة فيه بالباء لا باللام ولو كان كان المراد ما ذكرنا وهذا هو مراد المصنف بما ذكر في الأشربة من نفى تعليلها بالإسكار لأنه لم يذكره إلا لنفي أن حرمتها مقيدة بإسكارها أي لو كانت العلة الإسكار لم يثبت تحريم حتى تثبت العلة وهي الأسكار أو مظنته من الكثير لا أن حرمتها ليست معللة أصلا بل هي معللة بأنه رقيق ملذ مطرب يدعو قليله إلى كثيره وإن كان القدوري مصرا على منع التعليل أصلا ونقض رحمه الله هذه العلة بأن الطعام الذي يضر كثيره لا يحرم قليله وإن كان يدعو إلى كثيره لكن المصنف ذكر في كتاب الأشربة ما يفيد ما ذكرنا فإنه قال في جواب إلحاق الشافعي حرمة المثلث العنبي بالخمر وإنما يحرم قليله لأنه يدعو إلى كثيره لرقته ولطافته والمثلث لغلظه لا يدعو وهو في نفسه غذاء ولا يخفى بعد هذا أن اعتبار دعاية القليل إلى الكثير في الحرمة ليس إلا لحرمة السكر ففي التحقيق الإسكار هو المحرم بأبلغ الوجوه لأنه الموقع للعداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وإتيان المفاسد من القتل وغيره كما أشار النص إلى عليتها ولكن على تقدير ثبوت الحرمة بالقياس لا يثبت الحد لأن الحد لا يثبت بالقياس عندهم وهو ما ذكرنا من المنع على العموم وإذن فلم يثبت الحد بمجرد الشراب من غير الخمر ولكن ثبت بالسكر منه بأحاديث منها ما قدمناه من حديث أبي هريرة فإذا سكر فاجلدوه الحديث فلو ثبت به حل ما لم يسكر لكان بمفهوم الشرط وهو منتف عندهم فموجبه ليس إلا ثبوت الحد بالسكر ثم يجب أن يحمل على السكر من غير الخمر لأن حمله على الأعم من الخمر ينفي فائدة التقييد بالسكر لأن في الخمر يحد بالقليل منها بل يوهم عدم التقييد بغيرها لأنه لا يحد منها حتى يسكر وإذا وجب حمله على غيرها صار الحد منتفيا عند عدم السكر به بالأصل حتى يثبت ما يخرجه عنه ومنها ما روى الدارقطني في سننه أن اعرابيا شرب من إداوة عمر نبيذا فسكر به فضربه الحد فقال الأعرابي إنما شربته من إداوتك فقال عمر إنا جلدناك على السكر وهو ضعيف بسعيد بن ذي لعوة ضعف وفيه جهالة وروى ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا علي بن مسهر عن الشيباني عن حسان بن مخارق قال بلغني أن عمر بن الخطاب ساير رجلا
____________________
(5/307)
في سفر وكان صائما فلما أفطر أهوى إل قربة لعمر معلقة فيها نبيذ فشربه فسكر فضربه عمر الحد فقال إنما شربته من قربتك فقال له عمر إنا جلدنا لسكرك وفيه بلاغ وهو عندي انقطاع وأخرج الدارقطني عن عمران بن داور عن خالد بن دينار عن أبي إسحاق عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد سكر من نبيذ تمر فجلده وعمران بن داور بفتح الواو فيه مقال وروى الدارقطني في سننه عن وكيع عن شريك عن فراس عن الشعبي أن رجلا شرب من إداوة علي رضي الله عنه بصفين فسكر فضربه الحد ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن مجالد عن الشعبي عن علي بنحوه وقال فضربه ثمانين وروى ابن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير عن حجاج عن أبي عون عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس قال في السكر من النبيذ ثمانون فهذه وإن ضعف بعضها فتعدد الطرق ترقيه إلى الحسن مع أن إلاجماع على الحد بالكثير فإن الخلاف إنما هو في الحد بالقليل غير أن هذه الأدلة كما ترى لا تفصل بين نبيذ ونبيذ والمصنف قيد وجوب الحد بقوله ولا يحد السكران حتى يعلم أنه سكر من النبيذ وشربه طوعا لأن السكر من المباح لا يوجب الحد فقد ذكروا أن ما يتخذ من الحبوب كلها والعسل يحل شربه عند أبي حنيفة يعني إذا شرب منها من غير لهو ولا طرب فلا يحد بالسكر منها عنده ولا يقع طلاقه إذا طلق وهو سكران منها كالنائم إلا أن المصنف في كتاب الأشربة قال وهل يحد في المتخذ من الحبوب إذا سكر منه قيل لا يحد وقد ذكرنا الوجه من قبل قالوا الأصح أنه يحد فإنه روى عن محمد فيمن سكر من الأشربة أنه يحد من غير تفصيل وهذا لأن الفساق يجتمعون عليه اجتماعهم على سائر الأشربة بل فوق ذلك وكذلك المتخذ من الألبان إذا اشتد فهو على هذا اه وهو قول محمد فقد صرح بأن إطلاق قوله هنا لأن السكر من المباح لا يوجب حدا غير المختار ورواية عبد العزيز عن أبي حنيفة وسفيان أنهما سئلا فيمن شرب البنج فارتفع إلى رأسه وطلق امرأته هل يقع قالا إن كان يعلمه حين شربه ما هو يقع قوله ولا حد على من وجد به ريح الخمر أو تقيأها لأن الرائحة محتملة فلا يثبت بالاحتمال ما يندرىء بالشبهات وكذا الشرب قد يكون عن إكراه فوجود عنيها في القيء لا يدل على الطواعية فلو وجب
____________________
(5/308)
الحد وجب بلا موجب وأورد عليه أنه قال من قريب والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل فقطع الاحتمال وهنا عكس قال المورد وتكلف بعضهم في توجيهه يريد به صاحب النهاية بأن الاحتمال في نفس الروائح قبل الاستدلال والتميز بعد الاستدلال على وجه الاستقصاء قال ولقائل أن يقول إذا كان التمييز يحصل بالاستدلال فإذا استدل على الوجه المذكور في هذه الصورة يرتفع الاحتمال في الرائحة فينبغي أن يحد حينئذ ولم يقل به أحد ونقل أيضا عنه أن التمييز لمن يعاينه ونظر فيه بأن من عاين الشرب يبنى على يقين لا على استدلال وتخمين وصاحب الهداية أثبت التمييز في صورة الاستدلال لا في صورة العيان أه فبقى الإشكال بحاله ولا يخفى أن المراد معاينة الشرب والاستدلال لا ينافيه لأن المشروب جاز كونه غير الخمر فيستدل على أنه خمر بالرائحة فكون المصنف جعل التمييز يفيده الاستدلال لا ينافي حالة العيان أي عيان الشرب ثم لا شك أن كون الشيء محتملا لا ينافي أن يستدل عليه بقرائن بحيث يحكم به مع شبهة ما فلا ملازمة بين الاحتمال وعدم الاستدلال عليه بل جاز أن يثبت الاستدلال مع ثبوت ضرب من الاحتمال فلا يصح قوله أنه قطع الاحتمال حيث ذكر أنه يمكن التمييز بالاستدلال ولا شك أن المنظور إليه والمقصود في الموضعين ثبوت طريق الدرء أما الموضع الثاني وهو عدم الحد بوجود الرائحة والتقيؤ فظاهر وطريقه أنه لو ثبت الحد لكان مع شبهة عدمه لأن الرائحة محتملة وإن استدل عليها فإن فيها مع الدليل شبهة قوية فلا يثبت الحد معها وأما في الموضع الأول فلا شك أن في إثبات اشتراط عدم التقادم لقبول البينة والإقرار درأ كثيرا واسعا ولا يمكن إثبات هذا الطريق الكائن للدرء إلا باعبتار إمكان تمييز رائحة الخمر من غيرها فحكم باعتبار التمييز بالاجتهاد في الاستدلال وإن كان ملزوما لشبهة النفي ليتمكن من تحصيل هذا الطريق الواسع للدرء لأنه لو لم يعتبر التمييز مع ما فيه من شبهة لكان الشهادة والإقرار معمولا بهما في ازمنة كثيرة متأخرة بلا رائحة فيقام بذلك ما لا يحصى من الحدود وحين اشترط ذلك وضحت طريقه مع الشبهة والاحتمال فظهر أن كلا صحيح في موضعه فدرء الحد في مجرد الرائحة والقىء للاحتمال وردت الشهادة بلا رائحة إذ لا يمكن التمييز إلا مع الاحتمال قوله ولا يحد السكران حتى يزول عنه السكر تحصيلا لمقصود الانزجار وهذا بإجماع الائمة الأربعة لأن غيبوبة العقل وغلبة الطرب والشرح يخفف الألم حتى حكى لي أن بعض المتصابين استدعوا إنسانا ليضحكوا عليه به أخلاط ثقيلة لزجة بركبتيه لا يقلهما إلا بكلفة ومشقة فلما غلب على عقله ادعى القوة والإقدام فقال له بعض الحاضرين ممازحا ليس بصحيح وإلا فضع هذه الجمرة على ركبتك فأقدم ووضعها حتى أكلت ما هناك
____________________
(5/309)
من لحمه وهو لا يلتفت حتى طفئت أو أزالها بعض الحاضرين الشك مني فلما أفاق وجد ما به من جراحة النار البالغة وورمت ركبته ومكث بها مدة إلى أن برأت فعادت بذلك الكي البالغ في غاية الصحة والنظافة من الأخلاط وصار يقول يا ليتها كانت في الركبتين ثم لم يستطع أصلا في حال صحوه أن يفعل مثل ذلك بالأخرى ليستريح من ألمها ومنظرها وإذا كان كذلك فلا يفيد الحد فائدته إلا حال الصحو وتأخير الحد لعذر جائز قوله وحد الخمر والسكر أي من غيرها ثمانون سوطا وهو قول مالك وأحمد وفي رواية عن أحمد وهو قول الشافعي أربعون إلا أن الإمام ولو رأى أن يجلده ثمانين جاز على الأصح واستدل المصنف على تعين الثمانين بإجماع الصحابة روى البخاري من حديث السائب بن يزيد قال كنا نؤتي بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأردينتنا حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين حتى إذا عتوا أو فسقوا جلد ثمانين وأخرج مسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال ثم جلد أبو بكر أربعين فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى قال ماترون في جلد الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف أرى أن نجعله ثمانين كأخف الحدود قال فجلد عمر ثمانين وفي الموطأ أن عمر استشار في الخمر يشربها الرجل فقال له علي بن ابي طالب رضي الله تعالى عنه نرى أن تجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون وعن مالك رواه الشافعي ولا مانع من كون كل من علي وعبد الرحمن بن عوف أشار بذلك فروى الحديث مرة مقتصرا على هذا ومرة على هذا وأخرج الحاكم في المستدرك عن ابن عباس أن الشرب كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصي حتى توفي فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي إلى أن قال فقال عمر ماذا ترون فقال علي رضي الله عنه إذا شرب الخ وروى مسلم عن أنس قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر فضربه بجريدتين نحو الأربعين وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن ابن عوف أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر فيمكن بجريدتين متعاقبتين بأن انكسرت واحدة فاخذت أخرى وإلا فهي ثمانون ويكون مما رأى عليه الصلاة والسلام في ذلك الرجل وقول الراوي بعد ذلك فلما كان عمر استشار الخ لا ينافي ذلك فإن حاصله أنه استشارهم فوقع اختيارهم على تقدير الثمانين التي انتهى إليها فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن قوله وفعله أبو بكر يبعده وإلا لزم أن أبا بكر جلد ثمانين وما تقدم مما يفيد أن عمر هو الذي جلد الثمانين بخلاف أبي بكر والله أعلم وقد أخرج البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه أنه قال ما كنت أقيم على أحد حدا فيموت فيه فأجد منه في نفسي إلا صاحب الخمر فإنه إن مات وديته لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه والمراد لم يسن فيه عددا معينا وإلا فمعلوم قطعا أنه أمر بضربه فهذه الأحاديث تفيد أنه لم يكن مقدرا في زمنه عليه الصلاة والسلام بعدد معين ثم قدره أبو بكر وعمر بأربعين ثم اتفقوا على ثمانين وإنما جاز لهم أن يجمعوا على تعينه والحكم المعلوم منه عليه الصلاة والسلام عدم تعينه لعلمهم بأنه عليه الصلاة والسلام انتهى إلى هذه الغاية في ذلك الرجل لزيادة فساد فيه ثم رأوا أهل الزمان تغيروا إلى نحوه أو أكثر على ما تقدم من قول السائب حتى إذا عتوا وفسقوا وعلموا أن الزمان كلما تأخر كان فساد أهله أكثر
____________________
(5/310)
فكان ما أجمعوا عليه هو ما كان حكمه عليه الصلاة والسلام في أمثالهم وأما ما روى من جلد على أربعين بعد عمر فلم يصح وذلك ما في السنن من حديث معاوية بن حصين بن المنذر الرقاشي قال شهدت عثمان بن عفان رضي الله عنه وقد أتى بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر فشهد أنه رآه يشربها وشهد الاخر أنه رآه يتقيؤها فقال عثمان إنه لم يتقيأها حتى شربها فقال لعلي أقم عليه الحد فقال علي للحسن أقم عليه الحد فقال ول جارها من تولى قارها فقال علي لعبد الله بن جعفر أقم عليه الحد فأخذ السواه وجلده وعلى بعد إلى أن بلغ أربعين قال حسبك جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلى قوله يفرق الضرب على بدنه كما في حد الزنا ونقل من قول ابن مسعود رضي الله عنه للضارب أعط كل ذي عضو حقه يعني ما خلا الوجه والرأس والفرج وعند أبي يوسف يضرب الرأس ايضا وتقدم قوله ثم يجرد في المشهور من الرواية وعن محمد أنه لا يجرد إظهارا للتخفيف لأنه لم يرد به نص وجه المشهور أنا أظهرنا أي الشرع أظهر التخفيف مرة بنقصان العدد فلا يعتبر ثانيا بعدم التجريد والإ قارب المقصود من الانزجار الفوات وتقدم له مثله في الطهارة حيث قال في جواب تخفيفهما الروث والخثى للضرورة قلنا الضرورة قد أثرت في النعال مرة فتكفي مئونتها أي فلا تخفف مرة أخرى وله ضده في الصلاة حيث قال في تخفيف القراءة للمسافر ولأن السفر قد أثر في أسقاط شطر الصلاة فلأن يؤثر في تخفيف القراءة أولى وتقدم هناك الجمع بينه وبين ما في الطهارة أن لا ملازمة بين نفي التخفيف ثانيا ووجوده أولا من حيث هو وجوده والمعول عليه في كل موضع الدليل وعدمه قوله وإن كان عبدا فحده أربعون على ما عرف من ان الرق مؤثر في تنصيف النعمة والعقوبة فإذا قلنا ان حد الحر ثمانون قلنا ان حد العبد اربعون ومن قال حد الحر أربعون قال حد العبد عشرون قوله ومن أقر بشرب الخمر والسكر بفتحتين وهو عصير الرطب إذا أشتد ثم رجع
____________________
(5/311)
لم يحد لأنه خالص حق الله تعالى ولا مكذب له في الرجوع عنه فيقبل ولا يصح ضم سينه لأن إقراره بالسكر من غير الخمر إما في حال سكره فلا يعتبر إقرار السكران كما سيأتي أو بعده ولا يعتبر للتقادم فلا يوجد ما يصح الرجوع عنه قوله ويثبت الشرب بشهادة شاهدين ويثبت بالإقرار مرة واحدة وعن أبي يوسف أنه يشترط الإقرار مرتين وقوله سنبينها هناك أي سنبين هذه المسئلة في الشهادات ولا تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال ولا نعلم في ذلك خلافا لأن فيها أي في شهادة النساء شبهة البدلية لقوله تعالى { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } فاعتبرها عند عدم الرجلين ولم يرد به حقيقته بالإجماع لأنهما لو شهدتا مع رجل مع إمكان رجلين صح إجماعا و فيه تهمة الضلال لقوله تعالى { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } في الكشاف أن تضل أي لا تهتدي للشهادة وفي التيسير الضلال هنا النسيان وقوله فتذكر إحداهما الأخرى أي تزيل نسيانها قوله والسكران الذي يحد لسكره من غير الخمر عند أبي حنيفة هو الذي لا يعقل منطلقا لا قليلا ولا كثيرا ولا يعقل الرجل من المرأة زاد في الفوائد الظهيرية ولا الأرض من السماء وقالا هو الذي يهذي ويخلط وبه قال الائمة الثلاثة ولما لم يذكر الخلاف في الجامع الصغير ذكره المصنف والمراد أن يكون غالب كلامه هذيانا فإن كان نصفه مستقيما فليس بسكران فيكون حكمه حكم الصحاة في إقراره بالحدود وغير ذلك لأن السكران في العرف من اختلط كلامه جده بهزله فلا يستقر على شيء وإليه مال أكثر المشايخ واختاره للفتوى لأن المتعارف إذا كان
____________________
(5/312)
يهذي يسمى سكران وتأيد بقول علي إذا سكر هذى ولأبي حنيفة أنه يؤخد في أسباب الحدود بأقصاها درءا بدليل الإلزام في شهادة الزنا أن يقول كالميل في المكحلة وفي السرقة بالأخذ من الحرز التام لأن فيما دون ذلك شبهة الصحو فنيدرىء الحد وأما في ثبوت الحرمة فما قالا فاحتاط في أمر الحد وفي الحرمة وإنما اختاروا للفتوى قولهما لضعف وجه قوله وذلك أنه حيث قال يؤخذ في أسباب الحدود بأقصاها فقد سلم أن السكر يتحقق قبل الحالة التي عينها وأنه تتفاوت مراتبه وكل مرتبة هي سكر والحد إنا أنيف في الدليل الذي أثبت حد السكر بكل ما يسمى سكرا لا بالمرتبة الأخيرة منه على أن الحالة التي ذكر قلما يصل إليها سكران فيؤدي إلى عدم الحد بالسكر وروى بشر عن ابي يوسف اعتبار السك ربقراءة سورة قل يا ايها الكافرون ولا شك أن المراد ممن يحفظ القرآ أو كان حفظها فيما حفظ منه لا من لم يدر شيئا أصلا قال بشر فقلت لأبي يوسف كيف أمرت بها من بين السور فربما يخطىء فيها العاقل الصاحي قال لأن الله بين أن الذي عجز عن قراءتها سكران يعني به ما في الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا فأكلنا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقد مونى فقرأت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون قال فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا ينبغي أن يعول على هذا بل ولا يعبتر به فإنه طريق سماع تبديل كلام الله عز وجل فإنه ليس كل سكران إذا قيل له أقرأ قل يا أيها الكافرون يقول لا أحسنها الان بل يندفع قارئا فيبدلها إلى الكفر ولا ينبغي أن يلزم أحد بطريق ذكر ما هو كفر وإن لم يؤاخذ به نعم لو تعين طريقا لإقامة حكم الله تعالى لكن ليس كذلك فإن معرفة السكران لا توقف عليه بل له طريق معلوم ما ذكرنا وقوله تعالى ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى لمن لم يحسنها لا يوجب قصر المعرف عليه وقوله وما دون ذلك لا يعرى عن شبهة الصحو ممنوع بل إذا حكم العرف واللغة
____________________
(5/313)
بأنه سكران بمقدار من اختلاف الحال حكم بأنه سكران بلا شبهة صحو وما معه من ذلك القدر من التمييز لم يجعل شبهة في أنه سكران وإذا كان سكران بلا شبهة حد فالمعتبر ثبوت الشبهة في سكرة في نفي الحد لا ثبوت شبهة صحوة وعرف مما ذكر أن من أستدل لأبي حنيفة رضي الله عنه بهذه الآية على أن السكر هو أن لا يعقل منطقا الخ غريق في الخطإ لأنها في علي وأصحابه ولم يصل سكرهم إلى ذلك الحد كما علمت من أنهم أدركوا الوجوب وقاموا للإسقاط وجعلهم سكارى فيه تفيد ضد قوله وأما قوله تعالى حتى تعلموا الآية فإنما أطلق لهم الصلاة حتى يصحوا كل الصحو بأن يعلموا جميع ما يقولون خشية أن يبدلوا بعض ما يقولون وليس فيه أن من مراتب السكر كذا وكذا بل أن من وصل إلى ذلك الحد الذي كانوا فيه سمى سكران وكون المقدر الذي هو سبب للحد ما هو لا تعرض له بوجه وقول المصنف والشافعي يعتبر ظهور أثره في مشيته وحركاته وأطرافه يفيد أن المراد من الإجماع في قوله والمعتبر في القدح المسكر ما قالاه بالإجماع الإجماع المذهبي وإلا لم يكن للشافعي قول آخر يخالف قولهما واعترضه شارح بأنه قلد فيه فخر الإسلام وفيه نظر فإن الشافعي يوجب الحد في شرب النبيذ المسكر جنسه وإن قل ولا يعتبر السكر أصلا ولا يخفى أنه ليس بلازم من نقل قول الشافعي في تحديد السكر ما هو اعتقاد الناقل أن الشافعي يحد بالسكر بل الحاصل أنه لما قال يحد بالسكر عندنا حد السكر مطلقا عنهما وعن الشافعي ومفصلا عن الإمام أي هو باعتبار اقتضائه الحد هو أقصاه وباعتبار مجرد الحرمة هو ما ذكرتم وجاز أن يكون بعض من فسر السكر يحد بلا سكر وإنما فسره باعتبار آخر كأن حلف بطلاق أو عتاق ليشربن حتى سكر فيحده ليعلم متى يقع الطلاق والعتاق وغير ذلك ثم أبطله بأن هذا يتفاوت أي لا ينضبط فكم من صاح بتمايل ويزلق في مشتيه وسكران ثابت وما لا ينضبط لا يضبط به ولأن الذي وقع في كلام على رضي الله عنه بحضرة الصحابة اعتبار بالأقوال لا بالمشي حيث قال إذا سكر هذي الخ قوله ولا يحد السكران بإقراره على نفسه أي بالحدود الخالصة حقا لله تعالى كحد الزنا والشرب والسرقة إلا أنه يضمن المسروق وقيد بالإقرار لأنه لو شهد عليه بالزنا في حال سكره وبالسرقة يحد بعد الصحو ويقطع وإنما لا يعتبر أقراره في حقوق الله تعالى لأنه يصح رجوعه عنه ومن المعلوم أن السكران لا يثبت على شيء وذلك الإقرار من الأشياء والأقوال التي يقولها فهو محكوم بأنه لا يثبت عليه ويلزمه الحكم بعد ساعة بأنه رجع عنه هذا مع زيادة شبهة أنه يكذب على
____________________
(5/314)
نفسه مجونا وتهتكا كما هو مقضتى السكر المتصف هو به فيندرىء عنه بخلاف ما لا يقبل الرجوع فإنه مؤاخذ به لأن غاية الأمر أن يجعل راجعا عنه لكن رجوعه عنه لا يقبل هذا والذي ينبغي أن يعتبر في السكر الذي لا يصح معه الإقرار بالحدود على قول أبي حنيفة قولهما فيتفقون فيه كما اتفقوا عليه في التحريم لأنه أدرأ للحدود منه لو اعتبر قوله فيه في إيجاب الحد وهذا بخلاف حد القذف لأن فيه حق العبد والسكران كالصاحي فيما فيه حقوق العباد عقوبة عليه لأنه أدخل الآفة على نفسه فإذا أقر بالقذف سكران حبس حتى يصحو فيحد للقذف ثم يحبس حتى يخف عنه الضرب فيحد للسكر وينبغي أن يكون معناه أنه أقر بالقذف سكران وشهد عليه بالسكر من الأنبذة المحرمة أو مطلقا على الخلاف في الحد بالسكر من الأشربة المباحة وإلا فبمجرد سكره لا يحد بإقراره بالسكر وكذا يؤاخذ بالإقرار بسبب القصاص وسائر الحقوق من المال والطلاق والعتاق وغيرها لأنها لا تقبل الرجوع قوله ولو ارتد السكران لاتبين منه أمرأته لأن الكفر من باب الاعتقاد او الاستخفاف وباعتبار الاستخفاف حكم بكفر الهازل مع عدم اعتقاده لما يقول ولا اعتقاد للسكران ولا استخفاف لأنهما فرع قيام الإدراك وهذا يقتضى أن السكران الذي لا تبين امرأته هو الذي لا يعقل منطقا كقول أبي حنيفة في حده والظاهر أنه كقولهما ولذا لم ينقل خلاف في أنه لا يحكم بكفر السكران بتكلمه مع أنهما لم يفسرا السكران بغير ما تقدم عنهما فوجهه أن أبا حنيفة إنما اعتبر عدم الإدراك في السكران احتياطا لدرء الحد ولا شك أنه يجب أن يحتاط في عدم تكفير المسلم حتى قالوا إذا كان في المسئلة وجوه كثيرة توجب التكفير ووجه واحد يمنعه على المفتي أن يميل إليه ويبني عليه فلو اعتبر في اعتبار عدم ردته بالتكلم بما هو كفر أقصى السكر كان احتياطا لتكفيره لأنه يكفر في جميع ما قبل تلك الحالة هذا في حق الحكم أما فيما بينه وبين الله تعالى فإن كان في الواقع قصد أن يتكلم به ذاكرا لمعناه كفر وإلا فلا فإن قيل هذا الاعتبار مخالف للشرع فإن الشارع اعتبر دركه قائما حتى خاطبه في حال سكره وذلك لأن قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى يتضمن خطاب السكارى لأنه في حال سكره مخاطب بأن لا يقربها كذلك وإلا لجاز له قربانها وإن لم يعلم ما يقو لعدم الخطاب عليه فلا يفيد هذا الخطاب فائدة أصلا فهو خطاب للصاحي أن لا يقربها إذا سكر فالامتثال مطلوب منه حال السكر سواء كان يعقل درك شيء ما أو لا كالنائم وهو معنى كونه مخاطبا حال السكر ولا شك أن تحقق الخطاب عليه ولا
____________________
(5/315)
درك ليس إلا عقوبة إذ تلزمه الأحكام ولا علم له بما يصدر منه فاعتبار دركه زائلا في حق الرده حتى لا يكفر حينئذ لعدم الاعتقاد والاستخفاف اعتبار مخالف لاعتبار الشرع في حقه قلنا ثبت من الشرع ما يقتضي أنه بعد ما عاقبه بلزوم الأحكام مع عدم فهم الخطاب خفف عنه في أصل الدين رحمة عليه في ذلك خاصة وذلك حديث عبد الرحمن بن عوف المتقدم فإنه لم يحكم بكفر القارىء مع أسقاط لفظة لا من قل يا أيها الكافرون ولا شك أن ذلك السكر الذي كان بهم لم يكن بحيث لا درك أصلا ألا ترى أنهم أدركوا وجوب الصلاة وقاموا إلى الأداء فعلمنا أن الشارع رحمه في أصل الدين وعاقبه في فروعه ولهذا صححنا إسلامه ولولا هذا الحديث لقلنا بردته وإن لم يكن له درك ولم نصحح من الكافر السكران إسلامه ومما ذكرنا يعرف صحة التفصيل لذي ذكرناه وهو أن هذا السكران الذي وقع منه كلمة ردة ولم يصل إلى أقصى السكر إن كان عن غير قصد إليها كما قرأ على قل يا أيها الكافرون فغير فليس بكافر عند الله ولا في الحكم وإن كان مدركا لها قاصدا مستحضرا معناها فإنه كافر عند الله تعالى بطريق تكفير الهازل وإن لم يحكم بكفره في القضاء لأن القاضي لا يدرى من حاله إلا أنه سكران تكلم بما هو كفر فلا يحكم بكفره والله سبحانه أعلم & باب حد القذف
تقدم وجه المناسبة بينه وبين ما قبله وما بعده والقذف لغة الرمي بالشيء وفي الشرع رمى بالزنا وهو من الكبائر بإجماع الأمة قال الله تعالى { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم } وقال عليه الصلاة والسلام اجتنبوا السبع الموبقات قيل وما هن يا رسول الله قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات متفق عليه وعنه عليه الصلاة والسلام من أقام الصلوات الخمس واجتنب السبع الكبائر نودي يوم القيامة ليدخل من أي أبواب الجنة شاء وذكر منها قذف المحصنات وتعلق الحدبه بالإجماع مستندين إلى قوله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } والمراد الرمي بالزنا حتى لو رماه بسائر المعاصي غير لا يجب الحد بل التعزيز وفي النص إشارة إليه أي إلى أن المراد المري بالزنا وهو اشتراط أربعة من الشهود يشهدون عليها بما رماها به ليظهر به صدقه فيما رماها به ولا شيء يتوقف ثبوته بالشهادة على شهادة أربعة إلا الزنا ثم ثبت وجوب جلد القاذف للمحصن بدلالة هذا النص بالقطع بإلغاء الفارق وهو صفة الأنوثة واستقلال دفع عار ما نسب إليه بالتأثير بحيث لا يتوقف فهمه على ثبوت أهلية الاجتهاد قوله وإذا قذف الرجل رجلا محصنا أو امرأة محصنة بصريح الزنا بأن قال زنيت أو يا زاني
____________________
(5/316)
وطالب المقذوف بالحد حده الحاكم ثمانين سوطا إن كان القاذف حرا وإن كان عبدا حد أربعين سوطا شرط الإحصان في المقذوف وهو أن يكون حرا عاقلا بالغا مسلما عفيفا وعن داود عدم اشتراط الحرية وأنه يحد قاذف العبد وعن أحمد لا يشترط البلوغ بل كون المقذوف بحيث يجامع وإن كان صبيا وهي خلاف المصحح عنه وعن سعيد بن المسيب وابن أبي ليلى يحد بقذف الذمية إذا كان لها ولد مسلم والمعول عليه قول الجمهور وسيأتي الوجه عليه وقوله بصريح الزنا يحترز عن القذف بالكناية كقائل صدقت لمن قال يا زاني بخلاف ما لو قال هو كما قلت فإنه يحد ولو قال أشهد أنك زان فقال الآخر وأنا أشهد لاحد على الثاني لأن كلامه محتمل ولو قال وأنا أشهد بمثل ما شهدت به حد ويحد بقوله زنى فرجك وبقوله زنيت ثم قال بعد ما قطع كلامه وأنت مكرهة بخلافه موصولا وكذا إذا قال ليست أمي بزانية أو أبى فإنه لا يحد وبه قال الشافعي وأحمد وسفيان وابن شبرمة والحسن بن صالح وقال مالك وهو رواية عن أحمد يحد بالتعريض لما روى الزهري عن سالم عن عبد الله ابن عمر قال كان عمر يضرب الحد في التعريض وعن علي أنه جلد رجلا بالتعريض ولأنه إذا عرف المراد بدليله من القرينة صار كالصريح قلنا لم يعتبر الشارع مثله فإنا رأيناه حرم صريح خطبة المتوفي عنها في العدة واباح التعريض فقال ولكن لا تواعدوهن سرا وقال ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء فإذا ثبت من الشرع نفى اتحاد حكمهما في غير الحد لم يجز أن يعتبر مثله على وجه يوجب الحد المحتاط في درئه وأما
____________________
(5/317)
الاستدلال بأنه صلى الله عليه وسلم لم يلزم الحد للذي قال يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود يعرض بنفيه غير لازم لأن إلزام حد القذف متوقف على الدعوى والمرأة لم تدع وقد أورد أن الحد يثبت بنفي النسب وليس صريحا في القذف ووروده باعتبار المفهوم وهو حجة في الروايات وأجيب بأنه يثبت بالنسبة إلى الزنا بالاقتضاء والثابت مقتضى كالثابت بالعبارة والحق أن لا دلالة اقتضاء في ذلك لما سيذكر بل حده بالأثر والإجماع فهو وارد لا يندفع ولا فرق في ثبوت القذف بعد أن يكون بصريح الزنا بين أن يكون بالعربي أو النبطي أو الفارسي أو غير ذلك فلا يحد لو قال لها زنيت بحمار أو بعير أو ثور لأن الزنا إدخال رجل ذكره الخ بخلاف ما لو قال لها زنيت بناقة أو أتان أو ثوب أو دراهم حيث يحد لأن معناه زنيت وأخذت البدل إذ لا تصلح المذكورات للإدخال في فرجها ولو قال هذا لرجل لا يحد لأنه ليس العرف في جانبه أخذ المال ولو قال زنيت وأنت صغيرة أو جامعك فلان جماعا حراما لا يحد لعدم الإثم ولعدم الصراحة إذ الجماع الحرام يكون بنكاح فاسد وكذا لا يحد في قوله يا حرام زاده لأنه ليس كل حرام زنا ولا بقوله أشهدني رجل أنك زان لأنه حاك لقذف غيره ولا بقوله أنت أزنى من فلان أو ازنى الناس أو أزنى الزناة لأن أفعل في مثله يستعمل للترجيح في العلم فكأنه قال أنت أعلم به وسيأتي خلافه في فروع نذكرها وأما اشتراط مطالبة المقذوف فإجماع إذا كان حيا فإن كان ميتا فمطالبة من يقع القدح في نسبه ثم أن نفيه عن غير المقذوف بمفهوم الصفة وهو معتبر وأورد ينبغي أن لا تشترط المطالبة لأن المغلب فيه حق الله تعالى فالجواب أن حق العبد مطلقا يتوقف النظر فيه على الدعوى وإن كان مغلوبا نعم يرد على ظاهر العبارة قذف نحو الرتقاء والمجبوب فإنه لا يحد فيه مع صدق القذف للمحصنة بصريح الزنا وكذا الأخرس لاحتمال أن يصدقه لو نطق وفي الأولين كذبه ثابت بيقين فانتفى إلحاق الشين إلا بنفسه ولو قال لرجل يا زانية لا يحد استحسانا عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد والشافعي يحد لأنه قذفه على المبالغة فإن التاء تزاد له كما في علامة ونسابة ولهما أنه رماه بما يستحيل منه فلا يحد كما لو قذف مجبوبا وكذا لو قال أنت محل للزنا لا يحد وكون التاء للمبالغة مجاز لما عهد لها من التأنيث ولو كان حقيقة فالحد لا يجب بالشك ولو قال لامرأة يا زاني حد عندهم لأن الترخيم شائع ويفرق الضرب على أعضائه لما مر في حد الزنا قوله ولا يجرد من ثيابه إلا في قول مالك لأن سببه وهو النسبة إلى الزنا كذبا غير مقطوع به لجواز كونه صادقا غير أنه عاجز عن البيان بخلاف حد الزنا لأن سببه معاين للشهود أو للمقربه والمعلوم لهما هنا نفس القذف وإيجابه الحد ليس بذاته بل باعتبار كونه كاذبا حقيقة أو حكما بعدم إقامة البينة قال تعالى فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون فالحاصل أنه تعالى منع من النسبة إلى الزنا إلا عند القدرة على الإثبات بالشهداء لأن فائدة النسبة هناك تحصل أما عند العجز فإنما هو تشنيع ولقلقة تقابل بمثلها بلا فائدة بخلاف حد الزنا غير أنه ينزع
____________________
(5/318)
عنه الفرو والحشو أي الثوب المحشو لأنه يمنع وصول الألم إليه ومقتضاه أنه لو كان عليه ثوب ذو بطانة غير محشو لا ينزع والظاهر أنه إن كان فوق قميص ينزع لأنه يصير مع القميص كالمحشو أو قريبا منه ويمنع إيصال الألم الذي يصلح زاجرا قوله والإحصان أن يكون المقذوف حرا الخ قدمنا ذلك والكلام هنا في إثبات ذلك ويثبت الإحصان بإقرار القاذف أو شهادة رجلين أو رجل وامرأتين خلافا لزفر وتقدمت فإن أنكر القاذف الإحصان وعجز المقذوف عن البينة لا يحلف ما يعلم أنها محصنة وكذا إذا أنكر الحرية ليحد حد الأرقاء القول قوله ولا يحد كالأحرار إلا أن يقيم المقذوف بينة أنه حر ولو كان القاضي يعلم حريته حده ثمانين وهذا قضاء يعلمه فيما ليس سببا للحد فيجوز أما اشتراط الحرية فلأنه يطلق عليه اسم الإحصان قال تعالى فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب أي الحرائر فالرقيق ليس محصنا بهذا المعنى وكونه محصنا بمعنى آخر كالإسلام وغيره يوجب كونه محصنا من وجه دون وجه وذلك شبهة في إحصانه توجب درء الحد عن قاذفه فلا يحد حتى يكون محصنا بجميع المفهومات التي أطلق عليها لفظ الإحصان إلا ما أجمع على عدم اعتباره في تحقق الإحصان وهو كونها زوجة أو كون المقذوف زوجا فإنه جاء بمعناه وهو قوله تعالى والمحصنات من النساء أي المتزوجات ولا يعتبر في إحصان القذف بل في إحصان الرجم ولا شك أن الأحصان أطلق بمعنى الحرية كما ذكرنا وبمعنى الإسلام في قوله تعالى فإذا أحصن قال ابن مسعود أسلمن وهذا يكفي في إثبات اعتبار الإسلام في الإحصان والمصنف ذكر فيه ما تقدم قوله عليه الصلاة والسلام من أشرك بالله فليس بمحصن وتقدم الكلام عليه وبمعنى العفة عن فعل الزنا قال تعالى والذين يرمون المحصنات والمراد بهن العفائف وأما العقل والبلوغ ففيه إجماع إلا ما عن أحمد أن الصبي الذي يجامع مثله محصن فيحد قاذفه
____________________
(5/319)
والأصح عنه كقول الناس وقول مالك في الصبية التي يجامع مثلها يحد قاذفها خصوصا إذا كانت مراهقة فإن الحد بعلة إلحاق العار ومثلها يلحقه والعامة يمنعون كون الصبي والمجنون يلحقهما عار بنسبتهما إلى الزنا بل ربما يضحك من القائل لصبي أو مجنون يا زاني إما لعدم صحة قصده وإما لعدم خطابهما بالحرمات ولو فرض لحوق عار لمراهق فليس إلحاقا على الكمال فيندرىء وهذا أولى من تعليل المصنف بعدم تحقق فعل الزنا منهما لأنه مؤول بأن المراد بالزنا المؤثم وإلا فهو يتحقق منهما إذ يتحقق منهما الوطء في غير الملك لكن القدذف إنما يوجب الحد إذا كان بزنا يؤثم صاحبه وبه يندفع الإيراد القائل إذا لم يتحقق الزنا منهما فينبغي أن يحد قاذف مجنون زنى حالة جنونه لكن لا يحد وإن كان قذفه حين إفاقته وأما اشتراط العفة فلأن غير العفيف لا يلحقه العار بنسبته إلى الزنا لأن تحصيل الحاصل محال ولو لحقه عار آخر فهو صدق وحد قذف للفرية لا للصدق وفي شرح الطحاوي في العفة قال لم يكن وطىء امرأة بالزنا ولا بشبهة ولا بنكاح فاسد في عمره فإن كان فعل ذلك مرة يريد النكاح الفاسد سقطت عدالته ولا حد على قاذفه وكذا لو وطىء في غير الملك أو وطىء جارية مشتركة بينه وبين غيره سقطت عدالته ولو وطئها في الملك إلا أنه محرم فإنه ينظر إن كانت الحرمة مؤقتة لا تسقط عدالته كما إذا وطىء امرأته في الحيض أو أمته المجوسية لا يسقط إحصانه وإن كانت مؤبدة سقط إحصانه كما إذا وطىء أمته وهي أخته من الرضاع ولو مس امرأة بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة ثم تزوج بنتها فدخل بها أو أمها لا يسقط إحصانه عند أبي حنيفة وعندهما يسقط ولو وطىء امرأة بالنكاح ثم تزوج بنتها ودخل بها سقط إحصانه انتهى لفظه وإنما لم يسقط إحصانه عند أبي حنيفة في بنت الممسوسة بشهوة لأن كثيرا من الفقهاء يصححون نكاحها قوله ومن نفي نسب غيره فقال لست لأبيك فإنه يحد وهذا إذا كانت أمه حرة مسلمة وكذا اقتصر عليه الحاكم في الكافي وعلله في الهداية بأنه في الحقيقة قذف لأمه فكأنه قال أمه زانية لأنه إذا كان لغير أبيه ولا نكاح لذلك الغير كان عن زناها معه قيل فعلى هذا كان الأولى أن يقال إذا كانت محصنة حتى يشمل جميع شرائط الإحصان وأورد
____________________
(5/320)
عليه أنه يجوز أن لا يكون ثابت النسب من أبيه ولا تكون أمه زانية بأن كانت موطوءة بشبهة أو نكاح فاسد الجواب أن المراد أنك لست لأبيك الذي ولدت من مائه بل مقطوع النسب منه وهذا ملزوم بأن الأم زنت مع صاحب الماء الذي ولد منه وهذا معنى قول المصنف لأن النسب إنما ينفي عن الزاني لا عن غيره وحاصله أن نفي نسبه عن أبيه يستلزم كون أبيه زانيا لأن النسب إنما ينفي عن الزاني فيلزم أن أمه زنت مع ابيه فجاءت به من الزنا ولا يخفى أنه ليس بلازم لجواز كون أبيه زنى بأمه مكرهة أو نائمة فلا يثبت نسبه من أبيه ولا يكون قاذفا لأمه فالوجه إثباته بالإجماع وهذا بناء على الحكم بعدم إرادة الأب الذي يدعى إليه وينسب بخصوصه ولا شك في هذا وإلا كانت بمعنى المسئلة التي تليها وهي التي يرد عليها السؤال المذكور وجوابه ما سيجيء وحمل بعضهم وجوب الحد في هذه على ما إذا كان قوله ذلك في حال الغضب والسباب بدليل المسئلة التي تليها فإذن يختلف المراد بلفظ الأب على هذا التقدير فإنه إذا كان في غير حالة الغضب فإنما يراد بالأب المشهور فيكون النفي مجازا عن نفي المشابهة في محاسن الأخلاق قوله ومن قال لغيره في غضب لست بابن فلان لأبيه الذي يدعي إليه يحد ولو قال في غير غضب لا يحد لأن عند الغضب يراد به حقيقته أي حقيقة نفيه عن أبيه لأنه حالة سب وشتم وفي غيره يراد به المعاتبة على عدم تشبهه به في محاسن أخلاقه ولا يخفى أن في حالة الغضب ليس نسبة أمه إلى الزنا أمرا لازما لجواز نفيه عنه والقصد إلى إثباته من غيره لشبهة أو نكاح فاسد كالتي قبلها فثبوت الحد به بمعونة قرائن الأحوال وهذا لا يثبت القذف بصريح الزنا وكذا ذكر في المبسوط أن في الأول الحد استحسانا بأثر ابن مسعود وهو ما ذكره الحاكم في الكافي من قول محمد بلغنا عن عبد الله بن مسعود أنه قال لا حد إلا في قذف محصنة أو نفي رجل عن أبيه ثم حملوا الأثر عل النفي حالة الغضب وحكموا بأنه حالة عدمه لم ينفه عن أبيه بدلالة الحال فليس هذا من التخصيص في شيء إذ ليس قذفا وإنما يكون تخصيصا لو كان قذفا أخرج من حكم القذف ولو قال لست بابن فلان ولا ابن فلانة لا يحد مطلقا لأن حده في قوله لست ابن فلان في حاله الغضب مقتصرا عليه باعتبار أنه قذف أمه وإذا نفى نسبه عن أمه فقد نفى ولادتها إياه فقد نفى زناها به فكيف يحد هذا وأما إذا قال يا ولد الزنا أو يا ابن الزنا فلا يتأتى فيه تفصيل بل يحد البتة بخلاف ما لو قال يا ابن القحبة فإنه يعزر ولو قال لامرأته يا حليلة فلان لا يحد ولا يعزر قوله ولو قال لست بابن فلان يريد بفلان جده لا يحد لأنه صادق في كلامه وكذا لو قال أنت ابن فلان يعني جده هو صادق لأنه قد ينسب إلى الجد مجازا متعارفا
____________________
(5/321)
وفي بعض أصحابنا ابن أمير حاج وأمير حاج جده وكذا لو قال أنت ابن فلان لعمه أو خاله أو زوج أمه لا يحد لأن كلا منهما أطلق عليه أسم الأب كما سيأتي واعلم أن قوله لست ابن فلان لأبيه المعروف له معنى مجازى هو نفي المشابهة ومعنى حقيقي هو نفي كونه من مائه مع زنا الأم به أو عدم زناها بل بشبهة فهي ثلاثة معان يمكن إرادة كل منها على الخصوص وقد حكموا بتحكيم الغضب وعدمه فمعه يراد نفي كونه من مائه مع زنا الأم به ومع عدمه يراد المجازي وقوله لست ابن فلان لجده له معنى مجازي هو نفي مشابهته لجده ومعنيان حقيقيان أحدهما نفي كونه مخلوقا من مائه والاخر نفى كونه أبا أعلى له وهذا يصدق بصورتين نفى كون أبيه خلق من مائه بل زنت جدته به أو جاءت به بشبهة وكل هذه المعاني يصح إرادة كل منها وقد حكم يتعين الغضب أحدها بعينه في الأول وهو كونه ليس من مائه مع زنا الأم به إذ لا معنى لأن يخبره في السباب بأن أمه جاءت به بغير زنا بل بشبهة فيجب أن يحكم أيضا بتعيين الغضب في المعنى الثاين الذي هو نفى نسب أبيه عنه وقذف جدته به فإنه لا معنى لإخباره في حالة الغضب بأن لم تخلق من ماء جدك وهو مع سماحته ابعد في الإرادة من أن يراد نفي أبوته لأبيه لأن هذا كقولنا السماء فوق الأرض ولا مخلص إلا أن يكون فيها إجماع على نفي الحد بلا تفصيل كما أن في تلك إجماعا على ثبوته بالتفصيل ولو قال له أنت ابن فلان لغير هؤلاء حد مع أنه ليس بقذف صريح لجواز كونه ابنه شرعا بلا زنا على ما قلنا فإنما هو استحسان بمعنى حديث ابن مسعود وهذه الصور ستأتي في الكتاب لكنها هنا أنسب قوله ولو قال له يا ابن الزانية وأمه ميتة محصنة كان للولد المطالبة بحده فإذا طالب به حد القاذف ولا يطالب بحد القذف للميت إلا من يقع القدح في نسبه بقذفه وهو الوالد وإن علا والولد وإن سفل لأن العار يلتحق بهما للجزئية فيكون القذف متناولا معنى لهما فلذلك يثبت لهما حق المطالبة لكن لحوقه لهما بواسطة لحوق المقذوف بالذات فهو الأصل في ذلك فهو الأصل في الخصومة لأن العار يلحقه
____________________
(5/322)
مقصودا فلا يطالب غيره بموجبه إلا عند اليأس عن مطالبته وذلك بأن يكون ميتا فلذا لو كان المقذوف غائبا لم يكن لولده ولا لوالده ولا المطالبة خلافا لابن أبي ليلى لأنه يجوز أن يصدقه الغائب وما ذكرنا من أن حق المطالبة يثبت للأب وإن علا ذكره الفقيه أبو الليث وفي فتاوي قاضيخان رجل قذف ميتا فلولده وولد ولده ووالده أن يأخذ القاذف ويحده وولد الابن وولد البنت سواء في ظاهر الرواية ولا يأخذه بذلك أخ ولا عم ولا جد أبو الأب ولا أم الأم ولا عمة ولا مولاه وعند الشافعي ومالك وأحمد ايضا تثبت المطالبة لكل وارث بناء على أنه يورث عنده ففي فتاوي القاضي قال محمد لكل من يرثه ويورثه منه أن يأخذ القاذف ويحده أه وهذه رواية غريبة عن محمد ثم للشافعية فيمن يرثه ثلاثة أوجه أحدها أن يرثه جميع الورثة والثاني من غير الوارث بالزوجية والثالث يرثه ذكور العصبات لا غيرهم وعندنا ليس بطريق الإرث بل لما ذكرنا من لحوق العار ولذا لا يثبت للأخ عندنا حق المطالبه به لأن قرابة الولاد بمنزلة نفس الإنسان فاللاحق من العار للإنسان كاللاحق النف ولده ووالده بخلاف الأخ لا يلحقه ضرر عار زنا أخيه كما لا يلحقه النفع بانتفاع أخيه ولعلم الشرع بذلك أجاز شهادة الأخ لأخيه فليس لأخي المقذوف ولا لعمه وخاله المطالبة بحد القذف ولم تجز شهادة الولد والوالد لأنهما في حكم نفس المشهود له ولهذا أعنى لكون حق المطالبة للحوق العار غير دائر مع الإرث يثبت للمحروم عن الميراث بالقتل أو الرق أو الكفر فلقاتل ابيه أن يطالب قاذفه بعد قتله بحد القذف وكذا إذا كان الولد عبدا أو كافرا خلافا لزفر رحمه الله ويثبت لولد بنت المقذوف كما يثبت لولد الابن خلافا لمحمد ويثبت للأبعد مع وجود الأقرب وكذا يثبت لولد الولد حق المطالبة مع وجود الولد خلافا لزفر ولو عفا بعضهم كان لغيره أن يطالب به لأنه للدفع عن نفسه وقوله خلافا لمحمد يعني في رواية ليس هي ظاهر الرواية عنه ووجهها أن نسبه إلى أبيه وهو أجنبي عن جدته لأمه بدليل أنه لم يدخل في لفظ ولد الولد ولذا لو وقف على اولادة وأولاد أولاده لا يدخل ابن النبت في ظاهر الرواية وجه الظاهر عنهم أولا يمنع عدم الدخول بل يدخل
____________________
(5/323)
كقول الخصاف وقد اختاره جماعة في الوقف وثانيا بتقدير التسليم أن المبني مختلف لأن مبني ثبوت الخصومة في حق القذف ثبوت الجزئية المستلزمة لرجوع عار المنسوب إلى الإنسان إلى الآخر وثبوت الوقف عليه بثبوت تبادر ولدالبنت من قولنا أولاد فلان لأنه وقف على من يسمى به فإذا لم يتبادر لا يشمله الوقف وصار كالوصية لأولاد أولاد فلان لا يدخل أولاد بناته لهذا وجه قول زفر إن ما يلحق الولد فوق ما يلحق ولد الولد فصار ولد الولد مع الولد كولد المقذوف معه واعتبره بالخصومة في الكفاءة فإنه لا خصومة للأبعد مع وجود الأقرب والجواب منع أن ما يلحق الأقرب فوق ما يلحق الأبعد بل اكل من ينسب إلى المقذوف بالجزئية لحقه من العار مثل ما لحق الآخر لاتحاد الجهة والتبعية بخلاف المقذوف مع ولده لأنه لحقه العار مقصودا بالإلحاق به دون ولده وولد ولده وأما حق خصومة الكفاءة فإنما يثبت للأقرب بالحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم الإنكاح إلى العصبات فعلم ترتبهم في ذلك لأن الاسم يشعر به حيث علم أن حكمه ذلك فإن قلت قد ظهر الاتفاق على ولاية مطالبة ولد الولد بقذف جده وجدته إنما خالف زفر في ذلك عند وجود الأقرب فما وجه ما في قاضيخان فإذا قال جدك زان لا حد عليه قلنا ذلك للإبهام لأن في أجداده من هو كافر فلا يكون قاذفا ما لم يعين مسلما بخلاف قوله أنت ابن ابن الزانية لأنه قاذف لجده الأدنى فإن كان أو كانت محصنة حد قوله وإذا كان المقذوف محصنا جاز لابنه الكافر ولابنه العبد أن يطالب بالحد خلافا لزفر ولكل من قال طريقه للإرث يعنى إذا كان المقذوف ميتا بأن وقع بعد موت المقذوف لأنه لا يورث ولا يطالب به الابن في حال حياة المقذوف هو يقول القذف تناول الابن معنى لا صورة لرجوع العار إليه وليس الحد الآن والمطالبة به لأجل أمه إذ ليس طريقه الإرث عندنا وإذا تناوله معنى فغاية أمره أن يجعل كأنه تناوله صورة ومعنى بأن يكون هو المقصود بالقذف ولو كان كذلك لم يكن له المطالبة لعدم إحصانه فكذا إذا كان مقذوفا معنى فقط ولنا أنه أي القاذف عيره بقذف محصن هو أمه أو أبوه فيأخذه بالحد وهذا لإن الإحصان في المقذوف قصدا وهو الذي ينسب إلى الزنا شرط ليقع تعييرا على الكمال لأنه لا يقع تعييرا كاملا إلا إذا كان محصنا ثم يرجع هذا
____________________
(5/324)
التعيير الكامل إلى ولده فيثبت له حق المطالبة على طريق الأصالة للشين الذي لحقه لا للخلافة ثم يترتب على المطالبة إقامة الحد حقا لله تعالى والكفر لا ينافي أهلية استحقاق المطالبة بخلاف ما إذا قذفه نفسه لعدم إحصانه فلم يقع التعبير إذ لم يكن محصنا على الكمال والحاصل أن السبب التعيير الكامل وهو بإحصان المقذوف فإن كان حيا كانت المطالبة له أو ميتا طالب به أصله أو فرعه وإن لم يكن محصنا لم يتحقق التعيير الكامل في حقه قوله وليس للعبد أن يطالب مولاه بقذف أمه الحرة أي التي قذفها في حال موتها ولا للابن أن يطالب أباه وإن علا بقذف أمه الحرة المسلمة التي قذفها في حال موتها بأن قال رجل لعبده يا ابن الزانية وأمه ميتة حرة أو قال لابنه أو لابن ابنه وإن سفل بعد وفاة أمه يا ابن الزانية وهو قول الشافعي وأحمد ورواية عن مالك والمشهور عنه أن للابن أن يطالب أباه بقذف أمه وهو قول أبي ثور وابن المنذر لإطلاق آية فاجلدوهم ولأنه حد هو حق الله فلا يمنع من إقامته قرابة الولاد وقال مالك إذا حد الأب سقطت عدالة الابن لمباشرته سبب عقوبة أبيه مع قوله تعالى فلا تقل لهما أف والجواب أن الإطلاق أو العموم مخرج منه الولد على سبيل المعارضة بقوله تعالى فلا تقل لهما أف والمانع مقدم ولهذا لا يقاد الوالد بولده ولا يقطع بسرقته فانتقضت عليه الحد بالإجماع على عدم القطع وصار الأصل لنا عموم الآية أعنى قوله تعالى فلا تقل لهما أف وقوله عليه الصلاة والسلام لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده وأما الإجماع على عدم القطع فلشبهة الملك للأب في المسروق فلا يرد على مالك نعم دلالة الإجماع على كونه لا يقاد به لازمه فإن إهدار جنايته على نفس الولد توجب إهدارها في عرضه بطريق أولى مع أن القصاص متيقن بسببه والمغلب فيه حق العبد بخلاف حد القذف فيهما ولضعف الاستدلال بعدم القطع بسرقة مال الابن اقتصر المصنف على قوله ولهذا لا يقاد الوالد بولده وقول المصنف لأن المولى لا يعاقب بسبب عبده استدلال على عدم اعتبار مطالبة العبد لسيده بقذف أمه قيل لأن حق عبده حقه فلا يجوز أن يعاقب بسبب حق نفسه قوله ولو كان لها أي لزوجته الميتة التي قال لولدها بعد موتها يا ابن الزانية ولد آخر من غيره كان له حق المطالبة بإحماع الائمة الأربعة لأن لكل منهما حق الخصومة وظهر في حق أحدهما
____________________
(5/325)
مانع دون الآخر فيعمل المقتضى عمله في الآخر ولذا لو كان جماعة يستحقون المطالبة فعفا أحدهم كان للآخر المطالبة به بخلاف عفو أحد مستحقى القصاص بمنع استيفاء الآخر لأن القصاص حق واحد للميت موروث للوارثين فبإسقاط أحدهما بالعفو لا يتصور بقاؤه لأن القتل الواحد لا يتصور تجزيه أما هنا فالحق في الحد لله تعالى ولكل ولاية المطالبة به فلا يبطل بإسقاط أحدهما
فرع يجوز التوكيل بإثبات الحدود من الغائب في قول أبى حنيفة ومحمد خلافا لأبى يوسف وكذا في القصاص لأن خصومة الوكيل تقوم مقام خصومة الموكل وشرط الحد لايثبت بمثله والإجماع أنه لا يصح باستيفاء الحد والقصاص لأنها عقوبة تندرئ بالشبهات ولو استوفاه الوكيل مع غيبة الموكل كان مع احتمال أنه عفا أو أن المقذوف قد صدق القاذف أو أكذب شهوده ولا يخفى قصور التعليل الأول لأن حقيقة العفو بعد ثبوت السبب لا يسقط الحد فمع احتماله أولى قوله ومن قذف غيره فمات المقذوف بطل الحد وقال الشافعى لا يبطل ولو ما بعد ما أقيم بعض الحد بطل الباقى عندنا مخلافا له بناء على أنه يورث عنده فيرث الوارث الباقى فيقام له وعندنا لا يورث ولا خلاف أن فيه حق الشرع وحق العبد فإنه شرع لدفع العار عن المقذوف وهو الذى ينتفع به على الخصوص كالقصاص فمن هذا الوجه أي من هذا الدليل هو حق العبد ثم نعلم أنه شرع زاجرا ومنه سمى حدا والمقصود من شرع الزواجر كلها إخلاء العالم عن الفساد وهذا آية حق الشرع إذ لم يختص بهذا إنسان دون غيره وبكل من حق الله وحق العبد في حد القذف تشهد الأحكام فباعتباره حقا للعبد شرطت الدعوى في إقامته ولم تبطل الشهادة بالتقادم ويجب على المستأمن ويقيمه القاضى بعلمه إذا علمه في أيام قضائه وكذا لو قذفه بحضرة القاضى حده وإن علمه القاضى قبل أن يستقضى ثم ولى القضاء ليس له أن يقيمه حتى يشهد به عنده ويقدم استيفاؤه على حد الزنا والسرقة إذا اجتمعا ولا يصح الرجوع عنه بعد الآقرار به وباعتبار حق الله تعالى استوفاه الإمام دون القذوف بخلاف القصاص ولا ينقلب مالا عند سقوطه ولا يستحلف عليه القاذف ويتنصف بالرق كالعقوبات الواجبة حقا لله تعالى وحق العبد يتقدر بقدر التالف ولا يختلف باختلاف المتلف وإذا تعارضت الجهتان ولم يمكن إهدار مقتضى إحداهما لزم اعتبارهما فيه فثبت أن فيه الحقين إلا أن
____________________
(5/326)
الشافعى مال إلى تغليب حق العبد تقديما لحق العبد باعتبار حاجته وغنى الشرع ونحن صرنا إلى تغليب حق الشرع لأن ما للعبد من الحق يتولى استيفاءه مولاه فيصير حق العبد مرعيا بتغليب حق الشرع لا مهدرا ولا كذلك عكسه أي لو غلب حق العبد لزم أن لا يستوفى حق الشرع إلا بالتحكيم بجعل ولاية استيفائه إليه وذلك لا يجوزك إلا بدليل ينصبه الشرع على إنابة العبد في الاستيفاء ولم يثبت ذلك بل الثانى استنابة الإمام حتى كان هو الذى يستوفيه كسائر الحدود التى هي حقه تعالى على ما قدمناه من الأحكام فإذا ثبت ما ذكرنا من الاختلاف في هذا الأصل تفرعت فروع أخرى مختلف فيها بعد الفروع المتفق عليها الشاهدة لكل من ثبوت الجهتين منها الإرث فعنده يورث وعندنا لا يورق إذ الإرث يجرى في حقوق العباد لا في حقوق الله تعالى أي إنما يرث العبد حق العبد بشرط كونه مالا أو ما يتصل بالمال كالكفالة أو فيما ينقلب إلى المال كالقصاص والحد ليس شيئا منها فيبطل بالموت إذ لم يثبت دليل سمعى على استخلاف الشرع وارث من جعل له حق المطالبة أو وصيه في المطالبة التى جعلها شرطا لظهور حقه ومنها العفو فإنه بعد ما ثبت عند الحاكم القذف والإحصان لو عفا المقذوف عن القاذف لا يصح منه ويحد عندنا ويصح عنده ولا يسقط عندنا الحد بعد ثبوته إلا أن يقول المقذوف لم يقذفنى أو كذب شهودى وحينئذ يظهر أن القذف لم يقع موجبا للحد لا أنه وقع ثم سقط بقوله ذلك وهذا كما إذا صدقه المقذوف فإنه يبطل بمعنى ظهور أن القذف لم ينعقد موجبا للحد بخلاف العفو عن القصاص يسقط بعد وجوبه لأن المغلب فيه حق العبد ومنها أنه لا يجوز الآعتياض عنه عندنا وبه قال مالك وعنده يجوز وهو قول أحمد ويجرى فيه التداخل عندنا وبه قال مالك حتى لو قذف شخصا مرات أو قذف جماعة كان فيه حد واحد إذا لم يتخلل حد بين القذفين ولو ادعى بعضهم فحد ففى أثناء الحد ادعى آخرون كمل ذلك الحد وعند الشافعى لا يجرى فيه التداخل وعن أبى يوسف في العفو مثل قول الشافعى وهو أنه يصح عفو المقذوف قوله ومن أصحابنا من قال إن الغالب في حد القذف حق العبد الخ وماتقدم من بيان الأصل المختلف فيه وتفريع الأحكام المختلف فيها على الخلاف فيه هو الأظهر من جهة الدليل والأشهر لأنه قول عامة المشايخ وذهب صدر الإسلام
____________________
(5/327)
أبو اليسر إلى أن المغلب فيه حق العبد كقول الشافعى وخرج الأحكام المختلف فيها على غير ذلك أما توجيه أن أحق العبد غالب فلأن أكثر الأحكام تبنى عليه والمعقول يشهد له وهو أن العبد ينتفع به على الخصوص وقد نص محمد في الأصل أن حد القذف حق العبد كالقصاص وأما تخريج الأحكام فإنما فوض إلى الإمام لأن كل أحد لا يهتدى إلى الضرب الواجب أو لأنه ربما يزيد المقذوف في قوته لحنقه فيقع متلفا وإنما لا يورث لأنه مجرد حق ليس مالا ولا بمنزلته فهو كخيار الشرط وحق الشفعة بخلاف القصاص على ما قدمنا وإنما لا يصح عفوه لأنه عفو عما هو مولى عليه فيه وهو الإقامة ولأنه متعنت في العفو لأنه رضى بالعار والرضا بالعار عار وهذا كما ترى تخريج لبعض الفروع المختلفة ثم لا يخفى ما في تخريجه عدم صحة العفو إذ لا يخفى أن كون المقذوف ينتفع به على الخصوص ممنوع بل فيه صيانة أعراض الناس عن خصوص القاذف وصيانة أعراض بعضهم عن بعض على العموم وأن العفو لا يستلزم الرضا بالعار بل قد لا يرضي الأنسان بما يكرهه ولا يعاقب عليه فاعله وكونه مولى عليه إنما هو في نفس الفعل للتهمة بسبب حنقه فلا ينفى أن يعفو فلا يعقل ذلك أصلا وما ذكرنا في ترجيح تغليب حق الله تعالى أوجه مما في الخبازية إن شاء الله تعالى وقول محمد إن وقع في موضع أنه حق الناس فقد وقع في آخر أنه حق الله تعالى قوله ومن أقر بالقذف ثم رجع لم يقبل رجوعه لأن للمقذوف فيه حقا في كذبه فيالرجوع بخلاف ما هو خالص حق الله تعالى لأنه لا مكذب له فيه فيقبل رجوعه وأما التعليل بأنه بالإقرار ألحق الشين بالغير وبالرجوع يريد أن يبطل حق الغير فالمعنى أنه أثبت حق الغير ثم يريد أن يبطله فلا يقبل منه فيشكل عليه الرجوع في الإقرار بحق الله تعالى وكونه ألحق الشين لا أثر له بل الحاصل أنه لما ألحق الشين ثبت حق الآدمى فلا يقبل إبطاله فإلحاق الشين تأثيره في إثبات حق الادمى ليس غير ثم امتناع الرجوع ليس إلا لتضمنه إبطال حق الغير قوله ومن قال لعربي يا نبطى أو قال لست بعربى لا يحد وكذا إذا قال لست من بنى فلان
____________________
(5/328)
وقال مالك يحد إذا نوى الشتم وعنه إذا قال يا رومى لعربى أو فارسى أو يا فارسى لرومى أو عربى أو يا ابن الخياط وليس في آبائه خياط يحد قلنا العرف في مثله أن يراد نفى المشابهة في الأخلاق أو عدم الفصاحة وأما قذف أمه أو جدة من جداته لأبيه فلا يخطر بالبال فلذا أطلقوا نفى الحد من غير تفصيل بين كونه حالة الغضب أو الرضا وهذا لأن النسبة إلى الأخلاق الدنية مما يشتم به فإذا لم يتعارف مثله في القذف أصلا يجعل في الغضب شتما بهذا القدر ولأن النبطى قد يراد به النسبة إلى المكان على ما قال في ديوان الأدب النبط قوم ينزلون بسواد العراق فهو كما قال يارستاقى يا ريفى في عرفنا أي يا قروى لا يحد به وقال الفقية أبو الليث النبطى رجل من غير العرب قوله ومن قال لرجل يا ابن ماء السماء فليس بقاذف وكذا إذا قال ياابن مزيقياء ويا ابن جلا لأن الناس يذكرون هذه لقصد المدح فماء السماء لقب به عامر بن حارثة الغطريف الأزدي لأنه وقت القحط كان يقيم ماله مقام القطر فهو كماء السماء عطاء وجودا ومزيقياء لقب به ابنه عمرو لأنه كان يمزق كل يوم حلتين يلبسهما فيكره أن يعود إلى لبسهما ويكره أن يلبسهما غيره وهو من ملوك غسان وعلى هذا فالأنسب أن يكون قول القائل يا ابن مزيقياء للذم بالسرف والإعجاب لكن عرف العامة في مثله أنه جوده وقد لقب بماء السمابء أيضا للحسن والصفاء وبه لقبت أم ابن المنذر بن امرئ القيس لذلك وقيل لولدها بنو ماء السماء قال زهير ** ولازمت الملوك من آل نصر ** وبعدهم بنى ماء السماء ** وجمع المصنف بينهما حيث قال لأن ماء السماء لقب به لصفائه وسخائه وأما جلا فقد استعمل مرادا به إنسان في قول سحيم ** أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ** متى أضع العمامة تعرفونى ** وكلام سيبويه يفيد أنه ليس علما له بل وصف حيث قال جلا هنا فعل ماض كأنه قال أنا ابن الذي جلا أي أوضح وكشف وأما قول القلاخ أنا القلاخ بن جناب بن جلا فيحتمل كونه علما لقبا وكونه وصفا أيضا ثم إنه إنما يراد به التشبيه في كشف الشدائد وإماطة المكاره فلا يكون قذفا هذا وقد ذكر أنه لو كان هناك رجل اسمه ماء السماء يعنى وهو معروف يحد في حال السباب بخلاف ما إذا لم يكن فإن قيل إذا كان قد سمى به وإن كان للسخاء والصفاء فينبغى في حالة الغضب أن يحمل على النفى لكن جواب المسئلة مطلق فالجواب أنه لما لم يعهد استعماله لذلك القصد يمكن أن يجعل المراد به في حالة الغضب التهكم به عليه كما قلنا في قوله لست بعربي لما لم يستعمل في النفى يحمل في حالة الغضب على سبه بنفى الشجاعة والسخاء عنه ليس غير قوله وإن يسبه لعمه أو خاله أو زوج أمه فليس بقاذف لأن كل واحد من هؤلاء يسمى أبا فالأول وهو تسمية العم أبا
____________________
(5/329)
لقوله تعالى وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وإسماعيل كان عماله أي ليعقوب عليهم الصلاة والسلام والثانى لقوله عليه الصلاة والسلام الخال أب قالوا هو غريب غير أن في كتاب الفردوس لأبى شجاع الديلمى عن عبد الله بن عمر مرفوعا الخال والد من لا والد له والثالث للتربية وقيل في قوله تعالى إن ابنى من أهلى إنه كان ابن امرأته ومن قال بغيره زنأت في الجبل وقال عنيت صعدت الجبل والحالة حالة الغضب وسيظهر أن هذا القيد مراد لا يصدق ويحد عند أبى حنيفة وأبى يوسف وقال محمد لا يحد لأن المهموز منه للصعود حقيقة قالت امرأة من العرب وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل والزنا وإن كان يهمز فيقال زنأ على ما سلف لكن ذكر الجبل يقرر الصعود مرادا وقوله قالت امرأة من العرب هو على ما قال ابن السكيت قالت امرأة من العرب ترقص ابنا لها أشبه أبا أمك أو أشبه عمل تريد عملى ولا تكونن كهلوف وكل ** يصبح في مضجعه قد انجدل ** وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل **
وأما على قول شارح إضلاح المنطق فقال إنما هي لرجل رأى ابنا له ترقصه أمه فأخذه من يدها وقال أشبه أبا أمك الأبيات وهذا الرجل قيس بن عاصم المنقري أي كن مثل أبى أمك أو مثل عملى فحذف المضاف إليه والمراد كن مثل أبى أمك أو مثلى وكان أبو أمه شريفا سيدا وهو زيد الفوارس بن ضرار الضبى وأهه منفوسة بنت زيد الفوارس قال فأخذته أمه بعد ذلك فجعلت ترقصه وتقول ** أشبه أخى أو أشبهن أباكا ** أما أبى فلن تنال ذاكا ** ** تقصر عن مثله يداكا ** والله بالنعمة قد والاكا **
____________________
(5/330)
والهلوف بكسر الهاء وتشديد اللام مفتوحة الثقيل والوكل الذي يتكل على غيره فيما يحتاج إليه وذكر في النهاية قوله أو أشبه جمل بالجيم وقال هو إسم رجل هو أبو حي من العرب وهو جمل بن سعد والوكل العيال على غيره ولهما أنه يستعمل في الفاحشة مهموزا أيضا على ما أسلفنا لأن من العرب من يهمز الملين أي اللين في غير التقاء السكاكنين كقول العجاج وخندف هأمة هذا العألم ومنه قوله صبرا فقد هيجت شوق المشتئق لأنه اسم فاعل وزال المانع من الكسر بالهمز وأما نحو قطع الله أديه أي يديه فالتمثيل به بناء على أن المراد بحرف اللين أو الملين حرف العلة لكن الاصطلاح على أنه حرف العلة بقيد السكون وقد يهمزون في الالتقاء على حده وإن كان على خلاف الجادة يقال دأبة وشأبة وقرئ ولا الضألين شاذا وإن كان بحيث يقال بمعنى الفاحشة وبمعنى الصعود فحالة الغضب والسباب تعين الفحشة مرادا وهذا ما ذكرنا من أنه سيظهر إرادة قيد الغضب في جواب المسئلة فكان كما لو قال يا زانى أو زنأت فإنه يحد اتفاقا وقوله وذكر الجبل بعين الصعود مرادا قلنا إنما يعين ذلك إذا كان مقرونا بكلمة على فيقال زنأت على الجبل ولا يخفى أنه مما يمنع بل يقال زنأت في الجبل بمعنى صعدت ذكره في الجمهرة وغيرها والبيت المذكور معلوم أن المراد فيه ليس إلا الصعود وهو بلفظة في بل الجواب منع أن ذكر الجبل يعين الصعود فإن الفاحشة قد تقع في الجبل أي في بعض بطونه وعلى الجبل أي فوقه كما قد تقع على سطح الدار ونحوه فلم يكن ذكره قرينة مانعة من إرادة الفاحشة فبقى الاحتمال بحاله وترجح إرادة الفاحشة بقرينة حال السباب والمخاصمة ولو قال زنأت على الجبل والباقى بحاله أي في حال الغضب قيل لا يحد لما قلنا آنفا إن ذكر لفظه على تعين كون المراد الصعود وقيل يحد للمعنى الذى ذكرناه وهو حالة الغضب والسباب وهو الأوجه وقد عرف من تقييد جواب المسئلة بحالة الغضب أن في حالة الرضالا يجب الحد إذ لا يجب بالشك بل لا داعى فالظاهر عدم إرادة السب قوله ومن قال لآخر يا زانى فقال له الآخر لا بل أنت فإنهما يحدان إذا طالب كل منهما الآخر لأنهما قاذفان وإذا طالب كل الآخر وأثبت ما طلب به عند
____________________
(5/331)
الحاكم لزمه حينئذ حق الله تعالى وهو الحد فلا يتمكن واحد منهما من إسقاطه فيحد كل منهما بخلاف مالو قال له مثلا يا خبيث فقال له بل أنت تكافأ ولا يعزر كل منهما للآخر لأن التعزير لحق الآدمى وقد وجب له عليه مثل ما وجب للآخر فتساقطا أما كون الأول قاذفا فظاهر وأما الثانى فلأن معناه لا بل أنت زان ولذا لو كان المجيب عبدا حد هو خاصة لأنه قاذف بقوله بل أنت والحر وإن كان قاذفا أيضا لكن لا يحد بقذف العبد قال المصنف إذ هى يعنى بل كلمة عطف يستدرك بها الغلط يعنى في التراكيب الاستعمالية فيصير الخبر المذكور في الأول أي في التركيب الأول إذا كان خبر يا مذكورا في الثانى فإذا قال زيد قام أو أقام زيد لا بل عمرو فقد وضع عمرا في التركيب الأول موضع زيد فيصير ذلك الخبر وهو الفعل المتأخر أو المتقدم خبرا عنه ولم يرد بالأول لفظ يا زانى بل هو إعطاء النظير معنى أي هي كما ذكرنا وإذا كانت كذلك فيصير واصفا للمتكلم الأول بما وصفه به وأخبر عنه به معنى لأن يا زانى في معنى أدعوك وأنت زان قوله ومن قال لامرأته يا زانية فقالت لا بل أنت حدت المرأة خاصة إذا ترافعا ولا لعان لأنهما قاذفان وقذف الرجل زوجته يوجب اللعان وقذفها إياه يوجب الحد عليها والأصل أن الحدين إذا اجتمعا وفي تقديم أحدهما إسقاط الآخر وجب تقديمه احتيالا للدرء واللعان قائم مقام الحد فهو في معناه وبتقديم حد المرأة يبطل اللعان لأنها تصير محدودة في قذف واللعان لا يجرى بين المحدودة في القذف وبين زوجها لأنه شهادة ولا شهادة للمحدود في القذف وبتقديم اللعان لا يسقط حد القذف عنها لأن حد القذف يجرى على الملاعنه ولهذا لو قال لها يا زانية بنت الزانية فخاصمته الأم فحد سقط اللعان لأنه شهادة فلو خاصمت المرأة أو لا لا عن القاضى بينهما فإذا خاصمت الأم بعده حد للقذف فقدمنا الحد درءا للعان الذى هو في معناه ولو كانت قالت في جواب قوله يا زانية زنيت بك فلا حد ولا لعان لوقوع الشك في كل منهما لأنه يحتمل أنها أرادت الزنا قبل النكاح فتكون قد صدقت في نسبتها إلى الزنا فيسقط اللعان وقذفته حيث نسبته إلى الزنا ولم يصدقها عليه وهذا معنى قوله وانعدامه منه أي انعدام التصديق منه فيجب الحد دون
____________________
(5/332)
اللعان ويحتمل أنها أرادت زناى ما كان من تمكينى إياك بعد النكاح وهذا كلام يجرى بين الزوجين في العادة مجرى مجاز المشاكلة مثل قوله وجزاء سيئة سيئة مثلها فإن فعلها معه بعد الزوجية ليس زنا كما أن الجزاء ليس سيئة ولكن أطلق عليه اسمه للمشاكلة حين ذكر معه وعلى هذا لا حد عليها لأنها لم تقذفة ويجب اللعان لأنه قذف زوجته فعلى تقدير يجب الحد دون اللعان وعلى تقدير يجب اللعان دون الحد والحكم بتعين أحد التقديرين بعينه متعذر فوقع الشك في كل من وجوب اللعان والحد فلا يجب واحد منهما بالشك وهذا معنى قوله فجاء ما قلنا أى من أنه لا حد ولا لعان ولو لا أن مثل قوله معلوم الوقوع من المرأة على كل من القصدين عند ابتدائه إياها بالإغاظة لوجب حدها البتة عينا بقذفها إياه إذ النسبة إلى الزنا تنصرف إلى الحقيقة ومذهب الشافعى في مسئلة الكتاب أن تحلف الزوجة أنها لم ترد الإقرار بالزنا ولم ترد قذفه ويكتفى بيمين واحدة في وجه وعلى الزوج الحد دونها لأن هذا منها ليس إقرارا صحيحا بالزنا وبقولنا قال أحمد ولو ابتدأت الزوجة فقالت لزوجها زنيت بك ثم قذفها الزوج لا حد عليه ولا لعان وهذا ظاهر قوله ومن أقر بولد ثم نفاه فإنه يلاعن فإن النسب لزمه بإقراره وبالنفى بعده صار قاذفا لزوجته فيلا عن وإن نفاه أو لا ثم أقر به قبل اللعان يحد لأنه لما أكذب نفسه بطل اللعان الذى كان وجب بنفيه للولد لأن اللعان حد ضرورى صير إليه ضرورة التكاذب بين الزوجين في زنا الزوجة والأصل فيه أي في اللعان ما هو إلا حد القذف لأنه قذفها فإذا بطل الخلف ببطلان التكاذب صير إلى الأصل فيحد الرجل وقوله وفيه خلاف ذكرناه في اللعان الذى ذكره في اللعان أنه إذا أكذب نفسه بعد اللعان بنفى الولد وتفريق القاضى حده القاضى وحل له أن يتزوجها وهذا عند أبى حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف هو تحريم مؤبد وقوله والولد ولده في الوجهين أي ما إذا أقر بالولد ثم نفاه وما إذا نفاه أو لا ثم أقر به لإقراره به سابقا فيثبت ولا ينتفى بما بعده أو لاحقا في الثانية فيثبت به بعد النفى
____________________
(5/333)
وقوله واللعان يصح بدون قطع النسب الخ جواب سؤال هو ان يقال إن سبب اللعان ليس إلا نفى الولد فإن لم ينتف كيف يجب اللعان فقال ليس من ضرورة اللعان بنفى الولد قطع النسب ألا يرى أنه لو نفاه بعد أن تطاولت المدة بعد الولادة فإنه يلاعن ولا يقطع النسب كما يصح بلا ولد أصلا بأن قذفها الزنا ولا ولد فإنه يلاعن ولا ولد هناك يقطع نسبه وأما أنه لو نفى نسب ولد امرأته الآيسة فإنه ينتفى النسب فيثبت انفكاك اللعان عن قطع النسب من الجانبين فصحيح لكن لا دخل له في الجواب قوله وإن قال أي الزوج الذى جاءت زوجته بولد ليس بابنى ولا بابنك فلا حد ولا لعان لأنه إذا أنكر أنه ابنها أنكر الولادة فكان نفى كونه ابنه لنفى ولادتها إياه وبنفى ولادتها لا يصير فاذفا لأنه إنكار للزنا منها قوله ومن قذف امرأة ومعها أولاد لم يعرف لهم أب أو قذف الملاعنة بولد والولد حي وقت القذف أو ميت فلا حد عليه أما لو قذف ولد الملاعنة نفسه أو ولد للزنا فإنه يحد ولو أنه بعد اللعان ادعى الولد فحد أو لم يحد حتى مات فثبت نسب الولد منه فقذفها بعد ذلك قاذف غيره أو هو قبل موته حد ولا يحد الذى قذفها قبل تكذيب نفسه وكذا لو قامت البينة على الزوج أنه ادعاه وهو ينكر يثبت النسب منه ويحد ومن قذفها بعد ذلك يحد لأنها خرجت عن صورة الزوانى ولو قذفها الزوج فرافعته وأقامت بينة أنه أكذب نفسه حد لأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم أو بمعاينة وجه عدم الحد في ذات الأولاد قيام أمارة الزنا منها وهى ولادة ولد لا أب له ففاتت العفة نظرا إليها أي إلى الأمارة وهى أي العفة شرط واعلم أنه إن صح ما رواه الإمام أحمد وأبو داود في حديث هلال بن أمية من قوله وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يدعى ولدها لأب ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد وكذا
____________________
(5/334)
ما رواه أحمد أيضا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ولد المتلاعنين أنه يرث أمه وترثه أمه ومن رماها به جلد ثمانين أشكل على المذهب والأئمة الثلاثة جعلوا قذف الملاعنة بولد كقذف الملاعنة بلا ولد ولو قذف امرأة لاعنت ببغير ولد فعليه الحد لعدم ثبوت الزنا وثبوت أمارته فإن قيل اللعان قائم مقام حد الزنا في حقها فكانت كالمحدودة بالزنا فلا يحد قاذفها أجيب بأنه قائم مقام حد الزنا بالنسبة إلى الزوج لا بالنسبة إلى غيره فهى محصنة في حق غيره ألا ترى أن اللعان في حقه قائم مقام حد القذف بالنسبة إليهالا إلى غيرها حتى قبلنا شهادته ولا يعلم خلاف في ذلك إلا أن للشافعية في وجه أنه إذا قذفها أجنبى بذلك الزنا الذى لاعنت به لا يحد واعترض بأن مقتضاه أن لا يحد الزوج لو قذفها بعد اللعان لكن المنصوص في الأصل أنه يحد بل الحق أنها لم يسقط إحصانها بوجه وقولهم اللعان قائم مقام حد الزنا في حقها إنما يقتضى أن لا يحد فاذفها لو كام معناه أنه وجب عليها الحد وجعل اللعان بدله وليس كذلك لأنه لا يجب الحد بمجرد دعوى الزنا عليها مع العجز عن إثباته ليسقط إحصانها وإنما هو ليشتفى الصادق منهما حيث يتضاعف به على الكاذب عذابه بأن يضاف إلى عذاب الزنا عذاب الشهادات المؤكدة بالأيمان الغموسة أو يضاف ذلك إلى عذاب الافتراء والقذف بخلاف ما إذا كان بنفى الولد لأن أمارة الزنا قائمة فأوجبت ذلك وقد أول قولهم بما لا يشرح صدرا ولا يرفع إصرا فالحق أن كونه قائما مقام حد القذف في حقه ظاهر غير محتاج إلى تأويل وأما الجانب الآخر ففيه تساهل لا يرتفع وورود السؤال إنما هو بناء على أنه كلام حقيقى على ظاهره وليس كذلك فلا ورود له قوله ومن وطئ وطأ حراما في غير ملكه لم يحد قاذفه لفوات العفة وهى شرط الإحصان شبهه بالشرط لما لم يكن بحيث يحصل عنده الإحصان بل هو مجموع أمور العفة أحدها فهو جزء مفهوم الإحصان بالحقيقة ولأن القاذف صادق لأن الوطء في غير الملك زنا كذا قيل وهو قاصر على ما إذا
____________________
(5/335)
قذفه بذلك الزنا بعينه أو أبهم أما إذا قذفه بغيره فإنه لا يعلم صدقه فيه فيحد والحكم ليس كذلك بل المنصوص أن من قذف زانيا لا حد عليه سواء قذفه بذلك الزنا بعينه أو بزنا آخر أو أبهم نص عليه في أصل المبسوط خلافا لإبراهيم وابن أبى ليلى وجه قولنا أن النص إنما أوجب الحد على من رمى المحصنات وفى معناه المحصنين وبالزنا لا يبقى الإحصان فرميه رمى غير المحصن ولا دليل يوجب الحد فيه نعم هو محرم وأذى بعد التوبة فيعزر والأصل فيما يعرف به الوطء المحرم الذى يسقط الإحصان والوطء المحرم الذى لا يسقطه أن من وطأ وطأ حراما لعينه لا يجب الحد بقذفه على قاذفه لأن الزنا هو الوطء المحرم لعينه فإذا وقع فيه كان زانيا فيصدق فاذفه فلا يكون فرية وهو الموجب للحد وإن كان وطئ وطأ محرما لغيره يحد قاذفه لأنه وإن كان محرما ليس بزنا إذا عرف هذا فالمحرم لعينه هو الوطئ في غير الملك من كل وجه كوطء الحرة الأجنبية والمكرهة وأعنى أن الموطوءة إذا كانت مكرهة يسقط إحصانها فلا يحد فاذفها فإن الإكراه يسقط الإثم ولا يخرج الفعل به من أن يكون زنا فلذا يسقط إحصانها كما يسقط إحصان المكره الواطئ ذكره في المبسوط وأمة غيره أو من وجه كالأمة المشتركة بين الواطئ وغيره وكذا الوطء في الملك والحرمه مؤبدة كوطء أمته التى هي أخته من الرضاع ولو كانت الحرمة مؤقتة كالأمة المزوجة والأمة المجوسية ووطء أمتيه الأختين أو الزوجه في حالة الحيض أو النفاس فالحرمة لغيره وأبو حنيفة يشترط في ثبوت حد القاذف للواطئ في الحرمة المؤبدة كون تلك الحرمة المؤبدة ثابتة بالإجماع كموطوءة أبيه بالنكاح أو بملك اليمين فلو تزوجها الابن أو اشتراها فوطئها لا يحد قاذفه وكذا إذا تزوج امرأتين لا يحل له الجمع بينهما في عقدة أو جمع بين أختين وطأ بملك يمين أو نكاح أو بين امرأة وعمتها أو خالتها أو تزوج أمة على حرة أو جمعهما في العقد فوطئ الأمة فلا حد على قاذفه بخلاف ما لو نظرإلى داخل فرج امرأة أو مسها بشهوة بحيث انتشر معه ذكره ثم تزوج بنتها أو أمها أو اشتراها فوطئها حد قاذفه عند أبى حنيفة وهو قول الأئمة الثلاثة ولا يحد عندهما لتأبيد الحرمة ولا اعتبار للاختلاف كما لو اشترى مزنية أبيه فوطئها فيسقط إحصانه وحرمة المصاهرة بالزنا مختلف فيها بين العلماءوأبو حنيفة إنما يعتبر الخلاف عند عدم النص على الحرمة بأن ثبتت بقياس أو احتياط كثبوتها بالنظر إلى الفرج والمس بشهوة لأن ثبوتها لإقامة السبب مقام المسبب احتياطا فهى حرمة ضعيفة لا ينتفى بها الإحصان الثابت بيقين بخلاف الحرمة الثابتة بزنا الأب فإنها ثابتة بظاهر قوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } فلا يعتبر الخلاف فيها مع وجود النص وكذا وطء الأب جارية ابنه مسقط
____________________
(5/336)
للإحصان وقوله أو بالحديث المشهور مثاله حرمة وطء المنكوحة للأب بلا شهود على الابن بناءعلى ادعاء شهرة حديث لا نكاح إلا بشهود ولذا لم يعرف فيه خلاف بين الصحابة وحرمة وطء أمته التى هى خالته من الرضاع أو عمته لقوله عليه الصلاة والسلام يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب قوله بيانه شروع في تفريع فروع أخرى على الأصل إذا قذف رجلا وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره لا حد عليه لانعدام الملك من وجه فالقاذف صادق من وجه فيندرئ الحد للشبهة المقارنة لثبوت الموجب بخلاف رجوعه فإنه وإن كان الرجوع يوجب شبهة في الإقرار الأول يعمل ههنا فإنه لما لم يقارنه بل وقع متأخرا والفرض أن بالإقرار تقرر حق آدمى لم تعمل الشبهة اللاحقة لأن الشبهة اللاحقة بعد تقرر حق الآدمى لا ترفعه فلهذا لم يعتبر الرجوع عاملا في إسقاط الحد قوله وكذا إذا قذف امرأة زنت في نصرانيتها أو رجلا زنا في نصرانيته فإنه لا يحد والمراد قذفها بعذ الأسلام بزنا كان في نصرانيتها بأن قال زنيت وأنت كافرة وكذا لوقال لمعتق زنى وهو عبد زنيت وأنت عبد لا يحد كما لو قال قذفتك بالزنا وأنت كتابية أو أمة فلا حد عليه لأنه إنما أقر أنه قذفها في حال لو علمنا منه صريح القذف لم يلزم حده لأن الزنا يتحقق من الكافر ولذا يقام الجلد عليه حدا بخلاف الرجم على ما مر ولا يسقط الحد بالإسلام وكذا العبد ولا فرق بين من بحيث يقام عليه الحد أولا حتى أن الكافر الحربى إذا زنى في دار الحرب ثم أسلم فقذفه لا يحد لأن الزنا تحقق منه وإن لم يقم عليه الحد فيكون قاذفه صادقا وإنما ارتفع بالإسلام الإثم دون حقيقة الزنا ولو قذف رجلا أتى أمته وهى مجوسية أو مزوجة أو المشتراة شراء فاسدا أو امرأته وهى حائض أو مظاهر منها أو صائمة صوم فرض وهو عالم بصومها أو مكاتبته فعليه الحد لأن الشراء الفاسد يوجب الملك بخلاف النكاح الفاسد لا يثبت فيه ملك فلذا يسقط إحصانه بالوطء فيه فلا يحد قاذفه لأن الحرمة في كل من هذه التقادير مؤقتة مع قيام الملك فكانت فيها لغيره فلم يكن زنا لأن الزنا ما كان بلا ملك قال تعالى { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } وعن أبى يوسف أن وطء المكاتبة يسقط الإحصان وهو قول زفر لأن الملك زائل في حق الوطء ولهذا يلزم السيد العقر لها ولو بقى الملك شرعا من وجه لما لزمه وإن حرم كوطء أمته المجوسية والحائض ونحن نقول إن قلتم إن ملك الذات انتفى من وجه كالمشتركة فممنوع وإن عنيتم أن ملك الوطء انتفى سلمناه ولا يستلزم ثبوت الحد كالأمة المجوسية فثبت أن الحرمة لغيره إذ هي مؤقتة ووجوب العقر لا يدل على سقوط الإحصان كالراهن إذا وطئ أمته المرهونة وهى بكر يلزمه
____________________
(5/337)
العقر ولا يسقط الإحصان ذكره في المبسوط ولو قذف رجلا وطئ أمته وهى أخته من الرضاع لا يحد لأن الحرمة مؤبدة وقوله وهذا هو الصحيح احتراز عن قول الكرخى فإنه يقول بوطئها لا يسقط الإحصان وهو قول مالك وأحمد والشافعى رحمهم الله لقيام الملك فكان كوطء أمته المجوسية وجه الصحيح أن الحرمة في المجوسية ونحوها يمكن ارتفاعها فكانت مؤقتة أما حرمة الرضاع لا يمكن ارتفاعها فلم يكن المحل قابلا للحل أصلا فكيف يجعل لغيره قوله ولو قذف مكاتبا مات وترك وفاء لاحد عليه لتمكن الشبهة في شرط الحكم وهو الإحصان لاختلاف الصحابة في أنه مات حرا أو عبدا فأورث شبهة في إحصانه وبه يسقط الحد ولا يعلم فيه خلاف بين من يعتبر الحرية من الإحصان قوله ولو قذف مجوسيا تزوج بأمه الخ يعنى ولو تزوج مجوسى بأمه أو أخته أو بنته ثم أسلم ففسخ نكاحهما فقذفه مسلم في حال إسلامه يحد عند أبى حنيفة بناء على ما مر من أن أنكحتهم لها حكم الصحة عند إبى حنيفة وقالا لا يحد بناء على أن ليس لها حكم الصحة وقولهما قول الأئمة الثلاثة وقد مر في كتاب النكاح في باب نكاح أهل الشرك قوله وإذا دخل الحربى دارنا بأمان فقذف مسلما حد لأن فيه حق العبد وقد التزم إيفاء حقوق العباد ولأنه طمع ألا لا يؤذى فكان ملتزما بالضرورة أن لا يؤذى وفي بعض النسخ طمع أن لا يؤذى فكان ملتزما موجب أذاه وهو الحد قوله وإذا حد المسلم في قذف سقطت شهادته وإن تاب عندنا لأن رد شهادته عندنا من تمام حده خلافا للشافعى رضى الله عنه فعنده تقبل شهادته إذا تاب كالتائب من الشرب وغيره من المعاصى وهى خلافية تعرف في الشهادات إن شاء الله تعالى قوله وإذا حد الكافر في قذف لم تقبل شهادته على اهل الذمة ونذا لأن له الشهادة على جنسه على ما عرف عندنا ورد الشهادة من تمام حد القذف فترد شهادته عليهم فإذا أسلم قبلت شهادته عليهم وعلى المسلمين لأن هذه شهادة استفادها بعد الإسلام فلم تدخل
____________________
(5/338)
تحت الرد لأن النص يوجب رد شهادته القائمة وقت الفذف وليست فيه تلك فلم تدخل تحت الرد بخلاف ما لو ارتد المحدود ثم أسلم لا تقبل شهادته لأنه صار مردور الشهادة أبدا والردة ما زادته إلا شرا فبالإسلام لم تحدث له شهادة بخلاف الكافر الأصلى ولهذا قبلت مطلقا على الأهل الإسلام غيرهم وبه اندفع ما قيل ينبغى أن لا تقبل بعد الإسلام على أهل الذمة لأنها كانت موجودة قبله وقد ردت بالقذف قلنا إن هذه أخرى نافذة على الكل لا على أهل الإسلام فقط أو على المسلمين وبتبعيته على الكفار وهذا بخلاف العبد إذا حد في قذف ثم أعتق فإنه لا تقبل له شهادة أبدا لأنه لم يكن له شهادة في تلك الحالة للرق وقد وجب الحد عليه وهو يرد شهادته مع الجلد فينصرف إلى رد ما يحدث له من الشهادة بعد العتق هذا ولقائل أن يقول إن مقتضى النص عدم قبول كل شهادة له حادثة أو قائمة لأنه تعالى قال { فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } والحادثة شهادة واقعة في الآباد فمقتضى النص ردها والجواب أن التكليف بما في الوسع فحينئذ كلف برد شهادته والامتثال إنما يتحقق برد شهادة قائمة إن كانت وإلا فيما يحدث وإذا كانت له شهادة قائمة فردت تحقق الامتثال وتم فلو حدثت أخرى فلو ردت كان بلا مقتض إذا الموجب أخذ مقتضاه قوله وإن ضرب يعنى الكافر سوطا في حد قذف ثم أسلم ثم ضرب ما بقى جازت شهادته لأن رد الشهادة متمم للحد فيكون صفة له أي للحد والمقام بعد الإسلام
____________________
(5/339)
بعض الحد وبعض الشئ ليس هو ذلك الشئ فلم يكن رد الشهادة صفة له وعن أبى يوسف أنه ترد شهادته إذ الأقل باتع للأكثر والأول أصح لما ذكرنا وعرف أنه لو أقيم عليه الأكثر قبل الإسلام ثم أسلم وأقيم الباقى تقبل شهادته عندأبى يوسف أيضا وأورد عليه كما أن المقام بعد الإسلام بعض الحد كذلك المقام قبل الإسلام فينبغى أن لا يكون صفة وأيضا جعله صفة لما أقيم بعد الإسلام أولى لما أن العلة إذاكانت ذات وصفين فالاعتبار للوصف الآخر أجيب بأن النص ورد بالأمر بالجلد والنهى عن القبول وليس أحدهما مرتبا على الآخر فتعلق بفعل كل منهما ما يمكن والممكن رد شهادة قائمة للحال فيتقيد النهى به وهذا كما ترى لا يدفع الوارد على قوله صفة له بل هو تقرير آخر وأصل هذا ما ذكر في الأصل والمبسوط قال لا تسقط شهادة القاذف ما لم يضرب تمام الحد إذا كان عدلا ثم قال والحد لا يتجزأ فما دونه يكون تعزيرا لا حدا والتعزير غير مسقط للشهادة قال وفي هذه المسئلة عن أبى حنيفة ثلاث روايات إحداهما ما ذكرنا وهو قولهما والثانية إذا أقيم عليه أكثر الحد سقطت شهادته إقامة للأكثر مقام الكل وهى التى ذكرها المصنف عن أبى يوسف والثالثة إذا ضرب سوطا واحدا سقطت قال وهذه الروايات الثلاث في النصرانى إذا أقيم عليه بعض الحد ثم أسلم على ما ذكر في الجامع الصغير قوله ومن زنى أو شرب أو قذف غير مرة فحد فهو لذلك كله سواء قذف واحدا مرارا أو جماعة بكلمة كقوله أنتم زناة أو بكلمات كأن يقول يا فلان أنت زان وفلان زان حتى إذا حضر واحد منهم فادعى وحد لذلك ثم حضرآخر فادعى أنه قذفه لا يقام إذا كان بقذف قبل أن يحد لأن حضور بعضهم للخصومة كحضور كلهم فلا يحد ثانيا إلا إذا كان بقذف آخر مستأنف وحكى أن ابن أبى ليلى سمع من يقول لشخص يا ابن الزانيين فحده حدين في المسجد فبلغ أبا حنيفه فقال يا للعجب لقاضى بلدنا أخطأ في مسئلة واحدة في خمسة مواضع الأول أخذه بدون طلب المقذوف والثانى أن لو خاصم وجب حد واحد والثالث أنه إن كان الواجب عنده حدين ينبغى أن يتربص بينهما يوما أو أكثر حتى يخف أثر الضرب الأول والرابع ضربه في المسجد والخامس ينبغى أن يتعرف أن والديه في الأحياء أولا فإن كانا حيين فالخصومة لهما وإلا فالخصومة للابن ومن فروع التداخل أنه لو ضرب القاذف تسعة وسبعين سوطا ثم قذف قذفا آخر لا يضرب إلا ذلك السوط الواحد للتداخل لأنه اجتمع الحدان لأن كمال الحد الأول بالسوط الذى بقى وسنذكر منه أيضا في فروع نختم بها وقوله غير مرة يتعلق بكل واحد من الثلاثة أي من زنا غير مرة أو شرب غير مرة أو قذف غير مرة فحد
____________________
(5/340)
مرة فهو لذلك كله مما سبق منه وعند الشافعى أن قذف جماعة بكلمة فكذلك في قول وإن قذفهم بكلمات أو قذف واحدا مرات بزنا آخر يجب لكل قذف حد وعندنا لا فرق ولا تفصيل بل لا تعدد كيفما كان وبقولنا قال مالك والثورى والشعبى والنخعى والزهرى وقتادة وحماد وطاوس وأحمد في رواية وفي رواية كقول الشافعى الذى ذكرناه آنفا واحتجا بأن مقتضى الآية ترتب الحكم على الوصف المشعر بالعلية فيتكرر بتكرره على ما عرف وفي الجديد للشافعى لا يتداخل ولو قذفهم بكلمة واحدة لما ذكرنا ولأنه حق آدمى ولنا ما ذكر من قوله أما الأولان وهو كل من الزنا والشرب فلأن المقصد من إقامة الحد حقا لله تعالى الانزجار عن فعله في المستقبل واحتمال حصوله بالحد الواحد المقام بعد الزنا المتعدد منه والشرب المتعدد قائم فتتمكن شبهة فوات المقصود في الثانى والحدود تدرأ بالشبهات بالإجماع بخلاف ما إذا زنى فحد ثم زنى يجب حد آخر لتيقننا بعدم انزجاره بالأول والجواب عما استدل به أن الإجماع لما كان على دفع الحدود بالشبهات كان مقيدا لما اقتضته الآية من التكرر عند التكرر بالتكرر الواقع بعد الحد الأول بل هذا ضرورى فإنك علمت أن المخاطب بالإقامة في قوله فاجلدوهم الأئمة ولا يتعلق بهم هذا الخطاب إلا بعد الثبوت عندهم فكان حاصل النص إيجاب الحد إذا ثبت السبب عندهم أعم من كونه بوصف الكثرة أو القلة فإذا ثبت وقوعه منه كثيرا كان موجبا لجلد مائة أو ثمانين ليس غير فإذا جلد ذلك وقع الامتثال ثم هو أيضا ترك مقتضى التكرر بالتكرر فيما إذا قذف واحدا مرة ثم قذفه ثانيا بذلك الزنا فإنه لا يحده مرتين وفى حد الزنا والشرب فالحق أن الاستدلال له بالآية لا يخلصه فإنه يلجئ إلى ترك مثلها من آية حد الزنا فيعود إلى أن هذا حق آدمى بخلاف الزنا فكان المبنى إثبات أنه حق الله تعالى أو حق آدمى فما ذكر المصنف أخصر وأصوب وقوله وأما القذف فالمغلب فيه حق الله تعالى فكان ملحقا بهما لا حاجة إلى إلحاقه بل عين الدليل المذكور يجرى فيه وهو أنه حد شرع حقا لله سبحانه و تعالى لمقصود الانزجار عن الأعراض فحيث أقيم ثبتت شبهة إلى آخر ما ذكر وحق العبد في الخصومة فيه دون غيره ليس غير قوله وهذا بخلاف ما إذا زنى وقذف وشرب وسرق ثم أخذ يعنى وثبتت الأسباب عند الحاكم حيث تجب الحدود المختلفة كلها لاختلاف المقصود من كل جنس من أسبابها فإن المقصود من حد الخمر صيانة العقول ومن حد الزنا صيانة الأنساب ومن حد القذف صيانة الأعراض وثبت كل بخطاب يخصه فلو حددنا في الخمر والقذف حدا واحدا عطلنا نصا من النصوص عن موجبه
فروع ثبت عليه بإقراره الزنا والسرقة والشرب والقذف وفق عين رجل يبدأ بالقصاص في العين لأنه
____________________
(5/341)
محض حق العبد ثم إذا برئ أخرجه فحده للقاذف لأنه مشوب بحقه فإذا برئ فالإمام بالخيار إن شاء بدأ بحد الزنا وإن شاء بحد السرقة لأن كلا حق الله تعالى وهو ثابت بنص يتلى ويجعل حد الشرب آخرها فإنه أضعف لأنه بما لا يتلى وتقدم قول على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه وكلما أقام عليه حدا حبسه حتى يبرأ لأنه لو خلى سبيله ربما يهرب فيصير الإمام مضيعا للحدود وهو منهى عن ذلك وإن كان محصنا اقتص منه في العين وضربه حد القذف ثم رجمه لأن حد السرقة والشرب محض حق الله تعالى ومتى اجتمعت الحدود لحق الله تعالى وفيها قتل نفس قتل وترك ما سوى ذلك هكذا نقل عن ابن مسعود وابن عباس والمعنى أن المقصود الزجر له ولغيره وأتم ما يكون منه باستيفاء النفس والاشتغال بما دونه لا يفيد إلا أنه يضمن السرقة لو أتلفها لأنه يجب عليه بالأخذ وإنما يسقط لضرورة القطع ولم يوجد فلهذا يضمنه فيؤمر بإيفائها من تركته ولا يقام حد في المسجد ولا قود ولا تعزير ولكن القاضى إن أراد أن يقام بحضرته يخرج من المسجد كما فعل عليه الصلاة والسلام في الغامدية أو يبعث امينا كما فعل عليه الصلاة والسلام في ماعز ولا يستحلف في القذف إذا أنكره ولا في شئ من الحدود لأنه يقضى بالنكول وهو ممتنع في الحدود لأن النكول إما بذل والبذل لا يكون في الحدود أو قائم مقام الإقرار والحد لا يقام بما هو قائم مقام غيره بخلاف التعزير والقصاص فإنه يستحلف على سببهما ويستحلف في السرقة لأجل المال فإن نكل ضمن المال ولا يقطع لأن حقيقة السرقة أخذ المال بقيد فيحلف على أخذ المال لا على فعل السرقة وعند نكوله يقضى بموجب الأخذ وهو الضمان كما لو شهد رجل وامرأتان بالسرقة ثبت الأخذ فيضمن ولا يقطع وإذا أقام المقذوف بينة بالقذف سألهما القاضى عن القذف ما هو وعن خصوص ما قال لأن الرمى بغير الزنا قد يظنونه قذفا فلا بد من استفسارهم فإن لم يزيدوا على قولهم قذفه لا يحد وإذا شهدوا أنه قال يا زانى وهم عدول حد فإن لم يعرف القاضى عدالتهم حبس القاذف حتى يزكوا لأنه صار متهما بارتكاب مالا يحل من أعراض في الناس فيحبس في هذه التهمة ولا يكفله على ما تقدم في الزنا فارجع إليه ولا تكفل في شئ من الحدود والقصاص في قول أبى حنيفة وأبى يوسف الأول ولهذا يحبسه أبو حنيفة وفي قول أبى يوسف الآخر وهو قول محمد يؤخذ منه الكفيل ولهذا لا يحبس عندهما في دعوى حد القذف والقصاص ولا خلاف أنه لا تكفيل بنفس الحدود والقصاص لأن النيابة لا تجزى في إيفائهما والمقصود من الكفالة إقامة الكفيل مقام المكفول عنه في الإيفاء وهذا لا يتحقق في شئ من الحدود فأما أخذ الكفيل بنفس المدعى عليه فعند أبى حنيفة إذا زعم المقذوف أن له بينة حاضرة في المصر فكذلك لا يأخذ منه كفيلا بنفسه ولكن يلازمه إلى آخر المجلس فإن أحضر بينة وإلا خلى سبيله وعند أبى يوسف ومحمد يأخذ منه كفيلا بنفسه إلى ثلاثة أيام وقالا حد القذف في الدعوى والخصومة مثل حقوق العباد وفى أخذ الكفيل بنفسه نظر للمدعى من حيث يتمكن من إحضار الخصم لإقامة البينة عليه ولا ضرر فيه على المدعى عليه وأبو حنيفة يقول هذا احتياط والحدود يحتاط في درئها لا في إثباتها وكان أبو بكر الرازى يقول مراد أبى حنيفة أن القاضى لا يجبره على إعطاء الكفيل فأما إذا سمحت نفسه به فلا بأس لأن تسليمه نفسه مستحق عليه والكفيل في الكفالة بالنفس إنما يطلب بهذا القدر فأما إن أقام شاهدا واحدا لا يعرفه القاضى بالعدالة فهو كما لولم يقم أحدا ولا يلازمه إلا إلى آخر المجلس فإن كان ظاهر العدالة حبسه إذا قال إن له شاهدا آخر يومين أو ثلاثة هذا المقدار استحسان وهذا كله عند أبى حنيفة
____________________
(5/342)
لأنه لا يرى الكفالة بالنفس في الحدود وعندهما يأخذ كفيلا بنفسه ولا يحبسه لأن المقصود يحصل بذلك ولو اختلف الشاهدان على القذف في الزمان والمكان لا تبطل شهادتهما عند أبى حنيفة رحمه الله وعندهما يمنع قبول الشهادة لأنه إنشاء سبب موجب للحد فما لم يتفق الشاهدان على سبب واحد لا يقضى به كما لو اختلفا في إقراره بالقذف وإنشائة له وأبو حنيفة يقول القذف قول قد يكرر فيكون حكم الثانى حكم الأول فلا يختلف المشهود به باختلافهما في المكان والزمان كالطلاق والعتاق وهذا هو القياس في الإنشاء والإقرار إلا أنى أستحسن هناك لأن حكم الإقرار بالقذف يخالف حكم الإنشاء بدليل أن من تزوج امرأة ثم أقر أنه كان قذفها قبل النكاح عليه الحد ولو قذفها في الحال كان عليه اللعان ولو اختلفوا في اللغة التى وقع القذف بها من العربية والفارسية وغيرهما بطلت شهادتهم لأن عند اختلاف اللغة يتمكن الاختلاف في الصراحة ونحوها وكذا لو شهد أحدهما أنه قال يا ابن الزانية والآخر لست لأبيك ولو شهد أحدهما أنه قذفه يوم الخميس والآخر أنه أقر أنه قذفه يوم الخميس لايحد ولا يقبل في إثبات القذف كتاب القاضى ولا الشهادة على الشهادة ولو قال القاذف بعد ثبوت القذف عند القاضى عندى بينة تصدق قولى أجل مقدار قيام القاضى من مجلسه من غير أن يطلق عنه ويقال له ابعث إلى شهودك وذكر ابن رستم عن محمد إذا لم يكن له من يأتى بهم أطلق عنه وبعث معه بواحد من شرطه ليرده عليه وفي ظاهر الرواية لم يفتقر إلى هذا لأن سبب وجوب الحد ظهر عند القاضى فلا يكون له أن يؤخر الحد لما فيه من الضرر على المقذوف بتأخير دفع العار عنه وإلى آخر المجلس قليل لا يتضرر به كالتأخير إلى أن يحضر الجلاد وعن أبى يوسف يستأنى به إلى المجلس الثانى لأن القذف موجب للحد بشرط عجزه عن إقامة أربعة والعجز لا يتحقق إلا بالإمهال كالمدعى عليه إذا ادعى طعنا في الشهود يمهل إلى المجلس الثانى وجوابه ما قلنا وعرف أنه لا يقبل منه إلا أربعة فلو جاء بثلاثة حد هو والثلاثة قال تعالى { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم } فإن شهد رجلان أو رجل وامرأتان على إقرار المقذوف بالزنا يدرأ عن القاذف الحد وعن الثلاثة لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة فكأنا سمعنا إقراره بالزنا إلاأن المعتبر في الإقرار إسقاط الحد لا إقامته لأن ذلك لا يمكن ولو كثرت الشهود ولو زنى المقذوف قبل أن يقام الحد على القاذف أو وطئ وطأ حراما على ما ذكرنا أو ارتد سقط الحد عن القاذف ولو أسلم بعد ذلك لأن إحصان المقذوف شرط فلا بد من وجوده عند إقامة الحد وكذا إذا خرس أو عته ولكن لا لزوال إحصانه بل لتمكن شبهة أنه لو كان ناطقا صدقه ولا يلقن القاضى الشهود ما تتم به شهادتهم في الحدود
جنس آخر تقدم أن قوله أنت أزنى من فلان أو أزنى الناس لاحد عليه وهو من المبسوط وفي فتاوى قاضيخان قال أنت أزنى الناس أو أزنى من فلان عليه الحد ولو قال أنت أزنى منى لاحد عليه ولو قال لها يازانية فقالت أنت أزنى منى حد الرجل وحده ولو قال لامرأة ما رأيت زانية خيرا منك لاحد عليه وكذا لو قال لامرأة وطئك فلان وطأ حراما أو فجر بك أو جامعك حراما لاحد عليه وكذا إذا قال أخبرت أنك زان أوأشهدت على ذلك ولو قال زنيت وفلان معك يكون قاذفا لهما لأن العادة أن لامقية حال الزنا فانصرف إلى معية الفعل دون الحضور ومن قال لست لأبويك لا يكون قاذفا وهو ظاهر لست لإنسان لست لرجل ليس قذفا رجل قذف ولده أو ولد ولده لا حد عليه ولو قذف أباه أو أمه أو أخاه أو عمه حد قال لرجل قل لفلان يا زانى
____________________
(5/343)
فإن قال الرسول للمرسل إليه فلان يقول لك يا زانى لاحد على الرسول ولا على المرسل وإن قال له يازانى حد الرسول خاصة ولو قذف ميتة فصدقه ابنها ليس له أن يطالب بقذفه بعد ذلك ولو قال له يا ابن الحجام أو يا ابن الحائك لاحد عليه ولو قال لرجل يا ابنى لاحد عليه لأنه تلطف وكذا لو قال يا ابن النصرانى أو يا ابن اليهودى وفي الخلاصة عن مجموع النوازل رجل قال في ميت لم يشرب الخمر ولم يزن فقال أحرجه كردهست لم يحد لأنه ليس بإشارة إلى هذه الأفعال ولو قال اين حه كردهاست فكذلك لأنه لم يسمه ولم يكنه ولو قال ولا اين حمه كرداست يكون قذفا ومعنى الأول فعل الكل ومعنى الثانى فعل هذه كلها ومعنى الثالث هو فعل هذه كلها وفي الفتاوى قال لرجلين أحدكما زان فقيل له هذا هو لأحدهما فقال لا لاحد عليه لأن أصل القذف لم يقع موجبا ولو قال لجماعة كلكم زان إلا واحدا يجب عليه الحد لأن القذف فيه موجب للحد فكان لكل واحد أن يدعى ما لم يعين المستثنى ومن فروع تداخل حد القذف ما ذكره المصنف في التجنيس عبد قذف حرا فأعتق فقذف آخر فاجتمعا ضرب ثمانين ولو جاء الأول فضرب أربعين ثم جاء به الآخر تمم له الثمانين لأن الأربعين وقع لهما يبقى الباقى أربعين ولو قذف آخر قبل أن يأتى به الثانى تكون الثمانون لهما جميعا ولا يضرب ثمانين مستأنفا لأن ما بقى تمامه حد الأحرار فجاز أن يدخل في الأحرار وهذا ما وعدناه ولو قال لامرأة يا روسى يحد ولو قال ياقحبة فإنه يعزر & فصل في التعزير
لما قدم الحدود المقدرة بالنصوص القاطعة وهى أوكد أتبعها التعزير الذى هو دونها في المقدار والدليل
____________________
(5/344)
والتعزير تأديب دون الحد وأصله من العزر بمعنى الردو الردع وهو مشروع بالكتاب قال الله تعالى { فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا } أمر بضرب الزوجات تأديبا وتهذيبا وفى الكافى قال عليه الصلاة والسلام لا ترفع عصاك عن أهلك وروى أنه عليه الصلاة والسلام عزر رجلا قال لغيره يا مخنث وفي المحيط روى عنه عليه الصلاة والسلام قال رحم الله امرأ علق سوطه حيث يراه أهله وأقوى من هذه الأحاديث قوله عليه الصلاة والسلام لا يجلد فوق عشر إلا في حد وسيأتى وقوله واضربوهم على تركها لعشر في الصبيان فهذا دليل شرعية التعزير وأجمع عليه الصحابة وبالمعنى وهو أن الزجر عن الأفعال السيئة كي لا تصير ملكات فيفحش ويستدرج إلى ما هو أقبح وأفحش فهو واجب وذكر التمرتاشى عن السرخسى أنه ليس فيه شئ مقدر بل مفوض إلى رأى القاضى لأن المقصود منه الزجر وأحوال الناس مختلفة فيه فمنهم من ينزجر بالصيحة ومنهم يحتاج إلى اللطمة وإلى الضرب ومنهم من يحتاج إلى الحبس وفي الشافى التعزير على مراتب تعزير أشراف الأشراف وهم العلماء والعلوية بالإعلام وهو أن يقول له القاضى بلغنى أنك تفعل كذا وكذا فينزجر به وتعزير الأشراف وهم الأمراء والدهاقين بالإعلام والجر إلى باب القاضى والخصومة في ذلك وتعزير الأوساط وهم السوقة بالجر والحبس وتعزير الأخسة بهذا كله وبالضرب وعن أبى يوسف يجوز التعزير للسلطان بأخذ المال وعندهما وباقى الأئمة الثلاثة لا يجوز وما في الخلاصة سمعت من ثقة أن التعزير بأخذ المال إن رأى القاضى ذلك أو الوالى جاز ومن جملة ذلك رجل لا يحضر الجماعة يجوز تعزيره بأخذ المال مبنى على اختيار من قال بذلك من المشايخ كقول أبى يوسف وقال التمرتاشى يجوز التعزير الذى يجب حقا لله تعالى لكل
____________________
(5/345)
أحد بعلة النيابة عن الله وسئل ابو جعفر الهندوانى عمن وجد رجلا مع امرأة أيحل له قتله قال إن كان يعلم أنه ينزجر عن الزنا بالصياح والضرب بما دون السلاح لا يقتله وإن علم أنه لا ينزجر إلا بالقتل حل له قتله وإن طاوعته المرأة يحل قتلها ايضا وهذا تنصيص على أن الضرب تعزير يملكه الإنسان وإن لم يكن محتسبا وصرح في المنتقى بذلك وهذالأنه من باب إزالة المنكر باليد والشارع ولى كل أحد ذلك حيث قال من رأ ى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه الحديث بخلاف الحدود فإنها لم تثبت توليتها إلا للولاة وبخلاف التعزير الذى يجب حقا للعبد بالقذف ونحوه فإنه لتوقفه على الدعوى لا يقيمه إلا الحاكم إلا أن يحكما فيه ثم التعزير فيما شرع فيه التعزير إذا رآه الإمام واجب وهو قول مالك وأحمد وعند الشافعى ليس بواجب لما روى أن رجلا جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم وقال إنى لقيت امرأة فأصبت منها ما دون أن أطأها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصليت معنا قال نعم فتلا عليه إن الحسنات يذهبن السيئات وقال فى الأنصار اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم وقال رجل للنبى صلى الله عليه وسلم في الحكم الذى حكم به للزبير في سقى أرضه فلم يوافق غرضه أن كان ابن عمتك فغضب النبى صلى الله عليه وسلم ولم يعزره ولنا أن ما كان منصوصا عليه من التعزير كما في وطء جارية امرأته أو جارية مشتركة يجب امتثال الأمر فيه وما لم يكن منصوصا عليه إذا رأى الإمام بعد مجانبة هوى نفسه المصلحة أو علم أنه لا ينزجر إلا به وجب لأنه زاجر مشروع لحق الله تعالى فوجب كالحد وما علم أنه ينزجر بدونه لا يجب وهو محمل حديث الذى ذكر للنبى صلى الله عليه وسلم ما أصاب من المرأة فإنه لم يذكره للنبى صلى الله عليه وسلم إلا وهو نادم منزجر لأن ذكره له ليس إلا للاستعلام بموجبه ليفعل معه وأما حديث الزبير فالتعزير لحق آدمى هو النبى صلى الله عليه وسلم ويجوز تركه وفى فتاوى قاضيخان التعزير حق العبد كسائر حقوقه يجوز فيه الإبراء والعفو والشهادة على الشهادة ويجرى فيه اليمين يعنى إذا أنكر أنه سبه يحلف ويقضى بالنكول ولا يخفى على أحد أنه ينقسم إلى ما هو حق العبد وحق الله فحق العبد لا شك في أنه يجرى فيه ما ذكر وأما ما وجب منه حقا لله تعالى فقد ذكرنا آنفاأنه يجب على الإمام ولا يحل له تركه إلا فيما علم أنه انزجر الفاعل قبل ذلك ثم يجب أن يتفرع عليه أنه يجوز إثباته بمدع شهد به فيكون مدعيا شاهدا إذا كان معه آخر فإن قلت في فتاوى قاضيخان وغيره إن كان المدعى عليه ذا مروءة وكان أول ما فعل يوعظ استحسانا فلا يعزر فإن عاد وتكرر منه روى عن أبى حنيفة أنه يضرب وهذا يجب أن يكون في حقوق الله تعالى فإن حقوق العباد لا يتمكن القاضى فيها من إسقاط التعزير قلت يمكن أن يكون محله ما قلت من حقوق الله تعالى ولا مناقضة لأنه إذا كان ذا مروءة فقد حصل تعزيره بالجر إلى باب القاضى والدعوى فلا يكون مسقطا لحق الله سبحانه وتعالى في التعزير وقوله ولا يعزر يعنى بالضرب في أول مرة فإن عاد عزره حنيئذ بالضرب ويمكن كون محمله حق آدمى من الشتم وهو ممن يكون تعزيره بما ذكرنا وقد روى عن محمد في الرجل يشتم الناس إذا كان له مروءة وعظ وإن كان دون ذلك حبس وإن كان سبابا ضرب وحبس يعنى الذى دون ذلك والمروءة عندى في الدين والصلاح قوله ومن قذف عبدا أو أمة أو أم ولد أو كافرا بالزنا عزر بالإجماع إلا على قول داود في العبد فإنه يحد به وقول ابن المسيب في الذمية التى لها ولد مسلم قال يحد به
____________________
(5/346)
وإنما عزر لأنه أى هذا الكلام جناية قذف وقد امتنع وجوب الحد على القاذف لفقد الإحصان فوجب التعزير وكذا إذا قذف مسلما بغير الزنا فقال يا فاسق أو يا كافر أو يا خبيث أو يا سارق ومثله يالص أو يا فاجر أو يا زنديق أو يا مقبوح يا ابن القحبة يا قرطبان يا من يعمل عمل قوم لوط أو يا لوطى أو قال أنت تلعب بالصبيان يا آكل الربا يا شارب الخمر يا ديوث يا مخنث يا خائن يا مأوى الزوانى يا مأوى اللصوص يا منافق يا يهودى عزر هكذا مطلقا في فتاوى قاضيخان وذكره الناطفى وقيده بما إذا قال لرجل صالح أما لو قال لفاسق يا فاسق أو للص يا لص أو للفاجر يا فاجر لا شئ عليه والتعليل يفيد ذلك وهو قولنا إنه آذاه بما ألحق به من الشين فإن ذلك إنما يكون فيمن لم يعلم اتصافه بهذه أما من علم فإن الشين قد ألحقه هو بنفسه قبل قول القائل وقيل في يا لوطى يسأل عن نيته إن أراد أنه من قوم لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فلا شئ عليه وإن أراد أنه يعمل عملهم عزر على قول أبى حنيفة وعندهما يحد والصحيح أنه يعزر إن كان في غضب قلت أو هزل ممن تعود بالهزل بالقبيح ولو قذفه بإتيان ميتة أو بهيمة عزر قال المصنف إلا أنه يبلغ بالتعزير غايته في الجناية الأولى وهو ما إذا قذف غيرالمحصن بالزنا لأنه من جنس ما يجب به الحد وهو الرمى بالزنا وفي الثانية وهو ما إذا قذفه بغير الزنا من المعاصى الرأى إلى الإمام قوله ولو قال يا حمار أو ياخنزير لم يعزر لأنه لم ينسبه إلى شين معصية ولم يتعلق به شين أصلا بل إنما ألحق الشين بنفسه حيث كان كذبه ظاهرا ومثله يا بقر ويا ثور يا حية يا تيس يا قرد يا ذئب يا حجام يا بغاء يا ولد حرام يا عيار يا ناكس يا منكوس يا سخرة يا ضحكة يا كشحان يا أبله يا ابن الحجام وأبوه ليس بحجام يا ابن الأسود وأبوه ليس كذلك يا كلب يا رستاقى يا مؤاجر يا موسوس لم يعزر والحق ما قاله بعض أصحابنا أنه يعزر في الكشحان إذ قيل إنه قريب من معنى القرطبان والديوث والمراد به وبالقرطبان في العرف الرجل الذى يدخل الرجال على امرأته ومثله في ديار مصر والشام المعرص والقواد وعدم التعزير في الكلب والخنزير ونحوهما هو ظاهر الرواية بين علمائنا الثلاثة واختار الهندوانى أنه يعزر به وهو قول الأئمة الثلاثة لأن هذه الألفاظ تذكر للشتيمة في عرفنا وفي فتاوى قاضيخان في يا كلب لا يعزر قال وعن الفقيه أبى جعفر أنه يعزر لأنه يعد شتيمة ثم قال والصحيح أنه لا يعزر لأنه كاذب قطعا انتهى وفي المبسوط فإن العرب لا تعده شتيمة ولهذا يسمون بكلب وذئب وذكر قاضيخان عن أمالى أبى يوسف في يا خنزير يا حمار يعزر ثم قال وفي رواية لمحمد لا يعزر وهو الصحيح والمصنف استحسن التعزير إذا كان المخاطب من الأشراف فتحصلت ثلاثة المذهب وهو ظاهر الرواية لا يعزر مطلقا ومختار الهندوانى يعزر مطلقا والمفصل بين كون المخاطب من الأشراف فيعزر قائله
____________________
(5/347)
أولا فلا ويعزر في مقامر وفي قذر قيل وفي بليد وأنا أظن أنه يشبه يا أبله ولم يعزروا به وقوله أكثره تسعة وثلاثون سوطا عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف يبلغ به خمسة وسبعين سوطا والأصل وفي نقصه عن المحدود قوله عليه الصلاة والسلام من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين ذكر البيهقى أن المحفوظ أنه مرسل وأخرجه عن خالد بن الوليد عن النعمان بن بشير ورواه ابن ناجيه في فوائده حدثنا محمد بن حصين الأصبحى حدثنا عمر بن علي المقدمي حدثنا مسعر عن خالد بن الوليد بن عبد الرحمن عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلغ الحديث ورواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار مرسلا فقال أخبرنا مسعر بن كدام قال أخبرني ابن الوليد ابن عثمان عن الضحاك بن مزاحم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلغ الحديث والمرسل عندنا حجة موجبة للعمل وعند أكثر أهل العلم وإذا لزم أن لا يبلغ به حدا فأبو حنيفة ومحمد نظرا إلى صرافة عموم النكرة في النفي فصرفاه إليه فنحاه عن حد الأرقاء لأن الأربعين يصدق عليها حد فلا يبلغ إليهما بالنص المذكور خصوصا والمحل محل احتياط في الدرء وأبو يوسف اعتبر أقل حدود الأحرار لأن الأصل الحرية ثم نقص سوطا في رواية هشام عنه وهو قول زفر وهو القياس لأنه يصدق عليه قولنا ليس حدا فيكون من أفراد المسكوت عن النهى عنه وفى ظاهر الرواية عنه خمسة وسبعون قيل وليس فيه معنى معقول وذكر أن سبب اختلاف الرواية عنه أنه أمر في تعزير رجل بتسعة وسبعين وكان يعقد لكل خمسة عقدا بأصابعه فعقد خمسة عشر ولم يعقد للأربعة الأخيرة لنقصانها عن الخمسة فظن الذى كان عنده أنه أمر بخمسة وسبعين وإنما أمر بسعة وسبعين قال وروى مثله عن عمر يعنى خمسة وسبعين وليس بصحيح ونقل عن أبى الليث قال
____________________
(5/348)
قيل إن أبا يوسف أخذ النصف من حد الأحرار وأكثره مائة والنصف من حد العبيد وأكثره خمسون فتحصل خمسة وسبعون ومنع صحة اعتبار هذا الأخذ وهو لا يضره بعد أن أثره عن على كما ذكر في الكتاب من أنه قلد عليا فيه وكونه لا يعقل يؤكده إذ الغرض أن ما لا يدرك بالرأى يجب تقليد الصحابى فيه وإنما يتم جوابه بمنع ثبوته عن على كما قال أهل الحديث أنه غريب ونقله البغوى في شرح السنة عن ابن أبى ليلى وبقولنا قال الشافعى في الحر وقال في العبد تسعة عشر لأن حد العبد في الخمر عنده عشرون وفي الأحرار أربعون وقال مالك لا حد لأكثره فيجوز للإمام أن يزيد في التعزير على الحد إذا رأى المصلحة في ذلك مجانبا لهوى النفس لما روى أن معن بن زائده 7 عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال ثم جاء به لصاحب بيت المال فأخذ منه مالا فبلغ عمر ذلك فضربه مائة وحبسه فكلم فيه فضربه مائة أخرى فكلم فيه فضربه مائة ونفاه وروى الإمام أحمد بإسناده أن عليا أتى بالنجاشى الشاعر قد شرب خمرا في رمضان فضربه ثمانين للشرب وعشرين سوطا لفطره في رمضان ولنا الحديث المذكور ولأن العقوبة على قدر الجناية فلا يجوز أن يبلغ بما هو أهون من الزنا فوق ما فرض بالزنا وحديث معن يحتمل أن له ذنوبا كثيرة أو كان ذنبه يشتمل كثرة منها لتزويره وأخذه مال بيت المال بغير حقه وفتحه باب هذه الحيلة ممن كانت نفسه عارية عن استشرافها وحديث النجاشى ظاهر أن لا احتجاج فيه فإنه نص على أن ضربه العشرين فوق الثمانين لفطره في رمضان وقد نصت على أنه لهذا المعنى أيضا الرواية الأخرى القائله إن عليا أتى بالنجاشى الشاعر وقد شرب الخمر في رمضان فضربه ثمانين ثم ضربه من الغد عشرين وقال ضربناك العشرين بجرأتك على الله تعالى وإفطارك في رمضان فأين الزيادة في التعزير على الحد في هذا الحديث وعن أحمد لا يزاد على عشرة أسواط وعليه حمل بعض أصحاب الشافعى مذهب الشافعى لما اشتهر عنه من قوله إذا صح الحديث فهو مذهبى وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيحين وغيرهما من حديث أبى بردة أنه قال لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله وأجاب أصحابنا عنه وبعض الثقات بأنه منسوخ بدليل عمل الصحابة بخلافه من غير إنكار أحد وكتب عمر إلى أبى موسى رضى الله عنهما أن لا تبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطا ويروى ثلاثين إلى الأربعين وبما ذكرنا من تقدير أكثره بتسعة وثلاثين يعرف أن ما ذكر مما تقدم من أنه ليس في التعزير شئ مقدر بل مفوض إلى رأى الإمام أي من أنواعه فإنه يكون بالضرب وبغيره مما تقدم ذكره أما إن اقتضى رأيه الضرب في خصوص الواقعة فإنه حينئذ لا يزيد على تسعة وثلاثين قوله ثم قدر الأدنى في الكتاب يعنى القدورى بثلاث جلدات لأن ما دونها لا يقع به الزجر وذكر مشايخنا أن أدناه على ما يراه الأمام بقدر ما يعلم أنه ينزجر به لأنه يختلف باختلاف الناس وجه مخالفة هذا الكلام لقول القدورى إنه لو رأى أنه ينزجر بسوط واحد اكتفى به وبه صرح في الخلاصة فقال واختيار التعزير إلى القاضى من واحد إلى تسعة وثلاثين ومقتضى قول القدورى إنه إذا وجب العزير بنوع الضرب فرأى الأمام أن هذا الرجل ينزجر بسوط واحد يكمل له ثلاثة لأنه حيث وجب التعزير بالضرب فأقل ما يلزم أقله إذ ليس وراءالأقل شئ وأقله ثلاثة ثم يقتضى أنه لو رأى أنه إنما ينزجر بعشرين كانت العشرون أقل ما يجب تعزيره به فلا يجوز نقصه عنه فلو رأى أنه لا ينزجر بأقل من تسعة وثلاثين كان على هذا أكثر التعزير فإنه
____________________
(5/349)
أقل ما يجب منه في ذلك الرجل وتبقى فائدة تقدير أكثره بتسعة وثلاثين أنه لو رأى أنه لا ينزجر إلا بأكثر من تسعة وثلاثين لا يبلغ قدر ذلك ويضربه الأكثر فقط نعم يبدل ذلك القدر بنوع آخر وهو الحبس مثلا قوله وعن أبى يوسف أنه على قدر عظم الجرم وصغره واحتمال المضروب وعدم احتماله وعنه أنه يقرب كل نوع من أسباب التعزير من بابه فيقرب بالمس والقبلة للأجنبية والوطء فيما دون الفرج من حد الزنا والرمى بغير الزنا من المعاصى من حد القذف وكذا السكر من غير الخمر من شرب الخمر قيل معناه يعزر في اللمس الحرام والقبلة أكثر جلدات التعزير ويعزر في قوله نحو يا كافر وياخبيث أقل جلدات التعزير لكن في فتاوى قاضيخان أن أسباب التعزير إن كان من جنس ما يجب به حد القذف يبلغ أقصى التعزير وإن كان من جنس مالا يجب به حد القذف لا يجب اقصاه فيكون مفوضا إلى رأى الإمام قوله وإن رأى الإمام أن يضم إلى الضرب في التعزير الحبس فعل وذلك بأن يرى أن أكثر الضرب في التعزير وهو تسعة وثلاثون لا ينزجر بها أو هو في شك من انزجاره بها يضم إليه الحبس لأن الحبس صلح تعزيرا بانفراده حتى لو رأى الإمام أن لا يضربه ويحبسه أياما عقوبة له فعل ذكره في الفتاوى وغيرها وهو قول المصنف حتى جاز أن يكتفى به وقد ورد به الشرع في الجملة وهو ما سلف من أنه عليه الصلاة والسلام حبس رجلا فى تهمة فجاز أن يضم هإذا شك في إنزجاره بدونه قوله ولهذا أي ولأن الحبس بمفرده يقع تعزيرا تاما لم يشرع بالتهمة قبل ثبوته أي لم يشرع الحبس بتهمة ما يوجب التعزير حتى لو ادعى رجل على آخر شتيمة فاحشة أو أنه ضربه وأقام شهودا لا يحبس قبل أن يسأل عن الشهود ويحبس في الحدود وهذا لأنه إذا عدلت الشهود كان الحبس تمام موجب ما شهدوا به فلو حبس قبله لزم إعطاء حكم السبب له قبل ثبوته بخلاف الحد لأنه إذا شهدوا بموجبه
____________________
(5/350)
ولم يعدلوا حبس لأنه إذا ثبت سببه بالتعديل كان الواجب به شيئا آخر غير الحبس فيحبس تعزيرا للتهمة قوله وأشد الضرب التعزير لأنه جرى فيه التخفيف من حيث العدد فلا يخفف من حيث الوصف كى لا يؤدى إلى فوات المقصود من الانزجار ولهذا لم يخفف من حيث التفريق على الأعضاء لجريان التخفيف فيه من حيث العدد وذكر في المحيط أن محمدا ذكر في حدود الأصل أن التعزير يفرق على الأعضاء وذكر في أشربة الأصل يضرب التعزير في موضع واحد وليس في المسئلة روايتان بل موضوع ما ذكر في الحدود إذا وجب تبليغ التعزير إلى أقصى غاياته بأن أصاب من الأجنبية كل محرم غير الجماع أو أخذ السارق بعد ما جمع المتاع قبل الإخراج وإذا بلغ غاية التعزير فرق على الأعضاء وإلا أفسد العضو لموالاة الضرب الشديد الكثير عليه وموضوع ما في الأشربة ما إذا عزر أدنى التعزير كثلاثة ونحوها وإذا حد عددا يسيرا فالإقامة في موضع واحد لا تفسده وتفريقها أيضا لا يحصل منه مقصود الانزجار فيجمع في محل واحد وعلى هذا فمعنى شدة الضرب قوته لا جمعه في عضو واحد كما قيل إذا صح أنه لا يجمع في عضو واحد مطلقا ثم حد الزنا يلى التعزير في الشدة لأنه ثابت بالكتاب وأعظم جناية حتى شرع فيه الرجم وهو إتلاف النفس بالكلية ثم حد الشرب لأنه ثبت بإجماع الصحابة لكن لا يتلى في القرآن وفي زمنه عليه الصلاة والسلام كان غير مقدر على ما تقدم ولأن سببه متيقن فيكون سببيته لا شبهة فيها والمراد أن الشرب متيقن السببية للحد لا متيقن الثبوت لأنه بالبينة أو الإقرار وهما لا يوجبان اليقين فإن قيل يفيد أنه شرعا بمعنى أن عندهما يستيقن لزوم الحد أو أن الثابت بهما كالثابت بالمعاينة قلنا كذلك القذف يثبت بالبينة أو الإقرار فلا يقع فرق حينئذ بينهما بخلاف القذف لأن سببه باعتبار كونه فرية وبالبينة لا يتيقن بذلك لجواز صدقه فيما نسبه إليه ولأنه جرى فيه التغليظ برد الشهادة فلا يغلظ مرة أخرى من حيث
____________________
(5/351)
الوصف وهو شدة الضرب ولأن الشرب ينتظم القذف كما قال علي رضي الله عنه إذا شرب هذي وإذا هذي افترى فيجتمع على الشارب حد الشرب والقذف فيزداد العدد نظرا إلى المظنة فلا يغلظ بالشدة فأشدها التعزيز وأخفها حد القذف وعند أحمد أشد الضرب حد الزنا ثم حد القذف ثم التعزير وقال مالك الكل سواء لأن المقصود من الكل واحد ثم ذكر في المبسوط بأنه يحد ويعزر في إزار واحد وفي فتاوى قاضيخان يضرب في التعزير قائما عليه ثيابه وينزع الحشو والفرو ولا يمد في التعزير قوله ومن حده الإمام أو عزره فمات فدمه هدر وهو قول مالك وأحمد وقال الشافعى رحمه الله يضمن ثم في قول تجب الدية في بيت المال لأن تقع عمله يرجع إلى عامة المسلمين فيكون الغرم الذى يلحقه بسبب عمله لهم عليهم وفي قول على عاقلة الإمام لأن أصل التعزير غير واجب عليه ولو وجب فالضرب غير متعين في التعزير فيكون فعله مباحا فيتقيد بشرط السلامة ولم يسلم فيجب على عاقلته وهذا يخص التعزير ونحن نقول إن الإمام مأمور بالحد والتعزير عند عدم ظهور الانزجار له في التعزير بحق الله تعالى وفعل المأمور لا يتقيد بشرط السلامة كما في الفصاد لأنه لا بد له من الفعل وإلا عوقب والسلامة خارجة عن وسعه إذ الذى في وسعه أن لا يتعرض لسببها القريب وهو بين أن يبالغ في التخفيف فلا يسقط الوجوب به عنه أو يفعل ما يقع زاجرا وهو ما هو مؤلم زاجر وقد يتفق أن يموت
____________________
(5/352)
الإنسان به فلا يتصور الأمر بالضرب المؤلم الزاجر مع اشتراط السلامة عليه بخلاف المباحات فإنها رفع الجناح في الفعل وإطلاقه وهو مخير فيه بعد ذلك غير ملزم به فصح تقييده بشرط السلامة كالمرور في الطريق والاصطياد ولهذا يضمن إذا عزر امرأته فماتت لأنه مباح ومنفعته ترجع إليه كما ترجع إلى المرأة من وجه آخر وهو استقامتها على ما أمر الله به وذكر الحاكم أنه لا يضرب امرأته على ترك الصلاة ويضرب ابنه وكذا المعلم إذا أدب الصبى فمات منه يضمن عندنا والشافعى أما لو جامع زوجته فماتت أو أفضاها لا يضمن عند أبى حنيفة وأبى يوسف ذكره في المحيط مع أنه مباح فيتقيد بشرط السلامة لأنه ضمن المهر بذلك الجماع فلو وجبت الدية وجب ضمانان بمضمون واحد
تتمه الأولى للإنسان فيما إذا قيل له ما يوجب التعزير أن لا يجيبه قالوا لو قال له يا خبيث الأحسن أن يكف عنه ولو رفع إلى القاضى ليؤدبه يجوز ولو أجاب مع هذا فقال بل أنت لا بأس وإذا أساء العبد الأدب حل لمولاه تأديبه وكذا الزوجة وفي فتاوى القاضى من يتهم بالقتل والسرقة يحبس ويخلد في السجن إلى أن يظهر التوبة وفيها عن أبى يوسف إذا كان يبيع الخمر ويشترى ويترك الصلاة يحبس ويؤدب ثم يخرج والساحر إذا ادعى أنه يخلق ما يفعل إن تاب وتبرأ وقال الله تعالى خالق كل شئ قبلت توبته وإن لم يتب يقتل وكذا وكذا الشاحرة تقتل بردتها وإن كانت المرتدة لا تقتل عندنا لكن الساحرة تقتل بالأثر وهو ما روى عن عمر أنه كتب إلى عماله اقتلوا الساحر والساحرة زاد في فتاوى قاضيخان وإن كان يستعمل السحر ويجحد ولا يدرى كيف يقول فإن هذا الساحر يقتل إذا أخذ وثبت ذلك منه ولا تقبل توبته وفي الفتاوى رجل يتخذ لعبة الناس ويفرق بين المرء وزوجه بتلك اللعبة فهذا سحر ويحكم بارتداده ويقتل قال في الخلاصة هكذا ذكره القاضى مطلقا وهو محمول على ما إذا كان يعتقد أن له أثرا انتهى وعلى هذا التقدير فلم يذكر حكم هذا الرجل وعلى هذا التقدير أعنى عدم الحكم بارتداده فينبغى أن يكون حكمه أن يضرب ويحبس حتى يحدث توبة وهل تحل الكتابة بما علم أن فلانا يتعاطى من المناكير لأبيه قالوا إن وقع في قلبه أن أباه يقدر أن يغير على ابنه يحل له أن يكتب إليه وإن لم يقع في قلبه لا يكتب وكذا بين الرجل وزوجته وبين السلطان والرعية ويعزر من شهد شرب الشاربين والمجتمعون على شبه الشرب وإن لم يشربوا ومن معه ركوة خمر والمفطر في نهار رمضان يعزر ويحبس والمسلم الذى يبيع الخمر أو يأكل الربا يعزر ويحبس وكذا المغنى والمخنث والنائحة يعزرون ويحبسون حتى يحدثوا توبة وكذا المسلم إذا شتم الذمى يعزر لأنه ارتكب معصية ومن يتهم بالقتل والسرقة يحبس ويخلد في السجن إلى أن تظهر التوبة وكذا يسجن من قبل أجنبية أو عانقها أو مسها بشهوة والله أعلم & كتاب السرقه
لما كان المقصود من الحدود الانزجار عن أسبابها بسبب ما اشتملت عليه من المفاسد روعى في ترتيبها
____________________
(5/353)
في التعليم ترتب أسبابها في المفاسد فما كانت مفسدته أعظم يقدم على ما هو أخف لأن تعليمه وتعلمه أهم وأعظم المفاسد ما يؤدى إلى فوات النفس وهو الزنا لما تقدك من وجه كونه قتلا معنى ويليه ما يؤدى إلى فوات العقل وهو الشرب لأنه كفوات النفس من حيث أن عديم القعل لا ينتفع بنفسه كعديم النفس ويليه ما يؤدى إلى إفساد العرض وهو القذف فإنه أمر خارج عن الذات يؤثر فيها ويلزق أمرا قبيحا ويليه ما يؤدى إلى إتلاف المال فإنه الأمر المخلوق وقاية للنفس والعرض فكان آخرا فأخره وللسرقة تفسير لغة وهو ما ذكر في الكتاب وهو أخذ الشئ من الغير على وجه الخفيه ومنه استراق السمع وهو أن يستمع مستخفيا وفي الشريعة هى هذا أيضا وإنما زيد على مفهومها قيود في إناطة حكم شرعى بها إذ لا شك أن أخذ أقل من النصاب خفية سرقة شرعا لكن لم يعلق الشرع به حكم القطع فهى شروط لثبوت ذلك الحكم الشرعى فإذا اقيل السرقة الشرعية الأخذ خفية مع كذا وكذا لا يحسن بل السرقة التى علق بها الشرع وجوب القطع هى أخذ العاقل البالغ عشرة دراهم أو مقدارها خفية عمن هو متصد للحفظ مما لا يتسارع إليه الفساد من المال المتمول للغير من حرز بلا شبهة وتعمم الشبهة في التأويل قيل فلا يقطع السارق من السارق ولا أحد الزوجين من الآخر أو ذى الرحم الكاملة والنقل خلاف الأصل لا يصار إليه حتى يتعين بما لا مرد له كالصلاة على ما هو المذهب المختار عند الأصوليين وما قيل هي في مفهومها اللغوي والزيادات شروط غير مرضى والقطع بأنها للأفعال والقراءة عندنا ولو بغير الفاتحة فكيف يقال إنها في الشرع للدعاء والأفعال شرط قبوله والفرض أنه لا يتبادر الدعاء قط هذا وسيأتي في السارق من السارق خلاف قوله والمعنى اللغوي يعني الخفيه مراعي فيها إما ابتداء وانتهاء وذلك في سرقة النهار في المصر أو ابتداء لا غير وهي في سرقة الليل فلذا إذا دخل البيت ليلا خفية ثم أخذ المال مجاهرة ولو بعد مقاتلة ممن في يده قطع به
____________________
(5/354)
للاكتفاء بالخفية الأولى وإذا كابره في المصر نهارا وأخذ ماله لا يقطع استحسانا وإن كان دخل خفية والقياس كذلك في الليل لكن يقطع إذ غالب السرقات في الليل تصير مغالبة إذ قليلا ما يختفى في الدخول والأخذ بالكلية وعليه فرع إذا كان صاحب الدار يعلم دخوله واللص لا يعلم كونه فيها أو يعلمه اللص وصاحب الدار لا يعلم دخوله أو كانا لا يعلمان قطع ولو علما لا يقطع ولما كانت السرقة تشمل الصغرى والكبرى والخفية المعتبرة في الصغرى هي الخفية عن عين المالك أو من يقوم مقامه كالمودع والمستعير والمضارب والغاصب والمرتهن كانت الخفية معتبرة في الكبرى مسارقة عين الإمام ومنعة المسلمين الملتزم حفظ طرق المسلمين وبلادهم وركنها نفس الأخذ المذكور وأما شرط ثبوت الحكم ومنها تفصيل النصاب فيأتى في أثناء المسائل قوله وإذا سرق العاقل البالغ عشرة دراهم أو ما يبلغ قيمته عشرة دراهم مضروبة من حرز لا شبهة فيه وجب القطع والأصل في وجوب القطع قوله
____________________
(5/355)
تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } الآية ولابد من اعتبار العقل والبلوغ لأن الجناية لا تتحقق دونهما لأنها بالمخالفة فرع تعلق الخطاب قوله ولا بد من التقدير بالمال الخطير اختلف في أنه هل يقطع بكل مقدار من المال أو لا بد من مقدار معين لا يقطع في أقل منه فقال بالأول الحسن البصرى وداود والخوارج وابن بنت الشافعى لإطلاق الآية ولقوله عليه الصلاة والسلام لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ويسرق البيضة فتقطع يده متفق عليه ومن سوى هؤلاء من فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار على أنه لا قطع إلا بمال مقدر لقوله عليه الصلاة والسلام لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا متفق عليه فلزم في الأول التأويل بالحبل الذى يبلغ عشرة دراهم وبالبيضة البيضة من الحديد أو النسخ ولو قيل ونسخه أيضا ليس أولى من نسخ ما رويتم قلنا لا تاريخ بقى وجه أولوية الحمل وهو مع الجمهور فإن مثله في باب الحدود متعين عند التعارض ثم قد نقل إجماع الصحابة على ذلك وبه يتقيد إطلاق الآية وبالعقل وهو أن الحقير مطلقا تفتر الرغبات فيه فلا يمنع أصلا كحبة قمح وهو مما يشمله إطلاق الآية وكذا لا يخفى أخذه فلا يتحقق بأخذه ركن السرقة وهو الأخذ خفية ولا حكمة الزجر أيضا لأنها فيما يغلب فإن مالا يغلب لا يحتاج إلى شرع الزاجر لأنه لا يتعاطى فلا حاجة إلى الزجر عنه فهذا مخصص عقلى بعد كونها مخصوصة بما ليس من حرز بالإجماع ثم اختلف الشارطون لمقدار معين في تعيينه فذهب أصحابنا في جماعة من التابعين إلى أنه عشرة دراهم وذهب الشافعى إلى أنه ربع دينار وذهب مالك وأحمد إلى أنه ربع دينار أو ثلاثة دراهم لما روى من مالك في موطئه عن عبد الله بن أبى بكر عن أبيه عن عمرة بنت عبد الرحمن أن سارقا سرق في زمن عثمان بن عفان أترجة فأمر بها عثمان فقومت بثلاثة دراهم من صرف اثنى عشر بدينار فقطع عثمان يده قال مالك أحب ما يجب فيه القطع إلى ثلاثة دراهم سواء ارتفع الصرف
____________________
(5/356)
أو اتضع وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم وعثمان قطع في أترجة قيمتها ثلاثة دراهم وهذا أحب ما سمعت إلى انتهى وكون المجن بثلاثة في حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم أخرجه الشيخان وفي لفظ لهما عن عائشة رضى الله عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا غير أن الشافعى يقول كانت قيمة الدينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنى عشر درهما فالثلاثة ربعها وفي مسند أحمد عن عائشة عنه عليه الصلاة والسلام اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم وقد ظهر أن المراد مما ذكر المصنف من قوله أن القطع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان إلا في ثمن المجن أنه ما كان إلا في مقدار ثمنه لا حقيقة اللفظ وهى أن المسروق كان نفس ثمنه فقطع به إذ ليس كذلك بل المسروق كان نفس المجن فقطع به وكانت قيمته ثلاثة دراهم ولنا أن الأخذ بالأكثر في هذا الباب أولى احتيالا للدرء فعرف أنه قد قيل في ثمن المجن أكثر مما ذكر ويريد ذلك حديث أيمن رواه الحاكم في المستدرك عن مجاهد عن أيمن قال لم تقطع اليد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن المجن وثمنه يومئذ دينار وسكت عنه ونقل عن الشافعى أنه قال لمحمد بن الحسن رضى الله عنه هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع في ربع دينار فصاعدا فكيف قلت لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم فصاعدا فقال قد روى شريك عن مجاهد عن أيمن ابن أم ايمن أخى أسامة بن زيد لأمه وأن الشافعى أجاب بأن أيمن ابن أم أيمن قتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قبل أن يولد مجاهد قال ابن أبى حاتم في المراسيل وسألت أبى عن حديث رواه الحسن بن صالح عن منصور عن الحكم عن عطاء ومجاهد عن أيمن وكان فقيها قال تقطع يد السارق في ثمن المجن وكان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا قال أبى هو مرسل وأرى أنه والد عبد الواحد بن أيمن وليس له صحبة وظهر بهذا القدر أن أيمن اسم للصحابى فهو ابن أم أيمن وأنه استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين واسم لتابعى آخر وقال أبو الحجاج المزى في كتابه أيمن الحبشى مولى بنى مخزوم روى عن سعد وعائشة وجابر وروى عنه ابنه عبد الواحد وثقه أبو زرعة ثم قال أيمن مولى ابن الزبير وقيل مولى ابن أبى عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم في السرقة إلى أن قال وعنه عطاء ومجاهد قال النسائى ما احسب أن له صحبة فقد جعله اسما لتابعيين وأما ابن أبى حاتم وابن حبان فجعلاهما واحدا قال ابن أبى حاتم أيمن الحبشى مولى ابن عمر روى عن عائشة وجابر روى عنه مجاهد وعطاء وابنه عبد الواحد قال سمعت أبى يقول ذلك وسئل أبو زرعة عن أيمن والد عبد الواحد فقال مكى ثقة وقال ابن حبان في الثقات أيمن بن عبيد الحبشى مولى لابن أبى عمر المخزومى من أهل مكة روى عن عائشة وروى عنه مجاهد وعطاء وابنه عبد الواحد بن أيمن
____________________
(5/357)
وكان أخا أسامة بن زيد لأمه وهو الذي يقال له أيمن ابن أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قال ومن زعم أن له صحبة فقد وهم حديثه في القطع مرسل فهذا يخالف الشافعي وغيره ممن ذكر ان أيمن ابن ام أيمن قتل يوم حنين وأنه صحابي حيث جعله من التابعين وهكذا فعل الدارقطني في سننه أيمن لا صحبة له وهو من التابعين ولم يدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء بعده وهو الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ثمن المجن دينار روى عنه ابنه عبد الواحد وعطاء ومجاهد والحاصل أنه اختلف في أيمن راوي قيمة المجن هل هو صحابي او تابعي ثقة فإن كان صحابيا فلا إشكال وإن كان تابعيا ثقة كما ذكره أبو زرعة الإمام العظيم الشان وابن حبان فحديثه مرسل والإرسال ليس عندنا ولا عند جماهير العلماء قادحا بل هو حجة فوجب اعتباره وحينئذ فقد اختلف في تقويم ثمن المجن أهو ثلاثة أو عشرة فيجب الأخذ بالأكثر هنا لإيجاب الشرع الدرء ما أمكن في الحدود ثم يقوى بما رواه النسائى ايضا بسنده عن ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم وأخرجه الدارقطنى أيضا وأخرجه هو وأحمد في مسنده عن الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وكذا إسحاق بن راهويه وروى ابن أبى شيبة في مصنفه في كتاب اللقطة عن سعيد بن المسيب عن رجل من مزينة عن النبى صلى الله عليه وسلم ما بلغ ثمن المجن قطعت يد صاحبه وكان ثمن المجن عشرة دراهم قال المصنف وتأيد ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم وهذا بهذا اللفظ موقوف على ابن مسعود وهو مرسل عنه رواه عبد الرزاق ومن طريقه الطبرانى في معجمه وأشار إليه الترمذى في كتابه الجامع فقال وقد روى عن ابن مسعود أنه قال لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم وهو مرسل رواه القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود والقاسم بن عبد الرحمن لم يسمع من ابن مسعود انتهى وهو صحيح لأن الكل ما رووه إلا عن القاسم لكن في مسند أبى حنيفة من رواية ابن مقاتل عن أبى حنيفة عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال كان قطع اليد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة دراهم وهذا موصول وفي رواية خلف بن ياسين عن أبى حنيفة إنما كان القطع في عشرة دراهم وأخرجه ابن حرب من حديث محمد بن الحسن عن أبى حنيفة برفعه لا تقطع اليد في اقل من عشرة دراهم فهذا موصول مرفوع ولو كان موقوفا لكان له حكم الرفع لأن المقدرات الشرعية لا دخل للعقل فيها فالموقوف فيها محمول على الرفع قوله واسم الدراهم يعنى في الحديث وهو قوله أو عشرة دراهم ينطلق على المضروبة عرفا فإذا أطلق بلا قيد فهو وجه اشتراط كونها مضروبة في القطع كما ذكره في القدورى وهو ظاهر الرواية وهو الأصح للظاهر من الحديث و رعاية لكمال الجناية لأنها شرط العقوبة وشروط العقوبات يراعى وجودها على وجه الكمال ولهذا شرطنا الجودة حتى لو كانت زيوفا لا يقطع
____________________
(5/358)
بها ولو تجوز بها لأن نقصان الوصف بنقصان الذات وعن أبى يوسف يقطع بها إذا كانت رائجة حتى لو سرق عشرة تبرا أي فضة غير مضروبة صكا قيمتها أقل من عشرة مصكوكة لا يجب القطع على ظاهر المذهب وروى الحسن عن أبى حنيفة أنه يقطع للإطلاق المذكور وأنت تعلم أن المطلق يقيد بالعرف والعادة قوله والمعتبر وزن سبعة يعنى المعتبر في وزن الدراهم التى يقطع بعشرة منها ما يكون وزن عشرة وزن سبعة مثاقيل كما في الزكاة وتقدم بحثنا فيها في الزكاة وهو أنه ينبغى أن يراعى أقل ما كان من الدراهم على ما قالوا وأما هنا فمقتضى ما ذكرون من أن الدراهم كانت في زمنه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف صنف وزن خمسة وصنف وزن ستة وصنف وزن عشرة أن يعتبر في القطع وزن عشرة فهذا مقتضى أصلهم في ترجيح تقدير المجن بعشرة بأنه أدرأ للحد وما كان دارئا كان أولى لا يقال هذا إحداث قول ثالث لأنا نقول لا نسلم فإنه إنما يكون ذلك إذا تحققنا أن كل من قدر نصاب القطع بعشرة قدر العشرة بوزن سبعة وهو ممنوع فإن ممن نقل تقديره بعشرة سفيان الثورى وعطاء ولم ينقل تقديرهما بوزن سبعة فلا يتحقق لزوم القول الثالث ثم هذا البحث إلزام على قولهم إن وزن سبعة لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما إن قيل كالشافعية أنها كانت كذلك في زمنه صلى الله عليه وسلم فلا قوله وقوله أي قول القدورى أو ما يبلغ قيمته عشرة إشارة إلى أن غير الدراهم تعتبر قيمته بالدراهم وإن كان ذهبا حتى لو سرق دينارا قيمته أقل من عشرة لا يقطع ذكره في المحيط قال والمراد من الدينار المذكور أنه يقطع به في الحديث ما يكون متقوما به لا قيمة الوقت أي يكون دينارا قيمته عشرة
____________________
(5/359)
دراهم فضة جياد بوزن سبعة مثاقيل أو أكثر سواء كانا في الوقت كذلك أو لا فلا اعتبار للوقت لأنه يزيد وينقص فيه السعر ولا بد من كون قيمة غير الفضة بعشرة يوم السرقة ووقت القطع حتى لو نقص القيمة وقت القطع عن عشرة لم يقطع إلا إن كان النقص بسبب عيب دخله أو فوات بعض العين فعلى هذا إذا سرق في بلد ما قيمته فيها عشرة فأخذ في أخرى وقيمتها فيها أقل لا يقطع وفي قول الطحاوى يعتبر وقت الإخراج من الحرز فقط ولو سرق أقل من زون عشرة فضة تساوى عشرة مصكوكة لا يقطع لأنه يخالف النص وهو قوله لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم في محل النص وهو أن يسرق وزن عشرة ولا بد من ثبوت دلالة القصد إلى النصاب المأخوذ وعليه ذكر في التجنيس من علامة النوازل سرق ثوبا قيمته دون العشرة وعلى طرفه دينار مشدود لا يقطع وذكر من علامة فتاوى أئمة سمرقند إذا سرق ثوبا لا يساوى عشرة وفيه دراهم مضروبة لا يقطع وقال وهذا إذا لم يكن الثوب وعاء للدراهم عادة فإن كان يقطع لأن القصد فيه يقع على سرقة الدراهم ألا يرى أنه لو سرق كيسا فيه دراهم كثيرة يقطع وإن كان الكيس يساوى درهما ولا بد من أن يكون للمسروق منه يد صحيحة حتى لو سرق عشرة وديعة عند رجل ولو لعشرة رجال يقطع بخلاف السارق من السارق على الخلاف وأن يخرجه ظاهرا حتى لو ابتلع دينارا في الحرز وخرج لا يقطع ولا ينتظر أن يتغوطه بل يضمن مثله لأنه استهلكه وهو سبب الضمان للحال وأن يخرج النصاب بمرة واحدة فلو أخرج بعضه ثم دخل وأخرج باقيه لا يقطع قوله والعبد والحرفى القطع سواء لأن النص لم يفصل بين حر وعبد ولا يمكن التنصيف فيتكامل وهذا لأن الجناية موجبة للعقوبة صيانة لأموال الناس والرق منصف فما أمكن فيه التنصيف نصف عليه وبه يحصل موجب العقوبة ومالا كمل ضرورة وإلا أهدر السبب في حقه بخلاف الزنا فإن له حدين الجلد والرجم فانتظم النص الحر والمرقوق في الجلد فحد على نصف حد الأحرار بقوله تعالى { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } ثم شرع الحد الآخر وهو الرجم على الأحرار ابتداء بحيث لم يتناول الأرقاء قوله ويجب القطع بإقراره مرة واحدة عند أبى حنيفة ومحمد ومالك والشافعى وأكثر علماء هذه الأمة وقال أبو يوسف لا يقطع إلا بالإقرار مرتين وهو قول أحمد وابن أبى ليلى وزفر وابن شبرمة ويروى عن أبى يوسف اشتراط كون الإقرارين في مجلسين استدلوا بالمنقول والمعنى أما المنقول فما روى أبو داود عن أبى أمية المخزومى أنه عليه الصلاة والسلام أتى بلص قد
____________________
(5/360)
اعترف ولم يوجد معه متاع فقال صلى الله عليه وسلم ما إخالك سرقت فقال بلى يار رسول الله فأعادها عليه الصلاة والسلام مرتين أو ثلاثا فأمر به فقطع فلم يقطعه إلا بعد تكرر إقراره وأسند الطحاوى إلى على رضى الله عنه أن رجلا أقر عنده بسرقة مرتين فقال قد شهدت على نفسك شهادتين فأمر به فقطع فعلقها في عنقه وأما المعنى فإلحاق الإقرار بها بالشهادة عليها في العدد فيقال حد فيعتبر عدد الإقرار به بعدد الشهود نظيره إلحاق الإقرار في حد الزنا في العدد بالشهادة فيه ولأبى حنيفة ما أسند الطحاوى إلى أبى هريرة في هذا الحديث قالوا يا رسول الله إن هذا سرق فقال ما إخاله سرق فقال السارق بلى يا رسول الله قال اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتونى به قال فذهب به فقطع ثم حسم ثم أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له تب إلى الله عز وجل فقال تبت إلى الله عز وجل فقال تاب الله عليك فقد قطعه بإقراره مرة وأما المعنى فمعارض بحد القذف والقصاص وهو وإن لم يكن حدا فهو في معناه من حيث إنه عقوبة هكذا ظهر الموجب مرة فيكتفى به كالقصاص وحد القذف وأما قياسه على الشهادة فمع الفارق لأن اعتبار العدد في الشهادة إنما هو لتقليل التهمة ولا تهمة في الإقرار إذ لا يتهم الإنسان في حق نفسه بما يضره ضررا بالغا على أن الإقرار الأول إما صادق فالثانى لا يفيد شيئا إذ لا يزداد صدقا وإما كاذب فبالثانى لا يصير صدقا فظهر أنه لا فائدة في تكراره فإن قيل فائدته رفع احتمال كونه يرجع عنه أجاب المصنف بقوله وباب الرجوع في حق الحد لا ينتفى بالتكرار فله أن يرجع بعد التكرار فيقبل في الحدود ولا يصح في المال رجوعه بوجه لأن صاحب المال يكذبه فلا يقبل رجوعه وأما النظر المذكور أعنى اشتراط كون الإقرار بالزنا متعددا كما في الشهادة به فلا نسلم أن ذلك بطريق القياس وكيف وحكم أصله وهو الزيادة في العدد معدول عن القياس فالواقع أن كلا من تعدد الشهادة وتعدد الإقرار في الزنا ثبت بالنص ابتداء لا بالقياس والله سبحانه وتعالى أعلم
فروع من علامة العيون قال أنا سارق هذا الثوب يعنى بالإضافة قطع ولو نون القاف لا يقطع لأنه على الاستقبال والأول على الحال وفي عيون المسائل قال سرقت من فلان مائة درهم بل عشرة دنانير يقطع في العشرة دنانير ويضمن مائة درهم هذا إذا ادعى المقر له المالين وهو قول أبى حنيفة لأنه رجع عن الإقرار بسرقة مائة وأقر بعشرة دنانير فصح رجوعه عن الإقرار بالسرقة الأولى في حق القطع ولم يصح في حق الضمان وصح الإقرار بالسرقة الثانية في حق القطع وبه ينتفى الضمان بخلاف ما لو قال سرقت مائة بل مائتين فإنه يقطع ولا
____________________
(5/361)
يضمن شيئا لو ادعى المقر له المائتين لأنه أقر بسرقة مائتين فوجب القطع وانتفى الضمان والمائة الأولى لا يدعها المقر له بخلاف الأولى ولو قال سرقت مائتين بل مائة لم يقطع ويضمن المائتين لأنه أقر بسرقة مائتين ورجع عنهما فوجب الضمان ولم يجب القطع ولم يصح الإقرار بالمائة إذ لا يدعيها المسروق منه ولو أنه صدقه في الرجوع إلى المائة لا ضمان قوله وجب بشهادة شاهدين كما في سائر الحقوق وهذا بإجماع الأمة قوله وينبغى أن يسألهما الإمام عن كيفية السرقة أي كيف سرق لاحتمال كونه سرق على كيفية لا يقطع معها كأن نقب الجدار وأدخل يده فأخرج المتاع فإنه لا يقطع على ظاهر المذاهب الثلاثة وأخرج بعض النصاب ثم عاد وأخرج البعض الآخر أو ناول رفيقا له على الباب فأخرجه ويسألهما عن ماهيتها فإنها تطلق على استراق السمع والنقص من أركان الصلاة وعن زمانها لاحتمال التقادم وعند التقادم إذا شهدوا يضمن المال ولا يقطع على مامر وتقدم أيضا ما أورد من أن التقادم ينبغى أن لا يمنع قبول الشهادة على القطع لأن الشاهد لا يتهم في تخيره لتوفقه على الدعوى وتقدم جوابه للمصنف ولقاضيخان ويسألهما عن المكان لاحتمال أنه سرق في دار الحرب من مسلم وهذا بخلاف ما لو كان ثبوت السرقة بالإقرار حيث لا يسأل القاضى المقر عن الزمان لأن التقادم لا يبطل الإقرار ولا يسأل المقر عن المكان لكن يسأله عن باقى الشروط من الحرز وغيره اتفاقا وفي الكافي وعن المسروق إذ سرقة كل مال لا توجب القطع كما في الثمر والكمثرى وقدره لاحتمال كونه دون نصاب وعن المسروق منه لأن السرقة من بعض الناس لا توجب القطع كذى الرحم المحرم ومن الزوج وقال في المبسوط لم يذكر محمد السؤال عن المسروق منه لأنه حاضر يخاصم والشهود يشهدون على السرقة منه فلا حاجة إلى السؤال عنه وأنت تعلم أن شهادتهم بأنه سرق من هذا الحاضر وخصومة الحاضر لا يستلزم بيانهما النسبة من السارق ولا الدعوى تستلزم أن
____________________
(5/362)
يقول سرق مالى وأنا مولاه أو جده وإنما يسأل عن هذه الأمور احتياطا للدرء وإذا بينوا ذلك على وجه لا يسقط الحد فإن كان القاضى عرف الشهود بالعدالة قطعه وإن لم يكن يعرف حالهم حبس المشهود عليه حتى يعدلوا لأنه صار متهما بالسرقة والتوثق بالتكفيل ممتنع لأنه لا كفالة في الحدود وهنا نظر وهو أن إعطاء الكفيل بنفسه جائز وعلى قول أبى يوسف بجبر ولم يقع تفصيل في هذا الحكم أعنى حبسه عند إقامة البينة حتى يزكوا ومقتضى ما ذكر من أنه يحبس بتهمة ما يوجب الحد لا التعزير بسبب أنه صار متهما بالفساد أنه لو صح التكفيل ينبغى أن لا يعدل عن حبسه بسبب ما لزمه من التهمة بالفساد في الأرض ولذا ذكر في الفتاوى من يتهم بالقتل والسرقة يحبس ويخلد في السجن إلى أن يظهر التوبة بخلاف من يبيع الخمر ويشترى ويترك الصلاة فإنه يحبس ويؤدب ثم يخرج وفي التجنيس من علامة النوازل لص معروف بالسرقة وجده رجل يذهب في حاجة له غير مشغول بالسرقة ليس له أن يقتله وله أن يأخذه وللإمام أن يحبسه حتى يتوب لأن الحبس زجر للتهمة مشروع وإذا عدل الشاهدان والمسروق منه غائب لم يقطعه إلا بحضرته وإن كان حاضرا والشاهدان غائبان لم يقطع أيضا حتى يحضرا وكذلك في الموت وهذا في كل الحدود سوى الرجم ويمضى القصاص إن لم يحضروا استحسانا هكذا في كافى الحاكم قوله وإذا اشترك جماعة في سرقة فأصاب كل واحد منهم عشرة دراهم قطع وإن أصاب أقل لا يقطع ومعلوم تقييد قطعهم بما إذا لم يكن منهم أحد ذو رحم محرم من المسروق منه ولا صبى وعند مالك يقطعون وإن لم يصب أحدهم نصاب بعد كون تمام المسروق ثلاثة دراهم لدخولهم تجت النص قلنا القطع لكل سارق بسرقته نصابا ولم يوجد فلا يحب الحد يعنى أنه وجد من كل منهم جناية السرقة وذلك لا يوجب القطع بمجرده بل حتى يكون ما سرقه يصابا والله أعلم & باب ما يقطع فيه وما لا يقطع
ما يقطع فيه هو المسروق وهو متعلق السرقة إذ هو محلها فهو ثان بالنسبة إلى نفس الفعل فلذا أخره عن
____________________
(5/363)
بيان السرقة وما يتصل بها قوله لا قطع فيما يوجد تافها مباحا في دار الإسلام أي إذا سرق من حرز لا شبهة فيه بعد أن أخذ وأحرز وصار مملوكا التافه والتفه الحقير الخسيس من باب لبس كالخشب والحشيش والقصب والسمك والطير والصيد بريا أو بحريا والزرنيح والمغرة وهو بفتح الغين المعجمة الطين الأحمر ويجوز إسكانها والنورة قوله الأصل فيه حديث عائشة رضى الله عنها هو ما رواه ابن أبى شيبة في مصنفه ومسنده حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة قالت لم يكن السارق يقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشئ التافه زاد مسنده ولم يقطع في أدنى من ثمن حجفة أو ترس ورواه مرسلا أيضا حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه وكذا رواه عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا ابن جريج عن هشام به وكذا إسحاق بن راهويه أخبرنا عيسى بن يونس عن هشام ورواه ابن عدى في الكامل مسندا أخرجه عن عبد الله بن قبيصة الفزارى عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة ولم يقل في عبد الله هذا شيئا إلا أنه قال لم يتابع عليه ولم أر للمتقدمين فيه كلاما فذكرته لأبين أن في رواياته نظرا ولا يخفى أن هذه المرسلات كلها حجة وقد تقدم وصله من حديث ابن أبى شيبة ومتابعة عبد الرحيم بن سليمان وإذا عرف هذا فقال المصنف ما يوجد جنسه مباحا في الأصل بصورته أى الأصلية بأن لم يحدث فيه صنعة متقومة غير مرغوب فيه حقير فيكون متناول النص فلا يقطع بالحديث المذكور والكتاب مخصوص بقاطع فجاز مطلقا وقوله بصورته ليخرج الأبواب والأوانى من الخشب وغير مرغوب فيه ليخرج نحو المعادن من الذهب والفضة والصفر واليواقيت واللؤلؤ ونحوها من الأحجار لكونها مرغوبا فيها فيقطع في كل ذلك وعلى هذا نظر بعضهم في الزرنيح فقال ينبغى أن يقطع به لأنه يحرز ويصان في دكاكين العطارين كسائر الأموال بخلاف الخشب لأنه إنما يدخل الدور للعمارة فكان إحرازه ناقصا بخلاف الساج والآبنوس واختلف في الوسمة والحناء والوجه القطع لأنه جرت العادة بإحرازه في الدكاكين وقول تقل الرغبات فيه يعنى فلا تتوفر الدواعى على استحصاله وعلى المعالجة
____________________
(5/364)
في التوصل إليه ولا تضن به الطباع إذا أحرز حتى أنه قلما يوجد أخذه على كره من المالك ولا ينسب إلى الجناية بناء على أن الضنة بها تعد من الحساسة وما هو كذلك لا يحتاج إلى شرع الزاجر فيه كما دون النصاب قال المصنف ولأن الحرز فيها ناقص فإن الخشب بصورته الأولى يلقى على الأبواب وإنما يدخل في الدار للعمارة لا للإحراز وذلك في زمانهم وأما في زماننا فيحرز في دكاكين التجار قال والطير يطير يعنى من شأنه ذلك وبذلك تقل الرغبات فيه والوجه أن قوله والطير يطير من بيان نقصان الحرز إلا أن هذا الوجه قاصر عن جميع صور الدعوى وكذا الشركة العامة التى كانت فيه أي في الصيد قبل الإحراز بقوله عليه الصلاة والسلام الصيد لمن أخذه وهو حال كونه على تلك الصفة أي الأصلية تورث الشركة العامة فيه شبهة بعد الإحراز فيمتنع القطع والوجه أن يحمل على أن الشبهة العام الثابتة في الكل بالإباحة لأصلها ثابتة بالإجماع وأما قوله عليه الصلاة والسلام الناس شركاء في ثلاثة فإنما يتناول الحشيش والقصب بلفظ الكلإ ففيه قصور أيضا قال ويدخل في السمك المالح والطرى وصوابه السمك المليح أو المملوح وفي الطير الدجاج والبط والحمام لما ذكرنا يعنى قوله والطير يطير فيقل إحرازه عنه وأما قوله ولإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم لا قطع في الطير فحديث لا يعرف رفعه بل رواه عبد الرزاق بسند فيه جابر الجعفى عن عبد الله بن يسار قال أتى عمر بن عبد العزيز برجل سرق دحاجة فأراد أن يقطعه فقال له سلمة بن عبد الرحمن قال عثمان لا قطع في الطير ورواه ابن أبى شيبة عن عبد الرحمن بن مهدى عن زهير بن محمد عن يزيد بن خصيفة قال أتى عمر بن عبد العزيز برجل قد سرق طيرا فاستفتى في ذلك السائب بن يزيد فقال ما رأيت أحدا قطع في الطير وما عليه في ذلك قطع فتركه عمر فإن كان هذا مما لا مجال للرأى فيه فحكمه حكم السماع وإلا فتقليد الصحابى عندنا
____________________
(5/365)
واجب لما عرف قوله وعن أبى يوسف أنه يجب القطع في كل شئ إلا الطين والتراب والسرقين وروى عنه إلا في الماء والتراب والطين والجص والمعازف والنبيذ لأن ما سوى هذه أموال متقومة محرزة فصارت كغيرها والإباحة الأصلية زالت وزال أثرها بالإحراز بعد التملك وهو قول الشافعى والحجة عليهما ما ذكرنا من حديث عائشة وثبوت الشبهة قوله ولا قطع فيما يتسارع إليه الفساد كاللبن واللحم والخبز أيضا ذكره في الإيضاح وشرح الطحاوى ولا فرق في عدم القطع بللحم بين كونه مملوحا قديدا أو غيره والفواكة الرطبة وعن أبى يوسف يقطع بها وبه قال الشافعى لما روى عنه عليه الصلاة والسلام من رواية أبى داود والنسائى وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمر أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الثمر المعلق فقال من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شئ عليه ومن خرج بشئ منه فعليه غرامة مثله ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع أخرجه أبو داود عن ابن عجلان وعن الوليد بن كثير وعن عبيد الله بن الأخنس وعن محمد بن إسحاق أربعتهم عن عمرو بن شعيب به وأخرجه النسائى أيضا من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحرث وهشام بن سعد عن عمرو بن شعيب به وفي رواية أن رجلا من مزينة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجريسة التى تؤخذ من مراتعها فقال فيها ثمنا مرتين وضرب ونكال وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن قال يا رسول الله فالثمار وما أخذ منها في أكمامها فقال من أخذ بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شئ ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب ونكال وما أخذ من أجرانه ففيه القطع رواه أحمد والنسائى وفي لفظ ما ترى في الثمر المعلق فقال ليس في شئ من الثمر المعلق قطع إلا ما أواه الجرين فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات ونكال ورواه الحاكم بهذا المتن وقال قال إمامنا إسحاق بن راهويه إذا كان الراوى عن عمرو بن شعيب ثقة فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمرو رواه ابن أبى شيبة ووقفه على عبد الله بن عمرو قال
____________________
(5/366)
ليس في شيء من الثمار قطع حتى يأوي الجرين وأخرجه عن ابن عمر مثله سواء أجاب بأنه أخرجه على وفق العادة والذي يؤويه الجرين في عادتهم هو اليابس من الثمر وفيه القطع لكن ما في المغرب من قوله الجرين المربد وهو الموضع الذي يلقى فيه الرطب ليجف وجمعه جرن يقتضى أن يكون فيه الرطب في زمان وهو أول وضعه واليابس وهو الكائن في آخر حاله فيه ثم ليس في هذه الأحاديث لفظ الجران وكأنه وقع في بعض الألفاظ الجران فذكره المصنف على الشك وجران البعير مقدم عنقه من مذبحه إلى منخره والجمع جرن فجاز أن يسمى به ههنا الجراب المتخذ منه فكأنه قال حتى يؤويه المربد أو الجراب ثم المعنى من قوله حتى يؤويه الجرين أي المربد حتى يجف أي حتى يتم إيواء الجرين إياه فإنه عند ذلك ينقل عنه ويدخل الحرز وإلا فنفس الجرين ليس حرزا ليجب القطع بالأخذ منه اللهم إلا أن يكون له حارس يترصده والجواب أنه معارض بإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم لاقطع في ثمر ولأكثر وقوله لاقطع في الطعام أما الأول فرواه الترمذي عن الليث بن سعد والنسائي وابن ماجه عن سفيان بن عيينة كلاهما عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى من حبان عن عمه واسع ابن حبان أن غلاما سرق وديا من حائط فرفع إلى مروان فأمر بقطعه فقال رافع بن خديج قال النبي صلى الله عليه وسلم لاقطع في ثمر ولا اكثر ورواه ابن حبان في صحيحه مرتين في القسم الأول وفي القسم الثاني قال عبد الحق هكذا رواه سفيان بن عيينة ورواه غيره ولم يذكروا فيه واسعا أنهى وكذا رواه مالك والحاصل أنه تعارض الإنقطاع والوصل والوصل أولى لما عرف أنه زيادة من الراوي الثقة وقد تلقت الأمة هذا الحديث بالقبول فقد تعارضا في الرطب الموضوع في الجرين وفي مثله من الحدود يجب تقديم ما يمنع الحد درءا للحد ولأن ما تقدم متروك الظاهر فإنه لا يضمن المسروق بمثلى قيمته وإن نقل عن أحد فعلماء الأمة على خلافه لأنه لا يبلغ قوة ثبوت كتاب الله تعالى وهو قوله تعالى { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } فلا يصح عنه عليه الصلاة والسلام ذلك ففيه دلالة الضغف أو النسخ فينقرد هذا الحديث عن المعارض فبطل قول من قال يتقيد حديث الثمر والكثر بهذا التفصيل يعنى يفصل الحديث المذكور بين أن يأكله من أعلى النخل فلا شئ عليه أو يخرجه ففيه ضعف قيمته وجلدات نكال أو يأخذه من بيدره فيقطع والكثر الجمار وقيل هو الودى وهو صغار النخل وجزم في المغرب أنه خطأ وأما الحديث الثانى فأخرجه أبو داود في المراسيل عن جرير بن حازم عن الحسن البصرى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال إنى لا أقطع في الطعام وذكره عبد الحق ولم يعله بغير الإرسال وأنت تعلم أنه ليس بعلة عندنا فيجب العمل بموجبه وحينئذ يجب اعتباره في غير محل الإجماع ولما كان الإجماع على أنه يقطع في الحنطة والسكر لزم أن يحمل على ما يتسارع إليه الفساد كالمهيإ للأكل منه وما في معناه كاللحم والثمار الرطبة مطلقا في الجرين وغيره هذا والقطع في الحنطة وغيرها إجماعا إنما هو في غير سنة القحط وأما فيها فلا سواء كان مما يتسارع إليه الفساد أو لا لأنه عن ضرورة ظاهر أو هي تبيح التناول وعنه عليه الصلاة والسلام لا قطع في مجاعة مضطر وعن عمر رضى الله عنه لا قطع
____________________
(5/367)
في عام سنة قوله ولا قطع في الأشربة المطربة أي المسكرة والطرب استخفاف العقل وما يوجب الطرب شدة حزن وجزع فيستخف العقل فيصدر منه ما لا يليق كما تراه من صياح الثكليات وضرب خدودهن وشع جيوبهن فيما لا يجدى نفعا ويسلب أجر مصيبتهن ثم يوجب لعنهن من الله تعالى ورسوله أو شدة سرور فيوجب ما هو معهود من الثمالى والمسئلة بلا خلاف ما عند الأئمة الثلاثة فلأنها كالخمر عندهم وعندنا إن كان الشراب حلوا فهو مما يتسارع إليه الفساد وإن كان مرا فإن كان خمرا فلا قيمة لها وإن كان غيرها فللعلماء في تقومه اختلاف فلم يكن في معنى ما ورد به النص من المال المتقوم فلا يلحق به في موضع وجوب الدرء بالشبهة ولأن السارق يحمل حاله على أنه يتأول فيها الإراقة فتثبت شبهة الإباحة بإزالة المنكر وفي سرقة الأصل يقطع بالخل ونقل الناطفى من كتاب المجرد قال أبو حنيفة لا قطع في الخل لأنه قد صار خمرا مرة وفي نوادر ابن سماعة برواية على بن الجعد لا قطع في الرب والجلاب قوله ولا في الطنبور ونحوه من آلات الملاهى بلا خلاف أيضا لعدم تقومها حتى لا يضمن متلفها وعند أبى حنيفة وإن ضمنها لغير اللهو إلاأنه يتأول آخذه للنهى عن المنكر والمعازف جمع المعزف وهى آلة اللهو قوله ولا في سرقة المصحف وإن كان عليه حلية وقال الشافعى ومالك وهو رواية عن أحمد يقطع وهو رواية عن أبى يوسف فيما إذا بلغت حليته نصابا وفي رواية أخرى عنه يقطع مطلقا لأنه مال محرز يباع ويشترى ولأن ورقه مال وبما كتب فيه ازداد به ولم ينتقص وفى رواية أخرى عن أحمد إن أخذه يتأول القراءة لإزالة الإشكال لا يقطع وجه الظاهر أن الآخذ يتأول في أخذه القراءة والنظر فيه ولأن المالية للتبع وهى الحلية والأوراق لا للمتبوع وهو المكتوب وإحرازه لأجله والآخذ أيضا يتأول أخذه لأجله لا للتبع ولا معتبر بالتبع كمن سرق آنية فيها خمر وقيمة الآنية تزيد على النصاب لا يقطع وكمن
____________________
(5/368)
سرق صبيا وعليه حلى كثير لا يقطع لأن المقصود ليس المال قال في المبسوط ألا ترى أنه لو سرق ثوبا لا يساوى عشرة ووجد في جيبه عشرة مضروبة ولم يعلم بها لم أقطعه وإن كان يعلم بها فعليه القطع وعن أبى يوسف عليه القطع في الأحوال كلها لأن سرقته تمت في نصاب كامل ولكنا نقول إن السارق إنما قصد إخراج ما يعلم به دون ما لا يعلم به وإذا كان عالما بالدراهم قفصده أخذ الدراهم بخلاف ما إذا لم يعلمها فإن قصده الثوب وهو لا يساوى نصابا وقد تقدم في مثله أنه إن كان الثوب مما يجعل وعاء عادة للدراهم قطع وإلالا وهنا ردد بين العلم وعدمه فالحاصل أنه يعتبر ظهور قصد المسروق فإن كان الظاهر قصد النصاب من المال قطع وإلا لا وعلى هذا فمسئلة العلم بالمصرور وعدمه صحيح إلا أن كونه يعلم أو لا يعلم وهو المدار في نفس الأمر لا يطلع عليه ولا يثبت إلا بالإقرار وما تقدم هو ما إذا لم يقر بعلمه بما في الثوب فإنه لا يقطع حتى يكون معه دلالة القصد إليه وذلك بأن يكون كيسا فيه الدراهم فلا يقبل قوله لم أقصد لم أعلم قوله ولا قطع في أبواب المسجد لعدم الإحراز وقال الشافعى يقطع وبه قال ابن القاسم صاحب مالك لأنه محرز بإحراز مثله وكذا يقطع عندهم في باب الدار فقياسه عليه من رد المختلف إلى المختلف والوجه ما قلنا ولا شك في أنه إما ليس محرزا أو في حرزه شبهة إذ هو باد للغادى والرائح ومعا ينتفى الحد على أن المصنف لم يذكر ذلك في مقام نصب الخلاف ليلزمه ذلك بل أثبته لنفسه على أصوله فإنه لم ينصب خلافا وإنما يعترض بذلك لو نصب الخلاف وأفاد المصنف في أثناء المسئلة أنه لا قطع بسرقة متاع المسجد كحصره وقناديله لعدم الحرز وكذا لا يقطع في أستارالكعبة وهو قول مالك وأحمد والأصح من قول الشافعى لأنه لا مالك له وبهذا الوجه ينتفى القطع في باب المسجد قوله ولا في صليب من الذهب أو الفضة ولا الشطرنج ولو كان من ذهب وهو بكسرالشين بوزن قرطعب ولا النرد لأنه يتأول من أخذها الكسر أي إباحة الأخذ للكسر نهيا عن المنكر فلا يجب إلا ضمان ما فيه من المالية والصليب ما هو بهيئة خطين متقاطعين ويقال لكل جسم صلب وعن أبى يوسف إن كان الصليب في مصلاهم أي معابدهم لا يقطع لعدم الحرز لأنه بيت مأذون في دخوله وإن كان في يد رجل في حرز لا شبهة فيه يقطع لأنه مال محرز على الكمال وجوبه ما ذكرنا من تأويل الإباحة وهو عام لا يخص غير الحرز وهو المسقط قوله ولا قطع على سارق الصبى الحر وإن كان عليه حلى يبلغ نصابا وقيد بالحر ليخرج القبد على ما سيأتى والحلى
____________________
(5/369)
بضم الحاء المهملة جمع حلى بفتحها ما يلبس من ذهب أو فضة أو جوهر وقال أبو يوسف يقطع إذ بلغ عليه نصابا لأنه يجب القطع بسرقته وحده فكذا مع غيره والحلاف في صبي لا يمشي ولا يتكلم فلو كان يمشي ويتكلم ويميز لا يقطع إجماعا لأنه في يد نفسه فكان أخذه خداعا ولا قطع في الخداع وحيث لم يذكر الحاكم في الكافى الخلاف عن أصحابنا ومن ذكره كصاحب المختلف ذكر أنه ظاهر الرواية وروى عن أبى يوسف يقطع قيل كان ينبغى للمصنف أن يقول وعن أبى يوسف وإلا أوهم أنه مذهبه المعول عليه عنده وليس كذلك وقال مالك والحسن والشعبى يقطع بسرقة غير المميز الحر لأنه كالمال وجه الظاهر أن الصبى إذا كان كما ذكرنا يكون هو المقصود بالأخذ دون ما عليه وإلا لأخذ ما عليه وتركه وهو ليس بمال ولا قطع إلا بأخذ المال فلا يقطع وإن كان إثمه وعقابه أشد من سارق المال ففي الحديث القدسى عن رب العزة جل جلاله ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه عمله ولم يوفه أجره لكن القطع الذى هو العقوبة الدنيوية لم يثبت عليه شرعا وأما التأويل الذى ذكره من قصد تسكيته أو إبلاغه إلى مرضعته فبعيد بعد فرض تحقق سرقته الظاهر منها خلافه وعلى هذا الخلاف إذا سرق إناء فضة فيه نبيذ أو ثريد أو كلبا عليه قلادة فضة يقطع على رواية أبى يوسف وهو قول الأئمة الثلاثة ولأبى حنيفة ومحمد أن الإناء تابع وإذا لم يجب في المتبوع القطع لم يجب في التابع واعتقادى وجوب القطع في الإناء المعاين ذهبيته وإن كان فيه ما كان فإن تبعيته باعتبار ما فيه لا باعتبار القصد بالأخذ إليه بل الظاهر أن كلا منهما أصل مقصود بالأخذ بل القصد إليه أظهر منه إلى ما فيه لأنه يتوصل بماليته إلى أضعاف ما فيه والمانع من القطع إنما هو التبعية في قصد الأخذ لا اعتبار غيره ولا ظاهر يفيده وما يوافق ما ذكرناه ما في التجنيس من علامة العيون سرع كوزا فيه عسل وقيمة الكوز تسعة وقيمة العسل درهم يقطع وكذا إذا سرق حمارا يساوى تسعة وعليه إكاف يساوى درهما بخلاف ما لو سرق قمقمة فيها ماء يساوى عشرة لأنه سرق ماء من وجه وهو نظير ما تقدم من المبسوط فيمن سرق ثوبا لا يساوى عشرة مصرور عليه عشرة قال يقطع إذا علم أن عليه مالا بخلاف ما إذا لم يعلم قوله ولا قطع في سرقة العبد الكبير يعنى العبد المميز المعبر عن نفسه بالإجماع إلا إذا كان نائما أو مجنونا أو اعجميا لا يميز بين سيده وبين غيره في الطاعة فحينئذ يقطع ذكر الاستثناء ابن قدامة ولم يذكره مشايخنا بل نصوا على أنه لا قطع في الآدمى الذى يعقل سواء كان نائما أو مجنونا أو أعجميا وقالوا هو ليس بسرقة بل إما غصب أو خداع ويقطع في سرقة العبد الصغير الذى ليس كذلك بالإجماع لأنه مال متقوم هكذا حكى الإجماع ابن المنذر مع أن أبا يوسف قال أستحسن أن لا أقطعه لأنه مال من وجه آدمى من وجه فصار كونه
____________________
(5/370)
آدميا شبهة في ماليته فيندرئ الحد فالدافع منهما لابد أن يتسلط على هذه النكتة فسوق استدلالهما كما قيل ولهما أن حقيقة السرقة وهو أخذ مال معتبر خفية من حرز لا شبهة فيه مع باقى الشروط قد وجدت فيجب القطع غير واف بالمقصود وقول المصنف ولهما أنه مال مطلق لأنه منتفع به إن كان يمشى ويعقل أو بعرض أن يصير منتفعا به إن كان بخلاف ذلك أحسن منه لتضمن لفظ مطلق منع أن في ماليته شبهة وانضمام معنى الآدمية إليه لا يوجبها بعد صدق معنى المال الكامل عليه كيف وهو من أعز الأموال عند الناس وما فيه من المالية يصيره كمال فيما ليس بمال فسارقه كسارق درة نفيسة فيما ليس بمال ولو قال قائل بل المعنى على القلب وهو سرقة ما ليس بمال فيما هو مال لم يبعد فيقتصر على منع ثبوت الشبهة في ماليته بما قلنا قوله ولا قطع في الدفاتر كلها لأن المقصود ما فيها وذلك ليس بمال إلا في دفاتر الحساب لأن ما فيها لا يقصد بالأخذ لأنه لا يستفيد الآخذ به نفعا فكان المقصود الكواغد ويدخل في عموم ولا يقطع في الدفاتر كلها الكتب المشتملة على علم الشريعة كالفقه والحديث والتفسير وغيرها من العربية والشعر وقد اختلف في غيرها فقيل ملحقة بدفاتر الحساب فيقطع فيها وقيل بكتب الشريعة لأن معرفتها قد تتوقف على اللغة والشعر والحاجة وإن قلت كفت فى إيراث الشبهة ومقتضى هذا أنه لا يختلف في القطع بكتب السحر والفلسفة لأنه لا يقصد ما فيها لأهل الديانة فكانت سرقة صرفا ولأن عدم القطع بإلحاقها بالكتب الشرعية وليست إياها إذ لا تتوقف معرفة الشريعة على ما فيها بخلاف كتب الأدب والشعر ويمكن في كتب الحساب والهندسة عدم القطع وعند الأئمة الثلاثة يقطع بالكل من كتب الشريعة وغيرها لأنها مال متقوم وأنت سمعت ما به الدفع قوله ولا في سرقة كلب ولا فهد بالإجماع خلافا لأشهب قرين ابن القاسم فإنه قال عدم القطع في المنهى عن اتخاذه أما في المأذون في اتخاذه ككلب الصيد والماشية فيقطع وقلنا هو مباح الأصل وبحسب الأصل هو غير مرغوب فيه ولأن الاختلاف بين العلماء ظاهر في مالية الكلب فأورث شبهة فيها قوله ولا قطع في دف ولا طبل ولا بربط ولا مزمار وكذا جميع آلات اللهو لأن عندهما لا قيمة لها
____________________
(5/371)
وعند أبى حنيفة يتأول في أخذها الكسر وفي دال الدف الضم والفتح واختلف في طبل الغزاة فقيل لا يقطع به واختاره الصدر الشهيد لأنه يصلح للهو وإن كان وضعه لغيره وقيل يقطع لأنه مال متقوم ليس موضوعا للهو فليس آلة لهو قوله ويقطع في الساج والقنا والآبنوس وهو بفتح الباء فيما سمع والصندل والعود الرطب لأن كل هذه ليست مباحة في دار الإسلام وهو المعتبر فأما كونها توجد مباحة في دار الحرب فليس فيه شبهة في سقوط القطع لأن سائر الأموال حتى الدنانير والدراهم مباحة في دار الحرب ومع هذا يقطع فيه في دارنا وروى هشام عن محمد لا قطع في العاج ما لم يعمل وكذا نقل البقالى عن محمد في الآبنوس والظاهر القطع كما ذكرنا ومقتضى النظر عدم القطع في العاج لما قيل من نجاسة عين الفيل فإنه ينفى مالية العاج فحلت الشبهة في المالية ويقطع في الفصوص النفيسة والزبرجد لأنها من أعز الأموال ولا توجد مباحة الأصل في دار الإسلام فصارت كالذهب قوله وإذا اتخذ من الخشب أوانى وأبوابا قطع فيها لأنه أى الخشب بالصنعة التحقت بالأموال النفيسة ولهذا تحرز بخلاف الحصير لأن الصنعة لم تغلب على الجنس لتنقطع ملاحظته بها فلم تخرج بها من كونها تافها بين الناس حتى أن الحصير يبسط في غير الحرز وكذا القصب المصنوع بوارى بخلاف الخشب فإن غلبة الصنعة فيه على الأصل فقطع فيما اتصلت به منه حتى لو غلبت في الحصر أيضا قطع
____________________
(5/372)
فيها كالحصر البغدادية والعبدانية في ديار مصر والإسكندرانية وهى العبدانية ويقطع عند الأئمة الثلاثة بالحصر مطلقا هذا وفى عيون المسائل سرق جلود السباع المدبوغة لا يقطع فإذا جعلت مصلى أو بساطا يقطع هكذا قال محمد لأنها إذا جعلت ذلك خرجت من أن تكون جلود السباع لأنها أخذت اسما آخر ا هـ وهذا ظاهر في أن غلبة الصنعة التى ينقطع حكم الجنس بها أن يتجدد لها اسم وعلمت عدم القطع في الحصر التى ليست بنفيسة مع تجدد اسم آخر لها فليكن ذلك لنقصان إحرازها حيث كانت تبسط في غير الحرز أو لأن شبهة التفاهة فيها كما قالوا إنه لا يقطع في الملح لذلك ولا يقطع في الآخر والفخار لأن الصنعة لم تغلب فيها على قيمتها وظاهر الرواية في الزجاج أنه لا يقطع لأنه يسرع إليه الكسر فكان ناقص المالية وعن أبى حنيفة يقطع كالخشب إذا صنع منه الأوانى ثم إنما يقطع في الباب المصنوع من الخشب إذاكان غير مركب على الجدار بل موضوع داخل الحرز أما المركب فلا يقطع به عندنا فصار كسرقة ثوب بسط على الجدار إلى السكة وغير المركب لا يقطع به إذا كان ثقيلا لا يحمله الواحد لأنه لا يرغب فيه ونظر فيه بأن ثقله لا ينافى ماليته ولا ينقصها فإنما تقل فيه رغبة الواحد لا الجماعة ولو صح هذا امتنع القطع في فردة حمل من قماش ونحوه وهو منتف ولذا أطلق الحاكم في الكافى القطع في كتاب الجامع وفى الشامل في كتاب المبسوط وقد مر أن عند الأئمة الثلاثة يقطع في باب الدار لأنه مال متقوم ومحرز بحرز مثله فيه وحرز حائط الدار بكونه مبنيا فيها إذا كانت في العمران وما كان حرزا لنفسه يكون حرزا لغيره وهذا عندنا ممنوع ولو اعتبر مثله أمكن اعتبار الحرز في كل شئ قوله ولا قطع على خائن ولا خائنة الخ وهما اسما فاعل من الخيانة وهو أن يؤتمن على شئ بطريق العارية أو الوديعة فيأخذه ويدعى ضياعه أو ينكر أنه كان عنده وديعة أو عارية وعلله بقصور الحرز لأنه قد كان في يد الخائن وحرزه لاحرز المالك على الخلوص وذلك لأن حرزه وإن كان حرزا لمالك فإنه أحرزه بإيداعه عنده لكنه حرز مأذون للسارق في دخوله قوله ولا منتهب لأنه مجاهر بفعله لا مختف فلا سرقة فلا قطع وكذا المختلس فإنه المختطف للشئ من البيت ويذهب أو من يد المالك وفي سنن الأربعة من حديث جابر عنه عليه الصلاة والسلام قال ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع قال الترمذى حديث حسن صحيح وسكت عنه ابن القطان وعبد الحق في أحكامه وهو تصحيح منهما وتعليل أبى دواد مرجوح بذلك وقد حكى الإجماع على هذه الجملة لكن مذهب إسحاق بن راهويه ورواية عن أحمد في جاحد القارية أنه يقطع لما في الصحيحين من حديث عائشة رضى الله عنها أن امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر النبى صلى الله عليه وسلم بقطعها وجماهير العلماء أخذو ا بهذا الحديث وأجابوا عن حديث عائشة بأن القطع كان عن سرقة صدرت منها بعد أن كانت أيضا متصفة مشهورة بجحد العارية فعرفتها عائشة بوصفها المشهور فالمعنى امرأة كان وصفها جحد العارية فسرقت فأمر بقطعها بدليل أن في قصتها أن أسامة بن زيد شفع فيها الحديث إلى أن قال فقام عليه الصلاة والسلام خطيبا
____________________
(5/373)
فقال إنما هلك من كان قبلكم بأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه وهذا بناء على أنها حادثة واحدة لامرأة واحدة لأن الأصل عدم التعدد وللجمع بين الحديثين خصوصا وقد تلقت الأمة الحديث الآخر بالقبول والعمل به فلو فرض أنها لم تسرق على ما أخرجه أبو داود عن الليث حدثنى يونس عن ابن شهادب قال كان عروة يحدث أن عائشة قالت استعارت امرأة منى حليا على ألسنة أناس يعرفون ولا تعرف هى فباعته فأخذت فأتى بها النبى صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يدها وهى التى شفع فيها أسامة بن زيد وقال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال كان حديث جابر مقدما ويحمل القطع بجحد العارية على النسخ وكذا لو حمل على أنهما واقعتان وأنه عليه الصلاة والسلام قطع امرأة بجحد المتاع وأخرى بالسرقة يحمل على نسخ القطع بالعارية بما قلنا وفي سنن ابن ماجه حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا محمد ابن إسحاق عن محمد بن طلحة بن ركانة عن أمه عائشة بنت مسعود بن الأسود عن أبيها قال لما سرقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمنا ذلك وكانت امرأة من قريش فجئنا النبى صلى الله عليه وسلم نكلمه فيها وقلنا نحن نفديها بأربعين أوقية فقال صلى الله عليه وسلم تطهر خيرا لها فأتينا أسامة بن زيد فقلنا له كلم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كلمه قال ما إكثاركم على حد من حدود الله والذى نفيى بيده لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها قال ابن سعد في الطبقات هذه المرأة هى فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسود وقيل هى أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد أخت عبد الله بن سفيان قوله ولا قطع على النباش وهو الذى يسرق أكفان الموتى بعد الدفن وهذا عند أبى حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف وباقى الأئمة الثلاثة عليه القطع وهو مذهب عمر وابن مسعود وقائشة ومن العلماء أبو ثور والحسن والشعبى والنخعى وقتادة وحماد وعمر بن عبد العزيز وقول أبى حنيفة قول ابن عباس والثورى والأوزاعى ومكحول والزهرى ثم الكفن الذى يقطع به ما كان مشروعا فلا يقطع في الزائد على كفن السنة وكذا ما ترك معه من طيب أو مال ذهب وغيره لأنه تضييع وسفه فليس محرزا وفى الوجيز في الزائد على العدد الشرعى وجهان ثم الكفن للوارث عندهم فهو الخصم في القطع وإن كفنه أجنبى فهو الخصم لأنه له لهم قوله عليه الصلاة والسلام من نبش قطعناه وهو حديث منكر وإنما أخرجه البيهقى وصرح بضعفه عن عمران بن يزيد بن البراء بن عازب عن
____________________
(5/374)
أبيه عن جده وفى سنده من يجهل حاله كبشر بن حازم وغيره ومثله الحديث الذى ذكره المصنف لا قطع على المختفى قال وهو النباش بلغة أهل المدينة أى بعرفهم وأما الآثار فقال ابن المنذر روى عن الزبير أنه قطع نباشا وهو ضعيف ذكره البخارى في تاريخه ثم أعله بسهيل بن ذكوان المكى قال عظاء كنا نتهمه بالكذب ويماثله أثر عن ابن عباس رواه ابن أبى شيبة وفيه مجهول قال حدثنا شيخ لقيته بمنى عن روح بن قاسم عن مطرف عن عكرمة عن ابن عباس قال ليس على النباش قطع وأما ما رواه عبد الرزاق أخبرنا إبراهيم ابن أبى يحيى الأسلمى قال أخبرنى عبد الله بن أبى بكر عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أنه وجد قوما يختفون القبور باليمن على عهد عمر بن الخطاب فكتب فيهم إلى عمر فكتب عمر رضى الله عنه أن اقطع أيديهم فأحسن منه بلا شك ما رواه ابن أبى شيبة حدثنا عيسى بن يونس عن معمر عن الزهرى قال أتى مروان بقوم يختفون أي ينبشون القبور فضربهم ونفاهم والصحابة متوافرون اه وأخرجه عبد الزراق فى مصنفه أخبرنا معمر به وزاد وطوف بهم وكذا أحسن منه بلا شك ما روى ابن أبى شيبة حدثنا حفص عن أشعث عن الزهرى قال أخذ نباش في زمن معاوية وكان مروان على المدينة فسأل من بحضرته من الصحابة والفقهاء فأجمع رأيهم على أن يضرب ويطاف به ا هـ وحنيئذ لا شك في ترجيح مذهبنا من جهة الآثار وأما من جهة المعنى فلهم ما ذكره المصنف بقوله ولأنه مال متقوم محرز بحرز مثله فيقطع فيه أما المالية فظاهر وأما الحرز فلأن القبر حرز للميت وثيابه تبع له فيكون حرزا لها أيضا وقد سمى النبى صلى الله عليه وسلم القبر بيتا في حديث أبى ذر حيث قال له النبى صلى الله عليه وسلم كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف يعنى القبر وقلت الله ورسوله أعلم أو ما خار الله لى ورسوله قال صلى الله عليه وسلم عليك بالصبر وقد بوب أبو داود عليه فقال باب قطع النباش قال ابن المنذر واستدل به أبو داود لأنه سمى القبر بيتا والبيت حرز والسارق من الحرز يقطع ولأنه حرز مثله لأن حرز كل شئ ما يليق به فحرز الدواب بالإصطبل والدرة بالحق والصندوق والشاة
____________________
(5/375)
بالحظيرة فلو سرق شئ منها من شئ منها قطع ولو الدرة من إصطبل أو من حظيرة لا يقطع ألا ترى أن الوصى إذا كفن صبيا من ماله لا يضمن لورثته شيئا فلو لم يكن محرزا كان تضييعا موجبا للضمان فكان أخذ الكفن من القبر عين السرقة والجواب أولا منع الحرز لأنه حفرة في الصحراء مأذون للعموم في المرور به ليلا ونهارا ولا غلق عليه ولا حارس متصد لحفظه فلم يبق إلا مجرد دعوى أنه حرز تسمية ادعائية بلا معنى وهو ممنوع ولزوم التضييع لو لم يكن حرزا ممنوع بل لو لم يكن مصروفا إلى حاجة الميت والصرف إلى الحاجة ليس تضييعا فلذا لا يضمن ولو سلم فلا ينزل عن أن يكون في حرزيته شبهة وبه ينتفى القطع ويبقى ثبوت الشبهة في كونه مملوكا وفي ثبوت الخلل في المقصود من شرعية الحد وهو ما اقتصر عليه المصنف زيادة فكل منهم يوجب الدرء أما الأول فلأن الكفن غير مملوك لأحد لا للميت لأنه ليس أهلا للملك ولا للوارث لأنه لا نملك من التركة إلا ما يفضل عن حاجة الميت ولذا يقطع بسرعة التركة المستغرقة لأنها ملك للغريم حتى كان له أن يأخذها بحقه فإن صح ما قلنا من أنه لا ملك فيه لأحد لم يقطع وإلا فتحققت شبهة في مملوكيته بقولنا فلا يقطع به أيضا بل نقول تحقق قصور في نفس مالية الكفن وذلك لأن المال ما يجرى فيه الرغبة والضنة والكفن ينفر عنه كل من علم أنه كفن به ميت إلا نادرا من الناس وأما الثانى فلأن شرع الحد للانزجار والحاجة إليه لما يكثر وجوده فأما ما يندر فلا يشرع فيه لو قوعه في غير محل الحاجة لأن الانزجار حاصل طبعا كما قلنا في عدم الحد بوطء البهيمة وأما الاستدلال بتسميته بيتا فأبعد لأن إطلاقه إما مجازا فإن البيت ما يحوطه أربع حوائط توضع للبيت وليس القبر كذلك على أن حقيقة البيت لا يستلزم الحرز فقد يصدق مع عدم الحرز أصلا كالمسجد ومع الحرز مع نقصان وهو كثير ومع الحرز التام فمجرد تسميته بيتا لا يستلزم القطع خصوصا في مقام وجوب درئه ما أمكن بل يجب حمله على بعض الماصدقات التى لا حد معها والله سبحانه أعلم وهذا في القبر الكائن في الصحراء بلا خلاف عندنا اما لو كان القبر في بيت مقفل فقيل يقطع به لوجود الحرز والصحيح انه على الخلاف فلا يقطع عندنا ان وجد الحرز للموانع الاخر من نقصان المالية وعدم المملوكية والمقصود من شرعه وكذا اذا سرق من تابوت في القافلة وفيه الميت لما بينا من تحقق الخلل في المالية وما بعدها هذا ولو اعتاد لص ذلك للامام ان يقطعه سياسة لاحدا وهو محمل ما رواه لو صح قوله ولا يقطع السارق من بيت المال وبه قال الشافعي واحمد والنخعى والشعبى وقال مالك يقطع وهو قول حماد وابن المنذر لظاهر الكتاب ولانه مال محرز ولا حق له فيه قبل الحاجة ولنا انه مال العامة وهو منهم وعن عمر وعلى مثله وعن ابن مسعود فيمن سرق من بيت المال قال ارسله فما من احد الا وله في هذا المال حق ولا يقطع من مال للسارق فيه شركة
____________________
(5/376)
بأن يسرق احد الشريكين من حرز الآخر مالا مشتركا بينهما لما قلنا من ان للسارق فيه حقا قوله ومن له على آخر دراهم فسرق مثلها لم يقطع لانه استيفاء لحقه والحال والمؤجل في عدم القطع سواء استحسانا لان التأجيل لتأخير المطالبة والقياس ان يقطع لانه لا يباح له اخذه قبل الاجل وجه الاستحسان ان ثبوت الحق وان تأخرت المطالبة يصير شبهه دارئة وان كان لايلزمه لإعطاء الآن وكذا لو سرق اكثر من حقه لا يقطع لان بالزيادة يصير شريكا في ذلك المال بمقدار حقه ولا فرق بين كون المديون المسروق منه مماطلا او غير مماطل خلافا للشافعي في تفصيله بين المماطل فلا يقطع به وغير المماطل فيقطع ولو اخذ من غير جنس حقه فان كان حقه دراهم او دنانير فأخذ عروضا قطع لأنه ليس له اخذها اللهم الا ان يقول اخذتها رهنا بديني فلا يقطع وعن ابي يوسف لايقطع لان له ان ياخذه عند بعض العلماء نقل عن ابن ابي ليلى قضاء لحقه او رهنا به قلنا هذا قول لا يستند الى دليل ظاهر فلا يصير شبهة دارئة الا ان ادعى ذلك وان كان دراهم فأخذ دنانير او على قول لايستند الى دليل ظاهر فلا يصير شبهة دارئة الا ان ادعى ذلك وان كان دراهم فأخذ دنانير او على القلب اختلف فيه قيل يقطع لانها لا تصير قصاصا بحقه وانما يقع بيعا فلا يصح الا بالتراضي فليس له اخذها وقيل لايقطع للمجانسة بينهما من حيث الثمنية ويقطع لو سرق حليا من فضة ودينه دراهم ولو سرق المكاتب
____________________
(5/377)
او العبد من غريم المولى قطع الا ان يكون المولى وكلهما بالقبض لان حق الاخذ حينئذ لهما ولو سرق من غريم ابيه او غريم ولده الكبير او غريم مكاتبه او غريم عبده المأذون المديون قطع لأن حق الأخذ لغيره ولو سرق من غريم ابنه الصغير لا يقطع قوله ومن سرق عينا فقطع فيها فردها بأن كانت قائمة ثم عاد فسرقها وهي بحالها يقطع والقياس ان يقطع وهو رواية عن ابي يوسف وهو قول الشافعي ومالك واحمد لقوله صلى الله عليه وسلم فإن عاد فاقطعوه فيما روى الدار قطنى من حديث ابي هريرة بطريق فيه الواقدي عنه عليه الصلاة والسلام اذا سرق السارق فاقطعوا يده ثم ان عاد فاقطعوا رجله اليسرى الحديث ولان السرقة الثانية مثل الاولى في سببية القطع بل افحش لان العود بعد الزاجر اقبح وصار كما اذا باعه المالك من السارق ويخص ابا يوسف ان المسروق عاد تقومه بالرد الى المالك ولهذا يضمن السارق لو اتلفه بعد الرد فتمت سببية القطع كما لو سرق غيره او سرقه هو من غيره وصاركما لو باعه المالك من السارق ثم اشتراه منه ثم كانت السرقة فإنه يقطع اتفاقا ولنا ان القطع اوجب سقوط عصمة المحل في حق السارق وبالرد الى المالك ان عادت حقيقة العصمة بقيت شبهة انها ساقطة نظرا الى اتحاد الملك والمحل وقيام الموجب للسقوط وهو القطع فان كل واحد من هذه يوجب
____________________
(5/378)
بقاء السقوط الذي تحقق بالقطع فحيث عادت العصمة وانتفى السقوط بعد تحققه كان مع شبهة عدمه فيسقط بها الحد بخلاف مالو سرقه غيره لان السقوط ليس الا بالنسبة الى المقطوع يده لا سواه فيقطع وبخلاف صورة البيع المذكورة من السارق وسرقة السارق واياه من غيره لان فيهما تبدل الملك وتبدل الملك يوجب تبدل العين حكما كما عرف من حديث بريرة من قولة عليه الصلاة والسلام هو عليها صدقة ولنا منها هدية مع انه عين اللحم مع ان مشايخ العراق على انه لا يقطع في صورة تبدل الملك بالشراء فلنا ان تمنعه فلا يتم القياس عليه وعند مشايخ بخاري يقطع لتبدل العين حكما وجوابه ما قلنا وايضا فتكرر الجناية بعد قطع يده نادر وتقدم ان ما يندر وجوده الا يشرع فيه عقوبة دنيوية زاجرة فإنها حينئذ تعرى عن المقصود وهو تقليل الجناية اذ هي قليلة بالفرض فلم تقع في محل الحاجة وصار كما لو قذف شخصا فحد به ثم قذفه بعين ذلك الزنا بأن قال انا باق على نسبتي اليه الزنا الذي نسبته اليه لايحد ثانيا فكذا هذا اما لو قذفه بزنا آخر حد به واورد على هذا الوجه النقص بالزنا ثانيا بالمرأة التي زنى بها اولا بعد أن جلد حدا بزناه الأول بها فإنه يحد ثانيا اجماعا فلم يكن تقدم الزاجر موجبا لعدم شرعيته ثانيا وقوعه في غير محل الحاجة اليه لو شرع واجيب بالفرق بأن حرمة المحل في الزنا لا تسقط باستيفاء الحد بخلاف السرقه وهذا فرق صحيح يتم به وجه اختلاف الحكم المذكور في الزنا والسرق لكنه لا يصلح جوابا للنقض الوارد على هذا الوجه بخصوصه اعني كون اقامة الحد اولا توجب ندرة العود فتوجب عدم شرع الزاجر في العود وكذا الفرق بأن القطع حتى لا يستوفي الا بخصومة المالك والخصومة لا تتكرر في محل بعد استيفاء موجب ما هي فيه كحد القذف غير دافع للوارد على خصوص هذاه الوجه المدعي استقلاله قوله فإن تغيرت عن حالها مثل ان يكون المسروق الذي قطع به غزلا ثم نسج بعد رده فسرقه ثانيا قطع وكذا لو كان قطنا فصار غزلا لان العين قد تبدلت ولهذا يملكة الغاصب ويجب عليه ضمان قيمته مع قيامة بصورة الثوب
____________________
(5/379)
واذا تبدلت العين انتفت الشبهة الناشئة من اتحاد المحل والقطع وهو بالجر عطف على لفظ اتحاد لا على لفظ المحل أي وانتفت الشبهة الناشئة من القطع لا من اتحاد القظع وهي شبهة قيام سقوط العصمة لانها كانت باعتبار اتحاد العين والتغير يوجبها شيئا آخر فإن قيل العين قائمة حقيقة وانما تبدل الاسم والصورة اجيب بأن المتمكن قبل تبدل الصورة شبهة سقوط العصمة فكان المتمكن بعده شبهة الشبهة فلا تعتبر وفي شرح الطحاوي واذا سرق ذهبا او فضة وقطع به ورده فجعله المسروق منه آنية او كانت آنية فضربها دراهم ثم عاد السارق فسرقه لا يقطع عند ابي حنيفة لان العين لم تتغير عنده وقالا يقطع لانها تغيرت وفي كفاية البيهقي سرق ثوبا فخاطة ثم رده فنقض فسرق المنقوض لا يقطع لانه لايقطع حق المالك لو فعله الغاصب فلم يصر في حكم عين اخرى
فصل في الحرز والأخذ منه
قدم بيان ما يتعلق بذات المسروق وهو ما يقطع فيه ومالا يقطع لانه كلام في ذاته ثم ثنى بحرزه لانه خارج عنه ثم الاخراج من الحرز شرط عند عامة اهل العلم وعن عائشة والحسن والنخعي ان من جمع المال في الحرز قطع وان لم يخرج به وعن الحسن مثل قول الجماعة وعن داود لا يعتبر الحرز اصلا وهذه الاقوال غير ثابتة عمن نقلت عنه ولا مقال لاهل العلم الا ما ذكرنا فهو كإجماع قاله ابن المنذر وقد ثبت ان لا قطع في اقل من ثمن المجن ولا قطع في جريسة الجبل فتخصصت الآية به فجاز تخصيصها بعده بما هو من الأمور الاجماعيه وما بأخبار الآحاد وسيأتي ما هو ابلغ من ذلك الحرز ما عد عرفا حرزا للاشياء لان اعتباره ثبت شرعا من غير تنصيص على بيانه فيعلم به انه رد الى عرف الناس فيه والعرف يتفاوت وقد يتحقق فيه اختلاف لذلك وهو في اللغة الموضع الذي يحرز فيه الشيء وكذا هو في الشرق الا انه بقيد المالية أي المكان الذي يحرز فيه المال كالدار والحانوت والخيمة والشخص نفسه والمحرز مالايعد صاحبه مضيعا قوله ومن سرق من ابوية وان عليا او ولده وان سفل او ذي رحم محرم منه كالأخ والاخت والعم والخال والخالة والعمة لايقطع
____________________
(5/380)
وقال مالك وشذوذ يقطع بالسرقة من الأب 4 وين لانه حق له في مالهما ولذا يحد بالزنا بجاريتهما ويقتل بقتلهما وبه يبطل قوله في الكافي اما في الولاد فلا اختلاف فيه وقال ابو ثور وابن المنذر يقطع الاب ايضا في سرقة مالا ابنه لظاهر الاية وقال الشافعي يقطع في السرقة من غير الولاد اما وجه الاول أي عدم القطع في قرابة الولاد فلأنها عادة تكون معها البسوطة في المال والاذن في الدخول في الحرز حتى يعد كل منهما بمنزلة الآخر ولذا منعت شهادته له شرعا ويخص سرقة الاب من مال الابن قوله عليه الصلاة والسلام انت ومالك لابيك واما غير الولاد وهو الذي اراد المصنف بقوله والثاني للمعنى الثاني أي الاذن في الدخول في الحرز فألحقهم الشافعي رحمه الله بالقرابة البعيده قال المصنف وقد بيناه في العتاق أي في مسئلة من ملك ذا رحم محرم منه عنه عليه ونحن الحقناه بقرابة الولاد وقد رأينا الشرع ألحقهم بهم في اثبات الحرمة وافتراض الوصل فلذا الحقناهم بهم في عدم القطع بالسرقه ووجوب النفقة ولان الاذن بين هؤلاء ثابت عادة للزيارة وصلة الرحم ولذا حل النظر منها الى مواضع الزينة الظاهرة والباطنة كالعضد للدملوج والصدر للقلادة والساق للخلخال وما ذاك الا للزوم الحرج لو وجب سترها عنه مع كثرة الدخول عليها وهو مزاولة الاعمال وعدم احتشام احدهما من الآخر وايضا فهذه الرحم المحرمة يفترض وصلها ويحرم قطعها وبالقطع يحصل القطع فوجب صونها بدرئة ذكره في الكافي وسيأتي ما فيه ومما يدل على نقصان الحرز فيها قوله تعالى { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم } ورفع الجناح عن الأكل من بيوت الأعمام أو العمات مطلقا يؤنس اطلاق الدخول ولو سلم فإطلاق الاكل مطلقا يمنع قطع القريب ثم هو ان ترك لقيام دليل المنع بقيت شبهة الاباحة على وزان ما قلنا في أنت ومالك لأبيك فإن قلت فقد قال او صديقكم كما قال أو بيوت أخوالكم والحال أنه يقطع بالسرقة من صديقه أجيب بأنه لما قصد سرقة ماله فقد عاداه فلم يقع الاخذ الا في حال العداوة ولو سرق من بيت ذي الرحم المحرم متاع غيره لا يقطع ولو سرق مال ذي الرحم المحرم من بيت غيره يقطع اعتبارا للحرز وعدمه فسرقة مال الغير من بيت ذي الرحم المحرم سرقة من غير حرز وسرقة مال ذي الرحم من بيت
____________________
(5/381)
غيره سرقة من حرز فيقطع وهذا يعكر على الوجه الذي قدمناه من ان في القطع القطيعة فيندرىء وهو الموعود ولذا والله اعلم لم يعرج المصنف عليه قوله وإن سرق من امه من الرضاعة قطع وهو قول أكثر العلماء وعن ابي يوسف لا يقطع لانه يدخل عليها من استئذان وحشمة بخلاف الاخت من الرضاع لانعدام هذا المعنى فيها عادة ولذا يقطع بالسرقة منها اتفاقا وكذا الاب من الرضاعة وجه الظاهر انه لا قرابة بينهما والمحرمية بدون القرابة لا تحترم كما اذا ثبتت المحرمية بالزنا بأن زنى بامرأة تحرم عليه امها وبنتها ويقطع بالسرقة منهما وأقر من ذلك الاخت من الرضاعة فإن فيها محرمية بلا قرابة مع اتحاد سبب المحرمية فيهما فالإلحاق بها في اثبات القطع اولى منه بالالحاق بالمحرمية الثابة بالوطء ثم تعرض المصنف لابطال الوجه المذكور لابي يوسف صريحا وهو قوله لانه يدخل عليها الخ بقوله وهذا لان الرضاع قلما يشتهر فلا بسوطة تحرزا عن موقف التهمة بخلاف النسب فإنه يشتهر بلا تحشم ولا تهمة وهذا يتضمن منع قوله انه يدخل عليها من غير استئذان الخ فقال لا نسلم ذلك الا لو لم يكن مستلزما تهمة لكنه يستلزمها لعدم الشهرة فيتهم فلا يدخل بلا استئذان بخلاف النسب فانه يشتهر فلا ينكر دخوله فلذا قطع في سرقة مال امه من الرضاعة ولم يقطع في سرقة مال امه من النسب قوله واذا سرق احد الزوجين من مال الاخر او العبد من سيده او من امرأة سيده او زوج سيدته لم يقطع لوجود الاذن في الدخول عادة فاختل الحرز وان سرق احد الزوجين من حرز الآخر خاصة لا يسكنان فيه فكذلك عندنا خلافا للشافعي في احد اقواله وبه قال مالك واحمد وفي قول آخر كقولنا وفي قول ثالث يقطع الرجل خاصة لان للمرأة حقا في ماله أي النفقة وجه قولنا ان بينهما بسوطة في الاموال عادة ودلالة فإنها لما بذلت نفسها وهي انفس
____________________
(5/382)
من المال كانت بالمال اسمح ولأن بينهما سببا 2 يوجب التوارث من غير حجب حرمان كالوالدين وفي موطأ مالك عن عمر انه اتى بغلام سرق مرآة لامرأة سيده فقال ليس عليه شيء خادمكم سرق متاعكم فإذا لم يقطع خادم الزوج فالزوج اولى قال المصنف هو نظير الاختلاف في الشهادة يعنى عندنا لا يقطع احدهما بمال الآخر كما ان شهادته لا تقبل لاتصال المنافع وعند يقطع كما تقبل في احد قولية فان قلت احد الزوجين لابما لايبسط للآخر من ماله بل يحبسه عنه ويحرزه قلنا وكذلك الاب والابن قد يتفق من كل منهما ذلك ولا قطع بينهما اتفاق وفي شرح الطحاوي لو سرق من بيت الاصهار والاختان قال أبو حنيفة لا يقطع وقالا يقطع ولو سرق من بيت زوجة ابنه أو أبية أو زوج ابنته أو بت زوج أمه إن كان يجمعهما منزل واحد لم يقطع بالاتفاق وان كان كل في منزل على حدة فعلى الاختلاف المذكور ولو سرق احد الزوجين من الآخر ثم طلقها قبل الدخول بها فبانت من غير عدة فلا قطع على واحد منهما ولو سرق من اجنبية ثم تزوجها لاقطع عليه سواء كات التزوج بعد ان قضى بالقطع او لم يقض في ظاهر الرواية وروى عن ابي يوسف انه قال اذا قضى عليه بالقطع يقطع ولو سرق من امرأته المبتوته او المختلعة في العدة لا قطع وكذا اذا سرقت هي من الزوج في العدة وان كانت منقضية العدة يجب القطع قوله ولو سرق المولى من مكاتبه لا يقطع بلا خلاف لأن للمولى حقا في اكسابه ولان ماله موقوف دائر بينه وبين المكاتب لانه ان عجز كان للمولى او عتق كان له فلا يقطع في سرقة مال موقوف دائر بين السارق وغيره كما اذا سرق احد المتبايعين ماشرط فيه الخيار وكما لا قطع على السيد كذلك لا قطع على المكاتب اذا سرق مال سيده لانه عبد له او من زوجة سيده وهو قول اكثر اهل العلم وقال مالك وابو ثور وابن المنذر يقطع بسرقة مال من عدا سيده كزوجة سيده لعموم الاية وتقدم اثر عمر وهو في السرقة من مال زوجة سيده وكان ثمن المرآة ستين درهما وعن ابن مسعود مثله ولم ينقل عن احد من الصحابة شيء خلافه فحل محل الاجماع فتخص به الآية والحكم في المدبر كذلك قوله وكذلك السارق من المغنم لا يقطع لان له فيه نصيبا وهو مأثور عن على درءا وتعليلا رواه عبد الرزاق في مصنفه اخبرنا الثوري عن سماك بن حرب عن ابي عبيدة بن الأبرص وهو يزيد بن دثار قال أتى على برجل سرق من المغنم فقال له فيه نصيب وهو خائن فلم يقطعه وكان قد سرق مغفرا ورواه الدارقطني قيل وفي الباب حديث مرفوع رواه
____________________
(5/383)
ابن ماجة حدثنا جبارة بن المغلس عن حجاج ابن تميم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس ان عبدا من رقيق الخمس سرق من الخمس فرفع الى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه وقال مال الله سرق بعضه بعضا ولا يخفى ان هذا ليس مما نحن فيه الا ترى الى قوله صلى الله عليه وسلم مال الله سرق بعضه بعضا وكلامنا فيما سرقه بعض مستحقي الغنيمة واسناده ضعيف قوله قال أي المنصف الحرز لا بد منه لوجوب القطع لان الاستسرار لا يتحقق دونه لانه اذا لم يكن له حافظ من بناء ونحه او انسان متصد للحفظ يكون المال سائبا فلا يتحقق اخفاء الأخذ والدخول فلا تتحقق السرقه وعلى هذا يكون قوله تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } بنفسه يوجب الحرز اذ لا تتصور السرقه دون الاخفاء ولا يتحقق الاخفاء دون الحافظ فيخفي الاخذ منه ابو البناء فيخفي دخوله بيت غيره من الناس والأحاديث الوارده بعد ذلك في اشتراطه كقوله صلى الله عليه وسلم لا قطع في ثمر معلق ولا في جريسة الجبل فإذا آواه المراح او الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن ونحوه وارد على وفق الكتاب لامبين مخصص ثم هو على نوعين حرز بالمكان كالدور والبيوت والجدران والحوانيت للتجار وليست هي التي تسمى في عرف بلاد مصر الدكاكين والصناديق والخيام والحركاه وجميع ما أعد لحفظ الامتعة وقد يكون بالحافظ وهو بدل عن الاماكن المبنية على ما ذكر في المحيط وذلك كمن جلس في الطريق او في الصحراء او في المسجد وعنده متاع فهو محرز به وقد قطع النبي صلى الله عليه وسلم من سرق رداء صفوان من تحت رأسه وهو نائم في المسجد على ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه ومالك في الموطإ واحمد في مسنده من غير وجه والحاكم وحكم صاحب التنقيح ابن عبد الهادي انه حديث صحيح وله طرق كثيرة والفاظ مختلفه وان كان في بعضها انقطاع وفي بعضها من هو مضعف ولكن تعددت طرقة واتسع مجيئه اتساعا يوجب الحكم بصحته بلا شبهة وفي طريق السنن عن عبد الله بن صفوان عن ابيه انه طاف بالبيت وصلى ثم لف رداء له من برد فوضعه تحت رأسه فنام فأتاه لص فاستله من تحت رأسه فأخذه فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال ان هذا سرق ردائي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اسرقت رداء هذا قال نعم قال اذهبا به فاقطعا يده فقال صفوان ما كنت اريد أن تقطع يده في ردائي قال فلولا كان قبل أن تأتيني به زاد النسائي فقطعه وفي المستدرك سماه خميصة ثمن ثلاثين درهما قوله وفي المحرز بالمكان لايعتبر
____________________
(5/384)
الاحراز بالحافظ هو الصحيح احتراز عما في العيون ان على قول ابي حنيفه يقطع السارق من الحمام في وقت الاذن أي في وقت دخولها اذا كان ثمة حافظ وقال ابو يوسف ومحمد لايقطع وبه اخذ ابو الليث والصدر الشهيد وفي الكافي وعليه الفتوى وهو ظاهر المذهب وجه الصحيح انه محرز بدون الحافظ لان المكان في نفسه صالح للإحراز وهو المنع من وصول يد غير صاحبه الى مافيه ويكون المال مع ذلك مختفيا وليس هذا مع الحافظ فهو فرع ولا اعتبار للفرع مع وجود الاصل فلا يعتبر وجوده معه فلذا كان الاصح انه اذا دخل الحمام في وقت الاذن في دخولها وسرق منها ما عنده حافظ لا يقطع لأن الحمام في نفسه صالح لصيانة الأموال إلا أنه اختل للإذن في دخولها ولذا يقطع اذا سرق منها ليلا بخلاف المسجد فإنه ما وضع لاحراز الاموال فيقطع الساق بمال عنده من يحفظه فيه وقد قطع سارق رداء صفوان وكان نائما في المسجد ولكون المكان هو الحرز الذي يقتصر النظر عليه قلنا يقطع السارق منه وان لم يكن له باب اوله باب ولكنه مفتوح لان البناء للإحراز الا انه لا يجب القطع الا بالاخراج لقيام يد المالك قبل الاخراج من داره فلا يتحقق الاخذ الا بإزالة يده وذلك بالاخراج من حرزه بخلاف المحرز بالحافظ فإنه يقطع كما أخذه لزوال يد المالك بمجرد الاخذ فتتم السرقه فيجب موجبها ولا فرق في وجوب القطع بين كون الحافظ في الطريق والصحراء والمسجد مستيقظا او نائما والمتاع تحته او تحت رأسه او عنده وهو بحيث يراه لانه يعد النائم عند متاعه وبحضرته كيفما نام مضطجعا او لا حافظا له في العادة وقوله هو الصحيح احتراز عن قول بعضهم باشتراط كون المتاع تحت
____________________
(5/385)
رأسه او تحت جنبه وجه الصحيح ما ذكرناه ولهذا لا يضمن المودع والمستعير اذا حفظ الوديعة والعارية كذلك فسرقت ولو لم يكن ذلك حفظا لضمنا بخلاف ما اختاره في الفتاوي فإنه أوجب فيها الضمان على المودع والمستعير اذا نام مضطجعا ثم ما كان حرز لنوع يكون حرزا لجميع الانواع هو الصحيح كما ذكره الكرخي حتى لو سرق لؤلؤة من اصطبل او حظيرة غنم يقطع بخلاف ما اذا سرق الغنم من المرعى فقط اطلق محمد عدم القطع فيه وفي الفرس والبقر وهو مقيد بما اذا لم يكن معها من يحفظها فإن كان قطع اذا لم يكن راعيا فإن كان الذي يحفظها الراعي ففي البقالى لا يقطع وهكذا في المنتقى عن ابي حنيفه واطلق خواهر زاده ثبوت القطع اذا كان معها حافظ ويمكن التوفيق بأن الراعي لم يقصد لحفظها من السراق بخلاف غيره ونقل الاسبيجابي عن بعض اصحابنا ان كل شيء يعتبر بحرز مثله فلا يقطع باللؤلؤة من الاماكن المذكورة والثياب النفيسه منها وهذا قول الشافعي قوله ومن سرق شيئا من حرز او من غير حرز كالصحراء وصاحبه عنده يحفظه قطع لانه سرق مالا محرزا بأحد الحرزين وهذا بعمومه يتناول ما إذا سرق من حمام وصاحبه عنده يحفظه وتقدم ان الصحيح انه لا يقطع به اذا كان وقت الاذن الا ان قوله وصاحبه عنده يختص بما يليه وهو قوله من غير حرز فلا يرد الحمام فإنه حرز على ان قوله بعد ذلك ولا قطع على من سرق من حمام او من بيت اذن للناس في دخوله تقييد له فإنه بعمومه يقتضي ان لا يقطع وان كان صاحبه عنده يحفظه والوجه ظاهر من الكتاب وهذا تفريع على ما قدمه من الاصل المذكور قوله ويدخل في ذلك أي يدخل في بيت اذن في دخوله الخانات والحوانيت فيثبت فيها حكم عدم القطع نهارا فإن التاجر يفتح حانوته نهارا في السوق يأذن للناس في الدخول ليشتروا منه فإذا سرق واحد منه شيئا لا يقطع وكذا الحانات الا اذا سرق منها ليلا لانها بنيت لاحراز الاموال وانما اختل الحرز بالنهار للاذن وهو منتف بالليل ومن سرق من المسجد متاعا وصاحبه عنده قطع لانه محرز بالحافظ لان المسجد
____________________
(5/386)
ما بني لإحراز الاموال فلم يكن محرزا بالمكان لينقطع اعتبار الحافظ ثم تختل حرزيته بالإذن كالحمام فكان الحافظ معتبرا حرزا فيقطع بالاخذ وعلى هذا ما في الخلاصة جماعة نزلوا بيتا او خانا فسرق بعضهم من بعض متاعا وصاحب المتاع يحفظه او تحت رأسه لايقطع ولو كان في المسجد جماع قطع قوله ولا قطع على الضيف اذا سرق ممن اضافه لان البيت لم يبق حرزا في حقه لكونه مأذونا في دخوله ولانه بالاذن صار بمنزلة اهل الدار فيكون فعله خيانة لا سرقة وكذلك اذا سرق من بعض بيوت الدار التي اذن له في دخولها وهو مقفل او من صندوق مقفل ذكره القدوري في شرحه لان الدار مع جميع بيوتها حرز واحد ولهذا اذا اخرج اللص من بعض بيوت الدار الى الدار لا يقطع مالم يخرجه من الدار وإذا كان واحدا فبالإذن في الدار اختل الحرز في البيوت وسيأتي ما يفيد هذا قوله ومن سرق سرقة فلم يخرجها من الدار لم يقطع لان الدار كلها حرز واحد فلا بد من الاخراج ولان الدار وما فيها في يد صاحبها معنى فتتمكن شبهة عدم الاخذ وهتك الحرز فإذا كانت فيها مقاصير فأخرجها من مقصورة الى صحن الدار قطع هذا كلام محمد واول بما اذا كانت الدار عظيمة فيها بيوت كل بيت يسكنه اهل بيت على حدتهم ويستغنون به استغناء اهل المنازل بمنازلهم عن صحن الدار وانما ينتفعون به انتفاعهم بالسكة لانه على هذا التقدير بعد الاخراج اليها كالإخراج الى السكة بخلاف ما تقدم لان بيوت الدار كلها في يد واحد وهنا كل بيت حرز على حدته لاختلاف السكان وفي الفتاوي الصغرى القوم اذا كانوا في دار كل واحد مقصورة على حدة عليه باب يغلق فنقب رجل من اهل الدار على صاحبه وسرق منه ان كانت الدار عظيمة يقطع وإلا فلا ثم في الفصل الاول قال بعضهم لاضمان عليه اذا تلف المسروق في يده قبل الاخراج من الدار ولا قطع عليه والصحيح انه يضمن لوجود التلف على وجه التعدي بخلاف القطع لان شرطة هتك الحرز ولم يوجد قوله وان اغار انسان من اهل المقاصير على مقصورة فسرق منها قطع يريد دخل
____________________
(5/387)
مقصورة على غرة فأخذ بسرعة يقال أغار الفرس والثعلب في العدو اذا اسرع وقوله فسرق تفسير لقوله اغار قوله واذا نقب اللص البيت فدخل وأخذ المال فتناوله آخر خارج البيت عند النقب أو على الباب فلا قطع عليهما بلا تفصيل بين اخراج الداخل يده الى الخارج او ادخار الحارج يده ثم روى عن ابي يوسف ان اخرج الداخل يده منها الى الخارج فالقطع على الداخل وان ادخل الخارج يده فتناولها فعليهما القطع وعلل الاطلاق الذي هو ظاهر المذهب بقوله لاعتراض يد معتبرة على المال المسروق قبل خروجه أي قبل خروج الداخل والوجه ان يقطع الداخل كما عن ابي يوسف لانه دخل الحرز واخرج المال منه بنفسه وكونه لم يخرج كله معه لا اثر له في ثبوت الشبهة في السرقة واخراج المال وما وقيل ان السرقة تمت بفعل الداخل والخارج ثم الخارج لا يقطع فكذا الداخل ممنوع بل تمت بالداخل وحده وانما تتم بهما اذا ادخل الخارج يده فأخذها وفيه قال ابو يوسف يقطعان وقول مالك ان كانا متعاونين قطعا هو محمل قول ابي يوسف وقال فإن انفرد كل بفعله لا يقطع واحد منهما وهذا لا يتحقق في هذه الصورة الا اذا اتفق ان خارجا رأى نقبا فأدخل يده فوقعت على شيء مما جمعه الداخل فأخذه فظاهر انه لا يقطع واحد منهما قال والمسئلة بناء على مسئلة اخرى تأتي يعني مسئلة نقب البيت وألقاه في الطريق ثم خرج وأخذه ولم يذكر محمد ما إذا وضع الداخل المال عند النقب ثم خرج وأخذه قيل يقطع والصحيح انه لا يقطع قيل ولو كان في الدار نهر جار فرمى المال في النهر ثم خرج فأخذه ان خرج بقوة الماء لا يقطع لانه لم يخرجه وقيل يقطع لانه إخراج ذكره التمرتاشي وقال في المبسوط فيما اذا اخرجه الماء بقوة جريه الاصح انه يلزمه القطع وهو قول الائمة الثلاثة لان جرى الماء به كان بسبب القائه فيه فيصير الاخراج مضافا اليه وهو زيادة حيلة منه ليكون متمكنا من دفع صاحب البيت فلا يكون مسقطا للقطع عنه ولو كان راكدا او جريه ضعيفا فأخرجه بتحريك الماء قطع بالإجماع وهذا يرد نقضا على مسئلة المذهب لانه يصدق عليه انه لم يخرج مع المال ولكن لا يصدق عليه اعتراض اليد المعتبرة قبل ان يخرج به ولو المذهب لانه يصدق عليه انه لم يخرج مع المال ولكن لا يصدق عليه اعتراض اليد المعتبرة قبل ان يخرج به ولو القاه الداخل في الطريق ثم خرج وأخذه قطع وبه قالت الأئمة الثلاثة خلافا لزفر له أن الالقاء غير موجب للقطع
____________________
(5/388)
كما لو خرج ولم يأخذه بأن تركه أو أخذه غيره وكذا الأخذ من السكة غير موجب للقطع فلا يقطع بحال ولنا ان الرمي حيلة يعتادها السراق لتعذر الخروج مع المتاع لضيق النقب او ليتفرغ لقتال صاحب الدار او للفرار ان ادرك ولم يعترض على المال الذي أخرجه يد معتبرة فاعتبر الكل فعلا واحدا وإذا خرج ولم يأخذه فهو مضيع لمال صاحب الدار عداوة ومضارة لا سارق وإذا أخذه غيره فقد اعترضت يد معتبرة فقطعت نسبة الاخذ اليه والحاصل ان يد السارق تثبت عليه وبالإلقاء لم تزل يده حكما لعدم اعتراض يد أخرى الا ترى ان من سقط منه مال في الطريق فأخذه إنسان ليرده عليه ثم رده الى مكانه لم يضمن لانه في ذلك المكان في يد صاحبه حكما فرده اليه كرده الى صاحبه بخلاف مالو أخذه غيره لسقوط اليد الحكمية باليد الحقيقية وكذا إذا حمله على حمار فساقه فأخرجه لأن سيره مضاف اليه بسوقه فيقطع وفي مبسوط أبي اليسر وكذا إذا علقه في عنق كلب وزجره يقطع ولو خرج بلا زجره لايقطع لأن للدابة اختيارا فما لم يفسد اختيارها بالحمل والسوق لا تنقطع نسبة الفعل اليها وكذا اذا علقه على طائر فطار به الى منزل السارق او لم يسق الحمار فخرج بنفسه الى منزل السارق لا يقطع قوله وإذا دخل الحرز جماعة فتولى بعضهم الاخذ قطعوا جميعا قال رحمه الله وهذا استحسان والقياس ان يقطع الحامل وحده وهو قول زفر والائمة الثلاثة لأن فعل السرق لا يتم الا بالإخراج بعد الأخذ والأخذ إن نسب الى الكل فالإخراج إنما وجد منه فإنما تمت السرقه منه قلنا نعم هذا هو القياس ولكنا استحسنا قطعهم
____________________
(5/389)
لأن الاخراج وان قام به وحده لكنه في المعنى من الكل لتعاونهم كما في السرقة الكبرى واذ باشر بعضهم القتل والاخذ والباقون وقوف يجب حد قطع الطريق على الكل لنسبة الفعل الى الكل شرعا بسبب معاونتهم وان قدرة القاتل والآخذ انما هي بهم فكذا هذا فإن السراق يعتادون ذلك فيتفرغ غير الحامل للدفع فكان مثله وبهذا القدر يتم الوجه وقوله بعد ذلك فلو امتنع القطع أدى الى سد باب الحد ان منع لم يضر وانما وضعها في دخول الكل لانه لو دخل بعضهم لكنهم اشتركوا في فعل السرقة لا يقطع الا الداخل ان عرف بعينه وان لم يعرف عزروا كلهم وأبد حبسهم الى ان تظهر توبتهم قوله ومن نقب البيت وأدخل يده فأخذ شيئا لم يقطع وهذا ظاهر الرواية عن الكل ولذا لم يذكر الحاكم خلافا وروى عن ابي يوسف في الاملاء انه يقطع وهو قول الائمة الثلاثة لان اخراج المال من الحرز هو المقصود وقد تحقق والدخول فيه لم يفعل قط الا له فكان هو المقصود من الدخول وقد وجد فاعتباره شرطا في القطع بعد المقصود اعتبار صورة لا أثر لها غير ما حصل وصار كما إذا أدخل يده في صندوق الصير في فأخرج الغطريفي أو في الجوالق والغطريفي درهم منسوب الى الغطريف بن عطاء الكندي أمير خراسان أيام الرشيد وكانت دراهمه من أعز النقود ببخارى قال المصنف ولنا ان هتك الحرز يشترط فيه الكمال وعرفت ان هذا في حيز المنع منهم فأثبته بقوله تحرزا عن شبهة العدم أي شبهة عدم السرقه وهي مسقطة فإن الناقص يشبه العدم وقد يمنع نقصان هذه السرقة لانها اخذ المال خفية من حرز وقد تحقق والدخول ليس من مفهومها ولا شرط لوجودها اذ قد يتحقق هذا المفهوم بلا دخول وقد يتحقق معه وفي كلا الصورتين معنى السرقة تام لا نقص فيه وكون الدخول هو المعتاد باتفاق الحال لانه قلما يقدر على اخراج شيء مالم يبصره بعينه من جوانب البيت فيقصد اليه وقلما يدخل الانسان يده من كوة بيت فتقع على مال ثم فرق بينه وبين الصندوق ان الدخول في الصندوق غير ممكن فسقط اعتباره بخلاف البيت وبخلاف ما تقدم من حمل البعض المتاع فإنه هو المعتاد قوله ومن طر أي شق صرة والصرة الهميان والمراد من الصرة هنا
____________________
(5/390)
الموضع المشدود فيه دراهم من الكم لم يقطع وان ادخل يده في الكم قطع لان في الوجه الاول الرباط من خارج فبالطر يتحقق الاخذ من خارج فلا يوجد هتك الحرز وفي الثاني الرباط من داخل فبالطر يتحقق الاخذ من الحرز وهو الكم ولو كان مكان الطر حل الرباط ثم الأخذ في الوجهين ينعكس الجواب فإذا كان الرباط من خارج يقطع لانه اخذ الدراهم حينئذ من باطن الكم وان كان الرباط من داخل الكم لا يقطع لانه حينئذ يأخذها من خارج الكم فظهر ان انعكاس الجواب لانعكاس العله وعن ابي يوسف انه في الطرار يقطع على كل حال وهو قول الأئمة الثلاثة لان في صورة اخذه من خارج الكم ان لم يكن محرزا بالكم فهو محرز بصاحبه واذا كان محرزا بصاحبه وهو نائم الى جنبه فلان يكون محرزا به وهو يقظان والما يلاصق بدنه اولى قلنا بل الحرز هنا ليس الا الكم لان صاحب المال يعتمد الكم او الجيب لا قيام نفسه فصار الكم كالصندوق وهذا لان المطرور كمه اما في حال المشي او في غيره فمقصوده في الاول ليس الا قطع المسافة لا حفظ المال وان كان الثاني فمقصوده الاستراحة عن حفظ المال وهو شغل قلبه بمراقبته فإنه متعب للنفس فيربطه ليريح نفسه من ذلك فإنما اعتمد الربط والمقصود هو المعتبر في هذا الباب الا ترى ان من شق جوالقا على جمل يسير فأخذ ما فيه قطع لان صاحب المال اعتمد الجوالق فكان السارق منه هاتكا للحرز فيقطع ولو اخذ الجوالق بما فيه لا يقطع وكذا لو سرق من الفسطاط قطع ولو سرق نفس الفسطاط لا يقطع لانه ليس محرزا بل ما فيه محرز به فلذا قطع فيما فيه دونه بخلاف مالو كان الفسطاط ملفوفا عند يحفظه او في فسطاط آخر
____________________
(5/391)
فإنه يقطع به ولو سرق الغنم من المرعى لا يقطع وان كان الراعي معها لان الراعي لايقصد الحفظ بل مجرد الرعي بخلاف ما لو كانت في حظيرة بناها لها وعليها باب مغلق فأخرجها منه قطع لانها بنيت لحفظها وعند الائمة الثلاثة اذا كان الراعي بحيث يراها يقطع لانها محرزة به وان كانت غائبة عن نظره او هو نائم او مشغول فليس محرزة وكذا اذا اخذ الجوالق بما فيه من الجمال المقطرة يقطع وبما ذكر من التفصيل في الطر ظهر أن ما يطلق في الاصول من أن الطرار يقطع انما يأتي على قول أبي يوسف قوله وان سرق من القطار بعيرا أو حملا لم يقطع لانه ليس بحرز مقصود فتتمكن فيه شبهة العدم وهذا لان السائق والراكب والقائد انما يقصدون قطع المسافة ونقل الامتعة دون الحفظ حتى لو كان مع الاحمال من يتبعها للحفظ قالوا يقطع وان شق الحمل واخذ منه قطع لان الجوالق في مثل هذا حرز لانه يقصد بوضع الامتعة فيه صيانتها كالكم فوجد الاخذ من الحرز فيقطع وعند الائمة الثلاثة كل من الراكب والسائق حافظ حرز فيقطع في أخذ الجمل والحمل والجوالق والشق ثم الاخذ وأما القائد فحافظ للحمل الذي زمامه بيده فقط عندا وعندهم إذا كان بحيث يراها إذا التفت اليها حافظ للكل فالكل محرزة عندهم بقوده وفرض ان قصده القطع المسافة ونقل الامتعة لا ينافي ان يقصد لحفظ مع ذلك بل الظاهر ذلك فوجب اعتباره والعمل به وكونه عليه الصلاة والسلام لم يوجب القطع في جريسة الجبل يحمل على ترك الراعي إياها في المرعى وغيبتها عن عينه او مع نومه والقطاع بكسر القاف الابل يشد زمام بعضها خلف بعض على نسق ومنه جاء القوم متقاطرين اذا جاء بعضهم اثر بعض قوله وإن سرق جوالقا فيه متاع وصاحبه يحفظه او نائم عليه قطع ومعناه إذا كان الجوالق في موضع ليس بحرز كالطريق والمفازة والمسجد ونحوه حتى يكون محرزا بصاحبه لكونه مترصدا لحفظه وهذا لان المعتبر هو الحفظ المعتاد والجلوس عنده والنوم عليه يعد حفظا عادة وكذا النوم بقرب منه على اخترناه من قبل يعنى عند التصحيح وقوله لانه يعد النائم عند متاعه حافظا له في العادة
____________________
(5/392)
وذكر في بعض النسخ الجامع وصاحبه نائم عليه او حيث يكون حافظا له وهذا يؤكد ما قدمناه من القول المختار وهو ان لا يشترط في قطع السارق من الحافظ كونه عنده او تحته
فصل في كيفية القطع واثباته
ظاهر ترتيبه على بيان نفس السرقه وتفاصيل المال والحرز لانه حكم سرقة المال الخاص من الحرز فيتعقبه فالقطع لما تلونا من قبل وهو قوله تعالى { فاقطعوا أيديهما } والمعنى يديهما وحكم اللغه ان ما اضيف من الخلق الى اثنين لكل واحد واحد ان يجمع مثله قوله تعالى { فقد صغت قلوبكما } وقد يثني وقل ظهراهما مثل ظهور الترسين والأفصح الجمع وأما كونها اليمين فبقراءة ابن مسعود / < فاقطعوا ايمانهما > / وهي قراء مشهورة فكان خبرا مشهورا فيقيد اطلاق النص فهذا من تقييد المطلق لا من بيان المجمل لان الصحيح
____________________
(5/393)
أنه لا إجمال في قوله { فاقطعوا أيديهما } وقد قطع عليه الصلاة والسلام اليمين وكذا الصحابة فلو لم يكن التقييد مرادا لم يفعله وكان يقطع اليسار وذلك لأن اليمين أنفع من اليسار لأنه يتمكن بها من الأعمال وحدها ما لا يتمكن به من اليسار فلو كان الإطلاق مرادا والامتثال يحصل بكل لم يقطع إلا اليسار على عادته من طلب الأيسر لهم ما أمكن وأما كونه من الزند وهو مفصل الرسغ ويقال الكوع فلأنه المتوارث ومثله لا يطلب فيه سند بخصوصه كالمتواتر لا يبالى فيه بكفر الناقلين فضلا عن فسقهم أو ضعفهم وروى فيه خصوص منها ما رواه الدراقطنى في حديث رداء صفوان قال فيه ثم أمر بقطعه من المفصل وضعف بالعرزهي وابن عدى في الكامل عن عبد الله بن عمر قال قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم سارقا من المفصل وفيه عبد الرحمن بن سلمة قال ابن القطان لا أعرف له حالا وأخرج ابن أبى شيبة عن رجاء بن حيوة أن النبى صلى الله عليه وسلم قطع رجلا من المفصل وإنما فيه الإرسال وأخرج عن عمر وعلى أنهما قطعا من المفصل وانعقد عليه الإجماع فما نقل عن شذوذ من الاكتفاء بقطع الأصابع لأن بها البطش وعن الخوارج من أن القطع من المنكب لأن اليد اسم لذلك الله أعلم بصحته وبتقدير ثبوته هو خرق للإجماع وهم لم يقدحوا في الإجماع قبل الفتنة ولأن اليد تطلق على ما ذكر وعلى ما إلى الرسغ إطلاقا أشهر منه إلى المنكب بل صار يتبادر من إطلاق اليد فكان أولى باعتباره ولئن سلم اشتراك الاسم جاز كون ما إلى المنكب هو المراد وما إلى الرسغ فيتعين ما إلى الرسغ درءا للزائد عند احتمال عدمه وأما الحسم فقد روى الحاكم من حديث أبى هريرة أنه عليه الصلاة والسلام أتى بسارق سرق شملة فقال عليه الصلاة والسلام ما إخاله سرق فقال السارق بلى يا رسول الله فقتا اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتونى به فقطع ثم حسم ثم أتى به فقال تب إلى الله قال تبت إلى الله قال تاب الله عليك وقال صحيح على شرط مسلم ورواه أبو داود في المراسيل وكذا رواه أبو القاسم بن سلام في غريب الحديث وأخرج الدارقطنى عن حجبة عن على أنه قطع أيديهم من المفصل ثم حسمهم فكأنى أنظر إليهم وإلى أيديهم كأنها أيور الحمر والحسم الكى لينقطع الدم وفى المغرب والمغنى لابن قدامة هو أن يغمس في الدهن الذى أغلى وثمن الزيت وكلفة الحسم في بيت المال عندهم لأنه أمر القاطع به وبه قال الشافعى في وجه وعندنا هو على السارق وقول المصنف لأنه لو لم يحسم يؤدى إلى التلف يقتضى وجوبه والمنقول عن الشافعى وأحمد أنه مستحب فإن لم يفعل لا يأثم ويسن تعليق يده في عنقه لأنه عليه الصلاة والسلام أمر به رواه أبو داود وابن ماجه وعندنا ذلك مطلق للإمام إن رآه ولم يثبت منه عليه الصلاة والسلام في كل من قطعه ليكون سنة
____________________
(5/394)
قوله وان سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى بالاجماع فقد روى فيه حديث قدمناه ثم يقطع من الكعب عن اكثر اهل العلم وفعل عمر ذلك وقال ابو ثور والروافض نقطع من نصف القدم من مقعد الشراك لان عليا كان يقطع كذلك ويدع له عقبا يمشي عليه قال فإن سرق ثالثا لايقطع بل يعزر ويخلد في السجن حتى يتوب او يموت كذلك ويدع له عقبا يمشي عليه قال فان سرق ثالثا لا يقطع بل يعزر ويخلد في السجن حتى يتوب او يموت وقال الشافعي في الثالثة تقطع يده اليسرى وفي الرابعة تقطع رجله اليمنى لقوله عليه الصلاة والسلام من سرق فاقطعوه ثم ان عاد فاقطعوه ثم ان عاد فاقطعوه ثم ان عاد فاقطعوه وهو بهذا اللفظ لا يعرف ولكن اخرج ابو داود عن جابر قال جيء بسارق الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال اقتلوه قالوا يا رسول الله انما سرق قال اقطعوه فقطع ثم جيء به في الثانية فقال اقتلوه قالوا يا رسول الله انما سرق قال اقطعوه فقطع ثم جيء به في الثالثه فقال اقتلوه قالوا يا رسول الله الله انما سرق قال اقطعوه فقطع ثم جيء به في الرابعه فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله انما سرق فقال اقطعوه فقطع ثم جيء به في الخامسة قال اقتلوه قال جابر فانطلقنا به فقتلناه ثم اجتررناه فألقيناه في بئر ورمينا عليه الحجارة قال النسائي حديث منكر ومصعب بن ثابت ليس بالقوي وأخرج النسائي عن حماد بن سلمة أنبأنا يوسف بن سعيد عن الحرث بن حاطب اللخمي ان النبي صلى الله عليه وسلم اتى بلص قال اقتلوه قالوا يا رسول الله انما سرق قال اقطعوه فقطع ثم سرق فقطعت رجله ثم سرق على عهد ابي بكر حتى قطعت قوائمة الاربع كلها ثم سرق الخامسة فقال ابو بكر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اعلم بهذا حين قال اقتلوه ورواه الطبراني والحاكم في المستدرك وقال صحيح الاسناد قال المصنف وروى مفسرا كما هو مذهبه أخرج الدار قطنى عن ابي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام قال اذا سرق الساق فاقطعوا يده فإن عاد فاقطعوا رجله فإن عاد فاقطعوا يده فان عاد فاقطعوا رجله وفي سنده الواقدي وهنا طرق كثيرة متعددة لم تسلم من الطعن ولذا طعن الطحاوي كما ذكره المصنف فقال تتبعنا هذه الاثار فلم نجد لشيء منها اصلا وفي المبسوط الحديث غير صحيح ولا احتج به بعضهم في مشاورة على ولئن سلم يحمل على الانتساخ لانه كان في الابتداء تغليظ في الحدود الا ترى ان النبي صلى الله عليه وسلم قطع أيدي العرنيين وأرجلهم وسمل أعينهم ثم انتسخ ذلك وأما فعل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فروى مالك في الموطإ عن عبد الرحمن بن القاسم عن ابيه ان رجلا من اليمن اقطع اليد والرجل قدم فنزل على ابي بكر الصديق فشكا اليه ان عامل اليمن ظلمة فكان يصلى من الليل فيقول ابو بكر رضي الله عنه وأبيك
____________________
(5/395)
ما ليلك بليل سار ق ثم إنهم فقدوا عقدا الأسماء بنت عميس امرأة أبى بكر الصديق رضى الله عنه فجعل الرجل يطوف معهم ويقول اللهم عليك بمن بيت أهل هذا البيت الصالح فوجدوا الحلى عند صائغ زعم أن الأقطع جاءه به فاعترف الأقطع وشهد عليه فأمر به أبو بكر فقطعت يده اليسرى وقال أبو بكر لدعاؤه على نفسه أشد عليه من سرقته ورواه عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهرى عن عروة عن عائشة رضى الله عنها قالت قدم على أبى بكر رضى الله عنه رجل أقطع فشكا إليه أن يعلى بن أمية قطع يده ورجله في سرقة وقال والله ما زدت على لأنه كان يولينى شيئا من عمله فخنته في فريضة واحدة فقطع يدى ورجلى فقال له أبو بكر إن كنت صادقا فلأقيدنك منه فلم يلبثوا إلا قليلا حتى فقد آل أبى بكر حليا لهم فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال اللهم أظهر من سرق أهل هذا البيت الصالح قال فما انتصف النهار حتى عثروا على المتاع عنده فقال له أبو بكر رضى الله عنه ويلك إنك لقليل العلم بالله فقطع أبو بكر يده الثانية قال محمد بن الحسن في موطئه قال الزهرى ويروى عن عائشة قالت إنما كان الذى سرق حلى أسماء أقطع اليد اليمنى فقطع أبو بكر رجله اليسرى قال وكان ابن شهاب أعلم بهذا الحديث من غير هذا وقد حكى عن عطاء وعمرو بن العاص وعثمان وعمر بن عبد العزيز أنه يقتل في المرة الخامسة كما هو ظاهر ما روى من ذلك وذهب مالك والشافعى إلى أنه يعزر ويحبس كقولنا في الثالثة قوله ولنا قول على رضى الله عنه الخ قال محمد بن الحسن في كتاب الآثار وأخبرنا أبو حنيفة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال إذا سرق السارق قطعت يده اليمنى فإن عاد قطعت رجله اليسرى فإن عاد ضمنته السجن حتى يحدث خيرا إنى لأستحى من الله أن أدعه ليس له يد يأكل بها ويستنجى بها ورجل يمشى عليها ومن طريق محمد رواه الدارقطنى ورواه عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا معمر عن جابر عن الشعبى قال كان على لا يقطع إلا اليد والرجل وإن سرق بعد ذلك سجنه ويقول إنى لآستحى من الله أن لا أدع له يدا يأكل بها ويستنجى بها ورواه ابن أبى شيبة في مصنفه حدثنا حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه قال كان على لا يزيد على أن يقطع السارق يدا ورجلا فإذا أتى به بعد ذلك قال إنى لا أستحى أن أدعه لا يتطهر لصلاته ولكن احبسوه وأخرجه البيهقى عن عبد الله بن سلمة عن على رضى الله عنه أنه أتى بسارق فقطع يده ثم أتى به فقطع رجله ثم أتى به فقال أقطع يده فبأى شئ يتمسح وبأى شئ يأكل أقطع رجله على أي شئ يمشى إنى لأستحى من الله ثم ضربه وخلده في السجن وروى ابن أبى شيبة أن نجده كتب إلى ابن عباس يسأل عن السارق فكتب إليه بمثل قول على وأخرج عن سماك أن عمر استشارهم في سارق فأجمعوا على مثل قول على وأخرج عن مكحول أن عمر رضى الله عنه قال إذا سرق فاقطعوا يده ثم إن عاد فاقطعوا رجله ولا تقطعوا يده الأخرى وذروه يأكل بها ويستنجى بها ولكن احبسوه عن المسلمين وأخرج عن النخعى كانوا يقولون لا يترك ابن آدم مثل البهيمة ليس له يد يأكل بها ويستنجى بها وهذا كله قد ثبت ثبوتا لا مرد له فبعيد أن يقع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذه الحوادث التى غالبا تتوفر الدواعى على نقلها مثل سارق يقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعته ثم يقتله والصحابة يجتمعون على قتله ولا خبر بذلك عند على وابن عباس وعمر من الأصحاب الملازمين له عليه الصلاة
____________________
(5/396)
والسلام بل أقل ما في الباب أن كان ينقل لهم إن غابوا بل لا بد من علمهم بذلك وبذلك تقضى العادة فامتناع على بعد ذلك إما لضعف الروايات المذكورة في الإتيان على أربعته وإما لعلمه أن ذلك ليس حدا مستمرا بل من رأى الإمام قتله لما شاهد فيه من السعى بالفساد في الأرض وبعد الطباع عن الرجوع فله قتله سياسة فيفعل ذلك القتل المعنوي قوله وبهذا حاج على بقية الصحابة فحجهم فانعقد اجماعا يشير الى ما في تنقيح ابن عبد الهادي قال سعيد بن منصور رضي الله عنه حدثنا ابو معشر عن سعيد بن ابي سعيد المقبرى عن ابيه قال حضرت علي ابن ابي طالب وقد أتى برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق فقال لاصحابه ما ترون في هذا قالوا اقطعة يا أمير المؤمنين قال قتلته إذا وما عليه القتل بأي شيء يأكل الطعام بأي شيء يتوضأ للصلاة بأي شيء يغتسل من جنابته بأي شيء يقوم على حاجته فرده الى السجن أياما ثم اخرجه فاستشار اصحابه فقالوا مثل قولهم الاول وقال لهم مثل ما قال أول مرة فجلده جلدا شديد ثم ارسله وقال سعيد ايضا حدثنا ابو الاحوص عن سماك ابن حرب عن عبد الرحمن بن عائذ قال اتى عمر بن الخطاب بأقطع اليد والرجل قد سرق فأمر ان يقطع رجله فقال علي رضي الله عنه قال الله { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الاية فقد قطعت يد هذا ورجله فلا ينبغي ان تقطع رجله فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها إما ان تعزره وإما ان تودعه السجن فاستودعه السجن وهذا رواه البيهقي في سننه وهو مما يؤيد ضعف الحديث من استدلال على رضي الله عنه وموافقة عمر له قال المصنف ولانه إهلاك معنى هو من قول علي رضي الله عنه قتلته إذا والحد زاجر لا مهلك ولأنه نادر الوجود أي يندر ان يسرق الانسان بعد قطع يده ورجله والحد لا يشرع الا فيما يغلب على مامر غير مرة بخلاف القصاص يعني لو قطع رجل يدي رجل قطعت يداه او اربعته قطعت اربعته لانه حق للعبد فيستوفيه ما أمكن جبرا لحقه لا يقال اليد اليسرى محل للقطع بظاهر الكتاب ولا إجماع على خلاف الكتاب لأنا نقول لما وجب حمل المطلق منه على المقيد عملا بالقراءة المشهورة خرجت من كونها مرادة وتعينت اليمنى مرادة والأمر المقرون بالوصف وإن تكرر بتكرر ذلك الوصف لكن إنما يكون حيث أمكن وإذا انتفى إرادة اليسرى بما ذكرنا من التقييد انتفى محليتها للقطع فلا يتصور تكراره فيلزم أن معنى الآية السارق والسارقة مرة واحدة فاقطعوا أيديهما وثبت قطع
____________________
(5/397)
الرجل في الثانية بالسنة والإجماع وانتفى ما وراء ذلك لقيام الدليل على العدم قوله وإن كان السارق أشل اليد اليسرى أو مقطوع الرجل اليمنى أو كانت رجله اليمنى شلاء لا يقطع لأن في القطع والحالة هذه تفويت جنس المنفعة بطشا فيما إذا كانت اليد اليسرى مقطوعة أو مشلولة أو مشيا إذا كان ذلك في رجله اليمنى وتفويت جنس المنفعة إهلاك حتى وجب تمام الدية بقطع اليدين والرجلين وهذا لأن المشى لا يتأتى مع قطع اليد والرجل من جهة واحدة وكذا لا يقطع يمين السارق إذا كانت إبهام يده اليسرى أو رجله اليسرى مقطوعة أو شلاء أو الأصبعان من واحدة منهما سوى الإبهام لأن فوتهما يقوم مقام فوت الإبهام في نقصان البطش بخلاف فوت أصبع واحدة غير الإبهام لا يوجب ذلك فيقطع ولا يشكل أن الشلل وقطع الإبهام والأصابع لو كان في اليد اليمنى أنه يقطع لأنها لو كانت صحيحة قطعت في كيف إذا كانت ناقصة وإنما خولف في هذا الباب ما ذكر في الكتاب حيث جعل القائم مقام الإبهام المخل بالبطش فوات ثلاث أصابع وهنا جعله أصبعين لأن الحد يحتاط في درئه قوله وإذا قال الحاكم للحداد أى للذى يقيم الحد فعال منه كالجلاد من الجلد اقطع يمين هذا في سرقة سرقها فقطع يساره عمدا أو خطأ فلا شئ عليه عند أبى حنيفة رحمه الله ولكن يؤدب وبه قال أحمد وقالا لا شئ عليه في الخطإ ويضمن في العمد أرش اليسار وعند زفر يضمن في الخطإ أيضا بخلاف مالو قال له اقطع يد هذا فقطع اليسار لا يضمن في بالاتفاق وعند مالك والشافعى يقتص في العمد كقولنا فما إذا قطع رجل يده بعد الشهادة قبل القضاء بالقطع في انتظار التعديل ثم عدلت لاقطع عليه لفوات محله وتقطع يد القاطع قصاصا ويضمن المسروق لو كان أتلفه لأن سقوط الضمان باستيفاء القطع حقا لله تعالى ولم يوجد وكذا لو قطع يده اليسرى يقتص له ويسقط عنه قطع اليمنى لما عرف قوله والمراد أى المراد بالخطأ الذى فيه الخلاف بيننا وبين زفر الخطأ في الاجتهاد ومعناه أن يقطع اليسرى بعد قول الحاكم اقطع يمينه عن اجتهاد في أن قطعها يجزئ
____________________
(5/398)
عن قطع السرقة نظرا إلى إطلاق النص وهو قوله تعالى { فاقطعوا أيديهما } أما الخطأ في معرفة اليمين من الشمال لا يجعل عفوا له بعيد يتهم فيه مدعيه وعلى هذا فالقطع في الموضعين عمد وإنما يكون معنى العمد حينئذ أن يتعمد القطع لليسار لا عن اجتهاد في إجزائها وقيل الخطأ في اليمين والشمال يجعل عفوا أيضا لزفر أنه قطع يدا معصومة والخطأ في حق العباد غير موضوع فيضمنها ولنا أنه إنما أخطأ في اجتهاده وخطأ المجتهد موضوع بالإجماع وهذا موضع اجتهاد لأن ظاهر النص يسوى بين اليمين واليسار ولهما في العمد أنه جان حيث قطع يدا معصومة بلا تأويل تعمدا الظلم فلا يعفى وإن كان في المجتهدات لأنه هو لم يفعله عن اجتهاد وكان ينبغى أن يجب القود إلا أنه سقط الشبهة الناشئة من إطلاق النص ولأبى حنيفة رضى الله عنه أنه وإن أتلف بلا حق ظلما لكنه أخلف من جنسه ما هو خير له وهى اليمين فإنها لا تقطع بعد قطع اليسرى وهى خير لأن قوة البطش بها أتم فلا يضمن شيئا وإنما قلنا أخلف لأن اليمين كانت على شرف الزوال فكانت كالفائتة فأخلفها إلى خلف استمرارها وبقائها بخلاف ما لو قطع رجله اليمنى لأنه وإن امتنع به قطع يده لكن لم يعوضه من جنس ما أتلف عليه من المنفعة لأن منفعة ليس من جنس منفعة المشى وأما إن قطع رجله اليسرى فلم يعوض عليه شيئا أصلا وصار كما لو شهد اثنان على رجل ببيع عبد بألفين وقيمته ألفا أو شهدا بمثل قيمته ثم رجعا بعد القضاء لا يضمنان شيئا قوله وعلى هذا على تعليل قول أبى حنيفة بالإخلاف بقطع يساره غير الحداد أيضا للإخلاف وهو الصحيح احتراز عما ذكر لإسبيجابى في شرحه لمختصر الطحاوى حيث قال هذا كله
____________________
(5/399)
إذا قطع الحداد بأمر السلطان ولو قطع يساره غيره ففي العمد القصاص وفي الخطإ الديه قوله ولو ان السارق أخرج يساره وقال هذه يميني فقطعها لا يضمن وإن كان عالما بأنها يساره بالاتفاق لانه قطعها بأمره ثم في العمد عنده على السارق ضمان المال إذا كان استهلكه لانه لم يقع حدا في الخطإ كذلك على هذه الطريقه أعني طريقة عدم وقوعه حدا وقيل طريقة الاخلاف ولازمها عدم وقوعه حدا فكلاهما واحد الا ان الاول اقرب الى اللفظ وعلى طريقة الاجتهاد لايضمن لانه وقع موقع الحد والقطع مع الضمان لايجتمعان وإنما خص أبا حنيفه رضي الله عنه بلزوم الضمان على السارق في عمد القطع مع أنهما أيضا يضمنانه لان توهم انه لايضمن انما يثبت على قوله لانه لما لم يوجب على الحداد ضمانا قد يتوهم انه لايضمن السارق بناء على ان قطع الحداد وقع حدا ولذا لم يضمنه فأزال الوهم بأنه إنما لم يضمنه لاخلافه لا لوقوعه حدا قوله ولا يقطع السارق الا ان يحضر المسروق منه فيطالب بالسرقه لان الخصومة شرط لظهور السرقه والخصم هو المسروق منه فلا بد من حضوره وهو قول الشافعي وأحمد وقال مالك وأبو ثور لا تشترط المطالبة لعموم الآية وكما في حد الزنا وقوله ولا فرق بين الشهادة والإقرار عندنا خلافا للشافعي في الاقرار هو خلاف الاصح عنده والاصح عنده ان الاقرار كالبينة يعني اذا اقر عند الحاكم اني سرقت مال فلان نصابا من حرز لاشبهة فيه فإنه لايقطعه حتى يحضر فلان ويدعى وما ذكره عن الشافعي رواية عن ابي يوسف لان خصومة العبد ليس الا ليظهر سبب القطع الذي هو حق الله تعالى وبالاقرار يظهر السبب فلا حاجة الى حضوره والجواب انه مالم يظهر تصديق المقر له في المقر به فهو للمقر ظاهرا ولهذا لو أقر لغائب ثم لحاضر جاز ولأن شبهة الاباحة بإباحة المالك للمسلمين أو بطائفة السارق منهم ثابتة وكذا شبهة وجود
____________________
(5/400)
إذنه له في دخوله في بيته فاعتبرت المطالبة دفعا لهذه الشبهة بخلاف الزنا فانه لايباح بإباحة بوجه من الوجوه فلم تتمكن فيه هذه الشبهة والحق احتمال إباحة المالك ونحوه هي الشبهة الموهومة التي سينفيها المصنف وسيتضح لك فالمعول عليه ما ذكرنا من أن ملك المقر قائم مالم يصدقه المقر له قوله وكذا إذا غاب المسروق منه عند القطع لا يقطع حتى يحضر وبه قال الشافعي وأحمد خلافا لمالك لان الامضاء من القضاء في الحدود على مامر وعلى ظاهر كلام المصنف يكون التشبيه في ثبوت خلاف الشافعي لكن علمت ان الاصح انه كقولنا ولما ثبت ان المطالبة شرط شرع في بيان من له المطالبة فقال وللمستودع بفتح الدال والغاصب وصاحب الربا ان يقطعوا السارق منهم أي إذا سرق الوديعة أو المال المغصوب وأما صاحب الربا فكالمشتري عشرة بخمسة إذا قبض العشرة فسرقها سارق قطع بخصومته لان هذا المال في يده بمنزلة المغصوب اذ المشتري شراء فاسدا في يد المشتري كالمغصوب ولرب الوديعة ان يخاصمه ويقطعه ايضا كما للمودع وكذا المغصوب منه وقال زفر والشافعي لا يقطع بخصومة الغاصب والمستودع وعلى هذا الخلاف المستعير والمستأجر والمضارب والمستبضع والقابض على سوم الشراء والمرتهن وكل من له يد حافظة كمتولي الوقف والاب والوصي يقطع السارق لما في أيديهم من مال الوقف واليتيم بخصومتهم ويقطع ايضا السارق من هؤلاء بخصومة المالك بما في أيديهم الا أن الراهن إنما يقطع بخصومته حال قيام الرهن قبل قضاء الدين أو بعده والصحيح من نسخ الهداية بعد قضاء الدين
____________________
(5/401)
ويدل عليه تعليله بقوله لانه لاحق له في المطالبة بالعين بدونه أي بدون قضاء الدين فليس له ان يخاصم في ردها وكذا نقل عن ابن المصنف انه قال كان في نسخة المصنف بعد القضاء وقيل يمكن ان يكون هذا جواب القياس يعني ان للمالك ان يسترد الرهن كالمودع يسترده للحفظ فلا يكون أدنى حالا منه وقيد بقوله حال قيام الرهن لانه إذا كان مستهلكا لايقطع الا بخصومة المرتهن لان الدين سقط عن الراهن فلم يبق له حق في مطالبته بالعين لا لنفسه ولا للحفظ وفي غاية البيان وينبغي أن يكون للراهن ولاية القطع إذا كانت قيمة الرهن أزيد من الدين بقدر عشرة لان الزائد أمانة في يد المرتهن فكان المرتهن بالنسبة الى ذلك القدر كالمودع والراهن كالمودع فيقطع بخصومته قوله فالشافعي رحمه الله بناه أي بني عدم القطع بخصومة هؤلاء على أصله وهو أن لا خصومة لهم في الاسترداد عند جحود من في يده المال المودع كأبناء غير المودع الا ان يحضر المالك لانهم لايملكون الخصومة في الدعوى عليهم لابقاء اليد فلأن لايملكوها لاعادة اليد أولى قيل لكن المذكور في كتبهم يقطع بالسرقه من يد المودع والوكيل والمرتهن وكذا يقول مالك ويزد المستعير ايضا وزفر يقول ولاية الخصومة في حق الاسترداد ضرورة الحفظ فلا تظهر في حق القطع لان فيه أي في القطع تفويت الصيانة لسقوط الضمان به فيفوت الحفظ فيعود الامر على موضوعه بالنقض اذ تصير خصومته لاثبات الحفظ سببا لنفيه ولنا ان السرقة موجبه للقطع في نفسها وقد ظهرت عند القاضي بحجة شرعية وهي شهادة رجلين عقيب خصومة معتبرة مطلقا وهذه النكته هي مبنى الخلاف أعني كون خصومتهم معتبرة فأثبتها بقوله إذ الاعتبار لحاجتهم الى الاسترداد
____________________
(5/402)
والاحسن ان يقال لهم ولاية الحفظ وهو باليد فكان استعادتها حقا لهم كما ان ذلك للمالك بل الملك في الحقيقه لم يرد الا لليد وهذا لأن ذا اليد ان كان امينا لا يقدر على اداء الامانة الا بها وان كان غاصبا لايقدر على اسقاط الضمان عن نفسة الا بذلك فكان خصومة في حق لهم ثم تظهر به السرقة فيجب بها القطع ولذا لايحتاج الى اضافة المال الى المالك بل يقول سرق مني وقصدة احياء حق المالك وحق نفسه بخلاف خصومته في القصاص لا تعتبر فلا يقتص بخصومته لانه ليس فيه حقه في اعادة يده وأورد أن في صورة الاقرار لايقطع الا بحضور المالك وهو احدى الحجتين وكذا لو أقام وكيل المالك بينة على السرقة لايقطع بخصومته عندنا خلافا للشافعي مع ظهور السرقة بحجة شرعية فيهما وما ذاك الا لتوهم الشبهة حال غيبة المالك على ماذكرنا قبل والتوهم موجود في هذه الصوره مع انه يقطع أجيب بأن المستعير ومن ذكر معه أصحاب يد صحيحة وبينا أن لهم حق الاسترداد فخصومة كل منهم باعتبار حقه بخلاف الوكيل الا ترى انه لايستغني عن اضافة الخصوصة الى غيره وفي فصل الاقرار شبهة زائدة هي جواز ان يرد المالك إقرارة فيبقى المال مملوكا للسارق فاستيفاء الحد مع ذلك استيفاء مع الشبهة ثم اجاب عن قول زفر بقوله وسقوط العصمة ضرورة الاستيفاء حقا لله وان لزم غير مقصود ولا دائمي لانه اثما يثبت اذا كان المال مستهلكا فليس لازما للقطع مطلقا مع انه مهدر في اعتبار الشرع بدليل الاجماع على ان يقطع بخصومة الاب والوصي بسرقة مال اليتيم وان لزمة سقوط الضمان فكان تعليله لذلك مردودا بدلالة الاجمال وقوله ولا معتبر بشبهة موهومة جواب عن مقدر هو ان يقال احتمال اقرار المالك له أي اعترافه بأنها له وإذنه إذا حضر ثابت فلا يقطع مع هذه الشبهة فقال هذه شبهة يتوهم اعتراضها عند حضوره ولا عبرة بمثلها بل المعتبر شبهة ثابت توهمها في الحال لا على تقدير منتف في الحال الا يرى ان القطع يستوفي بالاقرار وان توهم اعتراض رجوعه وكذا لو حضر المالك وغاب المستودع يقطع وان كان لو حضر المستودع قال كان ضيفي أو أذنت له في الدخول في بيتي ولا يخفى ان لا فرق بين هذه الشبهة والشبهة التي ذكرها بعضهم في اشتراط حضور المسروق منه للخصومة من احتمال إباحة المالك المسروق للمسلمين ونحوه فإنه جاز أنه إذا حضر قال كنت أبحته للمسلمين
____________________
(5/403)
أو لطائفة السارق منهم كما جاز أن يقر له به سرا فإذا كانت هذه شبهة موهومة لا تعتبر فكذلك تلك وان اعتبرت تلك بسبب قيام احتمالها في نفس الامر لا على تقدير حضورة المنتفي في الحال فهذه كذلك لان احتمال كون المالك كان اذن له او انه مقر له به قائم في الحال وقوله في ظاهر الرواية احتراز عما روي ابن سماعة عن محمد انه قال ليس للمالك ان يقطعه حال غيبة المستودع قوله وان قطع سارق بسرقة فسرقت منه لم يكن له ولا لرب المال ان يقطع السارق الثاني وبه قال احمد والشافعي في قول وقال مالك والشافعي في قول يقطع بخصومة المالك لانه سرق نصابا من حرز لا شبهة فيه فيقطع بخصومة مالكه سواء قطع السارق الاول أو لا ولنا ان المال لما لم يجب على السارق ضمانه كان ساقط التقوم في حقه وكذا في حق المالك لعدم وجوب الضمان له فيد السارق الاول ليست يد ضمان ولا يد أمانة ولا يد ملك فكان المسروق مالا غير معصوم فلا قطع فيه وروي في نوادر هشام عن محمد ان قطعت الاول لم اقطع الثاني وان درأت القطع عن الاول لشبهة قطعت الثاني ومثله في الاملاء لابي يوسف واطلق الكرخى والطحاوي عدم قطع السارق من السارق وهو قول احمد لان يده ليست يد أمانة ولا يد ملك فكان ضائعا ولا قطع في أخذ مال ضائع قلنا تبقى ان يكون يد غصب والسارق منه يقطع فالحق التفصيل المذكور وللاول ولاية الخصومة في الاسترداد في رواية لحاجته إذ الرد واجب عليه
____________________
(5/404)
وفي رواية اخرى ليس له ذلك لان يده ليست يد ضمان ولا أمانه ولا ملك والرد منه ليس بأولى منه الى المالك والوجه انه اذا ظهر هذا الحال عند القاضي لا يرده الى الاول ولا الى الثاني اذا رده لظهور خيانة كل منهما بل يرده من يد الثاني الى المالك ان كان حاضرا والا حفظه كما يحفظ أموال الغيب ولو سرق الثاني قبل ان يقطع الاول او بعد ما درىء عنه القطع بشبهة يقطع بخصومة الاول لان سقوط التقوم ضرورة القطع ولم يوجد فصار بدء كيد الغاصب قوله ومن سرق سرقة فردها الى المالك قبل الارتفاع الى الحاكم لم يقطع وعن ابي يوسف انه يقطع اعتبار بما اذا ردها بعد المرافعة وجه الظاهر ان الخصومة شرط لظهور السرقة التي هي الموجب للقطع فكانت شرطا في القطع والخصومة لا تتحقق بعد الرد لانها أعني الخصومة الموجبة لا تتم الا بإقامة البينة وهي انما جعلت حجة لقطع المنازعة وقد انقطعت المنازعة بالرد بخلاف ما بعد المرافعة أي بخلاف ما لو ردها بعد المرافعة وسماع البينة والقضاء فإنه يقطع وكذا بعد سماعها قبل القضاء استحسانا لظهور السرقة عند القاضي بالشهادة بعد خصومة معتبرة واذا رد المال للخصومة حصل مقصودها وبحصول المقصود من الشيء ينتهي وبالانتهاء يتقرر في نفسه فكانت الخصومة قائمة لقيام يده على المال فيقطع بعد رده ولا فرق في عدم القطع بين ان يرد قبل الخصومة الى يد المالك او يد ابية او امة او جده او جدته وان لم يكونوا في عياله ولا يبرأ المستعير والمودع بالرد اليهم لان لهم شبهة ملك في ماله فالرد اليهم رد اليه حكما وذلك كاف في الرد اليه بخلاف مالو رد الى ابنه وذوي رحمة المحرمة كأخيه وعمه وخاله إن كانوا في عياله يبرأ فلا يقطع كما لو رده الى زوجته او عبده او مكاتبه او اجيره مشاهرة وهو الذي يسمى غلامة او مسانهة يبرأ في هؤلاء كلهم فلا يقطع ولو سرق من المكاتب ورده الى سيده او من العيال ورده الى من يعولهم أي سرق من شخص ورده الى من يعول المسروق منه يبرأ ولا يقطع ويبرأ المستعير والمودع برد الوديعة الى من يعود المودع واما الغاصب فلا يبرأ بالرد الى الأب والام ولا الى ولده وأقاربه
____________________
(5/405)
المحرمة الذين في عياله ولا الى الزوجة ومن ذكرنا معها قوله وإذا قضى على رجل بالقطع في سرقة فوهبها له المالك وسلمها اليه او باعها منه لايقطع وقال زفر والشافعي وأحمد ومالك يقطع وهو رواية عن أبي يوسف لان السرقة قد تمت انعقادا بفعلها بلا شبهة وظهورا عند الحاكم وقضى عليه بالقطع ولا وشبهة في السرقة الا لو صح اعتبار عارض الملك المتأخر متقدما ليثبت اعتباره وقت السرقه ولا موجب لذلك فلا يصح فلا شبهة فيقطع ومما ينفي صحة ذلك الاعتبار ما في حديث صفوان أنه قال يا رسول الله لم أرد هذا ردائي عليه صدقة فقال عليه صدقة فقال عليه الصلاة والسلام فهلا قبل أن تأتيني به رواه أبو داود وابن ماجه زاد النسائي في روايته فقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا بخلاف مالو أقر له بالسرقة بعد القضاء فإنه لايقطع لان بالإقرار يظهر الملك السابق فينتفي القطع قوله ولنا ان الامضاء يعني استيفاء الحد بالفعل من القضاء في باب الحدود فما قبل الاستيفاء كما قبل القضاء ولو ملكه قبل القضاء لا يقطع فكذا قبل الاستيفاء والشأن في بيان أن الاستيفاء من القضاء أو هو القضاء في هذا الباب وقد بيناه في حد الزنا الا ان المصنف لما كان هذا هنا من مقدمات دليله ولم يبينه هو من قبل بقوله لوقوع الاستغناء عنه اي عن القضاء بالاستيفاء حتى لو لم يقض بعد تعديل البينة باللفظ بل أمر بالاستيفاء او استوفى هو الحد بنفسه سقط عنه القضاء وهذا لان المقصود من القضاء باللفظ ليس الا إظهار الحق للمستحق والمستحق هنا هو الله عز وجل والحق ظاهر عنده غير مفتقر الى الاظهار فلا حاجة
____________________
(5/406)
الى القضاء لفظا بل ولا يفيده سقوط الواجب عنه إلا بالاستيفاء وإذا كان كذلك والخصومة شرط يشترط قيامها عند الاستيفاء كما عند القضاء وهي منتفيه بالهبة بخلاف رده المال المسروق بعد القضاء بالقطع لانه به تنتهي الخصومة والشيء بانهائه يتقرر فتكون الخصومة بعده متقررة فيقطع وأما الحديث ففي رواية كما ذكر وفي رواية الحاكم في المستدرك قال أنا أبيعه وأنسئه ثمنه وسكت عليه وفي كثير من الروايات لم يذكر ذلك بل قوله ما كنت أريد هذا وقوله ايقطع رجل من العرب في ثلاثين درهما ولم يثبت أنه سلمه اليه في الهبة ثم الواقعة واحدة فكان في هذه الزيادة اضطراب والاضطراب موجب للضعف ويحتمل كون قوله هو صدقة عليه كان بعد الدفع اليه وفي ذلك لا يكون ملكا له قبل القبض قوله وكذلك إذا نقصت قيمتها أي قيمة السرقة أي العين المسروقة بعد القضاء قبل الاستيفاء عن العشرة لا يقطع في ظاهر المذهب وعن محمد يقطع وهو قول زفر وباقي الائمة الثلاثة اعتبارا بالنقصان في العين فإنه إذا كانت ذات العين ناقصة وقت الاستيفاء والباقي منها لا يساوي عشرة يقطع بالاتفاق فكذا إذا كانت قيمتها وقت الاستيفاء كذلك ولنا أن كمال النصاب لما كان شرطا يشترط كماله عند الامضاء لما ذكرنا أنه من القضاء وهو منتف في نقصان القيمة بخلاف نقصان
____________________
(5/407)
العين لان ما استهلكه مضمون عليه فكان الثابت عند القطع نصابا كاملا بعضه دين وبعضه عين بخلاف نقصان السعر فإنه لايضمنه أنه يكون لفتور الرغبات وذا لا يكون مضمونا على أحد فلم تكن العين قائمة حقيقة ومعنى فلم يقطع كذا في النهاية وصار كما لو كان السارق استهلكه كله فإنه يقطع به لقيامة إذ ذاك ثم يسقط ضمانه قوله وإذا ادعى السارق أن العين المسروقه ملكه سقط القطع عنه وإن لم يقم بينه قال المصنف معناه بعد ما شهد عليه الشاهدان بالسرقة وإنما فسر به ليخرج ما إذا أقر بالسرقة ثم رجع فقال لم أسرق بل هو ملكي فإنه لا يقطع الاجماع ولكن يلزمه المال وقال الشافعي لا يسقط بمجرد دعواه وهو أحد الوجهين كذا ذكره بعض أصحابه وهو رواية عن أحمد لأن سقوط القطع بمجرد دعواه يؤدي الى سد باب الحد إذ لا يعجز سارق عن هذا ونقل عنه أنه لا يقطع قيل هو نص الشافعي وعن أحمد رواية أنه إن كان معروفا بالسرقة قطع لأنه يعلم كذبه بدلالة الحال قال ابن قدامة وأولى الروايات أنه لا يقطع بكل حال لأن الحد يدرأ بالشهات وهي احتمال صدقه قال المصنف ولا معتبر بما قال من أنه يفضي الى سد باب الحد بديل صحة الرجوع بعد الاقرار اجماعا والسارق لا يعجز عن ذلك مع انه يعتبر رجوعه شبهة دارئه إذا رجع على أنه ممنوع فإن من يعلم هذا من السراق أقل من القليل كالفقهاء وهم لا يسرقون غالبا قوله وإذا أقر رجلان بسرقة ثم قال أحدهما هو مالي لم يقطعا لان الرجوع عام في حق الراجع منهما ويورث الشبه في حق الآخر لان السرقة ثبتت بإقرارهما
____________________
(5/408)
على الشركه فتتحد فتعمل الشبهة فيهما قوله فإن سرقا ثم غاب أحدهما وشهد الشاهدان على سرقتهما قطع الآخر الحاضر منهما في قول ابي حنيفة الآخر وهو قولهما وقول الائمة الثلاثة وكان يقول اولا لايقطع لانه ان حضر الغائب ربما يدعى شبهة والسرقة واحدة فتعمل في حقهما وجه قوله الآخر أن الغيبة تمنع ثبوت السرقة على الغائب فيبقى معدوما فإنما عملت الشهادة في حق الحاضر فقط ولا معتبر بتوهم حدوث شبهة على مامر في خلافية زفر في القطع بخصومة الغاصب والمودع ثم لو حضر الغائب لا يقطع الا ان تعاد تلك البينة عليه أو تثبت ببينة أخرى وكذا إذا أقر بسرقة مع فلان الغائب لا يقطع في قوله الاول ويقطع في قوله الآخر وهو قول باقي الائمة قوله وإذا أقر العبد المحجور عليه بسرقة عشرة دراهم بعينها حاصل وجوه هذه المسئلة أربعة لأن العبد المقر بالسرقة إما مأذون له أو محجور عليه وفي كل منهما إما أن يقر بسرقة مستهلكه أو قائمة فالمأذون له إذا أقر بسرقة هالكة يقطع عند الثلاثة ولا ضمان مع القطع وقال زفر لا يقطع ولكن يضمن المال وإن أقر بسرقة قائمة قطع عند
____________________
(5/409)
الثلاثة وهذا قول المصنف ولو كان مأذونا قطع في الوجهين ويرد المال للمقر له سواء صدقة المولى أو كذبه وقال زفر لايقطع ولكن يرد المال وإن كان العبد محجورا فإن اقر بسرقة هالكة قطعت يده عند الثلاثة وقال زفر لا يقطع وإن أقر بسرقة قائمة فقال لا يقطع فظهر أن قول زفر لا يقطع في شيء وهو ما ذكره المصنف بقوله وقال زفر لا يقطع في الوجوه كلها أي فيما إذا كان العقد محجورا والاقرار بهالكة أو قائمة أو مأذونا والإقرار بهالكة أو قائمة واختلف علماؤنا الثلاثه في هذا أعني إقرار المحجور بقائمة في يده فقال أبو حنيفة يقطع وترد لمن أقر له بسرقتها منه وقال أبو يوسف يقطع والسرقه لمولاه وقال محمد لا يقطع والسرقه لمولاه ويضمن مثله أو قيمته بعد العتاق للمقر له وقال الطحاوي سمعت أستاذي ابن أبي عمران يقول الاقوال الثلاثة كلها عن أبي حنيفه فقوله الاولى أخذ به محمد ثم رجع وقال كما قال أبو يوسف ثم رجع الى القول الثالث واستقر عليه فهو نظير مسئلة الحملان في الزكاة ومعنى المسئلة إذا كذبه المولى في إقراره وقال المال مالي أما إذا صدقه فلا إشكال في القطع ورد المال للمقر له به اتفاقا هذا كله إذا كان العبد كثيرا وقت الاقرار فإن كان صغيرا فلا قطع عليه أصلا وهو ظاهر غير أنه إن كان مأذونا يرد المال الى المسروق منه إن كان قائما وإن كان هالكا يضمن وإن كان محجورا فإن صدقة المولى يرد المال الى المسروق منه إن كان قائما ولا ضمان عليه إن كان هالكا ولا بعد العتق وقدم المصنف الكلام مع زفر فقال ان الاصل عنده أن إقرار العبد على نفسه بالحدود والقصاص لا يصح لان اقراره بها يرد اثره على نفسه أو طرفه بالاتلاف وكل ذلك مال المولى فالاقرار به إقرار على مال الغير والاقرار على الغير غير مقبول الا ان المأذون له لما تضمن إقراره الإقرار بالمال والطرف وبطل في الطرف يؤاخذ بالمال بضمانه ان كان هالكا ويرده ان كان قائما لصحة إقراره بالمال لكونه مسلطا على الاقرار به من جهة المولى حيث أذن له في المعاملات ونحن نقول الاقرار بها منه صحيح لان أثر الاقرار بها يرجع اليه من حيث هو آدمي لا من حيث هو مال وما كان كذلك كان داخلا تحت ملكه الا
____________________
(5/410)
يرى أن المولى لا يملكه عليه وما لايملكه المولى عليه كان مبقى فيه على أصل الادمية فيملكه هو كالطلاق ولانه لا تهمة في هذا الاقرار ليبطل في حق السيد لان ضرره الراجع اليه به فوق ضرر الراجع به الى المولى لانه يفوت عليه نفسه او طرفه وما كان كذلك ينفذ على الغير كما إذا شهد العبد العدل برؤية هلال رمضان وبالسماء علة فإنه يقبل حتى يلزم جميع الناس صومه لان مالزمهم من ذلك فرع لزمه مثله فنفذ في حقهم تبعا لنفاذه عليه وكذا لو اقر المفلس بعمد القتل يقتل إجماعا وإن كان فيه إبطال ديون الناس و لمحمد في المحجور عليه ان اقراره بالمال باطل ولذا لا يصح اقراره بالغصب فيبقى ما في يده مال المولى اذ الفرض تكذيب المولى له في اقراره فقد اقر بسرقة مال المولى وبسرقة مال المولى لايقطع وبهذا القدر يتم الوجه وقوله بعده يؤيده الخ زيادة توكيد أي يؤكد ما ذكرنا من عدم القطع أن المال في لزوم القطع أصل والقطع تابع والتابع من حيث هو لا يتحقق دون متبوعه فحيث لم يجب المال للغير لا يجب القطع وبيان أن المال أصل أن الخصومة تسمع في السرقة في حق المال حتى لو قال أريد المال فقط سمعت ولا يسقط القطع ولذا يثبت المال في دعوى السرقة بلا قطع فيما لو ادعاها وأقام رجلا وأمرأتين شهدوا بها فإنه يقضي بالمال دون القطع وكذا إذا أقر بالسرقة ثم رجع يلزمة المال ولا قطع وفي عكسه لاتسمع حتى لو قال المسروق منه أريد القطع دون المال لا تسمع خصومته فإنما يصح في حق القطع تبعا للمال وقد انتفى المال بما قلنا فانتفى القطع ولأبي يوسف أنه اقر بشيئين أي أقر بما
____________________
(5/411)
يوجب شيئين القطع وهو إقرار على نفسه فيقطع على ما ذكرنا مع زفر من وجه صحة إقراره بالحدود والقصاص والمال وهو إقرار على المولى وهو يكذبه فلا يصح في حق المولى والقطع يستحق بدون المال كما إذا أقر بسرقة مستهلكة فإنه يقطع ولا يلزمه المال و كما لو قال حر هذا الثوب الذي في يد زيد سرقته من عمرو وزيد يقول هو ثوبي يقطع ولا ينزع الثوب من زيد الى عمرو فيقطع والمال للمولى ولأبي حنيفه أن الإقرار في حق القطع قد صح منه لما بينا في الكلام مع زفر من أنه آدمي إلى آخره ويلزمه صحته بالمال أنه لغير المولى لاستحاله أن يجب القطع شرعا بمال مسروق للمولى والحاصل أنه إذا صح الإقرار بالحد ثبت حكمه هو القطع وهو ملزوم بحكم الشرع بكون المال للمقر له إذ لا قطع بمال السيد وإلى هنا يتم الوجه وقوله لأن الإقرار يلاقي حالة البقاء والمال في حالة البقاء تابع للقطع حتى تسقط عصمة المال باعتباره ويستوفى القطع بعد استهلاكه زيادة لا تظهر الحاجه اليها وقوله بخلاف مسئلة الحر يريد إلزام أبي يوسف بما إذا قال حر الثوب الذي في يد زيد سرقته من عمرو ويقطع به ولا يدفع لعمرو فكذا جاز أن يقطع بما أقر به من مال الأجنبي ولا يدفع إليه فقال فرق بينهما فإن القطع في المسئلة المذكوره محمول على صحة أقراره به لعمرو وأنه وديعة عند زيد أو غصب
____________________
(5/412)
وادعاء زيد أن الثوب له جاز كونه إنكار للوديعة غير أن المقر ليس خصما له في ذلك والقطع بسرقة ثوب مودع أو مغصوب ثابت بخلاف ما نحن فيه فإنا لو اعتبرنا الثوب وديعة للمولى أو مغصوبا عند المقر له لم يخرج عن كونه سرقة مال المولى وبه لا يقطع قوله وإذا قطع السارق والعين قائمة في يده ردت على صاحبها لبقائها على ملكه وإن كانت مستهلكه لم يضمن وهذا الإطلاق يشمل الهلاك والاستهلاك لأنه لما لم يضمن بالآستهلاك وله فيه جنايه ثانية فلأن لا يضمن بالهلاك ولا جناية أخرى له فيه أولى وهو روايه أبي يوسف عن أبي حنيفه وهو المشهور وبه قال سفيان الثوري وعطاء والشعبي ومكحول وابن شبرمه وابن سيرين وروي الحسن عنه أنه يضمن في الاستهلاك وقال الشافعى يضمن فيهما اى في الهلاك والاستهلاك وهو قول احمد والحسن والنخعى والليث والبتى وإسحاق وحماد وقال مالك إن كان السارق موسرا ضمن وإن كان معسرا لا ضمان عليه نظرا للجانبين ولا خلاف إن كان باقيا أنه يرد على المالك وكذا لو باعه أو وهبه يؤخذ من المشتري والموهوب له وهذاكله بعد القطع ولو قال المالك قبله أنا أضمنه لم يقطع عندنا فإنه يتضمن رجوعه عن دعوى السرقة إلى دعوى المال وجه قولهم عموم قوله تعالى { فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وعلى اليد ما أخذت حتى ترد ولأنه أتلف مالا مملوكا عدوانا فيضمنه قياسا على الغضب والمانع إنما هو منافاة بين حقي الطقع والضمان ولا منافاة لأنهما حقان بسببين مختلفين أحدهما حق الله وهو النهي عن هذه الجناية الخاصة والآخر حق الضرر فيقطع حقا لله ويضمن حقا للعبد وصار كاستهلاك صيد مملوك في الحرم يجب الجزاء حقا لله تعالى ويضمنه حقا للعبد وكشرب خمر الذمي على قولكم فإنكم تحدونه حقا لله وتغرمونه قيمتها جقا للذمي فهذا إلزامي فأنهم لا يضمنونه الخمر باستهلاكها ولنا قوله صلى الله عليه وسلم فيما روي النسائي عن حسان بن عبد الله عن المفضل بن فضاله عن يونس بن يزيد قال سمعت سعد بن إبراهيم يحدث عن أخيه المسور بن ابراهيم عن عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلى الله
____________________
(5/413)
عليه وسلم أنه قال لا يغرم صاحب سرقة إذا أقيم عليه الحد ولفظ الدار قطني لا غرم على السارق بعد قطع يمينه وضعف بأن المسور بن إبراهيم لم يلق عبد الرحمن بن عوف وهو جده فإنه مسور بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وسعد بن إبراهيم مجهول وفيه انقطاع آخر فإن إسحاق بن الفرات رواه عن المفضل فأدخل بين يونس ابن يزيد وسعد بن إبراهيم الزهري وقال ابن المنذر سعد بن إبرهيم هذا مجهول وقيل إنه الزهري قاضي المدينة وهو أحد الثقات الأثبات وعندنا الإرسال غير قادح بعد ثقة الراوي وأمانته وذلك الساقط إن كان قد ظهر أنه الزهري فقد عرف وبطل القدح به وما قال ابن قدامه إنه يحمل على غرم السارق أجره القاطع مدفوع بروايه البزار لا يضمن السارق سرقته بعد إقامته الحد ولم يزد على قول المسور بن إبراهيم لم يلق عبد الرحمن ولأن وجوب الضمان ينافي القطع لأنه يتملكه بعد أداء الضمان مستندا إلى وقت الأخذ فيتبين أنه أخذ ملكه ولا قطع في ملكة لكن القطع ثابت قطعا فما يؤدى إلى انتفائه فهو المنتفي والمؤدي إليه الضمان فينتفى الضمان ولأن المسروق لا يبقى مع القطع معصوما حق للعبد إذا لو بقي كان محبا في نفسه وإنما حرم لمصلحة العبد فكان حراما من وجهة دون وجه فكان شبهة في السرقه إذ الشبهة ليست إلا كون الحرمه ثابته من وجه دون وجه فيندرئ الحد لكن الحد وهو القطع ثابت إجماعا فكان محرما حق للشرع فقط كالميته ولا ضمان فيما هو خالص حق الله ولا يقال جاز كون الشئ محرما لغيره ونفسه كالزنا في نهار رمضان فلا يلزم أن يكون مباحا في نفسه لأنا نقول ما فرض فيه الكلام وهو المال المسروق لايكون قط محرما إلا لغيره ووقت استخلاصه الحرمه لنفسه تعالى قبيل فعل السرقة القبليه التي علم تعالى أنها تتصل بها السرقة وإنما يتبين لنا ذلك بتحقق القطع فإذا قطع علمنا أنه استخلص الحرمه حقا له تعالى في ذلك المال كما نعلم أن الأب ملكه الله تعالى جاريه ابنه من غير تمليك من الابن له بظهور دعواه ولدها لأنا علمنا أنه شرع ثبوت النسب منه بدعواه فعلمنا حكمه تعالى بنقل الملك فيها إليه قبل الوطء القبليه التي علم
____________________
(5/414)
تعالى اتصال الوطء بها وكذا في أعتق عبدك عني بألف فهو من الاستدلال بمعاينة المشروط على سبق الشرط فإن قلت فما وجه روايه الحسن في الضمان بالاستهلاك مع فرض أن العصمة انتقلت إلى الله تعالى وصار المسروق كحرمة الميته فينبغي أن لا يفترق الحال فأجاب المصنف عنه بقوله إلا أن العصمة لا يظهر سقوطها في حق الاستهلاك لأنه فعل آخر غير السرقة ولا ضرورة في حق فعل آخر إنما الضرورة في نفي شبهة الإباحه عن فعل السرقة ضرورة وجوب القطع وكذا الشبهة أي شبهة الإباحه إنما تعتير فيما هو السبب وهو السرقة دون غيره وهو الاستهلاك ووجه المشهور أن الاستهلاك وأن كان فعلا آخر إلا أنه إتمام المقصود بالسرقة وهو الانتفاع بالمسروق فكان معدودا منها فتعتبر الشبهة فيه كما اعتبرت في السرقة وكذا يظهر سقوط العصمة في حق الضمان في فصل الاستهلاك لانتفاء المماثله بين المال المسروق والضمان لأن المسروق معصوم حقا للعبد في الحالة الاستهلاك فقط والضمان مال معصوم حقا له في حالتي الهلاك والاستهلاك فإذا انتفت المماثلة انتفى الضمان لأن ضمان العدوان مشروط بالمماثله بالنص بخلاف شرب خمر الذمي لأنه أتلف مالا متقوما لغيره فيضمنه وفيه جنايه على عقله وجعل الله تعالى فيه الحد فيحد بذلك فكانا حرمتين ومثله صيد الحرام المملوك وفي المبسوط روى هشام عن محمد أنه إنما يسقط الضمان عن السارق قضاء لتعذر الحكم بالمماثله فأما ديانة فيفتي بالضمان
____________________
(5/415)
للحوق الخسران والنقصان للمالك من جهة السارق وفي الإيضاح قال أبو حنيفه لا يحل للسارق الانتفاع به بوجه من الوجوه لأن الثوب على ملك المسروق منه وكذا لو خاطه قميصا لا يحل له الانتفاع به لأنه ملكه بوجه محظور وقد تعذر إيجاب القضاء به فلا يحل له الانتفاع كمن دخل دار الحرب بأمان وأخذ شيئا من أموالهم لم يلزمه الرد قضاء ويلزمه ديانة وكالباغي إذا أتلف مال العادل ثم تاب لم يحكم عليه بالضمان وتعذر أيجاب الضمان بعارض ظهر أثره في حق الحكم وأما ديانة فيعتبر قضيه السبب قوله ومن سرق سرقات فقطع في إحداها بخصومة صاحبها وحده فهو أي ذلك القطع لجميعها ولا يضمن شيئا لأرباب تلك السرقات عند أبي حنيفه وقالا يضمن كلها إلا السرقة التي قطع فيها فإن حضروا جميعا وقطعت يده بخصومتهم لا يضمن شيئا من السرقات بالاتفاق لهما أن الحاضر ليس نائبا عن الغائب ولا بد من الخصومة لتظهر السرقة ولا خصومه من الغائب فلم تظهر الخصومه منهم فلم يظهر القطع بسرقاتهم فبقيت اموالهم معصومه وله أن الواجب بالكل قطع واحد حقا لله تعالى لان مبنى الحدود على التداخل والخصومه شرط للظهور عند الحاكم فإذا كان الحكم الشرعي
____________________
(5/416)
الثابت في نفس الامر هو التداخل ومعناه وقوع الحد الواحد عن كل الآسباب السابقه وقد وجد لزم وقوعه عنها وهو ملزوم لسقوط ضمانها كلها في نفس الامر علم القاضي بها أو لم يعلم ولا أثر لعدم علمه بها في نفي الحكم الثابت شرعا عند القطع وهو وقوعه عن كل الاسباب وهو يستلزم سقوط ضمانها فكان سقوط الضمان ثابتا وهو المطلوب & باب ما يحدث السارق في السرقه
قوله ومن سرق ثوبا فشقه في الدار قبل أن يخرجه من الحرز نصفين ثم أخرجه وهو يساوي عشرة بعد الشق قطع وعن أبي يوسف أنه لا يقطع وإن كان لايساوي عشرة بعده لم يقطع بالاتفاق وإن شقه بعد الإخراج قطع بألاتفاق وهو ظاهر واختلفت العبارات في إفادة قول أبي يوسف في بعضها ما يفيد أنه روايه عنه وأن الظاهر من قوله كقولهما وهي كلام الهدايه وفخر الإسلام البزدوي والصدر الشهيد والعتابي حيث قالوا وعن ابي يوسف وكذا قول الاسبيحابي ذكر الطحاوي قول أبي يوسف مع محمد وقول محمد مع ابي حنيفه في الظاهر
____________________
(5/417)
وشمس الأئمه البيهقي زاد فقال في كفايته وعن ابي يوسف وهو رواية عن أبي حنيفه وفي بعضها ما يفيد أنه الظاهر من قول كقول صاحب الأسرار وقال أبو يوسف لا يقطع وكذا قال الحاكم الشهيد في الكافي وقال أبو يوسف كل شئ يجب عليه قيمته إن شاء ذلك رب المتاع فلا قطع عليه وجه قوله إن السرقة ما تمت إلا وقد أنعقد للسارق فيها سبب الملك إذ بالخرق الفاحش يثبت للمالك ولاية تضمين السارق قيمة الثوب وتركه له وإن كره ذلك وما انعقد للسارق فيه سبب الملك لا يقطع به كما لو سرق المشتري المبيع الذي فيه خيار البائع ثم اسقط البائع الخيار فإنه لا يقطع لذلك وهو أن السرقه تمت على عين غير مملوك ولكن فيه سبب الملك للسارق ولهما أن الآخذ وقع سببا للضمان ولا يخفى أن المناسب أن يقول إن الشق وقع سببا للضمان لا للملك وثبوت ولاية الغير ان يملك ليس سببا للملك بل السبب إنما يثبت عند أختيار التضمين وإنما تكون تلك الولاية موجبه للسببية إذا كان التصرف موضوعا للتمليك كالبيع فيما قسمت عليه لا فيما وضع سببا للضمان فالفرق بين صورة الشق وصورة البيع كون نفس التصرف وضع للتمليك بخلاف الشق ولما كان الكلام ليس في الأخذ بل في الشق تكلف في تقريره بأن قيل الأخذ سبب للضمان لأنه عدوان محض لا للملك فكان كالشق عدوانا فكما لا تعتبر في الاخذ شبهة الملك دارئه للقطع بل يقطع إجماعا كذلك الشق وإنما يصير الشق سببا للضمان إذا اختار المالك التضمين فيثبت ضرورة أداء الضمان أو القضاء به ومثله لا يورث شبهة وإلا لثبت مثلها في نفس الأخذ لأنه أيضا يحتمل أن يصير سببا للملك بأداء الضمان كالشق فصار نظير ما إذا سرق البائع معيبا باعه ولم يعلم المشتري العيب فأنه يقطع وأن انعقد سبب الرد بالعيب الذي به يثبت الملك للبائع قوله وهذا الخلاف الحاصل الحاصال أن هذا الخلاف الكائن في القطع هو فيما إذا كان النقصان فاحشا واختار المالك تضمين النقصان وأخذ الثوب يقطع مع ذلك
____________________
(5/418)
عندهما وعند أبي يوسف لا يقطع ولو اختار تضمين القيمة وترك الثوب عليه لايقطع بالاتفاق لانه ملكه مستندا الى وقت الأخذ فصار كما لو ملكه إياه بالهبة بعد القضاء لا يقطع على ما تقدم ولو كان يسيرا يقطع بالاتفاق لانعدام سبب الملك وليس للمالك تضمين كل القيمة فانتفى وجه ابي يوسف في عدم القطع في اليسير وأعلم أن الخرق يكون يسيرا ويكون فاحشا وتارة يكون اتلافا واستهلاكا وفيه يجب ضمان كل القيمة بلا خيار لانه استهلاك وعلى هذا لا يقطع لانه ما تمت السرقه الا بما ملكة بالضمان وقد حده التمرتاشي بأن ينقص أكثر من نصف القيمة وأما الخرق الفاحش فقيل ما يوجب نقصان ربع القيمة فصاعدا فاحش والا فيسير ولا بد ان يكون المعنى فصاعدا مالم ينته الى ما به يصير إتلافا والصحيح ان الفاحش ما يفوت به بعض العين وبعض المنفعة واليسير ما يفوت به شيء من المنفعة ذكره التمرتاشي وأورد في الكافي على القطع مع إيجاب ضمان النقصان في الخرق اليسير ان فيه جمعا بين القطع والضمان وأجاب فقال انما لا يجتمعان كي لايؤدي الى الجمع بين جزاء الفعل وبدل المحل في جناية واحدة وهنا لايؤدي اليه اذ القطع يجب بالسرقة وضمان النقصان بالخرق والخرق ليس من السرقة في شيء واستشكل على هذا الجواب الاستهلاك على ظاهر الرواية فإنه فعل غير السرقه مع انه لايجب به الضمان لان عصمة المسروق تسقط بالقطع فكذا هنا عصمة المسروق تسقط بالقطع فينبغي ان لا يجب ضمان النقصان وعن هذا قال في الفوائد الخبازية وفي الصحيح لا يضمن النقصان كي لا يجتمع القطع مع الضمان ولانه لو ضمن النقصان يملك ما ضمنه فيكون هذا كثوب مشترك بينهما فلا يجب القطع لكنه يجب بالاجماع فلا يضمن النقصان والحق ما ذكر في عامة الكتب الامهات انه يقطع ويضمن النقصان والنقص بالاستهلاك غير وارد لان الاستهلاك هناك بعد السرقة بأن سرق واستهلك المسروق وما نحن فيه ما اذا نقص قبل تمام السرقة فإن وجوب قيمة ما نقص ثابت قبل السرقة ثم اذا اخرجه من الحرز كان المسروق هو الناقص فالقطع حينئذ بذلك المسروق الناقص ولم نضمنه اياه الا يرى الى قول الامام قاضيخان فإن كان الخرق يسيرا يقطع ويضمن النقصان اما القطع فلأنه أخرج نصابا كاملا من الحرز على وجه السرقه وأما ضمان النقصان فلوجود
____________________
(5/419)
سببه وهو التعييب الذي وقع قبل الاخراج الذي به تتم السرقه ووجوب ضمان النقصان لايمنع القطع لان ضمان النقصان وجب باتلاف مافات قبل الاخراج والقطع باخراج الباقي فلا يمنع كما لو اخذ ثوبين وأحرق احدهما في البيت وأخرج الاخر وقيمته نصاب وأما قول الباحث يملك ما ضمنه فيكون كثوب مشترك الى آخره فغلط لان عند السرقه وهو الاخراج ما كان له ملك في المخرج فإن الجزء الذي ملكه بالضمان هو ما كان قبل السرقة وقد هلك قبلها وحين وردت السرقة وردت على ما ليس فيه ذلك الجزء المملوك له قوله وان سرق شاة فذبحها ثم اخرجها لم يقطع ولو ساوت نصابا بعد الذبح لان السرقة تمت على اللحم ولا قطع فيه على ماهر لكنه يضمن قيمتها للمسروق منه قوله ومن سرق ذهبا أو فضة يجب فيه القطع بأن كانت نصابا فصنعه دراهم أو دنانير قطع فيه عند ابي حنيفه وهو قول الائمة الثلاثه ويرد الدراهم والدنانير على المسروق منه وقالا يقطع ولا سبيل للمسروق منه عليهما والخلاف مبني على خلاف آخر في الغصب وهو ما إذا غصب نقرة فضة فضربها دارهم لاينقطع حق المغصوب منه عنده خلافا لهما وكذا لو كانت دراهم فضربها حليا فكذا هنا لاينقطع بالصك حق المسروق منه في السرقه بناء على أنها لم تتبدل فيقطع فالقطع عنده لا يشكل على هذا أما عندهما فقد قيل لا يقطع لانه ملك المسروق بما حدث من الصنعة قبل استيفاء القطع لكن يجب عليه مثل ما أخذ وزنا من الذهب والفضة وقيل يقطع ولا شيء على السارق لانه لم يملك عين المسروق لانه بالصنعة صار شيئا آخر فقد استهلك المسروق ثم قطع فلا شيء عليه وجه قولهما ان هذه الصنعة مبدلة للعين كالصنعة في الحديد والصفر بأن غصب حديدا أو صفرا فجعله سيفا أو آنية وكذا الاسم كان تبرا ذهبا فضه فصار دارهم أو دنانير وله أن هذه الصنعة في الذهب
____________________
(5/420)
والفضة ولو تقومت وبدلت الاسم لم تعتبر موجودة شرعا بدليل أنه لم يتغير بها حكم الربا حتى لايجوز بيع آنية وزنها عشرة فضة بأحد عشر فضة وقلبه فكانت العين كما كانت حكما فيقطع وتؤخذ للمالك على ان الاسم باق وهو اسم الذهب والفضة وانما حدث اسم آخر مع ذلك الاسم قوله ومن سرق ثوبا فصبغة أحمد يقطع به بإجماع العلماء ثم لا يؤخذ منه الثوب عند ابي حنيفة وأبي يوسف ولا يضمنه وقال محمد يؤخذ منه الثوب وهو قول الائمة الثلاثة ويعطي قدر ما زاد الصبغ في الثوب اعتبارا بالغصب فإن غاصب الثوب اذا صبغه احمر لا ينقطع به حق المالك في الاسترداد اتفاقا فكذا في السرقة والجامع كون الثوب اصلا والصبغ تابعا ولهما ان الصبغ قائم صورة وهو ظاهر وقوله ومعنى أي من حيث القيمة حتى لو اراد المسروق منه ان يأخذ الثوب يضمن له قيمة الصبغ وحق المالك قائم صورة لامعنى فإنه لو هلك أو استهلك عند السارق لا يضمن فكان حق السارق أحق بالترجيح كالموهوب له إذا فعله ينقطع حق الواهب في الرجوع بذلك بخلاف الغصب لان حق كل من المغصوب منه والغاصب الذي صبغه قائم صورة ومعنى لانتفاء ما يخل بالمعنى في حق الغاصب وهو القطع فاستويا فرجحنا المالك بما ذكرنا من أن الصبغ تابع قوله وان صبغه اي السارق أسود ثم قطع أو قطع
____________________
(5/421)
فصبغة أسود يؤخذ منه عند ابي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف هذا والاول سواء فلا يؤخذ منه لأن السواد زيادة كالحمرة وهي مانعة من الاسترداد من السارق وعند محمد هو زيادة لكن الزيادة غير مانعة كما قال في الحمرة وعند أبي حنيفة السواد نقصان فلا يوجب انقطاع حق المالك في الاسترداد قالوا وهذا اختلاف عصر وزمان لاحجة وبرهان فإن الناس كانوا لايلبسون السواد في زمنه ويلبسونه في زمنهما وفي شرح الطحاوي لو سرق سويقا فلته بسمن أو عسل فهو مثل الاختلاف في الصبغ اي الاحمر ليس للمالك على السارق سبيل في السويق وعند محمد يأخذه ويعطي ما زاد السمن والعسل & باب قطع الطريق
أخره عن السرقة وأحكامها لانه ليس بسرقة مطلقه ولذا لا يتبادر هو أو ما يدخل هو فيه من اطلاق لفظ السرقه بل انما يتبادر الاخذ خفية عن الناس ولكن اطلق على قطع الطريق اسم السرقة مجاز الضرب من الاخفاء وهو الاخفاء عن الامام ومن نصبه الامام لحفظ الطريق من الكشاف وأرباب الادراك فكان السرقة فيه مجازا ولذا لا تطلق السرقة عليه الا مقيدة فيقال السرقة الكبرى ولو قيل السرقة فقط لم يفهم اصلا ولزوم التقييد من علامات المجاز قوله وإذا خرج جماعة ممتنعين بقوتهم عمن يقصد مقاتلتهم او واحد له منعة بقوته ونجدته يعني شوكته يقصدون قطع الطريق اي أخذ المارة فأحوالهم بالنسبة الى الجزاء الشرعي أربعة وبالنسبة الى ما هو أعم منه
____________________
(5/422)
خمسة أما بالنسبة الى الجزاء فإما أن يؤخذوا قبل أن يأخذوا مالا ويقتلوا نفسا بل لم يوجد منهم سوى مجرد اخافة الطريق الى ان اخذوا فحكمهم ان يعزروا ويحبسوا الى ان تظهر توبتهم في الحبس او يموتوا وأما إن أخذوا مال مسلم أو ذمي والمأخوذ إذا قسم على جماعتهم أصاب كل واحد عشرة دراهم فصاعدا وما يبلغ قيمته ذلك فيقطع الإمام يد كل منهم اليمنى ورجله اليسرى وأما ان قتلوا مسلما او ذميا ولم يأخذوا مالا فيقتلهم الامام حدا ومعنى حدا أنه لو عفا أولياء المقتولين لا يقبل عفوهم لان الحد خالص حق الله تعالى لايسمع فيه عفو غيره فمتى عفا عنهم عصى الله تعالى والرابعة أن يأخذوا المال ويقتلوا وستأتي ان شاء الله تعالى وفي فتاوى قاضيخان وان قتل ولم يأخذ المال يقتل قصاص وهذا يخالف ما ذكرنا الا ان يكون معناه اذا امكنه اخذ المال فلم يأخذ شيئا ومال الى القتل فإنا سنذكر في نظيرها انه يقتل قصاصا خلافا لعيسى بن ابان وفيها أيضا ان خرج على القافلة في الطريق واخاف الناس ولم يأخذ المال ولم يقتل يعزر ويخلى سبيله وهو خلاف المعروف من انه يحبس امتثالا للنفي المذكور في الاية وأما بالنسبة الى ما هو أعم فالاربعة المذكورة والخامسة وأن يؤخذوا بعد ما أحدثوا توبة وتأتي ايضا في الكتاب والتقييد بمسلم أو ذمي في صدر المسئلة ليخرج المستأمن فلو قطعوا الطريق على مستأمن لم يلزمهم شيء مما ذكرنا الا التعزير والحبس باعتبار اخافة الطريق واخفار ذمة المسلمين لان ماله غير معصوم على التأييد وباقي الشروط من كون ذلك في برية لا في مصر ولا قرية ولا بين قريتين وغير ذلك مما يقمة الشارحون يأتي ذلك كله في الكتاب مفصلا والاصل فيه اي في توزيع الجزيه كما ذكرنا على الجنايات المذكوره قوله تعالى { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا } الاية سمى قاطع الطريق محار بالله لان المسافر معتمد على الله تعالى فالذي يزيل أمنه محارب لمن اعتمد عليه في تحصيل الامن وأما محاربته لرسوله فإما باعتبار عصيان امره واما باعتبار ان الرسول هو الحافظ لطريق المسلمين والخلفاء والملوك بعده نوابه فإذا قطع الطريق التي تولى حفظها بنفسه ونائبه فقد حاربه أو هو على حذف مضاف أي يحاربون عباد الله وهو أحسن من تقدير أولياء الله لان هذا الحكم يثبت بالقطع على الكافر الذمي والمراد من الاية التوزيع اي توزيع الاجزية المذكورة على انواع قطع الطريق وبه قال الشافعي والليث واسحق وقتادة وأصحاب احمد وقال عطاء وسعيد بن المسيب ومجاهد والحسن والضحاك والنخعي وأبو ثور وداود الامام مخير فيه على ما هو ظاهر النص مطلقا وقال مالك اذا رأى الامام القاطع جلد إذا رأى قتله وإن كان جلدا
____________________
(5/423)
لارأى له قطعة ولنا ما روي محمد عن أبي يوسف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم ابا بردة هلال بن عويمر الآسلمي فجاء اناس يريدن الإسلام فقطع عليهم اصحاب أبي بردة االطريق فنزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحد أن من قتل واخذ المال صلب ومن قتل ولم يأخذ قتل ومن اخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ومن جاء مسلما هدم الإسلام ما كان منه في الشرك وفي روايه عطية عن ابن عباس ومن أخاف الطريق ولم يقتل ولم يأخذ المال نفي وبالنظر إلى المعنى وهو أن من المقطوع به أن ما ذكر من القتل والصلب والقطع والنفي كلها أجزية على جناية القطع ومن المقطوع به أن هذه الجنايه تتفاوت خفة وغلظا والعمل بالإطلاق المخص للاية يقتضي أن يجوز يرتب على إغلظها أخف الأجزية المذكورة وعلى أخفها أغلظ الأجزية وهذا مما يدفعه قواعد الشرع والعقل فوجب القول بتوزيع الأغلط للأغلظ والأخف للأخف ولأن في هذا التوزيع موافقة لأصل الشرع حيث يجب القتل بالقتل والقطع بالأخذ إلا أن هذا الأخذ لما كان أغلظ من أخذ السرقه حيث كان مجاهرة ومكابره مع إشهار السلاح جعل المرة منه كالمرتين فقطع في الأخذ مرة اليد والرجل معا من غير اشتراط كون النصاب فيه عشرين لأن الغلظ في هذه الجنايه من جهة الفعل لا متعلقه ولموافقة قاعدة الشرع شرط في قطعهم كون ما يصيب كل واحد منهم نصابا كاملا كي لا يستباح طرفه بأقل من النصاب فيخالف قاعدة الشرع ولم يشرط مالك سوى أن يكون الماخوذ نصابا فصاعدا أصاب كلا نصاب او لا وكون المقطوع اليد اليمنى والرجل
____________________
(5/424)
اليسرى بالإجماع كي لا يثوى نصفه وكذا الأحكام السابقة من أنه لو كانت يسراه شلاء لا تقطع يمينه وكذا رجله اليمنى لو كانت شلاء لا تقطع اليسرى ولو كان مقطوع اليد اليمنى لا تقطع له يد وكذا الرجل اليسرى فإن قلت ليس في الأجزية الموزعه الحبس قلنا هو المراد بالنفي وذلك لأن ظاهره لا يعمل به وهو النفي من الأرض أي من وجه الأرض لأنه يتحقق ما دام حيا وإن حمل على بعضها وهي بلدته لا يحصل به المقصود وهو دفع أذاه عن الناس لأنه إذا كان ذا منعة يقطع الطريق فيما يصير إليه من البلده الأخرى فعملنا بمجازه وهو الحبس فإنه قد يطلق عليه أنه خارج من الدنيا قال صالح بن عبد القدوس فيما ذكره الشريف في الغرر ** خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ** فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى ** ** إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ** عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
ولما رأى مالك رضي الله عنه أن مجرد النفي لا يفيد في المقصود قال يحبس في بلده النفي ومعلوم أن المقصود لا يتفاوت بالحبس في بلده النفي وغيرها فيقع تعيين بلده النفي في غير الفائده المطلوبه قوله والرابعة أي من أنواع هذه الجنايه ما إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام بالخيار إن شاء قطع أيديهم وارجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم وأن شاء قتلهم بلا صلب وقطع وأن شاء صلبهم أحياء ثم قتلهم وهذا قول أبي حنيفه وزفر وقال ابو يوسف رحمه الله لابد من الصلب للنص في الحد ولا يجوز ترك الحد كالقتل وبه قال الشافعي وأحمد أجاب بأن أصل التشهير يحصل بالقتل والمبالغه بالصلب ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلب العرينين ولا غيره صلب أحدا مع أن ظاهر النص لا يحتم الصلب فإن قوله أن يقتلوا أو يصلبوا إنما يفيد أن يقتلوا بلا صلب أو يصلبوا بلا قتل لكن يقتل بعد الصلب مصلوبا بالإجماع وقال محمد لا يقطع ولكن يقتل أو يصلب وفي عامة الروايات من المباسيط وشروح الجامع الصغير ذكر أبي يوسف مع محمد وبه قال مالك إن كان القاطع ذا رأي والشافعي وأحمد مع أبي يوسف في أنه لابد من الصلب ومع محمد أنه لا يقطع وجه قولهم إنه جنايه واحده هي جنايه قطع الطريق فلا توجب حدين ولأن ما دون النفس في باب الحد يدخل في النفس
____________________
(5/425)
كحد السرقة والرجم إذا اجتمعا بأن سرق المحص ثم زنى فإنه يرجم ولا يقطع اتفاقا لهما أي لأبي حنيفة وأبي يوسف وهذا على اعتبار أبي يوسف مع أبي حنيفة لا مع محمد أن هذه الجناية وإن كانت واحدة باعتبار أنه قطع الطريق فهذا المحموع من القطع والقتل أيضا عقوبة واحدة وإنما تغلظت لتغلظ سببها حيث بلغ النهاية في تفويت الأمن حيث فوت الأمن على المال والنفس بالقتل وأخذ المال وكونها أمورا متعددة لا يستلزم تعدد الحدود في قطع الطريق ألا يرى أن قطع اليد والرجل فيها حد واحد وهو في الصغرى حدان ولأن مقتضى التوزيع الذي لزم اعتباره أن يتعين القطع ثم القتل لأن التوزيع أدى إلى أن من أخذ المال قطع وهذا قد أخذه فيقطع وأن من قتل يقتل أو يصلب وهذا قتل فيجب أن يجمع له بين القطع والقتل إلا أن ذلك كان فيما إذا فعل ذلك على الانفراد فأما على الاجتماع فجاز أن يؤخذ حكمه من الانفراد فجاز ذلك للإمام وما ذكر من دخول ما دون النفس في النفس هو إذا كانا حد بن أحدهما غير النفس والآخر النفس أما إذا كان ذلك حدا واحدا فلا بد من إقامته فهي أجزاء حد واحد غير أنه إن بدأ بالجزء الذي لا تتلف به النفس فعل الآخر وإن بدأ بما تتلف به لا يفعل الآخر لانتفاء الفائدة وهو الضرب بعد الموت قوله ثم قال أي القدوري فيما إذا اختار الإمام صلبه أو ما إذا قلنا بلزومه على قول أبي يوسف أنه يصلب حيا ويبعج بطنه إلى أن يموت ومثله عن الكرخي وجه قوله وهو الأصح أن الضلب على هذا الوجه أبلغ في الردع ولأن المقصود الزجر وهو بما حصل في الحياة لا بما بعد الموت إلا أن يقال النص دل على ذلك فإنه قال أن يقتلوا أو يصلبوا فلزم كزن الصلب بلا قتل لأنه معاند له بحرف العناد فلا يتصادق معه والقتل الذي يعرض بعد الصلب ليس في اللفظ وعن الطحاوي يقتل ثم ثم يصلب توقيا عن المثلة فإنها نسخت من لدن العرنيين على ما عرف لا يقال وجه الأول وهو الأصح لا يخفى
____________________
(5/426)
أنه لا يكافىء وجه الطحاوي لأنا نقول الحاصل ليس غير الصلب وقتل بطعن الرمح والثاني هو المعتاد بينهم لأن عادتهم القتل به فليس مثله عندهم كما هو في جدع الأذنين وقطع الأنف وسمل العينين فإن كان هناك مثله فالصلب ليس غير وهو مقطوع بشرعيته فتكون هذه المثلة الخاصة مستثناة من المنسوخ قطعا لا يحتمل الشك ثم يخلي بينه وبين أهله يدفنونه وعلمت في كتاب الشهيد أنه لا يصلى على قاطع الطريق ولا يصلب أكثر من ثلاثة ايام لأنه يتغير بعدها فيتأذى به الناس وعن ابي يوسف أنه يترك على خشبة حتى يتقطع فيسقط ليعتبر به غيره قلنا حصل الاعتبار بما ذكرنا والنهاية غير لازمة من النص وكونه أمر امر بالصلب لا يقتضي الدوام بل بمقدار متعارف لإيلاء الأعذار كما في مهلة المرتد وغيره كما في مدة الخيار قوله وإذا قتل القاطع فلا ضمان عليه في مال اخذه لما بينا في السرقة الصغرى من سقوط عصمته بالقطع قوله وان باشر القتل أحدهم أي واحد منهم والباقون وقوف لم يقتلوا معه ولم يعينوه أجرى الحد على جميعهم فيقتلوا ولو كانوا مائة بقتل واحد منهم واحدا لأن القتل جزاء المحاربة التى فيها قتل بالنص مع التوزيع والمحاربة تتحقق بأن يكون البعض ردءا للبعض حتى إذا انهزموا انحازوا إليهم وقد تحققت المحاربة مع القتل فيشمل الجزاء الكل وهو قول مالك وأحمد خلافا للشافعي قلنا إنه حكم تعلق بالمحاربة فيستوي فيه المباشرة والردء كالغنيمة ولا فرق بين كون القتل بسيف أو عصا او حجر في قتل الكل وإن لم يوجب أبو حنيفة القصاص بالمثقل لأن هذا ليس بطريق القصاص فلا يستدعي المماثلة ولهذا القتل غير المباشر وإن لم يقتل القاطع ولم يأخذ مالا وقد جرح فما كان من جراحة يجري فيها القصاص اقتص وما كان لا يجري فيه ذلك لزمه الأرش ويعرف ما يقتص به ومالا يقتص به في الجنايات إن شاء الله رب العالمين وهذا لأنه لا حد في هذه الجناية من قطع أو قتل فظهر حق العبد فيستوفيه الولي وإن أخذ مالا ثم جرح قطعت يده ورجله من خلاف وبطلت الجراحات لأنه لما وجب الحد حقا لله سقطت عصمة النفس أي ما حل
____________________
(5/427)
بها من تفريق اتصال الجسم بالجراحات حقا للعبد كما تسقط عصمة المال ولذا تبطل الجراحات إذا قتل فقتل حد لأن الحد والضمان لا يجتمعان قوله وإن اخذ بعد ما تاب سقط الحد عنه بلا خلاف بالنص قال تعالى { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } فإن كان قد قتل فإن شاء الأولياء قتلوه وإن شاءوا عفوا عنه لأن هذا القتل قصاص فصح العفو عنه والصلح به وحينئذ لا بد ان يكون قتل بحديد ونحوه لأن القصاص لا يجب إلا به ونحوه عند ابي حنيفة وكذا إذا كان أخذ مالا ثم تاب فإن صاحبه إن شاء تركه وإن شاء ضمنه إن كان هالكا ويأخذه إن كان قائما لأنه لا يقطع بعد التوبة لسقوط الحد فظهر حق العبد في ماله كما في النفس وفي المبسوط والمحيط رد المال من تمام توبتهم لتنقطع به خصومة صاحبه ولو تاب ولم يرد المال لم يذكره في الكتاب واختلفوا فيه فقيل لا يسقط الحد كسائر الحدود لا تسقط بالتوبة وقيل يسقط اشار إليه محمد
____________________
(5/428)
في الأصل لأن التوبة تسقط الحد في السرقة الكبرى بخصوصها للاستثناء في النص فلا يصح قياسها على باقي الحدود مع معارضة النص وسائر الحدود لا تسقط بالتوبة عندنا وبه قال مالك واحمد في رواية والشافعي في قول وعنهما تسقط لقوله تعالى { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } ونحن نقطع بأن رجم ماعز والغامدية كان بعد توبتهما والآية منسوخة وإنما كان ذلك في أول الأمر وإذا عرف هذا فقول المصنف ولأن التوبة تتوقف على رد المال ولا قطع في مثله شبه التناقض لأنها إذا توقفت على رد المال فأخذ القاطع قبل الرد أخذ قبل التوبة والأخذ قبل التوبة بعد أخذ المال فيه الحد بقطع اليد والرجل أجيب بفرض المسئلة فيما إذا رد بعضه فإنه علامة توبته فيكون ذلك شبهة في سقوط الحد فيجب الضمان لو هلك الباقي أو استهلكه ومثل ما لو اخذوا بعد التوبة في سقوط الحد والرجوع إلى القصاص وتصرف الأولياء فيه وفي المال ما لو أخذوا قبل التوبة وقد قتلوا ولكن أخذوا من المال قليلا لا يصيب كلا نصاب فإن الأمر في القتل والجرح إلى الأولياء إن شاءوا قتلوا قصاصا وإن شاءوا عفوا وقال عيسى يقتلهم الإمام حد لأنهم لو قتلوا ولم يأخذوا شيئا من المال قتلهم حدا لا قصاصا وهذا لأن ما دون النصاب كالعدم ولأنه تتغلظ جنايتهم بأخذ شىء من المال فلا يسقط الحد والأصح ما ذكر في الكتاب لأن وجوب الحد عليهم باعتبار ما هو المقصود وهم يقصدون بالقطع أخذ المال وقتلهم ليس إلا ليصلوا إليه فإذا تركوا أخذ المال عرفنا ان قصدهم القتل لا القطع لأن القطع ليس إلا للمال فيقتص منهم إن شاء الولى وتجرى فيه أحكام القصاص قوله وإن كان من القطاع صبي أو مجنون أو ذو رحم محرم من المقطوع عليه سقط الحد عن الباقين فتظهر احكام القصاص وتضمين المال والجراحات وفي المبسوط تابوا وفيهم عبد قطع يد حر دفعه مولاه أوفداه كما لو فعله في غير قطع الطريق وهذا لأنه قصاص بين العبيد الأحرار فيما دون النفس فيبقى حكم الدفع والفداء فإن كانت فيهم امرأة فعلت ذلك فعليها دية اليد في مالها لأنه لا قصاص بين الرجال والنساء في الطراف والواقع منها عمد لا تعقله العاقلة قال المصنف فالمذكور في الصبي والمجنون قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله وعن أبي يوسف انه لو باشر العقلاء الأخذ والقتل يحد الباقون وإن باشر ذلك الصبي والمجنون فلا حد على الباقين وقيل كان الوجه ان يقول وقال ابو يوسف بعد ان قال المذكور في الصبي والمجنون قول أبي حنيفة وزفر أو يقول المذكور ظاهر الرواية عن اصحابنا وعن أبي يوسف كما قال القدوري فس شرحة لمختصر الكرخي وغيره ولم يذكر قول محمد واكتفى بقوله العقلاء عن البالغين فإن العقلاء مما يقال في مقابلة الصبيان والمجانين وعلى هذا السرقة الصغرى وإن ولى المجنون أو الصبي
____________________
(5/429)
إخراج المتاع سقط الحد عن الكل وإن ولى غيرهما قطعوا إلا الصبي والمجنون وقالت الأئمة الثلاثة واكثر أهل العلم لا يسقط الحد عن غير الصبي والمجنون وذي الرحم لأنها شبهة اختص بها واحد فلا يسقط الحد عن الباقين لأبي يوسف أن المباشر اصل والردء تابع ففي مباشرة العاقل الخلل في التبع ولا عبرة به بعد لأن لا خلل في الأصل فيحد الباقون وفي عكسه وهو أن يباشر الصبي والمجنون ينعكس المعني وهو السقوط عن الأصل فإن السقوط حينئذ في التبع فينعكس الحكم وهو الحد الباقين فلا يحدون ولهما أي لأبي حنيفة ومحمد رحمها الله ان قطع الطريق جناية واحدة لأن الموجود من الكل يسمى جناية قطع الطريق غير انها لا تتحقق في الغالب إلا بجماعة فكان الصادر من الكثير جناية واحدة قامت بالكل فإذا لم يقع فعل بعضهم موجبا للحد لشبهة أو عدم تكليف لا يوجب في حق الباقين لأن فعل الباقين حينئذ بعض العلة و ببعض العلة لا يثبت الحكم وصار كالخاطىء مع العدم إذا اجتمعا في قتل معصوم الدم يسقط القصاص عن العامد واما ذو الرحم المحرم فقيل تأويله أي تأويل سقوط الحد عن الكل أن يكون المال مشتركا بين المقطوع عليهم وفي القطاع ذو رحم محرم من أحدهم فلا يجب الحد على الباقين باعتبار نصيب ذى الرحم المحرم وتصير شبهة في نصيب الباقين فلا يجب الحد عليهم لأنه المأخوذ شيء واحد فإذا امتنع في حق احدهم بسبب القرابة يمتنع في حق الباقين فأما اذا لم يكن المال مشتركا فإن لم يأخذ المال الا من ذي الرحم المحرم فكذلك وإن اخذوا منه ومن غيره يحدون باعتبار المأخوذ من ذلك الغير والأصح انه مجرى على الإطلاق وانهم لا يحدون بكل حال لأن مال جميع القافلة في حق قطاع الطرق كشىء واحد لأنه محرز بحرز واحد وهو القافلة والجناية واحدة وهي قطع الطريق
____________________
(5/430)
فالامتناع في حق البعض لا يوجب الامتناع في حق الباقين بخلاف السرقة من حرزين لأن كل واحد من الفعلين هناك منفصل عن الآخر حقيقة وحكما وإذا كان في المقطوع عليهم شريك مفاوض لبعض القطاع لا يحدون كذى الرحم المحرم قوله بخلاف ما إذا كان فيهم أي في المقطوع عليهم وهو القافلة مستأمن جواب عن مقدر هو ان القطع على المستأمن وحده لا يوجب حد القطع كما على ذى الرحم المحرم ثم عند اختلاط ذى الرحم القاطع مع غيره من القافلة صار شبهة في الحد فكذا يجب عند اختلاط المستأمن كذلك وليس كذلك بل يقام الحد عليهم أجاب بأن الامتناع في حق المستأمن إنما كان الخلل في عصمة نفسه وماله وهو أمر يخصه أما هنا الامتناع لخلل في الحرز والقافلة وحرز واحد فيصير كأن القريب سرق مال القريب وغير القريب من بيت القريب وإذا سقط الحد صار القتل إلى الأولياء إن شاءوا عفوا وإن شاءوا اقتصوا ويجرى الحال في المال على ما ذكر من قريب ولو لم يقع القتل والأخذ إلا في المستأمن لا حد عليهم ولكن يضمنون أموال المستأمنين لثبوت عصمة أمولهم للحال وإن لم يكن معصوما على التأبيد والله تعالى أعلم قوله وإذا قطع بعض القافلة الطريق على البعض لم يجب الحد لأن الحرز واحد وهو القافلة فصار كسارق سرق متاع غيره وهو معه في دار واحدة فلا يجب الحد وإذا لم يجب الحد وجب القصاص في النفس إن القتل عمدا بحديدة أو بمثقل عندهما ورد المال إن اخذه وهو قائم وضمانه إن هلك أو استهلكه وقوله من قطع الطريق ليلا أو نهارا في المصر أو بين الكوفة والحيرة وهي منزلة النعمان بن المنذر قريب من الكوفة بحيث يتصل عمران إحداهما بالأخرى فليس بقاطع الطريق استحسانا وكذا بين القريتين وحد بعضهم مكان القطع أن يكون في قرية بينها وبين المصر مسيرة سفر في ظاهر الرواية وفي القياس ان يكون قاطعا وهو قول الشافعي فإن في وجيزهم من أخذ في البلد مالا مغالبة فهو قاطع طريق وعن أبي يوسف انه إذا كان خارج المصر ولو بقرب منه يجب الحد لأنه لا يلحقه الغوث لأنه محارب بل مجاهرته هنا أغلظ من مجاهرته في المفازة ولا تفصيل في النص في مكان القطع وعن مالك كل من أخذ المال على وجه لا يمكن لصاحبه الاستغاثة فهو محارب وعنه لا محاربة إلا على قدر ثلاثة اميال من العمران وتوقف أحمد مرة واكثر اصحابه ان يكون بموضع لا يلحقه الغوث وعن ابي يوسف في رواية اخرى إن قصده
____________________
(5/431)
بالسلاح نهارا في المصر فهو قاطع وإن كان بغيره من الخشب ونحوه فليس بقاطع وفي الليل يكون قاطعا بالخشب والحجر لأن السلاح لا يلبث فيتحقق القطع قبل الغوث والغوث يطىء بالليالي فيتحقق بلا سلاح وفي شرح الطحاوي الفتوى على قول أبي يوسف قال المصنف ونحن نقول إن قطع الطريق بقطع المارة ولا يتحقق ذلك في المصر وما يقرب منه لأن الظاهر لحوق الغوث وانت تعلم أن الحد المذكور في الآية لم ينط بمسمى قطع الطريق وإنما هو اسم بين الناس وإنما أنيط بمحاربة عباد الله على ما ذكرنا من تقدير المضاف وذلك يتحقق في المصر وخارجه ثم هذا الدليل المذكور لا يفيد تعيين مسيرة ثلاثة ايام بين المصر والقاطع ولا شك في أن ليس لحوق الغوث في ذلك المقدار ظاهرا وهو ما علل به للظاهر وإذا قلنا إنهم ليسوا قطاعا فسبيلهم ان يضربوا ويحبسوا وإن قتلوا لزم القصاص وأحكامه وإن اخذوا مالا ضمنوه إذا أتلفوه وعلى تقدير أنهم قطاع إن قتلوا قتلوا حدا فلا يقبل عفو الأولياء فيهم ثم لا يضمنون على ما سمعت وقوله لما بينا أي من قوله لظهور حق العبد عند اندفاع الحد قوله ومن خنق رجلا حتى قتله لزمته الدية على عاقلته عند أبي حنيفة وهي مسئلة القتل بالمثقل وسنبينه إن شاء الله تعالى في الديات وظاهر أنها ليست مسئلة المثقل وإنما المعنى أنها مثلها في ثبوت الشبهة عنده في العمد حيث كانت الآلة فيها قصور يوجب التردد في أنه قصد قتله بهذا الفعل أو قصد المبالغة في إيلامه وإدخال الضرر على نفسه فاتفق موته وعدم احتماله لذلك فإن خنق غير مرة قتل الآن لأنه ظهر قصده إلى القتل بالتخنيق حيث عرف إفضاؤه إلى القتل ثم صار يعتمده ولأنه صار ساعيا في الأرض بالفساد وكل من كان كذلك يدفع شره بالقتل
فروع نص في الأصل على أن العبد والمرأة في حكم قطع الطريق كغيرهما أما العبد فظاهر وأما المرأة فكغيرها في السرقة الكبرى في ظاهر الرواية وهو اختيار الطحاوي لأن الواجب قطع وقتل وهي كالرجل في جريان كل منهما عليها عند تحقق السبب منها وذكر الكرخي ان حد قطاع الطريق لا يجب على النساء لأن
____________________
(5/432)
السبب هو المحاربة والمرأة بأصل الخلقة ليست محاربة كالصبي ألا يرى أنه في استحقاق ما يستحق بالمحاربة وهو السهم من الغنيمة لا يسوى بين الرجل والمرأة فكذا في العقوبة المستحقة بالمحاربة ولكن يرد على هذا العبد فإنه لا يساوي الحر في استحقاق الغنيمة ويساويه في هذا الحد وفي الصبيان والمجانين لعدم أهلية العقوبة وذلك لا يوجد في النساء وذكر هشام في نوادره عن أبي يوسف إذا قطع قوم الطريق ومعهم امرأة فباشرت المرأة القتل وأخذت المال دون الرجال فإنه يقام الحد عليهم لا عليها وقال محمد يقام عليها ولا يقام عليهم وذكر ابن سماعة عن محمد بن أبي حنيفة أنه يدرأ عنهم جميعا لكون المرأة فيهم وجعل المرأة كالصبي والعجب ممن يذكر هذه أعنى كون المرأة مع الرجال في القطع ثم يقتصر على ذكر الخلاف بين أبي يوسف ومحمد فيها ويذكر حاصل هاتين الروايتين عنهما ويترك نقل ما في المبسوط من أنها كالرجال منسوبا إلى ظاهر الرواية مع مساعدة الوجه وورود النقض الصحيح على مختار الكرخي بالعبد كما ذكرنا وممن نقل ذلك صاحب الدراية وصاحب الفتاوى الكبرى والمصنف في التجنيس وغيرهم مع ضعف الأوجه المذكورة في التفرقة مثل الفرق بضعف البنية في أصل الخلقة ومثل ذلك من الكلام الضعيف مع مصادمته إطلاق الكتاب في المحاربين ولا قوة إلا بالله وما في النوازل من قوله عشر نسوة قطعن الطريق فقتلن وأخذن المال قتلن وضمن المال بناء على غير الظاهر من أنهن لسن محاربات وعلله بأن المرأة إذا قاتلت العدو وأسرت لم تقتل وإنما قتلن بقتلهن والضمان لأخذهن المال ويثبت قطع الطريق بالإقرار مرة واحدة وأبو يوسف شرط مرتين كقوله في السرقة الصغرى ويقبل رجوع القاطع كما في السرقة الصغرى فيسقط الحد ويؤخذ بالمال ان كان أقر به معه وبالبينة بشهادة اثنين على معاينة القطع أو الإقرار فلو شهد أحدهما بالمعاينة والآخر على إقرارهم به لا يقبل ولا تقبل الشهادة بالقطع على ابي الشاهد وان علا وابنه وان سفل ولو قالا قطعوا علينا وعلى اصحابنا واخذوا مالنا لا يقبل لأنهما شهدا لأنفسهما ولو شهدوا أنهم قطعوا على رجل من عرض الناس وله ولي يعرف اولا يعرف لا يقيم الحد عليهم إلا بمحضر من الخصم ولو قطعوا في دار الحرب على تجار مستأمنين او في دار الإسلام في موضع غلب عليه أهل البغى ثم أتى بهم إلى الأمام لا يمضي عليهم الحد لأنهم باشروا السبب حين لم يكونوا تحت يده وفي موضع لا يجري به حكمه فلم ينعقد فعلهم موجبا عليه الإقامة عليهم فلا يفعله ومثله نقدم في الزنا في دار الحرب ولو رفعوا إلى قاض يرى تضمينهم المال فضمنهم وسلمهم إلى أولياء القود فصالحوهم على الديات ثم رفعوا بعد زمان إلى قاض آخر لم يقم عليهم الحد إما لتقادم العهد وفيه نظر أو لعدم الخصم وقد سقط خصومتهم بما وصل إليهم او لقضاء الأول فيتم بذلك لنفاذه إذ هو في فضل مجتهد فيه من تقرر الضمان وإذا قضى القاضى عليهم بالقتل وحبسهم لذلك فذهب أجبني فقتلهم لا شىء عليه وكذا لو قطع يده لأنه لما سقطت حرمة نفسه سقطت حرمة اطرافه ولو قتله قبل الثبوت عليه ثم قامت البينة بقطعه للطريق اقتص منه لأنه قتل نفسا معصومة ثم لا يقضي القاضي بحل دمه بهذه البينة بعد ما قتل لفوات المحل فوجود هذه البينة كعدمها إلا أن يكون القاتل ولى الذي قتله في القاطع في القطع الطريق فلا يلزمه شىء لظهور انه استوفى حق نفسه ولو أن لصوصا أخذوا متاع قوم فاستعانوا بقوم وخرجوا في طلبهم إن كان أرباب المتاع معهم حل قتالهم وكذا إذا غابوا والخارجون يعرفون مكانهم ويقدرون على رد المتاع
____________________
(5/433)
عليهم وإن كانوا لا يعرفون مكانهم ولا يقدرون على الرد عليهم لا يجوز لهم ان يقاتلوهم لأن القتال للاسترداد للرد على ارباب الأموال ولا قدرة على الرد ولو اقتتلوا مع قاطع فقتلوه لا شىء عليهم لأنهم قتلوه لأجل مالهم فإن فر منهم إلى موضع أو تركوه لا يقدر على قطع الطريق عليهم فقتلوه كان عليهم الدية لأنهم قتلوه لا لأجل مالهم وكذا لو فر رجل من القطاع فلحقوه وقد ألقى نفسه في مكان لا يقدر معه على قطع الطريق فقتلوه كان عليهم الدية لأن قتلهم إياه لا لأجل الخوف على الأموال ويجوز للرجل أن يقاتل دون ماله وإن لم يبلغ نصابا ويقتل من يقاتله عليه لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم من قتل دون ماله فهو شهيد & كتاب السير
أورد الجهاد عقيب الحدود لأنه بعد أن ناسبها بوجهين باتحاد المقصود من كل منها ومن مضمون هذا الكتاب وهو أخلاء العالم من الفساد وبكون كل منهما حسن لحسن لغيره وذلك الغير وهو إعلاء كلمة الله تعالى يتأدى بفعل نفس المأمورية وهو القتال وجب تأخيره عنها لوجهين كون الفساد المطلوب الإخلاء عنه بالجهاد أعظم كل فساد واقبحه والعادة في التعاليم الشروع فيها على وجه الترقي من الأدنى إلى ما هو أعلى منه وكونه معاملة مع الكفار والحدود معاملة مع المسلمين وتقديم ما يتعلق بالمسلمين أولى ولا يخفى أن له مناسبة خاصة بالعبادات فلذا اورده بعض الناس عقيبها فبل النكاح لأنه عبادة محضة بخلاف النكاح والسير جميع سيرة
____________________
(5/434)
وهي فعلة بكسر الفاء من السير فيكون لبيان هيئة السير وحالته لأن فعلة للهيئة كجلسة وخمرة وقد استعملت كذلك في السير المعنوي حيث قالوا في عمر بن عبد العزيز سار فينا بسيرة العمرين لكن غلب في لسان اهل الشرع على الطرائق المأمور بها في غزو الكفار وكان سبب ذلك كونها تستلزم السير وقطع المسافة وقد يقال كتاب الجهاد وهو ايضا أعم غلب في عرفهم على جهاد الكفار وهو دعوتهم إلى الحق وقتالهم إن لم يقبلوا وفي غير كتاب الفقه يقال كتاب المغازي وهو أيضا اعم جمع مغزاة مصدرا سماعيا لغزا دالا على الوحدة والقياسى غزو وغزوة للوحدة كضربة وضرب وهو قصد العدو للقتال خص في عرفهم بقتال الكفار هذا وفضل الجهاد عظيم وكيف لا وحاصله بذل أعز المحبوبات وإدخال أعظم المشقات عليه وهو نفس الانسان ابتغاء مرضاة الله تعالى وتقربا بذلك إليه سبحانه وتعالى واشق منه قصر النفس على الطاعات في النشاط والكسل على الدوام ومجانبة اهويتها ولذا قال رسول الله عليه الصلاة والسلام وقد رجع من مغزاة رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ويدل على هذا انه عليه الصلاة والسلام أخره في الفضيلة عن الصلاة على وقتها في حديث ابن مسعود قلت يا رسول الله اي الأعمال أفضل قال الصلاة على ميقاتها قلت ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله ولو استزدته لزادني رواه البخاري وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم جعله أفضل بعد الإيمان في حديث أبي هريرة قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل قال إيمان بالله ورسوله قيل ثم ماذا قال الجهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا قال حج مبرور متفق عليه وهذه وإن كانت صورة معارضة لكن الجمع بينهما بحمل كل على ما يليق بحال السائل فإذا كان السائل يليق به الجهاد لما علمه من تهيئته له واستعداده زيادة على غيره كان الجهاد بالنسبة إليه أفضل ممن ليس مثله في الجلادة والغناء وفيه نظر لأن المذكور في الحديث السابق الصلاة على وقتها وتلك هي الفرائض وفي هذا لا يتردد في أن المواظبة على أداء فرائض الصلاة واخذ النفس بها في أوقاتها على ما هو المراد من قوله الصلاة على ميقاتها افضل من الجهاد وأن هذه فرض عين و يتكرر والجهاد ليس كذلك ولأن افتراض الجهاد ليس إلا للإيمان وإقامة الصلاة فكان مقصودا وحسنا لغيره بخلاف الصلاة حسنة لعينها وهي المقصود منه على ما صرح به عليه الصلاة والسلام في حديث معاذ وفيه طول إلى أن قال والذي نفس محمد بيده ما شحب وجه ولا اغبرت قدم في عمل يبتغى به درجات الآخرة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله صححه الترمذي وإذا لا شك في هذا عندنا وجب أن يعتبر كل من الصلاة والزكاة مرادة بلفظ الإيمان في حديث أبي هريرة ويكون من عموم المجاز أو يرجح بزيادة فقه الراوي وهو ابن مسعود رضى الله عنه وبما عضده من الأحاديث السابقة والحق انه ليس فيه معارضة لأنه لم يذكر الصلاة فيه اصلا فإنما فيه أنه جعل الجهاد بعد الإيمان وهو يصدق إذا كان بعد الصلاة وهي قبله بعد الإيمان فلا معارضة إلا إذا نظرنا إلى المقصود ومن الأحاديث في ذلك ما عن عمران بن حصين رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مقام الرجل في الصف في سبيل الله افضل عند الله من عبادة الرجل ستين سنة رواه الحاكم وقال على شرط البخاري وعن ابي هريرة قيل يا رسول الله ما يعدل الجهاد في سبيل الله قال لا تستطيعونه فاعادوا عليه مرتين او ثلاثا كل ذلك يقول لا تستطيعونه ثم قال مثل في المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر عن صلاته ولا صيامه حتى يرجع المجاهد في سبيل الله
____________________
(5/435)
متفق عليه وعن أبي هريرة رضى الله عنه عنه عليه الصلاة والسلام من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده فإن شعبة ورية وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة رواه البخاري ومن توابع الجهاد الرباط وهو الإقامة في مكان يتوقع هجوم العدو فيه لقصد دفعه لله تعالى والأحاديث في فضله كثيرة منها ما في صحيح مسلم من حديث سليمان رضى الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه وإن مات فيه أجرى عليه عمله الذي كان يعمل واجرى عليه رزقه وأمن الفتان رواه مسلم زاد الطبراني وبعث يوم القيامة شهيدا وروى الطبراني بسند ثقات في حديث مرفوع من مات مرابطا أمن من الفزع الأكبر ولفظ ابن ماجه بسند صحيح عن ابي هريرة وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع وعن ابي أمامة عنه عليه الصلاة والسلام قال إن صلاة المرابط تعدل خمسمائة صلاة ونفقته الدينار والدرهم منه أفضل من سبعمائة دينار ينفقه في غيره هذا واختلف المشايخ في المحل الذي يتحقق فيه الرباط فإنه لا يتحقق في كل مكان ففي النوازل ان يكون في موضع لا يكون وراءه إسلام لأن ما دونه لو كان رباطا فكل المسلمين في بلادهم مرابطون وقال بعضهم إذا أغار العدو على موضع مرة يكون ذلك الموضع رباطا إلى أربعين سنة وإذا أغاروا مرتين يكون رباطا إلى مائة وعشرين سنة وإذا أغاروا ثلاث مرات يكون رباطا إلى يوم القيامة قال في الفتاوى الكبرى والمختار هو الأول واعلم أن ما ذكر من كون محل الرباط ما وراء المسلمين ذكر في حديث عن معاذ بن أنس عنه عليه الصلاة والسلام من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله تبارك وتعالى متطوعا لا يأخذه سلطان لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم فإن الله يقول { وإن منكم إلا واردها } رواه أبو يعلي وفيه لين محتمل في المتابعات وليس يستلزم كون ذلك باعتبار المكان فقد وردت أحاديث كثيرة ليس فيها سوى الحراسة في سبيل الله ولنختم هذه المقدمة بحديث البخارى عن ابي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام قال تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة زاد في هذه الرواية وعبد القطيفة إن أعطى رضى وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتفش طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث راسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع قوله الجهاد فرض على الكفاية
____________________
(5/436)
إذا قام به فريق من الناس سقط عن الباقين وهذا واقع موقع تفسير فرض الكفاية اما الفرضية فلقوله تعالى { فاقتلوا المشركين } حيث وجدتموهم وقوله تعالى { فقاتلوا أئمة الكفر } وقوله تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } وقوله تعالى { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } وقوله تعالى { انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } وقوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله والتخصيص المعتبر عند أهل الأصول قصر العام على بعض ما يتناوله بدليل مستقل لفظي مقارن للمعنى وبهذه ينتفي ما نقل عن الثوري وغيره انه ليس بفرض وان الأمر به للندب وكذا { كتب عليكم } كقوله { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية } ونقل عن ابن عمر ويجب حمله إن صح على أنه ليس بفرض عين فإن قلت كيف يثبت الفرض وهي عمومات مخصوصة والعام المخصوص ظنى الدلالة وبه لا يثبت الفرض والجواب ان المخرج من الصبيان والمجانين مخصوص بالعقل على ما عرف وبالتخصيص به لا يصير العام ظنا واما غيرهما فنفس النص ابتداء تعلق بغيرهما فلم يكن من قبيل المخصوص وذلك ان النص مقرون بما يقيده بغيرهم وهو من حيث يحارب لقوله تعالى { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } فأفاد أن قتالنا المأمور به جزاء لقتالهم ومسبب عنه وكذا قوله تعلى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } أي لا تكون منهم فتنة للمسلمين عن دينهم بالإكراه بالضرب والقتل وكان أهل مكة يفتنون من اسلم بالتعذيب حتى يرجع عن الإسلام على ما عرف في السير فأمر الله سبحانه وتعالى بالقتال لكسر شوكتهم فلا يقدرون
____________________
(5/437)
على تفتين المسلم عن دينه فكان الأمر ابتداء بقتال من بحيث يحارب من المشركين بالحديث الصحيح وقد أكد هذا قوله صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات الصحيحة لحديث النهي عن قتل النساء حين رأى المقتلولة ما كانت هذه تقاتل واما قوله صلى الله عليه وسلم الجهاد ماض إلى يوم القيامة فدليل على وجوبه وأنه لا ينسخ وهذا لأن خبر الواحد لا يفيد الافتراض وقول صاحب الإيضاح أذ تأيد خبر الواحد بالكتاب والإجماع يفيد الفرضية ممنوع بل المفيد حينئذ الكتاب والإجماع وجاء الخبر على وفقهما والحديث رواه أبو داود من حديث أنس رضى الله عنه قال قال صلى الله عليه وسلم من حديث والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل والإيمان بالأقدار فيه يزيد بن ابي شيبة من بني سليم لم يرو عنه إلا جعفر بن برقان وعن هذا والله أعلم قال المنذرى هو في معنى المجهول ولا شك
____________________
(5/438)
أن إجماع الأمة أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة لم ينسخ فلا يتصور نسخه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وانه لا قائل ان بقتال آخر الأمة الدجال ينتهي وجوب الجهاد وأما كونه على الكفاية فلأن المقصود منه ليس مجردا ابتلاء المكلفين بل إعزاز الدين ودفع شر الكفار عن المؤمنين بدليل قوله تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } فإذا حصل ذلك بالبعض سقط هو لحصول ما هو المقصود منه كصلاة الجنازة المقصود منها قضاء حق الميت والإحسان إليه وذهب ابن المسيب إلى أنه فرض عين تمسكا بعين الأدلة المذكورة إذ بمثلها يثبت فروض الأعيان قلنا نعم لولا قوله تعالى { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون } الآية إلى قوله تعالى { وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما } ولأنه لو كان عينا لاشتغل الناس كلهم به فيتعطل المعاش على ما لا يخفى بالزراعة والجلب بالتجارة ويستلزم قطع مادة الجهاد من الكراع يعنى الخيل والسلاح والأقوات فيؤدي إيجابه على الكل إلى تركه للعجز فلزم ان يجب على الكفاية ولا يخفى أن لزوم ما ذكر إنما يثبت إذا لزم في كونه فرض عين أن يخرج الكل من الأمصار دفعة واحدة وليس ذلك لازما بل يكون كالحج على الكل ولا يخرج الكل بل يلزم كل واحد ان يخرج ففي مرة طائفة وفي مرة طائفة أخرى وهكذا وهذا لا يستلزم تعطيل المعاش فالمعول عليه في ذلك نص { لا يستوي القاعدون } ثم هذا إذا لم يكن النفير عاما فإن كان بأن هجموا على بلدة من بلاد المسلمين فيصير من فروض الأعيان سواء كان المستنفر عدلا او فاسقا فيجب على جميع اهل تلك البلدة النفر وكذا من يقرب منهم إن لم يكن بأهلها كفاية وكذا من يقرب ممن يقرب إن لم يكن بمن يقرب كفاية او تكاسلوا أو عصوا وهكذا إلى أن يجب على جميع
____________________
(5/439)
أهل الإسلام شرقا وغربا كجهاز الميت والصلاة عليه يجب أولا على أهل محلته فإن لم يفعلوا عجزا وجب على من ببلدهم على ما ذكرنا هكذا ذكروا وكأن معناه إذا دام الحرب بقدر ما يصل الأبعدون وبلغهم الخبر وإلا فهو تكليف بما لا يطاق بخلاف إنفاذ السير وجوبه على الكل متجه من أهل المشرق والمغرب ممن علم ويجب أن لا يأثم من عزم على الخروج وقعوده لعدم خروج الناس وتكاسلهم أو قعود السلطان أو منعه واستدل على ذلك بقوله تعالى { انفروا خفافا وثقالا } قيل المراد به ركبانا ومشاة وقيل شبابا وشيوخا وقيل عزابا ومتزوجين وقيل أغنياء وفقراء وينبغي ان يقال قول آخر وهو كل من هذه اي انفروا مع كل حال من هذه الأحوال وحاصلها انه لم يعذر احدا فأفاد العينية وفيه نظر لأن الجهاد على كل من ذكر في التفسير المذكور على الكفاية فلا يفيد تعيينها العينية بل الحق ان هذه الاية وما تقدم من الآيات كلها لإفادة الوجوب ثم تعرف الكفاية بالآية المتقدمة واما العينية في النفير العام وبالإجماع لأنه من إغاثة الملهوف والمظلوم وهذا من جهة الدراية ثم ذكر الرواية وهو قول محمد الجهاد واجب إلا ان المسلمين في سعة من تركه حتى يحتاج إليهم قال فأول هذا الكلام يعنى قوله واجب وانهم في سعة من تركه إشارة إلى أن الوجوب على الكفاية
____________________
(5/440)
لا يمكن أن يراد ترك الكل وإلا لم يكن واجبا فهو ترك البعض وأخره وهو قوله حتى يحتاج إليهم يفيد العينية إذ صار الحاصل لأنه واجب يسع البعض تركه إلا أن يحتاج فلا يسع ولا بد من الاستطاعة فيخرج المريض المدنف واما الذي يقدر على الخروج دون الدفع ينبغي ان يخرج لتكثير السواد فإن فيه إرهابا ونفر القوم نفرا ونفيرا إذا خرجوا قوله وقتال الكفار الذين لم يسلموا وهم من مشركي العرب أو لم يسلموا ولم يعطوا الجزية من غيرهم واجب إن لم يبدءونا لأن الأدلة الموجبة له لم تقيد الوجوب ببداءتهم وهذا معنى قوله للعمومات
____________________
(5/441)
لا عموم المكلفين لأنه إنما يفيد الوجوب على كل واحد فقط فالمراد إطلاق العمومات في بداءتهم وعدمها خلافا لما نقل عن الثوري والزمان الخاص كالأشهر الحرم وغيرها خلافا لعطاء ولقد استبعد ما عن الثوري وتمسكه بقوله تعالى { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } فإنه لا يخفى عليه نسخه وصريح قوله في الصحيحين وغيرهما امرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله الحديث يوجب أن نبدأهم بأدنى تامل وحاصر صلى الله عليه وسلم الطائف لعشر بقين من ذى الحجة إلى آخر المحرم أو إلى شهر وقد يستدل على نسخ الحرمة في الأشهر الحرم بقوله تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وهو بناء على التجوز بلفظ حيث في الزمان ولا شك انه كبر في الاستعمال قوله ولا يجب الجهاد على صبي الخ الوجه الظاهر أن يقال لأنه غير مكلف وفي الصحيحين عن ابن عمر قوله عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وانا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني في المقاتلة الحديث ولا عبد ولا امرأة لتقدم حق المولى والزوج بإذن الله الذي هو صاحب الحق على حقه ومعنى هذا الكلام أن حق السيد والزوج حق متعين بإذن الله تعالى على ذلك العبد وتلك المرأة فلو تعلق بهما الجهاد لزم إطلاق فعله لهما وإطلاقه يستلزم أطلاق ترك حق المولى والزوج فلو تعلق بهم لزمه إبطال حق جعله الله متعينا لحق لم يجعله متعينا عليه وهذا اللازم باطل فلا يتعلق بهم وهو المطلوب وعلى هذا التقرير يكونون مخصوصين من العمومات لدليل مقارن وهو العقل بخلاف ما إذا صار فرض عين لأن حقوقهم لا تظهر في حق فروض الأعيان نعم لو أم السيد والزوج العبد والمرأة بالقتال يجب أن يصير فرض كفاية ولا نقول صار فرض عين لوجوب طاعة المولى والزوج حتى إذا لم يقاتل في غير النفير العام يأثم لأن طاعتهما المفروضة عليهما في غير ما فيه المخاطرة بالروح وإنما يجب ذلك على المكلفين بخطاب الرب جل جلاله بذلك والفرض انتفاؤه عنهم قبل النفير العام وعن هذا حرم الخروج إلى الجهاد وأحد الأبوين كاره لأن طاعة كل منهما فرض عين والجهاد لم يتعين عليه كما قلنا مع أن في خصوصه احاديث منها ما في صحيح البخاري عن عبدالله بن عمرو جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم فاستأذنه فقال أحي والداك قال نعم قال ففيهما فجاهد وقدمنا من صحيحه آنفا حديث ابن
____________________
(5/442)
مسعود وقدم فيه بر الوالدين على الجهاد وفي سنن أبي داود عن عبدالله بن عمرو بن العاص جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حيث أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال ارجع إليهما فأضحكهما كما أبيكتهما وفيه عن الخدري ان رجلا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن فقال هل لك احد باليمن قال ابواي قال اذنا لك قال لا قال فارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما وأما الأعمى والأقطع فقال تعالى { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } وقال تعالى { ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله } والمقعد الأعرج قاله في ديوان الأدب قوله ويكره الجعل ويريد بالجعل هنا ان يكلف الإمام الناس بأن يقوي بعضهم بعضا بالسلاح والكراع وغير ذلك من النفقة والزاد ما دام للمسلمين فىء وهو المال المأخوذ من الكفار بغير قتال كالخراج والجزية واما المأخوذ بقتال فيسمى غنيمة لأنه لا ضرورة إليه ومال بيت المال معد لنوائب المسلمين وهذا وجه يوجب ثبوت الكراهة على الإمام بخصوصه والوجه الآخر وهو أن الجعل يشبه الأجرة وحقيقة اخذ الأجرة على الطاعة حرام فما يشبهها مكروه يوجبها على الغازي وعلى الإمام كراهة تسببه في المكروه وحقيقة الجعل ما يجعل للإنسان في مقابلة شىء يفعله واعلم ان مقتضى النظر ان النفقة تجب من مال الغازي لأنه مأمور بعبادة مركبة من المال والبدن فتكون كالحج وان وجوب تجهيزهم من بيت المال على الإمام إنما هو إذا لم يقدروا على الجهاز فاضلا عن حاجتهم وعيالهم وإن كانوا ممن يعطيهم استحقاقهم من بيت المال بعد أن يكون ذلك غير كاف للجهاز مع حاجة المقام واما إذا لم يكن في بيت المال فىء لا يكره ان يكلف الإمام الناس ذلك على نسبة عدل لأن به دفع الضرر الأعلى وهو تعدي شر الكفار إلى المسلمين بإلحاق الضرر الأدنى واستأنس المصنف لهذا بأنه صلى الله عليه وسلم أخذ دروعا من صفوان بن أمية وبأن عمر كان يعزى الأعزب عن ذي الحلية ويعطي الشاخص فرس القاعد اما قصة صفوان فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل يطلب منه أدرعا عند خروجه إلى حنين ففي سيرة ابن إسحاق أربعمائة درع وكان صفوان إذ ذاك
____________________
(5/443)
على شركة فإنه كان طالب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسيره شهرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم سيرتك اربعة أشهر ثم عرض الخروج من مكة إلى حنين فأرسل يطلب ذلك فقال يا محمد أغصبا قال لا بل عارية مضمونة فبعثها ثم استحمله إياها فحملها على مائتي بعير وفي مسند أحمد قال فضاع بعضها فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم ان يضمنها فقال لا أنا اليوم في الإسلام ارغب وهذا لا يطابق نفس المدعي وهو تكليف الإمام المسلمين بأن يعينوا الخارجين ولا يفيد ذلك إلا بالالتزام فإن ما يفعله الإمام في المتكلم فيه لا يأخذه على أن يضمنه لهم من بيت المال نعم فيه أنه عند الحاجة يتوسل إلى الجهاد إذا لم يكن بالمسلمين قوة بالاستعارة من أهل الذمة بشرط الضمان لهم واما ما عن عمر فظاهر فيه لأن معنى يغزيه عنه ليس إلا أنه يأخذ الجهاز منه وإلا فهو غاز عن نفسه وإن أعطاه من بيت المال واما قوله يعطي الشاخص فرس القاعد فصريح فيه والحديث رواه ابن سعد في الطبقات عن محمد بن عمر الواقدي بسنده عن عمر انه كان يغزي عن ذي الحليلة وليس فيه أمر الفرس وروى ابن أبي شيبة حدثنا حفص بن غياث بن عاصم عن ابي مجلز قال كان عمر يغزي العزب ويأخذ فرس المقيم فيعطيه المسافر & باب كيفية القتال
لما ذكر ان القتال لازم فلا بد أن يفعله وفعله على حد محدود شرعا فلا بد من بيانه فشرع فيه فقال وإذا دخل المسلمون دار الحرب يصح أن يكون عطفا على قوله الجهاد فرض على الكفاية عطف جملة وأن يكون واو استئناف فحاصروا المدينة وهي البلدة الكبيرة فعيلة من مدن بالمكان أقام به أو حصنا وهو المكان المحصن الذي لا يتوصل إلى ما في جوفه دعوهم إلى الإسلام فإن لم تبلغهم الدعوة فهو على سبيل الوجوب لأنه
____________________
(5/444)
صلى الله عليه وسلم امر بذلك أمراء الأجناد فمن ذلك ما أخرج الجماعة إلا البخاري من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه وألفاظ بعضهم تزيد على بعض وتختلف قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أو صاه في خاصته بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خصال ثلاث أو خلال فايتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وان عليهم ما على المهاجرين فإن ابوا أن يتحولوا منها فأخبرهم انهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الفىء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم ابو فاسألهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة اصحابك فإنكم إن تخفروا ذمتكم وذمة اصحابكم خير من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه وإذا أهل حصن فأرادوك ان تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم فإنك لا تدري اصبت حكم الله فيهم أم لا ثم اقضوا فيهم بعد ما شئتم وفي الأحاديث في ذلك كثرة وفي نفس هذا الحكم شهرة وإجماع ولأن بالدعوة يعلمون أنا ما نقاتلهم على أخذ أموالهم وسبي عيالهم فربما يجيبون إلى المقصود من غير قتال فلا بد من الاستعلام
واما حديث ابن عباس المذكور في الكتاب فرواه عبدالرزاق عن سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن ابيه عن ابن عباس قال ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما حتى دعاهم رواه الحاكم وصححه ولو قاتلوهم قبل الدعوة أثموا ولكن لا غرامة بما أتلفوا من نفس ولا مال من دية ولا ضمان لأن مجرد حرمة القتل لا توجب ذلك كما لو قتلوا النساء والصبيان وذلك لانتفاء العاصم وهو الإسلام والإحراز بدار الإسلام وفي المحيط بلوغ الدعوة حقيقة او حكما بأن استفاض شرقا وغربا أنهم إلى ما ذا يدعون وعلى ماذا يقاتلون فأقيم ظهورها مقامها انتهى
ولا شك أن في بلاد الله تعالى من لا شعور له بهذا الأمر فيجب أن المدار عليه ظن ان هؤلاء لم تبلغهم الدعوة فإذا كانت بلغتهم لا تجب ولكن يستحب اما عدم الوجوب فلما في الصحيحين عن ابن عوف كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال فكتب إلي إنما كان ذلك أول الإسلام قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون وانعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم واصاب يومئذ جويرية بنت الحرث حدثني به عبدالله بن عمر وكان في ذلك الجيش وروى ابو داود وغيره عن اسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إليه فقال أغر على أبني صباحا وحرق والغارة لا تكون مع دعوة وأبنى بوزن حبلى موضع من فلسطين بين عسقلان والرملة ويقال يبنى بناء مضمومة آخر الحروف وقيل اسم قبيلة واما
____________________
(5/445)
الاستحباب فلأن التكرار قد يجدي المقصود فينعدم الضرر الأعلى وقيد هذا الاستحباب بأن لا يتضمن ضررا بأن يعلم بأنهم بالدعوة يستعدون أو يحتالون أو يتحصنون وغلبة الظن في ذلك بما يظهر من أحوالهم كالعلم بل هو المراد وإذا فحقيقته يتعذر الوقوف عليها فإن أجابوا المدعو أو غيره إلى الإسلام فلا إشكال والحديث المشهور جعله غاية الأمر بالقتال حيث قال أمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وإن امتنعوا دعوهم إلى أداء الجزية بهذا أمر عليه الصلاة والسلام أمراء الأجناد وقد ذكرناه من حديث بريدة ولأنه أحد ما ينتهي به القتال كما نطق به النص قوله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } إلى قوله سبحانه { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وهذا إن لم يكونوا مرتدين ولا مشركي العرب فإن هؤلاء لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف على ما سيتضح فإن بذلوها أي قبلوها وكذا هو المراد بالإعطاء المذكور في القرآن بالإجماع وقد قال علي إنما بذلوا الجزية لتكون دمائهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا والأحاديث في هذا كثيرة بل هو من الضروريات
____________________
(5/446)
ومعنى حديث على رواه الشافعي في مسنده أخبرنا محمد بن الحسن الشيباني أنبأنا قيس بن الربيع الأسدي عن أبان بن تغلب عن الحسن بن ميمون عن أبي الجنوب قال قال على من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا ودينه كديننا وضعف الدارقطني ابا الجنوب قوله فإن أبو ذلك استعانوا عليهم بالله تعالى وحاربوهم لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث سليمان بن بريدة فإن أبوا ذلك فاستعن بالله عليهم وقاتلهم وتقدم الحديث بطوله والكلام عليه
والمدمر المهلك فيستعان بالله في كل الأمور ونصبوا عليهم المجانيق كما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الطائف على ما في الترمذي مفصلا فإنه قال قال قتيبة حدثنا وكيع عن رجل عن ثور بن يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على الطائف قلت لوكيع من هذا الرجل فقال صاحبكم عمر ابن هارون ورواه أبو داود في المراسيل عن مكحول مرسلا وكذا رواه ابن سعد في الطبقات وزاد أربعين يوما وذكره الواقدي في المغازي وذكر أن الذي أشار به سلمان الفارسي وحرقهم لأنه عليه الصلاة والسلام أحرق البويرة على ما روى الستة في كتبهم عن ابن عمر قال حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطعه وهى البويرة يعني أن البويرة اسم لنخل بنى النضير ولها يقول حسان بن ثابت ** وهان على سراة بنى لؤي ** حريق بالبويرة مستطير **
ولأن المقصود كبت أعداء الله وكسر شوكتهم وبذلك يحصل ذلك فيفعلون ما يمكنهم من التحريق وقطع الأشجار وإفساد الزرع هذا إذا لم يغلب على الظن انهم مأخوذون بغير ذلك فإن كان الظاهر أنهم مغلوبون وأن الفتح باد كره ذلك لأنه إفساد في غير محل الحاجة وما أبيح إلا لها قوله ولا بأس برميهم وإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر بل ولو تتراسوا بأسارى المسلمين وصبيانهم سواء على أنهم إن كفوا عن رميهم انهزموا المسلمون أم لم يعلموا ذلك إلا أنه لا يقصد برميهم إلا الكفار فإن أصيب أحد من المسلمين فلا دية ولا كفارة وعند الأئمة الثلاثة لا يجوز
____________________
(5/447)
رميهم في صورة التترس إلا إذا كان في الكف عن رميهم في هذه الحالة انهزام المسلمين وهو قول الحسن بن زياد فإن رموا اصيب أحد من المسلين فعند الحسن بن زياد فيه الدية والكفارة وعند الشافعي فيه الكفارة قولا واحدا وفي الدية قولان وقال ابو اسحاق إن قصده بعينه لزمه الدية علمه مسلما أو لم يعلمه لقوله عليه الصلاة والسلام ليس في الإسلام دم مفرج وإن لم يقصده بعينه بل رمى إلى الصف فأصيب فلا دية عليه واما الأول فلأن الإقدام على قتل المسلم حرام وترك قتل الكافر جائز ألا ترى أن للإمام أن لا يقتل الأسارى لمنفعة المسلمين فكان تركه لعدم قتل المسلم أولى ولأن مفسدة قتل المسلم فوق مصلحة قتل الكافر وجه الإطلاق أمران
____________________
(5/448)
الأول أن امرنا بقتالهم مطلقا ولو اعتبر هذا المعنى انسد بابه لأن حصنا ما أو مدينة قلما تخلو عن اسير مسلم فلزم من افتراض القتال مع الواقع من عدم خلو مدينة أو حصن عادة إهدار اعتبار وجوده فيه وصار كرميهم مع العلم بوجود أولادهم ونسائهم فإنه يجوز إجماعا مع العلم بوجود من لا يحل قتله فيهم واحتمال قتله وهو الجامع
غير أن الواجب أن لا يقصد بالرمي إلا الكافر لأن قصد المسلم بالقتل حرام بخلاف ما إذا لم يفترض وهو ما إذا فتحت البلدة قال محمد إذا فتح الإمام بلدة ومعلوم ان فيها مسلما أو ذميا لا يحل قتل أحد منهم لاحتمال كونه ذلك المسلم أو الذمي إلا أنه قال ولو أخرج واحدا من عرض الناس حل إذن قتل الباقي لجواز كون المخرج هو ذاك فصار في كون المسلم في الباقين شك بخلاف الحالة الأولى فإن كون المسلم أو الذمي فيهم معلوم بالفرض فوقع الفرق الثاني أن فيه دفع الضرر العام بالذب عن بيضة الإسلام بإثبات الضرر الخاص وهو واجب ثم إن المصنف أحال وجه المسئلة التترس على وجهي مسئلة ما إذا كان فيهم أسير مسلم حينئذ أو تاجر وقد يقال إن سلم أنه لا يخلو أهل حصن عن تاجر أو اسير فإطلاق افتراض القتال إهدار لاعتباره مانعا فلا نسلم انه لا يخلو أهل حصن أن يتترسوا بالمسلمين ليكون إطلاق الافتراض إهدار لحرمة الرمي فإن المشاهدة نفته فوجب ان يتقيد بما إذا لم يكن طريقا إلى قتل المسلم غالبا واما قوله إنه دفع الضرر العام بإلحاق الضرر الخاص فقد يقال إن ذلك عند العلم بانهزام المسلمين لو لم يرم وحل الرمى عند ذلك لم يتقيد به واعلم أن المراد ان كل قتال مع الكفار هو دفع الضرر العام بذب عن بيضة الإسلام أي مجتمعهم وإن لم يحصل فيه الظفر تضرر المسلمون كلهم وهو محل تأمل وبتقديره هو ضرر خفيف اشد منه قتل المسلم في غالب الظن وإنما يكون الضرر العام مقدما على هذا إذا كان فيه هزيمتهم ونحوها فإن قيل فلم لم يغرم الدية إذا أصيب مسلم مع قوله عليه الصلاة والسلام وليس في الإسلام دم مفرج أي مهدر أجيب بأنه عام مخصوص بالبغاة وقطاع الطريق وغيرهم فجاز تخصيصه بالمعنى وهو ما ذكر من قوله لأن الفروض لا تقرن بالغرامات كما ذكرنا فيما لو مات من عزره القاضي أو حده أنه لا دية فيه لأن القضاء بذلك فرض عليه فلا يتقيد بشرط السلامة وإلا امتنع عن الإقامة بخلاف المضطر حالة المخمصة لأنه لا يمتنع عن الأكل مخافة الضمان لأن الامتناع هلاك نفسه والضمان أخف عليه من هلاكها فلا تمتنع أما الجهاد فمبني على إتلاف نفسه فيمتنع حذاره واعلم أن المذهب عندنا في المضطر انه لا يجب عليه أكل مال الغير مع الضمان
____________________
(5/449)
فلم يكن فرضا فهو كالمباح يتقيد بشرط السلامة كالمرور في الطريق فلا حاجة إلى الفرق بينه وبين افتراض الجهاد في نفي الضمان قوله ولا بأس بإخراج النساء والمصاحف مع المسلمين إذا كانوا عسكرا عظيما يؤمن عليه لأن الغالب هو السلامة والغالب كالمتحقق ويكره إخراج ذلك في سرية لا يؤمن عليها لأن فيه تعريضهن على الضياع والفضيحة وتعريض المصاحف على الاستخفاف منهم لها قال المصنف وهو التأويل الصحيح لقوله عليه الصلاة والسلام لا تسافروا بالقرآن إلى ارض العدو وهذا الحديث رواه الستة إلا الترمذي من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر وقوله وهو التأويل الصحيح احتراز عما ذكر فخر الإسلام عن أبي الحسن القمي والصدر الشهيد عن الطحاوي ان ذلك إنما كان عند قلة المصاحف كي لا ينقطع عن ايدي الناس واما اليوم فلا يكره أما التأويل الصحيح فما ذكره المصنف وهو منقول عن مالك راوي الحديث فإن أبا داود وابن ماجه زادا بعد قوله إلى أرض العدو قال مالك أرى ذلك مخافة ان يناله العدو والحق أنها من قول النبي صلى الله عليه وسلم على ما أخرجه مسلم وابن ماجه عن الليث عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينهى ان يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ويخاف ان يناله العدو واخرجه مسلم عن ايوب السختياني عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسافروا بالقرآن فإني لا آمن ان يناله العدو وفي رواية لمسلم فإني اخاف فلذا حكم القرطبي والنووي بأنها من قول النبي صلى الله عليه وسلم وغلطا من زعم انها من قول مالك وقد يكون مالك لم يسمعها فوافق تأويله أو شك في سماعه إياها وفي فتاوى قاضيخان قال ابو حنيفة أقل السرية اربعمائة واقل العسكر أربعة الاف وفي المبسوط السرية عدد قليل يسيرون بالليل ويكمنون بالنهار انتهى وكان المراد من شأنهم ذلك إلا فقد لا يكمنون وكأنه مأخوذ من السرى وهو السير ليلا فكان الأولى أن يقال بعد قوله يؤمن عليه ويكره إخراجه فيما ليس كذلك فإن الانتقال من العسكر العظيم إلى السرية طفرة كبيرة ليست مناسبة والذي يؤمن عليه في توغله في دار الحرب ليس إلا العسكر العظيم وينبغي كونه اثني عشر الفا لما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة وهو أكثر ما روى فيه هذا باعتباره أحوط وهذا ظاهر مذهبنا ومذهب الشافعي ومذهب مالك إطلاق المنع أخذا بلإطلاق الحديث قال القرطبي لا فرق بين
____________________
(5/450)
الجيش والسرايا عملا بإطلاق النص وهو إن كان نيل العدو له في الجيش العظيم نادرا فنسيانه وسقوطه ليس بنادر وانت علمت أن العلة المنصوصة لما كانت من مخافة نيله فيناط بما هو مظنته فيخرج الجيش العظيم والنسيان والسقوط نادر مع الاهتمام والتشمر للحفظ الباعث عليه وذلك ان حمله لا يكون إلا ممن يخاف نسيان القرآن فيأخذه لتعاهده فيبعد ذلك منه وكتب الفقه ايضا كذلك وذكره في المحيط معزوا إلى السير الكبير فكتب الحديث أولى ثم الأولى في إخراج النساء العجائز للطب والمداواة والسقي دون الشواب ولو احتيج إلى المباضعة فالأولى إخراج الإماء دون الحرائر ولا يباشرن القتال لأنه يستدل به على ضعف المسلمين إلا عند الضرورة وقد قاتلت أم سليم يوم خيبر واقرها عليه الصلاة والسلام حيث قال لمقامها خير من مقام فلان وفلان يعني بعض المنهزمين قوله ولا تقاتل المرأة إلا بإذن زوجها ولا العبد إلا بإذن سيده لما بينا من تقدم حق الزوج والمولى إلا أن يهجم العدو على ما تقدم قوله وينبغي للمسلمين اي يحرم عليهم ان يغدروا أو يغلوا او يمثلوا والغلول السرقة والغنيمة
والغدر الخيانة ونقض العهد قوله لقوله عليه الصلاة والسلام لا تغلو الخ تقدم في حديث بريدة وقوله عليه الصلاة والسلام ولا تمثلوا اي المثلة يقال مثلت بالرجل بوزن ضربت أمثل به بوزن أنصر مثلا ومثله إذا سودت وجهه أو قطعت أنفه ونحوه وذكره في الفائق وقول المصنف والمثلة المروية في قصة العرنيين منسوخة بالنهي المتأخر هو المنقول وقد اختلف العلماء في ذلك فعندنا والشافعي منسوخة كما ذكر قتادة في لفظ في الصحيحين بعد رواية حديث العرنيين قال فحدثني ابن سيرين ان ذلك كان قبل أن تنزل الحدود وفي لفظ للبيهقي قال انس ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك خطبة إلا نهى فيها عن المثلة وقال ابو الفتح اليعمري في سيرته من الناس من ابى ذلك إلى أن قال وليس فيها يعني آية الحرابة أكثر مما يشعر به لفظة إنما من الاقتصار في حد الحرابة على ما في الآية واما من زاد على الحرابة جنايات أخر كما فعل هؤلاء كما روى ابن سعد في خبرهم أنهم قطعوا يد الراعي ورجله وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات فليس في الآية ما يمنع من التغليظ عليهم والزيادة في عقوبتهم فهذا ليس بمثله والمثلة ما كان ابتداء على غير جزاء وقد جاء في صحيح مسلم إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم اعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاء ولو أن شخصا جنى على قوم جنايات في أعضاء متعددة فاقتص منه لما كان التشويه الذي حصل له من المثلة وقال ذكر البغوي في سبب نزولها يعني آية الجزاء سببا آخر وإذا اختلف في سبب نزول الآية الأقوال وتطرق إليها الاحتمال فلا نسخ وحاصل هذا القول أن المثلة بمن مثل جزاء ثابت لم ينسخ والمثلة بمن استحق القتل لا عن مثله لا تحل لا أنها منسوخة لأنها لم
____________________
(5/451)
تشرع أولا لأن ما وقع للعرنيين كان جزاء تمثيلهم بالراعي ولا شك أن قوله لا تمثلوا على ما تقدم من رواية الجماعة ونحوها إما أن يكون متأخرا عن مثله العرنيين فظاهر نسخها أو لا يدري فيتعارض محرم ومبيح خصوصا والمحرم قول فيتقدم المحرم وكلما تعارض نصان وترجح أحدهما تضمن الحكم بنسخ الآخر ورواية أنس صريح فيه وأما من جنى على جماعة جنايات متعددة ليس فيها قتل بأن قطع أنف رجل وأذني رجل وفقأ عين آخر وقطع يد آخر ورجل آخر فلا شك في أنه يجب القصاص لكل واحد أداء لحقه لكنه يجب أن يستأتي بكل قصاص بعد الذي قبله إلى أن يبرأ منه وحينئذ يصير هذا الرجل ممثلا به أي مثله ضمنا لا قصدا وإنما يظهر أثر النهي والنسخ فيمن مثل بشخص حتى قتله فمقتضى النسخ ان يقتل به ابتداء ولا يمثل به ثم لا يخفى ان هذا بعد الظفر والنصر أما قبل ذلك فلا بأس به إذا وقع قتالا كمبارز ضرب فقطع أذنه ثم ضرب ففقأ عينه فلم ينته فضرب فقطع أنفه ويده ونحو ذلك قوله ولا يقتلوا امرأة ولا صبيا أخرج الستة إلا النسائي عن ابن عمر رضى الله عنهما أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولة فنهى عن قتل النساء والصبيان واخرج ابو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال انطلقوا باسم الله وعلى ملة رسول الله لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا صغيرا ولا امرأة ولا تغلوا وضموا غنائمكم واصلحوا واحسنوا إن الله يحب المحسنين وفيه خالد بن الفزر قال ابن معين ليس بذاك واما معارضته بما أخرج ابو داود عن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتلوا الشيوخ المشركين واستبقوا شرخهم فاضعف منه ثم على أصول كثير من الناس لا معارضة بل يجب أن تخص الشيوخ بغير الفاني فإن المذكور في ذلك الحديث الشيخ الفاني ليخص العام مطلقا بالخاص نعم يعارض ظاهرا بما أخرج الستة عن الصعب بن حثامة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ونسائهم فقال عليه الصلاة والسلام هم منهم وفي لفظ هم من آبائهم فيجب دفعا للمعارضة حمله على مورد السؤال وهم المبيتون وذلك أن فيه ضرورة عدم العلم والقصد إلى الصغار بأنفسهم لأن التبييت يكون معه ذلك والتبييت هو المسمى في عرفنا بالكبسة وما الظن إلا أن حرمة قتل النساء والصبيان إجماع وأما الحديث الذي ذكر المصنف أنه عليه الصلاة والسلام رأى امرأة مقتولة فهو ما رواه ابو داود والنسائي عن ابي الوليد الطيالسي عن عمر بن المرقع بن صيفي حدثني ابي عن جده رباح بن الربيع بن صيفي قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة فرأى الناس مجتمعين على شىء فبعث رجلا
____________________
(5/452)
فقال انظر علام اجتمع هؤلاء فجاء رجل فقال امرأة قتيل فقال ما كانت هذه تقاتل وعلى المقدمة خالد بن الوليد فبعث رجلا فقال قل لخالد لا تقتلن امرأة ولا عسيفا واخرجه النسائي ايضا وابن ماجه عن المغيرة بن عبدالرحمن عن ابي الزناد عن المرقع وكذا أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وفي لفظه فقال هاه ما كانت هذه تقااتل ثم قال وهكذا رواه المغيرة بن عبدالرحمن وابن جريج عن ابي الزناد فصار الحديث صحيحا على شرط الشيخين وهاه كلمة زجر والهاء الثانية للسكت وإذا ثبت فقد علل القتل بالمقاتلة في قوله ما كانت هذه تقاتل فثبت ما قلنا من أنه معلول بالحرابة فلزم قتل ما كان مظنه له بخلاف ما ليس إياه وبمنع قتل النساء والصبيان أو يابس انشق ونحوه يبطل كون الكفر من حيث هو كفر علة أخرى وإلا لقتل هؤلاء وهو المراد بقول المصنف والحجة عليه أي على الشافعي ما بيناه يعني عدم قتل يابس الشق لكن هذا الإلزام على أحد القولين له فإنه ذكر في شرح الوجيز وفي الشيوخ والعميان والضعفاء والزمني ومقطوعي الأيدي والأرجل قولان في قول يجوز قتلهم وبه قال احمد في رواية لعموم { فاقتلوا المشركين } وروى عنه عليه الصلاة والسلام اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم ولأنهم كفار والكفر مبيح للقتل وفي قول لا يجوز وبه قال أبو حنيفة ومالك وذكر ما ذكرناه من الحديث المانع من قتل الشيخ الفاني قال والمقعد والزمن والمقطوع اليدين والرجلين في معناه وعن ابي بكر أنه أوصى يزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام فقال لا تقتلوا الولدان و لاالنساء ولا الشيوخ الخبر انتهى وانت تعلم ان قوله تعالى { فاقتلوا المشركين } عام مخصوص بالذمي والنساء والصبيان فجاز تخصيص الشيخ الفاني ومن ذكر المصنف بالقياس لو لم يكن فيهم خبر فكيف وفيهم ما سمعت بل ما قدمنا من أن النصوص مقيدة ابتداء بالمحاربين على ما ترجع إليه واما حديث الشيوخ فتقدم أنه ضعيف بالانقطاع عندهم وبالحجاج بن ارطاة ولو سلم فيجب تخصيصه على ما ذكرنا على اصولهم واما قول المصنف صح انه عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل الصبيان والذراري فلمراد بالذراري النساء من اسم السبب في المسبب قال في العرنيين وفي الحديث لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا أي امرأة ولا أجيرا ثم المراد بالشيخ الفاني الذي لا يقتل هو من لا يقدر على القتال ولا الصياح عند التقاء الصفين ولا على الإحبال لأنه يجىء منه الولد فيكثر محارب المسلمين ذكره في الذخيرة وذكر الشيخ أبو بكر الرازي في كتاب المرتد من شرح الطحاوي انه إذا كان كامل العقل نقتله ومثله نقتله إذا ارتد والذي لا نقتله الشيخ الفاني الذي خرف وزال عن حدود العقلاء والمميزين فهذا حينئذ يكون بمنزلة المجنون فلا نقتله ولا إذا ارتد قال واما الزمني فهم بمنزلة الشيوخ فيجوز قتلهم إذا رأى الإمام ذلك كما يقتل سائر الناس بعد أن يكونوا عقلاء ونقتلهم أيضا إذا ارتدوا أه ولا نقتل مقطوع اليد اليمنى والمقطوع يده ورجله من خلاف ونقتل اقطع اليد اليسرى أو إحدى الرجلين وإن لم يقاتل قوله إلا أن يكون أحد هؤلاء استثناء من حكم عدم القتل ولا خلاف في هذا لأحد
____________________
(5/453)
وصح أمره عليه الصلاة والسلام بقتل دريد بن الصمة وكان عمره مائة وعشرين عاما او أكثر وقد عمى لما جىء به في جيش هوزان للرأي وكذلك يقتل من قاتل من كل من قلنا إنه لا يقتل كالمجنون والصبي والمرأة إلا أن الصبي والمجنون يقتلان في حال قتالهما أما غيرهما من النساء والرهبان ونحوهم فإنهم يقتلون إذا قاتلوا بعد الأسر والمرأة الملكة تقتل وإن لم تقاتل وكذا الصبي الملك والمعتوه الملك لأن في قتل الملك كسر شوكتهم وفي السير الكبير لا يقتل الراهب في صومعته ولا أهل الكنائس الذين لا يخالطون الناس فإن خالطوا قتلوا كالقسيسين والذي يجن ويفيق يقتل في حال إفاقته وإن لم يقاتل قوله ويكره أن يبتدئ الرجل أباه من المشركين أو جده أم أمه إذا قاتلت أو جدته بالقتل لقوله تعالى { وصاحبهما في الدنيا معروفا } نزلت في الأبوين ولو مشركين لقوله تعالى { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم } الآية ولأنه يجب عليه الإنفاق لإحيائه فيناقضه الإطلاق في إفنائه فإن ادركه أي أدرك الأب الإبن ليقتله والابن قادر على قتله امتنع الابن على الأب بغير القتل بل يشغله بالمحاولة بأن يعرقب فرسه أو يطرحه عن فرسه ويلجئه إلى مكان ولا ينبغي أن ينصرف عنه ويتركه لأنه يصير حربا علينا بل يلجئه إلى أن يفعل ما ذكرنا ولا يدعه أن يهرب إلى أن يجيئ من يقتله فأما إن لم يتمكن الابن من دفعه عن نفسه ألا بالقتل فليقتله لأنه لو كان مسلما أراد قتل ابنه ولا يتمكن من التخلص منه إلا بقتله كان له قتله لتعينه طريقا لدفع شره فهنا أولى ولو كان في سفر وعطشا ومع الابن ماء يكفي لنجاة أحدهما كان للابن شربه ولو كان الأب يموت وينبغي أنه لو سمع أباه المشرك يذكر الله أو رسوله بسوء يكون له قتله لما روى أن أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه حين سمعه يسب النبي صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكره للأب قتل ابنه المشرك وكذا سائر القرابات عندنا كالعم والخال يباح قتلهم ولا مناقضة
____________________
(5/454)
لأن نفقة ذوى الأرحام عندنا لا تجب إلا للمسلمين منهم بخلاف القرابات البغاة يكره أن يبتدئهم كالأب وأما في الرجم إذ كان الإبن أحد الشهود فيبتدئ بالرجم ولا يقصد قتله بأن يرميه مثلا بحصاة والله الموفق & باب الموادعة ومن يجوز امانه
الموادعة المسالمة وهو جهاد معنى لا صورة فأخره عن الجهاد صورة ومعنى وما قيل لأنه ترك الجهاد وترك الشيء يقتضي سبق وجوده فغير صحيح بل يتحقق ترك الزنا وسائر المعاصي ممن لم توجد منه أصلا ويثاب على ذلك وكيف وهو مكلف بتركها في جميع عمره ولإ كان تكليفا بالمحال قوله وإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقا منهم بمال وبلا مال وكان ذلك مصلحة للمسلمين فلا بأس به لقوله تعالى { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله } والآية إن كانت مطلقة لكن إجماع الفقهاء على تقييدها برؤية مصلحة للمسلمين في ذلك بآية أخرى هي قوله تعالى { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون } فأما إذا لم يكن في الموادعة مصلحة فلا يجوز بالإجماع وفي السلم كسر السين وفتحها مع سكون الام وفتحها ومنه قوله تعالى { وألقوا إليكم السلم } ومقتضى الأصول أنها إما منسوخة إن كانت الثانية بعدها أي نسخ الإطلاق وتقيده بحالة المصلحة أو المعارضة في حالة عدم وجود المصلحة إن لم يعلم ثم ترجح مقتضى المنع أعني آية { ولا تهنوا } كما هو القاعدة في تفديم المحرم
____________________
(5/455)
وأما حديث موادعته عليه الصلاة والسلام أهل مكة عام الحديبية عشر سنين فنظر فيه بعض الشارحين بأن الصحيح عند أصحاب المغازى أنها سنتان كذا ذكره معتمر بن سليمان عن أبيه وليس بلازم لأن الحاصل أن أهل النقل مختلفون في ذلك فوقع في سيرة موسى بن عقبة أنها كانت سنتين أخرجه البيهقى عنه وعن عروة بن الزبير مرسلا ثم قال البيهقى وقولهما سنتين يريدان بقاءه سنتين إلى أن نقض المشركون عهدهم وخرج النبى صلى الله عليه وسلم إليهم لفتح مكة وأما المدة التى وقع عليها عقد الصلح فيشبه أن يكون المحفوظ ما رواه محمد ابن إسحاق وهى عشر سنين اه وما ذكره عن ابن إسحاق هو المذكور في سيرته وسيرة ابن هشام من غير أن يتعقبة ورواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق عن الزهرى عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ولا إغلال ورواه أحمد رحمه الله في مسنده مطولا بقصة الفتح حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا ابن إسحاق فساقه إلى أن قال على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض وكذا رواه الواقدى في المغازى حدثنى ابن أبى سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبى بردة عن واقد بن عمرو فذكر قصة الحديبية إلى أن قال على وضع الحرب عشر سنين الخ والوجه الذى ذكره البيهقى وجه حسن به تنتفى المعارضة فيجب اعتباره فإن الكل اتفقوا على أن سبب الفتح كان نقض قريش العهد حيث أعانوا على خزاعة وكانوا دخلوا في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلفوا في مدة الصلح فوقع الخلاف ظاهرا بأن مراد من قال سنتين أن بقاءه سنتان ومن قال عشرا قال إنه عقده عشرا كما رواه كذلك فإنه لا تنافى بينهما حينئذ والله سبحانه أعلم قوله ولا يقتصر الحكم وهو جواز الموادعة على المدة المذكورة وهى عشر سنين لتعدى المعنى الذى به علل جوازها وهو حاجة المسلمين أو ثبوت مصلحتهم فإنه قد يكون بأكثر بخلاف ما إذا لم تكن الموادعة أو المدة المسماة خيرا للمسلمين فإنه لا يجوز لأنه ترك للجهاد صورة ومعنى وما أبيح إلا باعتبار أنه جهاد وذلك إنما يتحقق إذا كان خيرا للمسلمين وإلا فهو ترك للمأمور به وبهذا يندفع ما نقل عن بعض العلماء من منعه أكثر من عشر سنين وإن كان الإمام غير مستظهر وهو قول الشافعى ولقد كان صلح الحديبية مصالح عظيمة فإن الناس لما تقاربوا انكشف محاسن الإسلام للذين كانوا متباعدين لا يعقلونها من المسلمين لما قاربوهم وتخالطوا بهم
____________________
(5/456)
قوله وإن صالحهم مدة ثم رأى أن نقض الصلح أنفع نبذ إليهم عهدهم وذلك بأن يعلمهم أنه رجع عما كان وقع قال تعالى { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } أي على سواء منكم منهم في العلم بذلك لكن ظاهر الآية أنه مقيد بخوف الخيانة وهو مثل { إن علمتم فيهم خيرا } الخيانة لازم للعلم بكفرهم وكونهم حربا علينا والإجماع على أنه لا يتقيد بخطور الخوف لأن المهادنة في الأول ما صحت إلا لأنها أنفع فلما تبدل الحال عاد إلى المنع ولا بد من النبذ تحرزا عن الغدر وهو محرم بالعمومات نحو ما صح في البخارى عنه عليه الصلاة والسلام من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أربع خلال من كن فيه كان منافقا خالصا من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وروى أبو داود والترمذي وصححه كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر فنظروا فإذا هو عمرو بن عبسة فأرسل إليه معاوية فسأله فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كان بينه وبين قوم عهد فليشهد عقده ولا يحلها حتى ينقضى أمدها أو ينبذ إليهم على سواء فرجع معاوية بالناس ورواه أحمد وابن حبان وابن أبى شيبة وغيرهم وأما ما ذكر المصنف من قوله عليه الصلاة والسلام وفاء لا غدر فلم يعرف في كتب الحديث إلا من قول عمرو بن عبسة هذا وأما استدلاله بأنه صلى الله عليه وسلم نبذ الموادعة التى كانت بينه وبين أهل مكة فالأليق أن يجعل دليلا فيما يأتى من قوله وإن بدءوا بخيانة قاتلهم ولم ينبذ إليهم إذا كان باتفاقهم لأنهم صاروا ناقضين للعهد فلا حاجة إلى نقضه وكذا إذا دخل جماعة منهم لهم منعة وقاتلوا المسلمين علانية يكون نقضا في حقهم خاصة فيقتلون ويسترقونهم ومن معهم من الذرارى إلا أن يكون بإذن ملكهم فيكون نقضا في حق الكل ولو لم تكن لهم منعة لم يكن نقضا لا في حقهم ولا في حق غيرهم وإنما قلنا هذا لأنه إليه الصلاة والسلام لم يبدأ أ هل مكة بل هم بدءوا بالغدر قبل مضى المدة فقاتلهم ولم ينبذ إليهم بل سأل الله تعالى أن يعمى عليهم حتى
____________________
(5/457)
يبغتهم هذا هو المذكور لجميع اصحاب السير والمغازي ومن تلقى القصة ورواها كما في حديث ابن اسحاق عن الزهري عن عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة قالا كان في صلح النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه من شاء ان يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فدخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عيه وسلم ودخلت بنو بكر في عقد قريش فمكثوا في الهدنة نحو السبعة اوالثمانية عشر شهرا ثم ان بني بكر الذين دخلوا في عقد قريش وثبوا على خزاعة الذين دخلوا في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا بماء لهم يقال له الوتير قريب من مكة وقالت قريش هذا ليل ولا يعلم بنا محمد ولا يرانا احد فأعانوا بني بكر بالسلاح والكراع وقاتلوا خزاعه معهم وركب عمرو بن سالم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك يخبره الخبر فلما قدم عليه انشده لاهم اني ناشد محمدا ** حلف ابينا وابيه الاتلدا ** ** ان قريشا اخلفوك الموعدا وتفضلوا ميثاقك المؤكدا ** ** هم بيتونا بالوتير هجدا ** فقتلونا ركعا وسجدا ** ** فانصر رسول الله نصرا عتدا **
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرت يا عمرو بن سالم ثم امر الناس فتجهزوا وسأل الله ان يعمي على قريش خبرهم حتى يبغتهم في بلادهم وذكر موسى بن عقبة نحو هذا وان بكر قال له يا رسول الله ألم يكن بينك وبينهم مدة قال الم يبلغك ما صنعوا ببني كعب ورواه الطبراني من حديث ميمونه ورواه ابن ابي شبية مرسلا عن عروة ورواه مرسلا عن جماعة كثيرين في كتاب المغازي وفيه فقال ابو بكر يا رسول الله او لم يكن بيننا وبينهم مدة فقال انهم غدروا ونقضوا العهد فأنا غاربهم ثم في النبذ لا يكفي مجرد اعلامهم بلا لا بد من مضى مدة يتمكن ملكهم بعد علمه بالنبذ من انفاذ الخبر الى اطراف مملكته ولا يجوز ان يغير على شيء من بلادهم قبل مضى تلك المدة قوله وان رأى الامام موادعة اهل الحرب وان يأخذ المسلمون على ذلك مالا حاز لانه لما جاز بلا مال فبالمال وهو اكثر نفعا اولى الا ان هذا اذا كان بالمسلمين حاجة اما اذا لم تكن فلا بوادعهم لما بينا من قبل يعني قوله لانه ترك للجهاد صورة ومعنى قال شارح ويجوز ان يكون اشارة الى قوله لانه يشبه الاجر يعني في مسئلة الجعل قبل باب كيفية القتال وهذا يقتضي ان الموادعة تجوز واخذ مالهم لايجوز اذا كان مال المسلمين كثيرا غير انهم ليسوا متأهبين للحرب لقلة العدد الحاضر لتفرق المقاتلة في البلاد ونحوه وهو بعيد لان ذلك كله جهاد وفي اخذ مالهم كسر لشوكتهم وتقليل لمادتهم فأخذه لهذا المعنى من الجهاد
____________________
(5/458)
لا الاجرة على الترك وباعتباره ثم ما يؤخذ من هذا المال يصرف مصارف الخراج والجزية ان كان قبل النزول بساحتهم بل برسول اما اذا نزلنا بهم فهو غنية يخمسها ويقسم الباقي لانه مأخوذ منهم قهرا معنى واما المرتدون فلا بأس بموادعتهم ومعلوم ان ذلك اذا غلبوا على بلدة صارت دارهم دار الحرب والا فلا لان فيه تقرير المرتد على الردة وذلك لا يجوز ولهذا قيده الفقيه ابو الليث في شرح الجامع الصغير بما ذكرنا قال يدل عليه وضع المسئلة في مختصر الكرخي بقوله غلب المرتدون على دار من دور الاسلام فلا بأس بموادعتهم عند الخوف فلو وادعهم على المال لا يجوز لانه في معنى الجزية ولا تقبل من المرتد جزية وقوله لما نبين يعنى في باب الجزية و مع هذا لو اخذه لا يرده عليهم لان مالهم فيء للمسلمين اذا ظهروا بخلاف ما اذا اخذ من اهل البغي حيث يرد عليهم بعدما وضعت الحرب اوزارها لانه ليس فيئا الا انه لا يردة حال الحرب لانه اعانة لهم قولة ولو حاضر العدو المسلمين وطلبوا الموادعة على مال يدفعة المسلمون اليهم لا يفعله الامام لما فيه من اعطاء الدنية اي النقيصة ومن ذلك قول عمر لابي بكر رضي الله عنهما في الحديبية وكان متجانفا عن الصلح اليس برسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابو بكر بلى قال اولسنا بالمسلمين قال بلى قال اوليسوا بالمشركين قال بلى قال فعلام نعطى الدنية في ديننا فقال ابو بكر الزم غرزة فاني اشهد انه رسول الله فقال عمر وانا اشهد انه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره ابن اسحاق في السير وفي الحديث ليس للمؤمن ان يذل نفسه فالعزة خاصية الايمان قال الله تعالى { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } الا اذا خاف الامام الهلاك على نفسه والمسلمين فلا بأس لان النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتد على الناس البلاء في وقعة الخندق ارسل الى عيينة بن حصن الفزاري والحرث بن عوف بن ابي حارثة المري وهما قائدا غطفان واعطاهما ثلث ثمار المدينة على
____________________
(5/459)
أن يرجعا بمن معهما فجرى بينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه فقالا له يا رسول الله أمرا تحبه فتصنعه أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم شيئا تصنعه لنا قال بلى شىء أصنعه لكم والله ما اصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما فقال له سعد بن معاذ يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلون منا تمرة إلا قرى او بيعا أفحين اكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم اموالنا ما لنا بهذا من حاجة والله ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنت وذاك فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة ثم قال ليجهدوا علينا قال محمد بن إسحاق حدثني به عاصم بن عمرو بن قتادة ومن لا أتهم عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري وعلل المصنف هذا بقوله لأن دفع الهلاك واجب بأي طريق يمكن وهو تساهل فإنه لا يجب دفع الهلاك بإجراء كلمة الكفر ولا بقتل غيره لو أكره عليه بقتل نفسه بل يصبر للقتل ولا يقتل غيره ولو شرطوا في الصلح أن يرد عليهم من جاء مسلما منهم بطل الشرط فلا يجب الوفاء به فلا يرد إليهم من جاءنا منهم مسلما وهو قول مالك وقال الشافعي يجب الوفاء به في الرجال دون النساء لأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في الحديبية حين جاء أبو جندل بن عمرو بن سهيل وكان قد اسلم فرده فصار ينادي يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنوني عن ديني فقال له عليه الصلاة والسلام اصبر أبا جندل واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا وكذا رد أبا بصير وأما شرط مثله في النساء لا يجوز ردهن ولا شك في انفساخ نكاحها فلو طلب زوجها الحربي المهر هل يعطاه للشافعي فيه قولان في قول لا يعطاه وهو قولنا وقول مالك واحمد وفي قول يعطاه قال تعالى { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } وهذا هو دليل النسخ في حق الرجال ايضا إذ لا فرق بين النساء والرجال في ذلك بل مفسدة رد المسلم إليهم أكثر وحين شرع ذلك كان في قوم من اسلم منهم لا يبالغون في تعذيبه فإن كان قبيلة لا تتعرض لمن فعل ذلك من قبيلة اخرى إنما يتولى ردعه عشيرته وهم لا يبالغون فيه أكثر من القيد والسب والإهانة ولقد كان بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من المستضعفين مثل أبي بصير وابي جندل بن عمرو بن سهيل إلى نحو سبعين لم يبلغوا فيهم النكاية لعشائرهم والأمر الآن على خلاف ذلك قوله ولا ينبغي ان يباع السلاح من اهل الحرب اذا حضروا مستأمنين ولا يجهز إليهم مع التجار إلى دار الحرب لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع السلاح من أهل الحرب وحمله إليهم والمعروف ما في سنن البيهقي ومسند البزار ومعجم الطبراني من حديث
____________________
(5/460)
بحر بن كنيز السقاء عن عبيد الله اللقيطي عن ابي رجاء عن عمران بن الحصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السلاح في الفتنة قال البيهقي الصواب أنه موقوف واخرجه ابن عدي في الكامل عن محمد بن مصعب القرقساني وقد اختلف فيه ضعفه ابن معين وقال ابن عدي وهو عندي لا بأس به ونقل عن أحمد نحو ذلك قال المصنف ولأن فيه اي في نقل السلاح وتجهيزه إليهم تقويتهم على قتال المسلمين وكذا الكراع أي الخيل ولا فرق في ذلك بين ما قبل الموادعة وبين ما بعدها لأنها على شرف الانقضاء او النقض قال وهو القياس في الطعام أي القياس فيه أن يمنع من حمله إلى دار الحرب لأنه به يحصل التقوى على كل شىء والمقصود إضعافهم إلا أنا عرفناه اي نقل الطعام إليهم بالنص يعني حديث ثمامة وفي آخره قوله لأهل مكة حين قالوا له اصبوت فقال إني والله ما صبوت ولكني أسلمت وصدقت محمد وآمنت به وايم الذي نفس ثمامة بيده لا تأتيكم حبة من اليمامة وكانت ريف مكة ما بقيت حتى يأذن فيها محمد صلى الله عليه وسلم وانصرف إلى بلده ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يحمل إليهم الطعام ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكره ابن هشام في آخر السيرة وذكر انهم قالوا له صبأت فقال لا ولكني اتبعت خير الدين دين محمد والله لا تصل إليكم حبة من اليمامة حتى ياذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنك تأمر بصلة الرحم وإنك قد قطعت ارحامنا فكتب عليه الصلاة والسلام إليه أن يخلى بينهم وبين الحمل وأما بيع الحديد فمنعه المصنف لأنه أصل السلاح وهو ظاهر الرواية فإن الحاكم نص على تسوية الحديد والسلاح وذهب فخر الإسلام في شرح الجامع الصغير إلى أنه لا يكره حيث قال وهذا في السلاح وأما فيما لا يقاتل به إلا بصنعة فلا بأس به كما كرهنا بيع المزامير وابطلنا بيع الخمر ولم نر ببيع العنب بأسا ولا ببيع الخشب وما اشبه ذلك وقال الفقيه ابو الليث في شرحه وليس هذا كما قالوا في بيع العصير ممن يجعله خمرا لأن العصير ليس بآلة المعصية بل يصير آلة لها بعد ما يصير خمرا واما هنا فالسلاح آلة الفتنة في الحال ويكره بيعه ممن يعرف بالفتنة قيل بإشارة هذا يعلم أن بيع الحديد منهم لا يكره
فروع من المبسوط طلب ملك منهم الذمة على أن يترك ان يحكم في أهل مملكته ما شاء من قتل وظلم لا يصلح في الإسلام لا يجاب إلى ذلك لأن التقرير على الظلم مع قدرة المنع منه حرام ولأن الذمي من يلتزم احكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات فشرط خلافة باطل ولو كان له ارض فيها قوم من اهل مملكته هم عبيده يبيع منهم
____________________
(5/461)
ما شاء فصالح وصار ذمة فهم عبيد له كما كانوا يبيعوه إن شاء لأن عقد الذمة خلف عن الإسلام في الأحرار ولم اسلم كانوا عبيده فكذا إذا صار ذميا وهذا لأنه كان مالكا لهم بيده القاهرة وقد ازدادت وكادة بعقد الذمة فإن ظفر عليهم عدو فاستنقذهم المسلمون فإنهم يردونهم على هذا الملك بغير شىء قبل القسمة وبالقيمة بعد القسمة كسائر اموال أهل الذمة وهذا لأن على المسلمين القيام بدفع الظلم عن اهل الذمة كما عليهم ذلك في حق المسلمين وكذا لو أسلم الملك واهل أرضه أو اسلموا هم دونه هم عبيده ولو وادعوا على أن يؤدوا كل سنة شيئا معلوما وعلى ان لا يجرى عليهم في بلادهم احكام المسلمين لا يفعل ذلك إلا أن يكون خيرا للمسلمين لأنهم بهذه الموادعة لا يلتزمون احكام المسلمين ولا يخرجون من ان يكونوا اهل حرب وترك القتال مع اهل الحرب لا يجوز الا ان يكون خيرا للمسلمين ثم إن فعل ذلك إن كان بعد ما أحاط بهم الجيش او قبله برسول تقدم حكم هذا المال ولو صالحوهم على أن يؤدوا إليهم في كل سنة مائة رأس من أنفسهم وأولادهم لم يصح لأن هذا الصلح وقع الى جماعتهم فكانوا كلهم مستأمنين واسترقاق المستأمن لا يجوز ألا ترى أن واحدا منهم لو باع ابنه بعد هذا الصلح لم يجز فكذلك لا يجوز تمليك شىء من نفوسهم واولادهم بحكم تلك الموادعة لأن حريتهم تأكدت بخلاف ما لو صالحوهم على مائة رأس بأعيانهم أول السنة وقالوا لو أمنونا على أن هؤلاء لكم ونصالحكم ثلاث سنين مستقبلة على ان نعطيكم كل سنة مائة رأس من رقيقنا فإنه جائز لأن المعينين في السنة الأولى لا تتناولهم الموادعة ومنها يثبت الأمان لهم فإذا جعلوهم مستثنى من الموادعة بجعلهم إياهم عرضا للمسلمين صاروا مماليك المسلمين بالموادعة والمشروط في السنين الكائنة بعد الموادعة أرقاء فجاز ولو سرق مسلم مالهم بعد الموادعة لا يحل شراؤه منه لأن مال المستأمن لا يملك بالسرقة لأنه غدر فلا يصح شراؤه منه ولو أغار قوم من أهل الحرب على أهل الصلح جاز أن يشتري منهم ما أخذوه من أموالهم لأنهم ملكوها بالإحراز كمال المسلمين ثم لا يلزم رد شىء من ذلك عليهم ولا بالثمن لأنهم بالموادعة ما خرجوا عن كونهم أهل حرب إذا لم ينقادوا إلا حكم الإسلام فلا يجب على المسلمين القيام بنصرتهم ولو دخل بعضهم دار حرب أخرى فظهر المسلمون عليها لم يتعرضوا له لأنه في أمان المسلمين & فصل في الأمان
وهذا نوع من الموادعة في التحقيق قوله إذا أمن رجل حر أو امرأة حرة كافرا أو جماعة أو أهل حصن أو مدينة صح أمانهم على إسناد المصدر إلى المفعول ولم يجز لأحد من المسلمين قتالهم والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام المسلمون تتكافأ دماؤهم أي لا تزيد دية الشريف على دية الوضيع ويسعى بذمتهم أدناهم أخرج
____________________
(5/462)
ابو داود من حديث عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمون تتكافا دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليهم اقصاهم وهم يد على من سواهم ومعنى يرد عليهم اقصاهم أي يرد الأبعد منهم التبعة عليهم وذلك أن العسكر إذا دخل دار الحرب فاقتطع ألإمام منهم سرايا ووجهها للإغارة فما غنمته جعل لها ما سمى ويرد ما بقي لأهل العسكر لأن بهم قدرت السرايا على التوغل في دار الحرب وأخذ المال واما قوله وهم يد الخ اى كأنهم آلة واحدة مع من سواهم من الملل كالعضو الواحد باعتبار تعاونهم عليهم لكن رواه ابن ماجة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم ادناهم ويجير عليهم اقصاهم وهم يد الحديث ففسر الرد في ذلك الحديث بالإجارة فالمعنى يرد الإجارة عليهم حتى يكون كلهم مجيرا والمقصود من هذا الحديث محل الدية وهو في الصحيحين عن علي رضى الله عنه قال ما كتبنا عن النبي صلى الله عليه وسلام إلا القرآن وما في هذه الصحيفة قال عليه الصلاة والسلام المدينة حرم فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين لايقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا واخرج البخاري نحوه ايضا من حديث أنس ومسلم من حديث ابي هريرة ومن قال إن الشيخ علاء الدين وهم إذ أخرجه من حديث على من جهة أبي داود والواقع أن الشيخين أخرجاه غلط فإن ما في الصحيحين ليس فيه تتكافأ دماؤهم وهو يريد أن يخرج ما ذكره في الهداية ولا ما هو محل الحاجة من الحديث فقط وفسر المصنف ادناهم بأقلهم في العدد وهو الواحد احترازا عن تفسير محمد من الدناءة ليدخل العبد كان سيأتي وليس بلازم إذ هو على هذا التفسير ايضا فيه دليل لمحمد وهو إطلاق الأدنى بمعنى الواحد فإنه يتناول الواحد حرا أو عبدا وقد ثبت في أمان المرأة أحاديث منها حديث أم هانىء في الصحيحين رضى الله عنها قالت يا رسول الله زعم ابن أمي على أنه قاتل رجلا قد أجرته فلان بن فلان قال عليه الصلاة والسلام قد أجرنا من أجرت وامنا من أمنت ورواه الأزرقي من طريق الواقدي عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن ابي مرة مولى عقيل عن أم هانىء بنت أبي طالب رضى الله عنها قالت ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له يا رسول الله اني اجرت حموين لى من المشركين فأراد هذا أن يقتلهما فقال عليه الصلاة والسلام ما كان له ذلك الحديث وكان الذي أجارته أم هانىء عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة والحرث بن هشام بن المغيرة كلاهما من بني مخزوم ومنها ما رواه أبو داود حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضى الله عنها قالت إن كانت المرأة تجير على المؤمنين فيجوز وترجم الترمذي باب أمان المرأة حدثنا يحيى بن أكثم إلى ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن امرأة لتأخذ للقوم يعني تجير القوم على المسلمين وقال حديث حسن غريب وقال في علله الكبرى سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال هو حديث صحيح وكثير بن زيد وهو في السند سمع من الوليد بن رباح والوليد بن رباح سمع من ابي هريرة ومنها حديث إجارة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ابا العاص فقال عليه الصلاة والسلام
____________________
(5/463)
ألا وإنه يجير على المسلمين أدناهم رواه الطبراني بطوله قال المصنف ولأنه من أهل القتال أي الواحد ذكرا كان أو انثى فإنها من أهله بالتسبب بمالها وعبيدها فيخاف منه فيتحقيق الأمان منه لملاقاته محله أي محل الأمان وهو الكافر الخائف وإذا صدر التصرف من اهله في محله نفذ ثم يتعدى إلى غيره أي غير المجير من المسلمين واما قوله ولأن سببه لا يتجزأ الخ فيصلح تعليلا بلا واو للتعدي فإن ما ذكره من المعنى لا يزيد على اعتبار الأمان بالنسبة إلى المؤمن فأما تعديه إلى غيره فليس ضروريا فلا بد له من الدليل وما ذكر من عدم التجزى يصلح دليلا له فإنه إذا لم يتجزأ كان أمان الواحد امان الكل لأنه بعض امان الكل واستدل على عدم تجزية بأن سببه وهو الإيمان لا يتجزأ فكذا الأمان وفسر بالتصديق الذي هو ضد الكفر وبعضهم بإعطاء الأمان لأنه يقال آمنته فأمن أي أعطيته الأمان فأمن ولا يصح أن يقال آمنت بمعنى صدقت بالدين فأمن الكافر اي حصل له الأمان وهذا إنما يتم إذا كان السبب علة وهو مجاز فإن حقيقة السبب المفضي فلا يلزم من وجوده الوجود ولا شك ان الإيمان بالله ورسوله سبب مفض إلى أمان الحربي بإعطاء المسلم إياه له فالحق ان كلا منهما يصح الإيمان أي إعطاء الأمان سبب الأمان بمعنى علته لا يتجزأ فلا يتجزأ الأمان أو الإيمان بمعنى التصديق سبب حقيقي للأمان لا يتجزأ فلا يتجزأ الأمان وصار كولاية الإنكاح إذا زوج أحد الأولياء المستوين نفذ على الكل واعلم أن كونها لا تتجزأ إنما علمناه من النص الموجب للنفاذ على الكل إذا صدر من واحد فهو المرجع في ذلك وقوله إلا إذا كان في ذلك أي أمان لواحد مفسدة فينبذ إليهم كما إذا أمن الإمام بنفسه ثم رأى المصلحة في النبذ وقد بيناه في الباب السابق
____________________
(5/464)
وهو قولنا يفعل تحرزا عن الغدر وعن ترك الجهاد صورة ومعنى واما قوله ولو حاصر الامام حصنا وامن واحد من الناس الخ فليس تكرارا محضا بل ذكره ليبني عليه قوله ويؤدبه الامام لا فتياته على رأيه بخلاف ما إذا كان فيه نظر لا يؤدبه لأنه ربما فعل ذلك مخافة أن تفوت المصلحة بالتأخير إلى ان يعلم الإمام بها ويؤمن هو بنفسه والافتيات افتعال من الفوت وهو السبق وإنما يقال الافتعال للسبق إلى الشىء دون ائتمار من ينبغي ان يؤامر فيه بخلاف غيره يقال فاتني ذلك الفارس اي سبقني فأصله افتوات قلبت واوه ياء لكسر ما قبلها ولتعليل به مطلقا يقتضي ان يؤدبه مطلقا لتحقق الافتيات فيما فيه المصلحة فالوجه تقييده بقولنا افتيات فيما لا مصلحة فيه وقوله ولا يجوز امان ذمي لأنه متهم بهم على المسلمين لموافقته لهم اعتقادا وأيضا لاولاية لكافر على مسلم لقوله تعالى { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } والأمان من باب الولاية لأنه نفاذ كلامه على غيره شاء أو أبى ولا أسير ولا تاجر يدخل عليهم في دار الحرب لأنهم مقهوران تحت أيديهم والأمان يختص بمحل الخوف ولأنهما يجبران عليه فيعرى الأمان عن المصلحة ولأنه كلما اشتد الأمر عليهم يجدون أسيرا أو تاجرا فيتخلصون بأمانه فلا ينفتح باب الفتح وقوله ومن أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا لم يصح امانه لما بينا من أن الأمان يختص بمحل الخوف ولا خوف منه حال كونه مقيما في دارهم لا منعة له ولا قوة دفاع وقوله ولا يصح أمان العبد المحجور عليه عند ابي حنيفة إلا أن يأذن له مولاه في القتال وقال محمد يصح وهو قول الشافعي وبه قال مالك وأحمد وابو يوسف في رواية لإطلاق الحديث المذكور وهو قوله ويسعى بذمتهم
____________________
(5/465)
أدناهم و لما روى أبو موسى الأشعري من قوله عليه الصلاة والسلام أما العبد أمان ولأنه مؤمن ممتنع أي له قوة يمتنع بها ويضر غيره فيصبح أمانه اعتبارا بالمأذون له في القتال والمؤبد من الأمان وهو عقد الذمة فإن العبد المحجور إذا عقد الذمة لأهل مدينة صح ولزم وصاروا أهل ذمة فهذا وهو الموقت من الذمة أولى بالصحة وهذا لأن ذلك تمام المؤثر في صحة الأمان أما الإيمان فلأنه شرط للعبادات والجهاد من أعظمها وأما اعتبار الامتناع فلتحقق إزالة الخوف وبذلك يتحقق المؤثر الجامع بين الأصل والفرع وهو إعزاز الدين وإقامة مصلحة المسلمين إذ الكلام مثل هذه الحالة لا فيما لا مصلحة فيه وإنما لا يملك المسايفة أي الجهاد بالسيف لتعريض منافعه المملوكة للمولى على الفوات بأن يقتل وهذا المانع إنما يؤثر في الجهاد بذلك الوجه لا بوجه إعطاء الأمان لمصلحة المسلمين فلم يبق بينه وبين المحجور عليه في هذا النوع من الجهاد فرق فيجب اعتباره منه ولأبي حنيفة ومالك في رواية سحنون عنه أنه محجور عن القتال فلا يصح أمانه لانتفاء الخوف منه فلم يلاق الأمان محله وهو الخائف من المؤمن فلم يحصل المؤثر فيه وهو الإعزاز لأنه ممن لا يخاف منه ولا المصلحة لأن الظاهر أنه يخطىء لأن معرفة المصلحة في الأمان إنما تقوم بمن يباشر القتال وهو المأذون لأنه أدرى بالأمر من غير الممارس له
____________________
(5/466)
وفي خطئه سد باب الاستغنام على مولاه وعلى المسلمين فلم يعر عن احتمال الضرر احتمالا راجحا بخلاف العبد المأذون وبخلاف الأمان المؤبد بإعطاء الجزية لأنه خلف عن الإسلام فهو بمنزلة الدعوة إلى الإسلام ولكل مسلم عبد أو حر ذلك ولأنه مقابل بالجزية فالمصلحة للسيد ولعامة المسلمين محققة فيه ولأنه مفروض عند مسئلتهم لأن الله تعالى غيا قتالهم به بقوله تعالى { حتى يعطوا الجزية } ففي عقد الذمة لهم إسقاط الفرض عن الإمام وعامة المسلمين وهو كذلك نفع محقق فافترقا واعلم أن وجه العامة تضمن قياسين قياس أمان المحجور على أمان المأذون في القتال وقياس أمان المحجور على عقد الذمة من المحجور ولا شك أن فرق أبي حنيفة في الثاني متجه وأما دفعه القياس الأول فلا لأنه إن فرق بأنه لا يخاف منه والآخر يخاف منه فالظاهر أن ذلك بالنسبة إلى أهل الحرب غير معلوم فإنهم لا يعرفون المأذون له فيخافونه من غيره فلا يخافونه بل كل من رأوه مع المسلمين سوى البنية فهو مخوف لهم وأما بأن الظاهر خطؤه في المصلحة فلا يتأثر له لأن الأمان غير لازم إذا لم يكن فيه مصلحة بل إذا كان كذلك نبذ إليهم الإمام به نعم الاستدلال بالحديث المروي عن أبي موسى غير تام لأنه حديث لا يعرف فإن قلت فقد روى عبد الرزاق حدثنا معمر عن عاصم بن سليمان عن فضيل بن زيد الرقاشي قال شهدت قرية من قرى فارس يقال لها شاهرتا فحاصرناها شهرا حتى إذا كنا ذات يوم وطمعنا أن نصبحهم انصرفنا عنهم عند المقيل فتخلف عبد منا فاستأمنوه فكتب إليهم أمانا ثم رمى به
____________________
(5/467)
إليهم فلما رجعنا إليهم خرجوا إلينا في ثيابهم ووضعوا أسلحتهم فقلنا لهم ما شأنكم فقالوا أمنتمونا وأخرجوا إلينا السهم في كتاب بأمانهم فقلنا هذا عبد والعبد لا يقدر على شىء قالوا لا ندري عبدكم من حركم وقد خرجنا بأمان فكتبنا إلى عمر رضى الله عنه فكتب أن العبد المسلم من المسلمين وامانه أمانهم ورواه ابن أبي شيبة وزاد واجاز عمر أمانه فالجواب أنها واقعة حال فجاز كونه مأذونا له في القتال وايضا جاز كونه محجورا والأمان كان عقد ذمة وانه يصح منه والله أعلم إلا أن إطلاق عمر وقوله العبد المسلم من المسلمين وأمانه أمانهم في رواية عبد الرزاق يقتضي إناطته مطلقا بذلك والحديث جيد وفضيل بن يزيد الرقاشي وثقة ابن معين قوله وإن أمن الصبي وهو لا يعقل لا يصح بإجماع الأئمة الأربعة كالمجنون وإن كان يعقل وهو محجور عن القتال فعلى الخلاف بين أصحابنا لا يصح عن أبي حنيفة ويصح عند محمد وبقول أبي حنيفة قال الشافعي وأحمد في وجه لأن قوله غير معتبر كطلاقه وعتاقه وبقول محمد قال مالك وأحمد وإن كان مأذونا له في القتال فالأصح أنه يصح بالاتفاق بين أصحابنا وبه قال مالك وأحمد لأنه تصرف دائر بين النفع والضرر فيملكه الصبي المأذون والمراد بكونه يعقل أن يعقل الإسلام ويصفه وأضاف ابا يوسف إلى أبي حنيفة في السير الكبير في عدم الصحة وإنما قال المصنف وألأصح والله أعلم لأنه أطلق المنع في الصبي المراهق عن ابي حنيفة في السير الكبير في عدم الصحة وإنما قال المصنف والأصح والله أعلم لأنه أطلق المنع في الصبي المراهق عن أبي حنيفة كما نقله الناطفي في الأجناس ناقلا عن السير الكبير فقال قال محمد الغلام الذي راهق الحلم وهو يعقل الإسلام ويصفه جاز له أمانه ثم قال وهذا قوله فأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف فلا يجوز وكذا وقع الإطلاق في كفاية البيهقي فقال لا يجوز أمان الصبي المراهق ما لم يبلغ وعند أبي حنيفة وعند محمد يجوز إذا كان يعقل الإسلام وصفاته وكذا المختلط العقل لأنه من أهل القتال كالبالغ إلا أنه يعتبر أن يكون مسلما بنفسه فهذا كما ترى إجراء للخلاف في الصبي مطلقا فال المصنف والأصح التفصيل بين كون العاقل محجورا عن القتال أو مأذونا له فيه ففي الثاني لا خلاف في صحة الأمان هذا ومن ألفاظ الأمان قولك للحربي لا تخف ولا توجل أو مترسيت أو لكم عهد الله أو ذمة الله أو تعال فاسمع الكلام ذكره في السير الكبير وقال الناطفي في السير إملاء سألت أبا حنيفة عن الرجل يشير بأصبعه إلى السماء لرجل من العدو فقال ليس هذا بأمان وابو يوسف استحسن أن يكون أمانا وهو قول محمد والله أعلم
____________________
(5/468)
& باب الغنائم وقسمتها
لما ذكر قتال الكفار وذكر ما ينتهي به من الموادعة ذكر ما ينتهي إليه غالبا وهو القهر والاستيلاء على النفوس وتوابعها وإنما كان ذلك غالبا لاستقراء تأييد الله تعالى جيوش المسلمين ونصرتهم في الأكثر وقوله وإذا فتح الإمام بلدة عنوة يجوز في الواو ما قدمناه في قوله وإذا حاصر الإمام وفسر المصنف العنوة بالقهر وهو ضدها لأنها من عنا يعنو عنوة وعنوا إذا ذل وخضع ومنه { وعنت الوجوه للحي القيوم } وإنما المعنى فتح بلدة حال كون أهلها ذوى عنوة أي ذل وذلك يستلزم قهر المسلمين لهم وفيه وضع المصدر موضع الحال وهو غير مطرد إلا في ألفاظ عند بعضهم وإطلاق اللازم وإرادة الملزوم في غير التعاريف بل ذلك في الإخبارات على أن يراد معنى المذكور لا المجازي لكن لينتقل منه إلى آخر هو المقصود بتلك الإرادة ككثير الرماد ولو أراد به نفس الجود كان مجازا من المسبب في السبب والوجه أنه مجاز اشتهر فإن عنوة اشتهر في نفس القهر عند الفقهاء فجاز استعماله فيه نفسه تعريفا وإذا فتح الإمام بلدة عنوة فهو بالخيار إن شاء قسمه أي البلد بين الغانمين مع رؤوس أهلها استرقاقا واموالهم بعد إخراج الخمس لجهاته وإن شاء قتل مقاتلهم وقسم ما سواهم من الأراضي والأموال والذراري ويضع على الأراضي المقسومة العشر لأنه ابتداء التوظيف على المسلم وإن شاء من عليهم برقابهم وأرضهم وأموالهم فوضع الجزية على الرؤس والخراج على أرضهم من غير نظر إلى الماء الذي يسقيه به أهو ماء العشر كماء السماء والعيون والأودية والآبار أو ماء الخراج كالأنهار التى شقتها الأعاجم لأنه ابتداء التوظيف على الكافر وأما المن عليهم برقابهم وارضهم فقط فمكروه إلا أن يدفع إليهم من المال ما يتمكنون به من إقامة العمل والنفقة على أنفسهم وعلى الأراضي إلى أن تخرج الغلال وإلا فهو تكليف بما لا يطاق وأما المن عليهم برقابهم مع المال دون الأرض أو برقابهم فقط فلا يجوز لأنه اضرار بالمسلمين بردهم حربا علينا إللا دار الحرب
____________________
(5/469)
نعم له أن يبقيهم أحرارا ذمة بوضع الجزية عليهم بلا مال يدفعه إليهم فيكونوا فقراء يكتسبون بالسعي والأعمال وله أن يقتلهم وله أن يسترقهم كما سيذكر وهذا وقد قيل الأولى الأول وهو قسمة الأراضي وغيرها إذا كان بالمسلمين حاجة والثاني عند عدمها ثم استدل على جواز قسمة الأرض بقسمته عليه الصلاة والسلام خيبر بما في البخاري عن زيد بن اسلم عن أبيه قال قال عمر رضى الله عنه لولا آخر المسلمين ما فتحت بلدة ولا قرية إلا قسمتها بين أهلها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ورواه مالك في الموطاء أخبرنا زيد بن أسلم عن أبيه قال سمعت عمر يقول لولا أن يترك آخر الناس لا شىء لهم ما فتح المسلمون قرية إلا قسمتها سهمانا كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر سهمانا فظاهر هذا أنه قسمها كلها والذي في أبي داود بسند جيد أنه قسم خيبر نصفين نصفا لنوائبه ونصفا بين المسلمين قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما وأخرجه أيضا من طريق محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قسمها على ستة وثلاثين سهما جمع كل سهم مائة سهم يعنى أعطى لكل مائة رجل سهما وقد جاء مبينا كذلك في رواية البيهقي فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصف من ذلك وعزل النصف من ذلك لمن ينزل من الوفود والأمور ونوائب المسلمين وحاصل هذا أنه نصف النصف لنوائب المسلمين وهو معنى مال بيت المال ثم ذكره من طريق آخر وبين أن ذلك النصف كان الوطيح والكتيبة والسلالم وتوابعها فلما صارت الأموال بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ولم يكن لهم عمال يكفونهم عملها فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود فعاملهم زاد ابو عبيد في كتاب الأموال فعاملهم بنصف ما يخرج منها فلم يزل ذلك حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابي بكر حتى كان عمر فكثر العمال في المسلمين وقووا على العمل فأجلى عمر رضى الله عنه اليهود إلى أرض الشام وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم وقد اختلف أصحاب المغازي في أن خيبر فتحت كلها عنوة أو بعضها صلحا وصحح أبو عمر عن عبد البر الأول وروى موسى بن عقبة عن الزهري الثاني وغلطه ابن عبد البر وإنما دخل ذلك من جهة الحصنين اللذين اسلمهما أهلهما في حقن دمائهم وهما الوطيح والسلالم لما روى أنه صلى الله عليه وسلم لما حاصرهم فيهما حتى أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دمائهم ففعل فجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال وجميع الحصون إلا ما كان من ذنيك الحصنين إلى أن قال فلما لم يكن أهل ذنيك الحصنين مغنومين ظن أن ذلك صلح ولعمري إنه في الرجال والنساء والذرية لضرب من الصلح ولكنهم لم يتركوا أرضهم إلا بالحصار والقتال فكان حكمها كحكم سائر ارض خيبر كلها عنوة غنيمة مقسومة بين أهلها إلى أن قال ولو كانت صلحا لملكها أهلها كما ملك أهل الصلح أرضهم وسائر اموالهم فالحق في ذلك ما قاله ابن إسحاق عن الزهري أي أنها فتحت عنوة دون ما قاله موسى بن عقبة عنه أه قوله وإن شاء اقر اهله إلى قوله هكذا فعل عمر بسواد العراق لا شك في إقرار عمر رضى الله عنه أهل السواد
____________________
(5/470)
ووضع الخراج على أراضيهم على كل جريب عامر أو غامر عمله صاحبه او لم يعمله درهما وقفيزا وفرض على كل جريب الكرم عشرة وعلى الرطاب خمسة وفرض على رقاب الموسرين في العام ثمانية واربعين وعلى من دونه أربعة وعشرين وعلى من لم يجد شيئا اثني عشر درهما فحمل في أول سنة إلى عمر ثمانون الف ألف درهم وفي السنة الثانية مائة وعشرون ألف ألف درهم إلا أن في المشهور عن أصحاب الشافعي أنها فتحت عنوة وقسمت بين الغانمين فجعلت لأهل الخمس والمنقولات للغانمين والصحيح المشهور عندهم أنه لم يخصها بأهل الخمس لكنه استطاب قلوب الغانمين واستردها وردها على أهلها بخراج يؤدونه في كل سنة وقال ابن شريح باعها من أهلها بثمن منجم والمشهور في كتب المغازي أن السواد فتح عنوة وأن عمر رضى الله عنه وظف ما ذكرنا ولم يقسمها بين الغانمين محتجا بقوله تعالى { ما أفاء الله على رسوله } إلى قوله { والذين جاؤوا من بعدهم } أي الغنيمة لله ولرسوله وللذين جاءوا من بعدهم وإنما تكون لهم بالمن بوضع الخراج والجزية وتلا عمر هذه الآية ولم يخالفه أحد إلا نفر يسير كبلال وسلمان ونقل عن أبي هريرة فدعا عمر رضى الله عنه على المنبر وقال اللهم اكفني بلالا وأصحابه قال في المبسوط فلم يحمدوا وندموا ورجعوا إلى رأيه ويدل على أن قسمة الأراضي ليس حتما ان مكة فتحت عنوة ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم أرضها ولهذا ذهب مالك إلى أن بمجرد الفتح تصير الأرض وقفا للمسلمين وهو أدرى بالأخبار والآثار ودعواهم أن مكة فتحت صلحا لا دليل عليها بل على نقيضها ألا ترى أنه ثبت في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه عليه فهو آمن ولو كان صلحا لآمنوا كلهم به بلا حاجة إلى ذلك وإلى ما ثبت من إجارة أم هانىء من
____________________
(5/471)
إجارته ومدافعتها عليا من قتله وامره عليه الصلاة والسلام بقتل ابن خطل بعد دخوله وهو متعلق بأستار الكعبة وأظهر من الكل قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض لا يسفك بها دم إلى أن قال فإن أحد ترخص بقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقولا له إن الله أذن لرسوله ولم ياذن لكم فقوله بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم صريح في ذلك قوله وفي العقار خلاف الشافعي فعنده يقسم الكل لأن في المن بالأرض إبطال حق الغانمين على قولكم أو ملكهم على قولي فلا يجوز للأمام ذلك بلا بدل يعادله والخراج لا يعادله لقلته بالنسبة إلى رقبة الأرض بخلاف الرقاب لأن للأمام أن يبطل حقهم رأسا بالقتل والحجة عليه ما رويناه من فعل عمر رضى الله عنه مع وجود الصحابة فلم يعارضوه فكان إجماعا فإن قيل لا ينعقد الإجماع بمخالفة بلال ومن معه اجيب بأنه لم يسوغ اجتهادهم بدليل ان عمر دعا عليهم ولو سوغوا لهم ذلك لما دعا على المخالف ولأن فيه نظرا للمسلمين لأنهم يصيرون كالأكرة العاملة للمسلمين العالمة بوجوه الزراعة مع ارتفاع المؤن عن المسلمين وفي هذا من النظر ما لا يخفى مع أنه يحظى به الذين يأتون من بعد فيحصل عموم النفع للمسلمين والخراج وإن قل حالا فقد جل مآلا فربما يتحصل منه على طول الزمان أضعاف
____________________
(5/472)
قيمة الأرض قوله وهو في الأسارى بالخياز إن شاء قتلهم يعني إذا لم يسلموا لأنه عليه الصلاة والسلام قد قتل من الأسارى إذ لا شك في قتله عقبة بن أبي معيط من اسارى بدر والنضر بن الحرث الذي قالت فيه اخته قتيلة الأبيات التى منها ** يا راكبا الأثيل مظنة ** من صبح خامسة وانت موفق ** ** أبلغ بها ميتا فإن تحية ** ما إن تزال بها الركائب تخفق ** ** منى إليك وعبرة مسفوحة ** جادت بواكفها وأخرى تخنق ** ** ما كان ضرك لو مننت وربما ** من الفتى وهو المغيظ المحنق ** وطعيمة بن عدي وهو اخو المطعم بن عدي وأما ما قال هشيم إنه قتل المطعم بن عدي فغلط بلا شك وكيف وهو عليه الصلاة والسلام يقول لو كان المطعم بن عدي حيا لشفعته في هؤلاء النتنى ولأن في قتلهم حسم مادة الفساد الكائن منهم بالكلية وإن شاء استرقهم لأن فيه دفع شرهم مع وفور المصلحة لأهل الإسلام ولهذا قلنا ليس لواحد من الغزاة أن يقتل أسيرا بنفسه لأن الرأي فيه إلى الأمام فقد يرى مصلحة المسلمين في استرقاقه فليس له أن يفتات عليه وعلى هذا فلو قتل بلا ملجىء بأن يخاف القاتل شر الأسير كان له أن يعزره إذا وقع على خلاف مقصوده ولكن يضمن بقتله شيئا وإن شاء تركهم أحرارا ذمة للمسلمين لما بينا من أن عمر فعل ذلك في أهل السواد وقوله إلا مشركي العرب والمرتدين يعني إذا أسروا فإن الكلام في الأسارى ويتحقق الأسر
____________________
(5/473)
في المرتدين إذا غلبوا وصاروا حربا على ما نبين إن شاء الله تعالى في باب الجزية من أنه لا تقبل منهم جزية ولا يجوز استرقاقهم بل إما الإسلام أو السيف فإن أسلم الأسارى بعد الأسر لايقتلهم لن الغرض من قتلهم دفع شرهم وقد اندفع بالإسلام ولكن يجوز استرقاقهم لأن الإسلام لا ينافي الرق جزاء على الكفر الأصلي وقد وجد بعد الانعقاد سبب الملك وهو الاستيلاء على الحربي غير المشرك من العرب بخلاف مالو أسلموا قبل الأخذ لايسترقون ويكونون أحرار لأنه إسلام قبل انعقاد سبب الملك فيهم قوله ولا يفادي بالأسارى عند أبي حنيفه هذه إحدى الروايتين عنه وعليها مشي القدوري وصاحب الهداية وعن أبي حنيفة أنه يفادي بهم كقوله أبي يوسف ومحمد والشافعي ومالك وأحمد إلا بالنساء فإنه لا تجوز المفاداه بهن عندهم ومنع أحمد المفاداة بصبيانهم وروى أنه عليه الصلاة والسلام فعل ذلك وهذه رواية السير الكبير قيل وهو أظهر الروايتين عن أبي حنيفه وقال أبو يوسف تجوز المفاداة بالأسارى قبل القسمه لا بعدها وعند محمد تجوز بكل حال وجه ما ذكر في الكتاب أن فيه معونه الكفرة لأنه يعود حربا علينا ودفع شر حرابته خير من استنقاذ الأسير المسلم لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء في حقه فقط والضرر بدفع اسيرهم إليهم يعود على جماعة المسلمين وجهة الرواية الموافقه لقول العامة أن تخليص المسلم أولى من قتل الكافر والانتفاع به لأن حرمته عظيمة وما ذكر من الضرر الذي يعود إلينا بدفعه إليهم يدفعه ظاهرا المسلم الذي يتخلص منهم لأنه ضرر شخص واحد فيقوم بدفعه واحد مثله ظاهرا فيتكافآن ثم يبقى فضيلة تخليص المسلم وتمكينه من عبادة الله كما ينبغي زيادة ترجيح ثم أنه قد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(5/474)
فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين وأخرج مسلم أيضا عن إياس بن سلمه بن الأكوع عن أبيه خرجنا مع أبي بكر أمره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألى أن قال فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال لي يا سلمة هب لي المرأة لله ابوك أعني التي كان أبو بكر نفله إياها فقلت هي لك يارسول الله والله ما كشفت لها ثوبا فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ففدى بها ناس من المسلمين كانوا أسروا بمكة إلا أن هذا يخالف رأيهم فإنهم لا يفادون بالنساء ويبقى الأول قوله أما المفاداة بمال يأخذه منهم لايجوز في المشهور من المذهب لما بينا في المفاداة بالمسلمين من رده حربا علينا وفي السير الكبير أن لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجه استدلالا بأسارى بدر إذا لا شك في احتياج المسلمين بل في شدة حاجتهم إذ ذاك فليكن محمل المفاداة الكائنه في بدر بالمال وقد أنزل الله تعالى في شأن تلك المفاداة من العتب بقوله تعالى { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } أي يقتل أعداء الله من الأرض فينفيهم عنها { تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة } وقوله تعالى { لولا كتاب من الله سبق } وهو أن لا يعذب أحدا قبل النهي ولم يكن نهاهم { لمسكم فيما أخذتم } من الغنائم والأسرى { عذاب عظيم } ثم احلها له ولهم رحمة منه تعالى فقال { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } هي للمجموع من الفداء وغيره وقيل للغنيمة فإن قيل لا شك أنه من الغنيمة قلنا لو سلم فلا شك أنه يجب تقييده بما إذا لم يضر بالمسلمين من غير حاجة وفي رده تكثير المحاربين لغرض دنيوي وفي الكشاف وغيره أن عمر رضي الله عنه كان أشار بقتلهم وأبو بكر بأخذ الفداء تقويا ورجاء أن يسلموا وروي أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية فدخل عمر رضي الله عنه على النبي عليه الصلاة والسلام فإذا هو وأبو بكر يبكيان فسأله فقال أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء لقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة قال وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال لو نزل من السماء عذاب مانجا منه إلا عمر وسعد بن معاذ لقوله كان الإثخان في القتل أحب إلى والله أعلم بذلك قوله ولو أسلم الأيسر وهو في أيدينا لا يفادى به لأنه لايفيد إلا إذا طابت نفسه وهو مأمون على إسلامه فيجوز لأنه يفيد تخليص مسلم من غير إضرار لمسلم آخر قوله ولا يجوز المن على الأسارى وهو أن يطلقهم إلى دار الحرب بغير شئ خلافا للشافعي إذا رأى الامام ذلك وبقولنا قال مالك وأحمد وجه قول
____________________
(5/475)
الشافعي قوله تعالى { فإما منا بعد وإما فداء } ولأنه عليه الصلاة والسلام من على جماعة من أسرى بدر منهم أبوا العاص بن أبي الربيع على ما ذكره ابن إسحاق بسنده وأبو داود من طريقة إلى عائشه لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة كانت خديجة رضي الله عنها أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى بها فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك رق لها رقة شديدة وقال لأصحابه أن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا ففعلوا ورواه الحاكم وصححه وزاد وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه أن يخلي زينب إليه ففعل وذكر ابن إسحاق أن ممن من عليه المطلب بن حنطب أسره أبو أيوب الأنصاري فخلى سبيله وأبو عزة الجمحي كان محتاجا ذا بنات فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن عليه وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدا وامتدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبيات ثم قدم مع المشركين في أجد فأسر فقال يا رسول الله اقلني فقال عليه الصلاة والسلام لاتمسح عارضيك بمكة بعدها تقول خدعت محمدا مرتين ثم أمر بضرب عنقه ويكفي ما ثبت في صحيح البخاري رحمه الله من قوله عليه الصلاة والسلام في أسارى بدر لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له والعجب من قول شارح بهذا لايثبت المن لأن لو لا متناع الشيء لامتناع غيره يعني فيفيد امتناع المن ولا يخفى على من له ادنى بصر بالكلام أن التركيب إخبار بأنه لو كلمه لتركهم وصدقه واجب وهو بأن يكون المن جائزا فقد أخبر بأنه يطلقهم لو سأله إياهم والإطلاق على ذلك التقدير لايثبت منه إلا وهو جائز شرعا وكونه لم يقع لعدم وقوع ما علق عليه لا ينفي جوازه شرعا وهو المطلوب وأجاب المصنف بأنه منسوخ بقوله تعالى { فاقتلوا المشركين } من سورة براءة فإنها تقتضي عدم جواز المن وهي آخر سورة نزلت في هذا الشأن وقصة بدر كانت سابقة عليها وقد يقال أن ذلك في حق غير السرى بدليل جواز الاسترقاق فبه يعلم أن القتل المأمور حتما في حق غيرهم قوله وإذا أراد الإمام العود ومعه مواش أي من مواشي أهل الحرب فلم يقدر على نقلها إلى دار الإسلام ذبحها ثم أحرقها ولا يعقرها كما نقل عن مالك لما فيه من المثلة بالحيوان وعقر جعفر بن ابي طالب رضي الله عنه فرسه ربما كان لظنه عدم الفتح في تلك الوقعة فخشي أن ينال المشركون فرسه ولم يتمكن من الذبح لضيق الحال عنه بالشغل بالقتال أو كان قبل نسخ المثلة أو علمه بها ولا يتركها لهم وقال الشافعي وأحمد يتركها لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ذبح الشاة إلى لمأكله قلنا هذا غريب لم يعرف عنه عليه الصلاة والسلام
____________________
(5/476)
نعم روي من قول أبي بكر نفسه رواه مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر رضي الله عنه بعث جيوشا إلى الشام فخرج يتبع يزيد بن ابي سفيان فقال إني أوصيك بعشر لا تقتلن صبيا ولا امرأة ولا كبيرا هرما ولا تقطعن شجرا مثمرا ولا تعقرن شاة ولا بقرة إلا لمأكله ولا تخربن عامرا ولا تحرقن ولا تغرقن ولا تخبن ولا تغلل ثم هو محمول على ما إذا آنس الفتح وصيرورة البلاد دار إسلام وكان ذلك هو المستمر في بعوث أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فباعتباره كان ذلك وقد قلنا بذلك وذكرنا فيما تقدم أنه إذا كان ذلك فلا تحرق ولاتخرب لأنه إتلاف مال المسلمين ألا ترى إلى قوله لاتحرقن وهو رضي الله عنه قد علم قوله عليه الصلاة والسلام أعز على أبني صباحا ثم حرق بقي مجرد ذبح الحيوان وأنه لغرض الكل جائز لأنه غرض صحيح ولا غرض أصح من كسر شوكتهم وتعريضهم على الهلكة والموت وإنما يحرق لينقطع منفعته عن الكفار وصار كتخريب البنيان والتحريق لهذا الغرض الكريم بخلاف التحريق قبل الذبح لأنه منهي عنه وفيه أحاديث كثيرة منها حديث البخاري عن أبي هريرة قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال لنا إن وجدتم فلانا وفلانا فاحرقوهما بالنار فلما خرجنا دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن وجدتم فلانا وفلانا ما قتلوها ولا تحرقوهما فإنه لايعذب بها إلا الله ورواه البزار وسماهما هبار بن الأسود ونافع بن عبد القيس وطوله البيهقي وذكر السبب أنهما كانا روعا زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجت لاحقة به عليه الصلاة والسلام حتى القت ما في بطنها والقضيه مفصلة عند ابن إسحاق معروفه لأهل السير وذكر البخاري أيضا تحريق على رضي الله عنه الزنادقه الذين أتى بهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم لاتعذبوا بعذاب الله ولقتلتهم لقوله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه واخرج البزار في مسنده عن عثمان بن حيان قال كنت عند أم الدرداء رضي الله عنها فأخذت برغوثا فألقيته في النار فقالت سمعت أبا الدرداء يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لايعذب بالنار إلا رب النار هذا وتحرق الأسلحة أيضا ومالا يحترق منها كالحديد يدفن في موضع لايقف عليه الكفار إبطالا للمنفعة عليهم وما في فتاوي الولوالجني تترك النساء والصبيان في أرض غامرة أي خربة حتى يموتوا جوعا كي لا يعودوا حربا علينا لأن النساء بهن النسل والصبيان يبلغون فيصيرون حربا علينا فبعيد لأنه قتل بما هو أشد من القتل الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في النساء والصبيان لما فيه من التعذيب ثم هم قد صاروا أسارى بعد الاستيلاء وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالأسرى خيرا حدث ابن إسحاق عن نبيه بن وهب أخى بن عبد الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى فرقهم بن أصحابه وقال استوصوا بالأسارى خيرا فقال أبو عزيز مر بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال له شد يديك به فإن أمه
____________________
(5/477)
ذات متاع قال وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبر وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا ما يقع في يد جل منهم كسرة من الخبر إلا نفحني بها قال فأستحى فأردها على أحدهم فيردها على ما يمسها فكيف يجوز أن يقتلوا جوعا اللهم إلا أن يضطروا إلى ذلك بسبب عدم الحمل والميرة فيتركوا ضرورة والله أعلم قوله ولا تقسم غنيمة في دار الحرب حتى تخرج إلى دار الإسلام وقال الشافعي لا بأس بذلك إذا انهزم الكفار وعن أبي يوسف رحمه الله الأحب إلى أن لا يقسمها حتى يحرزها ذكره الكرخي وعنه إن لم تكن مع الإمام حمولة يحملها عليها يقسمها في دار الحرب وأصله أن الملك للغانمين لا يثبت قبل الإحراز بدار الإسلام عندنا وعنده يثبت بالهزيمة ويلزمه أن قسمة الإمام هناك لاتفيد ملكا إلا إذا كان عن أجتهاد فإنه أمضى القضاء في فصل مجتهد فيه أو كان لحاجة فإن الحاجة موضعها مستثنى واعلم أن حقيقة مذهبه أن الملك يثب للغانم بأحد أمرين إما بالقسمة حيثما كانت أو باختيار الغانم التملك وليس هو قائلا أن الملك يثبت للغانمين بالهزيمة كما نقلوا عنه وعندنا لايثبت إلا بالقسم في دار الإسلام فلا يثبت بالإحراز بدار الإسلام ملك لأحد بل يتأكد الحق ولهذا لو اعتق واحد من الغانمين عبدا بعد الإحراز لا يعتق ولو كان هناك ملك مشترك عتق بعتق الشريك ويجري فيه ما عرف في عتق الشريك وتخرج الفروع المختلفه على هذا منها لو وطئ بعض الغانمين في دار الحرب واحده من السبي فولدت فادعاه يثبت نسبة عنده لا لوطئه جاريه مشتركه بينه وبين غيره بمجرد الهزيمة بل لاختياره التملك فبالهزيمة ثبت لكل حق التملك فإن سلمت بما يخصه من الغنيمة أخذها وإلا أخذها وكمل من ماله قيمتها يوم الحمل وعندنا لايثبت نسبه وعليه العقر لأنه لا يحد لثبوت سبب الملك وتقسم الجارية والولد والعقر بين جماعة المسلمين وكذا لو استولدها بعد الإحراز بدار الإسلام قبل القسمة عندنا وأن تأكد الحق لأن الاستيلاد يوجب حق العتق وهو لا يكون إلا بعد قيام الملك في المحل بخلاف استيلاد جارية الابن لأن له ولاية التملك فيتملكها بناء على الاستيلاد وليس له هنا تملك
____________________
(5/478)
الجارية بدون رأي الإمام نعم لو قسمت الغنيمة على الرايات أو العرافة فوقعت جارية بين أهل راية صح استيلاد أحدهم لها لأنه يصح عتقه لها لأنها مشتركة بينه وبين اهل تلك الراية والعرافة شركة ملك وعتق أحد الشركاء نافذ لكن هذا إذا قلوا حتى تكون الشركة خاصة أما إذا كثروا فلالأن بالشركة العامة لاتثبت ولاية الإعتاق قال والقليل إذا كانوا مائة أو أقل وقيل أربعون وفيه أقوال أخرى قال في المبسوط الأولى أن لايوقت ويجعل موكولا إلى أجتهاد الإمام ومنها جواز البيع من الإمام لبعض الغنيمة يجوز عندهم لا عندنا مبنى على ذلك أيضا ومنها لو مات بعض الغزاة أو قتل في دار الحرب لا يورث سهمه عندنا ويورث عنده بناء على التأكد بالهزيمة حتى صح منه التملك والتأكد يكفي للإرث ألا ترى أنا نقول إنه يورث إذا مات في دار الإسلام قبل القسم للتأكد لا للملك لأنه لا ملك قبل القسمة وهذا لأن الحق المؤكد يورث كحق الرهن والرد بالعيب بخلاف الضعيف كالشفعة وخيار الشرط واستدل على ضعف الحق قبل الإحراز بإباحة تناول الطعام في دار الحرب بلا ضرورة وبعدم ضمان ما أتلف من الغنيمة قبل الإحراز بخلاف ما بعده فكان حقا ضعيفا كحق كل مسلم في بيت المال والشافعية أن منعوا الثاني لم يمنعوا الأول ومنها لو لحق المدد في دار الحرب قبل القسم شارك عندنا لا عنده للتأكد وعدمه فإنما الثابت للغزاة بعد الهزيمة حق الملك لا حق التملك ولهذا لو أسلم الآسير قبل الإحراز بدار الإسلام لا يعتق وكذا أرباب الأوموال إذا أسلموا بعد أخذها قبل الإحراز لا يملكون شيئا منا بل هم من جملة الغزاة في القسمة والاستحقاق بسبب الشركة في الإحراز بدار الإسلام بمنزلة المدد ذكره في النهاية ومعناه إذا لم يؤخذوا فإن إسلامهم بعد الأخذ لا يزيل عنهم الرق فلا يستحقون في الغنيمة كالمدد وفي التحفه لو أتلف واحد من الغزاة شيئا من الغنيمة لا يضمن عندنا قال وبعد الإحراز بدار الإسلام يتأكد حق الملك ويستقر ولهذا قالوا لو مات واحد من الغزاة يورث نصيبه ولو باع الإمام جاز ولو لحقهم المدد لا يشاركون ويضمن المتلف وهذا المذكور في التحفه ماش مع ما في المبسوط حيث قال فأما عندنا فالحق يثبت بنفس الأخذ ويتأكد الإحراز ويملك بالقسمة كحق الشفعة يثبت بالبيع ويتأكد بالطلب ويتم الملك بالأخذ وما دام الحق ضعيفا لا تجوز القسمة لأنه دون الملك الضعيف في المبيع قبل القبض ووجه المصنف قول الشافعي بأن سبب الملك يتم بالهزيمة لأن بها يتحقق الآستيلاء على مال مباح فيملكه وهذا لأنه ليس معنى الاستيلاء على ما مباح إلا سبق اليد إليه على وجه القهر والاستيلاء كما في الصيد والحطب ولأنه صلى الله عليه وسلم قسم غنائم حنين وبني المصطلق وأوطاس في ديارهم ولنا منع أن السبب تم فإن تمامه بثبوت اليد الناقلة أي قدرة النقل والتصرف كيف شاء نقلا وادخارا وهذا منتف عنه ما دام في دار الحرب لأن الظهور عليهم والاستنقاذ منهم ليس ببعيد ألا ترى أن الدار مضافه اليهم فدل أنه مقهور ما دام فيها نوعا من القهر بدليل أن له أن يتركها دار حرب وينصرف عنها فكان قاهرا من وجه مقهورا من وجه فكان استيلاء من وجه دون وجه فلم يتم سبب ملك المباح فلم يملك فلم تصح القسمة لأنها بيع معنى فإن البيع مبادله في القسمة ذلك فإن كل شريك لما اجتمع نصيبه في العين كان ذلك عوضا عن نصيبه في الباقي بخلاف ما إذا خرج العبد مراغما حيث يعتق بوصوله إلى عسكر المسلمين وأن كان في دار الحرب وكذا المرأة المراغمة تبين بذلك فإنه بالنص لقوله عليه الصلاة والسلام في عبيد الطائف هم عتقاء الله ولأن ذلك يد على نفسه ويكفي فيه امتناعه ظاهرا في الحال وقال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات }
____________________
(5/479)
إلى قوله { فلا ترجعوهن إلى الكفار } الآية وقسمة النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين كان بعد منصرفة إلى الجعرانة وكانت أول حدود الإسلام لأن مكة فتحت وأرض حنين وبني المصطلق بعد فتح مكة وإجراء أحكام الإسلام فيها وهذا لأن دار الحرب تصير دار إسلام بإجراء الأحكام وبثبوت الأمن للمقيم من المسلمين فيها وكونها متاخمة لدار الإسلام على قوله وعلى قولهما بالأول فقط وأنت إذا علمت أن الخلاف ليس كما قيل بل الآتفاق على أن الملك لا يثبت قبل القسمة بمجرد الهزيمة بل في أن القسمة هل توجب الملك في دار الحرب وأمكنك أن تجعل الدليل من الجانبين على ذلك وتقريره للشافعي أنه لا مانع من صحتها في دار الحرب لتمام الاستيلاء على المباح فإذا اتصل به القسم ملك ولنا منع تمام السبب فلا تفيد القسمة الملك إلا عند تمامه وهو دار الإسلام واعلم أن القسمة إنما لا تصح إذا قسم بلا اجتهاد أو اجتهد فوقع على عدم صحتها قبل الإحراز أما أذا قسم في دار الحرب مجتهدا فلا شك في الجواز وثبوت الأحكام وأما الحديث الذي ذكره وهو أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الغنيمة في دار الحرب فغريب جدا ثم ذكر المصنف خلافا في أن الخلاف في عدم جواز القسمة قبل الإحراز أو في كراهتها فقيل المراد عدم جواز القسمة حتى لا تثبت الآحكام من حل الوطء ونفاذ البيع وغيره وقيل الكراهة لا بطلان القسمة لأنهم إذا اشتغلوا بها يتكاسلون في أمر الحرب وربما يتفرقون فربما يكر العدو على بعضهم فكان المنع لمعنى في غير المنهي عنه فلا يعدم الجواز ثم قال المصنف هي كراهة تنزيه عند محمد فالأفضل أن لا يقسم في دار الحرب لأنه صلى الله عليه وسلم ما قسم إلا في دار الإسلام والأفعال المتفقة في الأوقات المختلفة لاتكون إلا لداع هي كراهة خلافة أو بطلانه والكراهة أدنى فيحمل عليه للتيقن به قيل ونقل الخلاف هكذا وأن كان في المبسوط غير جيد لأنه لم يعرف خلاف عنهم إلا ما يروى عن أبي يوسف وهذا لأن المسائل الإفرادية الموضوعة مصرحة بعدم صحة القسمة قبل الإحراز مثل ما سيأتي من أن من مات من الغانمين لا يورث حقه من الغنيمة وأنه لايباع من ذلك العلف ونحوه شئ ومنها عدم جواز التنفيل بعد الإحراز وجوازه قبله ومشاركة المدد اللاحق قبل الإحراز ثم وجه الكراهة بقوله لأن دليل البطلان
____________________
(5/480)
أي بطلان القسمة قبل الإحراز راجح على دليل جوازها إلا أنه تقاعد عن سلب الجواز لأنه لما لم يثبت سلب الجواز بالاتفاق فلم يبطل المرجوح وأذا لم يبطل حصل من معارضه الدليلين الراجح والمرجوح الكراهة كما في سؤر الهرة لما انتفت النجاسة لم تنتف الكراهة وهذا الكلام ينبو عن القواعد فأن الإجماع على وجوب العمل بالراجح من الدليلين وترك المرجوح وإذا كان الراجح دليل البطلان تعين الحكم بالبطلان عند المجتهد الذي ترجح عنده وكون له مخالف ولا إجماع لا يوجب بل يجوز لذلك المجتهد النزول عن مقتضاه وإلا فكل خلافية من المسائل كذلك وإذا لزم حكم البطلان فما موجب إثبات الكراهة والتحقيق في سؤر الهرة أن الكراهة تنزيهيه لعدم تحاميها من النجاسه لأن دليل حرمة اللحم الموجب لنجاسة السؤر عارضه شدة المخالطه وترجح عليه فانتفت النجاسة والكراهة حكم شرعى يحتاج خصوصه إلى دليل وشدة المخالطة دليل الطهارة فقط فتبقى الكراهة بلا دليل وهذا إذا لم يكن للمسلمين حاجة أما إذا تحققت لهم في دار الحرب بالثياب والمتاع ونحوه قسمها في دار الحرب قوله والردء أي العون والمقاتل أي المباشر للقتال مع الكفار وكذا أمير العسكر سواء في الغنيمة لا يتميز واحد منهم على آخر بشئ وهذا بلا خلاف لا ستواء الكل في سبب الاستحقاق وسنين سببه فيما يأتي إن شاء الله تعالى قوله وإذا لحقهم المدد في دار الحرب قبل أن يخرجوا الغنيمة إلى دار الإسلام شاركوهم أي المدد فيها وعن الشافعي فيه قولان وما ذكرناه بناء على ما مهدناه من أن الملك لا يتم للغانمين قبل إحراز الغنيمة بدار الإسلام فجاز أن يشاركهم المدد إذا قام به لدليل ولا ينقطع حق المدد إلا بثلاثة أمور الإحراز بدار الإسلام والقسمة بدار الحرب وبيع الإمام الغنيمة قبل لحاق المدد هذا وعلى ما حققناه المبنى تأكد الحق وعدمه وما استدل به الشافعي من صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بعث عليه الصلاة والسلام أبانا على سيرة قبل نجد
____________________
(5/481)
فقدم أبان وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد ما فتحها إلى أن قال فلم يقسم لهم لا دليل فيه لأن وصول المدد في دار الاسلام لا يوجب شركه وخيبر صارت دار إسلام بمجرد فتحها فكان قدومهم والغنيمة في دار الإسلام وأما إسهامه لآبي موسى الأشعري على ما في الصحيحين عنه قال بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا اصغرهم أحدهما ابو بردة والآخر أبو رهم في بضع وخمسين رجلا من قومي فركبنا سفينة فألقتنا إلى النجاشي فوفينا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده فقال جعفر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هاهنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا فأقمنا حتى قدمنا فوافينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا ولم يسهم لأحد غاب عن فتح خيبر إلا أصحاب سفينتنا فقال ابن حيان في صحيحه إنما أعطاهم من خمس الخمس ليستميل قلوبهم لا من الغنيمة وهو حسن الا ترى أنه لم يعط غيرهم ممن لم يشهدها وحمل بعض الشافعية على أنهم شهدوا قبل حوز الغنائم خلاف مذهبهم فإنه لا فرق عندهم في عدم الاستحقاق بين كون الوصول قبل الحوز أو بعده بعد كونه بعد الفتح قوله ولا حق لأهل سوق العسكر أي في الغنيمة لاسهم ولا رضخ الا ان يقاتلوا فيحنئذ يستحقون السهم وبه قال مالك وأحمد وللشافعي فيه قولان أحدهما كقولنا والآخر يسهم لهم واستدل الشافعي بما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال الغنيمة لمن شهد الوقعة والصحيح أنه موقوف على عمر كما ذكر المصنف ذكره ابن ابي شيبة في مصنفة حدثنا وكيع حدثنا شعبة عن قيس بن مسلم عن طاوس عن ابن شهاب ان اهل البصرة غزوا نهاوند فأمدهم أهل الكوفة وعليهم عمار بن ياسر رضي الله عنه فظهروا فأراد أهل البصرة أن لا يقسموا لأهل الكوفة فقال رجل من بني تميم أيها العبد الأجدع تريد أن تشاركنا في غنائمنا وكانت اذنه جدعت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خبر أذنى سببت ثم كتب إلى عمر رضي الله عنه فكتب عمر إن الغنيمة لمن شهد الوقعة ورواه الطبراني والبيهقي وقال وهو صحيح من قول عمر وأخرج ابن عدي عن علي رضي الله عنه
____________________
(5/482)
الغنيمة لمن شهد الوقعة وهذا قول صحابي وهو لا يرى جواز تقليد المجتهد إياه وكذا عند الكرخي من مشايخنا وعلى قول الآخرين تأويله أن يشهد على قصد القتال والوقعة هي القتال وهو معنى قول صاحب المجمل الوقعة صدمة الحرب وشهوده على قصد القتال إنما يعرف بأحلا أمرين بإظهار خروجه للجهاد والتجهيز له ولا لغيره ثم الحافظة على ذلك القصد الظاهر وهذا هو السبب الظاهر الذي ينبني عليه الحكم وإما بتحقيقه قتاله بأن كان خروجه ظاهرا لغيره كالسوقي وسائس الدواب فإن خروجه ظاهرا لغيرة فلا يستحق بمجرد شهوده إذ لا دليل على قصد القتال فإذا قاتل ظهر أنه قصده غير أنه ضم إليه شيئا آخر كالتجارة في الحج لا ينتقص به ثواب حجه وعلى كون السبب ما قلنا فرع ما لو اسر في دار الحرب فأصابوا بعده غنيمة ثم انفلت فلحق بالجيش قبل ان يخرجوا شاركهم فيها وفي كل ما يصيبونه وأن لم يلقوا قتالا بعده ولو لحق بعسكر غير الذي خرج معهم وقد أصابوا غنائم لا يشاركهم فيها إلا أن يلقوا قتالا فيقاتل معهم لأنه ما انعقد له سبب الاستحقاق معهم وإنما كان قصده من اللحوق بهم الفرار ونجاة نفسه فلا يستحق إلا أن يقاتلوا فيقاتل معهم لأنه حينئذ تبين أنه قصد باللحاق بهم القتال وكذا من أسلم في دار الحرب والحق بالعسكر والمرتد إذا تاب ولحق بالعسكر والتاجر الذي دخل بأمان إذا لحق بالعسكر أن قاتلوا استحقوا وإلا فلا شئ لهم قوله واذا لم يكن للإمام حمولة بفتح الحاء المهملة ما يحمل عليه من بعير وفرس وغيره يقسمها بينهم فقيل قسمة الغنيمة في دار الحرب للحاجة فتكون هذه القسمة بالاجتهاد فتصح وقيل قسمة أيداع إلى دار الإسلام ويستردها فيقسهما ثم على هذا يكون بالأجرة وهل يكرههم على ذلك في السير الصغير لا يكرههم لأنه انتفاع بمال الغير لا يطيب من نفسه فهو كمن تلفت دابته في دار الإسلام ومع رفيقه دابه فليس له أن يحمل عليها كرها باجر المثل وقوله لأنه ابتداء إجارة أي من كل وجه احتراز عن مثل ما أذا انقضت مدة إجارة السفينة في وسط البحر أو البعير في البرية فإنه تنعقد بينهما إجارة بأجر المثل جبرا وفي السير الكبير يكرههم لأنه دفع الضرر العام بالضرر الخاص ولأن منفعته راجعة إليهم والأجرة من الغنيمة والأوجه أنه إن خاف تفرقهم لو قسمها قسمة الغنيمة يفعل هذا وأن لم يخف قسمها قسمة الغنيمة في دار الحرب فإنها تصح للحاجة وفيه إسقاط الإكراه وإسقاط الإجرة وقوله في المختصر اي القدورى
____________________
(5/483)
قوله ولا يجوز بيع الغنائم في دار الحرب لعدم الملك وهو المراد بقوله وقد بينا الآصل فيه وهذا في بيع الغزاة ظاهر وأما بيع الإمام لها فذكر الطحاوي أنه يصح لأنه مجتهد فيه يعني أنه لا بد أن يكون الإمام رأى المصلحة في ذلك وأقله تخفيف إكراه الحمل عن الناس أو عن البهائم ونحوه وتخفيف مؤنته عنهم فيقع عن أجتهاد في المصلحة فلا يقع جزافا فينعقد بلا كراهة مطلقا قوله ومن مات من الغانمين تقدم تفريعها على عدم الملك قبل دار الإسلام وهو المراد بقوله وقد بيناه قوله ولا بأس بأن يعلف العسكر في دار الحرب ويأكلوا ما وجدوه من الطعام علف الدابة علفا من باب ضرب ضربا فهي معلوفة وعليف والعلف ما اعتلفه وحاصل ما هنا أن
____________________
(5/484)
الموجود إما ما يؤكل أولا وما يؤكل إما يتداوى به كالهليلج أولا فالثاني ليس لهم استعماله إلا ما كان من السلاح والكراع كالفرس فيجوز بشرط الحاجة بأن مات فرسه أو انكسر سيفه أما إذا اراد أن يوفر سيفه وفرسه باستعمال ذلك فلا يجوز ولو فعل أثم ولا ضمان عليه لو تلف نحو الحطب بخلاف الخشب المنحوت لأن الاستحاق على الشركة فلا يختص بعضهم ببعض المستحق على وجه يكون أثر للملك فضلا عن الاستحقاق بخلاف حالة الضرورة فإنها سبب الرخصة فيستعمله ثم يرده الى الغنيمة إذا انقضى الحرب وكذا الثوب إذا ضره البرد فيستعمله ثم يرده إذا استغنى عنه ولو تلف قبل الرد لا ضمان عليه ولو أحتاج الكل إلى الثياب والسلاح قسمها حينئذ بينهم ولم يذكر محمد رحمه الله قسمة السلام ولا فرق كما ذكر المصنف لأن الحاجة في السلاح والثياب واحد بخلاف السبي لا يقسم إذا احتيج إليه لأنه من فضول الحوائج لا من اصولها فيستصحبهم إلى دار الإسلام مشاة فإن لم يطيقوا وليس معه فضل حمولة قتل الرجال وترك النساء والصبيان وهل يكره من عنده فضل حمولة على الحمل يعني بالأجر فيه روايتان تقدمتا وأما ما يتداوى به فليس لأحد تناوله وكذا الطيب والأدهان التي لا تؤكل كدهن البنفسج لأنه ليس في محل الحاجه بل الفضول وقال عليه الصلاة والسلام ردوا الخيط والمخيط ولا شك أنه لو تحقق بأحدهم مرض يحوجه إلى استعمالها كان له ذلك كلبس الثوب فالمعتبر حقيقة
____________________
(5/485)
الحاجة وأما ما يؤكل لا للتداوي سواء كان مهيأ للأكل كاللحم المطبوخ والخبز والزبيب والعسل والسكر والفاكهة اليابسة والرطبه والبصل والشعير والتبن والأدهان المأكوله كالزيت والسمن فلهم الأكل والادهان بتلك الأدهان لأن الادهان انتفاع في البدن كالأكل ويوقحوا الدواب بها وتوقيح الدابة تصليب حافرها بالدهن إذا حفى من كثرة المشي والراء أي الترقيح خطأ كذا في المغرب لكن الأصح جوازه ونقل عن المصنف بالراء من الترقيح وهو الإصلاح قال هكذا قرأنا على المشايخ وفي الجمهرة رقح عيشه ترقيحا إذا أصلحه وأنشد ** يترك ما رقح من عيشه ** يعيث فيه همج هامج ** والهمج من الناس وهم الذين لا نظام لهم فالترقيح أعم من التوقيح وكذا كل ما يكون غير مهيأ كالغنم والبقر فلهم ذبحها وأكلها ويردون الجلد إلى الغنيمة ثم شرط في السير الصغير الحاجة الى التناول من ذلك وهو القياس ولم يشترطها في السير الكبير وهو الاستحسان وبه قالت الائمة الثلاثة فيجوز لكل من الفقير والغني تناوله الا التاجر والداخل لخدمة الجندي بأجر لا يحل لهم ولو فعلوا لا ضمان عليهم ويأخذ ما يكفيه هو ومن معه من عبيده ونسائه وصبيانهم الذين دخلوا معه وينبغي أن يأخذ ما يكفي الداخل لخدمته كعبده لأن نفقته عليه عادة فصار الحاصل منع الداخل بنفسه دون الغازي أن يأخذ لأجله ولأن دليل الحاجه قائم وهو كونه في دار الحرب منقطعا عن الاسباب فيدار الحكم عليه بخلاف نحو الثياب والسلاح يناط بحقيقة الحاجة والحديث الذي ذكره المصنف من قوله عليه الصلاة والسلام في طعام خيبر كلوها واعلفوها ولا تحملوها رواه البيهقي أنبأنا على بن محمد ابن بشران اخبرنا ابو جعفر الرازي حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الواقدي عن عبد الرحمن بن الفضل عن العباس ابن عبد الرحمن الأشجعي عن ابي سفيان عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر كلوا واعلفوا ولا تحملوا واخرجه الواقدي في مغازيه بغير هذا السند وهذا الإطلاق يوافق رواية السير الكبير وأخر ج أبو داود عن عبد الله نب أبي أوفى اصبنا طعام يوم خيبر فكان الرجل يجئ فيأخذه منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف وأخرج البيهقي عن هانئ بن كلثوم أن صاحب جيش الشام كتب الى عمر رضي الله عنه إنا فتحنا أرضا كثيرة الطعام والعلف فكرهت أن أتقدم لشئ من ذلك إلا بأمرك فكتب إليه دع الناس يأكلون ويعلفون فمن باع شيئا بذهب أو فضة ففيه خمس لله وسهام للمسليمن وهذا دليل ما ذكر في الكتاب من قوله ولا يجوز أن يبيعوا من ذلك شيئا ولا يتمولونه فإن باعوا ردوا الثمن إلى الغنيمة لأنه عوض عين مشتركه بين الغانمين استحقاقا قوله ومن أسلم منهم هنا اربع مسائل أحداها أسلم الحربي في دار الحرب ولم يخرج إلينا حتى ظهر على الدار والحكم فيها ماذكر في الكتاب من أنه أحرزلا نفسه وولده الصغار وما كان في يده من المنقولات إلى آخر ما سنذكر ثانيها أسلم في دار الحرب ثم خرج الينا ثم ظهر على الدار فجميع ماله هناك فيء إلا أولاده الصغار لأنه حين اسلم كان مستتبعا لهم فصارواه مسلمين فلا يرد الرق عليهم ابتداء بخلاف غيرهم لانقطاع يده عن بالتباين فيغنم وما اودع مسلما أو ذميا ليس فيئا لأن يدهما يد صحيحة على ذلك المال فتدفع إحراز المسلم فترد عليه وما أودع حربيا ففي ظاهر الرواية فئ وعن أبي حنيفة أنه له لأن يده تخلف يده وجه الظاهر أنها
____________________
(5/486)
ليست يدا صحيحة حتى لا تدفع اغتنام المسلمين عن أمواله وثالثها مستأمن اسلم في دار الإسلام ثم ظهرنا على داره فجميع ما خلفه فيها من الأولاد الصغار والمال فئ لأن تباين الدارين قاطع للعصمة فبالظهور ثبت الاستيلاء على مال غير معصوم أما في غير الاولاد فظاهر وأما فيهم فلأنهم لم يصيروا مسلمين بإسلامه لانقطاع التبعية بتباين الدارين فكانوا من جملة الاموال رابعها دخل المسلم أو الذمي دار الحرب بأمان واشترى منهم أموالا وأولادا ثم ظهرنا على الدار فالكل له إلا الدور والأرضين فإنها فيء لأن يده صحيحة لأنه مسلم فتكون يده محرزة دافعة لإحراز المسلمين إياها فأما الأرضون فالوجه فيها ما سنذكر ومن قاتل من عبيده فىء وامرأته الحبلى الحربية وما في بطنها فيء ووديعته ولو عند حربي له لأنه ما دام في دار الحرب فيده عليها ولنأت إلى مسألة الكتاب قال ومن أسلم منهم الخ قال المصنف معناه في دار الحرب قيد به احترازا عما او أسلم مستأمن في دار الإسلام ثم ظهر على الدار فإن جميع ما خلفه فيها حتى صغاره فيء على ما ذكرناه وهو بعد ذلك أعم من كونه خرج إلينا أو لم يخرج إلينا والحكم المذكور يخص ما إذا لم يخرج حتى ظهر على الدار ولما سمعته آنفا من أن الذي خرد فظهر على الدار وهو عندنا لا يحرز غير بنيه فلا بد من تقييده بكل من كونه في دار الحرب وكونه لم يخرج حتى ظهر على الدار وحينئذ يحرز نفسه واولاده الصغار لانهم مسلمون تبعا وكل مال بالنصب عطفا على نفسه من نقد وعبيد وإماء لم يقاتلوا لقوله عليه الصلاة والسلام من أسلم على مال فهو له قال محمد حدثنا الثقة حدثنا ابن ابي لهيعة قال حدثنا أبو الأسود عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من اسلم على شئ فهو له وأحسن من هذا السند سند سعيد بن منصور حدثنا عبد الله بن المبارك عن حيوة بن شريح عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة بن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وهذا مرسل صحيح وروي ابو داود عن ابان بن عبد الله بن أبي حازم عن عثمان بن أبي حازم عن أبيه عن جده صخر بن العيلة أنه عليه الصلاة والسلام غزا ثقيفا فساقه إلى أن قال فدعاه أي دعا النبي صلى الله عليه وسلم صخرا فقال له أن القوم إذا أسلموا أحرزوا دماء هم وأموالهم ثم ساقه إلى أن قال وسأل نبي الله صلى الله عليه وسلم ماء لبني سليم فأنزله إياه وأسلم يعنى السليميين وساقه إلى أن قال فقالوا يا رسول الله أسلمنا وأتينا صخرا ليدفع إلينا ماءنا فأبى فدعاه فقال يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا دماءهم وأموالهم فادفع إلى القوم ماءهم وأبان هذا مختلف وفي توثيقه وتضعيفه وصخر بن العيلة بعين مهملة مفتوحه ثم يليها ياء مثناة من تحت ويقال ابن ابي العيله ولأنه سبقت يده الحقيقة إليه يد الظاهرين عليه وقوله أو وديعة أو دعها في يد مسلم أو ذمي
____________________
(5/487)
لأنه في يد صحيحة محترمه بنصب وديعة ويده اي يد المودع كيده فإن ظهرنا على الدار فعقاره فيء وماله من زرع قبل أن يحصد لأنه تبع للأرض وقال الشافعي هوله لأنه في يده فهو كالمنقول ولم يذكروا خلافا في شروح الجامع الصغير ونقل المصنف عن بعضهم نقل الخلاف فقال وقيل هذا قول ابي حنيفه وأبي يوسف الآخر وفي قول محمد وهو قول أبي يوسف الأول هو كغيره من الأموال بناء على أن اليد لا تثبت حقيقة على العقار عندهما وعند محمد ثبت وحكاه شمس الأئمة على خلاف هذا فقال فأما عقاره لا يصير غنيمة في قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف استحسن فأجعل عقاره له لأنه ملك محترم له كالمنقول أه وحكى غيره أن عندهما لا يصير فيئا وعند أبي حنيفه هو فيء ووجهه ما ذكر المصنف رحمه الله بقوله ولنا أن العقار في يد أهل الدار وسلطانها إذا هو من جملة دار الحرب فلم يكن في يده حقيقة بل حكما ودار الحرب ليست دار أحكام فكانت يده غير معتبرة قبل ظهور المسلمين على الدار وبعد ظهورهم يدهم أقوى من يد السلطان وأهل الدار لأنها جعلت شرعا سالبة لما في أيديهم وظاهر ما ذكرناه من حديث أبان يشهد لكونه غير فيء فإنه قال لصخر حين منعهم ماءهم إن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم فسماه مالا والمراد من الماء الارض التي فيها الماء لانفس الماء بخصوصه الا ترى إلى قوله أنزلني فأنزله إياه والاستدلال بقوله عليه الصلاة والسلام فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم بناء على تسميتها مالا في ذلك الحديث لكن قد ضعف أبانا جماعة مع احتمال أن يراد حقيقة الماء ونزول الأرض لأجله قال وزوجته فيء لأنها كافرة حربيه لا تتبعه في الإسلام وكذا حملها فيء وإن حكم بإسلامه تبعا لخير الأبوين دينا خلافا للشافعي هو يقول إنه مسلم كالمنفصل ولنا أنه جزؤها
____________________
(5/488)
فيرق برقها والمسلم محل للتملك تبعا لغيره كما لو تزوج امه الغير تكون اولاده مسلمين ارقاء بخلاف المنفصل لا نعدام الجزئيه واولاده الكبار فيء لأنهم كفار حربيون لا يتبعونه في الإسلام ولا خلاف في هذا ومن قاتل من عبيده فهو فيء خلافا للائمة الثلاثه والظاهر معهم لأنه لم يخرج عن كونه ماله ولأصحابنا أنه لما قاتل والفرض أن سيده مسلم فقد تمرد على مولاه فخرج عن يده فصار تبعا لأهل دارهم فنقصت نسبته بالماليه إلى مولاه لأن كمال معنى ماليته بالملك واليد وعن هذا قلنا ما كان من ماله في يد حربي غصبا فهو فيء لارتفاع يده بالغصب واليد التي خلفت ليست صحيحة ولا محترمه ولأن الحربي الغاصب ملكه بالغصب لأن دار الحرب دار القهر والغلبه قاله الفقيه أبو الليث وكذا إذا كان وديعه عند حربي عنده خلافا للأئمه الثلاثه في الفصلين لإطلاق الحديث ولأبي يوسف ومحمد في فصل الوديعة لأن يد المودع كيده ولو كانت في يده حقيقة لا تكون فيئا فكذا إذا كانت في يده حكما بخلاف الغصب لأنه ليس في يده حقيقة ولا حكما لأبي حنيفة أن يد الحربي ليست محترمه ألا ترى أنها لا تدفع يد الغانمين عن مالهم فلا تدفع يدهم عن مال غيرهم وأورد أن يد المودع الحربي لما قامت مقام يده وجب أن تعمل عمل الأصل وهو يد المسلم لا بوصف نفسها كما أن التراب لما كان خلفا عن الماء عمل بصفة الماء فرفع الحدث فيكون المال معصوما لعصمة صاحبه أجيب بجوابين أحدهما أن المال
____________________
(5/489)
في الأصل غير معصوم بل على الاباحه وإنما ينعصم تبعا لعصمة مالكه وتبعيته له في العصمة أنما ثثبت إذا ثبتت يد المالك المعصوم حقيقة أو حكما مع الاحترام وكلاهما منتف هنا وهذا مما قد يمنع فيه عدم الاحترام بل يده الحكمية محترمة وغير المحترمة إنما هي يد الحربي الحقيقيه الثاني أن قيام يد المودع حقيقي وهو الحربي وقيام يد المودع المسلم حكمى فاعتبار الحكمي إن اوجب العصمة فالحقيقي يمنعها والعصمة لم تكن ثابته فلا تثبت بالشك ويرد على هذامنع أنها لم تكن ثابتة بل كانت معلومة الثبوت من حين أسلم لإجماع على ثبوت ملكه حال كونه في يد الحربي والنص يوجب في ملكه العصمة بالإسلام وأما ما كان غصبا في يد مسلم أو ذمي فقال المصنف هو قول أبي حنيفه خلافا لهما أو قال هكذا ذكر الاختلاف في السير الكبير وذكروا في شروح الجامع الصغير قول أبي يوسف مع أبي حنيفه وفي بعض النسخ وقالا لا يكون فيئا إلى أن قال وذكر في شرح الجامع الصغير قول أبي يوسف مع محمد فلا شك أن هذا تكرار لا معنى له ثم قال في النهاية إنه تتبع النسخ والصحيح منها أن يقال وما كان غصبا في يد مسلم أو ذمي فهو فيء عند أبي حنيفه وقال محمد لا يكون فيئا لأن رواية السير الكبير على ما ذكر الإمام شمس الأئمة هكذا وكذا في المحيط ولم يذكر فيها قول أبي يوسف مع محمد وذكر في شرح الجامع الصغير قول أبي يوسف مع محمد لأن فخر الإسلام قال في الجامع ولو كان وديعه عند حربي أو غصبا عند مسلم أو ذمي أو ضائعا فهو فيء وهذا قول أبي حنيفه وقال أبو يوسف ومحمد لا يكون فيئا وكذا ذكر في شرح الجامع الصغير لقاضيخان والتمرتاشي وغيرهما لهما أن المال تابع للنفس وقد صارت معصومة بإسلامه فيتبعها ماله وله أنه مال مباح فيملك بالاستيلاء والنفس لم تصر معصومه بالإسلام
____________________
(5/490)
بل معه سبب اندفاع شره به فإنما هو محرم التعرض في الأصل لكونه مكلفا حمل الآمانه وإباحة التعويض كان بعارض شره فلما اندفع بالإسلام عاد الأصل بخلاف المال فإنه خلق عرضه للإمتهان فكان محلا للتملك في الأصل وليس في يده حال الغصب لا حقيقة ولا حكما فليس في يد لا أحد فلم تثبت العصمة فكان مباحا بخلاف مالو كان في يد المسلم أو الذمي وديعة فإنه في يد مالكه حكما مع الاحترام فلم يكن فيئا وما تقدم من أن الملك يتم في دار الحرب بالقهر والغلبه كما ذكره أبو الليث يقتضي أن يزول ملكه إلى المسلم الغاصب وحينئذ لا يكون مباحا اللهم إلا أن يقتصر على نقصان الملك بسبب زوال اليد قوله وليست في يده حكما أنث على تأويل الأموال
فروع أسر العدو عبدا ثم أسلموا فهو لهم لأنه مال أسلموا عليه ولو كان ذلك العبد جني جنايه أو أتلف متاعا فلزمه قيمته بطلب الجناية ولزم الدين لأن حق ولي الجنايه في رقبته ولا يبقى بعد زوال ملك المولى ألا ترى أنه لو زال ملكه بالبيع أو الهبة لا يبقى فيه حق ولى الجنايه فأما الدين ففي ذمته فلا يبطل عنه بتبدل الملك وهذا لأن الدين شاغل لما ليته فإنما ملكه مشغولا به فلو اشتراه رجل منهم أو أصابه المسلمون في غنيمة أي ولم يسلم مولاه فأخذه المولى بالقيمة او الثمن فإن الجنايه لا تبطل عنه لأنه يعيده إلى قديم ملكه وحق ولي الجناية كان ثابتا في قديم ملكه ولو كانت الجناية قتل عمد لم تبطل عنه بحال قوله وأذا خرج المسلمون من دار الحرب لم يجز أن يعلفوا من الغنيمة ولا يأكلوا حتى يورث نصيبه ولا كذلك قبل الإخراج ومن فضل معه طعام أو علف يرد إلى الغنيمة معناه إذا لم يكن قسم الغنيمة في دار الحرب بشرط ولو انتفع به قبل قسمتها بعد الإحراز يرد قيمته وهو قول مالك وأحمد والشافعي في قول وعنه أنه لا يرده أعتبارا بالمتلصص وهو الواحد الداخل أو
____________________
(5/491)
الاثنان إلى دار الحرب اذا أخذ شيئا فأخرجه يختص به قلنا مال تعلق به حق الغانمين والاختصاص كان للحاجه وقد زالت بخلاف المتلصص لأنه دائما أحق به قبل الإخراج وبعده وأما بعد القسمة فيتصدقون بعينه أن كان قائما وبقيمته أن كانوا باعوه هذا أن كانوا أغنياء وأن كانوا محاويج فقراء انتفعوا به أن كان قائما لأنه صار في حكم اللقطه لتعذر الرد على الغانمين لتفرقهم وأن كانوا تصرفوا فيه فلا شئ عليهم وعلى هذا قيمة ما انتفع به بعد الإحراز يتصدق بها الغني لا الفقير لقيام القيمة مقام الأصل واخذها حكمه & فصل في كيفيه القسمة
قيل لما بين أحكام الغنيمة شرع يبين قسمتها ولا يخفى أن من أحكام الغنيمة وجوب قسمتها وإنما أفرده بفصل على حدته لكثرة مباحثة وشعبه بالنسبة إلى غيره من الأحكام والقسمة جعل النصيب الشائع محلا معينا قوله ويقسم الإمام الغنيمة فيخرج خمسها أي عن القسمة بين الغانمين ويقسم الأربعة الأخماس بين الغانمين هذا قول القدوري وقال المصنف لقوله تعالى { فأن لله خمسه } استثنى الخمس أي الله تعالى أخرج الخمس
____________________
(5/492)
من أن يثبت حق الغانيمن فيه فكان استثناء معنى للإخراج وهو من استثنيت الشئ أي زويته لنفسي فهذا يرجع إلى قول الله تعالى لا قسمة الإمام بل خمس داخل في قسمته إذ حاصل بيان قسمتها هو أن يعطى خمسها لليتامى والمساكين وأبناء السبيل على ما سيأتي ويعطى الآربعة الأخماس للغانمين فعند أبي حنيفه وزفر للفارس سهمان وللراجل سهم وعندهما وهو قول مالك والشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم لهم ما روي عن أبن عمر أنه صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ولصحابه سهما لفظ البخاري وأخرجه الستة ألا النسائي وفي مسلم عنه قسم في النفل للفرس سهمين وللراجل سهما وفي روايه بإسقاط لفظ النفل وفي روايه أسهم للرجل ولفرسه ثلاثه أسهم سهم له وسهمان لفرسه وهذه الألفاظ كلها تبطل قول من أول من الشراح كون المراد من الرجال الرجالة ومن الخيل الفرسان بل في بعض الألفاظ القائله قسم خيبر على ثمانيه عشر سهما وكانت الرجاله ألفا واربعمائة والخيل مائتين وعن أبن عباس مثله ولأن الاستحقاق بالغناء وهو بالمد والفتح الإجزاء والكفايه وغناء الفارس الكر اي الحمله على الأعداء والفر الكائن للكره او للنجاه في موضع يجوز الفرار وهو ما أذا علم أنه مقتول إن لم يفر كي لا يرتكب المنهي عنه قوله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } والثبات وليس للراجل إلا الثبات فأغنى في ثلاثة أمور والراجل في واحد منها واستدل المصنف لأي حنيفه بحديث أبن عباس أنه عليه الصلاة والسلام أعطى الفارس سهمين والراجل سهما وهو غريب من حديث ابن عباس بل الذي رواه إسحاق بن راهويه في مسنده قال حدثنا محمد بن الفضل بن غزوان حدثنا الحجاج عن أبي صالح عن ابن عباس قال اسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما وأخرجه أيضا من طريق ابن أبي ليلى عن الحكم عن أبن عباس وعن أبن عباس نحوه في حديث الخمس
____________________
(5/493)
برواية غير واحد من الأئمة لكن في هذا الباب احاديث منها ما في ابي داود عن مجمع بن يعقوب بن مجمع ابن يزيد الأنصاري قال قال سمعت ابي يذكر عن عمه عبد الرحمن بن يزيد الانصاري عن عمه مجمع بن جارية الانصاري وكان احد القراء الذين قرءوا القرآن قال شهدنا الحديبيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفنا عنها اذا الناس يهزون الأباعر فقال بعض الناس لبعض ما للناس قالوا اوحي الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجنا مع الناس نوجف فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفا على راحلته عند كراع الغميم فلما اجتمع عليه الناس قرأ عليهم { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } فقال رجل يا رسول الله أفتح هو قال نعم والذي نفس محمد بيده أنه لفتح فقسمت خيبر على اهل الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانيه عشر سهما وكان الجيش الفا وخمسائة فيهم ثلاثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين واعطى الراجل سهما قال ابو داود وهذا وهم وانما كانوا مائتي فارس فأعطى الفرس سهمين واعطى صاحبه سهما وقال الشافعي انما قال فأعطى الفرس سهيمن واعطى الرجل يعني صاحبه فغلط الراوي عنه واعله ابن القطان بالجهل بحال يعقوب واما ابنه مجمع الراوي عنه فثقه ومنها ما في معجم الطبراني عن المقداد بن عمرو انه كان يوم بدر على فرس يقال له سبحه فأسهم له النبي صلى الله عليه وسلم سهمين لفرسه سهم واحد وله سهم وفي سنده الواقدي واخرج الواقدي ايضا في المغازي عن جعفر بن خارجه قال قال الزبير بن العوام شهد بني قريظه فارسا فضرب لي بسهم ولفرسي بسهم واخرج ابن مردويه في تفسيره حدثنا احمد بن محمد بن السري حدثنا المنذر بن محمد حدثني ابي حدثنا يحيى بن محمد بن هانئ عن محمد بن اسحاق قال حدثنا محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشه قالت اصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق فاخرج الخمس منها ثم قسمها بين المسلمين فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما ومنها حديث ابن عمر الذي عارض به المصنف رواه ابن ابي شيبه في مصنفه حدثنا ابو اسامه وابن نمير قالا حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفالارس سهيمن وللراجل سهما أه ومن طريقة رواه الدارقطني قال قال ابو بكر النيسابوري هذا عندي وهم من ابن ابي شيبه لأن احمد بن حنبل وعبد الرحمن بن بشر وغيرهما رووه عن ابن نمير خلاف هذا وكذا رواه ابن كرامه وغيره عن ابي اسامة خلاف هذا يعني انه اسهم للفارس ثلاثة اسهم تم اجرجه عن نعيم بن حماد حدثنا ابن المبارك عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه اسهم للفارس سهمين وللراجل سهما ولا شك ان نعيما ثقة وابن المبارك من اثبت الناس واخرجه ايضا عن يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب اخبرني عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسهم للخيل للفارس سهمين وللراجل سهما قال وتابعه ابن ابي مريم وخالد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر العمري ورواه القعنبي عن العمري بالشك في الفارس أو الفرس ثم أخرجه عن حجاج بن منهال حدثنا حماد بن سلمه حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمران ان النبي صلى الله عليه وسلم قسم للفارس سهمين وللراجل سهما وخالفه النضر بن محمد عن حماد وممن روي حديث عبيد الله متعارضا الكرخي لكن روايه السهمين عنه اثبت وروي الدارقطني ايضا في كتابه المؤتلف والمختلف حدثنا عبد الله ابن محمد بن اسحاق المروزي ومحمد بن علي بن ابي رويه قالا حدثنا احمد بن عبد الجبار حدثنا يونس بن بكير
____________________
(5/494)
عن عبد الرحمن بن امين عن ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم للفارس سهمين وللراجل سهما واذا ثبت التعارض في حديث ابن عمر بل في فعله عبيه الصلاة والسلام مطلقا نظرا الى تعارض روايه غير ابن عمر ايضا ترجح النفي بالاصل وهو عدم الوجوب وبالمعنى وهو ان الكر والفر جنس واحد والثبات جنس فهما اثنان للفارس وللراجل احدهما فله ضعف ماله ولأن الزياده ليس إلا بالزياده في الغناء ضرورة وان تعذر معرفة الزياده في القتال حقيقة لان كم من راجل انفع فيه من راجل وفارس من فارس ولا يستنكر زياده إغناء راجل عن فارس فإنما يدار الحكم على سبب ظاهر وللفارس سببان في الغناء بنفسه وفرسه وللراجل نفسه فقط فكان على النصف وقول المصنف واذا تعارضت روايتاه ترجح روايه غيره يريد ابن عباس وعلمت ما فيه فإن قيل المعارضه الموجبه للترك فرع المساواه وحديث ابن عمر في البخاري فهو أصح قلنا قدمنا غير مرة أن كون الحديث في كتاب البخاري أصح من حديث آخر في غيره مع فرض أن رجاله رجال الصحيح او رجال روي عنهم البخاري تحكم محض لانا نقول به مع ان الجمع وان كان احدهما اقوى من الآخر أولى من ابطال احدهما وذلك فيما قلنا يحمل روايه ابن عمر على التنفيل فكان اعمالهما اولى من اعمال احدهما بعد كونه سندا صحيحا على ماذكرت من حديث ابن المبارك ويونس بن عبد الاعلى ة وذكرنا من تابعه واما قوله تعارض فعلاه فيرجع الى قوله يعني قوله للفارس سهمان وللراجل سهم وهو غير معروف وخطئ من غزاه لابن ابي شبيه ثم هو وزان ما تقدم له في سجود السهو من قوله فتعارضت روايتا فعله وبقي التمسك بقوله وعلم ما تقدم هناك من انه يفيد ان المصير اولا الى الفعل فإذا تعذر التمسك به حينئذ يصار الى القول وليس كذك هذا واعلم ان مخارج حديث الثلاثه اكثر فإنه روي من حد يث ابن عمر واخرجه ابو داود من حديث ابن أبي عمرة عن
____________________
(5/495)
أبيه والطبراني من حديث أبي رهم وهو مختلف في صحبته وأخرجه أيضا من حديث أبي كبشة الأنماري والبزار من حديث المقداد وأخرجه إسحاق بن راهوية من حديث ابن عباس وكذا الطبراني وابو عبيد القاسم بن سلام وأخرجه أحمد عن المنذر بن الزبير بن العوام عن الزبير والدارقطني عن عبد الله بن الزبير عن الزبير واخرجه الدارقطني ايضا من حديث جابر وأخرجه أيضا من حديث أبي هريرة وأخرجه ايضا من حديث سهل بن ابي حثمة وهي مع أنها لم تسلم من المقال منها مالا ينافي قول أبى حنيفة لأنك قد علمت أن رواية الثلاثة محمولة على التنفيل في تلك الوقعة ونص حديث ابن أبي عمرة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم اربعة نفر ومعنا فرس لا ينافيه وكذا حديث أحمد أنه عليه الصلاة والسلام أعطى الزبير سهما وفرسه سهمين وكذا حديث جابر فإنه قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزاة فأعطى الفارس منا ثلاثة أسهم وأعطى الراجل سهما بل هذا ظاهر في أنه ليس أمره المستمر وإلا لقال كان عليه الصلاة والسلام أو قضى عليه الصلاة والسلام ونحوه فلما قال غزاة وقد علم أنه شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوات ثم خص هذا الفعل بغزاة منها كان ظاهرا في أن غيرها لم يكن كذلك نعم في روايه الدارقطني لحديث الزبير أعطاني يوم بدر وفي روايه له أخرى عنه يوم خيبر ولا تنافى إذا جاز كونه قسم له ذلك فيهما وما في حديث سهل بن أبي حثمة أنه شهد حنينا فأسهم لفرسه سهمين وله سهما وفي حديث عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم من طريق ابن إسحاق في غزوة بني قريظة أنه عليه الصلاة والسلام جعل للفارس وفرسه ثلاثة أسهم له سهم ولفرسه سهمان لا يقتضي أن ذلك مستمر منه عليه الصلاة والسلام وقد بقي حديث بنى المصطلق عن عائشة وتقدم ما يعارض حديث بني قريظة هذا وأما حديث أبي كبشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إني جعلت للفرس سهمين وللفارس سهما فمن نقصهما نقصه الله تعالى فلم يصح لأنه روايه محمد بن عمران القيسي أكثر الناس على تضعيفه وتوهينه قوله ولا يسهم إلا لفرس واحد أي إذا دخل دار الحرب بفرسين أو أكثر وهذا قول مالك والشافعي وقال أبو يوسف وهو قول أحمد يسهم لفرسين فيعطى خمسة أسهم سهم له وأربعة أسهم لفرسه ولم يذكر الخلاف في ظاهر الروايه عن أبي يوسف وإنما هو في روايه الإملاء عنه واستدل المصنف لذلك بما روي أنه عليه الصلاة والسلام أسهم لفرسين وهذا روي من حديث أبي عمرة عن بشير بن عمرو بن محصن قال أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرسي اربعة أسهم ولي سهما فأخذت خمسة أسهم رواه الدارقطني ومن حديث الزبير أخرجه عبد الرزاق أخبرنا إبراهيم بن يجيى الأسلمي أخبرنا صالح بن محمد عن مكحول أن الزبير حضر خيبر بفرسين فأعطاه النبي
____________________
(5/496)
صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم وهذا منقطع وقد قبله الأوزاعي عن مكحول منقطعا وقال به وقال الشافعي في دفعه وهشام أثبت في حديث أبيه إلى أن قال واهل المغازي لم يرووا أنه عليه الصلاة والسلام أسهم لفرسين ولم يختلفوا أنه يعني النبي عليه الصلاة والسلام حضر خيبر بثلاثة افراس السكب والضرب والمرتجز ولم يأخذ إلا لفرس واحد انتهى يريد بحديث هشام ما تقدم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن الزبير رضي الله عنهم قال أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر اربعة أسهم سهمين لفرسي وسهما لي وسهما لأمي من ذوي القربى ومن روايه هشام بن عروة أيضا عن يحيى بن عباد عن عبد الله بن الزبير عن جده قال ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر للزبير بن العوام بأربعة أسهم سهم له وسهم لأمه صفيه بنت عبد المطلب وسهمين لفرسه وهذا أحسن إلا أن قوله أهل المغازي لم يرووا أنه أسهم لفرسين ليس كذلك قال الواقدي في المغازي حدثنا عبد الملك بن يحيى عن عيسى بن معمر قال كان مع الزبير يوم خيبر فرسان فأسهم له النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم وقال ايضا حدثني يعقوب بن محمد عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة عن الحرث بن عبد الله بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قاد في خيبر ثلاثة افراس لزاز والضرب والسكب وقاد الزبير بن العوام أفراس وقاد خراش بن الصمة فرسين وقاد البراء بن أوس فرسين وقاد أبو عمرة الأنصاري فرسين فأسهم عليه الصلاة والسلام لك من كان له فرسان خمسة أسهم أربعة لفرسيه وسهما له وما كان أكثر من فرسين لم يسهم له ويقال إنه لم يسهم إلا لفرس واحد وأثبت ذلك أنه أسهم لفرس واحد ولم يسمع أنه صلى الله عليه وسلم أسهم لنفسه إلا لفرس واحد إلى هنا كلام الواقدي مع اختصاره وقال سعيد بن منصور حدثنا فرح بن فضاله حدثنا محمد بن الوليد الزبيري عن الزهري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن اسهم للفرس سهمين وللفرسين أربعة أسهم ولصاحبهما سهما فذلك خمسة أسهم وما كان فوق الفرسين فهو جنائب وقال سعيد أيضا حدثنا ابن عياش عن الأوزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسهم للخيل وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين وأما ما ذكره المصنف عن البراء بن أوس أنه قاد فرسين فلم يسهم له رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لفرس واجد فغريب بل جاء عنه عكسه كما ذكرناه عن الواقدي رحمه الله وذكره ابن منده في كتاب الصحابه قال روي محمد بن علي بن قرين عن محمد بن عمر المدني عن يعقوب بن محمد بن صعصعة عن عبد الله بن ابي صعصعة عن البراء بن أوس أنه قاد مع النبي صلى الله عليه وسلم فرسين فضرب له خمسة أسهم إلا أن هذه غرائب وقال مالك في الموطإ ألم أسمع بالقسم إلا لفرس واحد واستمر المصنف على طريقة حمل الزائد على التنفيل قال كما أعطى سلمة بن الأكوع سهمين وهو راجل حديثه في مسلم قال قدمنا المدينة فساق الحديث بطوله إلى أن قال فلما اصبحنا قال عليه الصلاة والسلام خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة بن الأكوع ثم أعطاني سهمين سهم الفارس وسهم الراجل فجمعهما لي جميعا ورواه ابن حبان قال وكان سلمة بن الأكوع في تلك الغزاه راجلا فأعطاه من خمسة عليه الصلاة والسلام لامن سهمان المسلمين ورواه القاسم بن سلام وقال كان سلمة قد استنقذ لقاح الني صلى الله عليه وسلم قال ابن مهدي فحدثت به سفيان فقال خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم قال القاسم وهذا
____________________
(5/497)
عندي أولى من حمله على أنه أعطاه من سهمه وإلا لم يسم نفلا بل هبة وخبر سلمة واللقاح مفصل في السيرة قوله والبراذين وهي خيل العجم واحدها برذون والعتاق جمع عتيق أي كريم راتع وهي كرام الخيل العربية والبراذين والخيل العربية هما سواء في القسم فلا يفضل أحدهما على الآخر وكذا لا يفضل العتيق على الهجين وهو ما يكون أبوه من البراذين وامه عربية ولا على المقرف وهو ما يكون أبوه عربيا وأمه برذونة قيل إنما ذكر هذا لأن من أهل الشام من يقول لا يسهم للبراذين ورووا فيه حديثا شاذا وحجتنا فيه ما ذكر في الكتاب من أن إطلاق الخيل يشملهما وكذا الإرهاب ولأن في كل خصوصية ليست في الآخر فالعتيق إن فضل بجودة الكر والفر فالبرذون يفضل بزيادة قوته على الحمل والصبر ولين العطف وكونه ألين عطفا من العربي غير صحيح لأن هذا دلئر مع التعليم والعربي أقبل للأدب من العجمي من الخيل وكون أحد يقول لا يسهم بالكلية للفرس العجمي بعيد ويمكن ان يكون ذكره لما نقل عن عمر أنه فضل أصحاب الخيل العربية على المقارف وفي سيرة ابن هشام حدثني أبو عبيدة قال كتب أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه إلى سليمان بن ربيعة الباهلي وهو بأرمينية يأمره أن يفضل أصحاب الخيل العراب على أصحاب الخيل المقارف في العطاء فعرض الخيل فمر به عمرو بن معدي كرب فقال له سلمان فرسك هذا مقرف فغضب عمرو وقال هجين عرف هجينا مثله فوثب إليه قيس يعني ابن مكشوح فتوعده فقال عمرو ** أتوعدني كأنك ذو رعين ** بافضل عيشة أو ذو نواس ** ** وكائن كان قبلك من نعيم ** وملك ثابت في الناس راسي ** ** قديم عهده من عهد عاد ** عظيم قاهر الجبروت قاسي ** ** فأمسى اهله بادوا وأمسى ** يحول من أناس في أناس **
وقوله ومن ذخل دار الحرب فارسا فنفق فرسه أي هلك فقاتل راجلا استحق سهم الفرسان ومن دخل راجلا فاشترى في دار الحرب فرسا فقاتل فارسا عليه استحق سهم راجل وجواب الشافعي على عكسه
____________________
(5/498)
في الفصلين وهكذا روى ابن المبارك في الفصل الثاني عن ابي حنيفة أي فيما إذا دخل راجلا فاشترى فرسا فقاتل عليه أن له سهم فارس وظاهر المذهب الأول والحاصل أن المعتبر عندنا حالة المجاوزة أي مجاوزة الدرب وهو الحد الفاصل بين دار الإسلام ودار الحرب وعنده حال الحرب له أن السبب في استحقاق الغنيمة إذا وجدت هو قتاله فيعتبر حال الشخص المستحق عنده دون المجاوزة لأنها إنما هي وسيلة إلى السبب أي العلة الحقيقية كالخروج من البيت لقصد القتال في دار الحرب فإنه وسيلة إلى السبب وحالة الغازي عند ذلك بالاتفاق لا تعتبر فكذا عند المجاوزة والدليل على أن المعتبر حال القتال تعلق الأحكام به الراجعة إلى ستحقاق الغنيمة انفاق فميا إذا قاتل الصبي أو العبد أو غيرهما فإنهم يستحقون الرضخ فظهر اعتباره شرعا في حق استحقاق الغنيمة وانه غير متعذر ولو تعذر أو تعسر فبشهود الوقعة لأنه أقرب إلى القتال من المجاوزة ولنا ان المجاوزة نفسها من القتال لأنهم يلحقهم الخوف بها والإغاظة والحال بعدها حال بقاء القتال إلا أنه تنوع القتال إلى
____________________
(5/499)
المجاوزة إلى دارهم وسلوكهم قهرا بالمنعة لإهلاكهم وإلى حقيقة المسايفة ولا معتبر بحال الدوام ولأن الوقوف على حقيقة القتال متعسر وكذا على شهود الوقعة لأنه حال شغل شاغل لكل أحد فيتعذر على الإمام استعلامه بنفسه أو بشهادة العدل به لكل فرد فسقط اعتباره بخلافة في حق أفراد قليلة من الناس كقتال الصبي والعبد فأدير في حقهم عليه دون سائر الناس فيقام في حق الكل السبب المفضي إلى القتال ظاهرا مقامه فيكون هو المعتبر في حق العامة وأما ما قيل في التعذر بأن الشهادة من أهل العسكر لا تقبل للتهمة فليس بصحيح بل يجب قبولها لأن الشاهد على أن هذا قاتل فارسا لا يجر بذلك نفعا لنفسه بل ضررا فإنه ينقص سهم نفسه فهو يلزم نفسه أولا الضرر وشركته في أصل المغنم ليست متوقفة على شهادته هذه ألا يرى إلى ما في الحديث من قول أبي قتاده من يشهد لي حيث جعل عليه الصلاة والسلام السلب للقاتل في حنين فشهد له واحد فأعطاه إياه وقال عليه الصلاة والسلام من قتل قتيلا له عليه بينة ولا بينة إلا أهل العسكر من المقاتله خصوصا في غزواته عليه الصلاة والسلام ولو دخل فارسا وقاتل راجلا لضيق المكان أو لمشجرة أو لأنه في سفينة دخل فيها بفرسه ليقاتل عليه إذا خلص إلى برهم فلا قوهم قبله واقتتلوا في السفينة كان لهم سهم الفرسان ولو دخل فارسا ثم باع فرسه أو وهبه وسلمة أو آجره أو رهنه ففي روايه الحسن يستحق سهم الفرسان اعتبارا للمجاوزة وفي ظاهر المذهب لا يستحقه لأن الإقدام على هذه التصرفات يدل على أنه لم يقصد بالمجاوزة بالفرس القتال عليه بل التجاره به وسبب استحقاق سهم الفارس هو المجاوزة ة على على قصد القتال عليه لا مطلق المجاوزه ولو باعه بعد الفراغ من القتال لا يسقط سهم الفارس بالاتفاق وكذا إذا باعه حالة القتال لايسقط عند البعض قال المصنف الأصح أنه يسقط لأنه ظهر أن قصده التجاره إنما انتظر حالة العزة وعورض بأن تلك الحاله حالة المخاطره بالنفس فلم يكن البيع دليلا على قصد التجاره لأن تلك الحاله حالة طلب النفس التحصن فبيعة فيها دليل أنه عن له غرض الآن فيه إما لآنه وجده غير موافق له فربما يقتله لعدم أدبه أو غير ذلك ولأن العادة ليس هو البيع وغيره من العقود حالة القتال ليكون بيعة إذا ذاك انتظارا لحالة الرغبات في الشراء وفي المحيط لو جاوز بفرس لا يستطيع القتال عليه لكبره أو ضعفه أو هزاله لا يستحق سهم الفرسان وأن كان الفرس مريضا فعلى التفصيل المذكورة فيه ولو جاوز على فرس مغصوب أو مستعار أو مستأجر ثم استرده المالك فشهد الوقعة راجلا ففيه روايتان
____________________
(5/500)
في روايه له سهم فارس وفي روايه سهم راجل ومقتضى كونه جاوز بفرس لقصد القتال عليه ترجح الأولى إلا أن يزاد في أجزاء السبب بفرس مملوك وهو ممنوع فإنه لو لم يسترده المعير وغيره حتى قاتل عليه كان فارسا قوله ولا يسهم لمملوك ولا امرأة ولا صبي ولا ذمي ولكن يرضخ لهم أي يعطون قليلا من كثير فإن الرضخة هي الإعطاء كذلك والكثير السهم فالرضخ لا يبلغ السهم ولكن دونه على حسب ما يرى الإمام وسواء قاتل العبد بإذن سيده أو بغير إذنه والمكاتب كالعبد لما ذكر في المكاتب وقد استدل المصنف بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يسهم الخ أخرج مسلم كتب نجدة بن عامر الحروري إلى ابن عباس يسأله عن العبد والمرأة يحضران المغنم هل يقسم لهما فكتب إليه أن ليس لهما شئ إلا أن يحذيا وفي أبي داود عن يزيد بن هرمز كتب نجده الحروري إلى ابن عباس يسأله عن النساء هل كن يشهدن الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنا كتبت كتاب ابن عباس رضي الله عنهما إلى نجده قد كن يحضرن الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما أن يضرب لهن بسهم فلا وقد كان يرضخ لهن وأخرج ابو داود الترمذي وصححه عن عمير مولى أبي اللحم قال شهدت خيبر مع ساداتي إلى أن قال فأخبر أني مملوك فأمر لي بشئ وأما ما في أبي داود والنسائي عن جده حشرج بن زياد أم أبيه أنها خرجت في غزوة خيبر سادسة ست نسوة فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلينا فجئنا فرأينا في وجهة الغضب فقال مع من خرجتن وبإذن من خرجتن فقلن يا رسول الله خرجنا نغزل الشعر ونعين في سبيل الله ومعنا دواء للجرحى ونناول السهام ونسقي السويق فقال قمن حتى إذا فتح الله عليه خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال وبه قال الأوزاعي وقال الخطابي إسناده ضعيف لا تقوم به حجة وذكر غيره أنه لجهالة رافع وحشرج من رواته وقال الطحاوي يحتمل أنه عليه الصلاة والسلام استطاب أنفس أهل الغنيمة وقال غيره يشبه أنه إنما أعطاهن من الخمس الذي هو حقه هذا ويمكن أن يكون كون التشبيه في أصل العطاء وأرادت بالسهم ما خصص به والمعنى خصنا بشئ كما فعل بالرجال وأنما لم يبلغ بهؤلاء الرجاله منهم سهم الرجاله ولا بالفارس سهم الفرسان لأنهم أتباع أصول في التبعية حيث لم يفرض على أحد منهم في غير النفير العام في غير الصبي ويزيد الذمي بأنه ليس أهلا له لكون الجهاد عباده وليس هو من أهلها ومن الأمور الاستحسانيه إظهار التفاوت بين المفروض عليهم وغيرهم والتبع والأصل بخلاف السوقي في العسكر والمستأجر لخدمة الغازي إذا قاتلا حيث يستحقان سهما كاملا وتسقط حصته زمن القتال من أجرة الأجير لأنهما من أهل فرضه فلم يكونا تبعا في حق الحكم بل في السفر ونحوه ثم الرضخ عندنا من الغنيمة قبل إخراج الخمس وهو قول الشافعي رحمه الله وأحمد وفي قول له وهو روايه عن أحمد من أربعة الأخماس وفي
____________________
(5/501)
قول للشافعي رحمه الله من خمس الخمس وقال مالك رحمه الله من الخمس ثم العبد إنما يرضخ له إذا قاتل وكذا الصبي والذمي لأنهم يقدرون على القتال إذا فرض الصبي قادرا عليه فلا يقام غير القتال في حقهم مقامه بخلاف المرأة فإنها تعطي بالقتال وبالخدمة لأهل العسكر وأن لم تقاتل لأنها عاجزة عنه فأقيم هذه المنفعة منها مقامه وصحة أمانها لثبوت شبهة القتال منها والأمان يثبت بالشبهة احتياطا فيه ولا يرد إعطاء الذمي إذا لم يقاتل بل دل على الطريق لأن ذلك ليس رضخا بل بمقام الأجرة ولهذا يزاد على السهم إذا كان عمله ذلك تزيد قيمته عليه بخلاف ما إذا قاتل لأنه عمل الجهاد ولا يسوى في عمل الجهاد بين من يصح منه ويؤجر عليه ومن لا يقبله الله منه ولا يصححه له فلذلك لا يبلغ به السهم كما ذكره المصنف قالوا والسهم مرفوع البته لأنه المفعول بلا واسطه حرف فيكون هو النائب عن الفاعل وهذا على قول الأكثر وأما من يجيز إقامة الظرف والمجرور مع وجود المفعول فيجيز نصبه ويكون النائب لفظ به وهل يستعان بالكافر عندنا إذا دعت الحاجة جاز وهو قول الشافعي رحمه الله وابن المنذر وجماعة لا يجوزون ذلك لما في مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام خرج الى بدر فلحقه رجل من المشركين يذكر منه جرأة ونجده فقال له عليه الصلاة والسلام تؤمن بالله ورسوله قال لا قال ارجع فلن نستعين بمشرك الحديث إلى أن قال له في المرة الثالثه نعم قال انطلق وعن حبيب بن إساف قال أتيت أنا ورجل من قومي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزوا فقلت يارسول الله إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم فقال أتسلمان فقلنا لا فقال أنا لا نستعين بالمشركين قال فأسلمنا وشهدنا معه قال فقتلت رجلا وضربني ضربة وتزوجت بنته بعد ذلك فكانت تقول لا عدمت رجلا وشحك هذا الوشاح فأقول لا عدمت رجلا عجل أباك إلى النار رواه الحاكم وصححه وقول المصنف ولما استعان عليه الصلاة والسلام باليهود على اليهود لم يعطهم شيئا من الغنيمة يعني لم يسهم لهم يفيد معارضة هذه الاحاديث والمذكور في ذلك حديث ابي يوسف رحمه الله أخبرنا الحسن بن عماره عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال استعان رسول الله صلى الله عليه ولم بيهود قينقاع فرضخ لهم ولم يسهم ولكن تفرد به ابن عماره وهو مضعف واسند الواقدي الى محيصة قال وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرة من يهود المدينة غزا بهم أهل خيبر وأسهم لهم كسهمان المسلمين ويقال أحذاهم ولم
____________________
(5/502)
يسهم لهم وأنسد الترمذي إلى الزهري قال أسهم عليه الصلاة والسلام لقوم من اليهود قاتلوا معه وهو منقطع وفي سنده صعف مع أن يحيى بن القطان كان لا يرى مراسيل الزهري وقتاده شيئا ويقول هي بمنزلة الريح ولا شك أن هذه لا تقاوم أحاديث المنع في القوة فكيف تعارضها وقال الشافعي رحمه الله رده صلى الله عليه وسلم المشرك والمشركين كان في غزة بدر ثم أنه عليه الصلاة والسلام استعان في غزوة خيبر بيهود من بني قينقاع واستعان في غزوة حنين سنة ثمان بصفوان بن أميه وهو مشرك فالرد أن كان لأجل أنه مخير بين أن يستعين به وأن يرده كما له رد المسلم لمعنى يخافه فليس واحد من الحديثين مخالفا للأخر وأن كان لأجل أنه مشرك فقد نسخه ما بعده ولا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إذا خرجوا طوعا ويرضخ لهم ولا يسهم لهم ولا يكون لهم روايه تخصهم ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسهم لهم والعل رده من رده في غزوة بدر رجاء أن يسلم قوله وأما الخمس أن الذي تقدم أنه يخرجه أولا فيقسم على ثلاثة أسهم سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل يدخل فقراء ذوي القربى فيهم ويقدمون على غيرهم لأن غيرهم من الفقراء يتمكنون من أخذ الصدقات وذوو القربى لا تحل لهم هذا رأى الكرخي وسيأتي رأي الطحاوي أنه يدخل فقراء اليتامى من ذوي القربى في سهم اليتامى المذكورين دون إغنيائهم واليتيم صغيرلا لا أب له والمساكين منهم في سهم المساكين وفقراء أبناء السبيل من ذوي القربى في أبناء السبيل فإن قيل فلا فائده حينئذ في ذكر اسم اليتيم حيث كان استحقاقه بالفقر والمسكنه لا باليتم أجيبب أن فائدته دفع توهم أن اليتيم لا يستحق من الغنيمة شيئا لأن استحقاقها بالجهاد واليتيم صغير فلا يستحقها ومثله ما ذكر في التأويلات للشيخ أبي منصور لما كان فقراء ذوي القربى يستحقون بالفقر فلا فائده في ذكرهم في القرآن أجاب بأن أفهام بعض الناس قد تفضي إلى أن الفقير منهم لا يستحق لأنه من قبيل الصدقه ولا تحل لهم وفي التحفه هذه الثلاثة مصارف الخمس عندنا لا على سبيل الاستحقاق حتى لوصرف إلى صنف واحد منهم جاز كما في الصدقات وقال الشافعي لذوي القربى خمس الخمس يستوي فيه غنيهم وفقيرهم وبقول الشافعي قال أحمد وعند مالك الأمر مفوض إلى رأي الإمام إن شاء قسم بينهم وأن شاء أعطى بعضهم دون بعض وأن شاء أعطى غيرهم أن كان أمر غيرهم أهم من أمرهم ويقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ويكون لبني هاشم وبني المطلب دون غيرهم من القرابات ونحن نوافقه على أن القرابه المراده هنا تخص بني هاشم وبني المطلب فالخلاف في دخول الغني من ذوي القربى وعدمه وقال المزني والثوري يستوي فيه الذكر
____________________
(5/503)
والأنثى ويدفع للقاصي والداني وهو ظاهر إطلاق النص له إطلاق قوله تعالى { ولذي القربى } بلا فصل بين الغني والفقير ولأن الحكم المعلق بوصف يوجب أن مبدأ الاشتقاق عله له ولا تفصيل فيها بخلاف اليتامى فإنهم يشترطون فيهم الفقر مع تحقق الإطلاق كقولنا وذلك لأن اسم اليتيم يشعر بالحاجه فكان مقيدا معنى بها بخلاف ذوي القربى ثم لا تنتفي مناسبتها بالغني لأنه لا يبعد كون قرابه رسول الله صلى الله عليه وسلم توجب استحقاق هذه الكرامه ولنا أن الخلفاء الراشدين قسموه على ثلاثة أسهم على نحو ما قلنا وكفى بهم قدوة ثم أنه لم ينكر عليهم ذلك أحد مع علم جميع الصحابه بذلك وتوافرهم فكان إجماعا إذ لا يظن بهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم والكلام في إثباته فروي أبو يوسف عن الكلبي عن أبي صالح عن أبن عباس رضي الله عنهما أن الخمس كان يقسم على عهده عليه الصلاة والسلام على خمسة اسهم الله والرسول سهم ولذى القربي سهم ولليتامى سهم وللمساكين سهم ولابن السبيل سهم ثم قسم ابو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم على ثلاثة أسهم سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل وروي الطحاوي عن محمد بن خزيمة عن يوسف بن عدي عن عبد الله بن المبارك عن محمد بن إسحاق قال سألت أبا جعفر يعني محمد بن علي فقلت أرأيت على بن ابي طالب رضي الله عنه حيث ولي العراق وما ولي من أمر الناس كيف صنع في سهم ذوي القربى قال سلك به والله سبيل ابي بكر وعمر فقلت وكيف وأنتم تقولون ما تقولون قال وأما والله ما كان أهله يصدرون إلا عن رأيه قلت فما منعه قال كره والله أن يدعي عليه بخلاف سيرة أبي بكر وعمر أنتهى وكون الخلفاء فعلوا ذلك لم يختلف فيه وبه تصح روايه أبي يوسف عن الكلبي فإن الكلبي مضعف عند اهل الحديث إلا أنه وافق الناس وأنما الشافعي يقول لا إجماع بمخالفة أهل البيت وحين ثبت هذا حكمنا بأنه إنما فعله لظهور أنه الصواب لا أنه لم يكن يحل له أن يخالف أجتهاده أجتهادهما وقد علم أنه خالفهما في أشياء لم توافق رأيه كبيع أمهات الأولاد وغير ذلك فحين وافقهما علمنا أنه رجع إلي رايهما أن كان ثبت عنه أنه كان يرى خلافه وبهذا يندفع ما استدل به الشافعي عن أبي جعفر محمد بن علي قال كان رأي على في الخمس راى أهل بيته ولكن كره أن يخالف أبا بكر وعمر قال ولا إجماع بدون أهل البيت لأنا نمنع أن فعله كان تقيه من أن ينسب إليه خلافهما وكيف وفيه منع المستحقين من حقهم في أعتقاده فلم يكن منعه إلا لرجوعه وظهر الدليل له وكذا ما روي عن ابن عباس من أنه كان يرى ذلك محمول على أنه كان في الأول كذلك ثم رجع ولئن لم يكن رجع فالأخذ بقول الراشدين مع اقترانه بعدم النكير من أحد أولى فإن قيل لو صح ما ذكر تم لم يكن سهم مستحق لذوي القربى اصلا لأن الخلفاء لم يعطوهم وهو الحق وهو مخالف للكتاب ولفعله عليه الصلاة والسلام لأنه أعطاهم بلا شبهة
____________________
(5/504)
أجاب على يقول الكرخي أن الدليل دال على أن السهم للفقير منهم لقوله عليه الصلاة والسلام يامعشر بني هاشم الحديث وهو بهذا اللفظ غريب وتقدم في الزكاه وأند الطبراني في معجمه حدثنا معاذ بن المثنى حدثنا مسدد حدثنا معتمر بن سليمان وساق السند إلى ابن عباس قال بعث نوفل بن الحرث ابنيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما انطلقا إلى عمكما لعله يستعين بكما على صدقات فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فاخبراه بحاجتهما فقال لهما لا يحل لأهل البيت من الصدقات شئ ولا غساله الأيدي أن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم ويكفيكم ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا ابي حدثنا إبرهيم بن مهدي المصيصي حدثنا معتمر بن سليمان به بلفظ رغبت لكم عن غسالة أيدي الناس إن لكم من خمس الخمس ما يغنيكم وهو إسناد حسن ولفظ العوض إنما وقع في عبارة بعض التابعين ثم في كون العوض إنما يثبت في حق من يثبت في حقه المعوض ممنوع ثم هذا يقتضي أن المراد بقوله تعالى ولذي القربى فقراء ذوي القربى فيقتضي اعتقاد استحقاق فقرائهم أو كونهم مصارف مستمرا وينافيه اعتقاد حقيقة منع الخلفاء الراشدين إياهم مطلقا كما هو ظاهر ما روينا أنهم لم يعطوا ذوي القربى شيئا من غير استثناء فقرائهم وكذا ينافيه إعطاؤه عليه الصلاة والسلام الأغنياء منهم كما روي أنه أعطى العباس وكان له عشرون عبدا يتجرون وقول المصنف والنبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم للنصرة الخ يدفع هذا السؤال الثاني لكن يوجب عليه المناقضه مع ما قبله لأن الحاصل حينئذ
____________________
(5/505)
أن القرابه المستحقه هي التي كانت نصرته وذلك يخص الفقير منهم ومن الأغنياء من تأخر بعده عليه الصلاة والسلام كالعباس فكان يجب على الخلفاء أن يعطوهم وهو خلاف ما نقلتم عنهم أنهم لم يعطوهم بل حصروا القسمة في الثلاثة وبعكر ما سيرويه في تصحيح قول الكرخي أن عمر رضي الله عنه أعطى الفقراء منهم سهما مع أنه لم يعرف إعطاء عمر بقيد الفقر مرويا بل المري في ذلك ما في أبي داود عن سعيد بن المسيب حدثنا جبير ابن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من الخمس شيئا كما قسم لبني هاشم وبني المطلب قال وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يعطيهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان عمر يعطيهم ومن كان بعده منه وأخرج أبو داود أيضا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى سمعت عليا قال أجتمعت أنا والعباس وقاطمة وزيد بن حارثه عند النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن رأيت أن توليني حقنا من هذا الخمس في كتاب الله أقسمه حياتك كي لا ينازعني أحد بعدك فافعل قال ففعل ذلك فقسمته حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ولاية أبي بكر حتى كان آخر سنة من سنى عمر أتاه مال كثير فعزل حقنا ثم أرسله إلى فقلت بنا العام غني وبالمسلمين إليه حاجه فاردده عليهم فرده ثم لم يدعني أليه أحد بعد عمر فلقيت العباس بعدما خرجت من عند عمر فقال يا علي حرمتنا الغداة شيئا لا يرد علينا وكان رجلا داهيا فهذا ليس فيه تقييد الإعطاء بفقر المعطي منهم وكيف والعباس كان ممن يعطى ولم يتصف بالفقر مع أن الحافظ المنذري ضعف هذا فقال وفي حديث جبير بن مطعم أن ابا بكر لم يقسم لذوي القربى وفي حديث علي أنه قسم لهم وحديث جبير صحيح وحديث على لا يصح انتهى والذي يجب ان يعول عليه على اعتقاد أن الراشدين لم يعطوا ذوي القربى أن القربى بيان مصرف لا استحقاق على ما هو المذهب وإلا لم يجز لهم منعهم بعده عليه الصلاة والسلام وذلك أن ذوي القربى وأن قيدت بالنصرة الموازرة في الجاهلية فإنهم بقوا بعده عليه الصلاة والسلام فكان يجب أن يعطوهم فلما لم يعطوهم كان المراد بيان أنهم مصارف أي أن كلا من المذكورين مصرف حتى جاز الاقتصار على صنف واحد كأن يعطى تمام الخمس لأبناء السبيل وأن يعطى تمامه لليتامى كما ذكرنا من التحفة فجاز للراشدين أن يصرفوه إلى غيرهم خصوصا وقد رأوهم أغنياء متمولين إذ ذاك ورأوا صرفه إلى غيرهم أنفع ونقول مع ذلك إن الفقير منهم مصرف ينبغي أن يقدم على الفقراء كما قدمناه ويدفع قول الطحاوي إنهم يحرمون لأن فيه معنى الصدقه بمنع كون الخمس كذلك بل هو مال الله لأن الجهاد حقه أضافه إليهم لا حق لنا لزمنا أداؤه طاعه له ليصير وسخا ويدل على بطلانه أنه عليه الصلاة والسلام صرفه لهم في حياته فلو كان فيه معنى الصدقة لم يفعل لكن يشكل على هذا أن مقتصاه كون الغني من ذوي القربى مصرفا غير أن الخلفاء لم يعطوهم اختيارا منهم لغيرهم في الصرف والمذهب خلافه لأنه لو كان الغني مصرفا صح الصرف إليه وأجزأ لأن المصرف من حيث إذا صرف إليه سقط الواجب به وليس غني ذوي القربى عندهم كذلك هذا وأما أنه يكون لبني هاشم وبني المطلب دون غيرهم لأن كونهم مصارف كان للنصرة فلما في أبي داود وغيره بسنده إلى سعيد بن المسيب قال أخبرني جبير بن مطعم قال فلما كان يوم خيبر وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب وترك
____________________
(5/506)
بني نوفل وبني عبد شمس فانطلقت أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم للموضع الذي وضعك الله فيهم فما بال إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وقرابتنا واجده فقال عليه الصلاة والسلام إنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام وأنما نحن وهم شئ واحد وشبك بين أصابعه أبعه أشار بهذا إلى نصرتهم إياه نصرة المؤانسه والموافقه في الجاهلية فإنه ليس إذ ذاك نصر قتال فهو يشير إلى دخولهم معه في الشعب حين تعاقدت قريش على هجران بني هاشم وأن لا يبايعوهم ولا يناكحوهم والقصة في السيرة شهيرة وعن هذا استحقت ذراريهم مع أنهم لا يتأتى منهم قتال وشرح قوله قرابتنا واحده أنه عليه الصلاة والسلام محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وهذا الجد اعني عبد مناف له أولاد هاشم الذي من ذريته النبي صلى الله عليه وسلم والمطلب ونوفل وعبد شمس فكان قرابه كل من نوفل وبني عبد شمس والمطلب منه عليه الصلاة والسلام واحده فمقتضى استحقاق ذوي القربى أن يستحق الكل على قول الشافعي أو يكون فقراء الكل مصارف على قولنا فبين عليه الصلاة والسلام أن المراد القرابه التي تحقق منها تلك النصرة السابقة ومنع الراشدين لهم ليس بناء على علمهم بعدم الآستحقاق بل إنهم مصارف ورأوا غيرهم أولى منهم على ما ذكرنا قوله فأما ذكر الله تعالى الخ لما فرغ من بيان ذوي القربى شرع يبين حال سهم الله وسهم الرسول فذكر أن سهمه وسهم رسوله واحد فإنه ليس المراد من قوله تعالى { فأن لله خمسه وللرسول } ولكذا وكذا أن له سبحانه سهما كما لكل من الأصناف سهم بل ذكر الله تعالى في افتتاح الكلام ليتبرك به بذكر اسمه تعالى { فإن لله ما في السماوات وما في الأرض } فسهم الله تعالى ورسوله واحد وقال أبو العاليه سهم الله ثابت يصرف إلى بناء بيته الكعبه إن كانت قريبه وإلا فإلى مسجد كل بلده ثبت فيها الخمس ودفعه بأن السلف فسروه بما ذكر فإن هذا التفسيرروي عن ابن عباس رضي الله عنه رواه الطبراني في تفسيره عن أبي كريب حدثنا أحمد بن يونس حدثنا ابن شهاب عن ورقاء عن نهشل عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } ثم قال فأن لله خمسة مفتاح الكلام { لله ما في السماوات وما في الأرض } وكذا روي الحاكم عن الحسن بن محمد بن علي بن الحنفيه فيه قال هذا مفتاح كلام الله الدنيا والآخره وفي غير حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا خمس الغنيمة فصرف ذلك الخمس في خمسه فعلى قول هذا القائل تكون في ستة قوله وسهم النبي صلى الله عليه وسلم سقط بموته كما سقط الصفي لأنه عليه الصلاة والسلام كان يستحقه برسالته ولا رسول بعده والصفي شئ كان يصطفيه لنفسه من الغنيمة مثل درع أو سيف أو جاريه قبل القسمة وإخراج الخمس كما اصطفى
____________________
(5/507)
ذا الفقار وهو سيف منبه بن الحجاج حين أتى به علي رضى الله عنه بعد أن قتل منبها ثم دفعه إليه وكما اصطفى صفية بنت حي بنت أخطب من غنيمة خيبر رواه ابو داود في سننه عن عائشة والحاكم وصححه وقال الشافعي رحمه الله يصرف سهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الخليفة لأنه إنما كان يستحقه بإمامته لا برسالته قال المصنف والحجة عليه ما قدمناه أي من أن الخلفاء الراشدين إنما قسموا الخمس على ثلاثة فلو كان كما ذكر لقسموه على أربعة ورفعوا سهمه لأنفسهم ولم ينقل ذلك عن أحد وأيضا فهو حكم علق بمشتق وهو الرسول فيكون مبدأ الاشتقاق علة وهو الرسالة وأما قول المصنف وسهم ذوى القربى الخ فقد تقدم ما يغني فيه وقوله كانوا يستحقونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالنصرة لما روينا يعني ما تقدم من حديث جبير بن مطعم وبعده بالفقر لا يخفى ضعفه فإن قوله تعالى { ولذي القربى } إما أن يراد به القربى المختصة بتلك المرافقة في الضيق والمؤانسة فيه فتكون المصارف مطلقا في الحياة وبعد الممات وإنما الفقراء منهم فهم المصارف كغيرهم غير أنه عليه الصلاة والسلام أعطاهم اختيارا لأحد الحائزين له لا أن الصرف إليهم كان واجبا عليه كما أنه يجوز أن يقتصر
____________________
(5/508)
على مصرف دون مصرف ثم رأى الخلفاء الراشدون الصرف إلى غيرهم واما فقراؤهم فالأولى أن يعطوا لما قدمناه وما هو الحق في التقرير وإنما قال وقيل هو الصحيح اي قول الكرخي لأن من المشايخ كشمس الأئمة من يرجح قول الطحاوي عليه غير أن توجيهه بأن عمر رضى الله عنه أعطى الفقراء منهم فيه ما تقدم وقوله والإجماع انعقد على سقوط حق الأغنياء يريد إجماع الخلفاء الراشدين وإلا فهو محل النزاع إلى اليوم من العلماء قوله وإذا دخل الواحد أو الاثنان دار الحرب مغيرين الخ جمعه نظرا إلى قوله فأخذوا ولا يخفى أن الكلام أيضا في قوله فأخذوا ويمكن كونه تنبيها على أن الثلاثة أيضا مراد أي إذا دخل واحد أو اثنان أو ثلاثة بغير إذن الإمام فأخذوا شيئا لم يخمس وقد صرح بأن الثلاثة كالواحد واما الأربعة فيخمس وفي المحيط عن أبي يوسف أنه قدر الجماعة التى لا منعة لها سبعة والتى لها منعة بعشرة ومذهب الشافعي ومالك وأكثر أهل العلم أنه يخمس ما أخذه الواحد تلصصا لأنه مال حربي أخذ قهرا فكان غنيمة فيخمس بالنص ونحن وأحمد رحمه الله في رواية عنه نمنع أنه يسمى غنيمة بل الغنيمة ما أخذ قهرا وغلبة لا اختلاسا وسرقة إذ التلصص إنما يأخذ بحيلة فكان هذا اكتسابا مباحا من المباحات كالاحتطاب والاصطياد ومحل الخمس ما هو الغنيمة بالنص بخلاف ما قاسوا
____________________
(5/509)
عليه من الواحد والاثنين إذا دخلا بإذن الإمام لأن على الإمام ان ينصرهم حيث أذن لهم كما عليه أن ينصر الجماعة الذين لهم منعة كالأربعة والعشرة إذا دخلوا بغير إذنه تحاميا عن توهين المسلمين والدين فلم يكونوا مع نصرة الإمام متلصصين وكان المأخوذ قهرا غنيمة وخذله خذلانا إذا ترك نصرة وأسلمه & فصل في التنفيل
نوع من القسمة فألحقه بها وقدم تلك القسمة لأنها بضابط وهذا بلا ضابط لأنه إلى رأي الإمام بأن ينفل قليلا وكثيرا ونحوهما والتنفيل إعطاء الإمام الفارس فوق سهمه وهو من النفل وهو الزائد ومنه النافلة للزائد على الفرض ويقال لولد الولد كذلك ايضا ويقال نفله تنفيلا ونفله بالتخفيف نفلا لغتان فصيحتان قوله ولا بأس بأن ينفل الإمام أي يستحب أن ينفل نص عليه في المبسوط وسيذكر المصنف أنه تحريض والتحريض مندون إليه وبه يتأكد ما سلف بأن قول من قال لفظ لا بأس إنما يقال لما تركه أولى ليس على عمومه واعلم أن التحريض واجب للنص المذكور ولكنه لا ينحصر في التنفيل ليكون التنفيل واجبا بل يكون بغيره أيضا من الموعظة الحسنة والترغيب فيما عند الله تعالى فإذا كان التنفيل أحد خصال التحريض كان التنفيل واجبا مخيرا ثم إذا كان من أدعى الخصال إلى المقصود يكون إسقاط الواجب به دون غيره مما يسقط به أولى وهو المندوب فصار المندوب اختيار الإسقاط به دون غيره لا هو في نفسه بل هو واجب مخير واما ما قيل في التنفيل ترجيح البعض وتوهين الآخرين وتوهين المسلم حرام فليس بشىء وإلا حرم التنفيل لاستلزامه محرما وإنما قيد بقوله حال القتال لأن التنفيل إنما يجوز عندنا قبل الإصابة سواء كان بسلب المقتول أو غيره ويشكل عليه قوله عليه الصلاة والسلام من قتل قتيلا فإنما كان بعد فراغ الحرب في حنين قوله فيقول من قتل قتيلا فله سلبه أو من أصاب شيئا فهو له أو يقول للسرية قد جعلت لكم النصف أو الربع بعد الخمس أي بعد رفع الخمس
____________________
(5/510)
أما لو قال للعسكر كل وما أخذتم لكم بالسوية بعد الخمس او للسرية لم يجز لأن فيه إبطال السهمان التى أوجبها الشرع إذ فيه تسوية الفارس بالراجل وكذا لو قال ما اصبتم فهو لكم ولم يقل بعد الخمس لأن فيه إبطال الخمس الثابت بالنص ذكره في السير الكبير وهذا بعينه يبطل ما ذكرناه من قوله من أصاب شيئا فهو له لاتحاد اللازم فيهما وهو بطلان السهمان المنصوصة بالسوية بل وزيادة حرمان من لم يصب شيئا أصلا بانتهائه فهو أولى بالبطلان السهمان المنصوصة بالسوية بل وزيادة حرمان من لم يصب شيئا والفرع المذكور من الحواشي وبه ايضا ينتفي ما ذكر من قوله إنه لو نفل بجميع المأخوذ جاز إذا رأى المصلحة فيه وفيه زيادة أيحاش الباقين وزيادة الفتنة ولا ينفل بجميع المأخوذ لأن فيه قطع حق الباقين ومع هذا لو فعل جاز إذا رأى المصلحة فيه ثم محل التنفيل الأربعة الأخماس قبل الإحراز بدار الإسلام وبعد الإحراز لا يصح إلا من الخمس وبه قال أحمد وعند مالك والشافعي رحمهم الله لا يصح إلا من الخمس لأنه المفوض إلى رأي الإمام وما بقي للغانمين قلنا إنما هي حقهم بعد الإصابة أما قبلها فهو مال الكفار وفيه نظر لأن حقيقة التنفيل إنما هو مما يصاب لا حال كونه مالهم فإن حقيقته تعليق التمليك بالإصابة وعند الإصابة لم يبق مال الكفرة نعم حق الغانمين فيه ضعيف ما دام في دار الحرب بخلافه بعده وعلى هذا لو كان القتال وقع في دار الإسلام بأن هجمها العدو ليس له أن ينفل إلا من الخمس لأنه بمجرد الإصابة صار محرزا بدار الإسلام قوله لأنه لا حق للغانمين في الخمس أورد عليه انه إن لم يكن حقا لهم فهو للأصناف الثلاثة فكما لا يجوز إبطال حق الغانمين كذا لا يجوز إبطال حق غيرهم أجيب إنما يجوز باعتبار جعل المنفل له من أحد الأصناف الثلاثة وصرف الخمس إلى واحد من الأصناف يكفي لما قدمنا أنهم مصارف ولهذا قال في الذخيرة لا ينبغي للإمام أن يضعه في الغنى ويجعل نفلا له بعد الإصابة لأن الخمس حق المحتاجين لا الأغنياء فجعله للأغنياء إبطال حقهم
____________________
(5/511)
قوله وإذا لم يجعل السلب للقاتل فهو من جملة الغنيمة والقاتل وغيره سواء وهو قول مالك وقال الشافعي السلب للقاتل إذا كان من أهل أن يسهم له وبه قال أحمد إلا أنه قال إذا كان من أهل السهم أو الرضخ وشرط الشافعي الأول قول واحدا وله فيمن يرضخ له قولان أحدهما كقول أحمد والثاني لا سلب له وشرطا أن يقتله مقبلا لا مدبرا وأن لا يرمي سهما إلا صف المشركين فيصيب واحدا فيقتله لأن ذلك ليس غناء كثيرا إذ كل أحد لا يعجز عنه واستدل عليه بما روى الجماعة إلا النسائي من حديث أبي قتادة خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين فساقه إلى أن قال فقال عليه الصلاة والسلام من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه قال فقمت فقلت من يشهد لي ثم جلست ثم قال مثل ذلك في الثانية فقمت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك يا أبا قتادة فاقتصصت عليه القصة يعنى قصة قتله للقتيل فقال رجل من القوم صدق يا رسول الله وسلب ذلك القتيل عندي فأرضه من حقه فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه لاها الله إذن لا يعمد إلى أسد من أسد الله تعالى يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه قال عليه الصلاة والسلام صدق فأعطه إياه قال فأعطانيه واخرج أبو داود في سننه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين من قتل كافرا فله سلبه فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم ورواه ابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ولا خلاف في أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك وإنما الكلام ان هذا منه نصب الشرع على العموم في الأوقات والأحوال أو كان تحريضا بالتنفيل قاله في تلك الوقعة وغيرها يخصهما فعنده هو نصب الشرع لأنه هو الأصل في قوله لأنه إنما بعث لذلك وقلنا كونه تنفيلا هو أيضا من نصب الشرع والدلالة على أنه على الخصوص واستدل المصنف على ذلك بأنه عليه الصلاة والسلام قال لحبيب بن ابي سلمة ليس لك من سلب قتيلك إلا ما طابت به نفس إمامك فكان دليلا على أحد محتملي قوله ومن قتل قتيلا فله سلبه وهو أنه تنفيل في تلك الغزاة لا نصاب عام للشرع وهو حسن لو صح الحديث أو حسن لكنه إنما رواه الطبراني في معجمه الكبير والوسط بلغ حبيب بن مسلمة ان صاحب قبرص خرج يريد طريق أذربيجان ومعه زمرد وياقوت ولؤلؤ وغيرها
____________________
(5/512)
فخرج إليه فقتله فجاء بما معه فأراد أبو عبيدة أن يخمسه فقال له حبيب بن مسلمة لا تحرمني رزقا رزقنيه الله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل السلب للقاتل فقال معاذ يا حبيب إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه وهذا معلول بعمرو بن واقد ورواه ابن إسحاق بن راهويه حدثنا بقية بن الوليد حدثني رجل عن مكحول عن جنادة بن أمية قال كنا معسكرين بدابق فذكر لحبيب بن مسلمة الفهري إلى أن قال فجاء بسلبه يحتمله على خمسة أبغال من الديباج والياقوت والزبرجد فأراد حبيب أن يأخذه كله وابو عبيدة يقوزل بعضه فقال حبيب لأبي عبيدة قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل قتيلا فله سلبه قال أبو عبيدة إنه لم يقل ذلك للأبد وسمع معاذ ذلك فأتى أبا عبيدة وحبيب يخاصمه فقال معاذ ألا تتقي الله وتأخذ ما طابت به نفس إمامك فإنما لك ما طابت به نفس أمامك وحدثهم بذلك معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم فاجتمع رأيهم على ذلك فأعطوه بعض الخمس فباعه حبيب بألف دينار وفيه كما ترى مجهول
ويخص المصنف أنه جعله خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبيب وليس كذلك وسماه حبيب بن ابي سلمة وصوابه حبيب بن مسلمة ولكن قد لا يضر ضعفه إنما نستأنس به لأحد محتملي لفظ روى عنه عليه الصلاة والسلام وقد يتأيد بما في البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عوف في مقتل أبي جهل يوم بدر فإن فيه أنه عليه الصلاة والسلام قال لمعاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء بعد ما رأى سيفيهما كلا كما قتله ثم قضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح وحده ولو كان مستحقا للقاتل لقضى به لهما إلا أن البيهقي دفعه بأن غنيمة بدر كانت للنبي صلى الله عليه وسلم بنص الكتاب يعطي منها من شاء وقد قسم لجماعة لم يحضروا ثم نزلت الآية الغنيمة بعد بدر فقضى عليه الصلاة والسلام بالسلب للقاتل واستقر الأمر على ذلك انتهى يعني ما كان إذ ذاك قال السلب للقاتل حتى يصح الاستدلال وقد يدعي أنه قال في بدر أيضا على ما أخرجه ابن مردويه في تفسيره من طريق فيه الكلبي عن ابي صالح عن ابن عباس وعن عطاء بن عجلان عن عكرمة عن ابن عباس قال قال عليه الصلاة والسلام يوم بدر من قتل قتيلا فله سلبه فجاء أبو اليسر بأسيرين فقال سعد بن عبادة اي رسول الله اما والله ما كان بناجين عن العدو ولا ضن بالحياة ان نصنع ما صنع إخواننا ولكنا رأيناك قد افردت فكرهنا أن ندعك بمضيعة قال فامرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوزعوا تلك الغنائم بينهم فظهر أنه حيث قاله ليس نصب الشرع للأبد وهو إن ضعف سنده فقد ثبت انه قال يوم بدر من قتل قتيلا فله كذا وكذا في أبي داود ولا شك انه لم يقل بلفظ كذا وكذا وإنما هو كناية من الراوي عن خصوص ما قاله وقد علمنا أنه لم يكنى عنى دراهم او دنانير فإن الحال بذلك غير معتاد ولا الحال يقتضي ذاك لقتلها او عدمها فيغلب على الظن ان ذلك المكنى عنه الراوي هو السلب وما أخذ لأنه المعتاد أن يحصل في الحرب للقاتل وليس كل ما روى بطريق ضعيفة بباطلا فيقع الظن بصحة جعله في بدر السلب للقاتل والمأخوذ للآخذ فيجب قبوله غاية الأمر انه تظافرت به أحاديث ضعيفة على ما يفيد ان المذكور من قوله من قتل قتيلا فله سلبه أنه ليس نصبا عاما مستمرا والضعيف إذا تعددت طرقه يرتقي إلى الحسن فيغلب الظن أنه تنفيل في تلك الوقائع ومما يبين ذلك بقية حديث أبي داود فإنه قال بعد قوله كذا وكذا فتقدم الفتيان ولزم المشيخة الرايات فلما فتح الله عليهم قال المشيخة كنا ردءا لكم لو انهزمتم فئتم إلينا فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى فأبى الفتيان ذلك وقالوا جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا
____________________
(5/513)
الحديث فقوله جعله يبين ان كذا وكذا هو جعله السلب للقاتلين والماخوذ للآخذين وحديث مسلم وأبي داود عن عوف بن مالك الأشجعي دليل ظاهر انه كما قلنا قال خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مددي من أهل اليمن فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب فجعل يفري بالمسلمين وقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر فعلاه وقتله وحاز فرسه وسلاحه فلما فتح الله على المسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ منه سلب الرومي قال عوف فأتيت خالدا فقلت له يا خالد اما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل قال بلى ولكني استكثرته قلت لتردنه او لأعرفنكما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يعطيه قال عوف فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد فقال عليه الصلاة والسلام يا خالد رد عليه ما أخذت منه قال عوف فقلت دونك يا خالد لم أف لك فقال صلى الله عليه وسلم وما ذاك قال فأخبرته قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا خالد لا ترد عليه هل أنتم تاركو لي أمرائي لكم صفوة امرهم وعليهم كدره ففيه أمران الأول رد قول من قال إنه عليه الصلاة والسلام لم يقل من قتل قتيلا فله سلبه إلا في حنين فإن مؤتة كانت قبل حنين وقد اتفق عوف وخالد انه عليه الصلاة والسلام قضى بالسلب للقاتل قبل ذلك والآخر أنه منع خالدا من رده بعد ما أمره به فدل أن ذلك حيث قال عليه الصلاة والسلام كان تنفيلا وان أمره إياه بذلك كان تنفيلا طابت نفس الإمام له به ولو كان شرعا لازما لم يمنعه من مستحقه وقول الخطابي إنما منعه أن يرد على عوف ما سلبه زجرا لعوف لئلا يتجرأ الناس على الأئمة وخالد كان مجتهدا فأمضاه عليه الصلاة والسلام واليسير من الضرر يتحمل للكثير من النفع غلط وذلك لأن السلب لم يكن للذي تجرأ وهو عوف وإنما كان للمدي { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك كان أشد على عوف من منع السلب وازجر له منه فالوجه انه عليه الصلاة والسلام أحب أولا ان يمضي شفاعته للمددي في التنفيل فلما غضب منه رد شفاعته وذلك بمنع السلب لا أنه لغضبه وسياسته يزجره بمنع حق آخر لم يقع منه جناية فهذا أيضا يدل على أنه ليس شرعا عاما لازما وقوله وزيادة الغناء جواب عن تخصيصه بكونه يقتله مقبلا فقال زيادة الغناء في الجنس الواحد لا تعتبر موجبة زيادة من المغنم لمن قامت به وقوله ( كما ذكرناه ) يعنى ما قدمه في أول فصل كيفية القسمة من أنه تعذر اعتبار مقدار الزيادة بل نفس الزيادة لأنه يحتاج إلى شاهد بأن إغناء هذا في هذا الحرب أكثر من هذا ولا يكفي زيادة شهرة هذا دون ذلك إذ لا بعد أن يتفق إغناء من غير المشهور في وقت أكثر من المشهور أو يشير إلى قوله لأن الكر والفر من جنس واحد قوله والسلب ما على المقتول من ثيابه وسلاحه ومركبه وما على مركبه من السرج والآلة وما معه على الدابة من مال في حقيبته وما على وسطه من
____________________
(5/514)
ذهب وفضة وما سوى ذلك مما هو مع غلامه او على دابة أخرى فليس منه بل حق الكل والحقيقة الرفادة في مؤخر القتب وكل شىء شددته في مؤخرة رحلك او قتبك فقد استحقبته وللشافعي في المنطقة والطوق والسوار والخاتم وما في وسطه من النفقة وحقيبته قولان احدهما ليس من السلب وبه قال أحمد والآخر أنه من السلب وهو قولنا وعن أحمد في بردته روايتان وقوله ثم حكم التنفيل قطع حق الباقين فقط أما الملك فإنما يثبت بعد الإحراز بدرا الإسلام لما مر من قبل أي في باب الغنائم من قوله ولأن الاستيلاء إثبات اليد الحافظة والناقلة الخ حتى لو قال الإمام من اصاب جارية فهي له ومن اصاب شيئا فهو له فأصابها مسلم فاستبرأها لا يحل له وطوءها في دار الحرب وقال محمد له أن يطاها وهو قول الأئمة الثلاثة لأنه اختص بملكها بتنفيل الإمام فصار كالمختص بشرائها في دار الحرب أو بعد قسم الإمام الغنائم في دار الحرب مجتهدا حيث يحل وطؤها بالإجمال بعد الاستبراء بخلاف المتلصص إذا أخذ جارية في دار الحرب واستبرأها لا يحل له وطؤها بالاتفاق لأنه ما اختص بملكها لأنه لو لحقه جيش المسلمين شاركوه فيها ولهما أن سبب الملك في النفل ليس إلا القهر كما في الغنيمة ولا يتم إلا بعد الإحراز بدار الإسلام لأنه ما دام في دار الحرب مقهور دارا وقاهر يدا فيكون السبب ثابتا في حقه من وجه دون وجه ولا أثر للتنفيل في إثبات القهر بل في قطع حق غيره واما الملك فإنما سببه ما هو السبب في كل الغنيمة وهو ما ذكرنا بخلاف المشتراة لأن سبب الملك العقد والقبض بالتراضي لا القهر وقد تم وعدم الحل للمتلصص لعدم تمام القهر أيضا قبل الإحراز لا لما ذكر لأن لحوق الجيش موهوم فلا يعارض الحقيقة واعلم أن كون الملك يتم بالقسمة في دار الحرب عند ابي حنيفة فيه خلاف قيل نعم لأنه مجتهد فيه فيتم مالك من وقعت في سهمه فيطؤها بعد الاستبراء بالاتفاق كالمشتراة وجعل الأظهر في المبسوط عدم الحل فلا يتم القياس عليه لمحمد إلا على أحد القولين وقوله ووجوب الضمان بالإتلاف ذكره لدفع شبهة ترد على قول ابي حنيفة وابي يوسف
____________________
(5/515)
لأن محمدا ذكر في الزيادات ان المتلف لسلب نفله الإمام رجلا يضمن ولم يذكر خلافا فورد عليهما ان الضمان دليل تمام الملك فينبغي أن يحل الوطء عند كما أيضا بعد الاستبراء فقال في جوابه بل هو على الخلاف فإنما يضمن عند محمد خلافا لهما وفي نسخة وقد قيل بالواو والله الموفق شرح فتح القدير
____________________
(5/516)
من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين حديث شريف
بسم الله الرحمن الرحيم & باب استيلاء الكفار
لما فرغ من بيان حكم استيلائنا عليهم شرع في بيان حكم استيلاء بعضهم على بعض وحكم استيلائهم علينا وتقديمه الأول على الثاني ظاهر قوله وإذا غلب الترك على الروم أي كفار الترك على كفار الروم فسبوهم وأخذوا أمواله ملكوها لأن الاستيلاء قد تحقق على مال مباح على ما نبينه عن قريب فإن غلبنا على الترك حل لنا ما نجده من مال أي مما أخذوه منهم وإن كان بيننا وبين الروم موادعة لأنا لم نغدرهم إنما أخذنا ما لا خرج عن ملكهم ولو كان بيننا وبين كل من الطائفتين موادعة فاقتتلوا فغلبت إحداهما كان لنا أن نشتري المغنوم من مال الطائفة الأخرى من الغانمين لما ذكرنا وفي الخلاصة والإحراز بدار الحرب شرط أما بدارهم فلا ولو كان بيننا وبين كل من الطائفتين موادعة واقتتلوا في دارنا لا نشتري من الغالبين شيئا لأنهم لم يملكوه لعدم الإحراز فيكون شراؤنا غدرا بالآخرين فإنه على ملكهم وأما لو اقتتلت طائفتان في بلدة واحدة فهل يجوز شراء المسلم المستأمن من الغالبين نفسا أو ما لا ينبغي أن يقال إن كان بين المأخوذ وبين الآخذ قرابة محرمة كالأمية أو كان المأخوذ لا يجوز بيعه للآخذ لم يجز إلا إن دانوا بذلك عند الكرخي وإن لم يكن فإن دانوا بأن من قهر آخر ملكه جاز الشراء وإلا لا قوله وإذا غلبوا على أموالنا وأحرزوها بدارهم ملوكها وهو قول مالك وأحمد إلا أن
____________________
(6/3)
عند مالك بمجرد الاستيلاء يملكونها ولأحمد فيه روايتان فقولنا وكقول مالك فيتفرع على ملكهم أموالنا بالإحراز أن لكل من دخل دار الحرب بأمان من المسلمين أن يشتري ما أخذوه فيأكله ويطأ الجارية لملكهم كل ذلك وقال الشافعي لا يملكونها لأن الاستيلاء أي استيلائهم على أموالنا محظور ابتداء عند الأخذ وانتهاء عند صيرورتها في دارهم لبقاء عصمة المال لبقاء سببها وهو عصمة المالك قال عليه الصلاة والسلام فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم والكفار مخاطبون بالحرمات إجماعا والمحظور لا ينتهض سببا للملك على ما عرف من قاعدته فصار كاستيلاء المسلم على مال المسلم وكاستيلائهم على رقابنا ولأن النص دل عليه وهو ما روى الطحاوي مسندا إلى عمران بن الحصين قال كانت العضباء من سوابق الحاج فأغار المشركون على سرح المدينة وفيه العضباء وأسروا امرأة من المسلمين وكانوا إذا نزلوا يريحون إبلهم في أفنيتهم فلما كانت ذات ليلة قامت المرأة وقد ناموا فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا رغا حتى أتت على العضباء فأتت على ناقة ذلول فركبتها ثم وجهت قبل المدينة ونذرت لئن الله عز وجل نجاها عليها لتنحرنها فلما قدمت عرفت الناقة فأتوا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته المرأة بنذرها فقال بئس ما جزيتيها أو وفيتيها لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم وفي لفظ فأخذ ناقته ولو كان الكفار يملكون بالإحراز لملكتها المرأة لإحرازهم إياها وللجمهور أوجه من النقل والمعنى فالأول قوله تعالى للفقراء المهاجرين سماهم فقراء والفقير من لا يملك شيئا فدل على أن الكفار ملكوا أموالهم التي خلفوها وهاجروا عنها وليس من ملك مالا وهو في مكان لا يصل إليه فقيرا بل هو مخصوص بابن السبيل ولذا عطفوا عليهم في نص الصدقة وأما ما استدل به الشارحون مما في الصحيحين أنه قيل له عليه الصلاة والسلام في الفتح أين تنزل غدا بمكة فقال وهل ترك لنا عقيل من منزل وروى أتنزل غدا بدارك فقال وهل ترك لنا عقيل من رباع وإنما قاله لأن عقيلا كان استولى عليه وهو على كفره فغير صحيح لأن الحديث إنما هو دليل أن المسلم لا يرث الكافر فإن عقيلا إنما استولى على الرباع بإرثه إياها من أبي طالب فإنه توفى وترك عليا وجعفرا مسلمين وعقيلا وطالبا كافرين فورثاه لا أن الديار كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فلما هاجر استولوا عليها فملكوها بالاستيلاء وروى أبو داود في مراسيله عن تميم ابن طرفة قال وجد رجل مع رجل ناقة له فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقام البينة أنها له وأقام الآخر البينة أنه اشتراها من العدو فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن شئت أن تأخذ بالثمن الذي اشتراها به فأنت أحق وإلا فحل عن ناقته والمرسل حجة عندنا وعند أكثر أهل العلم وأخرج الطبراني مسندا عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة وفي سنده ياسين الزيات مضعف وأخرج الدارقطني ثم البيهقي في سننهما عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال فيما أحرزه العدو فاستنقذه المسلمون منهم إن وجده صاحبه قبل أن يقسم فهو أحق به وإن وجده قد قسم فإن شاء أخذه بالثمن وضعف بالحسن بن عمارة وأخرج الدارقطني عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من وجد ماله في الفيء قبل أن يقسم فهو له ومن وجده بعد ما قسم فليس له شيء
____________________
(6/4)
وضعف بإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ثم أخرجه بطريق آخر فيه رشدين وضعفه به وأخرجه الطبراني عن ابن عمر مرفوعا من أدرك ماله في الفيء قبل أن يقسم فهو له وإن أدركه بعد أن يقسم فهو أحق به بالثمن وفيه ياسين ضعف به قال الشافعي واحتجوا أيضا بأن عمر بن الخطاب قال من أدرك ما أخذ العدو قبل أن يقسم فهو له وما قسم فلا حق له فيه إلا بالقيمة قال وهذا إنما روى عن الشعبي عن عمر وعن رجاء بن حيوة عن عمر مرسلا وكلاهما لم يدرك عمر وروى الطحاوي بسنده إلى قبيصة بن ذؤيب أن عمر بن الخطاب قال فيما أخذه المشركون فأصابه المسلمون فعرفه صاحبه أي أدركه قبل أن يقسم فهو له وإن جرت فيه السهام فلا شيء له وروى فيه أيضا عن أبي عبيدة مثل ذلك وروى بإسناده إلى سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت مثله وروى أيضا بإسناده إلى قتادة عن خلاس أن علي بن أبي طالب قال من اشترى ما أحرز العدو فهو جائز والعجب ممن يشك بعد هذه الكثرة في نفي أصل هذا الحكم ويدور في ذلك بين تضعيف بالإرسال أو التكلم في بعض الطرق فإن الظن بلا شك يقع في مثل ذلك أن هذا الحكم ثابت وأن هذا الجمع من علماء المسلمين لم يتعمدوا الكذب ويبعد أنه وقع غلط للكل في ذلك وتوافقوا في هذا الغلط بل لا شك أن الراوي الضعيف إذا كثر مجيء معنى ما رواه يكون مما أجاد فيه وليس يلزم الضعيف الغلط دائما ولا أن يكون أكثر حاله السهو والغلط هذا مع اعتضاده بما ذكرنا من الآية والحديث من الصحيح وحديث العضباء كان قبل إحرازهم بدار الحرب ألا يرى إلى قوله وكانوا إذا نزلوا منزلا الخ فإنه يفهم أنها فعلت ذلك وهم في الطريق وأما المعنى فما أشار إليه المصنف بقوله الاستيلاء ورد على مال مباح يعني الاستيلاء الكائن بعد الإحراز في حال البقاء ورد على مال مباح فينعقد سببا للملك كاستيلائنا على أموالهم فإنه ما تم لنا الملك فيه إلا لهذا المعنى وهذا أي كونه مباحا إذ ذاك لأن العصمة تثبت على منافاة الدليل وهو قوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا فإنه يقتضي إباحة الأحوال بكل حال وإنما تثبت ضرورة تمكن المحتاج من الانتفاع فإذا زالت المكنة من الانتفاع عاد مباحا وزوالها على التحقيق واليقين بتباين الدارين فإن الإحراز حينئذ يكون تاما وهو الاقتدار على المحل حالا ومآلا بالادخار إلى وقت حاجته بخلاف أهل البغي إذا أحرزنا أموالهم لا تزول أموالهم لا تزول أملاكهم لأن
____________________
(6/5)
العصمة ومكنة الانتفاع ثابتة مع اتحاد الدار والملة من وجه فلا يزول الملك بالشك ثم أجاب عن قوله المحظور لا يصلح سببا للملك فقال ذاك في المحظور لنفسه أما المحظور لغيره فلا فإنا وجدناه صلح سببا لكرامة تفوق الملك وهو الثواب كما في الصلاة في الأرض المغصوبة فما ظنك بالملك الدنيوي والقياس على استيلائهم على رقابنا فاسد لأنها ليست مالا وكذا على غصب المسلم مال المسلم وذلك لأنه ليس فيه إحراز يزيل الملك على ما ذكرنا في الباغي وأورد عليأن العصمة إن أزالت بالإحراز بدراهم لا يكون الاستيلاء محظورا ليحتاج إلى هذا الكلام وإن لم تكن زالت لم تصر ملكا لهم وأجيب بأن العصمة المؤثمة باقية لأنها بالإسلام والمقومة زالت لأنها بالدار وقد يقال إن كان الملك زال تبعا لزوال القيمة صار مباحا وعاد الأول وإن لم يسقط لزم الثاني فالمدار الإباحة وعدمها ثم الوجه أن لا حاجة إلى إثبات أنه محظور لغيره وذلك لأن الاستيلاء إن أريد به ابتداء الأخذ أو إدخاله في دار الحرب يجب كونه قبيحا لعينه لأنه طلم وهو قبيح لنفسه فهو محرم لنفسه وإن كان تحريم الغصب لقيام ملك الغير فهو قبيح لنفسه على ما عرف كذا أورد في الأصول على كون الغصب يفيد الملك ذلك أجيب بأن المفيد له هو الضمان على ما في توجيهه من الكلام بل نقول ليس الاستيلاء الأول سببا لملكه ولا الإدخال إلى دار الحرب بل الإدخال سبب زوال مكنة الانتفاع وزوال مكنه الانتقاع بالاباحه سبب الإباحة وهو لا يتصف بحل ولا حرمة لأنه ليس من الأفعال ثم الاستيلاء الكائن في البقاء على ذلك المال المباح سبب ملك الكافر وهذا الاستيلاء ليس بمحرم لأنه على مال مباح وإباحته مسببة عما ليس بمحرم وهو زوال المكنة فأما الأخذ وما يليه فأسباب لغير ذلك مما ذكرنا فكان الوجه منع أن سبب الملك هنا محظور لنفسه أو غيره بل هو أمر مباح والسبب البعيد لا يؤثر في المسبب الأخير لأنه مسبب عن غيره على ما عرف من أن العلة البعيدة لا أثر لها في المعلول بخلاف الغصب فإنه لا يستعقب إباحة أصلا وقول بعضهم في التقرير لا نسلم أن الاستيلاء ورد على مال محظور معصوم لأن استيلاءهم إنما يتحقق بعد الإحراز وبعده ارتفعت العصمة فورد على مال مباح كمال المسلم ثمة إذا لم يهاجر إلينا يقتضي أن ماله مباح وليس كذلك بل ماله معصوم عليه غير العقار على الخلاف المتقدم
____________________
(6/6)
وسببه أنه ليس في يده بل يكفي المنع بأن يقال لا نسلم أنه محظور لأنه ورد على مال مباح الخ قوله فإن ظهر عليها المسلمون فوجدها المالكون قبل القسمة فهي لهم بغير شيء وإن وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة إن أحبوا لقوله عليه الصلاة والسلام فيه إن وجدته الخ وتقدم الكلام في الحديث ونظائره فإن قيل أخذه قبل القسمة إذا كان حكما لازما يقتضي قيام ملكه أجيب بالمنع فإن الواهب له أن يأخذ ما وهبه بعد زوال ملكه عنه شرعا وكذا الشفيع يقدم على المالك المشتري في الأخذ ولا مالك له وحاصله أن في الشرع صورا يقدم فيها غير المالك على المالك كما أريناك فلأن يقدم غير المالك على غير المالك أولى وهو ما ذكرنا فإنه لا ملك لأحد في المغنوم قبل القسمة فجبر ضرورة القوي بضرر يسير فإن الشركة أولا في الحق دون الملك وثانيا هي شركة عامة فيخف ضرر كل واحد خفة كثيرة وصورة الشفيع شبيهة أخذه بالقيمة بعد القسمة لتقدمه في إثبات ملك منتف بإزالة ملك موجود بالثمن دفعا لضرر الجوار أو الخلطة مع دفع ضرر إتلاف مال الآخر وأشبه بالتاجر إذا دخل دار الحرب فاشترى ما استولوا عليه من مال المسلم فإنه إزالة ملك ثابت بعوض بإحداث ملك زائل بعوض بقدره وهي المسئلة التي ذكرناها وهذا لأن الشارع لما لم يزل الملك الخاص الحادث للغازي في مقابلة غناء حصل له لا بمقابلة مال بذله إلا ببدله ليعتدل النظر ويخف الضرر من الجانبين فلأن لا يزيله برفع ملك حصل بعوض بإحداث ملك إلا بعوض ليعتدل من الجانبين أولى ولو أن التاجر اشتراه بعرض يأخذه بقيمة العرض هذا ولو ترك أخذه بعد العلم بشرائه وإخراجه من دار الحرب زمانا طويلا له أن يأخذه بعده في ظاهر الرواية وفي رواية ابن سماعة عن محمد ليس له كالشفيع إذا لم يطلب الشفعة بعد علمه بالبيع والظاهر هو الأول ولو وهبوه لمسلم أخذه مالكه بقيمته لأنه ثبت له ملك خاص في مقابلة ما كالمال أو أثقل من المانة إذ المال ثابت معنى لأن المكافأة مطلوبة والظاهر إيقاعها فلا يزال إلا بالقيمة وقد يمنع هذا بالرجوع ولو كان ما أخذه الكفار من مال المسلم مثليا كالدراهم والدنانير والحنطة والعسل والزيت ثم غنمه المسلمون يأخذه المسلم قبل القسمة بغير شيء ولا
____________________
(6/7)
يأخذه بعدها لأنه لا فائدة فيه لأن أخذه بالمثل غير مفيد وكذا إذا كان المثلى موهوبا من الكافر للمخرج له ليس فيه إلا المثل وهو غير مفيد لما قلنا وكذا إذا كان الذي أخذه من الكفار مشترى بمثله قدرا ووصفا ليس لصاحبه القديم أن يأخذه لأنه غير مفيد وقيد بقوله قدرا ووصفا لأنه لو اشتراه المشتري بأقل قدرا منه أو بجنسه لكن أدون منه أو أحسن فإن له أن يأخذه بمثل ما أعطى المشتري منهم
فرع اختلف المولى والمشتري منهم في قدر الثمن القول قول المشتري مع يمينه لأنه إنما يتملك عليه ماله بما يقر هو به كالمشتري مع الشفيع إذا اختلفا في الثمن إلا أن يقيم المالك البينة أنه اشتراه بأقل فيثبت ذلك قوله فإن أسروا عبدا فاشتراه رجل فأخرجه إلى دار الإسلام ففقئت عينه وأخذ أرشها فإن المولى يأخذه بالثمن الذي أخذ به من العدو ولا يأخذ الأرش لأن ملكه فيه صحيح لأنه آخذ بدل ملك صحيح كما لو قتل العبد بخلاف المشتري شراء فاسدا على ما سنذكر فلو أخذه أي الأرش أخذه بمثله دراهم أو دنانير وعلمت أنه لا يفيد ولو أخذه بزيادة أو نقصان ولو كانت أمة فباعها الغانم بألف فولدت في يد المشتري وماتت فأراد المالك القديم أخذ الولد فعند أبي يوسف له ذلك بألف وعند محمد بحصته منها وذلك بأن يقسم الألف على قيمة الأم يوم القبض وقيمة الولد يوم الأخذ فما أصاب كلا فهو حصته من الألف ولا يحط شيء من الثمن بما نقص من عينه لئن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن بما نقص من عين العبد والعين كالوصف لأنها يحصل بها وصف الإبصار
____________________
(6/8)
وقد فاتت في ملك صحيح فلا يقابلها شيء من الثمن فلا يسقط بفواتها شيء منه وإنما لم يقابل شيء من الثمن بالوصف لأنه تابع وبفواته لا يسقط شيء من الثمن ولهذا لو ظهر في المبيع وصف مرغوب فيه وقد نفياه عند العقد لم يكن للبائع أن يطلب شيئا بمقابلته ألا يرى أنه لو اشترى عبدا فذهبت يده أو عينه قبل القبض لا يسقط شيء من الثمن والعقر كالأرش واستشكل بأن الوصف إنما يقابله شيء من الثمن إذا لم يصر مقصودا بالتناول أما إذا صار فله حظ من الثمن كما لو اشترى عبدا ففقئت عينه ثم باعه مرابحة فإنه يحط من الثمن ما يخص العين ولو اعورت في يده بآفة سماوية لا يحط بل يرابح على كل الثمن وكذا في الشفعة إذا كان فوات وصف المشفوع فيه بفعل قصدى قوبل ببعض الثمن كما لو استهلك شخص بعض بناء الدار المشفوعة فإنه يسقط عن الشفيع حصته ولو فات بآفة سماوية كأن جف شجر البستان ونحوه لا يقابله شيء من الثمن وبهذا أورد على إطلاق قوله بخلاف الشفعة لأن ذلك في القصدي أما في غيره فالشفعة والمسألة التي نحن فيها سواء وأجيب بأن الوصف إنما يقابله بعض الثمن عند صيرورته مقصودا بالتناول في الملك الفاسد وموضع وجوب اجتناب الشبهة كما ذكرت من مسألة المرابحة لأنها مبنية على الأمانة دون الخيانة وللشبهة حكم الحقيقة فيها والملك في الشفعة للمشتري كالفاسد من حيث وجوب تحويله إليه أما في الشراء الصحيح الذي لا يشبه الفاسد فالثمن يقابل العين لا غير وقوله لأن الأوصاف تضمن فيه أي في البيع الفاسد لأنه كالغصب من حيث وجوب فسخ السبب فالأصل في تقوم الصفات هو الغصب وإنما لزمه ذلك مراعاة لحق المالك ومبالغة في دفع الظلم والبيع الفاسد دونه في ذلك لتحقق التراضي فيه من الجانبين غير أن الشرع أهدر تراضيهما في حق الحل وطلب رد كل منهما بدله إلى الآخر وفي الكافي
____________________
(6/9)
ولأن الأخذ للمالك القديم مع ثبوت الملك الصحيح للمشتري من العدو ثبت بخلاف القياس نصا وهو قوله إن شاء أخذه بالثمن وهو اسم للكل فلا يحط عنه هذا ولو أنه فقئ عيناه عند الغازي المقسوم له فأخذ قيمته وسلمه للفاقئ فللمالك الأول أخذه من الفاقئ أعمى عند أبي حنيفة وقالا بقيمته سليما وهي التي أعطاها الفاقئ للمولى لهما أنه فوت وصف فلا يسقط به شيء من ثمنه وله أنه طرف وهو مقصود فهو كفوات بعض الأصل فيسقط حصته من القيمة كالولد مع الأم وهذا ينتقض بمسألة الهداية بل الوجه وهو الفرق أن فوات الطرف هنا بفعل الذي ملكه باختياره فكان بمنزلة ما لو اشتراه سليما ثم قطع طرفه باختياره فكان راضيا بتنقيصه بخلاف مسألة الكتاب لأن الفاقئ غيره بغير رضاه
فرع أسروا جارية وأحرزوها ثم ظهر المسلمون عليهم فوقعت في سهم غانم فباعها بألف فولدت في يد المشتري وماتت فأراد المالك القديم أخذ الولد فعند أبي يوسف له ذلك بألف وعند محمد بحصته من الألف وذلك بأن يقسم الألف على قيمة الأم يوم القبض وقيمة الولد يوم الأخذ فما أصاب كلا فهو حصته قوله وإن أسروا أي الكفار عبدا لمسلم فاشتراه رجل منهم بألف درهم فأسروه ثانيا وأدخلوه دار الحرب فاشتراه رجل آخر بألف فليس للمولى الأول وهو المأسور منه أولا أن يأخذه من الثاني وكذا لو كان الثاني غائبا كما سيذكر لأن الأسر ما ورد على ملكه بل على الثاني فإنما يثبت حق أخذه للمشتري الأول حتى لو أبى أن يأخذه لم يلزم المشتري الثاني إعطاؤه للمولى الأول ولو كان المشتري الأول وهبه له أخذه مولاه من الموهوب له بقيمته كما لو وهبه الكافر لمسلم ثم إذا أخذه المشتري الأول من المشتري الثاني بألف فأراد المولى أن يأخذه من المشتري الأول أخذه بألفين لأنه قام عليه بذلك وهو وإن تضرر بذلك ففي مقابلة العبد الذي غرضه فيه بخلاف ما لو أخذه بألف فإنه يفوت الألف الأخرى على المشتري الأول بلا عوض أصلا
فرع لو باع المشتري من العدو العبد من غيره أخذه المالك القديم من الثاني بالثمن الذي اشتراه به إن مثليا فبمثله أو قيميا بأن كان اشتراه مقايضة فبقيمته لأن المشتري الثاني قائم مقام المشتري الأول وليس للقديم أن ينقض العقد الثاني ليأخذه من المشتري الأول بالثمن الأول إلا في رواية ابن سماعة عن محمد وظاهر الرواية الأول والوجه في المبسوط وفيه أن الكفار لو أسلموا قبل أن يبيعوه لم يكن للقديم أن يأخذه قوله ولا يملك علينا أهل
____________________
(6/10)
الحرب بالغلبة الكائنة بالإحراز بدارهم مدبرينا ولا أمهات أولادنا ولا مكاتبينا ولا أحرارنا ونملك نحن عليهم جميع ذلك لأن السبب وهو الاستيلاء التام إنما يفيد الحكم وهو الملك لما يرد عليه في محله ومحاله المال المباح والحر المسلم معصوم بنفسه وكذا من سواه ممن ذكرنا من مدبرينا ومن بعدهم لأنه تثبت الحرية فيهم من وجه مع الإسلام بخلاف رقابهم لأن الشرع أسقط عصمتهم جزاء على جنايتهم بالكفر ولا جناية من هؤلاء ويتفرع على عدم ملكهم هؤلاء أنهم لو أسروا أم ولد لمسلم أو مكاتبا أو مدبرا ثم ظهر على دارهم أخذه مالكه بعد القسمة بغير شيء ويعوض الإمام من وقع في قسمه من بيت المال قيمته ولو اشترى تاجر ذلك منهم أخذه منه بغير ثمن ولا عوض قوله وإذا أبق عبد لمسلم أو ذمي وهو مسلم ودخل إليهم دار الحرب فأخذوه لم يملكوه عند أبي حنيفة وقالا يملكونه وبه قال مالك وأحمد لتحقق الاستيلاء على مال قابل للتملك محرز بدار الحرب وبه يتم الملك لهم وهذا لسقوط عصمته لأنها لحق المالك وقد زالت وصار كما لو ندت إليهم دابة أي شردت من باب ضرب إلا أن مصدره جاء ندودا كما جاء على ندا القياسي وكما لو أخذوا العبد الآبق أو غير الآبق من دارنا إذا أحرزوه حيث يملكونه فكذا هذا ولأبي حنيفة رحمه الله أن العبد ظهرت يده على نفسه وهذا لأنه آدمي مكلف فله يد على نفسه ولهذا لو اشترى نفسه لغيره من مولاه لم يكن لمولاه حبسه بالثمن لأنه صار مقبوضا بمجرد عقده وإنما سقط اعتبار يده لتحقق يد المولى عليه تمكينا للمولى من الانتفاع وقد زالت يد المولى بمجرد دخوله دار الحرب فظهرت يد العبد على نفسه سابقة على يد أهل الحرب لأن أخذهم
____________________
(6/11)
إياه لا بد أن يتراخى لحظة عن دخوله وإذا سبقت يده يدهم صار معصوما بنفسه فلم يبق محلا للتملك بخلاف الآبق المتردد في دارنا إذا أخذوه لأن يد المولى قائمة عليه ما دام في دار الإسلام حكما لقيام يد أهل الدار فيمكنه الاستعانة على وجوده فالاقتدار باق فمنع ظهور يده على نفسه ولا كذلك المأذون في الدخول لأن دخوله بإذنه وهو على عزم العود إليه وبخلاف الدابة التي ندت فإنه لا يد لها على نفسها والضمير في قول المصنف لأن سقوط اعتباره لليد وكان الواجب أن يقول اعتبارها لأن اليد مؤنثة وقد يعاد على الظهور أي سقوط اعتبار ظهوره وإذا لم يثبت لهم ملك فيه يأخذه المالك القديم بغير شيء سواء كان موهوبا منهم للذي أخرجه إلى دار الإسلام أو مشترى منهم أو مغنوما قبل القسمة وبعدها إلا أنه إذا أخذه بعد القسمة يؤدي الإمام عوضه من بيت المال للمأخوذ منه لأنه لا يمكن إعادة القسمة لتفرق الغانمين وتعذر اجتماعهم وتفرق المال في أيديهم وأيدي غيرهم بتصرفهم وفيه ما لا يخفى من الحرج وبيت المال معد لنوائب المسلمين وهذا من نوائبهم ولأنه لو فضل من الغنيمة شيء يتعذر قسمته كلؤلؤة توضع في بيت المال فإذا لحق غرامة كان فيه ولا يعطى المشتري شيئا إذا كان اشتراه بغير إذن المولى فإن اشتراه بإذنه رجع عليه بما اشتراه به وعندهما يأخذه بالثمن في المشتري وبالقيمة في الموهوب كما في المأسور غير الآبق وإنما قيدنا أول المسألة بكون العبد مسلما لأنه لو ارتد فأبق إليهم فأخذوه ملكوه اتفاقا ولو كان كافرا من الأصل فهو ذمي تبعا لمولاه وفي العبد
____________________
(6/12)
الذمي إذا أبق قولان ذكره في طريقه مجد الأئمة قوله وليس له أي الغازي أو التاجر جعل الآبق لأن استحقاقه إذا أخذه ليرده فيكون عاملا له وهاهنا إنما هو عامل لنفسه قوله وإن ند بعير إليهم فأخذوه ملكوه وجهه ظاهر فيتفرع على ملكهم إياه أنه لو اشتراه رجل وأدخله دار الإسلام فإنما يأخذه مالكا منه بالثمن إن شاء قوله فإن أبق عبد إليهم وذهب معه بفرس ومتاع فأخذ المشركون ذلك كله فاشترى رجل منهم ذلك كله فإن المولى يأخذ العبد بغير شيء والمتاع والفرس بالثمن عند أبي حنيفة وعندهما يأخذ العبد أيضا بالثمن إن شاء وهذه متفرعة على ملكهم العبد الآبق إليهم عندهما دونه وأورد عليه أنه ينبغي أن يأخذ الكل بلا شيء لأن العبد لما ظهرت يده على نفسه ظهرت على ما في يده لأنه مال مباح فتمنع ظهور يد الكفار عليه كما منعت ظهور يدهم عليه نفسه لسبقها أجيب بأن غايته أنه صار له يد بلا ملك لأن الرق ينافيه فيبقى في يده كما لو كان مملوكا للغائب فيملكه الكفار بالاستيلاء وفيه نظر لأن الفرض أن سبق اليد يمنع استيلائهم عنده فإنها يملكون المال بإباحته وإنما يصير مباحا إذا لم يكن عليه يد لأحد وإلا ملكوا العبد والفرض أن هذا المال عليه يد فتدفع الاستيلاء الموجب لإخراجه عن ملك من له فيه ملك قائم وأجيب أيضا بأن يده ظهرت على نفسه مع المنافي وهو الرق فكانت ظاهرة من وجه دون وجه فاعتبرناها في حق نفسه دون المال ودفع بأن استيلاء العبد على المال حقيقة وهو مال مباح فينبغي أن يمنع استيلاء الكفار قوله وإذا دخل الحربي دارنا بأمان فاشترى عبدا مسلما وأدخله دار الحرب عتق عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يعتق لأن الإزالة كانت متعينة حال كونه في دار الإسلام بطريق معين وهو البيع فإنه إذا اشترى الكافر عبدا مسلما يجبر على إخراجه عن ملكه بالبيع فإن فعل وإلا باعه القاضي عليه ودفع ثمنه إليه وقد تعذر الجبر عليه فبقى عبدا في يده ولأن الإحراز بدار الحرب سبب لثبوت ملكهم فيما لم يكن ملكا
____________________
(6/13)
لهم فإنهم إذا أخذوا عبدا مسلما من دار الإسلام ملكوه فاستحال أن يزول ملكه الثابت له قبل الإحراز حالة الإحراز ولأبي حنيفة أن الجبر على البيع في دار الإسلام ما كان إلا لوجوب تخليص المسلم عن إذلال الكافر فهو الواجب بالذات إجماعا ووجوب الجبر على البيع ليتوصل إليه غير أنه تعين إخراجه بعوض بيعا طريقا حال قيام أمانه تحرزا عن الغدر بأخذ ماله ولولاه لأعتقناه عليه فإذا زال أمانه وسقطت عصمة ماله بوجوده في دار الحرب يجب التخليص بالإعتاق عليه غير أن إعتاق القاضي قد تعذر بحلوله في دار الحرب إذ لا ينفذ قضاؤه على من هناك فأقيم شرط زوال عصمة ماله وهو دخوله في دار الحرب مقام علة عتقه وهو إعتاق القاضي كما أقيم مضى ثلاث حيض في دار الحرب مقام تفريق القاضي بعد عرض الإسلام على الآخر وإبائه فيما إذا أسلمت المرأة في دار الحرب بخلاف ما إذا لم يملكه في دار الإسلام لأن للمولى حق استرداده فإذا أعتقناه
____________________
(6/14)
على الحربي حين أحرزه أبطلنا حق استرداد المسلم إياه إلى رقه جبرا فكان ذلك مانعا للمقتضى عن عمله وقول المصنف فيما إذا أسلم أحد الزوجين في دار الحرب ليس يجيد لأنه لو أسلم الزوج لا يفرق وعلى هذا الخلاف إذا أسلم عبد الحربي ولم يهرب إلى دار الإسلام حتى اشتراه مسلم أو ذمي أو حربي في دار الحرب يعتق عنده خلافا لهما لأن العتق في دار الحرب يعتمد زوال القهر الخاص وقد عدم إذ زال قهره إلى المشتري فصار كما لو كان في يده وله أن قهره زال حقيقة بالبيع وكان إسلامه يوجب إزالة قهره عنه إلا أنه تعذر الخطاب بالإزالة فأقيم ماله أثر في زوال الملك مقام الإزالة وهو البيع قوله وإذا أسلم عبد الحربي ثم خرج إلينا أو أسلم ولم يخرج حتى ظهر على الدار فهو حر وكذا إذا خرج عبيد إلى عسكر المسلمين مسلمين ولا يعلم فيه خلاف بين أهل العلم لما روى أبو داود مسندا إلى علي قال خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حديبية قبل الصلح فكتب مواليهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا يا محمد ما خرجوا رغبة في دينك وإنما خرجوا هربا من الرق فقال ناس صدقوا يا رسول الله ردهم عليهم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه فقال هم عتقاء الله وفيه أحاديث قدمناها ومنها إسلام عبيد الطائف ومنهم أبو بكرة والمنبعث تقدم في كتاب العتق فليرجع إليها فهذا دليل عتقهم إذا خرجوا مسلمين وأما عتقهم إذا ظهرنا على الدار بعد إسلامهم فلأنه لما التحق بمنعة المسلمين صار كأنه خرج إليهم في أنه امتنع بهم وقوله واعتبار يده الخ جواب عن مقدر هو أنه لم يعتق بمجرد إسلامه في دار الحرب اتفاقا وإنما الخلاف فيما إذا عرضه للبيع فباعه فقد وردت يد الغانمين على مال مباح لأن الإسلام لا ينافي استرقاقهم أجاب بأن للعبد يدا على نفسه على ما تقدم وإنما لم تظهر لحق المولى ليتمكن من الانتفاع ثم هي أسبق من يد المسلمين أما في المولى الكافر فيستحق الحكم بعتقه تخليصا للمسلم من إذلال الكافر لأن مجرد أصل اليد لا يكفي ما لم يتأكد إذ لا قدرة بدونه فكانت منعة الغانمين هي المؤكدة لها فيعتق هذا ولو أسلم العبد ولم يخرج إلينا ولو يظهر على الدار فهو رقيق إلى أن يشتريه مسلم أو ذمي فيعتق قال في شرح الطحاوي بعد قوله ولا يثبت ولاء أي لا يثبت ولاء العبد الخارج إلينا مسلما لأحد لأن هذا عتق حكمي وإن لم يخرج إلينا ولم يظهر على الدار لم يعتق إلا إذا عرضه المولى على البيع من مسلم أو كافر فحينئذ يعتق العبد قبل المشتري البيع أو لم يقبل لأن العبد استحق الإعتاق بالإسلام لكنا نحتاج إلى سبب آخر ليزول به ملكه عنه ولما عرضه فقد رضي بزوال ملكه وقيد المراغمة يحترز به عما لو خرج بإذن مولاه أو بأمره لحاجته فإنه إذا
____________________
(6/15)
خرج كذلك فأسلم في دارنا حكمه أن يبيعه الإمام ويحفظ ثمنه لمولاه الحربي لأنه لما دخل بأمان صارت رقبته داخلة فيه كما لو دخل سيده به وبما معه من المال
فروع ولو جنى عبد جناية خطأ أو أفسد متاعا فلزمه دينه ثم أسره العدو ثم أسلموا عليه فهو لهم لقوله عليه الصلاة والسلام من أسلم على مال فهو له ثم تبطل الجناية دون الدين لأن حق ولي الجناية في الرقبة ولا تبقى بعد زوال ملك المولى حتى لو زال ملكه بالبيع والهبة لا يبقى فيه حق ولي الجناية وأما الدين ففي ذمته فلا يبطل عنه بزوال ملك المولى كما لا يبطل بيعه ولو اشتراه رجل أو أصابه المسلمون في الغنيمة فأخذه المولى فكل من الجناية والدين عليه لأنه يعيده إلى قديم ملكه وحق ولي الجناية كان ثابتا في قديم ملكه ولو كانت الجناية قتل عمد لم تبطل عنه بحال لأن المستحق به نفسه فلا تبطل بزوال ملك المولى كما لو أعتقه أو باعه بعد لزوم القصاص ولو وقع العبد المأسور في سهم رجل اشتراه فأعتقه قبل أن يحضر المولى نفذ ولا سبيل عليه للمولى القديم لأنه لم يبق قابلا للنقل من ملك إلى ملك ولأن ولائه لزم للمعتق على وجه لا سبيل إلى إبطاله ولو كانت أمة فتزوجها وولدت من الزوج بلا عتق للقديم أن يأخذها وولدها لأنها بالولادة من الزوج لم تخرج عن كونها قابلة للنقل والولد جزء من عينها فيثبت له حق الأخذ بخلاف حق الواهب في الرجوع لا يثبت في الولد لأنه حق ضعيف في العين ألا ترى أنه لا يبقى بعد تصرف الموهوب له والحق الضعيف لا يعدو محله والولد وإن كان جزءا ففي المآل هو محل آخر بخلاف حق المولى فإنه قوي لا يبطل ببيعه أو هبته فيسري إلى الولد وليس له فسخ النكاح لأنه يتمكن من الأخذ بلا فسخ والنكاح ألزم من سائر التصرفات فلا يتمكن من نقضه ولا سبيل للمولى على ما أخذ من عقرها وأرش جناية عليها ولو لم يزوجها المشتري فله وطؤها قبل أن يأخذها المولى وثبوت حق أخذه لا يمنع وطء المالك ولو أسروا جارية مرهونة بألف وهي قيمتها واشتراها رجل أخذها مولاها الراهن بها ولم تبق رهنا لأنها تاوية في حق المرتهن فهو كالمجدد لملكها فلا يأخذها المرتهن إلا أن يرد على الراهن الألف وإن كان الثمن أقل من الألف كان للمرتهن أن يؤدي ذلك الثمن فتكون رهنا عنده لأنه مفيد ولو أسلم على ما أخذه من مال المسلمين لا سبيل عليه للمالك القديم وكذا إذا صار ذميا وكذا إذا باعه من حربي آخر ولو خرج إلينا بأمان ومعه ذلك المال لا سبيل عليه إلا أنه إذا كان عبدا يجبر على بيعه من المسلمين لأنه عبد مسلم ولا يمكن الحربي من إعادته إلى دار الحرب وإذلاله ولو أسروا جارية وديعة عند رجل أو عارية أو إجارة فحق الأخذ إذا أخرجت بشراء أو غنيمة لمالكها لأن ثبوت حق الاسترداد للمالك لا لليد بخلاف الغاصب من المودع ومن ذكرنا لكل من هؤلاء الاسترداد منه لأن كلا منهم قائم مقام المالك في حفظه ولم يزل ملك المالك بالغصب بخلاف الإحراز بدار الحرب ولو كانت متزوجة لا يبطل النكاح لأن غاية إحرازها توجب أن يملكوها ونقل الملك لا يبطل النكاح كالبيع والتباين القاطع له ما هو تباين حقيقة وحكما والمسلمة في دار الإسلام حكما وإن كانت في دار الحرب حقيقة
____________________
(6/16)
& باب المستأمن
أخره عن الاستيلاء بالقهر يكون بعد القهر فأورده كذلك وتقديم استئمان المسلم على الكافر ظاهر قوله وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرا فلا يحل له أن يتعرض لشيء من أموالهم ودمائهم لأنه بالاستئمان ضمن لهم أن لا يتعرض لهم فإخلافه غدر والغدر حرام بالإجماع وفي سنن أبي داود عنه عليه الصلاة والسلام إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان وتقدم قوله عليه الصلاة والسلام لأمراء الجيوش والسرايا لا تغلو ولا تغدروا في وصيته لهم ولهذا قلنا فيما لو اقتتلت طائفتان من أهل الحرب في دارنا وبيننا وبين كل منهم موادعة ليس لنا أن نشتري من الطائفة الغالبة شيئا من الأموال التي غنموها لأنهم لم يملكوها لعدم الإحراز بدار الحرب فكان شراؤنا غدرا بخلاف ما لو لو اقتتلوا في دار الحرب فإنه يحل لنا الشراء والشرط الإحراز بدار الحرب لابدارهم بخصوصها ولو كانوا اقتتلوا في دار الحرب فأقول يشترط أن يحرزها الغالبون بدارهم إن كانوا لا يدينون أن من قهر آخر في نفسه أو ماله ملكه وإن كانوا يدينون فلا فإنهم قالوا لو دخل مسلم دار الحرب بأمان فجاء رجل بأمه أو ابنه أو أم ولده ونحو ذلك ليبيعه منه فأكثر المشايخ على منعه وقال الكرخي إن كانوا يدينون ذلك جاز شراؤه منهم والعامة يقولون إن كانوا يدينون أن من قهر آخر ملكه فهو إذا ملك هؤلاء يعتقون عليه فيصيرون أحرارا فيمتنع بيعهم ولو جاء ببعض أحرارهم قالوا إن كانوا يدينون أن من قهر شخصا ملكه جاز شراؤه منه وإلا لا مع أن هذا ليس فيه إحراز بدار أخرى غير دار المقهور وقوله إلا إذا غدر بهم ملكهم فأخذ أموالهم الخ استثناء من قوله لا يحل أن يتعرض لشيء من أموالهم ودمائهم وكذا قوله بخلاف الأسير المسلم أيضا لأنه غير مستأمن وقد صرح به حيث قال فيباح له التعرض وإن أطلقوه وتركوه في داره طوعا أو أعتقوه لأنه لم يستأمن وعتقهم لا عبرة به لأنهم لم يملكوه فله أن يقتل من قدر عليه سيده أو غيره ويأخذ ماله ويملكه ملكا لا خبث فيه فإن غدر بهم التاجر فأخذ شيئا وأخرجه إلى دار الإسلام
____________________
(6/17)
ملكه ملكا محظورا لعدم ورود الاستيلاء على مال مباح عند عدم الإحراز إلا أنه بسبب محرم فأورث خبثا فيه فيجب التصدق به كملك المغصوب عند الضمان وإنما يملكه مع حرمة مباشرته بسبب الملك لأن الحظر لغيره لا يمنع انعقاد سبب الملك كما في البيع الفاسد وقوله على ما بيناه يريد ما تقدم من قوله المحظور لغيره إذا صلح سببا لكرامة تفوق الملك الخ وسبيل ما يملك بطريق محرم التصدق به حتى لو كان المأخوذ غدرا جارية لا يحل له وطؤها ولا للمشترى منه بخلاف المشتراة شراء فاسدا فإن حرمة وطئها على المشترى خاصة وتحل للمشترى منه لأن المتع فيه لثبوت حق البائع في الاسترداد وببيع المشتري انقطع حقه ذلك لأنه باع بيعا صحيحا فلم يثبت له حق الاسترداد وهنا الكراهة للغدر والمشتري الثاني كالأول فيه أما لو سبى قوم أهل الدار التي هو فيها جاز له أن يشتريهم من السابي لأنهم ملكوهم بالإحراز وهم كانوا على أصل الإباحة في حقه وإنما منعه الغدر وليس ذلك غدرا
فرع نفيس من المبسوط لو أغار قوم من أهل الحرب على أهل الدار التي فيهم المسلم المستأمن لا يحل له قتال هؤلاء الكفار إلا إن خاف على نفسه لأن القتال لما كان تعريضا لنفسه على الهلاك لا يحل إلا لذلك أو لإعلاء كلمة الله وهو إذا لم يخف على نفسه ليس قتاله لهؤلاء إلا إعلاء للكفر ولو أغار أهل الحرب الذين فيهم مسلمون مستأمنون على طائفة من المسلمين فأسروا ذراريهم فمروا بهم على أولئك المستأمنين وجب عليهم أن ينقضوا عهودهم ويقاتلوهم إذا كانوا يقدرون عليه لأنهم لا يملكون رقابهم فتقريرهم في أيديهم تقرير على الظلم ولم يضمنوا ذلك لهم بخلاف الأموال لأنهم ملكوها بالإحراز وقد ضمنوا لهم أن لا يتعرضوا لأموالهم وكذا لو كان المأخوذون ذرارى الخوارج لأنهم مسلمون ومن فروعه لو تزوج في دار الحرب منهم ثم أخرجها إلى دار الإسلام قهرا ملكها فينفسخ النكاح ويصح بيعه فيها وإن طاوعته فخرجت طوعا معه لا يصح بيعها لأنه لم يملكها واعلم أنهم أخذوا في تصويرها ما إذا أضمر في نفسه أنه يخرجها ليبيعها ولا بد منه فإنه لو أخرجها كرها لا لهذا الغرض بل لاعتقاده أن له أن يذهب بزوجته حيث شاء أوفاها معجل مهرها ينبغي أن لا يملكها قوله وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فأدانه حربي أو أدان هو حربيا أو غصب أحدهما صاحبه مالا ثم خرج المسلم إلينا واستأمن الحربي فخرج أيضا مستأمنا لم يقض لواحد منهما على صاحبه بشيء أما الإدانة فلأن القضاء
____________________
(6/18)
يعتمد الولاية ولا ولاية وقت الإدانة على واحد منهما ولا وقت القضاء على المستأمن لأنه ما التزم أحكام الإسلام فيما مضى من أفعاله وإنما التزم في المستقبل ولكن يفتى بأنه يجب عليه القضاء فيما بينه وبين الله تعالى وهذا قاصر كما ترى لا يشمل وجه عدم القضاء على المسلم ولذا قال أبو يوسف يقضى على المسلم وعموم عدم القضاء كما في الهداية قول أبي حنيفة ومحمد واستشكل قولهما بأن المسلم ملتزم أحكام الإسلام مطلقا وصار كما لو خرجا مسلمين وكون أبي حنيفة اعتبر ديانة كل منهما عند القضاء هو أيضا مما يحتاج إلى موجب وأجاب في الكافي بأن ذلك للتسوية بين الخصمين ولا يخفى ضعفه فإن وجوب التسوية بينهما ليس في أن يبطل حق أحدهما بلا موجب لوجوب إبطال حق الآخر بموجب بل إنما ذلك في غلإقبال والإقامة والإجلاس ونحو ذلك والإدانة البيع بالدين والاستدانة الابتياع بالدين وأما أنه لا ينقضي بالغصب لكل منهما فلأنه صار ملكا للذي غصبه سواء كان الغاصب كافرا في دار الحرب أو مسلما مستأمنا على ما بينا أي في باب استيلاء الكفار من أن الاستيلاء ورد على مال مباح لأن الفرض أم كلا منهما خرج إلى دار الإسلام وفي غصب المسلم إذا دخل واحد أو اثنان مغيرين دار الحرب الخ إلا أن المسلم المستأمن الغاصب لمال الحربي يؤمر بالرد إفتاء لا قضاء لترتفع معصية الغدر وفي كلام المصنف إشارة إليه كما ترى وكذا لو كانا حربيين فعلا ذلك أي أدان أحدهما صاحبه أو غصبه ثم خرجا إلينا مستأمنين لما قلنا فإن خرجا مسلمين وقد أدان أحدهما الآخر أو غصبه يقضى بالدين بينهما خاصة دون الغصب أما القضاء بالمداينة أي بالدين فلأنها حين وقعت وقعت صحيحة لوقوعها بالتراضي والولاية ثابتة حالة القضاء لاعترافهما بأحكام الإسلام ولا ترجيح لأحدهما على الآخر إذ لم يقض لأحدهما دون الآخر بل سوينا بينهما وعلى قول أبي يوسف لا يحتاج إلى هذه العلاوة إذ يقضى للحربي على المسلم قوله كما ذكرنا آنفا وأما الغصب فإنما لا يقضى به لإتلافه فيما ملكه ولا خبث
____________________
(6/19)
في ملك الحربي ليؤمر بالرد وفيه اشارة إلى ما قدمنا ذكرها قوله وإذا دخل المسلم فغصب حربيا ثم خرجا مسلمين الخ عرف أحكامها مما تقدم قوله وإذا دخل مسلمان دار الحرب بأمان فقتل أحدهما صاحبه عمدا أو خطأ فعلى القاتل عمدا الدية في ماله ولا كفارة عليه وعلى القاتل خطأ الدية في ماله أيضا وعليه الكفارة هكذا في عامة النسخ من شروح الجامع الصغير بلا ذكر خلاف وذكر قاضيخان في الجامع الصغير أن هذا قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد عليه القصاص في العمد كقول الشافعي ومالك وأحمد لأنه قتل شخصا معصوما بالإسلام عدوانا وظلما وذلك موجب للقصاص وكونه في دار الحرب لا أثر له في سقوط ذلك عند الله تعالى ولأبي حنيفة أنه مكثر سوادهم من وجه ولو كثره من كل وجه بأن كان متوطنا هناك لا يكون معصوما فإذا كان مكثرا من وجه تمكنت الشبهة في قيام العصمة فلا يجب القصاص وذكر شمس الأئمة القصاص في العمد عن أبي يوسف من رواية الإملاء لأن المسلم حيث كان هو من أهل دار الإسلام لا ينقض إحرازه نفسه بذلك والقصاص حق للولي ينفرد باستيفائه من غير حاجة إلى ولاية الإمام ووجه الظاهر يندرج فيما سنذكر قال المصنف أما الكفارة يعني في الخطأ فلإطلاق الكتاب يعنى قوله تعالى { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة } و وجوب الدية لأن العصمة الثابتة بالإحراز بدار الإسلام لا تبطل بعارض الدخول إلى دار الحرب بالأمان وإنما لا يجب القصاص في العمد لأنه لا يمكن استيفاؤه إلا بمنعة ولا منعة دون الإمام وجماعة المسلمين ولم يوجد ذلك في دار الحرب فلا فائدة في الوجوب وإذا سقط القصاص وجبت الدية لأنه بسقوطه بعارض مقارن للقتل ينقلب كقتل الرجل ابنه ولا يخفى أن المراد أنه ليس على الإمام إقامته إذا طلب الولي تمكينه
____________________
(6/20)
منه ولا يحل لولي المقتول إذا قدر عليه لأن القتل لم ينعقد سببا موجبا للقصاص وهو مشكل لأن كون الولاية قاصرة وقت السبب لا تمنع من القضاء عند الطلب إذا كانت ثابتة عنده كما لو رفع إلى قاض مطالبة بثمن مبيع صدر البيع فيه قبل ولاية القاضي فإن ولايته منعدمة عند السبب وعليه أن يقضى بالثمن عند المرافعة لأن العصمة المؤثمة بالإسلام قائمة والقتل العمد العدوان ثابت وهو السبب والمانع وهو استيفاء الإمام منتف لما ذكر عن أبي يوسف أن الإقامة ينفرد بها الولي فمنعه منه خلاف الدليل فالأقرب ما تقدم من ثبوت الشبهة المسقطة للقصاص بتكثير سوادهم من وجه على ما فيه إذ نمنع كون ذلك شبهة توجب السقوط أو أن دار الحرب إباحة فالكون فيها شبهة دارئة وقد يقال إن قلتم إنها دار إباحة للقتل مطلقا فممنوع أو قتل الكافر فيه فلا يفيد ويجاب بأن كونها دار إباحة له في الجملة كاف ألا ترى أن من قتل رجلا قال له اقتلني لا قصاص عليه مع أن إباحة الشرع قتله لم تحصل بقوله ذلك بل إباحة من جهته وقد جعل ذلك مانعا إلا أن نمنع عدم القصاص في قوله اقتلني فإن قيل ما ذكرتم مخالف لإطلاق قوله تعالى { كتب عليكم القصاص } والنفس بالنفس فالجواب أنه عام مخصوص بالقتل خطأ فإنه قتل وليس يجب فيه قصاص ونحو ذلك فجاز تخصيصه بالمعنى أيضا قال وإنما تجب الدية في ماله لأن العواقل لا تعقل العمد وفي الخطأ إنما تجب أيضا في ماله لأن وجوبها على العاقلة بتركهم وتقصيرهم في حفظ القاتل ومنعه من ذلك ولا تقصير منهم في ذلك إذا كان في دار الحرب قوله وإن كانا أي المسلمان أسيرين فقتل أحدهما صاحبه أو قتل مسلم تاجر أسيرا فلا شيء على القاتل من أحكام الدنيا إلا الكفارة في الخطأ عند أبي حنيفة وإنما عليه عقاب الآخرة في العمد وقالا في الأسيرين الدية في الخطأ والعمد لأن العصمة لا تبطل بعارض الأسر كما لا تبطل بالاستئمان على ما بيناه يعني من قوله لأن العصمة الثابتة بالإحراز بدار الإسلام لا تبطل بعارض الدخول بالأمان فكان الأسيران كالمستأمنين و أما امتناع القصاص فلعدم المنعة كما ذكرنا وتجب الدية من ماله لما قلنا أن العواقل لا تعقل العمد هذا وقياس ما نقل قاضيخان عنهما في المسلمين المستأمن من وجوب القصاص في العمد أن يقولا به في الأسيرين لأن الوجه يعمهما ولأبي حنيفة وهو الفرق بين الأسيرين والمستأمنين أن بالأسر صار تبعا لهم لصيرورته مقهورا في أيديهم حتى يصير مقيما بإقامتهم ومسافرا بسفرهم فيبطل به الإحراز أصلا لأن الأصل غير معصوم فكذا تبعه وصار كالمسلم الذي لم يهاجر إلينا في سقوط عصمته الدنيوية بجامع كون كل منهما مقهورا في أيديهم
____________________
(6/21)
و إنما خص الكفارة بالخطأ لأنه لا كفارة في العمد عندنا كما يعرف في موضعه إن شاء الله تعالى هذا والأقرب أن يجري فيهما حديث الشبهة كما تقدم على ما فيه فصل
قوله وإذا دخل الحربي إلينا مستأمنا لم يمكن أن يقيم في دارنا سنة ثم يرجع بل يقوم له الإمام إن أقمت تمام السنة وضعت عليك الجزية وأصل هذا أن الحربي لا يمكن من إقامة دائمة في دارنا إلا بالاسترقاق أو بالجزية لأنه يصير عينا لهم أي جاسوسا وعونا علينا فتلتحق المضرة بالمسلمين ويمكن من الإقامة اليسيرة لأن في منعها قطع الميرة والجلب وهو ما يجلب من حيوان وغيره ففصلنا بين الدائمة واليسيرة بسنة لأنها مدة تجب فيها الجزية فإن رجع قبلها فلا سبيل عليه وإن أقامها بعد تقدم الإمام إليه أي قوله له ما يعتمده في ضرب الجزية عليه صار
____________________
(6/22)
ذميا فلا يمكن بعدها من العودة إلى داره لأن عقد الذمة لا ينقض إذ فيه قطع الجزية وتصييره وولده حربا علينا وفيه مضرة بالمسلمين ولا يؤخذ منه جزية للسنة التي أقامها إلا إن قال له إن أقمتها أخذت منك الجزية وقوله بعد تقدم الإمام يفيد اشتراط تقدم الإمام إليه في منعه من العود إذا أقام سنة وبه صرح العتابي فقال لو أقام سنين من غير أن يتقدم إليه الإمام فله الرجوع قيل ولفظ المبسوط يدل على أن تقدم الإمام ليس شرطا لصيرورته ذميا فإنه قال ينبغي للإمام أن يتقدم إليه فيأمره إلى أن قال وإن لم يقدر له مدة فالمعتبر الحول وليس بلازم لأنه يصدق بقوله إن أقمت طويلا منعتك من العود فإن أقام سنة منعه وفي هذا اشتراط التقدم غير أنه لم يوقت له مدة خاصة والوجه أن لا يمنعه حتى يتقدم إليه ولا أن يوقت مدة قليلة كالشهر والشهرين ولا ينبغي أن يلحقه عسرا بتقصير المدة جدا خصوصا إذا كان له معاملات يحتاج في اقتضائها إلى مدة مديدة
فروع لو مات المستأمن في دار الإسلام عن مال وورثته في دار الحرب وقف ماله لورثته فإذا قدموا فلا بد أن يقيموا البينة على ذلك فيأخذوا فإن أقاموا بينة من أهل الذمة قبلت استحسانا لأنهم لا يمكنهم إقامتها من المسلمين لأن أنسابهم في دار الحرب لا يعرفها المسلمون فصار كشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال فإذا قالوا لا نعلم له وارثا غيرهم دفع إليهم المال وأخذ منهم كفيلا لما يظهر في المآل من ذلك قيل هو قولهما لاقول أبي حنيفة كما في المسلمين وقيل بل هو قولهم جميعا ولا يقبل كتاب ملكهم ولو ثبت أنه كتابه وإذا رجع إلى دار الحرب لا يمكن أن يرجع معه بسلاح اشتراه من دار الإسلام بل بالذي دخل به فإن باع سيفه واشترى به قوسا أو نشابا أو رمحا لا يمكن منه وكذا لو اشترى سيفا أحسن منه فإن كان مثل الأول أو دونه مكن منه ومن وجد في دارنا بلا أمان فهو وما معه فيء فإن قال دخلت بأمان لم يصدق وأخذ ولو قال أنا رسول فإن وجد فهو وما معه كتاب يعرف أنه كتاب ملكهم بعلامة تعرف بذلك كان آمنا فإن الرسول لا يحتاج إلى أمان خاص بل بكونه رسولا يأمن وإن لم يعرف فهو زور فيكون هو وما معه فيئا وإذا دخل دار الإسلام بلا أمان فأخذه واحد من المسلمين لا يختص به عند أبي حنيفة بل يكون فيئا لجماعة المسلمين وهو رواية بشر عن أبي يوسف وظاهر قول أبي يوسف وهو قول محمد يختص به ولو دخل الحرم قبل أن يؤخذ فعند أبي حنيفة يؤخذ ويكون فيئا للمسلمين وعلى قولهما لا ولكن لا يطعم ولا يسقى ولا يؤذي حتى يخرج قوله وإن دخل الحربي دارنا بأمان واشترى أرض خراج فإذا وضع عليه الخراج صار ذميا وكذا لو اشترى عشرية فإنها تستمر عشرية على قول
____________________
(6/23)
محمد فإنها وظيفة مستمرة وعلى قول أبي حنيفة تصير خراجية فتؤخذ منه جزية سنة مستقبلة من وقت وضع الخراج وتثبت أحكام الذمي في حقه من منع الخروج إلى دار الحرب وجريان القصاص بينه وبين المسلم وضمان المسلم قيمة خمره وخنزيره إذا أتلفه ووجوب الدية عليه إذا قتله خطأ ووجوب كف الأذى عنه فتحرم غيلبته كما تحرم غيبة المسلم فضلا عما يفعله السفهاء من صفعه وشتمه في الأسواق ظلما وعدوانا وهذه الأحكام الجمة التي نبه عليها المصنف والجم الكثير والمراد بوضع الخراج إلزامه به وأخذه منه عند حلول وقته ومنذ باشر السبب وهو زراعتها أو تعطيلها مع التمكن منها إذا كانت في ملكه أو زراعتها بالإجارة وهي في ملك غيره إذا كان خراج مقاسمة فإنه يؤخذ منه لا من المالك فيصير به ذميا بخلاف ما لو كانت الأرض التي استأجرها خراجها على مالكها فإنه لا يصير ذميا إذا دخل وقت الأخذ لعدم الأخذ منه وكذا إذا أخذ منه العشر على قول محمد ولا يظن بوضع الإمام وتوظيفه أن يقول وظفت على هذه الأرض الخراج ونحوه لأن الإمام قط لا يقول في كل قطعة أرض كذلك بل الخراج من حين استقر وظيفة للأراضي المعلومة استمر على كل من صارت إليه نعم لا يصير ذميا بمجرد شرائها كما قيل لأنه به التزمه لأنه غير لازم لجواز أنه اشتراها للتجارة فلا يحكم بالذمة عليه بمجرده حتى يزول هذا الاحتمال باستمرارها في يده حتى يؤخذ منه الخراج بتعطيلها أو زراعتها قوله وإذا دخلت حربية دارنا بأمان فتزوجت ذميا صارت ذمية ففي تزوجها مسلما أولى وعكسه ما لو دخل حربي فتزوج ذمية لا يصير ذميا كما قال به الأئمة الثلاثة في الحربية أيضا قياسا على الرجل ونحن بينا الفرق بأن تزوجه ليس دلالة التزامه المقام فإن في يده طلاقها والمضي عنها بخلافها فحين أقدمت عليه كانت ملتزمة بما يأتي منه ومنه عدم الطلاق ومنعها من الخروج إلى دارها فتصير ذمية فيوضع الخراج على أرضها ونحو ذلك قوله ولو أن حربيا دخل دارنا بأمان ثم عاد إلى دار الحرب وترك وديعة عند مسلم أو ذمي أو دينا في ذمتهم فقد صار دمه مباحا بالعود وما في دار الإسلام من ماله له ما دام حيا وإن مات فهو لورثته وكذا إذا قتل من غير
____________________
(6/24)
أن يظهر على دراهم كما إذا مات في دار الإسلام لأن ماله مشمول بأماننا ما دام في دارنا وبه قال الشافعي وأحمد رحمهما الله فإن قيل ينبغي أن يصير فيئا كما إذا أسلم الحربي في دار الإسلام وله وديعة عند مسلم في دار الحرب ثم ظهر على دارهم تكون فيئا ولا تكون يد المودع كيده في دار الإسلام أجيب بالفرق بأن ما في دار الحرب معصوم من وجه لا من كل وجه فإن دار الحرب دار إباحة لا عصمة فلا يصير معصوما بالشك بخلاف ما في دار الإسلام تثبت من كل وجه فيبقى إلى أن يثبت المزيل وهو أن يصير نفسه مغنوما وذلك بأن يؤسر أو يظهر على داره فيقتل فحينئذ تصير الوديعة فيئا لعامة المسلمين توضع في بيت المال لأنها في يده تقريرا فإذا غنم غنمت بخلاف ماله من الوديعة في دار الحرب عند المسلم لأنها ليست في يده كذلك بل من وجه كما ذكرنا ثم هذا ظاهر الرواية وعن أبي يوسف أنها يختص بها المودع لما ذكره المصنف في الدين وأما الدين فيسقط عمن في ذمته لأن ثبوت يده عليه منتف إذ قد صار ملكا للمديون وإنما هي ثابتة باعتبار ثبوت حق المطالبة وقد سقطت باستغنامه فيسقط الدين وإذا حققت هذا ظهر لك أن اختصاص المديون به ضروري غير محتاج إلى تعليله بأنه سبقت يده إليه قوله وما أوجف المسلمون عليه من أموال أهل الحرب بغير قتال أي ما أعملوا خيلهم وركابهم في تحصيله بلا قتال والوجف والوجيف ضرب من سير الإبل والخيل ويقال وجف البعير وجفا ووجيفا وأوجفته إذا حملته على الوجيف يصرف في مصالح المسلمين كما يصرف في الخراج وكذا الجزية في عمارة القناطر والجسور وسد الثغور وكرى الأنهار العظام التي لا ملك لأحد فيها كجيحون والفرات ودجلة وإلى أرزاق القضاة والمحتسبين والمعلمين والمقاتلة وحفظ الطريق من اللصوص فلا يختص به ولا شيء منه أحد قالوا هو مثل الأراضي التي أجلوا أهلها عنها والجزية ولا خمس في ذلك وقال الشافعي فيهما وفي
____________________
(6/25)
بعض النسخ فيها أي الأرض والجزية والخراج الذي تقدم ذكره في قوله كما يصرف الخراج ويقال أجلى السلطان القوم وجلاهم يتعدى بلا همزة أي أخرجهم فجعلوا أي خرجوا وأجلى القوم أيضا خرجوا فكل من ذي الهمزة وعدمها يتعدى ولا يتعدى ومذهب الشافعي أن كل ما أخذ من الكفار بلا قتال عن خوف أو أخذ منهم للكف عنهم يخمس وما أخذ من غير خوف كالجزية وعشر التجارة ومال من مات ولا وارث له ففي القديم لا يخمس وهو قول مالك وفي الجديد يخمس ولأحمد في الفئ روايتان الظاهر منهما لا يخمس ثم هذا الخمس عند الشافعي يصرف إليه من من يصرف إليه خمس الغنيمة عنده على ما وذكروا أن قوله في الجزية مخالف للإجماع قال الكرخي ما قال به أحد قبله ولا بعده ولا في عصره ووجه قوله القياس على الغنيمة بجامع أنه مال مأخوذ من الكفار عن قوة من المسلمين واستدل المصنف بفعله عليه الصلاة والسلام فإنه أخذ الجزية من مجوس هجر ونصارى نجران وفرض الجزية على أهل اليمن على كل حالم دينارا ولم ينقل قط في ذلك أنه خمسة بل كان بين جماعة المسلمين ولو كان لنقل ولو بطريق ضعيف على ما قضت به العادة ومخالفة ما قضت به العادة باطل فوقوعه باطل بل قد ورد فيه خلافه وإن كان فيه ضعف أخرجه أبو داود عن ابن لعدى بن عدي الكندي أن عمر بن عبد العزيز كنت إلى من سأله عن مواضع الفئ أنه ما حكم به عمر بن الخطاب فرآه المؤمنون عدلا موافقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه فرض الأعطية وعقد لأهل الأديان ذمة بما فرض عليهم من الجزية لم يضرب فيها بخمس ولا مغنم وأما ما في السنن عن عمر كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ينفق على أهل بيته قوت سنة فما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله فمعناه أن التصرف فيها كان إليه كيف شاء بل يؤيد ما ذكرنا أن مصارف بيت المال إذ ذاك لم تكن أكثر من نفقة الأئمة وآلات الجهاد من الكراع والسلاح ونفقته هو عليه الصلاة والسلام إذ لم يكن ما ذاك قضاة ولا جسور ولا قناطر وأما نفقة الفقراء المهاجرين فنحن نقطع بأنه كان يفعل ما تحققت له أدنى قدرة عليه وأما القياس ففي تقرير المصنف دفعه وهو قوله ولأنه مأخوذ بقوة المسلمين من غير قتال بخلاف الغنيمة لأنه مملوك بكل من مباشرة الغانمين وقوة المسلمين فاستحق الخمس بمعنى واستحق الباقي للغانمين بمعنى وفي هذا السبب واحد وهو ما ذكرنا من الرعب الخالي عن القتال فلم يكن لأبعاضه مستحقون بجهتين بل استحقاقه بجهة واحدة قوله وإذا دخل الحربي دارنا بأمان وله امرأة في دار الحرب وأولاده صغار وكبار ومال أودع بعضه ذميا وبعضه حربيا وبعضه مسلما فأسلم هنا أي في دار الإسلام ثم ظهر على البناء للمفعول على دارهم فذلك كله فيء
____________________
(6/26)
أما المرأة والأولاد الكبار فإنهم حربيون وليسوا بأتباع للذي خرج لأنهم كبار وكذا ما في بطنها لو كانت حاملا يكون فيئا مرقوقا لما قلنا في باب قسمة الغنائم من أنه جزؤها وأما أولاده الصغار فلأن الصغير إنما يصير مسلما تبعا لإسلام أبيه إذا كان في يده وتحت ولايته ومع تباين الدارين لا يتحقق ذلك وكذا أمواله لا تصير محرزة بإحرازه نفسه بالإسلام لاختلاف الدارين فبقى الكل فيئا فأما إذا أسلم في دار الحرب ثم جاء إلينا فظهر على الدار وباقي الصورة بحالها فأولاده الصغار أحرار مسلمون تبعا لأبيهم لأنهم كانوا تحت ولايته حين أسلم ولو كان في بلدة أخرى غير البلدة التي هم فيهما إذ الدار واحدة وما كان له من مال أودعه مسلما أو ذميا فهو سالم له لأنه في يد محترمة ويده كيده لأنه نائب عنه في الحفظ بخلاف ما لو كان في يدهما غصبا فإنه يكون فيئا لعدم النيابة وعند أبي يوسف ومحمد يجب أن لا يكون فيئا إلا ما كان من غصب عند حربي وهو قول الأئمة الثلاثة وتقدمت هاتان المسألتان من أخريين في باب الغنائم مستوفى قوله وإذا أسلم الحربي في دار الحرب فقتله مسلم عمدا أو خطأ وله ورثة مسلمون صالحون لاستيفاء القصاص فلا شيء على القاتل إلا الكفارة في الخطأ وقال الشافعي تجب الدية في الخطأ والقصاص في العمد وهو قول مالك وأحمد لأنه أراق دما معصوما بالإسلام لكون الإسلام مستحقا للكرامة وهذا لأن العصمة أصلها العصمة المؤثمة لحصول أصل الزجر بها أي بالعصمة
____________________
(6/27)
ولو قال به أي بالإثم لكان أحسن و العصمة المقومة كمال فيه أي في أصل العصمة لكمال الامتناع به أي بالتقوم على المنتهك لها فتعلق هذه العصمة بما علق به الأصل أعني المؤثمة وقال النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم فتنصرف العصمة إلى كمالها وذلك بالمقومة والمؤثمة ولنا قوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة فإنه في القتل الخطأ ولم يستدل على منع القصاص في العمد اكتفاء بما ذكر في المسألة من دلالة الآية لأنه تعالى أفاض في تفاصيل موجبات القتل الخطأ فقال سبحانه وتعالى { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } فأوجب الدية والكفارة ثم قال فإن كان أي المقتول من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة واقتصر عليه فعرف أنه تمام الموجب لأنه مفيض في بيان حكم قتل المسلم الكائن من قوم عدو لنا فقال موجبه كذا ولم يزد عليه فكان كل موجب وإلا لم يكن بيانا لموجبه بل لبعض موجبه وزاد المصنف وجها آخر قدمه على هذا الوجه وهو قوله رجوعا إلى حرف الفاء وقرر بأن الفاء للجزاء والجزاء هو الكافي يقال جزى فلان أي كفى وهو سهو لأن لفظ الجزاء المجعول معنى الفاء لفظ اصطلاحي أي جعلى لا أن اللغة وضعت لفظ الفاء لمعنى لفظ الجزاء حتى يقال الجزاء الذي هو معنى الفاء الكافي بل المراد بقول النحاة الفاء للجزاء أي دالة على أن ما بعدها مسبب عما قبلها فسمى المسبب جزاء اصطلاحا لا لغة فليتأمل ولأن العصمة المؤثمة في الأصل بالآدمية لا بوصف الإسلام
____________________
(6/28)
لأنه خلق متحملا أعباء التكاليف والقيام بها لا يمكن إلا مع حرمة التعرض له وإنما زالت بعارض الكفر فإذا انتفى عادت بخلاف الأموال لأنها بحسب الأصل مباحة لأنها خلقت للانتفاع بها والعصمة المقومة بالعكس فالأموال هي الأصل فيها لا النفوس لأن التقوم يؤذن بجبر الفائت ومن شرطه التماثل وهو في الأموال لا النفوس فكانت النفوس تابعة في العصمة المقومة للأموال ثم العصمة المقومة في الأموال بالإحراز بالدار لأن العزة بالمنعة فكذا في النفوس إلا أن الشرع أبطل اعتبار منعة الكفر فأوجب بطلانها فإن قيل أو صح ما ذكرتم لزم في المرتد والمستأمن إذا قتلا في دارنا الدية أجاب بأنهما من أهل دار الحرب حكما لقصد الانتقال إليها فلم يجب شيء وأما قوله صلى الله عليه وسلم عصموا مني دماءهم فنقول لا شك في ثبوت العصمة شرعا ولا يستلزم كما لها إلا بدليل ولو سلمنا ذلك فقد قال عليه الصلاة والسلام إلا بحقه ومن حقه أن يكونوا في دارنا لا يكثرون
____________________
(6/29)
سواد العدو إلا أن هذا لا ينتهض في الأسير المسلم قوله ومن قتل مسلما خطأ لاولى له أو قتل حربيا دخل دار الإسلام بأمان فأسلم فالدية على عاقاته للإمام وعليه الكفارة لأنه قتل نفسا معصومة بالإسلام وداره خطأ ومعنى قوله للإمام أن حق الأخذ له لأنه لا وارث له بالفرض لا أن المأخوذ يملكه هو بل يوضع في بيت المال وإن كان قتل المسلم الذي لا وارث له والمستأمن الذي أسلم ولم يسلم معه وارث قصدا ولا تبعا بأن لم يكن معه ولد صغير دخل به إلينا عمدا فإن شاء الإمام قتله وإن شاء أخذ الدية منه بطريق الصلح لا الجبر لأن موجب العمد عندنا القصاص عينا إلا أن يتصالحوا على الدية وإنما كان للسلطان ذلك لأنه هو ولي المقتول قال عليه الصلاة والسلام السلطان ولي من لاولي له وقد قدمنا الكلام على هذا الحديث في & باب الأولياء والأكفاء من هذا الكتاب فارجع إليه والدية وإن كانت أنفع للمسلمين من قتله لكن قد يعود إليهم من قتله منفعة أخرى هي أن ينزنجر أمثاله عن قتل المسلمين فيرى بما هو أنفع في رأيه وبما ذكرنا ظهر أن الأولى أن يقول وهذا لأن الدية قد تكون أنفع وإلا كان يتعين الصلح منه عليها وأما أن يعفو فليس له ذلك لأن ولايته على العامة نظرية وليس من النظر إسقاط حقهم من غير عوض ولو كان المقتول لقيطا فقتله الملتقط أو غيره خطأ فلا إشكال في وجوب الدية لبيت المال على عاقلة القاتل والكفارة عليه ولو كان القتل عمدا فإن شاء الإمام قتله وإن شاء صالحه على الدية كالتي قبلها وهذا عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف عليه الدية في ماله ولا أقتله لأنه لا يخلو عن ولي كالأب ونحوه إن كان ابن رشدة وكالأم إن كان ابن زنا فاشتبه من له حق القصاص فلا يستوفى كالمكاتب الذي قتل قبل أداء الكتابة وترك وفاء ولهما أنه لا يعلم له ولي ولا هو في مظنته واحتمال كونه له في نفس الأمر لا يفيد إذ لا ينتفع به فكان وجوده وعدمه في نفس الأمر سواء لأنه لا يقدر على الانتفاع فيستوفى
____________________
(6/30)
& باب العشر والخراج
لما ذكر ما يصير به المستأمن ذميا ذكر ما ينوبه من الوظائف المالية إذا صار ذميا وذلك هو الخراج في أرضه ورأسه وفي تفاريعهما كثرة فأوردهما في بابين وقدم خراج الأرض لأن الكلام فيه كان بعرض قريب ثم ذكر العشر فيه أيضا تتميما الوظيفة الأرض لأنها السبب في الخراج والعشر جميعا وقدم ذكر العشر لأن نميه معنى العبادة والعشر لغة واحد من العشرة والخراج ما يخرج من نماء الأرض أو نماء الغلام وسمى به ما يأخذه السلطان من وظيفة الأرض والرأس وحدد الأراضي العشرية والخراجية أولا لأنه حينئذ أضبط فقال أرض العرب كلها عشرية وهو ما بين العذيب وهو ماء لتميم وذكر ضمير الأرض باعتبار خبره وهو لفظ ما في قوله ما بين العذيب إلى أقصى حجر باليمن وفي بعض النسخ وهي على الظاهر وحجر بفتح الجيم وإسكانها خطأ لأن أبا يوسف قال حدود أرض العرب ما وراء حدود الكوفة إلى أقصى صخر باليمن فعرف أنه حجر بالفتح والمراد إلى آخر جزء من أجزاء اليمن وهو آخر منها ومهرة حينئذ في آخر موضع من اليمن وقولهم من أول عذيب القادسية إلى آخر حجر يوجب أن ذلك أول ما وراء أرض الكوفة وهذا طولها وعرضها من رمل يبرين والدهناء ويعرف برمل عالج إلى مشارف الشام أي قرأها وقد يعبر بمنقطع السماوة قال الكرخي وهي أرض الحجاز وتهامة ومكة واليمن والطائف والبرية والحجاز هو جزيرة العرب سمى جزيرة لأن بحر الحبش وبحر فارس
____________________
(6/31)
والفرات أحاطت بها وسمى حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد والسواد أي سواد العراق أي أرضه سمى به لكثرة اخضراره وحده من العذيب إلى عقبة حلوان عرضا ومن العلث إلى عبادان طولا ويقال من الثعلبية إلى عبادان قيل هو غلط لأن الثعلبية بعد العذيب بكثير وإذا عرف هذا فأرض العرب كلها عشرية لأنه عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين بعده لم يأخذوا الخراج من أرض العرب ولو فعله عليه الصلاة والسلام لقضت العادة بنقله ولو بطريق ضعيف فلما ينقل دل قضاء العادة على أنه لم يقع ولأن شرط الخراج أن يقر أهلها عليها على كفرهم كما في سواد العراق والعرب لا يقبل منهم إلا الإسلام وإلا يقتلون ولأنه كما لارق على العرب فكذا لا خراج على أرضهم وسواد العراق المحدد المذكور خراجي لأن عمر رضي الله عنه وضع عليه الخراج بمحضر من الصحابة وهو أشهر من أن ينقل فيه أثر معين وإنما يحتاج إلى ذلك في تقدير الموضوع وقوله ووضع على مصر الخ أسند الواقدي إلى مشيخة من أهل مصر أن عمرو بن العاص افتتح مصر عنوة واستباح ما فيها وعزل منه مغانم المسلمين ثم صالحهم بعد على وضع الجزية على رءوسهم والخراج على أراضيهم ثم كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك وأسند أيضا إلى عمرو بن الحارث قال كان عمرو بن العاص يبعث بجزية أهل مصر وخراجها إلى عمر رضي الله عنها كل سنة بعد حبس ما يحتاج إليه ولقد استبطأه عمر في الخراج سنة فكتب بكتاب يلومه ويشدد عليه وهذا يخالف ما ذكر بعض الشارحين من أن مصر فتحت صلحا على يدي عمرو بن العاص وأما وضع الخراج على أرض الشام فمعروف قيل ومدن الشام فتحت صلحا وأراضيها عنوة على يد يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وأبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد وفتحت أجنادين صلحا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وفي دالها الفتح في المشهور والكسر قوله وأرض السواد مملوكه لأهلها يجوز بيعهم وتصرفهم فيها بالرهن والهبة لأن الإمام إذا فتح أرضا عنوة له أن يقر أهلها عليها ويضع عليها الخراج وعلى رءوسهم الجزية فتبقى الأرض مملوكة لأهالها وقدمناه من قبل في & باب قسمة الغنائم ومذهب مالك والشافعي وأحمد أنها موقوفة على المسلمين فلا يجوز لأهلها هذه التصرفات قوله وكل أرض أسلم أهلها عليها فأحرزوا ملكهم فيها أو فتحت عنوة وقسمها بين الغانمين فهي عشرية لأن الحاجة إلى ابتداء التوظيف على المسلم والعشر أليق به لأن فيه معنى العبادة ولأنه أخف حيث يتعلق الواجب بنفس الخارج فلا يؤخذ
____________________
(6/32)
ما لم يكن خارجا فهو أليق بالمسلم وكل أرض فتحت عنوة وأقر أهلها عليها فهي أرض خراج وكذا إذا صالحهم لأن الحاجة إلى ابتداء التوظيف على الكافر والخراج أليق به لأن فيه معنى العقوبة للتعلق بالتمكن من الزراعة وإن لم يزرع وفيه نظر نذكره في آخر الفصل إن شاء الله تعالى ومكة مخصوصة من هذا العموم فإنها فتحت عنوة على ما أسلفناه في & باب الغنائم وقسمتها بما لا يشك معه أنها فتحت عنوة ولم يوظف عليها خراجا ولنخص هذا المكان بحديث زيادة على ما في & باب الغنائم أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه ذكر فتح مكة فقال أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل مكة فبعث الزبير رضي الله عنه على إحدى المجبنتين وبعث خالد بن الوليد على المجبنة الأخرى وبعث أبا عبيدة على الجسر وأخذوا من بطن الوادي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كثيبة قال فنظر إلي وقال يا أبا هريرة قلت لبيك يا رسول الله اهتف لي بالأنصار فلا يأتيني إلا أنصاري فهتف بهم فجاءوا فأطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ووبشت قريش أوباشها فقال لهم ألا ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم ثم قال بيده فضرب بإحداهما على الأخرى وقال احصدوهم حصدا حتى توافوني على الصفا قال أبو هريرة فانطلقنا فما شاء أحد منا أن يقتل من شاء منهم إلا قتله الحديث بطوله خاضمم هذا إلى ما هناك وقد ذكر القتيبي ما فتح عنوة وصلحا من البلاد فذكر أن الأهواز وفارس وأصبهان فتحت عنوة لعمر رضي الله عنه على يدي أبي موسى وعثمان بن أبي العاص وعتبة بن غزوان وكانت أصبهان على يدي أبي موسى خاصة وأما خراسان ومرورود فتحتا صلحا في خلافة عثمان على يدي عبد الله بن عامر بن كريز وأما ما وراءهما فافتتح بعد عثمان على يد سعيد بن عثمان ابن عفان لمعاوية صلحا وسمرقند وكش ونسف وبخارى بعد ذلك على يدي المهلب بن أبي صفرة وقتيبة بن مسلم وأما الري فافتتحها أبو موسى في خلافة عثمان صلحا وفي ولايته فتحت طبرستان على يدي سعيد بن العاص صلحا ثم فتحها عمرو بن العلاء والطالقان ودنباوند سنة سبع وخمسين ومائة وأما جرجان ففي خلافة سليمان ابن عبد الملك سنة ثمان وتسعين وكرمان وسجستان فتحهما عبد الله بن عامر في خلافة عثمان صلحا وافتتح الجبل كله عنوة في وقعة جلولا ونهاون على يدي سعد والنعمان بن مقرن وأما الجزيرة ففتحت صلحا على يدي عياض بن غنم والجزيرة ما بين الفرات ودجلة والموصل من الجزيرة وأما هجر فأدوا الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا دومة الجندل وأما اليمامة فافتتحها أبو بكر رضي الله عنه وأما الهند فافتتحها القاسم بن محمد الثقفي سنة ثلاث وتسعين قوله وفي الجامع الصغير كل أرض فتحت عنوة فوصل إليها ماء الأنهار الخ قد علم من عادة المصنف أنه إذا وقعت مخالفة بين ما في القدوري والجامع أو زيادة في الجامع يقول بعد لفظ
____________________
(6/33)
القدوري في الجامع الصغير إلى آخره وهنا المخالفة ظاهرة فإن قول القدوري كل أرض فتحت عنوة فأقر أهلها عليها فهي أرض خراج مطلق فهو أعم من أن يصل إليها ماء الأنهار أو لا يصل بأن استنبط فيها عين ولفظ الجامع قيد خراجيتها بأن يصل إليها من ماء الأنهار ونحن نقطع أن الأرض التي أقر أهلها عليها لو كانت تسقى بعين أو بماء السماء لم تكن إلا خراجية لأن أهلها كفار والكفار لو انتقلت إليهم أرض عشرية ومعلوم أن العشرية قد تسقى بعين أو بماء السماء لا تبقى على العشرية بل تصير خراجية في قول أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد فكيف يبتدأ الكافر بتوظيف العشر ثم كونها عشرية عند محمد إذا انتقلت إليه كذلك أما في الابتداء فهو أيضا يمنعه والعبارة التي نقلها عن الجامع في غاية البيان ليست كما في الهداية فإنه قال ولفظ الجامع الصغير محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة قال كل أرض فتحت عنوة بالقتال فصارت أرض خراج وكل شيء يصل إليها ماء الأنهار فهي أرض خراج وكل شيء لم يصل إليها ماء الأنهار فاستخرج فيه عين فهي أرض عشر والأراضي التي أسلم اهلها عليها فهي أرض عشر فقوله وكل شيء يصل اليها ماء الأنهار فهي أرض خراج عطف على كل أرض فتحت عنوه والعطف يوجب المغايرة فيصير المعنى وكل أرض فتحت عنوة صارت أرض خراج وكل أرض لم تفتح عنوة ووصفها أنها يصل إليها ماء الأنهار فهي أرض خراج وحاصلة تقسيم أرض الخراج إلى ما يفتح عنوة وإلى ما لم يفتح عنوة لكنها تسقى بماء الأنهار نعم يجب تقييد الأول بأن يقر أقلها عليها بالضرورة وكأن هذا معلوم إذ لا يبتدأ المسلم في أول الفتح قط بتوظيف الخراج في الأراضي المقسومة كما يجب تقييد الأنهار فإنها لا تكون خراجية ما لم تكن حولها الأنهار العظام كالنيل والفرات والحاصل أن التي فتحت عنوة إن أقر الكفار عليها لا يوظف عليهم إلا الخراج ولو سقيت بماء المطر وإن قسمت بين المسلمين لا يوظف إلا العشر وإن سقيت بماء الأنهار وإن كان كذلك فبالضرورة يراد الأرض التي أحياها محى فإن التي فتحت عنوة مما يبتدأ فيها التوظيف غير المقسومة والمقرر أهلها عليها ليس إلا الموات التي أحييت ويصير المعنى كل أرض فتحت عنوة صارت أرض خراج إذا أقام أهلها عليها وكل أرض لم تفتح عنوة بل أحياها مسلم إن كان صفتها أنها يصل إليها ماء الأنهار فهي خراجية أو ماء عين ونحوه فعشرية وهذا قول محمد وهو قول أبي حنيفة ولو شرحه هكذا استغنى به عن ذكر المسألة التي تليه فإنها هي وحاصلها أن محمدا قال فيمن أحيا أرضا ميتة ببئر حفرها أو عين استخرجها أو ماء دجلة والفرات أو باقي الأنهار العظام التي لا يملكها أحد أو بالمطر فهي عشرية وإن أحياها بماء الأنهار التي شقتها الأعاجم مثل نهر الملك ونهر يزدجرد وهو ملك من العجم فهي خراجية لأن الاعتبار في مثله للماء لأنه السبب لنماء الأرض ولأنه لا يمكن توظيف الخراج على المسلم ابتداء كرها فيعتبر السقي بماء الخراج دلالة على التزامه فتصير خراجية عليه وعند أبي يوسف تعتبر بحيزها أي بما يقرب منها فإن كانت من حيز أرض الخراج أي بقربه فخراجية أو أرض العشر فعشرية لأن القرب من أسباب
____________________
(6/34)
الترجيح فترجح كونها خراجية بالقرب من أرض الخراج وعشرية كذلك وأصله أفنية الدور أعطى له في الشرع حكمها حتى جاز لصاحب الدار الانتفاع بفنائها وهو غير مملوك له ومن أجل أن له حق الانتفاع لو قال المستأجر للأجزاء هذا فنائي وليس لي فيه حق الحفر ولكن احفروا فحفروا فلا ضمان عليهم في الاستحسان بل على المستأجر لأن كونه فناء بمنزلة كونه مملوكا في انطلاق يده في التصرف من إلقاء الطين والحفر وربط الدابة غير أن أبا يوسف استثنى البصرة من ضابطه فإنها عشرية عنده وإن كانت من حيز أرض الخراج لإجماع الصحابة على جعلها عشرية كما ذكره أبو عمر بن عبد البر وغيره فترك القياس فيها لذلك هذا وقد ظهر من قوله ولأنه لا يمكن توظيف الخراج على المسلم إلى آخره أن المراد بموضوع المسئلة أعني قوله ومن أحيا أرضا مواتا لمسلم ولا بد من ذلك لأنه لو أحياها ذمي كانت خراجية سواء سقيت عند محمد بماء السماء أو نحوه أولا وسواء كانت عند أبي يوسف من حيز الخراج أو العشر وظهر منه أيضا كون المسلم لا يبتدأ بتوظيف الخراج كما ذكره محمد في الزيادات هو فيما إذا لم يكن منه صنع يستدعي ذلك وهو السقي بماء الخراج وهذا لأن الخراج جزاء المقاتلة على حمايتهم فما سقى بما حموه وجب فيه قوله والخراج الذي وضعه عمر رضي الله عنه على أهل السواد من كل
____________________
(6/35)
جريب يبلغه الماء قفيز هاشمي وهو الصاع ثمانية أرطال خلافا لأبي يوسف نص على أنه الصاع أبو يوسف ومحمد فقال أبو يوسف حدثني السري عن الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرض على الكرم عشرة وعلى الرطبة خمسة وعلى كل أرض يبلغها الماء عملت أو لم تعمل درهما ومختوما قال عامر هو الحجاجي وهو الصاع انتهى وعامر هو الشعبي وقال محمد في الأصل فما كان من أرض الخراج من عامر أو غامر مما يبلغه الماء مما يصلح للزرع ففي كل جريب قفيز ودرهم في كل سنة زرع ذلك صاحبه في السنة مرة أو مرارا أو لم يزرعه كله سواء وفيه كل سنة قفيز ودرهم في كل جريب زرع والقفيز قفيز الحجاج وهو ربع الهاشمي وهو مثل الصاع الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أرطال والمراد من القفيز المأخوذ قفيز مما زرع حنطة أو شعيرا أو عدسا أو ذرة قاله الطحاوي واستحسن والدرهم ما يوزن سبعة والمراد من الجريب أرض طولها ستون ذراعا وعرضها كذلك بذراع الملك كسرى وهو يزيد على ذراع العامة بقبضة فهو سبع قبضات لأن ذراع العامة ست وقوله في الكافي ما قيل الجريب ستون في ستين حكاية عن جريهم في أراضيهم وليس بتقدير لازم في الأراضي كلها بل جريب الأرض يختلف باختلاف البلدان فيعتبر في كل بلد متعارف أهله يقتضي أن الجريب يختلف قدره في البلدان ومقتضاه أن يتحد الواجب وهو قفيز ودرهم مع اختلاف المقادير فإنه قد يكون عرف بلد فيه مائة ذراع وعرف أخرى فيه خمسون ذراعا وكذا ما قيل الجريب ما يبذر فيه مائة رطل وقيل ما يبذر فيه من الحنطة ستون منا وقيل خمسون في ديارهم والمعول عليه ما في الهداية وغيرها وأما جريب الرطبة ففيه خمسة دراهم ولا شيء فيه من الخارج وفي جريب الكرم المتصل والنخيل المتصلة عشرة دراهم هذا هو المنقول عن عمر رضي الله عنه فقيد الاتصال يفيد أنها لو كانت متفرقة في جوانب الأرض ووسطها مزروعة فلا شيء فيها بل المعتبر وظيفة عمر رضي الله عنه في الزروع وكذا لو غرس أشجارا غير مثمرة ولو كانت الأشجار ملتفة لا يمكن زراعة أرضها فهي كرم ذكره في الظهيرة وفي شرح الطحاوي لو أنبت أرضه كرما فعليه خراجها إلى أن يطعم فإذا أطعم فإن كان ضعف وظيفة الكرم ففيه وظيفة الكرم وإن كان أقل فنصفه إلى أن ينقص عن قفيز ودرهم وإن نقص فعليه قفيز ودرهم وفي رواية عليه وظيفة الأرض الأرض إلى أن يطعم الكرم ثم ذكر المصنف الرواية عن عمر رضي الله عنه بذلك فقال إنه بعث عثمان بن حنيف حتى يمسح سواد العراق وهو الذي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين علي بن أبي طالب رضي الله عنهما حين آخى بين المهاجرين والأنصار وجعل حذيفة مشرفا عليه فمسح فبلغ ستا وثلاثين ألف ألف جريب ووضع على ذلك ما قلنا وكان بمحضر من الصحابة رضي الله عنه من غير نكير فكان إجماعا منهم قال شارح في قوله ووضع على ذلك ما قلنا إنه سهو بل يقال ووضع ذلك على ما قلنا أي وضع الخراج ولا يخفى أن مرجع اسم الإشارة الست وثلاثون ألف ألف أي
____________________
(6/36)
وضع على الجريان المقادير التي ذكرناها ولا سهو ينسب إلى قائل هذا وقد تقدم رواية أبي يوسف به وهو منقطع لأن الشعبي لم يدرك عمر رضي الله عنه واعلم أن الرواية عن عمر اختلفت كثيرا في تقدير الوظيفة فروى ابن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر عن الشيباني عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي قال وضع عمر رضي الله عنه على أهل السواد على كل جريب أرض يبلغه الماء عامر أو غامر درهما وقفيزا من طعام وعلى البساتين على كل جريب عشرة دراهم وخمسة أقفزة من طعام وعلى الرطاب على كل جريب أرض خمسة دراهم وخمسة أقفزة من طعام وعلى الكروم على كل جريب أرض عشرة دراهم وعشرة أقفزة ولم يضع على النخيل شيئا جعله تبعا للأرض ثم حدث عن أبي أسامة عن قتادة عن أبي مجلز قال بعث عمر عثمان بن حنيف على مساحة الأرض فوضع عثمان على الجريب من الكرم عشرة دراهم وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب القصب ستة دراهم يعني الرطبة وعلى جريب البر أربعة دراهم وعلى جريب الشعير درهمين وقال أبو عبيد في = كتاب الأموال حدثنا هشيم بن بشير أنبأنا العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي قال لما افتتح المسلمون فساق الحديث بطوله إلى أن قال فمسح عثمان بن حنيف سواد الكوفة من أرض أهل الذمة فجعل على جريب النخل عشرة دراهم وعلى جريب العنب ثمانية دراهم وعلى جريب القصب ستة دراهم وعلى الجريب من البر أربعة وعلى الجريب من الشعير درهمين وفيه قال فأخذ من تجارهم من كل عشرين درهما درهما فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرضى به فقد رأيت ما هنا من الاختلاف ومالك رحمه الله يعتبر إجارة الإمام لأنها وقف على المسلمين عنده فتفوض إلى إجارته كما هو الرسم الآن في أراضي مصر فإن المأخوذ الآن بدل إجارة لا خراج ألا ترى أن الأراضي ليست مملوكة للزرع وهذا بعد ما قلنا إن أرض مصر خراجية والله أعلم لموت المالكين شيئا فشيئا من غير إخلاف ورثة فصارت لبيت المال وينبغي على هذا أن لا يصح بيع الإمام ولا شراؤه من وكيل بيت المال لشيء منها نظرة لأن في مال المسلمين كنظر ولي اليتيم فلا يجوز له بيع عقاره إلا لضرورة عدم وجود ما ينفقه سواء فلذا كتبت في فتوى رفعت إلي في شراء السلطان الأشرف برسباي رحمه الله لأرض ممن ولاه نظر بيت المال هل يجوز شراؤه منه وهو الذي ولاه فكتبت إذا كان بالمسلمين حاجة والعياذ بالله جاز ذلك وأحمد في رواية في كمالك وفي رواية جريب حنطة أو شعير درهم والباقي كقولنا وقيل كل الروايات عن عمر صحيحه وإنما اختلفت لاختلاف النواحي فوضع بعضها أقل وبعضها أكثر لتفاوت الريع في ناحية مع ناحية وما قلنا أشهر رواية وأرفق بالرعية ثم ذكر المصنف المعنى في اختلاف الوظيفة فقال ولأن المؤن متفاوتة فالكرم أخفها مؤنة لأنه يبقى على الأبد بلا مؤنة وأكثرها ريعا والمزارع أقلها ريعا وأكثرها مؤنة لاحتياجها إلى البذر ومؤن الزراعة من الحراثة والحصاد والدياس والتذرية في كل عام والرطاب بينهما لأنها لا تدوم دوام الكرم ويتكلف في عملها كل عام فوجب تفاوت الواجب بتفاوت المؤنة أصله قوله عليه الصلاة والسلام ما سقت السماء ففيه العشر وما سقى بغرب أو دالية ففيه نصف العشر
____________________
(6/37)
قوله وما سوى ذلك أي من الأراضي التي فيها أصناف غير ما وظف فيه عمر رضي الله عنه كالزعفران والنخيل والملتفة والبستان وهو أرض يحوطها حوائظ وفيها نخيل متفرقة وأشجار وكذا غير ذلك كالنخيل الملتفة يوضع على ذلك بحسب الطاقة فيوضع على النخيل الملتفة بحسب ما تطيق ولا يزاد على الكرم وعلى جريب الزعفران كذلك ينظر في كله إلى غلتها فإن لم تبلغ سوى غلة الزرع يؤخذ قدر خراج الزرع أو الرطبة يؤخذ خراج الرطبة أو الكرم فالكرم وإنما ينتهي إلى نصف الخارج لأن التنصيف بعد ما كان لنا أن نقتلهم ونتملك رقاب الأراضي والأموال عين الأنصاف قوله فإن لم تطق ما وضع عليها بأن يبلغ الخارج منها ضعفه نقص إلى نصف الخارج كذا أفاده في الخلاصة حيث قال فإن كانت الأراضي لا تطيق أن يكون الخراج خمسة بأن كان الخارج لا يبلغ عشرة يجوز أن ينقص حتى يصير مثل نصف الخارج انتهى وفي هذا لا فرق بين الأرضين التي وظف عليها عمر رضي الله عنه ثم نقص نزلها وضعفت الآن أو غيرها وأجمعوا أنه لا تجوز الزيادة على وظيفة عمر رضي الله عنه في الأراضي التي وظف فيها عمر رضي الله عنه أو إمام آخر مثل وظيفة عمر ذكره في الكافي وأما في بلد لو أراد الإمام أن يبتدئ فيها التوظيف فعند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يزيد وقال محمد وهو قول مالك وأحمد ورواية عن أبي يوسف وقول الشافعي له ذلك ومعنى هذا إذا كانت الأرض التي فتحت بعد الإمام عمر رضي الله عنه تزرع الحنطة فأراد أن يضع عليها درهمين وقفيزا وهي تطيقه ليس له ذلك وعند محمد له ذلك اعتبارا بالنقصان وهذا يؤيد ما ذكرته من حمل الأرض في قوله فإن لم تطق ما وضع عليها على ما يشمل أرض عمر رضي الله عنه ومنعه أبو يوسف بأن عمر رضي الله عنه لم يزد حين أخبر بزيادة طاقة الأرض ففي البخاري من حديث عمرو بن ميمون أخاف أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق قالا حملناها أمرا هي له مطيقة ما فيها كبير فضل وروى عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن علي بن الحكم البسناني عن محمد بن زيد عن إبراهيم قال جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال أرض كذا وكذا يطيقون من الخراج أكثر مما عليهم فقال ليس إليهم سبيل قوله وإن غلب على أرض الخراج الماء أو انقطع الماء عنها أو اصطلم الزرع آفة لا خراج عليه
____________________
(6/38)
أما في غلبة الماء أو انقطاعه فلأنه فات التمكن من الزراعة وهو النماء التقديري المعتبر في الخراج وأما في الاصطلام فلفوت النماء التقديري في بعض الحول وكونه ناميا في جميع الحول شرط كما في مال الزكاة أو يدار الحكم على حقيقة الخارج عند الخروج لأن التمكن من الزراعة قائم مقامه فإذا وجد الأصل بطل اعتبار الخلف وتعلق الحكم بالأصل واعلم أن أكثر المشايخ حملوا المذكور في الكتاب من سقوط الخراج بالاصطلام على ما إذا لم يبق من السنة مقدار ما يمكن الزراعة ثانيا فإن بقى لا يسقط الخراج لأنه عطلها وفي الفتاوي الكبرى تكلموا أن المعتبر فيه زراعة الحنطة أو الشعير أم أي زرع كان وأن المعتبر مدة ترك الزرع فيها أو مدة يبلغ الزرع فيها مبلغا يكون قيمته ضعف الخراج والفتوى على أنه مقدر بثلاثة أشهر وهو لاينافي الوجه الثاني لأن إدارة الحكم على حقيقة الخارج إن أسقط الواجب منه لا يمنع الإيجاب بالتعطيل فيما بعده من الزمان وأما الوجه الأول فصريح في نفي الوجوب وإن بقى إمكان الزراعة إلى آخر السنة ولم يذكر كثير من المشايخ هذا وإعادة الزرع تستدعي مؤنا كالأول فإن أخرج شيئا فقصاراه أن يفي بالخراجين فأخذ الخراج إذا لم يزرع والحالة هذه تخير أصل مال الزارع وكذا إن زرع قوله وإن عطلها صاحبها فعليه الخراج لأن التمكن من الزراعة كان ثابتا وهو الذي فوته أي فوت الزرع وهذا بشرط التمكن كما يفيد قوله لأن التمكن كان ثابتا فأما إذا لم يتمكن لعدم قوته وأسبابه للإمام أن يدفعها لغيره مزارعة ويأخذ الخراج من نصيب المالك ويعطيه الباقي أو يؤجرها ويأخذ الخراج من الأجرة أو يزرعها بنفقة من بيت المال فإن لم يتمكن من ذلك ولم يجد من يقبل ذلك باعها وأخذ من ثمنها خراج السنة المنسلخة ودفع باقي الثمن لصاحبها ثم استمر يأخذ الخراج من المشتري وهذا وإن كان نوع حجر ففيه دفع ضرر العامة بإثبات ضرر واحد وهو جائز كما قلنا في الحجر على المكاري المفلس والطبيب
____________________
(6/39)
الجاهل ولو وقع البيع في أثناء السنة فإن بقى منها قدر ما يتمكن المشتري من الزراعة فالخراج عليه وإلا على البائع وما عن أبي يوسف أنه يدفع للعاجز كفايته من بيت المال قرضا ليعمل فيها صحيح أيضا ومن فروع ذلك ما إذا انتقل إلى أخس الأمرين من غير عذر بأن كانت مثلا تزرع الكرم فزرعها حبوبا أخذ منه خراج الأعلى وهو الكرم لأنه هو الذي ضيع الزيادة على المسلمين قالوا لا يفتى بهذا لما فيه من تسلط الظلمة على أموال المسلمين إذ يدعى كل ظالم أن أرضه تصلح لزراعة الزعفران ونحوه وعلاجه صعب قوله ومن أسلم من أهل الخراج أخذ منه الخراج على حاله وعند مالك والشافعي يسقط عنه الخراج وكذا لو باعها من مسلم يجوز البيع عندنا خلافا لمالك في رواية وعلى رواية الجواز يسقط الخراج لما فيه من معنى الذل والصغار وهو غير لائق بالمسلم وقوله لما قلنا من أن فيه معنى المؤنة والمسلم من أهل المؤنة كالعشر والأرض لا تخلو منها فإبقاء ما تقرر واجبا أولى ولأن وضع عمر رضي الله عنه بموافقة جماعة من الصحابة ما كان إلا ليجد الذين يجيئون من المسلمين بعد أهل الفتح ما يسد حاجتهم وفتح هذا الباب يؤدي إلى فوات هذا المقصود فإن الإسلام غير بعيد بعد مخالطة المسلمين ومعرفة محاسنه أو تقية من الكلفة وتجشم المشاق في الزراعة ثم دفع نحو النصف للغير قال المصنف وقد صح أن الصحابة اشتروا أراضي الخراج وكانوا يؤدون خراجها قال البيهقي قال أبو يوسف القول ما قال أبو حنيفة أنه كان لابن مسعود وخباب بن الأرت والحسين بن علي ولشريح أرض الخراج فدل على انتفاء كراهة تملكها حدثنا مجالد بن سعيد عن عامر عن عتبة بن فرقد السلمي أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إني اشتريت أرضا من أرض السواد فقال عمر أنت فيها مثل صاحبها قال البيهقي وأخبرنا أبو سعيد حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا الحسن بن علي بن عفان حدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا حسن بن صالح عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال أسلمت امرأة من أهل نهر الملك فكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن اختارت أرضها وأدت ما على أرضها من الخراج فخلوا بينها وبين أرضها وإلا فخلوا بين المسلمين وبين أرضهم وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة حدثنا الثوري عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن دهقانة من أرض نهر الملك أسلمت فقال عمر ادفعوا إليها أرضها تؤدي عنها الخراج وقال ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما حدثنا هشيم بن بشير عن شيبان بن الحكم عن زبير بن عدي أن دهقانا أسلم على عهد علي رضي الله عنه
____________________
(6/40)
عنه فقال علي إن أقمت في أرضك رفعنا عنك الخراج عن رأسك وأخذناها من أرضك وإن تحولت عنها فنحن أحق بها وقال ابن أبي شيبة حدثنا حفص بن غياث عن محمد بن قيس عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي عن عمر وعلي قالا إذا أسلم وله أرض وضعنا عنه الجزية وأخذنا خراجها قال المصنف فدل على جواز الشراء وأخذ الخراج وأدائه للمسلم من غير كراهة وصرح في كافي الحاكم بنفي الكراهة قيل ولو قال من المسلم كان أولى وهو بناء على تعليقه بلفظ أخذ وهو غير مقصود فإن الأخذ يقوم بالإمام وليس المقصود إفادة أنه هل يكره للإمام أخذ الخراج من المسلم بل المقصود إفادة حكم شراء المسلم الأرض الخراجية وتعرضه بذلك للأخذ منه هل يكره له ذلك أو لا فيجب لفظ للمسلم ليتعلق بالشراء في قوله فدل على جواز الشراء للمسلم وعدم الكراهة لا كما يقول بعض المتقشفة رحمة الله عليهم ورحمنا بهم من كراهة ذلك لما روى أنه عليه الصلاة والسلام رأى شيئا من آلات الحراثة فقال ما دخل هذا بيت قوم إلا ذلوا ظنا منهم أن الذل بالتزام الخراج وليس كذلك بل المراد أن المسلمين إذا اشتغلوا بالزراعة واتبعوا أذناب البقر قعدوا عن الغزو فكر عليهم عدوهم فجعلوهم أذلة لا ما ذكروه إذ لا شك في أنه يجوز للمسلم التزام ما لا يجب عليه ابتداء ألا ترى أنه لو تكفل بجزية ذمي جاز بلا كراهة قوله ولا عشر في الخارج من أرض الخراج وقال الشافعي ومالك وأحمد يجمع بينهما لأنهما حقان مختلفان ذاتا فإن العشر مؤنة فيها معنى العبادة والخراج مؤنة فيها معنى العقوبة ومحلا فإن العشر في الخارج والخراج في الذمة وسببا لأن سبب العشر الأرض النامية بالخارج تحقيقا وسبب الخراج الأ ض النامية به تقديرا ومصرفا فمصرف العشر الفقراء ومصرف الخراج المقاتلة وقد تحقق سبب كل منهما ولا منافاة بين الحقين فيجبان كوجوب الدين مع العشر والخراج قال المصنف ولنا قوله عليه الصلاة والسلام لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم وهو حديث ضعيف ذكره ابن عدي في الكامل عن يحيى بن عنبسة حدثنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجتمع على مسلم خراج وعشر
____________________
(6/41)
ويحيى بن عنبسة مضعف إلى غاية حتى نسب إلى الوضع وإلى الكذب على أبي حنيفة وإنما رواه أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم فجاء يحيى وصله نعم إنما روي عن التابعين مثل النخعي والشعبي وعكرمة كما ذكرناه ورواه ابن أبي شيبة عن الشعبي حدثنا إبراهيم بن المغيرة ختن لعبد الله بن المبارك عن حمزة السلولي عن الشعبي قال لا يجتمع عشر وخراج في أرض وقال حدثنا أبو نميلة حدثنا يحيى بن واضح عن أبي المنيب عن عكرمة قال لا يجتمع عشر وخراج في مال وحاصل هذا كما ترى ليس إلا نقل مذهب بعض التابعين ولم يرفعوه فيكون حديثا مرسلا وقد نقل ابن المبارك الجمع بينهما مذهبا لجماعة آخرين فهذا نقل المذاهب لا استدلال وأما قوله ولأن أحدا من الأئمة إلى آخره فقد منع بنقل ابن المنذر الجمع في الأخذ عن عمر بن عبد العزيز فلم يتم وعدم الأخذ من غيره جاز كونه لتفويض الدفع إلى المالك فلم يتعين قول صحابي بعدم الجمع ليحتج به من يحتج بقولهم على أن فعل عمر بن عبد العزيز يقتضي أن ليس عمر رضي الله عنه على منع الجمع الجميع لأنه كان متبعا له مقتفيا لآثاره وما ذكرناه عنه فيما تقدم من كتبه في جواب السائل في مسألة خمس الجزية والخراج إذا رجعت إليه يفيدك ذلك ثم المصنف منع تعدد السبب وجعل السبب فيهما معا الأرض ولا مانع أن يتعلق بالسبب الواحد وهو الأرض هنا وظيفتان مع أن العمومات تقتضيه مثل قوله عليه الصلاة والسلام ما سقت السماء ففيه العشر فإنه يقتضي أن يؤخذ مع الخراج إن كان ولأن تعدد الحكم واتحاده بتعدد السبب واتحاده وسبب كل من الخراج والعشر الأرض النامية إلا أنه يعتبر النماء في العشر تحقيقا لأنه اسم إضافي فما لم يتحقق خارج لا يتحقق عشره وفي الخراج تقديرا ولهذا يضافان إليها فيقال خراج الأرض وعشر الأرض والإضافة دليل السببية وكون الأرض مع النماء التقديري غير الأرض مع التحقيقي مخالفة اعتبارية لا حقيقية فالأرض النامية هي السبب وإذا اتحد السبب اتحد الحكم وصار كزكاة التجارة والسائمة فإن السبب واحد بالذات وهو الغنم مثلا وهو مع ذلك لا يقال الغنم مع السوم غيرها مع قصد التجارة فيجب كل منهما لتعدد السبب وأما قوله ولأن الخراج يجب في الأرض إذا فتحت عنوة وقهرا والعشر في الأرض إذا أسلم أهلها عليها ولازم الأول الكره ولازم الثاني الطوع وهما متنافيان فلا يجتمعان فمعلوم أن بعض صور الخراج يكون مع الفتح عنوة وهو ما إذا أقر أهلها عليها وكذا بعض صور العشر وهو ما إذا فتحها عنوة وقسمها بين الغانمين كما أن بعض صور الخراج لا يكون مع العنوة والقهر بل للصلح أو بأن أحياها وسقاها بماء الأنهار الصغار أو كانت قريبة من أرض الخراج على الخلاف ومع ذلك فالذي يغلب على الظن أن الراشدين من عمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين لم يأخذوا عشرا من أرض الخراج وإلا لنقل كما نقل تفاصيل أخذهم الخراج بهذا تقتضي العادة وكونهم فوضوا الدفع إلى الملاك في غاية البعد أرأيت إذا كان العشر وظيفة في الأرض التي وظف فيها فيها الخراج على أهل الكفر هل يقرب أن يتولوا أخذ وظيفة ويكلوا الأخرى إليهم ليس لهذا معنى وكيف وهم كفار لا يؤمنون على أدائه من طيب أنفسهم وإذا كان الظن عدم أخذ الثلاثة صح دليلا بفعل الصحابة خصوصا الخلفاء الراشدين ويكون إجماعا
____________________
(6/42)
وذكر الإسبيجابي لا يجتمع الأجر والضمان عندنا والعقر والحد والجلد والنفي وكذا الرجم مع الجلد وزكاة التجارة مع صدقة الفطر والشافعي يوافق في الجلد مع الرجم وما سواه يجمع وكذا الزكاة مع أحدهما أي العشر والخراج خلافا للشافعي وصورته إذا اشترى أرض عشر أو خراج بقصد التجارة عليه العشر أو الخراج وليس عليه زكاة التجارة عندنا وإنما لم يعكس لأن العشر والخراج ألزم للأرض بخلاف الزكاة فإنه يشترط فيها ما لا يشترط فيهما قوله ولا يتكرر الخراج بتكرر الخارج في سنة لأن عنر رضي الله عنه لم يوظفه مكررا في سنة بتكرر الخارج على الطريقة التي قدمناها وقد يوازي بها تعلق الخراج بالتمكن فيستويان فالخراج له شدة من حيث تعلقه بالتمكن وله خفة باعتبار عدم تكرره في السنة ولو زرع فيها مرارا والعشر له شدة وهو تكرره بتكرر خروج الخارج وخفة بتعلقه بعين الخارج فإذا عطلها لا يؤخذ بشيء فإن أثبتت الخفة للعشر مطلقا باعتبار الأغلب وهو عدم تكرر الزرع في العام قلنا وكذلك ليس في الغالب أن تعطل الأرض من الزراعة بالكلية ويؤخذ الخراج من أرض المرأة والصبي والأراضي الموقوفة لأن وقفها إخراج من مستحق إلى مستحق وبذلك لا يبطل الخراج كالبيع والهبة وينبغي أن يطالب بذلك الناظر & باب الجزية
هذا هو الضرب الثاني من الخراج وقدم الأول لقوته إذ يجب أسلموا أو لم يسلموا بخلاف الجزية
____________________
(6/43)
لا يلزمون بها إلا إذا لم يسلموا ولأنه حقيقة الخراج لأنه إذا أطلق الخراج فإنما يتبادر خراج الأرض ولا يطلق على الجزية إلا مقيدا فيقال خراج الرأس وعلامة المجاز لزوم التقييد وتجمع الجزية على جزى كلحية ولخى وهي في اللغة الجزاء وإنما بنيت على فعلة للدلالة على الهيئة وهي هيئة الإذلال عند الإعطاء على ما سيعرف وهي على ضربين جزية توضع بالتراضي والصلح عليها فتتقدر بحسب ما عليه الاتفاق فلا يزاد عليه تحرزا عن الغدر وأصله صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران وهم قوم نصارى بقرب اليمن على ألفي حلة في العام على ما في أبي داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والنصف في رجب انتهى وصالح عمر رضي الله عنه نصارى بني تغلب على أن يؤخذ من كل منهم ضعف ما يؤخذ من المسلم من المال الواجب فلزم ذلك وتقدم تفصيله في الزكاة هذا وقد قال أبو يوسف في كتاب الخراج وأبو عبيدة في كتاب الأموال في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران بعد أن قال على ألفي حلة كل حلة أوقية يعني قيمتها أوقية وقول الولوالجي كل حلة خمسون درهما ليس بصحيح لأن الأوقية أربعون درهما والحلة ثوبان إزار ورداء وتعتبر هذه الحلل في مقابلة ما يؤخذ من رءوسهم وأراضيهم قال أبو يوسف ألفا حلة على أراضيهم وعلى جزية رءوسهم تقسم على رءوس الرجال الذين لم يسلموا وعلى كل أرض من أراضي نجران وإن كان بعضهم قد باع أرضه أو بعضها من مسلم أو ذمي أو تغلبي والمرأة والصبي في ذلك سواء في أراضيهم وأما جزية رؤوسهم فليس على النساء والصبيان يعني أن ما وقع عليه الصلح يؤخذ سواء باع بعضهم أرضه أو لم يبع ثم إذا باع أرضه يؤخذ ما وقع عليه الصلح على حاله ويؤخذ الخراج من المشتري المسلم وعشران من التغلبي المشتري وقول المصنف على ألف ومائتي حلة غير صحيح وكذا قوله بني نجران فإن نجران اسم أرض من حيز اليمن لا اسم أبي قبيلة فلذا كان الثابت
____________________
(6/44)
في الحديث أهل نجران و الضرب الثاني جزية يبتدئ الإمام بتوظيفها إذا غلب على الكفار ففتح بلادهم وأقرهم على أملاكهم فهذه مقدرة بقدر معلوم شاءوا أو أبوا رضوا أو لم يرضوا فيضع على الغني في كل سنة ثمانية وأربعين درهما بوزن سبعة يأخذ من أحدهم في كل شهر أربعة دراهم وعلى أوسط الحال أربعة وعشرين درهما في كل شهر درهمين وعلى الفقير المعتمل اثنى عشر درهما في كل شهر درهما واحدا وقال الشافعي يضع على كل حالم أي بالغ دينارا أو أثنى عشر درهما وقال بعض مشايخهم الإمام مخير بينهما والدينار في القواعد الشرعية بعشرة إلا في الجزية فإنه يقابل باثنى عشر درهما لأن عمر قضى بذلك وعند عامة أصحابهم لا يعتبر الدينار إلا بالسعر والقيمة ويستحب للإمام أن يماسكهم حتى يأخذ من المتوسط دينارين ومن الغني أربعة دنانير وقال مالك رحمه الله يؤخذ من الغني أربعون درهما أو أربعة دنانير ومن الفقير عشرة دراهم أو دينار وقال الثوري وهو رواية عن أحمد هي غير مقدرة بل تفوض إلى رأي الإمام لأنه عليه الصلاة والسلام أمر معاذا بأخذ الدينار وصالح هو عليه الصلاة والسلام نصارى نجران على ألفي حلة وعمر جعل الجزية على ثلاث طبقات كما هو قولنا وصالح بني تغلب على ضعف ما يؤخذ من المسلمين فهذا يدل على أنه لا تقدير فيها بشيء معين بل مفوض إلى رأي الإمام حتى لو نقص عن الدينار جاز وعن أحمد روايتان أخريان إحداهما كقولنا والأخرى كقول الشافعي وجه قوله ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة ومن كل حالم دينارا أو عدله معافر من غير فصل بين غني وفقير قال الترمذي حديث حسن وذكر أن بعضهم رواه عن مسروق عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا قال وهو أصح ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه فهذا كما ترى ليس فيه ذكر الحالمة وفي مسند عبد الرزاق حدثنا معمر وسفيان الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى أن قال ومن كل حالم أو حالمة دينار أو عدله معافر وكان معمر يقول هذا غلط ليس على النساء شيء وفيه طرق كثيرة فيها ذكر
____________________
(6/45)
الحالمة وقال أبو عبيد وهذا والله أعلم فيما نرى منسوخ إذ كان في أول الإسلام نساء المشركين وولدانهم يقتلون مع رجالهم ويستضاء لذلك بما روى الصعب بن جثامة أن خيلا أصابت من أبناء المشركين فقال عليه الصلاة والسلام هم من آبائهم ثم أسند أبو عبيد عن الصعب بن جثامة قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين أنقتلهم معهم قال نعم فإنهم منهم ثم نهى عن قتلهم يوم خيبر والعدل بالفتح المثل من خلاف الجنس وبالكسر المثل من الجنس والمعافري ثوب منسوب إلى معافر بني مرة ثم صار اسما للثوب بلا نسبة ذكره في المغرب وفي الفوائد الظهيرية معافر حي من همدان تنسب إليه هذه الثياب المعافرية وهذا ذكره ابن فارس في المجمل وفي الجمهرة لابن دريد المعافر بفتح الميم موضع باليمن تنسب إليه الثياب المعافرية وفي غريب الحديث للقتبى البرد المعافري منسوب إلى معافر من اليمن وفي الجمهرة قال الأصمعي ثوب معافر غير منسوب فمن نسب فهو خطأ عنده ولأن الجزية إنما وجبت بدلا عن القتل ولهذا لم تجب على من لم يجز قتله بسبب الكفر كالذراري والنساء وهذا المعنى ينتظم فيه الغني والفقير لأن كلا منهم يقتل قوله ومذهبنا منقول عن عمر وعثمان وعلي ذكره الأصحاب في كتبهم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجه حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف إلى السواد فمسحا أرضها ووضعا عليها الخراج وجعلا الناس ثلاث طبقات على ما قلنا فلما رجعا أخبراه بذلك ثم عمل عثمان كذلك ثم عمل علي كذلك وروى ابن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر عن الشيباني عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي قال وضع عمر بن الخطاب في الجزية على رءوس الرجال على الغني ثمانية وأربعين درهما وعلى المتوسط أربعة وعشرين وعلى الفقير أثنى عشر درهما وهو مرسل ورواه ابن زنجويه في كتاب الأموال حدثنا أبو نعيم حدثنا مندل عن الشيباني عن أبي عون عن المغيرة بن شعبة أن عمر وضع إلى آخره وطريق آخر رواه ابن سعد في الطبقات إلى أبي نضرة أن عمر وضع الجزية على أهل الذمة فيما فتح من البلاد فوضع على الغني إلى آخره ومن طريق آخر أسنده أبو عبيد القاسم بن سلام ألى حارثة بن مضرب عن عمر أنه بعث عثمان بن حنيف فوضع عليهم ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثنى عشر وقد كان ذلك بحضرة الصحابة بلا نكير فحل محل الإجماع ثم عارض المصنف معناه بقوله ولأنه أي الجزية وجب نصرة للمقاتلة أي خلفا عن نصرة مقاتلة أهل الدار لأن من هو من أهل دار الإسلام عليه نصرتهم وقد فاتت بميلهم إلى أهل الدار المعادين لنا لإصرارهم على الكفر ولهذا صرفت إلى المقاتلة ووضعت على الصالحين للقتال الذين يلزمهم القتال لو كانوا مسلمين فتختلف باختلاف حالهم لأن نصرة الغني لو كان مسلما فوق نصرة المتوسط والفقير فإنه كان ينصر راكبا ويركب معه غلامه والمتوسط راكبا فقط والفقير راجلا وهذا معنى
____________________
(6/46)
قول المصنف وذلك أي النصرة يتفاوت بكثرة الوفر وقلته فكذا ما هو بدله يعني الجزية وإلحاقا بخراج الأرض فإنه وجب على التفاوت فأورد عليه لو كانت خلفا عن النصرة لزم أن لا تؤخذ منهم لو قاتلوا مع المسلمين سنة متبرعين أو بطلب الإمام منهم ذلك والحال أنها تؤخذ منهم مع ذلك أجيب بأن الشارع جعل نصرتهم بالمال وليس للإمام تغيير المشروع وتحقيقه أن النصرة التي فاتت نصرة المسلمين فنصرة الإسلام فاتت بالكفر فأبدلت بالمال وليس نصرتهم في حال كفرهم تلك النصرة الفائتة فلا يبطل خلفها نعم سيجيء ما يفيد أن الجزية خلف عن قتلهم والوجه أنها خلف عن قتلهم ونصرتهم جميعا قال وما رواه من وضع الدينار على الكل محمول على أنه كان صلحا فإن اليمن لم تفتح عنوة بل صلحا فوقع على ذلك وقلنا ولأن أهل اليمن كانوا أهل فاقة والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم ففرض عليهم ما على الفقراء يدل على ذلك ما روى البخاري عن أبي نجيح قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار قال جعل ذلك من قبل اليسار هذا ثم اختلف في المراد من الغني والمتوسط والفقير فقيل إن كان له عشرة آلاف درهم فهو موسر ومن كان له مائتان فصاعدا ما لم يصل إلى العشرة فمتوسط ومن كان معتملا فهو مكتسب وعن بشر بن غياث من كان يملك قوته وقوت عياله وزيادة فموسر وإن ملك بلا فضل فهو التوسط ومن لم يكن له قدر الكفاية فهو المعتمل أي المكتسب وقال الفقيه أبو جعفر ينظر إلى عادة كل بلد في ذلك ألا ترى أن صاحب خمسين ألفا ببلخ يعد من المكثرين وفي البصرة وبغداد لا يعد مكثرا وذكره عن أبي نصر محمد بن سلام ويعتبر وجود هذه الصفات في آخر السنة والمعتمل المكتسب والاعتمال الاضطراب في العمل وهو الاكتساب وقيد بالاعتمال لأنه لو كان مريضا في نصف السنة فصاعدا لا يجب عليه شيء أما لو يعمل وهو قادر فعليه الجزية
____________________
(6/47)
كمن عطل الأرض قوله وتوضع الجزية على أهل الكتاب اليهود ويدخل فيهم السامرة فإنهم يدينون بشريعة موسى صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يخالفونهم في فروع والنصارى ويدخل فيهم الفرنج والأرمن لقوله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وأما الصابئون فعلى الخلاف من قال هم من النصارى أو قال هم من اليهود فهم من أهل الكتاب ومن قال يعبدون الكواكب فليسوا من الكتابيين بل كعبدة الأوثان وفي فتاوى قاضيخان وتؤخذ أي الجزية من الصابئة عند أبي حنيفة خلافا لهما وأطلق في أهل الكتاب فشمل أهل الكتاب من العرب والعجم وأما المجوس عبدة النار ففي البخاري ولم يكن عمر رضي الله عنه أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر وهذا قول المصنف ووضع عليه الصلاة والسلام الجزية على المجوس وهجر بلدة في البحرين قوله وعبدة الأوثان بالجر أي وتوضع على عبدة الأوثان من العجم وفيه خلاف الشافعي هو يقول القتال واجب لقوله تعالى { وقاتلوهم } إلا أنا عرفنا جواز تركه إلى الجزية في حق أهل الكتاب بالقرآن أعني ما تلوناه من قوله تعالى { حتى يعطوا الجزية } وفي المجوس بالخبر الذي ذكرناه في الصحيح البخاري فبقى من وراءهم على الأصل ولنا أنه يجوز استرقاقهم فيجوز ضرب الجزية عليهم بجامع أن كلا من الاسترقاق والجزية يشتمل على سلب النفس منهم أما الاسترقاق فظاهر أنه يصير منفعة نفسه لنا وكذا الجزية فإنه يكتسب ويؤدي إلى المسلمين والحال أن نفقته في كسبه فقد أدى حاجة نفسه إلينا أو بعضها فهذا المعنى يوجب تخصيص عموم وجوب القتال الذي
____________________
(6/48)
استدل به وذلك لأنه عام مخصوص بإخراج أهل الكتاب والمجوس عند قولهم الجزية كما ذكر فجاز تخصيصه بعد ذلك بالمعنى وإنما لم تضرب الجزية على النساء والصبيان مع جواز استرقاقهم لأنهم صاروا أتباعا لأصولهم في الكفر فكانوا أتباعا في حكمهم فكان الجزية على الرجل وأتباعه في المعنى إن كان له أتباع وإلا فهي عنه خاصة قوله وإن ظهر عليهم أي على من تقدم ذكرهم من أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان من العجم قبل ذلك أي قبل وضع الجزية فهم فيء وللإمام الخيار بين الاسترقاق وضرب الجزية قوله ولا توضع الجزية على عبدة الأوثان من العرب ولا المرتدين أن كفرهما يعني مشركي العرب والمرتدين قد تغلظ فلم يكونوا في معنى العجم أما العرب فلأن القرآن نزل بلغتهم فالمعجزة في حقهم أظهر فكان كفرهم والحالة هذه أغلظ من كفر العجم وأما المرتدون فلأن كفرهم بعد ما هدوا للإسلام ووقفوا على محاسنه فكان كذلك فلا يقبل من الفريقين إلا الإسلام أو السيف زيادة في العقوبة لزيادة الكفر وعند الشافعي يسترق مشركو العرب وهو قول مالك وأحمد لأن الاسترقاق إتلاف حكما فيجوز كما يجوز إتلاف نفسه بالقتل ولنا قوله تعالى { تقاتلونهم أو يسلمون } أي إلى أن يسلموا وروى عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف وذكر محمد بن الحسن عن يعقوب عن الحسن عن مقسم عن ابن عباس وقال أو القتل
____________________
(6/49)
مكان أو السيف وعنه عليه الصلاة والسلام لا رق على عربي وأخرجه البيهقي عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو كان ثابت على أحد من العرب رق لكان اليوم قال المصنف وجوابه ما قلنا يعني من أن كفره أغلظ فلا يكون له حكم الأحنف منه قوله وإذا ظهر عليهم أي على مشركي العرب والمرتدين فنساؤهم وصبيانهم فيء يسترقون لأنه عليه الصلاة والسلام استرق ذرارى أوطاس وهوازن وأبو بكر استرق بني حنيفة أسند الواقدي في كتاب الردة له في قتال بني حنيفة عن محمود بن لبيد قال ثم إن خالد بن الوليد صالحهم على أن يأخذ منهم الصفراء والبيضاء والكراع والسلاح ونصف السبي ثم دخل حصونهم صلحا فأخرج السلاح والكراع والأموال والسبي ثم قسم السبي قسمين وأقرع على القسمين فخرج سهمه على أحدهما وفيه مكتوب لله قال الواقدي وحدثنا أبو الزناد عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت قد رأيت أم محمد بن علي بن أبي طالب وكانت من سبي بني حنيفة فلذلك سميت الحنفية ويسمى ابنها محمد بن الحنفية قال وحدثني عبد الله بن نافع عن أبيه قال كانت أم زيد بن عبد الله بن عمر من ذلك السبي وحنيفة أبو حي من العرب سمي به لأن جذيمة ضربه حين التقيا فحنف رجله وضرب حنيفة يده فجذمها فسمي جذيمة وحنيفة بن نجيحة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل واعلم أن ذرارى المرتدين ونساءهم يجبرون على الإسلام بعد الاسترقاق بخلاف ذراري عبدة الأوثان لا يجبرون وأما الزنادقة قالوا لو جاء زنديق قبل أن يؤخذ فأخبر أنه زنديق وتاب تقبل توبته فإن أخذ ثم تاب لا تقبل توبته ويقتل لأنهم باطنية يعتقدون في الباطن خلاف ذلك فيقتل ولا تؤخذ منه الجزية قوله ولا جزية على امرأة وصبي وكذا على مجنون بلا خلاف لأن الجزية بدل عن قتلهم على قول الشافعي أو عن قتالهم نصرة للمسلمين على قولنا وهؤلاء ليسوا كذلك ولا على أعمى أو زمن ولا المفلوج وعن الشافعي تؤخذ منهم لاعتبارها أجرة الدار ولا تؤخذ من الشيخ الكبير
____________________
(6/50)
الذي لا قدرة له على قتال ولا كسب وعن أبي يوسف تؤخذ منه إذا كان له مال لأنه يقتل في الجملة إذا كان له رأي في الحرب وجه الظاهر أنه لا يقتل ولا يقاتل وهو المراد بقوله لما بينا والجزية بدل عنهما ويقال زمن الرجل كعلم يزمن زمانه قوله ولا على فقير غير معتمل أي الذي لا يقدر على العمل وإن أحسن حرفة وعلى قول الشافعي عليه الجزية في ذمته له إطلاق حديث معاذ رضي الله عنه وهو قوله عليه الصلاة والسلام خذ من كل حالم ولنا أن عثمان لم يوظف الجزية على فقير غير معتمل أراد بعثمان هذا عثمان بن حنيف حين بعثه عمر رضي الله عنه وروى ابن زنجويه في كتاب الأموال حدثنا الهيثم بن عدي عن عمر بن نافع قال حدثني أبو بكر العبسي صلة بن زفر قال أبصر عمر شيخا كبيرا من أهل الذمة يسأل فقال له مالك قال ليس لي مال وإن الجزية تؤخذ مني فقال له عمر ما أنصفناك أكلنا شبيبتك ثم نأخذ منك الجزية ثم كتب إلى عماله أن لا يأخذوا الجزية من شيخ كبير ولأن خراج الأرض كما لا يوظف على أرض لا طاقة لها فكذا خراج الرأس بجامع عدم الطاقة لحكمة دفع الضرر الدنيوي والحديث محمول على المعتمل بالمعنى الذي ذكرنا وبتوظيف عمر المقترن بالإجماع جمعا بين الدليلين فإن قلت ما تقدم من توظيف عمر ليس فيه المعتمل قلنا قد جاء في بعض طرقه وعلى الفقير المكتسب اثني عشر درهما أخرجه البيهقي لا يقال فنفيه عن غير المكتسب بالمفهوم المخالف ولا يقولون به لأنا نقول ليس ذلك بلازم بل جاز أن يضاف إلى الأصل وهو عدم التوظيف على من لم يذكر ثم إنما توظف على المعتمل إذا كان صحيحا في أكثر في أكثر السنة وإلا فلا جزية عليه لأن الإنسان لا يخلو عن قليل مرض فلا يجعل القليل منه عذرا وهو ما نقص عن نصف العام قوله ولا توضع على المملوك والمكاتب والمدبر وأم الولد لأنه بدل عن القتل في حقهم وعن النصرة في حقنا وعلى الاعتبار الأول تجب لأن المملوك الحربي يقتل وعلى الاعتبار الثاني لا تجب لأن المملوك عاجز عن النصرة فامتنع الأصل في حقه فامتنع الخلف لأن شرطه انتفاء الأصل وإمكانه فدار بين الوجوب وعدمه فلا تجب بالشك والوجه أن يقال إنها بدل عن القتل في حقهم وعن القتال في حقنا جميعا فلا يتحقق الثاني لما ذكرنا فلم يتحقق الموجب لانتفاء الكل بنفي الجزء وهذا لما نذكره فيما يلي هذه المسئلة وإذا كان خلفا عن المجموع فلا يحسن قوله فلا تجب بالشك بل لا تجب بلا شك ثم لا يخفى أن ذكر أم الولد ليس على ما ينبغي فإن المعلوم أن لا جزية على النساء ولعله ابن أم الولد فسقطت لفظة ابن قوله ولا يؤدي عنهم مواليهم يعني لما قلنا لا توضع عليهم جاز أن يقال إنها تؤخذ من مواليهم فيؤدون
____________________
(6/51)
عنهم فأزال هذا الاحتمال بقوله ولا يؤدي عنهم مواليهم لأنهم تحملوا الزيادة في الجزية حتى لزمهم جزية الأغنياء بسببهم فلا يؤخذ منهم عنهم شيء آخر وإلا كانوا ملزمين بجزيتين ويقرر بوجه آخر وهو أنهم تحملوا الزيادة بسببهم فكانت الجزية عنه وعنهم معنى شرعا فلا يجب شيء آخر وهذا بناء على أن غنى الملاك بهم لأنهم مال ويجرون المال بالكسب قوله ولا توضع على الرهبان جمع راهب وقد يقال للواحد رهبان أيضا وشرط أن لا يخالط الناس ومن خالط منهم عليه الجزية هكذا ذكر القدورى وذكر محمد عن أبي حنيفة أنه توضع عليهم إذا كانوا يقدرون على العمل وهو قول أبي يوسف ووجه الوضع انه الذي ضيع القدرة على العمل فصار كتعطيل أرض الخراج من الزراعة ووجه وضع الجزية عنهم أنه لا قتل عليهم إذا كانوا لا يخالطون الناس والجزية في حقهم لإسقاط القتل ولا يخفى أن هذا أصل قول الشافعي على ما تقدم أنها عندنا بدل عن نصرتهم التي فاتت بالكفر وعنده بدل عن القتل فأفاد صحة هذا الاعتبار عندنا ولكنه ليس هو المعتبر فقط بل المجموع منه ومن كونه خلفا عن نصرتهم إيانا فمتى تخلف أحدهما انتفى وجوبها وعن محمد لا جزية على السياحين قيل يجوز أنه أراد من لا يقدر على العمل منهم فيكون اتفاقا ويجوز أن يقول هو من لا يخالط الناس ومن لا يخالط الناس لا يقتل قوله ومن أسلم وعليه جزية بأن أسلم بعد كمال السنة سقطت عنه وكذا إذا مات كافرا خلافا للشافعي فيهما وكذا لو مات في أثناء السنة أو أسلم وفي أصح قولي الشافعي لا يسقط فيهما أيضا قسط ما مضى وعلى هذا الخلاف لو عمي أو زمن أو أقعد أو صار شيخا كبيرا لا يستطيع العمل أو افتقر بحيث لا يقدر على شيء له أن الجزية وجبت بدلا عن العصمة التي ثبتت للذمي بعقد الذمة كما هو قول للشافعي أو بدلا عن السكنى في دار الإسلام كما هو قول آخر له وقد وصل إليه المعوض وهو حقن دمه وسكناه إلى
____________________
(6/52)
الموت أو الإسلام وصار بذلك مستوفيا المبدل فتقرر البدل دينا في ذمته فلا يسقط بهذا العارض الذي هو موته أو إسلامه كسائر الديون من الأجره والصلح عن دم العمد فيما لو قتل رجلا عمدا فصالح على مال ثم مات قبل أدائه ولنا ما أخرجه أبو داود والترمذي عن جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس على مسلم جزية قال أبو داود وسئل سفيان الثوري عن هذا فقال يعني إذا أسلم فلا جزية عليه وباللفظ الذي فسره به سفيان الثوري رواه الطبراني في معجمه الأوسط عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أسلم فلا جزية عليه وضعف ابن القطان قابوسا وليس قابوس في مسند الطبراني فهذا بعمومه يوجب سقوط ما كان استحق عليه قبل إسلامه بل هو المراد بخصوصه لأنه موضع الفائدة إذ عدم الجزية على المسلم ابتداء من ضروريات الدين فالإخبار به من جهة الفائدة ليس كالإخبار بسقوطها في حال البقاء وهذا يخص السقوط بالإسلام والوجه يعم موته وإسلامه وبهذا الحديث ونحوه أجمع المسلمون على سقوط الجزية بالإسلام فلا يرد طلب الفرق بين الجزية وبين الاسترقاق إذ كل منهما عقوبة على الكفر ثم لا يرتفع الاسترقاق بالإسلام وكذا خراج الأرض وترتفع الجزية لأن كلا منهما محل الإجماع
____________________
(6/53)
فإن عقلت حكمة فذاك وإلا وجب الاتباع على أن الفرق بين خراج الأرض والجزية واضح إذ لا إذلال في خراج الأرض لأنه مؤنة الأرض كي تبقى في أيدينا والمسلم ممن يسعى في بقائها للمسلمين بخلاف الجزية لأنها ذل ظاهر وشنار وأما الاسترقاق فلأن إسلامه بعد تعلق ملك شخص معين برقبته فلا يبطل به حق المستحق المعين بخلاف الجزية فإنه لم يتعلق بها ملك شخص معين بل استحقاق للعموم والحق الخاص فضلا عن العام ليس كالملك الخاص قوله ولأنها أي الجزية إنما وجبت عقوبة على الكفر ولهذا سميت جزية وهي الجزاء واحد وهو يقال على الثواب بسبب الطاعة والعقوبة بسبب المعصية ولا شك في انتفاء الأول ولذا أخذت بطريق الإذلال بل هذا ضروري من الدين فتعين أنها عقوبة على معصية الكفر دنيوية لا بدل معاوضة كما ظنه فتسقط بالإسلام ولا تقام بعد الموت ولهذا لا يضرب من سبق موته إقامة حد ثبت عليه ولأن العقوبة الدنيوية لا تكون إلا لدفع شره في الدنيا بحسب ما يكون ذلك الشر والشر الذي يتوقع بسبب الكفر الحرابة والفتنة عن الدين الحق وقد اندفع بالموت والإسلام وهذا لا ينافي كونها بدلا أي خلفا عن النصرة لنا فكانت عقوبة دنيوية على كفره الذي هو سبب لحرابته دفعا لها بإضعافه بأخذها منه وبدلا عن نصرته الفائتة بكفره وإذا كانت خلفا أيضا عن النصرة انتفت بالإسلام لأن شرط الخلف عدم القدرة على الأصل وقد قدر عليها بالإسلام وأما قوله إنها بدل عن
____________________
(6/54)
العصمة فهي ثابتة بالآدمية على ما تقدم من ثبوتها ضرورة تمكنه من فعل ما كلف به أو لظهور خلافه منه فلا يكون ثبوتها بقبول الجزية وقوله بدلا عن السكنى قلنا أن الذمى يسكن ملك نفسه فلا تكون اجرة ولانه بعقد الذمة صار من أهل الدار فلا يؤخذ منه بدل تمكنه من الاقامة بها والاحسن ترك الكلام في ابطال الأمرين فان العصمة الاصلية زالت بالكفر وهذه عصمة متجددة بالجزية ويكفي ما ذكرنا من دلالة إنها عقوبة جزاء ثم تثبت العصمة معها لتمكن اقامتها وهذا لانها عقوبة مستمرة لاستمرار السبب وهو كفره الداعى إلى حرابته ولا يتمكن من اقامة هذه العقوبة على الاستمرار إلا بعصمته فان اجتمعت عليه الحولان تداخلت أي الجزية انث فعل الحولين لتأويله بالسنتين ولا داعى إلى ذلك من أول الأمر أو يتقدير مضاف أي جزية حولين ولفظ القدورى فيما ذكره الاقطع وان اجتمع عليه حولان وفي الجامع الصغير ومن لم يؤخذ منه خراج رأسه حتى مضت السنة وجاءت سنة أخرى لم يؤخذ منه وهذا عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يؤخذ منه فان مات عند تمام السنة لم يؤخذ منه في قلولهم جميعا وكذا ان مات في بعض السنة إما مسئلة الموت فقد ذكرناها وقيل خراج الأرض على هذا الخلاف فإذا مضت سنون لم يؤخذ منه خراج عنده وعندهما يؤخذ منه ما مضى وقيل لا تدخل فيؤخذ ما مضى بالاتفاق لهما في الخلافية وهي تداخل الجزية أن الخراج أي الجزية لانها خراج الرأس وجب عوضا والاعواض إذا اجتمعت وامكن اسيفوها على الوجه المأمور به تسوفي وقد امكن فيما نحن فيه بعد توالى السنين لانه ما دام كافرا امكن استيفاؤه على وجه الصغار والاذلال له
____________________
(6/55)
بخلاف ما إذا اسلم لانه تعذر استيفاؤه لان المسلم لا يجب اذلاله بل يجب توقيره وأنت تعلم أن كونها وجبت عوضا وكون المتحصل منها اعواضا خلاف ما تقدم وأنه بقول الشافعي اليق فان أريد بالاعواض الاجزية الواقعة عقوبة تم عليهما وجه أبي حنيفة القائل والعقوبات تتداخل حتى قلنا يتداخل كفارات الافطار في رمضان مع إنها عقوبة وعبادة غير أن المرجح فيها جهة العقوبة فكيف بالعقوبة المحضة والجزية عقوبة محضة وقوله ولهذا الخ استيضاح على إنها عقوبة يعني لو بعث بها على يد نائبة منه في اصح الروايات بل يكلف أن يأتي بها بنفسه فيعطي قائما والقابض جالس وفي رواية ياخذ بتلبية وهو ما يلي صدره من ثيابه ويقول اعط الجزية يا ذمى وقبولها من النائب يفوت المأمور به من اذلاله عند اعطاء قال تعالى { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } ووجه اخر إنها وجبت بدلا عن القتل في حقهم وعن النصرة في حقنا كما ذكرنا لكن في المستقبل يعني عن القتل في المستقبل والنصرة في المستقبل لان القتل إنما يستوفي لحراب قائم في الحال لا لحراب ماض وكذا النصرة في المستقبل لان الماضي وقعت الغنية عنه بانقضائه فانقطعت الحاجة فيه إلى شيء من الاشياء وفي المبسوط ولان المقصود ليس هو المال بل استذلال الكافر واستصغاره وهذا المقصود يحصل باستيفاء جزية واحدة ثم قول محمد في الجامع وجاءت سنة أخرى حملة بعض المشايخ على مضى السنة مجازا
____________________
(6/56)
فقال الوجوب بآخر السنة فلابد من المضي ليتحقق الإجماع في الحولين أو في الجزيتين فتتداخل وعند البعض هو مجرى على حقيقة وهو أن يراد دخول أول السنة فان مجيء الشهر بمجيء اوله ومجيء السنة بمجيء اولها والاصح هو هذا فالوجوب عندنا باول السنة وعند الشافعي رحمه الله في اخره اعتبارا بالزكاة ولنا أن ما وجبت الجزية بدلا عنه وهو النصرة والقتل لا يتحقق إلا في المستقبل على ما قررناه من أن القتل إنما يستوفي لحراب قائم في الحال دفعا للضرر عن المسلمين وبدلا من الحول ليتحقق الاسنماء فلم تجب قبله لعدم اتصافه بذلك قبله ثم اقيم الحول مقام النماء لانه الممكن منه فصار المال به ناميا تقديرا فصل لما كانت هذه الأحكام تتعلق بالذمى باعتباره غيره وما مضى باعتبار نفسه قدم تلك قوله ولا يجوز احداث بيعه بكسر الباء ولا كنيسة في دار الإسلام وهما متعبدا اليهود والنصارى ثم غلبت الكنيسة لمتعبد اليهود
____________________
(6/57)
والبيعة لمتعبد النصارى وفي ديار مصر لا يستعمل لفظ البيعة الفريقين ولفظ الدير للنصارى خاصة وقيد المصئف عموم دار الإسلام بالامصار دون القرى لان الامصار هي التي تقام فيها الشعائر فاحداثها فيها معارضة باظهار ما يخالفها فلا يجوز بخلاف القرى ثم ذكر أن في قرى ديارنا أيضا لا تحدث في هذا الزمان
ثم قال القدورى وان انهدمت البيع والكنائس القديمة اعادوها قال المصنف لان الابنية لا تبقى دائما ولما اقرهم الأمام فقد عهد اليهم الاعادة ضمنا غير انهم لا يمكنون من نقلها من مكان إلى آخر لانه احداث في ذلك المكان المنقول إليه فلا يجوز وفي هذا التعليل إشارة إلى أن ذلك إذا كان بإقرار الإمام إياهم على لك ذلك وذلك إذا صالحهم على إقرارهم على أراضيهم سواء كان إماما في زمن الصحابة والتابعين أو بعدهم قيل أمصار المسلمين ثلاثة ما مصره المسلمون كالكوفة والبصرة وبغداد وواسط فلا يجوز فيها إحداث بيعة ولا كنيسة ولا مجتمع لصلاتهم ولا صومعة بإجماع أهل العلم ولا يمكنون فيه من شرب الخمر واتخاذ الخنازير وضرب الناقوس وثانيها ما فتحه المسلمون عنوة فلا يجوز فيها احداث شيء بالإجماع وما كان فيها من شيء من ذلك هل يجب هدمه فقال مالك والشافعي في قول واحمد في رواية يجب وعندنا جعلهم ذمة أمرهم أن يجعلوا كنائسهم مساكن ويمنع من صلاتهم فيها ولكن لا تهدم وهو قول للشافعي ورواية عن احمد لان الصحابة فتحوا كثيرا من البلاد عنوة ولم يهدموا كنيسة ولا ديرا ولم ينقل ذلك قط وثالثها ما فتح صلحا فان صالحهم على أن الأرض لهم والخراج لنا حار احداثهم وان صالحهم على أن الدار لنا ويؤدون الجزية فالحكم في الكنائس على ما يوقع عليه الصلح فان صالحهم على شرط تمكين الأحداث لا يمنعهم إلا أن الأولى أن لا يصالحهم إلا على ما وقع عليه صلح عمر رضي الله عنه من عدم احداث شيء منها وان وقع الصلح مطلقا لا يجوز الأحداث ولا يتعرض للقديمة ويمنعون من ضرب الناقوس وشرب الخمر واتخاذ الخنزير بالإجماع انتهى وقوله يمنعون من شرب الخمر أي التجاهر به واظهاره وفي المحيط لو ضربوا الناقوس في جوف كنائسهم لا يمنعون انتهى وقال محمد كل قرية من قرى أهل الذمة أو مصر أو حديقة لهم اظهروا فيها شيئا من الفسق مثل الزنا والفواحش التي يحرمونها في دينهم يمنعون منه وكذا عن المزامير والطنابير والغناء ومن كسر شيئا من ذلك لم يضمن واعلم أن البيع والكنائس القديمة في السواد لا تهدم على الروايات كلها واما في الاحصار فاختلف كلام محمد فذكر في العشر والخراج تهدم القديمة وذكر في الاجارة إنها لا تهدم وعمل الناس على هذا فإنا رأينا كثيرا منها توالت عليها ائمة و أزمان وهي باقية لم يامر بهدمها امام فكان متوارثا من عهد الصحابة رضي الله عنهم وعلى هذا لو مصرنا برية فيها دير
____________________
(6/58)
أو كنيسة فوقع في داخل السور ينبغي أن لا يهدم لأنه كان مستحقا للأمان قبل وضع السور فيحمل ما في جوف القاهرة من الكنائس على ذلك لأنها كانت فضاء فأدار العبيديون عليها السور ثم فيها الآن كنائس ويبعد من إمام تمكين الكفار من إحداثها جهارا في جوف المدن الإسلامية فالظاهر أنها كانت في الضواحي فأدير السور عليها فأحاط بها وعلى هذا فالكنائس الموجودة الآن في دار الإسلام غير جزيرة العرب كلها ينبغي أن لا تهدم لأنها إن كانت في أمصار قديمة فلا شك أن الصحابة أو التابعين حين فتحوا المدينة علموا بها وبقوها وبعد ذلك ينظر فإن كانت البلدة فتحت عنوة حكمنا بأنهم بقوها مساكن لا معابد فلا تهدم ولكن يمنعون من الاجتماع فيها للتقرب وإن عرف أنها فتحت صلحا حكمنا بأنهم أقروها معابد فلا يمنعون من ذلك فيها بل من الإظهار وانظر إلى قول الكرخي إنهم إذا حضر لهم عيد يخرجون فيه صلبانهم وغير ذلك فليصنعوا في كنائسهم القديمة من ذلك ما أحبوا فأما أن يخرجوا ذلك من الكنائس حتى يظهر في المصر فليس لهم ذلك ولكن ليخرجوا خفية من كنائسهم واستدل المصنف على عدم الإحداث بقوله صلى الله عليه وسلم لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة
قال المصنف رحمه الله المراد إحداثها وهذا لأن البيعة قد تحققت كثيرا من الصحابة في الصلح وفي رواية البيهقي تصريح بذلك في سننه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا خصاء في الإسلام ولا بنيان كنيسة وضعفه ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام حدثنا عبيد الله بن صالح حدثنا الليث بن سعد حدثني توبة بن النمر الحضرمي قاضي مصر عمن أخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة قال وروى أبو الأسود عن ابن لهيعة عن يزيد بن حبيب عن أبي الخير قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا كنيسة في الإسلام ولا خصاء وروى ابن عدي في الكامل بسنده إلى عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبنى كنيسة في الإسلام ولا يبنى ما خرب منها وأعل بسعيد بن سنان وإذا تعددت طرق الضعيف يصير حسنا ثم قيل المراد بالخصاء نزع الخصيتين وقيل كناية عن التخلي عن إتيان النساء والصومعة وهو ما يبنى للتخلي عن الناس والانقطاع فيها لهم مثلها فيمنع أيضا وكذا يمنع بيت نار
والمروى عن صاحب المذهب يعني أبا حنيفة رضي الله عنه كان في قرى الكوفة لأن أكثر أهلها أهل ذمة بخلاف قرى المسلمين اليوم ولذا قال شمس الأئمة في شرحه في = كتاب الإجارات الأصح عندي أنهم يمنعون عن ذلك في السواد وإن كان هو في السير الكبير قال إن كانت قرية غالب أهلها أهل الذمة لا يمنعون واما القرية التي سكنها المسلمون اختلف المشايخ فيها على ما ذكرنا فصار إطلاق منع الإحداث هو المختار فصدق تعميم القدوري منعها في دار الإسلام قوله وفي أرض العرب يمنعون من ذلك في أمصارها وقراها فلا يحدث فيها كنيسة ولا تقر لأنهم لا يمكنون من السكنى بها فلا فائدة في إقرارها إلا أن تتخذ دار سكنى ولا يباع بها
____________________
(6/59)
خمر ولا في قرية منها ولا في ماء من مياه العرب ويمنعون من أن يتخذوا أرض العرب مسكنا ووطنا بخلاف امصار المسلمين التي ليست في جزيرة العرب يمكنون من سكناها ولا خلاف في ذلك وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم لا يجتمع دينان في جزيرة العرب اخرج إسحاق بن راهويه في مسنده أخبرنا النضر بن شميل حدثنا صالح بن أبي الأحوص حدثنا الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ورواه عبد الرزاق قال أنبأنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجتمع بأرض العرب أو بأرض الحجاز دينان ورواه في الزكاة وزاد فيه فقال عمر لليهود من كان منكم عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأت به وإلا فإني مجليكم قال فأجلاهم عمر وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك في مرض موته قال الدارقطني في علله هذا صحيح ورواه مالك في = الموطأ قال مالك قال ابن شهاب ففحص عمر عن ذلك حتى اتاه اليقين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يجتمع دينان في جزيرة العرب فأجلى يهود خيبر وأجلى يهود نجران وفدك وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وجزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول وأما العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام وسميت جزيرة لانجزار المياه التي حواليها عنها كبحر البصرة وعمان وعدن والفرات وقيل لأن حواليها بحر الحبش وبحر فارس ودجلة والفرات وقال الأزهري سميت بذلك لأن بحر فارس وبحر السودان أحاطا بجانبها الجنوبي وأحاط بالجانب الشمالي دجلة والفرات وقال المنذري في مختصره قال مالك جزيرة العرب المدينة نفسها وروى أنها الحجاز واليمن واليمامة وحكى البخاري عن المغيرة قال هي أرض مكة والمدينة قوله وتوخذ أهل الذمة بالتميز عن المسلمين في زيهم نفسهم وفي مراكبهم وسروجهم وقلانسهم وحاصل هذا أن أهل الذمة لما كانوا مخالطين لأهل الإسلام فلا بد مما يتميز به المسلم من الكافر كي لا يعامل معاملة المسلم في التوقير والإجلال وذلك لا يجوز وربما يموت أحدهم فجأة في الطريق ولا يعرف فيصلي عليه بخلاف يهود المدينة لم يأمرهم صلى الله عليه وسلم بذلك لأنهم كانوا معروفين بأعيانهم لجميع أهل المدينة ولم يكن لهم زي عال على المسلمين وإذا وجب التميز وجب أن يكون بما فيه صغار لا إعزاز لأن إذلالهم لازم بغير أذى من ضرب أو صفع بلا سبب يكون منه بل المراد اتصافه بهيئة وضيعة ولذا أمروا بالكستيجات وهو خيط غلظ الأصبع من الصوف يشده فوق
____________________
(6/60)
ثيابه دون الزنار من الإبرسيم لأن فيه جفاء بالمسلمين أي إغلاظا عليهم فهو من حسن العشرة معهم ولدفع الضرر عن ضعفة المسلمين في الدين فربما يمرقون بجهلهم فيقولون الكفار أحسن حالا منا فإنهم في خفض عيش ونعمة ونحن في كد وتعب وإليه أشار بقوله تعالى { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون } تنبيها على خسة الدنيا عند الله عز وجل وإذا منع من شد زنار وهو حاشية رقيقة من الإبرسيم فمنعهم من لباس الثياب الفاخرة التي تعد عند المسلمين فاخرة سواء كانت حريرا أو غيره كالصوف المربع والجوخ الرفيع والأبراد الرقيقة أولى ولا شك في وقوع خلاف هذا في هذه الديار ولا شك في منع استكتابهم وإدخالهم في المباشرة التي يكون بها معظما عند المسلمين بل ربما يقف بعض المسلمين خدمة له خوفا من أن يتغير خاطره منه فيسعى به عند مستكتبه سعاية توجب له منه الضرر وكذا يؤخذون بالركوب على سروج فوق الحمر كهيثة الأكف أو قريبا منه ولا يركبون الخيل بل اختار المتأخرون أن لا يركبوا أصلا إلا إذا خرجوا إلى أرض قرية أو نحوه أو كان مريضا أي إلا أن تلزم الضرورة فيركب ثم ينزل في مجامع المسلمين إذا مر بهم ولا يحملون السلاح ويضيق عليهم الطريق ولا يبدأ بالسلام ويرد عليه بقوله وعليكم فقط وإذا عرف أن المقصود العلامة فلا يتعين ما ذكر بل يعتبر في كل بلد ما يتعارفه أهله وفي بلادنا جعلت العلامة في العمامة فألزموا النصارى العمامة الزرقاء واليهود العمامة الصفراء واختص المسلمون بالبيضاء وكذا تؤخذ نساؤهم بالزي في الطرق فيجعل على ملاءة اليهودية خرقة صفراء وعلى النصرانية زرقاء وكذا في الحمامات وكذا تميز دورهم
____________________
(6/61)
عن دور المسلمين كي لا يقف سائل فيدعو لهم بالمغفرة أو يعاملهم بالتضرع كما يتضرع للمسلمين ويمنعون من لباس يخص أهل العلم والزهد والشرف وتجعل مكاعبهم خشنة فاسدة اللون ولا يلبسوا طيالسة كطيالسة المسلمين ولا أردية كأرديتهم هكذا أمروا واتفقت الصحابة على ذلك قوله ومن امتنع من أداء الجزية أو قتل مسلما أو زنى بمسلمة أو سب النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتقض عهده فيصير مباح الدم باعتبار أنه لا عهد له عندنا وقيد بأدائها لأنه لو امتنع من قبولها نقض عهده والشافعي عهده بالامتناع عن أداء الجزية وقبول احكام الإسلام ولا ينقضه بزناه بمسلمة أو أن يصيبها بنكاح أو أن يفتن مسلما عن دينه أو يقطع الطريق أو يدل على عورات المسلمين أو يقتل مسلما وهو قول مالك وأحمد إلا أن مالكا قال ينتقض بإكراه المسلمة على الزنا أو سبه عليه الصلاة والسلام أو ذكره تعالى بما لا ينبغي فإنه يقتله به إن لم يسلم ووافقه في هذا الشافعي في قول وأحمد في رواية وللشافعي أيضا فيما إذا ذكره تعالى بما لا ينبغي أو سبه عليه الصلاة والسلام قولان آخران أحدهما لا ينتقض والآخر ينتقض وجه قوله هذا أنه بذلك ينتقض إيمانه لو كان مسلما فينتقض به أمانه إذ عقد الذمة خلف عن الإيمان في إفادة الأمان فما ينقض الأصل ينقض الخلف الأدنى بالطريق الأولى وروى أبو يوسف عن حفص بن عبد الله عن ابن عمر أن رجلا قال له سمعت راهبا سب النبي صلى الله عليه وسلم فقال له لو سمعته لقتلته إنا لم نعطهم العهود على هذا قال المصنف ولنا أن سب النبي صلى الله عليه وسلم كفر من الذمي كما هو ردة من المسلم والكفر المقارن لعقد الذمة لا يمنع عقد الذمة في الابتداء فالكفر الطارئ لا يرفعه في حال البقاء بطريق أولى يؤيده ما روى عن عائشة رضي الله عنها أن رهطا من اليهود دخلوا عليه صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليك فقال وعليكم قالت ففهمتها وقلت عليكم السام واللعنة فقال صلى الله عليه وسلم مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله قالت فقلت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا قال صلى الله عليه وسلم قد قلت وعليكم ولا شك أن هذا سب منهم له صلى الله عليه وسلم ولو كان نقضا للعهد لقتلهم لصيرورتهم حربيين قالوا وحديث ابن عمر إسناده ضعيف وجاز أن يكون قد شرط عليهم أن لا يظهروا سبه صلى الله عليه وسلم والذي عندي أن سبه صلى الله عليه وسلم أو نسبة ما لا ينبغي إلى الله تعالى إن كان مما لا يعتقدونه كنسبة الولد إلى الله تعالى وتقدس عن ذلك إذا أظهره يقتل به وينتقض عهده وإن لم يظهر ولكن عثر عليه وهو يكتمه فلا وهذا لأن دفع القتل والقتال عنهم بقبول الجزية الذي هو المراد بالإعطاء مقيد بكونهم صاغرين أذلاء بالنص ولا خلاف أن المراد استمرار ذلك لا عند مجرد القبول وإظهار ذلك منه ينافي قيد قبول الجزية دافعا لقتله لأنه الغاية في التمرد وعدم الالتفات والاستخفاف بالإسلام والمسلمين فلا يكون جاريا على العقد الذي يدفع عنه القتل وهو أن يكون صاغرا ذليلا وأما اليهود المذكورون في حديث عائشة فلم يكونوا أهل ذمة بمعنى إعطائهم الجزية بل كانوا أصحاب موادعة بلا مال يؤخذ منهم دفعا لشرهم إلى أن أمكن الله منهم لأنه لم توضع جزية قط على اليهود المجاورين من قريظة والنضير وهذا البحث منا يوجب أنه إذا استعلى على
____________________
(6/62)
المسلمين على وجه صار متمردا عليهم حل للامام قتله أو يرجع إلى الذل والصغار قوله ولا ينتقض عهده إلا أن يلحق بدار الحرب أو يغلبوا أي أهل الذمة على موضع قرية أو حصن فيحاربوننا لانهم بكل من الحصلتين صاروا حربا علينا وعقد الذمة ما كان إلا لدفع شر حرابتهم فيعرى عن الفائدة فلا يبقى وإذا انتقض عهده فحكمه حكم المرتد معناه في الحكم بموته باللحاق لانه التحق بالاموات وإذا تاب تقبل توبته وتعود ذمته ولا يبطل امان دريته بنقض عهده وتبين منه زوجته الذمية التي خلفها في دار الإسلام اجماعا ويقسم ماله بين ورثته وكذا في حكم ما حمله من ماله إلى دار الحرب بعد النقض ولو ظهر على الدار يكون فيئا لعامة المسلمين كالمرتد إذا التحق بمال ولو لحق بدار الحرب ثم عاد إلى دار الإسلام واخذ من ماله وادخله دار الحرب ثم ظهر على الدار فالورثة احق به قبل القسمة مجانا وبعد القسمة بالقيمة لان الملك لهم حين اخذه فان عاد بعد الحكم باللحاق ففي رواية يكون فيئا وفي رواية لا ولا يبعد أن يقال انتقاله إلى المكان الذي تغلبوا فيه كانتقاله إلى دار الحرب أن لم تكن متاخمة لدار الإسلام بالاتفاق وان كانت على قولها وقوله إلا انه لو اسير يسترق استثناء من قوله هو بمنزلة المرتد بخلاف المرتد إذا لحق ثم ظهر على الدار فاسر لا يسترق بل يقتل إذا لم يسلم وكذا يجوز وضع الجزية عليه إذا عاد بعد نقضه وقبلها لانه ما كان التزم بالذمة الإسلام بل احكامه فجاز أن يعود إلى الذمة بخلاف المرتد التزم الإسلام فلا بد أن يعود اليه إما إذا لم يعد ولم يقبلها حتى اخذ بعد الظهور فقد استرق فلا يتصور منه جزية والله الموفق فصل
افرد احكام نصارى بني تغلب بفضل لان حكمهم مخالف لسائر النصارى وتغلب بن وائل من العرب
____________________
(6/63)
من ربيعة تنصروا في الجاهلية فلما جاء الإسلام ثم زمن عمر دعاهم عمر رضي الله عنه إلى الجزية فابوا وانفوا وقالوا نحن عرب خذ منا كما ياخذ بعضكم من بعض الصدقة فقال لا اخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة يا امير المؤمنين أن القوم لهم باس شديد وهم عرب بانفون من الجزية فلا تعن عليك عدوك بهم وخذ منهم الجزية باسم الصدقة فبعث عمر رضي الله عنه في طلبهم وضعف عليهم فاجمع الصحابة على ذلك ثم الفقهاء وفي رواية أبي يوسف بسنده إلى داود بن كردوس عن عبادة بن النعمان التغلبي انه قال لعمر رضي الله عنه أن بني تغلب الحديث إلى أن قال فصالحهم عمر رضي الله عنه على أن لا يغمسوا أحدا من أولادهم في النصرانية ويضاعف عليهم في الصدقة وعلى أن يسقط الجزية من رؤوسهم ففي كل أربعين شاة لهم شاتان ولا زيادة حتى تبلغ مائة وعشرين ففيها اربع شياه وعلى هذا في البقر والابل ثم اختلف الفقهاء هل هي جزية هل هي جزية على التحقيق من كل وجه أولا فقيل من كل وجه فلا يؤخذ من المرأة والصبي فلو كان للمرأة ونقود ماشية لا يؤخذ منها شيء وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة قال الكرخي وهذه الرواية اقيس وهو قول الشافعي لان الواجب بكتاب الله تعالى عليهم الجزية فإذا صالحوهم على مال جعل واقعا موقع المستحق يؤيده قول عمر رضي الله عنه هذه جزية سموها ما شئتم وقال اصحابنا هو وان كان جزية في المعنى فهو واجب بشرائط الزكاة واسبابها إذ الصلح وقع على ذلك ولهذا لا يراعي فيه شرائط الجزية من وصف الصغار فيقبل من النائب ويعطي جالسا أن شاء ولا يؤخذ بتلبيته والمصرف مصالح المسلمين لانه مال بيت المال وذلك لا يخص الجزية والمرأة من اهله ومن أهل ما يجب من المال بالصلح فيؤخذا منها لخلاف الصبي والمجنون لا يؤخذ من مواشيهم وأموالهم لعدم وجود الزكاة عليهم عندنا بخلاف أرضهم فيؤخذ خراجها لانه وظيفة الأرض وليس عبادة لتخص البالغين
____________________
(6/64)
كنفقة عبيدهم وحاصل ما ذكرنا يفيد انه روعى في هذا المأخوذ جهة الجزية في المصرف وفيما سوى ذلك روعى جهة الزكاة إما الأول فلأنه حقيقة الجزية واما الثاني فلأن ما وقع عليه الصلح لا يغير وهذه الجزية التي وجبت بالصلح وقد علمت أن الجزية قسمان قسم يجب بالصلح فيتعين على الوجه الذي وقع عليه الصلح كيفما وقع والذي يراعي فيه من وجب عليه وصفه وكميته هو الجزية التي يبتدئ الأمام وضعها شاءوا أو ابوا على ما تقدم قوله ويوضع على مولى التغلبي أي معتقه الخراج أي الجزية وخراج الأرض وقال زفر يضاعف عليه ما يؤخذ من المسلمين كالتغلبي نفسه لقوله عليه الصلاة والسلام مولى القوم منهم وهذا الحديث استدللنا به في الزكاة على حرمان مولى الهاشمي الزكاة فكذا استدل به على التضعيف على مولى التغلبي وجميع الاحاديث المذكورة في هذا الفصل تقدم الكلام عليها في كتاب الزكاة من هذا الكتاب ولنا أن هذا أي وضع الصدقة المضاعفة تخفيف إذ لم يكن فيه وصف الصغار والذلة برغبتهم في ذلك واشتشقاقهم ما سواه والمولى لا يلحق بالاصل فيه أي في التخفيف إلا ترى أن الإسلام اعلى اسباب التخفيف ولو كان لمسلم مولى نصراني وضعت عليه الجزية ولم يتعد اليه التخفيف الثابت بالإسلام فلأن لا يتعدى التخفيف الثابت بوصف التغلبية اولى بخلاف حرمة الصدقات على الهاشمي لانه ليس تخفيفا بل تحريم والحرمات تثبت بالشبهات فالحق مولى الهاشمي به وينقض
____________________
(6/65)
بمولى الغنى تحرم الصدقة على متعقه ولم تتعد اليه فقال لا يلزم لان الغني من أهل الصدقة في الجملة إلا ترى انه لو كان عاملا عليها اعطى كفايته منها وانما الغني مانع من الاسقاط عن المعطى له شرعا تحقق في حق سيده ولم يتحقق في مولى فخص السيد إما الهاشمي فليس بأهل لهذه الصلة أصلا وكرامته لا تساخها ولذا لا يعطي منها لو كان عاملا فألحق به مولاه لان التكريم أن لا ينسب اليه تلك الاوساخ بنسبة فان قلت هذا تقديم للمعنى على النص وهو قوله صلى الله عليه وسلم مولى القوم منهم اجيب بان الحديث غير مجرى على عمومه بالإجماع فان مولى الهاشمي لا ينزل منزلته في الكفاءة للهاشمية والامامة فكان عاما مخصوصا بالنسبة إلى الكفاءة والامامة فيخص بالمعنى الذي ذكرناه أيضا وهو انه تخفيف فلا يتعدى بالنسبة للتضعيف إلى المولى الاسفل بدليل التخفيف بالإسلام لم يتعد إلى المولى فيختص كون المولى منهم بما فيه دفع نقيضة لما أن نقيضة المولى الاسفل تنتسب إلى مولاه ووجه اخر بان القياس أن لا يكون المولى منهم ولا ملزوما لاحكامهم لانه ليس منهم حقيقة وقد ورد الحديث به في منع الزكاة وهو ما روى انه صلى الله عليه وسلم استعمل ارقم بن ارقم على الصدقات فاستتبع ابا رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصدقة لا تحل لمحمد ولالال محمد وان مولى القوم منهم فإذا علم عدم عمومه فليخص بسببه وهو الزكاة واما الجواب بان قيل لم يوافق زفر أحد من الفقهاء فقيل بل قوله مروى عن الشعبي قوله وما جباه الأمام من الخراج ومن اموال بني تغلب وما اهداه أهل الحرب إلى الإمام
____________________
(6/66)
والجزية يصرف في مصالح المسلمين كسد الثغور وهي مواضع يخاف هجوم العدو فيها من دار الإسلام وبناء القناطر والجسور وهي ما توضع وترفع فوق الماء ليمر عليه بخلاف القنطرة يحكم بناؤها ولا ترفع ويعطي قضاة المسلمين وعمالهم وعلماؤهم منه ما يكفيهم وتدفع منه ارزاق المقاتلة وذراريهم فانه تجب نفقتهم عليهم فلو لم يكفوها من بيت المال اشتغلوا بالكسب وتركوا الاستعداد للدفع وهذا لانه مال بيت المال لأنه وصل إلى المسلمين من غير قتال وما كان كذلك فهو مال بيت المال بخلاف الحاصل بسبب القتال فإنه يقسم بين الغانمين ولا يوضع في بيت المال وإذا كان مال بيت المال يصرف في مصالح المسلمين وهؤلاء عمالهم وزاد المصنف في التجنيس في علامة السيد أبي شجاع أنه يعطى ايضا للمعلمين والمتعلمين وبهذا تدخل طلبة العلم بخلاف المذكور هنا لأنه قبل أن يتأهل عامل لنفسه لكن ليعمل بعده للمسلمين قوله ومن مات في نصف السنة فلا شيء له من العطاء لأنه نوع صلة وليس بدين ولكونه صلة سمى عطاء فلا يملك قبل القبض فلا يورث ويسقط بالموت وهذا لأنه مات قبل تأكد حقه بمجيء وقت المطالبة والحق الضعيف لا يجرى فيه الارث كسهم الغازي في دار الحرب لا يورث بخلاف ما إذا تأكد سهمه بعد الاحراز بدار الإسلام قبل القسمة فإنه يورث على ما أسلفناه وتقييد محمد رحمه الله في = الجامع الصغير بنصف السنة ربما يشعر بأنه إذا مات آخرها يعطى ورثته وقالوا لا يجب ايضا ولكن يستحب لأنه اولى عناءه أي تعبه في عمله للمسلمين فيستحب أن يعطى وعلل شمس الأئمة عدم وجوب اعطائه بعد ما تمت السنة ايضا بما ذكرنا في نصفها فأفاد انه لم يتأكد الحق بعد ما تمت السنة ايضا معولا على أنه صلة فلا يملك قبل القبض وهذا يقتضي قصر الارث على حقيقة الملك والوجه يقتضي وجوب دفعه لورثته لان حقه تأكد بإتمام عمله في السنة كما قلنا انه يورث سهم الغازي بعد الاحراز بدار الإسلام لتأكد الحق حينئذ وان لم يثبت له ملك وقول فخر الإسلام في شرح = الجامع الصغير وانما خص نصف السنة لان عند آخرها يستحب أن يصرف ذلك إلى ورثته فأما قبل ذلك فلا إلا على قدر عنائه يقتضي أن يعطي حصته من العام ثم قيل رزق القاضي ومن في معناه يعطي في اخر السنة ولو اخذ في اولها ثم مات أو عزل قبل مضيها قيل
____________________
(6/67)
يجب رد ما بقي وقيل على قياس تعجيل المرأة النفقة لا يجب وقال محمد أحب إلى رد الباقي كما لو عجل لها نفقة ليتزوجها فمات قبل الزوج لعدم حصول المقصود وعندهما هو صلة من وجه فينقطع حق الاسترداد بالموت كالرجوع في الهبة ذكره في جامعي قاضيخان والتمرتاشي والعطاء هو ما يثبت في الديوان باسم كل ممن ذكرنا من المقاتلة وغيرهم وهو كالجامكية في عرفنا إلا إنها شهرية والعطاء سنوي & باب احكام المرتدين
لما فرغ من بيان احكام الكفر الأصلى شرع في بيان أحكام الكفر الطارئ والمرتد هو الراجع عن دين الإسلام قوله وإذا ارتد المسلم عن الإسلام والعياذ بالله عرض عليه الإسلام فام كانت له شبهة ابداها كشفت عنه لانه عساه اعترته أي عرضت له شبهة فتزاح عنه وفيه دفع شره بأحسن الأمرين وهما القتل والاسلام واحسنهما الإسلام ولما كان ظاهر كلام القدورى وجوب العرض قال إلا أن العرض على ما قالوا أي المشايخ غير واجب بل مستحب لان الدعوة قد بلغته وعرض الإسلام هو الدعوة اليه ودعوة من بلغته الدعوة غير واجبة بل مستحبة قوله ويحبس ثلاثة ايام فان اسلم فيها وألا قتل وهذا اللفظ أيضا من القدورى يوجب وجوب الانظار ثلاثة ايام على ما عرف من الأخبار في مثله فذكر عبارة الجامع وهو قوله وفي الجامع الصغير المرتد يعرض عليه الإسلام فان أبي قتل أي مكانه فانه يفيد أن انظاره الايام الثلاثة
____________________
(6/68)
ليس واجبا ولا مستحيا وانما تعينت ثلاثة لانها مدة ضربت لابلاء الأعذار بدليل حديث حبان بن منقذ في الحيار ثلاثة ايام ضربت للتأمل لدفع الغبن وقصة موسى صلى الله عليه وسلم مع العبد الصالح أن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني وهي الثالثة إلى قوله قد بلغت من لدنى عذرا وعن عمر رضي الله عنه أن رجلا اتاه من قبل أبي موسى فقال له هل من مغربة خبر فقال نعم رجل ارتد عن الإسلام فقتلناه فقال له هلا حبستموه في بيت ثلاثة ايام واطعمتموه في كل يوم رغيفا لعلة يتوب ثم قال اللهم أني لم احضر ولم آمر ولم أرض اخرجه مالك في الموطإ لكن ظاهر تبري عمر رضي الله عنه يقتضي الوجوب ثم قال المصنف تأويل الأول وهو قول القدورى الدال على وجوب إمهال الايام الثلاثة أن يستمهل فيهمل وظاهر المبسوط الوجوب فانه قال إذا طلب التاجيل اجل ثلاثة ايام لان الظاهر انه دخل عليه شبهة فيجب علينا ازالة تلك الشبهة أو انه يحتاج إلى التفكر ليتبين له الحق فلا بد من المهلة وإذا استمهل كان على الأمام ان يمهله ومدة النظر جعلت في الشرع ثلاثة ايام كما في الخيار ثم قال في حديث عمر المذكور الدال على الوجوب تأويله انه لعلة طلب التأجيل وعن أبي حنيفة وأبي يوسف انه يستحب أن يؤجله ثلاثة ايام طلب ذلك أو لم يطلب وعن الشافعي أن على الامام أن يؤجله ثلاثة ايام ولا يحل قتله قبلها لان ارتداد المسلم يكون عن شبهة ظاهرا فلا بد من مدة يمكنه فيها التأميل فقدرناها بثلاثة ايام لما ذكرنا والصحيح من قول الشافعي انه أن تاب في الحال وألا قتل لحديث معاذ رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه من غير تقييد بانظار وهو اختيار ابن المنذر وهذا أن أريد به عدم وجوب الانظار فكمذهبنا والاستدلال مشترك ومن الأدلة أيضا قوله تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وهذا كافر حربي وان كان أريد به نفي استحباب الإمهال فنقول هذه الاوامر مطلقة وهي لا تقتضي الفور فيجوز التأخير على ما عرف ثم ثبت وجوبه بحديث عمر رضي الله عنه وقول المصنف وهذا لانه لا يجوز تأخير الواجب لامر موهوم ليس بجيد إذ يقتضي كراهة الإمهال ثلاثة ايام وهو يخالف المذهب ويخالف ما ذكرنا من أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور إلا إذا خيف الفوات فان قيل لا نسلم أن الاوامر المذكورة مطلقة بل مفيدة للعموم للفاء في قوله فاقتلوه لانها تفيد الوصل والتعقيب قلنا تلك الفاء العاطفة وهي فاء السبب
فان قيل فتفيد الوصل باعتبار أن المعلول لايتاخر عن العلة قلنا المعلول وهو الحكم الشرعي وهو ايجاب قتله لم يتأخر عن علته المثيرة له وهي كفره واما ايجاب الامتثال على الفور فشيء اخر ولا فرق في وجوب قتل المرتد بين كون المرتد حرا أو عبدا وان كان يتضمن قتله ابطال حق المولى بالإجماع واطلاق الدلائل
____________________
(6/69)
التي ذكرناها وكيفية توبته أن يتبرا عن الاديان كلها سوى دين الإسلام لانه لا دين له قيل هو أن يقول تبت ورجعت إلى دين الإسلام وأنا برئ من كل دين غير دين الإسلام قيل لكن هذا بعد أن يأتي بالشهادتين والإقرار بالبعث والنشور مستحب وبه قالت الأئمة الثلاثة ولو تبرأ عما انتقل اليه كفاه لحصول المقصود وفي شرح الطحاوى سئل أبو يوسف عن الرجل كيف يسلم فقال يقول اشهد أن لا اله إلا الله وان محمد عبده ورسوله ويقر بما جاء به من عند الله ويتبرأ من الدين الذي انتحله وإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقال ولم أدخل في هذا الدين قط وأنا برئ منه أي من الدين الذي ارتد اليه فهي توبة انتهى وقوله قط يريد يه معنى ابدا لان قط ظرف لما مضى لا لما يستقبل وفي شرح الطحاوى اسلام النصرانى أن يقول اشهد أن لا اله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله ويتبرأ من النصرانية واليهودي كذلك يتبرأ من اليهودية وكذا في كل ملة واما مجرد الشاهدتين فلا يكون مسلما لانهم يقولون بذلك غير انهم يدعون خصوص الرسالة إلى العرب فيصدق انه رسول الله ولا يتم الإسلام به وهذا فيمن بين اظهرنا منهم واما من في دار الحرب لو حمل عليه مسلم فقال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مسلم أو قال دخلت في دين الإسلام أو في دين محمد صلى الله عليه وسلم فهو دليل اسلامه فكيف إذا اتى بالشهادتين لان في ذلك الوقت ضيقا وقوله هذا انما اراد به الإسلام الذي يدفع عنه القتل الحاضر فيحمل عليه ويحكم به بمجرد ذلك فلو ارتد بعد ذلك قتلناه ولو ارتد بعد اسلامه ثانيا قبلنا توبته أيضا وكذا ثالثا ورابعا إلا أن الكرخي قال فان عاد بعد الثالثة يقتل أن لم يتب في الحال ولا يؤجل فان تاب ضربه ضربا وجيعا ولا يبلغ به الحد ثم يحبسه ولا يخرجه حتى يرى عليه خشوع التوبة وحال المخلص فحينئذ يخلي سبيله فان عاد بعد ذلك فعل به كذلك ابدا ما دام يرجع إلى الإسلام قال الكرخي هذا قول اصحابنا جميعا أن المرتد يستتاب ابدا وما ذكر الكرخي مروى في النوادر قال إذا تكرر ذلك منه يضرب ضربا مبرحا ثم يحبس إلى أن تظهر توبته ورجوعه انتهى وذلك لاطلاق قوله تعالى { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } وعن ابن عمرو وعلي رضي الله عنهم لا تقبل توبة من كرر ردته كالزنديق وهو قول مالك واحمد والليث لقوله تعالى { فإن الله غفور رحيم إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم } الاية قلنا رتب عدم المغفرة على شرط قوله تعالى { ثم ازدادوا كفرا } وفي الدراية قال في الزنديق لنا
____________________
(6/70)
روايتان في رواية في رواية لا تقبل توبته كقول مالك وأحمد وفي رواية تقبل كقول الشافعي وهذا في حق أحكام الدنيا أما فيما بينه وبين الله جل ذكره إذا صدق قبله سبحانه وتعالى بلا خلاف وما عن أبي يوسف لو فعل ذلك مرارا يقتل غيلة فسره بان ينتظر فإذا اظهر كلمة الكفر قتل قبل أن يستتاب لانه ظهر منه الاستخفاف وقتل الكافر الذي بلغته الدعوة قبل الاستتابة جائز قوله فان قتله قاتل قبل عرض الإسلام عليه أو قطع عضوا منه كره ذلك ولا شيء على القاتل والقاطع لان الكفر مبيح وكل جناية على المرتد هدر ومعنى الكراهة هنا ترك المستحب فهي كراهة تنزيه وعند من يقول بوجوب العرض كراهة تحريم وفي شرح الطحاوي إذا فعل ذلك أي القتل أو القطع بغير اذن الأمام ادب قوله واما المرتدة فلا تقتل ولكن تحبس ابدا حتى تسلم أو تموت ولو قتلها قاتل لا شيء عليه أحد حرة كانت أو امة ذكره في المبسوط ولم يذكر الضرب في الجامع الكبير ولا في ظاهر الرواية ويروي عن أبي حنيفة إنها تضرب في كل ايام وقدرها بعضهم بثلاثة وعن الحسن تضرب كل يوم تسعة وثلاثين سوطا إلى أن تموت أو تسلم ولم يخصه بحرة ولا امة وهذا قتل معنى لان موالاة الضرب تفضي اليه ولذا قلنا فيمن اجتمع عليه حدود انه لا يقام عليه الحد الثاني ما لم يبرأ من الحد السابق كي لا يصير قتلا وهو غير مستحق ثم الأمة تدفع إلى مولاها فيجعل حبسها بيت السيد سواء طلب هو ذلك ام لا في الصحيح ويتولى هو جبرها قال المصنف جمعا بين الحقين يعني حق الله تعالى وحق السيد في الاستخدام فانه لا منافاة بخلاف العبد المرتد لا فائدة في دفعه اليه لانه يقتل ولا يبقي ليمكن استخدامه ولا تسترق الحرة المرتدة ما دامت في دار الإسلام فان لحقت بدار الحرب فحينئذ تسترق إذا سبيت وعن أبي حنيفة في النوادر تسترق في دار الإسلام أيضا قيل ولو افتي بهذه لا باس به فيمن كانت ذات زوج حسما لقصدها السيء بالردة من إثبات الفرقة وينبغي أن يشتريها الزوج من الأمام أو بهما الأمام له إذا كان مصرفا لانها صارت بالردة فيئا للمسلمين لا يختص بها الزوج فيملكها وينفسخ النكاح بالردة وحينئذ يتولى هو حسبها وضربها على الإسلام فيرتد ضرر قصدها عليها قيل وفي البلاد التي استولى عليها التتر واجروا احكامهم فيها وابقوا المسلمين كما وقع في خوارزم وغيرها إذا استولى عليها الزوج بعد الردة ملكها لانها صارت دار حرب في الظاهر من غير حاجة إلى أن يشتريها من الأمام وقد أفتى الدبوسي والصفار وبعض أهل سمرقند بعدم وقوع الفرقة بالردة ردا عليها وغيرهم مشوا على الظاهر ولكن حكموا بجبرها على تجديد النكاح مع الزوج وتضرب خمسة وسبعون سوطا واختاره قاضيخان للفتوى وعند الأئمة الثلاثة تقتل المرتدة واقتصر المصنف على خلاف الشافعي قال لما روينا من قوله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه وهو حديث في صحيح البخاري وغيره قال ولان ردة الرجل مبيحة للقتل من حيث إنها جناية متغلظة هي جناية الكفر وجناية المرأة تشاركها فيها فتشاركها في موجبها
____________________
(6/71)
وهو قتل ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء كما مر في الحديث الصحيح وهذا مطلق يعم الكافرة اصليا وعارضا وثبت تعليله صلى الله عليه وسلم بالعلة المنصوصة كما قدمناه في الحديث من عدم حرابها فكان مخصصا لعموم ما رواه بعد أن عمومه مخصص بمن بدل دينه من الكفر إلى الإسلام وما ذكره المصنف من المعنى بعد هذا زيادة بيان وهو أن الأصل في الاجزية بأن تتأخر إلى دار الجزاء وهي الدار الاخرة فإنها الموضوعة للاجزية على الاعمال الموضوعة هذه الدار لها فهذه دار اعمال وتلك دار جزائها وكل جزاء شرع في هذه الدار ما هو إلا لمصالح تعود الينا في هذه الدار كالقصاص وحد القذف والشرب والزنا والسرقة شرعت لحفظ النفوس والأعراض والعقول والانساب والأموال فكذا يجب في القتل بالردة أن يكون لدفع شر حرابه لاجزاء على فعل الكفر لان جزاءه اعظم من ذلك عند الله تعالى فيختص بمن يتأتى منه الحراب وهو الرجل ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء وعلله بأنها لم تكن تقاتل على ما صح من الحديث فيما تقدم ولهذا قلنا لو كانت المرتدة ذات رأي وتبع تقتل لا لردتها بل لانها حينئذ تسعى في الأرض بالفساد وانما حبست لانها امتنعت عن أداء حق الله تعالى بعد أن أقرت به فتحبس كما في حقوق العباد وقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي رزين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا تقتل
____________________
(6/72)
النساء إذا هن ارتددن عن الإسلام ولكن يحبسن ويدعين إلى الإسلام ويجبرن عليه وفي بلاغات محمد قال بلغنا عن ابن عباس رضي الله عنهما انه قال إذا ارتدت عن الإسلام فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام فإن رجعت وألا قتلت فمضعف بمعمر بن بكار وأخرجه ايضا من طريق آخر عن جابر ولم يسم المرأة وزاد فعرض عليها الإسلام فأبت أن تسلم فقتلت وهو ضعيف بعبد الله بن أذينة قال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به بحال وقال الدار قطني في المؤتلف والمختلف انه متروك ورواه ابن عدي في = الكامل وقال عبد الله بن عطارد بن أذينة منكر الحديث وروى حديث آخر عن عائشة ارتدت امرأة يوم أحد فأمر عليه الصلاة والسلام أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت وفي سنده محمد بن عبد الملك قالوا فيه انه يضع الحديث مع أنها معارضة بأحاديث أخر مثلها وأمثل منها ما أخرجه الدار قطني عن أبي رزين عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتبتل المرأة إذا ارتدت وفيه عبد الله بن عبس الجزري قال الدارقطني كذاب يضع الحديث وأخرج ابن عدي في الكامل عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أمرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت فلم يقتلها وضعفه بحفص بن سليمان قال ابن عدي عامة ما يرويه غير محفوظ وأخرج الطبراني في معجمه حدثنا الحسن بن اسحاق التستري حدثنا هرمز بن معلي حدثنا محمد بن سلمة عن الفزاري عن مكحول عن أبي طلحة اليعمري عن أبي ثعلبه الخشني عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن ايما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فان تاب فاقبل منه وان لم يتب فاضرب عنقه وايما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فان تابت فاقبل منها وان ابت فاستتبها وتقدم رواية أبي حنيفة عن عاصم بن أبي رزين عن ابن عباس رضي الله عنهما فما أسند الدارقطني عن ابن معين انه قال كان الثوري يعيب على أبي حنيفة حديثا كان يرويه عن عاصم عن أبي رزين لم يروه أحد غير أبي حنيفة عن عاصم عن أبي رزين مدفوع بأنه أخرجه الدارقطني عن أبي مالك النخعي عن عاصم به فزال انفراد أبي حنيفة الذي ادعاه الثوري وروى عبد الرزاق عن عمر انه أمر في ام ولد تنصرت آت تباع في ارض ذات مؤنة عليها ولا تباع في أهل دينها فبيعت في دومة الجندل من غير أهل دينها واخرج الدارقطني عن علي رضي الله عنه المرتدة تستتاب ولا تقتل وضعف بخلاس قوله ويزول ملك المرتد عن املاكه زوالا مراعى أي موقوفا غير بات في الحال
____________________
(6/73)
فإن اسلم عادت امواله على حالها الأول وان مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب وحكم الحاكم بلحاقه استقر أمره فعمل السبب وهو كونه كافرا حربيا عمله مستندا إلى وقت الردة كالمشتري بشرط الخيار يثبت ملكه عند الاجازة مستندا إلى وقت البيع وجعله كخيار المجلس عند الشافعي يقتضي انه ملك بات ثم يرتفع بالخيار شرعا كالرجوع في الهبة وبه صرح بعض الشارحين حين ورد عليه أن لا معنى للزوال المراعي والموقوف لانه إما أن يزول أولا فأجاب بأنه يزول ثم يعود بالإسلام وهذا ليس واقعا وألا لم يستند إلى ما قبله كالملك الراجع بالرجوع قالوا أي المشايخ هذا عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لا يزول ملكه والاصح من قول الشافعي مثل قوله وبه قال مالك واحمد في رواية وقولهما قول آخر للشافعي وجهه انه مكلف محتاج ولا يتمكن من اقامة التكليف إلا بماله واثر الردة في اباحة دمه لا في زوال ملكه فان لم يقتل يبقى ملكه وصار كالمحكوم عليه بالرجم والقصاص لا يزول ملكه ما لم يقتل ولأبي حنيفة انه كافر حربي مقهور تحت أيدينا إلى أن يقتل والملك عبارة عن القدرة ولاستيلاء على التصرف في المأل ولا يكون ذلك إلا بالعصمة وكونه حربيا يوجب زوال ملكه ومالكيته ومقتضى هذا أن يزول في الحال على البتات إلا انه مدعو إلى الإسلام ويرجى عوده اليه لانه كان ممن دخله وعرف محاسنه وانس به نسأل الله حفظه علينا إلى الجنة بمنه وكرمه فالغالب على الظن عوده إلى الإسلام فتوقفنا في أمره فان اسلم جعل العارض كأن لم يكن في حق هذا الحكم وهو زوال الملك وصار كأن لم يزل مسلما ولم يعمل السبب عمله وان ثبت منه أحد ما قلنا عمل عمله من وقت وجوده ولا
____________________
(6/74)
يخفي أن الحرابة لا توجب انتفاء الملك بل زوال العصمة فان الحربي يملك غير أن مملوكه لا عصمة له فإذا استولى عليه زال ملكه فكون المرتد حربيا قصارى ما يقتضي زوال عصمة ماله ونفسه تبعا وهو لا ينفي قيام الملك في الحال فلا يوجب الحكم بالزوال مستندا ولهذا زاد قوله مقهورا تحت ايدينا فيكون ماله مستولى عليه واعلم أن حقيقة المراد أن بالردة يزول ملكه زوارلا باتا فان استمر حتى مات حقيقة أو حكما باللحاق استمر بالزوال الثابت من وقت الردة وان عاد عاد الملك وهما هربا من الحكم بالزوال لان الساقط لا يعود فيقول أبو حنيفة أن الردة لما اقتضت الزوال والإجماع على انه أن عاد وماله قائم كان احق به وجب أن يعمل بهما فيقول بالردة يزول ثم بالعود يعود شرعا هذا بعد اتفاقهما على عدم زوال ملكه قال الشيخ أبو نصر البغدادي أن ابا يوسف جعل تصرفه بمنزلة تصرف من وجب عليه القصاص فتصير تبرعاته من جميع المال وجعله محمد بمنزلة المريض فتعتبر من الثلث وجه قول محمد انه في معرض التلف فهو اسوأ من المريض حالا وابو يوسف يمنعه ويقول المرتد متمكن من دفع الهلاك بالإسلام والمريض غير قادر عليه قوله وان مات أو قتل على ردته أو أو حكم بلحاقه انتقل ما اكتسبه في اسلامه إلى ورثته المسلمين وكان ما اكتسبه في حال ردته فيئا لجماعة المسلمين يوضع في بيت المال وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا كلا الكسبين لورثته وقال الشافعي ومالك واحمد كلاهما فيء لأنه مات كافرا والمسلم لا يرث الكافر اجماعا فبقي مال حربي لا أمان له ولم يوجب عليه بخيل ولا ركاب فيكون فيئا ولهما أن ملكه في الكسبين بعد الردة باق على ما بيناه من انه مكلف محتاج إلى آخره فينتقل بموته إلى روثته ويستند إلى ما قبيل ردته إذ الردة سبب الموت فيكون توريث المسلم من المسلم وهذا لا ينتهض على الشافعي إلا إذا بينا لمية الاستناد وهو أن يقال أن اخذ المسلمين له إذا لم يكن له وارث بطريق الوراثة وهو يوجب الحكم باستناده شرعا إلى ما قبيل ردته وإلا كان توريث الكافر من المسلم ومحمل الحديث الكافر الاصلي الذي لم يسبق له اسلام أو نقول استحقاق المسلمين له بسبب الإسلام والورثة ساووا المسلمين في ذلك وترجحوا بجهة القرابة فكانوا كقرابة ذات جهتين بالنسبه إلى قرابة ذات جهة كالاخ الشقيق مع الأخ لأب قال تعالى { أو من }
____________________
(6/75)
كان ميتا فأحييناه ولأبي حنيفة ما قالاه في وجه التوريث إلا انه إنما يمكن في كسب الإسلام لوجوده قبل الردة وهي الموت فيستند الارث إلى ما قبله وقد قلت أن بمجرد ردته زال ملكه فما اكتسبه بعد الردة لا يقع مملوكا له ليمكن استناد التوريث فيه إلى ما قبيل موته الحكمي اعني الردة لانه إنما يورث ما هو مملوك للميت عند الموت فيظهر أن الاختلاف بينه وبينهما في توريث كسب الردة مبني على الحكم الخلافي المتقدم وهو أن المرتد تزول املاكه بالردة المستمرة على ما حققناه عنده وعندهما لا يزول حتى يتحقق الموت الحقيقي أو الحكمي باللحاق وإذا كان كذلك فما اكتسبه في زمن الردة يكون مملوكا له ثم إذا تحقق الموت وقلنا بوجوب ارثهم اياه والفرض أن له مالا مملوكا فلا بد من ارثهم له وارثهم يستدعي استناده إلى ما قبيل ردته فيلزم بالضرورة اعتبار ما اكتسبه في زمن الردة موجودا قبلها حكما لوجود سببه وهو نفس المرتد وان كان معدوما حسا وقتئذ والله اعلم قوله ثم إنما يرثه من كان وارثا له حالة الردة بأن حرا مسلما وبقي كذلك إلى وقت موته أو لحاقه في رواية عن أبي حنيفة رواها عنه الحسن بن زياد وهذا لاعتبار الاستناد في الارث فان المستند لا بد أن يثبت اولا ثم يستند فيجب أن يصادف عند ثبوته من هو بصفة استحقاق الارث وهو المسلم الحر وكذا عند استناده حتى لو اسلم بعض قرابته أو ولد من علوق حادث بعد الردة لا يرثه على هذه الرواية وعنه انه يرثه من كان وارثا عند الردة فقط من غير اشتراط بقائه بالصفة إلى الموت وهذه رواية عن أبي يوسف عنه فلا يبطل استحقاقه أي استحقاق من كان وارثا عند الردة بعروض موت ذلك الوارث أو ردته بعد ردة ابيه بل إذا مات أو ارتد يخلفه وارثه وهو وارث الوارث وعلى هذه الرواية عول الكرخي لأن الردة بمنزلة الموت فيعتبر وقتها لاستحقاق الميراث وعنه انه يعتبر وجود الوارث عند الموت واللحاق وهي رواية محمد عنه قال في المبسوط وهذا اصح
____________________
(6/76)
لان الحادث بعد انعقاد السبب قبل تمامه كالحادث قبل انعقاده إلا ترى أن الولد الذي يحدث من المبيع بعد البيع قبل القبض يجعل كالموجود عند ابتداء العقد في انه يصير معقودا عليه ويكون له حصة من الثمن إلا إنها غير مضمونة حتى لو هلك في يد البائع قبل القبض بغير فعل أحد هلك بغير شيء وبقي الثمن كله على البائع فلو كان من بحيث يرثه كافرا أو عبدا يوم ارتد فعتق بعد الردة قبل أن يموت أو يلحق أو اسلم ورثه وهو قول أبي يوسف ومحمد إلا أن الكرخي حكى بينهما خلافا في اللحاق فعند أبي يوسف يعتبر حال الوارث يوم الحكم باللحاق وعند محمد يوم اللحاق لا الحكم وجه أبي يوسف أن العارض يعني الردة متصور زواله فتوقف ثبوت حكمه على القضاء ووجه محمد أن اللحاق تزول به العصمة والامان والذمة في حق المستأمن والذمي فكان هذا بمنزلة المكاتب بموت ويترك وفاء فتؤدي الكتابة فانه يعتبر حال وارثه يوم مات لا حال أداء الكتابة وجوابه من قبل أبي يوسف أن اللحاق ليس حقيقة الموت المأيوس عن ارتفاعه ليثبت الحكم به بلا قضاء بل في حكمه لانقطاع ولايتنا عنه واحكامنا فلا يثبت به احكام الموت قبل أن يتأكد وذلك بالحكم به قوله وترثه امرأته أي المرأة المسلمة إذا مات أو قتل أو لحق بدار الحرب وهي في العدة لانه يصير فارا أن كان صحيحا وقت الردة وهذا لان الردة لما كانت سبب الموت وهي باختياره اشبهت الطلاق البائن في مرض الموت وهو يوجب الارث إذا مات وهي في العدة لانه فار ولو كان وقت الردة مريضا فلا اشكال في ارثها وقد يقال كون الردة تشبه الطلاق قصاراها أن يجعل بالردة كأنه طلقها والفرض انه صحيح وطلاق الصحيح لا يوجب حكم الفرار فالتحقيق أن يقال بالردة كأنه مرض مرض الموت باختياره بسبب المرض ثم هو بإصراره على الكفر مختارا في الإصرار الذي هو سبب القتل حتى قتل بمنزلة المطلق في مرض الموت ثم يموت قتلا أو حتف انفه أو بلحاقه فيثبت حكم الفرار وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة إنها ترثه وان كانت منقضية العدة لانها كانت وارثة عند ردته وبه قال أبو يوسف وهو تفريع على رواية الاكتفاء بالتحقق بصفة الوارث حال الردة فقط وهي رواية أبي يوسف وما في الكتاب على رواية الحسن من اعتباره وبقائه بالصفة إلى الموت أو على رواية اعتباره
____________________
(6/77)
وقت موته فقط هذا واشتراط قيام العدة يقتضي إنها موطوءة فلا ترث غير المدخولة وهو كذلك وذلك أن بمجرد الردة تبين غير المدخولة لا إلى عدة فتصير اجنبية ولما لم تكن الردة موتا حقيقيا حتى أن المدخولة إنما تعتد فيها بالحيض لا الاشهر لم ينتهض سببا للإرث إذا لم يكن عند موت الزوج أو لحاقه اثر من آثار النكاح لأن الارث وان استند إلى الردة لكن يتقرر عند الموت وبهذا ايضا لا ترث المنقضية عدتها قوله والمرتدة كسبها لورثتها لانه لا حراب منها إذ المرأة لا حراب منها سواء كانت كافرة اصلية أو صارت كافرة فلم يوجد سبب الفيء وهو سقوط عصمة نفسها المستتبعة لسقوط عصمه مالها فيبقى كل من كسبي اسلامها إسلامها وردتها على ملكها فيرثهما ورثتها بخلاف المرتد عند أبي حنيفة رحمه الله فان كسبه في الردة فيء لكونه محاربا في الحال أو في المآل باللحاق فلا يملكه لكونه مال حربي مقهور تحت ايدينا فلا يورث قوله ويرثها زوجها المسلم إذا كانت ارتدت وهي مريضة فماتت من ذلك المرض أو لحقت بدار الحرب مع ذلك المرض لانها قصدت الفرار من ميراث الزوج بعد ما تعلق حقه بمالها بسبب مرضها بخلاف ما لو ارتدت وهي صحيحة فإنها بردتها هذه لم تبطل له حقا متعلقا بمالها وهذا التقرير فيه جعل ردتها كطلاقه فردتها في مرضها كطلاقه في مرضه وردتها في صحتها كطلاقه في صحته وبه لا يكون فارا إذا عرض له موت وهي في العدة بخلاف ما قررناه في جانب الرجل فإن بردته في صحته ترث إذا عرض له موت فلو جعلت ردته كطلاقه بائنا كان مطلقا في صحته وعروض الموت للمطلق في صحته لا يوجب له حكم الفرار فلذا جعلنا ردته كمباشرته لسبب مرض موته ثم بإصراره جعل مطلقا في مرضه فإذا مات ثبت حكم الفرار قوله وان لحق بدار الحرب مرتدا وحكم الحاكم بلحاقه عتق مدبروه وامهات اولاده وحلت ديونه المؤجلة
____________________
(6/78)
ونقل ما اكتسبه في دار الإسلام إلى ورثته المسلمين باتفاق علمائنا الثلاثة وكذا ما اكتسبه في ايام ردته على قولهما كما مر ولا يفعل شيء من ذلك ما كان مقيما في دار الإسلام واما ما اوصى به في حال اسلامه فالمذكور في ظاهر الرواية من المبسوط وغيره إنها تبطل مطلقا من غير فرق بين ما هو قربة وغير قربة ومن غير ذلك خلاف وذكر الولوالجي أن الاطلاق قوله وقولهما أن الوصية بغير القربة لا تبطل لان لبقاء الوصية حكم الابتداء وابتداء الوصية بغير القربة بعد الردة عندهما تصح وعند أبي حنيفة تتوقف فكذا هنا قيل وأراد بالوصية بغير القربة الوصية للنائحة والمغنية وقال الطحاوي لا تبطل فيما لا يصح الرجوع عنه وحمل اطلاق محمد لبطلان الوصية على وصية يصح الرجوع عنها ووجه البطلان مطلقا أن تنفيذ الوصية لحق الميت ولا حق له بعد ما قتل على الردة أو لحق بدار الحرب فكان ردته كرجوعه عن الوصية فلا يبطل مالا يصح الرجوع عنه كالتدبير لان حق العتق ثبت للمدبر وبهذا عرف معنى تقييد الطحاوي الذي ذكرناه آنفا وقال الشافعي ومالك وأحمد يبقى ماله موقوفا ويحفظه الحاكم إلى أن يظهر موته ثمة أو يعود مسلما فيأخذه لأنه أي اللحاق نوع غيبة فأشبه الغيبة في دار الإسلام وهذا لأن الدار عندهم واحدة ولنا انه باللحاق صار من أهل الحرب وهم اموات في حق احكام الإسلام لانقطاع ولاية الزام احكامه عنهم كما هي منطقعة عن الموتة بخلاف الغيبة في بلدة أخرى من دار الإسلام فإن أحكام الإسلام وولاية الزامنا ثابتة فيها فلا يلحق بذلك وإذا صار اللحاق كالموت لا أنه حقيقة الموت لا يستقر حتى يقضي به سابقا على القضاء بشيء من هذه الأحكام المذكورة في الصحيح لا أن القضاء بشيء منها يكفي بل يسبق القضاء باللحاق ثم تثبت الأحكام المذكورة ولكونها كالموت قلنا إذا لحقت الحربية فلزوجها أن يتزوج بأختها قبل انقضاء عدتها ولأنه لا عدة على الحربية من المسلم لأن في العدة حق الزوج وتباين الدارين مناف له ولو سبيت أو عادت مسلمة لم يضر نكاح اختها لان العدة بعد أن سقطت لا تعود ثم المعتبر في كون الوارث وارثا عند اللحاق في قول محمد لأنه السبب والقضاء إنما
____________________
(6/79)
لزم لتقرره بقطع الاحتمال أي احتمال عوده أي اللحاق لا يوجب احكام الموت إلا إذا كان مستقرا وهو أمر غير معلوم فبالقضاء به يتقرر وعند أبي يوسف يعتبر كونه وارثا وقت القضاء حتى لو كان من بحيث يرث وقت الردة كافرا أو عبدا ووقت القضاء مسلما معتقا ورث عند أبي يوسف لا عند محمد وهذا لأنه أي اللحاق إنما يصير موتا بالقضاء لانه بمجردة غيبة فتقررها بالقضاء به وبتقرره يصير موتا والارث يعتبر عند الموت وقدمنا تمام وجهي القولين والمرتدة إذا لحقت بدار الحرب فهي على هذا الخلاف في المرتد وعلى الأحكام التي ذكرناها من عتق مدبريها وحلول ديونها قوله وتقضي ديونه التي لزمته في حال الإسلام مما اكتسبه في حال الإسلام وديونه التي لزمته في حال ردته مما اكتسبه في حال ردته وعلى هذا فإن فضل من كسب الإسلام عن ديون الإسلام شيء ورثته الورثة وألا لا يرثون شيئا ولو فضل عن ديون الردة شيء من كسب الردة عند أبي حنيفة انه لا يورث لانه لا يورث كسب الردة قال المصنف رحمه الله وهذا التفصيل المذكور رواية عن أبي حنيفة قيل رواها زفر عنه ولم ينسب الكرخي هذا إلى أبي حنيفة بل قال وقال زفر والحسن ما لحقه في حال الإسلام إلى آخره وعنه انه يبدأ بكسب الإسلام فيقضي منه الدينان جميعا فإن وفي فكسب الردة فيء لجماعة المسلمين ولا يرث الورثة شيئا في هذه الصورة إلا أن يفضل عن كسب الإسلام شيء عن الديتين فإن لم يف كمل من كسب الردة وهذه رواية الحسن بن زياد عنه وعنه على عكسه وهو أن يقضي الدينان جميعا من كسب الردة فإن وفي بالديون ورثت الورثة كسب الاسلام كله وان لم يف كمل من كسب الإسلام وورثت الورثة ما فضل أن فضل شيء وهذه رواية أبي يوسف عنه وجه الأول وهو التفصيل أن المستحق بالسببين وهو دين الإسلام ودين الردة مختلف وحصول كل من الكسبين باعتبار السبب الذي وجب به الدين فيقضي كل دين من الكسب الذي حصل به ليكون الغرم بالغنم وجه الثاني وهو رواية الحسن أن كسب الإسلام ملكه حتى يخلفه الوارث فيه ومن شروط هذه الخلافة الفراغ عن حق المورث وهو مقدار
____________________
(6/80)
ما عليه من الدين فيقدم الدين مطلقا عليه أما كسب الردة فليس مملوكا له لبطلان أهلية الملك بالردة عند أبي حنيفة فلا يقضي دينه منه إلا إذا تعذر قضاؤه من محل آخر فحينئذ يقضى منه فإن قيل كيف يقضى منه وهو فيء عنده غير مملوك له بل لجماعة المسلمين أجاب فقال لا بعد في هذا فإن الذمي إذا مات ولا وارث له يكون ماله لجماعة المسلمين ومع ذلك إن كان عليه دين يقضى منه أولا وما فضل يكون للمسلمين فكذلك هاهنا قال في المبسوط وعلى هذا لا ينفذ تصرفه في الرهن وقضاء الدين من كسب الإسلام وجه الثالث وهو رواية أبو يوسف أن كسب الإسلام حق الورثة وكسب الردة خالص حقه بمعنى انه ما تعلق به حق الغير كما يتعلق في مال المريض وإلا فهو قد ذكر أن أملاكه تزول غير انه لا يلزم من كونه خالص حقه كونه ملكا له ألا ترى أن كسب المكاتب خالص حقه وليس ملكه وإذا كان خالص حقه كان قضاء دينه منه أولى إلا إذا لم يف فحينئذ يقضى من كسب الإسلام تقديما لحقه قال في المبسوط وعلى هذا نقول عقد الرهن كقضاء الدين فإذا قضى دينه من كسب الردة أو رهنة بالدين فقد فعل عين ما كان يحق فعله فهذه ثلاث روايات عن
____________________
(6/81)
أبي حنيفة ولو لم يكن له مال إلا ما اكتسبه في حال ردته قضى منه وقال أبو يوسف ومحمد تقضى ديونه من الكسبين لأنهما جميعا ملكه عندهما حتى يجري فيهما الإرث قوله وما باعه المرتد أو اشتراه أو أعتقه أو رهنه إلى آخره قال المصنف رحمه الله اعلم أن تصرفات المرتد على أقسام نافذة بالاتفاق كالاستيلاد والطلاق لأنه لا يفتقر إلى حقيقة الملك في الاستيلاد ولا إلى تمام الولاية في الطلاق فإن الاستيلاد يصح في جارية الابن وحق المرتد في ماله أقوى من الأب في جارية ابنه ولذا تصح دعوى المولى ولد أمة مكاتبه وحق المرتد في ماله أقوى من حق المولى في كسب المكاتب لأن المال موقوف على حكم ملكه حتى إذا أسلم كان له بلا سبب جديد ولا ملك للأب والمولى فيهما والطلاق يقع من العبد مع قصور ولايته فإنه لا ولاية له على نفسه وأورد عليه أن بالردة تحققت الفرقة فكيف يقع الطلاق أجيب بأنه لا يلزم من وقوع البينونة امتناع الطلاق وقد سلف أن المبانة يلحقها صريح الطلاق ما دامت في العدة وصرح في المحيط بأن الفرقة بالردة من قبيل الفرقة التي يلحقها الطلاق مع أن الردة لا تلزمها الفرقة كما لو ارتدا معا ومن هذا القسم تسليم الشفعة وقبول الهبة والحجر عل عبده المأذون لأنها لا تبنى على حقيقة الملك وباطل بالاتفاق كالنكاح والذبيحة لأنها تعتمد الملة ولا ملة له لأنه غير
____________________
(6/82)
مقر على ما انتقل إليه من دين سماوي أو غيره كالشرك فهو بمنزلة من لا ملة له وهذا حاصل ما فسر به ظهير الدين من أن المراد بالملة التي يدينون بملك النكاح التوارث والتناسل والمرتد لا يتحقق في نكاحه شيء من ذلك لأنه لا يقر حيا ومن هذا القسم إرثه وأما الإرث منه فقد تقدم أنه ثابت لورثته المسلمين وموقوف بالاتفاق كالمفاوضة مع المسلم لأنها تعتمد المساواة بين الشريكين ولا مساواة بين المسلم والمرتد فيتوقف عقد المفاوضة فإن أسلم نفذت وإن مات أو قتل أو قضى بلحاته بطلت بالاتفاق لكن تصير عنانا عندهما وعند أبي حنيفة تبطل أصلا لأن في العنان وكالة وهي موقوفة عنده ومختلف في توقفه وهو ما عددناها من بيعه وشرائه وعتقه ورهنه ومنه الكتابة وقبض الديون والإجارة والوصية عنده هي موقوفة إن أسلم نفذت وإن مات أو قتل أو لحق بطلت لهما أن الصحة للمعاملات التي ذكرناها تعتمد الأهلية لها والنفاذ يعتمد الملك ولا خفاء في وجود الأهلية لكونه مخاطبا بالإيمان وكذا قتله فرع كونه مكلفا وكذا ملكه لقيامه قبل موته على ما قررناه يعني من قوله مكلف محتاج إلى آخره ومما يوضح كون ملك المرتدة باقيا أنه لو ولد له ولد من امرأة مسلمة أو أمة مسلمة لستة أشهر فصاعدا ورثه فلو كان ملكه زئلا لم يرثه هذا الولد ولو أن ولده قبل الردة مات بعدها قبل موته ولحاقه لا يرثه وإذا كان ملكه قائما وأهليته نفذت تصرفاته عندهما إلا أن عند أبي يوسف تصح كما تصح من الصحيح من جميع المال لأن الظاهر عوده إلى الإسلام إذ الشبهة تزاح فلا يقتل فلا يكون كالمريض
____________________
(6/83)
وعند محمد تصح من الثلث كما تصح من المريض لأن من انتحل نحلة لا سيما إذا كان بها معرضا عما نشأ عليه قلما يتركه فكان بذلك على شرف الهلاك كالمريض مرض الموت إلا أن ابا يوسف يقول بيده دفع القتل عنه والموت على ذلك بتجديد الإسلام بخلاف المريض ولأبي حنيفة رحمه الله أنه حربي مقهور تحت أيدينا على ما قررناه في توقف الملك أي عوده لما حررناه من أن المراد أنه يزول ملكه بردته ثم يعود بعوده إلى الإسلام من أنه حربي مقهور نفسه وماله تحت أيدينا وتوقف التصرفات بناء عليه فإن التصرفات الشرعية المذكورة توجب أملاكا لمن قامت به وزوال أملاك مثلا البيع يوجب أن يملك المبيع وان يخرج من ملكه الثمن والإجارة كذلك والفرض أن ليس مع الردة ملك فامتنع إفادة هذه التصرفات أحكامها في الحال فإن أسلم أفادته حين وقعت وهذا معنى التوقف فصار المرتد كالحربي يدخل دارنا بلا أمان فيؤخذ أي يؤسر فتتوقف تصرفاته لتوقف حاله حيث كان للإمام الخيار بين استرقاقه وقتله فإن قتل أو أسر لم تنفذ منه هذه أو أسلم لم يؤخذ له مال فكذا المرتد وقوله واستحقاق الخ جواب عما يقال المرتد يجب أن يكون كالمقضي عليه بالقصاص والرجم لأنه مقهور تحت أيدينا للقتل عينا خصوصا فإنه لا يمكن له حالة غير القتل بخلاف المرتد فإن غيرها محتمل في حقه لاحتمال إسلامه ومع ذلك لا يزول ملك واحد منهما عن ماله وتصرفاتهما نافذة فأجاب بالفرق بأن استحقاق القتل في الفصلين أي الحربي والمرتد لبطلان العصمة بانتفاء سببها وهو الإسلام فأوجب خللا في الأهلية بخلاف الزاني والقاتل عمدا لأن استحقاق القتل بذلك السبب جزاء على الجناية مع بقاء سبب العصمة وهو الإسلام فيبقى مالكا حقيقة
____________________
(6/84)
لبقاء عصمة ماله لقيام سببها ولهذا لو قتل القاتل غير ولي القصاص قتل به وإنما يقتل كل منهما بما هو من حقوق تلك العصمة بخلاف المرتدة لأنها ليست حربية ولهذا لا تقتل قال أبو اليسر ما قالاه أحسن لأن المرتد لا يقبل الرق والقهر يكون حقيقيا لا حكميا والملك يبطل بالقهر الحكمي لا الحقيقي ولهذا المعنى لا يبطل ملك المقضي عليه بالرجم وحاصل مراده أن المنافي للملك الاسترقاق ليس غير لكنه ممنوع عند أبي حنيفة بل نقول إنما وجب الاسترقاق ذلك في الأصل للقهر الكائن بسبب حرابته وهو موجود في المرتد فيثبت فيه ذلك بطريق أولى لأن الرق يتصور معه ملك النكاح بخلاف قهر المرتد قوله وإن عاد المرتد بعد الحكم بلحاقه إلى دار الإسلام مسلما فما وجده في يد ورثته من ماله بعينه نقدا أو عرضا أخذه لأن الوارث إنما يخلفه فيه لاستغنائه عنه بالموت المحكوم به وإذا عاد مسلما فقد أحياه الله تعالى حياة جديدة ولذا قلنا في المرتدة المتزوجة إذا لحقت وعادت مسلمة عن قريب تتزوج من ساعتها لأنها فارغة من النكاح والعدة كأنها حييت الآن قال تعالى { أو من كان ميتا فأحييناه } فإذا حيى احتاج إليه فيقدم على الوارث وعلى هذا لو أحيا الله سبحانه وتعالى ميتا حقيقة وأعاده إلى دار الدنيا كان له أخذ ما في يد ورثته بخلاف ما أزاله الوارث عن ملكه سواء كان بسبب يقبل الفسخ كبيع أو هبة أو لا يقبله كعتق وتدبير واستيلاد فإنه يمضي ولا عود له فيه ولا يضمنه وبخلاف أمهات أولاده ومدبريه لا يعودون في الرق لأن القضاء بعتقهم قد صح بدليل مصحح له وهو اللحاق مرتدا لأنه كالموت الحقيقي فنفذ والعتق بعد نفاذه لا يقبل البطلان وولاؤهم لمولاهم أعنى المرتد الذي عاد مسلما هذا إذا جاء مسلما بعد الحكم باللحاق فلو جاء مسلما قبل الحكم باللحاق فكأنه لم يزل مسلما كأنه لم يرتد قط لما ذكرنا
____________________
(6/85)
من أنه لا يستقر لحاقه إلا بالقضاء وما لم يستقر لا يورث فتكون أمهات اولاده ومدبروه على حالهم ارقاء وما كان عليه من الديون المؤجلة لا تحل بل تكون إلى أجلها لعدم تقرر الموت وصار كالعبد إذا أبق بعد البيع قبل القبض ثم عاد أن كان بعد القضاء بالفسخ لا يبطل القضاء بالفسخ وان عاد قبله جعل الاباق كأن لم يكن قوله وإذا وطئ المرتد جارية نصرانية أو يهودية كانت له في حالة الإسلام فجاءت بولد لستة اشهر أو اكثر ولو إلى عشر سنين منذ ارتد فادعاه فهي ام ولد له والولد حر وهو ابنه وثبت لامه حق أمية الولد ولا يرثه فإن كانت الجارية مسلمة ورثه الابن أن مات المرتد على ردته أو لحق بدار الحرب إما صحة الاستيلاد من المرتد فلما قلنا انه لا يفتقر إلى حقيقة الملك حتى صح استيلاد الاب جارية الابن والعبد المأذون جارية من تجارته ذكره أبو الليث في شرح الجامع الصغير وأما أنه لا يرثه فلأن الام إذا كانت يهودية أو نصرانية يجعل الولد تبعا للمرتد لا لأمه لقرب المرتد إلى الإسلام للجبر عليه والظاهر أنه لا يؤثر القتل على العود فصار الولد في حكم المرتد والمرتد لا يرث المرتد ولا غيره وأما إذا كانت الأمة مسلمة فالولد مسلم تبعا لها لأنها خيرهما دينا والمسلم يرث المرتد ولا يقال لم لم يجعل تبعا للدار فيما إذا كانت الأم نصرانية لأنه إنما يجعل تبعا للدار إذا لم يكن معه أحد أبويه بأن يسبى وليس معه أحدهما أو يلتقط في دار الإسلام ولا يظن أن هذا ينتقض بما إذا ارتد الابوان المسلمان ولهما ولد صغير ولد قبل ردتهما فإنه يبقى مسلما مع وجودهما لأن الحكم بإسلامه في هذه الصورة ليس لتبعية الدار بل لأنه كان حين ولد مسلما فيبقى على ما كان عليه بخلاف مسألة الكتاب لأنه لم يسبق للولد حكم الإسلام إذا لم يوجد في زمن اسلامهما وتقييد المسألة بما إذا جاءت به لستة اشهر فصاعدا احترازا عما إذا جاءت به لأقل من ستة اشهر فإنه يرثه إذا مات أو لحق أو قتل على ردته وذلك للتيقن بحصول العلوق في حالة اسلام ابيه المرتد فكان الولد مسلما والمسلم يرث المرتد وفي الفوائد الظهيرية ما ذكر في الكتاب أن الارث يستند إلى حالة الإسلام فيكون توريث المسلم من المسلم فيما اكتسبه في حالة الردة يضعف بهذه المسألة لأن الولد يعني ولد الأمة المسلمة هناك لم يكن موجودا حال الإسلام ومع هذا يرث فعلم أن الصحيح ما رواه محمد عن أبي حنيفة أن من كان وارثا عند موته سواء كان موجودا وقت الردة أو حدث بعدها انتهى وقد قدمنا انه اصح من قول شمس الأئمة وعلى هذا فيكون تخصيصا لقوله صلى الله عليه وسلم لا يرث المسلم الكافر بالكافر الاصلي إلا انه
____________________
(6/86)
محتاج إلى دليل التخصيص ويمكن كونه دلالة الإجماع على ارث المسلمين ماله إذا لم يكن وارث لان ذلك لاسلامهم على ما قدمناه فارجع اليه وهذا كله بناء على كونه إذا جاءت به لستة اشهر أو اكثر يحكم بأن العلوق بعد الردة والوجه انه متى جاءت به امته النصرانية لمدة يتصور العلوق فيها في حالة الإسلام يجب أن يعتبر العلوق فيها وهذا يمكن إذا جاءت به لأقل من سنتين بلحظة لأنه احوط للحكم بالإسلام لأنه على هذا الاعتبار يعلق مسلما ويرثه وان كان خلاف المذهب كالذي جاءت به لأقل من ستة اشهر إلا أن على هذا لو جاءت به لتمام سنتين فصاعدا لا يرث قوله وإذا لحق المرتد بماله بدار الحرب ثم ظهر المسلمون على ذلك المال فهو فيء باجماع الأئمة الأربعة وانما يخالف الأئمة الثلاثة فيما كان في دار الإسلام من الباقي من ماله على ما تقدم انه عندهم محفوظ له إلى أن يظهر موته فيصير فيئا ولا يشكل كون ماله فيئا دون نفسه فإن مشركي العرب كذلك وان لحق ثم رجع واخذ مالا والحقه بدار الحرب فظهر على ذلك المال فحكم الورثة فيه حكم مالك مال استولى عليه الكفار ثم ظهر عليه فوجده مالكه وهو انهم أن وجدوه قبل القسمة رد عليهم وان وجدوه بعدها اخذوه بقيمته أن شاؤوا ولو كان مثليا فقد تقدم انه لا يؤخذ لعدم الفائدة ثم جواب هذا الكتاب اعني = الجامع الصغير وهو ظاهر الرواية لا يفصل بين أن يكون عوده وأخذه المال بعد القضاء بلحاقه أو قبله إما إذا كان بعد القضاء باللحاق فظاهر لانه تقرر الملك للورثة ثم استولى عليه الكافر واحرزه بدار الحرب واما إذا عاد قبله كان عوده واخذه ولحاقه ثانيا يرجح جانب عدم العود ويؤكده فيقرر موته وما احتيج إلى القضاء باللحاق لصيرورته ميراثا إلا ليترجح عدم عوده فيتقرر اقامته ثمة فيتقرر موته فكان رجوعه وأخذه ثم عوده ثانيا بمنزلة القضاء وفي بعض روايات السير جعله فيئا لأن بمجرد اللحاق لا يصير المال ملكا للورثة والوجه ظاهر الرواية قوله وإذا لحق المرتد بدار الحرب وله عبد فقضى به لابنه فكاتبه الابن ثم جاء المرتد مسلما فالكتابة جائزة خلافا للأئمة
____________________
(6/87)
الثلاثة والولاء والمكاتبة أي بدل الكتابة للمرتد الذي اسلم لانه لا وجه إلى بطلان الكتابة لنفوذها بدليل منفذ وهو القضاء بالعبد له وإلى نقل الملك إلى الاب لان المكاتب لا يحتمل النقل من ملك إلى ملك فجعل كأن الابن وكيل عنه فإنه لما لحق بدار الحرب كان كأنه سلط ابنه على التصرف في ماله وحقوق العقد ترجع إلى الموكل في الوكالة بالكتابة والولاء لمن يقع العتق عنه فلذا كان الولاء للمرتد الذي عاد مسلما بخلاف ما إذا كان أدى بدل الكتابة إلى الابن فإن الولاء حينئذ يكون للابن قوله وإذا قتل المرتد رجلا خطأ ثم لحق بدار الحرب أو قتل على ردته فالدية في مال اكتسبه في حال اسلامه خاصة عند أبي حنيفة وقالا في مال اكتسبه في الردة والاسلام إما أن الدية في ماله ولأن العواقل لا تعقل المرتد ولا لان تحملهم العقل باعتبار نصرتهم اياه التي بها يقوي على الجرأة ولا نصرة منهم للمرتد واما انها عنده في كسب الإسلام فقط فلأنه لا يملك غيره عنده وعندهما يملك الكل فيكون ما لزمه من الكل وعلى هذا إذا غصب مالا فأفسده يجب ضمانه في مال الإسلام وعندهما في الكل وعلى هذا لو لم يكن له كسب الإسلام واكتسب في الردة تهدر الجناية عند أبي حنيفة خلافا لهما وقوله وماله المكتسب ماله مبتدأ والمكتسب خبره والاولى في مثله الاتيان بضمير الفصل لرفع توهم الصفة إلا انه تركه للاهتداء اليه لفساد المعنى على الصفة وجناية العبد والامة والمكاتب المرتدين كجنايتهم في غير الردة لأن الملك فيهما قائم بعد الردة والمكاتب يملك اكسابه في الردة فيكون موجب جنايته في كسبه والجناية على المماليك المرتدين هدر قوله وإذا قطعت يد المسلم عمدا فارتد والعياذ بالله ثم مات على ردته من ذلك القطع أو لحق
____________________
(6/88)
ثم جاء مسلما ومات منه فعلى القاطع نصف الدية في ماله للورثة فيهما إما الأول وهو وجوب نصف الدية فيما إذا مات فلأن القطع وان وقع على محل معصوم لكن السراية التي بها صار القطع قتلا حلت المحل بعد زوال عصمته فأهدرت إذ لو لم تهدر وجب القصاص في النفس للعمد وايضا صار اعتراض زوال العصمة شبهة في سقوط القصاص في اليد وإذا اهدرت السراية وجب دية اليد لان هذا القدر وقع زمن العصمة واقل ما فيه دية اليد بخلاف ما لو قطعت يد المرتد ثم اسلم فمات من ذلك القطع فإنه لا يجب الضمان اصلا لأن القطع وقع في وقت لا قيمة لها فيه وهو وقت الردة فكانت هدرا والهدر لا يلحقه الاعتبار أما المعتبر فقد يلحقه الاهدار بالابراء فكذا بالردة واما الثاني وهو وجوب نصف الدية إذا لحق ثم عاد مسلما فمات من القطع قال المصنف ومعناه إذا قضى بلحاقه فإنه صار ميتا تقديرا بالقضاء باللحاق والموت يقطع السراية واسلامه حياة حادثة في التقدير فلا يعود حكم الجناية الأولى على إنها قتل لانه ما ثبت سراية بعد انقطاع حكم القطع فوجب الاقتصار على موجب القطع الواقع في حال العصمة من حيث هو قطع لا قصاص فيه وفي ذلك نصف دية النفس فوجب للورثة واما إذا لم يقض بلحاقه حتى عاد مسلما فمات فهو على الخلاف الذي نبينه قال شمس الأئمة الصحيح انه على الخلاف وقال فخر الإسلام لا نص فيه ثم قال وهو على الاختلاف ويريد بقوله الذي نبينه ما يذكر من أن على قول محمد يجب نصف الدية وعلى قولهما دية النفس كاملة فيما تلى هذه وهي قوله وان لم يلحق أي المقطوع يده مسلما إذا ارتد ثم اسلم فمات من القطع من غير تخلل لحاق فعند أبي حنيفة وأبي يوسف على القاطع دية كاملة استحسانا وعند محمد وزفر في جميع ذلك يعني الصور الأربعة وهي ما إذا قطعت يده مسلما فارتد ومات على ردته أو ارتد ثم اسلم بلا لحاق أو ارتد ولحق بعد القضاء أو قبله ثم عاد فأسلم نصف الدية قياسا ووجهه أن اعتراض الردة اهدر السراية حتى لو قتله قاتل لا شيء عليه فإذا اسلم بعد ذلك لا ينقلب
____________________
(6/89)
بالإسلام إلى الضمان من غير سبب جديد وصار كما لو قطعت يد مرتد أو حربي فاسلم لا يجب على الفاعل شيء ولهما أن الجناية وردت على محل معصوم لانه مسلم وتمت فيه لانه مسلم في الحالين فيجب ضمان النفس كما إذا لم تتخلل الردة وهذا لان تخللها كائن في حال البقاء فقط وانما يوجب سقوط العصمة في حال البقاء وبه تثبت الشبهة المسقطة للقصاص في النفس فيبقى ضمانها بالدية لان سقوط العصمة في حال البقاء لا يمنع كمال موجب هذه الجناية إلا لو كانت العصمة معتبرة حالة البقاء في ايجابها والواقع انه لا معتبر ببقائها في ذلك وانما المعتبر قيامه في حال ابتداء الجناية لانعقاده سببا وفي حال الموت ليثبت الحكم وهو الضمان وحالة البقاء بمعزل إذ ليست حال انعقاد سبب الضمان ولا حال ثبوت حكمه فصار كقيام الملك في حال بقاء اليمين لا عبرة به بل المعتبر قيامه حال التعليق وحال ثبوت الحكم وهو حال وجود الشرط حتى إذا قال لزوجته أن دخلت فأنت طالق ثم أبانها ثم تزوجها فدخلت طلقت وكذا للعبد أن فعلت فأنت حر فباعه ثم اشتراه ففعل عتق وكذا وجود النصاب في ايجاب الزكاة المعتبر وجوده أول الحول لينعقد السبب وفي آخره ليثبت حكمه هذا إذا كان المقطوع يده هو الذي ارتد فلو كان القاطع هو الذي ارتد في المبسوط فان قتل ومات المقطوع يده من القطع مسلما فان كان عمدا فلا شيء له لان الواجب القصاص وقد فات محله حين قتل على ردته أو مات وان كان خطأ فعلى عاقلة القاطع دية النفس لانه عند ايجابه كان مسلما وجناية المسلم خطأ على عاقلته وتبين بالسراية أن جنايته كانت قتلا فكانت على عاقلته ولو كانت الجناية منه حال الردة كانت الدية في الخطأ في ماله لما بينا أن المرتد
____________________
(6/90)
لا يعقل جنايته أحد قوله وإذا ارتد المكاتب ولحق بدار الحرب واكتسب مالا في ايام ردته يفي بكتابته فأخذ بماله أي اسر وأبي أن يسلم فقتل فإنه يوفي مولاه مكاتبته وما بقي فلورثته وهذا ظاهر على اصلهما لان كسب الردة ملكه إذا كان حرا فكذا إذا كان مكاتبا إذ الكتابة لا تبطل بالموت فبالردة اولى وإذا كان ملكه قضيت منه مكاتبته وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فيشكل لأنه لا يملكه كسب الردة إذا كان حرا وملكه اياه مكاتبا ووجهه أن المكاتب إنما ملك اكسابه بعقد الكتابة والكتابة لا تتوقف بالردة ولا تبطل بالموت فيستمر موجبها مع الردة فيتحقق ملكه في اكسابه ولا يتوقف فيقضي منها ويورث الباقي وقوله ألا ترى إلى آخره توجيه لعدم توقف تصرف المكاتب المرتد وهو يرجع إلى توجيه عدم بطلان الكتابة بالردة لان الحكم ببقاء العقد يوجب الحكم بثبوت احكامه فالاستدلال على ثبوت حكمه استدلال على ثبوته وكان يكفيه فيه كون الكتابة لا تبطل بالموت الحقيقي فأولى أن لا تبطل بالموت الحكمي وهو الردة فان منع عدم بطلانها بالموت الحقيقي اكتفى بالاستدلال على مسألة الكتاب إذا مات عن وفاء واستدلال المصنف وجه آخر وحاصلة بدلالة حال الرق فإنه لا يتوقف تصرف المكاتب
____________________
(6/91)
بسبب رقه مع أن الرق اقوى من الردة في صحة التصرف حتى لا يصح استيلاده فاولى أن لا يتوقف بسبب ردته والحاصل أن عقد الكتابة منع مقتضى الردة كما منع مقتضى الرق فصار المكاتب في دار الحرب ككونه في دار الإسلام واورد عليه بأن كون أحدهما لا يمنع مع عقد الكتابة لا يستلزم أن لا يمنع إذا اجتمعا وقد اجتمع في المرتد المكاتب الرق والردة فجاز أن ينتفى التصرف اجيب مرة بان جواز المنع لا يستلزم وقوعه فيبقى على العدم إلا بدليل ومرة بأن الكتابة مطلق للتصرف وكل من الرق والردة مانع منه بانفراده وقد ثبت شرعا ترجيح مقتضى الكتابة على مقتضى أحدهما وانضمام أحدهما إلى الآخر انضمام علة إلى أخرى فيما يعلل بعلتين مستقلتين ولا ترجيح بكثرة العلل المستقلة لما عرف بل الترجيح بوصف في العلة قوله وإذا ارتد الرجل وامرأته والعياذ بالله ولحقا بدار الحرب فحبلت المرأة في دار الحرب وولدت ولدا وولد لولدهما ولد فظهر عليهم جميعا فالولدان فيء لان المرتدة تسترق فيتبعها ولدها ثم يجبر الولد على الإسلام قال الولوالجي ولا يقتل كولد المسلم إذا بلغ ولم يصف الإسلام يجبر عليه ولا قتل ولا يجبر ولد الولد إما جبر الولد فأنه يتبع ابويه أو أحدهما في الدين فيكون مسلما باسلامهما ومرتدا بردتهما فلما كان مرتدا بردتهما اجبر كما يجبران وانما لم يجبر ولد الولد لانه لا يتبع جده بل اباه لقوله صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون ابواه هما اللذان يهودانه الحديث أي يستتبعانه في ذلك وانما لم يجل تبعا لأبيه في الردة فيجبر مثله لان ردة ابيه كانت تبعا والتبع لا يستتبع خصوصا واصل التبعية ثابتة على خلاف القياس لانه لم يرتد حقيقة ولهذا يجبر بالحبس لا بالقتل بخلاف ابيه
____________________
(6/92)
وإذا لم يتبع الجد فيسترق أو توضع عليه الجزية أو يقتل لان حكمه حينئذ حكم سائر أهل الحرب إذا اسروا واما الجد فيقتل لا محالة لانه المرتد بالاصالة أو يسلم وروى الحسن عن أبي حنيفة أن ولد الولد يجبر على الإسلام تبعا لجده فيجعل مرتدا تبعا له قال المصنف واصله التبعية في الإسلام يعني اصل الجبر على الإسلام تبعا للجد هو ثبوت الإسلام تبعا للجد وهي رابعة اربع مسائل كلها على الروايتين رواية ظاهر الرواية لا يكون الولد تبعا للجد ورواية الحسن يكون تبعا احداها هذه والثانية صدقة الفطر للولد الصغير إذا كان جده موسرا ولا اب له أو له اب معسر أو عبد لا تجب على الجد في ظاهر الرواية وفي رواية الحسن تجب عليه والثالثة جر الولاء صورتها معتقة تزوجت بعبد وله اب عبد فولدت منه فالولد حر تبعا لأمه وولاؤه لمولى امه فإذا عتق جده لا يجر ولاء حافده إلى مواليه عن موالي امه في ظاهر الرواية وفي رواية الحسن يجره كما لو اعتق ابوه والرابعة الوصية للقرابة لا يدخل الوالدان ويدخل الجد في ظاهر الرواية وفي رواية الحسن لا يدخل كالاب وتقييد الحبل بدار الحرب ليس لاخراج الحبل في دار الإسلام عن حكم المسألة اعني جبر الولد بل لافادة حكم الجبر فيما إذا حبلت في دار الإسلام وولدت في دار الحرب بطريق اولى لانه إذا اجبر مع انه علق في دار الحرب وللدار جهة استتباع تقتضي انه ابعد عن الإسلام فلأن يجبر إذا علق في دار الإسلام على الإسلام اولى هذا إذا ولد لهما ولد بعد لحوقهما اما إذا ارتدا ولحقا بولد لهما صغير ثم ظهر عليهم فالولد فيء لان الولد الصغير صار مرتدا تبعا للأبوين وولد المرتد يصير فيئا بالسبي كذا ذكر ولو صح لزم انهما لو لم يلحقا به يكون مرتدا وليس كذلك على ما تقدم من انه ثبت له حكم الإسلام فيبقى عليه إلا بمزيل والاحسن ما في المبسوط من انه خرج عن كونه مسلما باللحاق به فإن ثبوت حكم الإسلام للصغير باعتبار تبعية الابوين والدار وقد انعدم كل ذلك حين ارتدا ولحقا به فكان الولد فيئا يجبر على الإسلام إذا بلغ كما تجبر الام عليه فإن كان الاب ذهب به وحده والام مسلمة في دار الإسلام لم يكن الولد فيئا لأنه بقي مسلما تبعا لأمه فإن قيل كي يتبعها بعد تباين الدارين قلنا تباين الدارين يمنع الاتباع في الإسلام ابتداء لا في ابقاء ما كان ثابتا إلا ترى أن الحربي لو اسلم في دار الحرب وله ولد صغير وخرج إلى دارنا بقي الولد مسلما حتى لو ظهر عليه لا يكون فيئا بخلاف ما لو اسلم في دارنا وله ولد في دار الحرب ومرت هاتان المسألتان وكذا أن كانت الام مسلمة والولد معه في دار الحرب
____________________
(6/93)
لأن بالموت يتأكد الإسلام ولا ينقطع قوله وارتداد الصبي الذي يعقل ارتداد عند أبي حنيفة ومحمد أي يصح فلو مات له قريب مسلم بعد ردته لا يرث منه وبه كان يقول أبو يوسف ثم رجع وقال ليست بارتداد واسلامه اسم باتفاق الثلاثة فلا يرث ابويه الكافرين ويرث اقاربه المسلمين ولا يصح نكاح المشركة له وتحل له المؤمنة وتبطل مالية الخمر والخنزير ونحو ذلك وعن ابن أبي مالك عن أبي يوسف أن ابا حنيفة رجع إلى قول أبي يوسف وقال زفر والشافعي اسلامه ليس بإسلام وردته ليست بارتداد لهما أي لزفر والشافعي في عدم صحة اسلامه انه تبع لأبويه فيه فلا يجعل اصلا لتناف بين صفة الاصلية والتبعية لان الأولى سمة القدرة والثانية سمة العجز ثم اسلامه يصح تبعا لأبويه فلا يجعل اصلا مستقلا به ولأنه يلزمه احكاما تشوبها المضرة من حرمان الارث والفرقة بينه وبني زوجته المشركة فلا يؤهل له كالطلاق والعتاق ولنا فيه أي اسلامه أن عليا رضي الله عنه أسلم في صباه وصحح النبي صلى الله عليه وسلم اسلامه وافتخاره بذلك مشهور إما افتخاره فما نقل من قوله رضي الله عنه ** سبقتكمو إلى الإسلام طرا ** غلاما ما بلغت اوان حلمي **
____________________
(6/94)
وأما ما عن الحسن انه اسلم وهو ابن خمس عشرة سنة فلم يوافقه أحد عليه سوى رواية عن احمد لم تصح بل الصحيح عنه انه اسلم وهو ابن ثمان سنين قال ابن الجوزي استقراء الحال يبطل رواية الخمس عشرة لانه إذا كان له يوم البعث ثمان سنين فقد عاش معه ثلاثا وعشرين سنة وبقي بعد النبي صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثين سنة فهذه مقاربة الستين وهو الصحيح في مقدار عمره ثم اسند عن جعفر احمد النبي صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثين سنة فهذه مقاربة الستين وهو الصحيح في مقدار عمره ثم اسند عن جعفر بن محمد عن ابيه قال قتل علي رضي اللهعنه وهو ابن ثمان وخمسين سنة قال فمتى قلنا انه كان يوم اسلامه ابن خمس عشرة سنة صار عمره ثمانيا وستين ولم يقله أحد واخرج البخاري في تاريخه عن عروة قال اسلم علي وهو ابن ثمان سنين وأخرج الحاكم في المستدرك من طريق ابن اسحاق أنه أسلم وهو ابن عشر سنين وأخرج أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما دفع النبي صلى الله عليه وسلم الراية إلى علي يوم بدر وهو ابن عشرين سنة وقال صحيح على شرط الشيخين قال قال الذهبي هذا نص عليه أنه أسلم وله أقل من عشر سنين بل نص على أنه أسلم وهو ابن سبع سنين أو ثمان سنين وما ذكر الثعالبي وغيره في اتفاق الاعمال من أن كلا من النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهم عاش ثلاثا وستين سنة يقتضي أن عمره حين اسلم كان عشر سنين وهو ما تقدم من رواية الحاكم من طريق ابن اسحاق قال صاحب التنقيح ولأنه صلى الله عليه وسلم عرض الإسلام على ابن صياد وهو غلام لم يبلغ وقد يقال تصحيحه صلى الله عليه وسلم اسلامه أن أريد في احكام الاخرة فمسلم وكلامنا في تصحيحه في احكام الدنيا والاخرة حتى لا يرث اقاربه الكفار ونحو ذلك ولم ينقل انه صلى الله عليه وسلم صححه في حق هذه الأحكام بل في العبادات فإنه كان يصلي معه على ما هو ثابت ونحو ذلك نعم لو نقل من قوله صلى الله عليه وسلم صححت اسلامه امكن أن يصرف اليه باعتبار الجهتين لكن لم ينقل ذلك وقد أورد هذا السؤال على خلاف هذا الوجه وعلى ما ذكرنا هو الوجه قيل ومن اقبح القبائح أن لا يسمى مسلما مع اشتغاله بتعلم القرآن وتعليمه والصلاة قيل والعجب من الشافعي كيف يصحح اختياره لأحد ابويه عند الفرقة مع ظهور انه إنما يختار من يطلق عنانه إلى اهويته من اللعب وغيره ولا يصحح اختياره المقطوع بخيريته فإن قال هو غير مكلف قلنا إنما يلزم ذلك إذا قلنا بوجوبه عليه قبل البلوغ كما عن أبي منصور و المعتزلة وانه يقع مسقطا للواجب لكنا إنما نختار انه يصح لتترتب عليه الأحكام الدنيوية والاخروية ثم إذا بلغ لزمه فلو ارتد بعد البلوغ اجبر على الإسلام بالحبس لا بالقتل بخلاف المسلم بالغا وعند احمد ومالك يقتل أن لم يعد إلى الإسلام قال المصنف ولانه اتي بحقيقة الإسلام وهو التصديق والاقرار معه والتصديق الباطني يحكم به للاقرار الدال عليه على ما عرف من تعليق الأحكام المتعلقة بالباطن به وإذا كان قد اتى به فقد دخلت حقيقة الإيمان قائمة به في الوجود فكيف يصح أن يقال لم تدخل ولم يتصف مع الدخول والاتصاف فإن قال الإيمان الذي انفيه منه هو المعتبر فما دخل في الوجود لا أنفيه
____________________
(6/95)
ولكن اقول لا يعتبر شرعا قلنا دعوى عدم الاعتبار بعد وجود الحقيقة إما لعدم اهلية الصحة وهو منتف لانه جعل اهلا للنوبة كما في يحيى عليه الصلاة والسلام وهي فرغ الإيمان والاتفاق على اهليته للصلاة والصوم حتى يصحان منه ويثاب عليهما واما لعدم اهلية الوجوب فنلتزمه والكلام ليس فيه كما ذكرنا آنفا واما لحاجز شرعي وهو منتف ولا يليق أن يثبت شرعا منع عن الإيمان بالله سبحانه وتعالى مع عقليته ومعرفته نعم مقتضى الدليل أن يجب عليه بعد البلوغ فيجب القصد إلى تصديق واقرار يسقط به ولا يكفيه استصحاب ما كان عليه من التصديق والاقرار غير المنوي به اسقاط الفرض كما انه لو كان يواظب الصلاة قبل بلوغه لا يكون كما كان يفعل بل لا يكفيه بعد بلوغه منها إلا ما قرنه بنية أداء الواجب امتثالا لكنهم اتفقوا على انه لا يجب بل يقع فرضا قبل البلوغ إما عند فخر الإسلام فلأنه يثبت اصل الوجوب به على الصبي بالسبب وهو حدوث العالم وعقلية دلالته دون وجوب الاداء لانه بالخطاب وهو غير مخاطب فإذا وجد بعد السبب وقع الفرض كتعجيل الزكاة واما عند شمس الأئمة فلا وجوب اصلا لعدم حكمه وهو وجوب الاداء فإذا وجد وجد وصار كالمسافر يصلي الجمعة يسقط فرضه وليست الجمعة فرضا عليه لكن ذلك للترقية عليه بعد سببها فإذا فعل تم ولا نعلم خلافا بين المسلمين في عدم وجوب نية فرض الإيمان بعد بلوغ من حكم بصحة اسلامه صبيا تبعا لأبويه المسلمين أو لاسلامه وابواه كافران ولو كان ذلك فرضا لم يفعله أهل الإجماع عن آخرهم واما قوله يشو بها ضرر قلنا ما تتعلق به السعادة الابدية ويزول به توقع مضرة ابدية من رد اسلامه ليستمر على الكفر كل عاقل يعنيه ولا يبالي معه بذلك الضرر لانه لا نسبة له بالضرر الآخر واما التنافي الذي ذكر فإنما يلزم لو قلنا باجتماع كونه تبعا واصلا معا ولسنا نقول به بل هو تبع مالم يعقل ويقر مختارا فإذا عقل واقر مختارا نقول انقطعت تبعيته في حق هذا الحكم وبقي اصلا وفي المبسوط منع المضادة واجاز احتماعهما كالمرأة تسافر مع الزوج تكون مسافرة تبعا له حتى إذا لم تنو السفر تكون مسافرة ولو نوته كانت مسافرة مقصودا وتبعا فجعلهما امرين يتأيد أحدهما بالآخر قال المصنف ولهم في الردة يعني الشافعي وزفر وأبا يوسف إنها مضرة محضة بخلاف الإسلام على اصل أبي يوسف لانه تعلق به اعلى المنافع ودفع اعظم المضار ولأبي حنيفة ومحمد ما قلنا من إنها موجودة حقيقة بوجود حقيقتها من الانكار والاقرار به ولا مرد للحقيقة فإن قيل لا يلزم من اعتبار الحقيقة وعدم ردها في الإسلام
____________________
(6/96)
مثله في الردة لما في ذلك من النفع وفي الردة من الضرر إلا ترى انه يصح منه قبول الهبة ولا يصح منه الهبة الجواب أن حقيقة الداخلة منه في الوجود إذا كانت مما يقطع يه بالعلم أو الجهل فهي التي لا يمكن عدم اعتبارها كالإيمان والردة فانه لا يمكن أن يجعل عارفا إذا علم جهله بالكفر ولا جاهلا إذا علم علمه بالأيمان فلا بد من اعتبارها بعد وجودها وصار كما جعل مفطرا ولم يجعل صائما وكذا إذا صلى ثم افسدها فأما إذا كانت مما لا يقطع فيها بذلك بل هي دائرة بين علمه بالمصلحة وجهله بها فلا تصح منه لأنا لم نتيقن بالمصلحة في نفس الأمر وذلك كالهبة فإنه جاز فيه كونه علم المصلحة لما علمه من حسن الجزاء عليها بالضعف وجاز كونه جاهلا في ذلك بأن لم تكن جالبة لذلك فمنعناها بخلاف القبول فإنا علمنا علمه بالمصلحة فلا نجعله جاهلا بها وإذا ثبت أن الحقائق بعد العلم بثبوتها لا ترد لزم ضررها بالضرورة إلا ترى انا اتفقنا على جعله مرتدا إذا ارتد ابواه ولحقا به بدار الحرب مع ما فيه من الضرر قوله إلا انه أي الصبي المرتد يجبر علي الإسلام لما فيه من النفع المتيقن ودفع اعظم المضار ولا يقتل وهذه رابعة اربع مسائل لا يقتل فيها المرتد احداها الذي كان اسلامه تبعا لأبويه إذا بلغ مرتدا ففي القياس يقتل كقول مالك والشافعي وفي الاستحسان لا يقتل لأن إسلامه لما ثبت تبعا لغيره صار شبهة في إسقاط القتل عنه وإن بلغ مرتدا الثانية إذا أسلم في صغره ثم بلغ مرتدا ففي القياس يقتل وبه قال مالك وأحمد وفي الاستحسان لا يقتل لقيام الشبهة بسبب اختلاف العلماء في صحة اسلامه في الصغر والثالثة إذا ارتد في صغره والرابعة المكره على الإسلام إذا ارتد لا يقتل استحسانا لان الحكم بإسلامه من حيث الظاهر لان قيام السيف على رأسه ظاهر في عدم الاعتقاد فيصير شبهة في اسقاط القتل وفي كل ذلك يجبر على الإسلام ولو قتله قاتل قبل أن يسلم لا يلزمه شيء ذكر الكل في المبسوط ولها خامسة وهو اللقيط في دار الإسلام محكوم بإسلامه ولو بلغ كافرا اجبر على الإسلام ولا يقتل كالمولود بين المسلمين إذا بلغ كافرا وقال المصنف في وجه عدم قتله لانه أي القتل عقوبة والعقوبات موضوعة عن الصبيان مرحمة عليهم وبين أن الكلام كله في الصبي الذي يعقل الإسلام وفي المبسوط زاد كونه بحيث يناظر ويفهم ويفحم واعترض جماعة من الشارحين قول المصنف مرحمة عليهم بأنه يعذب في الاخرة مخلدا فليس بمرحوم ونقل ذلك عن الاسرار والمبسوط وجامع التمرتاشي رحمه الله واحال التمرتاشي هذه الرواية إلى التبصرة فالاولى في التعليل ما في المبسوط من انه لا يقتل لاختلاف العلماء في صحة اسلامه ولفظه في المبسوط في هذه المسألة فإذا حكم بصحة ردته بانت
____________________
(6/97)
منه امرأته ولكنه لا يقتل استحسانا لأن القتل عقوبة وهو ليس من أهل أن يلتزم العقوبة في الدنيا بمباشرة سببه كسائر العقوبات ولكن لو قتله إنسان لم يغرم شيئا لأن من ضرورة صحة ردته إهدار دمه دون استحقاق قتله كالمرأة إذا ارتدت لا تقتل ولو قتلها قاتل لا يلزمه شيء ومن لا يعقل من الصبيان لا يصح ارتداده لأن ارتداده لا يدل على تغير العقيدة وكذا لا يصح إسلامه قوله وكذا المجنون لا يصح ارتداده بالإجماع ولا إسلامه والسكران الذي لا يعقل كالمجنون وهو قول مالك وأحمد في رواية والشافعي في قول وقال في قول آخر يصح ارتداده كطلاقه قلنا الردة تبنى على تبدل الاعتقاد ونعلم أن السكران غير معتقد لما قال ووقوع طلاقه لأنه لا يفتقر إلى القصد ولذا لزم طلاق الناسي وتقدم في = كتاب الطلاق فيه زيادة أحكام فارجع إليه في فصل ويقع طلاق كل زوج إلى آخره
فروع كل من أبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلبه كان مرتدا فالسباب بطريق أولى ثم يقتل حدا عندنا فلا تعمل توبته في إسقاط القتل قالوا هذا مذهب أهل الكوفة ومالك ونقل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولا فرق بين أن يجيء تائبا من نفسه أو شهد عليه بذلك بخلاف غيره من المكفرات فإن الإنكار فيها توبة فلا تعمل الشهادة معه حتى قالوا يقتل وغن سب سكران ولا يعفى عنه ولا بد من تقييده بما إذا كان سكره بسبب محظور باشره مختارا بلا إكراه وإلا فهو كالمجنون وقال الخطابي ولا أعلم أحدا خالف في وجوب قتله
واما مثله في حقه تعالى فتعمل توبته في إسقاط قتله ومن هزل بلفظ كفر ارتد وإن لم يعتقده للاستخفاف فهو ككفر العناد واللفاظ التي يكفر بها تعرف في الفتاوى وإذا تهود نصراني أو عكسه لا نأمره بالرجعة إلى ما كان عليه لأنه لا يؤمر بالكفر والردة محبطة ثواب جميع الأعمال وإذا عاد إلى الإسلام إن عاد في وقت صلاة صلاها فعليه أداؤها ثانيا وكذا يجب عليه الحج ثانيا إن كان حج وإذا أعتق المرتد عبده ثم أعتقه ابنه ثم مات المرتد أو قتل لا ينفذ لأن عتق المرتد موقوف فبموته يبطل وإعتاق ابنه قبل ملكه لأنه لا يملكه إلا بعد الموت حقيقة أو حكما ولا يتوقف بخلاف ما لو أعتق الوارث عبدا من التركة المستغرقة بالدين ثم سقط الدين فإنه ينفذ والفرق في المبسوط وعن عدم ملك الوارث وسببه قلنا إذا مات الابن وله معتق ثم مات الأب وهو مرتد وله معتق فماله لمعتقه لا لمعتق الابن لأنا مات قبل تمام سبب الملك وتقبل الشهادة بالردة من عدلين ولا يعلم مخالف إلا الحسن رحمه الله قال لا يقبل في القتل إلا أربعة قياسا على الزنا وإذا شهدوا على مسلم بالردة وهو منكر لا يتعرض له لا لتكذيب الشهود العدول بل لأن إنكاره توبة ورجوع وقتل المرتد مطلقا إلى الإمام عند عامة أهل العلم إلا عند الشافعي في وجه في العبد إلى سيده ومن أصاب حدا ثم ارتد ثم أسلم إن لم يلحق بدار الحرب أقيم عليه الحد وإن لحق ثم عاد لا يقام عليه وعند الشافعي وأحمد يقام مطلقا والمبنى ظاهر وقدمنا أنه لا تقبل توبة الساحر والزنديق في ظاهر المذهب وهو من لا يتدين بدين وأما من يبطن الكفر ويظهر الإسلام فهو المنافق ويجب أن يكون حكمه في عدم قبولنا توبته كالزنديق لأن ذلك في الزنديق لعدم الاطمئنان إلى ما يظهر من التوبة إذا كان يخفي كفره الذي هو عدم اعتقاده دينا والمنافق مثله في الإخفاء وعلى هذا فطريق العلم بحاله إما بأن يعثر بعض الناس عليه أو يسره إلى أمن إليه أمن إليه والحق أن الذي يقتل ولا تقبل
____________________
(6/98)
توبته هو المنافق فالزنديق إن كان حكمه كذلك فيجب أن يكون مبطنا كفره الذي هو عدم التدين بدين ويظهر تدينه بالإسلام أو غيره إلى أن ظفرنا به وهو عربي وإلا فلو فرضناه مظهرا لذلك حتى تاب يجب أن لا يقتل وتقبل توبته كسائر الكفار المظهرين لكفرهم إذا أظهروا التوبة وكذا من علم انه ينكر في الباطن بعض الضروريات كحرمة الخمر ويظهر اعتراف حرمته وقال أصحابنا للسحر حقيقة وتأثير في إيلام الأجسام خلافا لمن منع ذلك وقال إنما هو تخييل وتعليم السحر حرام بلا خلاف بين أهل العلم واعتقاد إباحته كفر وعن أصحابنا ومالك وأحمد يكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو لا ويقتل وقد روي عن عمر وعثمان وابن عمر وكذلك عن جندب بن عبد الله وحبيب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن عبد العزيز فإنهم قتلوه بدون الاستتابة وفيه حديث مرفوع رواه الشيخ أبو بكر الرازي في أحكام القرآن حدثنا ابن قانع حدثنا بشر بن موسى حدثنا ابن الأصفهاني حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حد الساحر ضربه بالسيف انتهى يعني القتل قال وقصة جندب في قتله الساحر بالكوفة عن الوليد بن عتبة مشهورة وعند الشافعي لا يقتل ولا يكفر إلا إذا اعتقد إباحته وأما الكاهن فقيل هو الساحر وقيل هو العراف وهو الذي يحدث ويتخرص وقيل هو الذي له من الجن من يأتيه بالأخبار قال أصحابنا إن اعتقد أن الشياطين يفعلون له ما يشاء كفر وإن اعتقد أنه تخييل لم يكفر وعند الشافعي إن اعتقد ما يوجب الكفر مثل التقرب إلى الكواكب وانها تفعل ما يلتمسه كفر وعند احمد حكمه حكم الساحر في رواية يقتل لقول عمر رضي الله عنه اقتلوا كل ساحر وكاهن وفي رواية إن تاب لم يقتل ويجب أن لا يعدل عن مذهب الشافعي في كفر الساحر والعراف وعدمه وأما قتله فيجب ولا يستتاب إذا عرفت مزاولته لعمل السحر لسعيه بالفساد في الأرض لا بمجرد عمله إذا لم يكن في اعتقاده ما يوجب كفره وإذا طلب المرتدون الموادعة لا يجيبهم إلى ذلك & باب البغاة
قدم أحكام قتال الكفار ثم اعقبه بقتال المسلمين والوجه ظاهر والبغاة جمع باغ وهذا الوزن مطرد في كل اسم فاعل معتل اللام كغزاة ورماة وقضاة والبغي في اللغة الطلب بغيت ذا أي طلبته قال تعالى حكاية ذلك { ما كنا نبغ } ثم اشتهر في العرف في طلب ما لا يحل من الجور والظلم والباغي في عرف الفقهاء الخارج عن طاعة إمام الحق والخارجون عن طاعته أربعة أصناف أحدها الخارجون بلا تأويل بمنعة وبلا منعة يأخذون أموال الناس ويقتلونهم ويخيفون الطريق وهم قطاع الطريق والثاني قوم كذلك إلا أنهم لا منعة لهم
____________________
(6/99)
لكن لهم تأويل فحكمهم حكم قطاع الطريق إن قتلوا قتلوا وصلبوا وإن أخذوا مال المسلمين قطعت أيديهم وأرجلهم على ما عرف والثالث قوم لهم منعة وحمية خرجوا عليه بتأويل يرون أنه على باطل كفر أو معصية يوجب قتاله بتأويلهم وهؤلاء يسمون بالخوارج يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويسبون نساءهم ويكفرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمهم عند جمهور الفقهاء وجمهور أهل الحديث حكم البغاة وعند مالك يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا دفعا لفسادهم لا لكفرهم وذهب بعض أهل الحديث إلى أنهم مرتدون لهم حكم المرتدين لقوله صلى الله عليه وسلم يخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتهم فاقتلهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة رواه البخاري وعن أبي أمامة أنه رأى رءوسا منصوبة على درج مسجد دمشق فقال كلاب أهل النار كلاب أهل النار كلاب أهل النار وقد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفارا قيل يا أبا أمامة هذا شيء تقوله قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن المنذر ولا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم وهذا يقتضي نقل إجماع الفقهاء وذكر في المحيط أن بعض الفقهاء لا يكفر أحدا من أهل البدع وبعضهم يكفرون بعض أهل البدع وهو من خالف ببدعته دليلا قطعيا ونسبه إلى أكثر أهل السنة والنقل الأول أثبت نعم يقع في كلام أهل المذاهب تكفير كثير ولكن ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون بل من غيرهم ولا عبرة بغير الفقهاء والمنقول عن المجتهدين ما ذكرنا وابن المنذر أعرف بنقل مذاهب المجتهدين وما ذكره محمد بن الحسن في أول الباب من حديث كثير الحضرمي يدل على عدم تكفير الخوارج وهو قول الحضرمي دخلت مسجد الكوفة من قبل أبواب كندة فإذا نفر خمسة يشتمون عليا رضي الله عنه وفيهم رجل عليه برنس يقول أعاهد الله لأقتلنه فتعلقت به وتفرقت أصحابه عنه فأتيت به عليا رضي الله عنه فقلت إني سمعت هذا يعاهد الله ليقتلنك فقال ادن ويحك من أنت فقال انا سوار المنقرى فقال علي رضي الله عنه خل عنه فقلت أخلي عنه وقد عاهد الله ليقتلنك قال أفأقتله ولم يقتلني قلت فإنه قد شتمك قال فاشتمه إن شئت أو دعه ففي هذا دليل على أن ما لم يكن للخارجين منعة لا نقتلهم وأنهم ليسوا كفارا لا بشتم علي ولا بقتله قيل إلا إذا استحله فإن من استحل قتل مسلم فهو كافر ولا بد من تقييده بأن لا يكون القتل بغير حق أو عن تأويل واجتهاد يؤديه إلى الحكم بحله بخلاف المستحل بلا تأويل وألا لزم تكفيرهم لأن الخوارج يستحلون القتل بتأويلهم الباطل ومما يدل على عدم تكفيرهم ما ذكره محمد أيضا حيث قال وبلغنا عن علي رضي الله عنه أنه بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ حكمت الخوارج من ناحية المسجد فقال علي رضي الله عنه كلمة حق أريد بها باطل لن نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ولن نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا ثم أخذ في خطبته ومعنى قوله حكمت الخوارج نداؤهم بقولهم الحكم لله وكانوا يتكلمون بذلك إذا أخذ علي في الخطبة ليشوشوا خاطره فإنهم كانوا يقصدون بذلك نسبته إلى الكفر لرضاه بالتحكيم في صفين ولهذا قال علي رضي الله عنه كلمة حق أريد بها باطل يعني تكفيره وفيه دليل أن الخوارج إذا قاتلوا الكفار مع أهل العدل يستحقون من الغنيمة مثل ما يستحقه غيرهم من المسلمين وأنه لا يعزر بالتعريض بالشتم لأنه نسبته إلى الكفر شتم عرضوا به ولم يصرحوا والرابع قوم مسلمون خرجوا على إمام العدل
____________________
(6/100)
ولم يستبيحوا ما استباحه الخوارج من دماء المسلمين وسبي ذراريهم وهم البغاة قوله إذا تغلب قوم من المسلمين على بلد وخرجوا عن طاعة إمام الناس به في أمان والطرقات آمنة دعاهم إلى العود إلى الجماعة وكشف عن شبهتهم التي أوجبت خروجهم لأن عليا رضي الله عنه فعل ذلك بأهل حروراء قبل قتالهم وليس ذلك واجبا بل مستحب لأنهم كمن بلغتهم الدعوة لا تجب دعوتهم ثانيا وتستحب وحروراء اسم قرية من قرى الكوفة وفيه المد والقصر ومنه قول عائشة رضي الله عنها لمعاذة أحرورية أنت أسند النسائي في سننه الكبرى في خصائص علي إلى ابن عباس رضي الله عنهم قال لما خرجت الحرورية اعتزلوا في دار وكانوا ستة آلاف فقلت لعلي يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة لعلي أكلم هؤلاء القوم قال إني أخافهم عليك قلت كلا فلبست ثيابي ومضيت إليهم حتى دخلت عليهم في دار وهم مجتمعون فيها فقالوا مرحبا بك يا ابن عباس عباس ما جاء بك قلت أتيتكم عم عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار من عند ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصهره وعليهم نزل القرآن وهم أعرف بتأويله منكم وليس فيكم منهم أحد جئت لأبلغكم ما يقولون وأبلغهم ما تقولون فانتحى لي نفر منهم قلت هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه وختنه وأول من آمن به قالوا ثلاث قلت ما هي قالوا إحداهن أنه حكم الرجال في دين الله وقد قال تعالى { إن الحكم إلا لله } قلت هذه واحدة قالوا وأما الثانية فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم فإن كانوا كفارا فقد حلت لنا نساؤهم وأموالهم وإن كانوا مؤمنين فقد حرمت علينا دماؤهم قلت هذه أخرى قالوا وأما الثالثة فإنه محا نفسه من أمير المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فإنه يكون أمير الكافرين قلت هل عندكم شيء غير هذا قالوا حسبنا هذا قلت لهم أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله وحدثتكم من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد قولكم هذا ترجعون قالوا اللهم نعم قلت أما قولكم إنه حكم الرجال في دين الله فأنا اقرأ عليكم أن قد صير الله حكمه إلى الرجال في أرنب ثمنها ربع درهم قال تعالى { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } إلى قوله { يحكم به ذوا عدل منكم } وقال في المرأة وزوجها { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } أنشدكم الله أحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وإصلاح ذات بينهم أحق أم في أرنب ثمنها ربع درهم قالوا اللهم بل في حقن دمائهم وإصلاح ذات بينهم قلت أخرجت من هذه قالوا اللهم نعم قلت وأما قولكم إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم أتسبون أمكم عائشة فتستحلون منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم
____________________
(6/101)
لئن فعلتم لقد كفرتم فإن قلتم ليست أمنا فقد كفرتم قال الله تعالى { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم } فأنتم بين ضلالتين فأتوا منها بمخرج أخرجت من هذه الأخرى قالوا اللهم نعم قلت وأما قولكم انه محا نفسه من أمير المؤمنين فان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريشا يوم الحديبية على أن يكتب بينه وبينهم كتابا فقال اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقالوا والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد عبد الله فقال والله أني لرسول الله وان كذبتموني يا علي اكتب محمد بن عبد الله فرسول الله صلى الله عليه وسلم خير من علي وقد محا نفسه ولم يكن محوه ذلك محوا من النبوة أخرجت من هذه الأخرى قالوا اللهم نعم فرجع منهم ألفان وبقي سائرهم فقتلوا على ضلالتهم قتلهم المهاجرون والانصار وروى الحاكم أن عبد الله بن شداد استحكته عائشة عن الذين قتلهم علي فقال لما كان حرب معاوية وحكم الحكمين خرج عليه ثمانية ألاف من قراء الناس فنزلوا بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة إلى أن قال بعث علي اليهم عبد الله بن عباس فخرجت معه حتى إذا توسطنا عسكرهم قام ابن الكواء خطيبا فقال يا حملة القرآن هذا عبد الله بن عباس فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرفه من كتاب الله ما يعرفه به هذا ممن نزل فيه وفي قومه بل هم قوم خصمون فردوه إلى صاحبه ولا تواضعوه كتاب الله فقام خطباؤهم وقالوا والله لنواضعنه فواضعهم عبد الله بن عباس الكتاب وواضعوه ثلاثة ايام فرجع منهم اربعة الاف فيهم ابن الكواء حتى ادخلهم الكوفة على علي إلى اخر الحديث وقال على شرط البخاري ومسلم قوله ولا يبدأ بقتال حتى يبدءوه هكذا ذكره القدورى وهو عين ما قدمناه من قول علي رضي الله عنه ولن تقاتلكم حتى تقاتلونا وذكر الأمام الاجل المعروف بخواهر زاده أن عندنا يجوز أن نبدأ بقتالهم إذا تعسكروا واجتمعوا وقال الشافعي لا يجوز حتى يبدءؤا حقيقة وهو قول مالك واحمد واكثر أهل العلم لان قتل المسلم لا يجوز إلا دفعا وهم أي البغاة مسلمون لقوله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } ثم قال { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } ونحن ادرنا الحكم وهو حل القتال على دليل قتالهم وذلك هو الإجماع على قصد القتال والامتناع لانه لو انتظر حقيقة قتالهم ربما لا يمكنه الدفع لتقوى شوكهم وتكثر جمعهم خصوصا والفتنة يسرع اليها أهل الفساد وهو الاكثر والكفر ما اباح القتال إلا للحرابة والبغاة كذلك ويجب على كل من اطاق الدفع أن يقاتل مع الأمام إلا أن ابدوا ما يجوز لهم القتال كان ظلمهم أو ظلم غيرهما ظلما لا شبهة فيه بل يجب أن يعينوهم حتى ينصفهم ويرجع عن جوره بخلاف ما إذا كان الحال مشتبها انه ظلم مثل
____________________
(6/102)
تحميل بعض الجبايات التي للامام اخذها والحاق الضرر بها لدفع ضرر اعم منه ويجوز قتالهم بكل ما يقاتل به أهل الحرب من المنجنيق وارسال الماء والنار وخواهر زاده معناه ابن الاخت وكان ابن اخت القاضي الأمام أبي ثابت قاضي سمرقند واسم خواهر زاده محمد وكنيته أبو بكر واسم ابيه حسين البخاري وهو معاصر لشمس الأئمة السرخسي وموافق له في اسمه وكنيته لان شمس الأئمة اسمه محمد وكنيته أبو بكر بن أبي سهل وتوفي كل منهما في العام الذي توفي فيه الآخر وهو عام ثمان وثمانين واربعمائة وفخر الإسلام أيضا معاصر لهما وتوفي في سنة احدى وثمانين واربعمائة فإذا بلغه انهم يشترون السلاح ويتأهبون للقتال ينبغي أن يأخذهم ويحبسهم حتى يقلعوا عن ذلك ويحدثوا توبة دفعا للشر بقدر الإمكان والمروى عن أبي حنيفة رحمه الله من قوله الفتنة إذا وقعت بين المسلمين فالواجب عن كل مسلم أن يعتزل الفتنة ويقعد في بيته لقوله صلى الله عليه وسلم من فر من الفتنة اعتق الله رقبته من النار وقال لواحد من الصحابة كن حلسا من احلاس بيتك رواه عنه الحسن بن زياد فمحمول على ما إذا لم يكن لهم امام وما روى عن جماعة من الصحابة انهم قعدوا في الفتنة محمول على انه لم يكن لهم قدرة ولا غناء وربما كان بعضهم في تردد من حل القتال كما روى عن بعضهم انه اتى عليا رضي الله عنه يطلب عطاءه من بيت المال فمنعه علي رضي الله عنه وقال له ابن كنت يوم صفين فقال ابغني سيفا اعرف به الحق من الباطل فقال له ما قال الله هذا وانما قال فقاتلوا التي تبغي حتى تفىء إلى أمر الله وما روى إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار فحمول على اقتتالهما حمية وعصبية كما يتفق بين أهل قريتين ومحلتين أو أجل الدنيا والمملكة قال الذهبي صح عن أبي وائل عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال رأيت كان قبابا في رياض فقلت لمن هذه فقالوا لذي الكلاع واصحابه ورأيت قبابا في رياض فقلت لمن هذه فقيل لعمار بن ياسر واصحابه قلت وكيف وقد قتل بعضهم بعضا قال انهم وجدوا الله واسع المغفرة انتهى وهذا لان قتالهم عن اجتهاد قوله فان كان لهم فئة اجهز على جريحهم أي يسرع في اماتته واتبع موليهم على البناء للمفعول فيهما للقتل والاسر دفعا لشرهم كي لا يلتحقا أي الجريح والمولى بهم أي بالفئة على معنى القوم وان لم يكن لهم فئة لم يجهز على جريحهم ولم يتبع موليهم لاندفاع الشر بدون ذلك وهو المطلوب وقال الشافعي واحمد أيضا لا يجوز ذلك أي الاجهاز والاتباع في الحالين حالتى الفئة وعدمها لان القتال إذا تركوه يالتولية والجراحة المعجزة عنه لم يبق قتلهم دفعا ولا يجوز قتلهم إلا دفعا لشرهم ولما روى
____________________
(6/103)
ابن أبي شيبة عن عبد خير عن علي رضي الله عنه انه قال يوم الجمل لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ومن القى سلاحه فهو امن واسند أيضا ولا يقتل اسيرا وجوابه ما ذكرنا أن المعتبر في جواز القتل دليل قتالهم لا حقيقته ولان قتل من ذكرنا إذا كان له فئة لا يخرج عن كونه دفعا لانه يتحيز إلى الفئة ويعود شره كما كان واصحاب الجمل لم يكن لهم فئة أخرى سواهم قوله ولا تسى لهم ذرية إذا ظهر عليهم ولا يقسم لهم مال بين المقاتلة لقول علي رضي الله عنه فيما روى ابن أبي شيبة أن عليا لما هزم طلحه واصحابه أمر مناديه فنادى أن لا يقتل مقبل ولا مدبر يعني بعد الهزيمة ولا يفتح باب ولا يستحل فرج ولا مال وروى عبد الرازق نحوه وزاد وكان علي رضي الله عنه لا يأخذ مال المقتول ويقول من اعترف شيئا فليأخذه وفي تاريخ واسط باسناده عن عى انه قال يوم الجمل لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تقتلوا اسيرا واياكم والنساء وان شتمن اعراضكم وسببن امراءكم ولقد رأيتنا في الجاهلية وان الرجل ليتناول المرأة بالجريدة أو بالهراوة فيعير بها هو وعقبه من بعده هذا وفي حديث مرفوع رواه الحاكم في المستدرك والبزار في مسنده من حديث كوثر بن حكيم عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هل تدري با ابن ام عبد كيف حكم الله فيمن بغي من هذه الأمة قال الله ورسوله اعلم قال لا يجهز على جريحها ولا يقتل اسيرها ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها واعله البزار بكوثر بن حكيم وبه تعقب الذهبي على الحاكم قال محمد وبلغنا أن عليا رضي الله عنه القي ما اصاب من عسكر أهل النهروان في الرحبة فمن عرف شيئا اخذه حتى كان اخره قدر حديد لانسان فأخذه وقول علي رضي الله عنه في الاسير تأويله إذا لم تكن له فئة فان كانت فالامام بالحيار أن شاء قتل الاسير أن كان عبد يقاتل وان شاء حبسه والعبد الذي لا يقاتل بل يخدم مولاه يحبس لما ذكرنا من دفعه الشر بقدر الإمكان وفيه خلاف الأئمة الثلاثة ومعنى هذا الحيار أن يحكم نظره فيما هو احسن الأمرين في كسر الشوكة من قتله وحبسه ويختلف ذلك بحسب الحال لا يهوي النفس والتشفي وإذا اخذت المرأة من أهل البغي وكانت تقاتل حبست ولا تقتل إلا في حال مقالتها دفعا وانما تحبس للمعصية ولمنعها من الشر والفتنة قوله ولا باس أن يقاتلوا بسلاحهم أن احتاج أهل العدل اليه وكذا الكراع يقاتلون عليه وقال الشافعي لا يجوز استعمالها في القتال وترد عليهم عند الامن منهم ولا ترد قبله لانه مال مسلم فلا يجوز ذلك إلا برضاه ولنا أن عليا الخ يريد ما روى ابن أبي شيبه في اخر مصنفه في باب وقعه الجمل بسنده إلى أبن الحنفية أن عليا رضي الله عنه قسم يوم الجمل
____________________
(6/104)
في العسكر ما اجافوا عليه من كراع وسلاح قال المصنف وكانت قسمته للحاجة لا للتميلك وأولا أن فيه اجماعا لامكن التمسك ببعض الظواهر في تملكه فان ابن أبي شيبة اسند عن أبي البختري لما انهزم أهل الجمل قال علي رضي الله عنه لا تطلبوا من كان خارجا من العسكر وما كان من دابة أو سلاح فهو لكم وليس لكم ام ولد واي امرأة قتل زوجها فلتعتد اربعة اشهر وعشرا فقالوا يا أمير المؤمنين تحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا نساؤهم فخاصموه فقال هاتوا نساءكم واقرعوا على عائشة فهي رأس الأمر وقائدهم قال فخصمهم علي رضي الله عنه وعرفوا وقالوا نستغفر الله قال المصنف ولأن للامام أن يعفل ذلك في مال العادل أي يستعين بكراعه وسلاحه عند حاجة المسلمين اليه ففي مال الباغي اولى والمعنى المجوز فيه انه دفع الضرر الاعلى وهو الضرر المتوقع لعامة المسلمين بالضرر الادنى وهو اضرار بعضهم ويحبس الأمام اموالهم لدفع شرهم واضعافهم بذلك ولا يردها اليهم ولا يقسمها حتى يتوبوا فيردها عليهم أو على ورثتهم إذا ظهر ذلك وإذا حبسها كان بيع الكراع اولى لان حبس الثمن انظر ولا ينفق علهي من بيت المال ليتوفر مؤنتها عليه وهذا إذا لم يكن للامام بها حاجة قوله وما جباه أهل البغي من البلاد التي غلبوا عليها من الخراج والعشر لا يأخذه الأمام ثانيا إذا ظهر على البغاة لان ولاية الاخذ إنما كانت له لحمايته اياهم ولم يحمهم وما قيل أن عليا رضي الله عنه لما ظهر على أهل البصرة لم يطالبهم بشيء مما جبوه فيه نظر لأن الخوارج لا نعلم انهم غلبوا على بلدة فأخذوا جباياتها قالوا وكان ابن عمر إذا أتاه ساعي الحرورا دفع اليه زكاته وكذا سلمة بن الاكوع ثم أن كانوا صرفوه إلى حقه أي إلى مصارفه اجزأ من أخذ منه ولا اعادة عليه لوصول الحق إلى مستحقه وان لم يكونوا صرفوه في حقه فعلى من أخذ منهم أن يعيدوا الاداء فيما بينهم وبين الله تعالى قال المصنف رحمه الله قالوا أي المشايخ لا اعادة على الارباب في الخراج لانهم أي البغاة مقاتلة وهم مصرف الخراج وان كانوا اغنياء وفي العشر أن كانوا فقراء فكذلك وان كانوا اغنياء افتوا بالاعادة وكذا في زكاة الأموال كلها لو أخذوها وتقدم ذلك والمدفوع مصادرة إذا نوى الدافع التصدق عليهم في كتاب الزكاة فارجع اليه قوله ومن قتل رجلا إلى آخره يعني إذا
____________________
(6/105)
كان رجلان من أهل البغي قتل أحدهما الآخر لا يجب على القاتل دية ولا قصاص إذا ظهرنا عليهم لانه قتل نفسا يباح قتلها إلا ترى أن العادل إذا قتله لا يجب عليه شيء فلما كان مباح القتل لم يجب به شيء ولان القصاص لا يستوفي إلا بالولاية وهي بالمنعة ولا ولاية لامامنا عليهم فلا يجب شيء وصار كالقتل في دار الحرب وعند الأئمة الثلاثة يقتل به لأن عندهم كل موضع تجب فيه العبادات في اوقاتها فهو كدار العدل وتقدم الكلام فيه قوله وان غلبوا على مصر من امصار أهل العدل فقتل رجل من أهل المصر رجلا منهم عمدا ثم ظهرنا على ذلك المصر فإنه يقتص منه ومعنى المسألة كما قال فخر الإسلام انهم غلبوا ولم يجر فيها حكمهم بعد حتى ازعجهم امام العدل عن أهل المصر أي اخرجهم قبل تقرر حكمهم لان حينئذ لم تنقطع ولاية الأمام فوجب القود اما لو جرت احكامهم حتى صارت في حكم محل ولايتهم فلا قود ولا قصاص ولكن يستحق عذاب الاخرة قوله وإذا قتل رجل من أهل العدل باغيا فإنه يرثه بالاتفاق لانه مأمور بقتله فلا يحرم الميراث به وان قتل الباغي العادل وقال كنت على الحق وأنا الان على الحق ورثه وان قال قتلته وأنا اعلم أني على الباطل لم يرثه وهذا عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف لا يرث الباغي العادل في الوجهين وهو قول الشافعي وأصله أي اصل هذا الخلاف الخلاف في أن العادل إذا اتلف نفس الباغي أو ماله لا يضمن عندنا ولا يأثم لأنه مأمور بقتالهم دفعا لشرهم وهذا بالاتفاق والباغي إذا قتل العادل بعد قيام منعتهم وشوكتهم لا يجب الضمان عليه عندنا وبه قال احمد والشافعي في قوله الجديد ولو قتله قبل ذلك اقتص منه اتفاقا وكذا يضمنون المال وقال الشافعي في القديم يضمن وبه قال مالك لانها نفوس واموال معصومة فتضمن بالاتلاف ظلما وعدوانا وعلى هذا الخلاف لو تاب المرتد وقد أتلف نفسا أو مالا ولنا انه اتلاف ممن لم يعتقد وجوب الضمان في حال عدم ولاية الالزام عليه فلا يؤاخذ به قياسا على أهل الحرب والحاصل أن نفي الضمان منوط بالمنعة مع التأويل فلو تجرد المنعة عن التأويل كقوم غلبوا على أهل بلدة فقتلوا واستهلكوا الأموال بلا تأويل ثم ظهر عليه اخذوا بجميع ذلك ولو انفرد التأويل عن المنعة بأن انفرد واحد أو اثنان فقتلوا واخذوا عن تأويل ضمنوا إذا تابوا أو قدر عليهم والدليل على ما ذكرناه إجماع الصحابة رواه الزهري قال عبد الرزاق في مصنفه أنبأنا معمر اخبرني الزهري
____________________
(6/106)
أن سليمان بن هشام كتب اليه يسأله عن امرأة خرجت من عند زوجها وشهدت على قومها بالشرك ولحقت بالحرورية فتزوجت ثم إنها رجعت إلى اهلها تائبة قال فكتب الهي إما بعد فان الفتنة الأولى ثارت واصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرا كثير فاجتمع رأيهم على أن لا يقيموا على أحد حدا في فرج استحلوه بتأويل القرآن ولا قصاصا في دم استحلوه بتأويل القرآن ولا برد مال استحلوه بتأويل القرآن إلا أن يوجد شيء بعينه فيرد على صاحبه واني ارى أن ترد إلى زوجها وان يحد من افترى عليها قال المصنف ولانه اتلف عن تأويل فاسد والفاسد من التأويل ملحق بالصحيح إذا ضمت اليه المنعة في حق الدافع أي نفي الضمان وصار كما في منعة أهل الحرب وتأويلهم ولا يخفي أن هذا الاعتبار وهو الحاق الفاسد من الاجتهاد الذي لم يسوغ حتى ضلل مرتكبه بالصحيح بشرط انضمام المنعة اليه وتعليله بأنه عند انضمام المنعة تنقطع ولاية الالزام فيلزم السقوط كله مستندا إلى الإجماع المنقول من الصحابة وألا فلا يلزم من العجز عن الالزام سقوطه شرعا بل إنما يلزم سقوط الخطاب به ما دام العجز عن الزامه ثابتا فإذا ثبتت القدرة تعلق خطاب الالزام كما يقوله الشافعي لكن لما كان الإجماع المنقول في صورة مقيدة بما ذكرنا كان ذلك أصلا شرعيا ضرورة الإجماع المذكور إذا عرفت هذا فيقول أبو يوسف الحاق التأويل الفاسد بالصحيح بقول الصحابة كان في دفع الضمان والحاجة هنا إلى إثبات الاستحقاق فالحاقه به بلا دليل وهما يقولان المتحقق من الصحابة جعل تلك المنعة والاعتقاد دافعا لما لولاه لثبت لثبوت اسباب الثبوت إلا ترى انه لولا تلك المنعة والاعتقاد لثبت الضمان لثبوت سببه من القتل عمدا واتلاف المال المعصوم فيتناول ما نحن فيه فإن القرابة التي هي سبب استحقاق الميراث قائمة والقتل بغير حق مانع وجد عن اعتقاد الحقية مع المنعة فمنع مقتضاه من المنع فعمل السبب عمله من إثبات الميراث قوله ويكره بيع السلاح من أهل الفتنة وفي عسكرهم لانه اعانة على المعصية وليس ببيعه بالكوفة من أهل الكوفة ومن لم يعرف من أهل الفتنة يأس لان الغلبة في الامصار لأهل الصلاح وانما يكره بيع نفس السلاح لانه يقاتل بعينه لا ما لا يقاتل به إلا بصنعة
____________________
(6/107)
تحدث فيه ونظيره كراهة بيع المعازف لان المعصية تقام بها عينها ولا يكره بيع الخشب المتخذة هي منه وعلى هذا بيع الخمر لا يصح ويصح بيع العنب والفرق في ذلك كله ما ذكرنا وقيل الفرق الصحيح أن الضرر هنا يرجع إلى العامة وهناك يرجع إلى الخاصة ذكره في الفوائد الظهيرية
فروع إذا طلب أهل البغي الموادعة اجيبوا اليها إذا كان خيرا للمسلمين لان المسلمين قد يحتاجون إلى الموادعة لحفظ قوتهم والاستزادة من التقوى عليهم ولا يؤخذ منهم عليها شيء لانهم مسلمون ومثله في المرتدين إلا انهم إذا اخذوا ملكوا ثم يجبرون على الإسلام وإذا تاب أهل البغي تقدم انهم لا يضمنون ما اتلفوا وفي المبسوط روى عن محمد قال افتيهم بان يضمنوا ما تلفوا من النفوس والأموال ولا الزمهم بذلك في الحكم قال شمس الأئمة وهذا صحيح لانهم كانوا معتقدين الإسلام وقد ظهر لهم خطؤهم إلا أن ولاية الالزام كانت منقطعة لمنعة فيفتوا به ولو استعان أهل البغي بأهل الذمة فقاتلوا معهم لم يكن ذلك منهم نقضا للعهد كما أن هذا الفعل من أهل البغي ليس نقضا للايمان فالذين انضموا اليهم من أهل الذمة لم يخرجوا من أن يكونوا ملتزمين حكم الإسلام في المعاملات وان يكونوا من أهل الدار فحكمهم حكم البغاة وإذا وقعت الموادعة فاعطى كل فريق رهنا على أن ايهما غدر يقتل الاخرون الرهن فغدر أهل البغي وقتلوا الرهن لا يحل أهل العدل قتل الرهن بل يحبسونهم حتى يهلك أهل البغي او يتوبوا لانهم صاروا آمنين بالموادعة أو باعطائنا الامان لهم حين اخذناهم رهنا والغدر من غيرهم لا يؤاخذون به لكنهم يحبسون مخافة أن يرجعوا إلى فئتهم وكذا إذا كان هذا الصلح بين المسلمين والكفار حبس رهنهم حتى يسلموا فإن أبوا جعلوا ذمة ووضعت عليهم الجزية لانهم حصلوا في ايدينا آمنين وحكي أن المنصور كان ابتلى به مع أهل الموصل ثم انهم غدروا فقتلوا رهنه فجمع العلماء يستشيرهم فقالوا يقتلون كما شرطوا على أنفسهم وفيهم أبو حنيفة ساكت فقال له ما تقول قال ليس لك ذلك فانك شرطت لهم ما لا يحل وشرطوا لك مالا يحل وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولا تز وازرة وزر أخرى فاغلظ عليه القول وامر باخراجه من عنده وقال ما دعوتك لشيء إلا اتيتني بما اكره ثم جمعهم من الغد وقال قد تبين لي أن الصواب ما قلت فماذا نصنع بهم قال سل العلماء فسألهم فقالوا لا علم لنا قال أبو حنيفة توضع عليهم الجزية قال لم وهم لا يرضون بذلك قال لانهم رضوا بالمقام في دارنا على التأبيد والكافر إذا رضي بذلك توضع عليه الجزية فاستحسن قوله واعتذر عليه وإذا امن رجل من أهل العدل رجلا من أهل البغي جاز امانه لأنه ليس اعلى شقاقا من الكافر وهناك يجوز فكذا هنا ولانه قد يحتاج إلى مناظرته ليتوب ولا يتأتى ذلك ما لم يأمن كل من الآخر ومنه أن يقول لا بأس عليك ولا يجوز أمان الذمي إذا كان يقاتل مع أهل البغي ولو ظهر أهل البغي على بلد فولوا فيه قاضيا من اهله ليس من أهل البغي صح وعليه أن يقيم الحدود والحكم بين الناس بالعدل فان كتب هذا القاضي كتابا إلى قاضي أهل العدل بحق لرجل من أهل مصره بشهادة من شهد
____________________
(6/108)
عنده إن كان القاضي يعرفهم وليسوا من أهل البغي أجازه وإن كانوا من أهل البغي أو لا يعرفهم لا يعمل به لأن الغالب فيمن يسكن عندهم أنه منهم ولا يقبل قاضي أهل العدل كتاب قاضي أهل البغي لأنهم فسقة ويكره أخذ رءوسهم فيطاف بها في الآفاق لأنه مثلة وجوزه بعض المتأخرين إذا كان فيه طمأنينة قلوب أهل العدل أو كسر شوكتهم ويكره للعادل قتل أبيه أو أخيه من أهل البغي بخلاف أخيه الكافر فإنه لا يكره لأنه اجتمع في الباغي حرمتان حرمة الإسلام وحرمة القرابة وفي الكافر حرمة القرابة فقط وإذا كان رجل من أهل العدل في صف أهل البغي فقتله رجل من أهل العدل لم يكن عليه فيه دية كما لو كان في صف أهل الحرب لأنه أهدر دمه حين وقف في صفهم ولو دخل بابا بأمان فقتله عادل عليه الدية كما لو قتل المسلم مستأمنا في دارنا وهذا لبقاء شبهة الإباحة في دمه وإذا حمل العادل على الباغي فقال تبت وألقى السلاح كف عنه وكذا لو قال كف عني حتى أنظر لعلي أتوب وألقي السلاح وما لم يلق السلاح في صورة من الصور كان له قتله ومتى ألقاه كف عنه بخلاف الحربي لا يلزمه الكف عنه بإلقائه السلاح ولو غلب على أهل البغي على بلد فقاتلهم آخرون من أهل البغي فأرادوا أن يسبوا ذراربى أهل المدينة وجب على أهل البلد أن يقاتلوا دون ذراريهم لأنهم لا يسبون فوجب قتالهم وإذا وادع أهل البغي قوما من أهل الحرب لا يحل لأهل العدل غزوهم لأنهم مسلمون وأمان المسلم إذا كان في منعة نافذ على جميع المسلمين فإن غدر بهم البغاة فسبوا لا يحل لأحد من أهل العدل أن يشتري منهم ولو ظهر أهل البغي على أهل العدل فألجأوهم إلى دار الشرك لم يحل لهم أن يقاتلوا البغاة مع أهل الشرك لأن حكم أهل الشرك ظاهر عليهم ولا يحل لهم أن يستعينوا بأهل الشرك على أهل البغي إذا كان حكم أهل الشرك هو الظاهر ولا بأس بأن يستعين أهل العدل بالبغاة والذميين على الخوارج إذا كان حكم أهل العدل هو الظاهر لأنهم يقاتلون لإعزاز الدين والاستعانة عليهم بقوم منهم أو من أهل الذمة كالاستعانة عليهم بالكلاب وإذا ولى البغاة قاضيا في مكان غلبوا عليه فقضى ما شاء ثم ظهر أهل العدل فرفعت أقضيته إلى قاضي أهل العدل نفذ منها ما هو عدل وكذا ما قضاه برأي بعض المجتهدين لأن قضاء القاضي في المجتهدات نافذ وإن كان مخالفا لرأي قاضي العدل ولو استعان البغاة بأهل الحرب فظهر عليهم سبينا أهل الحرب ولا تكون استعانة البغاة بهم أمانا لهم حتى يلزمنا تأمينهم على ما قدمنا لأن المستأمن من يدخل دار الإسلام تاركا للحرب وهؤلاء ما دخلوا إلا ليقاتلوا المسلمين = كتاب اللقيط
اعقب اللقيط واللقطة الجهاد لما فيه من كون النفوس والأموال تصير عرضة للفوات وقدم اللقيط على
____________________
(6/109)
اللقطة لتعلقه بالنفس والمتعلق به مقدم على المتعلق بالمال واللقيط لغة ما يلقط أي يرفع من الأرض فعيل بمعنى مفعول سمى به الولد المطروح خوفا من العيلة أو من تهمة الزنا له باعتبار ما له اليه لانه ايل إلى أن يلتقط في العادة كالقتيل في قوله صلى الله عليه سلم من قتل قتيلا فله سلبه والالتقاط مندوب اليه لما فيه من احياء نفس مسلمة إذا لم يغلب على الظن ضياعه فان غلب على ظنه ضياعه كان واجبا وقول الشافعي وباقي الأئمة الثلاثة فرض كفاية إلا إذا خاف هلاكه ففرض عين يحتاج إلى دليل الوجوب قبل الخوف نعم إذا غلب على الظن ضياعه أو هلاكه فكما قالوا وهو المراد بالوجوب الذي ذكرناه لا الوجوب باصطلاحنا لان هذا الحكم وهو الزام التقاط إذا خيفا هلاكه مجمع عليه والثابت الزامه بقطعى فرض قوله اللقيط حر ولو كان اللملتقط عبدا أي في جميع احكامه حتى يحد قاذفه والجناية عليه كالجناية على الاحرار ولا يحد قاذف امة لانا لا نعلم حريتها ولا يقام الحد مع احتمال السقوط وانما حكم الشرع فيه بالحرية لان الأصل في بني آدم الحرية لانهم اولاد خيار المسلمين آدم وحواء وانما عرض الرق بعروض الكفر لبعضهم فما لم يتيقن بالعارض لا يحكم به وكذا الدار دار الاحرار ولان الحكم للغالب والغالب في جميع اقطار الدنيا الاحرار قوله ونفقته في بيت المال أي إذا لم يكن له مال وهذا بلا خلاف واصله ما روى مالك في الموطإ عن سنين أبي جميلة رجل من بني سليم انه وجد منبوذا في زمن عمر بن الخطاب قال فجئت به إلى عمر فقال ما حملك على اخذ هذه النسمة فقال وجدتها ضائعة فأخذتها فقال له عريفة يا امير المؤمنين انه رجل صالح قال كذلك قال نعم قال اذهب به فهو حر وعلينا نفقته وعن مالك رواه الشافعي في مسنده وقال البيهقي وغير الشافعي يرويه عن مالك ويقول فيه وعلينا نفقته من بيت المال انتهى وكذلك رواه عبد الرزاق قال أنبأنا مالك عن ابن شهاب حدثني أبو جميلة انه وجد منبوذا على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاتاه به فاتهمه عمر رضي الله عنه فاثنى عليه خيرا فقال عمر رضي الله عنه هو حر وولاءه لك ونفقته من بيت المال وتهمة عمر دل عليها ما في رواية محمد عنه في حديث أبي جملية انه قال له عسى الغوير ابؤسا وهو مثل لما يكون ظاهره خلاف باطنه أول نم قالته الزباء وما قيل فيه دليل على أن الملتقط ينبغي أن يأتي به إلى الأمام أولا ليس بلازم نعم ما لم يتبرع بالاتفاق وقصد أن ينفق عليه من بيت المال كما فعل أبو جميلة يحتاج أن يأتي به اليه وإذا جاء به إلى الأمام لا يصدقه فيخرج من بيت المال نفقته إلا أن يقيم بينه على الالتقاط لانه عساه ابنه ولذا قال عمر رضي الله عنه عسى الغوير أبؤساء والوجه لا يتوقف على البينة إلى ما يرجح صدقه إلا ترى أن عمر لما قال عريفه انه رجل
____________________
(6/110)
صالح انفق عليه فان هذه البينة ليست على اوضاع البينات فإنها لم تقم على خصم حاضر وانما كانت ليرجع صدقه في اخباره بالالتقاط ولذا قال في المبسوط هذه لكشف الحال والبينة لكشف الحال مقبولة وان لم تكن على خصم قال الواقدى وحدثني محمد بن عبد الله ابن اخي الزهري عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال كان عمر إذا اتى بلقيط فرض له ما يصلحه رزقا يأخذه وليه كل شهر ويوصي به خيرا ويجعل رضاعه في بيت المال ونفقته وروى عبد الرزاق حدثنا سفيان الثورى عن زهير بن أبي ثابت عن ذهل بن اوس عن تميم انه وجد لقيطا فاتى به إلى علي رضي الله عنه فالحقه علي على ماله ولانه مسلم عاجز عن الكسب والحراج بالضمان أي لبيت المال غنمه أي ميراثه ودينه حتى لو وجد اللقيط قتيلا في محلة كانت على أهل تلك المحلة ديته لبيت المال وعليهم القسامة وكذا إذا قتله الملتقط أو غيره خطأ فالديه على عاقلته لبيت المال ولو قتله عمدا فالحيار إلى الأمام على ما تقدم في مثله فعليه غرمه ولهذا كانت جنايته في بين المال وبدأ محمد رحمه الله بحديث الحسن البصري أن رجلا التقط لقيطا فاتى به عليا رضي الله عنه فقال هو حر ولان اكون وليت من امره مثل الذي وليت منه احب إلى من كذا وكذا فحرض على ذلك ولم يأخذه منه بالولاية العامة وهي الامامة لانه لا ينبغي للامام أن يأخذه من الملتقط إلا بسبب يوجب ذلك لان يده سبقت اليه فهو احق به قوله والملتقط متبرع بالانفاق عليه لعدم ولايته على أن يلحقه الدين ليرجع عليه إذا كبر واكتسب إلا أن يأمره القاضي به ليكون دينا عليه يعني بهذا القيد بان يقول انفق عليه ويكون ذلك دينا عليه وظاهر الحصر المذكور في قوله إلا أن يأمره إلى اخرع يفيد أنه لو امره ولم يقل ليكون دينا عليه لا يرجع بما انفق وهو كذلك في الاصح لأن مطلق الأمر بالإنفاق إنما يوجب ظاهرا ترغيبه في إتمام الاحتساب وتحصيل الثواب وقيل يوجب له الرجوع لأن أمر القاضي كامر اللقيط بنفسه إذا كان كبيرا لعموم ولاية القاضي فإذا انفق بالأمر الذي يصيره دينا عليه فبلغ فادعى انه انفق عليه كذ فان صدقه اللقيط رجع به وان كذبه فالقول قول اللقيط وعلى الملتقط البينة قوله فان ادعى مدع انه ابنه فالقول قوله ويثبت نسبه منه بمجرد دعواه ولو كان ذميا قال المصنف معناه
____________________
(6/111)
إذا لم يدع الملتقط نسبه يعني سابقا على دعوى المدعي أو مقارنا أما إذا ادعياه على التعاقب فالسابق من الملتقط والخارج أولى وإن ادعياه معا فالملتقط أولى ولو كان ذميا والخارج مسلما لاستوائهما في الدعوى ولأحدهما يد فكان صاحب اليد أولى وهو الذمي ويحكم بإسلام الولد ثم ثبوت النسب بمجرد دعوى الخارج استحسانا والقياس أن لا يثبت إلا ببينة لأنه يتضمن إبطال حق ثابت بمجرد دعواه وهو حق الحفظ الثابت للملتقط وحق الولاء الثابت لعامة المسلمين وجه الاستحسان أنه إقرار الصبي بما ينفعه لأنه يتشرف بالنسب ويتأذى بانقطاعه إذ يعير به ويحصل له من يقوم بتربيته ومؤنته راغبا في ذلك غير ممتن به ويد الملتقط ما اعتبرت إلا بحصول مصلحته هذه لا لذاتها ولا لاستحقاق ملك وهذا مع زيادة ما ذكرنا حاصل بهذه الدعوى فيقدم عليه ثم يثبت بطلان يد الملتقط ضمنا مترتبا على وجوب إيصال هذا النفع إليه لأن الأب أحق بكونه في يده من الأجنبي وصار كشهادة القابلة على الولادة تصح ثم يترتب عليها استحقاق الميراث ولو شهدت عليه ابتداء لم يصح وكثير من المشايخ لا يذكرون غير هذا وذكر بعضهم أن عند البعض يثبت نسبه من المدعي ويكون في يد الملتقط للجمع بين منفعتي الولد والملتقط وليس بشيء وأما ثبوت النسب في دعوى ذي اليد فقيل يصح قياسا واستحسانا أي ليس فيه قياس مخالف والصحيح أنهما أيضا فيه إلا أن وجه القياس فيه غيره في دعوى الخارج فإن ذلك هو استلزامه إبطال حق بمجرد دعواه وهنا هو استلزامه التناقض لأنه لما ادعى أنه لقطة كان نافيا نسبه فلما ادعاه تناقض وجه الاستحسان فيه ما قدمناه والتناقض لا يضر في دعوى النسب لأنه مما يخفى ثم يظهر وهذا معنى ما في الأصل الذي أحال المصنف عليه ولو ادعاه اثنان خارجان معا ووصف أحدهما علامة في جسده
____________________
(6/112)
فطابق فهو أولى به من الآخر إلا أن يقيم الآخر البينة فيقدم على ذي العلامة أو كان مسلما وذو العلامة ذمي فيقدم المسلم ولو أقاما البينة وأحدهما ذمي كان ابنا للمسلم ولو لم يصف أحدهما علامة كان ابنهما لاستوائهما في سبب الاستحقاق وهو الدعوى وكذا لو أقاما وهما مسلمان ولو كانت دعوة أحدهما سابقة على الأخرى كان ابنه ولو وصف الثاني علامة لثبوته في وقت لا منازع له فيه وإنما قدم ذو العلامة للترجيح بها بعد ثبوت سبي الاستحقاق بينهما وهو دعوى كل منهما بخلاف ما لو ادعى اثنان عينا في يد ثالث وذكر أحدهما علامة لا يفيد شيئا وكذا في دعوى اللقطة لا يجب الدفع بالوصف لأن سبب الاستحقاق هناك ليس مجرد الدعوى بل البينة فلو قضى له لكان إثبات الاستحقاق ابتداء بالعلامة وذلك لا يجوز إنما حال العلامة ترجيح أحد السببين على الآخر ولو ادعاه اثنان خارجان فأقام أحدهما البينة أنه كان في يده قبل ذلك كان أحق به لظهور تقدم اليد وكلما لم يترجح دعوى واحد من المدعيين يكون ابنا لهما وعند الشافعي يرجع إلى القافة على ما قدمنا في باب الاستيلاد ولا يلحق بأكثر من اثنين عند أبي يوسف وهو رواية عن أحمد وعند محمد لا يلحق بأكثر من ثلاثة وفي شرح الطحاوي وإن كان المدعى أكثر من اثنين فعن أبي حنيفة انه جوز إلى خمسة ولو ادعته امرأة لا يقبل إلا ببينة لأن فيه تحميل النسب على الغير وهو الزوج وإن ادعته امرأتان وأقامتا البينة فهو ابنهما عند أبي حنيفة في رواية أبي حفص وعندهما لا يكون ابن واحدة منهما وهو رواية أبي سليمان عنه وهذا كله في حال حياة اللقيط فلو مات عن مال فادعى إنسان نسبه لا يثبت لأن تصديقه كان باعتبار أن اللقيط محتاج إلى ذلك وبالموت استغنى عنه فبقي كلامه مجرد دعوى الميراث ولا يصدق إلا ببينة على ذلك قوله وإذا وجد اللقيط في مصر من أمصار المسلمين أو في قرية من قراهم فهو مسلم لا فرق في ذلك بين كون ذلك المصر كان مصرا للكفار ثم أزعجوا وظهرنا عليه أولا ولا بين كونه فيه كفار كثيرون أو لا فإن ادعاه ذمي أنه ابنه يثبت نسبه
____________________
(6/113)
منه وكان مسلما استحسانا والقياس أن لا يثبت نسبه منه لأن في ثبوت نسبه عنه نفي اسلامه الثابت بالدار وهو باطل وجه الاستحسان أن دعواه تضمنت شيئين النسب وهو نفع للصغير ونفي الإسلام الثابت بالدار وهو ضرر به وليس من ضرورة ثبوت النسب من الكافر الكفر لجواز مسلم هو ابن كافر بأن اسلمت امه فصححنا دعوته فيما ينفعه من ثبوت النسب دون ما يضره إلا إذا أقام بينة من المسلمين على نسبه فحينئذ يكون كافرا وذكر ابن سماعة عن محمد في الرجل يلتقط اللقيط فيدعيه نصراني وعليه زي أهل الشرك فهو ابنه وهو نصراني وذلك أن يكون في رقبته صليب أو عليه قميص ديباج أو وسط رأسه مجزوز انتهى ولا ينبغي أن يجعل قميص الديباج علامة في هذه الديار لأن المسلمين كثيرا ما يفعلونه وإذا حكمنا بأنه ابن ذمي وهو مسلم فيجب أن ينزع من يده إذا قارب أن يعقل الاديان كما قلنا في الحضانة إذا كانت امه المطلقة كافرة قوله وان وجد في قرية من قرى أهل الذمة أو في بيعة أو كنيسة في دار الإسلام كان ذميا هكذا قال القدوري قال المصنف هذا الجواب فيما إذا كان الواجد ذميا رواية واحدة فان كان مسلما في هذا المكان أي في قرية من قرى أهل الذمة أو بيعة او كنيسة أو كان الواجد ذميا رواية واحدة فإن كان مسلما في هذا المكان أي في قرية من قرى أهل الذمة أو بيعة أو كنيسة أو كان الواجد ذميا لكن وجده في مكان المسلمين اختلفت الرواية فهي ففي = كتاب اللقيط العبرة بالمكان في الفصلين وهو ما إذا كان الواجد مسلما في نحو الكنيسة أو ذميا في غيرها من دار الإسلام وعليه مشى القدوري هنا لان المكان سابق والسبق من اسباب الترجيح وفي = كتاب الدعوى اختلفت النسخ في بعض النسخ اعتبر الواجد في الفصلين وهو رواية ابن سماعة في الفصلين لان اليد اقوى من المكان إلا ترى أن الصبي المسبى مع أحد الابوين إلى دار الإسلام يكون كافرا حتى لا يصلي عليه إذا مات وفي بعض نسخه أي نسخ = كتاب الدعوى من المبسوط اعتبر الإسلام أي ما يصير الولد به مسلما نظرا للصغير ولا ينبغي أن يعدل عن ذلك فعلى هذا لو وجده كافر في دار الإسلام أو مسلم في كنيسة كان مسلما فصارت الصور اربعا اتفاقيتان وهو ما إذا وجده مسلم في قرية من قرى المسلمين فهو مسلم أو كافر في نحو كنيسة فهو كافر واختلافيتان وهما مسلم في نحو كنيسة أو كافر في نحو قرية للمسلمين وفي كفاية البيهقي قيل يعتبر بالسيما والزي لانه حجة قال الله تعالى { تعرفهم بسيماهم } يعرف المجرمون بسماهم وفي المبسوط كما لو اختلط الكفار يعني
____________________
(6/114)
موتانا بموتاهم الفصل بالزي والعلامة ولو فتحت القسطنطية فوجد فيها شيخ يعلم صبيانا حوله القرآن يزعم انه مسلم يجب الاخذ بقوله قوله ومن ادعى أن اللقيط عبده لم يقبل عنه لان الأصل الحرية لما قدمنا إلا أن يقيم بينة لا يقال هذه البينة ليست على خصم فلا تقبل لان الملتقط خصم لانه احق بثبوت يده عليه فلا تزول إلا ببينة هنا وانما قلنا هنا كي لا ينقض بما إذا ادعى خارج نسبه فإن يده تزول بلا بينة على الاوجه والفرق أن يده اعتبرت لمنفعة الوالد وفي دعوى النسب منفعة تفوق المنفعة التي اوجبت اعتبار يد الملتقط فتزال لحصول ما يفوق المقصود من اعتبارها وهنا ليس دعوى العبدية كذلك بل هو مما يضره لتبديل صفة المالكية بالمملوكية فلا تزال إلا ببينة قوله فإن ادعى عبدا انه ابنه ثبت نسبه منه لأنه ينفعه وكان حرا لان المملوك قد تلد له الحرة فيكون الاب عبدا والولد حرا لانه يتبع امه في الحرية والرق فيقبل فيما ينفعه دون ما يضره على ما ذكرنا في دعوى الذمي فلم يكن من ضرورة ثبوت نسبه منه رقه فلا تبطل الحرية الظاهرة بالشك إذا لم تضف ولادته إلى امرأة امة فان اضاف إلى امرأته الأمة ففيه خلاف بين أبي يوسف ومحمد ذكر في الذخيرة أن الولد حر عند محمد وعند أبي يوسف عبد فمحمد يقول في دعوى العبد نفع هو النسب وضرر هو الرق واحدهما ينفصل عن الآخر فيعتبر فيما ينفعه دون ما يضره وابو يوسف يقول لما صدقه الشرع في ثبوت النسب يصدقه فيما كان من ضروراته تبعا فيحكم برقه تبعا بخلاف الذمي فإنه ليس من ضرورته ثبوت كفره لجواز اسلام زوجته وعلى هذا لو قال الذمي انه من زوجتي الذمية لا يصدق قوله والحر في دعوته اللقيط اولى من العبد يعني إذا ادعياه وهما خارجان
____________________
(6/115)
لما قدمنا إذا كان الملتقط ذميا ادعاه مع مسلم خارج رجح عليه وكذا إذا ادعى الذمى أنه ابنه والمسلم انه عبده فهو ابن الذمى لانه يفوز بالنسب والحرية مع الحكم بإسلامه ولا كذلك في دعوى رقه إلا أن يقيم بينة رقة فيكون رقيقا كما أن الذمى إذا ادعاه ابنا له وأقام بينه من المسلمين يكون كافرا ولو وجد طفل في يد عبد محجور ذكر انه التقطه ولا بينه له على الالتقاط وكذبه مولاه وقال هو عبدي فالقول قول المولى لان العبد المحجور لا يد له على نفسه فما في يده كما في يد المولى وكذا لو اقر بعين في يده لآخر وكذبه المولى لا يصح اقراره كما لو كان في يد المولى ولو كان العبد مأذونا في التجارة فالقول قول العبد لان للماذون يدا على نفسه حتى صح اقراره بما في يده لغير السيد وان كذبه السيد فيكون الولد الذي في يده حرا إلا أن يقيم سيده بينه انه عبده قوله وإذا وجد مع اللقيط مال مشدود عليه أو دابة هو مشدود عليها فالكل له بلا خلاف اعتبارا للظاهر أي في دفع ملك غيره عنه ثم يثبت ملكه في ذلك بقيام يده مع حريته المحكوم بها وقوله لما ذكرنا يريد قوله اعتبارا للظاهر ثم يصرفه الواجد اليه بأمر القاضي لأنه مال ضائع أي لا حافظ له ومالكه وان كان معه فلا قدرة له على الحفظ وللقاضي ولاية صرف مثله اليه وكذا لغير الواجد بأمره والقول قوله في نفقه مثله وقيل له صرفه عليه وبغير أمر القاضي أيضا لانه اللقيط كما حكمنا به وللواجد الانفاق عليه وشراء ما لا بد له منه من الطعام والكسوة لانه من الانفاق وشراء مالا بد منه عطف على ولاية من قوله وله ولاية الانفاق أي للواجد ولاية الانفاق وله شراء ما لا بد للقيط منه وبهذا قال احمد ولا يجوز للملتقط تزويج اللقيط واللقيطة لانعدام سبب ولاية الإنكاح من القرابة والملك والسلطنة وهذا بلا خلاف ولا تصرفه في ماله ببيع ولا شراء شيء ليستحق الثمن دينا عليه لان الذي اليه ليس إلا الحفظ والصيانة وما من ضروريات ذلك اعتبارا بالأم فإنها لا يجوز لها ذلك مع إنها تملك من التصرفات مالا يملكه الملتقط كالتزويج عند عدم العصبة فعدم ملكه لذلك اولى وهذا أي عدم تصرف كل من الام والملتقط بالبيع ونحوه لان ولاية التصرف إنما هو لتثمير المال وذلك إنما يتحقق بالراي الكامل والشفقة الوافرة والموجود في كل منهما أحدهما لان في الام شفقة كاملة مع قصور في الرأي وفي الملتقط رأي كامل مع قصور شفقة لعدم القرابة ونظير ما ذكر المصنف هنا ما قدمه في ثبوت الخيار للضغيره إذا بلغت وقد زوجها
____________________
(6/116)
غير الاب والجد من كتاب النكاح قوله ويجوز أن يقبض أي الملتقط للقيط الهبة والصدقه عليه لانه نفع محقق ولذا يملكه الصغير بنفسه إذا كان عاقلا وتملكه الام ووصيها قال القدورى ويسلمه في صناعة لانه من باب التثقيف وحفظ حاله عن الشتات وصيانته عن الفساد ثم قال القدورى ويؤاجره لانه من التثقيف يعني التقويم وفي الجامع الصغير لا يجوز أن يؤاجره ذكره في الكراهية قال المصنف وهو الاصح لانه لا يملك اتلاف منافعة فلا يملك تمليكها فاشبه العم بخلاف الام لانها تملك اتلاف منافعه بالاستخدام والاعارة بلا عوض فبالعوض بالاجارة اولى
فروع ادعاه الملتقط عبدا له يعد ما عرف الالتقاط لا يصدق إلا بينه كالخارج ولو ادعاه ذمى واقام بينه من أهل الذمة انه ابنه لا عبرة بها لان نسبه ثبت بمجرد دعواه واثر هذه البينة في كونه كافرا ولا يثبت بذلك ولو وجده مسلم وكافر فتنازعا في كونه عند أحدهما قضي به للمسلم لانه محكوم له بالإسلام فكان المسلم أولى بحفظه ولانه يعلمه احكام الإسلام بخلاف الكافر وإذا بلغ اللقيط فاقر انه عبد فلان وفلان يدعيه ان كان قبل أن يقضي عليه بما لا يقضي به إلا على الاحرار كالحد الكامل ونحوه صح اقراره وصار عبدا لانه غير متهم فيه وان كان بعد القضاء بنحو ذلك لا يقبل ولا يصير به عبدا لأن فيه إبطال حكم الحاكم ولأنه مكذب شرعا في ذلك فهو كما لو كذبه الذي اقر له بالرق ولو كانت اللقيطة امرأة فاقرت بالرق بعدما كبرت أن كان بعد التزويج صح وكانت امة للمقر له ولا تصدق في ابطال النكاح لان الرق لا ينافي النكاح ابتداء ولا بقاء فليس من ضرورة الحكم رقها انتفاء النكاح ولو بلغ فتزوج امرأة ثم اقر انه عبد لفلان ولامرأته عليه صداق وصداقها لازم عليه لا يصدق في ابطاله لانه دين ظهر وجوبه فهو متهم في اقراره هذا وكذا إذا استدان دينا أو باع انسانا أو كفل كفالة أو وهب أو تصدق وسلم أو دبر أو كاتب أو اعتق ثم اقر انه عبد لفلان لا يصدق في ابطال شيء من ذلك لانه مهم وتقدم أن ميراثه لبيت المال فلو انه والى رجلا بعد ما ادرك الملتقط أو غيره فان كان قبل ذلك أن يتأكد ولاؤه لبيت المال بأن جنى جناية وعقله بيت المال فلا يصح ولا ينتقل ميراثه عن بيت المال وإن كان قبل ذلك جاز لأن ولاءه لم يتاكد لبيت المال فله أن يوالي من شاء وصار كالذي اسلم من أهل الحرب له أن يوالي من شاء إلا أن يجني فيعقله بيت المال
____________________
(6/117)
= كتاب اللقطة
هي فعلة بفتح العين وصف مبالغة للفاعل كهمزة ولمزة ولعنة وضحكة لكثير الهمز وغيره وبسكونها للمفعول كضحكة وهزأة للذي يضحك منه ويهزأ به وإنما قيل للمال لقطة بالفتح لأن طباع النفوس في الغالب تبادر إلى التقاطه لأنه مال فصار المال باعتبار أنه داع إلى أخذه بمعنى فيه نفسه كأنه الكثير الالتقاط مجازا وإلا فحقيقته الملتقط الكثير الالتقاط وما عن الأصمعي وابن الأعرابي أنه بفتح القاف اسم للمال أيضا فمحمول على هذا يعني يطلق على المال أيضا ثم اختلف في صفة رفعها فنقل عن المتقشفة أنه لا يحل له لأنه مال الغير فلا يضع يده عليه بغير إذنه وبعض التابعين وبه قال أحمد يحل والترك أفضل أما الحل فلأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه عن ذلك ولا أنكر على من فعله بل امره بتعريفها على ما سنذكر وأسند إسحاق بن راهويه عنه صلى الله عليه وسلم من أصاب لقطة فليشهد ذا عدل واما أفضلية الترك فلأن صاحبها يطلبها في المكان الذي فقدها فيه ولو لم يذكر خصوص المكان فإذا تركها كل أحد فالظاهر أن يجدها صاحبها لأنه لا بد عادة أن يمر في ذلك المكان مرة أخرى في عمره ولأن الظاهر أن سقوطها في أثناء الطرقات التي يمر بها أو يجلس في عادة أمره وعامة الفقهاء على أنه إليه وقيده الطحاوي وغيره بما إذا كان يأمن على نفسه فإن كان لا يأمن يتركها ولأنه يجوز أن تصل يد خائنة إليها فإن غلب على ظنه ذلك إن لم يأخذها ففي الخلاصة يفترض الرفع ولو رفعها ثم بدا له أن يضعها مكانها ففي ظاهر الرواية لا ضمان عليه وسنذكره قوله واللقطة أمانة إذا أشهد الملتقط أنه يأخذها ليحفظها ويردها على صاحبها
____________________
(6/118)
لأن الأخذ على هذا الوجه مأذون فيه شرعا بل هو أفضل وظاهر المبسوط اشتراط عدلين إلى آخره وإذا كان كذلك يعني إذا كان أشهد أو إذا كان أمانة بأن أشهد لا تكون مضمونة عليه فلو هلكت بغير صنع منه لا ضمان عليه وكذا إذا صدقه المالك في قوله أنه أخذها ليردها وصار تصادقهما كبينته على انه أخذها ليردها ولو أقر أنه أخذها لنفسه ضمنها بالإجماع وإن لم يشهد وقال أخذتها للرد للمالك وكذبه المالك يضمن عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف لا يضمن وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وفي شرح الأقطع ذكر محمدا مع أبي يوسف والقول له مع يمينه أنه أخذها ليردها لأن الظاهر شاهد له إذ الظاهر من حال المسلم اختياره الحسبة لا المعصية ولأن الأخذ مأذون فيه شرعا بقيد كونه للمالك فإذا أخذ إن لم يكن الظاهر أنه أخذه للمالك
____________________
(6/119)
فأقل ما في الباب أن يكون مشكوكا في أنه أخذه له أو لنفسه فلا يضمن بالشك ولهما انه اقر بسبب الضمان وهو أخذ مال الغير وادعى ما يبرئه وهو الاخذ لمالكه وفيه وقع الشك فلا يبرأ وما ذكر أبو يوسف من الظاهر يعارضه مثله لان الظاهر كون التصرف عاملا لنفسه فإن قال كون اخذ المال سببا للضمان إذا لم يكن بإذن الشرع فأما بإذنه فممنوع وإذا لم يثبت أن هذا الاخذ سبب للضمان لم يقع الشك في البراءة بعد ثبوت سبب الضمان حتى ينفع ما ذكرتم فالجواب أن اذن الشرع مقيد بالاشهاد عند الإمكان على ما ذكرنا آنفا من رواية اسحاق من اصاب لقطة فليشهد ذا عدل وهذا الاختلاف فيما إذا امكنه الاشهاد وإذا لم يمكنه عند الرفع أو خاف انه أن اشهد اخذها منه ظالم فتركه لا يضمن بالإجماع والقول قوله مع يمينه كوني منعني من الاشهاد كذا قال ويكفيه في الاشهاد أن يقول من سمعتموه ينشد ضالة فدلوه علي أو عندي ضالة أو شيء فمن سمعتموه إلى آخره فإذا جاء صاحبها يطلبها فقال هلكت لا يضمن ولا فرق بين كون اللقطة واحدة أو اكثر لأنه أي اللقطة بتأويل الملتقط اسم جنس ولا يجب أن يعين ذهبا أو فضة خصوصا في هذا الزمان قال الحلواني ادنى ما يكون من التعريف أن يشهد عند الاخذ ويقول اخذتها لأردها فإن فعل ذلك ولم يعرفها بعد ذلك كفى فجعل التعريف اشهادا وقول المصنف يكفيه من الاشهاد أن يقول إلى آخره يفيد مثله فاقتضى هذا الكلام أن يكون الاشهاد الذي أمر به في الحديث هو التعريف وقوله عليه الصلاة والسلام من اصاب ضالة فليشهد معناه فليعرفها ويكون قوله ذا عدل ليفيد عند جحد المالك التعريف أي الاشهاد فإنه إذا استشهد ثم عرق بحضرته لا يقبل ما لم يكن عدلا وألا فالتعريف لا يقتصر على ما بحضرة العدول وعلى هذا فخلافيه أبي يوسف فيما إذا لم يعرفها اصلا حتى ادعى ضياعها وادعى إنها كانت عنده ليردها واخذها كذلك وقولهما أن اذن الشرع مقيد بالاشهاد أي بالتعريف فإذا لم يعرفها فقد ترك ما أمر به شرعا في الاخذ وهو معصية فكان الغالب على الظن انه اخذها لنفسه على هذا لا يلزم الاشهاد أي التعريف وقت الاخذ بل لا بد منه قبل هلاكها ليعرف به أنه اخذها ليردها لا لنفسه وحينئذ فما ذكر في ظاهر الرواية من انه إذا اخذها ثم ردها إلى مكانها لا يضمن من غير قيد بكونه ردها في مكانها أو بعد ما ذهب ثم رجع ظاهر لان بالرد ظهر انه لم يأخذها لنفسه وبه ينتفي الضمان عنه وقيده بعض المشايخ بما إذا لم يذهب بها فإن ذهب بها ثم اعادها ضمن وبعضهم ضمنه ذهب بها أو لا والوجه ظاهر المذهب وما ذكرنا لا ينفي وجه التضمين بكونه مضيعا مال غيره بطرحه بعد ما لزمه حفظه بالاخذ
____________________
(6/120)
قوله فإن كانت اللقطة اقل من عشرة عرفها اياما وفسرها المصنف بحسب ما يرى من الايام من غير تفصيل وذلك انه روى عن أبي حنيفة أن كانت مائتين فصاعدا عرفها حولا وان كانت اقل من مائتين إلى عشرة عرفها شهرا وان كانت اقل من عشرة يعرفها على حسب ما يرى وفي رواية أخرى قال فيما دون العشرة أن كانت ثلاثة فصاعدا يعني إلى العشرة يعرفها عشرة ايام وان كانت درهما فصاعدا يعني إلى ثلاثة يعرفها ثلاثة ايام وان كانت دانقا فصاعدا يعرفها يوما وان كانت دون الدانق ينظر يمنة ويسره ثم يضعه في كف فقير قال شمس الأئمة شيء من هذا ليس بتقدير لازم بل يعرف القليل بقدر ما يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك وهذا أخذ بالرواية التي ذكرناها قبل هذا وهو جيد والظاهر انه إنما قدر بذلك التقديرات في القليل لغلبة الظن أن المالك في تلك التقادير لا يطلبها بعد تلك المدد فكان المعول عليه غلبة ظن تركها وظاهر الرواية وهو ما ذكر محمد في الأصل تقديره بالحول من غير فصل بين قليل وكثير وهو قول مالك والشافعي واحمد لقوله صلى الله عليه وسلم ما سيذكر وكذا روى عن عمر وعلي وابن عباس وجهه ما ذكره المصنف من قوله عليه الصلاة والسلام من التقط شيئا فليعرفه سنة من غير فصل وفيه ألفاظ منها ما رواه البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال لا تحل اللقطة فمن التقط شيئا فليعرفه سنة ومعنى لا تحل اللقطة أي لا يحل للملتقط تملكها وهذا لا يتعرض للالتقاط نفسه وفي الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها ثم استنفقها فان جاء صاحبها فأدها اليه وجه الأول أن التقدير بالحول ورد في لقطة كانت مائة دينار تساوي ألف درهم والعشرة فما فوقها في معنى الألف شرعا في تعلق القطع بسرقته وتعلق استحلال الفرج به وليست في معناها في حق تعلق الزكاة فاوجبنا التعريف بالحول الحاقا لها بما فيه الزكاة من المائتين فما فوقها احتياطا وما دون العشرة ليس في معنى الألف شرعا بوجه ما ففوضنا التعريف فيها إلى رأي المبتلي به والمراد بقوله كانت مائة دينار
____________________
(6/121)
ما في الصحيحين واللفظ للبخاري عن أبي بن كعب قال اخذت صرة مائة دينار فاتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال عرفها حولا فعرفها فلم اجد ثم اتيت بها فقال عرفها حولا فعرفنها فلم اجد ثم اتيته ثالثا فقال احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فان جاء صاحبها وألا فاستمتع بها وهذا يقتضي قصر حديث العام على حديث المائة دينار وليس كذلك بل قد ورد الأمر بالتعريف سنة في غير حديث مطلقا عن صورة المائة دينار كما قدمنا وغيره مما لم نذكره قوله وقيل الصحيح أن شيئا من هذه التقادير ليس بلازم ولا التقدير بالعام ويفوض إلى رأى البتلى به يعرفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك ثم يتصدق بها وهذا ذكره شمس الأئمة واختاره واستدل عليه بحديث الثلاث سنين في المائة دينار فانه يعرف به أن ليس بتقدير لازم بل ما يقع عند الملتقط أن صاحبه يتركه أولا وهذا يختلف باختلاف خط المال إلا ترى أن المال لما كان ذا خطر كبير امره صلى الله عليه وسلم أن يعرفه ثلاث سنين قوله وان كانت اللقطة شيئا لا يبقي عرفه حتى يخاف فساده فيتصدق به قال المصنف وينبغي أن يعرفها في الموضع الذي اصابها فيه وفي الجامع يعني الاسواق وابواب المساجد فينادى من ضاع له شيء فليطلبه عندي واعلم أن ظاهر الأمر بتعريفها سنة تقتضي تكرار التعريف عرفا وعادة وان كان ظرفيه السنة للتعريف يصدق بوقوعه مرة واحدة ولكن يجب حمله على المعتاد من انه يفعله وقتا بعد وقت ويكرر ذلك كلما وجد مظنة وما قدمنا من قول الولوالجمى مما يفيد الاكتفاء بالمرة الواحدة هو في دفع الضمان عنه إما الواجب فأن يذكرها مرة بعد أخرى قوله وان كانت اللقطة شيئا يعلم أن صاحبها لا يطلبه كالنواة وقشور الرمان يكون القاؤه اباحة فيجوز الانتفاع بها للواجد بلا تعريف وعنه صلى الله عليه وسلم انه رأى تمرة في الطريق فقال لولا اخشى أن تكون من تمر الصدقة لاكلتها ولا يعلم فيه خلاف بين العلماء ولكن تبقى على ملك مالكها حتى إذا وجدها في يده له اخذها لان الاباحة لا تخرجه عن ملك مالكه وانما القاؤها اباحة لا تمليك لأن التمليك من المجهول لا يصح وذكر شيخ الإسلام إنها لو كانت متفرقه فجمعها
____________________
(6/122)
ليس للمالك اخذها لانها تصير ملكا له بالجمع وعلى هذا التقاط السنابل وبه كان يفتي الصدر الشهيد غير موضع تقييد هذا الجواب اعني جواز الانتفاع بهما بما إذا كانت متفرقة فان كانت مجتمعة في مكان فلا يجوز الانتفاع بها لان صاحبها لما جمعها فالظاهر انه ما القاها واعرض عنها بل سقطت منه أو وضعها ليرفعها
وعن أبي يوسف لو جز صوف شاة ميته كان له أن ينتفع به ولو وجده صاحب الشاة في يده كان له أن يأخذه منه ولو دبغ جلدها كان لصاحبها أن يأخذه بعد أن يعطيه كا زاد الدباغ وفي الحلاصة والتفاح والكمثرى والحطب في الماء لا باس باخذه قوله فان جاء صاحبها أخذها وإلا تصدق بها أو أكلها إن كان فقيرا أو استقرضها بإذن الإمام ويتملهكا إن شاء وإن شاء أمسكها أبدا حتى يجىء صاحبها وإذا خشى الموت يوصي بها كي لا تدخل في المواريث ثم الورثة يعرفونها ومقتضي النظر انهم لو لم يعرفوها حتى هلكت وجاء صاحبها ان يضمنوا لانهم وضعوا ايديهم على لقطة ولم يشهدوا أي لم يعرفوا ويغلب على الظن بذلك أن قصدهم تعميتها عن صاحبها ويجري فيه خلاف أبي يوسف وسياتي الخلاف في ذلك في اخر الباب فان جاء صاحبها بعد التصديق فهو بأحد خيارات ثلاث أن شاء امضى الصدقة وله ثوابها لان التصديق وان حصل باذن الشرع لم يحصل باذنه أي باذن المالك وحصول الثوب للإنسان يكون بفعل مختار له ولم يوجد ذلك قبل لحوق الآذن والرضا فبالاجازة والرضا يصير كأنه فعل بنفسه لرضاه بذلك فان قيل كيف تلحقه الاجازة وهي تتوقف على قيام المحل وقد يكون مجيء المالك بعد استهلاك الفقير لها اجاب بأن ذلك فيما يتوقف فيه الملك على الاجازة كما في بيع الفضولى اما هنا فالملك يثبت قبل ذلك شرعا لان الأمر بالتصديق عند عدم ظهور المالك بعد التعريف لا يفيد مقصوده دون ملك المتصدق عليه وإذا ثبت الملك قبلها ومعلوم انه مطلق للتصرف وحال الفقير يقتضي سرعه استهلاكها ثبت عدم توقف اعتبارها على قيام المحل بعد ثبوت اعتبارها بعد الاستهلاك شرعا اجماعا
____________________
(6/123)
حتى ينتقل إليه الثواب وإن شاء ضمن الملتقط لأنه سلم ماله إلى غيره بغير إذنه فإن قلت لكنه بإذن الشرع وإباحة منه قلنا الثابت من الشارع إذنه في التصدق لا إيجابه هذا القدر لا ينافي وجوب الضمان حقا للعبد كما في إذنه في تناول مال الغير عند المخمصة والمرور في الطريق مع ثبوت الضمان فإذا جاز أن يثبت إذنه مقيدا به كما ذكرنا وجب أن يثبت كذلك لأن الأصل ثبوت ضمان مال العبد على المتصرف فيه بغير إذنه وإن شاء ضمن المسكين إذا كان المدفوع إليه هلك في يده لأنه قبض ماله بغير إذنه فإن قلت إذا قبضها الفقير ثبت ملكه فيها بإذن الشرع فكيف يسترجعها أجيب بأنه لا مانع من ثبوت الملك بإذن الشرع مع ثبوت حق الاسترداد كما في الهبة والمرتد الراجع من دار الحرب مسلما بعد أخذ الورثة ماله بعد الحكم باللحاق وإذا كان كذلك جعل كذلك عند عدم إذنه وإن كان قائما أخذه لأنه وجد عين ماله وما نقل عن القاضي أبي جعفر من أنه إنما يرجع على الملتقط إذا تصدق بغير أمر القاضي أما إذا كان بأمره فلا يرجع ردوه بأنه خلاف المذهب فإنه لو تصدق القاضي بنفسه كان للمالك أن يضمنه إذا جاء فضلا عن الملتقط المتصدق بأمره وهذا لأن القاضي ناظر للغيب في أموالهم حفظا لها لا إتلافا فلا ينفذ من إتلافه إلا ما لزمه شرعا القيام والتصدق ليس كذلك قوله ويجوز الالتقاط في الشاة والبقر والبعير وقال مالك والشافعي وأحمد إذا وجد البقر والبعير في الصحراء فالترك أفضل
____________________
(6/124)
وعلى هذا الخلاف الفرس لهم أن الأصل في أخذ مال الغير الحرمة وإباحة الالتقاط مخافة الضياع وإذا كان معها ما تدفع عن نفسها به كالقرن مع القوة في البقر والرفس مع الكدم وزيادة القوة في البعير والفرس يقل ظن الضياع ولكنه يتوهم فيقضى بالكراهة في الأخذ والندب إلى الترك هذا ولكن كلامهم يقتضي أن الخلاف في جواز الأخذ وحله وهو الظاهر ولنا أنها لقطة يتوهم ضياعها فيستحب أخذها وتعريفها صيانة لأموال الناس كما في الشاة لكن هذا قياس معارض بما روى أصحاب الكتب الستة كلهم عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني قال جاء رجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها قلت فضالة الغنم قال هي لك أو لأخيك أو للذئب وفي الصحيح قال خذها فإنما هي لك فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب قال فضالة الإبل قال ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر فذرها حتى يجدها ربها وروى أبو داود عن جرير بن عبد الله أنه أمر بطرد بقرة لحقت ببقرة حتى توارت فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يؤوى الضالة إلا ضال وقال صلى الله عليه وسلم إن ضالة المسلم حرق النار رواه الجماعة أجاب في المبسوط بأن ذلك كان إذ ذاك لغلبة أهل الصلاح والأمانة لا تصل إليها يد خائنة فإذا تركها وجدها وأما في زماننا فلا يأمن وصول يد خائنة إليها بعده ففي أخذها إحياؤها وحفظها على صاحبها فهو أولى ومقتضاه أنه إن غلب على ظنه ذلك أن يجب الالتقاط وهذا أحق فإنا نقطع بأن مقصود الشارع وصولها إلى ربها وأن ذلك طريق الوصول فإذا تغير الزمان وصار طريق التلف فحكمه عنده بلا شك خلافه وهو الالتقاط للحفظ والرد وأقصى ما فيه أن يكون عاما في الأوقات خص منها بعض الأوقات بضرورة العقل من الدين لو لم يتأيد بحديث عن عياض بن حماد أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الضالة فقال عرفها فإن جاء ربها وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء فتأيد به زيادة بعد تمام الوجه قوله فإن أنفق الملتقط عليها بغير إذن الحاكم فهو متبرع لقصور ولايته عن ذمة المالك أي عن أن يشغلها بالدين بلا أمره وإن انفق بأمره كان دينا عليه لأن للقاضي ولاية في مال الغائب نظرا له وقد يكون النظر في الإنفاق على ما نبين الآن
____________________
(6/125)
فإذا رفع إلى الحاكم فإن كان للبهيمة منفعة وثم من يستأجرها آجرها وأنفق عليها من أجرتها لأن فيه ابقاء العين على ملك مالكها بلا الزام دين عليه وكذا يفعل بالعبد الابق وان لم تكن لها منفعة أو لم يحد منه من يستأجرها وخاف أن تستغرق النفقة قيمتها باعها وأمر بحفظ ثمنها ابقاء له معنى عند تعذر ابقائه صورة فإن الثمن يقوم مقام العين إذ يصل به إلى مثله في الجملة وان كان الاصلح الانفاق عليها اذن له في ذلك وجعل النفقة دينا عليه إذ فيه نظر من الجانبين جانب المالك بابقاء عين ماله له وجانب الملتقط بالرجوع قال المشايخ إنما يأمر بالانفاق يومين أو ثلاثة على قدر ما يرجى أن يظهر مالكها فإذا لم يظهر يأمر ببيعها لأن دارة النفقة مستأصلة للعين معنى بل ربما تذهب العين ويفضل الدين على مالكها ولا نظر في ذلك أصلا بل ينبغي أن لا ينفذ من القاضي ذلك لو أمر به للتيقن بعدم النظر وإذا باعها اعطى الملتقط من ثمنها ما انفق في اليومين أو الثلاثة لان الثمن مال صاحبها والنفقة دين عليه بعلم القاضي وصاحب الدين إذا ظفر بجنس حقه كان له أن يأخذه وللقاضي أن يعينه عليه ولو باعها بغير أمر القاضي لا ينفذ ويتوقف على اجازة المالك فإن جاء وهي قائمة في يد المشتري فإن شاء اجاز البيع وان شاء ابطله وأخذها من يده وان جاء وهي هالكة فإن شاء ضمن المشتري قيمتها وان شاء ضمن البائع فإن ضمن البائع نفذ البيع لأنه ملك اللقطة من حين اخذها وكان الثمن للبائع ويتصدق بما زاد على القيمة وفي الأصل يعني المبسوط يشترط البينة فإنه قال فإن كان رفعها إلى القاضي واقام بينة انه التقطها امره أن ينفق وصححه المصنف لانه يحتمل انه غصبها ولا يأمر بالنفقة إلا في الوديعة وهذه البينة لكشف الحال أي لينكشف للقاضي انه التقطها لا للقضاء فلا يحتاج إلى خصم له ذكره في المبسوط وفي الذخيرة
____________________
(6/126)
الإمام خصم فيها عن صاحبها وان قال الملتقط لا بينة لي يقول له انفق عليها أن كنت صادقا وفي الذخيرة يقول له ذلك بين يدي الثقات بأن يقول أمرته بالبيع أو الانفاق أن كان الأمر كما قال وقوله في الكتاب وجعل النفقة دينا على صاحبها إشارة إلى انه إنما يرجع إذا شرط القاضي ذلك وهذا رواية وهو الاصح وقيل يرجع بمجرد امره وقد مر في اللقيط وإذا حضر المالك فللملتقط أن يمنعها منه حتى يحضر النفقة لانه حي بنفقته فصار كأنه استفاد الملك منه فأشبه المبيع وأقرب من ذلك راد الابق فإن له الحبس لاستيفاء الجعل لما ذكرنا من التشبيه بالمبيع ولا يسقط دين النفقة بهلاكه في يد الملتقط قبل الحبس ويسقط إذا هلك بعد الحبس لانه يصير بالحبس كالرهن من حيث تعلق حقه به كالوكيل بالشراء إذا نقد الثمن من ماله له أن يرجع على الموكل ولو هلك قبل الحبس لا يسقط عن الموكل ولو هلك بعده سقط لانه كالرهن بعد اختيار الحبس هكذا ذكره المصنف ولم يحك خلافا وحافظ الدين في الكافئ ايضا فيفهم انه المذهب وجعل القدوري هذا قول زفر قال في التقريب قال اصحابنا وانفق على اللقطة بأمر القاضي وحبسها بالنفقة فهلكت لم تسقط النفقة خلافا لزفر لانها دين غير بدل عن عين ولا عن عمل منه فيها ولا يتناولها أي العين عقد يوجب الضمان وصرح في الينابيع بعدم السقوط عن علمائنا الثلاثة فقال لو انفق الملتقط على اللقطة بأمر الحاكم وحبسها ليأخذ ما انفق عليها فهلكت لم تسقط النفقة عند علمائنا الثلاثة خلافا لزفر وحاصل الوجه المذكور في التقريب نفي الحكم اعني السقوط لعدم دليل السقوط فإن الدين ثابت وليست العين الملتقطة رهنا ليسقط بهلاكها إذ لم يتناولها عقد الرهن والمصنف اوجد الدليل وهو الالحاق بالرهن وان لم يكن من حقيقته لكن النقل كما رأيت واما ما نقل عن أبي يوسف انه
____________________
(6/127)
ليس له حبسها اصلا فأبلغ قوله ولقطة الحل والحرم سواء وبه قال مالك واحمد والشافعي في قول وفي قول يعرفها أبدا جتى يجئ صاحبها لا حكم لها سوى ذلك من تصدق ولا تملك لقوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما فتح الله مكة قام النبي صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال أن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وانها لم تحل لأحد قبلي وانما احلت لي ساعة من نهار وانها لا تحل أحد بعدي لا ينفر صيدها ولا يختلي شوكها ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد الحديث
المنشد المعرف والناش الطالب قال المثقب ** يسيخ للنبأة اسماعه ** اساخة المنشد للناشد **
ويروي يصيخ وهو بمعناه فالفعل من الأول انشد الضالة ينشدها وانشدها انشادا إذا اعرفتها ومن الثاني نشدتها انشدها نشدا ونشدانا بكسر النون إذا طلبتها ولنا اطلاق قوله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن خالد الجهني وغيره وسئل عن اللقطة فقال اعرف عفاصها أي وعاءها من جلد أو خرقة ونحوها ووكاءها أي رباطها الذي شدت به وعرفها سنة وتقدم فإما أن يقضي العام على الخاص واما أن يتعارضا فيحمل كل على محمل وهو اولى لكن لا تعارض لأنه معناه لا يحل الالتقاط إلا لمن يعرف ولا يحل لنفسه وتخصيص مكة حينئذ لدفع وهم سقوط التعريف بها بسبب أن الظاهر أن ما وجد بها من لقطة فالظاهر انه للغرباء وقد تفرقوا فلا يفيد التعريف فيسقط كما يسقط فيما يظهر اباحته فبين عليه الصلاة والسلام إنها كغيرها من البلاد في وجوب
____________________
(6/128)
التعريف وقد ثبت في صحيح مسلم انه عليه الصلاة والسلام نهى عن لقطة الحاج قال ابن وهب يعني يتركها حتى يجيء صاحبها ولا عمل على هذا في هذا الزمان لفشو السرقة بمكة من حوالي الكعبة فضلا عن المتروك والاحكام إذا علم شرعيتها باعتبار شرط ثم علم ثبوت ضده متضمنا مفسدة بتقدير شرعيته معه علم انقطاعها بخلاف العلم بشرعيتها لسبب إذا علم انتفاؤه ولا مفسدة في البقاء فإنه لا يلزم ذلك كالرمل والاضطباع في الطواف لاظهار الجلادة قوله وإذا حضر رجل فادعى اللقطة لم تدفع اليه حتى يقيم البينة فإن اعطى علامتها حل للملتقط أن يدفعها اليه ولا يجبر على ذلك بالقضاء وعند مالك والشافعي واحمد يجبر واعطاء علامتها أن يخير عن وزنها وعددها ووكائها ويصيب في ذلك والحق أن قول الشافعي كقولنا والموجب للدفع مالك واحمد واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرج مسلم في حديث أبي بن كعب عرفها فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووكائها ووعائها فأعطه إياها وألا فاستمتع بها واخرجه ايضا عن زيد بن خالد الجهني وفيه فإن جاء صاحبها وعرف عفاصها ووكاءها وعددها فأعطها اياه وألا فهي لك وايضا فإن صاحب اليد وهو الملتقط إنما ينازعه في اليد لا في الملك لانه لا يدعيه فكانت منازعته من وجه دون وجه فيشترط ما هو حجة من وجه لا من كل وجه وفي الوصف المطابق ذلك فاكتفى به ولا يشترط البينة لعدم منازعته من الوجهين جميعا ولنا أن اليد حق مقصود كالملك حتى أن غاصب المدبر يضمن قيمته ولم يفوت غير اليد فيكون مثله لا يستحق إلا بالبينة غير انا ابحنا له الدفع عند اصابة العلامة بالحديث الذي رووه على أن الأمر فيه للاباحة جمعا بينه وبين الحديث المشهور وهو قوله صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على من أنكر ويأتي شاء الله تعالى في الدعوى
____________________
(6/129)
والمدعي هنا صاحب اللقطة فعليه البينة ثم إذا دفعها بالعلامة فقط يأخذ منه كفيلا استيثاقا قال المصنف وهذا بلا خلاف لانه يأخذ الكفيل لنفسه بخلاف التكفيل لوارث غائب عنده أي عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيما إذا قسمت التركة بين الغرماء أو الورثة لا يؤخذ من الغريم ولا من الوارث كفيل عنده وعندهما يؤخذ والفرق لابي حنيفة أن حق الحاضر هنا غير ثابت فيمكن أن يكون المالك غيره فيجيء ويتوارى الآخذ فيحتاط بالكفيل بخلاف الميراث فإن حق الحاضر معلوم ثابت وكون غيره ايضا له حق أمر موهوم فلا يجوز تأخير الحق الثابت إلى زمان تحصيل الكفيل بحق موهوم وهذا يدل على أن دفع الملتقط لوكان بالبينة لا يأخذ كفيلا وهو الصحيح وذكر في جامع قاضيخان أن فيه روايتين والصحيح انه لا يأخذ واورد على المصنف انه نفي الخلاف في التكفيل في اللقطة وقال في فصل القضاء بالمواريث فيه أي في أخذ الكفيل عند رفع اللقطة روايتان والاصح انه على الخلاف على قول أبي حنيفة لا يأخذ وعلى قولهما يأخذ هذا إذا دفعه بمجرد العلامة فان صدقه مع العلامة أو لا معها فلا شك في جواز دفعه إليه لكن هل يجبر قيل يجبل كما لو أقام بينة وقيل لا يحبر كالوكيل يقبض الوديعة إذا صدقه المودع لا يجبره القاضي على دفعها اليه ودفع بالفرق بأن المالك هنا غير ظاهر أي المالك الاخذ لهذه اللقطة التي صدق الملتقط مدعيها غير ظاهر والمودع في مسألة الوديعة مالك ظاهر وانما اقر للحاضر بحق قبضها واقراره بحق قبض ملك الغير لا يلزمه اقباضه لانه إقرار على ملك غيره وإذا دفع بالتصديق أو بالعلامة وجاء اخر اقام البينة إنها له أن كانت قائمة في يد المدعي قضى له بها وهو ظاهر وان كان هالكا خير بين أن يضمن القابض أو الملتقط فإن ضمن القابض لا يرجع على أحد وان ضمن الملتقط ففي رواية لا يرجع على القابض وهو قول الأمام احمد فيما إذا كان الدفع بتصديقه وفي رواية يرجع وهو الصحيح
____________________
(6/130)
وجه قول أحمد أن الملتقط اعترف بأنه مالكها وصاحب البينة ظلمه بتضمينه فلا يظلمه هو وصار كالمودع إذا صدق الوكيل بالقبض ودفع إليه ثم حضر المودع وأنكر الوكالة وضمنه لا يرجع على الوكيل لزعمه أن الوكيل قبضه بأمره والمودع ظالم في تضمينه ولنا أنه وإن صدقه في الملك لكنه لما قضى بالملك للمدعى بالبينة فقد صار مكذبا شرعا بتكذيب القاضي فبطل إقراره وصار كأنه دفع بلا تصديق ثم ظهر الأمر بخلافه وصار كإقرار المشتري بالملك للبائع إذا استحقه غيره ببينة فقضى له به يرجع على البائع ومثل هذا يجري في إقراره بأنه وكيل المودع والذي فرق به في المبسوط أن في زعم المودع أن الوكيل عامل لغيره وهو المودع في قبضه له بأمره وليس بضامن بل المودع ظلمه في تضمينه إياه ومن ظلم لا يظلم غيره موهنا في زعمه أن القابض عامل لنفسه وأنه ضامن إذا ثبت الملك لغيره بالبينة فكان له أن يرجع عليه بما ضمن انتهى قوله ولا يتصدق باللقطة على غنى لأن المأمور به هو الصدقة لقوله صلى الله عليه وسلم فإن لم يأت يعني صاحبها فليتصدق به والصدقة لا تكون على غني فأشبه الصدقة المفروضة والحديث الذي ذكره هو ما رواه البزار في مسنده والدار قطني عن يوسف بن خالد السمتي حدثنا زياد بن سعد عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال لا تحل اللقطة فمن التقط شيئا فليعرفه سنة فإن جاء صاحبه فليؤده إليه وإن لم يأت فليتصدق به فإن جاء فليخيره بين الأجر وبين الذي له وفيه يوسف بن خالد السمي وليس للملتقط إذا كان غنيا أن يمتلكها بطريق القرض إلا بإذن الإمام وإن كان فقيرا فله أن يصرفها إلى نفسه صدقة لا فرضا فيكون فيه للمالك أجر الصدقة تحقيقا للنظر من الجانبين جانب المالك بحصول الثواب له وجانب الملتقط كما لو كان الفقير غير الملتقط ولهذا جاز دفعها إلى فقير غير الملتقط وإن كان أبا الملتقط أو ابنه أو زوجته وإن كان الملتقط غنيا لما ذكرنا من تحقيق النظر من الجانبين وقال الشافعي له أن يتملكها وإن كان غنيا بطريق القرض غير مفتقر إلى إذن الإمام لقوله صلى الله عليه وسلم فإن جاء صاحبها فادفعها إليه وإلا فاستمتع بها قالوا وأبي كان من المياسير بدليل ما في بعض رواياته أنه صلى الله عليه وسلم قال وإلا فهي كسبيل مالك فقد جعل له مالا قلنا هذه الرواية ليس فيها أن الخطاب لأبي فإنها كما في مسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه
____________________
(6/131)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في اللقطة عرضها سنة فان جاء أحد إلى أن قال فهي كسبيل مالك وظاهر هذا انه يحكي قوله لسائل يسأل وجاز كون ذلك كان فقيرا ثم هنا ما يدل على فقر أبي في زمنه صلى الله عليه وسلم وهو ما في الصحيحين عن أبي طلحة قلت يا رسول الله أن الله تعالى يقول لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وان احب اموالي الي بيرحاء فما ترى يا رسول الله فقال اجعلها في فقراء قرابتك فجعلها أبو طلحة في أبي وحسان وهذا صريح في أن ابيا كان فقيرا لكنه يحتمل انه ايسر بعد ذلك إلا أن قضايا الاحوال إذا تطرف اليها الاحتمال سقط بها الاستدلال واما ما في حديث زيد بن خالد جاء رجل يسأل النبي صلى الله عيه وسلم عن اللقطة فقال اعرف إلى أن قال وإلا فشأنك بها وفي رواية فهي لك فهو ايضا من قضايا الاحوال المتطرق اليها الاحتمال إذ يجوز كون السائل فقيرا ولو سلم أن الخطاب لأبي لا يخري عن قضايا الاحوال ذات الاحتمال إذ المال لا يلزم كونه نصابا وكونه خاليا عن الدين لو كان نصابا فجاز كونه اقل من نصاب وكونه مديونا قالوا لو كانت اللقطة لا تحل للملتقط إلا بطريق الصدقة فيمتنع إذا كان غنيا لما أكلها على رضي الله عنه وهو لا تحل له الصدقة وقد امره صلى الله عليه وسلم بأكلها فيما اخرج أبو داود عن سهل بن سعد أن علي بن أبي طالب داخل على فاطمة وحسن وحسين يبكيان فقال ما يبكيكما قالت الجوع فخرج علي رضي الله عنه فوجد دينارا بالسوق فجاء فاطمة فأخبرها فقالت اذهب إلى فلان اليهودي فخذ لنا دقيقا فجاء اليهودي فقال اليهودي انت ختن هذا الذي يزعم انه رسول الله قال نعم قال فخذ دينارك والدقيق لك فخرج علي فأخبر فاطمة فقالت اذهب إلى فلان الجزار وخذ لنا بدرهم لحما فذهب فرهن الدينار بدرهم بلحم فعجنت وخبزت وارسلت إلى ابيها فجاء فقالت يا رسول الله اذكر لك فإن رأيته حلالا لنا اكمناه من شأنه كذا وكذا فقال كلوا باسم الله فأكلوا فبينما هم مكانهم إذا غلام ينشد الله والاسلام الدينار فأمر النبي صلى الله عليه وسلم اذهب إلى الجزار فقل له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ارسل إلى بالدينار حمك به فدعى فسأله فقال سقط مني في السوق فقال النبي صلى الله علهي وسلم يا علي اذهب إلى الجزار فقل له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ارسل الي بالدينار ودرهمك علي فارسل به فدفعه صلى الله عليه وسلم إلى الغلام قلنا هذا الحديث تكلم فيه باعتبار تضمنه انفاقه قبل التعريف فدل على ضعفه وقول المنذري ولعل تأويله أن التعريف ليس له صيغة يعتد بها فمراجعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ملإ من الخلق اعلان به وهذا يؤيد الاكتفاء في التعريف بمرة غير ظاهر فإنه لم يذكر له ذلك إلا بعد أن اشتروا وخبزوا واحضروه صلى الله عليه وسلم على الاكل نعم يجب الحكم بأن علينا عرفه قبل
____________________
(6/132)
أن يأتي به فاطمة وان لم يذكر وقد رواه عبد الرزاق واسحاق بن راهويه والبزار وابو يعلي الموصلي وفيه انه اتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال عرفه ثلاثة ايام فعرفه فلم يجد من يعرفه فرجع فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال شأنك به وفيه دليل لمختار شمس الأئمة من أن التقدير بحول وغيره ليس بلازم بل إلى أن تسكن نفسه إلى أن طالبه قطع نظره عنه وفي سنده أبو بكر بن عبد الله قال البزار على الظن هو عندي أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة وهو لين الحديث وقال عبد الحق هو متروك والحق أن الحديث ضعيف من جهة الرواية ومن جهة الاضطراب لان ما في الرواية الأولى من انهم إنما اعلموه بعد أن اشتروا وصار مهيئا للاكل يناقض ما في الثانية من انه اعلمه فأمره بتعريفه ثم امره بأخذه وفي الأولى من انهم إنما اعلموه بعد أن اشتروا وصار مهيئا للاكل يناقض ما في الثانية من انه اعلمه فأمره بتعريفه ثم امره بأخذه وفي الأولى انه دفع عينه للمنشد وفي الثانية انه جعله دينا عليه وقال إذا جاءنا اديناه اليك وغير ذكل والاضطراب موجب للضعف ثم لو سلمنا حجيته كان الثابت به أن استقراضه بإذن الأمام جائز وليس هذا محل النزاع كما تقدم فلم يثبت بعد جواز افتراض الملتقط الغني فلو سلمنا ضعف حديث أبي هريرة في الصدقة بناء على تضعيف السمتي كفانا جاوز التصدق بالإجماع ثم هو يثبت أن للملتقط الغني فيها حكما آخر ونحن نطالبه في اثباته بالدليل ولم يتم له عليه دليل فيبقى على الانتفاء = كتاب الاباق
كل من الاباق اللقيط واللقطة تحقق فيه عرضة الزوال والتلف إلا أن التعرف له بفعل فاعل مختار في الاباق فكان الانسب تعقيب الجهاد به بخلاف اللقطة واللقيط وكذا الأولى فيه وفي اللقطة الترجمة بالباب لا بالكتاب والاباق في اللغة الهرب ابق بأبق كضرب بضرب والهرب لا يتحقق إلا بالقصد فلا حاجة إلى ما قيل هو الهرب فصدا نعم لو قيل الانصراف ونحوه عن المالك كان قيد القصد مفيدا والضال ليس فيه قصد التغيب بل هو المنقطع عن مولاه لجهله بالطريق اليه قوله الابق اخذه افضل من تركه في حق من يقوي عليه أي يقدر على حفظه حتى يصل إلى مولاه بخلاف من يعلم من نفسه العجز عن ذلك والضعف ولا يعلم في هذا خلاف ويمكن أن يجري فيه التفصيل في اللقطة بين أن يغلب على ظنه تلفه على المولى أن لم يأخذه مع قدرة تامة
____________________
(6/133)
عليه فيجب اخذه وإلا فلا واختلف في اخذ الضال قيل أخذه افضل لما فيه من احياء النفوس والتعاون على البر وقيل تركه افضل لانه لا يبرح مكانه منتظرا لمولاه حتى يجده ولا يخفي أن انتظاره في مكان غير متزحزح عنه ليس بواقع بل نجد الضلال يدورون متحيرين لا شك في أن محل هذا الخلاف إذا لم يعلم وأجد الضال مولاه ولا مكانه إما إذا علمه فلا ينبغي أن يختلف في افضلية اخذه ورده قوله ثم آخذ الاباق يأتي به إلى السلطان أو القاضي فيحبسه منعا له عن الاباق لانه لا يستطيع حفظه عن اباقه من الاخذ إلا بذلك عادة بخلاف اللقطة إما لو فرض قدرته على ذلك لا يحتاج إلى السلطان وبهذا الاعتبار خيره الحلواني بين أن يأتي به إلى السلطان أو يحفظه بنفسه وعلى هذا الضال والضالة من الابل وغيرها وإذا حبس الأمام الابق فجاء رجل وادعاه واقام بينة انه عبده يستحلفه بالله انه باق إلى الان في ملكك لم يخرج ببيع ولا هبة فإذا حلف دفعه اليه وهذا لاحتمال انه عرض بعد علم الشهود بثبوت ملكه على وجه زواله بسبب لا يعلمونه وانما يستحلفه مع عدم خصم يدعي لصيانة قضائه عن الخطأ ونظرا لم هو عاجز عن النظر لنفسه من مشتر أو موهوب له ثم إذا دفعه اليه عن بينة ففي اولوية اخذ الكفيل وتركه روايتان وكما يدفعه بالبينة يدفعه بإقرار العبد انه له ويأخذ من المدفوع اليه هنا كفيلا رواية واحدة وينفق عليه مدة حبسه من بيت المال ثم يأخذه من صاحبه فيرده في بيت المال بخلاف اللقيط لا يؤخذ منه إذا كبر مال بيت المال لأنه كان مستحقا له بفقره وعجزه عن الكسب بخلاف مالك العبد وإذا لم يجيء للعبد طالب وطالت مدته باعه القاضي وامسك ثمنه بعد اخذ ما انفق لبيت المال منه فإذا جاء مالكه مواقام بينة وهو قائم في يد المشتري لا يأخذه ولا ينتقض بيع القاضي لانه كحكمه بخلاف الضال إذا طالت مدته فإنه يؤاجره وينفق عليه من اجرته لانه لا يخشى اباقه فلا يبيعه إما الابق فيخشى ذلك منه فلذلك يبيعه ولا يؤاجره وينبغي أن يقدر الطول بثلاثة ايام كما تقدم في الضالة الملتقطة لان دارة النفقة مستأصلة ولا نظر في ذلك للمالك بحسب الظاهر قوله ومن رد الابق على مولاه من مسيرة ثلاثة ايام فصاعدا فله عليه جعله اربعون درهما فضة بوزن سبعة مثاقيل وان رده لأقل من مسيرة سفر فبحسابه وهذا استحسان والقياس أن لا يكون له شيء إلا بالشرط بان يقول من رد علي عبدي فله كذا كما إذا رد بهيمة ضالة أو عبدا ضالا وجه القياس أن الراد تبرع
____________________
(6/134)
بمنافعه في رده ولو تبرع بعين من اعيان ماله لا يستوجب شيئا فكذا هذا وقولنا قول مالك واحمد في رواية قال المصنف في وجه الاستحسان ولنا إجماع الصحابة على أصل الجعل إلا أن منهم من أوجب الأربعين ومنهم من اوجب ما دونها وذلك انه ظهر الفتوى به من غير واحد من حيث لا يخفي فلم ينكره أحد وذلك أن محمدا رحمه الله روى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة عن سعيد بن المرزبان عن أبي عمرو الشيباني قال كنت قاعدا عند عبد الله بن مسعود فجاء رجل فقال أن فلانا قدم بإباق من الفيوم فقال القوم لقد اصاب اجرا قال عبد الله وجعلا أن شاء الله من كل رأس اربعين وروى أبو يوسف هذا الحديث عن سعيد نفسه ايضا وروى عبد الرزاق في مصنفه قال اخبرنا سفيان الثوري عن أبي رباح عبد الله بن رباح عن أبي عمرو الشيباني قال اصبت غلمانه اباقا بالغين فذكرت ذلك لابن مسعود فقال الآجر والغنيمة قلت هذا الاجر فما الغنيمة قال اربعون درهما من كل رأس وروى ابن أبي شيبة حدثنا محمد بن يزيد عن ايوب عن أبي العلاء عن قتادة وأبي هاشم أن عمر رضي الله عنه قضى في جعل الابق اربعين درهما وروى ايضا عن وكيع حدثنا سفيان عن أبي اسحاق قال اعطيت الجعل في زمن معاوية اربعين درهما وروى ايضا عن يزيد بن هارون عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه جعل في جعل الابق دينارا أو اثنى عشر درهما وروى ايضا عن يزيد ابن هارون عن حجاج عن حصين عن الشعبي عن الحرث عن علي رضي الله عنه انه جعل في جعل الابق دينارا أو اثني عشر درهما وأخرج هو عبد الرزاق عن عمرو بن دينار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في العبد الابق يوجد في خارج الحمر بدينار أو عشرة دراهم وهذا حديث مرفوع مرسل والمفهوم من خارج الحرم في المبتادا القرب لا قدر مسيرة سفر عنه وعن هذا روى عمار أن أخذه في المصر فله عشرة وان أخذه خارج المصر فله اربعون لعله اعتبر الحرم كالمكان الواحد وقول المصنف إلا أن منهم من اوجب اربعين ومنهم من اوجب دونها يريد المروي عن عمر وعلي وقد علمت الرواية عن عمر ايضا أن الجعل اربعون وسنده احسن من الأخرى والرواية عن علي مضعفة بالحرث المذكور فكانت رواية ابن مسعود اقوى الكل فرجحناها وكذا قول البيهقي في سننه هو امثل ما في الباب وانما يؤخذ بالاقل إذا ساوى الاكثر في القوة وقيل إنما يؤخذ به إذا لم يمكن التوفيق بين الاقاويل وهنا يمكن إذ تحمل روايات الاربعين على رده من مسيرة السفر وروايات الاقل على ما دونها ويحمل قول عمار خارج المصر على مدة السفر والتلفيق الضم لفقلت الثوب الفقه إذا ضممت
____________________
(6/135)
شقه إلى شقه ولان نصب المقادير لا يعرف إلا سماعا فكان للموقوف على الصحابة حكم المرفوع واصحها حديث ابن مسعود فهو بعد كونه مثبتا للزيادة وزيادة العدل مقبولة راجح ولا يخفي ما في هذا ولان ايجاب اصل الجعل حامل على الر إذ الحسبة وهو رده احتسابا عند الله تعالى مع ما فيه من زيادة التعب والنصب نادرة فشرع للمصلحة الراجعة إلى العباد من صيانة اموالهم عليهم وتقدير الجعل إنما يدري بالسمع ولا سمع في الضال فلتمنع الحاقه به قياسا ودلالة ايضا لان الحاجة إلى صيانة الضال في رده دونها في رد الابق لما في رده من زيادة التحفظ في حفظه والاتياط في مراعاته كي لا يأبق ثانيا مما ليس في رد الضال منه شيء ولو كان الابق لرجلين فصاعدا فالجعل على قدر النصيب فلو كان البعض غائبا فليس للحاضر أن يأخذه حتى يعطي تمام الجعل ولا يكون متبرعا بنصيب الغائب فيرجع عليه لانه مضطر فيما يعطيه لانه لا يصل إلى نصيبه إلا به هذا كله إذا رده بلا استعانة فلو أن رجلا قال لآخر أن عبدي قد ابق فإذا وجدته خذه فوجده فرده ليس له شيء لان مالكه استعان به ووعده الاعانة والمعين لا يستحق شيئا وقوله وما دونه فيما دونه أي اوجبنا ما دون الاربعين فيما دون السفر وذلك لانا لما عرفنا ايجاب الجعل بكل من نقل عنه مقدار وذلك هو الواجب فإذا حملنا بعضه على ما دون السفر كان ذلك حكما بالإيجاب فيما دون السفر لانه ما ذكر ذلك إلا على انه واجب قوله ويقدر الرضخ في الردة عما دون السفر باصطلاحهما أي المالك والراد أو يفوض إلى رأي القاضي يقدره على حسب ما يراه قالوا وهذا هو الاشبه بالاعتبار وقال بعض المشايخ تقسم الاربعون على الايام الثلاثة لكل يوم ثلاثة عشر وثلث قوله وان كانت قيمته الى من اربعين يقضي له بقيمته إلا درهما قال المصنف وهذا قول محمد وهو قول أبي يوسف الأول كما قال أبو يوسف اخرا له اربعون وان كانت قيمته درهما واحدا ولم يذكر قول أبي حنيفة في عامة كتب الفقه وذكر في شرح الطحاوي مع محمد وجه أبي يوسف أن التقدير بها ثبت بالنص أي قول ابن مسعود وعمر ووجب اتباعهما والمراد بالنص إجماع الصحابة بناء على عدم مخالفة من سواهما لوجوب حمل قول
____________________
(6/136)
من نقص منها على ما نقص من السفر فل ينتقص عنها ولمحمد أن المقصود من ايجاب الجعل حمل الغير على الرد ليحيا مال المالك فينقص منه درهم ليسلم له شيء تحقيقا للفائدة أي فائدة ايجاب الجعل وتعيين الدرهم لان مادونه كسور وام الولد والمدبر في هذا بمنزلة القن إذا كان الرد في حياة المولى لما فيه من احياء ملكه وبه تحيا ماليته له إما باعتبار الرقبة كما في المدبر أو باعتبار الكسب كما في أم الولد عنده لانها لا مالية فيها عنده لكنه احق بأكسابها ولو رده بعد مماته لا جعل له فيهما لانهما يعتقان بالموت فيقع رد حر لا مملوك على مالكه وهذا في ام الولد ظاهر وكذا المدبر أن كان يخرج يعتق حينئذ بالموت اتفاقا وان لم يخرج من الثلث فكذلك عندهما وعند أبي حنيفة يصير كالمكاتب لانه يسعى في قيمته ليعتق ولا جعل في رد المكاتب لأن المولى لا يستفيد برده ملكا بل استفاد بدل الكتابة فكان كرد غريم له وبرد غريم لا يستحق شيئا بخلاف القن قوله ولو كان الراد ابا المولى أو ابنه وهو في عياله أو أحد الزوجين على الآخر فلا جعل له وقيد في عياله أن رجع إلى الراد أو إلى الابن اقتضى أن يتقيد نفي الجعل إذا كان الراد ابنا بكونه في عيال المالك أي في نفقته وتموينه وهو غير صحيح لان الابن لا يستوجب جعلا سواء كان في عيال ابيه المالك اولا وجملة الحال أن الراد أن كان ولد المالك أو أحد الزوجين على الآخر والوصي لا يستحق جعلا مطلقا إما الولد فلأن الراد كالبائع من المالك من وجه وباعتباره يجب وكالاجير من وجه لانه من باب الخدمة والاب إذا استأجر ابنه ليخدمه لا يستحق عليه اجرة لان خدمته واجبة على الابن فوجب من وجه وانتفى من وجه فلا يجب بالشك وهذا يفيد عدم الوجوب وان لم يكن في عياله فإذا كان في عياله فبطريق الأولى واما أحد الزوجين فان كان زوجا فالقياس يجب وفي الاستحسان لا يجب لان العادة أن يطلب الزوج عبد امرأته تبرعا في العرف لانه ينتفع به والثابت عرفا كالثابت نصا وان
____________________
(6/137)
كان زوجة فلا يجب لهذا ولان الردة بجهة الخدمة يمنعها منه لانها لا تستحق بدل الخدمة على الزوج كالولد ولذا لو استأجرها لتخدمه لا يجب لها شيء واما الوصي فإنما لا يستحق الجعل برد عبد اليتيم لانه من الحفظ وشأن الوصي أن يحفظ ماله وان كان غيرهم من الاب وباقي الاقارب فان كانوا في عيال المالك لا يجب لهم شيء وان لم يكونوا في عياله وجب لهم لان العادة والعرف أن الانسان إنما يطلب الابق بمن في عياله فكان التبرع منهم ثابتا عرفا وهو كالثابت نصا بخلاف ما إذا لم يكونوا في عياله لان التبرع حينئذ لم يوجد نصا ولا عرفا قوله وان ابق من الذي رده فلا شيء عليه أي لا ضمان على الراد وفي بعض نسخ القدوري لا شيء له أي لا جعل للراد وكل منهما صحيح وكذا إذا مات عنده إلا أن نفي الجعل يصح بلا شرط لأن الجعل كالثمن والراد كالبائع للمالك لانه باباقة كالهالك من حيث فوات جميع الانتفاعات به وبالرد كأنه استفاد ملكه من جهته فصار كالبائع ولذا كان له حبسه لاستيفاء الجعل والبائع إذا هلك في يده أو ابق وهو عبد سقط الثمن فكذا يسقط الجعل وانتفاء الضمان يشترط له أن يكون اشهد على قول أبي حنيفة ومحمد لانه حينئذ صار امانة عنده كما في اللقطة وقال أبو يوسف لا ضمان عليه اشهد أو لم يشهد إذا قال اخذته لارده والقول قوله في ذلك مع يمينه إذا علم انه انه كان آبقا فلو انكر المولى اباقة فالقول له لان سبب الضمان وهو اخذ مال الغير بغير اذنه ظهر من الراد ثم ادعى على ما يسقطه وهو اذن الشارع باباقة والمالك منكر وكذا لا يجب الجعل إذا جاء به وانكر المولى اباقة إلا أن يشهد شهود انه ابق من مولاه أو يشهدوا على إقرار المولى باباقة قوله ولو اعتقه المولى كما لقيه أي رآه قبل قبضه يصير بالاعتاق قابضا فيجب الجعل كما في العبد المشتري إذا اعتقه قبل القبض يصير به قابضا ويجب الثمن وكذا إذا باعه المولى من الراد أي قبل قبضه يصير به قابضا لسلامة بدله وهو الثمن له فان قيل للرد حكم البيع من المالك فبيع المالك من
____________________
(6/138)
الراد قبل قبضه بيع ما لم يقبض وهو لا يجوز اجاب بقوله لكنه بيع من وجه لا من كل وجه فلا يدخل تحت النهي المطلق عن بيع مالم يقبض فجاز واورد أن الشبهة ملحقة بالحقيقة في الحرمات اجاب بان هذه شبهة الشبهة ولا عبرة بها وهذا لانه لو شرط رضا المالك كان الثابت الشبهة لانه ملكه حقيقة فمع عدم الرضا الثابت شبهة الشبهة قوله وينبغي إذا اخذه أن يشهد انه يأخذه ليرده قال المصنف فالاشهاد حتم فيه أي في أخذ الآبق عليه أي على الآخذ على قوله أبي حنيفة ومحمد وتفسير بعضهم حتم بأنه واجب تساهل وألا يلزم بتركه استحقاق العقاب ونقطع بأنه إذا اخذه بقصد الرد إلى المالك واتفق انه لم يشهد لا اثم عليه وانما الاشهاد شرط عدهما خلافا لأبي يوسف لاستحقاق الجعل ولسقوط الضمان أن مات عنده أو آبق لان ترك الاشهاد امارة انه اخذه لنفسه فصار كما لو اشتراه الراد من الاخذ أو انتهبه منه فرده على مولاه لا جعل له لانه رده لنفسه لانه بالشراء أو الاتهاب قاصد لتملكه ظاهرا فيكون غاصبا في حق سيده فرده لاسقاط الضمان عن نفسه وهذا معنى قوله رده لنفسه وكذا لو اوصى له به أو ورثه في كل ذلك يكون قابضا لنفسه فيضمنه فإذا رده لا جعل له لانه لنفسه لانه يسقط الضمان عن نفسه إلا أن يشهد عند الشراء من الاخذ انه إنما اشتريته لارده على مالكه لانه لا يقدر على رده إلا بشرائه فحينئذ يكون له الجعل ولا يرجع على السيد بشيء من الثمن لانه متبرع به كما لو انفق عليه بغير اذن القاضي قوله وان كان الابق رهنا فالجعل على المرتهن لان بالرد حييت ماليته وماليته حق المرتهن لان الاستيقاء منها والجعل على من حييت له المالية إلا ترى أن بالاباق سقط دين المرتهن كما بالموت وبالعود عاد الدين وتعلق حقه بالرهن استيفاء من ماليته كما لو ماتت الشاة المرهونة فدبغ جلدها فإن الدين يعود به والرد في حياة الراهن وموته سواء لأن الرهن لا يبطل بالموت وهذا أي كون الجعل على المرتهن إذا كان قيمة العبد مثل الدين أو اقل فإن كانت اكثر من الدين قسم الجعل على الراهن والمرتهن فما أصاب الدين على المرتهن وما بقي على الراهن مثلا الدين ثلاثمائة وقيمة الرهن اربعمائة يكون على المرتهن ثلاثون وعلى الراهن عشرة وصار الجعل
____________________
(6/139)
كثمن دواء الرهن وتخليصه من الجناية بالفداء أن كان الدين اكثر من قيمته انقسم انقساما عليها كذلك قوله وان كان مديونا أي أن كان العبد الآبق مديونا بأن كان مأذونا فلحقه في التجارة دين أو اتلف مال الغير واعترف به المولى فالجعل على من يستقر الملك له لأنه مؤنة الملك والملك في العبد بعد مباشرته سبب الدين كالموقوف أن اختار المولى قضاء دينه كان الجعل عليه لان الملك استقر له وان اختار بيعه في الدين كان الجعل في الثمن يبدأ به قبل الدين لما قلنا انه مؤنة الملك والباقي للغرماء فظهر أن قول المصنف فيجب أي الجعل على من يستقر له الملك تجوز فانه لا يجب على المشتري وكأنه جعل ملك ثمنه بمنزلة ملكه وان كان أي العبد جانبا أي جنى خطأ فلم يدفعه مولاه ولم يفده حتى ابق فرده من مسيرة ثلاثة ايام فهو على القياس يكون الجعل على من سيصير له أن اختار المولى فداءه فهو عليه لعود منفعته اليه فان اختار الدفع إلى اولياء الجناية فعليهم لعودها اليهم ولو كان قتل عمدا فأبق ثم رد لا جعل على أحد إما المولى فلأنه أن قتل لم يحصل له بالرد منفعة وان عفا عنه فإنما حصلت بالعفو واما ولي القصاص فإن قتل فالحاصل له التشفي لا المالية وان عفا فظاهر وان كان موهوبا فان ابق ممن وهب له ثم رد فالجعل على الموهوب له سواء رجع الواهب في هبته بعد الرد اولا إما إذا لم يرجع فظاهر واما أن رجع بعد المجيء فلانه وان حصلت اله المالية لكن لم تحصل بالرد بل بترك الموهوب له التصرف في العبد بعد رده مما يمنع رجوعه من بيعه وهبته وغير ذلك واورد عليه انه حصل بالمجموع من ذلك ومن الرد اجيب بأن الترك آخر جزىء العلة واليها يضاف الحكم واما الجواب بأنه إذا ثبت بالكل لا يكون بالرد وحده فلا يدفع الوارد على المصنف بل يقرره وان كان الابق لصبي فالجعل في ماله لما تقدم انه مؤنة ملكه
____________________
(6/140)
وان رد وصية فلا جعل له وقد بيناه في التقسيم وكذا اليتيم يعوله رجل فرد ابقا له لانه إذا كان تبرع له بمؤنته من مال نفسه فكيف لا يتبرع له بما هو دونه مع أن العرف فيه التبرع وفي الكافي للحاكم ابقت امة ولها لد رضيع فردهما رجل له جعل واحد فإن كان ابنها قارب الحلم فله ثمانون لان من لم يراهق لم يعتبر آبقا وفي الذخيرة والمحيط لو اخذ ابقا فغصبه منه آخر وجاء به إلى مولاه واخذ جعله ثم جاء اخر واقام بينة انه اخذه يأخذ الجعل منه ثانيا ويرجع السيد على الغاصب بما دفع اليه ولو جاء بالابق من مسيرة سفر فلما دخل البلد ابق من الاخذ فوجده آخر فرده إلى سيده أن جاء به من مدة السفر فالجعل له وان وجده لاقل فجاء به لا جعل لواحد منهما وفي المبسوط لا جعل للسلطان والشحنة أو الخفير في رد الابق والمال من قطاع الطريق لوجوب الفعل عليهم والاولى أن يقال لاخذهم العطاء على ذلك ونصبهم له = كتاب المفقود
هو الغائب الذي لا يدري حياته ولا موته قوله إذا غاب الرجل ولم يعرف له موضع ولا يعلم احي هو ام ميت نصب القاضي من يحفظ ماله ويقوم عليه أي على ماله ويستوفي حقوقه لان القاضي نصب ناظرا لكل عاجز عن النظر لنفسه والمفقود عاجز عنه فصار كالصبي والمجنون فعلى القاضي أن يفعل في أمرهم ما ذكرنا لما ذكرنا وقوله أي قول القدوري يستوفي حقوقه يريد أنه يقبض غلاته والدين الذي اقر به غريم ويخاصم في دين وجب بعقده
____________________
(6/141)
أي بعقد الي نصب القاضي لأنه أصيل في حقوق عقده ولا يخاصم في الدين الذي تولاه المفقود ولا في نصيب له في عقار أو عروض في يد رجل ولا في حق من الحقوق إذا جحد من هو عنده أو عليه لأنه ليس بمالك ولا نائب إنما هو وكيل بالقبض من جهة القاضي وهو لا يملك الخصومة بلا خلاف إنما الخلاف في الوكيل يقبض الدين من جهة المالك عند أبي حنيفة يملك الخصومة فيه وعندهما لا يملك وإذا كان كذلك يعني إذا كان وكيل القاضي لا يملك الخصومة فلو قضى بخصومته كان قضاء على الغائب والأوجه أن يقول للغائب والقضاء عليه فيما لو ادعى إنسان على المفقود دينا أو وديعة أو شركة في عقار أو رقيق أو ردا بعيب أو مطالبة لاستحقاق لا تسمع الدعوى ولا البينة لأنهما إنما يسمعان على خصم والوكيل ليس خصما والورثة إنما يصيرون خصماء بعد موت المورث ولم يظهر موته بعد فيكون قضاء على الغائب وهو لا يجوز إلا إذا رآه القاضي أي إذا رأى القاضي المصلحة في الحكم للغائب وعليه فحكم فإنه ينفذ لأنه مجتهد فيه فإن قيل ينبغي أن لا ينفذ حتى يمضيه قاض آخر لأن نفس القضاء مجتهد فيه كما لو كان القاضي محدودا في قذف فإن نفاذ قضائه لموقوف على أن يمضيه قاض آخر أجيب بمنع أنه من ذلك بل المجتهد سببه وهو هذه البينة هل تكون حجة للقضاء من غير خصم حاضر أم لا وإذا قضى بها نفذ كما لو قضى بشهادة المحدود في قذف وفي الخلاصة الفتوى على هذا ثم ما كان يخاف عليه الفساد كالثمار ونحوها يبيعه القاضي لأنه تعذر عليه حفظ صورته ومعناه فينظر للغائب بحفظ معناه ولا يبيع ما لا يخاف فساده منقولا كان أو عقارا في نفقة ولا غيرها لأن القاضي لا ولاية له على الغائب إلا في الحفظ وفي البيع ترك حفظ الصورة بلا ملجئ فلا يجوز فإن لم يكن له مال إلا عروض أو عقار أو خادم واحتاج ولده أو زوجته إلى النفقة لا يباع بخلاف الوصى فإنه يبيع العروض على الوارث الكبير الغائب لأن ولايته ثابتة فيما
____________________
(6/142)
يرجع إلى حق الموصى وبيع العروض فيه معنى حقه وربما يكون حفظ الثمن للإيصال إلى ورثته أيسر وهنا لا ولاية للقاضي على المفقود إلا في الحفظ وفي المبسوط وقال أبو حنيفة إن كان له أب محتاج فله أن يبيع شيئا من عروضه وينفقه عليه وليس له بيع العقار وهو استحسان وفي القياس ليس له بيع العروض وهو قولهما وذكر الكرخي أن محمدا ذكر قول أبي حنيفة في الأمالي وقال هو حسن وجه الاستحسان أن الأب وإن زالت ولايته بقي أثرها حتى صح استيلاده جارية ابنه مع أن الحاجة إلى ذلك ليس من أصول الحوائج وإذا ثبت بقاء أثر ولايته كان كالوصي في حق الوارث الكبير وللوصي بيع العروض دون العقار وينفق على زوجته وأولاده من ماله يعني الحاصل في بيته والواصل من ثمن ما يتسارع إليه الفساد ومن مال مودع عند مقر ودين علا مقر
قال المصنف وليس هذا مقصورا على الأولاد قلت ولا هو على إطلاقه فيهم بل يعم قرابة الولاد يعني من الأب والجد وإن علا والأصل أن كل من يستحق النفقة في ماله حال حضرته بغير قضاء القاضي ينفق عليه من ماله عند غيبته لأن لهم أن ياخذوا حاجتهم بيدهم من ماله إذا كان جنس حقهم من النقد والثياب للبس فكان إعطاء القاضي إن كان المال عنده أو تمكينهم إن كان عندهم إعانة لا قضاء على الغائب فإنهم كانوا مأذونين شرعا أن يتناولوا بأنفسهم وكل من لا يستحقها في حضرته إلا بالقضاء لا ينفق عليه من ماله فمن الأول أعني المستحقين بلا قضاء الأولاد الصغار والإناث الكبار إذا لم يكن لهم مال وكذا الأب والجد والزمني من الذكور الكبار فكل من له مال لا يستحق النفقة عليه في حال حضوره فضلا عن غيبته إلا الزوجة فإنها تستحق وإن كانت غنية لأن استحقاقها بالعقد والاحتباس واستحقاق غيرها بالحاجة وهي تنعدم بالغنى ومن الثاني يعني من لا يستحق إلا بالقضاء الأخ والأخت والخال والخالة ونحوهم من قرابة غير الولاد وقوله أي قول القدوري من ماله يعني الدراهم والدنانير لأن حقهم في المطعوم والملبوس فإذا لم يكن في ماله عين المطعوم والملبوس يحتاج إلى القضاء بالقيمة وهي النقدان والتبر أي غير المضروب كذلك لأنه يصلح قيمة كالمضروب وهذا إذا كانت الدراهم والدنانير والتبر في يد القاضي فإن كانت وديعة أو دينا ينفق عليهم منها إن كان المودع مقرا بالوديعة
____________________
(6/143)
والنكاح والنسب والمديون كذلك مقر بالدين والنكاح والنسب وهذا يعني اشتراط إقرارهما بالنكاح والنسب إذا لم يكونا ظاهرين عند القاضي فإن كانا ظاهرين معروفين له فلا يحتاج إلى إقرارهما بهما ولو كان الظاهر عنده أحدهما الوديعة والدين أو النكاح والنسب جعل كل اثنين واحدا يشترط إقرار من في جهته المال بالآخر الذي ليس ظاهرا فيقر في الأول عند القاضي أن هذه زوجته وهذا ولده وفي الثاني بأن له عندي وديعة أو على دينه وقوله هذا هو الصحيح احتراز عن جواب القياس الذي قال به زفر لا أن هذا اختلاف الروايتين قال لا ينفق من الوديعة شيئا عليهم لأن إقرار المودع بذلك ليس حجة على الغائب وهو ليس خصما عن الغائب ولا يقضى على الغائب بلا خصم ومثل هذا في الدين أيضا قلنا المودع مقر بأن ما في يده ملك الغائب وان للولد والزوجة حق الإنفاق منه وإقرار الإنسان بما في يده معتبر فينتصب هو خصما باعتبار ما في يده ثم يتعدى القضاء منه إلى المفقود ومثل هذا القياس ليس في الوديعة والدين خاصة بل في جميع أموال المفقود وقد يقال أيضا في جوابه نعم القياس ما ذكرت لكنا استحسانا ذلك بحديث هند امرأة أبي سفيان وقد أسلفناه
قال فيه خذي من ماله ما يكفيك ويكفي بنيك بالمعروف إذ هو يفيد مطلقا جواز الإنفاق من مال الغائب لمن تجب له النفقة من الزوجة والولد ثم إذا ثبت في الزوجة والولد على خلاف القياس لا يلحق به قرابة غير الوالد بالقياس وثبوت نفقة الأب بالدلالة لأن حقه فيها آكد من حق الولد فإن الولد لا يستحقها بمجرد الحاجة بل إذا كان عاجزا عن الكسب والأب يستحقها بمجردها وإن كان يقدر على الكسب قوله ولو دفع المودع بنفسه أو من عليه الدين بغير أمر القاضي لأن القاضي نائب عنه فكان له أن يأمر هؤلاء بالقبض وليس القاضي نائبا في الحفظ فقط بل فيه وفي إيفاء ما عليه من الحقوق أيضا مما لا يحتاج في ثبوته عنده إلى سماع بينة وجاز له أن يوفى ما عليه من دين إذا علم بوجوبه بخلاف المودع فإنه المأمور بالحفظ فقط فيضمن إذا أعطاهم بلا أمره فإن قيل ينبغي أن لا يضمن المودع إذا دفعها إليهم لأنه لو رد الوديعة إلى من في عيال المودع بريء أجيب بان ذلك إذا دفعها إليهم للحفظ عليه لا للإتلاف والأحسن أن يأخذ القاضي منها كفيلا لاحتمال أنه طلقها قبل ذهابه أو عجل لها النفقة لكن لو لم يأخذ جاز لأنه لا يجب أخذ الكفيل إلا لخصم وليس هنا خصم طالب هذا
____________________
(6/144)
فلو كان المودع والمديون جاحدين أصلا لكل من الوديعة الدين والنسب والزوجية أو جاحدين النسب والزوجية معترفين بالوديعة والدين وليسا ظاهرين عند القاضي لم ينتصب أحد من مستحقي النفقة الزوجة أو الاب أو الابن خصما في ذلك أي في إثبات الدين أو النسب أو الوديعة باقامة البينة على شيء من ذلك لأن المودع والمديون ليسا خصما في ثبوت الزوجية والقضاء بها ولا ما يدعيه للغائب سببا متعينا لثبوت حقه الذي هو النفقة لانها كما تجب في هذا المال تجب في مال آخر للمفقود وستعرف تفصيل هذا أن شاء الله تعالى في ادب القاضي قوله ولا يفرق بينه وبين امرأته وقال مالك إذا مضى اربع سنين يفرق القاضي بينه وبينها وتعتد عدة الوفاة ثم تتزوج من شاءت لان عمر رضي الله عنه هكذا قضى في الذي استهوته الجن بالمدينة
____________________
(6/145)
ولأنه منع حقها بالغيبة وان كان عن غير قصد منه فيفرق بينهما القاضي بعد مضي مدة اعتبارا بالايلاء والعنة فإنه يفرق بينهما فيهما بعد مدة كذلك وهذا منه في الايلاء بناء على انه لا يوجب الفرقة بمجرد مضى المدة بل بتفريق القاضي بعدها وبعد هذا الاعتبار اخذ في المدة الاربع من الايلاء والسنين من العنة بجامع دفع الضرر عنها عملا بالشبهين وحديث الذي اخذته الجن رواه ابن أبي شيبة حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن يحيى بن جعدة أن رجلا انتسفته الجن على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتت امرأته عمر فأمرها أن تتربص اربع سنين ثم أمر وليه بعد اربع سنين أن يطلقها ثم امرها أن تعتد فإذا انقضت عدتها تزوجت فان جاء زوجها خير بين امرأته والصداق واخرج عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن يونس بن خباب عن مجاهد عن الفقيد الذي فقد قال دخلت الشعب فاستهوتني الجن فمكثت اربع سنين ثم اتت امرأتي عمر الحديث بمعنى الأول وأخرجه عبد الرزاق من طريق آخر وفيه فقال له عمر لما جاء أن شئت رددنا اليك امراتك وان شئت زوجناك غيرها قال بل زوجني غيرها ثم جعل عمر يسأله عن الجن وهو يخبره ورواه الدار قطني وفيه ثم امرها أن تعتد اربعة اشهر وعشرا وروى مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ايما امرأة فقدت زوجها فلم تدر اين هو فإنها تنتظر اربع سنين ثم تعتد اربعة اشهر وعشرا ثم تحل واسند ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان قالا في امرأة المفقود تتربص اربع سنين ثم تعتد اربعة اشهر وعشرا واسند ابن أبي شيبة عن جابر بن زيد تذاكر ابن عمر وابن عباس المفقود فقالا تتربص امرأته اربع سنين ثم يطلقها ولي زوجها ثم تتربص اربعة اشهر وعشرا قال المصنف ولنا قوله صلى الله عليه وسلم في امرأة المفقود إنها امرأته حتى يأتيها البيان اخرجه الدار قطني في سننه عن سوار بن مصعب حدثنا محمد بن شرحبيل الهمداني عن المغيرة بن شعبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان وفي بعض نسخه حتى يأتيها الخبر وهو مضعف بمحمد بن شرحبيل قال ابن أبي حاتم عن ابيه انه يروى عن المغيرة مناكير اباطيل وقال ابن القطان وسوار بن مصعب اشهر في المتروكين منه ثم عارض المصنف بقول علي قول عمر وهو ما روى عبد الرزاق اخبرنا محمد بن عبد الله العزرمي عن الحكم بن عتيبة أن عليا رضي الله عنه قال في امرأة المفقود هي امرأة ابتليت فلتصبر حتى يأتيها موت أو طلاق أنبأنا معمر عن أبن أبي ليلى عن الحكم أن عليا مثله وقال اخبرنا ابن جريج
____________________
(6/146)
قال بلغني أن ابن مسعود وافق عليا على إنها تنتظر أبدا واخرج ابن أبي شيبة عن أبي قلابة وجابر بن يزيد والشعبي والنخعي كلهم قالوا ليس لها أن تتزوج حتى يستبين موته وقوله ولان النكاح الخ الحاصل أن المسألة مختلفة بين الصحابة رضوان الله عليهم اجمعين فذهب عمر إلى ما تقدم وذهب علي رضي الله عنه إلى إنها امرأته حتى يأتيها البيان والشأن في الترجيح والحديث الضعيف يصلح مرجحا لا مثبتا بالأصالة وما ذكر من موافقته ابن مسعود مرجح آخر ثم شرع المصنف في مرجح آخر فقال ولأن النكاح عرف ثبوته والغيبة لا توجب الفرقة والموت في حير الاحتمال فلا يزال النكاح بالشك وذكر أن عمر رضي الله عنه رجع إلى قول علي علي امرأة المفقود وامرأة أبي كنف والمرأة التي تزوجت في عدتها وقولنا في الثلاث قول علي رضي الله عنه فامرأة المفقود عرفت وأما امرأة أبي كنف والمرأة التي تزوجت في عدتها وقولنا في عباره مكره الثلاث قول علي رضي الله عنه فامرأة المفقود عرفت وأما وامرأة أبي كنف والمرأة التي تزوجت في عدتها وقولنا في الثلاث قول علي رضي الله عنه فامرأة المفقود عرفت واما امرأة أبي كنف فكان أبو كنف طلقها ثم راجعها ولم يعلمها حتى غاب ثم قدم فوجدها قد تزوجت فاتى عمر رضي الله عنه فقص عليه القصة فقال له أن لم يكن دخل بها فأنت احق بها وان كان دخل بها فليس لك عليها سبيل فقدم على اهلها وقد وضعت القصة على رأسها فقال لهم أن لي اليها حاجة فخلوا بيني وبينها فوقع عليها وبات عندها ثم غدا إلى الامير بكتاب عمر فعرفوا انه جاء بأمر بين وهذا اعني عدم ثبوت الرجعة في حقها إذا لم تعلم بها حتى إذا اعتدت وتزوجت ودخل بها الثاني لم يبق للأول عليها سبيل لدفع الضرر عنها ثم رجع إلى قول علي أن مراجعته إياها صحيح وهي منكوحته دخل بها الثاني اولا واما المرأة التي تزوجت في عدتها فالمرأة التي ينعي اليها زوجها فتعتد وتتزوج وكان مذهبه فيها إذا اتى زوجها حيا يخيره بين أن ترد عليه وبين المهر وقد صح رجوعه إلى قول علي وهو أن يفرق بينها وبين الثاني ولها المهر عليه بما استحل من فرجها وترد إلى الأول ولا يقر بها حتى تنقضي عدتها من ذلك قال ولا معتبر بالايلاء لانه كان طلاقا معجلا في الجاهلية فاعتبر في الشرع مؤجلا وهذا على رأينا بان الوقوع به عند انقضاء المدة بالايلاء لا يتوقف على تفريق القاضي قال ولا بالعنة لان الغيبة في الغالب تعقبها الرجعة والعنة قلما تنحل بعد استمرارها سنة فكان عود المفقود ارجى من زوال العنة بعد مضي السنة فلا يلزم أن يشرع فيه ما شرع فيها وقوله وإذا ما تم له مائة وعشرون سنة من يوم ولد حكمنا بموته قال المصنف رحمه الله هذه رواية
____________________
(6/147)
الحسن عن أبي حنيفة وفي ظاهر المذهب يقدر بموت الاقران وفي المروى عن أبي يوسف بمائة سنة وقدر بعضهم بتسعين والاقيس أن لا يقدر بشيء والارفق أن يقدر بتسعين وجه رواية الحسن أن الاعمال في زماننا قلما تزيد على مائة وعشرين بل لا يسمع اكثر من ذلك فيقدر بها تقديرا بالاكثر واما ما قيل أن هذا يرجع إلى قول أهل الطبائع فانهم يقولون لا يجوز أن يعين أحد اكثر من ذلك وقولهم باطل بالنصوص كنوح عليه السلام وغيره فما لا ينبغي أن يذكر توجيها لمذهب من مذاهب الفقهاء وكيف وهم اعرف بما دلت عليه النصوص والتواريخ بالاعمال السالفة للبشر بل لا يحل أحد أن يحكم على ائمة المسلمين انهم اعتمدوا في قول لهم على أمرهم يعترفون ببطلانه ويوجبون عدم اعتباره في شيء من الاشياء ووجه ظاهر الرواية انه من النوادر أن يعيش الانسان بعد موت اقرانه فلا ينبني الحكم عليه ثم اختلفوا فذهب بعض المشايخ إلى أن المعتبر موت اقرانه من جميع البلاد وآخرون أن المعتبر موت اقرانه في بلده ولأن في ذلك حرجا كبيرا في تعرف موتهم من البلدان بخلافه من بلده فإنما فيه نوع حرج محتمل واما المروى عن أبي يوسف فذكر عنه وجه يشبه أن يكون على سبيل المداعبة منه لهم قيل انه سئل عنه فقال انا ابينه لكم بطريق محسوس فإن المولود إذا كان بعد عشر يدور حول ابويه هكذا وعقد عشرا فإذا كان ابن عشرين فهو بين الصبا والشباب هكذا وعقد عشرين فإذا كان ابن ثلاثين يستوي هكذا وعقد ثلاثين فإذا كان ابن اربعين يحمل عليه
____________________
(6/148)
الاثقال هكذا وعقد اربعين فإذا كان ابن خمسين ينحني من كثرة الاثقال والاشغال هكذا وعقد خمسين فإذا كان ابن ستين ينقبض للشيخوخية هكذا وعقد ستين فإذا كان ابن سبعين يتوكأ على عصا هكذا وعقد سبعين فإذا كان ابن ثمانين يستلي هكذا وعقد ثمانين فإذا كان ابن تسعين تنضم اعضاؤه في بطنه هكذا وعقد تسعين فإذا كان ابن مائة يتحول من الدنيا إلى العقبى كما يتحول الحساب من اليمنى إلى اليسرى ولا شك أن يمثل هذا لا يثبت الحكم وانما المعول عليه الحمل على طول العمر في المفقود احتياطا والغالب فيمن طال عمره أن لا يجاوز المائة فقوله في المبسوط وكان محمد بن سلمة يفتي بقول أبي يوسف حتى تبين له خطؤه في نفسه فإنه عاش مائة وسبع سنين ليس موجبا لخطئه لانه مبني على الغالب عنده وكونه هو خرج عن الغالب لا يكون مخطئا فيما اعطى من الحكم وكذا ذكر الأمام سراج الدين في فرائضه عن نصير بن يحيى إنها مائة سنة لان الحياة بعدها نادر ولا عبرة بالنادر وروى انه عاش مائة سنة وتسع سنين أو اكثر ولم يرجع عن قوله واختار الشيخ الامامن أبو بكر محمد بن حامد إنها تسعون سنة لان الغالب في اعمار أهل زماننا هذا وهذا لا يصح إلا أن يقال أن الغالب في الاعمار الطوال في أهل زماننا أن لا تزيد على ذلك نعم المتأخرون الذين اختاروا ستين بنوه على الغالب من الاعمال والحاصل أن الاختلاف ما جاء إلا من اختلاف الرأي في أن الغالب هذا في الطول أو مطلقا فلذا قال شمس الأئمة الاليق بطريق الفقه أن لا يقدر بشيء لان نصب المقادير بالرأي لا يكون وهذا هو قول المصنف الاقيس الخ ولكن نقول إذا لم يبق أحد من أقرانه يحكم بموته اعتبارا لحاله بحال نظائره وهذا رجوع إلى ظاهر الرواية قال المصنف والارفق أي بالناس أن يقدر بتسعين وارفق منه التقدير بستين وعندي الاحسن سبعون لقوله صلى الله عليه وسلم اعمار امتي ما بين الستين إلى السبعين فكانت المنتهى غالبا وقال بعضهم يفوض إلى رأي القاضي فأي وقت رأي المصلحة حكم بموته واعتدت امرأته عدة الوفاة من وقت الحكم للوفاة كأنه مات فيه معاينة إذ الحكمى معتبر بالحقيقي قوله ومن مات منهم أي ممن يرث المفقود قبل ذلك أي قبل أن يحكم بموت المفقود لم يرث من المفقود بناء على الحكم بموته قبل موت المفقود فتجري مناسخه فترث ورثته من المفقود لانه لم يحكم بموت المفقود بعد وحين مات هذا كان المفقود محكوما بحياته كما إذا كانت حياته معلومة ولا يرث المفقود احدا مات في حال فقده لان بقاءه حياص في ذلك الوقت يعني وقت موت ذلك الاحد باستصحاب الحال وهو لا يصلح حجة في الاستحقاق بل في دفع الاستحقاق عليه ولذا جعلناه حيا في حق نفسه فلا يورث ماله في حال فقده ميتا في حق غيره فلا يرث هو غيره وكذلك لو اوصى له ومات الموصي في حال فقده قال محمد لا اقضي بها ولا ابطلها حتى يظهر حال المفقود يعني يوقف نصيب المفقود الموصى له به إلى أن يقضي بموته فإذا قضى به جعل كأنه مات الان وفي استحقاقه لمال غيره كأنه مات حين فقد وهذا معنى قولنا المفقود ميت في مال غيره قوله ثم الأصل انه إذا مات من بحيث يرثه المفقود أن كان مع المفقود وارث لا يحجب بالمفقود حجب حرمان ولكنه ينتقص حقه به يعطي ذلك الوارث اقل نصيبه ويوقف الباقي حتى يظهر
____________________
(6/149)
حياة المفقود أو موته أو يقضي بموته وان كان معه وارث يحجب به لا يعطي لذلك الوارث شيئا بيانه رجل مات عن ابنتين وابن مفقود وابن أو ابنة ابن المال الموروث في يد اجنبي وتصادقوا أي الاجنبي والروثة على فقد الابن وطلبت البنتان الميراث تعطيان النصف لانه متيقن به لان اخاهما المفقود أن كان حيا فلهما الثلثان وان كان ميتا فلهما الثلثان فالنصف متيقن فتعطيانه ويوقف النصف الآخر في يد الاجنبي الذي هو في يده ولا يعطي ولد الابن شيئا لأنهم يحجبون بالمفقود لو كان حيا ولا يستحق الميراث بالشك ولا ينزع من يد الاجنبي إلا إذا ظهرت منه خيانة بان كان انكر أن للميت عنده مالا حتى اقامت البنتان البينة عليه فقضى بها لان أحد الورثة ينتصب خصما عن الباقين فإنه حينئذ يؤخذ الفضل الباقي منه ويوضع في يد عدل لظهور خيانته ولو كانوا لم يتصادقوا على فقد الابن بل قال الاجنبي الذي في يده المال مات المفقود قبل ابيه فإنه يجبر على دفعه الثلثين للبنتين لان اقراره معتبر فيما في يده وقد اقر أن ثلثيه للبنتين فيجبر على دفعه لهما ولا يمنع اقراره قول اولاد الابن ابونا أو عمنا مفقود لانهم بهذا القول لا يدعون لانفسهم شيئا ويوقف الثلث الباقي في يده ولو كان المال في يد البنتين واتفقوا على الفقد لا يحول المال من موضعه ولا يؤخر شيء للمفقود بل يقضي للبنتين بالنصف ميراثا ويوقف النصف في ايديهما على حكم ملك الميت فان ظهر المفقود حيا دفع اليه وان ظهر ميتا اعطى
____________________
(6/150)
البنتان سدس كل المال من ذلك النصف والثلث الباقي لولد الابن للذكر مثل حظ الانثيين ولو قالت البنتان مات اخونا وليس بمفقود وقال ولد الابن بل مفقود والمال في ايديهما اعطيتا الثلثين ووقف الثلث لانهما في هذه يدعيان الثلثين والمال في أيديهما فان ظهر حياته اخذ منهما السدس له ولو كان المال في يد ولد المفقود واتفقوا انه مفقود يعطي البنتان النصف لانهما إنما ادعياه بالإقرار بفقده ويوقف النصف الآخر في يد من كان في يده ولو ادعى ولد المفقود أن اباهما مات لم ادفع اليهما شيئا حتى تقوم البينة على موته قبل ابيه أو بعده فإذا قامت على موته قبله يعطى لهم الثلث والثلثان للبنتين لان الميت على هذا مات عن بنتين وأولاد ابن وان قامت عليه بعده يعطي لهم النصف لأن الميت مات عن بنت وابن ثم مات الابن عن ولد قال المصنف ونظيره أي في وقف الميراث عند الشك في النصيب الحمل فإنه يوقف له ميراث ابن واحد على ما عليه الفتوى واحترز به عما روى عن أبي حنيفة انه يوقف له ميراث اربع بنين لما قال شريك رأيت بالكوفة لابي اسماعيل اربع بنين في بطن واحدة وعما عن محمد ميراث ثلاثة بنين وفي أخرى نصيب ابنين وهو رواية عن أبي يوسف وعن أبي يوسف نصيب ابن واحد وعليه الفتوى ولو كان مع الحمل وارث آخر لا يسقط بحال ولا يتغير بالحمل يعطي كل نصيبه للتيقن به على كل حال وكذا إذا ترك ابنا وامرأة حاملا تعطي المرأة الثمن وان كان ممن يسقط بالحمل لا يعطي شيئا وإن كان إلى لا يعطء شيئا لان الاخ يسقط بالابن وجائز أن يكون الحمل ابنا فكان بين أن يسقط ولا يسقط فكان اصل الاستحقاق مشكوكا فيه فلا يعطي شيئا ولو ترك حاملا واما أو زوجة تاخذ
____________________
(6/151)
الام السدس والزوجة الثمن لانه لو كان ميتا اخذت الام الثلث أو حيا اخذت السدس والزوجة الثمن لانه لو كان ميتا اخذت الربع والله الموفق للصواب = كتاب الشركة
هو باسكان الراء في المعروف أو رد الشركة عقيب المفقود لتناسبهما بوجهين كون مال أحدهما امانة في يد الآخر كما أن مال المفقود امانة في يد الحاضر وكون الاشتراك قد يتحقق في مال المفقود كما لو مات مورثه وله وارث آخر والمفقود حي وهذه مناسبة خاصة بينهما والاولى عامة فيهما وفي الابق واللقيط واللقطة على اعتبار وجود مال مع اللقيط وانما قدم المفقود عليها واولاه الاباق لشمول عرضية الهلاك كلا من نفس المفقود والابق وكأن بعضهم تخيل انه عرضية الهلاك للمال فقال لان المال على عرضية التوى وحاصل محاسن الشركة ترجع إلى الاستعانة في تحصيل المال والشركة لغة خلط النصيبين بحيث لا يتميز أحدهما وما قيل انه اختلاط النصيبين تساهل فان الشركة اسم المصدر والمصدر الشرك مصدر شركت الرجل اشركه شركا فظهر إنها فعل الانسان وفعله الخلط واما الاختلاط فصفة تثبت للمال عن فعلهما ليس له اسم من المادة ولا يظن أن اسمه الاشتراك لأن الاشتراك فعلهما أيضا مصدر اشتراك الرجلان افتعال من الشركة ويعدى إلى المال بحرف في فيقال اشتراكا في المال أي حققا الخلط فيه فالمال مشترك فيه أي تعلق به اشتراكهما أي خلطهما وركنها في شركة العين اختلاطهما وفي شركة العقد اللفظ المفيد له هذا ويقال الشركة على العقد نفسه لانه سبب الخلط فإذا قيل شركة العقد بالاضافة فهي اضافة بيانية قوله الشركة جائزة إلى آخره قيل شرعيتها بالكتاب السنة والمعقول إما الكتاب فقوله تعالى { فهم شركاء في الثلث } وهذا خاص بشركة العين دون المقصود الأصلي الذي هو شركة العقد وقوله تعالى { وإن كثيرا من الخلطاء } أي من المشتركين لا ينص على جواز كل منهما مع انه حكاية قول داود عليه الصلاة والسلام اخبارا للخصمين عن شريعته إذ ذاك فلا يلزم استمراره في شريعتنا واما السنة
____________________
(6/152)
فما في أبي داود وابن ماجه والحاكم عن السائب بن أبي السائل أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك لا تدارىء ولا تماري وروى أحمد بن حنبل من حديث عبدالله بن عثمان بن خثيم عن مجاهد عن السائب أن النبي صلى الله عليه وسلم شاركه قبل الإسلام في التجارة فلما كان يوم الفتح جاءه فقال عليه الصلاة والسلام مرحبا بأخي وشكريكي كان لا دارىء ولا يماري يا سائب قد كنت تعمل أعمالا في الجاهلية لا تقبل منك وهي اليوم تقبل منك وكان ذا سلف وصداقة واسم السائب صيفي بن عائذ بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم وقول السهيلي فيه إنه كثير الاضطراب فمنهم من يرويه عن السائب ومنهم من يرويه عن قيس ابن السائب ومنهم من يرويه عن عبدالله بن السائب وهذا اضطراب لا يثبت به شيء لولا تقوم به حجة إنما يصح إذا أراد الحجة في تعيين الشريك من كان أما غرضنا وهو ثبوت مشاركته صلى الله عليه وسلم فثابت على كل حال قال ابراهيم الحربي في كتابه غريب الحديث يدارىء مهموز في الحديث أي يدافع ثم إيراد المشايخ هذا إنما يفيد أن الشركة كانت على عهد الجاهلية وهو جزء الدليل أعنى أنه بعث وهم يتشاركون فررهم ومفيد الجزء الثاني ما في أبي داود ومستدرك الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه عنه عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى أنا ثالث الشريكين مالم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانا خرجت من بينهما زاد رزين وجاء يد الشيطان وشقعه القطان بجهالة والد أبي حيان وهو سعيد فإن الرواية عن ابي حيان عن أبيه سعيد بن حيان ورواه غيره عن أبي حيان مرسلا ورواه الداقطني يد الله على الشريكن ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خان أحدهما صاحبه رفعها عنهما ولا شك أن كون الشركة مشروعة أظهر ثبوتها مما به ثبوتها من هذا الحديث ونحوه إذ التوارث والتعامل بها من لدن النبي صلى الله عليه وسلم وهلم جرا متصل لا يحتاج فيه إلى إثبات حديث بعينه فلهذا لم يزد المصنف على ادعاء تقريره صلى الله عليه وسلم عليها قوله الشركة ضربان شركة أملاك وشركة عقود فشركة الأملاك العين يرثها الرجلان أو يشتريانها وظاهر هذا الحمل من القدوري القصر فذكر المصنف أنها لا تقتصر على ما ذكر بل تثبت فيما إذا اتهبا عينا أو ملكها بالاستيلاء بأن استوليا على مال حربي يملك ماله بالاستيلاء أو اختلط مالهما من غير صنع من أحدهما بأن انفتق كيسهما المتجاوران فاختلط ما فيهما أو اختلط بخلطهما خلطا يمنع التمييز كالحنظة بالحنطة أو يتعسر كالحنط بالشعير ولو قال العين يملكانها كان شاملا إلا أن بعضهم ذكر من شركة الأملاك الشركة في الدين فقيل مجاز لأن الدين وصف شرعي لا يملك وقد يقال بل يملك شرعا ولذا جاز هبته ممن عليه وقد يقال إن الهبة مجاز عن الاسقاط ولذا لم تجز من غير من عليه والحق ما ذكروا من ملكه ولذا ملك ما عنه من العين على الاشتراك حتى إذا دفع من عليه إلى أحدهما شيئا كان للآخر
____________________
(6/153)
الرجوع عليه بنصف ما أخذا وليس له أن يقوله هذا الذي اخذته حصتي وما بقي على المديون حصتك ولا يصح من المديون أيضا أن يعطيه شيئا على أنه قضاه وآخر الآخر قالوا والحيلة في اختصاص الآخذ بما أخذ دون شريكه أن يهبه من عليه مقدار حصته ويبرئه هو من حصته وحكم هذه الشركة أنه لا يجوز أن يتصرف في نصيب شريكه إلا بأمره لأن كلا منهما في نصيب الآخر كالأجنبي عن الشركة لعدم تضمنها وكالة وأنه يجوز له أن يبيع نصيبه من الشريك في جميع الصور و أما من غير الشريك فيجوز بغير إذانه في جميع الصور إلا في صورة الخلط والاختلاط فإنه لا يجوز بيع أحدهما نصيبه من غير الشريك إلا بإذن الشريك قال المصنف وقد بينا الفرق في كفاية المنتهى وحقيقة الفرق ما أشار إليه في الفوائد الظهيرية وهو أن الشركة إذا كانت بينهما من الابتداء بأن اشتريا حنطة أو ورثاها كانت كل حبة مشتركة بينهما فبيع كل منهما نصيبه شائعا جائز من الشريك والأجنبي بخلاف ما إذا كانت بالخلط والاختلاط لأن كل حبة مملوكة بجميع أجزائها لأحدهما ليس للآخر فيها شركة فإذا باع نصيبه من غير الشريك لا يقدر على تسليمه إلا مخلوطا بنصيب الشريك فيتوقف على إذنه بخلاف بيعه من الشريك للقدرة على التسليم والتسلم وأما ما ذكر شيخ الإسلام من أن خلط الجنس بالجنس تعديا سبب لزوال الملك عن المخلوط ماله إلى الخالط فإذا حصل بغير تعد يكون سبب الزوال ثابتا من وجه دون وجه فاعتبر نصيب كل واحد زائلا إلى الشريك في حق البيع من الأجنبي غير زائل في حق البيع من الشريك فقد يمنع ثبوت الزوال من وجه فإن تمام السبب فيه هو التعدي فعند عدمه لا يثبت من وجه وإلا لكانت جميع المسببات ثابتة من وجه قبل أسبابها وأيضا فالزوال إلى الخالط عينا لا إلى كل منهما فلا يترتب عليه اعتبار نصيب كل منهما زائلا إلى الشريك الآخر عند البيع من الأجنبي بل المترتب عليه اعتباره زائلا إلى الشريك الخالط عينا فلا يلزم اعتبار نصيب كل منهما زائلا إلى الشريك في البيع من الأجنبي بل اعتبار نصيب غير الخالط فقط إذا باع من الأجنبي وإنما قلنا إن تمام السبب التعدي لأن الخلط لا يظهر أثره في ذلك وإنما يتبين به أي تعد هو السبب في زوال الملك في هذا المال فيقال التعدي في خلطه وقله والضرب الثاني شركة العقود وركنها الإيجاب والقبول ثم فسرهما المصنف بقوله وهو أن يقول أحدهما شاركتك في كذا وكذا ويقول الآخر قبلت أي في كذا من المال وفي كذا من التجارات البزازية أو أو البقالية في العنان أو في كل مالى ومالك وهما متساويان وفي جميع التجارات وكل كفيل عن الآخر في المفاوضة وهو ذلك بناء على عدم اشتراط لفظ المفاوظة كما سيأتي وليس اللفظ المذكور بلازم بل المعنى ولهذا لو دفع ألفا إلى رجل وقال أخرج مثلها واشتر وما كان من ربح فهو بيننا وقبل الآخر أو أخذهما وفعل انعقدت الشركة ويندب الإشهاد عليها وذكر
____________________
(6/154)
محمد رحمه الله كيفية كتابتها فقال هذا ما اشترك عليه فلان وفلان اشتركا على تقوى الله تعالى وأداء الامانة ثم يبين قدر رأس مال كل منهما ويقول وذلك كله في أيديهما يشتريان به ويبيعان جميعا شتى ويعمل كل منهما برأيه ويبيع بالنقد والنسيئة وهذا وإن ملكه كل بمطلق عقد الشركة إلا أن بعض العلماء يقول لا يملكه واحد منهما إلا بالتصريح به فللتحرز عنه يكتب هذا ثم يقول فما كان من ربح فهو بينهما على قدر رؤوس أموالهما وما كان من وضيعة أو تبعة فكذلك ولا خلاف أن اشتراط الوضيعة بخلاف قدر رأس المال باطل واشتراط الربح متفاوتا عندنا صحيح فيما سيذكر فإن كان شرطا التفاوت فيه كتباه كذلك ويقول اشتركا على ذلك يوم كذا في شهر كذا وإنما يكتب التاريخ كي لا يدعي أحدهما لنفسه حقا فيما اشتراه الآخر قبل هذا التاريخ قوله وشرطه أن يكون التصرف المعقود عليه عقد الشركة قابلا للوكالة وعقد الشركة منصوب على المصدر معمولا لمعقود وكل صور عقود الشركة يتضمن الوكالة وتختص المفاوضة بالكفالة وإنما شرط ذلك ليكون ما يستفاد بالتصرف مشتركا بينهما فيتحقق حكمه أي حكم عقد الشركة المطلوب منه وهو الاشتراك في الربح إذ لو لم يكون كل منهما وكيلا عن صاحبه في النصف وأصيلا في النصف الآخر لا يكون المستفاد مشتركا لاختصاص المشتري بالمشتري واحترز به عن الاشتراك في التكدي والاحتطاب والاحتشاش والاصطياد فإن الملك في كل ذلك يختص بمن باشر السبب قوله ثم هي أي شركة العقود على أربعة أوجه مفاوضة وعنان وشركة الصنائع وشركة الوجوه قيل في وجه الحصر إن العقد إما أن يذكر فيه مال أو لا وفي الذكر إما أن تشترط المساواة في المال وربحه وتصرفه ونفعه وضرره أولا فإن شرطا ذلك فهو المفاوضة وإلا فهو العنان وفي عدم ذكر المال إما أن يشترط العمل في مال الغير أو لا فالأول الصنائع والثاني الوجوه وقيل عليه أنه يقتضي أن شركة الصنائع والوجوه لا يكونان مفاوضة ولا عنانا وليس كذلك كما سنذكره فيما يأتي فوجه التقسيم ما ذكره الشيخان أبو جعفر الطحاوي وأبو الحسن الكرخي حيث قالاالشركة على ثلاثة أوجه شركة بالأموال وشركة
____________________
(6/155)
بالأعمال وشركة بالوجوه وكل منهما على وجهين مفاوضة وعنان وسيأتي البيان إن شاء الله تعالى قوله فأما شركة المفاوضة فهي أن يشترك الرجلان فيتساويان في مالهما وتصرفهما ودينهما ويكون كل منهما كفيلا عن الآخر في كل ما يلزمه من عهدة ما يشتريه كما أنه وكيل عنه لأنها شركة عامة يفوض كل منهما الى صاحبه على العموم في التجارات والتصرفات لأن الفوضة الشركة والمفاوضة المساواة فلزم مطلق المساواة فيما يمكن الاشتراك فيه فعم التساوي في ذلك ولا يخفي أن قول المصنف إذ هي من المساواة تساهل لأنها مادة أخرى فكيف يتحقق الاشتقاق بل هي من التفويض أو الفوض الذي منه فاض الماء إذا عم وانتشر وإنما أراد أن معناها المساواة واستشهد بقول الأفوه والأودي ** لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ** ولا سراة إذا جهالهم سادوا ** وبعده ** إذا تولى سراة الناس أمرهم ** نما على ذاك أمر القوم وازدادوا ** وقيل بعده ** تهدي الامور بأهل الرأي ما صلحت ** فإن تولت فبالجهال ينقادوا ** ومعنى البيت إذا كان الناس متساوين لا كبير لهم ولا سيد يرجعون اليه بل كان كل واحد مستقلا ينفذ مراده كيف كان تحققت المنازعة كما في قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا والسراة جمع سرى وهو السيد وجعله صاحب المفصل اسم جمع له كركب في راكب والسري فعيل جمع على فعلة بالتحريك وأصله سروة وتحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفا فصار سراة وأصل سرى سريو اجتمعتا وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء وسيأتي وجه المساواة فلا بد من تحقق المساواة ابتداء عند عقد الشركة وانتهاء أي في مدة البقاء لأن عقد الشركة عقد غير لازم فإن لكل منهما أن يفسخه إذا شاء فكان لبقائه حكم الابتداء فما يمنع ابتداء العقد من التفاوت في المال يمنع بقاؤه حتى لو كان المالان سواء يوم العقد ثم ازدادت قيمة أحدهما قبل الشراء فسدت المفاوضة وصارت عنانا بخلاف ما لو زاد بعد الشراء بالمالين لأن الشركة انتقلت الى المشتري فإنما تغير سعر رأس المال بعد خروجه عن الشركة فيه ولو اشتريا بجميع مال أحدهما ثم فضل مال الآخر ففي القياس تفسد المفاوضة وفي الاستحسان لا تفسد لأن الشراء بالمالين جميعا قل ما يتفق فيلزم باشتراطه حرج ولأن المساواة قائمة معنى لأن الآخر لما ملك نصف المشتري صار نصف الثمن مستحقا عليه لصاحبه ونصف مالم يستحق به لصاحبه غير أنه لا يشترط اتحادهما صفة فلو كان لأحدهما دراهم سود وللآخر مثلها بيض وقيمتاهما
____________________
(6/156)
متساوية صحت المفاوضة بخلاف مالو زادت وكذا لو كان لأحدهما ألف وللآخر مائة دينار وقيمتهما ألف صحت فإن زادت صارت عنانا وكذا لو ورث أحدهما دراهم أو اتهبها تنقلب عنانا ثم المراد بالمال الذي يلزم فيه التساوي ما تصح به الشركة من الدراهم والدنانير والفلوس على قولهما دون العروض ولو كان لأحدهما وديعة نقد لم تصح المفاوضة ولو كان له دين صحت الى أن يقبضه فإذا قبضه فسدت وصارت عنانا ولذا يعتبر التساوي في التصرف فإنه لو ملك أحدهما تصرفا لم يملكه الآخر فات التساوي وكذا في الدين لما نبين عن قريب قوله وهذه الشركة جائزة في قول أصحابنا رحمهم الله استحسانا والقياس أن لا يجوز وهو قول الشافعي رحمه الله وقال مالك رحمه الله لا أعرف ما المفاوضة وهذا لا يلزم تناقض به كما قبل إذا لم يعرفها فكيف حكم بفسادها لأن العالم يقول مثل ذلك كناية عن الحكم بالفساد والمعنى لا وجود للمفاوضة على الوجه الذي ذكرتموه في الشرع وما لا وجود له شرعا لا صحة له وقد حكى عن أصحاب مالك أن المفاوضة تجوز وهي أن يفوض كل منهما الى الآخر التصرف في غيبته وحضوره وتكون يده كيده غير أن لا يشترط التساوي في المالين وممن روى عنه القول بالمفاوضة الشعبي وابن سيرين ذكره الشيخ أبو بكر الرازي وجه قولهما وهو وجه القياس أنها تضمنت الوكالة شراء مجهول الجنس والكفالة بمجهول وكل بانفراد فاسد ولو قال وكلتك بشراء عبد أو ثوب لم يجز حتى يبين نوعه وصفته ولو كفل لمن سيدينه بما يلزمه لا يصح فاجتماعها يزيد فسادا فإن قيل الوكالة العامة جائزة كما لو قال لآخر وكلتك في مالي اصنع فيه ما شئت حتى يجوز له أن يفعل فيه ما شاء قلنا العموم غير مراد فإنه لا يثبت وكالة كل في شراء طعام أهل الآخر وكسوتهم فإذا لم يكن عاما كان توكيلا بمجهول الجنس وجه الاستحسان أمران أحدهما ما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال فأوضوا فإنه أعظم للبركة أي أن عقد المفاوضة أعظم للبركة وقوله صلى الله عليه وسلم إذا فاوضتم فأحسنوا المفاوضة
____________________
(6/157)
وهذا الحديث لم يعرف في كتب الحديث أصلا والله أعلم به ولا يثبت به حجة على الخصم وإنما أخرج ابن ماجه في التجارات عن صالح بن صهيب عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث فيهن البركة ببيع الى أجل والمقارضة وإخلاط البر بالشعير للبيت لا للبيع وفي بعض نسخ ابن ماجة المفاوضة بدل المقارضة ورواه ابراهيم الحربي في كتاب غريب الحديث وضبطه المعارضة بالعين والضاد وفسرها ببيع عرض بعرض مثله والآخر ما ذكره من أن الناس تعاملوا بها من غير نكير وبه يترك القياس لأن التعامل كالإجماع ولو منع ظهور التعامل بها على الشروط التي ذكرتم من المساواة في جميع ما يملكه كل من النقود بل على شرط التفويض العام كما عن مالك أمكن ثم أجاب عن القياس فقال الجهالة متحملة لأنها إنما تثبت تبعا والتصرف قد يصح تبعا ولا يصح مقصودا كما في المضاربة فإنها تتضمن الوكالة بشراء مجهول الجنس وكذا شركة العنان فلا يتم الإلزام وانتظم الكلام الكلي وهو قوله والجهالة متحملة تبعا الجواب عن إلزام الكفالة لمجهول وفصل الجواب فيها في المبسوط فقال وأما الجهالة فعينها لا تبطل الكفالة ولكن تمكن المنازعة بسببها وهو منعدم هنا لأن كل واحد إنما يصير ضامنا عن صاحبه ما لزمه بتجارته وعند اللزوم المضمون له والمضمون به معلوم وكأن المصنف إنما لم يعرج عليه لأنه لو صح صحت الكفالة لمجهول ابتداء لأن عند اللزوم لا بد أن يتعين المكفول له فاكتفى بنفي الإلزام بما ذكر من أن الشيء قد يصح تبعا لا قصدا ولا يلزم من عدم صحة الكفالة كذلك قصدا عدم صحتها ضمنا وعلى هذا يمكن إثبات صحتها شرعا أخذا من هذا الجواب هكذا تصرف نافع لا مانع فيه في الشرع فوجب صحته والمانع وهو الوكالة بمجهول والكفالة بمجهول يمنع إذا ثبت قصدا ولا يلزم من منع الشيء إذا ثبت قصدا منعه إذا ثبت ضمنا فإن قيل فمن أين اشتراط المساواة في المال قلنا هذا أمر يرجع الى مجرد الاصطلاح وذلك أن الشركة في صورة يكون الشريكان متساوي المالين على وجه التفويض على العموم جائزة بلا مانع كما في صورة عدم تساويهما فقلنا إن عقدا على الوجه الأول سمينا الشركة مفاوضة وإلا سميناها عنانا غير أنا اكتفينا بلفظ المفاوضة في ثبوت الشرط المذكور لجعلنا إياه علما على تمام المساواة في أمر الشركة فإذا ذكراها تثبت أحكامها إقامة للفظ مقام المعنى بخلاف ما اذا لم يذكراها لعدم تحقق رضاهما بأحكامها إلا أن يذكر تمام معناها بأن يقول أحدهما وهما حران مسلمان بالغان أو ذميان شاركتك في جميع ما أملك من نقد وقدر ما تملك على وجه التفويض العام من كل منا للآخر في التجارات والنقد والنسيئة وعلى أن كلا منا ضامن على الآخر ما يلزمه من أمر كل بيع وهذا قول المصنف وتنعقد بلفظ المفاوضة لبعد شرائطها عن فهم العوام حتى لو بينا جميع ما تقتضيه يجوز لأن المعتبر هو المعنى واللفظ وسيلة الى إفهامه ولو عقدا بلفظ
____________________
(6/158)
المفاوضة وبعض شرائطها منتف انعقدت عنانا إذا لم يكن المنتفي من شروط العنان ويكون تعبيرا بالمفاوضة عن العنان قوله وإن كان أحدهما كتابيا والآخر مجوسيا إن فيه للوصل وقوله لما قلنا أي لتحقق التساوي إذ الكفر كله ملة واحدة قوله ولا تجوز بين الحر والمملوك ولا بين الصبي والبالغ لتعذر المساواة لأن الحر للبالغ يملك التصرف والكفالة والمملوك لا يملك واحدا منهما إلا باذن المولى والصبي لا يملك الكفالة أصلا ولو أذن له الولي ولا يملك التصرف الا باذنه قال ولا بين الكافر والمسلم وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله يجوز للتساوي بينهما في صحة الوكالة والكفالة وكون أحدهما وهو الكافر يملك زيادة تصرف لا يملكه الآخر كالعقد على الخمر ونحوه لا معتبر به بعد تساويهما في أصل التصرف مباشرة ووكالة وكفالة وصار كالمفاوضة بين الشافعي والحنفي فإنها جائزة ويتفاوتان في العقد على متروك التسمية إلا أنه يكره أي عقد الشركة بين المسلم والكافر لأن الذمي لا يهتدي الى الجائز من العقود أو لا يحترز من الربا فيكون سببا لوقوع المسلم في أكل الحرام وقوله إلا أنه يكره استثناء من قوله قال أبو يوسف يجوز بناء على استعمال الجواز في أعم من الإباحة بمعنى استواء الطرفين وهو مالا يعاقب عليه وفيه نظر لأن قضية الاستثناء أن ينتفي الحكم عما بعد إلا فيكون قد أخرج الكراهة التي يتضمنها الجواز عنه فلا يثبت فإنما هو استدراك من الجواز فإن مطلقه ينصرف الى غير المكروه فاستدرك منه الكراهة أي لكنه مكروه وبعض أهل الدرس قالوا يريد الاستثناء المنقطع لما رأوه بمعنى لكن وهو غلط لأن المستثنى في المتصل والمنقطع مخرج من حكم الصدر فالحمار لم يجيء في قولك جاءوا الا حمارا فيقتضي إخراج الكراهة عن ثبوت الجواز فلا تثبت الكراهة ولهما أنه لا تساوي في التصرف فإن الذمي لو اشترى برأس ماله خمورا وخنازير يصح ولو اشتراهما المسلم لا يصح لكن بقي قول أبي يوسف كالمفاوضة بين الحنفي والشافعي مع التفاوت فيما يملكان لم يجب عنه وكذا بين الكتابي والمجوسي فإن المجوسي يتصرف في الموقوذة لأنه يعتقد ماليتها دون الكتابي وكذا الكتابي يؤاجر نفسه للذبح دون المجوسي وأجيب بأن
____________________
(6/159)
منهم من جعل الموقوذة مالا متقوما في حقهم فلا فصل بين المجوسي والكتابي فتتحقق المساواة في التصرف وأما مؤاجرة نفسه للذبح فكل منهما من أهل أن يتقبل ذلك العمل على أن يعمل بنفسه أو نائبه وإجارة المجوسي نفسه للذبح جائزة ليستوجب بها الأجر وإن كان لا تحل ذبيحته وأما الحنفي والشافعي فالمساواة ثابتة لأن الدليل على كونه ليس مالا متقوما قائم وولاية الإلزام بالمحاجة ثابتة باتحاد الملة والاعتقاد فلا يجوز التصرف فيه للشافعي كالحنفي وأما المسلم مع المرتد فلا تجوز الشركة بينهما في قولهم هكذا ذكره الكرخي وذكر في الأصل قياس قول أبي يوسف أنه يجوز عنده قوله ولا بين الصبيين يعني ولو اذن وليهما لأنهما ليسا من أهل الكفالة ولا بين العبدين والمكاتبين قوله وفي كل موضع لم تصح المفاوضة لفقد شرطها الخ وذلك كما لو عقد بالغ وصبي أو حر وعبد أو مكاتب أو شرطا عدم الكفالة تصير عنانا وإن عمما التصرف والمال وتساويا فيه لأن عقد شركة العنان قد يكون عاما كما يكون خاصا بخلاف المفاوضة لا تكون الا عامة قوله وتنعقد أي المفاوضة على الوكالة والكفالة وإن لم يصرح بهما فإن ذلك موجب اللفظ فيثبت بذكره أي وكالة كل منهما عن الآخر في نصف ما يشتريه وكفالة كل منهما الآخر أما انعقادها على الوكالة فلتحقق غرض الشركة وقوله على ما بيناه يريد قوله ليكون ما يستفاد به على الشركة فيتحقق الاشتراط في الربح وأما الكفالة فلتحقق المساواة التي هي مقتضى المفاوضة فيما هو من موجبات التجارة وهو توجه المطالبة نحوهما بسبب ما هو من أفعالها وما يشبه ما هو تجارة وما يشتريه كل واحد منهما يكون على الشركة إلا طعام أهله وكسوتهم فيختص به ومع ذلك يكون
____________________
(6/160)
الآخر كفيلا عنه له حتى كان لبائع الطعام والكسوة له ولعياله وإدامهم أن يطالب الآخر ويرجع الآخر بما أدى على الشريك المشتري بخلاف ما لو اشترى أحدهما جارية للوطء بإذن شريكه فإنه يختص بها على ما سيأتي في آخر الشركة إن شاء الله تعالى وإنما اختص بذلك ولم يقع على الشركة استحسانا بالضرورة فإن الحاجة الراتبة معلوم وقوعها أي المستمرة من قولهم رتب الشيء إذا دام ومنه أمر ترتب أي دائم بفتح التاء الثانية وضمها ولا يمكن إيجاب نفقة عياله على صاحبه فكان مستثنى ضرورة والقياس وقوعه على الشركة لما بينا من أن مقتضى العقد
____________________
(6/161)
المساواة ثم كفالة كل الآخر إنما هي فيما هو من ضمان التجارة أما ويشبه ضمان التجارة فيكون صاحب الدين بالخيار إن شاء أخذ المشتري منه بدينه وإن شاء أخذ به شريكه وضمان التجارة كثمن المشتري في البيع الجائز وقيمته في الفاسد وأجرة ما استأجره سواء استأجره لنفسه أو لحاجة التجارة وما يشبه ضمان التجارة ضمان غصب أو استهلاك عند أبي حنيفة أو وديعة إذا جحدها أو استهلكها وكذا العارية لأن تقرر الضمان في هذه المواضع يفيد له تملك الأصل فتصير في معنى التجارة ولو لحق أحدهما ضمان لا يشبه ضمان التجارة لا يؤخذ به كأروش الجنايات والمهر والنفقة وبدل الخلع والصلح عن القصاص وعن هذا ليس له أن يحلف الشريك على العلم اذا أنكر الشريك الجاني بخلاف ما لو ادعى على أحدهما بيع خادم فأنكر فللمدعي أن يحلف المدعي عليه على البتات وشريكه على العلم لأن كل واحد لو أقر بما ادعاه المدعي يلزمهما بخلاف الجناية لو اقر أحدهما لا يلزم الآخر فلا فائدة في الاستحلاف وصورة الخلع ما لو عقدت امرأة شركة مفاوضة مع رجل أو امرأة ثم خالعت زوجها على مال لا يلزم شريكها وكذا لو أقرت ببدل الخلع أو التزمه أحد الشريكين وهو أجنبي قوله ولو كفل أحدهما بمال عن أجنبي لزم صاحبه عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا لا يلزم صاحبه لأنه أي الكفيل متبرع ولهذا لا تصح الكفالة من الصبي والعبد المأذون والمكاتب ولهذا أيضا لو صدر أي عقد الكفالة من المريض مرض الموت صح من الثلث وصار كالإقراض إذا أفرض أحدهما من مال التجارة لإنسان لا يلزم الشريك وإنما اقتصر على صدور عقد الكفالة في المرض لأن المريض لو أقر بكفالة سابقة على المرض لزمته في كل المال بالإجماع لأن الإقرار بها يلاقي حال بقائها وهي في حال البقاء معاوضة على ما سنذكره ذكره في الأسرار وكون الإقراض لا يلزم الشريك ولو أخذ به سفتجة هو قول محمد وظاهر الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله وقال بعضهم وقال ابو يوسف لا يجوز ونسبه الى الإيضاح وعبارة الإيضاح نقلها في النهاية وغيرها هكذا قال يضمن يعني المقرض لشريكه توى المال أو لم يتو وقياس قول أبي يوسف يضمن المقرض حصة شريكه قال وهذا فرع اختلافهم في ضمان الكفالة فعند أبي يوسف ضمان الكفالة ضمان تبرع فلا يلزم الشريك فكذا المقرض وعند أبي حنيفة ضمان الكفالة يلزم الشريك والكفيل في حكم المقرض ولأبي حنيفة أنه أي عقد الكفالة عقد تبرع ابتداء ومعاوضة بقاء كالهبة بشرط العوض لأنه أي الكفيل المدلول عليه بالكفالة يستوجب الضمان على المكفول عنه بما يؤديه عنه إذا كفل بأمره فيلزم شريكه بعد ما لزمه عليه فبالنظر الى البقاء تتضمنه المفاوضة
____________________
(6/162)
وبالنظر الى الابتداء لا يصح ممن ذكره والوجه أن يقول ممن ذكراه يعني الصبي والعبد المأذون والمكاتب ولا يبعد أن يكون مبنيا للمفعول بلا ضمير وأنه سقط من قلم الكاتب ما يشبه الهاء وهذا لأن الكفالة في الابتداء تبرع فلا يتصور تمامها معاوضة لأن التمام بناء على الابتداء وقد يقال إن الكفالة تلاقي الذمة والذمة في المأذون كالمشتركة بينه وبين المولى حتى صح إقرار المولى عليه في الذمة بقدر قيمته فلم تلاق الكفالة حقه بخلاف الحر البالغ لأنها لاقت حقه فصحت ثم تمت معاوضة فلزمت الشريك لأن لزومها ليس في حال البقاء لأنا إنما نقول يلزم شريكه بعد ما لزم الكفيل بخلاف الكفالة بالنفس فإنها تبرع ابتداء وبقاء إذ لا يستوجب المكفول له على الكفيل شيئا في ذمته من المال وأما الإقراض فإنه إعارة محضة ابتداء وانتهاء لا معاوضة وإلا كان بيع النقد بالنسيئة في الأموال الربوية فيكون لمثلها أي لمثل الدراهم أو الدنانير المقروضة حكم عينها لا حكم البدل ولهذا لا يصح فيه التأجيل أي لا يلزم أن يجري على موجب التأجيل في الإعارة والقرض وإلا لزم الجبر فيما فيه تبرع وهو باطل على أن عن أبي حنيفة رواية الحسن في القرض أنه يلزم الشريك بناء على شبه المعاوضة بلزوم المثل فلنا أن نمنع قوله ولو كانت الكفالة بغير أمره أي أمر المكفول عنه لا يلزم صاحبه في الصحيح لانعدام معنى المعاوضة انتهاء أيضا إذ لا يتمكن من الرجوع عليه وقوله في الصحيح يشير الى خلاف المشايخ وما ذكره المصنف مختار الفقيه أبي الليث وحمل مطلق جواب الجامع الصغير عليه وعامة المشايخ جروا على الإطلاق ولم يتعرضوا للتفرقة بين كونها بأمره أو لا قوله وضمان الغصب والاستهلاك وكذا ضمان المخالفة في الوديعة والعارية والإقرار بهذه الأشياء تلزم شريكه ولا معنى لتخصيص المصنف أبا حنيفة هنا لأن في ضمان الغصب والاستهلاك
____________________
(6/163)
محمد مع أبي حنيفة في أنه يلزم شريكه وفي الكفالة مع أبي يوسف كما نقله آنفا لأبي يوسف فيهما أنه ضمان وجب بسبب غير تجارة فلا يلزم شريكه كأرش الجناية ولأنه بدل المستهلك والمستهلك لا تحتمله الشركة ولهما أن ضمان الغصب والاستهلاك كضمان التجارة ولهذا صح إقرار المأذون به عبدا كان أو صبيا حرا وكذا المكاتب ويؤاخذ به في الحال ثم هو بدل مال تصح فيه الشركة لأنه إنما تجب بأصل السبب وعند ذلك المحل قابل للتملك وكذا ملك المغصوب والمستهلك بالضمان وإذا كان كذلك كان كل من المتفاوضين ملتزما له ضرره ونفعه وفي الكافي الإعارة للرهن نظير الكفالة خلافا وتعليلا ووجه كونها معاوضة عنده انتهاء أنه لو هلك الرهن في يد المرتهن يرجع المعير على الراهن بقدر ما سقط من دينه ولو أقر أحد المتفاوضين بدين لمن لا تجوز شهادته له لم يلزم الآخر عند أبي حنيفة ويلزمه عندهما وأصله أن الوكيل لا يملك العقد مه هؤلاء عنده خلافا لهما وسيأتي إن شاء الله تعالى قوله وإن ورث أحدهما مالا تصح فيه الشركة فقبضه بطلت المفاوضة وصارت عنانا وكذا اذا وهب
____________________
(6/164)
له فقبضه أو تصدق به عليه أو أوصى له به أو زادت قيمة دراهم أحدهما البيض على دراهم الآخر السود أو دنانيره قبل الشراء على ما قدمنا كل ذلك إذا وصل الى يده صارت عنانا ولو ورث مالا تصح فيه الشركة كالعقار والعروض اختص به ولا تبطل المفاوضة وكذا في باقي الأسباب التي ذكرناها وإنما بطلت لفوات المساواة فيما يصلح رأس مال الشركة إذ هي أن المساواة شرط لبقاء صحتها ابتداء وبقاء وإنما كان ما هو شرط ابتدائها شرطا لبقائها لكونه أي عقد الشركة عقدا غير لازم فإن أحدهما بعد العقد لو أراد فسخها فسخها وأورد عليه كيف يصح التعليل بعدم اللزوم لأن لبقائها حكم الابتداء والإجارة عقد لازم حتى لا ينفرد أحد العاقدين فيها بالفسخ بل يجبر القاضي الممتنع على المضي ومع ذلك لدوامها حكم الابتداء حتى لا تبقى بموت أحد المتعاقدين فتبين أن كون العقد لدوامه حكم الابتداء يتحقق مع كونه لازما كما يتحقق مع كونه غير لازم أجيب بأن القياس في الإجارة أن لا تكون لازمة كما هو مذهب شريح لكون المعقود عليه معدوما في الحال فهو كالعارية لكنه لما كان عقد معاوضة واللزوم أصل في المعاوضات تحقيقا للنظر من الجانبين وانفساخه بموت أحدهما لا باعتبار أن لدوامه حكم الابتداء بل باعتبار فوت المستحق لأن الدار تنتقل الى ملك الوارث بموت المستأجر فلو بقيت لزم إرث المنفعة المجردة وهي لا تورث ولهذا لو مات الموصي له بخدمة العبد تبطل الوصية ولا تنتقل الى ورثته لأن المنفعة المجردة لا تورث وإن كانت الوصية لازمة ولا بأس أن نذكر فروعا من شركة العين إذ قل ذكرها في الكتاب أمر رجلا أن يشتري عبدا بعينه بينه وبينه فذهب فاشتراه واشهد أنه اشتراه لنفسه خاصة فالعبد بينهما لأنه وكيل من جهة الآخر بشراء نصف المعين فلا يقدر أن يعزل نفسه بغير حضور الموكل وعلى هذا اذا اشتركا على أن ما اشترى كل واحد منهما اليوم فهو بينهما لم يستطع واحد منهما الخروج من الشركة في ذلك اليوم الا بحضور الآخر لأن كلا منهما وكيل لصاحبه ولو اشهد الموكل على إخراج الوكيل عما وكله به وهو غير حاضر لم يجز ذلك حتى إذا تصرف قبل أن يعلم بالعزل نفذ تصرفه على الآخر فكذلك في الشركة ولو أمره أن يشتريه بينهما فقال نعم ثم لقيه آخر فقال اشتر هذا العبد بيني وبينك فقال نعم ثم اشتراه المأمور فالعبد بين الآمرين نصفين ولا شيء للمشتري فيه لأن الأول وكله بشراء نصفه له وقيل فصار بحيث لا يملك شراء ذلك النصف لنفسه فكذا لغيره لأنه إنما يملك لغيره ما يملك شراءه لنفسه ولما أمره الثاني أن يشتريه بينهما فقد أمره بشراء نصفه له فينصرف الى
____________________
(6/165)
النصف الآخر لأن مقصودهما تصحيح هذا العقد وقد قبل ولا يمكن تصحيحه إلا بذلك ولو اشترى رجل عبدا وقبضه فطلب اليه آخر أن يشركه فيه فأشركه فيه فله نصفه بمثل نصف الثمن الذي اشتراه به وهذا بناء على أن مقتضى الشركة يقتضي التسوية قال الله تعالى فهم شركاء في الثلث إلا أن يبين خلافه ولو أشرك اثنين فيه صفقة واحدة كان بينهما أثلاثا ولو اشترى اثنان عبدا فأشركا فيه آخر فالقياس أن يكون له نصفه ولكل من المشترين ربعه لأن كلا صار مملكا نصف نصيبه فيجتمع له نصف العبد وفي الاستحسان له ثلثه لأنهما حين أشركاه سوياه بأنفسهما وكان كأنه اشترى العبد معهما ولو أشركه أحد الرجلين في نصيبه ونصيب الآخر فأجاز شريكه ذلك كان للرجل نصفه وللشريكين نصفه وهو ظاهر وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله أن أحد الشريكين إذا قال لرجل أشركتك في هذا العبد فأجاز شريكه كان بينهم أثلاثا لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء وكذا لو أشركه أحدهما في نصيبه ولم يسم في كم أشركه ثم اشركه الآخر في نصيبه كان له النصف ولو قال أحدهما أشركتك في نصف هذا العبد فقد روى ابن سماعة عن أبي يوسف كان مملكا جميع نصيبه منه بمنزلة قوله قد أشركتك بنصفه ألا ترى أن المشتري لو كان واحدا فقال لرجل أشركتك في نصفه كان له نصف العبد كقوله اشركتك بنصفه بخلاف ما لو قال أشركتك في نصيبي فإنه لا يمكن أن يجعل بهذا اللفظ مملكا جميع نصيبه بإقامة حرف في مقام حرف الباء فإنه لو قال أشركتك بنصيبي كان باطلا فلذا كان له نصف نصيبه
واعلم أن ثبوت الشركة فيما ذكرناه كله ينبني على صيرورة المشتري بائعا للذي أشركه وهو استفاد الملك منه فانبنى على هذا أن من اشترى عبدا فلم يقبضه حتى أشرك فيه رجلا لم يجز لأنه بيع مالم يقبض كما لو ولاه إياه ولو أشركه بعد القبض ولم يسلمه اليه حتى هلك لم يلزمه ثمن لأن هلاك المبيع في يد البائع قبل التسليم يبطل البيع ويعلم أنه لا بد من قبول الذي أشركه لأن لفظ اشركتك صار إيجابا للبيع ولو قال أشركتك فيه على أن تنقد عني الثمن ففعل كانت شركة فاسدة لأنه بيع وشرط فاسد وهو أن ينقد عنه ثمن نصفه الذي هو له ولو نقد عنه رجع عليه بما نقد لأنه قضى دينه بأمره ولا شيء له في العبد لأن الإشراك كان فاسدا والبيع الفاسد بدون القبض لا يوجب شيئا ولو قبض نصف المبيع ثم أشرك فيه آخر ملك الآخر نصف العبد لا نصف النصف الذي قبضه لأن الإشراك يقتضي التسوية وإنما يصح إذا انصرف إشراكه الى الكل ثم يصح في المقبوض لوجود شرطه لأن تصحيح التصرف يكون على وجه لا يخالف اللفظ وقضية اللفظ إشراكه في كله ولو قال رجل لآخر أينا اشترى هذا العبد فقد أشرك فيه صاحبه أو فصاحبه فيه شريك له فهو جائز لأن كل منهما موكل لصاحبه بأن يشتري نصف العبد له فأيهما اشتراه كان مشتريا نصف لنفسه ونصف لصاحبه فإذا قبضه فهو كقبضهما لأن يد الوكيل كيد الموكل مالم يمنعه حتى لو مات كان من مالهما فإن اشترياه معا أو اشترى أحدهما نصفه قبل صاحبه ثم اشترى صاحبه النصف الآخر كان بينهما لتمام مقصود كل منهما ولو نقد أحدهما كل الثمن في هذه الصورة ولو بغير أمر صاحبه رجع بنصفه عليه لأن بالعقد السابق بينهما صار كل منهما وكيلا عن الآخر في نقد الثمن من ماله كما لو اشتراه أحدهما ونقد الثمن فإن أذن كل منهما لشريكه في بيعه فباعه أحدهما على أن له نصفه كان بائعا نصيب شريكه بنصف الثمن ولو
____________________
(6/166)
باعه إلا نصفه كان جميع الثمن ونصف العبد بينه وبين شريكه نصفين في قياس قول أبي حنيفة وفي قولهما البيع على نصف المأمور خاصة ومبناه على فصلين أحدهما أن عند أبي حنيفة أن الوكيل ببيع العبد يملك بيع نصفه والوكيل ببيع نصفه يملك بيع نصف ذلك النصف وعندهما لا يملك والثاني أن من قال بعتك هذا إلا نصفه بألف كان بائعا للنصف بألف ولو قال بعتك بألف على أن لي نصفه كان بائعا للنصف بخمسمائة لأن الكلام المقيد بالاستثناء عبارة عما وراء المستثنى فكأنه قال بعتك نصفه بألف فأما قوله على أن لي نصفه فحاصله ضم نفسه الى المشتري فيما باعه منه وهذا وإن كان في ملكه لكنه إذا كان مفيدا تصح كما في شراء رب المال مال المضاربة من المضارب فكان كالمشتري هو مال نفسه مع المشتري فينقسم الثمن عليهما فيسقط نصفه عنه فيبقي نصف العبد بنصف الثمن على المشتري
مسألة اشترى نصف عبد بمائة واشترى آخر نصفه الآخر بمائتين ثم باعاه مساومة بثلاثمائة أو بمائتين فالثمن بينهما نصفين ولو باعاه مرابحة بربح مائة أو بالعشرة أحد عشر كان الثمن بينهما أثلاثا لأن الثمن في بيع المساومة يقابل الملك فيعتبر الملك في المحل دون الثمن الأول وأما بيع المرابحة والتولية والوضعية فباعتبار الثمن الأول ألا ترى أنه لا تستقيم هذه البيوع في المغصوب لعدم الثمن ويستقيم بيع المساومة فيه وكذا لو كان مشتري بعوض لا مثل له والثمن الأول كان أثلاثا بينهما فكذا الثاني يوضحه أنا لو اعتبرنا في بيع المرابحة الملك في قسمة الثمن دون الثمن الأول كان البيع مرابحة في حق أحدهما ووضيعة في حق الآخر وقد نصا على بيع المرابحة في نصيبهما فلا بد من اعتبار الثمن الأول كذلك بخلاف المساومة الكل من المبسوط
فصل
لما ذكر اشتراط المساواة في رأس مال الشركة المفاوضة احتاج الى بيان أي مال تصح به فقال لا ننعقد الشركة أي شركة المفاوضة إلا بالدراهم والدنانير والفلوس النافقة يعني لا تنعقد المفاوضة إذا ذكر فيها المال إلا بذلك وإنما قلنا هذا لأنه ذكر في المبسوط أن المفاوضة والعنان يكون كل منهما في شركة الوجوه والتقبل فيصح قولنا
____________________
(6/167)
المفاوضة تنعقد في الوجوه والتقبل بلا مال فصدق بعض المفاوضة تنعقد بلا دراهم ودنانير وفلوس وهو يناقض قوله لا تنعقد المفاوضة إلا بالدراهم الخ لأن الإيجاب الجزئي يناقض السلب الكلي والتقييد بما ذكر يخرج الدين والعروض وهو قول أحمد والشافعي في وجه وفي وجه يجوز بالعرض المثلى وقال مالك تجوز بالعروض إذا اتحد جنسها وقال الأوزاعي وحماد بن أبي سليمان تجوز الشركة والمضاربة بالعروض ولو وقع تفاضل في بيعها يرجع كل بقيمة عرضه عند العقد وكما لا تجوز عندنا بالعرض لا يجوز أن يكون رأس مال أحدهما عرضا والآخر دراهم أو دنانير ولم يشترط حضور المال وقت العقد وهو صحيح بل الشرط وجوده وقت الشراء وتقدم أنه لو دفع الى رجل ألفا وقال اخرج مثلها واشتر بها وبع فما ربحت فهو بيننا ففعل صح إلا أنه لا بد أن يقيم البينة أنه فعل ليلزم الآخر إذا لم يصدقه لو ثبتت وضيعة وقيد بالدراهم والدنانير لإخراج الحلي والتبر فلا يصلحان رأس مال الشركة إلا فيما سنذكره وأما الفلوس النافقة فلم يذكر القدوري والحاكم أبو الفضل في الكافي فيها خلافا بل اقتصر على أن قال ولا تجوز الشركة إلا بالدراهم والدنانير والفلوس وخص الكرخي الجواز بالفلوس على قولهما وبعضهم جعل الظاهر الجواز وعدم الجواز رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف وقال لو كان رأس مال أحدهما فلوسا لم تجز الشركة عند أبي حنيفة وأبي يوسف لأنها إنما صارت ثمنا باصطلاح الناس وليست ثمنا في الأصل وهم لم يتعاملوا أن يجعلوها رأس مال الشركة وعند محمد يجوز وهو قول أبي يوسف الأول وقال المصنف قالوا يعني المتأخرين هذا قول محمدا واستدل عليه بمسألتين إحداهما أن الفلوس لا تتعين بالتعيين ولا يجوز بيع فلس بفلسين إذا كانا بعينهما عند محمد خلافا لهما وسيأتي الوجه والتقييد بأعيانهما احترازا عما لو باع فلسا بفلسين دينا فإنه لا يجوز اتفاقا لأن حرمة النساء تثبت باتحاد الجنس وجه قول مالك أن الجنس إذا كان متحدا فقد عقدت على رأس مال معلوم فكانت كالنقود بخلاف المضاربة حيث لا تجوز إلا بالنقود لأنها شرعت على خلاف القياس لما فيها من ربح مالم يضمن فإن المال غير مضمون على المضارب
____________________
(6/168)
ويستحق ربحه فيقتصر على مورد الشرع ولنا أن رأس مال الشركة في العروض والمكيل والموزون يؤدي الى ربح مالم يضمن لأنه إذا باع كل منهما عرضه واتفق تفاضل الثمنين فما يستحقه أحدهما من الزيادة على حصة راس ماله الذي هو ثمن عرضه ربح مالم يملكه ولم يضمنه بخلاف النقود فإن كل واحد ثم وكيل عن صاحبه في الشراء بماله وما يشتريه كل منهما لا يتعلق برأس المال لعدم التعيين فيكون واجبا في ذمته فربحه ربح ما ضمنه فإن قيل هذا لا يلزم لأنه يشترط خلط العرضين لاتحاد جنسهما مكيلين أو موزونين أو غيرهما متحدي القيمة كثياب الكرباس من بابه واحدة قلنا الخلط لا يوجوب الاشتراك في كل ثوب وحبة مثلا فإذا باعا جملة في وقت طلوع السعر من ذلك لم يعلم أن عدد ما يبيع من الأجزاء وقبضه المشتري متساويان بل الظاهر أنهما متفاوتان فيلزم اختصاص أحدهما بزيادة ربح لزيادة ملكه والتخلص عنه ليس الا بضبط قدر ملكه وهو مجهول فقد أدى الى تعذر الوصول الى قدر حقه وربح الآخر مالم يضمن ولأن القيمة لا تعرف الا بالحزر والظن ولا يفيد أن العلم بالقيمة فيؤدي الى المنازعة فيه وهذا انما يلزم لو اعتبر رأس المال قيمة العروض أما اذا كان هو نفس العروض من جنس واحد متحدة القيمة وقت العقد وقد خلطاه فيه فلا تنازع نعم اللازم ربح مالم يضمن وتعذر ما يدفعه ولأن أول التصرف في العروض البيع وفي النقود الشراء وبيع الانسان ماله على أن يكون الآخر شريكا في ثمنه لا يجوز وشراؤه شيئا بماله على أن يكون الآخر شريكا فيه يجوز وعلمت أن الخلط لا ينفي ذلك وجه قول محمد أن الفلوس اذا كانت نافقة تروج رواج الأثمان فالتحقت بها ولأبي حنيفة وابي يوسف
____________________
(6/169)
أن ثمنيتها تتبدل ساعة فساعة فإنها باصطلاح الناس لا بالخلقة ففي كل ساعة تنتفي بانتفاء الخلقة وتصير ثمنا بالاصطلاح القائم ولا يخفى أن هذا إنما هو في الملاحظة أما في الخارج فهي ثمن مستمر ما استمر الاصطلاح عليها ولذا قال الإسبيجاني الصحيح أن عقد الشركة على الفلوس يجوز على قول الكل لأنها صارت ثمنا باصطلاح الناس ولهذا لو اشترى شيئا بفلوس بعينها لم تتعين تلك الفلوس حتى لا يفسد العقد لهلاكها قال المصنف وروى عن أبي يوسف مثل قول محمد والأول أقيس وأظهر لأن قوله مع أبي حنيفة مستقر في بيع فلس بفلسين وعن أبي حنيفة جواز المضاربة بها وعلى ما ذكر من مبسوط الإسبيجابي يجب أن يكون قول الكل الآن على جواز الشركة والمضاربة بالفلوس النافقة وعدم التعيين وعلى منع بيع فلس بفلسين كما ذكر فيما يليه حيث قال ولا تجوز الشركة بما وراء ذلك إلا أن يتعامل الناس بها كالتبر وهو غير المصوغ والنقرة وهي القطعة المذابة منها ونقل المصنف اختلاف الرواية في ذلك رواية الجامع لا تكون المفاوضة بمثاقيل ذهب أو فضة ومراده التبر فعلى هذه التبر سلعة تتعين بالتعيين فلا تصلح رأس مال الشركات والمضاربات وذكر في كتاب الصرف أن النقرة لا تتعين بالتعيين حتى لا ينفسخ العقد بهلاكها قبل التسليم فعلى هذا تصلح رأس مال فيهما وهذا لما عرف
____________________
(6/170)
أنهما خلقا ثمنين ثم قال إلا أن الأول أصح يعني دراية لأنهما إنما خلقا للتجارة لكن الثمنية تختص بالضرب المخصوص فخرج ضربها حليا فإنها تتعين البتة وينفسخ العقد بهلاكها قبل التسليم ولم يجر التعامل بهما أي ثم قال إلا أن يجري التعامل بهما أي بالتبر والنقرة استثناء من قوله أصح وهو كونهما لا تصح الشركة بهما فكان الثابت أنهم إذا تعالموا بقطع الذهب والفضة صلحت رأس مال في الشركة والمضاربة ثم قال المصنف قوله أي القدوري لا تجوز بما سوى ذلك يتناول المكيل والموزن والمعدود المتقارب ولا خلاف فيه بيننا قبل الخلط لأنها عروض محضة لكل منهما متاعه وعليه وضيعته ويختص بربحه وكذا إن خلطا ثم اشتركا عند أبي يوسف أي لكل منهما متاعه يخصه ربحه ووضيعته لانتفاء شركة العقد والوضيعة خسارة التاجر يقال منه مبنيا للمفعول وضع التاجر وكس في سلعته يوضع وضيعة أي خسر وقال قوم من العرب وضع يوضع كوجل يوجل وعند محمد رحمه الله تصح شركة عقد إذا كان المخلوط جنسا واحدا وثمرة الخلاف تظهر في اشتراط التفاضل في الربح فعند أبي يوسف لا يصح وعند محمد يلزم وقول ابي يوسف هو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة لأنه يتعين بالتعيين فكان عرضا محضا فلا يصح رأس مالها وما لا يصح رأس مال الشركة لا يختلف فيه الحال بين الخلط وعدمه كما أن ما يصح من النقود لا يختلف في الخلط وعدمه وهذا لأن المانع قبل الخلط هو كونه يؤدي الى ربح مالم يضمن وهو بعينه موجود بعد الخلط بل يزداد تقررا لأن المخلوط لا يكون إلا متعينا فيتقرر المعنى المفسد فكيف يكون مصححا للعقد قوله ولمحمد رحمه الله أنها أي المكيل والموزون والعددي المتقارب عروض من وجه حتى تتعين بالتعيين
____________________
(6/171)
ثمن من وجه حتى يصح الشراء بها دينا في الذمة وهو من حكم الأثمان فعملنا بالشبهين بالإضافة الى الحالين وهما الخلط وعدمه بشبه العرض قبل الخلط فلا تجوز الشركة بها قبله ويشبه الثمن بعد الخلط فتجوز الشركة بها بعده وهذا لأن بالخلط تثبت شركة الملك فيتأكد بها شركة العقد بخلاف العروض المحضة فإنها ليست ثمنا بحال وظاهر الرواية هو الأظهر وجها لأن المكيل والموزون قبل الخلط ليس شيئا غير العرض له شبه به بل هو عرض محض وازداد في العرضية في الجملة وكون الشيء متأصلا في حقيقة وله شبه بأخرى لا يقال له شبهان وغايته أن الثبوت في الذمة عرض عام لحقيقتين مختلفتين والمفسد هو ربح مالم يضمن لا يختل بالخلط وإلا لزم قول مالك وقد بيناه ولو كان المخلوط لهما جنسين كالحنطة والشعير والزيت والسمن ثم عقدا لا تجوز الشركة بالاتفاق والفرق لمحمد بين العقد بعد صحة الخلط في متفقي الجنس حيث لا يجوز والمختلفين حيث لا يجوز أن ما كان من جنس واحد من ذوات الأمثال حتى يضمن متلفه مثله فيمكن تحصيل راس المال كل منهما وقت القسمة باعتبار المثل والمخلوط من جنسين من ذوات القيم حتى يلزم متلفه قيمته فتتمكن الجهالة لأنه لا يمكن أن يصل كل منهما الى غير حقه من رأس المال وقت القسمة كما في العروض قوله فحكم الخلط قد بيناه في كتاب القضاء قيل أراد قضاء الجامع الصغير ولم يتفق في هذا الكتاب ويمكن تأويله أنه بينه في غيره إلا أنه
____________________
(6/172)
خلاف المعتاد من المصنفين في إطلاق هذه العبارة والحاصل أن الخالط تعديا يضمن نصيب المخلوط ماله اذا خلطه بجنسه أو بخلاف جنسه ولا يتميز كشيرج رجل خلطه بزيت غيره أو يتميز بعسر كحنطة خلطها بشعير لأنه انقطع حق مالكها بهذا الخلط فإن هذا الخلط استهلاك بخلاف ما تيسر معه كخلط السود بالبيض من الدراهم ليس موجبا للضمان لأنه يتمكن المالك من الوصول الى عين ملكه وحيث وجب الضمان يجب على الخالط سواء كان أجنبيا عن المخلوط ماله كغير المودع وغير من في عياله كبيرا كان أو صغيرا أو كان في عياله فإن لم يظفر بالخالط فقال أحد المالكين أنا آخذ المخلوط وأعطى صاحبي مثل ما كان له فرضي صاحبه جاز لأن الحق لهما فإذا رضيا بذلك صح وإن أبى يباع المخلوط ويقسم الثمن بينهما على قيمة الحنطة والشعير على ما يذكر وهو أن يضرب صاحب الحنطة بقيمتها مخلوطة بالشعير وصاحب الشعير بقيمته غير مخلوط بالحنطة لأن الحنطة تنقص باختلاطها بالشعير وقد دخلت في البيع بهذه الصفة فلا يضرب بقيمتها إلا بالصفة التي بيعت بها والشعير يزداد قيمة بالاختلاط لكن هذه الزيادة من مال صاحب حنطة فلا يستحق أن يضرب بها مخلوطا فلهذا يضرب بقيمة الشعير غير مخلوط قيل هذا الجواب إنما يستقيم على قول أبي يوسف ومحمد ورواية الحسن عن أبي حنيفة أن ملك المالك لا ينقطع عن المخلوط بل له الخيار بين الشركة في المخلوط وبين تضمين الخالط فأما على ما هو ظاهر مذهبه المخلوط مالك للخالط وحقهما في ذمته فلا يباع ماله في دينهما لما فيه من الحجر عليه أبو حنيفة لا يرى ذلك والأصح أنه قولهم جميعا لأن ملكهما وإن انقطع عن المخلوط فالحق فيه باق مالم يصل كل منهما الى بدل ملكه ولهذا لا يباح للخالط الانتفاع بالمخلوط قبل أداء الضمان فلبقاء حقهما يكون لهما أن يستوفيا حقهما من المخلوط إما صلحا بالتراضي أو بيعا وقسمة الثمن وإن اتفقا على الخلط ورضيا به وهو جنس واحد مكيل أو موزون صار عينا مشتركة فإذا باعه انقسم على قدر ملك كل منهما ولو كان المخلوط غير مثلى كالثياب فباعاها بثمن واحد اقتسماه على قيمة متاع كل منهما يوم باعه لأن كلا منهما بائع لملكه والثمن بمقابلة جميع ما دخل في العقد من العرض فيقسم عليهما باعتبار القيمة وإن كانا جنسين مثلين فالثمن بينهما إذا باعا على قدر قيمة متاع كل منهما يوم خلطا مخلوطا لأن الثمن بدل المبيع فيقسم على قيمة ملك كل منهما وملك كل منهما كان معلوما بالقيمة وقت الخلط فتعتبر تلك القيمة لكن مخلوطا إن لم تزد بالخلط قيمة أحدهما لأنه دخل في البيع بهذه الصفة فإن كان أحدهما يزيده الخلط خيرا فإنه يضرب بقيمته يوم يقتسمون غير مخلوط مثلا قيمة الشعير تزداد إذا خلط بالحنطة وقيمة الحنطة تنقص فصاحب الشعير يضرب بقيمته غير مخلوط لأن تلك الزيادة ظهرت في ملكه من مال صاحبه فلا يستحق الضرب به معه وصاحب الحنطة يضرب بقيمتها مخلوطة بالشعير لأن النقصان حاصل بعمل هو راض به وهو الخلط وقيمة ملكه عند ذلك ناقصة فلا يضرب إلا بذلك القدر وقد طعن عيسى رحمه الله في الفصلين جميعا فقال قوله في الفصل الأول أنه تعتبر قيمته يوم خلطاه وفي الفصل الثاني يوم يقتسمون غلط بل الصحيح يقسم الثمن على قيمة كل منهما يوم البيع لأن استحقاق الثمن به وصار كما لو لم يخلطاه وباعا الكل جملة فإن قسمة الثمن على القيمة تكون وقت البيع إلا أن تكون قيمته يوم البيع ويوم الخلط والقسمة سواء ورده شمس الأئمة بأن معرفة قيمة الشيء بالرجوع الى قيمة مثله في الأسواق وليس للمخلوط مثل يباع فيها حتى يمكن اعتبار قيمة ملك كل منهما وقت البيع فإذا تعذر هذا وجب المصير الى التقويم في وقت يمكن معرفة قيمة ملك كل منهما
____________________
(6/173)
كما في جارية مشتركة بين اثنين أعتق أحدهما ما في بطنها فهو ضامن لقيمة نصيب شريكه وقت الولادة لتعذر معرفتها وقت العتق فيصار الى تقويمه في أول الأوقات التي يمكن معرفة القيمة فيها وهو ما بعد الولادة فكذا هنا يصار الى معرفة قيمة كل في أول أوقات الإمكان وهو عند الخلط إلا أنه إذا علم أن الخلط يزيد في مال أحدهما وينقص في مال الآخر فقد تعذر قسمة الثمن على قيمة ملكهما وقت الخلط لتقننا بزيادة ملك أحدهما ونقصان الآخر فاعتبرت القيمة وقت القسمة باعتبار أن عند الخلط ملك كل منهما من ذوات الأمثال فيجعل حق كل منهما يوم الخلط كالباقي في المثل الى وقت القسمة فينقسم الثمن على ما هو حق كل منهما بخلاف ما اذا لم يخلطا لأن تقوم ملك كل منهما وقت البيع هناك ممكن فاعتبرنا في قسمة الثمن قيمة كل منهما وقت البيع قوله وإذا أراد الشركة في العروض باع كل منهما نصف عرضه بنصف عرض الآخر فتصير شركة ملك ثم عقدا الشركة مفاوضة أو عنانا فقيل هذا على قياس قول محمد في المكيل والموزون وعلى قياس قول أبي يوسف لا يجوز إلا أن تكون مضافة
____________________
(6/174)
الى حال بيعهما العروض بالدراهم فإنه يجوز لأنه حينئذ مضاف الى المستقبل وعقد الشركة يحتمل الإضافة لأنه عقد توكيل فإنما يثبت العقد بالدراهم والحق أن جواز هذا لا يختص بقول واحد منهما وقد تواردت كلمة أهل المذهب عليه وهذا لان المانع من كون رأس مال الشركة عروضا كل من أمرين لزوم ربح مالم يضمن وجهالة رأس مال كل منهما عند القسمة وكل منهما منتف فيكون كل ما ربحه أحدهما ما هو مضمون عليه ولا تحصل جهالة في رأس مال كل منهما لأنه لا يحتاج الى تعرف رأس مال كل منهما عند القسمة حتى يكون ذلك بالحزر فتقع الجهالة لأنهما مستويان في المال شريكان فيه فبالضرورة يكون كل ما يحصل من الثمن بينهما نصفان وعلى هذا فقول المصنف وهذه شركة ملك مشكل ومن المشايخ من جزم بأنه قصد الى الخلاف حقيقة اختيارا منه لعدم الجواز وإن لم يضعه على طريقة الخلاف كما قال القدوري أول الكتاب ويستحب للمتوضئ أن ينوي الطهارة فقال المصنف والنية في الوضوء سنة ولم يضع الخلاف وضعه المعروف ولذا اختار شمس الأئمة السرخسي عدم جواز الشركة لبقاء جهالة رأس المال والربح عند القسمة ولا يخفي ضعف هذا وفسادها بالعروض
____________________
(6/175)
ليس لذات العروض بل للازم الباطل وعلمت أنه منتف قوله وأما شركة العنان فتنعقد على الوكالة دون الكفالة وهو أن يشترك اثنان في نوع من التجارات بر أو طعام أو يشتركا في عموم التجارات ولا يذكران الكفالة لأنها خاصة بالمفاوضة وعلى هذا فلو ذكراها وكانت باقي شروطها متوفرة انعقدت مفاوضة لما تقدم من عدم اشتراط لفظ المفاوضة في انعقادها بعد ذكر جميع مقتضياتها وإن لم تكن متوفرة ينبغي أن تنعقد عنانا ثم هل تبطل الكفالة يمكن أن يقال تبطل لأن العنان معتبر فيها عدم الكفالة ويمكن أن يقال لا تبطل لأن المعتبر فيها عدم اعتبار الكفالة لا اعتبار عدمها فتصح عنانا ثم كفالة كل الآخر زيادة على نفس الشركة أي كما أنها تكون عنانا مع العموم باعتبار أن الثابت فيها عدم اعتبار العموم لا اعتبار عدم العموم إلا أن الأول قد يرجح بأن هذه الكفالة لمجهول فلا تصح إلا ضمنا فإذا لم تكن مما تتضمنها الشركة لم يكن ثبوتها إلا قصدا فلا تصح بخلاف ما لو عقد المفاوضة بغير لفظ المفاوضة بأن ذكرا كل مقتضياتها فإن منها الكفالة وتصح فإن هذا التفصيل بمنزلة الاسم المركب المرادف للمفرد الداخل في مفهومه الكفالة بخلاف العنان ليس المفرد معتبرا في مفهومه الكفالة قوله من عن لي كذا أي عرض قال امرؤ القيس ** فعن لنا سرب كأن نعاجه ** عذارى دوار في ملاء مذيل ** أي اعترض لنا سرب أي قطيع يريد من بقر الوحش كأن نعاجه عذارى أي ابكار دوار وهو اسم صنم
____________________
(6/176)
كانت العرب تنصبه وتدور حوله وهو بضم الدال وفتحها وقوله في ملاء تشبيه لنعاج البقر في استرخاء لحمها لسمنها بالعذارى والملاء المذيل أي الطويلات الذيل وهذا الاشتقاق لا يقتضي المساواة بل عروض عرض تعلق بقدر من الاختلاط قليلة وكثيرة وعمومه وقيل مأخوذ من عنان الفرس كما ذهب اليه الكسائي والأصمعي فإنه فعل كل منهما عنان التصرف في بعض ماله لرفيقه وبعضه لنفسه أو لأنه يجوز تفاوتهما في المال والربح كما يتفاوت العنان في كف الفارس طولا وقصرا في حالتي الإرخاء وضده إلا أنه اشتقاق غير صحيح إلا فيما سمع ولا بد منه كما في استحجر الطين وأمثاله قوله ويصح أن يتساويا في رأس المال ويتفاضلا في الربح وعكسه بأن يتفاضلا في راس المال ويتساويا في الربح وهو قول أحمد وقال مالك والشافعي وزفر لا يجوز وقوله ويتفاضلا الخ ليس على إطلاقه بل ذلك فيما اذا شرطا العمل عليهما سواء عمل أو عمل أحدهما أو شرطاه على من شرط له زيادة الربح وإن شرطا العمل على أقلهما ربحا لا يجوز وجه قول الثلاثة أن ذلك يؤدي الى ربح مالم يضمن لأن استحقاق احدهما لتلك الزيادة بلا ضمان لأن الضمان بقدر راس المال وصار كالوضيعة فإنها لا تكون إلا على قدر راس المال اعتبارا للربح بالخسران ولنا ما ذكر المشايخ من قوله صلى الله عليه وسلم الربح على ما شرطا والوضيعة على قدر المالين ولم يعرف في كتب الحديث وبعض المشايخ ينسبه الى علي رضي الله عنه ولأن الربح كما يستحق بالمال يستحق بالعمل كما في المضاربة وقد يكون أحدهما أحذق وأكثر عملا وأقوى فلا يرضى بالمساواة فمست الحاجة الى التفاضل ورأينا هذا العقد أي شركة العنان يشبه المضاربة من حيث أنه يعمل
____________________
(6/177)
في مال غيره وهو الشريك ويستربح به ويشبه شركة المفاوضة اسما وعملا فإنهما يعملان فعملنا بشبه المضاربة في اشتراط الزيادة لأحدهما وهو الذي شرط عمله منفردا أو مع الآخر وإن كان ربحا بلا ضمان ويشبه المفاوضة حتى أجزنا شرط العمل عليهما وكون المضاربة تفسد باشتراط العمل على رب المال لا يبطل اعتبار شبهها الآخر الذي باعتباره أجزنا الزيادة في الربح لأحدهما بخلاف ما لو شرط كل الربح لأحدهما فإنه لا يجوز لأن العقد حينئذ يخرج عن الشركة والمضاربة أيضا الى قرض إن شرط للعامل كأنه أقرضه ماله فاستحق جميع ربحه والى بضاعة إن شرط لرب المال إلا أنه يرد ما تقدم من أن المضاربة على خلاف القياس فلا يقاس عليها فلا يعتبر شبهها إلا أن يمنع ويقال بل الربح يستحق في الشرع تارة بالعمل وتارة بالمال والمشروط له الزيادة مشروط عمله وإن شرط عمل الآخر لكن قد يكون ذلك أحذق واقوى الخ قوله إذا الفظ أي لفظ العنان لا يقتضي المساواة ولا ينبئ عنه ليعتبر في مفهومه فلذا جاز أن يعقدها كل ببعض ماله ويجوز إذا كان من جهة أحدهما دنانير ومن الآخر دراهم ويجوز بدراهم سود من جهة أحدهما وبيض من جهة الآخر وإن تفاوتت قيمتهما والربح على
____________________
(6/178)
ما شرط فيها تساويا أو تفاوتا على قدر قيمة دراهمهما بشرطه الذي بيناه قوله وإذا هلك مال الشركة كله بطلت الشركة وكذا لو هلك أحد المالين قبل الخلط وقبل الشراء يهلك من مال صاحبه وحده سواء هلك في يد مالكه أو يد شريكه لأنه أمانة في يده بخلاف ما بعد الخلط حيث يهلك عليهما لعدم التمييز فتبطل الشركة أما الأول فلأن مال كل واحد قبل الشراء وقبل الخلط باق على ملكه وأما بطلان الشركة فلأن المعقود عليه عقد الشركة هو المال المعين لأنه يتعين بالتعيين في الشركة والهبة والوصية وبهلاك المعقود عليه يبطل العقد كما في البيع بخلاف المضاربة والوكالة المفردة لا يتعين المال فيهما بالتعيين وإنما يتعينان بالقبض حتى لو اشترى الوكيل بمثل ذلك المال في ذمته كان مشتريا لموكله حتى لو هلك المال بعد الشراء يرجع عليه بمثله أما لو هلك قبل الشراء فإنما يبطل العقد لأن الموكل لم يرض بكون الثمن دينا في ذمته فلا تبطل المضاربة والوكالة المفردة بهلاك المال واحترز بالمفردة عن الوكالة الثابتة في ضمن الشركة فإنها تبطل ببطلان الشركة وهذا ظاهر فيما اذا هلك الملان وكذا اذا هلك أحدهما لأنه أي الشريك الذي لم يهلك ماله لم يرض بشركة صاحبه في ماله الا ليشركه هو ايضا في ماله بتقدير بقائه فإذا فات ذلك ظهر وقوع ما لم يكن راضيا به عند عقد الشركة فيبطل
____________________
(6/179)
العقد لعدم فائدته وهي الاشتراك فيما يحصل قوله فإن اشترى أحدهما بماله ثم هلك مال الآخر فالمشتري بينهما على ما شرطا لأن الملك حين وقع وقع مشتركا بينهما لقيام الشركة وقت الشراء لأن الهلاك لم يقع قبله ليبطل فيختص المشتري بما اشتراه فلا يتغير الحكم أي حكم الشركة بهلاك مال الآخر بعد ذلك ثم الشركة الواقعة في هذا المشتري بعد هلاك مال الآخر شركة عقد عند محمد خلافا للحسن بن زياد رحمهما الله فإنها شركة ملك عنده حتى لا ينعقد بيع أحدهما إلا في نصيبه وجه قوله أن شركة العقد بطلت بهلاك المال فصار كما لو هلك قبل الشراء بمال الآخر ولم يبق إلا حكم ذلك الشراء وهو الملك فيلزم انفراد الملك بعدم ما يوجب زيادة عليه ولمحمد وعليه اقتصر المصنف أن هلاك مال أحدهما إذا وقع بعد حصول المقصود بمال الآخر وهو الشراء بها فلا يكون الهلاك مبطلا شركة العقد بينهما بعد تمامها كما لو كان بعد الشراء بالمالين وإذا وقع المشتري على الشركة يرجع على شريكه بحصته من الثمن لأنه اشترى نصفه له بوكالته ونقد الثمن من مال نفسه وقد بيناه قريبا هذا اذا اشترى أحدهما باحد المالين أولا ثم هلك مال الآخر أما إذا هلك مال أحدهما ثم اشترى الآخر يعني الذي في يده المال بالمال الآخر إن صرحا بالوكالة في عقد الشركة بأن قالا عند عقد الشركة على أن ما اشتراه كل منهما بماله هذا يكون مشتركا بيننا كذا صوره في المبسوط فالمشتري مشترك بينهما على ما شرطا لأن الشركة إن بطلت فالوكالة المصرح بها قائمة فتكون شركة ملك وبهذا جمع في المبسوط بين التناقض الواقع في جواب المسألة حيث قال محمد رحمه الله في بعض المواضع فاشترى بالمال الباقي بعد ذلك يكون لصاحبه وفي بعضها إن اشترى الآخر بماله بعد ذلك يكون بينهما فجعل محمل الأول إذا لم يكن في الشركة وكالة مصرح بها ومحمل
____________________
(6/180)
الثاني إذا صرحا بها على ما ذكر وقوله لما بيناه يريد قوله لأنه وكيل من جهته الخ قوله وتجوز الشركة وإن لم يخلطا المال وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله تعالى إلا أن مالكا شرط أن يكون تحت يدهما بأن يكون في حانوت أو في يد وكيلهما وقال زفر والشافعي رحمهما الله لا تجوز لأن الربح فرع المال ولا يكون الفرع على الشركة إلا والأصل على الشركة وإنه أي الشركة في الأصل على معنى الاشتراك بالخلط لما سلف من أن معناها الاختلاط أو الخلط على ما حققناه فلا تتحقق شركة بلا خلط وقد اتفقنا على أن المعتبر في كل عقد شرعي ما هو مقتضى اسمه قال المصنف وهذا أي كون الربح فرع المال أصل كبير لهما حتى تفرع عليه اعتبار اتحاد الجنس
____________________
(6/181)
فلا تجوز الشركة اذا كان لأحدهما دراهم وللآخر دنانير ولا اذا كان لأحدهما بيض وللآخر سود لعدم تحقق الخلط والاختلاط بحيث لا يتميز ما لأحدهما عن الآخر ولا يجوز التفاضل في الربح مع التساوي في المال لاختلاف الشركة في الأصل والفرع ولا شركة التقبل والأعمال لعدم المال قوله ولنا أن الشركة في الربح مستندة الى العقد دون المال حاصل تقرير الشارحين أن الربح يضاف الى التصرف في المال وهو العلة والى العقد الذي هو علة التصرف والحكم كما يضاف الى العلة يضاف الى علة العلة وأنت تعلم أن الإضافة الى علة العلة بطريق المجاز فإن الحكم بالذات إنما يضاف الى علته لما عرف أن لا أثر للعلة البعيدة في الحكم وحقيقة الإضافة أولى بالاعتبار من مجازها في حكم ينبي على الإضافة وإنما وجه التقرير المراد أن الربح المستحق شرعا لكل من الشريكين في مال الآخر ليس مضافا إلا الى العقد الشرعي الذي به حل تصرفه في مال غيره لا الى نفس المال ولا التصرف فيه لأن إضافة الربح الى التصرف في المال معناها أنه اكتسب عن التصرف فيه وليس هذا بمفيد لنا إذ هو معلوم وإنما حاجتنا الى ثبوت حل الربح لكل منهما ولا شك أن حله إنما يضاف الى العقد الشرعي لا التصرف فإن نفس التصرف في المال وإن كان مأذونا فيه شرعا لا يوجب حل الربح للمتصرف كما في المبضع والوكيل بالبيع فلم يحل إلا بعقد الشركة متحققا فيه معنى اسمه فيه لأن هذا العقد الشرعي يسمى شركة فتحقق معناه بما يفيده شرعا وهو الشركة في الربح والتصرف معا لا أن أحدهما عن الآخر ليكون علة العلة بل التصرف علة في وجود الربح والعقد علة حله والكلام ليس الا فيه وإذا كان كذلك لم يتوقف الاسم على خلط المال لأن المال محل العقد شرط لتحققها خارج عنه ثم قال المصنف ولأن الدراهم والدنانير لا يتعينان يعني عند الشراء بهما ما فيه الربح حتى جاز أن يدفع غيرهما فلم يكن الربح مستفادا بعين رأس المال حتى يلزم فيه الخلط بل التصرف وإذا ظهر تحقق الشركة بلا خلط تحققت في المستفاد بدونه أي بدون الخلط وصار كالمضاربة
____________________
(6/182)
تتحقق الشركة في الربح بلا خلط فإن قيل فعلى هذا ينبغي أن لا تبطل بهلاك المال قبل الشراء لوجود المال وقت العقد لأنه انعقد في المحل قلنا إنما بطلت لمعارض آخر وهو أن هلاك المحل قبل حصول المقصود بالعقد منه يبطله كالبيع يبطل بهلاك المبيع قبل القبض والمقصود من عقد الشركة الاسترباح وهو بالشراء أولا فإذا هلك المال قبل الشراء كان كهلاك المبيع قبل القبض وإذا كان الأصل هو العقد لا المال لم يشترط اتحاد الجنس ولا التساوي في راس المال ولا في الربح وتصح شركة التقبل قوله ولا تجوز الشركة اذا شرط لأحد دراهم مسماة من الربح قال ابن المنذر لا خلاف في هذا لأحد من أهل العلم ووجهه ما ذكره المصنف بقوله لأنه شرط يوجب انقطاع الشركة فعماه لا يخرج الا قدر المسمى فيكون اشتراط جميع الربح لأحدهما على ذلك التقدير واشتراطه لأحدهما يخرج العقد عن الشركة الى قرض أو بضاعة على ما تقدم وقوله ونظيره في المزارعة يعني اذا شرطا لأحدهما قفزانا مسماة بطلت لأنه عسى أن لا تخرج الأرض غيرها قوله ولكل واحد من المتفاوضين وشريكي العنان أن يبضع المال لأنه معتاد في عقد الشركة من المتشاركين ولأنه له أن يستأجر على عمل التجارة والتحصيل للربح بغير عوض دونه وأنه أقل ضررا فإذا ملك ما هو أكثر ضررا ملك ما هو أقل وظهر أن لفظ التحصيل مرفوع على الابتداء وخبره الظرف قوله وكذا له أن يودعه لأنه معتاد ولا يجد التاجر بدا منه في بعض الأوقات والمضايق وقوله ويدفعه مضاربة لأنها دون الشركة لأن الوضيعة في الشركة تلزم الشريك ولا تلزم المضارب فتتضمن الشركة المضاربة وعن أبي حنيفة لرواية الحسن أنه ليس له ذلك لأنه نوع شركة في الربح والأصح هو الأول وهو رواية الأصل لأن الشركة في الربح غير مقصودة وإنما المقصود تحصيل الربح
____________________
(6/183)
فصار كما اذا استأجره بأجرة ليعمل له بعض أعمال التجارة بل أولى لأنه تحصيل بدون ضمان في ذمة الشريك بخلاف الشركة فإن أحد الشريكين لا يملك أن يشارك غيره في مال الشركة لأن الشيء لا يستتبع مثله وأورد عليه المكاتب يكاتب عبده والمأذون يأذن لعبده واقتداء المفترض والمتنفل بمثلهما والناسخ مثلا لمنسوخ وأجيب بأن ملكهما ذلك ليس بطريق الاستتباع بل بإطلاق التصرف مطلقا وكذا الاقتداء ليس صلاة الإمام مستتبعة لصلاتهما بل تلك مبنية عليها وحقيقة الناسخ مبين لا غير على أنه ليس وزان ما نحن فيه بتأمل يسير ولكل واحد أن يشتري بالنسيئة وإن كان مال الشركة في يده استحسانا وليس لأحد شريكي العنان الرهن أي رهن عين من مال الشركة بدين من التجارة عليه والارتهان بدين له بخلاف المفاوض له أن يرهن ويرتهن على شريكه فإن رهن في العنان متاعا من الشركة بدين عليهما لم يجز وكان ضامنا للرهن ولو ارتهن بدين لهما لم يجز على شريكه فإن هلك الرهن في ديده وقيمته والدين سواء ذهب بحصته ويرجع شريكه بحصته ويرجع المطلوب بنصف قيمة الرهن على المرتهن وإن شاء شريك المرتهن ضمن شريكه حصته من الدين لأن هلاك الرهن في يده كالاستيفاء وكذا اذا باع أحدهما فليس للآخر قبضه وللمدين أن يمتنع من دفعه فإن دفعه اليه برئ من حصة القابض ولم يبرا من حصة الآخر وليس لواحد منهما أن يخاصم فيما ادانه الآخر أو باعه والخصومة للذي باع وعليه ولا أن يؤخر دينا فإن أخره لم يمض على الآخر وكذا لا يمضي إقرار أحدهما بدين في تجارتهما على الآخر فإن أقر وأنكر الآخر لزم المقر جميع الدين إن كان هو الذي وليه لأن حقوق العقد تتعلق بالعاقد وكيلا كان أو مباشرا وإن أقر أنهما ولياه وأنكر الآخر لزمه نصفه ولو اشترى أحدهما شيئا فوجد به عيبا لم يكن للآخر أن يرده لأن ذلك من حقوق العقد ولو أخذ أحدهما مالا مضاربة اختص بربحه لأن مال المضاربة ليس من مال الشركة وعلى هذا لو شهد أحدهما لصاحبه بما ليس من شركتهما فهو جائز بخلاف المفاوض في جميع ذلك ويمضي إقراره عليه ويشارك شركة عنان ويمضي على الآخر بخلاف شريك العنان ويجوز قبض كل من المتفاوضين ما أدانه الآخر أو أدناه أو وجب لهما على رجل من غصب أو كفالة أو غير ذلك ويرد بعيب ما اشتراه الآخر وكل منهما خصم عن الآخر يطالب بما على صاحبه وتقام عليه البينة ويستحلف على العلم فيما هو من ضمان التجارة وتقدم شيء من هذا أول الباب فيما هو من ضمان التجارة ولكل من شريكي العنان أن يوكل من يتصرف فيه لأن التوكيل بالبيع والشراء من أعمال التجارات والشركة انعقدت لها بخلاف الوكيل صريحا بالشراء ليس له أن يوكل به لأنه عقد خاص طلب به شراء شيء بعينه فلا يستتبع مثله
____________________
(6/184)
لأحدهما أن يعمله إذا نهاه شريكه عنه لم يكن له عمله فإن عمله ضمن نصيب شريكه ولهذا لو قال أحدهما اخرج لدمياط ولا تجاوزها فجاوز فهلك المال ضمن حصة شريكه لأنه نقل حصته بغير إذنه وكذا لو نهاه عن بيع النسيئة بعد ما كان أذن له فيه قوله ويده أي يد الشريك مطلقا في المال يد أمانة لأنه قبض المال بإذن المالك لا على وجه البدل والوثيقة فيكون أمانة بخلاف المقبوض على سوم الشراء لأنه قبضه على وجه إعطاء البدل فيكون مضمونا بخلاف الرهن فإنه مقبوض للتوثق بدينه فيضمن بذلك الدين وإذا كان مقبوضا على الوجه الذي ذكرنا صار كالوديعة فكان أمانة
واعلم أن جميع الأمانات إذا مات تنقلب مضمونة بالموت مع التجهيل إلا في مسائل إحداها إذا مات أحد المتفاوضين ولم يبين حال الذي كان في يده فإنه لا يضمن لشريكه نصيبه والأخرى في السبر إذا أودع الإمام بعض الغنائم في دار الحرب قبل القسمة عند بعض الجند فمات ونذكر الثالثة في الوقف إن شاء الله تعالى
فروع في اختلاف المتفاوضين قد علم أنه ليس لأحد المتفاوضين أن يقرض ولا يهب ولا يتصدق ولا يعير دابة من شركتهما ولو ادعى على آخر أنه شاركه مفاوضة فأنكر والمال في يد الجاحد فالقول قول الجاحد مع يمينه وعلى المدعي البينة لأنه يدعي العقد واستحقاق ما في يده وهو منكر فإن اقام البينة فشهدوا أنه مفاوضة أو زادوا على هذا فقالوا المال الذي في يده من شركتهما أو قالوا هو بينهما نصفان قضى للمدعي بنصفه لأن الثابت بالبينة كالثابت بالإقرار وجميع ما ذكر مقتضاه انقسام ما في يده فقضى بذلك فلو ادعى الذي في يده المال بعد ذلك أن هذا العين لي ميراثا مما في يده وأقام على ذلك بينة قبلت عند محمد ولم تقبل عند ابي يوسف لأن ذا اليد صار مقضيا عليه بنصف ما في يده وبينة المقضي عليه في إثبات الملك لا تقبل إلا أن يدعي تلقي الملك من قبل المقضي له كما لو كانت الشهادة مفسرة ولو ادعى ذو اليد عينا في يده أنها له خاصة وهب شريكه منه حصته واقام البينة على الهبة والقبض قبلت لأنه إنما ادعى تلقي الملك منه ولو ادعى أنه مفاوضة والمال في يد المدعي عليه فأقر وقضى عليه ثم ادعى عينا مما كان في يده أو ميراثا أو هبة وأقام بينة قبلت والفرق لأبي يوسف أن ذا اليد هنا مقر بالمفاوضة مدع للميراث ولا منافاة بينهما وقد اثبت دعواه بالبينة وفي الأول ذو اليد جاحد مدعي عليه وقد صار مقضيا عليه بحجة صاحبه ألا ترى أنه لو لم يكن أقام البينة في صورة الإنكار لم يستحلف خصمه وإذا مات أحد المتفاوضين والمال في يد الحي فادعى الورثة المفاوضة وجحد الحي ذلك فأقاموا البينة بذلك لم يقض لهم بشيء فيما في يد الحي لأنهما شهدا بعقد علم ارتفاعه لانتقاض المفاوضة بموت أحدهما ولأنه لا حكم فيما شهدا
____________________
(6/185)
به في المال الذي في يده في الحال لأن المفاوضة فيما مضى لا توجب أن يكون المال الذي في يده في الحال من شركتهما إلا أن يقيموا أنه كان في يده في حياة الميت أو أنه من شركتهما فإنهم حينئذ شهدوا بالنصف للميت وورثته خلفاؤه ولو كان المال في يد الورثة وجحدوا الشركة فأقام الحي البينة على المفاوضة واقاموا أن أباهم مات وترك هذا ميراثا من مفاوضة بينهما لم تقبل منهم لأنهم جاحدون فإنما يقيمونها على النفي وقد اثبت المدعي الشركة فيما في أيديهم فيقضي له بنصفه وصحح شمس الأئمة أن هذا قولهم جميعا ولو قالوا مات جدنا وتركه ميراثا لأبينا واقاموا البينة على هذا لا تقبل في قول أبي يوسف وتقبل في قول محمد كما لو كان المفاوض حيا واقام البينة على ذلك بعد ما شهد الشهود عليه بالمفاوضة المطلقة وإذا افترق المتفاوضان فاقام احدهما البينة أن المال كله كان في يد صاحبه وأن قاضي بلدة كذا قضى بذلك عليه وسموا المال وأنه قضى به بينهما نصفين فأقام الآخر بمثل ذلك من ذلك القاضي بعينه أو غيره فإن كان من قاض واحد وعلم تاريخ القضاءين أخذ بالآخر وهو رجوع عن الأول ونقض له وإن لم يعلم او كان القضاء من قاضيين لزم كلا منهما القضاء الذي أنفذه عليه لأن كلا منهما صحيح ظاهرا فيحاسب كل صاحبه بما عليه ويترادان الفضل قوله وأما شركة الصنائع وتسميى شركة التقبل وشركة الأبدان وشركة الأعمال فنحو الخياطين والصباغين يشتركان في أن يتقبل كل الأعمال أو نحو الصباغ والخياط بفعلان ذلك ويكون الكسب بينهما فيجوز عندنا وقال الشافعي لا يجوز لأنها شركة لا تفيد مقصودها أي المقصود منها وفي بعض النسخ مقصودهما بالتثنية أي الشريكين وهو التثمير أي الربح لأنه لا بد في الربح من رأس المال لأنه يبني عليه على ما قررناه في الخلاف في عدم اشتراط الخلط ولنا أن المقصود من عقد الشركة تحصيل الربح على الاشتراك وهو لا يقتصر على المال بل جاز بالعمل أيضا كما مر فجاز بالتوكيل بأن وكل الآخر بقبول العمل عليه كما يقبله لنفسه فيكون كل أصيلا في نصف العمل المتقبل ووكيلا في نصغه الآخر فتتحقق الشركة في المال المستفاد عن ذلك العمل فإن عملا استحق كل فائدة عمله وهو المال المستفاد وهو كسبه وإن عمل أحدهما كان العامل ميعنا لشريكه فيما لزمه بتقبله عليه وهو جائز لأن المشروط مطلق العمل لا عمل المتقبل بنفسه أو وكيله بنفسه ألا ترى أن نحو الخياط يتقبل ثم يستأجر من يعمله ويدفعه الى مالكه فتطيب له الأجرة ومن صور هذه الشركة أن يجلس آخر على دكانه فيطرح عليه العمل بالنصف القياس أن لا يجوز لأن من أحدهما العمل ومن الآخر الحانوت واستحسن جوازها لأن التقبل من صاحب الحانوت عمل قوله ولا يشترط فيه
____________________
(6/186)
أي في جواز هذه الشركة اتحاد العمل والمكان خلافا لزفر ومالك وأورد عليه أنه قدم في اشتراط الخلط لزفر أن من ثمراته عدم جواز شركة التقبل وهو ينافي اشتراطه لصحتها اتحاد العمل والمكان أجيب بأن عن زفر في جواز شركة التقبل روايتين ذكرهما في المبسوط ففرع رواية المنع على شرط خلط المال وذكر هنا شرطه في تجويزها ثم ذكر المصنف وجه الجواز بقوله لأن المعنى المجوز لشركة التقبل من كون المقصود تحصيل الربح لا يتفاوت بين كون العمل في دكانين أو دكان وكون الأعمال من أجناس أو جنس فلا وجه لاشتراط شرط بلا دليل يوجبه قوله ولو شرطا العمل نصفين يعني التساوي في العمل والربح أثلاثا جاز بشط كون المشروط له مشروطا عليه العمل وفي القياس لا يجوز وهو قول زفر لأن الضمان هنا إنما هو بقبول العمل أي لأنه لا مال عقدت الشركة عليه فزيادة الربح لأحدهما ربح مالم يضمن فلم تجز كما لم تجز شركة الوجوه مع شرط
____________________
(6/187)
التفاضل في ربح ما يباع مما اشترى بالوجوه وأما كون التفاضل يجري فيها اذا شرطا التفاوت في ملك المشتري فإن اشتركا على أن ما اشتراه كل منهما يكون للآخر ربعه فقط فينقسم الربح على قدر ملكهما فذلك في الحقيقة عدم التفاوت في الربح قلنا المأخوذ من هذه الشركة ليس ربحا حقيقة لأن حقيقة الربح إنما تكون عند اتحاد جنس الربح وما به الاسترباح وهو هنا مختلف لأن رأس المال عمل والربح مال وإنما يقال له ربح مجازا وإنما هو بدل عمله والعمل يتقدر بالتقدير أي بحسب التراضي فما قدر لكل هو ما وقع عليه التراضي أن يجعل بدل عمله فلا يحرم خصوصا إذا كان أحذق في العمل وأهدى وعلى هذا اتجه خلاف بعض المشايخ فيما لو شرطت الزيادة لأكثرهما عملا وصححوا الجواز لأن الربح لضمان العمل لا بحقيقة العمل ولذا لو مرض أحدهما أو غاب فلم يعمل وعمل الآخر كان الربح بينهما بلا خلاف يعلم وقوله بخلاف شركة الوجوه لأن جنس المال متفق فإن الربح بدل ما هو مال فيتحقق بالتفاوت في الربح ربح مالم يضمن وهو لا يجوز إلا في المضاربة على خلاف القياس هذا وقول المصنف لم يجز العقد وصار كشركة الوجوه يعطى ظاهره بطلان العقد بشرط الزيادة والوجه أن تبطل الزيادة فقط ويستحق مثل الأجر فإنه نص في شركة الوجوه التي شبه بها على ذلك في شرح الطحاوي فقال وينبغي أن يشترط الربح بينهما على قدر الضمان وإن شرطا الربح بخلاف الضمان بينهما فالشرط باطل ويكون الربح بينهما على قدر ضمانهما قوله وما يتقبله كل واحد منهما من العمل يلزمه ويلزم شريكه حتى أن لصاحب الثوب أن يأخذ الشريك بعمله والشريك الذي لم يتقبل العمل أن يطالب رب الثوب مثلا بالأجرة ويبرأ الدافع بدفع الأجرة اليه وإن كان إنما عمله الذي تقبله قال المصنف هذا وهو ضمان كل منهما عمل ما تقبله الآخر ومطالبة كل بأجرة الآخر وبراءة الدافع اليه بالأجرة ظاهر فيما إذا عقدا شركة الصنائع مفاوضة وفي غيرها وهو فيما إذا أطلقا الشركة أو قيداها بالعنان استحسان فلا فرق في ثبوت هذه الأمور بين المفاوضة والعنان فيها والقياس خلاف ذلك لأن الشركة وقعت مطلقة وإذا وقعت مطلقة انصرفت الى العنان فلم تثبت المفاوضة إلا بالنص عليها أو على معناه وبهذا علمت أن لا فرق بين إطلاق الشركة والتنصيص على جعلها عنانا في أن المنعقد عنان
____________________
(6/188)
والكفالة مقتضى المفاوضة وجه الاستحسان أن هذه الشركة أعني شركة الصنائع مقتضية للضمان في القدر الذي ذكرناه لا أنها تضمنت توكيل تقبل العمل على صاحبه فكان العمل بالضرورة مضمونا على الآخر ولذا استحق من الأجرة بعض ما سمي للآخر بسبب نفاذ تقبله عليه فجرى هذا العقد وإن كان عنانا مجرى المفاوضة في ضمان العمل عن الآخر واقتضاء البدل وإن لم يتقبل ضرورة بخلاف ما سوى هذين الامرين هو فيها على مقتضى العنان ولذا لو اقر أحدهما بدين من أمر الصناعة كثمن صابون أو صبغ أو بدين للعملة عن عملهم أو أجرة بيت أو دكان لمدة مضت لا يصدق على صاحبه إلا ببينة لأن نفاذ الإقرار على الآخر موجب المفاوضة ولم ينصا عليها ثلاثة لم يعقدوا بينهم شركة تقبل تقبلوا عملا ثم جاء أحدهم فعمله كله فله ثلث الأجرة ولا شيء للآخرين لأنهم لما لم يكونوا شركاء كان على كل منهم ثلث العمل لأن المستحق على كل منهم ثلثه بثلث الأجر فإذا عمل الكل كان متطوعا في الثلثين فلا يستحق إلا ثلث الأجر قوله وأما شركة الوجوه فالرجلان يشتركان ولا مال لهما ليشتريا بوجههما أي بوجاهتهما وجاههما والربح بينهما لأن الجاه مقلوب الوجه لما عرف غير أن الواو انقلبت حين وضعت موضع العين للموجب لذلك ولذا كان وزنه عفل وأنها تكون مفاوضة بأن يكونا من أهل الكفالة والمشتري بينهما نصفين وعلى كل منهما نصف ثمنه ويتساويا في الربح ويتلفظا بلفظ المفاوضة أو يذكرا مقتضياتها كما سلف فتتحقق الوكالة والكفالة في الأبدال أي الأثمان والمبيعات وإن فات
____________________
(6/189)
شيء مما ذكرنا كانت عنانا لأن مطلق عقد الشركة ينصرف اليه لتبادره وزيادة تعارفه عملا ومنعها الشافعي ومالك والوجه من الجانبين تقدم في شركة الأعمال ونقول صحة العقد باعتبار صحة الوكالة وتوصل كل من الآخر بالشركة على أن يكون المشتري بينهما نصفين أو أثلاثا صحيح فكذا الشركة التي تضمنت هذه الوكالة وتقدم معنى الباقي غير الفرق بين الوجوه والعنان من جهة أن في شركة الوجوه لا يصح التفاوت في الربح ويصح في العنان مع أن الربح في كل منهما من جنس الأصل ففرق بأن شركة العنان في معنى المضاربة من حيث أن كلا عامل في مال صاحبه بخلاف شركة الوجوه فصح إعمال شبه المضاربة في العنان في إجازة تفاوت الربح بخلاف الوجوه
والحاصل أن شبه المضاربة إنما جوز زيادة ربح أحدهما في العنان باعتبار عمله في مال الآخر وليس في شركة الوجوه أحدهما عامل في مال الآخر وعلى هذا فلا يجعل الاستحقاق في المضاربة على خلاف القياس وإلا لم يجز إلحاق غيره به لشبهه به بل نقول الربح يستحق شرعا بأحد المعاني الثلاثة منها العمل وإن كان فيه ربح مالم يضمن للاستحقاق شرعا بالعمل في الإجارة وحينئذ يسقط اعتراض بعضهم بأنه لو جاز ربح مالم يضمن في العنان لشبهه بالمضاربة يصح الشركة بالعروض في العنان ونحن إنما نجوزها لأدائها الى ربح مالم يضمن لأن في جعل رأس مال الشركة عروضا ربح مالم يضمن لا في مقابلة عمل للمستحق في مال الآخر لأنه يلزم من أول الأمر عند بيع العروض متفاوتة الثمن فإن قيل لم لا يجوز باعتبار فصل العمل كما في الصنائع أجيب بأنه إنما يجوز فيما يكون العمل في مال معلوم كما في العنان والمضاربة ولم يوجد هنا
____________________
(6/190)
فصل في الشركة الفاسدة
وجه تقديم الصحيحة على الفاسدة ظاهر قوله ولا تجوز الشركة في الاحتطاب والاصطياد وكذا الاحتشاش والتكدي وسؤال الناس وما اصطاده كل واحد منهما أو احتطبه أو اصابه من التكدي فهو له دون صاحبه وعلى هذا الاشتراك في كل مباح كأخذ الحطب والثمار من الجبال كالجوز والتين والفستق وغيرها وكذا في نقل الطين وبيعه من أرض مباحة أو الحصى او الملح أو الثلج أو الكحل أو المعدن أو الكنوز الجاهلية وكذا اذا اشتركا على أن يلبنا من طين غير مملوك ويطبخا آجرا ولو كان الطين مملوكا أو سهلة الزجاج فاشتركا على أن يشتريا ويطبخا ويبيعا جاز وهو شركة الصنائع وكل ذلك جائز عند مالك واحمد لأن هذه شركة الأبدان كالصباغين ويؤيده ما رواه أبو داود عن ابن مسعود قال اشتركنا أنا وعمار وسعد يوم بدر فلم أجيء أنا وعمار بشيء وجاء سعد بأسيرين فأشرك بينهم النبي صلى الله عليه وسلم أجيب بأن الغنيمة مقسومة بين الغانمين بحكم الله تعالى فيمتنع أن يشترك هؤلاء في شيء منها بخصوصهم وفعله صلى الله عليه وسلم إنما هو تنفيل قبل القسمة أو أنه كان قدر ما يخصهم وعلى قول بعض الشافعية أن غنائم بدر كانت للنبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(6/191)
يتصرف فيها كيف شاء ظاهر قوله لأن أمر الموكل به أي بأخذ المباح غير صحيح لعدم ملكه وولايته والوكيل بملكه أي يملك المباح بدون أمر الموكل فلا يصلح الوكيل نائبا عن الموكل لأن التوكيل إثبات ولاية لم تكن ثابتة للوكيل وهذا لم يوجد هاهنا فإذا لم تثبت الوكالة لم تثبت الشركة واستشكل بالتوكيل بشراء عبد بغير عينه فإنه يجوز مع أن الوكيل يملك شراءه لنفسه قبل التوكيل وبعده وحاصل الجواب أن الوكيل ليس قادرا باعتبار آخر وهو شغل ذمة الموكل بالثمن لولا الوكالة فيها تثبت له ولاية أن يشغل ذمته به بعد أن لم يكن يقدر عليه
وحاصل هذا أن التوكيل بما يوجب حقا على الموكل يتوقف على إثباته الولاية عليه في ذلك والكلام في التوكيل بخلافه وإنما الوجه أن الشرع جعل سبب ملك المباح سبق اليد اليه فإذا وكله به فاستولى عليه سبق ملكه له ملك الموكل ولو قيل عليه هذا اذا استولى عليه بقصده لنفسه فأما إذا قصد ذلك لغيره فلم لا يكون للغير يجاب بأن إطلاق نحو قوله صلى الله عليه وسلم الناس شركاء في ثلاث لا يفرق بين قصد وقصد قوله فإن أخذاه جميعا يمعنى ثم خلطاه وباعاه قسم الثمن على كيل أو وزن ما لكل منهما وإن لم يكن وزنيا ولا كيليا قسم على قيمة ما كان لكل منهما وإن لم يعرف مقدار ما كان لكل منهما صدق كل واحد الى النصف لأنهما استويا في الاكتساب وكان المكتسب في أيديهما فالظاهر أنه بينهما نصفان والظاهر يشهد له في ذلك فيقبل قوله ولا يصدق على الزيادة على النصف إلا ببينة لأنه يدعي خلاف الظاهر وإن أخذه أحدهما ولم يعمل الآخر شيئا فهو للعامل لوجود السبب منه وإن عمل أحدهما وأعانه الآخر بأن قلعه أحدهما وجمعه الآخر أو قلعه أحدهما وجمعه والآخر حمله فللمعين أجر مثله بالغا ما بلغ عند محمد وعند أبي يوسف لا يجاوز به نصف ثمن ذلك وقوله وقد عرف في موضعه يعني كتاب الشركة من المبسوط فإنه ذكر فيه وجه قول كل منهما فوجه قول محمد أن المسمى
____________________
(6/192)
مجهول إذا لم يدر أي نوع من الحطب يصيبان وهل يصيبان شيئا أولا والرضا بالمجهول لغو فسقط اعتبار رضاه بالنصف للجهالة وصار مستوفيا منافعه بعقد فاسد فله أجر مثله بالغا ما بلغ وابو يوسف يقول بقول محمد فيما اذا لم يصيبا شيئا وفيما اذا أصابا أنه إن كان أجر مثله أكثر فهو قد رضي بما دونه من النصف وكونه مجهولا في الحال فهي حالة على شرف الزوال فإنه على عرض أن يصير معلوما عند الجمع والبيع بخلاف ما اذا لم يصيبا شيئا فإن المسمى لا يمكن اعتباره لجهالته بالتفاحش حالا ومآلا فحينئذ أجر المثل بالغا ما بلغ وقوله لا يجاوز به بفتح الواو على البناء للمفعول وقوله نصف ثمن ذلك بالرفع لأنه هو النائب عن الفاعل
فرع لهما كلب فأرسلاه فما أصاب بينهما ولو كان لأحدهما وأرسلاه جميعا كان ما اصابه لمالكه قوله واذا اشتركا ولأحدهما بغل وللآخر راوية يستقي عليها الماء وما تحصل بينهما لم تصح الشركة اعلم أن الراوية في الأصل هو الجمل الذي يحمل عليه الماء سمي به لأنه يرويه ويقال رويت للقوم إذا سقيت لهم وكثر ذلك حتى قيل للمزادة وهي الجلود الثلاثة المصنوعة لنقل الماء فعلى الأول أن يكون لهذا جمل وللآخر بغل فاشتركا على أن كلا يؤجر ما لكل واحد فما رزقا فهو بينهما وذلك باطل لأن حاصل معنى هذا أن كلا قال لصاحبه بع منافع دابتك ليكون ثمنه بيننا ومنافع دابتي على أن ثمنه بيننا ولو صرحا بهذا كانت الشركة فاسدة ثم إن أجراهما بأجر معلوم صفقة واحدة في عمل معلوم قسم الأجر على مثل أجر البغل ومثل أجر الجمل لأن الشركة لما فسدت والإجارة صحيحة لانعقادها على منافع معلومة ببدل معلوم كان الأجر مقسوما بينهما كذلك كما يقسم الثمن على قيمة المبيعين المختلفين بخلاف مالو اشتركا على أن يتقبلا الحمولات المعلومة لأجرة معلومة ولم يؤاجر البغل والجمل كانت صحيحة لأنها شركة التقبل والأجر بينهما نصفان ولا يعتبر زيادة حمل الجمل على حمل البغل كما لا يعتبر في شركة التقبل زيادة عمل أحدهما كصباغين لأحدهما آلة الصبغ وللآخر بيت يعمل فيه اشتركا على تقبل الأعمال ليعملا بتلك الآلة في ذلك البيت وإن أجر البعير أو البغل بعينه كان كل الأجر لصاحبه لأنه هو العاقد فلو اعانه الآخر على التحميل والنقل كان له أجر مثله لا يجاوز نصف الاجر على قول أبي يوسف
____________________
(6/193)
وبالغا ما بلغ على قول محمد وكذا لو دفع دابته الى رجل ليؤاجرها وما أطعم الله تعالى بينهما نصفان كان الأجر كله لمالك الداية وكذا في السفينة والبيت لما بينا إذ تقديره أنه قال بع منافع دابتي ليكون الأجر بيننا ثم الأجر كله لصاحب الداية لأن العاقد عقد العقد على ملك صاحب الدابة بأمره وللعاقد أجر مثله لأنه لم يرض أن يعمل مجانا بخلاف ما لو دفع اليه دابة ليبيع عليها طعاما للمدفوع اليه على أن الربح بينهما نصفان فإن الشركة فاسدة والربح لصاحب الطعام ولصاحب الدابة أجر مثلها لأن العامل استوفى منافع الدابة بعقد فاسد فكان عليه أجر مثلها والربح للعامل وهو صاحب الطعام لأنه كسب ماله وعلى الثاني أن يكون لهذا بغل وللآخر مزادة فاشتركا على أن يستقيا الماء فيها على البغل فالشركة فاسدة وهو ظاهر قول الشافعي وبه قال أحمد والاجر كله للذي استقى وعليه أجر مثل المزادة إن كان صاحب البغل وأجر مثل البغل إن كان صاحب المزادة وجمع المزادة مزاد ومزايد أما فساد الشركة فلانعقادها على إحراز المباح وهو نقل الماء وأما وجوب الأجر فلأن المباح قد صار ملكا للمحرز وهو المستقي وقد استوفى منافع ملك الغير بعقد فاسد فيلزمه أجر المثل قوله وكل شركة فاسدة فالربح فيها على قدر رأس المال الخ كألف لأحدهما مع ألفين للآخر فالربح بينهما أثلاثا وإن كانا شرطا الربح بينهما نصفين بطل ذلك الشرط ولو كان لكل مثل ما للآخر وشرطا الربح أثلاثا بطل شرط التفاضل وانقسم نصفين بينهما لأن الربح في وجوده تابع للمال وإنما طاب على التفاضل بالتسمية في العقد وقد بطلت ببطلان العقد فيبقى الاستحقاق على قدر راس المال المولد له ونظيره البزر في المزارعة والريع الزيادة قوله وإذا مات أحد الشريكين أو ارتد ولحق بدار الحرب بطلت الشركة مفاوضة كانت أو عنانا إذا قضى بلحاقه على البتات حتى لو عاد مسلما لم يكن بينهما شركة وإن لم يقض القاضي بلحاقه انقطعت على سبيل التوقف بالإجماع فإن عاد مسلما قبل أن يحكم بلحاقه فهما على الشركة وإن مات أو قتل انقطعت ولو لم يلحق بدار الحرب انقطعت المفاوضة على سبيل التوقف فإن لم يقض القاضي بالبطلان حتى أسلم عادت المفاوضة وإن مات بطلت من وقت الردة وإذا انقطعت المفاوضة على سبيل التوقف هل تصير عنانا عند أبي حنيفة رحمه الله لا وعندهما تبقى عنانا ذكره الولوالجي وإنما بطلت الشركة بالموت لأنها تتضمن الوكالة أي مشروط ابتداؤها وبقاؤها بها ضرورة فإنها لا يتحقق ابتداؤها إلا بولاية التصرف لكل منهما في مال الآخر ولا تبقى الولاية إلا ببقاء الوكالة ولهذا التقرير اندفع السؤال القائل الوكالة تثبت تبعا ولا يلزم من بطلان التبع بطلان الأصل وبطلانها بالالتحاق لأنه موت حكمي على ما بيناه من قبل في باب أحكام المرتدين ولا فرق في ثبوت البطلان بين ما اذا علم الشريك
____________________
(6/194)
بموت شريكه وعدم علمه بذلك حتى لا تنفذ تصرفات الآخر على الشركة لأنه عزل حكمي فإن ملكه يتحول شرعا الى وارثه علم موته أو لا فلا يمكن توقفه وقد نفذه الشرع حيث نقل الملك بخلاف ما اذا فسخ أحد الشريكين الشركة ومالها دراهم أو دنانير حيث يتوقف على علم الآخر لأنه عزل قصدي لأنه نوع حجر فيشترط علمه دفعا للضر عنه وتقييده بما اذا كان مال الشركة دراهم أو دنانير لأنه لو كان عروضا فلا رواية في ذلك عن أصحابنا وإنما الرواية في المضاربة وهي أن رب المال اذا نهى المضارب عن التصرف فإن كان مال المضاربة دراهم أو دنانير صح نهيه غير أنه يصرف الدراهم بالدنانير إن كان رأس مال الشركة دنانير وعكسه فقط وإن كان عروضا لم يصح فجعل الطحاوي الشركة كالمضاربة فقال لا تنفسخ وبعض المشايخ قالوا تنفسخ الشركة وإن كان المال عروضا وهو المختار وفرقوا بين الشركة والمضاربة بأن مال الشركة في أيديهما معا وولاية التصرف اليهما جميعا فيملك كل نهي صاحبه عن التصرف في ماله نقدا كان أوعرضا بخلاف مال المضاربة فإنه بعد ما صار عرضا ثبت حق المضارب فيه لاستحقاقه ربحه وهو المنفرد بالتصرف فلا يملك رب المال نهيه
فروع إنكار الشركة فسخ وقوله لا أعمل فسخ حتى لو عمل الآخر كان ضامنا لقيمة نصيب شريكه وفي الخلاصة قال أحد الشريكين لصاحبه أنا أريد أن اشتري هذه الجارية لنفسي فسكت فاشتراها لا تكون له ولو قال الوكيل ذلك فسكت الموكل فاشتراها تكون له ثم فرق فقال إن الوكيل يملك عزل نفسه إذا علم الموكل رضي أم سخط بخلاف الشريك فإن أحد الشريكين لا يملك فسخ الشركة إلا برضا صاحبه اه وهذا غلط وقد صحح هو انفراد الشريك بالفسخ والمال عروض والتعليل الصحيح ما ذكر في التجنيس فإن أحد المتفاوضين لا يملك تغيير موجبها إلا برضا صاحبه وفي الرضا احتمال يعني اذا كان ساكتا والمراد بموجبها وقوع المشتري على الاختصاص ولا يشكل على هذا ما ذكر في الخلاصة في ثلاثة اشتركوا شركة صحيحة على قدر رؤوس أموالهم فخرج واحد الى ناحية من النواحي لشركتهم فشارك الحاضران آخر على أن ثلث الربح له والثلثين بينهم أثلاثا ثلثاه للحاضرين وثلثه للغائب فعمل المدفوع اليه بذلك المال
____________________
(6/195)
سنين مع الحاضرين ثم جاء الغائب فلم يتكلم بشيء فاقتسموا ولم يزل يعمل معهم هذا الرابع حتى خسر المال أو استهلكه فأراد الغائب أن يضمن شريكيه لا ضمان عليهما وعمله بعد ذلك رضا بالشركة لأن هذا أخص من السكوت الثابت لما فيه من زيادة العمل فصل
لما كانت أحكام هذا الفصل بعيدة عن الشركة إذ ليست من أمور التجارة والاسترباح أفدرها بفصل وأخره قوله وإذا أذن كان أن يؤدي زكاة أمواله إذا حال الحول فحال فأدى وقد أدى الآذن المالك ضمن لشريكه ما أداه علم بالأداء أو لم يعلم عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لا يضمن مالم يعلم بأدائه هكذا ذكر في كتاب الزكاة من المبسوط ونقل الولوالجي أن في بعض المواضع لا يضمن عندهما وإن علم بأداء المالك ونص في زيادات العتابي أن عندهما لا يضمن علم بأدائه أو لم يعلم قال وهو الصحيح عندهما وعلى هذا الخلاف لو دفع مالا الى رجل ليكفر عنه فكفر الآمر بنفسه ثم كفر المأمور وعلى هذا المأمور بأداء الزكاة وهذا الخلاف فيما اذا أديا على التعاقب فإن أديا معا ضمن كل نصيب الآخر عند أبي حنيفة وعندهما لا يضمن ذكره في المبسوط وزيادات العتابي وعلل فيما نقل عن المبسوط بأن زكاة كل منهما تقع بما أداه بنفسه واداؤه بنفسه يوجب عزل الوكيل ولا يخفى أنه لا يفيد لأنه بعد تسليم أن أداءه يتضمن عزل الوكيل وهو لا ينعزل إلا بعد العلم والكلام فيه وجه قولهما في خلافية الكتاب أنه أداه بالأمر ولا ضمان مع الأمر ولا يقال إنما أمره بأداء ما هو زكاة لأنا نقول ليس هذا من وسع الوكيل لأن وقوعه زكاة يتعلق بأمر من جهة
____________________
(6/196)
الموكل كنيته وإنما يلزمه ما في وسعه وليس في وسعه إلا الأداء ولهذا لو دفع الى رجل ليقضي بها دينا عليه ثم أدى الدافع الدين لا يضمن إذا دفع ولم يعلم وصار أيضا كدم الإحصار إذا ذبح المأمور بعد زوال الإحصار ولأبي حنيفة أنه مأمور بأداء الزكاة والمؤدي بعد أدائه لم يقع زكاة فصار مخالفا وهذا لأن الظاهر أن لا يلتزم الضرر بتنقيص المال إلا لدفع الضرر الديني وقد خلا أداؤه عن ذلك فصار بأدائه معزولا علم أو لم يعلم لأنه عزل حكمي لا يتوقف على العلم بالعزل بالموت كما ذكرنا آنفا وأما ما التزمتم به من المسألتين فقيل يمنع تسليم أبي حنيفة الجواب فيهما وقيل بل هو على الاتفاق والفرق أن الدم ليس بواجب على الآمر المحصر لأنه يمكنه أن يصير حتى يزول الإحصار أدرك الحج أو لم يدركه ويفعل أفعال فائت الحج وفي مسألتنا الأداء واجب فاعتبر الإسقاط مقصودا فيه وأما مسألة الدين فالفرق أنه أمره بدفع مضمون على الآخذ وذلك ثابت
____________________
(6/197)
وإن كان الآخذ دائنه وهذا لأن عين الدين لا يمكن دفعه بل دفع مال مضمون على القابض ثم يصر الضمان بالضمان قصاصا وقد وقع ولم يفت لإمكان الرجوع عليه بعد العلم بالقضاء ولا يخفى أنه لم يقع الجواب عن قولهما ليس في وسعه إيقاعه زكاة فكان المأمور به دفعه الى المصرف وقد وجد وكونه عزلا حكميا لهما أن يمنعاه لأنه موقوف على كون الأمر صح بدفعه مقيدا بوقوعه زكاة وهو ممنوع وقد قيل إنه لما أمره بأداء الزكاة كان ناويا لها فلو بادر الى الأداء وقع المأمور به فلما أخر حتى أدى الآمر كان بتأخيره متسببا لوقوعها غير زكاة ولا يخفى ما فيه قوله وإذا أذن أحد المتفاوضين للآخر أن يشتري جارية ويطأها ففعل وأدى جميع ثمنها من مال الشركة فهي له بغير شيء عند أبي حنيفة وقالا يرجع عليه شريكه بنصف ما أدى لأنه أدى دينا عليه من مال الشركة لأن الملك فيها له خاصة كطعام أهله وله أن الجارية دخلت في الشراء على الشركة جريا على موجب المفاوضة إذ لا يملكان تغييره فكان كحال عدم الاذن ثم الاذن له بالوطء يتضمن هبة نصيبه منه إذ لا يحل إلا في ملك ولا يمكن إثباته بالبيع الصادر من البائع لأحد الشريكين لما بينا من عدم ملكهما
____________________
(6/198)
تغير مقتضى العقد ولا من الشريك لعدم تعيين الثمن فكان هبة وإن كان شائعا واستشكل بأنه لو ثبت الملك حكما للإحلال لكان قول الرجل للرجل أحللت لك وطء هذه الأمة تمليكا لها منه وهو منتف وأجيب بالفرق بأن الجارية المشتركة أقبل لتملك الشريك لها من الجارية التي لا يملك المخاطب بالإحلال شقصا منها ولذا كان أحد الشريكين يملكها بالاستيلاد دون الاجنبي فأما من له حق التملك كالأب والجد فالرواية غير محفوظة في تملك الجارية بالإحلال = كتاب الوقف
مناسبته بالشركة أن كلا منهما يراد لاستبقاء الأصل مع الانتفاع بالزيادة عليه إلا أن الأصل في الشركة
____________________
(6/199)
مستبقى في ملك الإنسان وفي الوقف مخرج عنه عند الأكثر ومحاسن الوقف ظاهرة وهي الانتفاع الدار الباقي على طبقات المحبوبين من الذرية والمحتاجين من الأحياء والموتى لما فيه من إدامة العمل الصالح كما في الحديث المعروف اذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث صدقة جارية الحديث ثم يحتاج الى تفسيره لغة وشرعا وبيان سببه وشرطه وركنه وحكمه أما تفسيره لغة فالحبس مصدر وقفت أقف حبست قال عنترة ** ووقفت فيها ناقتي فكأنها ** فدن لأقضى حاجه المتلوم ** وهو أحد ما جاء على فعلته ففعل يتعدى ولا يتعدى ويجتمعان في قولك وقفت زيدا أو الحمار فوقف وأما أوقفته بالهمز فلغة رديئة وقال أبو الفتح ابن جني أخبرني أبو علي الفارسي عن أبي بكر عن أبي العباس عن أبي عثمان المازني قال يقال وقفت داري وارضي ولا يعرف أوقفت من كلام العرب ثم اشتهر المصدر أعني الوقف في الموقوف فقيل هذه الدار وقف فلذا جمع على أفعال فقيل وقف وأوقف كوقت وأوقات وأما شرعا فحبس العين على ملك الواقف والتصدق بمنفعتها أو صرف منفعتها على من أحب وعندهما حبسها لا على ملك أحد غير الله تعالى الخ وقد انتظم هذا بيان حكمه وسيأتي تمامه فلا حاجة لإفراده هنا أيضا وإنما قلنا أو صرف منفعتها لأن الوقف يصح لمن يحب من الأغنياء بلا قصد القربة وهو وإن كان لا بد في آخره من القربة بشرط التأبيد وهو بذلك كالفقراء ومصالح المسجد لكنه يكول وقفا قبل انقراض الأغنياء بلا تصدق وسببه إرادة محبوب النفس في الدنيا بين الأحياء وفي الآخرة بالتقرب الى رب الأرباب جل وعز وأما شرطه فهو الشرط في سائر التبرعات من كونه حرا بالغا عاقلا وأن يكون منجزا غير معلق فلو قال إن قدم ولدي فداري صدقة موقوفة على المساكين فجاء ولده لا يصير وقفا وأما الإسلام فليس بشرط فلو وقف الذمي على ولده ونسله وجعل آخره للمساكين جاز ويجوز أن يعطي لمساكين المسلمين وأهل الذمة وإن خص في وقفه مساكين أهل الذمة جاز ويفرق على اليهود والنصارى والمجوس منهم إلا أن خص صنفا منهم فلو دفع القيم الى غيرهم كان ضامنا وإن قلنا إن الكفر كله ملة واحدة ولو وقف على ولده ونسله ثم للفقراء على أن من أسلم من ولده فهو خارج من الصدقة لزم شرطه وكذا إن قال من انتقل الى غير النصرانية خرج اعتبر نص على ذلك الخصاف ولا نعلم أحدا من أهل المذهب تعقبه غير متأخر يسمى الطرطوسي شنع بأنه جعل الكفر سبب الاستحقاق والإسلام سبب للحرمان وهذا للبعد من الفقه فإن شرائط الواقف معتبرة إذا لم تخالف الشرع والواقف مالك له أن يجعل ماله حيث شاء مالم يكن معصية وله أن يخص صنفا من الفقراء دون صنف وإن كان الوضع في كلهم قربة ولا شك أن التصدق على أهل الذمة قربة حتى جاز أن تدفع اليهم صدقة الفطر والكفارات عندنا فكيف لا يعتبر شرطه في صنف دون صنف من الفقراء أرأيت لو وقف على فقراء أهل الذمة ولم يذكر غيرهم أليس يحرم منه فقراء المسلمين ولو دفع المتولي الى المسلمين كان ضامنا فهذا مثله والإسلام ليس سببا للحرمان بل الحرمان لعدم تحقق سبب تملكه هذا المال والسبب هو إعطاء الواقف المالك وشرط صحة وقفه أن يكون قربة عندنا وعندهم فلو وقف على بيعة مثلا فإذا خربت يكون للفقراء كان ابتداء ولو لم يجعل آخره للفقراء كان ميراثا عنه
____________________
(6/200)
نص عليه الخصاف في وقفه ولم يحك خلافا ومعلوم أن خلاف أبي حنيفة في الوصية فإنه إنما شرط أن يكون قربة عندهم فقال صاحب المحيط الوقف كالوصية ولو أنكر فشهد عليه ذميان عدلان في ملتهم قضى عليه بالوقف ولو وقف على أن يحج به أو يعتمر لم يجز لأنه ليس قربة عندهم بخلاف ما لو وقف على مسجد بيت المقدس فإنه يجوز لأنه قربة عندنا وعندهم وأما المرتد اذا وقف حال ردته ففي قول أبي حنيفة هو موقوف إن قتل على ردته أو مات بطل وقفه وقول محمد اذا انتحل دينا جاز منه ما نجيزه لأهل ذلك الدين أما المرتدة فأبو حنيفة يجيز وقفها لأنها لا تقتل وأما المسلم اذا وقف وقفا صحيحا في أي وجه كان ثم ارتد يبطل الوقف ويصير ميراثا سواء قتل على ردته أو مات أو عاد الى الإسلام إلا أن أعاد الوقف بعد عوده الى الاسلام وحكى الخصاف في وقف المرتدين خلافا بين أصحابنا مبنيا على الخلاف في الذمي يتزندق يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا قال بعضهم أقره على ما اختاره وأقر الجزية عليه لأني إن أخذته بالرجوع فإنما أرده من كفر الى كفر ولا أرى ذلك وقال بعضهم لا أقره على الزندقة وأما الصابئة فإن كانوا دهرية يقولون ما يهلكنا الا الدهر فهم صنف من الزنادقة وإن كانوا يقولون بقول أهل الكتاب صح من وقوفهم ما يصح من أهل الذمة وجميع أهل الأهواء بعد كونهم من أهل القبلة حكم وقفهم ووصاياهم حكم أهل الاسلام ألا ترى الى قبول شهاداتهم على المسلمين فهذا حكم بإسلامهم وأما الخطابية فإنما لم يقبلوا لأنه قيل إنهم يشهد بعضهم لبعض بالزور على من خالفهم وقيل لأنهم يتدينون صدق المدعي إذا حلف أنه محق ومن الشروط الملك وقت الوقف حتى لو غصب أرضا فوقفها ثم اشتراها من مالكها ودفع ثمنا اليه أو صالح على مال دفعه اليه لا تكون وقفا لأنه إنما ملكها بعد أن وقفها هذا على أنه هو الواقف أما لو وقف ضيعة غيره على جهات فبلغ الغير فأجازه جاز بشرط الحكم والتسليم أو عدمه على الخلاف الذي سنذكره وهذا هو المراد بجواز وقف الفضولي وستأتيك فروع آخر مبنية على هذا الشرط ومن شرطه أن لا يكون محجورا عليه حتى لو حجر القاضي عليه لسفه أو دين فوقف أرضا له لا يجوز لأن حجره عليه كي لا يخرج ماله عن ملكه ليضر بأرباب الديون أو بنفسه كذا أطلقها الخصاف وينبغي أنه إذا وقفها في الحجر للسفه على نفسه ثم لجهة لا تنقطع أن يصح على قول أبي يوسف وهو الصحيح عند المحققين وعند الكل اذا حكم به حاكم هذا وأما عدم تعلق حق الغير كالرهن والإجارة فليس بشرط فلو أجر أرضا عامين فوقفها قبل مضيها لزم الوقف بشرطه فلا يبطل عقد الإجارة فإذا انقضت المدة رجعت الأرض الى ما جعلها له من الجهات وكذا لو رهن أرضه ثم وقفها قبل أن يفتكها لزم الوقف ولا تخرج عن الرهن بذلك ولو اقامت سنين في يد المرتهن
____________________
(6/201)
فافتكها تعود الى الجهة فلو مات قبل الافتكاك وترك قدر ما يفتك ولزم الوقف وإن لم يترك وفاء بيعت وبطل الوقت وفي الإجارة إذا مات أحد المتآجرين تبطل وتصير وقفا وأما شرطه الخاص لخروجه عن الملك عند أبي حنيفة الإضافة الى ما بعد الموت وهو الوصية به أو أن يلحقه حكم به وعند أبي يوسف لا يشترط سوى كون المحل قابلا له من كونه عقارا أو دارا وعند محمد ذلك مع كونه مؤبدا مقسوما غير مشاع فيما يحتمل القسمة ومسلما الى متول وأما ركنه فالألفاظ الخاصة كأن يقول أرضى هذه صدقة موقوفة مؤبدة على المساكين ولا خلاف في ثبوته بهذا اللفظ بعد شروطه ولا بأس أن نسوق شيئا من الألفاظ أرضى هذه صدقة أو قال تصدقت بأرضي هذه على المساكين لا تكون وقفا بل نذرا يوجب التصدق بعينها أو بقيمتها فإن فعل خرج عن عهدة النذر وإلا ورثت عنه كمن عليه زكاة أو كفارة فمات بلا إيصاء تورث عنه وموقوفة فقط لا تصح الا عند أبي يوسف فإنه يجعله بمجرد هذا اللفظ وقفا على الفقراء وهو قول عثمان البتي وإذا كان مفيدا لخصوص المصرف أعني الفقراء لزم كونه مؤبدا لأن جهة الفقراء لا تنقطع قال الصدر الشهيد ومشايخ بلخ يفتون بقول أبي يوسف ونحن نفتي بقوله أيضا لمكان العرف وبهذا يندفع رد هلال قول أبي يوسف بأن الوقف يكون على الغني والفقير ولم يبين فبطل لأن العرف إذا كان يصرفه للفقراء كان كالتنصيص عليهم فلو قال موقوفة على الفقراء صح عند هلال أيضا لزوال الاحتمال بالتنصيص على الفقراء بخلاف قوله محبوسة أو حبس ولو كان في حبس مثل هذا العرف يجب أن يكون كقوله موقوفة وكذا اذا قال للسبيل اذا تعارفوه وقفا مؤبدا على الفقراء كان كذلك وإلا سئل فإن قال أردت الوقف صار وقفا لأنه محتمل لفظه أو قال أردت معنى صدقة فهو نذر فيتصدق بها أو بثمنها وإن لم ينو كانت ميراثا ذكره في النوازل وقال في قوله جعلتها للفقراء إن تعارفوه وقفا عمل به وإلا سئل فإن أراد الوقف فهي وقف أو الصدقة فهو نذر وكذا عند عدم النية لأنه أدنى فإثباته به عند الاحتمال أولى واعترضه في فتاوي الخاصي بأنه لا فرق بينهما وذكر في إحداهما إذا لم تكن له نية يكون ميراثا ولا يخفى أن كونه ميراثا لا ينافي كونه نذرا لأن المنذور به اذا مات الناذر ولم يوف بنذره يكون ميراثا إلا أنه اقتصر على تمام التفصيل في إحداهما وإلا فلا شك أن في كل منهما إذا لم تكن له نية يكون نذرا فإن مات ولم يتصدق به ولا بقيمته يكون ميراثا ولو قال صدقة موقوفة فهلال وأبو يوسف وغيرهما على صحته لأنه لما ذكر صدقة عرف مصرفه وانتفى بقوله موقوفة احتمال كونه نذرا وكذلك حبس صدقة وكذلك صدقة محرمة قيل ومحرمة بمنزلة وقف وهي معروفة عند أهل الحجاز بخلاف مالو قال حبس أو محبوسة موقوفة لأنه بمعنى موقوفة فكان كإفراد لفظ موقوفة وفي النوازل لو قال جعلت نزل كرمي وقفا وفيه ثمر أو لا يصير الكرم وقفا وكذا لو قال جعلت غلته وقفا تصحيحا للكلام ما أمكن كأنه قال جعلت كرمي بما فيه وقفا وينبغي أن لا تدخل الثمار لما سنذكره ولو زاد فقال صدقة موقوفة على الفقراء ينبغي أن لا يختلف فيه كما لو قال مع
____________________
(6/202)
ذلك مؤبدا وهو موضع اتفاق مجيزي الوقف على أنها العبارة الوافية إلا أن قوله في الأسرار ولو لم يقل مؤبدا كان وقفا على قول عامة من يجيز الوقف يفيد أن فيه خلافا ولا ينبغي فإن التأبيد أن يجعله في أول الأمر أو آخره لجهة لا تنقطع وجعله للفقراء يفيد ذلك وقوله موقوفة لله تعال بمنزلة صدقة موقوفة قوله قال أبو حنيفة رحمه الله لا يزول ملك الواقف عن الوقف إلا أن يحكم به حاكم أي بخروجه عن ملكه أو يعلقه أي يعلق الوقف بموته فيقول إذا مت فقد وقفت داري على كذا وقال أبو يوسف يزول بمجرد القول الذي قدمنا صحة الوقف به وقال محمد لا يزول حتى يجعل للوقف متوليا ويسلمه اليه بعد ذلك القول وبه أخذ مشايخ بخارى وإذا لم يزل عند أبي حنيفة قبل الحكم يكون موجب القول المذكور حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة وحقيقته ليس إلا بالتصدق بالمنفعة ولفظ حبس الى آخره لا معنى له لا أن له بيعه متى شاء وملكه مستمر فيه كما لو لم يتصدق بمنفعته فلم يحدث الواقف إلا مشيئة التصدق بمنفعته وله أن يترك ذلك متى شاء وهذا القدر كان ثابتا له قبل الوقف بلا ذكر لفظ الوقف فلم يفد لفظ الوقف شيئا وهذا معنى ما ذكر في المبسوط من قوله كان أبو حنيفة لا يجيز الوقف وهو ما أراد المصنف بقوله وهو الملفوظ في الأصل يعني المبسوط وحينئذ فقول من أخذ بظاهر هذا اللفظ فقال الوقف عند أبي حنيفة لا يجوز صحيح لأنه ظهر أنه لم يثبت به قبل الحكم حكم لم يكن وإذا لم يكن له أثر زائد على ما كان قبله كان كالمعدوم والجواز والنفاذ والصحة فرع اعتبار الوجود ومعلوم أن قوله لا يجوز ولا يجيز ليس المراد التلفظ بلفظ الوقف بلا لا يجيز الأحكام التي ذكر غيره أنها أحكام ذكر الوقف فلا خلاف اذن فأبو حنيفة لا يجيز الوقف أي لا تثبت الأحكام التي ذكرت له إلا أن يحكم بها حاكم وقوله بمنزلة العارية لأنه ليس حقيقة العارية لأنه إن لم يسلمه الى غيره فظاهر وإن أخرجه الى غيره فذلك الغير ليس هو المستوفي لمنافعه
فرع يثبت الوقف بالضرورة وصورته أن يوصي بغلة هذه الدار للمساكين أبدا أو لفلان وبعده للمساكين أبدا فإن هذه الدار تصير وقفا بالضرورة والوجه أنها كقوله اذا مت فقد وقفت داري على كذا قال المصنف وعندهما حبس العين على حكم ملك الله تعالى فيزول ملك الواقف عنها الى الله تعالى على وجه
____________________
(6/203)
تعود منفعته الى العباد ولا يخفى أنه لا حاجة الى سوى قولنا يزول ملكه على وجه يحبس على منفعة العباد لأن ملك الله في الأشياء لم يزل قط ولا يزال فالعبارة الجيدة قول قاضيخان إلا أن عند أبي يوسف ومحمد اذا صح الوقف يزول ملك الواقف لا الى مالك فيلزم ولا يملك وهذا هو الأصح عند الشافعي واحمد وقال بعضهم وللشافعي قول وهو رواية عن احمد ينتقل الى ملك الموقوف عليه إن كان أهلا للملك لامتناع السائبة وعند مالك هو حبس العين على ملك الواقف فلا يزول عنه ملكه لكن لا يباع ولا يورث ولا يوهب وذكر بعض الشافعية أن هذا قول آخر للشافعي واحمد لأنه صلى الله عليه وسلم قال حبس الأصل وسبل الثمرة اه وهذا أحسن الأقوال فإن خلاف الأصل والقياس ثابت في كل من القولين وهو خروجه لا الى مالك وثبوت ملكه أو ملك غيره فيه مع منعه من بيعه وهبته وكل منهما له نظير في الشرع فمن الأول المسجد وغيره ومن الثاني أم الولد يكون الملك فيها باقيا ولا تباع ولا توهب ولا تورث وكذا المدبر المطلق عندنا فكل منهما يمكن أن يقع بالدليل ولا شك أن ملك الواقف كان متيقنا الثبوت والمعلوم بالوقف من شرطه عدم البيع ونحوه فليثبت ذلك القدر فقط ويبقي الباقي على ما كان حتى يتحقق المزيل ولم يتحقق فإن الذي في الحديث في بعض الروايات تصدق بأصله مع أنه ليس على ظاهره وإلا لخرج الى مالك آخر ثم رأينا غيره بينة بقوله إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها أي بالثمرة او الغلة وظاهره حبسها على ما كان فلم يخلص دليل يوجب الخروج عن الملك وكذا المعنى الذي استدل به المصنف وهو قوله ولأن الحاجة ماسة الى أن يلزم الوقف يفيد لزومه لا غير والحاصل أنه ثبت قوله صلى الله عليه وسلم لعمر تصدق وقوله حبس والمفهومان مختلفان لأن معنى تصدق بأصلها ملكه الفقير لله سبحانه ومعنى حبس احبسه أي على ما كان ولا يمكن أن يراد بهما إلا معنى أحدهما وإلا كان صلى الله عليه وسلم مجيبا لعمر رضي الله عنه في حادثة واحدة بأمرين متنافيين فإما أن يحمل حبس على معنى تصدق والاتفاق على نفيه إذ لا يقول واحد من الثلاثة بملك الفقير للعين فوجب أن يحمل تصدق على معنى حبس وهو قول أبي حنيفة رحمه الله فيحبس على الملك شرعا وإذا حبس عليه شرعا امتنع بيعه وصورة حكم الحاكم الذي به يزول الملك عنده أن يسلمه الى متول ثم يظهر الرجوع فيخاصمه الى القاضي فيقضي القاضي بلزومه قالوا فإن خاف الواقف أن يبيعه قاض قبل أن يحكم به يكتب في صك الوقف فإن أبطله أو غيره قاض فهذه الأرض بأصلها وجميع ما فيها وصية من فلان الواقف تباع ويتصدق بثمنها لأنه اذا كتب هذا لا يخاصم أحد في إبطاله لعدم الفائدة له في ذلك والوصية تحتمل التعليق بالشرط وإذا أبطله قاض يصير وصية يعتبر من جميع ماله كذا في فتاوي قاضيخان وينبغي أن يكون هذا اذا وقف في صحته أما اذا كان وقف في مرضه فينبغي أن يعتبر من الثلث وعلى هذا التقدير فقد يكون في نقضه وبيعه فائدة للورثة فمحمل ما ذكر اذا لم يكن وقف في المرض أو كان فيه لكنه يخرج من الثلث قوله واللفظ ينتظمهما أي لفظ الوقف يصدق مع كل من زوال
____________________
(6/204)
الملك وعدمه إذ ليس من مقتضيات لفظ وقفت داري أو حبستها خروجها عن الملك فيصدق مع كل منهما فالترجيح أي ترجيح الخروج وعدمه بالدليل ولا يخفى أن الأدلة المذكورة من قبلهما إنما تفيد اللزوم لا الخروج عن الملك ومن قبله تفيد نفي كل منهما فلا دليل من الجانبين يفيد تمام المطلوب ثم ابتدأ بدليلهما فذكر حديث ثمغ وهو بالثاء المثلثة المفتوحة بعدها ميم ساكنة ثم غين معجمة وذكر الشيخ حافظ الدين أنه بلا تنوين للعلمية والتأنيث وفي غاية البيان أنها في كتب غرائب الحديث المصححة عند الثقات منونا وغير منون كما في دعد قال محمد بن الحسن في الأصل أخبرنا صخر بن جويرية عن مولى عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب كانت له أرض تدعى ثمغ وقال كان نخلا نفيسا قال فقال يا رسول الله إني استفدت مالا هو عندي نفيس أفأتصدق به قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولكن تنفق ثمرته قال فتصدق به عمر في سبيل الله وفي الرقاب وللضيف والمساكين ولابن السبيل ولذي القربى لا جناح على من وليه أن يأكل بالمعروف أو يؤكل صديقا غير متمول فيه وحديث عمر هذا في الصحيحين وباقي الكتب الستة عن ابن عمر قال أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أصبت أرضا لم اصب مالا قط أنفس منه فكيف تأمرني به قال إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها فتصدق بها عمر لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف الحديث وفي بعض طرق البخاري فقال عليه الصلاة والسلام تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولكن تنفق ثمرته ثم استدل بالمعنى وهو قوله ولأن الحاجة ماسة الى أن يلزم الوقف لحاجته الى أن يصل ثوابه اليه على الدوام وقد أشار الشرع الى أعمال ما يدفع هذه الحاجة فيما روى الترمذي بسنده الى أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له ولا طريق الى تحقق دفع هذه الحاجة وإثبات هذه الصدقة الجارية إلا لزومه وتقرير المصنف بأنه تحققت حاجة استمرار وصول ثوابه ويمكن بإسقاط ملكه فيسقط ظاهر المنع اذ لم يتعين لذلك سقوط الملك طريقا بل يتحقق بالحكم بلزومه فلم يلزم زوال الملك من هذا المعنى فلا يقدح فيما رجحناه من الأقوال فيما مضى ثم على تقريرنا يحصل مطلوبهما لأنه إذا تمت الدلالة على لزومه خرج عن ملكه بموافقتنا لهما على ذلك لاعتقاد الأئمة الثلاثة رحمهم الله التلازم بين اللزوم والخروج عن ملكه وقوله كالمسجد نظير ما خرج عن الملك بالإجماع لا الى مالك وكذا
____________________
(6/205)
الإعتاق وسيجيب بالفرق بين المسجد والعتق ومطلق الوقف قوله وله أبي لأبي حنيفة رحمه الله قوله صلى الله عليه وسلم لا حبس عن فرائض الله أسند الطحاوي في شرح معاني الآثار الى عكرمة عن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أنزلت سورة النساء وأنزل فيها الفرائض نهى عن الحبس وروى هذا الحديث الدارقطني وفيه عبد الله بن لهيعة عن أخيه وضعفوهما ورواه ابن أبي شيبة موقوفا على علي حدثنا هشيم عن اسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال قال علي رضي الله عنه لا حبس عن فرائض الله إلا ما كان من سلاح أو كراع وينبغي أن يكون لهذا الموقوف حكم المرفوع لأنه بعد أن علم ثبوت الوقف ولهذا استثنى الكراع والسلاح لا يقال إلا سماعا وإلا فلا يحل والشعبي أدرك عليا وروايته عنه في البخاري ثابتة وأما حديث شريح فرواه ابن أبي شيبة في البيوع حدثنا وكيع وابن أبي زائدة عن مسعر عن ابن عون عن شريح قال جاء محمد صلى الله عليه وسلم بيع الحبيس وأخرجه البيهقي وشريح من كبار التابعين وقد رفع الحديث هو حديث مرسل يحتج به من يحتج بالمرسل قوله ولأن الملك الخ ظاهر مصادرة لجعله الدعوى جزء الدليل والأولى أنه إنما ذكره ليصل الدليل بالدعوى وتقريره أن حقوق العباد لم تنقطع عنه حتى جاز الانتفاع به زراعة وسكنى لغير الواقف وتعلق حقوق العباد بالعين إثر ثبوت ملكهم فيها على ما هو الأصل فإما أن يكون ذلك الملك لغير الواقف أوله واتفقنا على أنه لا يكون ملكا لغيره من العباد فوجب أن يكون ملكا للواقف وكذا الاستيضاح بنصب القوام وصرف غلاته بحسب الأصل يكون عن ملكه للعين إلا ان يوجب موجب لا مرد له خروجه عن
____________________
(6/206)
ملكه وأن تصرفه بولاية غير الملك ولم يثبت ذلك ثم شرع في الفرق وحاصله أن المسجد جعل لله تعالى على الخلوص محررا عن أن يملك العباد فيه شيئا غير العبادة فيه وما كان كذلك خرج عن ملك الخلق أجمعين أصله الكعبة والوقف غير المسجد ليس كذلك بل ينتفع العباد بعينه زراعة وسكنى وغيرهما كما ينتفع بالمملوكات وما كان كذلك ليس كالمسجد فيلحق بالكعبة كما ألحق المسجد بها وأيضا قضية كون الحاصل منه صدقة دائمة عن الواقف أن يكون ملكه باقيا إذ لا تصدق بلا ملك فاقتضى قيام الملك فأما الإعتاق فإتلاف للمملوك بالكلية وليس الوقف كذلك وجواب شمس الأئمة أن الآدمي خلق مالكا غير مملوك وإنما عرض فيه المملوكية وبالاعتاق يعود الى ما كان بخلاف ما سواه لأنها خلقت لتتملك فبالوقف لا تعود الى أصل هو عدم المملوكية وبالاعتاق يعود الى ما كان بخلاف ما سواه لأنها خلقت لتتملك فبالوقف لا تعود الى أصل هو عدم المملوكية بل الى الحس على ملكه والتصدق بالمنفعة وهذا حق ويؤيد ما اخترناه من عدم الخروج عن ملكه لكن أبا حنيفة يجعل عدم الخروج ملزوما لعدم لزومه صدقة أو برا وليس كذلك بل هما منفكان كما ذكرنا من أم الولد والمدبر والحق ترجح قول عامة العلماء بلزومه لأن الأحاديث والآثار متظافرة على ذلك قولا كما صح من قوله عليه الصلاة والسلام لا يباع ولا يورث الى آخره وتكرر هذا في أحاديث كثيرة واستمر عمل الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على ذلك أولها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صدقة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وعائشة وأسماء وأختها وأم سلمة وأم حبيبة وصفية بنت حيي وسعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر وأبي أروى الدوسي وعبد الله بن الزبير كل هؤلاء من الصحابة ثم التابعين بعدهم كلها بروايات وتوارت الناس أجمعون ذلك فلا تعارض بمثل الحديث الذي ذكره على أن معنى حديث شريح بيان نسخ ما كان في الجاهلية من الحامي ونحوه وبالجملة فلا يبعد أن يكون اجماع الصحابة العملي ومن بعدهم متوارثا على خلاف قوله فلذا ترجح خلافه وذكر بعض المشايخ أن الفتوى على قولهما قوله وأما تعليقه بالموت فالصحيح أنه لا يزول ملكه إلا أنه تصدق بمنافعه مؤبدا فيصير بمنزلة الوصية بالمنافع مؤبدا فيلزم وإن لم يخرج عن ملكه لأنه بمنزلته اذ لا يتصور التصرف فيه ببيع ونحوه لما يلزم من إبطال
____________________
(6/207)
الوصية وعلى هذا فله أن يرجع قبل موته كسائر الوصايا وإنما يلزم بعد موته وإنما كان هذا هو الصحيح لما يلزم على مقابله من جواز تعليق الوقف والوقف لا يقبل التعليق بالشرط ولذا لو قال إذا مت من مرضي هذا فقد وقفت أرضي الى آخره فمات لم تصر وقفا وله أن يبيعها قبل الموت بخلاف ما لو قال اذا مت فجعلوها وقفا فإنه يجوز لأنه تعليق التوكيل لا تعليق الوقف نفسه وهذا لأن الوقف بمنزلة تمليك الهبة من الموقوف عليه والتمليكات غير الوصية لا تتعلق بالخطر ونص محمد رحمه الله في السبر الكبير أن الوقف اذا أضيف الى ما بعد الموت يكون باطلا أيضا عند أبي حنيفة وعلى ما عرفت بأن صحته إذا أضيف الى ما بعد الموت يكون باعتباره وصية قالوا لو قال داري هذه موقوفة على مصالح مسجد كذا بعد موتي صح وله الرجوع لأن الوقف بعد الموت وصية والوصية يصح الرجوع عنها أما لو قال إن قدم ولدي فعلي أن أقف هذه الدار على ابن السبيل فقدم فهو نذر يجب الوفاء به فإن وقفه على ولده وغيره ممن لا يجوز دفع زكاته اليهم جاز في الحكم ونذره باق وإن وقفه على غيرهم سقط لأن غيرهم ليس بمنزلة نفسه وتعيين المعطى له النذر لغو فصار الثابت النذر بالوقف فجاز على كل من لبس كنفسه فإن قلت ينبغي أن لا يصح النذر بالوقف لأنه ليس من جنسه واجب قلت بل من جنسه واجب فإنه يجب أن يتخذ الامام للمسلمين مسجدا من بيت المال أو من مالهم إن لم يكن لهم بيت مال ولو قال إن شئت ثم قال شئت كان باطلا للتعليق أما لو قال شئت وجعلتها صدقة صح بهذا الكلام المتصل بخلاف ما لو قال إن كانت هذه الدار في ملكي فهي صدقة موقوفة فظهر أنها كانت في ملكه وقت التكلم فإنها تصير وقفا لأنه تعليق على أمر كائن والتعليق على أمر كائن تنجيز والمراد بالحاكم يعني في قوله أو يحكم به الحاكم القاضي وأما المحكم ففيه اختلاف المشايخ والصحيح أنه لا يرفع الخلاف فللقاضي أن يبطل الوقف بعد حكمه قوله ولو وقف في مرض الموت قال الطحاوي هو كالوصية بعد الموت حتى يلزم بعد الموت لأن تصرفات المريض مرض الموت في الحكم كالمضاف الى ما بعد الموت حتى يعتبر من ثلث ماله والصحيح أنه لا يلزم عند أبي حنيفة إلا أن يحكم به فله بيعه ويورث عنه اذا مات قبل الحكم إلا أن تجيز الورثة وعندهما يلزم إلا أنه من الثلث لتعلق حق الورثة بخلافه في الصحة وفي فتاوي قاضيخان مريض وقف وعليه ديون تحيط بماله يباع وينقض الوقف كما لو وقف دارا ثم جاء الشفيع كان له أن يأخذها بالشفعة وينقض الوقف انتهى من غير تقييد بكون ذلك قبل الحكم وهذا بخلاف مالو وقف المديون الصحيح وعليه ديون تحيط بماله فإن وقفه لا زم لا ينقضه أرباب الديون اذا كان قبل الحجر بالاتفاق لأنه لم يتعلق حقهم بالعين في حال صحته قوله واذا كان الملك يزول عندهما يزول بالقول عند أبي يوسف وهو قول الأئمة الثلاثة وقول أكثر أهل العلم
____________________
(6/208)
لأنه إسقاط الملك كالعتق وعند محمد لا بد لزواله من التسليم الى المتولي لأن للواقف أن يجعله لله فيصير حقا له وحقه إنما يثبت مسلما في ضمن التسليم للعبد وهذا لأن الوقف تمليك لله تعالى والتمليك منه وهو مالك لجميع الأشياء لا يتحقق مقصودا وقد يتحقق تبعا لغيره فيأخذ حكمه فينزل منزلة الزكاة والصدقة المنجزة ولا يخفى أن التمليك لله تعالى لا يتحقق لا مقصودا ولا تبعا لأنه تحصيل الحاصل المستمر ثم لا موجب لاعتباره حتى يحتاج الى تكلف توجيهه لأن غاية ما يوجبه الدليل إما خروج الملك عند الوقف لا الى أحد وتوجه الخطاب بصرف غلته الى من وقف عليه أو توجه الخطاب بذلك مع بقاء الملك فإذا فعل خرج من عهدة الواجب كما هو في سائر الواجبات المالية من غير زيادة تكلف اعتبار آخر نعم يمكن أن يلاحظ التسليم الى المستحق تسليما اليه تعالى كأنه تعالى جعله نائبه في قبض حقه وذلك بقبض المستحق لا المتولي كالزكاة ويمكن أن لا يلاحظ شيء من ذلك بل المقصود ليس الا فعل ما وجب بالوقف فلذا كان قول أبي يوسف أوجه عند المحققين وفي المنية الفتوى على قول أبي يوسف وهذا قول مشايخ بلخ وأما البخاريون فأخذوا بقول محمد رحمه الله كما تقدم وفي المبسوط وكان القاضي أبو عاصم يقول قول أبي يوسف من حيث المعنى أقوى إلا أنه قال وقول محمد أقرب الى موافقة الآثار يعني ما روى أن عمر جعل وقفه في يد حفصة وغير ذلك ورده في المبسوط بأنه لا يلزم كونه فعله ليتم الوقف بل لشغله وخوف التقصير في أمره وكذا جميع من ينصب المتولين لا يخطر له غير تفريغ نفسه من أمره وأما قول محمد رحمه الله لو تم قبل التسليم الى المتولي صارت يد الواقف مستحقة عليه والتبرع لا يصلح سببا للاستحقاق على المتبرع فجوابه منع ذلك بان التبرع بالسبب الموجب لخروج ما في يده يوجب عليه استحقاق يده كعتق العبد الكائن في يد سيده المعتق له والناذر بالعين الكائنة في يده هي وقيمتها يوجب عليه إخراج أحدهما من يده وهذه أمور شرعية لا عقلية ومما بنى على هذا الخلاف ما ذكر من أن الواقف اذا شرط الولاية في عزل القوام والاستبدال بهم لنفسه ولأولاده وأخرجه من يده وسلمه الى متول فهذا جائز نص عليه في السير الكبير لأن هذا شرط لا يخل بشرائط الوقف ولو لم يشرط ذلك لنفسه وأخرجه من يده الى قيم قال محمد لا ولاية له والولاية للقيم وكذا لو مات وله وصي فلا ولاية لوصيه والولاية للقيم ولو أراد الواقف أن يعزل القيم ويرده لنفسه أو يولي غيره ليس له ذلك وقال أبو يوسف الولاية للواقف وله ان يعزل القيم في حياته ويولي غيره أو يرد النظر الى نفسه واذا مات الواقف بطل ولاية القيم لأنه بمنزلة الوكيل عنده وهذا الخلاف بناء على أن عند محمد لا يصح الوقف الا بالتسليم الى القيم فلا يكون للواقف ولاية وعند أبي يوسف بدون التسليم الى القيم يتم الوقف فإذا سلم الى قيم كان وكيله وله أن يعزله وينعزل بموته إلا اذا جعله قيما في حياته وبعد موته وكذا يبتني عليه مالو قال هذه الشجرة للمسجد
____________________
(6/209)
لا تصير للمسجد حتى يسلمها الى قيم المسجد قوله واذا صح الوقف خرج عن ملك الواقف ولم يدخل في ملك الموقوف عليه وهذا مذهب عامة علماء الأمصار الا في قول عن الشافعي واحمد أنه يدخل في ملك الموقوف عليه اذا كان أهلا للملك إلا أنه لا يباع ولا يتملك والمختار الأول لأنه لو دخل في ملكه لم ينتقل عنه بشرط المالك الذي هو الواقف لأنه لا ملك له فيه لكنه ينتقل للإجماع على صحة قوله ثم من بعد فلان على كذا ثم قال المصنف
وقوله أي القدوري خرج عن ملك الواقف يجب أن يكون قولهما لأن الصحة غير اللزوم وهو لم يقل اذا لزم خرج عن ملك الواقف ليكون على قول الكل بل قال اذا صح وصحة العقد لا تستلزم اللزوم بل تختلف باختلاف أحكام العقود فقد يكون عقد حكمه اللزوم كالبيع والإجارة وقد يكون حكمه غير اللزوم كالعارية والظاهر أنه تجوز بالصحة عن اللزوم قوله وقف المشاع جائز عند أبي يوسف وعند محمد لا يجوز والخلاف مبني على
____________________
(6/210)
الخلاف في اشتراط تسليم الوقف فلما شرطه محمد قال بعدم صحة المشاع لأن القسمة من تمام القبض ولا بد من القبض فوجب وعند أبي يوسف لا يشترط قبض المتولي فلا يشترط ما هو من تمامه فمن أخذ بقول أبي يوسف في خروجه بمجرد اللفظ وهم مشايخ بلخ أخذ بقوله في هذه ومن أخذ بقول محمد في تلك وهم مشايخ بخارى أخذ بقوله في وقف المشاع وأما إلحاق محمد رحمه الله بالهبة والصدقة المنفذة أي المنجزة في الحال فإنها لا تكون مشاعا فكذا الصدقة المستمرة ففرق أبو يوسف بأن اشتراط القبض في تينك لما فيهما من التمليك للغير وأما الوقف فليس فيه تمليك من الغير حتى يشترط قبضه وإنما هو إسقاط الملك بلا تمليك فلا يرد العتق والطلاق فلا موجب لاشتراط القسمة فيه والحاصل أن المشاع إما أن يحتمل القسمة أو لا يحتملها ففيما يحتملها أجاز أبو يوسف وقفه الا المسجد والمقبرة والخان والسقاية ومنعه محمد رحمه الله مطلقا وفيما لا يحتملها اتفقوا على اجازة وقفه إلا المسجد والمقبرة فصار الاتفاق على عدم جعل المشاع مسجدا أو مقبرة مطلقا أي سواء كان مما يحتمل القسمة أو لا يحتملها والخلاف مبني على اشتراط القبض والتسليم وعدمه فلما لم يشترط أبو يوسف أجاز وقفه لم ولما شرطه محمد منعه لأن الشيوع وإن لم يمنع من التسليم والقبض ألا ترى أن الشائع كان مقبوضا لمالكه قبل أن يقفه لكن يمنع من تمام القبض فلذا منعه محمد رحمه الله تعالى عند امكان تمام القبض وذلك فيما يحتمل القسمة فإنه يمكن أن يقسم أولا ثم يقفه وإنما أسقط اعتبار تمام القبض عند عدم الإمكان وذلك فيما لا يحتملها لأنه لو قسم قبل الوقف فات الانتفاع كالبيت الصغير والحمام فاكتفى بتحقق التسليم في الجملة وإنما
____________________
(6/211)
اتفقوا على منع وقف المشاع مطلقا مسجدا ومقبرة لأن الشيوع يمنع خلوص الحق لله تعالى ولأن جواز وقف المشاع فيما لا يحتمل القسمة لأنه يحتاج فيه الى التهايؤ والتهايؤ فيه يؤدي الى أمر مستقبح وهو أن يكون المكان مسجدا سنة واصطبلا للدواب سنة ومقبرة عاما ومزرعة عاما أو ميضأة عاما وأما النبش فليس بلازم من المهيأة بل ليس للشريك ذلك ثم فيما يحتمل القسمة اذا قضى القاضي بصحته وطلب بعضهم القسمة لا يقسم عند أبي حنيفة ويتهايئون وعندهما يقسم وأجمعوا أن الكل لو كان وقفا على الأرباب وأرادوا القسمة لا تجوز وكذا التهايؤ وعليه فرع مالو وقف داره على سكنى قوم بأعيانهم أو ولده ونسله ما تناسلوا فإذا انقرضوا كانت غلتها للمساكين فإن هذا الوقف جائز على هذا الشرط وإذا انقرضوا تكرى وتوضع غلتها للمساكين وليس لأحد من الموقوف عليهم السكنى أن يكريها ولو زادت على قدر حاجة سكناه نعم له الإعارة لا غير ولو كثر أولاد هذا الواقف وولد ولده ونسله حتى ضاقت عليهم الدار ليس لهم الا سكناها تقسط على عددهم ولو كانوا ذكورا وإناثا إن كان فيها حجر ومقاصير كان للذكران أن يسكنوا نساءهم معهم وللإناث أن تسكن أزواجهن معهن وإن لم يكن فيها حجر لا يستقيم أن تقسم بينهم ولا يقع فيها مهايأة إنما سكناه لمن جعل له الواقف ذلك لا لغيرهم ومن هذا يعرف أن لو سكن بعضهم فلم يجد الآخر موضعا يكفيه لا يستوجب أجرة حصته على الساكن بل ان أحب أن يسكن معه في بقعة من تلك الدار بلا زوجة أو زوج إن كان لأحدهم ذلك وإلا ترك المتضيق وخرج أو جلسوا معا كل في بقعة الى جنب آخر والأصل المذكور في الشروح ولا فرع في أوقاف الخصاف ولم يخالفه أحد فيما علمت وكيف يخالف وقد نقلوا إجماعهم على الأصل المذكور ولو اقتسما أعني الواقف للمشاع وشريكه على القول بلزوم القسمة بعد القضاء أو قبله على قول أبي يوسف فوقع نصيب الواقف في محل مخصوص كان هو الوقف ولا يجب عليه أن يقفه ثانيا قوله ولو وقف الكل ثم استحق جزء منه يعني شائعا بطل الوقف عند محمد رحمه الله لأن بالاستحقاق ظهر أن الشيوع كان مقارنا للوقف كما في الهبة اذا وهب الكل ثم استحق بعضه بطلت لهذا بخلاف ما لو وهب الكل ثم رجع الواهب في البعض أو رجع الوارث في الثلثين بعد موت المريض الذي وقف في مرضه الكل ولا يخرج من الثلث فإنه لا يبطل الباقي لأن الشيوع طار وإذا بطل الوقف في الباقي رجع الى الواقف لو كان حيا والى ورثته إن ظهر الاستحقاق بعد موته وليس على الواقف أن يبيع ذلك ويشتري بثمنه ما يجعله وقفا ولو كان المستحق جزءا بعينه لم يبطل في الباقي لعدم الشيوع فلهذا جاز في الابتداء أن يقف ذلك الباقي فقط وعلى هذا الهبة والصدقة المملوكة لو استحق منها جزء شائع بطلت ولو
____________________
(6/212)
استحق معين لا تبطل ولو كانت الأرض بين رجلين فوقفاها على بعض الوجوه ودفعاها الى وال يقوم عليها كان ذلك جائزا عند محمد لأن المانع من تمام الصدقة شيوع في المحل المتصدق به ولا شيوع هنا لأن الكل صدقة غاية الأمر أن ذلك مع كثرة المتصدقين والقبض من الوالي في الكل وجد جملة واحدة فهو كما لو تصدق بها رجل واحد سواء بخلاف مالو وقف كل منهما نصفها شائعا على حدة وجعل لها واليا على حدة لا يجوز لأنهما صدقتان فإن كلا منهما تصدق نصيبه بعقدة على حدة ألا ترى أنه جعل لنصيبه واليا على حدة ومثل ذلك في الصدقة المنفذة أيضا لا يجوز حتى لو تصدق بنصفها مشاعا على رجل وسلم ثم تصدق الآخر بالنصف عليه وسلم لم يجز شيء من ذلك لأن قبض كل منهما لاقي جزءا شائعا فكذا قبض الواليين هنا ولو وقف كل منهما نصيبه وجعلا الوالي واحدا فسلماها اليه جميعا جاز لأن تمامها بالقبض والقبض مجتمع قوله ولا يتم الوقف عند أبي حنيفة ومحمد حتى يجعل آخره لجهة لا تنقطع أبدا كالمساكين ومصالح الحرم والمساجد بخلاف مالو وقف على مسجد معين ولم يجعل آخره لجهة لا تنقطع لا يصح لاحتمال أن يخرب الموقوف عليه وقال أبو يوسف اذا سمي جهة تنقطع جاز وصار بعدها للفقراء وإن لم يسمهم هذا كلام القدوري وهذا كما ترى لا يناسب استدلال المصنف على أبي يوسف بقوله إن موجب الوقف يعني بعد التسليم الى المتولي عند محمد رحمه الله وبعد الحكم عند أبي حنيفة زوال الملك بلا تمليك وزواله يتأبد بعتق وإذا كانت الجهة يتوهم انقطاعها لا يتفر عليه مقتضاه ولهذا كان التوقيت مبطلا له كما لو وقف عشرين سنة لا يصح اتفاقا لأنه إنما يلزمه لو قال بجواز انقطاعه
____________________
(6/213)
وعوده الى الواقف بعد انقطاع تلك الجهة أو الى ورثته وهو لم يقل ذلك بل قال اذا انقطعت صار للفقراء ثم نقل القدوري إنما هو على ما ذكره المصنف ثابتا عنه من التأييد حيث قال وقيل إن التأييد شرط بالإجماع إلا أن أبا يوسف لا يشترط ذكر التأييد لأن لفظ الوقف والصدقة منبئ عنه لما بينا أنه إزالة الملك كالعتق وعندهما يشترط قال المصنف وهذا هو الصحيح وعند محمد ذكر التأييد شرط لأن هذا صدقة بالمنفعة إن كان وقف للسكنى أو بالغلة إن لم يكن ذكر السكنى وقد يكون ذلك مؤبدا وقد يكون غير مؤبد فمطلقه لا ينصرف الى المؤبد بعينه فلا بد من التنصيص عليه فكأن الأولى أن يولي هذين الوجهين لما نقله من عبارة القدوري ثم يذكر الرواية الأخرى ويذكر دليلهما الأول فأما الوجه الأول فإنما يناسب الرواية عن أبي يوسف بأنه بعد انقطاع الجهة يرجع الى ملك الواقف أو ذريته وقد نقل من الفروع ما يدل على كل منهما عند أبي يوسف فمنها ما في المبسوط فيما اذا تصدق على أمهات أولاده في حياته وجعل لهن السكنى بعد وفاته وأي امرأة تزوجت منهن أو خرجت منتقلة الى غيره فلا حق لها في السكنى ونصيبها مردود على من بقيت منهن فذلك جائز اعتبارا للسكنى بالغلة وهذا الشرط يصح منه لهن في الغلة الى أن قال وإن لم يحتج من بقي منهن كان ميراثا على فرائض الله تعالى عند أبي يوسف لما بينا أنه يتوسع في أمر الوقف فلا يشترط التأبيد واشتراط العود الى الورثة عند زوال حاجة الموقوف عليه لا يفوت موجب العقد عنده فأما عند محمد رحمه الله التأبيد شرط واشتراط العود الى الورثة يبطل هذا الشرط فيكون مبطلا للوقف إلا أن يجعل ذلك وصية عند موته فيجوز كالوصية لمعلوم بسكنى داره بعد موته مدة معلومة فإنه جائز أن يلزم ويعود الى الورثة اذا سقط حق الموصي له ومن ذلك ما نقل للناطفي في الأجناس عن شروط محمد بن مقاتل عن أبي يوسف اذا وقف على رجل بعينه جاز واذا مات الموقوف عليه رجع الوقف الى ورثة الواقف قال وعليه الفتوى واذا عرف عن أبي يوسف جواز عوده الى الورثة فقد يقول في وقف عشرين سنة بالجواز لأنه لا فرق أصلا ومنها ما ذكر في البرامكة قال أبو يوسف إذا انقرض
____________________
(6/214)
الموقوف عليهم بصرف الوقف الى الفقراء قال في الأجناس فحصل عنه روايتان وأما الشرط الذي تقدم وهو قوله ومن تزوجت أو خرجت منتقلة عنه فلا حق لها فصحيح فلو طلقها زوجها أو مات أو عادت بعد ما انتقلت لا يرجع لها ما كان لها في الوقف بل قد سقط لأنه قطع استحقاقها بأخذ هذه الصفات فلا يعود إلا أن ينص على ذلك فيقول فإن عادت أو فارقت عاد ما كان لها قوله ويجوز وقف العقار وهو الأرض مبنية كانت أو غير مبنية ويدخل البناء في وقف الأرض تبعا فيكون وقفا معها وفي دخول الشجر في وقف الأرض روايتان ذكرهما في الخلاصة وفي فتاوي قاضيخان تدخل الأشجار والبناء في وقف الأرض كما تدخل في البيع ويدخل الشرب والطريق استحسانا لأن الأرض لا توقف الا للاستغلال وذلك لا يكون الا بالماء والطريق فيدخلان كما في الاجارة ولا تدخل الثمرة القائمة وقت الوقف سواء كانت مما تؤكل أو لا كالورد والرياحين ولو قال وقفتها بحقوقها وجميع ما فيها ومنها قال هلال لا تدخل في الوقف أيضا ولكن في الاستحسان يلزم التصدق بها على وجه النذر لأنه لما قال صدقة موقوفة بجميع ما فيها ومنها فقد تكلم بما يوجب التصدق ولا تدخل الزروع كلها الا ما كان له أصل لا يقطع في سنة والحاصل أن كل شجر يقطع في سنة فهو للوقف ومالا يقطع في سنة فهو داخل في الوقف فيدخل في وقف الأرض أصول الباذنجان وقصب السكر ويدخل في وقف الحمام القدر وملقى سرقينه ورماده ولا يدخل مسيل ماء في أرض مملوكة أو طريق وقوله لأن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وقفوه قدمنا ذكر جماعة من الرجال الصحابة ونسائهم وقفوا وأسانيدها مذكورة في وقف الخصاف ومنها ما تقدم من وقف عمر رضي الله عنه أرضه ثمغ وأخرج ابراهيم الحربي في كتابه غريب الحديث حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير بن العوام رضي الله عنه وقف دارا له على المردودة من بناته قال والمردودة هي المطلقة والفاقدة التي مات زوجها وفي البخاري وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا وجعلها لابن السبيل صدقة وأخرج الحاكم بسند فيه الواقدي وهو حسن عندنا وسكت هو عليه عن عثمان بن الأرقم المخزومي أنه كان يقول أنا ابن سبع الاسلام أسلم أبي سابع سبعة وكانت داره على الصفا وهي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون فيها في الاسلام وفيها دعا الناس الى الاسلام فأسلم فيها خلق كثير منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسميت دار الاسلام وتصدق بها الأرقم على ولده وذكر أن نسخة صدقته بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قضى الأرقم الى أن قال لا تباع ولا تورث وفي الخلافيات للبيهقي قال ابو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي تصدق أبو بكر رضي الله عنه بداره بمكة على ولده فهي الى اليوم وتصدق عمر بربعه وتصدق سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه بداره بالمدينة وبداره بمصر وداره بمكة والمدينة على ولده فذلك الى اليوم وعثمان رضي الله عنه برومة فهي إلى اليوم وعمر بن العاص بالوهط من الطائف وداره بمكة والمدينة على ولده فذلك إلى اليوم قال ومالا يحضرني كثير وهذا كله مما يستدل به على أبي حنيفة في عدم أجازته الوقف
فرع اذا كانت الدار مشهورة معروفة صح وقفها وإن لم تحدد استغناء لشهرتها عن تحديدها
فرع آخر وقف عقارا على مسجد أو مدرسة هيأ مكانا لبنائها قبل أن يبنيها اختلف المتأخرون والصحيح
____________________
(6/215)
الجواز وتصرف غلتها الى الفقراء الى أن تبنى فإذا بنيت ردت اليها الغلة أخذا من الوقف على أولاد فلان ولا أولاد له حكموا بصحته وتصرف غلته للفقراء الى أن يولد لفلان قوله ولا يجوز وقف ما ينقل ويحول كذا قال القدوري قال المصنف رحمه الله وهذا على الإرسال أي على الإطلاق قول أبي حنيفة رحمه الله ثم قال القدوري وقال ابو يوسف اذا وقف ضيعة ببقرها وأكرتها وهم عبيده جاز والأكرة الحراثون وكذا آلات الحراثة اذا كانت تبعا للأرض يجوز لأنها تبع للأرض في تحصيل ما هو المقصود منها وقد ثبت من الحكم تبعا مالا يثبت مقصودا كبيع الشرب والطريق لا يجوز مقصودا ويجوز تبعا وهذا كثير مستغن عن العد ولو مرض بعضهم فتعطل عن العمل إن كان الواقف جعل نفقتهم في مال الوقف وصرح بها فهي في مال الوقف وإلا لا نفقة لهم وإن لم يصرح به في مال الوقف فللقيم أن يبيع من عجز ويشتري بثمنه آخر يعمل كما لو قتل فأخذ ديته عليه أن يشتري بها آخر ولو جنى أحدهم جناية فعلى القيم أن ينظر فإن كان الأصلح دفع هذا العبد بالجناية دفعه أو فداؤه فداه من مال الوقف وإذا فراه بفدية تزيد على أرش الجناية فهو متطوع بالزيادة وليس لأهل الوقف من الدفع والفداء شيء فإن فدوه كانوا متطوعين ومحمد مع أبي يوسف فيه يعني فلا معنى لإفراد أبي يوسف لأنه لما جاز إفراد بعض المنقولات بالوقف عنده أي عند محمد رحمه الله فتجويزه تبعا للعقار أولى فضمير لأنه للشأن أما لو وقف ضيعة فيها بقر وعبيد له ولم يذكرهم فإنه لا يدخل شيء من الآلات والبقر والعبيد في الوقف قال المصنف وقال محمد يجوز حبس الكراع وهي الخيل والسلاح ومعناه وقفه في سبيل الله وابو يوسف معه أيضا في ذلك على ما قالوا وهذا استحسان والقياس أن لا يجوز لما بينا من قبل من شرط التأبيد والمنقول لا يتأبد وجه الاستحسان الآثار المشهورة فيه أي في الكراع والسلاح منها قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن أبي هريرة بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب على الصدقات فمنع ابن جميل
____________________
(6/216)
وخالد بن الوليد والعباس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينقم ابن جميل إلا إن كان فقيرا فأغناه الله وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا وقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله وأما العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي علي ومثلها ثم قال أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه وأما ما ذكر المصنف من أن طلحة حبس دروعه وفي رواية أدراعه وأعتده فلم يعرف وكذا لم يعرف جمعه على الأكراع لأن أفعالا لا يجمع على أفعال بل على أفعل كعقاب وأعقب وإنما ذكر له في الصحاح صيغتي جمع قال فالجمع أكرع ثم أكارع إلا أن الطبراني أخرج عن ابن المبارك حدثنا حماد بن زيد عن عبد الله بن المختار عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل قال لما حضرت خالد بن الوليد الوفاة قال لقد طلبت القتل فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي وما من عمل أرجى عندي من لا اله الا الله وأنا متترس ثم قال إذا أنا مت فانظروا سلاحي وفرسي فاجعلوه عدة في سبيل الله وذكر هذا الحديث بهذا السند في تاريخ ابن كثير وقال فيه ما من عمل أرجى عندي بعد لا اله الا الله من ليلة بتها وأنا مترس والسماء تهلني ننظر الصبح حتى نغير على الكفار واذا عرف هذا فالإبل تدخل في حكمه بالدلالة لأن العرب يغزون عليها مع أنه روى أن أم معقل جاءت الى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أبا معقل جعل ناضحه في سبيل الله وإني أريد الحج أفأركبه فقال صلى الله عليه وسلم اركبيه فإن الحج والعمرة من سبيل الله والحاصل أن وقف المنقول تبعا للعقار يجوز وأما وقفه مقصودا إن كان كراعا أو سلاحا جاز وفيما سوى ذلك إن كان مما لم يجر التعامل بوقفه كالثياب والحيوان ونحوه والذهب والفضة لا يجوز عندنا وإن كان متعارفا كالجنازة والفأس والقدوم وثياب الجنازة ومما يحتاج اليه من الأواني والقدور في غسل الموتى والمصاحف قال أبو يوسف لا يجوز وقال محمد يجوز واليه ذهب عامة المشايخ منهم الامام السرخسي كذا في الخلاصة وفي الفتاوي لقاضيخان وقف بناء بدون أرض قال هلال لا يجوز انتهى لكن في الخصاف ما يفيد أن الأرض إذا كانت متقررة للاحتكار جاز فإنه قال في رجل وقف بناء دار له دون الأرض إنه لا يجوز قيل له فما تقول في حوانيت السوق إن وقف رجل حانوتا منها قال إن كان الأرض إجارة في أيدي القوم الذين بنوها لا يخرجهم السلطان عنها فالوقف جائز لأنا رأيناها في أيدي أصحاب البناء يتوارثونها وتقسم بينهم لا يتعرض لهم السلطان ولا يزعجهم عنها وإنما له غلة يأخذها وتداولها الخلفاء ومضى عليها الدهور وهي في أيديهم يتبايعونها ويؤاجرونها وتجوز فيها وصاياهم ويهدمون بناءها ويبنون غيره فأفاد أن ما كان مثل ذلك جاز وقف البنيان فيه وإلا فلا وذكر في موضع آخر في فتاوي قاضيخان إذا بنى قنطرة للمسلمين جاز ولا يكون بناؤها ميراءا ثم ذكر أنه إنما خص البناء بذلك لأن العادة أن تتخذ على جنبتي النهر العام وذلك غير مملوك ثم قال وهذه المسألة دليل على جواز وقف البناء بدون الأصل ثم نقل عن الأصل أن وقف البناء بدون أصل الدار لا يجوز ولا يجوز وقف البناء في أرض هي عارية أو اجارة وإن كانت ملكا لواقف البناء جاز عند البعض
____________________
(6/217)
وعن محمد إذا كان البناء في أرض وقف جاز وقفه على الجهة التي تكون الأرض وقفا عليها ذكر الكل في الفتاوي وإطلاق الإجارة يعارض قول الخصاف في أرض الحكور اللهم إلا أن يجعل تخصيصها بسبب أنها صارت كالأملاك على ما ذكره وسمعته وفي الخلاصة إذا وقف مصحفا على أهل المسجد لقراءة القرآن إن كانوا يحصون جاز وإن وقف على المسجد جاز ويقرأ في ذلك المسجد وفي موضع آخر ولا يكون مقصورا على هذا المسجد وأما وقف الكتب فكان محمد بن سلمة لا يجيزه ونصير بن يحيى يجيزه ووقف كتبه والفقيه أبو جعفر يجيزه وبه نأخذ وجه قول أبي يوسف أن القياس يأباه والنص ورد في الكراع والسلاح على خلافه فيقتصر عليه ومحمد رحمه الله يقول القياس ينزل بالتعامل كما في الاستصناع وقد وجد التعامل في هذه الأشياء وعلى قول محمد أكثر فقهاء الأمصار وما لا تعامل فيه لا يجوز وقفه عندنا وقال الشافعي رحمه الله كل ما أمكن الانتفاع به مع بقاء أصله ويجوز بيعه يجوز وقفه وهذا قول مالك وأحمد أيضا وأما وقف مالا ينتفع به الا بالإتلاف كالذهب والفضة والمأكول والمشروب فغير جائز في قول عامة الفقهاء والمراد بالذهب والفضة الدراهم والدنانير وما ليس بحلي وأما الحلي فيصح وقفه عن أحمد والشافعي لأن حفصة رضي الله عنها ابتاعت حليا بعشرين ألفا فحبسته على نساء آل الخطاب فكانت لا تخرج زكاته وعن أحمد لا يصح وقفه وأنكر الحديث ذكره ابن قدامة في المغنى وحاصل وجه الجماعة القياس على الكراع وعارضه المصنف بأن حكم
____________________
(6/218)
الوقف الشرعي التأبيد ولا يتأبد غير العقار غير أنه ترك في الجهاد لأنه سنام الدين فكان معنى القربة فيهما أقوى فلا يلزم من شرعية الوقف فيهما شرعيته فيما هو دونهما ولا يلحق دلالة أيضا لأنه ليس في معناهما واذا عرفت هذا فقد زاد بعض المشايخ أشياء من المنقول على ما ذكره محمد لما رأوا من جريان التعامل فيها ففي الخلاصة وقف بقرة على أن ما يخرج من لبنها وسمنها يعطى لأبناء السبيل قال إن كان ذلك في موضع غلب ذلك في أوقافهم رجوت أن يكون جائزا وعن الانصاري وكان من أصحاب زفر فمن وقف الدراهم أو الطعام أو ما يكال أو ما يوزن أيجوز ذلك قال نعم قيل وكيف قال يدفع الدراهم مضاربة ثم يتصدق بها في الوجه الذي وقف عليه وما يكال وما يوزن يباع ويدفع ثمنه مضاربة أو بضاعة قال فعلى هذا القياس اذا وقف هذا الكر من الحنطة على شرط أن يقرض للفقراء الذي لا بذر لهم ليزرعوه لأنفسهم ثم يؤخذ منهم بعد الإدراك قدر القرض ثم يقرض لغيرهم من الفقراء أبدا على هذا السبيل يجب أن يكون جائزا قال ومثل هذا كثير في الري وناحية دنبا وند والاكسية وأسترة الموتى اذا وقف صدقة ابدا جاز فتدفع الأكسية للفقراء فينتفعون بها في أوقات لبسها ولو وقف ثورا لإنزاء بقرهم لا يصح ثم اذا عرف جواز وقف الفرس والجمل في سبيل الله فلو وقفه على أن يمسكه ما دام حيا إن أمسكه للجهاد جاز له ذلك لأنه لو لم يشترط كان له ذلك لأن لجاعلي فرس السبيل أن يجاهد عليه وإن أراد أن ينتفع به في غير ذلك لم يكن ذلك وصح جعله للسبيل يعني يبطل الشرط ويصح وقفه ولا يؤاجر فرس السبيل الا اذا احتيج الى نفقته فيؤاجر بقدر ما ينفق عليه قال في الخلاصة وهذه دليل على أن المسجد اذا احتاج الى نفقة يؤاجر قطعة منه بقدر ما ينفق عليه اه وهذا عندي غير صحيح لأنه يعود الى القبح الذي لأجله استثنى أبو يوسف المسجد من وقف المشاع وهو أن يتخذ مسجدا يصلي فيه عاما واصطبلا يربط فيه الدواب عاما ولو قيل إنما يؤاجر لغير ذلك فنقول غاية ما يكون للسكنى ويستلزم جواز المجامعة فيه وإقامة الحائض والجنب فيه ولو قيل لا يؤاجر لذلك فكل عمل يؤاجر له فيه تغيير أحكامه الشرعية ولا شك أن باحتياجه الى النفقة لا تتغير أحكامه الشرعية ولا يخرج به عن أن يكون مسجدا نعم إن خرب ما حوله واستغنى عنه فحينئذ لا يصير مسجدا عند محمد خلافا لأبي يوسف وأما اذا لم يكن كذلك فتجب عمارته من بيت المال لأنه من حاجة المسلمين وفي الخلاصة أيضا يجوز وقف الغلمان والجواري على مصالح الرباط واذا زوج السلطان أو القاضي جارية الوقف يجوز ولو زوج عبد الوقف لا يجوز والفرق ظاهر وهو أن في الأول اكتسابا للوقف دون الثاني ولهذا لو زوج أمة الوقف من عبد الوقف لا يجوز ومن فروع وقف المنقول وقف دار فيها حمامات يخرجن ويرجعن يدخل في وقفه الحمامات الأصلية قال الفقيه هو كوقف الضيعة مع الثيران وسئل أبو بكر عمن وقف شجرة بأصلها والشجرة مما ينتفع بأوراقها وثمرها قال الوقف جائز وينتفع بثمرها ولا يقطع أصلها الا أن تفسد أغصانها فإن لم ينتفع بأوراقها وثمرها فإنها تقطع ويصرف ثمنها الى سبيله فإن نبتت ثانيا وإلا غرس مكانها وسئل أبو القاسم الصفار عن شجرة وقف يبس بعضها وبقي بعضها فقال ما يبس منها فسبيله
____________________
(6/219)
سبيل غلتها وما بقي متروك على حالها قوله واذا صح الوقف أي لزم وهذا يؤيد ما قدمناه في قول القدوري واذا صح الوقف خرج عن ملك الواقف ثم قوله لم يجز بيعه ولا تمليكه هو بإجماع الفقهاء إلا أن يكون مشاعا فيطلب شريكة القسمة عند أبي يوسف فتصح مقاسمته أما امتناع التمليك فلما بينا من قوله عليه الصلاة والسلام تصدق بأصلها لا يباع ولا يورث ولا يوهب ومن المعنى وهو أن الحاجة ماسة الى آخره ولأنه باللزوم خرج عن ملك الواقف وبلا ملك لا يتمكن من البيع وأما جواز القسمة أي عندهما فإن على قول أبي حنيفة لا يجوز وإن قضى القاضي بصحة وقف المشاع لأنها مبادلة ومعنى المبادلة هو الراجح في غير المثليات فلأنها تمييز معنى وإفراز غاية الأمر أن الغالب في غير المكيل والموزن معنى المبادلة إلا في أن الوقف جعلنا الغالب معنى الإفراز نظرا للوقف فلم تكن بيعا وتمليكا ثم إن وقف نصيبه من عقار مشترك فهو الذي يقاسم شريكه لأن الولاية للواقف عند أبي يوسف ووقف المشاع إنما يجوز على قوله ولو طلب الشريك القسمة بعد موته فالقسمة الى وصيه وإن وقف نصف عقار خالص له فاللقسمة طريقان أحدهما أن يقاسمه القاضي بأن يرفع الأمر اليه ويطلب منه القسمة فيأمر رجلا أن يقاسمه الثاني أن يبيع نصيبه الباقي من رجل ثم يقاسم المشتري ثم يشتري ذلك منه
____________________
(6/220)
إن احب وهذا لأن الواحد لا يصلح أن يكون مقاسما ومقاسما ولو كان في القسمة فضل دراهم بأن كان أحد النصفين أجود من الآخر فجعل بإزاء الجودة دراهم فإن كان الآخذ للدراهم هو الواقف بأن كان النصف الذي هو غير الوقف هو الاحسن لا يجوز لأنه يصير بائعا بعض الوقف وبيع الوقف لا يجوز وإن كان الآخذ شريكه بأن كان النصيب الوقف أحسن جاز لأن الواقف مشتر لا بائع فكأنه اشترى بعض نصيب شريكه فوقفه فقوله إن أعطى الواقف لا يجوز يصح على بنائه للمفعول ورفع الواقف ويصح على بنائه للفاعل ونصب الواقف لأن المعنى فيهما أنه أخذ الدراهم واعلم أن عدم جواز البيع في غير القسمة فيما اذا كان قائما عامرا أما اذا تهدم ولا حاصل له يعمر به فيجوز لأنه رجع الى ملك الواقف إن كان حيا والى ورثته إن كان ميتا وقال الصدر الشهيد في جنس هذه المسائل نظر يعني لأن الوقف بعد ما خرج الى الله تعالى لا يعود الى ملك الواقف وأنت تعلم أن قول محمد رجوعه الى ملك الواقف أولى من قوله في المسجد لأن خلوصه لله تعالى أقوى من غيره من الأوقاف ولأن ذلك بشرط الفائدة وقد تحقق انتفاؤها اذا لم يكن له ريع يعاد به ولا يوجد من يستأجره فيعمره ومن ذلك حانوت احترق في السوق وصار بحيث لا ينتفع به ولا يستأجر البتة وحوض محلة خرب وصار بحيث لا تمكن عمارته فهو للواقف ولورثته فإن كان واقفه وورثته لا تعرف فهو لقطة كذا في الخلاصة زاد في فتاوي الخاضي اذا كان كاللقطة يتصدقون به على فقير ثم يبيعه فينتفع بثمنه وعلى هذا فإنما يصير لبيت المال اذا عرف الواقف وعرف موته وانقراض عقبه وروى عن محمد اذا ضعفت الأرض عن الاستغلال ويجد القيم بثمنها أخرى هي أكثر ريعا كان له أن يبيعها ويشتري بثمنها ما هو أكثر ريعها وأما قول طائفة من المشايخ فيما اذا خاف المتولي على الوقف من وارث أو سلطان يغلب عليه قال في النوازل يبيعها ويتصدق بثمنها قال وكذا كل قيم خاف شيئا من ذلك قالوا فالفتوى على خلافه لأن الوقف بعد ما صح بشرائطه لا يحتمل البيع وهذا هو الصحيح حتى ذكر في شجرة جوز وقف في دار وقف خربت الدار لاتباع الشجرة لعمارة الدار بل تكرى الدار ويستعان بنفس الجوز على العمارة ثم اذا جاز بيع الأشجار الموقوفة لا يجوز قبل القطع بل بعده هكذا عن الفضلى في الأشجار المثمرة وفي غير المثمرة قال يجوز قبل القلع لأنها هي الغلة وبناء الوقف والنبات لا يجوز قبل الهدم والقلع كالمثمرة كذا قيل والوجه يقتضي اذا تعين البيع كونه قبل الهدم دفعا لزيادة مؤنة الهدم إلا أن تزيد القيمة بالهدم وفي زيادات أبي بكر بن حامد أجمع العلماء على جواز بيع بناء الوقف وحصيره اذا استغنوا عنه قوله والواجب أن يبتدأ من ارتفاع الوقف بعمارته سواء شرط الواقف ذلك أو لم يشرط لأن الغرض لكل واقف وصول الثواب مؤبدا وذلك بصرف الغلة موبدا ولا يمكن ذلك بلا عمارة فكانت العمارة مشروطة اقتضاء ولهذا ذكر محمد رحمه الله في الأصل في شيء من رسم الصكوك فاشترط أن يرفع الوالي من غلته كل عام ما يحتاج اليه لأداء العشر والخراج والبذر وأرزاق الولاة عليها
____________________
(6/221)
والعملة وأجور الحراس والحصادين والدارسين لأن حصول منفعتها في كل وقت لا يتحقق الا بدفع هذه المؤن من رأس الغلة قال شمس الأئمة وذلك وإن كان يستحق بلا شرط عندنا لكن لا يؤمن جهل بعض القضاء فيذهب رأيه الى قسمة جميع الغلة فاذا شرط ذلك في صكة يقع الأمن بالشرط قال المصنف ولأن الخراج بالضمان أي الانتفاع بخراج الشيء كغلة العبد والدابة ونحو ذلك بقيام ذلك الشيء أي لكون ذلك الشيء لو تلف من ضمان المستغل وروى أبو عبيد في كتاب غريب الحديث عن مروان الفزاري عن ابن أبي ذئب عن مخلد بن أبي خفا عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى أن الخراج بالضمان قال أبو عبيد معناه والله أعلم الرجل يشتري المملوك فيستغله ثم يجد به عيبا كان عند البائع فقضى أن يرد العبد على البائع بالعيب ويرجع بالثمن فيأخذه وتكون له الغلة طيبة وهو الخراج وإنما طابت لأنه كان ضمانا للعبد ولو مات مات من مال المشتري لأنه في يده اه ولهذا الحديث نقض عمر بن عبد العزيز قضاءه حين قضى بالغلة للبائع وهذا الحديث من جوامع الكلم وفي معناه الغرم بالغنم وقد جرى لفظه مجرى المثل واستعمل في كل مضرة بمقابلة منفعة وقوله وصار أي عمارة الوقف كنفقة العبد الموصي بخدمته فإنها تكون على الموصي له بها قوله ثم إن كان الوقف على الفقراء ولا يظفر بهم لا يتصور أن يلزموا لعدم اجتماعهم ولعسرتهم وأقرب أموالهم هذه الغلة الكائنة للوقف فتجب العمارة فيها قوله وإن كان الوقف على رجل بعينه أو رجال وآخره للفقراء فهو في ماله أي مال شاء في حياته فإذا مات فمن الغلة ولا يؤخذ من الغلة عينا لأنه رجل معين يمكن مطالبته ثم هو يعطي إن شاء من الغلة وإن شاء من غيرها ثم العمارة المستحقة عليه إنما هي بقدر ما يبقي الموقوف بها على الصفة التي وقف عليها فأما الزيادة فليست بمستحقة فلا تصرف في العمارة إلا برضاه ولو كان الوقف على الفقراء فكذلك عند البعض أي لا يزاد على الصفة التي كان عليها وعند آخرين يجوز ذلك أي الزيادة والأول أصح لأنه صرف حق الفقراء الى غير ما يستحق عليهم ولا تؤخر العمارة اذا احتيج اليها
____________________
(6/222)
وتقطع الجهات الموقوفة عليها لها إن لم يخف ضرر بين فإن خيف قدم وأما الناظر فإن كان المشروط له من الواقف فهو كأحد المستحقين فإذا قطعوا للعمارة قطع إلا أن يعمل كالفاعل والبناء ونجوهما فيأخذ قدر أجرته وإن لم يعمل لا يأخذ شيئا قال الامام فخر الدين قاضيخان رجل وقف ضيعة على مواليه ومات فجعل القاضي الوقف في يد قيم وجعل له عشر الغلات مثلا وفي الوقف طاحونة في يد رجل بالمقاطعة لا حاجة فيها الى القيم وأصحاب هذه الطاحونة يقسمون غلتها لا يجب للقيم فيها ذلك العشر لأن القيم لا يأخذ ما يأخذه الا بطريق الأجر فلا يستوجب الأجر بلا عمل اه فهذا عندنا فيمن لم يشرط له الواقف شيئا أما اذا شرط كان من جملة الموقوف عليهم قوله فإن وقف دارا على سكنى ولده أو غير ولده فالعمارة على من له السكنى لأن الخراج بالضمان وصار كالعبد الموصي بخدمته فاذا امتنع من ذلك أو كان فقيرا أجرها الحاكم وعمرها بأجرتها ثم ردها الى من له السكنى لأن في ذلك رعاية الحقين حتى الواقف وحق صاحب السكنى لأنه لو لم يعمرها تفوت السكنى أصلا والأول وهو العمارة أولى من الثاني وهو عدم عمارتها المدلول عليه بقوله لو لم يعمرها لأن الجمع بين المصلحتين أولى من إبطال احداهما ولا يجبر الممتنع على العمارة لما فيه من الزام الضرر بائتلاف ماله فأشبه امتناع صاحب البذر فيهما اذا عقد عقد المزارعة وبينا من عليه البذر فامتنع من عليه البذر عن العمل لا يجبر عليه ذلك ثم لا يكون امتناع رضا منه ببطلان حقه لأن امتناعه في حيز التردد يعني دلالة امتناع الرضا بإسقاط حقه متردد فيها لجواز كون امتناعه لعدم القدرة على العمارة أو لرجاءه اصطلاح القاضي كما يجوز قوله برضاه بابطال حقه انما قال أجرها الحاكم لأنه لا تصح اجارة من له السكنى وعلله بقوله لأنه غير مالك وفي تقريره قولان أحدهما أنه ليس بمالك للمنفعة بل أبيح له الانتفاع وهذا ضعيف فإن للموقوف عليه السكنى أن يعير الدار والاعارة تمليك المنافع بلا عوض والمسألة في وقف الخصاف والآخر أنه ليس بمالك للعين والاجارة تتوقف
____________________
(6/223)
عليه لأنها بيع المنافع والمنافع معدومة فلا يتحقق ملكها ليملكها فأقيمت العين مقام المنفعة ليرد عليه العقد فلا بد من كونها مملوكة وهو مشكل لأنه يقتضي أن لا يصح إجارة المستأجر فيما لا يختلف باختلاف المستعمل وأن لا يصح من الموقوف عليه السكنى الإعارة لكنه يصح كما ذكرنا فالأولى أن يقال لأنه تملك المنافع بلا بدل فلم يملك تمليكها ببدل وهو الاجارة وإلا لملك أكثر مما ملك بخلاف الاعارة وهذا الوجه والذي قبله يفيد أن لا فرق بين الموقوف عليه السكنى وغيره حتى ان الموقوف عليه الدار المستحق للغلة أيضا ليس له أن يؤاجر لأنه ليس لمالك للعين فلا يمكن اقامة العين مقام منافعها ليرد عليه عقد الاجارة بل ما ملكه من المنافع لا بدل ونص الأستروشنسي أنه رأى في المنقول أن إجارة الموقوف عليه لا تجوز وإنما يملك الإجارة المتولي او القاضي ونقل عن الفقيه أبي جعفر أنه إن كان الأجر كله للموقوف عليه اذا كان الوقف لا يستر تجوز اجارته وهذا في الدور والحوانيت وأما الأراضي فإن كان الواقف شرط تقديم العشر والخراج وسائر المؤن فليس للموقوف عليه أن يؤاجر وإن لم يشرط ذلك فيجب أن يجوز ويكون الخراج والمؤنة عليه هذا وإن لم يرض الموقوف عليه السكنى بالعمارة ولم يجد القاضي من يستأجرها لم أر حكم هذه في المنقول من المذهب والحال فيها يؤدي الى أن تصير نقضا على الأرض كرماد تسفوه الرياح وخطر لي أنه يخيره القاضي بين أن يعمرها فيستوفي منفعتها وبين أن يردها الى ورثة الواقف قوله وما انهدم من بناء الوقف وآلته وهو بالجر كالخشب والقصب وقد يضم عطفا على ما صرفه الحاكم في عمارة الوقف إن احتاح اليه وإن استغنى عنه أمسكه حتى يحتاج اليه وأن تتعلم أن بالانهدام تتحقق الحاجة الى عمارة ذلك القدر فلا معنى للشرط في قوله إن احتاج اليه وإن استغنى عنه وأمسكه حتى يحتاج وإنما المعنى أنه إن كان التهيؤ للعمارة ثابتا في الحال صرفه اليها وإلا حفظه حتى يتهيأ ذلك وتتحقق الحاجة فإن المنهدم قد يكون قليلا جدا لا يخل بالانتفاع بالوقف ولا يقر به من ذلك فيكون وجوده كعدمه فيؤخر حتى تحسن أو تجب العمرة وإن تعذرت إعارته بأن خرج عن الصالحية لذلك لضعفه ونحوه باعه وصرف ثمنه في ذلك إقامة للبدل مقام المبدل ولا يقسمه بين مستحقي الوقف لأنه من عين الوقف ولا حق لهم في العين الموقوفة لأنها حق لله تعالى وحقهم في الغلة فقط واعلم أن عدم جواز بيعه الا اذا تعذر الانتفاع به إنما هو فيما ورد عليه وقف الواقف أما فيما اشتراه المتولي من مستغلات الوقف فإنه يجوز بيعه بلا هذا الشرط وهذا لأن في صيرورته وقفا خلافا
____________________
(6/224)
والمختار أنه لا يكون وقفا فللقيم أن يبيعه متى شاء لمصلحة عرضت قوله وإذا جعل الواقف غلة الوقف لنفسه أو جعل الولاية اليه جاز عند أبي يوسف فهذان فصلان ذكرهما القدوري شرط الغلة لنفسه وجعل الولاية اليه أما الأول فهو جائز عند أبي يوسف وهو قول أحمد وابن أبي ليلى وابن شبرمة والزهري ومن أصحاب الشافعي ابن سريج ولا يجوز على قياس قول محمد وهلال الرأي وهو هلال بن يحيى بن مسلم البصري وإنما نسب الى الرأي أي لأنه كان على مذهب الكوفيين ورأيهم وهو من أصحاب يوسف بن خالد السمتي البصري ويوسف هذا من أصحاب أبي حنيفة وقيل إن هلالا أخذ العلم عن أبي يوسف وزفر ووقع في المبسوط والذخيرة وغيرهما الرازي وفي المغرب هو تحريف بل هو الرأي بتشديد الراء المهملة لأنه من البصرة لا من الري والرازي نسبة الى الري وهكذا صحح في مسند أبي حنيفة وغيره وبقول محمد قال الشافعي ومالك والخلاف في شرط كل الغلة لنفسه وبعده على الفقراء أو بعضها وبعده للفقراء ثم قيل إن الاختلاف بينهما بناء على الخلاف في اشتراط القبض أي قبض المتولي فلما شرطه محمد منع اشتراط الغلة لنفسه لأنه حينئذ لا ينقطع حقه فيه وما شرط القبض إلا لينقطع حقه ولما لم يشرطه أبو يوسف لم يمنعه وقيل مسألة مبتدأة غير مبنية وهو أوجه ثم وصل المصنف
____________________
(6/225)
بهذه الخلافية ما إذا شرط الغلة لأمهات أولاده ومدبريه ما داموا أحياء فإذا ماتوا كان للفقراء بناء على جعل الخلاف المعلوم جاريا فيها على ما صححه المصنف وقيل بل شرط الغلة لأمهات أولاده ومدبريه بالاتفاق وهو الأصح وما قال المصنف مخالف لما في المبسوط والمحيط والذخيرة والتتمة وفتاوي قاضيخان فإن الكل جعلوا الصحة بالاتفاق وفرق في المبسوط رحمه الله بين شرط الغلة لنفسه حيث لا يجوز ولأمهات أولاده حيث يجوز مع أن شرطه لهن ولمدبريه كشرطه لنفسه بأن حريتهم ثبتت بموته فيكون الوقف عليهم كالوقف على الأجانب ويكون ثبوته لهم حالة حياته تبعا لما بعد موته كما قال أبو حنيفة في أصل الوقف اذا قال في حياتي وبعد وفاتي يلزم أما لو وقف على عبيده وإمائه فلا يجوز عند محمد لأنهم لا يعتقون بموته فلا تبعية ويجوز عند أبي يوسف كشرطه لنفسه وجه قول محمد رحمه الله إن الوقف تبرع على وجه التمليك للغلة أو للسكنى فاشتراط البعض أو الكل لنفسه يبطله لأن التمليك من نفسه لا يتحقق فصار كالصدقة المنفذة بأن تصدق على فقير بمال وسلم اليه على أن يكون بعضه لي لم يجز لعدم الفائدة إذ لم يكن مملكا على هذا التقدير إلا ما وراء ذلك القدر فكذا في الصدقة الموقوفة وكشرط بعض بقعة المسجد لنفسه بيتا ولأبي يوسف ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل من صدقته والمراد صدقته الموقوفة ولا يحل الأكل منها إلا بالشرط فإن الاجماع على أن الواقف اذا لم يشرط لنفسه الاكل منها لا يحل له أن يأكل منها وإنما الخلاف فيما اذا شرطه والحديث المذكور بهذا اللفظ لم يعرف الا أن في مصنف ابن أبي شيبة حدثنا ابن عيينة عن ابن طاوس عن أبيه قال ألم تر أن حجرا المدري أخبرني قال إن في صدقة النبي صلى الله عليه وسلم يأكل منها أهلها بالمعروف غير المنكر ولأن الوقف إزالة الملك الى الله تعالى فإذا شرط البعض أو الكل لنفسه فقد جعل ما صار مملوكا لله لنفسه لا أنه جعل ملك نفسه لنفسه
____________________
(6/226)
كذا قرره المصنف وعلى ما سلف لنا في اشتراط التسليم الى المتولي عند محمد ينبغي أن يقرر هكذا الموقوف إزالة الملك الكائن بالعين وإسقاطه لا الى مالك ابتغاء مرضاة الله تعالى على وجه يعتبر فيه شرطه الغير المنافي للقربة والشرع وشرط النفقة على نفسه منه لا ينافي ذلك كما اذا بنى خانا وشرط أن ينزل فيه أو سقاية وشرط أن يشرب منها أو مقبرة وشرط أن يدفن فيها قال صلى الله عليه وسلم نفقة الرجل على نفسه صدقة روى معنى هذا الحديث من طرق كثيرة يبلغ بها الشهرة فروى ابن ماجة من حديث المقدام بم معد يكرب عنه عليه الصلاة والسلام قال ما من كسب الرجل كسب أطيب من عمل يده وما انفق الرجل على نفسه وأهله وولده وخادمه فهو له صدقة وأخرجه النسائي عن بقية عن بجر بلفظ ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة الحديث وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي سعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيما رجل كسب مالا حلالا فأطعمه نفسه أو كساها فمن دونه من خلق الله تعالى فإن له زكاة ورواه الحاكم إلا أنه قال فإنه له زكاة وقال صحيح الاسناد ولم يخرجاه وأخرج الحاكم أيضا والدارقطني عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على نفسه وأهله فهو له صدقة وما وقي به عرضه صدقة الحديث وفيه فقلت لمحمد بن المنكدر ما معنى وقي به عرضه قال أن يعطي الشاعر وذا اللسان المتقي وقال صحيح الاسناد وأخرج الطبراني عن أبي أمامة عنه عليه الصلاة والسلام قال من أنفق على نفسه فهي له صدقة ومن أنفق على امرأته وأهله وولده فهو له صدقة وفي صحيح مسلم عن جابر أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك الحديث فقد ترجح قول أبي يوسف قال الصدر الشهيد والفتوى على قول أبي يوسف ونحن أيضا نفتي بقوله ترغيبا للناس في الوقف واختاره مشايخ بلخ وكذا ظاهر الهداية حيث أخر وجهه ولم يدفعه ومن صور الاشتراط لنفسه ما لو قال على أن يقضي دينه من غلته وكذا اذا قال اذا حدث علي الموت وعلى دين يبدأ من غلة هذا الوقف بقضاء ما علي فما فضل فعلى سبيله كل ذلك جائز وفي وقف الخصاف اذا شرط أن ينفق على نفسه وولده وحشمه وعياله من غلة هذا الوقف فجاءت غلته فباعها وقبض ثمنها ثم مات قبل أن ينفق ذلك هل يكون ذلك لورثته أو لأهل الوقف قال يكون لورثته لأنه قد حصل ذلك وكان له فقد عرف أن شرط بعض الغلة لا يلزم كونه بعضا معينا كالنصف والربع وكذلك اذا قال اذا حدث على فلان الموت يعين الواقف نفسه أخرج من غلة هذا الوقف في كل سنة من عشرة أسهم مثلا سهم يجعل في الحج عنه أو في كفارات أيمانه وفي كذا وكذا وسمي أشياء أو قال أخرج من هذه الصدقة في كل سنة كذا وكذا درهما لتصرف في هذه الوجوه ويصرف الباقي في كذا وكذا على ما سبله قوله ولو شرط أن يستبدل بها أرضا أخرى تكون وقفا مكانه فهو جائز عند أبي يوسف وهلال والخصاف وهو استحسان وكذا لو قال على أن أبيعها وأشتري بثمنها
____________________
(6/227)
أخرى مكانا وقال محمد يصح الوقف ويبطل الشرط وليس له بعد استبداله مرة أن يستبدل ثانيا لانتهاء الشرط بمرة إلا أن يذكر عبارة تفيد له ذلك دائما وكذا ليس للقيم الاستبدال إلا ينص له بذلك وعلى وزان هذا لو شرط لنفسه أن ينقص من المعاليم إذا شاء ويزيد ويخرج من شاء ويستبدل به كان له ذلك وليس لقيمه إلا أن يجعله له وإذا أدخل وأخرج مرة ليس له ثانيا الا بشرطه ولو شرطه للقيم ولم يشرطه لنفسه كان له أن يستبدل لنفسه لأن إفادته الولاية لغيره بذلك فرع كونه يملكها ولو قيد شرط الاستبدال للقيم بحياة الواقف ليس له أن يستبدل بعد موته وفي فتاوي قاضيخان قول هلال وأبي يوسف هو الصحيح لأن هذا شرط لا يبطل الوقف لأن الوقف يقبل الانتقال من أرض الى أرض فإن أرض الوقف إذا غصبها غاصب وأجرى عليها الماء حتى صارت بحرا لا تصلح للزراعة يضمن قيمتها ويشتري أرضا أخرى فتكون وقفا مكانها وكذا أرض الوقف إذا قل نزلها بحيث لا تحتمل الزراعة ولا تفضل غلتها عن مؤنتها ويكون صلاح الأرض في الاستبدال بأرض أخرى وفي نحو هذا عن الأنصاري صحة الشرط لكن لا يبيعها الا باذن الحاكم وينبغي للحاكم اذا رفع اليه ولا منفعة في الوقف أن يأذن في بيعها إذا رآه أنظر لأهل الوقف وإذا كان حاصله إثبات وقف آخر لم يكن شرطا فاسدا هو اشتراط عدم حكمه وهو التأبيد بل هو تأبيد معنى ولا يقال حكم الوقف اذا صح الخروج عن ملكه فلا يمكنه بيعه لأنا نقول حكم ذلك على وجه ينفذ فيه شرطه الذي شرط في أصل الوقف اذا لم يخالف أمرا شرعيا وقد بينا أن شرط الاستبدال لا يخالفه فوجب اعتباره وكون شمس الائمة ذكر مسألة ثم قال ولهذا تبين خطأ من يجوز استبدال الوقف وكذا ما عن ظهير الدين رجوعه عنه بعد أن كان يفتي به لا يجوب اتباعه مع قيام وجه غيره ولو أريد تجويز الاستبدال بغير شرط الاستبدال فيما ذا كان أحسن للوقف كان حسنا
والحاصل أن الاستبدال إما عن شرطه الاستبدال وهو مسالة الكتاب أو لا عن شرطة فإن كان لخروج الوقف عن انتفاع الموقوف عليهم به فينبغي أن لا يختلف فيه كالصورتين المذكورتين لقاضيخان وإن كان لا لذلك بل اتفق أنه أمكن أن يؤخذ بثمن الوقف ما هو خير منه مع كونه متنفعا به فينبغي أن لا يجوز لأن الواجب إبقاء الوقف على ما كان عليه دون زيادة أخرى ولأنه لا موجب لتجويزه لأن الموجب في الأول الشرط وفي الثاني الضرورة ولا ضرورة في هذا إذ لا تجب الزيادة فيه بل تبقيته كما كان ولعل محمل ما نقل عن السير الكبير من قوله استبدال الوقف باطل إلا في عن رواية أبي يوسف هذا الاستبدال والاستبدال بالشرط مذهب أبي يوسف المشهور عنه المعروف لا مجرد رواية والاستبدال الثاني ينبغي أن لا يختلف فيه كما قلنا وفي فتاوى قاضيخان أجمعوا أن الواقف إذا شرط الاستبدال لنفسه يصح الشرط والوقف ويملك الاستبدال أما بلا شرط أشار في السر الى أنه لا يملكه الا باذن القاضي ولا يخفى أن محل الاجماع المذكور كون الاستبدال لنفسه اذا شرطه له وفي القاضي فيما لا شرط فيه لا في أصل الاستبدال وإلا فهو نقل الخلاف وعرف من هذا أن محمل ما ذكرناه عن الأنصاري
____________________
(6/228)
ما اذا لم يشرطه لنفسه ثم اذا اشترى البدل للوقف صار وقفا ولا يتوقف وقفيته على أن يقفه بلفظ بخصه وليس للقيم أن يوصي بالاستبدال لمن يوصي اليه عند موته بالوقف ومن فروع الاستبدال لو قال علي أن أبيعها بقليل أو كثير أو على أن أبيعها واشتري بثمنها عبدا نص هلال على فساد الوقف كأنه قال على أن أبطلها ولو اقتصر على قوله على أن أبيعها وأشتري بثمنها أرضا جاز استحسانا واذا قال على أن أستبدل أرض أخرى ليس له أن يجعل البدل دارا وكذا على العكس ولو قال بأرض من البصرة ليس له أن يستبدل من غيرها لأن الأماكن قد تختلف في جودة الأرض وينبغي إن كانت أحسن أن لا يجوز لأنه خلاف الى خير ولو شرط الاستبدال ولم يذكر شيئا استبدل ما شاء من العقار خاصة ولو باع الوقف بغبن فاحش لا يجوز البيع ولو قبض الثمن ثم مات ولم يبين حاله فهو دين في تركته وكذا لو استهلكه أما لو ضاع الثمن في يده فلا ضمان عليه ولو اشترى بالثمن عرضا مما لا يكون وقفا فهو له والدين عليه ولو وهبه من المشتري صحت الهبة ويضمنه في قول أبي حنيفة ومنعه أبو يوسف أما لو قبض الثمن ثم وهبه فالهبة باطلة اتفاقا ولو باعه بعرض ففي قياس أبي حنيفة يصح وقال ابو يوسف وهلال لا يملك البيع إلا بالنص أو بأرض تكون وقفا مكانها وإذا باع الوقف ثم عاد اليه بما هو فسخ من كل وجه كان له أن يبيعها ثانيا وإن عادت بعقد جديد لا يملك بيعها لأنها صارت وقفا فكأنه اشترى غيرها الا أن يكون عمم لنفسه الاستبدال ولو ردت بعيب بقضاء أو بغير قضاء بعد القبض أو قبل القبض بقضاء عادت وقفا وكذا اذا قال المشتري قبل القبض أو بعده فله أن يصنع بالأخرى ما شاء ولو استحقت الأولى في القياس تبقى الثانية وقفا وفي الاستحسان لا لأن الثانية كانت وقفا بدلا عن الأولى وبالاستحقاق انتقضت تلك المبادلة من كل وجه فلا تبقى الثانية وقفا ولو شرط لنفسه أن يستبدل فوكل به جاز ولو أوصى به عند موته لم يكن للوصي ذلك لأن في الوكالة وهو حي لو تمكن خلله أمكنه الاستبدال بخلاف الوصي ولو شرط الاستبدال لنفسه مع آخر على أن يستبدلا معا فتفرد بذلك الرجل لا يجوز ولو تفرد به الواقف جاز لأنه هو الذي شرطه لذلك وما شرط لغيره فهو مشروط له كما لو نصب قاضيا بلدين كل قيما كان لكل أن يتصرف وحده ولو أن أحد هذين القاضيين أراد أن يعزل الذي أقامه القاضي الآخر قال اذا رأى المصلحة في ذلك كان له عزله وإلا فلا قوله ولو شرط أي الواقف الخيار لنفسه ثلاثة أيام بأن قال وقفت داري هذه على كذا على أني بالخيار ثلاثة أيام جاز الوقف والشرط عند أبي يوسف رحمه الله وقال محمد رحمه الله الوقف باطل وهو قول الشافعي واحمد وهلال قال المصنف وهذا بناء على ما ذكرنا يريد الأصل المختلف فيه أعني شرط التسليم فإن محمدا لما
____________________
(6/229)
شرط تمام القبض لينقطع حق الواقف فلا شك أن شرط الخيار يفوت معه الشرط المذكور لأنه لا يتصور معه تمام القبض وأما أبو يوسف فلما لم شرط تمام قبض متول انبنى عليه جواز شرط الخيار وروى عن أبي يوسف أن الوقف جائز والشرط باطل وهو قول يوسف بن خالد السمتي لأن الوقف كالإعتاق في أنه إزالة الملك لا الى مالك ولو أعتق على أنه بالخيار عتق وبطل الشرط فكذا يجب هذا ولذا اتفقوا على أن شرط الخيار في المسجد يبطل ويتم وقف المسجد ومثل ذلك قال الهندواي على قول محمد ينبغي أن يجوز الوقف ويبطل الشرط لأنه شرط فاسد فلا يؤثر في المنع من الزوال ولكن محمد يقول بتمام الرضا والقبض يتم الوقف ومع شرط الخيار لا يتم الرضا ولا القبض فكان كالإكراه على الوقف فلا يتم معه بخلاف المسجد فإن القبض ليس شرطا فيه عنده بل إقامة الصلاة فيه بجماعة وكذا في الاعتاق فإن القبض فيه ليس شرطا والحاصل أنه إن تم له شرط التسليم في أصل الوقف تم له هذا وقدمنا ما فيه وتقييد الخيار بثلاثة أيام ليس قيدا بل أن يكون معلوما حتى لو كانت مجهولة بأن وقف على أنه بالخيار لا يجوز بالاتفاق وكذا روى عن أبي يوسف أنه قال إن بين للخيار وقتا جاز الوقف والشرط وإن لم يوقت له فالوقف والشرط باطلان ثم إذا لم يصح الوقف مع شرط الخيار عند محمد فلو أبطل الخيار قبل الثلث لم يصح لأن الوقف لا يجوز إلا مؤبدا والخيار يمنع التأبيد وكان شرط الخيار في نفس العقد بخلاف البيع فإن الخيار فيه لا يمنع جوازه بل يفسده إذا شرطه أكثر من ثلاثة ايام لامتناع لزوم العقد بعد الأيام الثلاثة فلم يكن الفساد في صلب العقد فإذا أسقطه قبل الثلاث جاز ذكره في فتاوي قاضيخان ولا يبطل الوقف بالشروط الفاسدة ولهذا لو وقف ارضا على رجل على أن يقرضه دراهم جاز الوقف وبطل الشرط وفي فتاوي قاضيخان أيضا قال الفقيه أبو جعفر إعتاق المشتري قبل القبض جائز وقبل نقد الثمن موقوف فكذا الوقف ولو اشترى أرضا فوقفها ثم اطلع على عيب رجع بنقصان العيب ولا يكون للوقف بل له أن يصنع به ما شاء
فروع اشترى أرضا على أنه بالخيار فوقفها ثم اسقط الخيار صح ولو كان الخيار للبائع فوقفها المشتري ثم أسقط البائع الخيار لا تكون وقفا ولو وقفها البائع صح ولو وقف الموهوب له الأرض قبل قبضها ثم قبضها لا يصح الوقف وكذا لو وقفها الموصي له بها قبل موت الموصي وكذا لو وقفها في الشراء الفاسد قبل قبضها قوله وأما فصل الولاية فقد نص فيه أي القدوري على قول أبي يوسف حيث قال
____________________
(6/230)
أو جعل الولاية به اليه جاز على قول أبي يوسف وهو قول هلال أيضا قال المصنف وهو ظاهر المذهب وذكر هلال في وقفه فقال وقال اقوام إن شرط الواقف الولاية لنفسه كانت له وإن لم يشرط لم تكن له ولاية قال مشايخنا الأشبه أن يكون مثل قول محمد لأن من أصله أن التسليم الى القيم شرط لصحة الوقف فإذا سلم لم يبق له ولاية فيه فهذا يدل على أنه لم يثبت تصريح محمد به ولذا أطلق المصنف قوله وهو ظاهر المذهب وأورد على هذا أن مقتضى اشتراط محمد التسليم الى القيم أن لا يثبت للواقف ولاية وإن شرطها لنفسه لأنه ينافي هذا الشرط أجيب بوجهين أحدهما أن تأويل ذلك أن يكون شرط الولاية لنفسه ثم سلمها الى المتولي فإن الولاية تكون له عند محمد فإنه ذكر في فتاوي قاضيخان ذكر محمد في السير أنه اذا وقف ضيعة وأخرجها الى القيم لا تكون له ولاية بعد ذلك الا اذا كان شرط الولاية لنفسه وأما اذا لم يشرط في ابتداء الوقف فليس له ولاية بعد التسليم الى أن قال وهذه المسألة بناء على أن عند محمد التسليم الى المتولي شرط الوقف فلا تبقى له ولاية بعد هذا التسليم إلا أن شرط الولاية لنفسه وأما على قول أبي يوسف التسليم ليس بشرط فكانت الولاية له وإن لم يشرطها ومثل هذا الذي ذكره في الكتاب مذكور في التتمة والذخيرة والآخر أن معنى قول محمد إن شرط الولاية لنفسه فهي له أنه إذا شرط الولاية لنفسه يسقط شرط التسليم عند محمد أيضا لأن شروط الواقف تراعى ومن ضرورته سقوط التسليم قال في النهاية كذا وجدت في موضع بخط ثقة وقدمنا فرعا آخر على اشتراط التسليم عند الكلام عليه ثم استدل المصنف على قول أبي يوسف الذي جعله ظاهر المذهب بقوله ولنا أن المتولي إنما يستفيد الولاية من جهته بشرطه فيستحيل أن لا يكون له ولاية وغيره يستفيدها منه ولقائل أن يمنع استفادة الولاية منه على تقدير كون التسليم شرطا لأنه بالتسليم يخرج عن ملكه فيصير أجنبيا عنه فيجب كون الولاية فيه للحاكم يولي فيه من شاء ممن يصلح لذلك وهو من لم يسأل الولاية في الوقف وليس فيه فسق يعرف بناء على خلوص الحق لله عز وجل لأن الحاكم هو الذي يتولى حقوق الله تعالى وهو تخريج للشافعية فلا بد لكون الولاية له بعد خروجه عن ملكه وعدم اشتراطه لنفسه من دليل بخلاف ما اذا شرطها لنفسه وقد يتم قوله ولأنه أقرب الناس الى الوقف فكان أولى بولايته دليلا على ذلك فإن القاضي ليس أقرب منه اليه والفرض أن الواقف عدل مأمون فهو أحق من القاضي لأنه وإن زال الملك فهو على وجه تعود منفعته للواقف يصرفه الى الجهات التي عينها وهو أنصح لنفسه من غيره فينتصب وليا وقوله كمن اتخذ مسجدا كان أولى بعمارته ونصب المؤذن وكمن أعتق عبدا كان الولاء له لأنه
____________________
(6/231)
أقرب الناس اليه أما عمارته فلا خلاف يعلم فيه وأما نصب المؤذن والإمام فقال أبو نصر فلأهل المحلة وليس الباني أحق منهم بذلك وقال ابو بكر الإسكاف الباني أحق بنصبهما من غيره كالعمارة قال أبو الليث وبه نأخذ إلا أن يريد اماما ومؤذنا والقوم يريدون الأصلح فلهم أن يفعلوا ذلك كذا في النوازل ثم اذا شرط الواقف الولاية لنفسه وكان غير مأمون على الوقف فللقاضي أن يخرجه نظرا للفقراء كما له أن يخرج الوصي نظرا للصغار وكذا لو شرط أن ليس لسلطان ولا لقاض أن يخرجه عنه ويوليها غيره لا يلتفت الى شرطه اذا كان غير مأمون لأنه شرط مخالف لحكم الشرع فيبطل وصرح بأن مما يخرج به الناظر ما اذا ظهر به فسق كشرب الخمر ونحوه وفي فتاوي قاضيخان لو جعل الواقف ولاية الوقف الى رجلين بعد موته فأوصى أحدهما الى صاحبه في أمر الوقف ومات جاز تصرف الحي في جميع الوقف وعن أبي حنيفة لا يجوز لأنه إنما رضي برأيهما وفيها لو جعل أرضه وقفا فمرض مرض الموت فجعل رجلا وصى نفسه ولم يذكر من أمر الوقف شيئا فإن ولاية الوقف لا تكون الى الوصي ولو قال أنت وصي في أمر الوقف خاصة قال ابو يوسف هو كما قال وقال أبو حنيفة هو وصي في الأشياء كلها فصل
لما اختص المسجد بأحكام تخالف أحكام مطلق الوقف عند الثلاثة فعند أبي حنيفة لا يشترط في زوال الملك عن المسجد حكم الحاكم ولا الإيصاء به ولا يجوز مشاعا عند أبي يوسف ولا يشترط التسليم الى المتولي عند محمد أفرده بفصل على حدته وأخره هذا ويمكن أن يجعل من ذلك أيضا ما لو اشترى أرضا شراء فاسدا وقبضها ثم وقفها على الفقراء جاز وعليه قيمتها للفقراء ولو اتخذها مسجدا قال الفقيه أبو جعفر ذكر محمد في كتاب الشفعة أنه لو اشترى أرضا شراء فاسدا وبناها بناء المسجد جاز عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعليه قيمتها للبائع
____________________
(6/232)
وقول أبي يوسف ومحمد ينقض البناء وترد الأرض الى البائع بفساد البيع قال فاشتراط البناء له دليل على أن لا يكون مسجدا قبل البناء عند الكل وذكر هلال أنه يصير مسجدا في قول أصحابنا فصار فيه روايتان قال الفقيه أبو جعفر في الوقف أيضا روايتان والفرق على إحداهما عند هذا القائل أن في الوقف حق العباد كالبيع والهبة وأما المسجد فخالص حق الله لله تعالى وما هو خبيث لا يصلح لله تعالى ولهذا قالوا لو اشترى دارا لها شفيع فجعلها مسجدا كان للشفيع أن يأخذها بالشفعة وكذا اذا كان للبائع حق الاسترداد كان له أن يبطل المسجد قوله وإذا بنى مسجدا لم يزل ملكه عنه حتى يفرزه بطريقه عن ملكه ويأذن للناس في الصلاة فيه فاذا صلى فيه واحد زال ملكه عند أبي حنيفة ومحمد في رواية عنهما وفي رواية أخرى عنهما لا يزول الا بصلاة جماعة وعند أبي يوسف يزول ملكه بمجرد قوله جعلته مسجدا أما قولهما فلأن الملك لم يزل بمجرد القول فمشى محمد على أصله في اشتراط التسليم لكن لا يتعين المتولي لأن تعينه لتحقق التسليم الى من أخرج اليه وهو الله سبحانه وتعالى ولا يتحقق الا في ضمن التسليم الى العبد على ما مر لا كل عبد بل الذي تعود منفعته اليه غير أن المتولي يقام مقامهم في القبض ومقام الواقف في إقبال الغلة لهم لكل وقف في العادة فتعين ولم تجر العادة في المسجد بذلك إذ ليس له غلة يستحقها الناس فأقيم حصول المقصود مقام التسليم وهو بالصلاة فيه وعلى هذا يخرج عن الملك بصلاة المنفرد لأن قبض الجنس متعذر فاكتفى بالواحد وعلى هذه الرواية اختلفوا لو صلى الواقف بنفسه وحده والصحيح أنه لا يكفي لأن الصلاة إنما تشترط لأجل القبض للعامة وقبضه من نفسه لا يكفي فكذا صلاته ووجه رواية اشتراط الجماعة أنها المقصود بالمسجد لا مطلق الصلاة فإنها تتحقق في غير المسجد فكان تحقق المقصود منه بصلاة الجماعة ولهذا يشترط كونها بأذان وإقامة عندهما ولو جعل له واحدا مؤذنا وإماما فأذن واقام وصلى وحده صار مسجدا بالاتفاق لأن أداء الصلاة على هذا الوجه كالجماعة ولهذا قالوا يكره بعد صلاة المؤذن هذه أن تعاد الجماعة لمن يأتي بعده على هذا الوجه عند البعض وقولنا لا يتعين المتولي يفيد أنه لو سلمه الى متول جعله له صح وإن لم يصل فيه أحد وفيه اختلاف المشايخ والوجه الصحة لأن بالتسليم الى المتولي أيضا يحصل تمام التسليم اليه تعالى لرفع يده عنه وجه قول أبي حنيفة في الفرق بين المسجد وغيره في الخروج عن الملك بلا حكم مما سيأتي بأن لفظ الوقف والصدقة في قول الواقف جعلت أرضي صدقة موقوفة
____________________
(6/233)
ونحوها لا يوجب الخروج عن الملك لأن لفظ الوقف لا ينبئ عنه والصدقة ليس معناه الا التصدق بالغلة وهي معدومة فلا يصح بل الوقف ينبئ عن الإبقاء في الملك لتحصل الغلة على ملكه فيتصدق بها فيحتاج الى حكم الحاكم لاخراجه عن ملكه الى غير مالك في محل الاجتهاد بخلاف قوله جعلته مسجدا فإنه ليس منبئا عن إبقاء الملك ليحتاج الى القضاء بزواله فإذا أذن في الصلاة فيه فصلى كما ذكرنا قضى العرف في ذلك بخروجه عنه ومقتضى هذا أمران أحدهما أنه لا يحتاج في جعله مسجدا الى قوله وقفته ونحوه وهو كذلك وبه قال مالك وأحمد وقال الشافعي لا بد من قوله وقفته أو حبسته ونحو ذلك لأن وقف على قربة فكان كالوقف على الفقراء ونحن نقول إن العرف جاز بأن الإذن في الصلاة على وجه العموم والتخلية يفيد الوقف على هذه الجهة فكان كالتعبير به فكان كمن قدم طعاما الى ضيفه أو نثر نثارا كان إذنا في أكله والتقاطه بخلاف الوقف على الفقراء لم تجر عادة فيه بمجرد التخلية والاذن بالاستغلال ولو جرت به عادة في العرف اكتفينا بذلك كمسألتنا والثاني أنه لو قال وقفته مسجدا ولم يأذن في الصلاة فيه ولم يصل فيه أحد لا يصير مسجدا بلا حكم وهو بعيد وأبو يوسف رحمه الله مر على أصله من زوال الملك بمجرد القول أذن في الصلاة أو لم يأذن ويصير مسجدا بلا حكم لأنه إسقاط كالإعتاق وبه قالت الأئمة الثلاثة وينبغي أن يكون قول أبي يوسف إن كلا من مجرد القول والاذن كما قالا موجب لزوال الملك وصيرورته مسجدا لما ذكرنا من العرف قوله ومن جعل مسجدا تحته سرداب وهو بيت يتخذ تحت الأرض لتبريد الماء وغيره أو فوقه بيت ليس للمسجد واحد منهما فليس بمسجد وله بيعه ويورث عنه اذا مات ولو عزل بابه الى الطريق لبقاء حق العبد متعلقا به والمسجد خالص لله سبحانه ليس لأحد فيه حق قال الله تعالى { وأن المساجد لله } مع العلم بأن كل شيء له فكان فائدة هذه الإضافة اختصاصه به وهو بانقطاع حق كل من سواه عنه وهو منتف فيما ذكر أما اذا كان السفل مسجدا فإن لصاحب العلو حقا في السفل حتى يمنع صاحبه أن ينقب فيه كوة أو يتد فيه وتدا على قول أبي حنيفة وباتفاقهم لا يحدث فيه بناء ولا ما يوهن البناء الا بإذن صاحب العلو وأما اذا كان العلو مسجدا فلأن أرض العلو ملك لصاحب السفل بخلاف ما اذا كان السرداب أو العلو موقوفا لصاحب المسجد فإنه يجوز إذ لا ملك فيه لأحد بل هو من تتميم مصالح المسجد فهو كسرداب مسجد بيت المقدس هذا هو ظاهر المذهب وروى عن أبي حنيفة أنه إذا جعل السفل
____________________
(6/234)
مسجدا دون العلو جاز لأنه يتأبد بخلاف العلة وهذا تعليل للحكم بوجود الشرط فإن التأبيد شرط وهو مع المقتضى وإنما يثبت الحكم معهما مع عدم المانع وهو تعلق حق واحد وعن محمد عكسه لأن المسجد معظم وهو تعليل بحكم الشيء وهو متوقف على وجوده وعن أبي يوسف أنه جوز ذلك في الأولين لما دخل بغداد ورأى ضيق الأماكن وكذا عن محمد لما دخل الري وهذا تعليل صحيح لأنه تعليل بالضرورة وكذلك إن اتخذ وسط داره مسجدا وأذن للناس فيه إذنا عاما له أن يبيعه ويورث عنه لأن المسجد ليس لأحد حق المنع منه وإذا كان ملكه محيطا بجوانبه الأربع كان له حق المنع فلم يصر مسجدا ولأنه أبقى الطريق لنفسه فلم يخلص لله تعالى وعن كل من أبي حنيفة ومحمد أنه يصير مسجدا لأنه لما رضي أن يكون مسجدا ولم يصر مسجدا إلا بالطريق دخل فيه الطريق وصار دخلا بلا ذكر كما يدخل في الإجارة بلا ذكر قوله ومن اتخذ أرضه مسجدا لم يكن له أن يرجع ولا يورث عنه يعني بعد صحته بشرطه وفي فتاوي قاضيخان رجل له ساحة لا بناء فيها أمر قوما أن يصلوا فيها بجماعة قالوا إن أمرهم بالصلاة فيها أبدا أو أمرهم بالصلاة بجماعة ولم يذكر الأبد إلا أنه أراد الأبد ثم مات لا يكون ميراثا عنه وإن أمرهم بالصلاة شهرا أو سنة ثم مات يورث لأنه لا بد من التأبيد والتوقيت ينافيه ومقتضى هذا أن لا يصير مسجدا فيما إذا أطلق إلا إذا اعترفت الورثة بأنه أراد الأبد فإن نيته لا تعلم فلا يحكم عليهم يمنع إرثهم بما لم يثبت ولو ضاق المسجد وبجنبه أرض وقف عليه أو حانوت جاز أن يؤخذ ويدخل فيه ولو كان ملك رجل أخذ بالقيمة كرها فلو كان طريقا للعامة أدخل بعضه بشرط أن لا يضر بالطريق وفي كتاب الكراهية من الخلاصة عن الفقيه أبي جعفر عن هشام عن محمد أنه يجوز أن يجعل شيء من الطريق مسجدا أو يجعل شيء من المسجد طريقا للعامة اه يعني اذا احتاجوا الى ذلك ولأهل المسجد
____________________
(6/235)
أن يجعلوا الرحبة مسجدا وكذا على القلب ويحولوا الباب أو يحدثوا له بابا آخر ولو اختلفوا ينظر أيهم أكثر ولاية له ذلك ولهم أن يهدموه ويجددوه وليس لمن ليس من أهل المحلة ذلك وكذا لهم أن يضعوا الحباب ويعلقوا القناديل ويفرشوا الحصر كل ذلك من مال أنفسهم وأما من مال الوقف فلا يفعل غير المتولي إلا بإذن القاضي الكل من الخلاصة إلا أن قوله وعلى القلب يقتضي جعل المسجد رحبة وفيه نظر وقد ذكر المصنف في علامة النون من كتاب التجنيس قيم المسجد إذا أراد أن يبني حوانيت في المسجد أو في فنائه لا يجوز له أن يفعل لأنه اذا جعل المسجد سكنا تسقط حرمة المسجد وأما الفناء فلأنه تبع للمسجد قوله ولو خرب ما حول المسجد واستغنى عنه أي استغنى عن الصلاة فيه أهل تلك المحلة أو القرية بأن كان في قرية فخربت وحولت مزارع يبقى مسجدا على حاله عند أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وعن أحمد يباع نقضه ويصرف الى مسجد آخر وكذا في الدار الموقوفة إذا خربت يباع نقضها ويصرف ثمنها الى وقف آخر لما روى أن عمر كتب الى أبي موسى لما نقب بيت المال الذي بالكوفة انقل المسجد الذي بالتمارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد وعن محمد يعود الى ملك الواقف إن كان حيا والى ورثته إن كان ميتا وإن لم يعرف بانيه ولا ورثته كان لهم بيعه والاستعانة بثمنه في بناء مسجد آخر وجه قوله أنه عينه لقربة وقد انقطعت فينقطع هو أيضا وصار كحصير المسجد وحشيشه اذا استغنى عنه وقنديله اذا خرب المسجد يعود الى ملك متخذه
____________________
(6/236)
وكما لو كفن ميتا فافترسه سبع عاد الكفن الى ملك مالكه وكهدي الإحصار اذا زال الاحصار فأدرك الحج كان له أن يصنع بهديه ما شاء واستدل أبو يوسف وجمهور العلماء بالكعبة فإن الإجماع على عدم خروج موضعها عن المسجدية والقربة إلا أن لقائل أن يقول القربة التي عينت له هو الطواف من أهل الآفاق ولم ينقطع الخلق عن ذلك زمان الفترة وإن كان لا يصح منهم لكفرهم على أن الإيمان لم ينقطع من الدنيا راسا فقد كان لمثل قس بن ساعدة أمثال فالأوجه أنه بعد تحقق سبب سقوط الملك فيه لا يعود كالمعتق كما لا يعود اذا زال الى مالك من أهل الدنيا الا بسبب يوجب تجدد الملك فما لم يتحقق لم يعد وأما ما قاس عليه من هدى الاحصار فليس بلازم لأنه لم يزل ملكه قبل الذبح وكذا الكفن باق على ملك مالكه إنما أباح الانتفاع به على ملكه وقد استغنى المستعير فيعود الى المعير وأما الحصير والقنديل فالصحيح من مذهب أبي يوسف أنه لا يعود الى ملك متخذه بل يحول الى مسجد آخر أو يبيعه قيم المسجد للمسجد ولأنه ما جعله مسجدا ليصلى فيه أهل تلك المحلة لا غير بل يصلى فيه العامة مطلقا أهل تلك المحلة وغيرهم وأما الاستدلال أحمد بما كتبه عمر لا يفيده لأنه يمكن أنه أمره باتخاذ بيت المال في المسجد واستدلاله بالانتفاع بالاستبدال مردود بالحديث المشهور وفي الخلاصة قال محمد في الفرس اذا جعله حبيسا في سبيل الله فصار بحيث لا يستطاع أن يركب يباع ويصرف ثمنه الى صاحبه أو ورثته كما في المسجد وإن لم يعلم صاحبه يشتري بثمنه فرس آخر يغزى عليه ولا حاجة الى الحاكم ولو جعل جنازة وملاءة ومغتسلا وقفا في محلة ومات أهلها كلهم لا يرد الى الورثة بل يحمل الى مكان آخر فإن صح هذا من محمد فهو رواية في الحصر والبواري أنها لا تعود الى الورثة وهكذا نقل عن الشيخ الامام الحلواني في المسجد والحوض اذا خرب ولا يحتاج اليه لنفرق الناس عنه أنه يصرف أوقافه الى مسجد آخر أو حوض آخر
واعلم أنه يتفرع على الخلاف بين أبي يوسف ومحمد فيما اذا استغنى عن المسجد لخراب المحلة والقرية وتفرق أهلها ما اذا انهدم الوقف وليس له من الغلة ما يمكن به عمارته أنه يبطل الوقف ويرجع النقض الى بانيه أو ورثته عند محمد خلافا لأبي يوسف وكذا حانوت في سوق احترق وصار بحيث لا ينتفع به ولا يستأجر بشيء البتة يخرج عن الوقفية وكذا في حوض محلة خرب وليس له ما يعمر به فهو لوارثه فإن لم يعرف فهو لقطة وكذا الرباط اذا خرب يبطل الوقف ويصير ميراثا ولو بنى رجل على هذه الأرض فالبناء للباني وأصل الوقف لورثة الواقف عند محمد فقول من قال في جنس هذه المسائل نظر فليتأمل عند الفتوى غير واقع موقعه وفي الفتاوي الظهيرية سئل الحلواني عن أوقاف المسجد اذا تعطلت وتعذر استغلالها هل للمتولي بيعها ويشتري بثمنها أخرى قال نعم وروى هشام عن محمد أنه قال اذا صار الوقف بحيث لا ينتفع به المساكين فللقاضي أن يبيعه ويشتري بثمنه غيره وعلى هذا فينبغي أن لا يفتي على قوله برجوعه الى ملك الواقف وورثته بمجرد تعطله وخرابه بل اذا صار بحيث لا ينتفع به يشتري بثمنه وقف آخر يستغل ولو كانت غلته دون غلة الأول وكذا للمتولي أن يبيع من تراب مسبلة اذا كان فيه مصلحة وفي فتاوي قاضيخان وقف على مسمين خرب ولا ينتفع به ولا يستأجر أصله يبطل الوقف ويجوز بيعه وإن كان أصله يستأجر بشيء قليل يبقي أصله وقفا انتهى ويجب حفظ هذا فإنه قد تخرب الدار وتصير كوما وهي بحيث لو نقل نقضها استأجر أرضها من يبني أو يغرس ولو بقليل فيغفل عن ذلك وتباع
____________________
(6/237)
كلها للواقف مع أنه لا يرجع منها اليه إلا النقض فإن قلت على هذا تكون مسألة الرباط التي ذكرنا مقيدة بما اذا لم تكن أرضه بحيث تستأجر قلنا الا لأن الرباط موقوف للسكنى وامتنعت بانهدامه بخلاف هذه فإن المراد وقف يكون لاستغلال الجماعة المسمين ولو انهدم بعض بناء الدار وليس ثم ما يعاد به يباع ويحفظ ثمنه في يد القائم بأمر الواقف الى أن يحتاج الباقي الى العمارة فيصرف فيه وكذا اذا يبس بعض أشجار الأرض الموقوفة يبيعها ولا يبيع من نفس الأرض لذلك ولا يعطي المستحقون شيئا من ثمن النقض ولا من عينه بوجه من الوجوه لأنه لا حق لهم فيما سوى الغلة بل الحال أنه إن أمكن شراء شيء يستغل ولو قليلا أو إجارة الأرض بشيء ولو قليلا فعل وحفظه لعمارة ما بقي ولو خرب الكل وتعذر أن يشتري بثمنه مستغل ولو قليلا حينئذ يرجع الى ملك الواقف قوله ولو بنى سقاية للمسلمين أو خانا يسكنه بنو السبيل أو رباطا أو جعل أرضه مقبرة لم يزل ملكه عن ذلك حتى يحكم به الحاكم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولو سلمه الى متول لأنه لم ينقطع حقه عنه ألا ترى أنه ينتفع به في الحال فله أن يسكن في الخان وينزل في الرباط ويشرب من السقاية ويدفن في المقبرة فيشترط حكم الحاكم أو الإضافة الى ما بعد الموت ليكون وصية فيلزم بعد الموت وله أن يرجع عنه قبل موته على ما مر كما في الوقف على الفقراء بل أولى لأن الثابت في كل منهما لفظ ينبئ عن الخروج عن الملك كما قدمناه في وقفت وتصدقت وفي هذه الأمور مع ذلك ثبوت تعلق حقه انتفاعا بعين الوقف كما ذكرنا بخلاف الوقف على الفقراء ونحوه بخلاف المسجد لا يشترط في زواله عن ملكه حكم ولا وصية لأنه لم يبق له حق الانتفاع به فخلص لله عز وجل بلا حكم وعند أبي يوسف يزول ملكه بمجرد القول كما هو أصله وقوله قول الأئمة الثلاثة كما مر وعند محمد لا يزول حتى يستقي الناس من السقاية ويسكنوا الخان والرباط ويدفنوا في المقبرة لأن التسليم عنده شرط وتسليم هذه بما ذكرنا من سكناهم الخان والرباط الى آخره ويكتفي بالواحد في التسليم الموجب لزوال الملك لتعذر فعل الجنس أي تسليم الكل على تقدير تسليمهم وعلى هذا البئر إذا احتفره والحوض يزول الملك إذا استقى منهما واحد أو شربت دابة ومن ذلك ما لو أدخل قطعة أرض له في طريق المسلمين وجعلها طريقا يشترط فيه مرور واحد بإذنه على قول من يشترط القبض في الأوقاف وكذا القنطرة
____________________
(6/238)
يتخذها للمسلمين تلزم بمرور واحد ولا يكون بناؤها ميراثا ولو سلم الى المتولي صح التسليم في هذه الوجوه أعني السقاية والخان والرباط والمقبرة والبئر والحوض لأنه أعني المتولي نائب عن الموقوف عليهم ففعله أي تسليمه كفعلهم أي تسلمهم وأما في المسجد فقيل لا يكون تسليما وقيل يكون وقد قدمناه مع وجهه ووجه المصنف الصحة بأنه أي المسجد يحتاج الى من يكنسه ويغلق بابه فإذا سلم اليه صح التسليم لأنه متول له عرفا واختلف في المقبرة قيل كالمسجد على القول بأنه لا يكفي في إزالة الملك عنه التسليم الى متول لأنه لا متولي له فلا يزول الملك الا بالدفن فيها وقيل كالسقاية فيصح التسليم الى المتولي قوله ولو جعل دارا له بمكة سكنى للحاج والمعتمرين أو جعل داره في غير مكة سكنى للمساكين أو جعلها في ثغر من الثغور سكنى للغزاة والمرابطين أو جعل غلة أرضه للغزاة في سبيل الله ودفع ذلك الى وال يقوم عليه فهو جائز ولا رجوع فيها أي في السقاية والمقبرة وفي الدار المسبلة عندهما للخروج عن ملكه بذلك القدر وهو قول الأئمة الثلاثة بلا شرط الدفع الى المتولي كقول أبي يوسف وعند أبي حنيفة له أن يرجع مالم يحكم بذلك حاكم ثم روى الحسن عنه أنه اذا رجع بعد الدفن لا يرجع الى المحل الذي دفن فيه ويرجع فيما سواه ثم اذا رجع في المقبرة بعد الدفن لا ينبشها لأن النبش حرام ولكن يسوي الأرض ويزرع وهذا على غير رواية الحسن والفتوى في ذلك كله على خلاف قول أبي حنيفة رضي الله عنه للتعامل المتوارث هذا وتفارق المقبرة غيرها بأنه لو كان في المقبرة أشجار وقت الوقف كان للورثة أن يقطعوها لأن موضعها لم يدخل في الوقف لأنه مشغول بها كما لو جعل داره مقبرة لا يدخل موضع البناء في الوقف بخلاف غير المقبرة فإن الأشجار والبناء إذا كان في عقار وقفه دخلت في الوقف تبعا ولو نبتت فيها بعد الوقف إن علم غارسها كانت للغارس وإن لم يعلم فالرأي فيها للقاضي إن رأى بيعها وصرف ثمنها على عمارة المقبرة فله ذلك وتكون في الحكم كأنها وقف ولو كانت قبل الوقف لكن الأرض موات ليس لها مالك فاتخذها أهل القرية مقبرة فالأشجار على ما كانت عليه قبل جعلها مقبرة ولو أن رجلا غرس شجرة في المسجد فهي للمسجد أو في أرض موقوفة على رباط مثلا فهي للوقف إن قال للقيم تعاهدها ولو لم يقل فهي له يرفعها لأنه ليس له هذه الولاية ولا يكون غارسا للوقف ولو غرس في طريق العامة أو على شط النهر العام أو
____________________
(6/239)
شط الحوض القديم فهي للغارس لأنه ليس له ولاية جعلها للعامة وكذا على شط نهر القرية ولو قطعها فنبت من عروقها أشجار فهي للفارس ولو بنى رجل في المقبرة بيتا لحفظ اللبن ونحوه إن كان في الأرض سعة جاز وإن لم يرض بذلك أهل القرية لكن اذا احتيج الى ذلك المكان يرفع البناء ليقبر فيه ومن حفر لنفسه قبرا فليغيره أن يقبر فيه وإن كان في الأرض سعة إلا أن الأولى أن لا يوحشه إن كان فيها سعة وهو كمن بسط سجادة في المسجد أو نزل في الرباط فجاء آخر لا ينبغي أن يوحش الأول إن كان في المكان سعة وذكر الناطفي أنه يضمن قيمة الحفر ليجمع بين الحقين ولا يجوز لأهل القرية الانتفاع بالمقبرة الدائرة فإن كان فيها حشيش يحش ويخرج الى الدواب ولا يرسل الدواب فيها ثم في جميع ما ذكرناه من سكنى الخان ودار الغزاة والسقاية والاستقاء من البئر يستوي الغني والفقير بخلاف وقف الغلة على الغزاة فإنه تحل للفقراء دون الأغنياء منهم قال المصنف والفارق فيه العرف فإن الواقفين من أهل العرف يريدون بذلك في الغلة الفقراء وفي غيرها التسوية بينهم وبين الأغنياء ولأن الحاجة تشمل الغني والفقير في الشرب والنزول لأن الغني لا يقدر على استصحاب ما يشربه في كل مكان ولا على أن يشتري ذلك في كل منزلة من السفر وعلى هذا فيجب في الرباط أن يخص سكناه بالفقراء لأن العرف على أن بناء الأربطة للفقراء وهذان فصلان في المتولي والموقوف عليه
الفصل الأول في المتولي
قالوا لا يولي من طلب الولاية على الأوقاف كمن طلب القضاء لا يقلد وللمتولي أن يشتري بما فضل من غلة الوقف اذا لم يحتج الى العمارة مستغلا ولا يكون وقفا في الصحيح حتى جاز بيعه ومن سكن دار الوقف غصبا أو بإذن المتولي بلا أجرة كان عليه أجرة مثله سواء كان ذلك معدا للاستغلال أو غير معد له حتى لو باع المتولي دارا للوقف فسكنها المشتري ثم رفع الى قاض هذا الأمر فأبطل البيع وظهر الاستحقاق للوقف كان على المشتري أجرة مثله وللمتولي أن يستأجر من يخدم المسجد بكنسه ونحو ذلك بأجرة مثله أو زيادة يتغابن فيها فإن كان أكثر فالإجارة له وعليه الدفع من مال نفسه ويضمن لو دفع من مال الوقف وإن علم الأجير أن ما أخذه من مال الوقف لا يحل له وله أن ينفق من ماله على حاجة الوقف ولو أدخل جذعا من ماله في المسجد كان له الرجوع كالوصي إذا أنفق على الصغير وله أن يشتري من غلة المسجد دهنا وحصيرا وآجرا وحصا لفرش المسجد إن كان الواقف وسع فقال يفعل ما يراه مصلحة وإن وقف لبناء المسجد ولم يزد فليس له أن يشتري ذلك فإن لم يعرف له شرط يعمل ما عمل من قبله ولا يستدين على الوقف الا اذا استقبله امر لا بد منه فيستدين بأمر القاضي ويرجع في غلة الوقف وذكر الناطفي وكذا له أن يستدين لزراعة الوقف وبزره بأمر القاضي لأن القاضي يملك الاستدانة على الوقف فصح بأمره بخلاف المتولي لا يملكه والاستدانة أن لا يكون في يده شيء فيستدين ويرجع أما اذا كان في يده مال الوقف فاشترى ونقد من مال نفسه فإنه يرجع بالإجماع لأنه كالوكيل
____________________
(6/240)
إذا اشترى ونقد الثمن من مال نفسه له أن يرجع وليس له أن يرهن دار الوقف فإن فعل وسكنها المرتهن ضمن أجرة المثل ولو أنفق دراهم الوقف في حاجة نفسه ثم أنفق من ماله مثلها في الوقف جاز ويبرأ عن الضمان ولو خلط دراهم الوقف بمثلها من ماله كان ضامنا للكل ولو اجتمع مال للوقف ثم نابت نائبه من الكفرة فاحتيج الى مال لدفع شرهم قال الشيخ الامام ما كان من غلة وقف المسجد الجامع يجوز للحاكم أن يصرفه الى ذلك على وجه القرض إذا لم تكن حاجة للمسجد اليه وله أن يبني على باب المسجد ظلة لدفع أذى المطر عن الباب من مال الوقف إن كان على مصالح المسجد وإن كان على عمارته أو ترميمه فلا يصح والأصح ما قاله ظهير الدين أن الوقف على عمارة المسجد ومصالح المسجد سواء واذا كان على عمارة المسجد لا يشتري منه الزيت والحصير ولا يصرف منه للزينة والشرفات ويضمن إن فعل ومن وقف وقفا ولم يجعل له متوليا حتى حضرته الوفاة فأوصى الى رجل قالوا يكون وصيا وقيما هذا في قول أبي يوسف لأن التسليم ليس بشرط فصح الوقف في حياته بلا تسليم بخلاف مالو جعل له قيما ثم حضرته الوفاة فأوصى لا يكون هذا الوصي قيما في الوقف قيم مسجد مات فاجتمع أهل المسجد على جعل رجل قيما بغير أمر القاضي فقام وأنفق من غلات وقف المسجد في عمارته اختلف المشايخ في هذه التولية والأصح لا تصح بل نصب القيم الى القاضي لكن لا يضمن ما أنفق في العمارة من غلاته اذا كان أجر الوقف وأخذ الغلة فأنفق لأنه اذا لم تصح ولايته فإنه غاصب والغاصب إذا أجر المغصوب كان الأجر له ويتصدق به كذا في فتاوي قاضيخان وأنت تعلم أن المفتي به تضمين غاصب الأوقاف بخلاف ما اذا كان وقف على أرباب معلومين فإن لهم أن ينصبوا متوليا من أهل الصلاح لكن قيل الأولى أن يرفعوا أمرهم الى القاضي لينصب لهم وقيل بل الأولى في هذا الزمان أن لا يفعلوا وينصبوا لهم وليس للمشرف أن يتصرف في مال الوقف بل وظيفته الحفظ لا غير وهذا يختلف بحسب العرف في معنى المشرف وللمتولي أن يفوض الى غيره عند موته كالوصي له أن يوصي الى غيره إلا أنه لو كان الواقف جعل لذلك المتولي مالا يسمى لم يكن ذلك لمن أوصى اليه بل يرفع الأمر الى القاضي إذا تبرع بعمله ليفرض له أجر مثله إلا أن يكون الواقف جعل ذلك لكل متول وليس للقاضي أن يجعل للذي أدخله ما كان الواقف جعله للذي كان أدخله لأن للواقف في هذا ما ليس للحاكم وكذا إذا أخذ المتولي من مال الوقف ومات بلا بيان لا يضمن فالأمانات تنقلب مضمونة بالموت عن تجهيل الا في ثلاث هذه إحداها والثانية إذا أودع السلطان الغنيمة عند بعض الغانمين ومات ولم يبين عند من أودع والثالثة القاضي إذا أخذ مال اليتيم وأودع غيره ثم مات ولم يبين عند من أودع لا ضمان عليه أما لو كان القاضي أخذ مال اليتيم عنده ولم يبين حاله حتى مات فقد ذكر هشام عن محمد أنه يضمن ولو قال قبل موته ضاع مال اليتيم عندي أو أنفقته عليه ومات لا يكون ضامنا أما لو مات قبل أن يقول ضمن وكذا لو باع المتولي دار الوقف ومات ولم يبين اين الثمن فإنه يكون دينا في تركته وللناس أن يأخذوا المتولي بتسوية حائط الوقف اذا مال الى أملاكهم فإن لم تكن له غلة يرفع الى القاضي ليأمر بالاستدانة لإصلاحها وله أن يبني قرية في أرض الوقف للأكرة وحفاظها وليجمع فيها الغلة وأن يبني بيوتا يستغلها اذا كانت الأرض متصلة ببيوت المصر ليست للزراعة فإن كان زراعتها أصلح من الاستغلال لا يبني وفي النوازل في إقراض ما فضل من مال الوقف قال
____________________
(6/241)
إن كان أحرز للغة أرجو أن يكون واسعا ولا يؤجر الوقف إجارة طويلة وأكثر ما يجوز ثلاث سنين وليس له الإقالة إلا إن كانت أصلح للوقف ولو زرع الواقف أو المتولي أرض الوقف وقال زرعتها لنفسي وقال المستحقون بل للوقف فالقول قوله وعلى الواقف والمتولي في هذا نقصان الأرض وليس عليهما أجر مثل الأرض ويقول القاضي له ازرعها للوقف فإن قال ليس للوقف مال ازرعها به يأمره بالاستدانة لذلك فإن قال لا يمكنني يقول لأهل الوقف استدينوا فإن قالوا لا يمكننا بل نزرع لأنفسنا لا يمكنهم لأن الوقف في يد الواقف فهو أحق به ولا يخرجه عنه الا أن يكون غير مأمون ذكر هذه المسألة بفروعها في فتاوي قاضيخان وغيره وينعزل الناظر بالجنون المطبق اذا دام سنة نص عليه الخصاف لا إن دام أقل من ذلك ولو عاد اليه عقله وبرأ من علته عاد اليه النظر وللناظر أن يوكل من يقوم بما كان اليه من أمر الوقف ويجعل له من جعله شيئا وله أن يعزله ويستبدل به أولا يستبدل ولو جن انعزل وكيله ويرجع الى القاضي في النصب ولو أخرج حاكم قيما فمات أو عزل فتقدم المخرج الى القاضي الثاني بأن ذلك القاضي أخرجه بلا جنحة لا يدخله لأن أمر الأول محمول على السداد ولكن يكفله أن يقيم عنده بينة أنه أهل وموضع للنظر في هذا الوقف فإن فعل أعاده وكذا لو أخرجه لفسق وخيانة فبعد مدة أناب الى الله واقام بينة أنه صار أهلا لذلك فإنه يعيده وليس على الناظر أن يفعل إلا ما يفعله أمثاله من الأمر والنهي بالمصالح ويصرف الأجر من مال الوقف للعملة بأيديهم ولذا قلنا لو عمى أو طرش أو خرس أو فلج إن كان بحيث يمكنه الكلام من الأمر والنهي والأخذ والإعطاء فله الأجر الذي عينه له الواقف وللناظر في الوقف على الفقراء أن يعطي قوما مدة وله أن يقطعهم ويعطي غيرهم فكيف لا يدخل كثرة بحيث يحاصصونهم وفي وقف الخصاف أن حكم القاضي أن لا يعطي غير هذا الرجل لم يعط غيره وما لم يحكم بذلك له أن يعطي غيره ويحرمه لأن في كل منهما تنفيذ شرط الواقف وقد استبعدت صحة هذا الحكم وكيف ساغ بلا شروط حتى ظفرت في المسألة بقوله أن هذا الحكم لا يصح ولا يلزم الفصل الثاني في الموقوف عليه
وقف على زيد ثم المساكين فرد زيد فهو للمساكين وكذا على زيد وعمرو فرد أحدهما أو ظهر أنه كان ميتا فنصيبه للمساكين وكذا اذا ردا جميعا ومن قبل بعد الرد لا يعود ومن أخذ سنة ليس له أن يرد بعد ذلك أما لو قال لا أقبلها سنة وأقبل ما سوى ذلك فإنه يجوز وحصته من هذه السنة للباقي من أهل الوقف ثم يشاركهم فيما بعدها ولو قبل سنين وسماها ليس له أن يردها بل بعدها على ولده وقوله على ولد فلان أبدا ما تناسلوا فرده الموجودون صار للفقراء فإذا جاء من بعدهم رجع من الفقراء اليهم إلا أن يردوه ولو رد واحد منهم فقط فالغلة كلها لمن قبل ويجعل من لم يقبل كالميت بخلاف ما لو أوصى بثلثه لولد عبد الله وكانوا يوم مات أربعة فرد واحد فحصته لورثة الموصي وهذه مما افترق فيه الوصية والوقف والفرق ذكره هلال وغيره وعلى فلان وولده فرده فلان لم يعمل رده في رد ما لولده صغارا كانوا أو كبارا وقف على ولده ثم للمساكين فلولد صلبه يستوي فيه الذكر والأنثى إلا أن يخص صنفا ما دام واحد منهم فالكل له فإن لم يكن له ولد وقت الوقف بل ولد ابن كان له
____________________
(6/242)
لا يشاركه من دونه من البطون فإن كان ابن بنت لا يدخل في ظاهر الرواية وبه أخذ هلال وعن محمد يدخل وصحح ظاهر الرواية ثم إذا ولد للواقف ولد لصلبه رجع من ابن الابن إليه ولو ضم إلى الولد ولد الولد فقال على ولدي وولد ولدي ثم للمساكين اشترك فيه الصليبيون وأولاد بنيه وأولاد بناته كذا اختاره هلال والخصاف وصححه في فتاوى قاضيخان وأنكر الخصاف رواية حرمان أولاد البنات وقال لم أجد من يقوم برواية ذلك عن أصحابنا وإنما روي عن أبي حنيفة فيمن أوصى بثلثه لولد زيد بن عبد الله فإن وجد له ولد ذكور وإناث لصلبه يوم يموت الموصي كان بينهم فإن لم يكن له ولد لصلبه بل ولد ولد من أولاد الذكور والإناث كان لولد الذكور دون البنات فكأنهم قاسوا على ذلك وهذه هي وزان المسئلة الأولى وفرق شمس الأئمة بينها وبين هذه بأن ولد الولد اسم لمن ولده ولده وبنته ولده بخلاف قوله ولدي فإن ولد البنت لا يدخل في ظاهر الرواية لأن اسم ولده يتناول ولده لصلبه وإنما وضع في ولد ابنه لأنه ينسب إيله عرفا قال وذكر محمد رحمه الله أن ولد الولد يتناول ولد البنت عند أصحابنا لكن ذكر المصنف في التجنيس أن الفتوى على ظاهر الرواية فقد اختلفوا في الاختيار والوجه الذي ذكر شمس الأئمة من صدق ولد الولد على ولد البنت صحيح من حيث اللغة لكن وجه ظاهرالرواية التمسك فيه بالعرف فإنه يتبادر من قول القائل ولد ولد فلان كذا وكذا ولد ابنه وكلام الواقفين منصرف إلى العرف فإن تخاطبهم به بخلاف ما إذا لم يضف إلى الولد كما يقال ولدت فلانة فإنه يقال أولدت ذكرا أو انثى فإن هذا الاستفهام ظاهر في عدم فهم الذكر بخصوصه وإذا عرف الاختلاف في دخول أولاد البنات في أولاد أولاد أولادي فيجب فيما لو قال على الذكور من أولادي وأولاد أولادي إدخال ابن البنت على الخلاف لا يدخل على ظاهر الرواية لأنه ليس ابن ولد الولد وعلى الرواية الأخرى يدخل ثم إذا انقرض ولد الولد لا يعطي لمن بعدهم بل للفقراء ولو قال ولدي وولد ولدي وولد ولدي صرفت إلى أولاده أبدا ما تناسلوا ولا يصرف للفقراء ما كان من نسله واحد ويستوي الأقرب والأبعد إلا أن يرتب الواقف ولو قال أولادي بلفظ الجمع يدخل النسل كله كذكر الطبقات الثلاث بلفظ ولدي ولو قال ولدي وأولادهم وله أولاد أولاد مات آباؤهم قبل الوقف لا يدخلون مع أولاد الأولاد الموجودين لأنه لما قال بعد موت أولئك على أولادي فإنما أراد الموجودين وضمير أولادهم يرجع إليهم خاصة بخلاف أولادي وأولاد أولادي لا موجب لقصره على الأولاد الموجودين فتدخل أولاد الذين ماتوا من قبل معهم ولو قال أولادي وهم فلان وفلان وفلان وبعدهم للفقراء فمات أحد الثلاثة أعطى نصيبه للفقراء لا للباقين من إخوته بخلاف ما لو لم يقل فلان وفلان وفلان بل أولادي ثم الفقراء يصرف الكل للواحد إذا مات من سواه ولو قال على بني وله ذكران صرف إليهما وإن كان واحد فله النصف والنصف الآخر للفقراء لأن أقل الجمع اثنان فإنما جعل مستحق كله اثنين وعليه فرع ابن الفضل قوله على المحتاجين من ولدي وليس في ولده محتاج إلا واحد أن النصف له والنصف الآخر للفقراء غير أنه يشكل بأولادي فإنه يصرف للواحد الكل إلا أن يكون عرف في أولادي يخالف كل جمع لمادة غيره كبني والمحتاجين ونحوه مما هو جمع غير لفظ أولادي ونقل الخلاف بين أبي يوسف ومحمد فيما لو أعطى القيم نصيب الفقراء لواحد أجازه أبو يوسف لأن الفقراء لا يحصون فكان المقصود الجنس ومنعه محمد للجمعية فوجب إعطاء اثنين وتدخل البنات
____________________
(6/243)
في قوله بني واختاره هلال وعن أبي حنيفة اختصاص الذكور به قال بعض المشايخ في المسألة روايتان انتهى والوجه الدخول لما عرف في أصول الفقه وعليه بنوا قول المستأمن آمنوني على بني تدخل البنات قال في الخلاصة وهذا إنما يستقيم في بني أب يحصون أما فيما لا يحصون فيصح أن يقال هذه المرأة من بني فلان انتهى يعني فتخذل المرأة بلا تردد ولو لم يكن له الا بنات صرفت الغلة للفقراء وعلى بناتي لا تدخل الذكور ثم المستحق من الولد كل من أدرك خروج الغلة عالقا في بطن أمه حتى لو حدث ولد بعد خروج للغلة بأقل من ستة أشهر استحق ومن حدث إلى تمامها فصاعدا لا يستحق لأنا نتيقن بوجود الأول وفي البطن عند خروج الغلة فاستحق فلو مات قبل القسمة كان لورثته وهذا في ولد الزوجة أما لو جاءت أمته بولد لأقل من ستة أشهر فاعترف به لا يستحق لأنه متهم في الإقرار على الغير أعني باقي المستحقين بخلاف ولد الزوجة فإنه حين يولد ثابت النسب ولو مات الواقف من غير تخلل وقت يمكن فيه الرجوع الى أهله فجاءت بولد لسنتين من يوم وقف استحق من كل غلة خرجت فيما بين ذلك وكذا لو طلقها عقيب الوقف بلا تخلل مدة كذلك بخلاف ما اذا كان الموت والطلاق بعد زمان يمكن فيه الرجوع لاحتمال أنه من حمل حدث وخروج الغلة التي هي المناط وقت انعقاد الزرع حبا وقال بعضهم يوم يصير الزرع متقوما ذكره في فتاوي قاضيخان وهذا في الحب خاصة وفي وقف الخصاف يوم طلعت الثمرة وينبغي أن يعتبر وقت أمانه العاهة كما في الحب لأنه بالانعقاد يأمن العاهة وقد اعتبر انعقاده وأما على طريقة بلادنا من إجارة أرض الوقف لمن يزرعها لنفسه بأجرة تستحق على قلادة ثلاثة أقساط كل أربعة أشهر قسط فيجب اعتبار إدراك القسط فهو كإدراك الغلة فكل من كان مخلوقا قبل تمام الشهر الرابع حتى تم وهو مخلوق استحق هذا القسط ومن لا فلا وهذا كله بخلاف ما لو قال على أصاغر ولدي أو العميان منها أو العور فإن الوقف يختص بهم ويعتبر الصغر والعور والعمى يوم الوقف لا يوم الغلة بخلاف الوقف على ساكني البصرة مثلا وبغداد يعتبر سكنى البصرة يوم الغلة والأصل أن ما كان لا يزول فهو كالاسم العلم وكذلك اذا زال على وجه لا يحتمل العود فيعتبر وجوده يوم الوقف بخلاف الفقر وسكنى البصرة يحتمل العود بعد الزوال ولو قال من خرج يسقط سهمه فخرج واحد ثم عاد لا يعود سهمه كما لو وقف على الأيامى على أن من تزوجت سقط سهمها فتزوجت بواحد ثم طلقت لا يعود الا إن كان نص على ذلك وكل من مات من المستحقين اذا لم يبين الواقف حال حصته بعد موته يقسم على الباقين فقد تنتقض القسمة في كل سنة ويعطي الغني والفقير من الأولاد إلا أن يعين المحتاجين من ولده فيلزم فمن ادعى الحاجة منهم لا يعطي مالم يثبتها عند القاضي ولو تعارضت بيننا فقره وغناه حرم تقديما لبينة غناه لأنها أكثر إثباتا ومن ولد لأقل من ستة أشهر من وقت خروج الغلة لا يستحق عند هلال لأنه لا يوصف بالحاجة في بطن أمه ولذا لم يجعل نفقة الحامل في مال من في بطنها واستحق عند الخصاف لأنه كان مخلوقا قبل مجيء الغلة ولا مال له ولو لم يكن فيهم محتاج كان للمساكين ومن افتقر بعد الغنى رجع اليه الكل وفي وقف الخصاف رحمه الله لو اجتمعت عدة سنين بلا قسمة حتى استغنى قوم وافتقر آخرون ثم قسمت يعطي من كان فقيرا يوم القسمة ولا أنظر الى من كان فقيرا وقت الغلة ثم استغنى فأعطيه بخلاف من لم يكن موجودا وقت القسمة لا يعطي من هذه القسمة شيئا بل مما بعدها وكذا
____________________
(6/244)
لو خص عميان أولاده ونحوه تعينوا والمحتاج الذي يصرف اليه من تدفع اليه الزكاة ولا يكون له أرض أو دار يستغلها وإن لم تف غلتها بكفايته حتى يبيعها وينفق ثمنها أو يفضل منه اقل من نصاب بخلاف الدار التي يسكنها وعبد الخدمة وليس الموقوف عليهم الدار سكناها بل الاستغلال كما ليس للموقوف عليهم السكنى الاستغلال
واعلم أنه اذا ذكر أولاده واقاربه صح للغني والفقير منهم إلا أن يختص الفقراء كما ذكرنا وأما غيرهم قال شمس الأئمة إذا ذكر مصرفا فيهم تنصيص على الحاجة فهو صحيح سواء كانوا يحصون أو لا يحصون لأن المطلوب وجه الله تعالى ومتى ذكر مصرفا يستوي فيه الأغنياء والفقراء فإن كانوا يحصون فذلك صحيح لهم باعتبار أعيانهم وإن كانوا لا يحصون فهو باطل إلا إن كان في لفظه ما يدل على الحاجة استعمالا بين الناس لا باعتبار حقيقة اللفظ كاليتامى فالوقف عليهم صحيح ويصرف للفقراء منهم دون أغنيائهم فانبنى على هذه مالو وقف على الرجال أو النساء أو المسلمين أو الصبيان أو على مضر أو ربيعة أو على تميم أو بني هاشم لا يجوز شيء من ذلك لانتظامه الأغنياء والفقراء مع عدم الإحصاء ولا مميز في الاستعمال ونص الخصاف على أن الوقف على الزمني والعميان والعوران باطل من قبل أن ينتظم الغني والفقير وهم لا يحصون وكذا على قراء القرآن وعلى الفقهاء أو قال على أصحاب الحديث أو الشعراء كل ذلك باطل لما ذكرنا والذي يقتضيه الضابط الذي ذكره شمس الأئمة أنه يصح على الزمني والعميان وقراء القرآن والفقهاء وأهل الحديث ويصرف للفقراء منهم كاليتامى لإشعار الأسماء بالحاجة استعمالا لأن العمى والاشتغال بالعلم يقطع عن الكسب فيغلب فيهم الفقر وقد صرح في الوقف على الفقهاء باستحقاق الفقراء منهم وهو فرع الصحة والمسألة المذكورة في آخر فصل المسجد من الهداية تفيد ذلك وهي ما اذا جعل غلة أرضه وقفا على الغزاة أنه يصح ويصرف الى فقراء الغزاة مع أن اسم الغزاة ينتظم الغني والفقير وهم لا يصحون غير أنه يشعر بالحاجة ونص في وقف هلال على جوازه على الزمني ويدفع لفقرائهم وصرح في وقف الخصاف بصحة الوقف على ارامل بني فلان وأنه لكل أرملة كانت يوم الوقف أو حدثت سواء كن يحصين أو لا وهو للفقراء منهن اذا كانت بالغة فمن أعطى منهن أجرا والأرملة المستحقة كل بالغة كان لها زوج وطلقها أو مات وخالفوا في الأيامى فإذا وقف على ايامى بني فلان وبعدهن للمساكين أو ايامى قرابتي إن كن يحصين فالوقف جائز وغلته للغنية والفقيرة وإن كن لا يحصين لم يجز الوقف فيكون للمساكين والأيم المستحقة كل أنثى جومعت ولو بفجور ولا زوج لها بالغة أو لا ولو قال على كل ثيب من بني فلان أو من قرابتي فإن كن يحصين جاز لهن ولكل من يحدث منهن وإن كن لا يحصين في وقت قسمة من القسم فهو باطل والغلة للمساكين والثيب كل من جومعت ولو بفجور ولها زوج أولا وإن لم تبلغ ولأبكار قرابتي أو بني فلان فإن كن يحصين فهو لهن ولمن يحدث أبدا وإن كن لا يحصين فالوقف عليهن باطل وهو لمساكين والبكر من لم تجامع وإن كانت العذرة زائلة وفي كل مالا يحصى ممن ذكرنا أنه لا يصح معه الوقف لو قيد فقال للفقراء منهن جاز ومن أعطي أجزأ كالوقف على الأقارب وقف على أهل بيته ثم المساكين دخل الغني والفقير ممن يناسبه الى الأب الذي أدرك الإسلام أسلم ذلك الأب أولا ممن كان موجودا حال الوقف أو حدث بعد ذلك من الرجال والنساء والصبيان لأقل من ستة أشهر من مجيء الغلة ولو كانوا مرقوقين لقوم أو كفار أو ذميين ولا يدخل في ذلك الأب ويدخل
____________________
(6/245)
أبو الواقف وأجداده وولده لصلبه وأولاد الذكور منهم وإن سفلوا ولا تدخل أبناء البنات من ولده إلا إذا كان آبائهم ممن يناسبه الى ذلك الجد الذي أدرك الاسلام ولا يدخل الواقف ولا أولاد عماته ولا أولاد أخواته إذا كان آباؤهم من قوم آخرين وقوله على آلي وجنسي كأهل بيتي ولا يخص الفقراء منهم إلا أن خصهم وقوله على الفقراء منهم وعلى من افتقر منهم سواء حيث يكون لمن يكون فقيرا وقت الغلة وإن كان غنيا وقت الوقف ولا يتقيد بمن كان غنيا فافتقر على الصحيح ولو وقف على قرابته فهو لمن يناسبه الى أقصى أب في الإسلام من قبل أبيه أو الى أقصى أب له في الاسلام من قبل أمه لكن لا يدخل أبو الواقف ولا أولاده لصلبه وفي دخول الجد روايتان وظاهر الرواية لا يدخل ويدخل أولاد البنات وأولاد العمات والخالات والأجداد الأعلون والجدات ورحمى وأرحامي وكل ذي نسب مني كالقرابة وعلى عيالي يدخل كل من كان في عياله من الزوج والولد والجدات ومن كان يعوله من ذوي الرحم وغير ذوي الرحم وإذا عرف هذا فلو قال على أهل بيتي فإذا انقرضوا فعلى قرابتي فهو صحيح وتصرف بعدهم لمن يناسبه من قبل أبيه ولو عكس فقال على قرابتي فإذا انقرضوا فعلى أهل بيتي لم يصح ومثله لو قال على إخوتي فإذا انقرضوا فعلى اخوتي لأبي وله إخوة متفرقون إذ بعد انقراض الكل لا يبقى له أخ فيكون بعد انقراضهم للمساكين وعلى جيرانه يجوز ثم هم عند أبي حنيفة رضي الله عنه الملاصقون فهو لجميع من في كل دار لاصقته من الأحرار ولو كانوا أهل ذمة والعبيد بالسوية قربت الأبواب أو بعدت وعند أبي يوسف هم الذين تجمعهم محلة واحدة أو مسجد واحد فإن جمعتهم محلة واحدة وتفرقوا في مسجدين فهي محلة واحدة إن كان المسجدان صغيرين متقاربين فإن تباعدا وكان مسجد عظيم جامع فكل أهل مسجد جيران دون الآخرين وقال محمد هم الملازقون السكان سواء كانوا مالكين للدار أو لا وسيأتي بقية هذا إن شاء الله تعالى ولا يدخل الأرقاء ومن انتقل من الجوار على الخلاف في الجار بطل حقه من الوقف = كتاب البيوع
عرف أن مشروعات الشارع منقسمة الى حقوق الله تعالى خالصة وحقوق العباد خالصة وما اجتمع فيه الحقان وحقه تعالى غالب وما اجتمعا فيه وحق العباد غالب فحقوقه تعالى عبادات وعقوبات وكفارات
____________________
(6/246)
فابتدأ المصنف بحقوق الله تعالى الخالصة وغيرها حتى أتى على آخر أنواعها ثم شرع في حقوق العباد وهي المعاملات ثم في ترتيب خصوص بعض الأبواب على بعض مناسبات خاصة ذكرت في مواضعها ووقع في آخرها ترتيب أول أقسام حقوق العباد أعني البيع على الوقف ووجهه أن الوقف إذا صح خرج المملوك عن ملك الواقف لا الى مالك وفي البيع الى مالك فننزل الوقف في ذلك منزلة البسيط من المركب والبسيط مقدم على المركب في الوجود فقدمه في التعليم هكذا ذكر ولا يخفي شروعه في المعاملات من زمان فإن ما تقدم من اللقطة واللقيط والمفقود والشركة من المعاملات ثم البيع مصدر فقد يراد به المفعول فيجمع باعتباره كما يجمع المبيع وقد يراد به المعنى وهو الأصل فجمعه باعتبار أنواعه فإن البيع يكون سلما وهو بيع الدين بالعين وقلبه وهو البيع المطلق وصرفا وهو بيع الثمن بالثمن ومقابضة وهو بيع العين بالعين وبخيار ومنجز أو مؤجل الثمن ومرابحة وتولية ووضيعة وغير ذلك والبيع من الأضداد يقال باعه إذا أخر العين عن ملكه اليه وباعه أي اشتراه ويتعدى بنفسه وبالحرف باع زيد الثوب وباعه منه وأما مفهومه لغة وشرعا فقال فخر الاسلام البيع لغة مبادلة المال بالمال وكذا في الشرع لكن زيد فيه قيد التراضي اه والذي يظهر أن التراضي لا بد منه لغة أيضا فإنه لا يفهم من باعه وباع زيد عبده إلا أنه استبدل به بالتراضي وأن الأخذ غصبا وإعطاء شيء آخر من غير تراض لا يقول فيه أهل اللغة باعه وشرعية البيع بالكتاب وهو قوله تعالى { وأحل الله البيع } والسنة وهي قوله عليه الصلاة والسلام يا معشر التجار إن بيعكم هذا يحضره اللغو والكذب فشوبوه بالصدقة وبعث عليه الصلاة والسلام والناس يتبايعون فقررهم عليه والاجماع منعقد عليه وسبب شرعيته تعلق البقاء المعلوم فيه لله تعالى على وجه جميل وذلك أن الإنسان لو استقل بابتداء بعض حاجاته من حرث الأرض ثم بذر القمح وخدمته وحراسته وحصده ودراسته ثم تذريته ثم تنظيفه وطحنه بيده وعجنه وخبره لم يقدر على مثل ذلك وفي الكتان والصوف للبسه وبناء ما يظله من الحر والبرد الى غير ذلك فلا بد من أن تدفعه الحاجة الى أن يشتري
____________________
(6/247)
شيئا ويبتدئ مزاولة شيء فلو لم يشرع البيع سببا للتمليك في البدلين لاحتاج أن يؤخذ على التغالب والمقاهرة أو السؤال والشحاذة أو يصبر حتى يموت وفي كل منها مالا يخفى من الفساد وفي الثاني من الذل والصغار مالا يقدر عليه كل أحد ويزري بصاحبه فكان في شرعيته بقاء المكلفين المحتاجين ودفع حاجتهم على النظام الحسن وشرطه في المباشر التمييز والولاية الشرعية الكائنة عن ملك أو وكالة أو وصية أو قرابة وغير ذلك فصح بيع الصبي والمعتوه اللذين يعقلان البيع وأثره وفي المبيع كونه مالا متقوما شرعا مقدور التسليم في الحال أو في ثاني الحال فيدخل السلم وقد قالوا شروطه منها شرط الانعقاد وهو التمييز والولاية وكون المبيع متقوما ومنها شرط النفاذ وهو الملك والولاية حتى اذا باع ملك غيره توقف النفاذ على الإجازة ممن له الولاية وأما ركنه فالفعل المتعلق بالبدلين من المتخاطبين أو من يقوم مقامهما الدال على الرضا بتبادل الملك فيهما وهذا مفهوم الاسم شرعا وقد يكون ذلك الفعل قولا وقد يكون فعلا غير قول كما في التعاطي كما سيأتي وقد يكون الرضا ثابتا وقد لا يكون فإن لفظ بعت مثلا ليس علة لثبوت الرضا بل أمارة عليه فقد يتحقق مع انتفائه كالغيم الرطب للمطر فكذا يتحقق بعت واشتريت ولا رضا كما في بيع المكره وهذا على ما اخترناه من أن حقيقة التراضي ليس جزء مفهوم البيع الشرعي بل شرط ثبوت حكمه شرعا قوله البيع ينعقد بالإيجاب والقبول يعني إذا سمع كل كلام الآخر ولو قال البائع لم أسمعه وليس به صمم وقد سمعه من في المجلس لا يصدق ثم المراد بالبيع هنا المعنى الشرعي الخاص المعلوم حكمه وإنما قلنا هذا لأنه قال ينعقد بالإيجاب والقبول فجعلهما غيره يثبت هو بهما مع أن البيع ليس الا الايجاب والقبول لأنهما ركناه على ما حققناه آنفا من أن ركنه الفعل الدال الى آخره هذا ولكن الظاهر أن المراد بالبيع هنا ليس الا نفس حكمه لا معنى له ذلك الحكم وما قيل البيع عبارة عن معنى شرعي يظهر في المحل عند الايجاب والقبول حتى يكون العاقد قادرا على التصرف ليس غير الحكم الذي هو الملك لأنه هو الذي يثبت به قدرة التصرف فالمتحقق من الشرع ليس الا ثبوت الحكم المعلوم من تبادل الملكين عند وجود الفعلين أعني الشرطين بوضعهما سببا له شرعا وليس هنا شيء ثالث فالملك هو قدرة يثبتها الشارع ابتداء على التصرف فخرج نحو الوكيل فإذا امتنع أن يراد الفعل الخاص لزم الآخر والايجاب لغة الاثبات لأي شيء كان والمراد هنا إثبات الفعل الخاص الدال على الرضا الواقع أولا سواء وقع من البائع كبعت أو من المشتري كأن يبتدئ المشتري فيقول اشتريت هذا بألف والقبول الفعل الثاني وإلا فكل منهما ايجاب أي اثبات فسمي الاثبات الثاني بالقبول تمييزا له عن الإثبات الأول ولأنه يقع قبولا ورضا بفعل الأول وحيث لم تصح إرادة اللفظين بالبيع بل حكمهما وهو الملك في البدلين وجب أن يراد بقوله ينعقد يثبت أي الحكم فإن الانعقاد إنما هو للفظين لا للملك
____________________
(6/248)
أي انضمام أحدهما الى الآخر على وجه يثبت أثره الشرعي وقولنا في القبول إنه الفعل الثاني يفيد كونه أعم من اللفظ وهو كذلك فإن من الفروع ما لو قال كل هذا الطعام بدرهم فأكله تم البيع وأكله حلال والركوب واللبس بعد قول البائع اركبها بمائة والبسه بكذا رضا بالبيع وكذا إذا قال بعتكه بألف فقبضه ولم يقل شيئا كان قبضه قبولا بخلاف بيع التعاطي فإنه ليس فيه ايجاب بل قبض بعد معرفة الثمن فقط وسيأتي ففي جعل مسألة القبض بعد قوله بعتك بألف من صور التعاطي كما فعل بعضهم نظر وفي فتاوي قاضيخان قال اشتريت منك هذا بكذا فتصدق به على هؤلاء ففعل البائع قبل أن يتفرقا جاز وكذا اشتريت منك هذا الثوب بكذا فاقطعه لي قميصا فقطعه قبل التفرق وقوله إذا كانا بلفظ الماضي مثل ان يقول أحدهما بعت والآخر اشتريت قال المصنف لأن البيع إنشاء تصرف أي إثبات تصرف يفيد حكما يثبت جبرا والانشاء على هذا الوجه لا يعرف إلا بالشرع لما فيه من إثبات معنى يكون اللفظ علة له والعبد لا يقدر على ذلك إنما له قدرة الإخبار عن الكائن أو ما سيكون وطلبه فقولهم من الإنشاء التمني والترجي والقسم والاستفهام اصطلاح في تسمية مالا خارج لمعناه يطابقه أو لا يطابقه إنشاء وهو يعم ما ذكر وغيره مما يباينه ألا ترى أن لفظ لعل زيدا يأتي وليت لي مالا ليس علة لترجي ذلك أو تمنيه بل دال على الترجي والثمن القائمين بالمتكلم كأنه أخبر عن قيامهما به غير أن أهل الاصطلاح لا يسمونه إخبارا لما قلنا بخلاف بعت وطالق فإنه علة تثبت به شرعا معان لا قدرة للمتكلم على إثباتها
والحاصل أن الإنشاء على هذا الوجه لا يمكن إلا ممن له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين سواء سمى غيره إنشاء اصطلاحا أو لا وإذا كان الإنشاء لا يعرف الا بالشرع ولم يوضع له في اللغة لفظ يخصه والشرع استعمل في إثباته من اللغة لفظ الخبر أي وضعه على لإثباته تعالى ذلك المعنى عنده فينعقد أي يثبت به وأما تعليله بأن لفظ الماضي أدل على الوجود فإنه لا يصدق إلا بتحقق الوجود سابقا فاختير له فربما يعطي قصر العلية عليه وليس كذلك بل الوجه أنه تعليل أولوية لفظ الماضي بأن يستعمل فيه من غيره فإنه لا يقتصر عليه كما ستسمع قوله ولا ينعقد بلفظين أحدهما لفظ المستقبل
____________________
(6/249)
بخلاف النكاح فإنه اذا قال زوجني فقال زوجتك ينعقد بمجرد ذلك أما البيع فإذا قال بعينه بألف فقال بعتك لا ينعقد حتى يقول الأول اشتريت ونحوه وهذا ونحوه مما قال الطحاوي إنه ينعقد بثلاثة ألفاظ قال وقد مر الفرق هناك يعني قوله لأن هذا توكيل يعني زوجني فإذا قال زوجتك كان ممتثلا أمر الموكل مزوجا له ووليا لمن زوجها والواحد يتولى طرفي عقد النكاح بخلاف البيع وقدمنا من قال إن لفظة الأمر في النكاح جعلت إيجابا لأن النكاح لا يصرح بالخطبة فيه وطلبه الا بعد مراجعات وتأمل واستخارة غالبا فلا يكون لفظ طلبه أعني زوجني مساومة بل تحقيقا فاعتبر ايجابا بخلاف البيع لا يكون مسبوقا بمثل ذلك فكان الأمر فيه مساومة فلا يتم العقد بمجرد جواب الآخر وعلى هذا لا يتم فرق المصنف لأنه مبني على كونه توكيلا وأما الفرق بأن رد النكاح بعد ايجابه يلحق الشين بالأولياء بخلاف رد البيع فمبنى على جعل الأمر فه ايجابا ثم فيه نظر لأنه لو صح لزم امتناع رجوعه بعد قوله زوجني بنتك قبل قوله زوجتك لأنه أيضا شين وانكسار يلحقهم وهذه ثمانية مواضع منها البيع والإقالة لا يكتفي بالأمر فيهما عن الايجاب ومنها النكاح والخلع يقع فيهما ايجابا الخامسة اذا قال لعبده اشتر نفسك مني بألف فقال فعلت عتق السادسة في الهبة قال هب لبي هذا فقال وهبته منك تمت الهبة السابعة قال لصاحب الدين أبرئني عما لك علي من الدين فقال أبرأتك تمت البراءة الثامنة الكفالة قال اكفل بنفس فلان لفلان قال كفلت تمت الكفالة فإذا كان غائبا فقدم وأجاز كفالته جاز واعلم أن عدم الانعقاد بالمستقبل هو اذا لم يتصادقا على نية الحال أما إذا تصادقا على نية البيع في الحال فينعقد به في القضاء لأن صيغة الاستقبال تحتمل الحال فيثبت بالنية ذكره في التحفة في صفة الاستقبال مطلقا وفي الكافي قصر الكلام على المضارع فقال الصحيح ما ذكره الطحاوي لأن المضارع في الأصل
____________________
(6/250)
موضوع للحال ووقوعه في الاستقبال نوع تجوز اه وعلى هذا ينبغي أن يقبل قوله اذا ادعاه وكذبه الآخر لأنه حقيقة اللفظ بخلاف المستقبل وهو الامر فلو ادعى في قوله يعني أنه أراد معنى اشتريته بكذا ينبغي أن لا يصدقه القاضي مثال ذلك أن يقول أبيع منك هذا بكذا أو أعطيكه فقال اشتريته أو آخذه ونويا الايجاب للحال والحق أن المراد بالمستقبل الذي ينعقد به بنية الحال هو المضارع وتسميته مستقبلا على أحد القولين وإلا فالمختار أنه موضوع للحال وأما الأمر فلا يوجد في شيء من الكتب التمثيل به لذلك مع أنه هو المستقبل في الحقيقة وذلك لأنه إنشاء وبينه وبين الأخبار كمال الانقطاع فلا يتجوز به فيه فلا يقال بعينه والمراد اشتريته فلا ينعقد به الا في قوله خذه بكذا فينعقد لثبوت الايجاب اقتضاء ومثل الأمر المضارع المقرون بالسيت نحو سأبيعك فلا يصح بيعا ولا يتجوز به في معنى بعتك في الحال فإن ذكر السين يناقض إرادة الحال واعلم أن كون الواحد لا يتولى طرفي العقد في البيع مخصوص منه الأب يشتري مال ابنه لنفسه أو يبيع ماله منه والوصي عند أبي حنيفة اذا اشترى لليتيم من نفسه أو لنفسه منه بشرطه المعروف في باب الوصية وقيده في نظم الزندويستي بما اذا لم يكن نصبه القاضي قوله وقوله رضيت هذا بدرهم فقال بعتكه وقال اشتريته بدرهم فقال رضيت أو قال بعتكه بكذا فقال فعلت أو أجزت أو أخذت كل هذه الألفاظ من قبل البائع أو المشتري يتم بها البيع لإفادتها إثبات المعنى والرضا به وكذا لفظة خذه بكذا ينعقد به اذا قبل بأن قال أخذته ونحوه لأنه وإن كان مستقبلا لكن خصوص مادته أعني الأمر بالأخذ يستدعي سابقة البيع فكان كالماضي إلا أن استدعاه الماضي سبق البيع بحسب الوضع واستدعاء خذه سبقه بطريق الاقتضاء فهو كما اذا قال بعتك عبدي هذا بألف فقال فهو حر عتق ويثبت اشتريت اقتضاء بخلاف ما لو قال هو حر بلا فاء لا يعتق وإنما صح بهذه ونحوها لأنها تؤدي معنى البيع والمعنى هو المعتبر في هذه العقود ألا يرى إلى ما قالوا لو قال وهبتك أو وهبت لك هذه الدار أو هذا العبد بثوبك هذا فرضي فهو بيع بالإجماع قالوا إنما قال في هذه العقود احتراز عن الطلاق والعتاق فإن اللفظ فيهما يقام مقام المعنى وأنت تعلم أن إقامة اللفظ مقام المعنى أثر في ثبوت حكمه بلا نية ليس غير فإذا فارقت هذه العقود ذلك اقتضى أن لا يثبت بمجرد اللفظ بلا نية فلا يثبت بلفظ البيع حكمه إلا اذا أراده به وحينئذ فلا فرق بين بعت وأبيع في توقف الانعقاد به على النية ولذا لا ينعقد بلفظ بعت هزلا فلا معنى لقوله ينعقد بلفظ الماضي ولا ينعقد بالمستقبل ثم تقييده بما اذا لم ينو به فإنه ينعقد به في الماضي وغيره بالنية ولا ينعقد بالماضي وغيره بلا نية ومن الصور
____________________
(6/251)
لفظة نعم تقع ايجابا في قول المستفهم أتبيعني عبدك فقال نعم فقال أخذته فهو بيع لازم وكذا أبيعك ومنها اشتريته منك بألف فقال نعم أو هات الثمن انعقد وكذا إذا قال هذا عليك بالالف فقال فعلت ولو قال هو لك بألف إن وافقك أو إن أعجبك أو إن أردت فقال وافقني أو أعجبني أو أردت انعقد ولو قال بعتكه بكذا بعد وجود مقدمات البيع فقال اشتريت ولم يقل منك صح وكذا على العكس وكذا اذا قال بعد معرفة الثمن إن أديت ثمنه فقد بعته منك فأدى في المجلس جاز استحسانا
فروع في اختلاف الايجاب والقبول قال بعتكه بألف فقال اشتريته بألفين جاز فإن قبل البائع الزيادة ثم بألفين والأصح بألف إذ ليس له ولاية إدخال الزيادة في ملكه بلا رضاه ولو قال اشتريته بألفين فقال البائع بعتكه بألف جاز كأنه قبل بألفين وحط عنه ألفا ولو ساومه بعشرة فقال بعشرين فقبضه من يده ولم يمنعه لزم بعشرة فلو كان في يد المشتري من أول الأمر فذهب به والباقي بحاله فبعشرين عندهم جميعا وقال الطحاوي يلزم بآخرهم كلاما مطلقا ولو قال بعتكه بألف بعتكه بألفين فقال قبلت الأول بألف لم يجز لأن البائع قد رجع عنه وليس هكذا في الطلاق والعتاق فإن قال قبلت البيعين جميعا بثلاثة آلاف فهو كقوله قبلت الآخر بثلاثة آلاف يعني بكون البيع بألفين والألف زيادة إن شاء قبلها في المجلس وإن شاء ردها وكذا بألف بمائة دينار إنما يلزمه الثاني وقيل يلزمه الثمنان والأول في الزيادات وهو أوجه وإذا قبل الزيادة في المجلس لزم المشتري قوله ولهذا ينعقد أي ولأن المعتبر هو المعنى ينعقد بالتعاطي في النفيس والخسيس قيل النفيس نصاب السرقة فصاعدا والخسيس ما دونه وقوله هو الصحيح احتراز من قول الكرخي إنه إنما ينعقد بالتعاطي في الخسيس فقط واراد بالخسيس الأشياء المحتقرة كالبقل والرغيف والبيض والجوز استحسانا للعادة قال أبو معاذ رأيت سفيان الثوري جاء الى صاحب الرمان فوضع عنده فلسا وأخذ رمانة ولم يتكلم ومضى وجه الصحيح أن المعنى وهو دلالة على التراضي يشمل الكل وهو الصحيح فلا معنى للتفيل وفي الايضاح هو خلاف ما ذكره محمد في الأصل في مواضع اه وفي شرح الجامع الصغير لفخر الاسلام في رجل قال لرجل يعني هذا العبد لفلان فاشتراه له ثم أنكر أن يكون فلان أمره بذلك ثم جاء فلان فقال أنا أمرته قال يأخذه فلان فإن قال لم آمره وقد كان اشتراه له لم يكن له الا أن يسلمه المشتري له فإن سلمه وأخذه الذي اشتراه له كان بيعا للذي أخذه من المشتري وكأن العهدة عليه أي للآخذ على المشتري فدل على صحة التعاطي في النفيس وفي المنتقى له على آخر ألف درهم فقال الذي عليه المال للذي له المال أعطيك بمالك دنانير فساومه بالدنانير ولم يقع بيع ثم فارقه فجاءه بها فدفعها اليه يريد الذي كان ساوم عليه ثم فارقه ولم يستأنف بيعا جاز هذه الساعة وكذا لو ساوم رجلا بشيء وليس معه وعاء ثم فارقه وجاء بالوعاء فأعطاه الثمن وكال له جاز ومن صوره اذا جاء المودع بأمة غير المودعة
____________________
(6/252)
وقال هذه أمتك والمودع يعلم أنها ليست إياها وحلف فأخذها حل الوطء للمودع وللأمة وعن أبي يوسف لو قال للخياط ليست هذه بطانتي فحلف الخياط أنها هي وسعه أخذها ومنها قول الدلال للبزاز هذا الثوب بدرهم فقال ضعه وفي أجناس الناطفي لو قال بكم تبيع قفيز حنطة فقال بدرهم فقال اعزله فعزله فهو بيع وكذا لو قال للقصاب مثله فوزنه وهو ساكت فهو بيع حتى لو امتنع القصاب من دفع الثمن وأخذ اللحم أو امتنع القصاب من دفع اللحم أجبرهما القاضي وكذا اذا قال زن لي ما عندك من اللحم على حساب ثلاثة أرطال بدرهم فوزن بخلاف مالو قال زن لي ثلاثة أرطال فوزنها له الخيار لأنه ليس بمعلوم بخلاف مالو قال من هذا الجنب ومن هذا الفخد وكذا قوله لمن جاء بوقر بطيخ فيه الكبار والصغار بكم عشرة من هذه فقال بدرهم فعزل عشرة واختارها فذهب بها والبائع ينظر أو عزل البائع عشرة فقبلها المشتري تم البيع واختلف في أن قبض البدلين شرط في بيع التعاطي أو أحدهما كاف والصحيح الثاني ونص محمد رحمه الله على أن بيع التعاطي يثبت بقبض أحد البدلين وهذا ينتظم الثمن والمبيع ونصفه في الجامع على أن تسليم المبيع يكفي لا ينفي الآخر ومنها لورد بخيار العيب والبائع متيقن أنها ليست له فأخذها ورضي فهو بيع بالتعاطي قوله وإذا أوجب أحد المتعاقدين البيع فالآخر بالخيار وهذا خيار القبول إن شاء قبل وإن شاء رده وللموجب أيهما كان بائعا ومشتريا أن يرجع قبل قبول الآخر عن
____________________
(6/253)
الايجاب لأنه لم يثبت له حق يبطله الآخر بلا معارض أقوى لأن الثابت به بعد الايجاب حق التملك والموجب هو الذي أثبت له هذه الولاية فله أن يرفعها كعزل الوكيل ولو سلم فلا يعارض حق التملك حقيقة الملك فلو لم يجز الرجوع لزم تعطيل حق الملك بحق التملك ودلالة الاجماع تنفيه ألا يرى أن للأب حق التملك لمال ولده عند الحاجة وقبل تملكه بالفعل كان للولد أن يتصرف فيه كيف شاء ولو صادف رد البائع قبول المشتري بطل وأورد في الكافي الزكاة المعجلة ليس له حق استردادها لثبوت حق التملك للفقير وحاصل جوابه أن الأصل الموجب للدفع قائم وهو النصاب وإنما الفائت وصفه وهو النماء فبيعد أخذ السبب حكمه تم الأمر وفيما نحن فيه لم يوجد الأصل بل شطره فلا يكون البيع موجودا وله أن يقبل ما دام المجلس قائما فإن لم يقبل حتى اختلف المجلس لا ينعقد واختلافه باعتراض ما يدل على الإعراض من الاشتغال بعمل آخر ونحوه أما لو قام أحدهما ولم يذهب فظاهر الهداية وعليه مشى جمع أنه لا يصح القبول بعد ذلك واليه ذهب قاضيخان حيث قال فإن قام أحدهما بطل يعني الايجاب لأن القيام دليل الإعراض فإن قيل الصريح أقوى من الدلالة فلو قال بعد القيام قبلت ينبغي أن لا يثبت الإعراض قلنا الصريح إنما كان أقوى ويعمل اذا بقي الايجاب بعد قيامه وهنا لم يبق فإن الأصل أن لا يبقى اللفظ بعد الفراغ منه ولا يجتمع قوله قبلت به الا أن للمجلس أثرا في جمع المتفرقات وبالقيام لا يبقي المجلس وقال شيخ الاسلام في شرح الجامع إذا قام البائع ولم يذهب عن ذلك المكان ثم قبل المشتري صح واليه أشير في جمع التفاريق وهذا شرح لقوله فيما يأتي وأيهما قام الى آخره وعلى اشتراط اتحاد المجلس ما اذا تبايعا وهما يمشيان أو يسيران لو كان على دابة واحدة فأجاب الآخر لا يصح لاختلاف المجلس في ظاهر الرواية واختار غير واحد كالطحاوى وغيره أنه إن أجاب على فور كلامه متصلا جاز وفي الخلاصة عن النوازل إذا اجاب بعد ما مشي خطوة أو خطوتين جاز ولا شك أنهما إذا كانا يمشيان مشيا متصلا لا يقع الايجاب الا في مكان آخر بلا شبهة ولو كان المخاطب في صلاة فريضة ففرغ منها وأجاب صح وكذا لو كان في نافلة فضم الى ركعة الايجاب أخرى ثم قبل جاز بخلاف مالو أكملها أربعا ولو كان في يده كوز فشرب ثم أجاب جاز وكذا لو أكل لقمة لا يتبدل المجلس الا اذا اشتغل بالأكل ولو ناما جالسين لا يختلف ولو مضطجعين أو أحدهما فهي فرقة والسفينة كالبيت فلو عقدا وهي تجري فأجاب الآخر لا ينقطع المجلس بجريانها لأنهما لا يملكان إيقافها وقيل يجوز في الماشيين أيضا مالم يتفرقا بذاتيهما أما المسير بلا افتراق فلا وهكذا في خيار المخيرة بخلاف سجدة التلاوة ولو قال بعتك بألف ثم قال لآخر بعتك بالغ فقبلا فيه للثاني لا للأول ولو قال بعتكه بكذا فلم يقبل حتى قام البائع في حاجة بطل قوله والكتاب كالخطاب وكذا الإرسال حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب
____________________
(6/254)
وأداء الرسالة فصورة الكتاب أن يكتب أما بعد فقد بعت عبدي منك بكذا فلما بلغه الكتاب وفهم ما فيه قال قبلت في المجلس انعقد والرسالة أن يقول اذهب الى فلان وقل له إن فلانا باع عبده فلانا منك بكذا فجاء فأخيره فأجاب في مجلسه ذلك بالقبول وكذا اذا قال بعت عبدي فلانا من فلان بكذا فاذهب يا فلان فأخبره فذهب فأخبره فقبل وهذا لأن الرسول ناقل فلما قبل اتصل لفظه بلفظ الموجب حكما فلو بلغه بغير أمره فقبل لم يجز لأنه ليس رسولا بل فضوليا ولو كان قال بلغه يا فلان فبلغه غيره فقبل جاز ولو كان المكتوب بعينه بكذا فكتب بعتكه لا يتم مالم يقل الأول قبلت وأما ما ذكر في المبسوط لو كتب اليه بعني بكذا فقال بعته يتم البيع فليس مراد محمد هنا من هذا سوى الفرق بين النكاح والبيع في شرط الشهود لا بيان اللفظ الذي ينعقد به البيع وقيل بالفرق بين الحاضر والغائب فبعني من الحاضر يكون استياما عادة وأما من الغائب بالكتابة فيراد به أحد شطري العقد هذا ويصح رجوع الكاتب والمرسل عن الإيجاب الذي كتبه وأرسله قبل بلوغ الآخر وقبوله سواء علم الآخر أو لم يعلم حتى لو قبل الآخر بعد ذلك لا يتم البيع بخلاف مالو وكل بالبيع ثم عزل الوكيل قبل البيع فباع الوكيل فإنه مالم يعلم الوكيل بالعزل قبل البيع فبيعه نافذ وعلى هذا الجواب في الاجارة والهبة والكتابة فأما الخلع والعتق على مال فإنه يتوقف شطر العقد في حق المرأة والعبد بالإجماع إذا كانا غائبين على القبول في مجلس بلوغ الخبر بخلاف العكس وهو أن تقول المرأة خالعت زوجي وهو غائب أو يقول العبد قبلت عتق سيدي الغائب على ألف فإنه لا يتوقف بالإجماع وفي النكاح مر الخلاف فعند أبي يوسف يتوقف وعندهما لا قوله وليس له أن يقبل الى آخره يعني الا أن يرضى الآخر بذلك بعد قبوله في البعض ويكون المبيع مما ينقسم الثمن عليه بالإجزاء كعبد واحد أو مكيل أو موزون فإن كان مما لا ينقسم الا بالقيمة كثوبين وعبدين لا يجوز وإن قبل الآخر
ولنتكلم على عبارة الكتاب هنا فإنها مما وقع فيها تجاذب فنقول الظاهر من نظم الكلام أن ضمير له في وقوله ليس له راجع الى أحد المتعاقدين في قوله وإذا أوجب أحد المتعاقدين البيع أو للآخر وحينئذ يكون أعم من البائع والمشتري فمعناه في البائع أنه إذا أوجب المشتري البيع بأن قال اشتريت هذه الأثواب أو هذا الثوب بعشرة فليس للبائع أن يقبل في بعض المبيع من أثواب أو الثوب لعدم رضا الآخر بتفريق الصفقة لأنه قد يتعلق غرضه بالجملة بسبب حاجته الى الكل ويعسر عليه تحصيل باقي الأثواب لعزتها وبعضها لا يقوم بحاجته فلو ألزمناه البيع في البعض انصرف ماله ولم تندفه حاجته وغير ذلك من الأمور وأما في المشتري فمعناه إذا أوجب البائع
____________________
(6/255)
المبيع فليس للمشتري أن يقبل في بعضه إذ قد يتضرر بتفريق الصفقة لأن العادة أن يضم البائعون الجيد الى الرديء ليروجونه فلو ألزمناه البيع بقي الرديء وذهب ما يروجه به فيتضرر بذلك ومعلوم أن القبول في بعض المبيع يكون ببعض الثمن فحذفه المصنف للعلم به لكن على هذا لا حاجة لقوله ولا أن يقبل المشتري ببعض الثمن لأن ذلك يستفاد من العبارة الأولى بطريق الدلالة فلزم كون الضمير للبائع ولفظ المشتري بالبناء للفاعل لتصحيح كلامه أي وليس للبائع أن يقبل في بعض المبيع الذي أوجب فيه المشتري البيع ولا أن المشتري يقبل المشتري في بعض المبيع فيما اذا كان الموجب هنا للبائع والحاصل أن عدم صحة القبول في البعض للزوم تفريق الصفقة فوجب أن يعرف بماذا يثبت اتحادها وتفريقها فاعلم أنه يكون تارة من تعدد القابل وتارة من غيره فما من تعدد القابل امتناعه لما فيه من
____________________
(6/256)
إلزام الشركة مثاله أن يقول البائع لمشتريين بعتكما هذا بألف فقال أحدهما اشتريت دون الآخر تعددت فلا يلزم لأنه لو تم في الصف لأنه إنما خاطبهما بالكل فكان مخاطبا كلا بالنصف فلو لزم صار شريكا للبائع فدخل عليه عيب الشركة بلا رضاه وكذا لو قال رجل لمالكي عين اشتريت منكما هذه بألف فباعه أحدهما دون الآخر فإن بيعه إنما يتم في نصيبه فتعددت فلو تم تضرر المشتري الموجب بالشركة أيضا وأما اذا كان الموجب اثنين خاطبا واحدا فقالا بعناك أو اشترينا منك هذا بكذا فأجاب هو في بعضه لا يلزم لكن لا لتعددها بتعدد العاقد بل لإجابته في البعض ألا ترى أن الموجب فيها لو كان واحدا والباقي بحاله كان من تعدد الصفقة أيضا فعرف أن هذا من جهة أخرى لا من تعدد العاقد وأما من غيره فبصورتين إحداهما أن يوجب البائع في مثليين أو واحد قيمي أو مثلي فقبل في البعض أو يوجب المشتري فيما ذكرناه بأن يقول اشتريت منك بكذا فقبل البائع في البعض فإن في كل منهما الصفقة واحدة فإذا قبل في بعضها فرقها فلا يصح فلو كان بين ثمن كل منهما فلا يخلو إما ان يكون بلا تكرار لفظ البيع أو بتكراره ففيما اذا كرره فالاتفاق على أنه صفقتان فإذا قبل في أحدهما يصح مثل أن يقول بعتك هذين العبدين بعتك هذا بألف وبعتك هذا بألف أو اشتريت منك هذين العبدين اشتريت هذا بألف واشتريت هذا بألف كذا في موضع وفي موضع أن يقول بعتك هذين بعتك هذا بألف وهذا بألفين وفيما اذا لم يكرره مثل بعتك هذين هذا بمائة وهذا بمائة فظاهر الهداية أنه صفقتان وبه قال بعضهم وقال آخرون صفقة واحدة وأن مراد صاحب الهداية إذا كرر لفظ البيع فأما اذا لم يكرره وقد اتحد الايجاب والقبول والعاقد ولم يتعدد الثمن فالصفقة واحدة قياسا واستحسانا فليس له أن يقبل في أحدهما وقيل الأول استحسان وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه والثاني قياس وهو قولهما والوجه الاكتفاء بمجرد تفريق الثمن لأن الظاهر أن فائدته ليس الا قصده بأن يبيع منه أيهما شاء وإلا فلو كان غرضه أن لا يبيعهما منه الا جملة لم تكن فائدة لتعين ثمن كل منهما قوله وإذا حصل الايجاب والقبول لزم البيع ولا خيار لواحد منهما الا من عيب أو عدم رؤية وهو قول مالك رحمه الله وقال الشافعي واحمد رحمهما الله لهما خيار المجلس لقوله صلى الله عليه وسلم البيعان بالخيار مالم يتفرقا أو يكون البيع خيارا رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وروى البخاري أيضا أن
____________________
(6/257)
ابن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعان بالخيار مالم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر وروى البخاري أيضا من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه عنه عليه الصلاة والسلام البيعان بالخيار مالم يتفرقا ولنا السمع والقياس أما السمع فقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } وهذا عقد قبل التخيير وقوله تعالى { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وبعد الايجاب والقبول تصدق تجارة عن تراض غير متوقف على التخيير فقد اباح تعالى أكل المشتري قبل التخيير وقوله تعالى { وأشهدوا إذا تبايعتم } أمر بالتوثق بالشهادة حتى لا يقع التجاحد للبيع والبيع يصدق قبل الخيار بعد الايجاب والقبول فلو ثبت الخيار وعدم اللزوم قبله كان إبطالا لهذه النصوص ولا مخلص له من هذا إلا أن يمنع تمام العقد قبل الخيار ويقول العقد الملزم يعرف شرعا وقد اعتبر الشرع في كونه ملزما اختيار الرضا بعد الايجاب والقبول بالأحاديث الصحيحة وكذا لا تتم التجارة عن التراضي إلا به شرعا وإنما أباح الاكل بعد الاختيار لاعتباره في التجارة عن تراض وأما حديث حبان بن منقذ رضي الله عنه حيث قال له إذا ابتعت فقل لاخلابة ولي الخيار فقد أثبت له اشتراط خيار آخر وهو ثلاثة أيام فإنما يدل على أن خيار ثلاثة أيام لا يثبت إلا بالاشتراط في صلب العقد لا أصل الخيار ولا مخلص إلا بتسليم إمكان اعتبار الخيار في لزوم العقد وادعاء أنه غير لازم من الحديث المذكور كما فعل المصنف بناء على أن حقيقة المتبايعين المتشاغلان بأمر البيع لا من تم البيع بينهما وانقضى لأنه مجازه والمتشاغلان يعني المساومين يصدق عند ايجاب أحدهما قبل قبول الآخر فيكون ذلك هو المراد وهذا هو خيار القبول وهذا حمل ابراهيم النخعي رحمه الله تعالى لا يقال هذا أيضا مجاز لأن قبل قبول الآخر الثابت بائع واحد لا متبايعان لأنا نقول هذا من المواضع التي تصدق الحقيقة فيها بجزء من معنى اللفظ كالمخبر لا حقيقة له الا حال التكلم بالخبر والخبر لا يقوم به دفعة لتصدق حقيقته حال قيام المعنى بل على التعاقب في أجزئه فبالضرورة يصدق مخبرا حال النطق ببعض حروف الخبر وإلا لا يتحقق له حقيقة ولأنا نفهم من قول القائل زيد وعمرو هناك يتبايعان على وجه التبادر أنهما متشاغلان بأمر البيع متراوضان فيه فليكن هو المعنى الحقيقي والحمل على الحقيقي متعين فيكون الحديث دليل إثبات خيار القبول لنفي توهم أنهما اذا اتفقا على الثمن وتراضيا عليه ثم أوجب أحدهما البيع يلزم الآخر من غير أن يقبل ذلك اصلا للاتفاق والتراضي السابق في إلزامه بكلام أحدهما بعد قال المصنف رحمه الله تعالى أو هو يحتمله فيحمل عليه جمعا بين ما ذكرناه من الآيات حيث كان المتبادر الى الفهم فيها تمام البيع والعقد والتجارة عن تراض بمجرد الايجاب والقبول وعدم توقف الاسماء على أمر آخر لا يقال إن ما في خيار أحد المتبايعين وهو الثاني القابل لا خيارهما لأنه ممنوع بل الموجب أيضا له خيار أن يرجع قبل قبول الآخر وأن لا يرجع وعلى هذا فالتفرق الذي هو غاية قبول الخيار تفرق الأقوال وهو أن يقول الآخر بعد الايجاب لا أشتري أو يرجع الموجب قبل القبول وإسناد التفرق الى الناس مرادا به تفرق أقوالهم كثير في الشرع والعرف قال الله تعالى { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم }
____________________
(6/258)
البينة وقال صلى الله عليه وسلم افترقت بنوا اسرائيل على ثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة وحينئذ فيراد بأحدهما في قوله او يقول أحدهما لصاحبه اختر الموجب بقوله بعد ايجابه للآخر اختر أتقبل أولا والاتفاق على أنه ليس المراد أن بمجرد قوله اختر يلزم البيع بل حتى يختار البيع بعد قوله اختر فكذا في خيار القبول والله سبحانه وتعالى أعلم وأما القياس فعلى النكاح والخلع والعتق على مال والكتابة كل منها عقد معاوضة يتم بلا خيار المجلس بمجرد اللفظ الدال على الرضا فكذا البيع وأما ما يقال تعلق حق كل من العاقدين ببدل الآخر فلا يجوز إبطاله فيرد منعه بأن ذلك بالشرع والشرع نفاه الى غاية الخيار بالحديث فإنما يرجع الكلام فيه الى ما ذكرناه من معنى المتبايعين وأما ما قيل حديث التفرق رواه مالك ولم يعمل به فلو كان المراد به ذلك لعمل به فغاية في الضعف إذ ترك العمل به ليس حجة على مجتهد غيره بل مالك عنده محجوج به قوله والأعواض المشار اليها سواء كانت مبيعات كالحبوب والثياب أو اثمانا كالدراهم والدنانير لا يحتاج الى معرفة مقدارها في جواز البيع فإذا قال بعتك هذه الصبرة من الحنطة أو هذه الكورجة من الأرز والشاشات وهي مجهولة العدد بهذه الدراهم التي في يدك وهي مرئية له فقبل جاز ولزم لأن الباقي جهالة الوصف يعني القدر وهو لا يضر إذ لا يمنع من التسليم والتسلم لتعجله كجهالة القيمة لا تمنع الصحة قال في الفتاوي قال لغيره لك
____________________
(6/259)
في يدي أرض خربة لا تساوي شيئا فبعها مني بتسعة دراهم فباعها وهو لا يعلم وقيمتها أكثر جاز البيع بخلاف السلم لا يشار للعوض فيه للأجل فلا يصح في المسلم فيه اتفاقا ولا في راس مال السلم اذا كان مكيلا أو موزنا عند أبي حنيفة رضي الله عنه لما يجيء ثم المسألة مقيدة بغير الأموال الربوية وبالربوية إذا قوبلت بغير جنسها أما الربوية إذا قوبلت بجنسها كالحنطة بالحنطة والذهب بالذهب فلا يصح مع الإشارة اليها لاحتمال الربا واحتمال الربا مانع كحقيقة الربا شرعا والتقييد بمقدارها في قوله لا يحتاج الى معرفة مقدارها احتراز عن الصفة فإنه له أراه دراهم وقال اشتريته بهذه فوجدها زيوفا أو نبهرجة كان له أن يرجع بالجياد لأن الإشارة الى الدراهم كالتنصيص عليها وهو ينصرف الى الجياد ولو وجدها ستوقة أو رصاصا فسد البيع وعليه القيمة إن كان أتلفها ولو قال اشتريتها بهذه الصرة من الدراهم فوجد البائع ما فيها خلاف نقد البلد فله أن يرجع بنقد البلد لأن مطلق الدراهم في البيع ينصرف الى نقد البلد وإن وجدها نقد البلد جاز ولا خيار للبائع بخلاف ما لو قال اشتريت بما في هذه الخابية ثم رأى الدراهم التي كانت فيها كان له الخيار وإن كانت نقد البلد لأن الصرة يعرف مقدار ما فيها من خارجها وفي الخابية لا يعرف ذلك من الخارج فكان له الخيار ويسمى هذا الخيار خيار الكمية لا خيار الرؤية لأن خيار الرؤية لا يثبت في النقود قوله والأثمان المطلقة أي عن قيد الإشارة لا تصح حتى تكون معلومة القدر كخمسة وعشرة دراهم أو أكرار حنطة بخلاف ما لو اشترى بوزن هذا الحجر ذهبا فإنه ليس عوضا مشارا اليه فإن المشار اليه الحجر ولا يعلم قدر جرم ما يوزن به من الذهب فلهذا اذا اشترى بوزن هذا الحجر ذهبا فوزن به كان له الخيار ومما لا يجوز البيع به البيع بقيمته أو بما حل به أو بما تريد أو تحب أو براس ماله أو بما اشتراه أو بمثل ما اشترى فلان لا يجوز فإن علم المشتري بالقدر في المجلس فرضيه عاد جائزا وكذا لا تجوز بألف درهم إلا دينارا أو بمائة إلا درهما وكذا لا يجوز بمثل ما يبيع الناس إلا أن يكون شيئا لا يتفاوت كالخبز واللحم والصفة كعشرة دراهم بخارية أو سمرقندية وكذا حنطة بحيرية أو صعيدية وهذا لأنها إذا كانت الصفة مجهولة تتحقق المنازعة في وصفها فالمشتري يريد دفع الأدون والبائع يطلب الأرفع فلا يحصل مقصود شرعية العقد وهو دفع الحاجة بلا منازعة واعلم أن الأعواض في البيع إما دراهم أو دنانير فهي ثمن سواء قوبلت بغيرها أو بجنسها وتكون صرفا وإما أعيان ليست مكيلة ولا موزونة فهي مبيعة ابدا ولا يجوز فيها البيع الا عينا إلا فيما يجوز فيه السلم كالثياب وكما تثبت الثياب مبيعا في الذمة بطريق السلم تثبت دينا مؤجلا في الذمة
____________________
(6/260)
على أنها ثمن وحينئذ يشترط الأجل لا لأنها ثمن بل لتصير ملحقة بالسلم في كونها دينا في الذمة فلذا قلنا اذا باع عبدا بثوب موصوف في الذمة الى أجل جاز ويكون بيعا في حق العبد حتى لا يشترط قبضه في المجلس بخلاف ما لو أسلم الدراهم في الثوب وإنما ظهرت أحكام المسلم فيه في الثوب حتى شرط فيه الأجل وامتنع بيعه قبل قبضه لالحاقه بالمسلم فيه أو مكيل أو موزون أو عددي متقارب كالبيض فإن قوبلت بالنقود فهي مبيعات أو بأمثالها من المثليات فما كان موصوفا في الذمة فهو ثمن وما كان معينا فمبيع فإن كان كل منهما معينا فما صحبه حرف الباء أو لفظ على كان ثمنا والآخر مبيعا وقال خواهر زادة رحمه الله في شهادات الجامع المكيل والموزون اذا لم يكن معينا فهو ثمن دخل عليه حرف الباء أو لم يدخل فلذا لو قال اشتريت منك كذا حنطة بهذا العبد لا يصح الا بطريق السلم فيجب أن يضرب الاجل للحنطة واعلم أن التقدير المشروط قد يكون عرفا كما يكون نصا في الفتاوي لو قال اشتريت منك هذا الثوب أو هذه الدار أو هذه البطيخة بعشرة ولم يقل دنانير أو دراهم إن كان في البلد يبتاع الناس بالدنانير والدراهم والفلوس ينعقد البيع في الدار بعشرة دنانير وفي الثوب بعشرة دراهم وفي البطيخة بعشرة أفلس وإن كان في بلد لا يبتاع الناس بهذه الجملة ينصرف الى ما يبتاع الناس بذلك النقد انتهى وحاصل هذا أنه إذا صرح بالعدد فتعين المعدود من كونها دراهم أو دنانير أو فلوسا يثبت على ما يناسب المبيع ووقع شك فيما يناسب المبيع وجب أن لا يتم البيع قوله ويجوز البيع بثمن حال ومؤجل لإطلاق قوله تعالى
____________________
(6/261)
{ وأحل الله البيع } وما بثمن مؤجل بيع وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما من يهودي الى أجل ورهنه درعا له من حديد وفي لفظ الصحيحين طعاما بنسيئة وقد سمي هذا اليهودي في سنن البيهقي أخرجه عن جابر أنه عليه الصلاة والسلام رهن درعا عند أبي الشحم رجل من بني ظفر في شعير ولا بد أن يكون الأجل معا وما لأن جهالته تقضي الى المنازعة في التسلم والتسليم فهذا يطالبه في قريب المدة وذاك في بعيدها ولأنه عليه الصلاة والسلام في موضع شرط الأجل وهو السلم أوجب فيه التعيين حيث قال من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم الى أجل معلوم وعلى كل ذلك انعقد الإجماع وأما البطلان فيما اذا قال بعتكه بألف حالا وبألفين الى سنة فلجهالة الثمن ومن جهالة الأجل ما اذا باعه بألف على أن يؤدي اليه الثمن في بلد آخر ولو قال الى شهر على أن تؤدي الثمن في بلد آخر جار بألف الى شهر ويبطل شرط الإيفاء في بلد آخر لأن تعيين مكان الإيفاء فيما لا حمل له ولا مؤنة لا يصح فلو كان له حمل ومؤنة صح ومنه على قول محمد اذا باعه على أن يدفع اليه المبيع قبل أن يدفع الثمن فإن البيع فاسد لأن محمدا رحمه الله علله بتضمنه أجلا مجهولا حتى لو سمى الوقف الذي يسلم اليه فيه المبيع جاز البيع وأما أبو يوسف فإنما علله بالشرط الذي لا يقتضيه العقد قوله ومن أطلق الثمن في البيع أي أطلقه عن ذكر الصفة بعد ذكر العدد بأن قال عشرة دراهم مثلا انصرف الى غالب نقد البلد لأنه هو المتعارف فينصرف المطلق اليه فإن كان إطلاق اسم الدراهم
____________________
(6/262)
في العرف يختص بها مع وجود دراهم غيرها فهو تخصيص الدراهم بالعرف القولى وهو من أفراد ترك الحقيقة بدلالة العرف وإن كان التعامل بها في الغالب كان من تركها بدلالة العادة وكل منهما واجب تحريا للجواز وعدم إهدار كلام العاقل فإن كانت النقود مختلفة المالية كالذهب الأشرفي والناصري بمصر لكنها في الرواج سواء فالبيع فاسد لعدم إمكان الصرف الى أحدها بعينه دون الآخر لما فيه من التحكم عند التساوي في الرواج
____________________
(6/263)
وإذا لم يكن الصرف الى أحدها والحالة أنها متفاوتة المالية جاءت المهملة المفضية إلى المنازعة لأن المشتري يريد دفع الأنقص مالية والبائع يريد دفع الأعلى فيفسد البيع إلا أن ترتفع الجهالة أحدهما في المجلس ويرضى الآخر لارتفاع المفسد قبل تقرره وصار كما لو قال الدائن لمديونه بعني هذا الثوب ببعض العشرة التي لي عليك وبعني هذا الآخر بباقي العشرة فقال نعم كان صحيحا لعدم إفضاء جهالة الثمن الأول الى المنازعة بضم المبيع الثاني اليه اذ به يصير ثمنهما عشرة وهذا محمول على قبول الدائن بعد قول المديون نعم ونحوه وإن كانت مختلفة المالية والرواج معا فالبيع صحيح ويصرف الى الأروج للوجه الذي تقدم من وجوب العمل بالعرف والعادة وكذا اذا كانت متساوية المالية والرواج يصح البيع ويؤدي من أيها شاء لأنه لا فضل لأحدها فلو طلب البائع أحدها بعينه كان للمشتري أن يعطيه من الصنف الآخر لأن الامتناع عن قبض ما أعطاه المشتري مع أنه لا فضل للآخر عليه ليس فيه الا التعنت وبهذا قلنا الدراهم والدنانير لا تتعين حتى لو أراه درهما اشترى به فباعه ثم حبسه وأعطاه درهما آخر جاز يعني اذا كانا متحدي المالية والثنائي والثلاثي اسما دراهم كانت ببلادهم مختلفة المالية وكذا الركني والخليفتي في الذهب كان الخليفتي أفضل مالية عندهم والعدالي اسم لدراهم قوله ويجوز بيع الطعام وهي الحنطة ودقيقها خاصة في العرف الماضي كما يدل عليه حديث الفطرة كنا نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من شعير فقوله والحبوب عطف العام على الخاص أو يقدر وكذا باقي أي وباقي الحبوب فلا يتناول الطعام مكايلة أي بشرط عدد من الكيل وإلا ففي اللغة المكايلة أن تكيل ويكيل لك ومجازفة أي بلا كيل ولا وزن بل بإراءة الصبرة والجزف في الأصل الأخذ بكثرة من قولهم جزف له في الكيل إذا أكثر ومرجعه الى المساهلة قال المصنف وهذا يعني البيع مجازفة مقيد بغير الأموال الربوية إذا بيعت بجنسها فأما الأموال الربوية إذا بيعت بجنسها فلا يجوز مجازفة لاحتمال الربا وهو مانع كحقيقة الربا وهذا أيضا مقيد بما يدخل تحت الكيل منها وأما مالا يدخل كحفنة بحفنتين فيجوز وفي الفتاوي الصغرى عن محمد أنه كره التمرة بالتمرتين فقال ما حرم في الكثير حرم في القليل والقيد مقيد أيضا بما اذا باع غير الحبوب من الربويات بجنسها كفة بكفة فإنه لا يخرج عن المجازفة بسبب أنه لا يعرف قدره ومع ذلك لو باع الفضة كفة ميزان بكفة ميزان جاز لأن المانع إنما هو احتمال الربا وهو باحتمال التفاضل وهو منتف فيما اذا
____________________
(6/264)
وضع صبرة فضة في كفة ميزان ووضع مقابلتها فضة حتى وزنتها فيجوز والحديث الذي ذكره بمعناه وهو ما روى أصحاب الكتب الستة الا البخاري عنه عليه الصلاة السلام أنه قال الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم اذا كانت يدا بيد ولأن هذه الجهالة غير مانعة من التسليم والتسلم لتعجل التسليم على ما تقدم فلا يمنع فشابه جهالة القيمة للمبيع بعد رؤيته ومشاهدته فإنه لو اشترى من انسان ما يساوي مائة بدرهم والبائع لا يعلم قيمة ما باع لزم البيع قوله ويجوز بإناء بعينه لا يعرف مقداره وبوزن حجر بعينه لا يعرف مقداره قد قيد الإناء بكونه مما لا يحتمل الزيادة والنقصان كأن يكون من خشب أو حديد أما اذا كان يحتمل كالزنبيل والجوالق فلا يجوز وعلى هذا بيع ملء قربة بعينها أو راوية من النيل عن أبي حنيفة أنه لا يجوز لأن الماء ليس عنده ولا يعرف قدر القربة لكن أطلق في المجرد جوازه ولا بد من اعتبار القرب المتعارفة في البلد مع غالب السقائين فلو ملأ له بأصغر منها لا يقبل وكذا راوية منه يوفيه في منزله وعن أبي يوسف إذا ملأها ثم تراضيا جاز كما قالوا لو باع الحطب ونحوه أحمالا لا يجوز ولو حمله على الدابة ثم باعه الحمل جاز لتعين قدر المبيع في الثاني وفي الخلاصة اشترى كذا كذا قربة من ماء الفرات جاز استحسانا اذا كانت القربة معينة وعن أبي يوسف أيضا يجوز في القرب مطلقا وفي المحيط بيع الماء في الحياض والآبار لا يجوز الا اذا جعله في وعاء ووجه في المبسوط مسألة الكتاب بأن في المعين مجازفة يجوز فبمكيال غير معروف أولى وفيه نظر فإن في المجازفة الإشارة الى عين المبيع
____________________
(6/265)
ثابتة تفيد الإحاطة بمقدار جرمه وأقطاره ومثل هذا التمييز لا يحصل لها في كيل غير معلوم قبل أن يصب فالأولوية منتفية بلا شك والوجه يقتضي أن يثبت الخيار إذا كان به أو وزن للمشتري كما في الشراء بوزن هذا الحجر ذهبا نص في جمع النوازل على أن فيه الخيار اذا علم به ومعلوم أن ذلك بالوزن وفي جمع التفاريق عن محمد رحمه الله جواز الشراء بوزن هذا الحجر وفيه الخيار وينبغي أن يكون هذا محمل الرواية عن أبي حنيفة أنه لا يجوز في البيع أيضا كما لا يجوز في السلم فقوله لا يجوز أي لا يلزم قال المصنف والأول أصح أي من جهة الرواية وأظهر أي من حيث الوجه المذكور في الكتاب وحاصله أن الجهالة وإن كانت ثابتة لكنها لا تفضي الى المنازعة وهي المانعة وذلك لأنه يتعجل فيندر هلاكه بخلاف السلم لا يتعجل فقد يهلك ذلك الكيل والحجر فيتعذر تسليم المسلم فيه ولا يخفى أن هذا الوجه لا ينفي ثبوت الخيار وأقرب الأمور الى ما نحن فيه قول أبي حنيفة في المسألة التي تلي هذه وهي ما اذا باع صبرة كل قفيز بدرهم أنه اذا كال في المجلس حتى عرف المقدار صح ويثبت الخيار للمشتري كما اذا رآه ولم يكن رآه وقت البيع مع أن الفرض أنه رأى الصبرة قبل الكيل ووقعت الاشارة اليها لكن هذه الرواية أتم وصار كما اذا رأى الدهن في قارورة وزجاج فإنه يثبت الخيار بعد صبه هذا وقد روى عن أبي يوسف اشتراط كون ما يوزن به لا يحتمل النقصان حتى لا يجوز بوزن هذه البطيخة ونحوها لأنها تنقص بالجفاف وعول بعضهم على ذلك وليس بشيء فإن البيع بوزن حجر بعينه لا يصح الا بشرط تعجيل السلم ولا حفاف يوجب نقصا في ذلك الزمان وما قد يعرض من تأخره يوما أو يومين ممنوع بل لا يجوز ذلك كما لا يجوز الإسلام في وزن ذلك الحجر لخشية الهلاك فيتعذر التسليم وتقع المنازعة المانعة منه والفرض أن أقل مدة السلم ثلاثة ايام ولا شك أن تأخر التسليم فيه الى مجلس آخر يفضي الى المنازعة لأن هلاكه إن ندر فالاختلاف في أنه هو أو غيره والتهمة فيه ليس بنادر وكل العبارات تفيد تقييد صحة البيع في ذلك بالتعجيل كما في عبارة المبسوط حيث قال لو اشترى بهذا الإناء يدا بيد فلا بأس به ثم إن في المعين البيع مجازفة يجوز فبمكيال غير معروف أولى وهذا لأن التسليم عقيب البيع الى آخر ما ذكر وتقدم النظر في الأولوية هذا وأورد على التعليل بأن الجهالة لا تقضي الى المنازعة ما اذا باع عبدا من أربعة يأخذ المشتري أيهم شاء أو باع بأي ثمن شاء فالبيع باطل مع أنه لا يفضي الى المنازعة أجيب بأن المبطل في المورد معنى آخر وهو عدم المبيع والثمن لا الجهالة وكان مقتضاه أنه لا يجوز في عبد من ثلاثة لكن جاز على خلاف القياس كما سيأتي ولا شك أن القياس ما عن أبي حنيفة في القربة من ماء النهر وأنه كبيع الطير قبل أن يصطاده كما لو باعه كرا من حنطة وليس في ملكه حنطة صرحوا بأنه لا يجوز إلا أن يكون سلما وأما الاستحسان الثابت بالتعامل فمقتضاه الجواز بعد أن يسمى نوع القربة في ديارنا بمصر اذا لم تكن معينة مثل قربة كتافية أو سقاوية أو رواسية كبيرة ثم بعد ذلك التفاوت يسير أهدر في الماء ونظير ما نحن فيه ما اذا باع حنطة مجموعة في بيت أو مطمورة في الأرض والمشتري لا يعلم مبلغها ولا منتهى حفر الحفيرة أن له الخيار إذا علم إن شاء أخذها بجميع الثمن وإن شاء ترك وإن كان يعلم منتهى المطمورة ولا يعلم مبلغ الحنطة جاز ولا خيار له إلا أن يظهر تحتها دكان أي صفة ونحوها كذا في فتاوي القاضي
____________________
(6/266)
وعن أبي جعفر باعه من هذه الحنطة قدر ما يملأ هذا الطشت جاز ولو باعه قدر ما يملأ هذا البيت لا يجوز وفي الفتاوي بعت منك ما لي في هذه الدار من الرقيق والدواب والثياب والمشتري لا يعلم ما فيها فهو فاسد لجهالة المبيع ولو قال ما في هذا البيت جاز وإن لم يعلم به لأن الجهالة يسيرة وإذا جاز في البيت جاز في الصندوق والجوالق ولو قال بعت منك نصيبي من هذه الدار فشرط الجواز علم المشتري بنصيبه دون علم البائع وتصديق البائع فيما يقول ولو اشترى موزونا إناء على أن يفرغه ويزن الإناء فيحط قدر وزنه من الثمن جاز وكما تمنع الجهالة السابقة كذلك تمنع اللاحقة قبل التسليم فلذا اختلفوا فيما اذا باع الجمد الكائن في المجمدة قيل لا يجوز حتى يسلم أولا ثم يبيع والأصح جوازه مطلقا وهو اختيار الفقيه أبي جعفر اذا سلم قبل ثلاثة ايام ولو سلم بعدها لا يجوز لأنها تذوب في كل ساعة وهو وجه من منع قبل التسليم غير أن النقص قليل قبل الأيام الثلاثة غير معتبر فلهذا أهدر وجاز وقيل إنه يختلف باختلاف الصيف والشتاء وغلاء الجمد ورخصه فينظر الى ما يعده الناس كثيرا بحسب الاوقات فيجوز اذا سلمه قبل وسيأتي من هذا الباب شيء في خيار الرؤية إن شاء الله تعالى قوله ومن باع صبرة طعام كل قفيز بدرهم جاز البيع في قفيز واحد عند أبي حنيفة رحمه الله يعني أن موجب هذا اللفظ والإشارة إيجاب البيع في واحد عنده ويتوقف في الباقي الى تسمية الكل في المجلس أو كيله فيه فيثبت حينئذ على وجه يكون الخيار للمشتري فإن رضي هل يلزم البيع على البائع وإن لم يرض أو يتوقف على قبوله أيضا روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يجوز إلا بتراضيهما وروى محمد خلافه حتى لو فسخ البائع البيع بعد الكيل ورضى المشتري بأخذ الكل لا يعمل فسخه وقال ابو يوسف ومحمد صح البيع في الكل وهو قول الأئمة الثلاثة ثم اذا جاز في قفيز واحد فللمشتري فيه الخيار لتفرق الصفقة عليه دون البائع لأن التفريق جاء من قبله بسبب عدم تسميته جملة القفزان له أنه تعذر صرف البيع الى الكل لجهالة المبيع والثمن ولا جهالة في القفيز فلزم فيه وإذا زالت بالتسمية أو الكيل في المجلس يثبت الخيار كما اذا ارتفعت بعد العقد بالرؤية إذا المؤثر
____________________
(6/267)
فى الأصل ارتفاع الجهالة بعد لفظ العقد وكونه بالرؤية ملغى بخلاف ما إذا علم ذلك بعد المجلس لتقرر المفسد وما فى المحيط عن بعض المشايخ أن عنده يصح فى الكل وإن علم بعد المجلس بعيد لأن ما فى المجلس كالثابت في صلب العقد بخلاف ما بعده ولا يلزم إسقاط خيار أربعة أيام بعد المجلس وكذا زوال جهالة الأجل المجهول بعده حيث يجوز العقد بزوال المفسد بعد المجلس لأن المفسد فيهما لم يتمكن فى صلب العقد فلا يتقيد رفع المفسد والمجلس وهذا لأن أثر الفساد فيهما لا يظهر فى الحال بل يظهر عند دخول اليوم الرابع وامتداد الأجل وأما ما أورد من أن الجهالة وإن كانت ثابتة لكنها لا تفضى إلى المنازعة لأن بعد العلم بأن كل قفيز بدرهم لا يتفاوت الحال بين كون القفزان كثيرا أو قليلا فجوابه أن المفسد هنا جهالة الثمن كمية خاصة وقدرا لعدم الإشارة ولا معرف شرعا له غير ذلك وأما الجواب بمنع كونها غير مفضية إلى المنازعة لأن البائع قد يطالب المشترى بتسليمه الثمن وهو لا يقدر على ذلك لعدم معرفة قدره فيتنازعان فتهافت ظاهر لأنه لا يتصور أن يطالبه إلا بعد أن يكيله ليعرف القدر الذى يطالب به إذ لا يمكن أن يطالبه إلا بكمية خاصة مشار إليها أو مضبوطة الوزن وحينئد يعلمها المشترى فيقدر على التسليم ولو امتنع بعد هذا التقدير كان مطلا المنازعة المفسدة ولهما أن هذه الجهالة بيدهما إزالتها بأن يكيلا فى المجلس والجهالة التى هى كذلك لا تفضى إلى المنازعة كبيع عبد من عبدين أو ثلاثة على أن
____________________
(6/268)
المشترى بالخيار يأخذ أيهما شاء وقد أورد عليه نقض إجمالى لو صح ما ذكر من أن الجهالة التي بيدهما إزالتها غير مانعة من الصحة لزم صحة البيع بالرقم عندهما وأنه يجوز بيع عبد من أربعة على أن المشترى مخير فى تعيينه وأن يجوز البيع بأى ثمن شاء لكن البيع فى الكل باطل أجيب بأن البيع بالرقم تمكنت الجهالة به فى صلب العقد وهو جهالة الثمن بسبب الرقم وصار بمنزلة القمار للخطر الذى فيه أنه سيظهر كذا وكذا وجوازه إذا علم فى المجلس بعقد آخر هو التعاطى كما قاله الحلوانى بخلاف ما نحن فيه لأنه كما يعلم بكيل البيع يعلم بكيل المشترى ومثل هذا القول البيع بأى ثمن شاء ومثله فى احد العبيد الأربعة فى جانب المبيع فإن البيع لا ينعقد فى غير معين فكان بيعا بلا مبيع وكان مقتضى هذا أن لا يجوز فى عبد من ثلاثة إلا أنه يثبت بدلالة نص شرط الخيار ثلاثة أيام
____________________
(6/269)
ولا يخفى أن كل أجوبة هذه النقوض تصلح أدلة لأبى حنيفة فإنها تضمنت تسليم أن الجهالة وإن كانت بيدهما إزالتها بعد كونها فى صلب العقد وهى أن تكون فى الثمن كالبيع بالرقم وبأى ثمن شاء أو فى المبيع كبيع عبد من أربعة تمنع جواز البيع وجهالة الثمن على وجه يشبه القمار وعدم العلم به مع إمكان إزالتها ثابت فى جمل النزاع إذ جاز أن يظهر كونه مائة أو خمسين إلا بكيل أحدهما وكون ذلك بكيل كل منهما وفى الرقم يظهر بالبائع فقط لا أثر له فى دفع منع الحظر والتمكن فى صلب العقد وهو المفسد وإذا فسد البيع فى عبد من أربعة والجهالة فى مضبوط لانحصارها فى احتمالات أربعة لا تتعداها فلأن تفسد فى صبرة لا تقف الاحتمالات فى خصوص الثمن على كونه أربع إمكانات أو عشرة أولى بل ويسجل عليهما ببطلان قياسمها على بيع عبد من عبدين إذ ظهر من الجواب أنه معدول عن القياس ولذا امتنع فى أربعة أعبد وحينئذ ترجح قول أبى حنيفة وظهر أن كون العاقدين بيدهما إزالة جهالة فى صلب العقد من الثمن والمبيع لا يوجب صحة البيع قبل إزالتها بدلالة الإجماع على عدم الصحة فى الصور المذكورة مع إمكان إزالتها فيها وغايته إذا أزيلت فى المجلس وهما على رضاهما ثبت بعقد التراضى والمعاطاة لا بعين الأول كما ذكر فى الرقم بل ولهذه الفروع المذكورة أمثال يطول عدها يبطل البيع فيها لجهالة فى الثمن أو المبيع مع إمكان إزالة أحد المتعاقدين لهما وتأخير صاحب الهداية دليلهما ظاهر فى ترجيحه قولهما وهو ممنوع وأما ما يحمل قول أبى حنيفة عليه مما ذكر فى المبسوط من أن الأصل عنده أنه متى أضيف كلمة كل إلى مالا تعلم نهايته فإنما يتناول أدناه لصيانته عن الإلغاء كالإقرار بأن عليه كل درهم إنما يلزمه درهم واحد وكذا إجارة كل شهر بدرهم تلزم فى شهر واحد فلا حاجة له هنا لأنه لو منع صحة هذا الأصل كان إثباته بعين ما ذكر فى تعليل المسئلة من ثبوت الجهالة فى المجموع والتيقن فى الواحد فهو نفسه أصل هذا الأصل
فرع اشترى طعاما بغير جنسه خارج المصر وشرط أن يوفيه فى منزل من المصر فالعقد فاسد لأن المشترى يملكه بنفس العقد فإذا اشترط لنفسه منفعة الحمل فسد ولو كان فى المصر وشرط أن يحمله إلى منزله فهو فاسد ولو غير بقوله بشرط أن يوفيه فى منزله ففى القياس فاسد وهو قول محمد واستحسن أبو حنيفة وأبو يوسف جوازه بالعرف فإن الإنسان يشترى الحطب والشعير على الدابة فى المصر ولا يكترى دابة أخرى يحمله عليها بل البائع هو يحمله بخلافه خارج المصر وبعض المشايخ لم يفرقوا بين لفظ الحمل والإيفاء فى الاستحسان لأن المراد منهما واحد واختار شمس الأئمة الفرق فإن الإيفاء من مقتضيات العقد فشرطه ملائم بخلاف الحمل قوله ومن باع قطيع غنم الخ لما ذكر الصورة السابقة فى المثليات ذكر نظيرها فى القيميات فإذا أضاف البيع
____________________
(6/270)
على الوجه المذكور فى الحيوانات بأن قال بعتك هذه القطيع كل شاة بدرهم أو هذا الثوب كل ذراع بدرهم ولم يبين عدد الغنم ولا الذرعان ولا جملة الثمن فسد فى الكل عند أبى حنيفة أما إذا سمى أحدهما فيصح بالاتفاق للعلم بتمام الثمن مطابقة أو التزاما فيما إذا اقتصر على بيان عدد القطيع وعندهما يجوز فى الكل لما قلنا من أن الجهالة بيدهما إزالتها وعنده ينصرف إلى الواحد لما بينا من جهالة كل الثمن وإلغاء كون ارتفاعها بيدهما غير أن الآحاد هنا متفاوتة فلم ينقسم الثمن على الجملة بالإجزاء فتقع المنازعة فى تعيين ذلك الواحد ففسد فى الكل ولهذا لو باع شاة أو عشرا من مائة شاة أو بطيخة أو عشرا من وقر بطيخ كان باطلا وأما الجواز فيما إذا عزلها وذهب والبائع ساكت فبالتعاطى على ما قدمنا قال العتابى إن ذلك فى ثوب يضره التبعيض أما فى الكرباس فينبغى أن يجوز عنده فى ذراع واحد كما فى الطعام وعلى هذا الخلاف كل معدود متفاوت كحمل بطيخ كل بطيخة بفلس والرمان والسفرجل والخشب والأوانى والرقيق والإبل ولو باع نصيبه من هذا الطعام روى الحسن عن أبى حنيفة لا يجوز وإن بينه بعد ذلك وكذا فى الدار وهذا غير الأليق بأصله المذكور فى الخلافية وفى الخلاصة اشترى العنب كل وقر بكذا والوقر عنده معروف إن كان العنب من جنس واحد يجب أن يجوز فى وقر واحد عند أبى حنيفة كما فى بيع الصبرة كل قفيز بدرهم وإن كان العنب أجناسا لا يجوز البيع أصلا عند أبى حنيفة كقطيع الغنم وعندهما يجوز إذا كان جنسا واحدا فى كل العنب كل وقر بما قال وكذا إذا كان الجنس مختلفا فكذا أورد الصدر الشهيد والفقيه أبو الليث جعل الجواب بالجواز فيما إذا كان العنب من جنس واحد متفقا عليه وإن كان من أجناس مختلفا فيه ثم قال الفقيه والفتوى على قولهما تيسيرا للأمر على الناس انتهى وتفريع الصدر الشهيد أوجه قوله ومن ابتاع صبرة طعام على أنها مائة قفيز مثلا بمائة تعلق العقد على ذلك الكيل المسمى بعينه حتى لو وجدت ناقصة كان للمشترى الخيار إن شاء أخذ الموجود بحصته من الثمن لأن الثمن ينقسم بالأجزاء على أجزاء المبيع المثلى مكيلا أو موزونا فإن شاء فسخ البيع لتفرق الصفة الواحدة عليه وكذا الخلاصة فى كل مكيل وموزون وإن وجدها زائدة فالزيادة للبائع لأن البيع وقع على مقدار معين ليس
____________________
(6/271)
له جهة الوصفية فما زاد عليه لم يدخل فى العقد فيكون للبائع ولو كان المشترى ثوبا أو أرضا على أنه عشرة بعشرة أو مائة ذراع بمائة فوجد المبيع أقل فإن شاء أخذ الموجود بكل الثمن وإن شاء ترك وإن وجدها زائدة على العشرة أو المائة كان الكل للمشترى ولو كان قال على أنها مائة ذراع مثلا بمائة كل ذراع بدرهم فوجدها أقل فللمشترى الخيار إن شاء أخذ الموجود كل ذراع بدرهم وإن شاء فسخ البيع لتفرق الصفقة عليه وإن كان وجدها أكثر فله الخيار إن شاء أخذ الكل كل ذراع بدرهم وإن شاء فسخ البيع وأصل هذا أن الذرع فى المذروعات وصف لأنه عبارة عن طول فيه لكنه وصف يستلزم زيادة أجزاء فإن لم يفرد بثمن كان تابعا محضا فلا يقابل بشىء من الثمن وذلك فيما إذا قال على أنها مائة بمائة ولم يزد على ذلك وإذا كان تابعا محضا فى هذه الصورة والتوابع لا يقابلها شىء من الثمن كأطراف الحيوان حتى أن من اشترى جارية فاعورت فى يد البائع قبل التسليم لا ينقص شىء من الثمن أو اعورت عند المشترى جاز له أن يرابح على ثمنها بلا بيان فعليه تمام الثمن فى صورة النقص وإنما يتخير لفوات الوصف المشروط المرغوب فيه كما إذا اشتراه على أنه كاتب فوجده
____________________
(6/272)
لا يحسن الكتابة وله الزائد فى الصورة الزائدة كما إذا باعه على أنه معيب فوجده سليما هذا إذا لم يفرد بالثمن فإن أفرد بالثمن وهو ما إذا قال على أنها مائة بمائة كل ذراع بدرهم صار أصلا وارتفع عن التبعية فنزل كل ذراع بمنزلة ثوب ولو باعه هذه الرزمة من الثياب على أنها مائة ثوب بدرهم فوجدها ناقصة يخير بين أن يأخذ الأثواب الموجودة بحصتها من الثمن وبين أن يفسخ لتفرق الصفقة فكذا إذا وجد الذرعان ناقصة فى هذه الصورة وهذا لأنه لو أخذها بكل الثمن لم يكن آخذا كل ذراع بدرهم ولو وجدها زائدة لم تسلم له الزيادة لصيرورته أصلا كما لو لم يسلم له الثوب المفرد فيما إذا زادت عدد الثياب على المشروط وإن كان بينهما فرق فإن
____________________
(6/273)
عدد الثياب إذا زادت فسد البيع للزوم جهالة المبيع لأن المنازعة تجرى فى تعيين الثوب الذى يرد إلى البائع بسبب أنه أصل من كل وجه
أما هنا فالذراع ليس أصلا من كل وجه ليفسد فيثبت له الخيار بين أن يأخذ الزائد بحصته وبين أن يفسخ لأنه وإن صح له أخذ الزائد لكنه بضرر يلحقه وهو زيادة الثمن ولم يكن يلتزم هذه الزيادة بعقد البيع فكان له الخيار وإذا ظهر أنهم اعتبروا الطول وصفا تارة وأصلا أخرى ولم يعتبروا القدر فى المثليات إلا أصلا دائما مع أن الطول والعرض أيضا يرجع إلى القدر ويمكن أن يجعل القدر وصفا احتيج إلى الفرق فقيل لأن المثلى لا تنقص قيمته بنقصان القدر فإن الصبرة الكائنة مائة قفيز لو صارت إلى قفيزين فى القلة لم تنقص قيمة القفيز بخلاف الثوب والأرض ألا ترى أن الثوب الذى عادته عشرة وهو قدر ما يفصل قباء أو فرجية كان بثمن إذا قسم على أجزائه يصيب كل ذراع منه مقدار ولو أفرد الذراع وبيع بمفرده لم يساو فى الأسواق ذلك المقدار بل أقل منه بكثير وذلك لأنه لا يفيد الغرض الذى يصنع بالثوب الكامل فعلمنا أن كل جزء منه
____________________
(6/274)
لم يعتبر كثوب كامل مفرد قوله ومن باع عشرة أذرع من مائة ذراع من دار أو حمام فالبيع فاسد عند أبى حنيفة رضى الله عنه وقالا هو جائز وبه قال الشافعى رحمه الله وإن اشترى عشرة أسهم من مائة سهم منها جاز فى قولهم جميعا ومبنى الخلاف على أن المؤدى من عشرة أذرع من مائة ذراع معين أو شائع فعندهما شائع كأنه باع عشر مائة وبيع الشائع جائز اتفاقا كما فى بيع عشرة أسهم من مائة سهم وعنده مؤداة قدر معين والجوانب مختلفة الجودة فتقع المنازعة فى تعيين مكان العشرة ففسد البيع فلو اتفقوا على أن مؤدى عشرة أذرع من مائة من هذه الدار شائع لم يختلفوا ولو اتفقوا على أنه متعين لم يختلفوا فهو نظير اختلافهم فى نكاح الصائبة مبنى على أنهم يعبدون الكواكب ولا كتاب لهم أو لهم كتاب فلو اتفقوا على الثانى اتفقوا على جوازه أو على الأول اتفقوا على عدم الجواز فالشأن فى ترجيح المبنى
فأبو حنيفة يقول الذراع اسم لما يذرع به ومعلوم أنه لم يرد بالمبيع عشر من الخشبات التى يذرع بها فكان مستعارا لما يحلها وما يحله معين فكان المبيع معينا مقدرا بعشرة أذرع بخلاف عشرة أسهم لأن السهم اسم للجزء الشائع فكان المبيع عشرة أجزاء شائعة من مائة سهم
____________________
(6/275)
وقد يقال إن تعيين جملة ذرعان الدار قرينة على أنه إنما أراد بيع الشائع لأن به يعرف نسبة العشرة من الكل أنها بالعشر وإلا فلا فائدة فى تعيينه لأن العشرة أذرع لا يتفاوت مقدارها بتعيين الكل وعدمه
وقد يقال فائدته لا تتعين فى ذلك لجواز أن يرفع به الفساد فإن بيع عشرة أذرع من ثوب لا يجوز على قول أبى حنيفة ولا على قولهما على تخريج طائفة من المشايخ وعلى قول آخرين يجوز لأنها جهالة بيدهما إزالتها فيذرع الكل فيعرف نسبة العشرة وصحح هذا بناء على ما تقدم لهما من بيع صبرة لجواز أن يكون العاقد يرى الرأى الأول
ولما وضع المسئلة فى الجامع فى عشرة أذرع من ذراع ظهر أن ما قال الخصاف من أن الفساد عنده فيما إذا لم يعرف جملة الذرعان وأما إذا عرف جملتها فالبيع عنده صحيح غير واقع من جهة الرواية وكذا من جهة الدراية فإن الفساد عنده للجهالة كما قلنا وبمعرفة قدر جملة المبيع لا تنتفى الجهالة عن البعض الذى بيع منه
واختلف المشايخ على قولهما فيما إذا باع ذراعا أو عشرة أذرع من هذه الأرض ولم يسم جملتها فقيل على قولهما لا يجوز لأن صحته على قولهما باعتبار أنه جزء شائع معلوم النسبة من الكل وذلك فرع معرفة جملتها والصحيح أنه يجوز لأنها جهالة بأيديهما إزالتها بأن تقاس كلها فيعرف نسبة الذراع
أو العشرة منها فيعلم قدر المبيع قوله ومن باع عدلا صورتها أن يقول بعتك ما فى هذا العدل على أنه عشرة أثواب بمائة درهم مثلا ولم يفصل لكل ثوب ثمنا بل قابل المجموع بالمجموع فإذا هو تسعة أو احد عشر فسد البيع لجهالة المبيع فى صورة الزيادة لما قررنا من قريب فى الفرق بين الثوب والذراع الذى صار أصلا من وجه والثمن فى صورة النقصان لأن الثمن لا تنقسم أجزاؤه على حسب أجزاء المبيع القيمى والثياب منه فلم يعلم للثوب الذاهب حصة معلومة من الثمن المسمى لينقص ذلك القدر منه فكان الناقص من الثمن قدرا مجهولا فيصير الثمن مجهولا ولو كان فصل لكل ثوب ثمنا بأن قال كل ثوب بعشرة جاز البيع فى فصل النقصان بقدره أى بما سوى قدر الناقص لعدم الجهالة لكن مع ثبوت الخيار للمشترى لتفرق الصفقة عليه ولم يجز فى الزيادة لأن جهالة المبيع لا ترتفع فيه لوقوع النازعة فى تعيين العشرة المبيعة من الأحد عشر
____________________
(6/276)