يجب على الغاسل في استنجاء الميت على قول أبي حنيفة ومحمد أن يلف على يده خرقة ليغسل سوءته وكذا على الرجال إذا ماتت إمرأة ولا امرأة تغسلها أن ييممها رجل ويلف على يده خرقة لذلك ولا يستنجي الميت عند أبي يوسف قوله هو الصحيح احتراز عن رواية النوادر أنه يستر من سرته إلى ركبته وصححها في النهاية لحديث علي المذكور آنفا قوله ونزعوا عنه ثيابه وعند الشافعي السنة أن يغسل في قميص واسع الكمين أو يشرط كماه لأنه عليه الصلاة والسلام غسل في قميصه
قلنا ذاك خصوصية له عليه الصلاة والسلام بدليل ما روى أنهم قالوا نجرده كما نجرد موتانا أم نغسله في ثيابه فسمعوا هاتفا يقول لا تجردوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية اغسلوه في قميصه الذي مات فيه فهذا يدل على أن عادتهم المستمرة في زمنه صلى الله عليه وسلم التجريد ولأنه يتنجس بما يخرج منه ويتنجس الميت به ويشيع بصب الماء عليه بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يخرج منه إلا طيب فقال علي رضي الله عنه طبت حيا وميتا قوله من غير مضمضة واستنشاق واستحب بعض العلماء أن يلف الغاسل على أصبعه خرقة يمسح بها أسنانه ولهاته وشفتيه ومنخريه وعليه عمل الناس اليوم وهل يمسح رأسه في رواية صلاة الأثر لا والمختار أن يمسح ولا يؤخر غسل رجليه عن الغسل ولا يقدم غسل يديه بل يبدأ بوجهه بخلاف الجنب لأنه يتطهر بهما والميت يغسل بيد غيره
قال الحلواني ما ذكر من الوضوء
____________________
(2/107)
في حق البالغ والصبي الذي يعقل الصلاة فأما الذي لا يعقلها فيغسل ولا يوضأ لأنه لم يكن بحيث يصلى قوله ثم يفيض الماء عليه ثلاثا اعتبارا بحالة الحياة فإنه إذا أراد الغسل المسنون في حالة الحياة توضأ ثم أفاض الماء عليه ثلاثا وسنذكر كيفية ذلك قوله ويجمر سريره وترا أي يبخر وهو أن يدور من بيده المجمرة حول سريره ثلاثا أو خمسا أو سبعا وإنما يوتر لأن الله تعالى وتر يحب الوتر كما في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة إنه وتر يحب الوتر وأخرج الحاكم وصححه وابن حبان في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أجمرتم الميت فأوتروا وجميع ما يجمر فيه الميت ثلاث عند خروج روحه لإزالة الرائحة الكريهة وعند غسله وعند تكفينه ولا يجمر خلفه ولا في القبر لما روى لا تتبعوا الجنازة بصوت ولا نار قوله ويغلي الماء بالسدر الخ وعند الشافعي لا يغلي وحديث غسل آدم وقول الملائكة كذلك فافعلوا ثم تقريره في شريعتنا بثبوت التصريح ببقاء ذلك وهو قوله عليه الصلاة والسلام في الذي وقصته راحلته اغسلوه بماء وسدر وفي ابنته اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا يفيد أن المطلوب المبالغة في التنظيف لا أصل التطهير وإلا فالماء كاف فيه ولا شك أن تسخينه كذلك مما يزيد في تحقيق المطلوب فكان مطلوبا شرعا وحقيقة هذا الوجه إلحاق التسخين بخلطه بالسدر في حكم هو الاستحباب بجامع المبالغة في التنظيف وما يخال مانعا وهو كون سخونته توجب انحلال ما في الباطن فيكثر الخارج هو عندنا داع لا مانع لأن المقصود يتم إذ يحصل باستفراغ ما في الباطن تمام النظافة والأمان من تلويث الكفن عند حركة
____________________
(2/108)
الحاملين والحرض أشنان غير مطحون والماء القراح الخالص وإنما يغسل رأسه بالخطمي أي خطمي العراق إذا كان فيه شعر قوله ثم يضجع على شقه الأيسر شروع في بيان كيفية الغسل
وحاصله أن البداءة بالميامن سنة في البخاري من حديث أم عطية قالت لما غسلنا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابدأ بميامنها ومواضع الوضوء منها وهو دليل تقديم وضوء الميت فإذا فرغ من وضوئه غسل رأسه ولحيته بالحطمى من غير تسريح ثم يضجعه على شقه الأيسر لتكون البداءة في الغسل بشقه الأيمن فيغسل بالماء القراح حتى ينقيه ويرى أن الماء قد خلص إلى ما يلي التخت منه وهو الجانب الأيسر وهذه غسلة ثم يضجعه على جانبه الأيمن فيغسل بالماء المغلي فيه سدر أو حرض إن كان حتى ينقيه ويري أن الماء قد وصل إلى ما يلي التخت منه وهو الجانب الأيمن وهذه ثانية ثم تقعده وتسنده إليك وتمسح بطنه مسحا رفيقا فإن خرج منه شيء غسلت شيء ذلك المحل المصاب ثم تضجعه على الأيسر فتصيب غاسلا بالماء الذي فيه الكافور وقد تمت الثلاث
ولم يفصل المصنف في مياه الغسلات بين القراح وغيره وذكره شيخ الإسلام وغيره كذلك
وهو ظاهر من كلام الحاكم وإنما يبدأ بالقراح أولا ليبتل ما عليه من الدرن بالماء أولا فيتم قلعه بالماء والسدر ثم يحصل تطييب البدن بعد البدن بعد النظافة بماء الكافور
والأولى أن يغسل الأوليان بالسدر كما هو ظاهر الكتاب هنا
وأخرج أبو داود عن محمد بن سيرين أنه كان يأخذ الغسل عن أم عطية يغسل بالسدر مرتين والثالث بالماء والكافور وسنده صحيح ثم ينشف ثم يقمص ثم يبسط الكفن على ما نذكر ثم يوضع عليه
فإذا وضع مقمصا عليه وضع حينئذ الحنوط في رأسه ولحيته وسائر جسده والكافور على مساجده وما تيسر من الطيب إلا ما سنذكر قوله لأن الغسل أي المفعول على وجه السنة عرف
____________________
(2/109)
وجوبه بالنص مرة واحدة مع قيام سبب النجاسة والحدث وهو الموت مرة واحدة أعم من كونه قبل خروج شيء أو بعده فلا يعاد الوضوء ولا الغسل لأن الحاصل بعد إعادته هو الذي كان قبله
والحنوط عطر مركب من أشياء طيبة ومساجده مواضع سجوده جمع مسجد بالفتح لا غير كذا في المغرب وهي الجبهة واليدان والركبتان والرجلان ولا بأس بسائر الطيب إلا الزعفران والورس في حق الرجل لا المرأة
وأخرج الحاكم عن أبي وائل قال كان عند علي رضي الله عنه مسك فأوصى أن يحنط به وقال هو فضل حنوط رسول الله صلى الله عليه
____________________
(2/110)
وسلم ورواه ابن أبي شيبة والبيهقي وقال النووي إسناده حسن قوله لقول عائشة رضي الله عنها علام تنصون ميتكم تنصون بوزن تبكون قال أبو عبيد هو مأخوذ من نصوت الرجل إذا مددت ناصيته فأرادت عائشة أن الميت لا يحتاج إلى تسريح الرأس وعبرت بالأخذ بالناصية تنفيرا عنه وبنت عليه الاستعارة التبعية في الفعل والأثر
رواه عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن حماد عن إبراهيم عن عائشة أنها رأت امرأة يكدون رأسها بمشط فقالت علام تنصون ميتكم ورواه أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم به ورواه إبراهيم الحربي في كتابه غريب الحديث حدثنا هشيم أخبرنا المغيرة عن إبراهيم عن عائشة أنها سئلت عن الميت يسرح رأسه فقالته
فروع لا يغسل الزوج امرأته ولا أم الولد سيدها خلافا للشافعي في الأول ولزفر في الثاني لأنهما صارتا أجنبيتين وعدة أم الولد للاستبراء لا أنها من حقوق الوصلة الشرعية بخلاف عدة الزوجة فلذا تغسل هي زوجها وإن كانت محرمة أو صائمة أو مظاهرا منها إلا أن تكون معتدة عن نكاح فاسد بأن تزوجت المنكوحة نفرق بينهما وردت إلى الأول فمات وهي في عدة النكاح الفاسد ولو انقضت بعيد موته غسلته وإلا إن كانت أختان أقامت كل منهما البينة أنه تزوجها ودخل بها ولا يدري الأولى منهما أو كان قال لنسائه إحداكن طالق ومات قبل البيان فلا تغسله واحدة منهن
ولو بانت قبل موته بسبب من الأسباب بردتها أو تمكينها ابنه
____________________
(2/111)
أو طلاقه لا تغسله وإن كانت العدة
ولو ارتدت بعد موته فأسلمت قبل غسله لا تغسله خلافا لزفر في هذا
هو يقول الردة بعد الموت لا ترفع النكاح لارتفاعه بالموت وقد زال المانع بالإسلام في العدة بخلافها قبله والعدة الواجبة عليها بطريق الاستبراء حتى تقدر بالأقراء
قلنا النكاح قائم لقيام أثره فارتفع بالردة
وكذا لو كانا مجوسيين فأسلم ولم نسلم هي حتى مات لا تغسله فإن أسلمت غسلته خلافا لأبي يوسف هكذا ذكر في المبسوط وذكر أيضا مثله فيمن وطئ أخت زوجته بشبهة حتى حرمت عليه زوجته إلى أن تنقضي عدة الموطوءة فمات فانقضت لا تغسله زوجته
وذكر في المنظومة والشرح في هذه ومسئلة المجوسية أنه يحل لها غسله عندنا خلافا لزفر فالمعتبر في حله عندنا حالة الغسل وعنده حالة الموت
وكذا لو أن نفس الزوجة وطئت بشبهة فاعتدت فمات زوجها فانقضت عدتها بأثره
وإذا لم يكن للرجل زوجة ولا رجل يغسله لا تغسله بنته ولا أحد من ذوات محارمه بل تيممه إحداهن أو أمته أو أمة غيره بغير ثوب ولا تيممه من تعتق بموته إلا بثوب والصغير والصغيرة إذا لم يبلغا حد الشهوة بغسلهما الرجال والنساء وقدره في الأصل بأن يكون قبل أن يتكلم والخصي والمجبوب كالفحل
وإذا ماتت المرأة ولا امرأة فإن كان محرم من الرجال يممها باليد والأجنبي بالخرقة ويغض بصره عن ذراعيها لا فرق بين الشابة والعجوز والزوج في امرأته أجنبي إلا في غض البصر
ولو لم يوجد ماء فيمموا الميت وصلوا عليه ثم وجدوه غسلوه وصلوا عليه ثانيا عند أبي يوسف
وعنه يغسل ولا تعاد الصلاة عليه
ولو كفنوه وقد بقي منه عضو لم يغسل يغسل ذلك العضو ولو بقي نحو الأصبع لا يغسل
ولو دفن بلا غسل وأهالوا عليه التراب يصلي على قبره ولا ينبش هكذا عن محمد فرق بين الصلاة عليه بلا غسل قبل الدفن وبعده وإذا وجد أطراف ميت أو بعض بدنه لم يغسل ولم يصل عليه بل يدفن إلا إن وجد أكثر من النصف من بدنه فيغسل ويصلي عليه أو وجد النصف ومعه الرأس فحينئذ يصلي
ولو كان مشقوقا نصفين طولا فوجد أحد الشقين لم يغسل ولم يصل عليه وإذا وجد ميت لا يدري أمسلم هو أم كافر فإن كان في قرية من قرى أهل الإسلام وعليه سماهم غسل وصلى عليه وإن كان في قرية من قرى أهل الكفر وعليه سماهم لم يصل فيه وليس في الغسل استعمال القطن في الروايات الظاهرة
وعن أبي حنيفة أنه يجعل القطن المحلوج في منخريه وفمه وقال بعضهم في صماخيه أيضا وقال بعضهم في دبره أيضا
قال في الظهيرية
واستقبحه عامة العلماء
ولا يجوز الاستئجار على غسل الميت ويجوز على الحمل والدفن وأجازه بعضهم في الغسل أيضا ويكره للغاسل أن يغسل وهو جنب أو حائض ويندب الغسل من غسل الميت
____________________
(2/112)
& فصل في التكفين
هو فرض على الكفاية ولذا قدم على الدين فإن كان الميت موسرا وجب في ماله وإن لم يترك شيئا فالكفن على من تجب عليه نفقته إلا الزوج في قول محمد
وعند أبي يوسف يجب على الزوج ولو تركت مالا وعليه الفتوى كذا في غير موضع
وإذا تعدد من وجبت النفقة عليه على ما يعرف في النفقات فالكفن عليهم على قدر ميراثهم كما كانت النفقة واجبة عليهم
ولو كان معتق شخص ولم يترك شيئا وترك خالة موسرة يؤمر معتقه بتكفينه وقال محمد على خالته وإن لم يكن له من تجب عليه نفقته فكفنه في بيت المال فإن لم يعط ظلما أو عجزا فعلى الناس ويجب عليهم أن يسألوا له بخلاف الحي إذا لم يجد ثوبا يصلي فيه لا يجب على الناس أن يسألوا له بل يسأل هو فلو جمع رجل الدراهم لذلك ففضل شيء منها إن عرف صاحب الفضل رده عليه وإن لم يعرف كفن محتاجا آخر به فإن لم يقدر على صرفها إلى الكفن يتصدق بها
ولو مات في مكان ليس فيه إلا رجل واحد ليس له إلا ثوب واحد ولا شيء للميت له أن يلبسه ولا يكفن به الميت وإذا نبش الميت وهو طري كفن ثانيا من جميع المال فإن كان قسم ماله فالكفن على الوارث دون الغرماء وأصحاب الوصايا فإن لم يكن فضل عن الدين شيء من التركة فإن لم يكن الغرماء قبضوا ديونهم بدئ بالكفن وإن كانوا قبضوا لا يسترد منهم شيء وهو في بيت المال
ولا يخرج الكفن عن ملك المتبرع به فلذا لو كفن رجلا ثم رأى الكفن مع شخص كان له أن يأخذه وكذا إذا افترس الميت سبع كان الكفن لمن كفنه لا للورثة قوله لما روى أنه صلى الله عليه وسلم كفن في الكتب الستة عن عائشة قالت كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة وسحول قرية باليمن وفتح السين هو المشهور وعن الأزهري الضم
فإن حمل على أن المراد أن ليس القميص من هذه الثلاثة بل خارج عنها كما قال مالك رحمه الله لزم كون السنة أربعة أثواب وهو مردود بما في البخاري عن أبي بكر قال لعائشة رضي الله عنها في كم ثوب كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت في ثلاثة أثواب
وإن عورض بما رواه ابن عدي في الكامل عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال كفن
____________________
(2/113)
النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب قميص وإزار ولفافة فهو ضعيف بنا صح بن عبد الله الكوفي ولينه النسائي ثم إن كان ممن يكتب حديثه لا يوازي حديث عائشة
وما روى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في حلة يمانية وقميص مرسل والمرسل وإن كان حجة عندنا لكن ما وجه تقديمه على حديث عائشة فإن أمكن أن يعادل حديث عائشة بحديث القميص بسبب تعدد طرقه منها الطريقان اللذان ذكرنا
وما أخرج عبد الرزاق عن الحسن البصري نحوه مرسلا
وما روى أبو داود عن ابن عباس قال كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب قميصه الذي مات فيه وحلة نجرانية وهو مضعف بيزيد بن أبي زياد
ثم ترجح بعد المعادلة بأن الحال في تكفينه أكشف للرجال ثم البحث وإلا ففيه تأمل
وقد ذكروا أنه عليه الصلاة والسلام غسل في قميصه الذي نوفي فيه فكيف يلبسونه الأكفان فوقه وفيه بللها والله سبحانه أعلم
والحلة في عرفهم مجموع ثوبين إزار ورداء وليس في الكفن عمامة عندنا واستحسنها بعضهم لما روى عن ابن عمر أنه كان يعممه ويجعل العذبة على وجهه وأحبها البياض ولا بأس بالبرود والعصب والكتان للرجال ويجوز للنساء الحرير والمزعفر والمعصفر اعتبارا للكفن باللباس في الحياة والمراهق في التكفين كالبالغ والمراهقة كالبالغة قوله ولأنه أي عدد الثلاث أكثر ما يلبسه عادة في حياته فكذا بعد مماته فأفاد أن أكثر ما يكفن فيه الرجال ثلاثة وصرح بأن أكثر مايكفن فيه الرجل ثلاثة غيرواحد من المصنفين
وقد يقال مقتضاه أنه إذا مات ولم يترك سوى ثلاثة أثواب هو لابسها لبس غير وعليه ديون يعطى لرب الدين ثوب منها لأن الأكثر ليس بواجب بل هو المسنون وقد قالوا إذا كان المال كثرة وبلورثة قلة فكفن السنة أولى من كفن الكفاية وهذا يقتضي أن كفن الكفاية وهو الثوبان جائز في حالة السعة ففي حال عدمها ووجود الدين ينبغي أن لا يعدل عنه تقديما للواجب وهو الدين على غير الواجب وهو الثلاثة لكنهم سطروا في غير موضع أنه لا يباع منه شيء للدين كما في حال الحياة إذا أفلس وله ثلاث أثواب هو لابسها لا ينزع عنه شيء فيباع ولا يبعد الجواب قوله فإن اقتصروا على ثوبين جاز إلا أنه إن كان بالمال قلة وبالورثة كثرة فهو أولى وعلى القلب كفن السنة أولى وكفن الكفاية أقل ما يجوز عند الاختيار وفي حالة الضرورة بحسب ما يوجد قوله لقول أبي بكر روى الإمام أحمد في كتاب الزهد حدثنا يزيد بن هرون أخبرنا إسمعيل ابن أبي خالد عن عبد الله التميمي مولى الزبير بن العوام عن عائشة رضي الله عنها قالت لما احتضر رضي الله عنه تمثلث بهذا البيت ** أعاذل ما يغني الثراء عن الفتى ** إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر **
فقال لها يا بنية ليس كذلك ولكن قولي { وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد } ثم انظروا ثوبي هذين فاغسلوهما ثم كفنوني فيهما فإن الحي أحوج إلى الجديد
وروى عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال أبوبكر لثوبيه اللذين كان بمرض فيهما اغسلوهما وكفنوني فيهما فقالت عائشة ألا نشتري لك جديدا قال لا الحي أحوج إلى الجديد من الميت
وفي الفروع الغسيل والجديد سواء في الكفن
____________________
(2/114)
ذكره في التحفة
هذا وفي البخاري غير هذا عن عائشة أن أبا بكر قال لها في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولاعمامة قال في أي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يوم الاثنين قال فأي يوم هذا قلت يوم الاثنين قال أرجو فيها بيني وبين الليل فنظر إلى ثوب عليه كان يمرض فيه به ردع من زعفران فقال اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين وكفنوني فيها
قلت إن هذا خلق قال الحي أحق بالجديد من الميت إنما هو المهملة فلم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء ودفن قبل أن يصبح والردع بالمهملات الأثر والمهملة مثلث الميم صديد الميت فإن وقع التعارض في حديث أبي بكر هذا حتى وجب تركه لأن سند عبد الرزاق لا ينقص عن عن سند البخاري فحديث ابن عباس في الكتب الستة في المحرم الذي وقصته ناقته قال فيه عليه الصلاة والسلام وكفنوه في ثوبين وفي لفظ في ثوبيه واعلم أن الجمع ممكن فلا يترك بأن يحمل ما في عبد الرزاق وغيره من حديث أبي بكر
على أنه ذكر بعض المتن دون كله بخلاف ما في البخاري وحينئذ فيكون حديث ابن عباس هو الشاهد لكن رواية ثوبيه تقتضي أنه لم يكن له معه غيرها فلا يفيد كونه كفن الكفاية بل قد يقال إنما كان ذلك للضرورة فلا يستلزم جواز الاقتصار على ثوبين حال القدرة على الأكثر إلا أنه خلاف الأولى كما هو كفن الكفاية والله سبحانه أعلم قوله والإزار من القرن إلى القدم واللفافة كذلك لا إشكال في أن اللفافة من القرن إلى القدم وأما كون الإزار كذلك ففي نسخ من المختار وشرحه اختلاف في بعضها يقمص أولا وهو من المنكب إلى القدم ويوضع على الإزار وهو من القرن إلى القدم ويعطف عليه إلى آخره
وفي بعضها يقمص ويوضع على الإزار وهو من المنكب إلى القدم ثم يعطف وأنا لا أعلم وجه مخالفة إزار الميت إزار الحي من السنة وقد قال عليه الصلاة والسلام في ذلك المحرم كفنوه في ثوبيه وهما ثوبا إحرامه إزاره ورداؤه ومعلوم أن إزاره من الحقو وكذا أعطى اللاتي غسلن ابنته حقوه على ما سنذكر قوله والقميص من أصل العتق بلا جيب ودخريص وكمين كذا في الكافي وكونه بلا جيب بعيد إلا أن يراد بالجيب الشق النازل على الصدر قوله ابتدءوا بجانبه الأيسر ليقع الأيمن فوقه ولم يذكر العمامة وكرهها بعضهم لأنه يصير الكفن بها شفعا واستحسنه بعضهم لأن ابن عمر كان يعمم الميت ويجعل ذنب العمامة على وجهه قوله لحديث أم عطية قيل الصواب ليلى بنت قانف قالت كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أول ما أعطانا الحقا ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر رواه أبو داود وروى حقوه في حديث غسل زينب وهو في الأصل معقد الإزار وجمعه أحق وأحقاء ثم سمى به الإزار للمجاورة وهذا ظاهر في أن إزار الميتة كإزار الحي من الحقو فيجب كونه في الذكر كذلك
____________________
(2/115)
لعدم الفرق في هذا وقد حسنه النووي وإن أعله ابن القطان بجهالة بعض الرواة وفيه نظر إذ لا مانع من حضور أم عطية غسل أم كلثوم بعد زينب وقول المنذري أم كلثوم توفيت وهو عليه الصلاة والسلام غائب معارض بقول ابن الأثير في كتاب الصحابة إنها ماتت سنة تسع بعد زينب بسنة وصلى عليها عليه الصلاة والسلام قال وهي التي غسلتها أم عطية ويشده ما روى ابن ماجه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أم عطية قالت دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته أم كلثوم فقال اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورا فإذا فرغتن فآذنني فلما فرغنا آذناه فألقى إلينا حقوه وقال أشعرنها إياه وهذا سند صحيح وما في مسلم من قوله مثل ذلك في زينب لا ينافيه لما قلناه آنفا قوله وهي ثوبان وخمار لم يعين الثوبين
وفي الخلاصة كفن الكفاية لها ثلاثة قميص وإزار ولفافة
فلم يذكر الخمار وما في الكتاب من عد الخمار أولى ويجعل الثوبان قميصا ولفافة فإن بهذا يكون جميع عورتها مستورة بخلاف ترك الخمار قوله وتلبس المرأة الدرع الخ لم يذكر موضع الخرقة
وفي شرح الكنز فوق الأكفان كيلا ينتشر وعرضها ما بين ثدي المرأة إلى السرة وقيل ما بين الثدي إلى الركبة كيلا ينتشر الكفن عن الفخذين وقت المشي
وفي التحفة تربط الخرقة فوق الأكفان عند الصدر فوق اليدين قوله لأن مصعب بن عمير أخرج الجماعة إلا ابن ماجه عن خباب بن الأرت قال هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نريد وجه الله فوقع أجرنا على الله فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد وترك نمرة فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا بها رجليه بدا رأسه فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه الإذخر قوله لأنه عليه الصلاة والسلام أمر بإخمار أكفان ابنته غريب وقدمنا من المستدرك عنه عليه الصلاة والسلام إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثا وفي لفظ لابن حبان فأوتروا وفي لفظ البيهقي جمروا كفن الميت ثلاثا قيل سنده صحيح فصل في الصلاة على الميت
هي فرض كفاية
وقوله في التحفة إنها واجبة في الجملة محمول عليه ولذا قال في وجه كونه على الكفاية
____________________
(2/116)
لأن ما هو الفرض وهو قضاء حق الميت يحصل بالبعض والإجماع على الافتراض وكونه على الكفاية كاف
وقيل في مستند الأول قوله تعالى { وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } والحمل على المفهوم الشرعي أولى ما أمكن وقد أمكن يجعلها صلاة جنازة لكن هذا إذا لم يصرح أهل التفسير بخلاف هذا
وفي الثاني قوله عليه الصلاة والسلام صلوا على صاحبكم فلو كان فرض عين لم يتركه عليه الصلاة والسلام
وشرط صحتها إسلام الميت وطهارته ووضعه أمام المصلي فلهذا القيد لا تجوز على غائب ولا حاضر محمول على دابة و غيرها ولا موضوع متقدم عليه المصلي وهو كالإمام من وجه
وإنما قلنا من وجه لأن صحة الصلاة على الصبي أفادت أنه لم يعتبر إماما من كل وجه كما أنها صلاة من وجه
وعن هذا قلنا إذا دفن بلا غسل ولم يمكن إخراجه إلا بالنبش سقط هذا الشرط وصلى على قبره بلا غسل للضرورة بخلاف ما إذا لم يهل عليه التراب بعد فإنه يخرج فيغسل ولو صلى عليه بلا غسل جهلا مثلا ولا يخرج إلا بالنبش تعاد لفساد الأولى
وقيل تنقلب الأولى صحيحة عند تحقق العجز فلا تعاد
وأما صلاته عليه الصلاة والسلام على النجاشي كان إما لأنه رفع سريره له حتى رآه عليه الصلاة السلام بحضرته فتكون صلاة من خلفه على ميت يراه الإمام وبحضرته دون المأمومين وهذا غير مانع من الاقتداء وهذا وإن كان احتمالا لكن في المروي ما يومى إليه وهو ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث عمران بن الحصين أنه عليه الصلاة والسلام قال إن أخاكم النجاشي توفي فقوموا صلوا عليه فقام عليه الصلاة والسلام وصفوا خلفه فكبر أربعا وهم لا يظنون أن جنازته بين يديه فهذا اللفظ يشير إلى أن الواقع خلاف ظنهم لأنه هو فائدته المعتد بها فإما أن يكون سمعه منه عليه الصلاة والسلام أو كشف له وإما أن ذلك خص به النجاشي فلا يلحق به غيره وإن كان أفضل منه كشهادة خزيمة مع شهادة الصديق
فإن قيل بل قد صلى على غيره من الغيب وهو معاوية ابن معاوية المزني ويقال الليثي نزل جبريل عليه الصلاة والسلام بتبوك فقال يا رسول الله إن معاوية بن المزني مات بالمدينة أتحب أن أطوى لك الأرض فتصلي عليه قال نعم فضرب بجناحه على الأرض فرفع له سريره فصلى عليه وخلفه صفان من الملائكة عليهم السلام في كل صف سبعون ألف ملك ثم رجع فقال عليه الصلاة والسلام لجبريل عليه السلام بم أدرك هذا قال بحبه سورة { قل هو الله أحد } وقراءته إياها جائيا وذاهبا وقائما وقاعدا وعلى كل حال رواه الطبراني من حديث أبي أمامة وابن سعد في الطبقات من حديث أنس وعلي وزيد وجعفر لما استشهد بموتة على ما في مغازي الواقدي حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة وحدثني عبد الجبار بن عمارة عن عبد الله بن أبي بكر قالا لما التقى الناس بموتة جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وكشف له ما بينه وبين الشام فهو ينظر إلى معتركهم فقال عليه الصلاة والسلام أخذ الراية زيد بن حارثة فمضى حتى استشهد وصلى عليه ودعا له وقال استغفروا له ودخل الجنة وهو يسعى ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب فمضى حتى استشهد فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له وقال استغفروا له دخل الجنة فهو يطير فيها بجناحين حيث شاء قلنا إنما ادعينا الخصوصية بتقدير أن لا يكون رفع له سريره ولا هو مرئى له وما ذكر بخلاف ذلك
وهذا مع ضعف الطرق فما في المغازي مرسل في الطريقين وما في الطبقات ضعيف بالعلاء وهو ابن زيد ويقال ابن زيد اتفقوا على ضعفه وفي رواية الطبراني بقية بن الوليد وقد عنعنه ثم دليل الخصوصية
____________________
(2/117)
أنه لم يصل على غائب إلا على هؤلاء ومن سوى النجاشي صرح فيه بأنه رفع له وكان بمرأى منه مع أنه قد توفي خلق منهم رضي الله عنهم غيبا في الأسفار كأرض الحبشة والغزوات ومن أعز الناس عليه كان القراء ولم يؤثر قط عنه بأنه صلى عليهم وكان على الصلاة على كل من توفي من أصحابه حريصا حتى قال لا يموتن أحد منكم إلا آذنتموني به فإن صلاتي عليه رحمة له على ما سنذكر
وأما أركنها فالذي يفهم من كلامهم أنها الدعاء والقيام والتكبير لقولهم إن حقيقتها هو الدعاء والمقصود منها ولو صلى عليها قاعدا من غير عذر لا يجوز وكذا راكبا
ويجوز القعود للعذر ويجوز اقتداء القائمين به على الخلاف السابق في باب الإمامة وقالوا كل تكبيرة بمنزلة ركعة وقالوا يقدم الثناء والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام لأنه سنة الدعاء ولا يخفي أن التكبيرة الأولى شرط لأنها تكبيرة الإحرام قوله وأولى الناس بالصلاة عليه الخ الخليفة أولى إن حضر ثم إمام المصر وهو سلطانه ثم القاضي ثم صاحب الشرط ثم خليفة الوالي ثم خليفة القاضي ثم إمام الحي ثم ولي الميت وهو من سنذكر
وقال أبو يوسف الوالي أولى مطلقا وهو رواية عن أبي حنيفة وبه قال الشافعي لأن هذا حكم يتعلق بالولاية كالإنكاح فيكون الولي مقدما على غيره فيه
وجه الأول ما روى أن الحسين بن علي قدم سعيد بن العاص لما مات الحسن وقال لولا السنة لما قدمتك وكان سعيد واليا بالمدينة يعني متوليها وهو الذي يسمى في هذا الزمان التائب ولأن في التقدم عليهم ازدراء بهم وتعظيم أولى الأمر واجب
وأما إمام الحي فلما ذكر وليس تقديمه بواجب بل هو استحباب وتعليل الكتاب يرشد إليه
وفي جوامع الفقه إمام المسجد الجامع أولى من إمام الحي قوله والأولياء على الترتيب الخ يستثنى منه الأب مع الأبن فإنه لو اجتمع للميت أبوه وابنه فالأب أولى بالاتفاق على الأصح
وقيل تقديم الأب قول محمد وعندهما الابن أولى على حسب
____________________
(2/118)
اختلافهم في النكاح فعند محمد أب المعتوهة أولى بإنكاحها من ابنها وعندهما ابنها أولى
وجه الفرق أن الصلاة تعتبر فيها الفضيلة والأب أفضل ولذا يقدم الأسن عند الاستواء كما في أخوين شقيقين أو لأب أسنهم أولى ولو قدم الأسن أجنبيا ليس له ذلك وللصغير منعه لأن الحق لهما لاستوائهما في الرتبة وإنما قدمنا الأسن بالسنة قال عليه الصلاة والسلام في حديث القسامة ليتكلم أكبر كما وهذا يفيد أن الحق للابن عندهما إلا أن السنة أن يقدم هو أباه وبدل عليه قولهم سائر القرابات أولى من الزوج إن لم يكن له منها ابن فإن كان فالزوج أولى منهم لأن الحق للابن وهو يقدم أباه ولا يبعد أن يقال إن تقديمه على نفسه واجب بالسنة ولو كان أحدهما شقيقا والآخر لأب جاز تقديم الشقيق الأجنبي ومولى العتاقة وابنه أولى من الزوج والمكاتب أولى بالصلاة على عبيده وأولاده ولو مات العبد وله ولي حر فالمولى أولى على الأصح وكذا المكاتب إذا مات ولم يترك وفاء فإن أديت الكتابة كان الولي أولى ولذا إن كان المال حاضرا يؤمن عليه التوى وإن لم يكن للميت ولى فالزوج أولى ثم الجيران من الأجنبي أولى ولو أوصى أن يصلى عليه فلان ففي العيون أن الوصية باطلة وفي نوادر ابن رستم جائزة ويؤمر فلان بالصلاة عليه
قال الصدر الشهيد الفتوى على الأول قوله فإن صلى غير الولي والسلطان أعاد الولي هذا إذا كان هذا الغير غير مقدم على الولي فإن كان ممن له التقدم عليه كالقاضي ونائبه طم يعد قوله وإن صلى الولي وإن كان وحده لم يجز لأحد أن يصلي بعده واستفيد عدم إعادة من بعد الولي إذا
____________________
(2/119)
صلى من هو مقدم على الولي بطريق الدلالة لأنها إذا منعت الإعادة بصلاة الولي فبصلاة من هو مقدم على الولي أولى
والتعليل المذكور وهو أن الفرض تأدى والتنفل بها غير مشروع يستلزم منع الولي أيضا من الإعادة إذا صلى من الولي أولى منه إذ الفرض وهو قضاء حق الميت تأدى به فلا بد من استثناء من له الحق من منع التنفل وادعاء أن عدم المشروعية في حق من لا حق له أما من له الحق فتبقى الشرعية ليستوفى حقة ثم استدل على عدم شرعية التنفل بترك الناس عن آخرهم الصلاة على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان مشروعا لما أعرض الخلق كلهم من العلماء والصالحين والراغبين في التقرب إليه عليه الصلاة والسلام بأنواع الطرق عنه فهذا دليل ظاهر عليه فوجب اعتباره ولذا قلنا لم يشرع لمن صلى مرة التكرير
وأما ما روى أنه عليه الصلاة والسلام صلى على قبر بعد ما صلى عليه أهله فلأنه عليه الصلاة والسلام كان له حق التقدم في الصلاة قوله لأنه عليه الصلاة والسلام صلى على قبر امرأة روى ابن حبان وصححه والحاكم وسكت عنه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن عمه يزيد ابن ثابت قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وردنا البقيع إذا هو بقبر فسأل عنه فقالوا فلانة فعرفها فقال ألا آذنتموني قالوا كنت قائلا صائما قال فلا تفعلوا لا أعرفن ما مات منكم ميت ما كنت بين أظهركم إلا آذنتموني به فإن صلاتي عليه رحمة ثم أتى القبر فصففنا خلقه وكبر عليه أربعا وروى مالك مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره أن مسكينة مرضت فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرضها فقال عليه الصلاة والسلام إذا ماتت فآذنوني بها فخرجوا بجنازتها ليلا فكرهوا أن يوقظوه فلما أصبح أخبر بشأنها فقال ألم آمركم أن تؤذنوني بها فقالوا يا رسول الله كرهنا أن نخرجك ليلا أو نوقظك فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صف بالناس على قبرها وكبر أربع تكبيرات وما في الحديث أنه صفهم خلفه
وفي الصحيحين عن الشعبي قال أخبرني من شهد النبي صلى الله عليه وسلم أتى
____________________
(2/120)
على قبر منبوذ فصفهم فكبر أربعا قال الشيباني من حدثك بهذا قال ابن عباس دليل على أن لمن لم يصل أن يصلي على القبر وإن لم يكن الولي وهو خلاف مذهبنا فلا مخلص إلا بادعاء أنه لم يكن صلى عليها أصلا وهو في غاية البعد من الصحابة
ومن فروع عدم تكرارها عدم الصلاة على عضو وقد قدمناه في فصل الغسل وذلك لأنه إذا وجد الباقي صلى عليه فيتكرر ولأن الصلاة لم تعرف شرعا إلا على تمام الجثة إلا أنه ألحق الأكثر بالكل فيبقى في غيره على الأصل قوله صلى على قبره هذا إذا أهيل التراب سواء كان غسل أو لا لأنه صار مسلما لمالكه تعالى وخرج عن أيدينا فلا يتعرض له بعد بخلاف ما إذا لم يهل فإنه يخرج ويصلي عليه وقدمنا أنه إذا دفن بعد الصلاة قبل الغسل إن أهالوا عليه لا يخرج وهل يصلي على قبره قيل لا والكرخي نعم وهو الاستحسان لأن الأولى لم يعتد بها لترك الشرط مع الإمكان والآن زال الإمكان فسقطت فرضية الغسل لأنها صلاة من وجه ودعاء من وجه فبالنظر إلى الأول لا تجوز بلا طهارة أصلا وإلى الثاني تجوز بلا عجز فقلنا تجوز بدونها حالة العجز لا القدرة عملا بالشبهين قوله هو الصحيح احتراز عما عن أبي حنيفة أنه يصلى إلى ثلاثة أيام قوله لاختلاف الحال أي حال الميت من السمن والهزال والزمان من الحر والبرد والمكان إذ منه ما يسرع بالإيلاء ومنه لا حتى لو كان في رأيهم أنه تفرقت أجزاؤه قبل الثلاث لا يصلون إلى الثلاث قوله والصلاة أن يكبر تكبيرة يحمد الله عقيبها عن أبي حنيفة يقول سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره قالوا لا يقرأ الفاتحة إلا أن
____________________
(2/121)
يقرأ بنية الثناء ولم تثبت القراءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي موطإ مالك عن مالك عن نافع أن ابن عمر كان لا يقرأ في الصلاة على الجنازة ويصلى بعد التكبيرة الثانية كما يصلي في التشهيد وهو الأولى ويدعو في الثالثة للميت ولنفسه ولأبويه وللمسلمين ولا توقيت في الدعاء سوى أنه بأمور الآخرة وإن دعا بالمأثور فما أحسنه وأبلغه
ومن المأثور حديث عوف بن مالك أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظ من دعائه اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم منزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دار خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار قال عوف حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت رواه مسلم والترمذي والنسائي
وفي حديث أبراهيم الأشهل عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على الجنازة قال اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا رواه الترمذي والنسائي قال الترمذي ورواه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
وزاد فيه اللهم من أحيينه منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان وفي رواية لأبي داود نحوه
وفي أخرى ومن توفيته رنا فتوفه على الإسلام
اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده وفي موطإ مالك عمن سأل أبا هريرة كيف يصلى على الجنازة فقال أبو هريرة أنا لعمر الله أخبرك أتبعها من عند أهلها فإذا وضعت كبرت وحمدت الله وصليت على نبيه ثم أقول اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك كان يشهد ان لا إله إلا أنت وأن محمدا عبدك ورسولك وأنت أعلم به
اللهم إن كان محسنا فزد في حسناته وإن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته
اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده وروى أبو داود عن واثلة بن الأسقع قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل من المسلمين فسمعته يقول اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك وحل في جوارك فقه من فتنة القبر وعذاب النار وأنت أهل الوفاء والحق اللهم اغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم وروى أيضا من حديث أبي هريرة سمعته يعني النبي عليه الصلاة والسلام يقول اللهم أنت ربها وأنت خالقها وأنت هديتها
____________________
(2/122)
للإسلام وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئنا شفعاء فاغفر لها قوله ثم يكبر الرابعة ويسلم من غير ذكر بعدها في ظاهر الرواية
واستحسن بعض المشايخ { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } أو { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب } وينوى بالتسليمتين الميت مع القوم ولا يصلون في الأوقات المكروهة فلو فعلوا لم تكن عليهم الإعادة وارتكبوا النهى وإذا جئ بالجنازة بعد الغروب بدءوا بالمغرب ثم بها ثم بسنة المغرب قوله لأنه عليه الصلاة والسلام كبر أربعا الخ روى محمد بن الحسن أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي أن الناس كانوا يصلون على الجنائز خمسا وستا وأربعا حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم ثم كبروا كذلك في ولاية أبي بكر الصديق ثم ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ففعلوا ذلك فقال لهم عمر إنكم معشر أصحاب محمد متى تختلفون تختلف الناس بعدكم والناس حديث عهد بالجاهلية فأجمعوا على شيء يجمع عليه من بعدكم فأجمع رأى أصحاب محمد أن ينظروا آخر جنازة كبر عليها النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبض فيأخذون به ويرفضون ما سواه فنظروا فوجدوا آخر جنازة كبر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا
وفيه انقطاع بين إبراهيم وعمر وهو غير ضائر عندنا
وقد روى أحمد من طريق آخر موصولا قال حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال جمع عمر الناس فاستشارهم في التكبير على الجنازة فقال بعضهم كبر النبي صلى الله عليه وسلم سبعا وقال بعضهم خمسا وقال بعضهم أربعا فجمع عمر على أربع كأطول الصلاة
وروى الحاكم في المستدرك عن ابن عباس قال آخر ما كبر النبي صلى الله عليه وسلم على الجنائز أربع تكبيرات وكبر عمر على أبي بكر أربعا وكبر ابن عمر على عمر أربعا وكبر الحسن بن علي على علي أربعا وكبر الحسين بن علي على الحسن أربعا وكبرت الملائكة على آدم أربعا سكت عليه الحاكم وأعله الدارقطني بالفرات بن السائب قال متروك
وأخرجه البيهقي في سننه والطبراني عن النضر بن عبد الرحمن وضعفه البيهقي قال وقد روى من وجوه كلها ضعيفة إلا إن اجتماع أكثر الصحابة رضي الله عنهم على الأربع كالدليل على ذلك ورواه أبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان حدثنا أبو بكر محمد بن إسحق بن عمران حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحرث حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا نافع أبو هرمز حدثنا عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر على أهل بدر سبع تكبيرات وعلى بني هاشم خمس تكبيرات ثم كان آخر صلاته أربع تكبيرات إلى أن خرج من الدنيا وقد رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان آخر صلاة كبر فيها أربعا عن عمر من رواية الدارقطني وضعفه
وروى أبو عمر في الاستذكار عن عبد الوارث بن سفيان عن القاسم عن ابن وضاح عن عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم عن مروان بن معاوية الفزارى عن عبد الله بن الحرث عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن أبيه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وسبعا وثمانيا حتى جاء موت المجاشي فخرج إلى المصلى فصف الناس وراءه فكبر أربعا ثم ثبت النبي صلى الله عليه وسلم على أربع حتى توفاه الله عز وجل ورواه
____________________
(2/123)
الحرث بن أبي أسامة في مسنده عن ابن عمر بلفظ ابن عباس وزاد شيئا
وأخرج الحازمي في كتاب الناسخ والمنسوخ عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر على أهل بدر سبع تكبيرات وعلى بني هاشم سبع تكبيرات وكان آخر صلاة صلاها أربعا حتى خرج من الدنيا وضعف
وقد روى أن آخر صلاة منه عليه الصلاة والسلام كانت أربع تكبيرات من عدة فلذا قال بعض العلماء لا توقيت في التكبير وجمعوا بين الأحاديث بأنه عليه الصلاة والسلام كان يفضل أهل بدر على غيرهم وكذا بنو هاشم وكان يكبر عليهم خمسا وعلى من دونهم أربعا وأن الذي حكى من آخر صلاته لم يكن الميت من بني هاشم وجعل بعضهم حديث النجاشي في الصحيحين ناسخالأن رواية أبي هريرة وإسلامه متأخر
ولا يخفى أنه نسخ بالاجتهاد والحق هو النسخ فإن ضعف الإسناد غير قاطع ببطلان المتدبل ظاهر فيه فإذا تأيد بما يدل على صحته من القرائن كان صحيحا وقد تأيد وهو كثرة الطرق وانتشارها في الآفاق خصوصا مع كثرة المروي عنه ذلك من الصحابة فإنه يدل على أن آخر ما تقرر عليه الحال منه عليه الصلاة والسلام الأربع على أن حديث أبي حنيفة صحيح وإن كان مرسلا لصحة المرسل بعد ثقة الرواة عندنا وعند نفاة المرسل إذا اعتضد بما عرف في موضعه كان صحيحا وهذا كذلك فإنه قد اعتضد بكثرة في الطرق والرواة وذلك يغلب ظن الحقية والله سبحانه أعلم قوله لأنه منسوخ مبني الخلاف على أنه منسوخ أولا فعند زفر وهو رواية عن أبي يوسف لا بل هو مجتهد فيه بناء على أنه لم يثبت نسخه وقد روى أن عليا رضي اله عنه كبر خمسا
قلنا قد ثبت النسخ بما قررناه آنفا وغاية الأمر أن عليا رضي الله عنه كان اجتهاده أيضا على عدم النسخ ثم كان مذهبه التكبير على أهل بدر ستا وعلى الصحابة خمسا وعلى سائر المسلمين أربعا
وعلى تقدير صحته يكون الكائن بيننا أربعا لانقراض الصحابة رضي الله عنهم فمخالفته مخالفة الإجماع المتقرر فيجزم بخطئه فلا يكون فصلا مجتهدا فيه بخلاف تكبيرات العيد قوله في رواية وهو المختار وفي أخرى يسلم كما يكبر الخامسة والظاهر أن البقاء في حرمة الصلاة بعد فراغها ليس بخطأ مطلقا إنما الخطأ في المتابعة في الخامسة
وفي بعض المواضع إنما لا يتابعه في الزائد على الأربعة إذا سمع من الإمام أما إذا لم يسمع إلا من المبلغ فيتابعه وهو قياس ما ذكروه في تكبيرات العيد مما قدمناه قوله والبداءة بالثناء ثم بالصلاة سنة الدعاء يفيد أن تركه غير مفسد فلا يكون ركنا
هذا وروى أبو أداود والنسائي في الصلاة والترمذي
____________________
(2/124)
في الدعوات عن فضالة بن عبيد قال سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو لم يمجد أو لم يحمد ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال عجل هذا ثم دعاه فقال له إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد أو بتحميد الله والثناء عليه ثم يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بعد بما شاء صححه الترمذي قوله ولهما أن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة لقول الصحابة رضي الله عنهم أربع كأربع الظهر ولذا لو ترك تكبيرة واحدة منها فسدت صلاته كما لو ترك ركعة من الظهر فلو لم ينتظر تكبير الإمام لكان قاضيا ما فاته قبل أداء ما أدرك مع الإمام وهو منسوخ
في مسند أحمد والطبراني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ قال كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سبق الرجل ببعض صلاته سألهم فأومئوا إليه بالذي سبق به فيبدأ فيقضي ما سبق ثم يدخل مع القوم فجاء معاذ والقوم قعود في صلاتهم فقعد فلما فرغ قام قضى ما كان سبق به
فقال عليه الصلاة والسلام قد سن لكم معاذ فاقتدوا به إذا جاء أحدكم وقد سبق بشيء من الصلاة فليصل مع الإمام بصلاته فإذا فرغ الإمام فليقض ما سبقه به وتقدم أن في سماع ابن أبي ليلى من معاذ نظر في باب الأذان ورواه الطبراني عن أبي أمامة قال كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال فجاء معاذ والقوم قعود فساق الحديث وضعف سنده ورواه عبد الرزاق كذلك
ورواه الشافعي عن عطاء بن أبي رباح كان الرجل إذا جاء وقد صلى الرجل شيئا من صلاته فساقه إلا أنه جعل الداخل ابن مسعود فقال عليه الصلاة والسلام إن ابن مسعود سن لكم سنة فاتبعوها وهذان مرسلان ولا يضر ولو لم يكن منسوخا كفى الاتفاق على أن لا يقضي ما سبق به قبل الأداء مع الإمام
قال الكافي إلا أن أبا يوسف يقول في التكبيرة الأولى معنيان معنى الافتتاح والقيام مقام ركعة ومعنى الافتتاح يترجح فيها ولذا خصت برفع اليدين فعلى هذا الخلاف لو أدرك الإمام بعد ما كبر الرابعة فاتته الصلاة على قول أبي حنيفة لا أبي يوسف ولو جاء بعد الأولى يكبر بعد سلام
____________________
(2/125)
الإمام عندهما خلافا له بناء على أنه لا يكبر عندهما حتى يكبر الإمام بحضوره فيلزم من انتظاره صيرورته مسبوقا بتكبيرة فيكبرها بعده وعند أبي يوسف لا ينتظره بل يكبر كما حضر ولو كبر كما حضر ولم ينتظر لا تفسد عندهما لكن ما أداه غير معتبر ثم المسبوق يقضي ما فاته من التكبيرات بعد سلام الإمام نسقا بغير دعاء لأنه لو قضاه به ترفع الجنازة فتبطل الصلاة لأنها لا تجوز إلا بحضورها ولو رفعت قطع التكبير إذا رفعت على الأكتاف
وعن محمد إن كان إلى الأرض أقرب يأتي بالتكبير لا إذا كان إلى الأكتاف أقرب وقيل لا يقطع حتى تباعد قوله لأنه بمنزلة المدرك يفيد أنه ليس بمدرك حقيقة بل اعتبر مدركا لحضوره التكبير دفعا للحرج إذ حقيقة إدراك الركعة بفعلها مع الإمام ولو شرط في التكبير المعية ضاق الأمر جدا إذ الغالب تأخر النية قليلا عن تكبير الإمام فاعتبر مدركا بحضوره قوله لأن أنسا فعل كذلك روى عن نافع أبي غالب قال كنت في سكة المريد فمرت جنازة معها ناس كثير قالوا جنازة عبد الله بن عمير فتبعتها فإذا أنا برجل عليه كساء رقيق على رأسه خرقة تقيه من الشمس فقلت من هذا الدهقان قالوا أنس بن مالك قال فلما وضعت الجنازة قام أنس فصلى عليها وأنا خلفه لا يحول بيني وبينه شيء فقام عند رأسه وكبر أربع تكبيرات لم يطل ولم يسرع ثم ذهب يقعد فقالوا يا أبا حمزة المرأة الانصارية فقربوها وعليها نعش أخضر فقام عند عجيزتها فصلى عليها نحو صلاته على الرجل ثم جلس فقال العلاء بن زياد يا أبا حمزة هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز كصلاتك يكبر عليها أربعا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة قال نعم إلى أن قال أبو غالب فسألت عن صنيع أنس في قيامه على المرأة عند عجيزتها فحدثوني أنه إنما كان لأنه لم تكن النعوش فكان يقوم حيال عجيزتها بسترها من القوم مختصر من لفظ أبي داود
ورواه الترمذي ونافع أبو غالب الباهلي الخياط البصري قال ابن معين صالح وأبو حاتم شيخ وذكره ابن حبان في الثقات
قلنا قد يعارض هذا بما روى
____________________
(2/126)
أحمد أن أبا غالب قال صليت خلف أنس على جنازة فقام حيال صدره
والمعنى الذي عقل في القيام حيال الصدر وهو ما عينه في الكتاب يرجح هذه الرواية ويوجب التعدية إلى المرأة ولا يكون ذلك تقديما للقياس على النص في المرأة لأن المروى كان بسبب عدم النعش فتقيد به والإلحاق مع وجوده وما في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام صلى على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها لا ينافي كونه الصدر بل الصدر وسط باعتبار توسط الأعضاء إذ فوقه يداه ورأسه وتحته بطنه وفخذاه ويحتمل أنه وقف كما قلنا إلا أنه مال إلى العورة في حقها فظن الراوي ذلك لتقارب المحلين قوله لأنها صلاة من وجه حتى اشترط لها ما سوى الوقت مما يشترط للصلاة فكما أن ترك التكبير والاستقبال يمنع الاعتداد بها كذلك ترك القيام والنزول احتياطا اللهم لا ان ينعذر النزول كطين ومطر فيجوز
ولا تجوز الصلاة والميت على دابة أو أيدى الناس لأنه كالإمام واختلاف المكان مانع من الاقتداء قوله ولا بأس بالإذن حمله المصنف على الإذن للغير بالتقدم في الصلاة ويحتمل أيضا الإذن للمصلين بالانصراف إلى حالهم كيلا يتكلفوا حضور الدفن ولهم موانع هذا لأن انضرافهم بعد الصلاة من غير استئذان مكروه
وعبارة الكافي إن فرغوا فعليهم أن يمشوا خلف الجنازة إلى أن ينتهوا إلى القبر ولا يرجع أحد بلا إذن فما لم يؤذن لهم فقد يتحرجون والإذن مطلق للانصراف لا مانع من حضور الدفن
وعلى هذا فالأولى هو الإذن وإن ذكره بلفظ لا بأس فإنه لم يطرد فيه كون ترك مدخوله أولى عرف في مواضع
وفي بعض النسخ لا بأس بالأذن أي الإعلام وهو أن يعلم بعضهم بعضا ليقضوا حقه لا سيما إذا كانت الجنازة يتبرك بها ولينتفع الميت بكثرتهم
ففي صحيح مسلم وسنن الترمذي والنسائي عن عائشة رضي الله عنها عنه عليه الصلاة والسلام قال ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون فيه إلا شفعوا فيه وكره بعضهم أن ينادى عليه في الأزقة والأسواق لأنه نعي أهل الجاهلية
والأصح أنه لا يكره بعد أن لم يكن مع تنويه بذكره وتفخيم
____________________
(2/127)
بل أن يقول العبد الفقير إلى الله تعالى فلان بن فلان لأن فيه تكثير الجماعة من المصلين وليس مثله نعي الجاهلية بل المقصود بذلك الإعلام بالمصيبة بالدوران مع ضجيج ونياحة كما يفعله فسقة زماننا
قال صلى الله عليه وسلم ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية متفق عليه
وقال لعن الله الصالقة والحالقة والشاقة والصالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة ولا بأس بإرسال الدمع والبكاء من غير نياحة قوله ولا يصلى على ميت في مسجد جماعة في الخلاصة مكروه سواء كان الميت والقوم في المسجد أو كان الميت خارج المسجد والقوم في المسجد أو كان الإمام مع بعض القوم خارج المسجد والقوم الباقون في المسجد أو الميت في المسجد والإمام والقوم خارج المسجد
هذا في الفتاوي الصغرى
قال هو المختار خلافا لما أورده النسفي رحمه الله اه
وهذا الإطلاق في الكراهة بناء على أن المسجد إنما بني للصلاة المكتوبة وتوابعها من النوافل والذكر وتدريس العلم
وقيل لا يكره إذا كان الميت خارج المسجد وهو بناء على أن الكراهية لاحتمال تلويث المسجد والأول هو الأوفق لإطلاق الحديث الذي يستدل به المصنف ثم هي كراهة تحريم أو تنزيه روايتان ويظهر لي أن الأولى كونها تنزيهية إذ الحديث ليس هو نهيا غير مصروف ولا قرن الفعل بوعيد بظني بل سلب الأجر وسلب الأجر لا يستلزم ثبوت استحقاق العقاب لجواز الإباحة
وقد يقال إن الصلاة نفسها سبب موضوع للثواب فسلب الثواب مع فعلها لا يكون إلا باعتبار ما يقترن بها من إثم يقاوم ذلك وفيه نظر لا يخفى قوله لقوله عليه الصلاة والسلام من صلى على جنازة أخرج أبو داود وابن ماجة عن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى على ميت في المسجد فلا أجر له وروى فلا شيء له ورواية فلا شيء عليه لا تعارض المشهور ومولى التوأمة ثقة لكنه اختلط في آخر عمره أسند النسائي إلى ابن معين أنه قال ثقة لكنه اختلط قبل موته فمن سمع منه قبل ذلك فهو ثبت حجة وكلهم على أن ابن أبي ذئب راوي هذا الحديث عنه سمع منه قبل الاختلاط فوجب قبوله بخلاف سفيان وغيره وما في مسلم
____________________
(2/128)
لما توفى سعد بن أبي وقاص قالت عائشة ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه فأنكروا ذلك عليها فقالت والله لقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه قلنا أولا واقعة حال لا عموم لها فيجوز كون ذلك كان لضرورة كونه كان معتكفا ولو سلم عدمها فإنكارهم وهم الصحابة والتابعون دليل على أنه استقر بعد ذلك على تركه وما قيل لو كان عند أبي هريرة علم هذا الخبر لرواه ولم يسكت مدفوع بإنه غاية ما في سكوته مع علمه كونة سوغ هو وغيره الاجتهاد والإنكار الذي يجب عدم السكوت معه وهو المنكر العاصي من قام به لا الفصول المجتهد فيها وهو رضي الله عنهم لم يكونوا أهل لجاج خصوصا مع من هو أهل الاجتهاد
واعلم أن الخلاف إن كان في أن السنة هو إدخاله المسجد أولا فلا شك في بطلان قولهم ودليلهم لا يوجبه لأنه قد توفي خلق من المسلمين بالمدينة فلو كان المسنون الأفضل إدخالهم أدخلهم ولو كان كذلك لنقل كتوجه من تخلف عنه من الصحابة إلى نقل أوضاع الذين في الأمور خصوصا الأمورالتي يحتاج إلى ملابستها ألبتة ومما يقطع بعدم مسنونيته إنكارهم وتخصيصها رضي الله عنها في الرواية ابني بيضاء إذ لو كان سنة في كل ميت ذلك كان هذا مستقرا عندهم لاينكرونه لأنهم كانوا حينئذ يتوارثونه ولقالت كان صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز في المسجد وإن كان في الإباحة وعدمها فعندهم مباح وعندنا مكروه فعلى تقدير كراهة التحريم يكون الحق عدمها كما ذكرنا وعلى كراهة التنزيه كما اخترنه فقد لا يلزم الخلاف لأن مرجع التنزيهية إلى خلاف الأولى فيجوز أن يقولوا إنه مباح في المسجد وخارج المسجد أفضل فلا خلاف
ثم ظاهر كلام بعضهم في الاستدلال أن مدعاهم الجواز وأنه خارج المسجد أقضل فلا خلاف حينئذ وذلك قول الخطابي ثبت أن أبا بكر وعمر صلى عليهما في المسجد ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما وفي تركهم الإنكار دليل على الجواز وإن ثبت حديث صالح مولى التوأمة فيتأول على نقصان الأجر أو يكون اللام بمعنى علي كقوله تعالى { وإن أسأتم فلها } انتهى فقد صرح بالجواز ونقصان الأجر وهو المفضولية ولو أن أحدا منهم ادعى أنه في المسجد أفضل حينئذ يتحقق الخلاف ويندفع بأن الأدلة تفيد خلافه فإن صلاته صلى الله عليه وسلم على من سوى ابني بيضاء
وقوله لا أجر لمن صلى في المسجد بقيد سنيتها خارج المسجد وكذا المعنى الذي عيناه وحديث ابني بيضاء دليل الجواز في المسجد والمروي من صلاتهم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في المسجد ليس صريحا في أنهما أدخلاه
أما حديث أبي بكر فما أخرج البيهقي بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت ما ترك أبو بكر دينارا ولا درهما ودفن ليلة الثلاثاء وصلى عليه في المسجد
____________________
(2/129)
وهذا بعد أنه في سنده إسماعيل الغنوي وهو متروك لا يستلزم إدخاله المسجد لجواز أن يوضع خارجه ويصلي عليه من فيه إذا كان عند بابه موضع لذلك وهذا ظاهر فيما أسند عبد الرزاق أخبرنا الثوري ومعمر عن هشام بن عروة قال رأى أبي رجالا يخرجون من المسجد ليصلوا على جنازة فقال ما يصنع هؤلاء والله ما صلى على أبي إلا في المسجد فتأمله وهو في موطأ مالك مالك عن نافع عن ابن عمر قال صلى على عمر في المسجد ولو سلم فيجوز كونهم انحطوا إلى الأمر الجائز لكون دفنهم كان بحذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكان المسجد محيط به وما ذكرناه من الوجه قاطع في أن سننه وطريقته المستمرة لم تكن إدخال الموتى المسجد والله سبحانه أعلم
واعلم أن الصلاة الواحدة كما تكون على ميت واحد تكون على أكثر فإذا اجتمعت الجنائز إن شاء استأنف لكل ميت صلاة وإن شاء وضع الكل وصلى عليهم صلاة واحدة وهو في كيفية وضعهم بالخيار إن شاء وضعهم بالطول سطرا واحداويقوم عند أفضلهم وإن شاء وضعهم واحد وراء واحد إلى جهة القبلة
وترتيبهم بالنسبة إلى الإمام كترتيبهم في صلاتهم خلفه حالة الحياة فيقرب منه الأفضل ويبعد عنه المفضول فالمفضول وكل من بعد منه كان إلى جهة القبلة أقرب فإذا اجتمع رجل وصبي جعل الرجل إلى جهة الإمام والصبي إلى جهة القبلة وراءه وإذا كان معهما خنثى جعل خلف الصبي فيصف الرجال إلى جهة الإمام ثم الصبيان وراءهم ثم الخنائى ثم النساء ثم المراهقات ولو كان الكل رجالا روى الحسن عن أبي حنيفة يوضع أفضلهم وأسنهم مما يلي الإمام وكذا قال أبو يوسف أحسن ذلك عندي أن يكون أهل الفضل مما يلي الإمام ولو اجتمع حر وعبد فالمشهور تقديم الحر على كل حال
وروى الحسن عن أبي حنيفة إن كان العبد أصلح قدم ولو اجتمعوا في قبر واحد فوضعهم على عكس هذا فيقدم الأفضل فالأفضل إلى القبلة وفي الرجلين يقدم أكثرهما قرآنا وعلما كما فعل صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد من المسلمين
وإذا وضعوا للصلاة واحد خلف واحد إلى القبلة
قال ابن أبي ليلى يجعل رأس كل واحد أسفل من رأس صاحبه هكذا درجا
وقال أبو حنيفة هو حسن لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه دفنوا هكذا والوضع للصلاة كذلك
قال وإن وضعوا رأس كل بحذاء رأس الآخر فحسن وهذا كله عند التفاوت في الفضل فإن لم يقع تفاوت ينبغي أن لا يعدل عن المحاذاة ولا يشترط في سقوط فرض الصلاة على الميت جماعة
وعن هذا قالوا لو صلى الإمام على طهارة وظهر للمأمومين أنهم كانوا على غير طهارة صحت ولا يعيدون للاكتفاء بصلاة الإمام بخلاف العكس قوله ومن استهل الخ الاستهلال أن يكون منه ما يدل على الحياة من حركة عضو أو رفع صوت والمعتبر في ذلك خروج أكثره حيا حتى لو خرج أكثره وهو يتحرك صلى عليه وفي الأقل لا والحديث المذكور رواه النسائي في الفرائض عن المغيرة
____________________
(2/130)
ابن مسلم عن أبي الزبير عن جابر إذا إستهل الصبي صلى عليه وورث قال النسائي وللمغيرة بن مسلم غير حديث منكر
ورواه الحاكم عن سفيان عن أبي الزبير به قال هذا إسناد صحيح
وأما تمام معنى ما رواه المصنف فهو ما عن جابر رفعه الطفل لا يصلي عليه ولا يرث لا يورث حتى يستهل أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم قال الترمذي روى موقوفا ومرفوعا وكأن الموقوف أصح انتهى
وأنت سمعت غير مرة أن المختار في تعارض الوقف والرفع تقديم الرفع لا الترجيح بالأحفظ والأكثر بعد وجوب أصل الضبط والعدالة وأما معارضته بما رواه الترمذي من حديث المغيرة وصححه أنه عليه الصلاة والسلام قال السقط يصلي عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة فساقطة إذ الحظر مقدم على الإطلاق عند التعارض قوله لما روينا ولو لم يثبت كفى في نفيه كونه نفسا من وجه جزء من الحي من وجه فعلى الأول يغسل ويصلى عليه وعلى الثاني لا ولا فاعملنا الشبهين فقلنا يغسل عملا بالأول ولا يصلى عليه عملا بالثاني ورجحنا خلاف ظاهر الرواية
واختلفوا في غسل السقط الذي لم يتم خلقة أعضائه والمختار أنه يغسل ويلف في خرقة قوله لأنه تبع لهما قال صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه حتى يكون لسانه يعرب عنه إما شاكرا وإما كفورا قوله وهو يعقل أي يعقل صفة الإسلام وهو ما في الحديث أن يؤمن بالله أي بوجوده وربوبيته لكل شيء وملائكته أي بوجود ملائكته وكتبه أي إنزالها ورسله أي بإرسالهم عليهم السلام واليوم الآخر أي البعث بعد الموت والقدر خيره وشره من الله وهذا دليل أن مجرد قول لا إله إلا الله لا يوجب الحكم بالإسلام ما لم يؤمن بما ذكرنا وعلى هذا قالوا اشترى جارية أو تزوج امرأة فاستوصفها صفة الإسلام فلم
____________________
(2/131)
تعرفه لا تكون مسلمة
والمراد من عدم المعرفة ليس ما يظهر من التوقف في جواب ما الإيمان ما الإسلام كما يكون من بعض العوام لقصورهم في التعبير بل قيام الجهل بذلك بالباطن مثلا بأن البعث هل يوجد أو لا وأن الرسل وإنزال الكتب عليهم كان أو لا يكون في اعتقاده اعتقاد طرف الإثبات للجهل البسيط فعن ذلك قالت لا أعرفه وقلما يكون ذلك لمن نشأ في دار الإسلام فإنا نسمع ممن يقول في جواب ما قلنا لا أعرف وهو من التوحيد والإقرار والخوف من النار وطلب الجنة بمكان بل وذكر ما يصلح استدلالا في أثناء أحوالهم وتكلمهم على التصريح باعتقاد هذه الأمور وكأنهم يظنون أن جواب هذه الأشياء إنما يكون بكلام خاص منظوم وعبارة عالية خاصة فيحجمون عن الجواب قوله لأنه ظهرت تبعية الدار أعلم أن التبعية على مراتب أقواها تبعية الأبوين أو أحدهما أي في أحكام الدنيا لا في العقبي فلا يحكم بأن أطفالهم في النار البتة بل فيه خلاف
قيل يكونون خدم أهل الجنة وقيل إن كانوا قالوا بلى يوم أخذ العهد عن اعتقاد ففي الجنة وإلا ففي النار
وعن محمد أنه قال فيهم إني أعلم أن الله لا يعذب أحدا بغير ذنب وهذا نفي لهذا التفصيل وتوقف فيهم أبو حنيفة رضي الله عنه واختلف بعد تبعية الولادة فالدي في الهداية تبعية الدار وفي المحيط عند عدم أحد الأبوين يكون تبعا لصاحب اليد وعند عدم صاحب اليد يكون تبعا للدار ولعله أولى فإن من وقع في سهمه صبي من الغنيمة في دار الحرب فمات يصلي عليه ويجعل مسلما تبعا لصاحب اليد قوله وله ولي مسلم عبارة معينة وما دفع به من أنه أراد القريب لا يفيد لأن المؤاخذة إنما هي على نفس التعبير به بعد إرادة القريب به وأطلق الولي يعني القريب فشمل ذوي الأرحام كالأخت والخال والخالة
ثم جواب المسئلة مقيد بما إذا لم يكن له قريب كافر فإن كان خلى بينه وبينهم ويتبع الجنازة من بعيد هذا إذا لم يكن كفره والعياذ بالله بارتداد فإن كان يحفر له حفيرة ويلقى فيها كالكلب ولا يدفع إلى من انتقل إلى دينهم صرح به في غير موضع قوله بذلك أمر على روى ابن سعد في الطبقات أخبرنا محمد بن عمر الواقدي حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن
____________________
(2/132)
جده عن علي رضي الله عنه قال لما أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب بكى ثم قال لي اذهب فاغسله وكفنه وواره قال ففعلت ثم أتيته فقال لي اذهب فاغتسل قال وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر له أياما ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه جبريل عليه السلام بهذه الآية { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } الآية وروى ابن أبي شيبة الحديث بسند أبي داود والنسائي قال إن عمك الشيخ الكافر قد مات فما ترى فيه قال أرى أن تغسله وتجنه وأمره بالغسل وإنما لم يذكره نحن من السنن لأنه قال فيهما اذهب فوار أباك ثم لا تحدث شيئا حتى تأتيني فذهبت فواريته وجئته فأمرني فاغتسلت ودعا لي وليس فيه الأمر بغسله إلا ما قد يفهم من طريق الالتزام الشرعي بناء على ما عرف من أنه لم يشرع الغسل إلا من غسل الميت دون دفنه وتكفينه وهو ما رواه أبو داود عن عائشة كان عليه الصلاة والسلام يغتسل من الجنابة ويوم الجمعة وغسل الميت وهو ضعيف
وروى هو والترمذي مرفوعا من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ حسنه الترمذي وضعفه الجمهور وليس في هذا ولا في شيء من من طرق علي حديث صحيح لكن طرق حديث علي كثيرة والاستحباب بثبت بالضعيف غير الموضوع ولم يذكر المصنف ما إذا مات المسلم وليس له قريب إلا كافر وينبغي أن لا يلي ذلك منه بل يفعله المسلمون ألا ترى أن اليهودي لما آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه تولوا أخاكم ولم يخل بينه وبين اليهود ويكره أن يدخل الكافر في قبر قرابته من المسلمين ليدفنه فصل في حمل الجنازة
____________________
(2/133)
قوله لأن جنازة سعد بن معاذ هكذا حملت دوى ابن سعد في الطبقات بسند ضعيف أنه أنه عليه الصلاة والسلام حمل جنازة سعد بن معاذ من بيته بين العمودين حتى خرج به من الدار قال الواقدي والدار تكون ثلاثين ذراعا
قال النووي في الخلاصة ورواه الشافعي بسند ضعيف انتهى
إلا أن الآثار في الباب ثابتة عن الصحابة وغيرهم
وروى الطبراني عن ابن الحويرث قال توفى جابر بن عبد الله فشهدناه فلما خرج سريره من حجرته إذا حسن بن حسن بن على رضى الله عنه بين عمودى السرير فأمر به الحجاج أن يخرج ليقف مكانه فأبى فسأله بنو جابر إلا خرجت فخرج وجاء الحجاج حتى وقف بين عمودى السرير ولم يزل حتى وضع وصلى عليه الحجاج ثم جاء إلى القبر فنزل حسن بن حسن في قبره فأمر به الحجاج أن يخرج ليدخل مكانه فأبى عليهم فسأله بنو جابر فخرج فدخل الحجاج الحفرة حتى فرغ
وأسند الطبراني قال توفى أسيد ابن حضير سنة عشرين وحمله عمر بين عمودي السرير حتى وضعه بالبقيع وصلى عليه
وروى البيهقي من طريق الشافعي عن عبد الله بن ثابت عن أبيه قال رأيت أبا هريرة يحمل بين عمودي سرير سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
ومن طريق الشافعي أيضا عن عيسى بن طلحة قال رأيت عثمان بن عفان يحمل بين العمودين المقدمين واضعا السرير على كاهله
ومن طريقه عن يوسف بن ماهك أنه رأى ابن عمر في جنازة رافع بن خديج قائما بين قائمتى السرير
ومن طريقه عن شريح أبي عون عن أبيه قال رأيت ابن الزبير يحمل بين عمودي سرير المسور بن مخرومه
قلنا هذه موقوفات والمرفوع منها ضعيف ثم هي وقائع أحوال فاحتمل كون ذلك فعلوه لأنه السنة أو لعارض اقتضى في خصوص تلك الأوقات حمل الأثنين
والحق أن نقول لا دلالة فيها على حمل الاثنين لجواز حمل الأربعة وأحدهم بين العمودين بأن يحمل المؤخر على كتفه الأيمن وهو من جهة يسار الميت والمقدم على الأيسر وهو من جهة يمين الميت فليحمل عليه لما أن بعض المروى عنهم الفعل المذكور روى عنهم خلافه
روى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما حدثنا هشيم عن أبي عطاء عن علي الأزدي قال رأيت ابن عمر في جنازة فحمل بجوانب السرير الأربع
وروى عبد الرزاق أخبرني الثوري عن عباد بن منصور أخبرني أبو المهزم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال من حمل الجنازة بجوانبها الأربع فقد قضى الذي عليه
ثم قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما ذهبوا إليه
روى عبد الرزاق وابن أبي شيبة حدثنا شعبة عن منصور بن المعتمر عن عبيد الله بن نسطاس عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود قال من اتبع الجنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربعة وروى محمد بن الحسن أخبرنا الإمام أبو حنيفة حدثنا المنصور بن المعتمر به قال من السنة حمل الجنازة بجوانب السرير الأربعة
ورواه ابن ماجه به ولفظه من أتبع الجنازة فليأخذ بجوانب السرير كلها فإنه من السنة وإن شاء فليدع ثم ان شاء فليدع فوجب الحكم بأن هذا هو السنة وأن خلافة إن تحقق من بعض من السلف فلعارض ولا يجب على المناظر تعيينه وقد يشاء فيبدي محتملات مناسبة يجوزها
____________________
(2/134)
تجويزا كضيق المكان أو كثرة الناس أو قلة الحاملين وغير ذلك
وأما كثرة الملائكة كما ذكر المصنف على ما روى ابن سعد عنه عليه الصلاة والسلام لقد شهده يعني سعدا سبعون ألف ملك لم ينزلوا إلى الأرض قبل ذلك ولقد ضمه ضمة ثم فرج عنه
وما رواه الواقدي في المغازي من قوله عليه الصلاة والسلام رأيت الملائكة تحمله فإنما يتجه محملا على تقدير تجسمهم عليهم السلام لا تجردهم عن الكثافة على ما عليه أصل خلقتهم
وفي الآثار مع كل عبد ملكان وفيها أكثر إلى سبعين فلم توجب مزاحمة حسية ولا منعا من اتصال بينك وبين إنسان ولا حمل شيء على المنكبين والرأس اللهم إلا أن يراد أن بسبب حملهم عليهم السلام اكتفى عن تكميل الأربعة من الحاملين ولأن ما ذهبنا إليه أصون للجنازة عن السقوط وكون ذلك أشق على الحاملين مصلحة معارضة بمفسدة تعريضه على السقوط خصوصا في مواطن الزحمة والمحجن ولأنه أكثر إكراما للميت وأعون على تحصيل سنة الإسراع وأبعد من التشبه بحمل الأمتعة فإنه مكروه ولذاكره حمله على الظهر والدابة قوله دون الخبب ضرب من العدو دون العنق والعنق خطو فسيح فيمشون به دون ما دون العنق ولو مشوا به الخبب كره لأنه ازدراء بالميت قوله لأنه عليه الصلاة والسلام حين سئل عنه الخ أخرج أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة فقال ما دون الخبب وهو ضعيف
وأخرج الستة قال عليه الصلاة والسلام أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تك غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ويستحب الإسراع بتجهيره كله من حين يموت قوله لأنه وقد تقع الحاجة إلى التعاون الخ ولأن المعقول من ندب الشرع لحضور دفنه إكرام الميت وفي جلوسهم قبل وضعه ازدراء وعدم التفات إليه هذا في حق الماشي معها أما القاعد على الطريق إذا مرت به أو على القبر إذا جيء به فلا يقوم لها وقيل يقوم واختير الأول لما روى عن علي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك
____________________
(2/135)
وأمرنا بالجلوس بهذا اللفظ لأحمد قوله أن تضع هو حكاية خطاب أبي حنيفة لأبي يوسف والمراد بمقدم الجنازة يمينها ويمين الجنازة بمعنى الميت هو يسار السرير لأن الميت مستلق على ظهره فالحاصل أن تضع يسار السرير المقدم على يمينك ثم يساره المؤخر ثم يمينه المقدم على يسارك ثم يمينه المؤخر لأن في هذا إيثارا للتيامن
تتمة الأفضل للمشيع للجنازة المشي خلفها ويجوز أمامها إلا أن يتباعد عنها أو يتقدم الكل فيكره ولا يمشي عن يمينها ولا عن شمالها ويكره لمشيعها رفع الصوت بالذكر والقراءة ويذكر في نفسه
وعند الشافعي المشي أمامها أفضل وقد نقل فعل السلف على الوجهين والترجيح بالمعنى
هو يقول هم شفعاء والشفيع يتقدم ليمهد المقصود ونحن نقول هم مشيعون فيتأخرون والشفيع المتقدم هو الذي لا يستصحب المشفوع له في الشفاعة وما نحن فيه بخلافه بل قد ثبت شرعا إلزام تقديمه حالة الشفاعة له أعنى حالة الصلاة فثبت شرعا عدم اعتبار ما اعتبره والله سبحانه أعلم
____________________
(2/136)
فصل في الدفن قوله ويلحد السنة عندنا اللحد إلا أن يكون ضرورة من رخو الأرض فيخاف أن ينهار اللحد فيصار إلى الشق بل ذكر لي أن بعض الأرضين من الرمال يسكنها بعض الأعراب لا يتحقق فيها الشق أيضا بل يوضع الميت ويهال عليه نفسه
والحديث المذكور رواه الترمذي عن ابن عباس وفيه عبد الأعلى بن عامر قال الترمذي فيه مقال
ورواه ابن ماجه عن أنس لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وكان بالمدينة رجل يلحد والآخر يضرح فقالوا نستخير ربنا ونبعث إليهما فأيهما سبق تركناه فأرسل إليهما فسبق صاحب اللحد فلحدوا للنبي صلى الله عليه وسلم وحديث مسلم ظاهر فيه وهو ما أخرج عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في مرضه الذي مات فيه الحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رواية من سعد أنه عليه الصلاة والسلام ألحد
وروى ابن حبان في صحيحه عن جابر أنه عليه الصلاة والسلام ألحد ونصب عليه اللبن نصبا ورفع قبره من الأرض نحو شبر واستحب بعض الصحابة أن يرمس في التراب رمسا يروي ذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص
وقال ليس أحد جنبي أولى بالتراب من الآخر قوله ويدخل الميت مما يلي وذلك أن توضع الجنازة في جانب القبلة من القبر ويحمل الميت منه فيوضع في اللحد فيكون الآخذ له مستقبل القبلة حال الأخذ قوله فإن عنده يسل سلا هو بأن يوضع السرير في مؤخر القبر حتى يكون رأس الميت بإزاء موضع قدميه من القبر ثم يدخل رأس الميت القبر ويسل كذلك فيكون رجلاه موضع رأسه ثم يدخل رجلاه ويسل كذلك قد قيل كل منهما والمروي للشافعي الأول قال أخبرنا الثقة عن عمر بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس قال سل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل رأسه وقال أخبرنا بعض أصحابنا عن أبي الزناد وربيعة وأبي النضر لا اختلاف بينهم في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سل من قبل رأسه وكذلك أبو بكر وعمر وإسناد أبي داود صحيح وهو ما أخرج عن أبي إسحق والسبيعي قال أوصاني الحرث أن يصلي عليه عبد الله بن يزيد الخطمي فصلى عليه ثم أدخله القبر من قبل رجل القبر وقال هذا من السنة
وروى أيضا من طرق ضعيفة
____________________
(2/137)
قلنا إدخاله عليه الصلاة والسلام مضطرب فيه فكما روى ذلك روى خلافه
أخرج أبو داود في المراسيل عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم هو النخعي ومن قال التيمي فقد وهم فإن حماد إنما يروي عن إبراهيم النخعي وصرح به ابن أبي شيبة في مصنفه فقال عن حماد عن إبراهيم النخعي أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل القبرمن قبل القبلة ولم يسل سلا وزاد ابن أبي شيبة ورفع قبره حتى يعرف وأخرج ابن ماجه في سننه عن أبي سعيد أنه عليه الصلاة والسلام أخذ من قبل القبلة واستقبل استقبالا وعلى هذا لا حاجة إلى ما دفع به الاستدلال الأول من أن سله للضرورة لأن القبر في أصل الحائط لأنه عليه الصلاة والسلام دفن في المكان الذي قبض فيه فلا يمكن أخذه من جهة القبلة على أنه لم يتوف ملتصقا إلى الحائط بل مستندا إلى عائشة على ما في الصحيحين كانت تقول مات بين حاقني وذاقني يقتضي كونه مباعدا من الحائط وإن كان فراشه إلى الحائط لأنه حاله استناده إلى عائشة مستقبل القبلة للقطع بأنه عليه الصلاة والسلام إنما يتوفي مستقبلا فغاية الأمر أن يكون موضع اللحد ملتصقا إلى أصل الجدار ومنزل القبر قبلة وليس الإدخال من جهة القبلة إلا أن يوضع الميت على سقف اللحد ثم يؤخذ الميت وحينئذ تقول وتعارض ما رواه وما رويناه فتساقطا
ولو ترجح الأول كان للضرورة كما قلنا وغاية فعل غيره أنه فعل صحابي ظن السنة ذلك وقد وجدنا التشريع المنقول عنه عليه الصلاة والسلام في الحديث المرفوع خلافه وكذا عن بعض أكابر الصحابة فالأول ما روى الترمذي عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام دخل قبرا ليلا فأسرج له سراج فأخذه من قبل القبلة وقال رحمك الله إن كنت لاواها تلاء للقرآن وكبر عليه أربعا وقال حديث حسن انتهى
مع أن فيه الحجاج بن أرطاة ومنهال بن خليفة وقد اختلفوا فيهما وذلك يحط الحديث عن درجة الصحيح لا الحسن وسنذكره في أمر الحجاج بن أرطاة في باب القران إن شاء الله تعالى
والثاني ما أخرج ابن أبي شيبة أن عليا كبر على يزيد بن المكفف أربعا وأدخله من قبل القبلة
وأخرج عن ابن الحنفية أنه ولي ابن عباس فكبر عليه أربعا وأدخله من قبل القبلة قوله هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم حين وضع أبا دجانة غلط فإن أبادجانه الأنصاري توفي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقعة اليمامة لكن
____________________
(2/138)
روى ابن ماجه من حديث الحجاج بن أرطاة عن نافع عن ابن عمر كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أدخل الميت القبر قال بسم الله وعلى ملة رسول الله زاد الترمذي بعد باسم الله وبالله وقال حسن غريب
ورواه أبو داود من طريق آخر بدون الزيادة ورواه الحاكم ولفظه إذا وضعتم موتاكم في قبورهم فقولوا باسم الله وعلى ملة رسول الله وصححه وفيه طريق آخر عديدة قوله ويوجهه بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم غريب واستؤنس له بحديث أبي داود والنسائي أن رجلا قال يا رسول الله ما الكبائر قال هي تسع فذكر منها استحلال البيت الحرام قبلتكم أحيا وأمواتا والله أعلم قوله لأنه عليه الصلاة والسلام جعل في قبره اللبن أخرج مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في مرضه الذي مات فيه ألحدوا لي لحدا وانصبوا على اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم مع حديث ابن حبان وفيه نصب عليه اللبن نصبا الحديث قوله لأنهما من إحكام البناء ومنهم من علل أن الآجر مسته النار ودفع بأن السنة أن يغسل بالماء الحار
____________________
(2/139)
فعلم أن مس النار لم يعتبر مانعا في الشرع والأولى ما في الكتاب وفي الدفع نوع نظر قوله لأنه عليه الصلاة والسلام جعل على قبره طن من قصب هو بضم الطاء حزمة
روى ابن أبي شيبة عن الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل على قبره طن من قصب وهو مرسل وأسند ابن سعد في الطبقات أوصى أبو ميسرة عمرو ابن شرحبيل الهمذاني أن يجعل لحده طن من قصب وقال إني رأيت المهاجرين يستحبون ذلك انتهى
ولا يلزم خطأ هذا الحديث لمعارضة ما تقدم فإنه لا منافاة لجواز أن يكون قد وضع اللبن على قبره عليه الصلاة والسلام نصبا مع قصب كمل به لإعواز في اللبن أو غير ذلك قوله لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن تربيع القبور ومن شاهد قبر النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه مسنم
قال أبو حنيفة حدثنا شيخ لنا يرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تربيع القبور وتجصيصها وروى محمد بن الحسن أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم قال أخبرني من رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر ناشزة من الأرض وعليها قلق من مدر أبيض
وفي صحيح البخاري عن أبي بكر بن عياش أن سفيان التمسار حدته أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما
ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه ولفظه عن سفيان دخلت البيت الذي فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت قبرالنبي صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر مسنمة وما عورض به مما روى أبو داود عن القاسم بن محمد قال دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت يا أمه اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبورلا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء ليس معارضا لهذا حتى يحتاج إلى الجمع بأدنى تأمل
وأيضا ظهر أن القاسم أراد أنها مسنمة برواية أبي حفص بن شاهين في كتاب الجنائز قال حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن عمرو بن شمر عن جابر قال سألت ثلاثة كلهم له في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أب سألت أبا جعفر محمد بن علي وسألت القاسم بن محمد بن أبي بكر وسألت سالم بن عبد الله قلت أخبروني عن قبور آبائكم في بيت عائشة فكلهم قالوا إنها مسنمة
وأما ما في مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال قال لي علي أبعثك على
____________________
(2/140)
ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته فهو على ما كانوا يفعلونه من تعلية القبور بالبناء الحسن العالي وليس مرادنا ذلك القدر بل قدر ما يبدو من الأرض ويتميز عنها والله سبحانه أعلم
تتمه لا يدخل أحدا من النساء القبر ولا يخرجهن إلا الرجال ولو كانوا أجانب لأن مس الأجني لها بحائل عند الضرورة جائز في حياتها فكذا بعدموتها فإذا ماتت ولا محرم لها دفنها أهل الصلاح من مشايخ جيرانها فإن لم يكونوا فالشباب الصلحاء أما إن كان لها محرم ولو من رضاع أو صهربة نزل وألحدها ولا ينبش بعد إهالة التراب لمدة طويلة ولا قصيرة إلا لعذر
قال المصنف في التجنيس والعذر أن الأرض مغصوبة أو يأخذها شفيع ولذا لم يحول كثير من الصحابة وقد دفنوا بأرض الحرب إذ لا عذر فإن أحب صاحب الأرض أن يسوي القبر ويزرع فوقه كان له ذلك فإن حقه في باطنها وظاهرها فإن شاء ترك حقه في باطنها وإن شاء استوفاه
ومن الأعذار أن يسقط في اللحد مال ثوب أو درهم لأحد
واتفقت كلمة المشايخ في امرأة دفن ابنها وهي غائبة في غير بلدها فلم تصبر وأرادت نقله أنه لا يسعها ذلك فتجويز شواذ بعض المتأخرين لا يلتفت إليه
ولم يعلم خلاف بين المشايخ في أنه لا ينبش وقد دفن بلا غسل أو بلا صلاة فلم يبيحوه لتدارك فرض لحقه يتمكن منه به أما إذا أرادوا نقله قبل الدفن أو تسوية اللبن فلا بأس بنقله نحو ميل أو ميلين
قال المصنف في التجنيس لأن المسافة إلى المقابر قد تبلغ هذا المقدار
وقال السرخسي قول محمد بن سلمة ذلك دليل على أن نقله من بلد إلى بلد مكروه والمستحب أن يدفن كل في مقبرة البلدة التي مات بها ونقل عن عائشة أنها قالت حين زارت قبر أخيها عبد الرحمن وكان مات بالشام وحمل منها لو كان الأمر فيك إلى ما نقلتك ولدفنتك حيث مت
ثم قال المصنف في التجنيس في النقل من بلد إلى بلد لا إثم لما نقل أن يعقوب عليه السلام مات بمصر فنقل إلى الشام وموسى عليه السلام نقل تابوت يوسف عليه السلام بعد ما أتى عليه زمان من مصر إلى الشام ليكون مع آبائه انتهى
ولا يخفى أن هذا شرع من قبلنا ولم تتوفر فيه شروط كونه شرعا لنا إلا نقل عن سعد بن أبي وقاص أنه مات في ضيعة على أربعة فراسخ من المدينة فحمل على أعناق الرجال إليها ثم قال المصنف وذكر أنه إذا مات في بلدة يكره نقله إلى الأخرى لأنه اشتغال بما لا يفيد بما فيه تأخير دفنه وكفى بذلك كراهة
ومن حفر قبرا في مقبرة ليدفن فيه فدفن غيره لا ينبش لكن يضمن قيمة الحفر ولا يدفن صغير ولا كبير في البيت الذي كان فيه فإن ذلك خاص بالأنبياء بل ينقل إلى مقابر المسلمين ولا يدفن اثنان في قبر واحد إلا لضرورة ولا يحفر قبر لدفن آخر إلا إن يلي الأول فلم يبق له إلا عظم إلا أن لا يوجد بد فيضم عظام الأول ويجعل بينهما حاجزا من تراب
ومن مات في سفينة دفنوه إن أمكن الخروج إلى أرض وإلا ألقوه في البحر بعد الغسل والتكفين والصلاة
وعن أحمد يثقل ليرسب وعن الشافعية كذلك إن كان قريبا من دار الحرب وإلا شد بين لوحين ليقذفه البحر فيدفن ويكره الدفن في الأماكن التي تسمى فساقي والجلوس على القبر ووطؤه وحينئذ فما يصنعه الناس ممن دفنت
____________________
(2/141)
أقاربه ثم دفن حواليهم خلق من وطء تلك القبور إلى أن يصل إلى قبر قريبه مكروه
ويكره النوم عند القبر وقضاء الحاجة بل أولى وكل ما لم يعهد من السنة والمعهود منها ليس إلا زيارتها والدعاء عندها قائما كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البقيع ويقول السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لا حقون أسأل الله لي ولكم العافية
واختلف في إجلاس القارئين ليقرءوا عند القبر والمختار عدم الكراهية
وفي التجنيس من علامة النوازل امرأة حامل ماتت واضطرب في بطنها شيء وكان رأيهم أنه ولد حي شق بطنها فرق بين هذا وبين ما إذا ابتلع الرجل درة فمات ولم يدع مالا عليه القيمة ولا يشق بطنه لأن في المسئلة الأولى إبطال حرمة الميت كصيانة حرمة الحي فيجوز
أما المسئلة الثانية إبطال حرمة الأعلى وهو الآدمي لصيانة حرمة الأدنى وهو المال ولا كذلك في المسئلة الأولى انتهى
وتوضيحه الاتفاق على أن حرمة المسلم ميتا كحرمته حيا ولا يشق بطنه حيا لو ابتلعها إذا لم يخرج من الفضلات فكذا ميتا بخلاف شق بطنها لإخراج الولد إذا علمت حياته
وفي الاختيار جعل عدم شق بطنه عن محمد
ثم قال وروى الجرجاني عن أصحابنا أنه لا يشق لأن حق الآدمي مقدم على حق الله تعالى ومقدم على حق الظالم المتعدي انتهى
وهذا أولى
والجواب ما قدمنا أن ذلك الاحترام يزول بتعديه
ويجوز الجلوس للمصيبة ثلاثة أيام وهو خلاف الأولى ويكره في المسجد وتستحب التعزية للرجال والنساء اللاتي لا يفتن لقوله صلى الله عليه وسلم من عزى أخاه بمصيبة كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة وقوله صلى الله عليه وسلم من عزى مصابا فله مثل أجره وقوله صلى الله عليه وسلم من عزى ثكلى كسى بردين في الجنة ويكره اتخاذ الضيافة من الطعام من أهل الميت لأنه شرع في السرور لا في الشرور وهي بدعة مستقبحة
روى الإمام أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح عن جرير بن عبد الله قال كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياجة
ويستحب لجيران أهل الميت والأقرباء الأباعد تهيئة طعام لهم يشبعهم يومهم وليلتهم لقوله صلى الله عليه وسلم اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد جاءهم ما يشغلهم حسنه الترمذي وصححه الحاكم ولأنه بر ومعروف ويلح عليهم في الأكل لأن الحزن يمنعهم من ذلك فيضعفون والله أعلم & باب الشهيد
وجه فصله وتأخيره ظاهر وسمى شهيدا إما لشهود الملائكة إكراما له أو لأنه مشهود له بالجنة ولشهوده أي حضوره حيا يرزق عند ربه على المعنى الذي يصح قوله الشهيد الخ هذا تعريف للشهيد الملزوم للحكم
____________________
(2/142)
المذكور أعنى عدم تغسيله ونزع ثيابه لا لمطلقه فإنه أعم من ذلك على ما سنذكر من أن المرتث وغيره شهيد
وهذا التعريف على قول الكل بناء على ما اختاره بعضهم من أن المختلف فيه من الأحكام والأوصاف يجتنب في الحد لكن يحتاج إلى قيد مدخل وهو قولنا إلا ما يجب بشبهة الأبوة ولو أريد تصويره على رأي أبي حنيفة قيل كل مسلم مكلف لا غسل عليه قتل ظلما من أهل الحرب أو البغي أو قطاع الطريق بأي آلة كانت وبجارح من غيرهم ولم تجب بقتله دية بنفس القتل ولم يرتث فظلما مخرج للمقتول بحد أو قصاص أو افترسه سبع أو سقط عليه بناء أو سقط من شاهق أو غرق فإنه يغسل وإن كان شهيدا
وأما إذا انفلت دابة كافر فوطئت مسلما من غير سائق أو رمى مسلم إلى الكفار فأصاب مسلما أو نفرت دابة مسلم من سواد الكفار أو نفد المسلمون منهم فألجئوهم إلى خندق أو نار ونحوه فألقوا أنفسهم أو جعلوا حولهم الحسك فمشى عليها مسلم فمات به لم يكن شهيدا خلافا أبي يوسف لأن فعله وفعل الدابة دون حامل يقطع النسبة إليهم
أما لو طعنوهم حتى ألقوهم في نار أو ماء أو نفروا دابة فصدمت مسلما أو رموا نارا بين المسلمين فهبت بها ريح إلى المسلمين أو أرسلوا ماء فغرق به مسلم فإنهم يكونون شهداء اتفاقا لأن القتل مضاف إلى العدو تسبيبا
فإن قيل في الحسك ينبغي أن لا يغسل لأن جعله تسبيب للقتل
قلنا ما قصد به القتل يكون تسبيبا وما لا فلا وهم قصدوا به الدفع لا القتل
وقولنا بجارح لايخص الحديد بل يشمل النار والقصب
وقولنا بنفس القتل احتراز عما إذا وجب بالصلح عن دم العمد بعد ما وجب القصاص وعما إذا قتل الوالد ولده فالواجب الدية والولد شهيد لا يغسل في الرواية المختارة فإن موجب فعله ابتداء القصاص ثم ينقلب مالا لمانع الأبوة وباقي القيود ظاهرة وستخرج مما سيورد من الأحكام قوله قال عليه الصلاة والسلام في شهداء الخ غريب تمامه
وفي مسند الإمام أحمد أنه عليه الصلاة والسلام أشرف على قتلى أحد فقال إني شهيد على هؤلاء زملوهم بكلومهم ودمائهم اه
إلا أنه يستلزم عدم الغسل إذ مع الغسل لا يبقى
وفي ترك غسل الشهيد أحاديث منها ما أخرج البخاري وأصحاب السنن عن الليث بن سعد عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر بن عبد الله أنه عليه الصلاة والسلام كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ويقول أيهما أكثر أخذا للقرآن فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلهم زاد البخاري والترمذي ولم يصل عليهم قال
____________________
(2/143)
النسائي لا أعلم أحدا تابع الليث من أصحاب الزهري على هذا الإسناد ولم يؤثر عند البخاري تفرد الليث بالإسناد المذكور
وأخرج أبو داود عن جابر قال رمى رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنده صحيح
وأخرج النسائي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم زملوهم بدمائهم فإنه ليس كلم يكلم في سبيل الله إلا يأتي يوم القيامة يدمى لونه لون الدم والريح ريح المسك قوله وكذا خروج الدم من موضع غير معتاد كالعين ونحوها والحاصل أنه إذا مات وجد ميتا في المعركة فلا يخلو إما إن وجد به أثرا أو لا فإن وجد فإن كان خروج دم من جراحة ظاهرة فهو شهيد أو غير ظاهرة فإن كان من موضع معتاد كالأنف والدبر والذكر لم نثبت شهادته فإن الإنسان قد يبول دما من شدة الخوف وإن كان من غير معتاد كالأذن والعين حكم بها وإن كان الأثر من غير رض ظاهر وجب أن يكون شهيدا وإن لم يكن به أثر أصلا لا يكون شهيدا لأن الظاهر أنه لشدة خوفه انخلع قلبه
وأما إن ظهر من الفم فقالوا إن عرف أنه من الرأس بأن يكون صافيا غسل وإن كان خلافه عرف أنه من الجوف فيكون من جراحة فيه فلا يغسل
وأنت علمت أن المرتقى من الجوف قد يكون علقا فهو سوداء بصورة الدم وقد يكون رقيقا من قرحة في الجوف على ما تقدم في طهارة فلم يلزم كونه من جراحة حادثة بل هو أحد المحتملات قوله ويقول السيف محاء للذنوب ذكروه في بعض كتب الفقه حديثا وهو كذلك في صحيح ابن حبان وإنما معتمد الشافعي رحمه الله ما في البخاري عن جابر أنه عليه الصلاة والسلام لم يصلى على قتلى أحد وهذا معارض بحديث عطاء بن أبي رباح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد أخرجه أبو داود في المراسيل فيعارض حديث جابر عندنا ثم يترجح بأنه مثبت وحديث جابر ناف ونمنع أصل المخالف في تضعيف المراسيل ولو سلم فعنده إذا اعتضد يرفع معناه
قيل وقد روى الحاكم عن جابر قال فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة حين فاء الناس من القتال فقال رجل رأيته عند تلك الشجرة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه فلما رآه ورأى ما مثل به شهق وبكى فقام رجل من الأنصار فرمى عليه بثوب ثم جيء بحمزة فصلى عليه ثم بالشهداء فيوضعون إلى جانب حمزة فيصلي عليهم ثم يرفعون ويترك حمزة حتى صلى على الشهداء كلهم وقال صلى الله عليه وسلم حمزة سيد الشهداء عند الله يوم القيامة مختصر وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه إلا أن في سنده مفضل ابن صدقة أبو حماد الحنفي وهو وإن ضعفه يحيى والنسائي فقد قال الأهوازي كان عطاء بن مسلم يوثقه وكان أحمد بن محمد بن شعيب يثنى عليه ثناء تاما
وقال ابن عدي ما أرى به بأسا فلا يقصر الحديث عن درجة الحسن وهو حجة استقلالا فلا أقل من صلاحيته عاضدا لغيره
وأسند أحمد حدثنا عفان بن مسلم حدثنا حماد بن سلمة حدثنا عطاء بن السائب عن الشعبي عن ابن مسعود قال كان النساء يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحي المشركين إلى أن قال فوضع النبي صلى الله عليه وسلم حمزة وجيء برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه فرفع الأنصاري وترك حمزة ثم جيء بآخر فوضع إلى جنب حمزة فصلى عليه ثم رفع وترك حمزة
____________________
(2/144)
صلى يومئذ عليه سبعين صلاة وهذا أيضا لا ينزل عن درجة الحسن وعطاء بن السائب فيه ما تقدم في باب صلاة الكسوف وأرجو أن حماد بن سلمة ممن أخذ عنه قبل التغير فإن حماد بن زيد ممن ذكر أنه أخذ عنه قبل ذلك ووفاته تأخرت عن وفاة عطاء بنحو خمسين سنة وتوفى حماد بن سلمة قبل ابن زيد بنحو اثنتي عشرة سنة فيكون صحيحا وعلى الإبهام لا ينزل عن الحسن
وأخرج الدارقطني عن ابن عباس قال لما انصرف المشركون عن قتلى أحد إلى أن قال ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فكبر عليه عشرا ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه حتى صلى عليه سبعين صلاة وكانت القتلى يومئذ سبعين وهذا أيضا لا ينزل عن الحسن ثم لو كان الكل ضعيفا ارتقى الحاصل إلى درجة الحسن ثم كان عاضد المراسيل سيد التابعين عطاء ابن أبي رباح على أن الواقدي في المغازي قال حدثني عبد ربه بن عبد الله عن عطاء عن ابن عباس فذكره
وأسند في فتوح الشام حدثني رويم بن عامر عن سعيد بن عاصم عن عبد الرحمن بن بشار عن الواقصي عن سيف مولى ربيعة بن قيس اليشكري قال كنت في الجيش الذي وجهه أبو بكر الصديق مع عمرو بن العاص إلى أيلة وأرض فلسطين فذكر القصة
وفيها أنه قتل من المسلمين مائة وثلاثون وصلى عليهم عمرو بن العاص ومن معه من المسلمين وكان مع عمرو تسعة آلاف من المسلمين قوله ونحن نقول الصلاة على الميت لإظهار كرامته لا يخفي أن المقصود الأصلي من الصلاة نفسها الاستغفار له والشفاعة والتكريم يستفاد إرادته من إيجاب ذلك على الناس فنقول إذا أوجب الصلاة على الميت على المكلفين تكريما فلأن يوجبها عليهم على الشهيد أولى لأن استحقاقه للكرامة أظهر قوله كالنبي والصبي لو اقتصر على النبي كان أولى فإن الدعاء في الصلاة على الصبي لأبويه
هذا ولو اختلط قتلى المسلمين بقتلى الكفار أو بموتاهم بموتهم لم يصل عليهم إلا أن يكون موتى المسلمين أكثر فيصلي حينئذ عليهم وينوي أهل الإسلام فيها بالدعاء قوله فبأي شيء قتلوه كان شهيدا لأن القتل في قتالهم مثله في قتال أهل الحرب لأن قتالهم مأمور به كأهل الحرب قال تعالى { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } وسمى قطاع الطريق محاربي الله ورسوله والقطع محارب الله ورسوله يجب قتاله على أنهم بغاة فيدخلون في التي تبغي بالمفهوم اللغوي فالمقتول منهم باذل نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى قوله ما كان كلهم قتيل السيف والسلاح الله أعلم بذلك ولا حاجة إليه في ثبوت ذلك الحكم إذ يكفي فيه ثبوت بذله نفسه ابتغاء مرضاة الله
____________________
(2/145)
إذ هو المناط في قتيل المشركين قوله ما وجب بالجنابة وهو الغسل سقط بالموت لأن وجوبه لوجوب مالا يصح إلا به وقد سقط ذلك بالموت فيسقط الغسل ولأن الشهادة أقيمت مقام الغسل الواجب بالموت لاحتباس الدماء إن قتل بغير جارح أو لتلطخه بها إن قتل بجارح مع قيام الموجب فكذا الواجب قبله
وله أن الشهادة عهدة مانعة من ثبوت التنجس بالموت وبالتلطخ وإلا لرتب مقتضاه أما رفعها لنجاسة كانت قبلها فموقوف على السمع ولم يرد بذلك إلا في نجاسة الحدث للقطع إجماعا بأنه لا يوضأ شهيد مع العلم باستلزام كل موت للحدث الأصغر أقله ما يحصل بزوال العقل قبيله فلو بقي الحال على عدم السمع لكفى في إيجاب الغسل فكيف والسمع يوجبه وهو ما صح من حديث حنظلة وبه يندفع قولهما سقط بسقوط ما وجب لأجله ولو لم يكن قلنا في جوابه لم لم يشرع غسل الجنابة للعرض على الله جل وعلا وإدخال القبر كما كان مشروعا للقراءة والمس وقد لا يجب واحد منهما ليتحقق سقوطه فإن أصلحوا العبارة فقالوا سقط لعدم فائدته وهي التوصل به إلى فعل ما لا يحل إلا به دفع بتجويز تلك الفائدة وهي العرض على الرب جل جلاله فيبقى الوجوب الذي كان ثابتا قبل الموت بناء على أن صفة تعلقه قبل الموت للتوصل إلى حل ما لا يحل بدونه حالة الحياة والعرض إن مات قبل الغسل والحق أن الدافع ليس إلا بالنص وهو حديث حنظلة لأن لهم أن يدفعوا هذا بأن الوجوب قبل الموت كان متعلقا به وبعده بغيره فهو غيره أو لا ينتقل إلى غيره إلا بدليل فترجع في إيجادهم ذلك الدليل إلى حديث حنظلة فإن قالوا هو إنما يفيد إرادة الله سبحانه تكريمه لا أنه واجب وإلا لم يسقط بفعل غير الآدميين لأن الوجوب عليهم قلنا كان ذلك أول تعليم للوجوب وإفادته له فجاز أن يسقط بفعلهم ذلك ما المقصود به الفعل بخلاف ما بعد الأول كغسل الملائكة آدم عليه السلام سقط بفعلهم لأنه ابتداء إفادة الوجوب مع كون المقصود نفس الفعل ولم يسقط ما بعده إلا بفعل المكلفين
وأما معارضته بقوله عليه الصلاة والسلام زملوهم بكلومهم ولا
____________________
(2/146)
تغسلوهم فليس بدافع لأنه في معنيين ليس حنظلة منهم ولو كان في الكل وهو منهم كان قبل العلم بأنه كان جنبا لأن العلم بذلك إنما كان من زوجته بعد العلم بغسل الملائكة له على ما يفيده نص حديثه وهو ما رواه ابن حبان والحاكم عن عبد الله بن الزبير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وقد قتل حنظلة بن أبي عامر الثقفي إن صاحبكم حنظلة تغسله الملائكة عليهم السلام فسلوا صاحبته فقالت خرج وهوجنب لما سمع الهائعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك غسلته الملائكة وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم وليس عند الحاكم فسلوا صاحبته يعني زوجته وهي جميلة بنت أبي ابن سلول أخت عبد الله بن أبي بن سلول وكان قد بني بها تلك الليلة فرأت في منامها كأن بابا من السماء فتح وأغلق دونه فعرفت أنه مقتول من الغد فلما أصبحت دعت بأربعة من قومها فأشهدتهم أنه دخل بها خشية أن يقع في ذلك نزاع
ذكره الواقدي وابن سعد في الطبقات وزاد وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة وقال أبو أسيد ذهبنا إليه فوجدناه يقطر رأسه دما فرجعت فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث
وفي غريب الحديث للسرقسطي بسنده عن عروة بن الزبير خرج حنظلة بن أبي عامر وقد واقع امرأته فخرج وهو جنب لم يغتسل فلما التقي الناس لقي أبا سفيان بن حرب فحمل عليه فسقط أبو سفيان عن فرسه فوثب عليه حنظلة وقعد على صدره يذبحه فمر به جعونة بن شعوب الكناني فاستغاث به أبو سفيان فحمل على حنظلة فقتله وهو يرتجز ويقول ** لأحمين صاحبي ونفسي ** بطعنة مثل شعاع الشمس **
وفي الواقدي سمى القاتل الأسود بن شعوب قوله في الصحيح من الرواية احتراز عن الرواية الأخرى أنه لم يكن الغسل واجبا عليهما قبل الموت إذ لا يجب قبل الانقطاع
وجه المختارة أن الدم موجب للاغتسال عند الانقطاع وقد حصل الانقطاع بالموت ولا بد من إلحاقه بالجنب إذ قد صار أصلا معللا بالعرض على الله سبحانه وإلا فهو مشكل بأدنى تأمل قوله أن الصبي أولى بهذه الكرامة وهي سقوط الغسل فإن سقوطه لإبقاء أثر المظلومية وغير المكلف أولى بذلك لأن مظلوميته أشد حتى قال أصحابنا خصومة البهيمة يوم القيامة أشد من خصومة المسلم قوله وله أن السيف الخ حاصله إما إبداء قيد زائد في العلية فإنهما عللا السقوط إيفاء أثر المظلومية فقال هو
____________________
(2/147)
العلة إبقاء أثرها بجعل القتل طهرة أي جعل القتل في سبيل الله طهرة عن الذنوب إبقاء لأثر الظلم ولا ذنب على غير المكلف فلم يتحقق تأثير القتل في حقه لهذا الحكم وإما منع العلة وتعيينها مجرد جعل الشهادة طهرة إكراما وعلى كل حال فقوله أول لاتفاق الكل على إعتبار التكريم في إسقاط الغسل بالقتل والتكريم في جعل القتل طهرة من الذنوب أظهر منه في إبقاء أثرالظلم أو هو غير موجود معه أصلا قوله ويزيدون وينقصون ما شاءوا أي يزيدون إذا كان ما عليه من غير جنس الكفن أو ناقصا عن العدد المسنون
وينقصون إذا كان زائدا عليه قوله لنيل مرافق الحياة تعليل لقوله خلقا في حكم الشهادة وحكم الشهادة أن لا يغسل وقيد به لأنه لم يصر خلقا في نفس الشهادة بل هو شهيد عند الله تعالى قوله وشهداء أحد الخ كون هذاوقع لشهداء أحد الله أعلم به
وروى البيهقي في شعب الإيمان بسنده عن أبي جهم بن حذيفة العدوى قال انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمى ومعه شنة ماء فقلت إن كان به رمق سقيته ومسحت وجهه فإذا به ينشد فقلت أسقيك فأشار أن نعم فإذا رجل يقول آه فأشار ابن عمى أن انطلق به إليه فإذا هو هشام بن العاص أخو عمرو بن العاص فأتيته فقلت أسقيك فسمع آخر يقول آه فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات فرجعت إلى ابن عمى فإذا هو قد مات وأسند هو والطبراني عن حبيب بن أبي ثابت أن الحرث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وعياش بن أبي ربيعة أثبتوا يوم اليرموك فدعا الحرث بماء يشربه فنظر إليه عكرمة فقال ارفعوه إلى عكرمة فرفعوه إليه فنظر إليه عياش فقال عكرمة ارفعوه إلى عياش فما وصل إلى عياش ولا إلى أحد منهم حتى ماتوا وما ذاقوا قوله أو يمضي عليه وقت صلاة وهو يعقل أي ويقدر على أدائها حتى يجب القضاء كذا قيده في شرح الكنز والله أعلم بصحته
وفيه إفادة أنه إذا لم يقدر على الأداء لا يجب القضاء فإن أراد إذا لم
____________________
(2/148)
يقدر للضعف مع حضور العقل فكونه يسقط به القضاء قول طائفة والمختار وهو ظاهر كلامه في باب صلاة المريض أنه لا يسقط وإن أراد لغيبة العقل فالمغمى عليه يقضى ما لم يزد على صلاة يوم وليلة فمتى يسقط القضاء مطلقا لعدم قدرة الأداء من الجريح قوله وهذا مروي عن أبي يوسف في الكافي أو عاش مكانه يوما وليلة لأنه ليس في معنى شهداء أحد إذ لم يبق أحد منهم حيا يوما كاملا أو ليلة
وعن أبي يوسف وقت صلاة كاملا يغسل لأنه وجب عليه تلك الصلاة وهو من أحكام الأحياء
وعنه إن عاش بعد الجرح أكثر اليوم أو أكثر الليلة يغسل إقامة للأكثر مقام الكل وقوله وعند محمد قيل الاختلاف بينهما فيما إذا أوصى بأمور الدنيا أما بأمور الآخرة فلا يكون مرتثا اتفاقا
وقيل الخلاف في الوصية بأمور الآخرة وفي أمور الدنيا يكون مرتثا اتفاقا
وقيل لاخلاف بينهما فجواب أبي يوسف فيما إذا كانت بأمور الدنيا ومحمد لا يخالفه
وجواب محمد فيما إذا كانت بأمور الآخرة وأبو يوسف لا يخالفه فيها
ومن الارتثاث أن يبيع أو يشتري أو يتكلم بكلام كثير بخلاف القليل فإن ممن شهد أحدا من تكلم كسعد بن الربيع وهذا كله إذا كان بعد انقضاء الحرب وأما قبل انقضائها فلا يكون مرتثا بشيء مما ذكرنا قوله إلا أن يعلم أنه قتل بحديدة ظلما أي ويعلم قاتله عينا أما مجرد وجدانه مذبوحا لا يمنع غسله وقد يستفاد هذا من قوله لأن الواجب فيه القصاص لأن وجوبه إنما يتحقق على القاتل المعين هذا
____________________
(2/149)
إذا عني بالقصاص استيفاءه على ولي الأمر لا تسليم القاتل نفسه له قوله لأنه باذل نفسه وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام غسل ما عزا قوله لأن عليا الخ غريب والله أعلم
فرع من قتل نفسه عمدا اختلف فيه المشايخ
قيل يصلي عليه وقيل لا
ومنهم من حكى فيه خلافا بين أبي يوسف وصاحبيه فعنده لا يصلي عليه وعندهما يصلي عليه لأبي يوسف أنه ظالم بالقتل فيلحق بالباغي ولهما أن دمه هدر فصار كما لو مات حف أنفه
وفي صحيح مسلم ما يؤيد قول أبي يوسف عن جابر بن سمرة قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه & باب الصلاة في الكعبة
قوله خلافا للشافعي سهو فإن الشافعي رحمه الله يرى جواز الصلاة فيها وقوله تعالى { أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود } ظاهر فيه لأن الأمر بالتطهير للصلاة فيه ظاهر في صحة الصلاة وفيه
وفي الصحيحين عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة وبلال
____________________
(2/150)
وعثمان بن طلحة وأغلقها عليه ثم مكث فيها قال ابن عمر فسألت بلالا حين خرج ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدا وراءه ثم صلى وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة وكان هذا يوم الفتح على ما صرحا به عن أيوب عن نافع عن ابن عمر فهذا وغيره في الصحيحين يعارض روايتهما عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وفيها ست سوار فقام عند سارية فدعا ولم يصل ويقدم عليه بأنه مثبت وهو أولى من النافي
ومن تأول حديث بلال بأنه أراد بالصلاة الدعاء فخروج عن الظاهر
فإن قيل يرتكب للجمع بين الأحاديث
قيل تأويل ينفيه الصريح وهو ما في البخاري عن ابن عمر قال فسألت بلالا صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة قال نعم ركعتين بين الساريتين على يساره إذا دخلت ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين لكنه معارض بما في حديث أيوب في الصحيحين من قول ابن عمر ونسيت أن أسأله كم صلى وما قد يقال عدم سؤاله لا يستلزم عدم إخباره ليس بشيء لمن تأمل السياق فالأولى أن يجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم دخلها يوم النحر فلم يصل ودخلها من الغد فصلى وذلك في حجة الوداع وهو مروي عن ابن عمر بإسناده حسن أخرجه الدارقطني فيحمل حديث ابن عباس عليه قوله لأن استيعابها ليس بشرط خرج به الجواب عم يقال تعارض فيه المانع والمبيح باعتبار أنه مستدبر بعضها
____________________
(2/151)
ومستقبل بعضها فتضمن منع كون استدبار بعضها مانعا بل المانع عدم الشرط والشرط استقبال البعض وقد وجد فلم يتحقق مانع قوله لأنه ينقل ويحول والقبلة لا تتحول في غير الضرورة حتى لو نقل تلك الأحجار وجب التوجه إلى خصوص ذلك المكان ولو صلى على جبل أرفع من الكعبة جازت فيلزم من مجموع هاتين أن القبلة هى تلك العرصة إلى عنان السماء قوله وقد ورد النهي الخ أخرج ابن ماجه في سننه عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سبع مواطن لا تجوز الصلاة فيها ظهر بيت الله والمقبرة والمزبلة
____________________
(2/152)
والمجزرة والحمام وعطن الأبل ومحجة الطريق وأشار الترمذي إلى هذا الطريق وأعل بأبي صالح كاتب الليث وهو مختلف فيه
قال صاحب التنقيح وأما أبو صالح كاتب الليث فقد وثقه جماعة وتكلم فيه آخرون = كتاب الزكاة
هي في اللغة الطهارة { قد أفلح من تزكى } والنماء زكا الزرع إذا نمى وفي هذا الإستشهاد نظر لأنه ثبت الزكاء بالهمز بمعنى النماء يقال زكا زكاء فيجوز كون الفعل المذكور منه لا من الزكاة بل كونه منها يتوقف على ثبوت عين لفظ الزكاة في معنى النماء ثم سمى بها نفس المال المخرج حقا لله تعالى على ما نذكر في عرف الشارع قال تعالى { وآتوا الزكاة } ومعلوم أن متعلق الإيتاء هو المال وفي عرف الفقهاء هو نفس فعل الإيتاء لأنهم يصفونه بالوجوب ومتعلق الأحكام الشرعية أفعال المكلفين ومناسبته للغوي أنه سبب له إذ يحصل به النماء بالإخلاف منه تعالى في الدارين والطهارة للنفس من دنس البخل والمخالفة وللمال بإخراج حق الغير منه إلى مستحقه أعنى الفقراء ثم هي فريضة محكة وسببها المال المخصوص أعنى النصاب النامي تحقيقا أو تقديرا ولذا يضاف إليه فيقال زكاة المال وشرطها الإسلام والحرية والبلوغ والعقل والفراغ من الدين وتقريره ظاهر من
____________________
(2/153)
الكتاب قوله لقوله عليه الصلاة والسلام أدوا الخ عن سليم بن عامر قال سمعت أبا أمامة رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع فقال اتقوا الله وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وأطيعوا إذا أمرتم تدخلوا جنة ربكم قال قلت أبي أمامة منذ كم سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمعته وأنه ابن ثلاثين سنة
رواه الترمذي وصححه وروى من حديث غير أبي أمامة أيضا قوله والمراد بالواجب الفرض لقطعية الدليل إما مجاز في العرف بعلاقة المشترك من لزوم استحقاق العقاب بتركة عدل عن الحقيقة وهو الفرض اليه بسبب أن بعض مقاديرها وكيفياتها ثبتت بأخبار الآحاد أو حقيقة على ما قال بعضهم إن الواجب نوعان قطعي وظني فعلى هذا يكون اسم الواجب من قبيل المشكك اسما أعم وهو حقيقة في كل نوع قوله لأن كمال الملك بها مقتضى الظاهر أن يقول لأن الملك بها فكأنه عمم الملك في الملك يدا فلو قال على هذا التقدير لأن الملك بها لم يصدق لثبوته دونها في المكاتب فإنه مالك يدا إذ ليس بحر ثم لم يتكلم على قيد التمام وهو مخرج لملك المكاتب فيخرج حينئذ مرتين وهذا أعم إخراجا فإنه يخرج أيضا النصاب المعين من السائمة الذي تزوجت عليه المرأة ولم تقبضه حتى حال عليه الحول فإنه لا زكاة فيه عليها عند أبي حنيفة خلافا لهما لأن الملك وإن تحقق بذلك لكنه غير كامل بالنظر إلى ماهو المقصود وصيرورته نصاب الزكاة ينبني على تمام المقصود به لا على مجرد الملك ولذا لم يجب في الضمار ويخرج أيضا المشتري للتجارة إذا لم يقبض حتى حال حول لا زكاة فيه إذا لم يستفد ملك التصرف وكمال الملك بكونه مطلقا للتصرف وحقيقة مع كونه حاجزا ويخرج المال المشتغل بالدين لذلك إذ صاحب الدين مستحق أخذه من غير قضاء ولا رضاء وهذا يصيره كالوديعة والمغضوب بخلاف الموهوب فإنه يجب عليه في مال الهبة بعد الحول وإن تمكن الواهب من الرجوع لأنه لا يتملكه إلا بقضاء أو رضاء ولا يخرج ما ملك بسبب خبيث ولذا قالوا لو أن سلطانا غصب مالا وخلطه صار ملكا له حتى وجبت عليه الزكاة وورث عنه
ولا يخفى أن هذا على قول أبي حنيفة إن خلط دراهمه بدراهم غيره استهلاك أما على قولهما فلا يضمن فلا يثبت الملك لأنه فرع الضمان ولا يورث عنه لأنه مال مشترك فإنما يورث حصة الميت منه والله سبحانه أعلم
وإذ قد عرفت هذا فلو قيل تجب على المسلم البالغ المالك
____________________
(2/154)
لنصاب ملكا تاما لكان أوجز إذ يستغنى بالمالك عن الحر وبتمام الملك يخرج المكاتب ومن ذكرناه قوله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدر السبب به له شواهد كثيرة ومنها حديث الخدري قال قال عليه الصلاة والسلام ليس فيما دون خمس أواق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وسيمر بك غيره من الشواهد قوله لقوله عليه الصلاة والسلام لا زكاة في مال الخ روى مالك والنسائي عن نافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول وأخرج أبو داود عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم وساق الحديث وفيه بعد قوله ففيها نصف دينار فما زاد فبحساب ذلك قال فلا أدرى أعلى يقول فبحساب ذلك أو رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول والحارث وإن كان مضعفا لكن عاصم ثقة وقد روى الثقة أنه رفعه معه فوجب قبول رفعه ورد تصحيح وقفه
وروى هذا المعنى من حديث ابن عمرو ومن حديث أنس وعائشة قوله ولأنه الممكن من الاستنماء بيان لحكمه اشتراط الحول شرعا وحقيقته أن المقصود من شرعية الزكاة مع المقصود الأصلي من الابتلاء مواساة الفقراء على وجه لا يصير هو فقيرا بأن يعطي من فضل ماله قليلا من كثير والإيجاب في المال الذي لا نماء له أصلا يؤدي إلى خلاف ذلك عند تكرر السنين خصوصا مع الحاجة إلى الإنفاق فشرط الحول في المعد للتجارة من العبد أو بخلق الله تعالى إياه لها ليتمكن من تحقيقها في الوجود فيحصل النماء المانع من حصول ضد المقصود وقولهم في النقدين خلقا للتجارة معناه أنهما خلقا للتوسل بهما إلى تحصيل غيرهما وهذا لأن الضرورة ماسة في دفع الحاجة والحاجة في المأكل والمشرب والملبس والمسكن وهذه غير نفس النقدين وفي أخذها على التغالب من الفساد ما لا يخفى فخلق النقدان لغرض أن يستبدل بهما ما تندفع الحاجة بعينه بعد خلق الرغبة بهما فكانا للتجارة خلقه قوله ثم قيل هي واجبة على الفور لأنه مقتضى مطلق الأمر الدعوى مقبولة وهي قول الكرخي والدليل المذكور عليها غير مقبول فإن المختار في الأصول أن مطلق الأمر لا يقتضى الفور ولا التراخي بل مجرد طلب المأمور به فيجوز للمكلف كل من التراخي والفور في الامتثال لأنه لم يطلب منه الفعل مقيدا بأحدهما فيبقى على خياره في المباح الأصلي
والوجه المختار أن الأمر بالصرف إلى الفقير معه قرينة الفور وهي أنه لدفع حاجته وهي معجلة فمتى تجب على الفور لم يحصل المقصود من الإيجاب على وجه التمام
وقال أبو بكر الرازي وجوب
____________________
(2/155)
الزكاة على التراخي لما قلنا من أن مطلق الأمر لا يقتضي الفور فيجوز للمكلف تأخيره وهذا معنى قولهم مطلق الأمر للتراخي لا أنهم يعنون أن التراخي مقتضاه
قلنا إن لم يقضه فالمعنى الذي عيناه يقتضيه وهو ظني فتكون الزكاة فريضة وفوريتها واجبة فيلزم بتأخيره من غير ضرورة الإثم كما صرح به الكرخي والحاكم الشهيد في المنتقي وهو عين ما ذكر الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة أنه يكره أن يؤخرها من غير عذر فإن كراهة التحريم هي المحمل عند إطلاق اسمها عنهم ولذا ردوا شهادته إذا تعلقت بترك شيء كان ذلك الشيء واجبا لأنهما في رتبة واحدة على مامر غير مرة وكذا عن أبي يوسف في الحج والزكاة فترد شهادته بتأخيرهما حينئذ لأن ترك الواجب مفسق وإذا أتى به وقع أداء لأن القاطع لم يوقته بل ساكت عنه
وعن محمد ترد شهادته بتأخير الزكاة لا الحج لأنه خالص حق الله تعالى والزكاة حق الفقراء
وعن أبي يوسف عكسه فقد ثبت عن الثلاثة وجوب فورية الزكاة والحق تعميم رد شهادته لأن ردها منوط بالمأثم وقد تحقق في الحج أيضا ما يوجب الفور مما هو غير الصيغة على ما نذكر في بابه إن شاء الله
وما ذكر ابن شجاع عن أصحابنا أن الزكاة على التراخي يجب حمله على أن المراد بالنظر إلى دليل الإفتراض أي دليل الافتراض لا يوجبها وهو لا ينفي وجود دليل الإيجاب وعلى هذا ما ذكروا من أنه إذا شك هل زكى أو لا يجب عليه أن يزكي بخلاف ما لو شك أنه صلى أم لا بعد الوقت لا يعيد لأن وقت الزكاة العمر فالشك حينئذ فيها كالشك في الصلاة في الوقت والشك في الحج مثله في الزكاة
هذا ولا يخفى على من أنعم التأمل أن المعنى الذي قدمناه لا يقتضي الوجوب لجواز أن يثبت دفع الحاجة مع دفع كل مكلف مكلف متراخيا إذ بتقدير اختيار الكل للتراخي وهو بعيد لا يلزم اتحاد زمان أداء جميع المكلفين فتأمل وإذا أخر حتى مرض يؤدي سرا من الورثة ولو لم يكن عنده مال فأراد أن يستقرض لأداء الزكاة إن كان أكبر رأيه أنه يقدر على قضائه بالاجتهاد فيه كان الأفضل له الاستقراض وإن كان ظنه خلافه فالأفضل أن لا يستقرض لأن خصومه صاحب الدين أشد قوله هي غرامة حاصله إلحاق الزكاة بنفقة زوجة الصبي والمجنون وعشر أرضهما وخراجها فإنه يجب في أرضهما العشر والخراج وكذا الأراضي الموقوفة على المساجد وجميع جهات البر والجامع أنها غرامة أي حق مالي يلزم بسبب في مالهما فيخاطب الولي بدفعه ويدل على الحكم المذكور أيضا ما رواه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال ألا من ولي يتيما له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة قلنا أما الحديث فضعيف قال الترمذي إنما يروي الحديث من هذا الوجه وفي إسناده مقال لأن المثنى يضعف في الحديث
قال صاحب التنقيح قال مهنأ سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال ليس بصحيح
وللحديث طريقان آخران عند الدارقطني وهما
____________________
(2/156)
ضعيفان باعترافه
وأما القياس فنمنع كون ما عينه تمام المناط فإنه منقوض بالذمي لا يؤخذ من ماله الزكاة فلو كان وجوبها بمجرد كونها حقا ماليا يثبت للغير لصح أداؤها منه بدون الإسلام بل وأجبر عليه كما يجبر على دفع نفقة زوجته ونحو ذلك وحين لم يكن كذلك علم أنه اعتبر فيها وصف آخر لا 4 يصح مع عدمه وهو وصف العبادة الزائل مع الكفر قال عليه الصلاة والسلام بني الإسلام على خمس وعد منها الزكاة كالصلاة والحج والصوم فتكون موضوعة عن الصبي قال عليه الصلاة والسلام رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه واعتبار تعلق خطاب الدفع الذي هو عبادة بالولي ابتداء لا بطريق النيابة ليدفع به هذا وما يقال المعتبر في الأداء نية الأصل لا النائب جائز لكن الكلام في ثبوت مفيد وقوع هذا الجائز إذ بمجرد الجواز لا يلزم الوجود شرعا فلا يفيد ما ذكروه المطلوب ولم يوجد فإن الحديث ثم يثبت والقياس لم يصح كما سمعت على أنه لو صح لم يقتض إلا وجوب الأداء على الولي نيابة كما هو في المقيس عليه من نفقة الزوجة وهل يكون تصرف الإنسان في مال غيره إلا بطريق النيابة وبه يفارق تصرفه في مال نفسه
وما روى عن عمر وابنه رضي الله عنهما وعائشة رضي الله عنها من القول بوجوبها في مالهما لا يستلزم كونه عن سماع إذ قد علمت إمكان الرأي فيه فيجوز كونه بناء عليه فحاصله قول صحابي عن اجتهاد عارضه رأي صحابي آخر
قال محمد بن الحسن في كتاب الآثار أخبرنا أبو حنيفة حدثنا ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن مسعود قال ليس في مال اليتيم زكاة
وليث كان أحد العلماء العباد وقيل اختلط في آخر عمره
ومعلوم أن أبا حنيفة لم يكن ليذهب فيأخذ عنه في حال اختلاطه ويرويه وهو الذي شدد في أمر الرواية ما لم يشدده غيره على ما عرف
وروى مثل قول ابن مسعود عن ابن عباس تفرد به ابن لهيعة في ابن لهيعة ما قدمناه غير مرة
وحاصل ما نقول في نفي الزكاة عنهما أن نفي العبادة عنهما بالنافي الثابت وعن وليهما ابتداء على العدم الأصلي لعدم سلامة ما يفيد ثبوته عليه ابتداء
وأما إلحاقهما بالمكاتب في نفي الوجوب
____________________
(2/157)
بجامع نقصان الملك لثبوت لازم النقصان من عدم جواز تبرعاتهما بل أدنى لعدم نفاذ تصرفاتهما فيه بخلاف المكاتب ففيه نظر فإن المؤثر في عدم الوجوب على المكاتب ليس عدم جواز التبرع ولا النقصان المسبب عنه بل النقصان المسبب عن كونه مديونا أو لأن ملكه باعتبار اليد فقط للتردد في قرار الملك لتجويز عجزه فيصير للسيد ملكا وهو ليس ملكا حقيقيا أصلا بخلاف الصبي والمجنون بقي إيراد العشر والخراج يتوجه على وجه الإلزام فلو تم واعترفنا بالخطأ في إيجابهما في أرضهما لم يضرنا في المتنازع فيه ثم جوابه عدم معنى العبادة في الخراج بل هي مؤنة محضة في الأرض وقصوره في العشر لأن الغالب فيه معنى المؤنة ومعنى العبادة فيه تابع فالمالك ملكهما بمؤنتهما كما يملك العبد ملكا مصاحبا بها لأن المؤنة سبب بقائه فتثبت مع ملكه وكذا الخراج سبب بقاء الأراضي في أيد ملاكها لأن سببه بقاء الذب عن حوزة دار الإسلام وهو بالمقاتلة وبقاؤهم بمؤنتهم والخراج مؤنتهم باتفاق الصحابة على جعله في ذلك والعشر للفقراء لذبهم بالدعاء
قال عليه الصلاة والسلام إنما تنصر هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم الحديث والزكاة وإن كانت أيضا للفقراء لكن المقصود من إيجاب دفعها إليهم في حقه الابتلاء بالنص المفيد لكونها عبادة محضة وهو بني الإسلام الحديث
وفي حقهم سد حاجتهم والمنظور إليه في عشر الأراضي الثاني لأنه لم يوجد فيه صريح يوجب كونه عبادة محضة وقد عهد تقرير المؤنة في الأرض فيكون محل النظر على المعهود غير أن خصوص الصرف وهم الفقراء يوجب فيه معنى العبادة وهذا القدر لا يستلزم سوى أدنى ما يتحقق به معناها وهو يكون تبعا فكان كذلك قوله ولو أفاق أي المجنون
اعلم أن الوجوب مطلقا لا يسقط بالعجز عن الأداء للعجز عن استعمال العقل بل إذا كان حكمه وهو وجوب الأداء يتعذر متعلقه وهو الأداء امتثالا مع عدم العقل بشرط تذكره نحو أن يكون من العبادات المحضة فإن المقصود
____________________
(2/158)
من إيجابها إيجاب نفس الفعل ابتلاء ليظهر العاصي من المطيع وهذا لا يتحقق إلا عن اختيار صحيح وهو لا يمكن بدون العقل وإنما انتفى الوجوب لانتفاء حكمه لأنه المقصود منه وإن وجد السبب كما ينتفي لانتفاء محله بخلاف ما المقصود منه المال ووصوله إلى معين كالخراج والنفقات وضمان المتلفات والعشر فإنه لا يتعذر معه حكمه وهو الإيصال فإنه مما يحصل بالنائب فأمكن ثبوت حكم الوجوب مطلقا أعنى وجوب الأداء دون عقل بخلاف العبادات المحضة فإن اختيار النائب ليس هو اختيار المستنيب فلا يظهر بفعله طاعة من عليه إلا إذا كان استنابه عن اختيار صحيح ولا يكون ذلك إلا بالعقل ثم ما يتعذر الأداء فيه عند عدم العقل إنما يسقط الوجوب بشرطين أن يكون الجنون أصليا وهو المتصل بالصبي إن بلغ مجنونا أو عارضيا طال وأن يكون تبقية الوجوب يستلزم الحرج في فعل المأمور به أما الأول فلأن العارض إذا لم يطل عد عدما شرعا كالنوم لا يسقط الوجوب ويجب على النائم القضاء وذلك لأنه يتوقع زواله في كل ساعة بخلاف الطويل في العادة
والجنون ينقسم إلى مديد وقصير فألحق المديد بالصبا فيسقط معه أصل الوجوب والقصير بالنوم بجامع أن كلا عذر يعجز عن الأداء زال قبل الامتداد
وأما الثاني فلأن الوجوب لفائدته وهي الأداء أو القضاء فما لم يتعذر الأول ويثبت طريق تعذر الثاني لا تنتفي الفائدة فلا ينتفي هو وطريق تعذره أن يستلزم حرجا وهو بالكثرة ولا نهاية لها فاعتبرنا الدخول في حد التكرار فلذا قدرناه في الصلاة بالست على ما مر في باب صلاة المريض وفي الصوم بأن يستوعب الشهر
وفي الزكاة أن يستغرق الحول عند محمد وهو رواية عن أبي يوسف وأبي حنيفة وهو الأصح لأن الزكاة تدخل في حد التكرار بدخول السنة الثانية وفيه نظر فإن التكرار بخروج الثانية لا بدخولها لأن شرط الوجوب أن يتم الحول
فالأولى أن المعتبر في الزكاة والصوم نفس وقتهما ووقتهما مديد فاعتبر نفسه فقلنا إنما يسقط باستيعاب الجنون وقتهما حتى لو كان مفيقا في جزء من الشهر وجن في باقي أيامه لزمه قضاء كله
وفي الزكاة في السنة كلها
وروى هشام عن أبي يوسف أن امتداد الجنون بوجوده في أكثر السنة ونصف السنة ملحق بالأقل لأن كل وقتها الحول لكنه مديد جدا فقدرنا به والأكثر يقام مقام الكل فقدرنا به تيسيرا فإن اعتبار أكثره أخف
____________________
(2/159)
على المكلف من اعتبار الكل لأنه أقرب إلى السقوط والنصف ملحق بالأقل
ثم إن محمدا لا يفرق بين الأصلي وهو المتصل بزمن الصبا بأن جن قبل البلوغ فبلغ مجنونا والعارض بان بلغ عاقلا ثم جن فيما ذكرنا من الحكم وهو ظاهر الراوية وخص أبو يوسف الحكم المذكور بالعارض لأنه الملحق بالعوارض أما الأصلي نحكمه حكم الصبا عنده فيسقط الوجوب وإن قل ويعتبر ابتداء الحول من وقت الإفاقة كما يعتبر ابتداءه من وقت البلوغ ويجب بعد الإفاقة ما بقي من الصوم لا ما مضى من الشهر ولا يجب ما مضى من الصلاة مما هو أقل من يوم وليلة بعد البلوغ وقيل على العكس
وروى عن أبي حنيفة أيضا كما ذكر المصنف وصاحب الإيضاح
وجه الفرق أن المجنون قبل البلوغ في وقت نقصان الدماغ لآفة مانعة له عن قبول الكمال مبقية له على ضعفه الأصلي فكان أمرا أصليا فلا يمكن إلحاقه بالعدم كالصبي بخلاف الحاصل بعد البلوغ فإنه معترض على المحل الكامل بلحوق آفة عارضة فيمكن إلحاقه بالعدم عند انتفاء الحرج كالنوم
وقال محمد الجنون مطلقا عارضي لأن الأصل في الجبلة السلامة بل كانت متحققة في الوجود وفواتها إنما يكون بعارض والجنون يفوتها فكان عارضا والحكم في العارض أنه يمنع الوجوب إذا امتد وإلا فلا قوله لأنه ليس بمالك من كل وجه أحسن من تعليلهم بأنه مصرف الزكاة بالنص لأنه لامنافاة في العقل بين إيجاب الصدقة على من جوز له أخذها ولا في الشرع كابن السبيل هذا
وأما العبد المأذون فإن كان يملكه فهو مشغول بالدين وإن كان يفضل عن دينه قدر نصاب فعلى المولى زكاته وكذا إن فضل أقل وعند المولى مال آخر ضمه إليه وزكى الجميع قوله ولنا أنه مشغول يتضمن تسليم أنه نصاب تام لأنه مرجع ضمير أنه ثم منع استقلاله بالحكم بإبداء انتفاء جزء العلة بادعاء أن السبب النصاب الفارغ عن الشغل أو إبداء المانع على تقدير استقلاله على قول مخصصي العلة
____________________
(2/160)
وإنما اعتبرنا عدم الشغل في الموجب لأن معه يكون مستحقا بالحاجة الأصلية وهو دفع المطالبة والملازمة والحبس في الحال والمؤاخذة في المال إذ الدين حائل بينه وبين الجنة وأي حاجة أعظم من هذه فصار كالماء المستحق العطش وثياب البذلة وذلك معتبر معدوما حتى جاز التيمم مع ذلك الماء ولم تجب الزكاة وإن بلغت ثياب البذلة نصبا
وما في الكافي من إثبات المنافاة الشرعية بين وجوب الزكاة على الإنسان وحل أخذها له فيه نظر لما بينا من عدمها شرعا كما في ابن السبيل يجب عليه ويجوز له أخذها
وتقريره بأنه إن كان غنيا حرم الأخذ عليه لقوله عليه الصلاة والسلام لا تحل الصدقة لغني وإلا حرم الأخذ منه لقوله عليه الصلاة والسلام لا صدقة إلا عن ظهر غني فيه نظر لأنا نختار الشق الأول ونمنع كون الغني الشرعي منحصر فيما يحرم الأخذ وقوله عليه الصلاة والسلام لا تحل الصدقة لغني مخصوص بالإجماع بابن السبيل فجاز تخصيصه بالقياس الذي ذكرناه مرة أخرى
قال المشايخ وهو قول ابن عمر وعثمان وكان عثمان رضي الله عنه يقول هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه حتى تخلص أمواله فيؤدي منها الزكاة بمحضر من الصحابة من غير نكير ثم إذا سقط الدين كأن أبرأ الدائن من عليه الدين اعتبر ابتداء الحول من حين سقوطه
وعند محمد رحمه الله تجب الزكاة عند تمام الحول الأول لأن الدين يمنع الوجوب للمطالبة وبالإبراء تبين أنه لا مطالبة فصار كأنه لم يكن
وقال أبو يوسف الحول لم ينعقد على نصاب المديون فإنه مستحق لحاجته فهو كالمعدوم قوله حتى لا يمنع دين النذر والكفارة وكذا دين صدقة الفطر والحج وهدى التمتع والأضحية لعدم المطالب بخلاف العشر والخراج ونفقة فرضت عليه لوجود المطالب بخلاف ما لو التقط وعرفها سنة ثم تصدق بها حيث تجب عليه زكاة ماله لأن الدين ليس متيقنا لاحتمال إجازة صاحب المال الصدقة قوله ودين الزكاة مانع حال بقاء النصاب صورته له نصاب حال عليه حولان لم يزكه فيهما لا زكاة عليه في الحول الثاني لأن خمسة منه مشغولة بدين الحول الأول فلم يكن الفاضل في الحول الثاني عن الدين نصابا كاملا ولو كان له خمس وعشرون من الإبل لم يزكها حولين كان عليه في الحول الأول بنت مخاض وللحول الثاني أربع شياه قوله وكذا بعد الاستهلاك صورته له نصاب حال عليه
____________________
(2/161)
الحول فلم يزكه ثم استهلكه ثم استفاد وغيره وحال على النصاب المستفاد الحول لا زكاة فيه لاشتغال خمسة منه بدين المستهلك بخلاف ما لو كان الأول لم يستهلك بل هلك فإنه يجب في المستفاد لسقوط زكاة الأول بالهلاك وبخلاف ما لو استهلكه قبل الحول حيث لا يجب شيء
ومن فروعه إذا باع نصاب السائمة قبل الحول بيوم بسائمة مثلها أو من جنس آخر أو بدراهم يريد به الفرار من الصدقة أو لا يريد لم تجب الزكاة عليه في البدل إلا بحول جديد أو يكون له ما يضمه إليه في صورة الدراهم وهذا بناء على أن استبدال السائمة بغيرها مطلقا استهلاك بخلاف غير السائمة قوله على ما وري عنه هي رواية أصحاب الإملاء ولما لم تكن ظاهر الرواية عنه مرضها
ووجه الفرق أن دين المستهلك لا مطالب له من العباد بخلاف دين القائم فإنه يجوز أن يمر على العاشر فيطالبه ولا كذلك المستهلك قوله لأن له مطالبا من جهة العباد لأن الملاك نوابه وذلك أن ظاهر قوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة } الآية توجب حق أخذ الزكاة مطلقا للإمام وعلى هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتان بعده فلما ولي عثمان وظهر تغيير الناس كره أن تفتش السعاة على الناس مستور أموالهم ففوض الدفع إلى الملاك نيابة عنه ولم تختلف الصحابة عليه في ذلك وهذا لا يسقط طلب الإمام أصلا ولذا لو علم أن أهل بلدة لا يؤدون زكاتهم طالبهم بها فلا فرق بين كون الدين بطريق الأصالة أو الكفالة حتى لا يجب عليهما الزكاة بخلاف الغاصب وغاصب الغاصب حيث يجب على الغاصب في ماله دون مال غاصب الغاصب لأن الغاصب إن ضمن يرجع على غاصبه بخلاف غاصبه وإنما فارق الغصب الكفالة وإن كان في الكفالة بأمر الأصيل يرجع الكفيل إذا أدى كالغاصب لأن في الغصب ليس له أن يطالبهما جميعا بل إذا اختار تضمين أحدهما يبرأ الآخر أما في الكفالة فله أن يطالبهما معا فكان كل مطالبا بالدين وكما يمنع دين الزكاة يمنع دين العشر والخراج وقد تقدم لنا
ومن فروع دين النذر لو كان له نصاب فنذر أن يتصدق بمائة منه ولم يتصدق حتى حال الحول وجب عليه
____________________
(2/162)
خمسة لزكاته ثم يخرجه عن عهدة نذر تلك المائة التصدق بسبعة وتسعين ونصف لأنه نذر التصدق بعين دراهم استحق منها درهمان ونصف ولو استحق عين المنذور به كله سقط فكذا بعضه ولو كان أطلق النذر فلم يضف المائة إلى ذلك النصاب لزمه بعد الخمسة تمام المائة ثم إن كان للمديون نصب يصرف الدين إلى أيسرها قضاء فإذا كان له دراهم ودنانير وعروض ودينه غير مستغرق صرف إلى الدراهم والدنانير أولا إذ القضاء منهما أيسر لأنه لا يحتاج إلى بيعهما ولأنه لا تتعلق المصلحة بعينهما ولأنهما لقضاء الحوائج وقضاء الدين أهمها ولأن للقاضي أن يقضي منهما جبرا وللغريم أن يأخذ منهما إذا ظفر بهما وهما من جنس حقه فإن فضل الدين عنهما أو لم يكن له منهما شيء صرف للعروض لأنها عرضة للبيع بخلاف السوائم لأنها اللبن والنسل فإن لم يكن له عروض أو فضل الدين عنهما صرف إلى السوائم فإن كانت أجناسا صرف إلى أقلها زكاة نظرا للفقراء فإن كانت أربعين شاة وخمسا من الإبل وثلاثين من البقر صرف إلى الإبل أو الغنم يخير في ذلك دون البقر وعرف من هذا أنه لو لم يكن له البقر تخير لاستوائهما في الواجب وقيل يصرف إلى الغنم لتجب الزكاة في الأبل في العام القابل وهل يمنع الدين المؤجل كما يمنع المعجل في طريقة الشهيد لا رواية فيه إن قلنا لا فله وجه وإن قلنا نعم فله وجه ولو كان عليه مهر لامرأته وهو لا يريد أداءه لا يجعل مانعا من الزكاة ذكره في التحفة عن بعضهم لأنه لا يعده دينا وذكر قبله مهر المرأة يمنع مؤجلا كان أو معجلا لأنها متى طلبت أخذته
وقال بعضهم إن كان مؤجلا لا يمنع لأنه غير مطالب به عادة انتهى
وهذا يفيد أن المراد المؤجل عرفا لا شرطا مصرحا به وإلا لم يصح قوله لأنها متى طلبت أخذته ولا بأنه غير مطالب به عادة لأن هذا في المعجل لا المؤجل شرطا فلا معنى لتقييد عدم المطالبة فيه بالعادة قوله وعلى هذا كتب العلم لأهلها ليس بقيد معتبر المفهوم فإنها لوكانت لمن ليس من أهلها وهي تساوي نصبا لا تجب فيها الزكاة إلا أن يكون أعدها للتجارة وإنما يفترق الحال بين الأهل وغيرهم أن الأهل إذا كانوا محتاجين لما عندهم من الكتب للتدريس والحفظ والتصحيح لا يخرجون بها عن الفقر وإن ساوت نصبا فلهم أن يأخذوا الزكاة إلا أن يفضل عن حاجتهم نسخ تساوي نصابا كأن يكون عنده من كل تصنيف نسختان وقيل بل ثلاث فأن النسختين يحتاج إليهما لتصحيح كل من الأخرى
والمختار الأول بخلاف غير الأهل فإنهم يحرمون بها أخذ الزكاة إذا الحرمان تعلق بملك قدر نصاب غير محتاج إليه وإن لم يكن ناميا وإنما النماء يوجب عليه الزكاة
____________________
(2/163)
ثم المراد كتب الفقه والحديث والتفسير أما كتب الطب والنحو والنجوم فمعتبرة في المنع مطلقا
وفي الخلاصة في الكتب إن كان مما يحتاج إليها في الحفظ والدراسة والتصحيح لا يكون نصابا وحل له أخذ الصدقة فقها كان أو حديثا أو أدبا كثياب البذلة والمصحف على هذا ذكره في الفصل السابع من كتاب الزكاة
وقال في باب صدقة الفطر لو كان له كتب إن كانت كتب النجوم والأدب والطب والتعبير تعتبر وأما كتب التفسير والفقه والمصحف الواحد فلا يعتبر نصابا
فهذا تناقض في كتب الأدب
والذي يقتضيه النظر أن نسخة من النحو أو نسختين على الخلاف لا تعتبر من النصاب وكذا من أصول الفقه والكلام غير المخلوط بالآراء بل مقصور على تحقيق الحق من مذهب أهل السنة إلا أن لا يوجد غير المخلوط لأن هذه من الحوائج الأصلية قوله وآلات المحترفين المراد بها مالا يستهلك عينه في الانتفاع كالقدوم والمبرد فمتى تفنى عينهما أو ما يستهلك ولا يبقى أثر عينه فلو اشترى الغسال صابونا لغسل الثياب أو حرضا يساوي نصابا وحال عليه الحول لاتجب فيه فإن ما يأخذه من الأجرة بمقابلة العمل
ولو اشترى الصباغ عصفرا أو زعفرانا يساوي نصبا للصبغ أو الدباغ دهنا أو عفصا للدباغة وحال عليه الحول تجب فيه لأن المأخوذ بمقابلة العين
وقوارير العطارين ولجم الخيل والحمير المشتراة للتجارة ومقاودها وجلالها إن كان من غرض المشتري بيعها به ففيها الزكاة وإلا فلا قوله معناه صارت له بينة يفيد أنه لم تكن له بينة في الأصل احتراز عما لو كانت عليه بينة فإنه سيذكر أن فيه الزكاة قومه وهي مسئلة مال الضمار قيل هو الغائب الذي لا يرجى فإن رجى فليس به وأصله من الإضمار قال ** طلبن مزاره فأصبن منه ** عطاء لم يكن عدة ضمارا **
وقيل هو غير المنتفع به بخلاف الدين المؤجل فإنه أخر الانتفاع به وصار كمال غائب قوله ومن جملته الخ
____________________
(2/164)
ومن جملته أيضا الذي ذهب به العدو إلى دار الحرب والمودع عند من لا يعرفه إذا نسى شخصه سنين ثم تذكره فإن كان عند بعض معارفه فنسي ثم تذكر الإيداع زكاة لما مضى ويمكن أن يكون منه الألف التي دفعها إلى المرأة مهرا وحال الحول وهي عندها ثم علم أنها أمة تزوجت بغير إذن مولاها وردت الألف عليه ودية قضى بها في حلق لحية إنسان ودفعت إليه فحال الحول عليها عنده ثم نبتت وردت الدية وما أقر به لشخص ودفعه إليه فحال عليه عنده ثم تصادقا على أن لا دين فرد وما وهب وسلم ثم رجع فيه بعد الحول لا زكاة في هذه الصور على أحد لأنه كان غائبا غير مرجو القدرة على الانتفاع به
وأما زكاة الأجرة المعجلة عن سنين في الإجارة الطويلة التي بفعلها بعض الناس عقودا ويشترطون الخيار ثلاثة أيام في رأس كل شهر فتجب على الآجر لأنه ملكها بالقبض وعند الانفساخ لا يجب عليه رد عين المقبوض بل قدره فكان كدين لحقه بعد الحول
وقال الشيخ الإمام الزاهد علي بن محمد البزدوي ومجد الأئمة السرخكتي يجب على المستأجر أيضا لأن الناس يعدون مال هذا الإجارة دينا على الآجر
وفي بيع الوفاء يجب زكاة الثمن على البائع وعلى قول الزاهد والسرخكتي يجب على المشتري أيضا وصرح السيد أبو شجاع بعدم الوجوب على المستأجر
وفي الخلاصة قال الاحتياط أن يزكي كل منهما
وفي فتاوي قاضيخان استشكل قول السرخكتي بأنه لواعتبر دينا عند الناس وهو اعتبار معتبر شرعا ينبغي أن لا تجب على الآجر والبائع لأنه مشغول بالدين ولاعلى المستأجر والمشتري أيضا لأنه وإن اعتبر دينا لهما فليس بمنتفع به لأنه لا يمكنه المطالبة قبل الفسخ ولا يملكه حقيقة فكان بمنزلة الدين على الجاحد وثم لا يجب ما لم يحل الحول بعد القبض انتهى
يعني فيكون في معنى الضمار
وفي الكافي لو استأجر دارا عشر سنين بألف وعجلها إلى المؤخر ثم لم يقبضها حتى انقضت العشر سنين ولا مال لهما سوى الألف كان على المؤجر في السنة الأولى زكاة تسعمائة لظهور الدين بمائة بسبب انفساخ الإجازة في حق تلك السنة وفي السنة الثانية في ثمانمائة إلا قدر ما وجب من الزكاة في الستة الأولى وهو اثنان وعشرون ونصف وهكذا في كل سنة تنقص عنه زكاة مائة وقدر ما وجب إلى أن يصير الباقي خالصا من دين الانفساخ أقل من مائتين
وأما المستأجر فإنما تجب عليه في السنة الثالثة زكاة ثلاثمائة لأنه ملك دينا على المؤجر في السنة الأولى مائة وفي الثانية مائتين لم يحل حولها وفي الثالثة حال حول المائتين واستفاد مائة في آخر الحول فيضمها إلى النصاب ثم تزيد زكاته في كل سنة مائة للانفساخ إذ به يملك مائة دينا فعليه في الرابعة زكاة أربعمائة وهلم جرا إلى العاشرة فعليه زكاة الألف فيها
ولو كانت الأجرة أمة للتجارة فحين عجلها للمؤجر نوى فيها التجارة والباقي بحاله لا زكاة على المؤجر لشيء فيها لاستحقاق تمام عين الأجرة بخلاف الأولى لأن المستحق بالانفساخ مائة دينا في الذمة لا يتعين في المقبوض وعلى المستأجر في السنة الثالثة زكاة ثلاثة أعشارها تزيد كل سنة عشرا ولايخفى وجهه
ولو كان المسئلة على القلب أعني قبض المستأجر الدار ولم يعجل الأجرة فالمؤجر هنا كالمستأجر والمستأجر كالمؤجر فعلى المستأجر أن يزكي للستة الأولى تسعمائة وللثانية بثمانمائة قتنقص في كل سنة مائة إلا زكاة ما مضى لأن الملك في الأجرة يثبت ساعة فساعة والمؤجر يزكي في السنة الثالثة
____________________
(2/165)
ثلاثمائة والرابعة أربعمائة إلا قدر زكاة ما مضى ولو كانا تقابضا في الأجرة والدار فظاهر أنه لا زكاة على المستأجر لزوال ملكه بالتعجيل ولم تعد لعدم الانفساخ قوله على هذا الاختلاف عندنا لا فطرة عليه وعنده عليه قوله ولنا قول علي رضي الله عنه لا زكاة في مال الضمار هكذا ذكره مشايخنا عنه وروى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال حدثنا يزيد بن هارون حدثنا هشام بن حسان الحسن عن الحسن البصري قال إذاحضر الوقت الذي يؤدي فيه الرجل زكاته أدى عن كل مال وعن كل دين إلا ما كان ضمارا لا يرجوه
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا عبد الرحمن بن سليمان بن عمرو بن ميمون قال أخذ الوليد بن عبد الملك مال رجل من أهل الرقة يقال له أبو عائشة عشرين ألفا فألقاها في بيت المال فلما ولي عمر بن عبد العزيز أتاه ولده فرفعوا مظلمتهم إليه فكتب إلى ميمون أن ادفعوا إليهم أموالهم وخذوا زكاة عامهم هذا فإنه لولا أنه ما كان مالا ضمارا أخذنا منه زكاة ما مضى
أخبرنا أبو أسامة عن هشام عن الحسن قال عليه زكاة ذلك العام انتهى
وروى مالك في الموطأ عن أيوب السختياني أن عمر بن عبد العزيز كتب في مال قبضه بعض الولاة ظلما فأمر برده إلى أهله ويؤخذ زكاته لما مضى من السنين ثم عقب بعد ذلك بكتاب أن لا يؤخذ منه إلا زكاة واحدة فإنه كان ضمارا
وفيه انقطاع بين أيوب وعمر
واعلم أن هذا لا يتنهض على الشافعي لأن قول الصحابي عنده ليس حجة فكيف بمن دونه
فهذا للإثبات المذهبي والمعنى المذكور بعد للإلزام وهو قوله ولأن السبب الخ ففيه منع قولهما أن السبب قد تحقق فقال لا نسلم لأن السبب هو المال النامي تحقيقا أو تقديرا بالاتفاق للاتفاق على أن من ملك من الجواهر النفيسة ما تساوي آلافا من الدنانير ولم ينو فيها التجارة لا تجب فيها الزكاة وولاية إثبات حقيقة التجارة باليد فإذا فاتت انتفى تصور الاستنماء تحقيقا فانتفى تقديرا لأن الشيء إنما يقدر تقديرا إذا تصور تحقيقا وعن هذا انتفى في النقدين أيضا لانتفاء نمائهما التقديري بانتفاء تصورالتحقيقي بانتفاء اليد فصار بانتفائها
____________________
(2/166)
كالتاوي فلذا لم تجب صدقة الفطر عن الآبق وإنما جاز عتقه عن الكفارة لأن الكفارة تعتمد مجرد الملك وبالإباق والكتابة لاينقص الملك أصلا بخلاف مال ابن السبيل لثبوت التقديري فيه لإمكان التحقيقي إذا وجد نائبا قوله ولو كان الدين على مقر ملىء أو معسر تجب الزكاة وكذا قوله بعده فهو أي الدين نصاب بعد تحقق الوجوب حال كون مسمى الدين فيستلزم أنه إذا قبض زكاة لما مضى وهو غير جار على إطلاقه بل ذلك في بعض أنواع الدين ولنوضح ذلك إذ لم يتعرض له المصنف فنقول قسم أبو حنيفة الدين إلى ثلاثة أقسام قوي وهو بدل القرض ومال التجارة ومتوسط وهو بدل مال ليس للتجارة كثمن ثياب البذلة وعبد الخدمة ودار السكني وضعيف وهو بدل ما ليس بمال كالمهر والوصية وبدل الخلع والصلح عن دم العمد والدية وبدل الكتابة والسعاية ففي القوي تجب الزكاة إذا حال الحول ويتراخي الأداء إلى أن يقبض أربعين درهما ففيها درهم وكذا فيما زاد فبحسابه وفي المتوسط لا تجب ما لم يقبض نصابا وتعتبر لما مضى من الحول في صحيح الرواية
وفي الضعيف لا تجب ما لم يقبض نصابا ويحول الحول بعد القبض عليه وثمن السائمة كثمن عبد الخدمة
ولو ورث دينا على رجل فهو كالدين الوسط ويروى عنه أنه كالضعيف
وعندهما الديون كلها سواء تجب الزكاة قبل القبض وكلما قبض شيئا زكاة قل أو كثر إلا دين الكتابة والسعاية
وفي رواية أخرجا الدية أيضا قبل الحكم بها وأرش الجراحة لأنه ليس بدين على الحقيقة فلذا لا تصح الكفالة ببدل الكتابة ولا تؤخذ من تركة من مات من العاقلة الدية لأن وجوبها بطريق الصلة إلا أنه يقول الأصل أن المسببات تختلف بحسب اختلاف الأسباب
ولو أجر عبده أو داره بنصاب إن لم يكونا للتجارة لايجب ما لم يحل الحول بعد القبض في قوله وإن كانا للتجارة وكان حكمه كالقوي لأن أجرة مال التجارة كثمن مال التجارة في صحيح الرواية قوله ابتداء أو بواسطة التحصيل لف ونشر مرتب ابتداء يتصل بملىء وبواسطة التحصيل بالمعسر
وعن الحسن بن زياد إن ما على المعسر ليس نصابا لأنه لا ينتفع به فقول المصنف أو بواسطة التحصيل دفع له قوله وكذا لو كان على جاحد وعليه بينه أو علم القاضي به يعني يكون نصابا
وروى هشام عن محمد أن مع علم القاضي يكون نصابا وفيما إذا كانت له بينه عادلة ولم يقمها حتى مضت سنون لا يكون نصابا وأكثر المشايخ على خلافه
وفي الأصل لم يجعل الدين نصابا ولم يفصل
قال شمس الأئمة الصحيح جواب الكتاب إذ ليس كل قاض يعدل ولا كل بينة تعدل وفي الجثو بين يدي القضاة ذل وكل أحد لا يختار ذلك فصار في هذين البينة وعلم القاضي شمول العدم وشمول الوجوب والتفصيل وإن كان
____________________
(2/167)
المديون يقر في السر ويجحد في العلانية لم يكن نصابا ولو كان مقرا فلما قدمه إلى القاضي جحد وقامت علية بينة ومضى زمان في تعديل الشهود سقطت الزكاة من يوم جحد إلى أن عدلوا لأنه كان جاحدا وتلزمه الزكاة فيما كان مقرا قبل الخصومة وهذا إنما يتفرع على اختيار الإطلاق في المجحود
قوله لأن تفليس القاضي الخ يفيد أن لفظ مفلس بالتشديد في قوله ولو كان على مقر مفلس لأنه تعليله ولأنه ذكر المفلس بالتخفيف وأعطى حكمه من غير خلاف بين الثلاثة وهو قوله ولو كان الدين على مقر ملىء أو معسر إذا المعسر هو المفلس والخلاف إنما هو فيمن فلسه القاضي
وصرح بعضهم بأن ما على المقر المفلس بالتخفيف ليس بينهم خلاف في أنه نصاب ولم يشرط الطحاوي التفليس على قول محمد وقول المحبوبي لو كان المديون مقرا مفلسا فعلى صاحب الدين زكاة ما مضى إذا قبضه عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد إن كان الحاكم فلسه فلا زكاة عليه لما مضى بناء على مذهبه أن التفليس يتحقق فيصير الدين تاوبا به وعند أبي حنيفة لا لأن المال غاد ورائح فهو في ذمة المفلس مثله في الملىء يوافق نافي الخلاف قوله وأبو يوسف رحمه الله مع أبي حنيفة الخ وقيل قول أبي يوسف مبني على قوله الأول وذكر صدر الإسلام قول أبي يوسف مع قول محمد في عدم وجوب الزكاة مطلقا من غير ذكر اختلاف الرواية عنه بناء على اختلافهم في تحقيق الإفلاس قوله رعاية لجانب الفقراء هذا من القضايا المسلمة المسكوت عن النظرفيها مع أنها لا تصلح للوجه أصلا إذ بمجرد رعاية الفقراء لا يصلح دليلا للحكم بإيجاب الله تعالى المال فكل موضع يتأتي فيه رعايتهم وكم من موضع لا تجب فيه فلا يثبت إيجاب عليه إلا بدليله
فالأولى ما قيل إن التفليس وإن تحقق لكن محل الدين الذمة وهي والمطالب باقيان حتى كان لصاحب الدين حق الملازمة فبقاء الملازمة دليل بقاء الدين على حاله فإذا قبضه زكاه لما مضى قوله لاتصاله النية بالعمل حاصل هذا الفصل أن ما كان من أعمال الجوارح فلا يتحقق بمجرد النية وما كان من التروك كفي فيه مجردها فالتجارة من الأول فلا يكفي مجرد النية بخلاف تركها ونظيرة السفر والفطر والإسلام والإسامة لا يثبت واحد منها إلا بالعمل وتثبت أضدادها بمجرد النية فلا يصير مسافرا ولا مفطرا ولا مسلما ولا الدابة سائمة بمجرد النية بل بالعمل ويصير
____________________
(2/168)
المسافر مقيما والمفطر صائما والمسلم كافرا والدابة علوفة بمجرد نية هذه الأمور والمراد بالمفطرالذي لم ينو صوما بعد في وقت تصح فيه النية قوله وإن اشترى شيئا الخ المراد ما تصح فيه نية التجارة لا عموم شيء فإنه لو اشترى ارضا خراجية أو عشرية ليتجر فيها لا تجب فيها زكاة التجارة وإلا اجتمع فيها الحقان بسبب واحد وهو الأرض
وعن محمد في أرض العشر اشتراها للتجارة تجب الزكاة مع العشر وإذا لم يصح بقيت الأرض على وظيفتها التي كانت وكذا لو اشترى بذر اللتجارة وزرعه في عشرية استأجرها كان فيها العشر لاغير قوله بخلاف ما إذا ورث الحاصل أن نية التجارة فيما يشتريه تصح بالإجماع وفيما يرثه لا تصح بالإجماع لأنه لا صنع له فيه أصلا وفيما تملكه بقبول عقد مما ذكر خلاف
وجه الاعتبار أن مقتضى الدليل اعتبار النيات مطلقا وإن تجردت عن الأعمال قال عليه الصلاة والسلام نية المؤمن خير من عمله إلا أنها لم تعتبر لخفائها حتى تتصل بالعمل الظاهر وقد اتصلت في هذه وجه الآخر أن اعتبارها إذا طابقت المنوى وهو التجارة وهي مبادلة المال بالمال وذلك منتف بالهبة وما معها والذي في نفسي ترجيح الأول ويلحق بالبيع بدل المؤجر فلة آجره ولده بعبد ونواه للتجارة كان للتجارة وبالميراث ما دخل له من حبوب أرضه فنوى إمساكها للتجارة فلا تجب لو باعها بعد حول قوله ولا يجوز الخ حصر الجواز في الأمرين فأفاد أنه لو نوى الزكاة وجعل يتصدق ولو إلى آخر السنة ولم تحضره النية لا يسقط عنه شيء إلا زكاة ما تصدق به على قول محمد ولو دفعها للوكيل فالعبرة لنية
____________________
(2/169)
المالك وفيه بحث لبعضهم لم يعرج عليه في فتاوي قاضيخان قال أعطى رجلا دراهم ليتصدق بها تطوعا فلم يتصدق حتى نوى الآمر من زكاة ماله من غير أن يتلفظ به ثم تصدق المأمور جازت عن الزكاة انتهى
وكذا لو قال عن كفارتي ثم نوى الزكاة قبل دفعه قوله كتقديم النية الخ حاصله إلحاق الزكاة بالصوم في جواز تقديم النية على الشروع بجامع لحوق لزوم الحرج في إلزام المقارنة وسببه في الزكاة تفرق الدفع للكثيرين قوله سقط فرضها عنه بشرط أن لا ينوي بها واجبا آخر من نذر وغيره سواء نوى النفل أو لم تحضره النية بخلاف رمضان لا بد فيه من نية القربة
والفرق أن دفع المال للفقير بنفسه قربة كيف كان بخلاف الإمساك انقسم إلى عادة وعبادة فاحتاج إلى تمييز بالقصد وإذا وقع أداء الكل قربة فيما نحن فيه لم يحتج إلى تعيين الفرض لأن الفرض أنه دفع الكل والحاجة إلى تعيين الفرض للمزاحمة بين الجزء المؤدي وسائر الأجزاء وبأداء الكل لله تعالى تحقق أداء الجزء الواجب قوله لأن الواجب شائع في الكل فصار كهلاك البعض فسقط زكاته قوله بخلاف الأول
____________________
(2/170)
أي التصدق بالكل للتيقن بإخراج الجزء الذي هو الزكاة بخلاف الهلاك فإنه لا صنع له فيه وعلى هذا لو كان له دين على فقير فأبرأه عنه سقط زكاته عنه نوى به عن الزكاة أو لم ينو لأنه كالهلاك ولو أبرأه عن البعض سقط زكاة ذلك البعض لما قلنا لا زكاة الباقي
ولو نوى به الأداء عن الباقي لأن الساقط ليس بمال والباقي في ذمته يجوز أن يصير مالا وكان خيرا منه فلا يجوز الساقط عنه ولذا لا يجوز أداء الدين عن العين بخلاف العكس
ولو كان الدين على غنى فوهبه منه بعد وجوب الزكاة قيل يضمن قدر الواجب عليه وقيل لا يضمن كأنه بناء على أنه استهلاك أو هلاك
هذا والأفضل في الزكاة الأعلان بخلاف صدقة التطوع & باب صدقة السوائم
سامت الماشية سوما وأسامها ربها أسامة
بدأ محمد رحمه الله في تفصيل أموال الزكاة بالسوائم اقتداء بكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان في كتبه كذلك لأنها كانت إلى العرب وكان جل أموالهم وأنفسها الإبل فبدأ بها
والسائمة التي ترعى ولا تعلف في الأهل
وفي الفقه هي تلك مع قيد كون ذلك لقصد الدر والنسل حولا أو أكثره وسيأتي تفسير السائمة في الهداية ونذكر هناك الخلاف
فلو أسيمت للحمل والركوب
____________________
(2/171)
لم تكن السائمة المستلزمة شرعا لحكم وجب الزكاة بل لا زكاة فيها ولو أسامها للتجارة كان فيها زكاة التجارة لا زكاة السائمة وقد عين في الكتاب أسنان المسميات
وأما اشتقاق الأسماء فسميت بنت المخاض به لأن أمها تكون مخاضا بغيرها عادة أي حاملا ويسمى أيضا وجع الولادة مخاضا قال الله تعالى { فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة } وبنت اللبون لأن أمها تكون ذات لبن ترضع به أخرى والحقة لأنها حق لها أن تركب ويحمل عليها والجذعة لمعنى في أسنانها يعرفه أهل اللغة قوله ليس في أقل من خمس ذود اللذود يقال من ثلاثة من الإبل إلى عشرة وقد استعملها هنا في الواحد على نظير استعمال الرهط في قوله تعالى { تسعة رهط } وقصد المصنف بذلك متابعة لفظ الصديق رضي الله عنه على ما سنذكره عنه
واعلم أن تقدير النصاب والواجب أمر توفيقي
وفي المبسوط إن إيجاب الشاة في خمسة من الإبل لأن المأمور به ربع العشر يقول عليه الصلاة والسلام هاتوا ربع عشر أموالكم والشاة تقرب من ربع عشر الإبل فإن الشاة كانت تقوم بخمسة وبنت مخاض بأربعين فإيجاب الشاة في خمس كإيجاب الخمسة في مائتين اه
وسيأتي في الحديث فيمن وجب عليه سن فلم يوجد عنده وضع العشرة موضع الشاة عند عدمها وهو مصرح بخلاف ما قال و سننبهك عليه
ثم ظاهر الغاية في قوله إلى تسع كونها غاية للوجوب
وإنما يتمشى على قول محمد رحمه الله لأنه جعل الزكاة واجبة في النصاب والعفو
____________________
(2/172)
والغاية غاية إسقاط لأن المعنى وجوب الشاة مستمر إلى تسع
واعلم أن الواجب في الإبل هو الإناث أو قيمتها بخلاف البقر والغنم فإنه يستوي فيه الذكورة والأنوثة قوله بهذا اشتهرت كتب الصدقات من رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كتاب الصديق رضي الله عنه لأنس بن مالك رواه البخاري وفرقه في ثلاثة أبواب عن ثمامة أن أنسا حدثه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين بسم الله الرحمن الرحيم
هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين والتي أمر بها رسوله فمن سئلها من المسلمين فليعطها على وجهها ومن سئل فوقه فلا يعطه
في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس ذو شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت المخاض أنثى فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة لبون وفي كل خمسين حقة ثم ساق بقية الحديث في الغنم
ثم ذكر في الباب الثاني عن ثمامة وقال فيه من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تؤخذ منه الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت صدقته بنت لبون وعنده حقه فإنها تقبل منه الحقة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت صدقته بنت لبون وليست عنده وعنده بنت مخاض فإنها تقبل منه بنت مخاض ويعطى معها عشرين درهما أو شاتين انتهى
فقد جعل بدل كل شاة عند عدم القدرة عليها عشرة
وهذا يصرح بخلاف الاعتبار الذي اعتبره في المبسوط لأن الظاهر أنه إنما تجعل عند عدمها قيمتها إذ ذاك
ثم قال وفي الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى مائة وعشرين شاة
فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة شاة فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء
____________________
(2/173)
ربها وفي الرقة ربع العشر فإذا لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها
وفي الباب الثالث عن ثمامة أن أنسا حدثه فساق الحديث وفيه لا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا أن يشاء المصدق
ورواه أبو داود في سننه حديثا واحد وزاد فيه وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية وقد يوهم لفظ بعض الرواه فيه الانقطاع لكن الصحيح أنه صحيح قاله البيهقي
ومن الكتب كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه فذكره على وفاق ما تقدم وزاد فيه لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع مخافة الصدقة ولم يذكر الزهري عن سالم هذا الحديث ولم يرفعوه وإنما رفعة سفيان بن حسين وسفيان هذا أخرج له مسلم واستشهد به البخاري وقد تابع سفيان على رفعه سليمان بن كثير وهو ممن أتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه وزاد فيه ابن ماجه بعد قوله وفي خمس وعشرين بنت مخاض فابن لبون ذكر فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر وزاد فيه أبو داود زيادة من طريق ابن المبارك عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه في الصدقة وهي عند آل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال ابن شهاب أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر فوعيتها على وجهها وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز من عبد الله بن عبد الله بن عمر وسالم بن عبد الله بن عمر فذكر الحديث وقال فيه فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ تسعا وعشرين ومائة فإذا كانت ثلاثين ومائة ففيها بنتا لبون وحقة حتى تبلغ تسعا وثلاثين ومائة فإذا كانت أربعين ومائة ففيها ثلاث حقاق حتى تبلغ تسعا وخمسين ومائة فإذا كانت ستين ومائة ففيها أربع بنات لبون حتى تبلغ تسعا وستين ومائة فإذا كانت سبعين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون وحقة حتى تبلغ تسعا وسبعين ومائة فإذا كانت ثمانين ومائة ففيها حقتان وبنتا لبون حتى بلغ تسعا وثمانين ومائة فإذا كانت تسعين ومائة ففيها ثلاث حقاق وبنت لبون حتى تبلغ تسعا وتسعين ومائة فإذا بلغت مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون
ثم ذكر سائمة الغنم على ما ذكر سفيان ابن حسين وهذا مرسيل كما أشار إليه الترمذي
وقد اشتمل كتاب الصديق وكتاب عمر على هذه الألفاظ وهي وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع مخافة الصدقة ولا بأس ببيان المراد إذا كان مبني بعض الحلاف وذلك إذا كان النصاب بين شركاء وصحت الخلطة بينهم باتحاد المسرح والمرعى والمرح والراعي والفحل والمحلب تجب الزكاة فيه عنده لقوله صلى الله عليه وسلم لا يجمع بين متفرق الحديث وفي عدم وجوب تفريق المجتمع وعندنا لا تجب وإلا لو وجبت على كل واحد فيما دون النصاب لنا هذا الحديث ففى الوجوب الجمع بين الأملاك المتفرقة إذ المراد الجمع والتفريق في الأملاك لا الأمكنة ألا ترى أن النصاب المفرق في أمكنة مع وحدة الملك تجب فيه ومن ملك ثمانين شاة ليس للساعي أن يجعلهما نصابين بأن يفرقها في مكانين فمعنى لا يفرق بين مجتمع أنه لا يفرق الساعي بين الثمانين مثلا أو المائة والعشرين ليجعلها نصابين وثلاثة ولا يجمع بين متفرق لا يجمع مثلا بين الأربعين المتفرقة بالملك بأن يكون مشتركة ليجعلها نصابا والحال أن لكل عشرين
قال وما كان بين خليطين الخ قالوا أراد به إذا كان بين
____________________
(2/174)
رجلين إحدى وستون مثلا من الأبل لأحدهما ست وثلاثون وللآخر خمس وعشرون فأخذ المصدق منها بنت لبون وبنت مخاض فإن كل واحد يرجع إلى شريكه بحصة ما أخذه الساعي من ملكه زكاة شريكة والله اعلم
ومنها كتاب عمرو بن حزم أخرجه النسائي في الديات وأبو داود في مراسيله عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم فقرئت على أهل اليمن وهذه نسختها بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد فقد رجع رسولكم وأعطيتم من المغانم خمس الله وما كتب الله عز وجل على المؤمنين من العشر في العقار وما سقت السماء وما كان سيحا أو كان بعلا فيه العشر إذا بلغ خمسة أوسق وما سقي بالرشاء والدالية ففيه نصف العشر وفي كل خمس من الإبل سائمة شاة إلى أن تبلغ أربعا وعشرين فإذا زادت واحدة على أربع وعشرين ففيها بنت مخاض فإن لم توجد ابنة مخاض فابن لبون ذكر وساقه كما تقدم وفيه وفي كل ثلاثين باقورة تبيع أو جذعة وما كل أربعين باقورة بقرة
ثم ذكر صدقة الغنم وفيه وفي كل خمس أواق من الورق خمسة دراهم وفيه وما زاد ففي كل أربعين درهما درهم وليس فيما دون خمسة أواق شيء وفي كل أربعين دينارا دينار وفي الكتاب أيضا إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار في سبيل الله يوم الزحف وعقوق الوالدين ورمي المحصنة وتعلم السحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم ثم ذكر جملا في الديات قال النسائي وسليمان بن أرقم متروك وقد رواه عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا معمر عن عبد الله بن أبي بكر به وأخرجه الدارقطني عن إسمعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر به ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك كلاهما عن سليمان بن داود حدثني الزهري به قال الحاكم إسناده صحيح وهو من قواعد الإسلام
وقال أحمد في كتاب عمرو بن حزم صحيح
قال ابن الجوزي يشير بالصحة إلى هذه الرواية لا إلى غيرها وقال بعض الحفاظ في نسخة كتاب عمرو بن حزم تلقتها الأمة بالقبول وهي متوارثة كنسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهي دائرة على سليمان بن أرقم وسليمان بن داود وكلاهما ضعيف
لكن قال الشافعي في الرسالة لم يقبلوه حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال يعقوب بن سفيان الفسوى لا أعلم في جميع الكتب المنقولة أصح منه فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه ويدعون آراءهم اه وتضعيف سليمان بن داود الخولاني معارض بأنه أثنى جماعة من الحافظين عليهم منهم أحمد وأبو حاتم وأبو زرعة وعثمان بن سعيد الدارمي وابن عدي قوله إلى مائتين وإذا صارت
____________________
(2/175)
مائتين فهو بالخيار إن شاء أدى أربع حقاق وإن شاء خمسة بنات لبون قوله كما تستأنف في الخمسين التي بعد المائة والخمسين يعني في خمس شاة مع الأربع حقاق أو الخمسة بنات لبون وفي عشر شاتان معها وفي خمسة عشر ثلاث شياه معها وفي عشرين أربع معها فإذا بلغت مائتين وخمسا وعشرين ففيها بنت مخاض معها إلى ست وثلاثين فبنت لبون معها إلى ست وأربعين ومائتين ففيها خمس حقاق حينئذ إلى مائتين وخمسين ثم تستأنف كذلك ففي مائتين وست وتسعين ستة حقاق إلى ثلاثمائة وهكذا وهو احتراز عن الاستئناف الأول قوله لما روى أنه عليه الصلاة والسلام الخ تقدم في كتاب أبي بكرفي البخاري وأحمد مع الشافعي وعن مالك روايتان كمذهبنا وكمذهب الشافعي قوله ولنا أنه عليه الصلاة والسلام روى أبو داود في المراسيل وإسحق بن راهويه في مسنده والطحاوي في مشكله عن حماد بن سلمة قلت لقيس بن سعد خذ لي كتاب محمد بن عمرو بن حزم فأعطاني كتابا أخبر أنه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه لجده فقرأته فكان فيه ذكر ما يخرج من فرائض الإبل فقص الحديث إلى أن بلغ عشرين ومائة فإذا كانت أكثر من عشرين ومائة فإنها تعاد إلى أول فريضة الأبل ودفعت هذه الرواية بمخالفتها الرواية الأخرى عنه مما قدمناه ورواية الصحيح من كتاب الصديق والأثر الذي رواه الطحاوي عن ابن مسعود بما يوافق مذهبنا طعن فيه بالانقطاع من مكانين وضعف بخصيف وما أخرجه ابن أبي شيبة بسنده عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي كمذهبنا عورض بأن شريكا رواه عن أبي إسحق عن عاصم عن علي قال إذا زادت الإبل على عشرة ومائة ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين ابنة لبون إلا أن سفيان أحفظ من شريك ولو سلم لا يقاوم ما تقدم
قلنا إن سلم فإنما يتم لو تعارضا وليس كذلك لأن ما تثبته هذه الرواية من التنصيص على عود الفريضة لا يتعرض ما تقدم لنفيه ليكون معارضا إنما فيه إذا زادت على عشرين ومائة ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون ونحن نقول به لأنا أوجبنا كذلك إذ الواجب
____________________
(2/176)
في الأربعين هو الواجب في ست وثلاثين والواجب في خمسين هو الواجب في ست وأربعين ولا يتعرض هذا الحديث لنفي الواجب عما دونه فتوجبه بما رويناه وتحمل الزيادة فيما رواه على الزيادة الكثيرة جمعا بين الأخبار ألا ترى إلى ما رواه الزهري عن سالم عن أبيه أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتب الصدقة ولم يخرجها إلى عمالة حتى توفي فأخرجها أبو بكر من بعده فعمل بها حتى قبض ثم أخرجها عمر فعمل بها ثم أخرجها عثمان فعمل بها ثم أخرجها علي فعمل بها فكان في إحدى الروايتين في إحدى وتسعين حقتان إلى عشرين ومائة فإذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون الحديث ورواه أبو داود والترمذي
قال في شرح الكنز وقد وردت أحاديث كلها تنص على وجوب الشاة بعد المائة والعشرين ذكرها في الغاية قوله والبخت والعراب جمع عربي للبهائم وللأناس عرب ففرقوا بينهما في الجمع والعرب مستوطنو المدن والقرى العربية والأعراب أهل البدو واختلف في نسبتهم والاصح انهم نسبوا إلى عربة بفتحين وهي من تهامة لأن أباهم إسماعيل عليه السلام نشأ بها وكذا في المغرب
وهذه تتمة في زكاة العجاف لا شك أن الواجب الأصلي هو الوسط مع مراعاة جانب الفقراء ورب المال فإيجابه فيما إذا كان الكل عجافا إجحاف به فوجب الإيجاب بقدره وهذا تفصيله فإن كان له خمس من الإبل فيها بنت مخاض وسط أو أعلى منها سنا لكنها النقصان حالها تعدلها ففيها شاة وسط فإن لم يكن فيها ما يساويها نظر إلى قيمة بنت مخاض وسط وقيمة أفضلها فما كان بينهما من التفاوت اعتبر مثله في الشاة الواجبة بالنسبة إلى الشاة الوسط مثلا لو كان قيمة بنت المخاض خمسين وقيمة أفضلها خمس وعشرين فالتفاوت بالنصف فتجب شاة فيمتها نصف قيمة الشاة الوسط وعلى هذا فقس فلو كانت الإبل خمسا وعشرين حقاق أو جذاع أو بنات مخاض أو بوازل فإن كان فيها بنت مخاض وسط أو ما يساويها في القيمة وجبت بنت مخاض وسط وإن شاء دفع التي تساويها وإن كان حقة أو أعلى منها بطريق القيمة وإن لم يكن فيها ما يساويها ولا هي فالواجب بنت مخاض تساوي أفضلها ولو كانت ستا وثلاثين بنات مخاض أو حقاق أو جذاع أو بوازل فإن كان فيها ثنتان تعدلان بنتي مخاض وسط وجب فيها بنت لبون وسط لم يكتف هنا بوجود واحدة تعدل بنت مخاض وسط الإيجاب بنت لبون وسط لأن الواجب هنا ليس بنت مخاض بل بنت لبون وربما كان التفاوت بينهما يأتي على أكثر نصاب العجاف فوجب ضم أخرى تعدل بنت مخاض وسط فلو لم يكن فيها ما يعدل بنت مخاض وجب بنت لبون
____________________
(2/177)
بقدرها وطريقه أن ينظر إلى قيمة بنت مخاض وسط وإلى قيمة بنت لبون وسط فما تفاوت به اعتبر زيادة على بنت لبون تساوي أفضلها مما يليها في الفضل منها مثلا كانت قيمة بنت المخاض خمسين وقيمة بنت اللبون خمسة وسبعون فالواجب بنت لبون تساوي أفضلها ونصف قيمة التي تليها في الفضل حتى لو كان أفضلها يساوي عشرين وتليه أخرى تساوي عشرة وجب بنت لبون تساوي عشرين وخمسة دراهم ولو كانت خمسين ليس فيها ما يساوي بنت مخاض وسط نظر إلى قيمة بنت مخاض وسط وقيمة حقة وسط فما وقع به التفاوت اعتبر في التي تلي أفضلها فيجب ذلك مع أفضلها أيضا كما ذكر في بنت اللبون مع بنت المخاض حتى لو كان قيمة بنت المخاض خمسين والحقة ثمانين ففيها حقة تساوي أفضلها وثلاثة أخماس التي تلبها في الفضل ولو كانت الحقة بتسعين وبنت المخاض خمسين وفي الإبل بنت مخاض تساوي خمسين وأخرى تساوي ثلاثين فالواجب حقة تساوي أربعة وسبعين ليكون مثل أفضلها وأربعة أخماس التي تليها ولو كانت قيمة بنت المخاض خمسين والحقة مائة وفي الإبل ثلاث تساوي كل ثلاثين ففيها حقة تساوي ستين مثل ثنتين من أفضلها لأن التفاوت الذي بين الحقة وبنت المخاض الضعف وإنما جعلنا بنت المخاض حكما في الباب في كل الصور لأنها أدنى سن يتعلق به الوجوب والزيادة عليها عفو ولم يكتف بوجود واحدة منها تساوي بنت مخاض وسط لإيجاب ما زاد على بنت المخاض لما ذكرنا فصل في البقر
قدمها على الغنم لقربها من الإبل في الضخامة والبقر من بقر إذا شق سمي به لأنه يشق الأرض وهو اسم جنس والتاء في بقرة للواحدة فيقع على الذكر والأنثى لا للتأنيت قوله ففيها تبيع سمي الحولي من أولاد البقر به لأنه يتبع أمه بعد والمسن من البقر والشاة ما تمت له سنتان وفي الإبل ما دخل في السنة الثامنة ثم لا تتعين الأنوثة في هذا الباب ولا في الغنم بخلاف الإبل لأنها لا تعد فضلا فيهما بخلاف الإبل
ثم إن وجد في الثلاثين تبيع وسط وجب هو أما ما يساويه وجب تبيع يساوي الوسط وإن شاء دفعه بطريق القيمة عن تبيع وإن كان الكل عجافا ليس فيها ما يساوي تبيعا وسطا وجب أفضلها ولو كانت البقر أربعين وفيها مسنة وسط أو ما يساويها
____________________
(2/178)
فعلى ما عرف في الثلاثين وإن كان الكل عجافا وجب أن ينظر إلى قيمة تبيع وسط لأنه المعتبر في نصاب البقر وما فضل عنه عفو وإلى قيمة فما وقع به التفاوت وجب نسبته في أخرى تلي أفضلها في الفضل مثلا لو كانت قيمة التبيع الوسط أربعين وقيمة المسنة الوسط خمسين تجب مسنة تساوي أفضلها وربع التي تليها في الفضل حتى لو كانت فيمة أفضلها ثلاثين والتي تليها عشرين تجب مسنة تساوي خمسة وثلاثين ولو كانت ستين عجافا ليس فيها ما يساوي تبيعان وسطا ففيها تبيعان من أفضلها إن كانا وإلا فإئنان من أفضلها وإن كان فيها تبيع وسط أو ما يساويه وجب التبيع الوسط وآخر من أفضل الباقي قوله وبهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا أخرج أصحاب السنن الأربعة عن مسروق عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة ومن كل حالم يعني محتلما دينارا أو عدله من المعافر ثياب تكون باليمن حسنه الترمذي ورواه بعضهم مرسلا وهذا أصح
ويعني بالدينار من الحالم الجزية
ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأعله عبد الحق بأن مسروقا لم يلق معاذا وصرح ابن عبد البر بأنه متصل وأما ابن حزم فإنه قال في أول كلامه إنه منقطع وإن مسروقا لم يلق معاذا وقال في آخره وجدنا حديث مسروق إنما ذكر فيه فعل معاذ باليمن في زكاة البقر ومسروق عندنا بلا شك أدرك معاذا بسنه وعقله وشاهد أحكامه يقينا وأفتى في زمن عمر وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو رجل كان باليمن أيام معاذ بنقل الكافة من أهل بلده عن معاذ في أخذه لذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم انتهى
وحاصله أنه يجعله بواسطة بينه وبين معاذ وهو ما فشا من أهل بلده أن معاذا أخذ كذا وكذا
والحق قول ابن القطان إنه يجب أن يحكم بحديثه عن معاذ على قول الجمهور في الاكتفاء بالمعاصرة ما لم
____________________
(2/179)
يعلم عدم اللقي
وأما على ما شرطه البخاري وابن المديني من العلم باجتماعهما ولو مرة فكما قال ابن حزم والحق خلافه وعلى كلا التقديرين يتم الاحتجاج به على ما وجهه ابن حزم قوله وهذه رواية الأصل عن أبي حنيفة فيما زاد على الأربعين ثلاث روايات هذه ورواية الحسن أن لا شيء حتى تبلغ خمسين والرواية الثالثة كقولهما
وجه الأولى عدم المسقط مع أن الأصل أن لا يخلى المال عن شكر نعمته بعد بلوغه النصاب
وجه هذه منعه بل قد وجد وهو ما رواه الدارقطني والبزار من حديث بقية عن المسعودي عن الحكم عن طاوس عن ابن عباس قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة قالوا فالأوقاص قال ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بشيء
وسأسأله إذا قدمت عليه فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله فقال ليس فيها شيء قال السمعودي والأوقاص ما بين الثلاثين إلى أربعين والأبعين إلى ستين
وفي السند ضعيف
وفي المتن أنه رجع فوجده عليه الصلاة والسلام حيا وهو موافق لما في معجم الطبراني وفي سنده مجهول
وفيه أعنى معجم الطبراني حديث آخر من طريق بن وخب عن حيوة بن شريح عن يزيد بن أبي حبيب عن سلمة بن أسامة عن يحيى بن الحكم أن معاذا قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق أهل اليمن فأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا ومن كل أربعين مسنة ومن الستين تبيعين ومن السبعين مسنة وتبيعا وأمرني أن لا آخذ فيما بين ذلك شيئا إلا أن يبلغ مسنة أو جذعا وهو مرسل وسلمة بن أسامة ويحيى بن الحكم غير مشهورين ولم يذكرهما ابن أبي حاتم في كتابه
واعترض أيضا بأن معاذا لم يدركه عليه الصلاة والسلام حيا
وفي الموطأ عن طاوس أن معاذا الحديث وفيه فتوفى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم معاذ وطاوس لم يدرك معاذا
وأخرج في المستدرك عن ابن مسعود قال كان معاذ بن جبل شابا جميلا حليما سمحا من أفضل شباب قومه ولم يكن يمسك شيئا ولم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين فلزمه غرماؤه حتى تغيب عنهم أياما في بيته فاستأذنوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل في طلبه فجاء معه غرماؤه فساق الحديث إلى أن قال فبعثه إلى اليمن وقال له لعل الله أن يجبرك ويؤدي عندك دينك فخرج معاذ إلى اليمن فلم يزل بها حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع معاذ الحديث بطوله
قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين
وفي مسند أبي يعلى أنه قدم فسجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا معاذ ما هذا قال وجدت اليهود والنصاري باليمن يسجدون لعظمائهم وقالوا هذا تحية الأنبياء فقال عليه الصلاة والسلام كذبوا على أنبيائهم لو كنت آمر أحد أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها وفي هذا أن معاذا أدركه عليه الصلاة والسلام حيا قوله قد قيل إن المراد بها الصغار فتعارض التفسيران فلا تسقط الزكاة بالشك بعد تحقق السبب ثم إن كان خلاف القياس من حيث
____________________
(2/180)
أنه إيجاب الكسور فقولهما مخالفة من وجهين إثبات العفو بالرأي وكونه خارجا عن النظير في بابه فإن الثابت في هذا الباب جعل العفو تسعا تسعا والكسور في الجملة لها وجود في النقدين لكن دفع المصنف هذا ينتفي بما صرح به في رواية الطبراني من قوله وأمرني أن لا آخذ فيما بين ذلك شيئا إلا أن تبلغ مسنة أو جذعا وهكذا رواه القاسم بن سلام في كتاب الأموال لكن تمام هذا موقوف على صحة هذه الرواية أوحسنها والله أعلم & باب صدقة الغنم
سميت بذلك لأنه ليس لها آلة الدفاع فكانت غنيمة لكل طالب قوله هكذا ورد البيان في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتاب أبي بكر تقدم في صدقة الإبل فارجع إليه قوله والضأن والمعز سواء أي في تكميل النصاب لا في أداء الواجب وسنذكر الفرق بينهما في ذلك آخر الباب والمتولد من ظبي ونعجة له حكم أمه فيكون شاة
وفي العجاف إن كانت ثنية وسط تعينت وإلا واحدة من أفضلها فإن كانت نصابين أو ثلاثة كمائة وإحدى وعشرين أو مائتين وواحدة وفيها عدد الواجب وسط تعينت هي أو قيمتها وإن بعضه تعين هو وكمل من أفضلها بقية الواجب فتجب الواحدة الوسط وواحدة أو اثنتان عجفاوان بحسب ما يكون الواجب والموجود مثلا له مائة وإحدى وعشرون وعنده ثنية وسط وجبت هي وأخرى عجفاء أو مائتان وواحدة وعنده
____________________
(2/181)
ثنتان سمينتان تعينتا مع عجفاء أو واحدة تعينت مع عجفاوين من أفضل البواق ولو هلكت السمينة بعد الوجوب جعلت كأن لم تكن عند أبي حنيفة ووجبت عجفاوان بناء على صرف الهالك إلى النصاب الأخير وجعل الهالك كأن لم يكن وعندهما بهلاك السمينة ذهب فضل السمن فكأن الكل كانت عجافا ووجب فيها ثلاث عجاف فتسقط ثلاثة أجزاء من ثلاث شياه كل شاة مائتا جزء وجزء ويبقي الباقي بناء على أن الواجب واجب في الكل من النصاب والعفو وصرف الهلاك إلى الكل على الشيوع ولو هلك العجاف كلها وبقيت السمينة فعنده لما وجب الصرف إلى النصاب الزائد على الأول صار كأنه حال الحول على أربعين ثم هلك الكل إلا السمينة فيبقى الواجب جزء من أربعين جزءا من شاة وسط وسقط الباقي
وعندهما تبقى حصتها من كل الواجب وكل الواجب سمينة وعجفاوان كل شاة مائتا جزء وجزء وحصتها جزء من السمينة وجزءان من العجفاوين قوله والنص ورد به أي باسم الغنم في كتاب أبي بكر على ما مر قوله لقوله عليه الصلاة والسلام إنما حقنا الجذع غريب بلفظه وأخرج أبو داود والنسائي وأحمد في مسنده عن سعر قال جاءني رجلان مرتدفان فقالا إنا رسولا رسول الله
____________________
(2/182)
صلى الله عليه وسلم بعثنا إليك لتؤتينا صدقة غنمك قلت وما هي قالا شاة قال فعمدت إلى شاة ممتلئة مخاضا وشحما فقالا هذه شافع وقد نهانارسول الله صلى الله عليه وسلم أن نأخذ شافعا والشافع التي في بطنها ولدها قلت فأي شيء تأخذان قالا عناقا جذعة أو ثنية فأخرجت إليهما عناقا فتناولاها وروى مالك في الموطأ من حديث سفيان بن عبد الله أن عمر بن الخطاب بعثه مصدقا فكان بعد السخل فقالوا أتعد علينا السخل ولا تأخذه فلما قدم على عمر ذكر له ذلك فقال عمر نعم نعد عليهم السخلة يحملها الراعي ولا نأخذهاولا نأخذ الأكولة ولا الربى ولا الماخض ولا فحل الغنم ونأخذ الجذعة والثنية وذلك عدل بين غذاء الغنم وخياره
قال النووي سنده صحيح
وأما ما روى عن علي لا يؤخذ في الزكاة إلا الثني فغريب والله أعلم
فالدليل يقتضي ترجيح هذه الرواية والحديث الأول صريح في رد التأويل الذي ذكره المصنف إن كان قول الصحابيين نأخذ عناقا جذعة أو ثنية له حكم الرفع أو لم يكن وكذلك قول عمر في ذلك فيجب ترجيح غير ظاهر الرواية أعني ما روى عن أبي حنيفة أخذ الجذعة على ظاهر الرواية عنه في تعيين الثني فصل في الخيل
في فتاوي قاضيخان قالوا الفتوي على قولهما وكذا رجح قولهما في الأسرار وإما شمس الأئمة وصاحب التحفة فرجحا قول أبي حنيفة رحمه الله وأجمعوا أن الإمام لا يأخذ صدقة الخيل جبرا وحديث ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة رووه في الكتب الستة وزاد مسلم إلا صدقة الفطر قوله وتأويل ما روياه فرس الغازي لا شك أن هذه الإضافة للفرس المفرد لصاحبها في قولنا فرسه وفرس زيد كذا وكذا يتبارد منه الفرس
____________________
(2/183)
الملابس للإنسان ركوبا ذهابا ومجيئا عرفا وإن كان لغة أعم من ذلك والعرف أملك ويؤيد هذه الإرادة قوله في عبده ولا شك أن العبد للتجارة تجب فيه الزكاة فعلم أنه لم يرد النفي عن عموم العبد بل عبد الخدمة وقد روى ما يوجب حمله على هذا المحمل لو لم تكن هاتان القرينتان العرفية واللفظية وهو ما في الصحيحين في حديث مانعي الزكاة بطوله وفيه الخيل ثلاثة هي لرجل أجر ولرجل ستر ولرجل وزر وساق الحديث إلى قوله فأما التي هي له ستر فرجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك الرجل ستر الحديث فقوله ولا في رقابها بعد قوله ولم ينس حق الله في ظهورها يرد تأويل ذلك بالعارية لأن ذلك مما يمكن على بعده في ظهورها فعطف رقابها ينفي إرادة ذلك إذ الحق الثابت في رقاب الماشية ليس إلا الزكاة وهو في ظهورها حمل منقطعي الغزاة والحاج ونحو ذلك هذا هو الظاهر الذي يجب البقاء معه ولا يخفى أن تأويلنا في الفرس أقرب من هذا بكثير لما حفه من القرينتين ولأنه تخصيص العام وما من عام إلا وقد خص بخلاف حمل الحق الثابت لله في رقاب الماشية على العارية ولا يجوز حمله على زكاة التجارة لأنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الحمير بعد الخيل فقال لم ينزل علي فيها شيء فلو كان المراد في الخيل زكاة التجارة لم يصح نفيها في الحمير وما قيل إنه كان واجبا ثم نسخ بدليل ما روى الترمذي والنسائي عن أبي عوانة عن أبي إسحق عن عاصم بن ضمرة عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة وله طريق آخر عن أبي إسحق عن الحرث عن علي
قال الترمذي سألت محمدا عن هذا الحديث فقال كلاهما عندي عن أبي إسحق يحتمل أن يكون روى عنهما والعفو لا يكون إلا عن شيء لازم فممنوع بل يصدق أيضا مع ترك الأخذ من الابتداء تفضلا مع القدرة عليه فمن قدر على الأخذ من أحد وكان محقا في الأخذ غير ملوم فيه فتركه مع ذلك تكرما ورفقا به صدق معه ذلك ويقدم ما في الصحيحين للقوة وقد رأينا هذا الأمر قد تقرر في زمن عمر فكيف يكون منسوخا قال ابن عبد البر روى فيه جويرية عن مالك حديثا صحيحا أخرجه الدارقطني عن جويرية عن مالك عن الزهري أن السائب بن يزيد أخبره قال رأيت أبي يقيم الخيل ثم يدفع صدقتها إلى عمر وروى عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أن جبير بن يعلى أخبره أنه سمع يعلى بن أمية يقول ابتاع عبد الرحمن بن أمية أخو يعلى بن أمية من رجل من أهل اليمن فرسا أنثى بمائة قلوص فندم البائع فلحق عمر فقال غصبني يعلى وأخوه فرسا لي فكتب إلى يعلى أن الحق بي فأتاه فأخبره الخبر فقال إن
____________________
(2/184)
إن الخيل لتبلغ هذا عندكم ما علمت أن فرسا يبلغ هذا فنأخذ عن كل أربعين شاة ولا نأخذ من الخيل شيئا خذ من كل فرس دينارا فقرر على الخيل دينارا دينارا
وروى أيضا عن ابن جريج أخبرني ابن أبي حسين أن ابن شهاب أخبره أن عثمان كان يصدق الخيل وأن السائب بن يزيد أخبره أن كان يأتي عمر بن الخطاب بصدقة الخيل قال ابن شهاب لا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سن صدقة الخيل
وقال محمد بن الحسن في كتاب الآثار أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي أنه قال في الخيل السائمة التي يطلب نسلها إن شئت في كل فرس دينارا وعشرة دراهم وإن شئت فالقيمة فيكون في كل مائتي درهم خمسة دراهم في كل فرس ذكر أو أنثى فقد ثبت أصلها على الإجمال في كمية الواجب في حديث الصحيحين وثبتت الكمية وتحقق الأخذ في زمن الخليفتين عمر وعثمان من غير نكير بعد اعتراف عمر بأنه لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو أبو بكر على ما أخرج الدارقطني عن حارثة بن مضرب قال جاء ناس من أهل الشام إلى عمر فقالوا إنا قد أصبنا أموالا خيلا ورقيقا وإنا نحب أن تزكيه فقال ما فعله صاحباي قبلي فأفعله أنا ثم استشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا حسن وسكت علي فسأله فقال هو حسن لو لم تكن جزية راتبة يؤخذون بها بعدك فأخذ من الفرس عشرة دراهم ثم أعاده قريبا منه بذلك السند والقصة
وقال فيه فوضع على كل فرس دينارا ففي هذا أنه استشارهم فاستحسنوه وكذا استحسنه علي بشرط شرطه وهو أن لا يؤخذون به بعده وقد قلنا بمقتضاه إذ قلنا ليس للإمام أن يأخذ صدقة سائمة الخيل جبرا فإن أخذ الإمام هو المراد بقوله يؤخذون بها مبنيا للمفعول إذ يستحيل أن يكون استحسانه مشروطا بأن لا يتبرعوا بها لمن بعده من الأئمة لأنه ما على المحسنين من سبيل وهذا حينئذ فوق الإجماع السكوتي
فإن قيل استحسانهم إنما هو لقبولها منهم إذا تبرعوا بها وصرفها إلى المستحقين لا للإيجاب
قلنا رواية فوضغ على كل فرس دينارا مرتبا على استحسانهم وما قدمناه من قول عمر ليعلى خذ من كل فرس دينارا فقرر على كل دينارا يوجب خلاف ما قلت وغاية ما في أن ذلك هو مبدأ اجتهادهم وكأنهم والله أعلم رأوا أن ما قدمنا من حديث مانعي الزكاة يفيد الوجوب حيث اثبت في رقابها حقا لله ورتب على الخروج منه كونها له حينئذ سترا يعني من النار وهذا هو المعهود من كلام الشارع كقوله في عائل البنات كن له سترا من النار وغيره ولأنه لا معنى لكون المراد سترا في الدنيا بمعنى ظهور النعمة إذ إذ لا معنى لترتيب ذلك على عدم نسيان حق الله في رقابها فإنه ثابت وإن نسي فثبت الوجوب وعدم أخذه عليه الصلاة والسلام لأنه لم يكن في زمانه أصحاب الخيل السائمة من المسلمين بل أهل الإبل وما تقدم إذ أصحاب هذه إنما هم أهل المدائن والدشت والتراكمة وإنما فتحت بلادهم في زمن عمر وعثمان ولعل ملحظهم في خصوص تقدير الواجب ما روى عن جابر من قوله عليه الصلاة والسلام في كل فرس دينار كما ذكره في الإمام عن الدارقطني بناء على أنه صحيح في نفس الأمر ولو لم يكن صحيحا على طريقة المحدثين إذ لا يلزم من عدم الصحة على طريقهم إلا عدمها ظاهرا دون نفس الأمر على أن الفحص عن مأخذهم لا يلزمنا إذ يكفي العلم بما اتفقوا عليه من ذلك قوله وليس في ذكورها الخ في كل من الذكور المنفردة والإناث المنفردة روايتان والراجح في الذكور عدم الوجوب وفي الإناث الوجوب
____________________
(2/185)
فصل
قوله وليس في الفصلان جمع فصيل ولد الناقة قبل أن يصير ابن مخاض
والعجاجيل جمع عجول
ولد البقرة
والحملان جمع حمل بالتحريك ولد الشاة صورة المسئلة اشترى خمسة وغشرين فصيلا أو حملا أو عجولا أو وهب له لا ينعقد عليها الحول حتى إذا مضى حول من وقت الملك لا تجب فيها بل إذا تم من حين صارت كبارا وتصور أيضا إذا كان له نصاب سائمة فمضى ستة أشهر فولدت نصابا ثم ماتت الأمهات وتم
____________________
(2/186)
الحول على الأولاد قوله الاسم المذكور في الخطاب يعني اسم الشاة قوله تحقيق النظر من الجانبين جانب صاحب المال بعدم إخراج مسنة وجانب الفقراء بعدم إخراج بالكلية كما يجب في المهازيل إلحاقا لنقصان السن نقصان الوصف لما رأينا النقصان بالهزال رد الواجب الأصلي وهو الوسط إلى واحد منها ولم يبطل أصلا فكذلك النقصان بالسن مع قيام الإسامة واسم الإبل إلا أن الرد إلى واحدة منها يمنعنا من ترتيب السن في الإبل والبقر بأن يجب بنت المخاض ثم بنت لبون ثم حقة وهكذا تبيع ثم مسنة ولم يمنعنا في المهازيل فعملنا بقدر الممكن فقلنا لا شيء حتى تبلغ خمسا وعشرين فصيلا فيكون فيها فصيل ثم لا شيء حتى تبلغ ستا وسبعين ففيها فصيلان وهكذا في ثلاثين عجولا عجول ثم لا شيء حتى تبلغ ستين ففيها عجولان ثم لا شيء حتى تبلغ تسعين ففيها ثلاثة عجاجيل لأن السبب متى ثبت ثبت حكمه إلا بقدر المانع هذا على أقوى الروايات عن أبي يوسف وهي رواية محمد
وبهذا التقرير اندفع استبعاد محمد إذ قال إنه عليه الصلاة والسلام أوجب في خمس وعشرين واحدة في مال اعتبر قبله أربعة نصب وفي ست وسبعين ثنتين في موضع اعتبر ثلاث نصب بينها وبين خمس وعشرين ففي المال الذي لا يمكن اعتبار هذه النصب فيه لو أوجبنا كان بالرأي لا بالنص ولا مدخل للرأي هنا
____________________
(2/187)
قوله ووجه الأخير أي من أقاويل أبي حنيفة وهو قول محمد إن المقادير لا يدخلها القياس فإن امتنع إيجاب ما ورد به النص امتنع أصلا
والنص ورد بالشاة والبقرة والناقة لا مطلقا بل ذات السن المعين من الثنية والتبيع وبنت المخاض مثلا ولم يوجد فتعذر الإيجاب
فإذا قيل لا نسلم أنه لم يوجب الصغار أصلا ففي حديث أبي بكر في قتال مانعي الزكاة لو منعوني عناقا مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه
فدل أنه كان يعطي في الزكاة سلمناه لكن إيجاب الأسنان المعينة لم يتوقف على وجودها في الموجب فيه إلا يرى أنه أوجب في خمس من الإبل شاة وليست فيها فلم يتوقف إيجابها على أن تكون عنده بل يجب عليه أن يستحدث ملكها بطريقه ويدفعها فكذا يجب عليه أن يستحدث ملك مسنة ويدفعها
قلنا أما الأول فيدل على نفيه ما في أبي داود والنسائي عن سويد بن غفلة قال أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فجلست إليه فسمعته يقول في عهدي يعني في كتابي أن لا آخذ راضع لبن الحديث دل بالمطابقة على عدم أخذها مطلقا وبالالتزام على أن ليس في الصغار واحد منها إذ لو كان لأخذت الراضع وحديث أبي بكر لا يعارضه لأن أخذ العناق لا يستلزم الأخذ من الصغار لأن الظاهر ما قدمنا في حديث المرتدفين في صدقة الغنم أن العناق يقال على الجذعة والثنية ولو مجازا فارجع إليه فيجب الحمل عليه دفعا للتعارض ولو سلم جاز أخذها بطريق القيمة لا أنها هي نفس الواجب ونحن نقول به أو هو على طريق المبالغة لا التحقيق يدل عليه أن في الرواية الأخرى عقالا مكان العناق
وأما الثاني فإنه يستلزم إيجاب الكرائم وهو منتف بما في الصحيح وغيره من قوله لمعاذ إياك وكرائم أموالهم وروى معناه كثيرا حتى صار من ضروريات الزكاة ومناقض لماعرف بالضرورة في أصول الزكوات من كون الواجب قليلا من كثير وربما نأتي المسنة على غالب الحملان أو كلها خصوصا إذا كانت أسنانها يومين أو ثلاثة فيكون هذا إيجاب إخراج كل المال معنى وهو معلوم النفي بالضرورة بل يخرج عن كونه زكاة المال فإن إضافة اسم زكاة المال يأتي كونه إخراج الكل
ويرد عليه أن إخراج الكرائم والكثير من القليل يلزمكم فيما إذا كان فيها مسنة واحدة فإنها بالنسبة إلى الباقي كذلك غاية الأمر أن لزوم إخراج الكل معنى منتف لكن ثبوت انتفاء إخراج الأكثر في الشرع كثبوت إنتفاء إخراج الكل فما هو جوابكم عن هذا فهو جوابنا عن ذلك ويجاب بأن الإجماع على ثبوت هذا الحكم في صورة وجود مسنة مع الحملان وهو على خلاف القياس أعني ما قدمناه من
____________________
(2/188)
ضرورية الانتفاءين في غيرها فلا يجوز أن يلحق بها قوله جعل الكل تبعا له في انعقادها نصابا دون تأدية الزكاة لأنه إنما يجب من الثنيات هذا إذا كان عدد الواجب من الكبار موجودا فيها أما إذا لم يكن فلا يجب بيانه لو كانت مسنتان ومائة وتسعة عشر حملا يجب فيها مسنتان ولو كانت له مسنة واحدة ومائة وعشرون حملا فعند أبي حنيفة ومحمد تجب تجب مسنة واحدة وعند أبي يوسف مسنة وحمل وعلى هذا القياس فصيل الإبل والبقر وإذا وجبت المسنة دفعت وإن كانت دون الوسط لأن الوجوب باعتبارها فلا يزاد عليها فإن هلكت بعد الحول بطلت الزكاة لأنه لما كان الوجوب باعتبارها كان هلاكها كهلاك الكل والحكم لا يبقى في التبع بعد فوات الأصل وعند أبي يوسف يبقى في الصغار تسعة وثلاثون جزءا من أربعين جزءا من الحمل لأن عنده الصغار أصل في الوجوب إلا أن فصل الكبير كان باعتبار تلك السنة فيبطل بهلاكها ويكون هذا نقصانا للنصاب ولو هلكت الحملان وبقيت المسنة يؤخذ قسطها وهو جزء من أربعين جزءا من المسنة جعل هلاك المسنة كهلاك الكل ولم يجعل قيامها تقيام الكل والفرق يطلب في شرح الزيادات قوله ثم عن أبي يوسف الخ تقدم شرح هذا في أثناء تقرير وجه قول أبي يوسف قوله أخذ المصدق أي عامل الصدقات الخ يفيد أن
____________________
(2/189)
الخيار في أخذ الأعلى ورد الفضل أو الأدنى وإعطاء الفضل للمصدق والواقع أن الخيار لرب المال في الوجه الثانى فقط وأطلق في النهاية أن الخيار لرب المال إذ الخيار شرع رفقا بمن عليه وذلك بأن يجعل الخيار إليه مع تحقق قولهم يجبر المصدق على قبول الأدنى مع الفضل ولا يجبر على قبول الأعلى ورد الفضل لأن هذا يتضمن بيع الفضل من المصدق ومبني على التراضي لا الجبر وهذا يحقق أن لا خيار له في الأعلى إذ معنى ثبوت الخيار مطلقا له أن يقال له أعط ما شئت أعلى أو أدني فإذا كان بحيث لا يقبل منه الأعلى لم يجعل الخيار إليه فيه اللهم إلا أن يراد أن له الخيار لو طلب الساعي منه الأعلى فيكون له أن يتخير بين أن يعطيه أو يعطي الأدني وقوله وأعطى الفضل وأخذ الفضل مطلقا يفيد أن جبران ما بين السنين غير مقدر بشيء معين من جهة الشارع بل يختلف بحسب الأوقات غلاء ورخصا وعند الشافعي هو مقدار بشاتين أو عشرة لما قدمنا في كتاب الصديق من أنه إذ أوجب عليه بنت مخاض فلم توجد أعطى إما بنت لبون وأخذ شاتين او عشرة أو ابن لبون ليس غير
قلنا هذا كان قيمة التفاوت في زمانهم وابن اللبون يعدل بنت المخاض إذ ذاك جعلا لزيادة السن مقابلا بزيادة الأنوثة فإذا تغير تغير وإلا لزم عدم الإيجاب معنى بأن تكون الشاتان أو العشرون التي يأخذها من المصدق تساوي السن الذي يعطيه خصوصا إذا فرضنا الصورة المذكورة في المهازيل فإنه لا يبعد كون الشاتين تساويان بنت لبون مهزولة جدا فإعطاؤها في بنت مخاض مع استرداد شاتين إخلاء معنى أو الإجحاف برب المال بأن يكون كذلك وهو الدافع للأدنى وكل من اللازمين منتف شرعا فينتفي ملزومهما وهو تعين الجابر
فروع عجل عن أربعين بقرة مسنة فهلك من بقية النصاب واحدة ولم يستفد شيئا حتى تم الحول يمسك الساعي من المعجل قد تبيع ويرد الباقي وليس لرب المال أن يسترد المسنة ويعطيه مما عنده تبيعا لأن قدر التبيع من المسنة صار زكاة حقا للفقراء فلا يسترد ومثله في تعجيل بنت المخاض من خمسة وعشرين إذا انتقص الباقي واحدة فتم الحول أمسك الساعي قدر أربع شياه
وروى بشر عن أبي يوسف أنه يردها ولا يحبس شيئا ويطالب بأربع شياه لأنه في إمساك البعض ورد البعض ضرر التشقيص بالشركة
وقياس هذه في البقرة أن يسترد المسنة لكن في هذا نظر إذ لا شركة بعد دفع قيمة الباقي ولو كان استهلكك المعجل أمسك من قيمتها قدر التبيع والأربع شياه ورد الباقي
ولو تم الحول وقد زادت الأربعون إلى ستين فحق الساعي في تبعين فليس للمالك استرداد المسنة بل يكمل الفضل للساعى بخلاف ما لو أخذ المسنة على ظن أنها أربعون فإذا هي تسعة وثلاثون فإنه يرد المسنة ويأخذ تبيعا لأن الاتفاق على الغلط يعدم الرضا أما هناك فدفع عن رضا على احتمال أن تصير زكاة ولم يظهر أن الاحتمال لم يكن ولو لم يظهر الغلط حتى تصدق بها الساعي فلا ضمان عليه وإن كان أخذها كرها على ذلك
____________________
(2/190)
الظن لأنه مجتهد فيها عمل لغيره فضمان خطئه على من وقع العمل له فإن وجد الفقير ضمنه ما زاد على التبيع وإلا يؤخذ من المجموع في يده من أموال الزكاة وهو بيت مال الفقراء كالقاضي إذا أخطأ في قضائه بمال أو نفس فضمانه على من وقع القضاء له أو بيت المال
فإن كان الساعي تعمد الأخذ فضمانه في ماله لأنه متعمد هذا ولو لم يزد ولم ينقص فالقياس أن يصير قدر أربع من الغنم زكاة ويرد الباقي لأن المعجل خرج من ملكه وقت التعجيل وفي الاستحسان يكون الكل زكاة لما ذكر من أنه إذا تعذر جعل كل المعجل زكاة من وقت التعجيل يجعل زكاة مقصورا على الحال هذا ولو كان مثل ذلك في الغنم فسيأتي قوله ويجوز دفع القيم في الزكاة فلو أدى ثلاث شياه سمان أربع وسط أو بعض بنت لبون عن بنت مخاض جاز لأن المنصوص عليه الوسط فلم يكن الأعلى داخلا في النص والجودة معتبرة في غير الربويات فتقوم مقام الشاة الرابعة بخلاف ما لو كان مثليا بأن أدى أربعة أقفزة جيدة عن خمسة وسط وهي تساويها لا يجوز أو كسوة بأن أدى ثوبا يعدل ثوبين لم يجر إلا عن ثوب واحد أو نذر أن يهدي شاتين وسطين أو يعتق عبدين وسطين فأهدى شاة أو أعتق عبدا يساوي كل منهما وسطين لا يجوز أما الأول فلأن الجودة غير معتبرة عند المقابلة بجنسها فلا تقوم الجودة مقام القفيز الخامس
وأما الثاني فلأن المنصوص عليه مطلق الثوب في الكفارة لا يقيد الوسط فكان الأعلى وغيره داخلا تحت النص
وأما الثالث فلأن القرية في الإراقة والتحرير وقد التزم إراقتين وتحرير فلا يخرج عن العهدة بواحد بخلاف النذر بالتصدق بأن نذر أن يتصدق شاتين وسطين فتصدق بشاة تعدلهما جاز لأن المقصود إغناء الفقير وبه تحصل القربة
____________________
(2/191)
وهو يحصل بالقيمة وعلى ما قلنا لو نذر أن يتصدق بقفيز دقل فتصدق بنصفه جيدا يساوي تمامه لا يجزئه لأن الجودة لا قيمة لها هنا للربوية والمقابلة بالجنس بخلاف جنس آخر لو تصدق بنصف قفيز منه يساويه جاز الكل من الكافي قوله والنذر بأن نذر أن يتصدق بعذله دراهم أو بهذا الخبر فتصدق بقيمته جاز عندنا قوله اتباعا للمنصوص وهو اسم الشاة وبنت المخاض والتبيع إلى آخرها قوله ولنا أن الأمر بالأداء أي أداء الشاة وغيرها لغرض إيصال الرزق الموعود لأنه تعالى وعد أرزاق الكل فمنهم من سبب له سببا كالتجارة وغيرها ومنهم من قطعه عن الأسباب ثم أمر الأغنياء أن يعطوهم من ماله تعالى من كل كذا كذا فعرف قطعا أن ذلك إيصال للرزق الموعود لهم وابتلاء للمكلف به بالامتثال ليظهر منه ما علمه تعالى من الطاعة أو المخالفة فيجازى به فيكون الأمر بصرف المعين مصحوبا بهذا الغرض بإبطال القيد ومفيد أن المراد قدر المالية إذ أرزاقهم ما انحصرت في خصوص الشاة بل للإنسان حاجات مختلفة الأنواع فظهر أن هذا ليس إبطال النص بالتعليل بل إبطال أن التنصيص على الشاة ينفي غيرها مما هو قدرها في المالية ثم هو ليس بالتعليل بل مجموع نصي الوعد بالرزق والأمر بالدفع إلى الموعود به مما ينساق الذهن منه إلى ذلك فإنك إذا سمعت قول القائل يا فلان مؤنتك علي ثم قال يا فلان أعطه من مالي عندك من كل كذا كذا لا يكاد ينفك عن فهمك من مجموع وعد ذاك وأمر الآخر بالدفع إليه أن ذلك الإنجاز الوعد فيكون جواز القيمة مدلولا التزاميا لمجموع معنى النصين لانتقال الذهن عند سماعهما من معناهما إلى ذلك فيكون مدلولا لا تعليلا على أنه لو كان تعليلا لم يكن مبطلا للمنصوص عليه بل توسعة لمحل الحكم فإن الشاة المنصوص عليها بعد التعليل محل للدفع كما أن قيمتها محل أيضا وليس التعليل حيث كان إلا لتوسعة المحل
ثم قد رأينا في المنقول ما يدل عليه وهو ما قدمناه من قوله عليه الصلاة والسلام ومن تكون عنده صدقة الجذعة وليست عنده الجذعة وعنده الحقة فإنها تؤخذ منهم مع شاتين
____________________
(2/192)
إن استيسرنا أو عشرين درهما فانتقل إلى القيمة في موضعين فعلمنا أن ليس المقصو خصوص عين السن المعين وإلا لسقط إن تعذر أو أوجب عليه أن يشتريه فيدفعه
قال طاوس قال معاذ لأهل اليمن آتوني بخميس أو لبيس مكان الذرة والشعير أهون عليكم وخير لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة
رواه البخاري معلقا وتعليقه صحيح
وقال ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا عبد الرحمن بن سليمان عن مجالد عن قيس بن أبي حازم عن الصنابح الأحمسي قال أبصر النبي صلى الله عليه وسلم ناقة حسنة في إبل الصدقة فقال ما هذه قال صاحب الصدقة إني ارتجعتها ببعيرين من حواشي الإبل قال نعم إذا فعلمنا أن التنصيص على الأسنان المخصوصة والشاة لبيان قدر المالية وتخصيصها في التعبير لأنها أسهل على أرباب المواشي قوله وصار كالجزية يؤخذ فيها قدر الواجب كما تؤخذ عينه وقوله لظواهر النصوص مثل في خمس ذود من الإبل شاة وفي كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة قوله ولنا قوله عليه الصلاة والسلام ليس في الحوامل الخ غريب بهذا اللفظ
وروى أبو داود عن عاصم بن ضمرة والحرث عن علي قال زهير وأحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هاتوا ربع العشور من كل أربعين درهما درهم وليس عليكم شيء حتى تتم مائتي درهم ففيها خمسة دراهم فما زاد فعلى حساب ذلك وليس على الحوامل شيء ورواه الدارقطني مجزوما ليس فيه قال زهير قال ابن القطان هذا سند صحيح
ولقائل أن يقول هذا الحديث بعد صحته يحتمل كونه مقارنا لأصل تشريع الزكاة فيكون مخصصا ويحتمل كونه متاخرا فيكون ناسخا ويحتمل كونه متقدما فيكون منسوخا بالعام على أصلنا أعنى نحو قوله في خمس من الإبل شاة فالاستدلال به متوقف على ضبط التاريخ فإن لم يضبط انتصب معارضا وحينئذ يجب تقدم عموم الإيجاب لأنه الاحتياط
ويجاب بأن العموم ليس على صرافته بالاتفاق لتخصيص غير السائمة فيترجح
____________________
(2/193)
حديث العوامل بقوة الدلالة حينئذ
وأما على أصلهم فيجب تقديم الخاص مطلقا فلا يحتاج إلى هذا التقرير
ثم لا يخفى أن العوامل تصدق على الحوامل والمثيرة فالنفي عنها نفي عنهما
وقد روى في خصوص اسم المثيرة حديث مضعف في الدارقطني ليس في المثيرة صدقة قال البيهقي الصحيح أنه موقوف قوله ولأن في العلوفة الخ دفع لقول مالك إن النماء في العلوفة أكثر فهي أولى بشرعية الزكاة فيها فقال لا بل ينعدم بالكلية ظاهرا فضلا عن الأكثرية لأن القدر الذي يزيد بالسمن لا يفي بخرج المؤنة في المدة التي تظهر فيها الزيادة
فإن قيل لو كانت العلوفة للتجارة وجب فيها زكاة التجارة فلو انعدم النماء بالعلف امتنع فيها
قلنا النماء في مال التجارة بزيادة القيمة ولم تنحصر زيادة ثمنها في السمن الحادث بل قد يحصل بالتأخير من فصل إلى فصل أو بالنقل من مكان إلى مكان بخلاف غير المنوية للتجارة النماء فيها منحصر في السمن فثبت أن علفها لا يستلزم عدم نمائها إذا كانت للتجارة ولا هو ظاهر فيه قوله هي التي تكتفي بالرعي في أكثر الحول اعترض في النهاية بأن مرادهم تفسير السائمة التي فيها الحكم المذكور فهو تعريف بالأعم إذ بقي قيد كون ذلك لغرض النسل والدر والتسمين وإلا فتشمل الإسامة لغرض الحمل والركوب وليس فيها زكاة
وقالت الشافعية في بعض الوجوه يشترط الرعي في كل الحول
____________________
(2/194)
وفي بعضها إن علقها بقدر ماتبين فيه مؤنة علفها أكثر مما لو كانت سائمة فلا زكاة فيها
قلنا لا يزول اسم السائمة بالعلف اليسير شرعا لأنه عليه الصلاة والسلام أوجب على أهل ديارهم مع العلم بأنها لا تكتفي بالسوم في جميع السنة إذ لا يوجد في جميع السنة في ديارهم بل ولا غيرها ما تكتفي به ولو وجد في غيرها لم يمكنهم ذلك في زمن شدة البرد والثلج والأمطار المستمرة فلو اعتبر انتفت الزكاة فعلم أن العلف اليسير لا يزول به اسم السوم المستلزم للحكم
وإذا كان مقابله كثيرا بالنسبة كان هو يسيرا والنصف ليس بالنسبة إلى النصف كثيرا فلو أسامها نصف الحول لا زكاة فيها ولأنه يقع الشك في ثبوت سبب الإيجاب وما ذكره المصنف من التعليل بالتبعية إنما يستقيم تعليل قوله أو أكثر وما ذكرنا يعمه مع نصف الحول قوله لقوله عليه الصلاة والسلام لا تأخذوا من حزرت أموال الناس شيئا الخ هو بالفتحات جمع حزرة بالحاء المهملة وتقديم الزاي المنقوطة على الراء في اللغة المشهورة ذكره ابن الأثير في النهاية وحرزة المال خياره في ديوان الأدب وهو في الأصل كأنه الشيء المحبوب للنفس
أخرج أبو داود في المراسيل عن هشام بن عروة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمصدقه لا تأخذ من حزرات أموال الناس شيئا خذ الشارف والبكر وذات العيب وفي موطأ مالك مر عمر رضي الله عنه بغنم الصدقة فرأى فيها شاة حافلا ذات ضرع عظيم فقال عمر ما هذه الشاة فقالوا شاة من الصدقة فقال عمر ما أعطى هذه أهلها وهم طائعون لا تفتنوا الناس لا تأخذوا حزرات المسلمين وفي الباب حديث معاذ الصحيح حيث قال له عليه الصلاة والسلام إياك وكرائم أموالهم وهذه الأدلة تقتضي أن لا يجب في الأخذ من العجاف التي ليس فيها وسط اعتبار أعلاها وأفضلها وقدمنا عنهم خلافه في صدقة السوائم قوله فاستفاد في أثناء الحول من جنسه بميراث أو هبة أو شراء
وقال الشافعي لا يضم بل يعتبر فيه حول على حدته فإذا
____________________
(2/195)
تم الحول زكاة سواء كان نصابا أو أقل بعد أن يكون عنده نصاب من جنسه لقوله عليه الصلاة والسلام من استفاد مالا فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول وقوله عليه الصلاة والسلام لا زكاة في مال يحول عليه الحول بخلاف الأولاد والأرباح لأنها متولدة من الأصل نفسه فينسحب حوله عليها وما نحن فيه ليس كذلك قلنا لو قدر تسليم ثبوته فعمومه ليس مرادا للاتفاق على خروج الأولاد والأرباح ودليل الخصوص مما يعلل ويخرج بالتعليل ثانيا فعللنا بالمجانسة فقلنا إخراج الأولاد والأرباح من ذلك ووجوب ضمها إلى حول الأصل لمجانستها إياه لا للتوليد فيجب أن يخرج المستفاد إذا كان مجانسا أيضا فيضم إلى ما عنده مما يجانسه وكان اعتبارنا أولى لأنه أدفع للحرج اللازم على تقدير قوله في أصحاب الغلة الذين يستغلون كل يوم درهما وأقل وأكثر فإن في اعتبار الحول لكل مستفاد من درهم ونحوه حرجا عظيما وشرع الحول للتيسير فسقط اعتباره ولو لم يتعرض لإبطال اعتباره جاز تعليل الأصل بعلتين وإحداهما تقتضي ما قلنا والأخرى أعنى علته قاصرة على الأصل أعنى الأولاد والأرباح وعلى هذا لا حاجة إلى جعل اللام في الحول للحول المعهود قيامه للأصل كما في النهاية بل يكون للمعهود كونه اثنى عشر شهرا كما قاله الشافعي غير أنه خص منه ما ذكرنا وهذا لأنه يعم المستفاد ابتداء وهو النصاب الأصلي أعنى أول ما استفاد وغيره والتخصيص وقع في غيره وهو المجانس وبقي تحت العموم الأصلي واليي لم يجانس ولا يصدق في الأصل إلا إذا كان الحول مرادا به المعهود المقدر
فرع لا يضم إلى النقدين ثمن إبل مزكاة بأن كان له خمس من الإبل ومائتا درهم فزكى الأبل بعد الحول ثم باعها في أثناء الحول الآخر بدراهم لا يضمها إلى ما عنده عند أبي حنيفة وقالا لا يضمها لوجود علة الضم وهي المجانسة
وله أنه بدل مال الزكاة وللبدل حكم المبدل فلو ضم لأدى إلى الثني
واتفقوا على ضم ثمن طعام أدى عشرة ثم باعه وثمن أرض معشورة وثمن عبد أدى صدقة فطرة أما عندهما فظاهر وأما عنده فلأن البدل
____________________
(2/196)
ليس بدلا لمال الزكاة لأن العشر لا يجب باعتبار الملك ولهذا يجب في أرض الوقف والمكاتب والفطرة لا تتعلق بالمالية ولهذا تجب عن ولده وكذا لو باعها بعبد للتجارة وعنده ألف لا يضم عنده ولو نوى الخدمة ثم باعه قيل يضم لأنه بنية الخدمة خرج عن مال الزكاة فلم يكن بدله بدل مال الزكاة ليؤدي إلى الثني ولو كان له نصابان نقدان ومما لم يجب ضم أحدهما إلى الآخر كثمن إبل أدى زكاتها ونصاب آخر ثم وهب له ألف ضمت إلى أقربهما حولا من حين الهبة نظرا للفقراء ولو ربح في أحدهما أو ولد أحدهما ضم إلى أصله لأن الترجيح بالذات أقوى منه بالحال قوله حتى لو هلك العفو وبقي النصاب بقي كل الواجب الخ بأن كان له تسع من الإبل أو مائة وعشرون من الغنم فهلك بعد الحول من الإبل أربع ومن الغنم ثمانون لم يسقط من الزكاة شيء عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد وزفر يسقط في الأول أربعة أتساع شاة وفي الثاني ثلثا شاة قوله وجبت شكرا لنعمة المال الذي يتحقق به الغنى والكل بعد وجوب النصاب فيه كذلك فيكون الوجوب في الكل ويؤيده ما تقدم في كتاب أبي بكر من قوله إذا بلغت خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض وكذا قال فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها حقة وهكذا ذكر إلى عشرين ومائة
وقال في الغنم إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئة ففيها شاة فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان فإذا زادت على مائتين إلى تلثمائة ففيها ثلاث شياه الحديث
وهذا ينص على ما قلنا وهكذا قال في كتاب عمر المروي في أبي داود قوله ولهما قوله عليه الصلاة والسلام في خمس من الإبل السائمة شاة وليس في الزيادة شيء حتى يبلغ عشرا الخ لا يخفى أن هذا الحديث لا يقوى قوة حديثهما في الثبوت إن ثبت والله أعلم به وإنما نسبه ابن الجوزي في التحقيق إلى رواية القاضي أبي يعلى وأبي إسحق الشيرازي في كتابيهما فقول محمد أظهر من جهة الدليل ولأن جعل الهالك غير النصاب تحكم لأن النصاب غير متعين في الكل فيجعل الوجوب متعلقا بفعل الإخراج من الكل ضرورة عدم تعين بعضها لذلك وقولهم إنه يسمى عفوا في الشرع يتضاءل عن معارضة النص الصحيح فلا يلتفت إليه وقوله ولذا قال أبو حنيفة الخ مثاله إذا كان له أربعون من الإبل فهلك منها عشرون بعد الحول فعند أبي حنيفة تجب أربع
____________________
(2/197)
شياه كأن الحول حال على عشرين فقط جعلا للهالك كأن لم يكن وعند محمد يجب نصف بنت لبون ويسقط النصف وعند أبي يوسف يجب عشرون جزءا من ست وثلاثين جزءا من بنت لبون ويسقط ستة عشر جزءا لأن الأربعة من الأربعين عفو فيصرف الهلاك إليها وبقي الواجب في ستة وثلاثين فيبقى الواجب بقدر الباقي والله أعلم
ولو كان له ثمانون شاة فهلك نصفها بعد الحول تجب شاة عند أبي حنيفة وعند محمد وزفر نصف شاة
ولو كان له مائة وعشرون فهلك ثمانون تجب شاة عند أبي حنيفة وعند محمد وزفر ثلث شاة ولو كانت مائة وإحدى وعشرين فهلك إحدى وثمانون تجب شاة عند أبي حنيفة وعند محمد وزفر أربعون جزءا من مائة وإحدى وعشرين جزءا من شاتين فلو كن مائتين وواحدة عجافا إلا واحدة وسطا تجب الوسط وثنتان من أفضلها فإن هلكت الوسط عند أبي حنيفة تجب عجفا وإن كان لم يكن إلا مائتان عجاف وعندهما سقط الفضل بهلاك الوسط وجعل كأن الكل عجاف فكان الواجب ثلاثا عجافا فإذا هلك واحدة سقط من كل شاة من الثلاث جزء من مائتي جزء وجزء ويبقى من كل شاة عجفاء مائتا جزء لأن عندهما يصرف الهلاك إلى النصب شائعا ولو هلك الكل إلا الوسط يجب جزء من أربعين جزءا من شاة وشط عند أبي حنيفة كأنه ليس له إلا أربعون هلك الكل إلا واحدة وسط وعندهما ثلاثة أجزاء من مائتي جزء من ثلاث شياه جزء من السمينة وجزءان من العجفاوين لأن الواجب في كل شاة جزء
ولو كان له أربعون شاة عشرون سمان أو أوساط وعشرون عجاف هلكت واحدة من السمان بعد الحول يبقى تسعة وثلاثون جزءا من أربعين جزءا من شاة وسط لأن الفضل فيما زاد على الواحدة عفو فصار كأنه الكل سمان وهلك منها واحدة وكذلك لو هلكت عشرة من السمان يبقى ثلاثة أرباع شاة وسط وعند محمد يبقى نصف شاة وسط وربع شاة عجفاء لأن الواجب شائع في المال وكان نصف السمينة في عشر من السمان وعشر من العجاف وذلك النصف لم يتغير فيبقى الواجب فيه كما كان باقيا والنصف الآخر في عشر سمان وعشر عجاف ذهبت سمانه وبقيت عجافه فكان فضل السمن في عجاف هذا النصف بسبب سمان هذا النصف فيبطل بهلاك السمان فيبقى ربع شاة عجفاء وإن هلكت سمينة واحدة يضم إلى ما بقي من السمان مثلها من العجاف وذلك تسع عشرة فتصير ثمانية وثلاثين فيجب فيها ثمانية وثلاثون جزءا من أربعين جزءا من سمينة وفي العجفاء الباقية
____________________
(2/198)
جزء من أربعين جزءا من شاة عجفاء لأن فضل السمن فيها كان بسبب السمينة التي هلكت فتبطل بهلاكها
رجل له خمسون بنت مخاض عجاف إلا واحدة سمينة تعدل خمسين درهما وقيمة الباقي عشرة عشرة وقيمة الحقة الوسط مائة تجب حقة تساوي ستين درهما لأنها كثنتين من أفضلها لأن زكاتها تعدل بنتي مخاض وسطين لو كان فيها بنتا مخاض وسطان فإذا لم يكن إلا واحدة وسط وجب حقة تعدل هذه الواحدة وواحدة من أفضل الباقي فلو هلكت السمينة تجب حقة تعدل بنتي مخاض عجفاوين لأن المال اشتمل على النصاب والعفو لأن ما زاد على ستة وأربعين عفو فيصرف الهلاك إليه فكأنه لم يملك إلا تسعة وأربعين بنت مخاض عجافا وهناك تجب حقة تعدل بنتي مخاض عجفاوين من أفضلهن فيجب هنا حقة تساوي عشرين وعند محمد يسقط جزء من خمسين جزءا من الحقة الواجبة وهي التي تساوي بنتي مخاض عجفاوين لأن الوجوب عنده في الكل وفضل السمن كان باعتبار السمينة فإذا هلكت هلكت بزكاتها وبقي الباقي
ولو هلك الكل وبقيت السمينة ففيها خمس شاة وسط عند أبي حنيفة لأن الهلاك عنده يصرف إلى النصب الزائدة فكأن الحول حال على خمس من الإبل ثم هلك الكل إلا الواحدة
وعند أبي يوسف يجب جزء من سته وأربعين جزءا من الحقة التي تساوي ستين لأن ما زاد على ستة وأربعين عفو فكأن الحول حال على ستة وأربعين وعند محمد فيها جزء من خمسين جزءا من تلك الحقة والله سبحانه أعلم قوله لكونهم مقاتلة لأنهم يقاتلون أهل الحرب قوله ولا يصرفونها أي لا يصرفها الخوارج إلى الفقراء قوله وكذا الدفع إلى كل جائر قال في المبسوط وما يأخذه ظلمة زماننا من الصدقات والعشور والجزا والخراج والجبايات والمصادرات فالأصح أن يسقط جميع ذلك عن أرباب الأموال إذا نووا عند الدفع التصدق عليهم لأن ما في أيديهم أموال المسلمين وما عليهم من التبعات فوق أموالهم فلو ردوا ما عليهم ولم يبق في أيديهم شيء فكانوا فقراء انتهى
وقال ابن مسلمة يجوز أخذ الصدقة لعلي بن عيسى بن ماهان وإلى خراسان وكان أميرا ببلخ وجبت عليه كفارة يمين فسأل فأفتوه بالصيام فجعل يبكي ويقول لحشمه إنهم يقولون لي ما عليك من التبعات فوق مالك من المال فكفارتك كفارة يمين من لا يملك شيئا
وعلى هذا لو أوصى بثلث ماله للفقراء فدفع إلى السلطان الجائر سقط
ذكره قاضيخان في الجامع الصغير
وعلى هذا فإنكارهم على يحيى بن يحيى تلميذ مالك حيث أفتى بعض ملوك المغاربة في كفارة بالصوم غير لازم وتعليلهم بأنه اعتبار للمناسب المعلوم الإلغاء غير لازم لجواز أن يكون
____________________
(2/199)
للاعتبارالذي ذكرناه من فقرهم لا لكونه أشق عليهم من الإعناق ليكون هو المناسب المعلوم الإلغاء وكونهم لهم مال وما أخذوه خلطوه به وذلك استهلاك إذا كان لا يمكن تمييزه عنه عند أبي حنيفة فيملكه ويجب عليه الضمان حتى قالوا تجب عليهم فيه الزكاة ويورث عنهم غير ضائر لاشتغال ذمتهم بمثله والمديون بقدر ما في يده فقير قوله والأول أحوط أي الإفتاء بالإعادة بناء على أن علم من يأخذ لما يأخذ شرط وهذا يقتضي التعميم في الإعادة للأموال الباطنة والظاهرة سوى الخراج وقد لا يبتني على ذلك بل على أن المقصود من شرعية الزكاة سد خلة المحتاج على ما مر وذلك يفوت بالدفع إلى هؤلاء
وقال الشهيد هذا يعني السقوط في صدقات الأموال الظاهرة أما إذا صادره فنوى عند الدفع أداء الزكاة إليه فعلى قول طائفة يجوز والصحيح بأنه لا يجوز لأنه ليس للطالب ولاية أخذ زكاة الأموال الباطنة قوله لأن الصلح قد جرى الخ بنو تغلب عرب نصارى هم عمر
____________________
(2/200)
رضي الله عنه أن يضرب عليهم الجزية فأبوا وقالوا نحن عرب لا نؤدي ما يؤدي العجم ولكن خذ منا ما يأخذ بعضكم من بعض يعنون الصدقة فقال عمر لا هذه فرض المسلمين فقالوا فزد ما شئت بهذا الأسم لا باسم الجزية فعل فتراضي هو وهم على أن يضعف عليهم الصدقة وفي بعض طرقه هي جزية سموها ما شئتم
وفي رواية لابن أبي شيبة ولا يمنعوا أحدا أن يسلم ولا يغمسوا أولادهم
وفي رواية القاسم بن سلام في كتاب الأموال هم يعني عمر رضي الله عنه أن يأخذ منهم الجزية فنفروا في البلاد فقال النعمان بن زرعة أو زرعة ابن نعمان لعمر يا أمير المؤمنين إن بني تغلب قوم عرب يأنفون من الجزية وليست لهم أموال إنما هم أصحاب حروث ومواشي ولهم نكاية في العدو فلا تعن عدوك عليك بهم قال فصالحهم عمر على أن يضعف عليهم الصدقة واشترط عليهم أن لا ينصروا أولادهم
هذا وروى عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يؤخذ من المرأة شيء وهو قول زفر لأن المأخوذ بدل الجزية بل قد اعتبرها عمر نفس الجزية حيث قال هي جزية سموها ما شئتم ولا جزية على المرأة فلا يلزمها بدلها وهو القياس
وجه الظاهر أن اللازم في الأصل كان الجزية فلما وقع التراضي بإسقاطها بما يؤخذ من المسلم مضاعفا صار اللازم عين ما صير إليه فوجب شمولة النساء لأنهم رضوا في إسقاط ذلك بذلك ظاهرا قوله وإن هلك المال يعني حال الحول ففرط في الأداء حتى هلك من غير تعد أعني من غير استهلاك منه قوله بعد التمكن بأن طلب المستحق أو وجد وإن لم يطلب قوله ولأنه منعه بعد الطلب أي طلب الفقير إذا فرض ذلك ولأنه جعله الشرع مطالبا لنفسه نيابة عنه أو هو مطالب بالأداء على الله تبارك وتعالى رضي الله عنهن الرب عز وجل
____________________
(2/201)
الفور فإذا تمكن ولم يؤد صار متعديا فيضمن كما لو استهلك النصاب وكالمودع إذا طولب برد الوديعة فلم يردها حتى هلكت قوله ولنا الحاصل أن الواجب تمليك شطر من النصاب ابتداء ومن أمر بتمليك مال مخصوص كمن قيل له تصدق بمالي عندك فلم يفعل حتى هلك ليس عليه ضمانه ولا إقامة مال آخر مقامه لأنه لم يفوت على مستحق يدا ولا ملكا لأن المستحق فقير بعينه لا فقير يطلب بنفسه وفي الاستهلاك وجد التعدي بخلاف مجرد التأخير لأنه غير جان فيه لأن الصيغة المطلقة تجوز التراخي وإن كانت على الفور وليس هو بحق فتعديه بالتأخير ليس هو نفس إهلاك المال ولا سببا له فإن التأخير لم يوضع للهلاك وإنما قلنا إن الواجب جزء من النصاب تحقيقا للتيسير فإن الزكاة لما وجبت قليلا من كثير من بعض الأموال لا من كل مال بل مما حيث ينمو لينجبر المؤدي بالنماء وشرط مع ذلك الحول تحقيقا لقصد النماء كانت واجبة بصفة اليسر والحق متى وجب بصفة لا يبقي إلا بتلك الصفة وتحقيق ذلك بأن يعتبر الواجب أداء جزء من هذه النعمة غير أن له أن يعطي غيره فيسقط بهلاكه لفوات المحل والقول ببقاء الواجب بعد هلاكه يحيله إلى صفة العسر فلا يكون الباقي ذلك الذي وجب بل غيره وهذا يقتضي أن الواجب في خمس من الإبل جزء منها والشاة تقدير ماليته لعسر نحر أحدها ليعطي بعضها بل إذا كان ذلك البعض ربع عشر كلها توقف تحقيقه على نحر كلها وفيه من الحرج ما لا يخفي ثم الظواهر تؤيد ما قلنا مثل قوله عليه الصلاة والسلام هاتوا ربع العشور من كل أربعين درهما درهم وما تقدم في أول باب صدقة البقر من حديث معاذ ولفظ الترمذي بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين سنة قوله كدفع العبد بالجنابة يسقط فإذا لم يدفعه
____________________
(2/202)
المولى حتى هلك سقط ولم يجب عليه إقامة عبد مقامه قول قيل يضمن وهو قول الكرخي وقيل لا يضمن وهو قول أبي سهيل الزجاجي وهو أشبه بالفقه لأن الساعي وإن تعين لكن للمالك رأي في اختبار محل الأداء بين العين والقيمة ثم القيمة شائعة في محال كثيرة والرأي يستدعي زمانا فالحبس لذلك ولأنه لم يفوت على أحد ملكا ولا يدا بخلاف منع الوديعة بعد طلب صاحبها فإنه يدل اليد بذلك فصار مفوتا ليد المالك فروع تتعلق بالمحل
استبدال مال التجارة بمال التجارة ليس استهلاكا بغير مال التجارة استهلاك وذلك بأن ينوي في البدل عدم التجارة عند الاستبدال وإنما قلنا ذلك لأنه لو لم ينو في البدل عدم التجارة وقد كان الأصل للتجارة يقع البدل للتجارة وإن كان لغيرها عند مالكه
في الكافي لو تقايضا عبدا عبد ولم ينويا شيئا فإن كان للتجارة فهما للتجارة أو للخدمة فهما للخدمة وإن كان أحدهما للتجارة والآخر للخدمة فبدل ما كان للتجارة للتجارة وبدل ما كان للخدمة للخدمة فلو استبدل بعد الحول ثم هلك البدل بغير صنع منه وجبت الزكاة عن الأصل بخلاف ما إذا كان البدل مال تجارة لايضمن زكاة الأصل بهلاك البدل واستبدل السائمة استهلاك مطلقا سواء استبدالها بسائمة من جنسها أو من غيره أو بغير سائمة دراهم أو عروض لتعلق الزكاة بالعين أولا وبالذات وقد تبدلت فإذا هلكت سائمة البدل تجب الزكاة ولا يخفى أن هذا إذا استبدل بها بعد الحول أما إذا باعها قبله فلا حتى لا تجب الزكاة في البدل إلا بحول جديد أو يكون له دراهم وقد باعها بأحد النقدين
وإقراض النصاب الدراهم بعد الحول ليس باستهلاك فلو نوى المال على المستفرض لا تجب ومثله إعارة ثوب التجارة
رجل له ألف حال حولها فاشترى بها عبد التجارة فمات أو عروضا للتجارة فهلكت بطلت عنه زكاة الألف ولو كان العبد للخدمة لم تسقط بموته فلو كان فيه غبن فاحش ضمن
في الوجه الأول علم أولا لأنه صار صار مستهلكا في قدر الغبن إذ لم يحصل بإزائه شيء وإنما استوى العلم وعدمه لأنه باطل فلا يتعلق الحكم به ولو كان وهبها بعد الحول ثم رجع بقضاء أو غيره لا شيء عليه لو هلكت عنده بعد الرجوع لأن الرجوع فسخ من الأصل والنقود تتعين في مثله فعاد إليه قديم ملكه ثم هلك فلا ضمان ولو رجع بعد ما حال الحول عند الموهوب له فكذلك خلافا لزفر لو كان بغير قضاء فإنه يقول يجب على الموهوب له فإنه مختار فكان تمليكا
قلنا بل غير مختار لأنه لو امتنع عن الرد أجبر
وفي الوجه الثاني لو رد عبد الخدمة بعيب واسترد الألف لم يبرأ لو هلكت لأن وجوب الرد لم يتعلق بعين تلك الدراهم فلم يعد إليه قديم ملكه بخلاف ما لو كان اشترى العبد بعرض التجارة وحال حوله فرد بقضاء لأنه
____________________
(2/203)
عاد إليه قديم ملكه وإن كان بغير قضاء ضمن لأنه بيع جديد في حق الزكاة وعن هذا قلنا لو باع عبد الخدمة بألف فحال على الثمن الحول فرد بعيب بقضاء أو رضاء زكى الثمن لعدم التعين ولو باعه بعرض للتجارة فرد بعيب بعد الحول إن كان بقضاء لم يزك البائع العرض لأنه مضطر ولا العبد لأنه كان للخدمة وقد عاد إليه قديم ملكه وأن كان بلا قضاء لم يزك المشتري العرض وزكاه البائع لأنه كالبيع الجديد حتى يصير العبد الذي اشتراه للتجارة لأن الأصل كان للتجارة فكذا البدل فإن نوى فيه الخدمة كان زكاة العرض مضمونا عليه لأنه استهلكه حيث استبدله بغير مال التجارة والله سبحانه أعلم قوله وهو مالك للنصاب تنصيص على شرط جواز التعجيل فلو ملك أقل فجعل خمسة عن مائتين ثم تم الحول على مائتين لا يجوز وفيه شرطان آخران أن لا ينقطع النصاب في أثناء الحول فلو عجل خمسة من مائتين ثم هلك ما في بده إلا درهما ثم استفاد فتم الحول على مائتين جاز ما عجل بخلاف ما لو لم يبق الدرهم وأن يكون النصاب كاملا في آخر الحول فلو عجل شاة من أربعين وحال الحول وعنده تسعة وثلاثون فلا زكاة عليه حتى أنه إن كان صرفها للفقراء وقعت نفلا وإن كانت قائمة في يد الساعي أو الإمام أخذها ولو كان الأداء في آخر الوقت وقع عن الزكاة وإن انتقص النصاب بأدائه ذكره في النهاية نقلا من الإيضاح وهو في فصل الساعي خلاف الصحيح بل الصحيح فيما إذا كانت في يد الساعي وقوعها زكاة فلا يستردها كما في الخلاصة
رجل له مائتا درهم حال عليها الحول إلا يوما فعجل من زكاتها شيئا ثم حال الحول على ما بقي لا زكاة عليه وعلى هذا لو تصدق بشاة بنية الزكاة على الفقير من أربعين شاة فتم الحول لا تجوز عن الزكاة
أما لو عجل شاة عن أربعين إلى المصدق فتم الحول والشاة في يد المصدق جاز هو المختار لأن الدفع إلى المصدق لا يزيل ملكه عن المدفوع وبسطه في شرح الزيادات إذا عجل خمسة من مائتين فأما إن حال الحول وعنده مائة وخمسة وتسعون أو استفاد خمسة أخرى فحال على مائتين أو انتقص من الباقي درهم فصاعدا الفصل الأول إذا لم تزد ولم تنقص فإن كانت تلك الخمسة قائمة في يد الساعي فالقياس أن لا تجب الزكاة ويأخذ الخمسة من الساعي لأنها خرجت عن ملكه بالدفع إلى الساعي وإن لم تخرج فهي في معنى الضمار لأنه لا يملك الاسترداد قبل الحول
وفي الاستحسان تجب الزكاة لما ذكرنا أن يد الساعي في المقبوض يد المالك قبل الوجوب فقيامها في يده كقيامها في يد المالك ولأن المعجل يحتمل أن يصير زكاة فتكون يده يد الفقراء ويحتمل أن لا يصير زكاة فتكون يده يد المالك فاعتبرنا يده يد المالك احتياطا ولأن القول بنفي الوجوب يؤدي إلى المناقضة
بيانه أنا لو لم نوجب الزكاة بقيت الخمسة على ملك المالك فتبين أنه حال الحول والنصاب كامل فتجب الزكاة على عدم تقدير إيجاب الزكاة وإذا قلنا تجب مقصورا على الحال لا مستندا لأنه لو استند الوجوب إلى أول
____________________
(2/204)
الحول بقي النصاب ناقصا في آخر الحول فيبطل الوجوب وإنما لم يملك الاسترداد لأنه عينها زكاة من هذه السنة فمادام احتمال الوجوب قائما لا يكون له أن يسترد كمن نقد الثمن في بيع شرط الخيار للبائع لا يمكنه الاسترداد فالحاصل أنه تعلق حق الفقراء به مع بقاء ملك المالك ولهذا لم يصر ضمارا لأنه أعدها لغرض والمعد لغرض ليس ضمارا فجعلها ضمارا مبطل لغرضه وكذا لو كان الساعي استهلكها أو أنفقها على نفسه قرضا لأن بذلك وجب المثل في ذمته وذلك كقيام العين في يده وكذا لو أخذها الساعي عمالة لأن العمالة إنما تكون في الواجب لأن قبضه للواجب يكون للفقراء فيتحقق حينئذ سبب العمالة وما قبضه غير واجب
ولا يقال ما في ذمة الساعي دين وأداء الدين من العين لا يجوز
لأنا نقول هذا إذا كان الدين على غير الساعي أما إذا كان على الساعي فيجوز لأن حق الأخذ فلا يفيد الطلب منه ثم دفعها إليه وإن كان الساعي صرفها إلى الفقراء أو إلى نفسه وهو فقير لا تجب الزكاة لأن الساعي مأمور بالصرف إليهم ولو صرف المالك بنفسه يصير ملكا وينتقضصبه النصاب فكذلك هنا
ولو ضاعت من الساعي قبل الحول ووجدها بعده لا تجب الزكاة وللمالك أن يستردها كما لو ضاعت من يد المالك نفسه فوجده بعده وإنما يملك الاسترداد لأنه عينها لزكاة هذه السنة ولم تصر
قلت لأن بالضياع صار ضمارا فلو لم يستردها حتى دفعها الساعي إلى الفقراء لم يضمن إلا إن كان المالك نهاه
قيل هذا عندهما أما عند أبي حنيفة يضمن وأصله الوكيل بدفع الزكاة إذا أدى بعد أداء الموكل بنفسه يضمن عنده علم بأدائه أولا وعندهما لا إلا إن علمه
الفصل الثاني إذا استفاد خمسة فتم الحول على مائتين يصير المؤدي زكاة في الوجوه كلها من وقت التعجيل وإلا يلزم هنا كون الدين زكاة عن العين في بعض الوجوه ولا تجب عليه زكاة تلك الخمسة وإن كانت قائمة عند الساعي أما عند فلأنه لا يرى الزكاة في الكسور
وأما عندهما فلأنها ظهر خروجها من ملكه من وقت التعجيل وهذا التعليل إنما يخصهما في مثل هذه الصورة
فأما لو ملك مائتين فعجلهما كلها صح ولا يستردها قبل الحول كما في غيرها لاحتمال وقوعها زكاة بأن يستفيد قبل تمام الحول ثمانية آلاف فلو استفادها لا تجب زكاة هذه المائتين لهذه العلة بالانفاق
الفصل الثالث إذا انتقص عما في يده فلا تجب في الوجوه كلها فيسترد إن كانت في يد الساعي وإن استهلكها أو أكلها قرضا أو بجهة العمالة ضمن ولو تصدق بها على الفقراء أو نفسه وهو فقير لا يضمن لما قدمناه إلا إن تصدق بها بعد الحول فيضمن عنده علم بالنقصان أو لم يعلم وعندهما إن علم ولو كان نهاه ضمن عند الكل
واعلم أن ما ذكره في الفصل الأول من أن الساعي إذا أخذ الخمسة عمالة ثم حال الحول ولم يكمل النصاب في يد المالك تقع الخمسة زكاة بناء على وجوب الزكاة في هذه الصورة بسبب لزوم الضمان على الساعي لأنه لا عمالة في غير الواجب ذكر في مثله من السائمة خلافه بعد قريب وقال ما حاصله إذا عجل شاة عن أربعين فتصدق بها الساعي قبل الحول وتم الحول ولم يستفد شيئا يقع تطوعا ولا يضمن ولو باعها الساعي للفقراء وتصدق بثمنها فكذلك فإن كان الثمن قائما في يده يأخذ المالك لأنه بدل ملكه ولا تجب الزكاة لأن نصاب السائمة نقص قبل الحول ولا يكمل بالثمن فإن كانت الشاة قائمة
____________________
(2/205)
في يد الساعي صارت زكاة كما قدمنا لأن قيامها في يده كقيامها في يد المالك ولو كان الساعي أخذها من عمالته وأشهد إلى ذلك أو جعلها الإمام له عمالة فتم الحول وعند المالك تسعة وثلاثون والمعجل قائم في يد الساعي فلا زكاة عليه ويستردها لأنه لما أخذها من العمالة زالت عن ملكه فانتفضص النصاب فلا تجب الزكاة
وله أن يستردها لأنها في يده بسبب فاسد فإن كان الساعي باعها قبل الحول أو بعده فالبيع جائز كالمشتري شراء فاسدا إذا باع جاز بيعه ويضمن قيمتها للمالك ويكون الثمن له لأنه بدل ملكه
فإن قلت لم كان هذا الاختلاف قلت لأنه لما خرجت عن ملك المعجل بذلك السبب فحين ثم الحول يصير ضامنا بالقيمة والسائمة لا يكمل نصابها بالدين كما ذكرنا هذا ومهما تصدق الساعي مما عجل من نقد أو سائمة قبل الحول فلا ضمان عليه بل إما أن يقع نفلا إن لم يكمل أو بعضه إن كان عن نصب في يده فهلك بعضها أو قرضا أو بعده في موضع لا تجب الزكاة كما لو انتفص النصاب ضمن علم أو لا عند أبي حنيفة وعندهما لا يضمن إلا أن علم بالانتفاضصفإن كان المالك نهاه بعد الحول ضمن عند الكل وقبله لا قوله وفيه خلاف مالك وهو يقول الزكاة إسقاط الواجب ولا إسقاط قبل الوجوب وصار كالصلاة قبل الوقت بجامع أنه أداء قبل السبب إذ السبب هو النصاب الحولي ولم يوجد قلنا لا سلم اعتبار الزائد على مجرد النصاب جزءا من السبب بل هو النصاب فقط
والحول تأجيل في الأداء بعد أصل الوجوب فهو كالدين المؤجل وتعجيل الدين المؤجل صحيح فالأداء بعد النصاب كالصلاة في أول الوقت أصل الوجوب فهو كالدين المؤجل وتعجيل الدين لمؤجل صحيح فالأداء بعد النصاب كالصلاة في أول الوقت لا قبله وكصوم المسافر رمضان لأنه بعد السبب بخلاف العشر لا يجوز تعجيله لأنه يكون قبل السبب إذ السبب فيه الأرض النامية بالخارج تحقيقا فما لم يخرج بالفعل لا يتحقق السبب ويدل على صحة هذا الاعتبار ما في أبي داود والترمذي من حديث علي رضي الله عنه أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل زكاته قبل أن يحول عليه الحول مسارعة إلى الخير فأذن له في ذلك ولو سلم ما ذكر فصفة الحولي تستند إلى أول الحؤل لأنه ما حال عليه
والحول اسم لأوله إلى آخر ففي أوله يثبت جزء من السبب وقد ثبت الحكم في مثله عند وجود جزئه إذا كان الباقي مترقبا واقعا ظاهرا كالترخص في ابتداء السفر وفيه نظر إذ قد يقال على ما أوردناه فيما غير علة الرخصة قصد أقل السفر آخذا فيه لا وجود أقله فالترخيص في ابتدائه بعد تمام السبب وعلى أنا لا نجزم بوقوع المعجل زكاة في الحال بل ذلك موقوف إلى آخر الحول فإن تم والنصاب كامل تبين ذلك وإلا تبين أنه وقع نفلا قوله ويجوز التعجيل لأكثر من سنة وعليه يتفرع ما لو كان له أربعمائة فعجل عن خمسمائة ظانا أنها في ملكه له أن يحتسب الزيادة من السنة الثانية ولو حال على مائتين فأدى خمسة وعجل خمسة ثم استفاد عشرة جاز وقال زفر لا يجوز المعجل عن السنة الثانية لأنه لما تم الحول وجبت الزكاة فانتفضص النصاب فقد وجد الحول الثاني والنصاب منتفص
قلنا الوجوب يقارن دخوله الحول الثاني فيكون الانتفاص بعده فلم يمقع انعقاد الحول قوله ويجوز لنصب إذا كان في ملكه نصاب واحد وقال زفر لا يجوز إلا عما في ملكه وإلا لزم تقديم الحكم
____________________
(2/206)
على السبب
وجوابه أن النصاب الأول هو السبب الأصلي وما سواه تبع له فلم يتقدم السبب
وفيه أن يقال إن اعتبر سببا لوجوب عشرة مثلا فباطل وإلا لا يفيد وكونه الأصل بمعنى أول مكسوب لا يوجب لزوم هذا الاعتبار شرعا إلا بسمعي لكنه قد وجد فهو الدليل فلو ملك مائتين فجعل منها خمسة وعشرين عن ألف ثم استفادها فتم الحول وعنده ألف جاز عن الألف
وفي فتاوي قاضيخان لوكان له خمس من الإبل الحوامل يعني الحبالي فعجل شاتين عنها وعما في بطونها ثم نتجت خمسا قبل الحول أجزأه عما عجل وإن عجل عما تحمل في السنة الثانية لا يجوز اه
وقد يقال ليس في هذا أكثر من كونه عين المدفوع عنه ولو كان المدفوع عنه في يده فأخرج عنه عينا قدر زكاته وعنده من جنسه غيره أيضا لا يضر وبغوا تعيينه فكذا هذا إذ لا فرق سوى أن المخرج عنه معدوم في الحال وذلك لا يمنع الجواز لأن جواز التعجيل لنصب ليست في ملكه يستلزم جوازه والملزوم ثابت فكذا الآخر وإذ قد انسقنا إلى ذكر الأصل المذكور وهو أن التعيين في الجنس الواحد لغو فلنذكر من فروعه
رجل له ألف درهم بيض وألف سود فعجل خمسة وعشرين عن البيض فهلكت البيض قبل تمام الحول ثم تم لا زكاة عليه في السود ويكون المخرج عنها وكذا لو عجل عن السود فهلكت وتم على البيض ولو حال وهما عنده ثم ضاع أحد المالين كان نصف ما عجل عما بقي وعليه تمام زكاة ما بقي وكذا لو أدى عن أحدهما بعد الحول كان الأداء عنها
وفي النوادر خلاف هذا قال إذا عجل عن أحد المالين بعينه ثم هلك بعد الحول لا يجوز شيء من المعجل عن الباقي وعليه زكاته والظاهر الأول
ولو كان له ألف فعجل عشرين ثم حال الحول ثم هلك منها ثانمائة درهم وبقيت مائتا درهم فعليه درهم واحد لأن العشرين تشيع في الكل فيكون قد أعطى عن كل مائتين أربعة دراهم وبقي لكل مائتين درهم ولو هلكت الثمانمائة قبل الحول فلا شيء عليه لأنه تبين أنه لا زكاة عليه إلا في مائتين ولو كان له ألف درهم ومائة دينار فعجل عن الدنانير قبل الحول دينارين ونصفا ثم ضاعت قبل الحول وحال على الدراهم جاز ما عجل عن الدراهم إذا كان يساوي خمسة وعشرين درهما وإلا كمل وكذا لو عجل خمسة وعشرين عن الدراهم ثم هلكت جاز عن الدنانير بقيمته وإن لم يهلك أحدهما حتى حال الحول ثم هلك فالمال الذي عجل عنه كان المعجل عن المالين إلى آخر ما قدمنا في البيض والسود
وهذا بناء على اتحاد الجنس في النقدين بدليل ضم أحدهما إلى الاخر ليكمل النصاب بخلاف مالو كان له خمس من الإبل وأربعون من الغنم فعجل شاة عن أحد الصنفين ثم هلك لا يكون عن الآخر ولو كان له عين ودين فعجل عن العين فهلكت قبل الحول جاز عن الدين وإن هلكت بعده لا يقع عنه والله سبحانه أعلم
____________________
(2/207)
& باب زكاة المال
ما تقدم أيضا زكاة مال إلا أن في عرفنا يتبادر من اسم المال والنقد والعروض وقدم الفضة على الذهب اقتداء كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله لقوله عليه الصلاة والسلام ليس فيما دون خمس أواق صدقة أخرجه البخاري هكذا ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا فيما دون خمس ذود صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة وأخرجه مسلم ليس فيما دون خمس أواق من الورق الحديث
وقوله والأوقية أربعون درهما يحتمل أنه من كلام المصنف أخذا من تقدير أصدقة أزواجه عليه الصلا ة والسلام قالت عائشة كانت ثنتى عشرة أوقية ونشا فتلك خمسمائة قال أبو مسلمة قلت ما النش قالت نصف أوقية رواه مسلم ويحتمل أنه أراده من تمام الحديث وشاهده ما أخرجه الدارقطني عنه عليه الصلاة والسلام لا زكاة في شيء من الفضة حتى تبلغ خمس أواق والأوقية أربعون درهما مختصر وفيه يزيد بن سنان الرهاوي أبو فروة ضعف والأوقية أفعولة فتكون الهمزة زائدة وهي من الوقاية لأنها تقي صاحبها الحاجة
وقيل هي فعلية فالهمزة أصلية وهي من الأوق وهو الثقل ولم يذكر في نهاية ابن الأثير إلا الأول قال وهمزتها زائدة ويشدد الجمع ويخفف مثل أثفية وأثافي وأثاف وربما يجيء في الحديث وقية وليست بالعالية قوله فإذا كانت مائتي درهم الخ سواء كانت
____________________
(2/208)
مصكوكة أو لا وكذا عشرة المهر وفي غير الذهب والفضة لا تجب الزكاة مالم تبلغ فيمته نصابا مصكوكا من أحدهما لأن لزومها مبني على التقوم والعرف أن يقوم بالمصكوك وكذا نصاب السرقة احتياطا للدرء قوله كتب إلى معاذ الله تعالى أعلم به وإنما في الدارقطني أنه عليه الصلاة والسلام أمر معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن أن يأخذ من كل أربعين دينارا دينارا ومن كل مائتي درهم الحديث وهو معلول بعيد الله بن شبيب ولا يضر ذلك بالمدعي فإن أحاديث أخذ ربع العشر من الرقة مفسرة من كل أربعين درهما درهم كثيرة شهيرة قوله فزكاته بحسابه ففي الدرهم الزائد جزء من أربعين جزءا من درهم ومما يبني على هذا الخلاف لو كان له مائتان وخمسة دراهم مضى عليها عامان عنده عليه عشرة وعندهما خمسة لأنه وجب عليه في العام الأول خمسة وثمن فيبقى السالم من الدين في العام الثاني مائتان إلا ثمن درهم فلا تجب فيه الزكاة وعنده لا زكاة في الكسور فيبقى السالم مائتين ففيها خمسة أخرى قوله في حديث علي تقدم حديثه في زكاة العوامل والحوامل وفي أول كتاب الزكاة في مسئلة الحول قوله وبعد النصاب في السوائم الخ جواب عن مقدر هو أنه قد عفى بعد النصاب في السوائم أعداد فقال ذلك فيها تحرزا عن التشقيص أي إيجاب الشقص لما فيه من ضرر الشركة على الملاك وليس ذلك بلازم هنا قوله ولأبي حنيفة الخ روى الدارقطني عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن لا يأخذ من الكسور شيئا
____________________
(2/209)
وهو ضعيف بالمنهال بن الجراح
وأما ما نسبه المصنف إلى حديث عمرو بن حزم فقال عبد الحق في أحكامه روى أبو أويس عن عبد الله ومحمد بني أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيهما عن جدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب هذا الكتاب لعمرو بن حزم الحديث وذكر في الفضة فيه ليس فيها صدقة حتى تبلغ مائتي درهم فإذا بلغت مائتي درهم ففيه خمسة دراهم وفي كل أربعين درهما درهم وليس فيها دون الأربعين صدقة ولم يعزه عبد الحق لكتاب وكثيرا ما يفعل ذلك في أحكامه والموجود في كتاب ابن حزم عبد النسائي وابن حبان والحاكم وغيرهم وفي كل خمس أواق من الورق خمسة دراهم وما زاد ففي كل أربعين درهما درهم وروى ابن أبي شيبة قال حدثنا عبد الرحمن بن سليمان عن عاصم عن الحسن قال كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري فما زاد على المائتين ففي كل أربعين درهما درهم وتقدم في الحديث المصحح قوله صلى الله عليه وسلم هاتوا ربع العشور من كل أربعين درهما درهم فقوله من كل أربعين درهما درهم خرج تفسيرا لقوله هاتوا ربع العشور فيفيد هاتوا ربع العشور على هذا الوجه لأن هذه الجملة في موضع الحال من المفعول فتكون قيدا في عامله الذي هو الأمر بالإعطاء فيكون الوجوب على هذا الوجه
بقي أن يقال قصاراه أنه لم يتعرض للنفي عما دونها إلا بمفهوم الصفة ولا يعتبر عندنا أو بالإضافة إلى العدم الأصلي وحديث علي متعرض لإيجابه ولو اعتبر المفهوم كان المنطوق مقدما عند المعارضة خصوصا وفيه الاحتياط
فالأولى حينئذ إثبات المعارضة بين
____________________
(2/210)
حديث علي وحديث عمرو بن حزم وأثر عمر فإنهما يفيدان أن تمام حكم ما زاد أن يجب في كل أربعين درهم فلا يكون من حكم ما زاد خلاف ذلك وإلا لم يكن بيانا لحكم ما زاد بل لبعضه فإن قيل يحمل على إرادة ما زاد من الأربعينات دفعا للمعارضة
قلنا ليس بأولى من اعتبار مثله في حديث على بأن يحمل ما زاد فبحسابه أي مازاد من الأربعينات فبحساب الخمسة في المائتين وهو أن يكون فيها درهم
فإن قيل بل الحمل في معارض حديث علي أولى منه فيه لأنه موجب وذلك مسقط فيكون فيه الاحتياط وظن أن حديث معاذ نهى فيقدم غلط بأدنى تأمل لأنه إنما نهى المصدق وكلامنا فيما يرجع إلى رب المال وهو لس بمنهى أن يعطى بل الواقع في حقه تعارض السقوط والوجوب
قلنا ذلك لو لم يكن ملزوما للحرج العظيم والتعذر في بعضها في كثير من الصور وهو ما أشار إليه المصنف بقوله لتعذر الوقوف وذلك أنه إذا ملك مائتي درهم وسبعة دراهم وجب عليه على قولهما خمسة وسبعة أجزاء من أربعين جزءا من درهم فإذا لم يؤد حتى جاءت السنة الثانية كان الواجب عليه زكاة مائتي درهم ودرهم وزكاة ثلاثة وثلاثين جزءا من درهم وذلك لا يعرف ولأنه أوفق لقياس الزكوات لأنها تدور بعفو ونصاب قوله والمعتبر في الدرهم الخ هذا الاعتبار في الزكاة ونصاب الصدقة والمهر وتقدير الديات وإذ قد أخذ المثقال في تعريف الدرهم فلا بد من النظر فيه وظاهر كلام المصنف في صدقة الذهب أنه معروف
قال أبو عبيد في كتاب الأموال ولم يزل المثقال في آباد الدهر محدودا لا يزيد ولا ينقص
وكلام السجا وندى في كتاب قسمة التركات خلافه قال الدينار بسنجة أهل الحجاز عشرين قيراطا والقيراط خمسة شعيرات فالدينار عندهم مائة شعيرة وعند أهل سمرقند ستة وتسعون شعيرة فيكون القيراط عندهم طسوجا وخمسة
وذكر فيه أيضا في تحديد الدينار مطلقا فقال اعلم أن الدينار ستة دوانيق والدانق أربع طسوجات والطسوج حتان والحبة شعيرتان والشعيرة ستة خرادل والخردلة اثنا عشر فلسا والفلس ست فتيلات والفتيل ست نقيرات
____________________
(2/211)
والنقيرة ثمان قطيرات والقطميرة اثنتا عشرة ذرة انتهى
فإن كان المراد بالخرادل أو الشعيرة المعروف فلا حاجة إلى الاشتغال بتقدير ذلك وهو تعريف الدينار على عرف سمرقند وتعريف دينار الحجاز هو المقصود إذ الحكم خرج من هناك ويوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم المكيال مكيال أهل المدينة والوزن وزن أهل مكة لفظ النسائي عن أحمد بن سليمان ووثقه وإن لم يكن كذلك بل لهم فيه اصطلاح خاص فلم يحصل مما ذكره تحديد ولا تمييز عند العقل لأن الذرة حينئذ هي مبدأ ما يقدر به هذه المسميات الاصطلاحية ولا يعرف شخصها
وقد لا يقدر على الاعتبار بها لو عرف وأنت تعلم أن المقصود تقدير كمية شيء موجود ثابت والتوصل إلى ذلك لا يتوقف على هذه التكلفات مع أنه لم يحصل بذلك مقصود وغير واحد اقتصر على التقدير الأول والاقتصار على مثله لا يجوز في إفادة التقدير إلا أن يكون المراد الوسط بين الشعيرات المعروفة وإلا يكون تجهيلا ولو انتهى إلى الخرادل كان حسنا إذ لا يتفاوت آحاده وكذا بعض الأشياء وهذا كله على تقدير كون الدينار والمثقال مترادفين والظاهر أن المثقال اسم للمقدار المقدر به والدينار اسم للمقدر به بقيد ذهبيته وإذ قد عرفت هذا فقالوا كانت الدراهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف صنف كل عشرة وزن عشرة مثاقيل وصنف كل عشرة وزن خمسة وصنف كل عشرة بوزن ستة فلما وقع الخلاف في الإيفاء والاستيفاء وقيل أراد عمر أن يستوفي الخراج بالصنف الأول فالتمسوا التخفيف فجمع حساب زمانه فأخرجوا عشرة وزن سبعة وقيل أخذ عمر رضي الله عنه من كل صنف درهما فخلطه فجعله ثلاثة دراهم متساوية فخرج الدرهم أربعة عشر قيراطا كل عشرة وزن سبعة مثاقيل فبقي العمل عليها وجمع الناس عليها وهذا صريح في أن كون الدرهم بهذه الزنة لم تكن في زمنه صلى الله عليه وسلم ولا شك في ثبوت وجوب الزكاة في زمانه عليه الصلاة والسلام وتقديره لها واقتضاء عماله إياها خمسة من كل مائتين فإن كان المعين لوجوب الزكاة في زمانه الصنف الأعلى لم يجز النقص وإن كان ما دونه لم يجز تعيين هذه لأنها زيادة على المقدر توجب نفي الوجوب بعد تحققه لأنه على ذلك التقدير يتحقق في مائتين وزن خمسة أو ستة فالقول بعدم الوجوب مالم تبلغ وزن مائتين وزن سبعة ملزوم لما ذكرنا وظاهر كلام أبي عبيد في كتاب الأموال أن أيها وجد كانوا يزكونه قال كانت الدراهم قبل الأسلام كبارا وصغارا فلما جاء الإسلام وأرادوا ضرب الدراهم وكانوا يزكونها من النوعين فنظروا إلى الدرهم الكبير فإذا هو ثمانية دوانيق وإلى الدرهم الصغير فإذا هو أربعة دوانيق فوضعوا زيادة الكبير على نقصان الصغير فجعلوها درهمين سواء كل واحد ستة دوانيق ثم اعتبروها بالمثاقيل ولم يزل المثقال في آباد الدهر لا يزيد ولا ينقص فوجدوها عشرة من هذه وزن سبعة مثاقيل انتهى
وإنما سقنا بقيه كلامه ليظهر ما فيه من المخالفة لما تقدم ويقتضي أن النصاب ينعقد من الصغار وهو الحق لأنهم لم يختلفوا في تفاوت الدراهم صغرا وكبرا في زمانه صلى الله عليه وسلم فبالضرورة تكون الأوقية مختلفة أيضا بالصغر والكبر وقد أوجب عليه الصلاة والسلام في
____________________
(2/212)
خمس أواق الزكاة مطلقا من غير تقييد بصنف فإذا صدق على الصغيرة خمس أواق وجب فيها الزكاة بالنص ويؤيده نقل أبي عبيد أنهم كانوا يزكون النوعين وعن هذا والله أعلم ذهب بعضهم إلى أن المعتبر في حق كل أهل بلد دراهمهم
ذكره قاضيخان إلا أني أقول ينبغي أن يقيد بما إذا كانت دراهمهم لا تنقص عن أقل ما كان وزنا في زمنه عليه الصلاة والسلام وهي ما تكون العشرة وزن خمسة لأنها أقل ما قدر النصاب بمائتين منها حتى لا تجب في مائتي من الدراهم المسعودية الكائنة بمكة مثلا وإن كانت دراهم قوم وكأنه أعمل إطلاق الدراهم والأواقي في الموجود وما يمكن أن يوجد ويستحدث ونحن أعملناه في الموجود لأن الظاهر أن الإشارة بالكلام إلى ما هو المعهود الثابت والله أعلم
فإن لم يكن لهم دراهم إلا كبيرة كوزن سبعة فالاحتياط على هذا أن تزكي وزن عشرة أو أقل مما يزيد على وزن سبعة وجب الزكاة في أقل من مائتين منها بحساب وزن السبعة
وعن هذا قال في الغاية دراهم مصر أربعة وستون حبة وهو أكبر من درهم الزكاة فالنصاب منه مائة وثمانون وحبتان انتهى
فإن مقدار لم يثبت أن درهم الزكاة مقدر شرعا بما هو وزن سبعة بل أقل منه لما قلنا وجب أن يعتبر الأقل في الدراهم الكبيرة فتزكي إذا بلغت قدر مائتين من الصغار والله سبحانه أعلم
ثم ذكر في الغاية من دراهم مصرفيه نظر على ما اعتبروه في درهم الزكاة لأنه إن أراد بالحبة الشعيرة فدرهم الزكاة سبعون شعيرة إذ كان العشرة وزن سبعة مثاقيل والمثقال مائة شعيرة على ما قدمناه فهو إذا أصغر لا أكبر وإن أراد بالحبة أنه شعيرتان كما وقع تفسيرها في تعريف السجاوندي الطويل فهو خلاف الواقع إذ الواقع أن درهم مصر لا يزيد على أربع وستين شعيرة لأن كل ربع منه مقدر بأربع خرانيب والخرنوبة مقدرة بأربع قمحات وسط قوله فهو فضة أي فتجب فيه الزكاة كأنه كله فضة لا زكاة العروض ولو كان أعدها للتجارة بخلاف ما إذا كان العش غالبا فإن نواها للتجارة اعتبرت قيمتها وإن لم ينوها فإن كانت بحيث يتخلص منها فضة تبلغ نصابا وحدها أو لا تبلغ لكن عنده ما يضمه
____________________
(2/213)
إليها فيبلغ نصابا وجب فيها لأن عين النقدين لا يشترط فيهما نية التجارة ولا القيمة وإن لم يخلص فلا شيء عليه لأن الفضة هلكت فيه إذ لم ينتفع بها حالا ولا مآلا فبقي العبرة للغش وهي عروض يشترط في الوجوب فيها نية التجارة وعلى هذا التفصيل الذهب المغشوش وإذا استوى الغش فيهما قيل تجب فيه احتياطا وقيل لا تجب وقيل يجب درهمان ونصف كذا حكاه بعضهم
ولا يخفى أن المراد بقول الوجوب أنه تجب في الكل الزكاة ففي مائتين خمسة دراهم كأنها كلها فضة ألا ترى إلى تعليله بالاحتياط وقول النفي معناه لا تجب كذلك
والقول الثالث لا بد من كونه على اعتبار أن يخلص وعنده ما يضمه إليه فيخصه درهمان ونصف وحينئذ فليس في المسئلة إلا قولان لأن على هذا التقدير لا يخالف فيه أحد فحكاية ثلاثة أقوال غير واقع والذهب المخلوط بالفضة إن بلغ الذهب نصابا ففيه زكاة الذهب وإن بلغت الفضة نصابها فزكاة الفضة لكن إن كانت الغلبة للفضة أما إن كانت مغلوبة فهو كله ذهب لأنه أعز وأغلى قيمة كذا ذكر والله سبحانه أعلم فصل في الذهب
قوله لما روينا يعني حديث معاذ المتقدم في صدقة الفضة وتقدم ما فيه ولا يضر ذلك بالدعوى فقد تقدم حديث علي في الذهب
وأخرج الدارقطني من حديث عائشة وابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ من كل عشرين دينارا نصف دينار ومن الأربعين دينارا دينارا وهو مضعف بإبراهيم بن إسماعيل بن مجمع
وأخرج أبو أحمد بن زنجويه في كتاب الأموال بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون المائتين شيء ولا فيما دون عشرين مثقالا من الذهب شيء وفي المائتين خمسة دراهم وفي عشرين مثقالا نصف مثقال وفيه العزرمي تقدم الكلام فيه وتقدم في حديث عمرو بن حزم في فصل الإبل قوله عليه الصلاة والسلام وفي كل أربعين دينارا دينار وهو حديث لا شك في ثبوته على ما قدمناه
____________________
(2/214)
قوله والمثقال ما يكون الخ قيل هو دور لأنه أخذ كلا من المثقال والدرهم في تعريف آخر فتوقف تصور كل منهما على تصور الآخر
وجوابه أنه لم يذكر هذا تعريفا لأنه قال وهو المعروف فأفاد أن المثقال المعروف الذي تداوله الناس وعرفوه مثقالا وهذا تصريح بأنه لا حاجة إلى تعريفه كما لا يعرف ماهو بديهي التصور إذ تحصيل الحاصل محال فكان قوله والمثقال ما يكون كل سبعة منها وزن عشرة إنما هو لإزالة توهم أن يراد بالمثقال غير المذكور في تعريف الدرهم فحاصل كلامه حينئذ أنه قال والمراد بهذا المثقال ذاك الذي تقدم وهو المعروف عند الناس لا شيء آخر وهذا إن شاء الله تعالى أحسن مما حاول في النهاية وغيرها من الدفع مما لو أوردته أدى إلى طول مع أنه لا يتم بأدنى تأمل قوله وكل دينار عشرة دراهم في الشرع أي مقوم في الشرع بعشرة كذا كان في الابتداء فإذا ملك أربعة دنانير فقد ملك ما قيمته أربعون درهما مما لا يتوقف الوجوب فيه على نية التجارة فيجب فيه قدر الدرهم وهو قيراطان بناء على اعتبار الدينار عشرين قيراطا فلا يرد ما أورده بعضهم عليه في هذا المقام قوله وحليهما سواء كان مباحا أو لا حتى يجب أن يضم الخاتم من الفضة وحلية السيف والمصحف وكل ما انطلق عليه الاسم قوله فشابه ثياب البذلة حاصله قياس الحلى بثياب البذلة بجامع الابتذال في مباح ودفعه اعتبار ما عينه مانعا من الوجوب في الفرع وإن كان مانعا في الأصل وذلك لأن مانعيته في الأصل بسبب أنه يمنع وجود السبب بمنع جزئه أعنى النماء لا لذاته ولا لأمر آخر ومنعه ذلك في النقدين منتف لأنهما خلقا ليتوصل بهما إلى الإبذال وهذا معنى الاستنماء فقد خلقا للاستنماء ولم يخرجهما الابتذال عن ذلك فالنماء التقديري حاصل وهو المعتبر للإجماع على عدم توقف الوجوب على الحقيقي وإذا انتفت مانعيته عمل السبب عمله وهذا معنى ما في الكتاب ثم المنقولات من العمومات والخصوصات تصرح به فمن ذلك حديث علي عنه عليه الصلاة والسلام هاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهم رواه أصحاب السنن الأربعة وغيره كثير
ومن الخصوصات
____________________
(2/215)
ما أخرج أبو داود والنسائي أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد بنتها مسكتان غليظتان من ذهب فقال لهما أتعطين زكاة هذا قالت لا قال أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارا من نار قال فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت هما لله ورسوله قال أبو الحسن بن القطان في كتابه إسناده صحيح
وقال المنذري في مختصره إسناده لا مقال فيه ثم بينه رجلا رجلا
وفي رواية الترمذي عن ابن لهيعة قال أتت امرأتان فساقه وفيه أتحبان أن يسوركما الله بسوارين من نار قالتا لا قال فأديا زكاته وتضعيف الترمذي وقوله لا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء مؤول وإلا فخطأ
قال المنذري لعل الترمذي قصد الطريقين اللذين ذكرهما وإلا فطريق أبي داود لا مقال فيها
وقال ابن القطان بعد تصحيحه لحديث أبي داود وإنما ضعف الترمذي هذا الحديث لأن عنده فيه ضعيفين ابن لهيعة والمثنى ابن الصباح
ومنها ما أخرج أبو داود عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال دخلنا على عائشة رضي الله عنها قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات ورق فقال ما هذا يا عائشة فقلت صغتهن لأتزين لك بهن يا رسول الله قال أفتؤدي زكاتهن فقلت لا فقال هن حسبك من النار وأخرجه الحاكم وصححه وأعله الدارقطني بأن محمد بن عطاء مجهول وتعقبه البيهقي وابن القطان بأنه محمد بن عمرو بن عطاء أحد الثقات ولكن لما نسب في سند الدارقطني إلى جده ظن أنه مجهول وتبعه عبد الحق وقد جاء مبينا عند أبي داود بينه شيخه محمد بن إدريس الرازي وهو أبو حاتم الرازي إمام الجرح والتعديل
ومنها ما أخرج أبو داود عن عتاب بن بشير عن ثابت بن عجلان عن عطاء عن أم سلمة قالت كنت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت يا رسول الله أكنز هو فقال ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز وأخرجه الحاكم في المستدرك عن محمد ابن مهاجر عن ثابت به وقال صحيح على شرط البخاري ولفظه إذا أديت زكاته فليس بكنز قال البيهقي تفرد به ثابت بن عجلان
قال صاحب تنقيح التحقيق وهذا لا يضر فإن ثابت بن عجلان روى له البخاري ووثقه ابن معين
وقول عبد الحق لا يحتج به قول لم يقله غيره
وممن أنكر عليه ذلك الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد ونسبه في ذلك إلى التحامل وقول ابن الجوزي محمد بن المهاجر
قال ابن حبان يضع الحديث على الثقات
قال صاحب التنقيح فيه هذا وهم قبيح فإن محمد بن المهاجر الكذاب ليس هو هذا فهذا الذي يروي عن ثابت بن عجلان ثقة شامي أخرج له مسلم ووثقه أحمد وابن معين وأبو زرعة ودحيم وأبو داود وغيرهم
وعتاب بن بشير وثقه ابن معين وروى له البخاري متابعة
وأما ما روى من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس في الحلى زكاة قال البيهقي باطل لا أصل له إنما يروى عن جابر من قوله وأما الآثار المروية عن ابن عمر وعائشة وأسماء بنت الصديق فموقوفات ومعارضات بمثلها عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما أن مر من قبلك من نساء المسلمين أن يزكين حليهن ولا يجعلن الزيادة
____________________
(2/216)
والهدية بينهن تقارضا
رواه ابن أبي شيبة وعن ابن مسعود قال في الحلى الزكاة رواه عبد الرزاق
وعن عبد الله بن عمرو أنه كان يكتب إلى خازنه سالم أن يخرج زكاة حلى بناته كل سنة
رواه الدارقطني وروى ابن أبي شيبة عنه أنه كان يأمر نساءه أن يزكين حليهن
وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وطاوس وعبد الله بن شداد أنهم قالوا في الحلى الزكاة زاد بن شداد حتى في الخاتم
وأخرج عن عطاء أيضا وإبراهيم النخعي أنهم قالوا مضت السنة أن في الحلى والذهب والفضة الزكاة
وفي المطلوب أحاديث كثيرة مرفوعة غير أنا اقتصرنا منها على مالا شبهة في صحته والتأويلات المنقولة عن المخالفين مما ينبغي صون النفس عن أخطارها والالتفات إليها
وفي بعض الألفاظ ما يصرح بردها والله سبحانه أعلم
واعلم أن مما يعكر على ما ذكرنا ما في الموطأ عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عائشة رضي الله عنها كانت تلى بنات أخيها يتامى في حجرها فلا تخرج من حليهن الزكاة وعائشة راوية حديث الفتخات وعمل الراوي بخلاف ما روى عندنا بمنزلة روايته للناسخ فيكون ذلك منسوخا
ويجاب عنه بأن الحكم بأن ذلك للنسخ عندنا هو إذا لم يعارض مقتضى النسخ معارض يقتضي عدمه وهو ثابت هنا فإن كتابة عمر إلى الأشعري تدل على أنه حكم مقرر وكذا من ذكرناه معه من الصحابة
فإذا وقع التردد في النسخ والثبوت متحقق لا يحكم بالنسخ هذا كله على رأينا
وأما على رأي الخصم فلا يرد ذلك أصلا إذ قصارى فعل عائشة قول صحابي وهو عنده ليس بحجة لو لم يكن معارضا بالحديث المرفوع وعمل الراوي بخلاف روايته لا يدل على النسخ بل العبرة لما روى لا لما رأى عنده
ولا يقال إنما لم تؤد من حليهن لأنهن يتامى ولا زكاة على الصبي لأن مذهبها وجوب الزكاة مال الصبي فلذا عدلنا في الجواب إلى ما سمعت والله سبحانه أعلم
هذا ويعتبر في المؤدي الوزن عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد الخيرية وعند زفر القيمة فلو أدى عن خمسة جياد خمسة زيوفا جاز عند أبي حنيفة وأبي يوسف وكره ولا يجوز عند محمد وزفر فيؤدي الفضل ولو أدى أربعة جيدة عن خمسة رديئة لا يجوز إلا عن أربعة عند الثلاثة لاعتبار محمد الخيرية واعتبارهما القدر ويجوز عند زفر للقيمة والله أعلم فصل في العروض
العروض جمع عرض بفتحتين حطام الدنيا كذا في المغرب والصحاح والعرض بسكون الراء المتاع وكل شيء فهو عرض سوى الدراهم والدنانير وقال أبو عبيد العروض الأمتعة التي لا يدخلها كيل ولا وزن ولا يكون حيوانا ولا عقارا فعلى هذا جعلها هنا جمع عرض بالسكون أولى لأنه في بيان حكم الأموال التي هي غير النقدين والحيوانات كذا في النهاية قوله غير النقدين والحيوان ممنوع بل في بيان أموال التجارة حيوانا
____________________
(2/217)
أو غيره على ما تقدم من أن السائمة المنوية للتجارة تجب فيها زكاة التجارة سواء كانت من جنس ما تجب فيه زكاة السائمة كالإبل أو لا كالبغال والحمير فالصواب اعتبارها هنا جمع عرض بالسكون على تفسير الصحاح فتخرج النقود فقط لا على قول أبي عبيد وإياه عنى في النهاية بقوله وعلى هذا فإنه فرع عليه إخراج الحيوان قوله كائنة ما كانت كائنة نصب على الحال من عروض التجارة ولفظ ما موصول خبرها واسمها المستتر فيها الراجع إلى عروض التجارة وكانت صلة ما واسمها المستتر الراجع إلى العروض أيضا وخبرها محذوف وهو المنصوب العائد على الموصول تقديره كائنة أو كانت إياه على الخلاف في الأولى في هذا الضمير من وصله أو فصله والمعنى كائنة الذي كانت إياه من أصناف الأموال والذي عام فهو كقوله كائنة أي شيء كانت أياه
قوله لقوله عليه الصلاة والسلام يقومها الخ غريب وفي الباب أحاديث مرفوعة وموقوفة فمن المرفوعة ما أخرجه أبو داود عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعد للبيع اه
سكت عليه أبو داود ثم المنذري وهذا تحسين منهما وصرح ابن عبد البر بأن إسناده حسن وقول عبد الحق خبيب بن سليمان الواقع في سنده ليس بمشهور ولا يعلم روى عنه إلا جعفر بن سعد وليس جعفر ممن يعتمد عليه لا يخرج حديثه عن الحسن فإن نفي الشهرة لا يستلزم ثبوت الجهالة ولذلك روى هو نفسه حديثه في كتاب الجهاد من كتم غالا فهو مثله عن خبيب بن سليمان وسكت عنه وهذات صحيح منه وبهذا تعقبه ابن القطان
ومنها في المستدرك عن أبي ذر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الإبل صدقتها وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته ومن رفع دراهم أو دنانير أو تبرا أو فضة لا يعدها لغريم ولا ينفقها في سبيل الله فهو كنز يكوى به يوم القيامة صححه الحاكم
وأعله الترمذي عن البخاري بأن بن جريج لم يسمع من عمران بن أبي أنس وتردد الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في الإمام في أنه بالزاي أو الراء بناء على أنه رآه في أصل من نسخ المستدرك بضم الباء فلا يكون فيه دليل على زكاة التجارة لكن صرح النووي في تهذيب الأسماء واللغات أنه بالزاي وأن بعضهم صحفه بالراء وضم الباء اه
وقد رواه الدارقطني من طريقين في رواية وفي البز صدقة قالها بالزاي هكذا مصرحا في الرواية غير أنها ضعفت قوله وتشترط نية التجارة لأنه لما لم تكن للتجارة خلقة فلا يصير لها إلا بقصدها فيه وذلك هو نية التجارة فلو اشترى عبدا مثلا للخدمة ناويا بيعه إن وجد ربحا لا زكاة فيه ولا بد من كونه مما يصح فيه نية التجارة كما قدمنا فلو اشترى أرضا خراجية للتجارة ففيها الخراج ولا الزكاة ولو كانت عشرية فزرعها حكى صاحب الإيضاح أن عند محمد يجب العشر والزكاة وعندهما العشر فقط
واعلم أن نية التجارة في الأصل تعتبر ثابتة في بدله وإن لم يتحقق شخصها فيه
____________________
(2/218)
وهو مما يلغز فيقال عرض اشترى من غير نية التجارة يجب عند الحول تقويمه وزكاته وهو ما قويض به مال التجارة فإنه يكون للتجارة وإن لم تنو فيه لأن حكم البدل حكم الأصل مالم يخرجه بنية عدمها وعن هذا لو كان العبد للتجارة فقتله عبد خطأ ودفع به يكون المدفوع للتجارة بخلاف مالو كان القتل عمدا فصولح من القصاص على القاتل لا يكون للتجارة لأنه بدل القصاص لا المقتول على ما عرف من أصلنا أن موجب العمد القصاص عينا لا أحد الأمرين منه ومن الدية ولو ابتاع مضارب عبدا وثوبا له وطعاما وحمولة وجبت الزكاة في الكل وإن قصد غير التجارة لأنه لا يملك الشراء إلا للتجارة بخلاف رب المال حيث لا يزكي الثوب والحمولة لأنه يملك الشراء لغير التجارة كذا في الكافي ومحمل عدم تزكية الثوب لرب المال ما دام لم يقصد بيعه معه فإنه ذكر في فتاوي قاضيخان النخاس إذا اشترى دواب للبيع واشترى لها مقاود وجلالا فإن كان لا يدفع ذلك مع الدابة إلى المشتري لا زكاة فيها وإن كان يدفعها معها وجب فيها وكذا العطار إذا اشترى قوارير قوله يقومها أي المالك في البلد الذي فيه المال حتى لو كان بعث عبد التجارة إلى بلد أخرى لحاجة فحال الحول يعتبر قيمته في ذلك البلد ولو كان في مفازة تعتبر قيمته في أقرب الأمصار إلى ذلك الموضع كذا في الفتاوي
ثم قول أبي حنيفة فيه أنه تعتبر القيمة يوم الوجوب وعندهما يوم الأداء والخلاف مبني على أن الواجب عندهما جزء من العين وله ولاية منعها إلى القيمة فتعتبر يوم المنع كما في منع الوديعة وولد المغصوب وعنده الواجب أحدهما ابتداء ولذا يجبر المصدق على قبولها فيستند إلى وقت ثبوت الخيار وهو وقت الوجوب
ولو كان النصاب مكيلا أو موزونا أو معدودا كان له أن يدفع ربع عشر عينه في الغلاء والرخص اتفاقا فإن أحب إعطاء القيمة جرى الخلاف حينئذ وكذا إذا استهلك ثم تغير لأن الواجب مثل في الذمة فصار كأن العين قائمة ولو كان نقصان السعر لنقص في العين بأن ابتلت الحنطة اعتبر يوم الأداء اتفاقا لأنه هلاك بعض النصاب بعد الحول أو كانت الزيادة لزيادتها اعتبر يوم الوجوب اتفاقا لأن الزيادة بعد الحول لا تضم نظيره أعورت أمة التجارة مثلا بعد الحول فانتقصت قيمتها تعتبر قيمتها يوم الأداء أو كانت عوراء فانجلى البياض بعده فازدادت قيمتها اعتبر يوم تمام الحول قوله وتفسير الأنفع أن يقومها بما بلغ نصابا صرح المصنف باختلاف الرواية وأقوال الصاحبين
____________________
(2/219)
في التقويم أنه بالأنفع عينا أو بالتخيير أو بما اشترى به إن كان من النقود وإلا فبالنقد الغالب أو بالنقد الغالب مطلقا
ثم فسر الأنفع الذي هو أحدها بأن يقوم بما يبلغ نصابا ومعناه أنه إذا كان بحيث إذا قومها بأحدهما لا تبلغ نصابا والآخر تبلغ تعين عليه التقويم بما يبلغ فأفاد أن باقي الأقوال يخالف هذا وليس كذلك بل لا خلاف في تعين الأنفع بهذا المعنى على ما يفيده لفظ النهاية والخلاصة
قال في النهاية في وجه هذه الرواية إن المال كان في يد المالك ينتفع به زمانا طويلا فلا بد من اعتبار منفعة الفقراء عند التقويم ألا ترى أنه لو كان يقومه بأحد النقدين يتم النصاب وبالآخر لا فإنه يقومه بما يتم به النصاب بالاتفاق فهذا مثله انتهى
وفي الخلاصة قال إن شاء قومها بالذهب وإن شاء بالفضة وعن أبي حنيفة أنه يقوم بما هو الأنفع للفقراء
وعن أبي يوسف يقوم بما اشترى هذا إذا كان يتم النصاب بأيهما أقوم فلو كان يتم بأحدهما دون الآخر قوم بما يصير به نصابا انتهى
فإنما يتجه أن يجعل ما فسر به بعض المراد بالأنفع فالمعنى يقوم المالك بالأنفع مطلقا فليتعين ما يبلغ به نصابا دون ما لايبلغ فإن بلغ بكل منهما وأحدهما أروح تعين التقويم بالأروج وإن استويا رواجا حيئنذ يخير المالك كما يشير إليه لفظ الكافي فإنه إذا كان الأنفع بهذا المعنى صح حينئذ أن يقابله القول بالتخيير مطلقا والقول المفصل بين أن يكون اشتراه بأحد النقدين فيلزم التقويم به أولا فبالنقد الغالب وقد يقال على كل تقدير لا يصح مقابلته بقول محمد إنه يقوم بالنقد الغالب على كل حال بعد الاتفاق على تعيين ما يبلغ به النصاب لأن المتبادر من كون النقد أروج كونه أغلب وأشهر حتى ينصرف المطلق في البيع إليه ولا يدفع إلا بأن الأروج ما الناس له أقبل وإن كان الآخر أغلب أي أكثر ويكون سكوته في الخلاصة عن ذكر قول محمد اتفاقا لا قصدا إليه لعدم خلافه هذا والمذكور في الأصل المالك بالخيار إن شاء قومها بالدراهم وإن شاء بالدنانير من غير ذكر خلاف فلذا أفادت عبارة الخلاصة التي ذكرناها والكافي أن اعتبار الأنفع رواية عن أبي حنيفة وجمع بين الروايتين بأن المذكور في الأصل من التخيير هو ما إذا كان التقويم بكل منهما لا يتفاوت قوله لأنه أبلغ في معرفة المالية لأنه بدله وللبدل حكم المبدل وجه قول محمد أن العرف صلح معينا وصار كما لو اشترى بنقد مطلق ينصرف إلى النقد الغالب ولأن التقويم في حق الله يعتبر بالتقويم في حق العباد ومتى قومنا المغصوب أو المستهلك تقوم بالنقد الغالب كذا هذا قوله فنقصانه فيما بين ذلك لا يسقط الزكاة حتى لو بقي
____________________
(2/220)
درهم أو فلس منه ثم استفاد قبل فراغ الحول حتى تم على نصاب زكاة وشرط زفر كماله من أول الحول إلى آخره وبه قال الشافعي في السوائم والنقدين وفي غيرهما اعتبر آخر فقط
وجه قول زفر أن السبب النصاب الحولي وهو الذي حال عليه الحول وهذا فرغ بقاء اسمه في تمام الحول وهذ وجه قول الشافعي أيضا إلا أنه أخرج مال التجارة للحرج اللازم من إلزام التقويم في كل يوم واعتبارها فيه
قلنا لم يرد من لفظ الشارع السبب النصاب الحول بل لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول وبظاهره نقول وهو إنما يفيد نفي الوجوب قبل الحول لا نفي سببية المال قبله ولا تلازم بين انتفاء وجوب الأداء على التراخي وانتفاء السبية بل قد تثبت السببية مع انتفاء وجوب الأداء لفقد شرط عمل السبب فيكون حينئذ أصل الوجوب مؤجلا إلى تمام الحول كما في الدين المؤجل وإذا كان السبب قائما في أول الحول انعقد الحول حينئذ ولا ينعقد إلا في محل الحكم وهو النصاب ثم الحاجة بعد ذلك إلى كماله إنما هو عند تمام الحول لينزل الحكم الآخر وهو وجوب الأداء وكماله فيما بينهما في غير محل الحاجة فلا يشترط وصار كاليمين بطلاقها يشترط قيام الملك عند اليمين لينعقد وعند الشرط فقط ليثبت الجزاء لا فيما بين ذلك إذ لا حاجة إليه بخلاف ما إذا هلك كله لما ذكر في الكتاب وهو ظاهر وجعل السائمة علوفة كهلاك الكل لورود المغير على كل جزء منه بخلاف النقصان في الذات
ومن فروع المسئلة ما إذا كان له غنم للتجارة تساوي نصابا فماتت قبل الحول فسلخها ودبغ جلدها فتم الحول كان عليه فيها الزكاة إن بلغت نصابا ولو كان له عصير للتجارة فتخمر قبل الحول ثم صار خلا يساوي نصابا فتم الحول لا زكاة فيه قالوا لأن في الأول الصوف الذي على الجلد متقوم فيبقى الحول ببقائه
والثاني بطل تقوم الكل بالخمرية فهلك كل المال انتهى إلا أنه يخالف ما روى ابن سماعة عن محمد اشترى عصيرا بمائتي درهم فتخمر بعد أربعة أشهر فلما مضت سبعة أشهر أو ثمانية أشهر إلا يوما صار خلا يساوي مائتي درهم فتمت السنة كان عليه الزكاة لأنه عاد للتجارة كما كان قوله ويضم الخ حاصله أن عروض التجارة يضم بعضها إلى بعض بالقيمة وإن اختلفت أجناسها وكذا تضم هي إلى النقدين بالإجماع والسوائم المختلفة الجنس لا تضم باإجماع كالإبل والغنم والنقدان يضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب عندنا خلافا للشافعي رحمه الله
ثم اختلف علماؤنا في كيفية الضم فيهما على ما نذكر ثم إنما يضم المستفاد قبل الوجوب فلو أخر الأداء فاستفاد بعد الحول لا يضمه عند الأداء ويضم الدين إلى العين
____________________
(2/221)
فلو كان عنده مائة وله دين مائة وجب عليه الزكاة
وقوله كما في السوائم إفادة للقياس المذكور بجامع اختلاف الجنس حقيقة وهو ظاهر وحكما بدليل عدم جريان ربا الفضل بينهما مع كون الربا يثبت بالشبهة فاستفدنا عدم اعتبار شبهة اتحاد الجنس بينهما والاتحاد من حيث الثمنية لا يوجب اتحاد الجنس كالركوب في الدواب بخلاف ضم العروض إليهما لأنه ضم ذهب وفضة لأن وجوب لزكاة في العروض باعتبار القيمة والقيمة هما فالضم لم يقع إلا في النقود قلنا إنما كانا نصاب الزكاة بسبب وصف الثمنية لأنه المفيد لتحصيل الأغراض وسد الحاجات لا 4 لخصوص اللون أو الجوهر وهذا لأن ثبوت الغنا وهو السبب في الحقيقة إنما هو بذلك لا بغيره وقد اتحدا فيه فكانا جنسا واحدا في حق الزكاة وإن لم يعتبر الاتحاد في حق غيره من الأحكام كالتفاضل في البيع فحقيقة السبب الثمن المقدر بكذا إذا كان بصورة كذا وبكذا إذا كان بصورة كذا بخلاف الركوب فإنه ليس المحقق للسببية في السوائم فإن الغنا لم يثبت باعتباره بل باعتبار ماليتها المشتملة على منافع شتى تستد بها الحاجات أعظمها منفعة الأكل التي بها يقوم ذات المنتفع ونفسه ثم فيه ما ذكره مشايخنا عن بكير بن عبد الله بن الأشج قال من السنة أن يضم الذهب إلى الفضة لإيجاب الزكاة وحكم مثل هذا الرفع قوله وعندهما بالإجزاء بأن يعتبر تكامل أجزاء النصاب من الربع والنصف وباقيها فإذا كان من الذهب عشرة يعتبر معه نصف نصاب الفضة وهو مائة فلو كان له مائة وخمسة مثاقيل تبلغ مائة لا زكاة عندهما لأن المائة نصف نصاب والخمسة ربع نصاب فالحاصل أجزاء ثلاثة أرباع نصاب وعنده تجب لأن الحاصل تمام نصاب الفضة معنى ثم قال في الكافي ولا تعتبر القيمة عند تكامل الأجزاء كمائة وعشرة دنانير لأنه متى انتفص قيمة أحدهما تزداد قيمة الاخر فيمكن تكميل ما ينتقص قيمته بما زاد انتهى
ولا يخفى أن مؤدي الضابط أن عند تكامل الأجزاء لا تعتبر القيمة أصلا لهما ولا لأحدهما حتى تجب خمسة في مائة وعشرة دنانير سواء كانت قيمة العشرة أقل من مائة خلافا لبعضهم أو أكثر كمائة وثمانين
والتعليل المذكور لا يلاقي الضابط على هذا الوجه بل إنما يفيد وجوب باعتبار قيمة
____________________
(2/222)
ما زاد عند انتفاص أحدهما بعينه دفعا لقول من قال في مائة وعشرة لا تساوي مائة لا زكاة فيها عند أبي حنيفة رضي الله عنه لأنه لا يعتبر القيمة وعلى اعتبارها لا يتم النصاب على هذا التقدير فدفع لأنه ليس بلازم من مطلق اعتبار القيمة اعتبار قيمة أحدهما عينا فإن لم يتم باعتبار قيمة الذهب بالفضة فإنه يتم باعتبار تقويم الفضة بالذهب فإذا فرض أن العشرة تساوي ثمانين فالمائة من الفضة تساوي اثني عشر دينارا ونصفا فيتم بذلك مع العشرة دنانير اثنان وعشرون دينارا ونصف فتجب الزكاة
وحاصل هذا أنه تعتبر القيمة من جهة كل من النقدين لا من جهة أحدهما عينا فكيف يكون تعليلا لعدم اعتبار القيمة مطلقا عند تكامل الأجزاء
وعلى هذا فلو زادت قيمة أحدهما ولم تنقص قيمة الآخر كمائة وعشرة تساوي مائة وثمانين ينبغي أن تجب سبعة على قوله وهو الظاهر من المذكور في دليله من أن الضم ليس إلا للمجانسة وإنما هي باعتبار المعنى وهو القيمة لا باعتبار الصورة فيضمان بالقيمة فإنه يقتضي تعين الضم بها مطلقا عند تكامل الأجزاء وعدمه ثم لم يتعرض المصنف للجواب عما استدلا به من مسئلة المصوغ على أن المعتبر شرعا هو القدر فقط
والجواب أن القيمة فيهما إنما تظهر إذ قوبل أحدهما بالآخر أو عند الضم لما قلنا أنه بالمجانسة وهي باعتبار المعنى وهو القيمة وليس شيء من ذلك عند انفراد المصوغ حتى لو وجب تقويمه في حقوق العباد بأن استهلك قوم بخلاف جنسه وظهرت قيمة الصنعة والجودة بخلاف ما إذا بيع بجنسه لأن الجودة والصنعة ساقطتا الاعتبار في الربويات عند المقابلة بجنسها & باب فيمن يمر على العاشر
أخر هذا الباب عما قبله لتمحض ما قبله في العبادة بخلاف هذا فإن المراد باب ما يؤخذ ممن يمر على العاشر وذلك يكون زكاة كالمأخوذ من المسلم وغيرها كالمأخوذ من الذمي والحربى ولما كان فيه العبادة قدمه على
____________________
(2/223)
ما بعده من الخمس والعاشر فاعل من عشرت أعشر عشرا بالضم فيهما
والمراد هنا ما يدور اسم العشر في متعلق أخذه فإنه إنما يأخذ العشر من الحربي لا المسلم والذمي قوله إذا مر على العاشر بمال الخ مفهوم شرطه لو اعتبر اسم المال على ظاهره إذا لم يمر بمال لا يأخذ منه العاشر وليس كذلك فإنه يأخذ من الأموال الظاهرة وإن لم يمر بها فوجب تقييده بالباطن فيتقيد به مفهوم شرطه أي إذا لم يمر عليه بمال باطن لا يأخذ منه فيصدق قوله والعاشر من نصبه الإمام الخ فيه قيد زاده في المبسوط وهو أن يأمن به التجار من اللصوص ولا بد منه ولأن أخذه من المستأمن والذمي ليس إلا للحماية وثبوت ولاية الأخذ من المسلم أيضا لذلك وقوله ليأخذ الصدقات تغليبا لإسم العبادة على غيرها قوله والقول المنكر مع اليمين والعبادات وإن كانت يصدق فيها بلا تحليف لكن تعلق به هنا حق العبد وهو العاشر في الأخذ فهو يدعي عليه معنى لو أقر به لزمه فيحلف لرجاء النكول بخلاف حد القذف لأن القضاء بالنكول متعذر في الحدود على ما عرف وبخلاف الصلاة والصيام لأنه لا مكذب له فيه فيها
____________________
(2/224)
فاندفع قول أبي يوسف رحمه الله لا يحلف لأنها عبادة وكذا إذا قال هذا المال ليس للتجارة أو هو بضاعة لفلان وكل ما وجوده مسقط قوله يعني إلى الفقراء في المصر قيد بالمصر لأنه لو أدى إلى الفقراء بعد خروجه إلى السفر لم يسقط حق أخذ العاشر لأن ولاية الأداء بنفسه إنما كان في الأموال الباطنة حال كونه في المصر وبمجرد خروجه مسافرا انتقلت الولاية عنه إلى الإمام قوله في ثلاثة فصول هي السابقة على قوله أديت إلى الفقراء قوله إلى المستحق فصار كالمشتري من الوكيل إذا دفع الثمن إلى الموكل قوله ولنا أن حق الأخذ للسلطان يمكن بأن يضمن منع كونه أوصل إلى المستحق بل المستحق الإمام والحق أن الإمام مستحق الأخذ والفقير مستحق التملك والانتفاع فحاصله أن هناك مستحقين فلا يملك إبطال حق واحد منهما وجر الحق الذي فوته ليس إلا بإعادة الدفع إليه وحينئذ يجيء النظر في المدفوع ما هو الواقع زكاة منهما قيل الأول والثاني سياسة والمفهوم من السياسة هنا كون الآخذ لينزجر عن ارتكاب تفويت حق الإمام وقيل الثاني وينقلب الأول نفلا لأن الواجب كون الزكاة في صورة المرور ما يأخذه الإمام ويدفعه ولم يوجد في السابق ووجد في اللاحق وانفساخ السابق الناقص للاحق الكامل ثابت في الشرع كبطلان الظهر المؤدي يوم الجمعة بأداء الجمعة فينفسخ مثله بجامع توجه الخطاب بعد الأداء بفعل الثاني مع امتناع تعدد الفرض في الوقت الواحد وهذا هو الصحيح وهو يفيد أن للإمام أن يأخذ منه ثانيا وإن علم صدقة ولا ينافي كون الأخذ للسياسة انفساخ الأول ووقوع الثاني زكاة بأدنى
____________________
(2/225)
تأمل قوله ثم فيما يصدق الخ أطلق فيما يصدق ومقتضاه أنه اشترط في الأصل إخراجها في قوله أديت إلى الفقراء وأخواتها لكنه اعتمد في تقييده على عدم تأتي صحته إذ لا يشكل أنه لا يأخذ من الفقراء براءة ولا من الدائن ولا تمكن في قوله أصبته منذ شهر وتأخير المصنف وجه الأول يفيد ترجحه عنده وحاصله منع كونه علامة إذ لا يلزم الانتقال منه إلى الجزم بكونه دفع إلى العاشر لأن الخط لا ينطق وهو متشابه ثم هل يشترط اليمين مع البراءة على قول مشترطها اختلف فيه
قيل على قول أبي حنيفة لم يصدق وعلى قولهما يصدق
ولا يخفى بعد قولهما إن كان لأن اليمين بحسب ظاهر حال المتدين أدل من الخط فكيف يمكن تركها إليها وليذكر هنا قوله في باب شروط الصلاة والاستخبار فوق التحري بيانا للزومه تفريعا على قوله لأن العمل بالدليل الظاهر واجب عند انعدام دليل فوقه ولم يرد به القطعي لأن الاستخبار لا يفيد قطعا قوله فتراعي تلك الشرائط من الحول والنصاب والفراغ من الدين وكونه للتجارة لأنه في معنى الزكاة كصدقة بني تغلب تحقيقا للتضعيف فإن تضعيف الشيء إنما يتحقق إذا كان وإلا كان تبديلا لكن بقي أنه أي داع إلى اعتباره تضعيفا لا ابتداء وظيفة عند دخوله تحت الحماية لا بد له من دليل وبنو تغلب روعى فيهم ذلك لوقوع الصلح عليه
والمروي عن عمر في رواية محمد بن الحسن عن أبي حنيفة عن أبي صخر المحاربي عن زياد بن خدير قال بعثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عين التمر مصدقا فأمرني أن آخذ من المسلمين من أموالهم إذا اختلفوا بها للتجارة ربع العشر ومن أموال
____________________
(2/226)
أهل الذمة نصف العشر ومن أموال أهل الحرب العشر لا يدل على ذلك الاعتبار وكذا ما رواه عبد الرزاق بسنده وغيره والمعنى الذي ذكروه وهو أنه أحوج إلى الحماية من المسلم فيؤخذ منه ضعفه لا يتقتضي ذلك لجواز أن يكون بسبب ما ذكر أخذ منه أكثر واختبر مثلاه ألا يرى أن باقي هذا المعنى وهو قولهم والحربي من الذمي بمنزلة الذمي من المسلم ألا ترى أن شهادة الذمي عليه وله جائزة كشهادة المسلم على الذمي والذي يؤخذ من الذمي ضعف ما يؤخذ من المسلم فيؤخذ منه ضعف ما يؤخذ من الذمي لم يوجب اعتبار تلك الشروط فيها يؤخذ من الحربي فلو اقتضى هذا المعنى اعتباره تضعيف عين المأخوذ من الذمي لزم مراعاتها قوله ولا يصدق الحربي إلا في الجواري الخ العبارة الجيدة أن يقال ولا يلتفت أو لا يترك الأخذ منه لا ولا يصدق لأنه لو صدق بأن ثبت صدقه ببينه عادلة من المسلمين المسافرين معه في دار الحرب أخذ منه فإن المأخوذ ليس زكاة ليكف عنه
____________________
(2/227)
لعدم الحول ووجود الدين وإن قال هو بضاعة فهو أحوج إلى الحماية من مال المستأمن إذ لا أمن لصاحب المال بل للمار بخلاف النسب فإنه يثبت في دار الحرب كهو في دار الإسلام وبه يخرج من أن يكون مالا أما على قوله فظاهر وأما على قولهما فإذا كانوا يدينون ذلك كما إذا مر بجلود الميتة فإن الأخذ منه عنها على هذا التفصيل والحاصل أنه لا يؤخذ إلا من مال وإن قال هم مدبرون لا يلتفت إليه لأن التدبير لا يصح في دار الحرب قوله لأن الأخذ منهم بطريق المجازاة أي أخذهم بكمية خاصة بطريق المجازاة لا أصل الأخذ فإنه حق منا وباطل منهم فالحاصل أن دخوله في الحماية أوجب حق الأخذ للمسلمين ثم إن عرف كمية ما يأخذون من تجارنا أخذنا منهم مثله مجازاة إلا إن عرف أنهم يأخذون الكل فلا نأخذه على المختار بل نبقى معه قدر ما يبلغه إلى مأمنه
وقيل نأخذ الكل مجازاة زجرا لهم عن مثله معنا قلنا ذلك بعد إعطاء الأمان غدر ولا نتخلق نحن به لتخلقهم به بل نهينا عنه وصار كما لو قتلوا الداخل إليهم بعد إعطائه الأمان نفعل ذلك لذلك وإلا أن يكون قليلا على رواية كتاب الزكاة لأن القليل لم يزل عفوا ولأنه يستصحب للنفقة ودفع الحاجة فكان كالمعدوم
وعلى رواية الجامع يجازون بالأخذ
____________________
(2/228)
منه وإن لم يعرف كمية ما يأخذون فالعشر لأنه قد ثبت حق الأخذ بالحماية وتعذر اعتبار المجازاة فقدر بمثلى ما يؤخذ من الذمي لأنه أحوج إلى الحماية منه ولما قلناه آنفا وإن عرف أنهم يتركون الأخذ من تجارنا تركنا نحن حقنا لتركهم ظلمهم لأن تركهم إياه مع القدرة عليه تخلق منهم بالإحسان إلينا ونحن أحق بمكارم الأخلاق منهم قوله لم يعشره الخ هذا إذا كانت المرة الثانية قبل الدخول إلى دار الحرب لما سيصرح به من أنه لو رجع إلى دار الحرب ثم خرج أخذ منه ثانيا ولو كان في يوم واحد لقرب الدارين واتصالهما كما في جزيرة الأندلس قوله لأن الأخذ في كل مرة استئصال للمال فيعود على موضوع الأمان بالنقصضقوله إلا حولا ليس كذلك والصواب ما في بعض النسخ بدون لفظة إلا نقلها نسخة في الكافي ولا شك أن هذه من سهو الكاتب لأنه لا يمكن حولا بل دونه ويقول له الإمام إذا دخل إن أقمت حولا ضربت عليك الجزية فإن فعل ضربها عليه ثم لا يمكنه من العود أبدا لما فيه من تفويت حق المسلمين في الجزية وجعله عينا علينا بعد علمه بمداخلنا ومخارجنا وذلك زيادة شر علينا فلا يجوز تمكينه غير أنه إن مر عليه بعد الحول ولم يكن له علم بمقامه حولا عشرة ثانيا زجرا له عن ذلك ويرده إلى دارنا والأصل أن حكم الأمان لا يتجدد إلا بتجدد الحول أو تجدد الدخول إلى دار
____________________
(2/229)
الإسلام لإنتهاء الأمان الأول بالعود إلى دار الحرب فيحتاج إلى أمان جديد إذا خرج قوله أي من قيمتها فسر به كي لا يذهب الوهم إلى مذهب مسروق أنه يأخذ من عين الخمر وطريق معرفة قيمتها أن يرجع إلى أهل الذمة قوله تبعا للخمر دون العكس لأنها أظهر مالية لأنها قبل التخمر مال وبعده كذلك بتقدير التخلل وليس الخنزير كذلك ولهذا إذا عجز المكاتب ومعه خمر يصير ملكا للمولى لا الخنزير وكم من شيء يثبت تبعا لاقصدا كوقف المنقول قوله إن القيمة في ذوات القيم لها حكم العين واستشكل عليه مسائل الأولى ما في الشفعة من قوله إذا اشترى ذمي دارا بخمر أو خنزير وشفيعها مسلم أخذها بقيمة الخمر والخنزير
ثانيها لو أتلف مسلم خنزير ذمي ضمن قيمته
ثالثها لو أخذ ذمي قيمة خنزيره من ذمي وقضى بها دينا لمسلم عليه طاب للمسلم ذلك
وأجيب عن
____________________
(2/230)
الأخير بأن اختلاف السبب كاختلاف العين شرعا وملك المسلم بسبب آخر وهو قبضه عن الدين وعما قبله بأن المنع لسقوط المالية في العين وذلك بالنسبة إلينا لا إليهم فيتحقق المنع بالنسبة إلينا عند القبض والحيازة لا عند دفعها إليهم لأن غايته أن تكون كدفع عينها وهو تبعيد وإزالة فهو كتسييب الخنزير والانتفاع بالسرقين باستهلاكه قوله لا يحميه على غيره أورد عليه مسلم غصب خنزير ذمي فرفعه إلى القاضي يأمره برده عليه وذلك حماية على الغير أجيب بتخصيص الإطلاق أي لا يحميه على غيره لغرض يستوفيه فخرج حماية القاضي قوله لقوة حق المضارب حتى كان له أن يبيع من المالك فصار كالمالك فكان حضوره كحضور المالك قوله ولا نائب عنه والزكاة تستدعى نية من عليه وهو كالمالك في التصرف الاسترباحي لا في أداء الزكاة بخلاف حصة المضارب لأنه يملكها فيؤخذ منه عنها وفيه خلاف الشافعي بناء على أصله أن استحقاق الربح بطريق الجعل فلا يملك إلا بالقبض
____________________
(2/231)
كعمالة عامل الصدقة قوله وقيل في الفرق بينهما لا يخفى عدم تأثير هذا الفرق فإن مناط عدم الأخذ من المضارب وهو القول المرجوع إليه كونه ليس بمالك ولا نائب عنه فليس له ذلك ولأنه لا نية حينئذ ومجرد دخوله في الحماية لا يوجب الأخذ إلا مع وجود شروط الزكاة على ما مر أول الباب فلا أثر لما ذكر من الفرق فالصحيح أنه لا يأخذ من المأذون كما صححه في الكافي قوله لانعدام الملك فيما في يده أي على قول أبي حنيفة أو الشغل على قولهما قوله لأن التقصير جاء من قبله الخ بخلاف ما لو غلب الخوارج على بلدة فأخذوا زكاة سوائمهم لا يثنى عليهم الإمام لأنه لا تقصير من المالك بل من الإمام
ومن مر برطاب اشتراها للتجارة كالبطيخ والقثاء ونحوه لم يعشره عند أبي حنيفة وقالا يعشره لاتحاد الجامع وهو حاجته إلى الحماية وهو يقول اتحاد الجامع إنما يوجب الاشتراك في الحكم عند عدم المانع
وهو ثابت هنا فإنها تفسد بالاسبقاء وليس عند العامل فقراء في البر ليدفع لهم فإذا بقيت ليجدهم فسدت فيفوت المقصود فلو كانوا عنده أو أخذ ليصرف إلى عمالته كان له ذلك & باب في المعادن والركاز
المعدن من العدن وهو الإقامة ومنه يقال عدن بالمكان إذا أقام به ومنه جنات عدن ومركز كل شيء معدنه عن أهل اللغة فأصل المعدن المكان بقيد الاستقرار فيه ثم اشتهر في نفس الأجزاء المستقرة التي ركبها
____________________
(2/232)
الله تعالى في الأرض يوم خلق الأرض حتى صار الانتقال من اللفظ إليه ابتداء بلا قرينة والكنز للمثبت فيها من الأموال بفعل الإنسان والركاز يعمهما لأنه من الركز مرادا به المركوز أعم من كون راكزه الخالق أو المخلوق فكان حقيقة فيهما مشتركا معنويا وليس خاصا بالدفين ولو دار الأمر فيه بين كونه مجازا فيه أو متواطئا إذ لا شك في صحة إطلاقه على المعدن كان التواطؤ متعينا وإذا عرف هذا فاعلم أن المستخرج من المعدن ثلاثة أنواع جامد يذوب وينطبع كالنقدين والحديد وما ذكره المصنف معه وجامد لا ينطبع كالجص والنورة والكحل والزرنيخ وسائر الأحجار كالياقوت والملح وما ليس بجامد كالماء والقير والنفط
ولا يجب الخمس إلا في النوع الأول
وعند الشافعي لا يجب إلا في النقدين على الوجه الذي ذكر في الكتاب استدل الشافعي على مطلوبه بما روى أبو حاتم من حديث عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركاز العشور قال الشيخ تقي الدين في الإمام ورواه يزيد بن عياض عن نافع وابن نافع ويزيد كلاهما متكلم فيه ووصفهما النسائي بالترك انتهى
فلم يفد مطلوبا
وبما روى مالك في الموطأ عن ربيعة بن عبد الرحمن عن غير واحد من علمائهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع لبلال بن الحرث المزني معان بالقبلية وهي من ناحية الفرع فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم قال ابن عبد البر هذا منقطع في الموطإ
وقد روى متصلا على ما ذكرناه في التمهيد من رواية الدراوردي عن ربيعة بن عبد الرحمن بن الحرث بن بلال بن الحرث المزني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عبيد في كتاب الأموال حديث منقطع ومع انقطاعه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك وإنما قال يؤخذ منه إلى اليوم انتهى يعني فيجوز كون ذلك من أهل الولايات اجتهادا منهم ونحن نتمسك بالكتاب والسنة الصحيحة والقياس
أما الكتاب فقوله تعالى { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه }
____________________
(2/233)
ولا شك في صدق الغنيمة على هذا المال فإنه كان مع محله من الأرض في أيدي الكفرة وقد أوجف عليه المسلمون فكان غنيمة كما أن محله أعنى الأرض كذلك وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس أخرجه الستة والركاز يعم المعدن والكنز على ما حققناه فكان إيجابا فيهما ولا يتوهم عدم إرادة المعدن بسبب عطفه عليه بعد إفادة أنه جبار أي هدر لا شيء فيه وإلا لتناقض فإن الحكم المعلق بالمعدن ليس هو المعلق به في ضمن الركاز ليختلف بالسلب والإيجاب إذ المراد أن إهلاكه أو الهلاك به للأجير الحافر له غير مضمون لا أنه لا شيء فيه نفسه وإلا لم يجب شيء أصلا وهو خلاف المتفق عليه إذ الخلاف إنما هو في كميته لا في أصله وكما أن هذا هو المراد في البئر والعجماء فحاصله أنه أثبت للمعدن بخصوصه حكما فنص على خصوص اسمه ثم أثبت له حكما آخر مع غيره فعبر بالاسم الذي يعمهما ليثبت فيهما فإنه علق الحكم أعنى وجوب الخمس بما يسمى زكارا فما كان من أفراده وجب فيه ولو فرض مجازا في المعدن وجب على قاعدتهم تعميمه لعدم ما يعارضه لما قلنا من اندراجه في الآية والحديث الصحيح مع عدم ما يقوى على معارضتهما في ذلك
وأما ما روى عن أبي هريرة أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركاز الخمس قيل وما الركاز يا رسول الله قال الذهب الذي خلقه الله تعالى في الأرض يوم خلقت الأرض رواه البيهقي وذكره في الإمام فهو وإن سكت عنه في الإمام مضعف بعبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري
وفي الإمام أيضا أنه عليه الصلاة والسلام قال في السيوب الخمس والسيوب عروق الذهب والفضة التي تحت الأرض ولا يصح جعلهما شاهدين على المراد بالركاز كما ظنوا فإن الأول خص الذهب والاتفاق أنه لا يخصه فإنما نبه حينئذ على ما كان مثله في أنه جامد منطبع
والثاني لم يذكر فيه لفظ الركاز بل السيوب فإذا كانت السيوب تخص النقدين فحاصله أنه إفراد فرد من العام والاتفاق أنه غير مخصص للعام
وأما القياس فعلى الكنز الجاهلي بجامع ثبوت معنى الغنيمة فإن هذا هو الوصف الذي ظهر أثره في المأخوذ بعينه قهرا فيجب ثبوث حكمه في محل النزاع وهو وجوب الخمس لوجوده فيه وكونه أخذ في ضمن شيء لا أثر له في نفي الحكم وإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام في الرقة ربع العشر مخصوص بالمستخرج للاتفاق على خروج الكنز الجاهلي من عموم الفضة قوله في أرض خراج أو عشر قيد به ليخرج الدار فإنه لا شيء فيه لكن ورد عليه الأرض التي لا وظيفة فيها كالمفازة إذ يقتضي أنه لا شيء في المأخوذ منها وليس كذلك فالصواب أن لا يجعل ذلك لقصد الاحتراس بل للتنصيص على أن وظيفتهما المستمرة لا تمنع الأخذ مما يوجد
____________________
(2/234)
فيهما قوله إلا أن للغانمين يدا حكمية جواب عما يقال لو كان غنيمة لكان أربعة الأخماس للغانمين لا للواجد
فأجاب بأن ذلك معهود شرعا فيما إذا كان لهم يد حقيقية على المغنوم أما إذا كان الثابت لهم يدا حكمية والحقيقية لغيرهم فلا يكون لهم
والحاصل أن الإجماع منعقد على عدم إعطائهم شيئا بل إعطاء الواجد قد دل الدليل أن له حكم الغنيمة فلزم من الإجماع والدليل المذكور اعتباره غنيمة في حق إخراج الخمس لا في الجانب الآخر وما ذكرناه من وجه عدم إعطاء الغانمين الأربعة الأخماس هو تعيين لسند الإجماع في ذلك وتقريره أن المال كان مباحا قبل الإيجاف عليه والمال المباح إنما يملك بإثبات اليد عليه نفسه حقيقة كالصيد ويد الغانمين ثابتة عليه حكما لأن اليد على الظاهر يد على الباطن حكما لا حقيقة
أما الحقيقة فللواجد فكان له مسلما كان أو ذميا حرا أو عبدا بالغا أو صبيا ذكرا أو أنثى لأن استحقاق هذا المال كاستحقاق الغنيمة وكل من سمينا له حق فيها سهما أو رضخا بخلاف الحربي لا حق له فيها فلا يستحق المستأمن الأربعة الأخماس لو وجد في دارنا قوله ولو وجد في داره الخ استدل لهما بإطلاق ما روينا وهو قوله عليه الصلاة والسلام في الركاز الخمس وقدم أنه أعم من المعدن وله أنه جزء من الأرض ولا مؤنة في أرض الدار فكذا في هذا الجزء منها
وأجيب عن
____________________
(2/235)
الحديث بأنه مخصوص بالدار وصحته متوقفة على إبداء دليل التخصيص وكون الدار خصت من حكمي العشر والخراج بالإجماع لا يلزم أن تكون مخصوصة من كل حكم إلا بدليل في كل حكم على أنه أيضا قد يمنع كون المعدن جزء من الأرض ولذا لم يجز التيمم به وتأويله بأنه خلق فيها مع خلقها لا يوجب الجزئية وعلى حقيقة الجزئية يصبح الأخراج من حكم الأرض لا على تقدير هذا التأويل قوله روايتان رواية الأصل لا يجب كما في الدار ورواية الجامع الصغير يجب والفرق على هذه بين الأرض والدار أن الأرض لم تملك خالية عن المؤن بل فيها الخراج أو العشر والخمس من المؤن بخلاف الدار فإنها تملك خالية عنها
قالوا لو كان في داره نخلة تغل أكوار من الثمار لا يجب فيها قوله وجب الخمس عندهم أي عند الكل على كل حال ذهبا كان أو رصاصا أو زئبقا بالاتفاق وإنما الخلاف في الزئبق المأخوذ من المعدن وسواء كان الواجد صغيرا أو كبيرا كما ذكرنا
____________________
(2/236)
في المعدن إلا الحربي لما قدمنا ولأنه لا يترك أن يذهب بغنيمة المسلمين إلى دار الحرب إلا إذا كان بإذن الإمام وشرط مقاطعته على شيء فيفى بشرطه
قال عليه الصلاة والسلام المسلمون عند شروطهم غير أنه إن وجده في أرض مملوكة اختلف أصحابنا فيمن يستحق الأربعة الأخماس قوله كالمكتوب عليه كلمة الشهادة ذكره بكاف التشبيه وكذا في ضرب الكفار ليفيد عدم الحصر فلو كان للمسلمين نقش آخر معروف أو لأهل الحرب نقش غير الصنم كاسم من أسماء ملوكهم المعروفة اعتبر به قوله وقد عرف حكمها وهو أنه يجب تعريفها ثم له أن يتصدق بها على نفسه إن كان فقيرا وعلى غيره إن كان غنيا وله أن يمسكها أبدا قوله لما بيننا أي من النص والمعنى أول الباب قوله ثم إن وجده الخ أي الكنز الجاهلي لأن الإسلامي ليس حكمه ما ذكر بخلاف ما لو وجده في أرض مختلطة غير مباحة فإنه مملوك للمختط له فلا يختص به كما سيذكره أما المباحة فما في ضمنها مباح إذ لم يعلموا به فيتملكوه فيبقى على ما كان قوله فكذا الحكم عند أبي يوسف أي الخمس للفقراء وأربعة أخماس للواجد سواء كان مالكا للأرض أو لا لأن هذا المال لم يدخل تحت قسمة الغنائم لعدم المعادلة فبقي مباحا فيكون لمن سبقت يده إليه
كما لو وجده في أرض غير مملوكة قلنا لا نقول إن الإمام يملك المختط له الكنز بالقسمة بل يملكه البقعة ويقرر يده فيها ويقطع مزاحمة سائر الغانمين فيها وإذا صار مستوليا عليها أقوى
____________________
(2/237)
الاستيلاءات وهو بيد خصوص الملك السابقة فيملك بها ما في الباطن من المال المباح للإتفاق على أن الغانمين لم يعتبر لهم ملك هذا الكنز بعد الاختطاط وإلا لوجب صرفه إليهم أو إلى ذراريهم فإن لم يعرفوا وضع في بت المال واللازم منتف ثم إذا ملكه لم يصر مباحا فلا يدخل في بيع الأرض فلا يملكه مشتري الأرض كالدرة في بطن السمكة يملكها الصائد لسبق يد الخصوص إلى السمكة حال إباحتها ثم لا يملكها مشتري السمكة لانتفاء الإباحة
وهذا وما ذكر في السمكة من الإطلاق ظاهر الرواية وقيل إذا كانت الدرة غير مثقوبة تدخل في البيع بخلاف المثقوبة كما لو كان في بطنها عنبر يملكه المشتري لأنها تأكله وكل ما تأكله يدخل في بيعها وكذا لو كانت الدرة في صدفة ملكها المشتري قلنا هذا الكلام لا يفيد إلا مع دعوى أنها تأكل الدرة غير المثقوبة كأكلها العنبر وهو ممنوع
نعم قد يتفق أنها تبتلعها مرة بخلاف العنبر فإنه حشيش والصدف دسم ومن شأنها أكل ذلك قوله على ما قالوا يفيد الخلاف على عادته قيل يصرف إلى أقصى مالك يعرف في الإسلام أو ذريته وقيل يوضع فى بيت المال وهذا أوجه للمتأمل قوله لتقادم العهد فالظاهر أنه لم يبق شىء من آثار الجاهلية ويجب البقاء مع الظاهرما لم يتحقق خلافه والحق منع هذا الظاهر بل دفينهم إلى اليوم يوجد بديارنا مرة بعد أخرى قوله فوجد في دار بعضهم ركازا رده عليهم سواء كان معدنا أو كنزا قوله في الصحراء أي أرض لا مالك لها
____________________
(2/238)
كذا فسره في المحيط وتعليل الكتاب بفيده قوله فلا يعد غدرا يعني أن دار الحرب دار إباحة وإنما عليه التحرز من الغدر ويأخذ غير فقط مملوك من أرض غير مملوكة لم يغدر بأحد بخلافه من المملوكة نعم لهم يد حكمية على ما في صحراء دارهم ودار الحرب ليست دار أحكام فلا تعتبر فيها إلا الحقيقية بخلاف دارنا فلذا لا يعطي المستأمن منهم ما وجده في صحرائنا قوله لأنه بمنزلة متلصص ولو دخل المتلصص دارهم فأخذ شيئا لا يخمس لانتفاء مسمى الغنيمة لأنها ما أوجف المسلمون عليه غلبة وقهرا
ولقائل أن يقول غاية ما تقتضيه الآية والقياس وجوب الخمس في مسمى الغنيمة فانتفاء مسمى الغنيمة في المأخوذ من ذلك الكنز لا يستلزم انتفاء الخمس إلا بإسناد إلى الأصل وقد وجد دليل يخرج عن الأصل وهو عموم قوله صلى الله عليه وسلم في الركاز الخمس بخلاف المتلصص فإن ما أصابه ليس غنيمة و ركازا
فلا دليل يوجبه فيه فيبقى على العدم الأصلي قوله يوجد في الجبال قيد به احتراز عما لو أصيب في خزائن الكفار وكنوزهم فإنه يخمس لأنه غنيمة وسيأتي قوله لقوله عليه الصلاة والسلام لا خمس في الحجر غريب بهذا اللفظ
وأخرج ابن عدي عنه عليه الصلاة والسلام لا زكاة في حجر من طريقين ضعيفين الأول بعمر بن أبي عمر الكلاعي
والثاني بمحمد بن عبدالله العزرمي
وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة ليس في حجر اللؤلؤ ولا حجر الزمرد زكاة إلا أن يكون للتجارة قوله في قول أبي حنيفة آخرا وهو قول محمد وقول أبي يوسف هو قول أبي حنيفة أولا حكى عنه أنه قال كان أبو حنيفة
____________________
(2/239)
رحمه الله يقول لا خمس فيه فلم أزل به أناظره وأقول هو كالرصاص إلى أن رجع ثم رأيت أنا لا شيء فيه فقلت به ثم المراد الزئبق المصاب في معدنه احترازا عما ذكرنا والزئبق بالياء وقد يهمز ومنهم حينئذ من يكسر الموحدة بعد الهمزة مثل زئبر الثوب وهو ما يعلو جديده من الوبرة
وجه النافي أنه يتبع من عينه ويستقي بالدلاء كالماء ولا ينطبع بنفسه فصار كالقبر والنفط
وجه الموجب أنه يستخرج بالعلاج من عينه وينطبع من غيره فكان كالفضة فإنها لا تنطبع ما لم يخالطهما شيء قوله ولا خمس في اللؤلؤ الخ يعني إذا استخرجا من البحر لا إذا وجد دفينا للكفار وهذا لأن العنبر حشيش واللؤلؤ إما مطر الربيع يقع في الصدف فيصير لؤلؤا أو الصدف حيوان يخلق فيه اللؤلؤ ولا شيء في الماء ولا فيما يؤخذ من الحيوان كظبي المسك
والمصنف علل النفي بنفي كونه غنيمة لأن استغنامه فرع تحقق كونه كان في محل قهرهم ولا يرد قهد مخلوق على البحر الأعظم ولا دليل آخر بوجبه فيقي على العدم وقياس البحر على البر في إثبات الوجوب فيما يستخرج قياس بلا جامع لأن المؤثر في الإيجاب كونه غنيمة لا غير ولم يتحقق فيما في البحر ولذا لو وجد فيه الذهب والفضة لم يجب فيهما شيء فورد عليه أن فيه دليلا وهو ما عن عمر مما ذكره وقول الصحابي عندنا حجة يترك به القياس فدفعه بعدم ثبوثه عنه على وجه مدعاه بل المراد أنه أخذ مما دسره بحر دار الحرب من باب طلب أي دفعه وقذفه فأصابه عسكر المسلمين لا ما استخرج ولا ما دسره فأصابه رجل واحد لأنه متلصص على أن ثبوته عن عمر لم يصح أصلا بل
____________________
(2/240)
إنما عرف بطريق ضعيفة رواها القسم بن سلام في كتاب الأموال وإنما الثابت عن عمر بن عبد العزيز أخرج عبد الرزاق أخبرنا معمر عن سماك بن الفضل عنه أنه أخذ من العنبر الخمس
وعن الحسن البصري وابن شهاب الزهري قالا في العنبر واللؤلؤ الخمس
وروى الشافعي عن سفيان رضي الله عنه عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أن إبراهيم بن سعد كان عاملا بعدن سأل ابن عباس عن العنبر فقال لو كان فيه شيء فالخمس وهذا ليس جزما من ابن عباس بالجواب بل حقيقته التوقف في أن فيه شيئا أولا غير أنه إن كان فيه شيء فلا يكون غير الخمس وليس فيه رائحة الجزم بالحكم فسلم ما رواه أبو عبيد في كتاب الأموال والشافعي أيضا حدثنا ابن أبي مريم عن داود بن عبد الرحمن العطار سمعت عمرو بن دينار يحدث عن ابن عباس قال ليس في العنبر خمس عن المعارض قال وحدثنا مروان بن معاوية عن إبراهيم المديني عن أبي الزبير عن جابر نحوه فهذا أولى بالاعتبار من قول من دونهما ممن ذكرنا من التابعين ولو تعارضا كان قول النافي أرجح لأنه أسعد بالوجه قوله متاع الخ المراد بالمتاع غير الذهب والفضة من الثياب والسلاح والآلات وأثاث المنازل والفصوص والزئبق والعنبر وكل ما يوجد كنزا فإنه يخمس بشرطه لأنه غنيمة & باب زكاة الزروع والثمار
قيل تسميتة زكاة على قولهما لاشتراطهما النصاب والبقاء بخلاف قوله وليس بشيء إذا لا شك في أن المأخوذ عشرا أو نصفه زكاة حتى يصرف مصارف الزكاة وغاية ما في الباب أنهم اختلفوا في إثبات بعض شروط لبعض
____________________
(2/241)
أنواع الزكاة ونفيها وهذا لا يخرجه عن كونه زكاة قوله إلا الحطب والقصب والحشيش ظاهره كون ما سوى ما استثنى داخلا في الوجوب وسينص على إخراج السعف والتبن إلا أن يقال يمكن إدراجهما في مسمى الحشيش على ما فيه
وأما ما ذكروا من إخراج الطرفاء والدلب وشجر القطن والباذنجان فيدرج في الحطب لكن بقي ما صرحوا به من أنه لا شيء في الأدوية كالهيلج والكندر ولا يجب فيما يخرج من الأشجار كالصمغ والقطران ولا فيما هو تابع للأرض كالنخل والأشجار لأنها كالأرض ولذا تستبعها الأرض في البيع ولا في كل يزر لا يطلب بالزراعة كبزر البطيخ والقثاء لكونها غير مقصودة في نفسها ويجب في العصفر والكتان وبزره لأن كلا منهما مقصود وعدم الوجوب في بعض هذه مما لا يرد على الإطلاق بأدني تأمل قوله إلا فيما له ثمرة باقية وهي ما تبقى سنة بلا علاج غالبا بخلاف ما يحتاج إليه كالعنب في بلادهم والبطيخ الصيفي في ديارنا وعلاجه الحاجة إلى تقليبه وتعليق العنب قوله والوسق ستون صاعا بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل صاع أربعة أمناء فخمسة أوسق ألف ومائتا من
قال الحلواني هذا قول أهل الكوفة وقال أهل البصرة الوسق ثلاثمائة من وكون الوسق ستين صاعا مصرح به في رواية ابن ماجه لحديث الأوساق
كما سنذكره
ولو كان الخارج نوعين كل أقل من خمسة أوسق لا يضم وفي نوع واحد يضم الصنفان كالجيد والردىء والنوع الواحد هو ما لا يجوز بيعه بالآخر متفاضلا قوله وليس في الخضروات كالرباحين والأوراد والبقول والخيار والقثاء والبطيخ والباذنجان وأشباه ذلك وعنده يجب في كل ذلك قوله لهما في الأول قوله عليه الصلاة والسلام ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة رواه البخاري في حديث طويل ومسلم ولفظه ليس في حب ولا تمر صدقة حتى
____________________
(2/242)
تبلغ خسمة أوسق ثم أعاده من طريق آخر وقال في آخره غير أنه قال بدل التمر ثمر يعني بالمثلثة فعلم أن الأول بالمثناة وزاد أبو داود فيه والوسق سون مختوما وابن ماجه والوسق ستون صاعا قوله ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام ما أخرجت الأرض ففيه العشر أخرج البخاري عنه عليه الصلاة والسلام فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر
وروى مسلم عنه عليه الصلاة والسلام فيما سقت الأنهار والغيم العشر وفيما سقي بالسانية نصف العشر وفيه من الآثار أيضا ما أخرج عبد الرزاق أخبرنا معمر عن سماك بن الفضل بن عمر بن عبد العزيز قال فما أنبتت من قليل وكثير العشر
وأخرج نحوه عن مجاهد وعن إبراهيم النخعي وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا عن عمر بن عبد العزيز ومجاهد وعن النخعي وزاد في حديث النخعي حتى في كل عشر دستجات بقل استجة
والحاصل أنه تعارض عام وخاص فمن يقدم الخاص مطلقا كالشافعي قال بموجب حديث الأوساق ومن يقدم العام أو يقول يتعارضان ويطلب الترجيح إن لم يعرف التاريخ وإن عرف فالمتأخر ناسخ وإن كان العام كقولنا يجب أن يقول بموجب هذا العام هنا لأنه لما تعارض مع حديث الأوساق في الإيجاب فيما دون خمسة الأوسق كان الإيجاب أولى للإحتياط فمن تم له المطلوب في نفس الأصل الخلافي تم له هنا ولولا خشية الخروج عن الغرض لأظهرنا صحته أي إظهار مستعينا بالله تعالى وإذا كان كذلك فهذا البحث يتم على الصاحبين لالتزامهما الأصل المذكور وما ذكره المصنف من حمل مرويهما على زكاة التجارة طريقة الجمع بين الحديثين
قيل ولفظ الصدقة يشعر به فإن المعروف في الواجب فيما أخرجت اسما العشر لا الصدقة بخلاف الزكاة قوله ولهما في الثاني قوله عليه الصلاة والسلام روى
____________________
(2/243)
نفي العشر في الخضروات بألفاظ متعددة سوقها يطول في الترمذي من حديث معاذ وقال إسناده ليس بصحيح وليس يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء
وروى الحاكم هذا المعنى أيضا وصححه وغلط بأن إسحاق بن يحيى تركه أحمد والنسائي وغيرهما
وقال أبو زرعة موسى بن طلحة وهو الراوي عن معاذ مرسل عن عمر ومعاذ توفي في خلافة عمر فرواية موسى عنه مرسلة
وما قيل إن موسى هذا ولد فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وسماه لم يثبت
والمشهور في هذا ما روى سفيان الثوري عن عمرو بن عثمان عن موسى بن طلحة قال عندنا كتاب معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما أخذ الصدقة من الحنطة والشعير والزبيب والتمر وأحسن ما فيها حديث مرسل رواه الدارقطني عن موسى بن طلحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يؤخذ من الخضروات صدقة والمرسل حجة عندنا لكن يجيء فيه ما تقدم من تقديم العام عند المعارضة وما ذكره المصنف من أن المنفي أن يأخذ منها العاشر إذا مر بها عليه ويشير إليه لفظ هذا المرسل
إذ قال نهى أن يؤخذ وهو لا يستلزم نفي وجوب أن يدفع المالك للفقراء
والمعقول من هذا النهي أنه لما فيه من تفويت المصلحة على الفقير لأن الفقراء ليسوا مقيمين عند العاشر ولا بقاء للخضروات فتفسد قبل الدفع إليهم ولذا قلنا لو أخذ منها العاشر ليصرفه إلى عمالته كان له ذلك قوله والسبب هي الأرض النامية أي بالخارج تحقيقا في حق العشر ولذا لا يجوز تعجيل العشر لأنه حينئذ قبل السبب فإذا أخرجت أقل من خمسة أوسق لو لم نوجب شيئا لكان إخلاء للسبب عن الحكم وحقيقة الاستدلال إنما هو بالعام السابق لأن السببية لا تثبت إلا بدليل الجعل والمفيد لسببيتهما كذلك هو ذلك وإلا فالحديث الخاص أفاد أن السبب الأرض النامية بإخراج خمسة أوسق فصاعدا مطلقا فلا يصح هذا مستقلا بل هو فرع العام المفيد سببيتها مطلقا
واعلم أن ما ذكرنا من منع تعجيل العشر فيه خلاف أبي يوسف فإنه أجازه بعد الزرع قبل النبات وقبل طلوع التمرة في الشجر هكذا حكى مذهبه في
____________________
(2/244)
الكافي
وفي المنظومة خص خلافه بثمر الأشجار بناء على ثبوت السبب نظرا إلى أن نمو الأشجار يثبت نماء الأرض تحقيقا فيثبت السبب بخلاف الزرع فإنه ما لم يظهر لم يتحقق نماء الأرض ثم إذا ظهر فأدى يجوز اتفاقا وهل يكون تعجيلا ينبني على وقت الوجوب متى هو فعند أبي حنيفة عند ظهور الثمرة فلا يكون تعجيلا وعند أبي يوسف وقت الإدراك وعند محمد عند تصفيته وحصوله في الحظيرة فيكون تعجيلا
وثمرة هذا الخلاف تظهر في وجوب الضمان بالإتلاف
قال الإمام يجب عليه عشر ما أكل أو أطعم
ومحمد يحتسب به في تكميل الأوسق يعني إذا بلغ المأكول مع ما بقي خمسة أوسق يجب العشر في الباقي لا في التالف وأما أبو يوسف فلا يعتبر الذاهب بل يعتبر في الباقي خمسة أوسق إلا أن يأخذ المالك من المتلف ضمان ما أتلفه فيخرج عشره وعشر ما بقي قوله ولهذا يجب فيها الخراج أي لكونها السبب إلا أن سببيتها تختلف بالنسبة إلى العشر والخراج ففي الخراج بالنماء التقديري فلذا يجب ويؤخذ بمجرد التمكن من الزراعة وإن لم يزرع وفي العشر بالتحقيقي كما قدمنا قوله وقصب الذريرة ة نوع من القصب في مضغه حرافة ومسحوقه عطر قوله بخلاف السعف والتبن وإنما
____________________
(2/245)
لم يجب في التبن لأنه غير مقصود بزراعة الحب غير أنه فصله قبل انعقاد الحب وجب العشر فيه لأنه صار هو المقصود ولا حاجة إلى أن يقال كان العشر فيه قبل الانعقاد ثم تحول إلى الحب عند الانعقاد
وعن محمد في التبن إذا يبس فيه العشر قوله بغرب الغرب الدلو الكبير والدالية الدولاب والسانية الناقة يستقي بها قوله على القولين يعني مطلقا كما هو قوله أو إذا بلغ خمسة أوسق قوله وقال أبو يوسف لما اشترطا خمسة أوسق ففيما لا يوسق كيف التقدير عندهما اختلفا فيه فقال أو يوسف إذا بلغت فيمته قيمة خمسة أوسق من أدنى ما يدخل تحت الوسق من الحبوب ووجهه ظاهر في الكتاب
وقال محمد أن يبلغ خمسة أعداد أي أمثال كل واحد هو أعلى ما يقدر به ذلك النوع الذي لا يوسق فاعتبر في القطن خمسة أحمال وخمسة أمناء في السكر والزعفران وخمسة أفراق في العسل قوله إذا أخذ من أرض العشر قيد به لأنه لو أخذ من أرض الخراج لم يجب فيه شيء
____________________
(2/246)
قوله لأنه متولد من الحيوان يعني القزا وجوب العشر فيما هو من أنزال الأرض قوله ولنا قوله عليه الصلاة والسلام في العسل العشر أخرج عبد الرزاق عنه عليه الصلاة والسلام أنه كتب إلى أهل اليمن أن يؤخذ من أهل العسل العشر وليس له علة إلا عبد الله بن محرز
قال ابن حبان كان من خيار عباد الله إلا أنه كان يكذب ولا يعلم ويقلب الأخبار ولا يفهم وحاصله أنه كان يغلط كثيرا
وروى ابن ماجة حدثنا محمد بن يحيى عن نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من العسل العشر وروى الشافعي أخبرنا أنس بن عياض عن الحرث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن أبيه عن سعد بن أبي ذباب الدوسي قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت وقلت يا رسول الله اجعل لقومي ما أسلموا عليه ففعل واستعملني أبو بكر رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدم على قومه قال يا قوم أدوا زكاة العسل فإنه لا خير في مال لا تؤدي زكاته قالوا كم ترى قال العشر فأخذت منهم العشر فأتيت به عمر رضي الله عنه فباعه وجعله في صدقات المسلمين وكذا رواه ابن أبي شيبة عن صفوان بن عيسى حدثنا الحرث بن عيسى به
ورواه الصلت بن محمد عن أنس بن عياض عن الحرث بن أبي ذباب عن منير بن عبد الله عن أبيه عن سعد ولم يعرف ابن المديني والد منير وسئل عنه أبو حاتم أيصح حديثه قال نعم
قال الشافعي رحمه الله وفي هذا ما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمره بأخذ الصدقة من العسل وأنه شيء رآه فتطوع به أهله
وأخرج ابن ماجه عن سعد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن أبي سيارة المتعي قال قلت يا رسول الله إن لي نحلا قال أد العشر قلت يا رسول الله احمها لي فحماها وكذا رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو يعلي الموصلي في مسانيدهم
قال البيهقي هذا أصح ما روى في وجوب العشر فيه وهو منقطع
قال الترمذي سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال حديث مرسل
سليمان بن موسى لم يدرك أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في زكاة العسل شيء يصح
وروى أبو داود حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني أخبرنا موسى بن أعين عن عمرو بن الحرث العنبري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور حل له وسأله أن يحمي له واديا يقال له سلبة فحماه له فلما ولي عمر بن الخطاب كتب سفيان بن وهب إلى عمر بن الخطاب يسأله عن ذلك فكتب له عمر إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/247)
فاحم له سلبة وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من شاء وكذلك رواه النسائي
وروى الطبراني في معجمه حدثنا إسماعيل بن الحسن الخفاف المصري حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرنا أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن بني سيارة قال الدارقطني في كتاب المؤتلف والمختلف صوابه شبابة بعجمة وبباءين موحدتين وهم بطن من فهم كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نحل كان لهم العشر من كل عشر قرب قرية وكان يحمي واديين لهم فلما كان عمر رضي الله عنه استعمل على ما هناك سفيان بن عبد الله الثقفي فأبوا أن يؤدوا إليه شيئا وقالوا إنما كنا نؤديه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب سفيان إلى عمر فكتب إليه عمر إنما النحل ذباب غيث يسوقه الله عز وجل رزقا إلى من يشاء فإن أدوا إليك ما كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحم لهم أوديتهم وإلا فخل بينه وبين الناس فأدوا إليه ما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمى لهم أوديتهم
وأخرج أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال حدثنا أبو الأسود عن ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤخذ في زمانه من العسل العشر من كل عشر قرب قربة من أوسطها وإذ قد وجد ما أوجدناك غلب على الظن الوجوب ف يالعسل وأن أخذ سعد ليس رأيا منه وتطوعا منهم كما قاله الشافعي فإنه قال أدوا زكاة العسل
والزكاة اسم للواجب فيحتمل كونه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكونه رأيا منه وجمله على السماع أولى
وقولهم كم ترى لا يستلزم علمهم بأنه عن رأى في أصل الوجوب لجواز كونه عن علمهم بأن الرأي في خصوص من الكمية بأن يكون ما علمه من النبي صلى الله عليه وسلم أصل الوجوب مع إجمال الكمية وعلى كل حال لا يكونون قاصدي التطوع سواء كان مجتهدا في الكمية أوفي أصل الوجوب إذ قد قلدوه في رأيه فكان واجبا عليهم إذ كان رأيه الوجوب
ثم كون عمر رضي الله عنه قبله منه ولم ينكره عليه حين أتاه بعين العسل مع أنه لم يأت به إلا على أنه زكاة أخذها منهم يدل على أنه حق معهود في الشرع ويدل عليه أيضا الحديث المرسل الذي لا شبهة في ثبوته وفيه الأمر منه عليه الصلاة والسلام بأداء العشور والمرسل بانفراده حجة على ما أقمنا الدلالة عليه
وبتقدير أن لا يحتج به بانفراده فتعد طرق الضعيف ضعفا بغير فسق الرواة يفيد حجيته إذ يغلب على الظن إجادة كثيرة الغلط في خصوص هذا المتن وهنا كذلك وهو المرسل المذكور مع حديث عبد الرزاق وابن ماجه وحديث القاسم بن سلام وحديث الشافعي فتثبت الحجية اختيارا منهم ورجوعا وإلا فإلزاما وجبرا ثم لم يدل دليل على اعتبار النصاب فيه
وغاية ما في حديث القرب أنه كان أداؤهم من كل عشر قرب قربة وهو فرغ بلوغ عسلهم هذا المبلغ أما النفي عما هو أقل من عشر قرب فلا دليل فيه عليه
وأما ما في الترمذي أنه عليه الصلاة والسلام قال في العسل في كل عشرة أزق زق فضعيف قوله لحديث بني شبابة قال
____________________
(2/248)
في العناية وفي بعض النسخ أبي سيارة وهو الصواب بعد ما ذكر أن صوابه بني شبابة كما قدمناه فاستجهله الزيلعي وقال كيف يكون يؤدون لم يحكم بخطأ العبارة فإنه أسلوب مستمر في ألفاظ الرواة والمراد منه أن قومه كانوا يؤدون أو أنه مع باقي القوم كانوا يؤدون بل الصواب أن أبا سيارة هنا ليس بصواب فإنه ليس في حديث أبي سيارة ذكر القرب بل ما تقدم من قوله إن لي نحلا فقال عليه الصلاة والسلام أد العشور لا لما استبعده به
فالحاصل أن أبا سيارة المتعي ثابت وكذا بني شبابة وهو الصواب بالنسبة إلى من قال بني سيارة لا مطلقا فارجع تأمل ما قبله من الكلام الطويل حينئذ
فرع اختلف في المن إذا سقط على الشوك الأخضر قيل لا يجب فيه عشر وقيل يجب ولو سقط على الأشجار لا يجب قوله وكذا في قصب السكر قال في شرح الكنز في قصب السكر العشر قل أو كثر وعلى قياس قول أبي يوسف يعتبر ما يخرج من السكر أن يبلغ قيمة خمسة أوسق وعند محمد نصاب السكر خمسة أمناء
اه
وهذا تحكم بل إذا بلغ قيمة نفس الخارج من القصب قيمة خمسة أوسق من أدنى ما يوسق كان ذلك نصاب القصب على قول أبي يوسف
وقوله وعند محمد نصاب السكر خمسة أمناء يريد فإذا بلغ القصب قدرا يخرج منه خمسة أمناء سكر وجب فيه العشر على قول محمد
وإلا فالسكر نفسه ليس مال الزكاة إلا إذا أعد للتجارة وحينئذ يعتبر أن تبلغ قيمته نصابا
وإذا فالصواب أيضا على قول محمد أن يبلغ القصب الخارج خمسة مقادير من أعلى ما يقدر به القصب نفسه كخمسة أطنان في عرف ديارنا والله أعلم
والفرق بتحريك الراء عند أهل اللغة وأهل الحديث يسكنونها وهو مكيال معروف هو ستة عشر رطلا
وقال المطرزي إنه لم ير تقديره بستة وثلاثين فيما عنده من أصول اللغة
قوله أن المقصود حاصل وهو الخارج فلا يلتفت إلى كونه مالكا
____________________
(2/249)
للأرض أو غير مالك كما إذا أجر العشرية عندهما يجب العشر على المستأجر وليس على المالك وعنده على المؤجروكما إذا استعارها وزرع يجب العشر على المستعير بالاتفاق خلافا لزفر
هذا إذا كان المستعير مسلما فإن كان ذميا فهو ( ههو ) على رب الأرض بالاتفاق وإذ قد ذكرنا هاتين فلنذكر الوجه تتميما
لهما في الأولى أن العشر منوط بالخارج وإن لم يكن سببا وهو للمستأجر
وله أنها كما تستنمى بالزراعة تستنمى بالإجارة فكانت الأجرة مقصودة كالثمرة فكان النماء له معنى مع ملكه فكان أولى بالإيجاب عليه ولزفر في الثانية وهو رواية عن أبي حنيفة أن السبب ملكها والنماء له معنى لأنه أقام المستعير مقام نفسه في الإستنماء فكان كالمؤجر
ولنا أن المستعير قام مقام المالك في الإستنماء فيقوم مقامه في العشر بخلاف المؤجر لأنه حصل له عوض منافع أرضه
ولو اشترى زرعا وتركه بإذن البائع فأدرك فعند أبي حنيفة ومحمد عشره على المشتري وعند أبي يوسف عشر قيمة القصيل على البائع والباقي على المشتري
له أن بدل القصيل حصل للبائع فعشره عليه ألا ترى أنه لو لم يتركه وقصله كان عشرة عليه والباقي حصل للمشتري فعشرة عليه
ولهما أن العشر واجب في الحب وقد حصل للمشتري وإنما كان يجب في القصيل لو قصله لأنه حينئذ كان هو المستنمى به فلما لم يقصل كان المستنمى به الحب ففيه العشر ولو غصب أرضا عشرية فزرعها إن نقصتها الزراعة كان العشر على صاحب الأرض لأنه يأخذ ضمان نقصانها فيكون بمنزلة نمائها عند أبي حنيفة كالمؤجر وإن لم تنقصها الزراعة فعلى الغاصب في زرعه
ولو زارع بالعشرية إن كان البذر من قبل العامل فعلى قياس قول أبي حنيفة العشر على صاحب الأرض كما في الإجارة وعندهما يكون في الزرع كالإجارة وإن كان البذر من رب الأرض فهو على رب الأرض في قولهم قوله مما فيه العشر الأولى أن يقول مما فيه العشر أو نصفه كي لا يظن أن ذلك قيد معتبر
قوله لا يحتسب فيه أجر العمال ونفقة البقر وكرى الأنهار وأجرة الحارس وغير ذلك يعني لا يقال بعدم وجوب العشر في قدر الخارج الذي بمقابلة المؤنة بل يجب العشر في الكل ومن الناس من قال يجب النظر إلى قدر قيم المؤنة فيسلم له بلا عشر ثم يعشر الباقي لأن
____________________
(2/250)
قدر المؤنة بمنزلة السالم له بعوض كأنه اشتراه ألا يرى أن من زرع في أرض مغصوبة سلم له قدر ما غرم من نقصان الأرض وطاب له كأنه اشتراه
ولنا ما تقدم من قوله عليه الصلاة والسلام فيما سقي سيحا الخ حكم بتفاوح الواجب لتفاوت المؤنة فلو رفعت المؤنة كان الواجب واحدا وهو العشر دائما في الباقي لأنه لم ينزل إلى نصفه إلا للمؤنة والفرض أن الباقي بعد رفع قدر المؤنة لا مؤنة فيه فكان الواجب دائما العشر لكن الواجب قد تفاوت شرعا مرة العشر ومرة نصفه بسبب المؤنة فعلمنا أنه لم يعتبر شرعا عدم عشر بعض الخارج وهو القدر المساوي للمؤنة أصلا
وفي النهاية ما حاصله وتحريره أنه قد يقضي إلى اتحاد الواجب مع اختلاف المؤنة واللازم منتف شرعا فينتفي ملزومه وهو عدم تعشير البعض المساوي لقدر المؤنة
بيان الملازمة لو فرض أن الخارج مثلا أربعون قفيزا فيما سقته السماء واستحق قيمة قفزين للعمال والثيران وغيرها فإن الواجب على قول العامة أربعة أقفزة اعتبار المجموع الخارج وعلى قول أولئك قفيزان لأن ما يقابل المؤنة من الخارج لا يجب في قدر مقابلة شيء فلو فرض إخراج أربعين قفيزا فيما سقى بدالية أو غرب فإن الواجب فيه قفيزان بحكم الشرع فيلزم اتحاد الواجب فيما سقى بغرب وفيما سقته السماء وهو خلاف حكم الشرع اه
ولا يخفى عليك أن معنى المنقول عنهم فيما تقدم أن القدر الذي يقابل المؤنة لا ويعشر يعشر الباقي فيعشر في المسألة التي فرضها في النهاية أولا ثمانية وثلاثون قفيزا لأن القفزين الأخيرين استغرقا في المؤنة فلا يعشران فيكون الواجب أربعة أقفزة إلا خمس قفيز وهذا التصوير المذكور في النهاية يفيد أنه يرفع قدر المؤنة وهو القفيزان من نفس عشر جميع الخارج حتى يصير الواجب قفيزين فأسقطوا عشر عشرين قفيزا وليس هذا هو معنى المنقول عنهم نعم إن كان قولهم في الواقع هو هذا فذلك دفعه وإلا فلا وهو الظاهر
والتصوير الصحيح على ما هو الظاهر في المسألة التي فرضها أن تستغرق المؤنة عشرين قفيزا
قوله وعن محمد رحمه الله الخ ضبط هذا الفصل على تمامه أن الأرض إما
____________________
(2/251)
عشرية أو خراجية أو تضعيفية والمشترين مسلم وذمي وتغلبي فالمسلم إذا اشترى العشرية أو الخراجية بقيت على حالها أو تضعيفية فكذلك عند أبي حنيفة سواء كان التضعيف أصليا بأن كانت من أراضي بني تغلب الأصلية أو حادثا بأن استحدثوا ملكها فضعفت عليهم
وقال أبو يوسف ترجع إلى عشر واحد لزوال الداعي إلى التضعيف وهو الكفر مع التغلبية وقياسا على ما لو اشترى المسلم خمسا من سائمة إبل التغلبي فإنها ترجع إلى شاة واحدة اتفاقا
وقول محمد في الأصح مع أبي حنيفة إلا أنه لا يتأتي قوله في التضعيف الحادث
ولأبي حنيفة رحمه الله أن التضعيف صار وظيفة الأرض فلا يتبدل إلا في صورة يخصها دليل قياسا على ما لو اشترى المسلم الخراجية حيث تبقى خراجية وإن كان المسلم لا يبتدأ بالخراج
وقوله زال المدار وهو الكفر
قلنا هذا مدار ثبوته ابتداء والحكم الشرعي يستغني عن قيام علته الشرعية في بقائه وإنما يفتقر إليها في ابتدائه كالرق أثر الكفر ثم يبقى بعد الإسلام والرمل والاضطباع في الطواف بخلاف سائمته لأن الزكاة في السائمة ليست وظيفة متقررة فيها ولهذا تنتفي بجعلها علوفة وبكونها لغير التغلبي بخلاف الأراضي وتقييدنا بالشرعي في الحكم والعلة الإخراج العقلي فإنه يفتقر في بقائه إلى علته العقلية عند المحققين وستظهر فائدة ما ذكرناه من الاستثناء وعلى هذا الخلاف ما إذا أسلم التغلبي وله أرض تضعيفية وإذا اشترى التغلبي الخراجية بقيت خراجيته أو التضعيفية فهي تضعيفية أو أو العشرية من مسلم ضوعف عليه العشر عندهما خلافا لمحمد له أن الوظيفة بعد ما قررت في الأرض لا تتبدل بتبدل المالك على ما علم فيما إذا اشتري التغلبي خراجية لا يضعف الخراج
ولهما أن في هذه الصورة دليلا يخصها
____________________
(2/252)
يقتضي تغيرها وهو وقوع الصلح على أن يضعف عليهم ما يبتدأ به المسلم فوجب تضعيف العشر دون الخراج لأنه مما لا يبتدأ به المسلم فإن قيل الصلح وقع على أن يضعف عليهم ما يأخذه بعضنا من بعض أما كونه بقيد كونه مما يبتدأ به المسلم
فمما يحتاج إلى أن توجد ونافيه دليلا وهذا ما قال المصنف في آخر الباب لأن الصلح جرى على تضعيف الصدقة دون المؤنة المحضة
قلنا سوق الصلح وهو الأنفة من إعطائهم الجزية لما فيها من الصغار يفيد أنه وقع على مالا يلزمهم به ما أنفوا منه فيفيد ما ذكرنا إذ ابتداء الخراج ذل وصغار ولهذا لا يبتدأ المسلم به وإذا اشترى ذمي غير تغلبي خراجية أو تضعيفية بقيت على حالها ولو اشترى عشرية من مسلم فعند أبي حنيفة
____________________
(2/253)
تصير خراجية إن استقرت في ملكه وإن لم تستقر بل ردت على البائع بفساد البيع أو بخيار شرط أو رؤية أو استحقها مسلم بشفعته عادت عشرية ولو بعد وضع الخراج لأن هذا الرد فسخ فيجعل البيع كأن لم يكن وبالاستحقاق بالشفعة تنتقل إلى المسلم الشفيع الصفقة كأنه اشتراها من المسلم وكذا إذا ردها بعيب بقضاء لأن للقاضي ولاية الفسخ وأما بغير قضاء فهي خراجية لأنه إقالة وهو بيع في حق غيرهما فصار شراء المسلم من الذمي بعد ما صارت خراجية فتصير على حالها ذكره التمرتاشي كما إذا أسلم هو واشتراها منه مسلم آخر وفي نوادر زكاة المبسوط ليس له أن يردها لأن الخراج عيب حدث فيها في ملكه
وأجيب بأن هذا عيب يرتفع بالفسخ فلا يمنع الرد وهذا بناء على أن المراد بما في النوادر ليس له أن يلزمه بالرد بالقضاء للمانع فمنعه بأنه مانع يرتفع بالرد وهذا للعلم بأن الرد بالتراضي إقالة فلا يمتنع للعيب
هذا التفريع كله على القول بصيرورتها خراجية وهو قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف يضاعف عليه عشرها
وقال محمد هي على حالها عشرية
ثم في رواية تصرف مصارف العشر وفي أخرى مصارف الخراج والأقوال الثلاثة بناء على جواز تبقيتها على ملكه
وقال مالك لا تبقي بل يجبر على إخراجها عنه
وقال الشافعي في قول لا يجوز البيع أصلا كقوله فيما إذا اشترى الذمي عبدا مسلما وفي قول يؤخذ منه العشر والخراج معا
وعن شريك لا شيء فيها قياسا على السوائم إذا اشتراها ذمي من مسلم وجه قول الشافعي أن القول بصحة البيع يوجب تقرر العشر ومال الكافر لا يصلح له فالقول بصحته يستلزم الممتنع
وجه قوله الآخر أن العشر كان وظيفتها فتنتقل إليه بما فيها ثم يجب أن يوظف عليه الخراج لما نذكر في وجه قول أبي حنيفة فيجبان عليه جميعا
وجه قول مالك أن ماله لا يصلح للعشر لما فيه من معنى العبادة ولا يمكن تغييره لتعلق حق الفقراء فيها فيجب إجباره على إخراجها عن ملكه إبقاء لحق الفقراء
وجه قول محمد أن معنى العبادة في العشر تابع فيمكن إلغاؤه قياسا على الخراج لما كان معنى العقوبة فيه تابعا ألغى في حق المسلم فتقرر عليه بقاء
وجه قول أبي يوسف أن تضعيف ما يؤخذ من المسلم على الذمي ثابت في الشرع كما إذا مر على العاشر ولم يكن عليه قبله فعلم أن ما يؤخذ من المسلم إذا ثبت أخذه من الذمي يضعف عليه
وجه قول أبي حنيفة أنه تعذر التضعيف لأنه إنما يثبت بحكم الصلح أو التراضي كما في التغلبيين وتعذر العشر لما فيه من معنى العبادة وإن سلم كونه تابعا فإنه ليس أهلا لشيء منها والأرض لا تخلو عن وظيفة مقررة فيها شرعا بخلاف السائمة على ما قدمنا وبه ينتفى قول شريك فتعين الخراج وهو الأليق بحال الكافر لاشتماله على معنى العقوبة
والحاصل أن هذا مما منع
____________________
(2/254)
بقاء الوظيفة فيه مانع فيندرج في ذلك الاستثناء السابق
هذا ثم إلى الآن لم يحصل جواب قول مالك أن التغيير إبطال لحق الفقراء بعد تعلقه فلا يجوز والتضعيف أيضا إبطال له لأن مصرف العشر المضاعف مصارف الجزية وإبقاء حقهم غير ممكن لأن ماله غير صالح له فلما لم يكن فيها إحدى الوظائف الثلاثة ولا إخلاؤها مطلقا وجب إجباره على إخراجها كما إذا اشترى الذمي عبدا مسلما عندنا يصح ويجبر على إخراجه عن ملكه فإن قلت فقول الشافعى بعدم الصحة حينئذ أول لأنه تعذرت الوظائف والإخلاء فوجب أن لا تبقي فلا فائدة في تصحيح العقد ثم الإجبار على الإخراج
فالجواب أن نفي الفائدة مطلقا ممنوع إذ قد يستتبع فائدة التجارة والاكتساب أو قصد الهبة في أغراض كثيرة فيجب التصحيح قوله فجعلها بستانا قيد به لأنه لو لم يجعلها بستانا وفيها نخل تغل أكرارا لا شيء فيها
قوله لأن الوظيفة تدور في مثله مع الماء فإذا كان الماء خراجيا ففيها الخراج وإن كانت عشرية في الأصل سقط عشرها باختطاطها دارا وإن سقيت بماء العشر فهي عشرية وإن كانت خراجية سقط خراجها بالاختطاط أيضا فالوظيفة في حقه تابعة للماء وليس في جعلها خراجية إذا سقيت بماء الخراج ابتداء توظيف الخراج على المسلم كما ظنه جماعة منهم الشيخ حسام الدين السغناقي في النهاية وأيد عدم امتناعه بما ذهب إليه أبو اليسر من أن ضرب الخراج على المسلم ابتداء جائز وقول شمس الأئمة لا صغار في خراج الأراضي إنما الصغار في خراج الجماجم بل إنما هو انتقال ما تقرر فيه الخراج بوظيفته إليه وهو الماء فإن فيه وظيفة الخراج فإذا سقي به انتقل هو بوظيفته إلى أرض المسلم كما لو اشترى خراجية وهذا لأن المقاتلة هم الذين حموا هذا الماء فثبت حقهم فيه وحقهم هو الخراج فإذا سقي به مسلم أخذ منه حقهم كما أن ثبوت حقهم في الأرض أعني خراجها لحمايتهم إياها يوجب مثل ذلك وصرح محمد في أبواب السير من الزيادات بأن المسلم لا يبتدأ بتوظيف الخراج وحمله السرخسي على ما إذا لم يباشر سبب ابتدائه بذلك ليخرج هذا الموضع وأنت علمت أن هذا ليس منه
وقوله الوظيفة في مثله أي فيما هو ابتداء توظيف على المسلم من هذا ومن الأرض التي أحياها لا كل ما لم يتقرر أمره في وظيفة كما في النهاية بأن الذمي لو جعل دار خطته بستانا أو أحيا أرضا أو رضخت له لشهوده القتال كان فيها الخراج وإن سقاها بماء العشر عند أبي حنيفة رحمه الله قوله وليس على المجوسي
____________________
(2/255)
قيد به ليفيد النفي في غيره من أهل الكتاب بالدلالة لأن المجوس أبعد عن الإسلام بدليل حرمة مناكحتهم وذبائحهم
قوله لأن عمر رضي الله عنه جعل المساكين عفوا هكذا هو مأثور في القصص وكتب الآثار من غير سند في كتاب الأموال لأبي عبيد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل الخراج على الأرضين التي تغل والتي تصلح للغلة من العامرة وعطل من ذلك المساكن والدور التي هي منازلهم وتوارثه عنه من غير سند وحكى عليه إجماع الصحابة
قوله وإن سقاها بماء العشر لأن العشر فيه معنى القربة والكفر ينافيه
وقال التمرتاشي فيما إذا اتخذ الذمي داره بستانا أو رضخت له أرض أو أحياها فهي خراجية وإن سقاها بماء العشر وعلى قياس قولهما ينبغي أن يجب فيهما العشر بخلاف المسلم إذا سقي داره الذي جعلها بستانا بماء الخراج حيث يجب الخراج بالاتفاق
وفي شرح الكنز قالوا ينبغي أن يجب فيها عشران على قياس قول أبي يوسف وعلى قول محمد عشر واحد كما مر من أصلهما ثم نظر فيه بأن ذلك كان في أرض استقر فيها العشر
وصار وظيفة لها بأن كانت في يد مسلم اه
وقد قرر هو ثبوت الوظيفة في الماء وهو حق وعلى هذا فلا يدفع ما ذكره المشايخ بما أورده
والله سبحانه أعلم
قوله ثم الماء العشري ماء السماء والعيون والبحار التي لا يتحقق ورود يد أحد عليها وماء الخراج
____________________
(2/256)
ماء الأنهار التي شقتها الأعاجم كنهر الملك ونهر يزدجرد واختلفوا في سيحون نهر الترك وجيحون نهر ترمذ ودجلة نهر بغداد والفرات نهرالكوفة هل هي خراجية أولا على ما في الكتاب وهو بناء على أنه هل يرد عليها يد أحد أو لا فعند محمد لا وعند أبي حنيفة وأبي يوسف نعم فإن السفن يشد بعضها إلى بعض حتى تصير جسرا يمر عليه كالقنطرة وهذا يد عليها فهي خراجية
قيل ما ذكر في ماء الخراج ظاهر فإن ماء الأنهار التي شقتها الكفرة كان لهم يد عليها ثم حويناها قهرا وقررنا يد أهلها عليها كأراضيهم وأما في ماء العشر فليس بظاهر فإن الآبار والعيون التي في دار الحرب وحويناها قهرا وخراجية صرحوا بذلك معللين بأنه غنيمة وعللوا العشرية بعدم ثبوت اليد عليها فلم تكن غنيمة ولا يتم هذا إلا في البحار والأمطار ثم قالوا في مائهما لو سقي كافر بهما أرضه يكون فيها الخراج بل البحار أيضا خراجية على ما ذكرنا من قول أبي حنيفة وأبي يوسف فلم يبق إلا ماء المطر وقد علمت أن الكافر إذا سقى به عليه الخراج ولم يختلفوا فيه كاختلافهم في أرض عشرية اشتراها ذمي ولا يخفى أن كون الآبار والعيون التي كانت حين كانت الأرض دار حرب خراجية لا ينفي العشرية في كل عين وبئر فإن كثيرا من الآبار والعيون احتفرها المسلمون بعد صيرورة الأرض دار إسلام وعلى هذا فيجب التعميم فإن ما نراه منها الآن إما معلوم الحدوث بعد الإسلام وإما مجهول الحال أما ثبوت معلومية أنه جاهلي فمتعذر إذ أكثر ما كان من فعلهم قد دثر وسفته الرياح ولم يبق من ثبوت ذلك إلا قول العوام غير مستندين فيه إلى نبت فيجب الحكم في كل ما نراه بأنه إسلامي إضافة للحادث إلى أقرب وقتيه
____________________
(2/257)
الممكنين ويكون ظهور القسمين بالنسبة إلى سقى المسلم مالم تسبق فيه وظيفة والله أعلم
قوله في عين القير هو الزفت ويقال القار والنفظ دهن يعلو الماء
قوله وهذا إذا كان حريمها صالحا للزراعة ثم يمسح موضع القير في رواية تبعا وفي رواية لا يمسح لأنها لا تصلح للزراعة
فرع لا يجمع على مالك أرض عشر وخراج لما روى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله ابن مسعود
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجمع على مسلم عشر وخراج في أرض والإجماع الصحابة إذ قد فتحوا السواد ولم ينقل عنهم قط جمعهما على مالك & باب من يجوز دفع الصدقة إليه ومن لا يجوز
____________________
(2/258)
قوله الأصل فيه أي فيمن يجوز الدفع إليه ومن لا قوله تعالى { إنما الصدقات للفقراء } الآية فمن كان من هؤلاء الأصناف كان مصرفا ومن لا فلا لأن إنما تفيد الحصر فيثبت النفي عن غيرهم قوله سقط منها المؤلفة قلوبهم كانوا ثلاثة أقسام قسم كفار كان عليه الصلاة والسلام يعطيهم ليتألفهم على الإسلام وقسم كان يعطيهم ليدفع شرهم وقسم أسلموا وفيهم ضعف في الإسلام فكان يتألفهم ليثبتوا ولا حاجة إلى إيراد السؤال القائل كيف يجوز صرف الصدقة إلى الكفار
وجوابه أنه كان من جهاد الفقراء في ذلك الوقت أو من الجهاد لأنه تارة بالسنان ومرة بالإحسان لأن الذي إليه نصب الشرع إذا نص على الصرف إليهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من هم بالإعطاء كان هذا هو المشروع والأسئلة على ما يجتهد فيه باعتبار نبو عن المنصوص أو القواعد التي تعطيها العمومات حتى يجاب بما يفيد إدراجها في نصوص الشارع أو قواعده المفادة بالعمومات أو باللوازم لأحدهما فكيف بما هو نفس المنصوص عليه
فإن قلت السؤال معناه طلب حكمة المشروع المنصوص
قلنا لو كان كذلك كان جوابه بنفس ما عللنا به إعطاء الأقسام الثلاثة لا بما أجابوا به فتأمل مستعينا
ثم روى الطبري في تفسيره في قوله تعالى { إنما الصدقات للفقراء } الآية بإسناده عن يحيى بن أبي كثير قال المؤلفة قلوبهم من بني أمية سفيان بن حرب ومن بني مخزوم الحرث بن هشام وعبد الرحمن بن يربوع ومن بني جمح صفوان بن أمية ومن بني عامر بن لؤي سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومن بني أسد بن عبد العزى حكيم بن حزام ومن بني هاشم أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب ومن فزارة عيينة بن حصن ومن بني تميم الأقرع بن حابس ومن بني نصر مالك بن عوف ومن بني سليم العباس بن مرداس ومن ثقيف العلاء بن حارثة أعطى النبي صلى الله عليه وسلم كل رجل منهم مائة ناقة إلا عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العزى فإنه أعطى كل رجل منهما خمسين وأسند أيضا قال عمر بن الخطاب حين جاء عيينة بن حصن { الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } يعني ليس اليوم مؤلفة
وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي إنما كانت المؤلفة على عهد
____________________
(2/259)
النبي صلى الله عليه وسلم فلما ولي أبو بكر انقطعت قوله على ذلك انعقد الإجماع أي إجماع الصحابة في خلافة أبي بكر فإن عمر ردهم وقال ما ذكرنا لعيينة وقيل جاء عيينة والأقرع يطلبان أرضا إلى أبي بكر فكتب له الخط فمزقه عمر وقال هذا شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيكموه ليتألفكم على الإسلام والآن فقد أعز الله الإسلام وأغنى عنكم فإن ثبتم على الإسلام وإلا فيبننا وبينكم السيف فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا الخليفة أنت أم عمر فقال هو إن شاء ووافقه فلم ينكر أحد من الصحابة مع ما يتبادر منه من كونه سببا لإثارة الثائرة أو ارتداد بعض المسلمين فلولا اتفاق عقائدهم على حقيقته وأن مفسدة مخالفته أكثر من المفسدة المتوقعة لبادروا لإنكاره نعم يجب أن يحكم على القول بأنه لا إجماع إلا عن مستند علمهم بدليل أفاد نسخ ذلك قبل وفاته أو أفاد تقييد الحكم بحياته عليه الصلاة والسلام أو على كونه حكما ملغيا بانتهاء علته وقد اتفق انتهاؤها بعد وفاته أو من آخر عطاء أعطاهموه حال حياته أما مجرد تعليله بكونه معللا بعلة انتهت فلا يصلح دليلا يعتمد في نفي الحكم المعلل لما قدمناه من قريب في مسائل الأرض من أن الحكم لا يحتاج في بقائه إلى بقاء علته لثبوت استغنائه في بقائه عنها شرعا لما علم في الرق والاضطباع والرمل فلا بد في خصوص محل يقع فيه الانتفاء عند الانتفاء من دليل يدل على أن هذا الحكم مما شرع مقيدا ثبوته بثبوتها غير أنه لا يلزمنا تعيينه في محل الإجماع بل إن ظهر وإلا وجب الحكم بأنه ثابت على أن الآية التي ذكرها عمر رضي الله عنه تصلح لذلك وهي قوله تعالى { الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } والمراد بالعلة في قولنا حكم مغيا بانتهاء علته العلة الغائية وهذا لأن الدفع للمؤلفة هو العلة للإعزاز إذ يفعل الدفع ليحصل الإعزاز فإنما انتهى ترتب الحكم الذي هو الإعزاز على الدفع الذي هو العلة وعن هذا قيل عدم الدفع الآن للمؤتلفة تقريرا لما كان في زمنه عليه الصلاة والسلام لا نسخ لأن الواجب كان الإعزاز وكان بالدفع والآن هو في عدم الدفع لكن لا يخفى أن هذا لا ينفي النسخ لأن
____________________
(2/260)
إباحة الدفع إليهم حكم شرعي كان ثابتا وقد ارتفع وغاية الأمر أنه حكم شرعي هو علة لحكم آخر شرعي فنسخ الأول لزوال علته قوله والفقير من له أدنى شيء وهو ما دون النصاب أو قدر نصاب غير نام وهو مستغرق في الحاجة والمسكين من لا شيء له فيحتاج للمسألة لقوته أو ما يواري بدنه ويحل له ذلك بخلاف الأول حيث لا تحل المسألة له فإنها لا تحل لمن يملك قوت يومه بعد سترة بدنه وعند بعضهم لا تحل لمن كان كسوبا أو يملك خمسين درهما ويجوز صرف الزكاة لمن لا تحل له المسألة بعد كونه فقيرا ولا يخرجه عن الفقر ملك نصب كثير غير نامية إذا كانت مستغرقة بالحاجة ولذا قلنا يجوز للعالم وإن كانت له كتب تساوي نصبا كثيرة على تفصيل ما قدمناه فيها إذا كان محتاجا إليها للتدريس أو بالحفظ أو التصحيح ولو كانت ملك عامي وليس له نصاب نام لا يحل دفع الزكاة له لأنها غير مستغرقة في حاجته فلم تكن كثياب البذلة وعلى هذا جميع آلات المحترفين إذا ملكها صاحب تلك الحرفة وغيره
والحاصل أن النصب ثلاثة نصاب يوجب الزكاة على مالكه وهو النامي خلقة أو إعدادا وهو سالم من الدين ونصاب لا يوجبها وهو ما ليس أحدهما فإن كان مستغرقا بحاجة مالكه حل له أخذها وإلا حرمت عليه كثياب تساوي نصابا لا يحتاج إلى كلها أو أثاث لا يحتاج إلى استعماله كله في بيته وعبد وفرس لا يحتاج إلى خدمته وركوبه ودار لا يحتاج إلى سكنها فإن كان محتاجا إلى ما ذكرنا حاجة أصلية فهو فقير يحل دفع الزكاة إليه وتحرم المسألة عليه ونصاب يحرم المسألة وهو ملك قوت يومه أو لا يملكه لكنه يقدر على الكسب أو يملك خمسين درهما على الخلاف في ذلك قوله ولكل وجه وجه كون الفقير أسوأ حالا قوله تعالى { أما السفينة فكانت لمساكين } أثبت للمساكين سفينة
وأجيب بأنها لم تكن لهم بل هم أجراء فيها أو عارية لهم أو قيل لهم مساكين ترحما
وقوله عليه الصلاة والسلام اللهم احيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين مع ما روى أنه تعوذ بالله من الفقر وجوابه أن الفقر المتعوذ منه ليس إلا فقر النفس لما صح أنه كان يسأل العفاف والغنى والمراد منه غنى النفس لا كثرة الدنيا فلا دليل على أن الفقير أسوأ حالا من المسكين ولأن الله تعالى قدمهم في الآية على المساكين فدل على زيادة الإهتمام بهم وذلك مظنة زيادة حاجتهم
وقد يمنع بأنه قدم العاملين على الرقاب مع أن حالهم أحسن ظاهرا وأخر في سبيل الله وابن السبيل مع الدلالة على زيادة تأكيد الدفع إليهم حيث أضاف إليهم بلفظة في فدل أن التقديم لاعتبار آخر غير زيادة الحاجة والاعتبارات المناسبة لا تدخل تحت ضبط خصوصا من علام الغيوب ولأن الفقير بمعنى المفقور وهو المكسور الفقار فكان أسوأ حالا ومنع بجواز كونه
____________________
(2/261)
من فقرت له فقرة من مالي أي قطعة منه فيكون له شيء وقول الشاعر ** هل لك في أجر عظيم تؤجره ** تعين مسكينا كثيرا عسكره ** ** عشر شياه سمعه وبصره **
عورض بقول الآخر ** أما الفقير الذي كانت حلوبته ** وفق العيال فلم يترك له سبد **
يقال ماله سبد ولا لبد أي شيء وأصل السبد الشعر كذا في ديوان الأدب وقول الأول عشر شياه سمعه الخ لم يستلزم أنها مملوكته هي سمعه لجواز عشر تحصل له تكون سمعه فيكون سائلا من المخاطب عشر شياه يستعين بها على عسكره أي عياله ويؤجر فيها المخاطب الدافع لها
وجه الأخرى قوله تعالى { أو مسكينا ذا متربة } أي ألصق جلده بالتراب محتفرا حفرة جعلها إزاره لعدم ما يواريه أو ألصق بطنه به للجوع وتمام الاستدلال به موقوف على أن الصفة كاشفة والأكثر خلافه فيحمل عليه فتكون مصنفة وخص هذا الصنف بالحض على إطعامهم كما خص اليوم بكونه ذا مسغبة أي مجاعة لقحط وغيره ومن تخصيص اليوم علمنا أن المقصود في هذه الآية الحض على الصدقة في حال زيادة الحاجة زيادة حض
وقوله عليه الصلاة والسلام ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يعرف ولا يفطن له فيعطي ولا يقوم فيسأل الناس متفق عليه
فمحمل الإثبات أعنى قوله ولكن المسكين الذي لا يعرف فيعطي مراد معه وليس عنده شيء فإنه نفي المسكنة عمن يقدر على لقمة ولقمتين بطريق المسألة وأثبتها لغيره فهو بالضرورة من لا يسأل مع أنه لا يقدر على اللقمة واللقمتين لكن المقام مقام مبالغة في المسكنة ولذا صرح المشايخ في عرض أن المراد ليس الكامل في المسكنة وعلى هذا فالمسكنة المنفية عن غيره هي المسكنة المبالغ فيها لا مطلق المسكنة وحينئذ لا يفيد المطلوب
الثالث موضع الاشتقاق وهو السكون يفيد المطلوب كأنه عجز عن الحركة فلا يبرح
قوله ثم هما صنفان أو صنف واحد ثمرته في الوصايا والأوقاف إذا أوصى بثلثه لزيد وللفقراء والمساكين أو وقف فلزيد ثلث الثلث ولكل ثلثه على قول أبي حنيفة وعلى قول أبي يوسف لفلان نصف الثلث وللفريقين نصفه بناء على جعلهما صنفا واحدا والصحيح قول أبي حنيفة ذكره فخر الإسلام قوله فيعطيه ما يسعه وأعوانه من كفايتهم بالوسط إلا إن استغرقت كفايته الزكاة فلا يزاد على النصف
____________________
(2/262)
لأن التنصيف عين الإنصاف
وتقدير الشافعي بالثمن بناء على وجوب صرف الزكاة إلى كل الأصناف وهم ثمانية إنما يتم على اعتبار عدم سقوط المؤلفة قلوبهم ولو هلك المال قبل أن يأخذ لم يستحق شيئا لأن استحقاقه فيما عمل فيه كالمضارب إذا هلك المال بعد ظهور الربح قوله فلم تعتبر الشبهة أي شبهة الصدقة في حق الغني كما اعتبر في حق الهاشمي لأنه لا يوازي الهاشمي في استحقاق الكرامة ومنع الهاشمي من العمالة صريح في الحديث الذي سيأتي وننبهك عليه إن شاء الله تعالى قوله وهو المنقول أخرج الطبري في تفسيره من طريق محمد بن إسحاق عن الحسن بن دينار ر عن الحسن البصري أن مكاتبا قام إلى أبي موسى الأشعري وهو يخطب يوم الجمعة فقال له أيها الأمير حث الناس علي فحث عليه أبو موسى فألقى الناس عليه هذا يلقى عمامة وهذا يلقى ملاءة وهذا يلقى خاتما حتى ألقى الناس عليه سوادا كثيرا فلما رأى أبو موسى ما ألقى عليه قال اجمعوه ثم أمر به فبيع فأعطى المكاتب مكاتبته ثم أعطى الفضل في الرقاب ولم يرد على الناس وقال إن هذا الذي أعطوه في الرقاب
وأخرج عن الحسن البصري والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم قالوا في الرقاب هم المكاتبون
وأما ما روى أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال دلني على عمل يقربني إلى الجنة ويباعدني من النار فقال أعتق النسمة وفك الرقبة فقال أو ليسا سواء قال لا عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها وفك النسمة أن تعين في ثمنها رواه أحمد وغيره فقيل ليس فيه ما يستلزم كون هذا هو معنى وفي الرقاب المذكور في الآية قوله والغارم من لزمه دين أو له دين على الناس لا يقدر على أخذه وليس عنده نصاب فاضل في الفصلين ولو دفع إلى فقيرة لها مهر دين على زوجها يبلغ نصابا وهو موسر بحيث لو طلبت أعطاها لا يجوز وإن كانت بحيث لا يعطي لو طلبت جاز قوله وقال الشافعي هو من تحمل الخ فيأخذ وإن كان غنيا وعندنا لا يأخذ إلا إذا لم
____________________
(2/263)
يفضل له بعد ما ضمنه قدر نصاب والنائرة بالنون قوله لما روى أنه عليه الصلاة والسلام أمر رجلا الخ أخرج أبو داود في باب العمرة عن أبي عبد الرحمن قال أمرني رسول مروان الذي أرسل إلى أم معقل فساقه إلى أن ذكر قالت يا رسول الله إن على حجة ولأبي معقل بكرا قال أبو معقل جعلته في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطها فلتحج عليه فإنه في سبيل الله فاعطاها البكر وإبراهيم بن مهاجر متكلم فيه وفي بعض طرقه أنه كان بعد وفاة أبي معقل ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها اعتمري عليه
ثم فيه نظر لأن المقصود ما هو المراد بسبيل الله المذكور في الآية والمذكور في الحديث لا يلزم كونه إياه لجواز أنه أراد الأمر الأعم وليس ذلك المراد في الآية بل نوع مخصوص وإلا فكل الأصناف في سبيل الله بذلك المعنى ثم لا يشكل أن الخلاف فيه لا يوجب خلافا في الحكم للاتفاق على أنه إنما يعطى الأصناف كلهم سوى العامل بشرط الفقر فمنقطع الحاج يعطى اتفاقا قوله ولا يصرف إلى أغنياء الغزاة عندنا يشعر بالخلاف وسنذكر الخلاف من قريب قوله وابن السبيل هو المسافر سمى به لثبوته في السبيل وهو الطريق فيجوز له أن يأخذ
____________________
(2/264)
وإن كان له مال في وطنه لا يقدر عليه للحال ولا يحل له أن يأخذ أكثر من حاجته والأولى له أن يستقرض إن قدر ولا يلزمه ذلك لجواز عجزه عن الأداء وألحق كل من هو غائب عن ماله وإن كان في بلده ولا يقدر عليه به ولا يلزم ابن السبيل التصدق بما فضل في يده عند قدرته على ماله كالفقير إذا استغنى والمكاتب إذا عجز وعندهما من مال الزكاة لا يلزمهما التصدق قوله وله أن يقتصر على صنف واحد وكذا له أن يقتصر على شخص واحد قوله بحرف اللام للاستحقاق وذكر كل صنف بلفظ الجمع فوجب أن يصرف إلى ثلاثة من كل صنف وإن كان محلى باللام لأن الجنس هنا غير ممكن فيه الاستغراق فتبقى الجمعية على حالها
قلنا حقيقة اللام الاختصاص الذي هو المعنى الكلي الثابت في ضمن الخصوصيات من الملك والاستحقاق وقد يكون مجردا فحاصل التركيب إضافة الصدقات العام الشامل لكل صدقة متصدق إلى الأصناف العام كل منها الشامل لكل فرد فرد بمعنى أنهم أجمعين أخص بها كلها وهذا لا يقتضي لزوم كون كل صدقة واحدة تنقسم على أفراد كل صنف غير أنه استحال ذلك فلزم أقل الجمع منه بل أن الصدقات كلها للجميع أعم من كون كل صدقة صدقة لكل فرد فرد لو أمكن أو كل صدقة جزئية لطائفة أو لواحد
وأما على اعتبار أن الجمع إذا قوبل بالجمع أفاد من حيث الاستعمال العربي انقسام الآحاد على الآحاد نحو { جعلوا أصابعهم في آذانهم } وركب القوم دوابهم فالإشكال أبعد حينئذ إذ يفيد أن كل صدقة لواحد وعلى هذا الوجه لا حاجة إلى نفي أنها للاستحقاق بل مع كونها له يجيء هذا الوجه فلا يفيد الجمع من كل صنف إلا أنهم صرحوا بأن المستحق هو الله سبحانه غير أنه أمر بصرف استحقاقة إليهم على إثبات الخيار للمالك في تعيين من يصرفه إليه فلا تثبت حقيقة الاستحقاق لواحد إلا بالصرف إليه إذ قبله لا تعين له ولا استحقاق إلا لمعين وجبر الإمام لقوم علم أنهم لا يؤدون الزكاة على إعطاء الفقراء ليس إلا للخروج عن حق الله تعالى لا لحقهم ثم رأينا المروي عن الصحابة نحو ما ذهبنا إليه رواه البيهقي عن ابن عباس وابن أبي شيبة عن عمر
وروى الطبري في هذه الآية أخبرنا عمران بن عيينة عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } الآية قال في أي صنف وضعته
____________________
(2/265)
أجزاك اه أخبرنا جرير عن ليث عن عطاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه { إنما الصدقات للفقراء } الآية قال أيما صنف أعطيته من هذا أجزأ عنك حدثنا حفص عن ليث عن عطاء عن عمر أنه كان يأخذ الفرض من الصدقة فيجعله في صنف واحد
وروى أيضا عن الحجاج بن أرطأة عن المنهال بن عمرو عن زر بن حبيش عن حذيفة أنه قال إذا وضعتها في صنف واحد أجزأك وأخرج نحو ذلك عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباج وإبراهيم النخعي وأبي العالية وميمون بن مهران بأسانيد حسنة واستدل ابن الجوزي في التحقيق بحديث معاذ فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم والفقراء صنف واحد
وفيه نظر تسمعه قريبا
وقال أبو عبيد في كتاب الأموال ومما يدل على صحة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بعد ذلك مال فجعله في صنف واحد وهم المؤلفة قلوبهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعلقمة بن علاثة وزيد الخيل قسم فيهم الذهيبة التي بعث بها معاذ من اليمن وإنما تؤخذ من أهل اليمن صدقة ثم أتاه مال آخر فجعله في صنف آخر وهم الغارمون فقال لقبيصة بن المخارق حين أتاه وقد تحمل حمالة يا قبيصة أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها
وفي حديث سلمة بن صخر البياضي أنه أمر له بصدقة قومه
وأما الآية فالمراد بها بيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم
قيل ولم يرو عن غيرهم ما يخالفهم قولا ولا فعلا
قوله لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ الخ رواه أصحاب الكتب الستة من حديث ابن عباس قال قال عليه الصلاة والسلام إنك ستأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة يؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب قوله ويدفع لهم أي لأهل الذمة ما سوى ذلك كصدقة الفطر والكفارات ولا يدفع ذلك لحربي ومستأمن وفقراء المسلمين أحب قوله ولنا قوله عليه الصلاة والسلام تصدقوا على أهل الأديان كلها
____________________
(2/266)
روى ابن أبي شيبة مرسلا حدثنا جرير بن عبد الحميد عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا إلا على أهل دينكم فأنزل الله تعالى { ليس عليك هداهم } إلى قوله { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } فقال صلى الله عليه وسلم تصدقوا على أهل الأديان كلها
وقال أيضا مرسلا حدثنا أبو معاوية عن الحجاج عن سالم المكي عن محمد بن الحنفية قال كره الناس أن يتصدقوا على المشركين فأنزل الله سبحانه { ليس عليك هداهم } قال فتصدق الناس عليهم
وروى أحمد بن زنجويه النسائي في كتاب الأموال حدثنا علي بن الحسن عن أبي سعيد بن أبي أيوب عن زهرة بن معبد عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدق على أهل بيت من اليهود بصدقة فهي تجري عليهم قوله ولولا حديث معاذ لقلنا بالجواز أي بجواز دفع الزكاة إلى الذمي لكن حديث معاذ مشهور فجازت الزيادة به على إطلاق الكتاب أعنى إطلاق الفقراء في الكتاب أو هو عام خص منه الحربي بالإجماع مستندين إلى قوله تعالى { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين } فجاز تخصيصه بعد بخبر الواحد قوله لانعدام التمليك وهو الركن فإن الله تعالى سماها صدقة وحقيقة الصدقة تمليك المال من الفقير وهذا في البناء ظاهر وكذا في التكفين لأنه ليس تمليكا للكفن من الميت ولا
____________________
(2/267)
الورثة ولذا لو أخرجت السباع الميت فأكلته كان الكفن لصاحبه لا لهم قوله لأن قضاء دين الغير لا يقتضي التمليك منه ولذا لو تصادق الدائن والديون على أن لا دين كان للمزكي أن يسترد من القابض ومحمل هذا أن أن يكون بغير إذن الحي أما إذا كان بإذنه وهو فقير فيجوز عن الزكاة على أنه تمليك منه والدائن يقبضه بحكم النيابة عنه ثم يصير قابضا لنفسه
وفي الغاية نقلا من المحيط والمفيد لو قضى بها دين حيى أو ميت بأمره جاز ومعلوم إرادة قيد فقر المديون وظاهر فتاوي قاضيخان يوافقه لكن ظاهر إطلاق الكتاب وكذا عبارة الخلاصة حيث قال لو بني مسجدا بنية الزكاة أو حج أو أعتق أو قضى دين حي أو ميت بغير إذن الحي لا يجوز عدم الجواز في الميت مطلقا ألا ترى إلى تخصيص الحي في حكم عدم الجواز بعدم الإذن وإطلاقه في الميت وقد يوجه بأنه لا بد من كونه تمليكا للمديون والتمليك لا يقع عند أمره بل عند أداء المأمور وقبض النائب وحينئذ لم يكن المديون أهلا للتملك لموته
وقولهم الميت يبقي ملكه فيما يحتاج إليه من جهازه ونحوه حاصله بقاؤه بعد ابتداء ثبوته حالة الأهلية وأين هو من حدوث ملكه بالتمليك والتملك ولا يستلزمه
وعما قلنا يشكل استرداد المزكي عند التصادق إذا وقع بأمر المديون لأن بالدفع وقع الملك للفقير بالتمليك وقبض النائب أعني الفقير
وعدم الدين في الواقع إنما يبطل به صيرورته قابضا لنفسه بعد القبض نيابة لا التمليك الأول لأن غاية الأمر أن يكون ملك فقيرا على ظن أنه مديون وظهور عدمه لا يؤثر عدمه بعد وقوعه لله تعالى وإذا لم يكن له أن يسترد من الفقير إذا عجل له الزكاة ثم تم الحول ولم يتم النصاب المعجل عنه لزوال ملكه بالدفع فلأن لا يملك الاسترداد هنا أولى بخلاف ما إذا عجل للساعي والمسألة بحالها حيث له أن يسترد لعدم زوال الملك على ما قدمناه وكذا ما ذكر في الخلاصة والفتاوي لو جاء الفقير إلى المالك بدراهم ستوقة ليردها فقال المالك رد الباقي فإنه ظهر أن النصاب لم يكن كاملا فلا زكاة علي ليس له أن يسترد إلا باختيار الفقير فيكون هبة مبتدأة من الفقير حتى لو كان الفقير صبيا لم يجز أن يأخذه منه وإن رضي فهنا أولى
فرع لو أمر فقيرا بقبض دين له على آخر نواه عن زكاة عين عنده جاز لأن الفقير يقبض عينا فكان عينا
____________________
(2/268)
عن عين ولو تصدق بدين له على فقير ينويه عن زكاته جاز عن ذلك الدين نفسه لا عن عين ولا دين آخر قوله لقوله عليه الصلاة والسلام لا تحل الصدقة لغني أخرج أبو داود عن الترمذي عن ابن عمر عنه عليه الصلاة والسلام لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى حسنه الترمذي وفيه ريحان بن زيد تكلم فيه ووثقه ابن معين وقال ابن حبان كان أعرابي صدق
ولهذا الحديث طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة كلهم يرويه عن رسول الله وأحسنها عندي ما أخرجه النسائي وأبو داود عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عدي ابن الخيار قال أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الصدقة فسألاه فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين فقال إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب
قال صاحب التنقيح حديث صحيح
قال الإمام أحمد ما أجوده من حديث هو أحسنها إسنادا فهذا مع حديث معاذ يفيد منع غنى الغزاة والغارمين عنها فهو حجة على الشافعي في تجويزه لغنى الغزاة إذا لم يكن له شيء في الديوان ولم يأخذ من الفيء وما تقدم من أن الفقراء في حديث معاذ صنف واحد كما قاله ابن الجوزي غير صحيح فإن ذلك المقام مقام إرسال البيان لأهل اليمن وتعليمهم والمفهوم من فقرائهم من اتصف بصفة الفقر أعم من كونه غارما أو غازيا فلو كان الغني منهما مصرفا كان فوق ترك البيان في وقت الحاجة لأن في ذلك إبقاء للجهل البسيط وفي هذا إيقاعهم في الجهل المركب لأن المفهوم لهم من ذلك أن الغني مطلقا ليس يجوز الصرف إليه غازيا أو غيره فإذا فرض أنه خلاف الواقع لزم ما قلنا وهو غير جائز فلا يجوز ما يفضي إليه مع أن نفس الأسماء المذكورة في الآية تفيد أن المناط في الدفع إليهم الحاجة لما عرف من تعليق الحكم بالمشتق أن مبدأ اشتقاقه علته ومأخذ الاشتقاقات في هذه الأسماء تنبه على قيام الحاجة فالحاجة هي العلة في جواز الدفع إلا المؤلفة قلوبهم فإن مأخذ اشتقاقه يفيد أن المناط التأليف وإلا العامل فإنه يفيد أنه العمل وفي كون العمل سببا للحاجة تردد فإنه ظاهرا يكون له أعونة وخدم ويهدي إليه وغالبا تطيب نفس إمامه له بكثير مما يهدي إليه فلا تثبت عليه الفقر في حقه بالشك وما رواه أبو داود وابن ماجه ومالك عنه عليه الصلاة والسلام لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة العامل عليها ورجل اشتراها بماله وغارم وغاز في سبيل الله ورجل له جار مسكين تصدق بها عليه فأهداها إلى الغنى قيل لم يثبت ولو ثبت لم يقو قوة حديث معاذ فإنه رواه أصحاب الكتب الستة مع قرينة من الحديث الآخر ولو قوى قوته ترجح حديث معاذ بأنه مانع وما رواه مبيح مع أنه دخله التأويل عندهم حيث قيد الأخذ له بأن لا يكون له شيء في الديوان ولا أخذ من الفيء وهو أعم من ذلك وذلك يضعف الدلالة بالنسبة إلى ما لم يدخله تأويل قوله ولا يدفع المزكي زكاته الخ الأصل أن كل من انتسب إلى المزكي بالولاد أو انتسب هو له به لا يجوز صرفها له فلا يجوز لأبيه وأجداده وجداته من قبل الأب والأم وإن علوا ولا إلى أولاده وأولادهم وإن سفلوا
____________________
(2/269)
ولا يدفع إلى المخلوق مائه بالزنا ولا إلى ولد أم ولده الذي نفاه ولو تزوجت امرأة الغائب قال أبو حنيفة الأولاد من الأول ومع هذا يجوز للأول دفع الزكاة إليهم وسائر القرابات غير الولاد يجوز الدفع إليهم وهو أولى لما فيه من الصلة مع الصدقة كالأخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات ولو كان بعضهم في عياله ولم يفرض القاضي النفقة له عليه فدفعها إليه ينوي الزكاة جاز عن الزكاة وإن فرضها عليه فدفعها ينوي الزكاة لا يجوز لأنه أداء واجب في واجب آخر فلا يجوز إلا إذا لم يحتسبها بالنفقة لتحقق التمليك على الكمال
وفي الفتاوي والخلاصة رجل له أخ قضي عليه بنفقته فكساه وأطعمه ينوي به الزكاة قال أبو يوسف يجوز وقال محمد يجوز في الكسوة لا في الإطعام
وقول أبي يوسف في الإطعام خلاف ظاهر الرواية وهذا خلاف ما قبله
ويمكن بناء الاختلاف في الإطعام على أنه إباحة أو تمليك وفي الكافي عائل يتيم أطعمه عن زكاته صح خلافا لمحمد لوجود الركن وهو التمليك وهذا إذا سلم الطعام إليه أما إذا لم يدفع إليه لا يجوز لعدم التمليك اه
ومقتضاه أن محمد لا يجيزه وإن سلم الطعام إليه مع أنه لا قضاء في هذه المسألة وهو بعيد من محمد رحمه الله قوله ولا إلى امرأته للاشتراك في المنافع قال الله تعالى { ووجدك عائلا فأغنى } أي بمال خديجة وإنما كان منها إدخاله عليه الصلاة والسلام في المنفعة على وجه الإباحة والتمليك أحيانا فكان الدافع إلى هؤلاء كالدافع لنفسه من وجه إذ كان ذلك الاشتراك ثابتا وكذا لا يدفع إليهم صدقة فطره وكفارته وعشره بخلاف خمس الركاز يجوز دفعه لهم لأنه لا يشترط فيه إلا الفقر ولهذا لو افتقر هو قبل أن يخرجه جاز أن يمسكه لنفسه فصار الأصل في الدفع المسقط كونه على وجه تنقطع منفعته عن الدافع ذكروا معناه ولا بد من قيد آخر وهو مع قبض معتبر احترازا عما لو دفع للصبي الفقير غير العاقل والمجنون فإنه لا يجوز وإن دفعها الصبي إلى أبيه قالوا لا يجوز
كما لو وضع زكاته على دكان فجاء الفقير وقبضها لا يجوز فلا بد في ذلك من أن يقبضها لهما الأب أو الوصي أو من كانا في عياله من الأقارب أو الأجانب الذين يعولونه والملتقط يقبض للقيط ولو كان الصبي مراهقا أو يعقل القبض بأن كان لا يرمي به ولا يخدع عنه يجوز
ولو وضع الزكاة على يده فانتهبها الفقراء جاز وكذا إن سقط ماله من يده فرفعه فقير فرضي به جاز إن كان يعرفه والمال قائم والدفع إلى المعتوه مجزىء قوله لما ذكرنا أي من الاشتراك في المنافع فلم يتحقق الخروج عنه على الكمال وهما قال لا يصح القياس مع النص وهو ما في الصحيحين والنسائي عن زينب امرأة ابن مسعود قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن قالت فرجعت إلى عبد الله فقلت إنك رجل خفيف ذات اليد وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة فأته فاسأله فإن كان ذلك يجزىء عني وإلا صرفتها إلى غيركم قالت فقال لي عبد الله بل ائتبه أنت قالت فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتي
____________________
(2/270)
حاجتها قالت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة قاله فخرج علينا بلال فقلت أئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك هل تجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما ولا تخبره من نحن قالت فدخل بلال على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من هما قال امرأة من الأنصار وزينب
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الزيانب قال امرأة عبد الله
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة ورواه البزار في مسنده فقال فيه فلما انصرف وجاء إلى منزله يعني النبي صلى الله عليه وسلم جاءته زينب امرأة عبد الله فاستأذنت عليه فأذن لها فقالت يا نبي الله إنك اليوم أمرتنا بالصدقة وعندي حلي لي فأردت أن أتصدق به فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدق به عليهم فقال عليه الصلاة والسلام صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم ولا معارضة لازمة بين هذه والأولى في شيء بأدنى تأمل
وقوله وولدك يجوز كونه مجازا عن الربائب وهم الأيتام في الرواية الأخرى وكونه حقيقة والمعنى أن ابن مسعود إذ تملكها أنفقها عليهم والجواب أن ذلك كان في صدقة نافلة لأنها هي التي كان عليه الصلاة والسلام يتخول بالموعظة والحث عليها
وقوله هل يجزئ إن كان في عرف الفقهاء الحادث لا يستعمل غالبا إلا في الواجب لكن كان في ألفاظهم لما هو أعم من النفل لأنه لغة الكفاية فالمعنى هل يكفي التصدق عليه في تحقيق مسمى الصدقة وتحقيق مقصودها من التقرب إلى الله تعالى فيسلم القياس حينئذ عن المعارض قوله وله حق في كسب مكاتبه ولذا لو تزوج بأمة مكاتبه لم يجز بمنزلة تزوجه بأمة نفسه قوله لأنه حر مديون إما أن يكون لفظ أعتق بعضه مبنيا للفاعل أو للمفعول فعلى الأول لا يصح التعليل لهما بأنه حر مديون إذ هو حر كله بلا دين عندهما لأن العتق لا يتجزأ عندهما فإعتاق بعضه إعتاق كله وعلى الثاني لا يصح تعليله عدم الإعطاء بأنه بمنزلة المكاتب عنده لأنه حينئذ مكاتب للغير وهو مصرف بالنص فلا يعرى عن الإشكال ويحتاج في دفعه إلى تخصيص المسألة
فإن قرئ بالبناء للفاعل فالمراد عبد مشترك بينه وبين ابنه أعتق هو نصيبه فعليه السعاية للابن فلا يجوز له الدفع إليه لأنه كمكاتب ابنه وكما لايدفع لابنه لا يجوز الدفع لمكاتبه وعندهما يجوز لأنه حر مديونه للابن وإن قرىء بالبناء للمفعول فالمراد عبد مشترك بين أجنبيين أعتق أحدهما نصيبه فيستسعيه الساكت فلا يجوز للساكت الدفع إليه لأنه كمكاتب نفسه وعندهما يجوز لأنه مديونه وهو حر ويجوز أن يدفع الإنسان
____________________
(2/271)
إلى مديونه أما لو اختار الساكت التضمن كان أجنبيا عن العبد فيجوز له أن يدفع إليه كمكاتب الغير قوله ولا يدفع إلى ملوك غنى فإن كان مأذونا مديونا بما يستغرق رقبته وكسبه جاز الدفع إليه عند أبي حنيفة خلافا لهما بناء على أن المولى لا يملك كسبه عنده فهو كالمكاتب وعندهما يملك ولا إلى مدبره وأم ولده بخلاف مكاتبه لأنه مصرف بالنص وفي الذخيرة إذا كان العبد زمنا وليس في عيال مولاه ولا يجد شيئا أو كان مولاه غائبا يجوز روى ذلك عن أبي يوسف اه
وفيه نظر لأنه لا ينتفي وقوع الملك لمولاه بهذا العارض وهو المانع وغاية ما في هذا الوجوب كفايته عن السيد وتأثيمه بتركه واستحباب الصدقة النافلة عليه وقد يجاب بأنه عند غيبة مولاه الغني وعدم قدرته على الكسب لا ينزل عن حال ابن السبيل قوله ولا إلى ولد غني إذا كان صغيرا ولا فرق بين الذكر والأنثى وبين أن يكون في عيال الأب أولا في الصحيح
وفي الفتاوي لو دفع الزكاة إلى ابنة غنى يجوز في رواية عن أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة ومحمد وكذا إذا دفع إلى فقير له ابن موسر
وقال أبو يوسف إن كان في عيال الغني لا يجوز وإن لم يكن جاز قوله وإن كان نفقته عليه بأن كان زمنا أو أعمى ونحوه بخلاف بنت الغنى الكبيرة فإنها تستوجب النفقة على الأب وإن لم يكن بها هذه الأعذار وتصرف الزكاة إليها لما ذكر في الأبن الكبير قوله وبخلاف امرأة الخ هذا ظاهر الرواية وسواء فرض لها النفقة أولا
وعن أبي يوسف لا يجزئه لأنها مكفيه بما توجبه على الغنى فالصرف إليها كالصرف إلى ابن الغني
وجه الظاهر ما في الكتاب
والفرق أن استيجابها النفقة بمنزلة الأجرة بخلاف وجوب نفقة الولد الصغير لأنه مسبب عن الجزئية فكان كنفقة نفسه فالدفع إليه كالدفع إلى نفس الغنى قوله ولا يدفع إلى بني هاشم هذا ظاهر الرواية وروى أبو عصمة عن أبي حنيفة أنه يجوز في هذا الزمان وإن كان ممتنعا في ذلك الزمان
وعنه وعن أبي يوسف أنه يجوز أن يدفع بعض بني هاشم إلى بعض زكاتهم
وظاهر لفظ المروي في الكتاب وهو قوله عليه الصلاة والسلام يا بني هاشم إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس وأوساخهم وعوضكم منها بخمس الخمس لا ينفيه للقطع بأن المراد من الناس غيرهم لأنهم المخاطبون بالخطاب المذكور عن آخرهم والتعويض بخمس الخمس عن صدقات الناس لا يستلزم
____________________
(2/272)
كونه عوضا عن صدقات أنفسهم لكن هذا اللفظ غريب والمعروف ما في مسلم عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحرث قال اجتمع ربيعة والعباس بن عبد المطلب فقالا لو بعثنا هذين الغلامين لي وللفضل بن العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما على هذه الصدقة فأصابا منها كما يصيب الناس فقال علي لا ترسلوهما فانطلقنا حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم و هو يؤمئذ عند زينب بنت جحش فقلنا يا رسول الله قد بلغنا النكاح وأنت أبر الناس وأوصل الناس وجئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات فنؤدي إليك كما تؤدي الناس ونصيب كما يصيبون قال فسكت طويلا ثم قال إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس ادعوا لي محمية بن جزء رجلا من بني أسد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعمله على الأخماس ونوفل ابن الحرث بن عبد المطلب فأتياه فقال لمحمية أنكح هذا الغلام ابنتك للفضل بن العباس فأنكحه وقال لنوفل بن الحرث أنكح هذا الغلام ابنتك فأنكحنى وقال لمحمية أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا وهذا ما وعدناك من النص على عدم حل أخذها للعامل الهاشمي ولا يجب فيه حمل الناس على غيرهم بخلاف لفظ الهداية ولفظه للطبراني لا يحل لكم أهل البيت من الصدقات شيء إنما هي غسالة أيدي الناس وإن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم يوجب تحريم صدقة بعضهم على بعض
وكذا ما روى البخاري عنه عليه الصلاة والسلام نحن أهل البيت لا تحل الصدقة لنا ثم لا يخفى أن هذه العمومات تنظم الصدقة النافلة والواجبة فجروا على موجب ذلك في الواجبة فقالوا لا يجوز صرف كفارة اليمين والظهار والقتل وجزاء الصيد وعشر الأرض وغلة الوقف إليهم
وعن أبي يوسف يجوز في غلة الوقف إذا كان الوقف عليهم لأنهم حينئذ بمنزلة الوقف على الأغنياء فإن كان على الفقراء ولم يسم بني هاشم لا يجوز ومنهم من أطلق في منع صدقة الأوقاف لهم وعلى الأول إذا وقف على الأغنياء يجوز الصرف إليهم وأما الصدقة النافلة فقال في النهاية ويجوز النفل بالإجماع وكذا يجوز النفل للغني كذا في فتاوي العتابي انتهى
وصرح في الكافي بدفع صدقة الوقف إليهم على أنه بيان المذهب من غير نفل خلاف فقال وأما التطوع والوقف فيجوز الصرف إليهم لأن المؤدي في الواجب يطهر نفسه بإسقاط الفرض فيتدنس المؤدي كالماء المستعمل وفي النفل يتبرع بما ليس عليه فلا يتدنس بها المؤدي كمن تبرد بالماء اه
والحق الذي يقتضيه النظر إجراء صدقة الوقف مجرى النافلة فإن ثبت في النافلة جواز الدفع يجب دفع الوقف وإلا فلا إذ لا شك في أن الواقف متبرع بتصدقه بالوقف إذ لا إيقاف واجب وكأن منشأ الغلط وجوب دفعها على الناظر وبذلك لم تصر صدقة واجبة على المالك بل غاية الأمر أنه وجوب اتباع شرط الواقف على الناظر
فوجوب الأداء هو نفس هذا الوجوب فلتنكلم في النافلة ثم يعطي مثله للوقف ففي شرح الكنز لا فرق بين الصدقة الواجبة والتطوع
ثم قال وقال بعض يحل لهم التطوع اه
فقد أثبت الخلاف على وجه يشعر بترجيح حرمة النافلة وهو الموافق للعمومات فوجب اعتباره فلا يدفع إليهم النافلة إلا على وجه الهبة مع الأدب وخفض الجناح تكرمة لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأقرب الأشياء إليك حديث لحم بريرة الذي تصدق به عليها لم يأكله حتى اعتبره هدية منها فقال هو عليها صدقة ولنا منها هدية والظاهر أنها كانت صدقة نافلة
وأيضا
____________________
(2/273)
لا تخصيص للعمومات إلا بدليل والقياس الذي ذكره المصنف لا يخص به ابتداء بل بعد إخراج شيء يسمعي سلمناه لكن لا يتم في القياس المقصود وغير المقصود
أما الثاني فلأنه لم يتم له أصل صحيح وقوله المال هنا كالماء يتدنس بإسقاط الفرض ظاهره أن الماء أصل وليس بصحيح إذ حكم الأصل لا بد من كونه منصوصا عليه أو مجمعا وليس ثبوت هذا الحكم للماء كذلك بل المال هو المنصوص على حكمه هذا من التدنس فهو أصل للماء في ذلك فإثبات مثله شرعا للماء إنما هو بالقياس على المال إذ لا نص في الماء ونفس المصنف مشى على الصواب في ذلك في بحث الماء المستعمل حيث قال في وجه الرواية المختارة للفتوى إلا أنه يعني الماء أقيمت به قربة فتغيرت صفته كمال الصدقة فجعل مال الصدقة أصلا فكيف يجعل هنا الماء أصلا لمال الصدقة
وأما القياس المقصود هنا في قوله التطوع بالصدقة بمنزلة التبرد بالماء غير صحيح فإنه إلحاق قربة بغير قربة والصواب في الإلحاق أن يقال بمنزلة الوضوء على الوضوء ليكون إلحاق قربة نافلة بقربة نافلة وبعد هذا إن ادعى أن حكم الأصل عدم تدنس ما أقيم به هذه القربة منعنا حكم الأصل فإن التدنس للآلة بواسطة خروج الأثام وإزالة الظلمة والقربة النافلة تفيد ذلك أيضا بقدره وقد قالوا في قوله عليه الصلاة والسلام الوضوء على الوضوء نور على نور أنه يفيد إزالة الظلمة بقدر إفادة زيادة ذلك النور ولهذا كان المذهب أن الوضوء النفل إذا كان منويا يصير الماء به مستعملا على ما عرف في قوله المستعمل هو ما أزيل به حدث أو استعمل في البدن على وجه القربة والله أعلم
قوله وهو آل علي الخ لما كان المراد من بني هاشم الذين لهم الحكم المذكور ليس كلهم بين المراد منهم بعددهم فخرج أبو لهب بذلك حتى يجوز الدفع إلى بنيه لأن حرمة الصدقة لبني هاشم كرامة من الله تعالى لهم ولذريتهم حيث نصروه عليه الصلاة والسلام في جاهليتهم وإسلامهم وأبو لهب كان حريصا على أذى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يستحقها بنوه قوله وأما مواليهم فلما روى الخ أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن ابن
____________________
(2/274)
أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة فقال لأبي رافع اصحبني فإنك تصيب منها قال حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله فأتاه فسأله فقال مولى القوم من أنفسهم وإنا لا تحل لنا الصدقة قال الترمذي حديث حسن صحيح
وكذا صححه الحاكم وأبو رافع هذا اسمه أسلم واسم ابنه عبيد الله وهو كاتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله وقد خص الصدقة يعني فيبقى فيما رواه على القياس فتؤخذ منه الجزية ولا يكون كفؤا لهم قوله وقال أبو يوسف رحمه الله عليه الإعادة ولكن لا يسترد ما أداه وهل يطيب للقابض إذا ظهر الحال لا رواية فيه واختلف فيه وعلى القول بأنه لا يطيب يتصدق به
وقيل يرده على المعطي على وجه التمليك منه ليعيد الأداء قوله وصار كالأواني يفيد أنه مأخوذ في صورة الخلافية كون الأداء بالتحري وإلا قال وصار كالماء والثياب يعني إذا تحرى
____________________
(2/275)
في الأواني في موضع يجوز التحري فيها بأن كانت الغلبة للطاهرة منها أو في الثياب وله أن يتحرى فيها وإن كان الطاهر مغلوبا فوقع تحريه على إناء أو ثوب فصلى فيه وتوضأ منه ثم ظهر نجاسته يعيد اتفاقا فكذا هذا ومثله ما إذا قضى القاضي باجتهاده ثم ظهر نص بخلافه ولهما حديث معن وهو ما أخرج البخاري عن معن بن يزيد قال بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأبي وجدي وخطب علي فأنكحني وخاصمت إليه وكان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فأتيته بها فقال والله ما إياك أردت فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لك ما نويت يا يزيد ولك ما أخذت يا معن اه
وهو وإن كان واقعة حال يجوز فيها كون تلك الصدقة كانت نفلا لكن عموم لفظ ما في قوله عليه الصلاة والسلام لك ما نويت يفيد المطلوب ولأن الوقوف على هذه الأشياء إنما هو بالاجتهاد لا القطع فيبني الأمر على ما يقع عنده كما إذا اشتبهت عليه القبلة ولو أمرناه بالإعادة كان بالطريق الأولى من الاجتهاد ولو فرض تكرر خطئه فتكررت الإعادة أفضى إلى الحرج لإخراج كل ماله وليس كذلك الزكاة خصوصا مع كون الحرج مدفوعا شرعا عموما بخلاف نجاسة الماء ووجود النص فإنه مما يوقف على حقيقته بالأخبار قوله وهذا إذا تحرى الخ تحرير لمحل النزاع وحاصل وجوه المسألة ثلاثة دفع لشخص من غير شك ولا تحر فهو على الجواز إلا أن يظهر غناه مثلا فيعيد وإن شك فلم يتحر ودفع أو تحرى فغلب على ظنه غناه ودفع لم يجز حتى
____________________
(2/276)
يظهر أنه مصرف فيجزيه في الصحيح
وظن بعضهم أنها كمسألة الصلاة حالة الاشتباه إلى غير جهة التحري فإنها لا تجوز عند أبي حنيفة ومحمد وإن ظهر صوابه والحق الاتفاق على الجواز هنا والفرق أن الصلاة إلى تلك الجهة معصية لتعمده الصلاة إلى غير جهة القبلة إذ هي جهة التحري حتى قال أبو حنيفة رحمه الله أخشى عليه الكفر فلا تنقلب طاعة وهنا نفس الإعطاء لا يكون به عاصيا فصلح وقوعه مسقطا إذا ظهر صوابه
الثالث إذا شك فتحرى فظنه مصرفا فدفع فظهر خلافه وهي الخلافية
قوله لانعدام التمليك فهو على ملكه كما كان وله حق في كسب مكاتبه فلم يتم التمليك بخلاف الدفع لمن ظهر غناه وأخواته قوله ولا يجوز دفع الزكاة لمن يملك نصابا من أي مال كان من فروعها قوم دفعوا الزكاة إلى من يجمعها لفقير فاجتمع عند الآخذ أكثر من مائتين فإن كان جمعه له بأمره قالوا كل من دفع قبل أن يبلغ ما في يد الجابي مائتين جازت زكاته ومن دفع بعده لا تجوز إلا أن يكون الفقير مديونا فيعتبر هذا التفصيل في مائتين تفضل بعد دينه فإن كان بغير أمره جاز الكل مطلقا لأن في الأول هو وكيل عن الفقير فما اجتمع عنده يملكه وفي الثاني وكيل الدافعين فما اجتمع عنده ملكهم
وعن أبي يوسف فيمن أراد أن يعطي فقيرا ألفا ولا دين عليه فوزنها مائة مائة وقبضها كذلك يجزيه كل الألف من الزكاة إذا كانت كلها حاضرة في المجلس ودفع كلها فيه بمنزلة ما لو دفعها جملة ولو كانت غائبة فاستدعى بها مائة مائة كلما حضرت مائة دفعها إليه لا يجوز منها إلا مائتان والباقي تطوع قوله والشرط أن يكون فاضلا عن الحاجة أما إذا كان له نصاب ليس ناميا وهو مستغرق بحوائجه الأصلية فيجوز الدفع إليه كما قدمنا فيمن يملك كتبا
____________________
(2/277)
تساوي نصبا وهو عالم يحتاج إليها أو هو جاهل لا حاجة له بها وفيمن له الآت وفرس ودار وعبد يحتاجها للخدمة والاستعمال أو كان له نصاب نام إلا أنه مشغول بالدين وعنه ما ذكر في المبسوط رجل له ألف وعليه ألف وله دار وخادم لغير التجارة تساوى عشرة آلاف لا زكاة عليه ثم قال في الكتاب أرايت لو تصدق عليه ألم يكن موضعا للصدقة
وفي الفتاوي لو كان له حوانيت أو دار غلة تساوي ثلاثة آلاف وغلتها لا تكفي لقوته وقوت عياله يجوز صرف الزكاة إليه في قول محمد وهذا التخصيص يفيد الخلاف وفي باب صدقة الفطر من الخلاصة يعتبر قيمة الضيعة والكرم عند أبي يوسف فلعله هو الخلاف المراد في الفتاوي ولو اشترى قوت سنة يساوي نصابا فالظاهر أنه لا يعد نصابا وقيل إن كان طعام شهر يساوي نصابا جاز الصرف إليه لا إن زاد ولو كان له كسوة الشتاء لا يحتاج إليها في الصيف جاز الصرف ويعتبر من المزارع ما زاد على ثورين قوله وإن كان صحيحا مكتسبا وعند غير واحد لا يجوز للكسوب لما قدمناه من قوله عليه الصلاة والسلام لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى
وقوله للرجلين اللذين سألاه فرآهما جلدين أما إنه لا حق لكما فيها وإن شئتما أعطيتكما
والجواب أن الحديث الثاني دل على أن المراد حرمة سؤالهما لقوله وإن شئتما أعطيتكما ولو كان الأخذ محرما غيرمسقط عن صاحب المال لم يفعله قوله ويكره أن يدفع إلى واحد مائتي درهم فصاعدا إلا أن يكون مديونا لا يفضل له بعد قضاء دينه نصاب أو يكون معيلا إذا وزع المأخوذ على عياله لم يصب كلا
____________________
(2/278)
منهم نصاب والمسألة ظاهرة حكما ودليلا 2
وقوله فيتعقبه صريح في تعقب حكم العلة إياها في الخارج والأحب أن يغنى بها فقيرا يومه لقوله عليه الصلاة والسلام أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم والأوجه غير هذا الإطلاق بل أن ينظر إلى ما تقتضيه الأحوال في كل فقير من عيال وحاجة أخرى كدين وثوب وغير ذلك والحديث المذكور كان في صدقة الفطر قوله لما روينا فيه من حديث معاذ وهو قوله فردها في فقرائهم هذا والمعتبر
____________________
(2/279)
في الزكاة مكان المال وفي صدقة الفطر مكان الرأس المخرج عنه في الصحيح مراعاة لإيجاب الحكم فى محل وجود سببه قالوا الأفضل فى صرفها أن يصرفها إلى إخوانه الفقراء ثم أولادهم ثم أعمامه الفقراء ثم أخواله ثم ذوى أرحامه ثم جيرانه ثم أهل سكنه ثم أهل مصره قوله إلا أن ينقلها استثناء من كراهة النقل ووجهه ماقدمناه فى مسألة دفع القيم من قول معاذ لأهل اليمن ائتونى بعرض ثياب خميس أو لبيس فى الصدقة مكان الذرة والشعير أهون عليكم وخير لأصحاب رسول صلى الله عليه وسلم بالمدينه ويجب كون محمله كون من بالمدينه أحوج أو ذلك ما يفضل بعد إعطاء فقرائهم وأما النقل للقرابة فلما فيه من صلة الرحم زيادة على قربة الزكاة هذا ويناسب إيلاء الصدقة الواجبة بإيجاب الله تعالى الصدقة الوجبة بإيجاب العبد فلا بأس بذكر شيء من أحكامها تكميلا للوضع تلزم الصدقة بالنذر فإن عين درهما أو فقيرا بأن قال لله علي أن أتصدق بهذا الدراهم أو على هذا الفقير لم يلزم فلو تصدق بغيره على غيره خرج عن العهدة وفيه خلاف زفر ولو نذر أن يتصدق بخبز كذا وكذ فتصدق بقيمته جاز ولو نذر أن يتصدق بهذه الدراهم فهلكت قبل أن يتصدق بها لم يلزمه شيء غيرها ولو لم تهلك فتصدق بمثلها جاز ولو قال كل منفعة تصل إلى من مالك فلله علي أن أتصدق بها لزمه أن يتصدق بكل ما ملكه لا بما أباحه كطعام أذن له أن يأكله ولو قال إن فعلت كذا فما لي صدقة في المساكين لا يدخل ماله من الديون على الناس ودخل ما سواهما وهل يتقيد بمال الزكاة نذكره في آخر كتاب الحج إن شاء الله تعالى ولو قال إن رزقني لله مالا فعلي زكاته لكل مائتين عشرة لم يلزمه سوى خمسة إذا رزقه
ولو قال إن فعلت كذا فألف درهم من مالي صدقة ففعله وهو لا يملك إلا مائة مثلا الصحيح انه لا يلزم التصدق إلا بما ملك لأن فيما لم يملك لم يكن النذر مضافا إلى الملك ولا إلى سبب الملك
كما لو قال مالي صدقة في المساكين ولا مال له لا يلزمه شيء
ولو قال كلما أكلت كذا فعلي أن أتصدق بدرهم فعليه بكل لقمة منه درهم لأن كل لقمة أكلة
ولو قال كلم شربت فإنما يلزمه بكل نفس لا بكل مصة ولو نذر أن يتصدق على فقراء مكة فتصدق على غيرهم جاز لأن لزوم النذر إنما هو بما هو قربة وذلك بالصدقة فباعتبارها يلزم لا بما زاد وأيضا الصرف
____________________
(2/280)
إلى كل فقير صرف إلى الله تعالى فلم يختلف المستحق فيجوز وصار نظير ما لو نذر صوما أو صلاة بمكة فصام وصلى في غيرها حيث يجوز عندنا & باب صدقة الفطر
الكلام في كيفيتها وكميتها وشرطها وسببها وسبب شرعيتها وركنها ووقت وجوبها ووقت الاستحباب ولا يخفي أن الركن هو نفس الأداء إلى المصرف وسبب شرعيتها ما نص عليه في رواية أبي داود وابن ماجه عن ابن عباس فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات ورواه الدارقطني وقال ليس في رواته مجروح والباقي يأتي في الكتاب بحثا بحثا
فالأول وهو كيفية الوجوب لحديث ثعلبة بن صعير العدوي وهو حديث مروي في سنن أبي داود والدارقطني
ومسند عبد الرزاق وقد اختلف فيه في الأسم والنسبة والمتن فالأول أهو ثعلبة بن أبي صعير أو هو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير أو عبد الله بن ثعلبة بن صعير عن أبيه والثاني أهو العدوى أو العذرى فقيل العدوى نسبة إلى جده الأكبر عدي وقيل العذرى وهو الصحيح ذكره في المغرب وغيره
وقال أبو علي الغساني في تقييد المهمل العذرى بضم الذال المعجمة وبالراء هو عبد الله بن ثعلبة بن صعير أبو محمد حليف بني زهرة رأي النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير والعدوى تصحيف أحمد بن صالح
والثالث أهو أدوا صدقة الفطر صاعا من تمر أو قمح عن كل رأس أو هو صدقة الفطر صاع من بر أو قمح على كل اثنين
قال في الإمام ويمكن أن يحرف لفظ رأس إلى اثنين اه لكن تبعده رواية بين اثنين وهي من طرقه الصحيحية التي لا ريب فيها طريق عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن ابن شهاب
____________________
(2/281)
عن عبد الله بن ثعلبة قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس قبل يوم الفطر بيوم أو يومين فقال أدوا صاعا من بر أو قمح بين اثنين أو صاعا من تمر أو شعير عن كل حر وعبد صغير أو كبير وهذا سند صحيح
وفي غير هذه من أين يجاء بالراء هذا على أن مقصود المصنف الاستدلال به على نفس الوجوب لا على قدر الواجب وهو حاصل على كل حال وسيأتي استدلاله في قدره بحديث آخر ومما يستدل به على الوجوب ما استدل به الشافعي رحمه الله على الافتراض وهو حديث ابن عمر في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين فإن حمل اللفظ على الحقيقة الشرعية في كلام الشارع متعين ما لم يقم صارف عنه والحقيقة الشرعية في الفرض غير مجرد التقدير خصوصا وفي لفظ البخاري ومسلم في هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أمر بزكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير قال ابن عمر فجعل الناس عدله مدين من حنطة ومعنى لفظ فرض هو معنى أمر أمر إيجاب والأمر الثابت بظني إنما يفيد الوجوب فلا خلاف في المعنى فإن الافتراض الذي يثبتونه ليس على وجه يكفر جاحده فهو معنى الوجوب الذي نقول به غاية الأمر أن الفرض في اصطلاحهم أعم من الواجب في عرفنا فأطلقوه على أحد جزأيه ومنه ما في المستدرك وصححه عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام أمر صارخا ببطن مكة ينادي أن صدقة الفطر حق واجب على كل مسلم صغير أو كبير حر أو مملوك الحديث فإن قلت ينبغي أن يراد بالفرض ما هو عرفنا للإحماع على الوجوب
فالجواب أن ذلك إذا نقل الإجماع تواترا ليكون إجماعا قطعيا أو أن يكون من ضروريات الدين كالخمس عند كثير فأما إذا كان إنما يظن الإجماع ظنا فلا ولذا صرحوا بأن منكر وجوبها لا يكفر فكان المتيقن الوجوب بالمعنى العرفي عندنا والله سبحانه تعالى أعلم قوله وشرط الحرية ليتحقق التمليك إذ لا يملك إلا المالك ولا ملك لغير الحر فلا يتحقق منه الركن
وقول الشافعي أنها على العبد ويتحمله السيد ليس بذلك لأن المقصود الأصلي من التكليف أن يصرف المكلف نفس منفعته لمالكه وهو الرب تعالى ابتلاء له لتظهر طاعته من عصيانه ولذا لا يتعلق التكليف إلا بفعل المكلف فإذا فرض كون المكلف لا يلزمه شرعا صرف تلك المنفعة التي هي فيما نحن فيه فعل الأعطاء وإنما يلزم شخصا آخر لزم انتفاء الابتلاء الذي هو مقصود التكليف في حق ذلك المكلف وثبوت الفائدة بالنسبة إلى ذلك الآخر لا يتوقف على الإيجاب على الأول لأن الذي له ولاية الإيجاد والإعدام تعالى يمكن أن يكلف ابتداء السيد بسبب عبده الذي ملكه له من فضله فوجب لهذا
____________________
(2/282)
الدليل العقلي وهو لزوم انتفاء مقصود التكليف الأول أن يحمل ما ورد من لفظ على في نحو قوله على كل حر وعبد على معنى عن كقوله ** إذا رضيت على بنو قشير ** لعمر الله أعجبني رضاها **
وهو كثير ويطرد بعد ألفاظ وهي خفي علي وبعد على واستحال على وغضب على كلها بمعنى عني هذا لو لم يجيء شيء من ألفاظ الروايات بلفظ عن كي لا ينافيه الدليل العقلي فكيف وفي بعض الروايات صرح بها على ما قدمناه بالسند الصحيح من حديث ثعلبة على أن المتأمل لا يخفي عليه أن قول القائل كلف بكذا ولا يحب عليه فعله يجر إلى التناقض فضلا عن انتفاء الفائدة بأدنى تأمل قوله لقوله عليه الصلاة والسلام لا صدقة إلا عن ظهر غنى رواه الإمام أحمد في مسنده حدثنا يعني بن عبيد حدثنا عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صدقة إلا عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول وذكره البخاري في صحيحه تعليقا في كتاب الوصايا مقتصرا على الجملة الأولى فقال وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا صدقة إلا عن ظهر غنى وتعليقاته المجزومة لها حكم الصحة
ورواه مرة مسندا بغير هذا اللفظ ولفظة الظهر مقحمة كظهر القلب وظهر الغيب في المغرب وهو حجة على الشافعي رحمه الله في قوله تجب على من يملك زيادة على قوت يومه لنفسه وعياله وما روى أحمد حدثنا عفان قال سألت حماد بن زيد عن صدقة الفطر فحدثني عن نعمان بن راشد عن الزهري عن أبي ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أدوا صاعا من قمح أو صاعا من بر شك حماد عن كل اثنين صغير أو كبير ذكرا أو أنثى حر أو مملوك غني أو فقير أما غنيكم فيزكيه الله وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما يعطي فقد ضعفه أحمد بالنعمان بن راشد وجهالة ابن أبي صعير ولو صح لا يقاوم ما رويناه في الصحة مع أن مالا ينضبط كثرة من الروايات المشتملة على التقسيم المذكور ليس فيها الفقير فكانت تلك رواية شاذة فلا تقبل خصوصا مع نبو عن
____________________
(2/283)
قواعد الصدقات والحديث الصحيح عنها قوله ويتعلق بهذا النصاب الخ ومما يتعلق به أيضا وجوب نفقة ذوي الأرحام وتقدم تحقيق هذا النصاب وحديث فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر قدمناه أول الباب قوله والسبب رأس يمونه ويلي عليه المفيد لسببية الرأس المذكور لفظ عن في قوله عن كل حر وعبد صغير أو كبير ذكر أو أنثى وكذا لفظ على بعد ما قامت الدلالة على أن المراد به معنى عن استفدنا منه أن هذه صدقة تجب على الإنسان بسبب هؤلاء والقطع من جهة الشرع أنه لا يجب عمن لم يكن من هؤلاء في مؤنته وولايته فإنه لا يجب على الإنسان بسبب عبد غيره وولده وفي روايه الدارقطني حديث ابن عمر قال في آخره ممن تمونون ولو مان صغيرا لله تعالى لا لولاية شرعية له عليه لم يجب أن يخرج عنه إجماعا فلزم أنهم السبب إذا كانوا بذلك الوصف والمصنف استدل عليه بالإضافة في قولهم زكاة الرأس وتمامه موقوف على كون هذا التركيب مسموعا من صاحب الشرع لأن السببية لا تثبت إلا بوضعه أو من أهل الإجماع وبما ذكر في ضمن تأويل الإضافة في قولهم زكاة الرأس أو صدقة الفطر بأنها إلى الشرط لما أوجبه من تعدد الواجب عند اتحاد اليوم وتعدد الرأس فإنه يقتضي اعتبار الشارع السببية للرأس وأورد عليه أنه معارض بتعدد الواجب مع اتحاد الرأس وتعدد الوقت باعتبار تكرر السنين فلو كان السبب الرأس لم يتكرر عند تكررها كالحج لما اتحد سببه وهو البيت لم يتكرر بتكرر السنين
وأجيب بمنعه وإسناده بتكرر الواجب مع اتحاد السبب وتكرر الوقت في الزكاة فإن السبب فيها المال
والجواب أن المال لم يعتبر سببا إلا بإعتبار النماء ولو تقديرا والنماء متكرر نظرا إلى
____________________
(2/284)
دليله وهو الحول فكان السبب وهو المال النامي متكررا لأنه بنماء هذا الحول غيره بالنماء الآخر في الحول الآخر بل الحق في الجواب أن المدعي أن تضاعف الواجب في وقت واحد عند تعدد شيء دليل سببية المتعدد وأين هو من التكرر في أوقات متكررة فالثابت هناك واجب واحد في الوقت الواحد مع الشيء الواحد فأنى يكون هذا نقضا محوجا للجواب ثم بعد ذلك اثبات سببية شيء لهذا مثل الاستدلال بالدوران على علية شيء بلا فرق وهو غير مرضي عندنا في مسالك العلة فكذا يجب أن يكون هنا إذ لا فرق فالمعول عليه في إثبات السببية حينئذ ما سلكناه من إفادة السمع ثم إعطاء الضابط بأنه رأس يمونه ويلي عليه يلزم عليه تخلف الحكم عن السبب في الجد إذا كانت نوافله صغارا في عياله فإنه لا يجب عليه الإخراج عنهم في ظاهر الرواية ودفعه بادعاء انتفاء جزء السبب بسبب أن ولاية الجد منتقلة من الأب إليه فكانت كولاية الوصي غير قوي إذ الوصي لا يمونه إلا من ماله إذا كان له مال بخلاف الجد إذا لم يكن للصبي مال فكان كالأب فلم يبق إلا مجرد انتقال الولاية ولا أثر له كمشتري العبد ولا مخلص إلا بترجيح رواية الحسن أن على الجد صدقة فطرهم
وهذه مسائل يخالف فيها الجد الأب في ظاهر الرواية ولا يخالفه في رواية الحسن هذه والتبعية في الإسلام وجر الولاء والوصية لقرابة فلان قوله فيلحق به هذا بيان حكمة المنصوص يعني إنما أمر الشارع بالإخراج عن هؤلاء لأنهم في معناه بما قلنا لا أنه إلحاق لإفادة حكمهم إذ حكمهم ذلك منصوص عليه قوله ويؤدي من مالهم الأب كالوصي وكذا يؤدي عن مماليك ابنه الصغير من ماله
وعند محمد لا يؤدي عن مماليكه أصلا والمجنون كالصغير قوله لأن الشرع أجراه مجرى المؤنة فأشبه النفقة هذا دليل قولهما ونفقة الصغير إذا كان له
____________________
(2/285)
مال في ماله فكذا هذا والأولى كون المراد نفقة الأقارب لأن وجه قول محمد أنها عبادة والصبي ليس من أهلها كالزكاة وقد وجب إخراج الأب عنه فيكون في ماله فيقولان في جوابه هي عبادة فيها معنى المؤنة لقوله عليه الصلاة والسلام أدوا عمن تمونون إذ قد قبلنا هذا الحديث أو ما قدمناه من قوله عليه الصلاة والسلام ممن تمونون في حديث ابن عمر فألحقها بالمؤنة فكانت كنفقة الأقارب تجب في مال الصغير إذا كان غنيا لما فيها من معنى المؤنة وإن كانت عبادة قوله أجزأه استحسانا وهو رواية عن أبي يوسف لأنه العادة والثابت عادة كالثابت بالنص فيما فيه معنى المؤنة
بخلاف ما هو عبادة محضة كالزكاة لا تسقط عنها وإلا بإذنها صريحا إذ لا يتحقق معنى الطاعة والابتلاء إلا به وفيه نظر
فإن معنى المؤنة لا ينفي ما فيه من معنى العبادة المتفرعة عن الابتلاء واختيار الطاعة من المخالفة فإن ادعى أن ذلك تابع في صدقة الفطر منعناه وقد صرحوا بأن الغالب في صدقة الفطر معنى العبادة
نعم إن أمكن أن يوجه هكذا بأن الثابت عادة لما كان كالثابت نصا كان أداؤه متضمنا اختيارها ونيتها بخلاف الزكاة فإنها لا عادة فيها ولو قدر فيها عادة قلنا بالإجزاء فيها أيضا لكنها منتفية فيها
____________________
(2/286)
ثم الوجه وإلا فلا قوله فيؤدي إلى الثني هو مكسور المثلثة مقصورا وأورد عليه أن الثني عبارة عن تثنية الشيء الواحد وهو منتف لاختلاف الواجبين كما وسببا فإنه في الفطر الرأس وفي الزكاة ما ليتها لا هي نفسها ومحلا ففي الفطر الذمة حتى لا تسقط بعروض الفقر بعد الوجوب وفي الزكاة المال حتى تسقط به بأن هلك المال فلا ثني على أنه لو كان لزم قبوله بعد لزومه شرعا بثبوته بالدليل الموجب للزكاة مطلقا والداليل الموجب للفطرة مطلقا وعدم ثبوت نافيه
وقيل في الوجه غير ما ذكر المصنف وهو أن الانتفاء لانتفاء السبب لأنه ليس رأسا أعد للمؤنة بل مين ضرورة بقائه فيحصل مقصوده من الربح في التجارة ولا يخفى أنه لم يقم الدليل سوى على أن السبب رأس يمونه الخ لا يفيد كونه أعد لأن يمان غاية ما في الباب أن الرأس الواحد جعلت سببا في الزكاة باعتبار ماليتها وفي صدقة أخرى باعتبار معنى المؤنة والولاية عليه ولا مانع من ذلك قوله لقصور الولاية والمؤنة يعني أن السبب هو رأس عليه مؤنته لأن المفاد بالنص من قوله ممن تمونون ممن عليكم مؤنته وليس على كل منهما مؤنته بل بعضها وبعض الشيء ليس إياه ولا سبب إلا هذا فعند انتفائه يبقى على العدم الأصلي لا أن العدم يؤثر شيئا قوله وقالا هذا بناء على كون قول أبي يوسف كقول محمد بل الأصح أن قوله مع أبي حنيفة ثم أبو حنيفة مر على أصله من عدم جواز قسمة الرقيق جبرا ولم يجتمع لواحد ما يسمى رأسا ومحمد مر على أصله من جواز ذلك وأبو يوسف مع محمد في القسمة ومع أبي حنيفة في صدقة الفطر لأن ثبوت القسمة بناء على الملك وصدقة الفطر باعتبار المؤنة عن ولاية لا باعتبار الملك ولذا تجب عن الولد ولا ملك ولا تجب عن الآبق مع الملك فيه ولو سلم فجواز القسمة ليس علة تامة لثبوتها وكلامنا فيما قبلها وقبلها لم يجتمع في ملك أحد رأس كامل
وقد قيل إن الوجوب عند محمد على العبد وفيه نظر فإنه لو كان لم يختلف الحال بين العبيد والعبد الواحد فكان
____________________
(2/287)
يجب على سيدي العبد الواحد ولا يجب على سيد العبد الكافر كقول الشافعي
وعن هذا قيل هو أعني عدم الوجوب على واحد من الشريكين في العبيد بالإجماع أي بالاتفاق ولو كان لهما جارية مشتركة فجاءت بولد فادعياه أو ادعيا لقيط لا تجب عليهما عن الأم لما قلنا وتجب عن الولد على كل منهما فطرة كاملة عند أبي يوسف لأن النبوة ثابتة من كل منهما كملا إذ ثبوت النسب لا يتجزأ ولهذا لو مات أحدهما كان ولدا للباقي منهما
وقال محمد عليهما صدقة واحدة لأن الولاية لهما والمؤنة عليهما فكذا الصدقة لأنها قابلة للتجزئ والمؤنة ولو كان أحدهما موسرا والآخر معسرا أو ميتا فعلى الآخر صدقة تامة عندهما ولو كان له عبد آبق أو مأسور أو مغصوب مجحود ولا بينة فحلف الغاصب فعاد الآبق ورد المغضوب بعد يوم الفطر كان عليه صدقة ما مضى ويؤدي عن عبده المرهون إذا كان فيه وفاء يعني وله نصاب وعن أبي يوسف ليس عليه أن يؤدي حتى يفتكه فإذا أفتكه أعطى لما مضى ويجب عليه فطرة عبده المستأجر والمأذون وإن كان مستغرقا بالدين ولا تجب عن عبد عبده المأذون لأنه إذا كان على المأذون دين لا يملك المولى عبده وإن لم يكن فهو للتجارة فلو اشتراه المأذون للخدمة ولا دين عليه فعلى المولى فطرته فإن كان عليه دين فعلى الخلاف في ملك المولى للإكساب وعدمه وفي العبد الموصى بخدمته على مالك الرقبة وكذا العبد المستعار والوديعة والجاني عمدا أو خطأ وما وقع في شرح الكنز والعبد الموصي برقبته لإنسان لا تجب فطرته من سهو القلم ولو بيع العبد بيعا فاسدا فمر يوم الفطر قبل قبضه ثم قبضه المشتري وأعتقه فالفطرة على البائع وكذا لو مر يوم الفطر وهو مقبوض المشتري ثم استرده البائع فإن لم يسترده وأعتقه المشتري أو باعه فالصدقة على المشتري لتقرر ملكه قوله لإطلاق ما روينا استدل
____________________
(2/288)
بأمرين ثانيهما ضعيف عند أهل النقل فيبقي الأول سالما أما الحديث فهو ما رواه الدارقطني عن ابن عباس عنه عليه الصلاة والسلام أدوا صدقة الفطر عن كل صغير وكبير ذكر أو أنثى يهودي أو نصراني حر أو مملوك نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير وهو ضعيف بل عد في الموضوعات من قبل سلام الطويل فإنه متروك مرمى بالوضع وقد تفرد بهذه الزيادة ولفظة مجوسي لم تعلم مروية وأما الآخر فإن الإطلاق في العبد في الصحيح يوجبها في الكافر والتقييد في الصحيح أيضا بقوله من المسلمين لا يعارضه لما عرف من عدم حمل المطلق على المقيد في الأسباب لأنه لا تزاحم فيها فيمكن العمل بهما فيكون كل من المقيد والمطلق سببا بخلاف ورودهما في حكم واحد وكل من قال بأن إفراد فرد من العام لا يوجب التخصيص يلزمه أن يقول إن تعليق حكم بمطلق ثم تعليقه بعينه بمقيد لا يوجب تقييد ذلك المطلق بأدنى تأمل نعم إذا لم يمكن العمل بهما صير إليه ضرورة قوله وأحدهما بالخيار أو كان الخيار لهما ومر يوم الفطر والخيار باق تجب على من يصير العبد له فإن تم البيع فعلى المشتري وإن فسخ فعلى البائع وقال زفر تجب على من له الخيار كيفما كان لأن الولاية له
____________________
(2/289)
والزوال في اختياره فلا يعتبر في حكم عليه كالمقيم إذا سافر في نهار رمضان حيث لا يباح له الفطر في ذلك اليوم لأن إنشاءه باختياره فلا يعتبر
وقال الشافعي على من له الملك لأنه من وظائفه كالنفقة
ولنا أن الملك والولاية موقوفان فيتوقف ما يبني عليهما ألا يرى أنه لو فسخ يعود إلى قديم ملك البائع ولو أجيز يستند الملك للمشتري إلى وقت العقد حتى يستحق به الزوائد المتصلة والمنفصلة وزكاة التجارة على هذا بأن اشتراه للتجارة بشرط الخيار فتم الحول في مدة الخيار فعندنا يضم إلى من يصير له إن كان عنده نصاب فيزكيه مع نصابه ولو لم يكن في البيع خيار ولم يقبضه المشتري حتى مضى يوم الفطر فقبضه فالفطرة على المشتري ولو مات قبل قبضه لا صدقة على واحد منهما لقصور ملك المشتري وعوده إلى البائع غير منتفع به فكان كالآبق بل أشد ولو رده قبل القبض بخيار عيب أو رؤية بقضاء أو غيره فعلى البائع لأنه عاد إليه قديم ملكه منتفعا به وبعد القبض على المشتري لأنه زال ملكه بعد تمامه وتأكده فصل في مقدار الواجب ووقته
قوله أو دقيق أو سويق أي دقيق البر وسويقة أما دقيق الشعير وسويقه فمعتبر بالشعير قوله وهو رواية عن أبي حنيفة رواها الحسن عنه وصححها أبو اليسر لما ثبت في الحديث من تقديرها بصاع كما ستقف
____________________
(2/290)
عليه عن قريب ودفع الخلاف بينهم أبان أبا حنيفة إنما قال ذلك لعزة الزبيب في زمانه كالحنطة لا يقوي لأن المنصوص على قدر فيه لا ينقص عن ذلك القدر فيه نفسه بسبب من الأسباب قوله ولحديث أبي سعيد اعلم أن الأحاديث والآثار تعارضت في مقدار الحنطة ولا بأس بسوق نبذة منها لنطلعك على الحال أما ما من طرفنا فسيأتي من كلام المصنف وأما من طرف المخالف لنا فحديث أبي سعيد كنا نخرج إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كل صغير وكبير حر أو مملوك صاعا من طعام أو صاعا من أقط
أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجا أو معتمرا فكلم الناس على المنبر فكان فيما كلم به الناس أن قال إني أرى أن مدين من سمراء الشام تعدل صاعا من تمر فأخذ الناس بذلك قال أبو سعيد أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه
رواه الستة مختصرا ومطولا
وجه الاستدلال بلفظة طعام فإنها عند الإطلاق يتبادر منها البر وأيضا فقد عطف عليه هنا التمر والشعير وغيرهما فلم يبق مراده منه إلا الحنطة ولأنه أبى أن يخرج نصف صاع منه وقال لا أزال أخرجه كما كنت أخرجه فدل أنه كان يخرج منه صاعا
وأيضا وقع في رواية الحاكم عنه صاعا من حنطة وأخرج الحاكم أيضا عن عياض بن عبد الله قال قال أبو سعيد وذكر عنده وصدقة الفطر فقال لا أخرج إلا ما كنت أخرجه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من تمر أو صاعا من شعير فقال له رجل أومدين من قمح فقال لا تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها وصححه
وأخرج أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من بر الحديث وصححه
وأخرج الدارقطني عن مبارك بن فضالة عن أيوب إلى ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام فرض على الذكر والأنثى والحر والعبد صدقة رمضان صاعا من تمر أو صاعا من طعام وأخرج الطحاوي في المشكل عن ابن شوذب عن أيوب يبلغ به إلى ابن عمر فرض عليه الصلاة والسلام صدقة الفطر إلى أن قال أو صاعا من بر قال ثم عدل الناس نصف صاع من بر بصاع مما سواه
وأخرج الحاكم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم حض على صدقة رمضان على كل إنسان صاع من تمر أو صاع من شعير أو صاع من قمح وأخرج الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أمرنا عليه الصلاة والسلام أن نعطي صدقة رمضان عن الصغير والكبير والحر والمملوك صاع من طعام من أدى برا قبل منه ومن أدى شعير قبل منه الحديث وأخرج أيضا عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر وفيه أو صاعا من طعام وأخرج نحوه عنه عليه الصلاة والسلام من حديث مالك بن أنس بن الحدثان عن أبيه قال قال عليه الصلاة والسلام أخرجوا زكاة الفطر صاعا من طعام قال وطعامنا يومئذ البر والتمر والزبيب والأقط
وأخرج الحاكم عن الحرث عن علي رضي الله عنه عليه الصلاة والسلام في صدقة الفطر عن كل صغير وكبير وحر أو عبد صاع بر أو صاع من تمر قال المصنف رحمه الله ولنا ما روينا الخ يريد ما تقدم من حديث عبد الله بن ثعلبة بن صعير وقد قدمنا بعض طرقه الصحيحة وأنه
____________________
(2/291)
يفيد أن الواجب نصف صاع من بر
والجواب عما أورد أما الأخير فالحرث لا يحتج به مع أنه قد رواه الدارقطني على خلاف ذلك ففي روايته أو نصف صاع وروى عبد الرزاق والطحاوي عن علي قال صدقة الفطر على من جرت عليه نفقتك نصف صاع من بر أو صاع من شعير أو تمر فاندفع
وأما ما يليه فضعيف جدا بعمر بن محمد بن صهبان متروك قاله النسائي والرازي والدارقطني
وقال ابن معين لا يساوي فلسا وقال أحمد ليس بشي فاندفع
وأما ما يليه فضعيف جدا بكثير بن عبد الله مجمع على تضعيفه
ونفس الشافعي قال فيه ركن من أركان الكذب فاندفع
وأما يليه فمنقطع لأن ابن سيرين لم يسمع من ابن عباس شيئا وقال أبو حاتم فيه حديث منكر وهم يضعفون بمثل هذا
وأما ما يليه ففيه سفيان بن حسين اختلف فيه قال الدارقطني والأكثر على تضعيفه في الرواية عن الزهري وقد روى هذا الحديث عن الزهري
وأما ما يليه فقال الطحاوي لا نعلم أحدا من أصحاب أيوب تابع ابن شوذب على زيادة البر فيه وقد خالفه حماد بن زيد وحماد بن سلمة عن أيوب وكل منهما حجة عليه فكيف وقد اجتمعا وأيضا ففي حديثه ما يدل على خطئه وهو قوله ثم عدل الناس نصف صاع من بر بصاع مما سواه فكيف يجوز أن يعدلوا صنفا مفروضا ببعض صنف مفروض منه وإنما يجوز أن يعدل المفروض بما ليس بمفروض اه
لكن قد تابعه مبارك بن فضالة عن أيوب في رواية الدارقطني وهي التي تلي رواية الطحاوي فيما كتبناه مع عدم ذكر تلك الزيادة الموجبة للفساد لكن مباركا لا يعدل حماد بن سلمه فإنه اختلف فيه ضعفه أحمد والنسائي ووثقه عفان ويحيى بن سعيد وقال أبو زرعة يدلس كثيرا فإذا قال حدثنا فهو ثقة والذي رأيته هكذا عن مبارك بن فضالة عن أيوب
وأما ما يليه أعني رواية الحاكم عن ابن عمر ففيه سعيد بن عبد الرحمن ضعفه ابن حبان لكن وثقه ابن معين وأخرج له مسلم في صحيحه إلا أنه مع ذلك كان يهم في الشيء كما قال ابن عدي وحديثه هذا عن ابن عمر يدل على الخطأ فيه ولا أعني خطأه هو بل الله أعلم بمنشئه ما اتفق عليه البخاري ومسلم عن ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعا من تمر أو صاعا من شعير فعدل الناس به مدين من حنطة فصرح بأن مدين من قمح إنما علمه ابن عمر من تعديل الناس به بعد رسول صلى الله عليه وسلم وإلا لرفعة وبنفس هذا رد البيهقى على ما رواه هو والدارقطنى عن ابن عمر عنه عليه الصلاة والسلام أنه أمر عمرو بن حزم في زكاة الفطر بنصف صاع من حنطة أو صاع من تمر فقال كيف يصح ورواية الجماعة عن ابن عمر أن تعديل الصاع بمدين من حنطة إنما كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما حديث أبي سعيد فرواية الحاكم فيه صاعا من حنطة ليست صحيحة وقد أشار إليها أبو داود حيث قال وذكر فيه رجل واحد عن ابن علية أو صاع من حنطة وليس بمحفوظ وذكر معاوية بن هشام نصف صاع من بر وهم وهو من معاوية بن هشام أو ممن رواه عنه اه
وقال ابن خزيمة فذكر الحنطة في هذا الخبر غير محفوظ ولا أدري ممن الوهم وقول الرجل له أو مدين من قمح دال على أن ذكر الحنطة أول الخبر خطأ إذ لو كان صحيحا لم يكن لقوله أو مدين من قمح معنى اه
وأما بدون هذه الزيادة كما هو رواية الجماعة فدليل لنا فإنه صريح في موافقة الناس لمعاوية والناس إذ ذاك الصحابة والتابعون فلو كان عند أحدهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدير الحنطة بصاع لم يسكت
____________________
(2/292)
ولم يعول على رأيه أحد إذ لا يعول على الرأي مع معارضة النص له فدل أنه لم يحفظ أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن حضره خلافه ويلزمه أن ما ذكر أبو سعيد من قوله مع بعضهم من إخراج صاع من طعام لم يكن عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم به ولا مع علمه أنهم يفعلونه على أنه واجب بل إما مع عدم علمه أو مع وجوده وعلمه بأن فعل البعض ذلك من باب الزيادة تطوعا هذا بعد تسليم أنهم كانوا يخرجون الحنطة في زمانه عليه الصلاة والسلام وهو ممنوع فقد روى ابن خزيمة في مختصر المسند الصحيح من حديث فضيل بن غزوان عن نافع عن ابن عمر قال لم تكن الصدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التمر والزبيب والشعير ولم تكن الحنطة ومما ينادى به ما عند البخاري عن أبي سعيد نفسه كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعا من طعام
قال أبو سعيد وكان طعامنا يومئذ الشعير والزبيب والأقط والتمر فلو كانت الحنطة من طعامهم الذي يخرج لبادر إلى ذكره قبل الكل إذ فيه صريح مستنده في خلاف معاوية وعلى هذا يلزم كون الطعام في حديثه الأول مرادا به الأعم لا الحنطة بخصوصها فيكون الأقط وما بعده فيه عطف الخاص على العام دعا إليه وإن كان خلاف الظاهر هذا الصريح عنه ويلزمه كون المراد بقول لا أزال أخرجه الخ لا أزال أخرج الصاع أي كنا إنما نخرج مما ذكرته صاعا وحين كثر هذا القوت الآخر فإنما أخرج منه أيضا ذلك القدر وحاصله في التحقيق أنه لم ير ذلك التقويم بل أن الواجب صاع غير أنه اتفق أن ما منه الإخراج في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان غير الحنطة وأنه لو وقع الإخراج منها لأخرج صاع ثم يبقي بعد هذا كله ما رواه الترمذي عن عمروبن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مناديا ينادى في فجاج مكة ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ذكر أو أنثى حر أو عبد صغير أو كبير مدأن من قمح أو صاع مما سواه من الطعام وقال حسن غريب اه وهو مرسل فإن ابن جريج فيه عن عمرو بن شعيب ولم يسمع منه وهو حجة عندنا بعد ثبوت العدالة والأمانة في المرسل
وما روى الحاكم عن عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث صارخا بمكة إن صدقة الفطر حق واجب مد أن من قمح أو صاع من شعير وتمر ورواه البزار بلفظ أو صاع مما سوى ذلك من الطعام صححه الحاكم وأعله غيره بيحيى بن عباد عن ابن جريج ضعفه العقيلي
وقال الأزدي منكر الحديث جدا عن ابن جريج وهو يروي هذا الحديث عن ابن جريج
وما روى الدارقطني عن علي بن صالح عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صائحا فصاح أن صدقة الفطر حق واجب على كل مسلم مدان من قمح أو صاع من شعير أو تمر وإعلال ابن الجوزي له بعلي بن صالح قال ضعفوه قال صاحب التنقيح هذا خطأ منه لا نعلم أحدا ضعفه لكنه غير مشهور الحال عند أبي حاتم وذكر غيره أنه مكي معروف أحد العباد وكنيته أبو الحسن وذكر جماعة رووا عنه منهم الثورى ومعتمر بن سليمان وذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقال يعرف اه فم يبق فيه إلا إرسال وهو حجة بانفراده عند جمهور العلماء وعند الشافعي إذا اعتضد بمرسل آخر يروي من غير شيوخ الآخر كان حجة وقد اعتضد بما قدمناه من حديث الترمذي وما رواه أبو داود والنسائي عن الحسن عن ابن عباس أنه خطب في آخر رمضان بالبصرة إلى أن قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصدقة صاعا من تمر أو
____________________
(2/293)
شعير أو نصف صاع قمح الحديث رواته ثقات مشهورون إلا أن الحسن لم يسمع من ابن عباس فهو مرسل فإنه يعرف أهل الأصول يعم نحو هذا وما رواه أبو داود في مراسيله عن سعيد بن المسيب فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر مدين من حنطة ورواه الطحاوي قال حدثنا المزني حدثنا الشافعي عن يحيى بن حسان عن الليث بن سعد عن عقيل بن خالد وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن سعيد ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر مدين من حنطة قال في التنقيح إسناده صحيح كالشمس وكونه مرسلا لا يضر فإنه مرسل سعيد ومراسله حجة اه
وقول الشافعي حديث مدين خطأ حملة البيهقي على معنى أن الأخبار الثابتة تدل على أن التعديل بمدين كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اه
وحاصله أنه رجح غيره وإن كان هو صحيحا وهو ليس بلازم القدر اللازم أن من قال ذلك كمعاوية أو حضر وقت خطبته لم يكن عنده علم من فرض النبي صلى الله عليه وسلم في الحنطة وليس يلزم من عدم علم أولئك عنه عليه الصلاة والسلام عدمه عنه في الواقع نعم قد يكون مظنة ذلك لكن ليس بلازم البتة بل يجب البقاء مع عدمه ما لم ينقل وجوده منه عليه الصلاة والسلام على وجه الصحة فيجب قبوله وعلى أنه لا يبعد فإن الأخبار تفيد أن فرضه في الحنطة كان بمكة بإرسال المنادى به وذلك إنما يكون بعد الفتح ومن الجائز غيبته في وقت النداء أو شغله عنه خصوصا وهم إنما كانوا فيها على جناح سفر آخذين في أهبته
ومما روى فيه مما يصلح للاستشهاد به ما أخرج الإمام أحمد في مسنده من طريق ابن المبارك عن ابن لهيعة عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه وعنها قالت كنا نؤدي زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مدين من قمح بالمد الذي يقتاتون به
وحديث ابن لهيعة صالح للمتابعات سيما وهو من رواية إمام عنه وهو ابن المبارك ثم قد روى عن الخلفاء الراشدين وغيرهم فأخرج البيهقي ورواه عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا معمر عن عاصم عن أبي قلابة عن أبي بكر أنه أخرج زكاة الفطر مدين من حنطة وأن رجلا أدى إليه صاعا بين اثنين
وهو منقطع
وأخرج أبو داود والنسائي عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر كان الناس يخرجون صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من شعير أو تمر أو سلت أو زبيب قال عبد الله فلما كان عمر رضي الله عنه وكثرت الحنطة جعل عمر نصف صاع حنطة مكان صاع من تلك الأشياء
وأعل سنده بابن أبي رواد تكلم فيه ابن حبان ومتنه بما تقدم من أن التعديل بذلك إنما كان في زمن معاوية ودفع الأول بأن ابن أبي رواد إن تكلم فيه ابن حبان فقد وثقه ابن معين ويحيى بن سعيد القطان وأبو حاتم وغيرهم والموثقون له أعرف
وأخرج الطحاوي عن عثمان أنه قال في خطبته أدوا زكاة الفطر مدين من حنطة
وأخرج أيضا هو وعبد الرزاق عن علي قال على من جرت عليه نفقتك نصف صاع من بر أو صاع من شعير أو تمر
وأخرج عبد الرزاق عن ابن الزبير قال زكاة الفطر مدان من قمح أو صاع من تمر أو شعير وأخرج نحوه عن ابن عباس وابن مسعود وجابر بن عبد الله
وروى أيضا حدثنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال زكاة الفطر على كل حر وعبد ذكر أو أنثى صغيرا أو كبيرا فقيرا أو غنى صاع من تمر أو نصف صاع من قمح قال معمر بلغني أن الزهري كان يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صاحب
____________________
(2/294)
الإمام هذا الخبر الوقف فيه متحقق وأما الرفع فإنه بلاغ لم يبين معمر فيه من حدثه فهو منقطع وأخرج أيضا عن مجاهد قال كل شيء سوى الحنطة ففيه صاع وفي الحنطة نصف صاع وأخرج نحوه عن طاوس وابن المسيب وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن وأخرجه الطحاوي عن جماعة كثيرة وقال ما علمنا أحدا من الصحابة والتابعين روى عنه خلاف ذلك اه
وكأن إخراج أبي سعيد ظاهر فلم يحترز عنه ولو تنزلنا إلى ثبوت التكافؤ في السمعيات كان ثبوت الزيادة على مدين منتفيا إذ لا يحكم بالوجوب مع الشك قوله يتقاربان في المقصود وهو التفكه والاستحلاء وقوله يتقاربان في المعنى هو لأن كلا منهما يؤكل كله قوله والأولى أن يراعي فيهما أي في الدقيق والسويق القدر والقيمة جميعا احتياطا وإن نص على الدقيق في بعض الأخبار وهو ما روى الدارقطني عن زيد بن ثابت قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من كان عنده شيء فليتصدق بنصف صاع من بر أو صاع من شعير أو صاع من تمر أو صاع من دقيق أو صاع من زبيب أو صاع من سلت والمراد دقيق الشعير
قال الدارقطني لم يروه بهذا الأسناد غير سليمان ابن أرقم وهو متروك الحديث فوجب الاحتياط بأن يعطى نصف صاع دقيق حنطة أو صاع دقيق شعير يساويان نصف صاع بر وصاع شعير لا أقل من نصف يساوي نصف صاع بر أو أقل من صاع يساوي صاع شعير ولا نصف لا يساوي نصف صاع بر أو صاع لا يساوي صاع شعير قوله ولم يبين ذلك أي وجوب الاحتياط فيهما كما ذكرناه في الكتاب يعني في الجامع الصغير اعتبارا للغالب فإن الغالب كون نصف صاع دقيق لا ينقص قيمته عن قيمة نصف صاع ما هو دقيقه بل يزيد حتى لو فرض نقصه كما قد يتفق في أيام البدار كان الواجب ما قلنا قوله هو الصحيح احتراز كما قال بعضهم يراعي فيه القدر وهو أن يكون منوين من
____________________
(2/295)
الخبز لأنه لما روعى القدر فيما هو أصله ففيه وإنه يزداد ذلك القدر صنعة وقيمة أولى والصحيح الأول لما أن القدر لا يعرف إلا من جهة الشرع ولم يرد إلا في المكيل والخبز ليس منه فكان إخراجه بطريق القيمة
قوله ثم يعتبر نصف صاع من بر من حيث الوزن عند أبي حنيفة وجهه أن العلماء لما اختلفوا في أن الصاع ثمانية أرطال أو خمسة وثلث كان إجماعا منهم أنه يعتبر بالوزن إذ لا معنى لاختلافهم فيه إلا إذا اعتبر به
وروى ابن رستم عن محمد إنما يعتبر بالكيل لو وزن أربعة أرطال فدفعها إلى القوم لا يجزيه لجواز كون الحنطة ثقيلة لا تبلغ نصف صاع وإن وزنت أربعة أرطال قوله لأنها أبعد عن الخلاف أجيب بأن الخلاف في الحنطة لثبوت الخلاف في قدرها أيضا لكن فيه أنه أقل شبهة قوله وقال أبو يوسف خمسة أرطال وثلث والرطل زنة مائة وثلاثين درهما ويعتبر وزن ذلك بما لا يختلف كيله ووزنه وهو العدس والماش فما وسع ثمانية أرطال أو خمسة وثلثا من ذلك فهو الصاع كذا قالوا
وعلى هذا يرتفع الخلاف المذكور آنفا في تقدير الصاع كيلا أو وزنا إذا تؤمل قوله لقوله عليه الصلاة والسلام صاعنا أصغر الصيعان ولم يعلم خلاف في قدر
____________________
(2/296)
صاعه عليه الصلاة والسلام إلا ما قاله الحجازيون والعراقيون وما قاله الحجازيون أصغر فهو الصحيح إذ هو أصغر الصيعان لكن الشأن في صحة الحديث والله أعلم به غير أن ابن حبان روى بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له يا رسول الله صاعنا أصغر الصيعان ومدنا أكبر الأمداد فقال اللهم بارك لنا في صاعنا وبارك لنا في قليلنا وكثيرنا واجعل لنا مع البركة بركتين اه ثم قال ابن حبان وفي تركه إنكار كونه أصغر الصيعان بيان أن صاع المدينة كذلك اه
ولا يخفى أن هذا ليس من مواضع كون السكوت حجة لأنه ليس في حكم شرعي حتى يلزم رده إن كان خطأ والمعول عليه ما أخرجه البيهقي عن الحسن بن الوليد القرشي وهو ثقة قال قدم علينا أبو يوسف رحمه الله من الحج فقال إني أريد أن أفتح عليكم بابا من العلم أهمني ففحصت عنه فقدمت المدينة فسألت عن الصاع فقالوا صاعنا هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لهم ما حجتكم في ذلك فقالوا نأتيك بالحجة غدا فلما أصبحت أتاني نحو من خمسين شيخا من أبناء المهاجرين والأنصار مع كل رجل منهم الصاع تحت ردائه كل رجل منهم يخبر عن أبيه وأهل بيته أن هذا صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظرت فإذا هي سواء قال فعيرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث ونقصان يسير
قال فرأيت أمرا قويا فتركت قول أبي حنيفة رحمه الله في الصاع
وروى أن مالكا ناظره واحتج عليه بالصيعان التي جاء بها أولئك فرجع أبو يوسف إلى قوله
وأخرج الحاكم عن أسماء بنت أبي بكر أنهم كانوا يخرجون زكاة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمد الذي يقتاتون به يفعل ذلك أهل المدينة كلهم اه وصححه ولنا ما روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ بالمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال هكذا وقع مفسرا عن أنس وعائشة في ثلاثة طرق رواها الدارقطني وضعفها
وعن جابر فيما أسند ابن عدي عنه وضعفه بعمر بن
____________________
(2/297)
موسى والحديث في الصحيحين ليس فيه الوزن وأما كون صاع عمر كذلك فأخرج ابن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم قال سمعت حسن بن صالح يقول صاع عمر ثمانية أرطال
وقال شريك أكثر من سبعة وأقل من ثمانية حدثنا وكيع عن علي بن صالح عن أبي إسحاق عن موسى بن طلحة قال الحجاجي صاع عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وهذا الثاني أخرجه الطحاوي ثم أخرج عن إبراهيم النخعي قال عيرنا صاعا فوجدناه حجاجيا والحجاجي عندهم ثمانية أرطال بالبغدادي
وعنه قال وضع الحجاج قفيزه على صاع عمر قالوا كان الحجاج يفتخر بإخراج صاع عمر وبتقدير تسليم ما رووه أولا لا يلزم كون خمسة أرطال وثلث صاعه الذي هو أصغر بل الحاصل الاتفاق على أن صاعه كان أصغر الصيعان باعتبار أنهم كانوا يستعملون الهاشمي وهو اثنان وثلاثون رطلا ثم الخلاف في أن الأصغر ما قدره ثابت فلا يلزم صحة قول من قال تقديره أقل إذ خصمه ينازعه في أن ذلك التقدير هو الذي كان الصاع الأصغر إذ ذاك ولا أعجب من هذا الاستدلال شيء والجماعة الذين لقيهم أبو يوسف لا تقوم بهم حجة لكونهم نقلوا عن مجهولين وقيل لا خلاف بينهم فإن أبا يوسف لما حرره وجده خمسة وثلثا برطل أهل المدينة وهو أكبر من رطل أهل بغداد لأنه ثلاثون إستارا والبغدادي عشرون وإذا قابلت ثمانية بالبغدادي بخمسة وثلث بالمدني وجدتهما سواء وهو أشبه لأن محمدا رحمه الله لم يذكر في المسألة خلاف أبي يوسف ولو كان لذكره على المعتاد وهو أعرف بمذهبه وحينئذ فالأصل كون الصاع الذي كان في زمن عمر هو الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قولا بالاستصحاب إلى أن يثبت خلافه ولم يثبت وعند ذلك تكون تلك الزيادة التي فيما تقدم من رواية الدارقطني وهي لفظ ثمانية أرطال ورطلان صحيحة اجتهادا وإن كان فيمن في طريقها ضعف إذ ليس يلزم من ضعف الراوي سوى ضعفها ظاهرا لا الانتفاء في نفس الأمر إذ ليس كل ما يرويه الضعيف خطأ وهذا لتأيدها بما ذكر من الحكم الاجتهادي بكون صاع عمر هو صاع النبي صلى الله عليه وسلم هذا ولا يخفى ما في تضعيف واقعة أبي يوسف بكون النقل عن مجهولين من النظر بل الأقرب منه عدم ذكر محمد لخلافه فيكون ذلك دليل ضعف أصل وقوع الواقعة لأبي يوسف ولو كان راويها ثقة لأن وقوع ذلك منه لعامة الناس ومشافهته إياهم به مما يوهم شهرة رجوعه ولو كأن لم يعمه محمد فهو علة باطنة قوله ولنا أن الإضافة للاختصاص يعني إضافة صدقة إلى الفطر والشافعي أيضا يقول كذلك لكن إضافة الصدقة إلى الفطر إنما تفيد اختصاص الفطر بها أما كون ذلك الفطر فطر اليوم لا فطر ليلته فلا دلالة لهذه الإضافة عليه فلا بد من ضم أمر آخر فيقال لما أفادت اختصاصها بالفطر وتعلقها به كان جعل ذلك الفطر الفطر المخالف للعادة وهو فطر النهار أولى من جعله الموافق لها لأن فطر الليل لم يعهد فيه زكاة ولذا لم يجب في فطر الليالي السابقة صدقة وقد يفرق بأن فطر آخر ليلة يتم به صوم الشهر ووجوب الفطرة إنما كان طهرة للصائم عما عساه يقع في صومه من اللغو والرفث على ما ذكره ابن عباس وذلك يتم بتعليقها بفطر ليلة
____________________
(2/298)
شوال إذ به يتم الصوم بخلاف ما قبلها والله أعلم قوله لأنه عليه الصلاة والسلام كان يخرج الفطرة قبل أن يخرج إلى المصلى ولأن الأمر بالإغناء كي لا يتشاغل الفقير بالمسألة عن الصلاة يتضمن هذا الكلام رواية فعله عليه الصلاة والسلام وقوله وكل ذلك فيما رواه الحاكم في كتابه علوم الحديث في باب الأحاديث التي انفرد بزيادة فيها راو واحد قال حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن الجهم السمري حدثنا نصر ابن حماد حدثنا أبو معشر عن نافع عن ابن عمر قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج صدقة الفطر عن كل صغير و كبير حر أو عبد صاعا من تمر أو صاعا من زبيب أو صاعا من شعير أو صاعا من قمح وكان يأمرنا أن نخرجها قبل الصلاة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسمها قبل أن ينصرف إلى المصلى ويقول أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم قوله فإن قدموها على يوم الفطر جاز لأنه أدى بعد تقرر السبب يعني الرأس الذي يمونه ويلي عليه
فأشبه تعجيل الزكاة ينبغي أن لا يصح هذا القياس فإن حكم الأصل على خلاف القياس فلا يقاس عليه وهذا لأن التقديم وإن كان بعد السبب هو قبل الوجوب وسقوط ما سيجب إذا وجب بما يعمل قبل الوجوب خلاف القياس فلا يتم في مثله إلا السمع وفيه حديث البخاري عن ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر إلى أن قال في آخره وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين وهذا مما لا يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم بل لا بد من كونه بإذن سابق فإن الإسقاط قبل الوجوب مما لا يعقل فلم يكونوا يقدمون عليه إلا بسمع والله سبحانه أعلم قوله هو الصحيح احتراز عن قول خلف يجوز تعجيلها بعد دخول رمضان لا قبله لأنه صدقة الفطر ولا فطر قبل الشروع في الصوم وعما قيل في النص الأخير لا قبله وما قيل في العشر الأخير لا قبله وقال الحسن بن زياد لا يجوز التعجيل أصلا قوله لأن وجه القربة فيها معقول الخ ظاهر وبه يبطل قول الحسن بن زياد أنها تسقط كالأضحية بمضي يوم النحر والفرق ظاهر من
____________________
(2/299)
كلام المصنف وما قيل من منع سقوط الأضحية بل ينتقل إلى التصديق بها ليس بشيء إذ لا ينتفي بذلك كون نفس الأضحية وهو إراقة دم سن مقدر قد سقط وهذا شيء آخر وربما يؤخذ سقوطها ببادىء الرأي من حديث ابن عباس المتقدم أو الباب حيث قال من أداها قبل الصلاة فهي صدقة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات لكن قد يدفع باتحاد مرجع ضمير أداها في المرتين إذ يفيد أنها هي المؤداة بعد الصلاة غير أنه نقص الثواب فصارت كغيرها من الصدقات على أن اعتبار ظاهره يؤدي إلى سقوطها بعد الصلاة وإن كان في باقي اليوم وليس هذا قوله فهو مصروف عنه عنده
فرع اختلف في جواز إعطاء فطرة كل شخص إلى أكثر من شخص فعند الكرخي يجوز أن يعطيها لجماعة وعند غيره لا يجزئ أن يعطيها إلا لواحد ويجوز أن يعطي واحدا صدقة جماعة والله أعلم = كتاب الصوم
هذا ثالث أركان الإسلام بعد لا إله إلا الله محمد رسول الله شرعه سبحانه لفوائد أعظمها كونه موجبا شيئين أحدهما عن الآخر سكون النفس الأمارة وكسر سورتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج فإن به تضعف حركتها في محسوساتها ولذا قيل إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء وإذا شبعت جاعت كلها وما عن هذا صفاء القلب من الكدر فإن الموجب لكدوراته فضول اللسان
____________________
(2/300)
والعين وباقيها وبصفائه تناط المصالح والدرجات ومنها كونه موجبا للرحمة والعطف على المساكين فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات ذكر من هذا حالة في عموم الأوقات فتسارع إليه الرقة عليه والرحمة حقيقتها في حق الإنسان نوع ألم باطن فيسارع لدفعه عنه بالإحسان إليه فينال بذلك ما عند الله تعالى من حسن الجزاء ومنها موافقة الفقراء بتحمل ما يتحملون أحيانا وفي ذلك رفع حاله عند الله تعالى كما حكى عن بشر الحافي أنه دخل عليه رجل في الشتاء فوجده جالسا يرعد وثوبه معلق على المشجب فقال له في مثل هذا الوقت ينزع الثوب أو معناه فقال يا أخي الفقراء كثير وليس لى طاقة مواساتهم بالثياب فأواسيهم بتحمل البرد كما يتحملون والصوم لغة الإمساك مطلقا
صام عن الكلام وغيره قال النابغة
____________________
(2/301)
** خيل صيام وخيل غير صائمة ** تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما **
وفي الشرع إمساك عن الجماع وعن إدخال شيء بطنا له حكم الباطن من الفجر إلى الغروب عن نية ونكرنا البطن ووصفناه لأنه لو أوصل إلى باطن دماغه شيئا فسد وإلى باطن فمه وأنفه لا يفسد وسيأتي الكلام في تعريف القدوري وذلك الإمساك ركنه وسببه مختلف ففي المنذور النذر ولذا قلنا لو نذر صوم شهر بعينه كرجب أو يوم بعينه فصام عنه جمادي ويوما أخر أجزأ عن المنذور لأنه تعجيل بعد وجود السبب ويلغو تعيين اليوم لأن صحة النذر ولزومه عما به يكون المنذور عبادة إذ لا نذر بغيرها والمتحقق لذلك الصوم لا خصوص الزمان ولا باعتباره وسبب صوم الكفارات أسبابها من الحنث والقتل وسبب القضاء هو سبب وجوب الأداء وسبب رمضان شهود جزء من الشهر ليلة أو نهاره وكل يوم سبب وجوب أدائه لأنها عبادات متفرقة كتفرق الصلوات في الأوقات بل أشد لتخلل زمان لا يصلح للصوم أصلا وهو الليل وجمع المصنف بينهما لأنه لا منافاة فشهود جزء منه سبب لكله ثم كل يوم سبب لصومه
غاية الأمر أنه تكرر سبب وجوب صوم اليوم باعتبار خصوصه ودخوله في ضمن غيره وشرط وجوبه الإسلام والبلوغ والعقل وشرط وجوب أدائه الصحة والإقامة وشرط صحته الطهارة عن الحيض والنفاس والنية وينبغي أن يزاد في الشروط العلم بالوجوب أو الكون في دار الإسلام ويراد بالعلم الإدراك وهذا لأن الحربي إذا أسلم في دار الحرب ولم يعلم أن عليه صوم رمضان ثم علم ليس عليه قضاء ما مضى وإنما يحصل العلم الموجب بإخبار رجلين أو رجل وامرأتين أو واحد عدل
____________________
(2/302)
وعندهما لا تشترط العدالة ولا البلوغ ولا الحرية ولو أسلم في دار الإسلام وجب عليه قضاء ما مضى بعد الإسلام علم بالوجوب أولا وحكمه سقوط الواجب ونيل ثوابه إن كان صوما لازما وإلا فالثاني وأقسامه فرض وواجب ومسنون ومندوب ونفل ومكروه تنزيها وتحريما
فالأول رمضان وقضاؤه والكفارات للظهار والقتل واليمين وجزاء الصيد وفدية الأذى في الإحرام لثبوت هذه بالقاطع سندا ومتنا والإجماع عليها والواجب المنذور والمسنون عاشوراء مع التاسع والمندوب صوم ثلاثة من كل شهر ويندب فيها كونها الأيام البيض وكل صوم ثبت بالسنة طلبه والوعد عليه كصوم داود عليه الصلاة والسلام ونحوه
والنفل ما سوى ذلك مما لم تثبت كراهته
والمكروه تنزيها عاشوراء مفردا عن التاسع ونحو يوم المهرجان
وتحريما أيام التشريق والعيدين وسنعقد بذيل هذا الباب فروعا لتفصيل هذه
فإن قيل لم كان المنذور واجبا مع أن ثوبته بقوله تعالى { وليوفوا نذورهم } أجيب بأنه عام دخله الخصوص فإنه خص النذر بالمعصية وبما ليس من جنسه واجب كعيادة المريض أو كان لكنه غير مقصود لنفسه بل لغيره حتى لو نذر الوضوء لكل صلاة لم يلزم فصارت ظنية كالآية المؤولة فيفيد الوجوب وقد علم مما ذكرنا شروط لزوم النذر وهي كون المنذور من جنسه واجب لا لغيره على هذا تضافرت كلمات الأصحاب فقول صاحب المجمع تبعا لصاحب البدائع يفترض صوم رمضان وصوم المنذور والكفارة على غير ما ينبغي على هذا لكن الأظهر أنه فرض للإجماع على لزومه ولا بد من النية في الكل والكلام في وقتها الذي يعتبر فيه فقلنا في رمضان والمنذور المعين والنفل تجزيه النية من بعد الغروب إلى ما قبل نصف النهار في صوم ذلك النهار وفيها سوى ذلك من القضاء والكفارات والمنذور المطلق كنذر صوم يوم من غير تعيين لا بد من وجودها في الليل
وقال الشافعي لا تجزى في غير النفل إلا من الليل
وقال مالك لا تجزى إلا من الليل في النفل وغيره
والمصنف ذكر خلاف الشافعي
قوله وجه قوله في الخلافية قوله صلى الله عليه وسلم لا صيام لمن الخ استدل بالحديث والمعنى
أما الحديث
____________________
(2/303)
فما ذكره رواه أصحاب السنن الأربعة واختلفوا في لفظه لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل يجمع بالتشديد والتخفيف يبيت ولا صيام لمن لم يفرضه من الليل رواية ابن ماجه
واختلفوا في رفعه ووقفه ولم يروه مالك في الموطأ إلا من كلام ابن عمر وعائشة وحفصة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم والأكثر على وقفه وقد رفعه عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه عن الزهري يبلغ به حفصة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يجمع قبل الفجر فلا صيام له ووقفه عنه على حفصة معمر والزبيري وابن عيينة ويونس الإبلي وعبد الله بن أبي بكر ثقة والرفع زيادة وهي من الثقة مقبولة ولفظ يبيت عند الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها عنه عليه الصلاة والسلام من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له قال الدارقطني تفرد به عبد الله بن عباد عن الفضل بهذا الإسناد وكلهم ثقات وأقره البيهقي عليه
ونظر فيه بأن عبد الله بن عباد غير مشهور ويحيى ابن أيوب ليس بالقوي وهو من رجاله
وقال ابن حبان عبد الله بن عباد البصري يقلب الأخبار
قال روى عنه روح بن الفرج نسخة موضوعة وأما المعنى فهو قوله ولأنه لما فسد الجزء الأول لفقد النية فيه إذ الفرض اشتراطها في صحة الصوم ولم توجد في الأجزاء الأول من النهار فسد الباقي وإن وجدت النية فيه ضرورة عدم انقلاب الفاسد صحيحا وعدم تجزى الصوم صحة وفسادا لا يقال لما لم يتجزأ صحة وفسادا وقد صح ما اقترن بالنية صح الكل ضرورة ذاك لأن المحرم مقدم وهذا بخلاف النفل لأنه متجز عندي لأنه مبني على النشاط وقد ينشط في بعض اليوم أو نقول تتوقف الإمساكات في أول اليوم على وجود النية في باقيه في النفل اعتبارا له أخف حالا من الفرض حتى جازت صلاته قاعدا وراكبا غير مستقبل القبلة بخلاف الفرض ثم يدل على هذا الاعتبار ما أخرجه مسلم عن عائشة قالت دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال هل عندكم شيء فقلنا لا فقال إني إذا صائم ثم أتى يوما آخر فقلنا يا رسول الله أهدى لنا حيس فقال أرنيه فلقد أصبحت صائما فأكل قوله لنا حاصل استدلاله بالنص والقياس على النفل ثم تأويل مرويه بدليل يوجب ذلك أما النص فما ذكره وهو مستغرب والله أعلم به بل المعروف أنه شهد عنده برؤية الهلال فأمر
____________________
(2/304)
أن ينادي في الناس أن يصومو غدا رواه الدارقطني بلفظ صريح فيه وما رواه أصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال قال الحسن في حديثه يعني رمضان فقال أتشهد أن لا إله إلا الله قال نعم قال أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم قال يا بلال أذن في الناس فليصوموا محتمل لكونه شهد في النهار أو الليل فلا يحتج به واستدل الطحاوي بما في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع أنه عليه الصلاة والسلام أمر رجلا من أسلم أن أذن في الناس أن من أكل فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم فإن اليوم يوم عاشوراء فيه دليل على أنه كان أمر إيجاب قبل نسخه برمضان إذ لا يؤمر من أكل بإمساك بقية اليوم إلا في يوم مفروض الصوم بعينه ابتداء بخلاف قضاء رمضان إذا أفطر فيه فعلم أن من تعين عليه صوم يوم ولم ينوه ليلا أنه يجزيه نيته نهارا وهذا بناء على أن عاشوراء كان واجبا وقد منعه ابن الجوزي بما في الصحيحين عن معاوية رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا يوم عاشوراء لم يفرض علينا صيامه فمن شاء منكم أن يصوم فليصم فإني صائم فصام الناس قال وبدليل أنه لم يأمر من أكل بالقضاء ويدفع بأن معاوية من مسلمة الفتح فإن كان سمع هذا بعد إسلامه فإنما يكون سمعه سنة تسع أو عشر فيكون ذلك بعد نسخه بإيجاب رمضان ويكون المعنى لم يفرض بعد إيجاب رمضان جمعا بينه وبين الآدلة الصريحة في وجوبه أي فريضته وإن كان سمعه قبله فيجوز كونه قبل افتراضه ونسخ عاشوراء رمضان في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت كان يوم عاشوراء يوما يصومه قريش في الجاهلية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان قال من شاء صامه ومن شاء تركه وكون لفظ أمر مشتركا بين الصيغة الطالبة ندبا وإيجابا ممنوع ولو سلم فقولها فلما فرض رمضان قال من شاء الخ دليل أنه مستعمل هنا في الصيغة الموجبة للقطع بأن التخيير ليس باعتبار الندب لأنه مندوب إلى الآن بل مسنون فكان باعتبار الوجوب وكذا ما تقدم من الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع وأمره من أكل بالإمساك فثبت أن الافتراض لا يمنع اعتبار النية مجزئة من النهار شرعا ويلزمه عدم
____________________
(2/305)
الحكم بفساد الجزء الذي لم يقترن بها في أول النهار من الشارع بل اعتباره موقوفا إلى أن يظهر الحال من وجودها بعده أو لا فإذا وجدت ظهر اعتباره عبادة لا أنه انقلب صحيحا بعد الحكم بالفساد فبطل ذلك المعنى الذي عينه لقيام ما رويناه دليلا على عدم اعتباره شرعا ثم يجب تقديم ما رويناه على مرويه لقوة ما في الصحيحين بالنسبة إلى ما رواه بعد ما نقلنا فيه من الاختلاف في صحة رفعه فيلزم إذ قدم كون المراد به نفي الكمال كما في أمثاله من نحو لا وضوء لمن لم يسم وغيره كثير أو المراد لم ينو كون الصوم من الليل فيكون الجار والمجرور وهو من الليل متعلقا بصيام الثاني لا بينو أو يجمع فحاصله لا صيام لمن لم يقصد أنه صائم من الليل أي من آخر أجزائه فيكون نفيا لصحة الصوم من حين نوى من النهار كما قال به الشافعي
ولو تنزلنا إلى صحته وكونه لنفي الصحة وجب أن يخص عمومه بما رويناه عندهم مطلقا وعندنا لو كان قطعيا خص بعضه خصص به فكيف وقد اجتمع فيه الظنية والتخصيص إذ قد خص منه النفل ويخص أيضا بالقياس ثم الكلام في تعيين أصل ذلك القياس فجعله المصنف النفل ويرد عليه أنه قياس مع الفارق إذ لا يلزم من التخفيف في النفل بذلك ثبوت مثله في الفرض ألا يرى إلى جواز النافلة جالسا بلا عذر وعلى الدابة بلا عذر مع عدمه في الفرض والحق أن صحته فرع ذلك النص فإنه لما ثبت جواز الصوم في الواجب المعين بنية من النهار علم عدم اعتبار فرق بينه وبين النفل في هذا الحكم والقياس الذي لا يتوقف على ذلك قياس النية المتأخرة على المتقدمة من أول الغروب بجامع التيسير ودفع الحرج بيانه أن الأصل أن النية لا تصح إلا بالمقارنة أو مقدمة مع عدم اعتراض ما ينافي المنوي بعدها قبل الشروع فيه فإنه يقطع اعتبارها على ما قدمناه في شروط الصلاة ولم يجب فيما نحن فيه لا المقارنة وهو ظاهر فإنه لو نوى عند الغروب أجزأه ولا عدم تخلل المنافي لجواز الصوم بنية يتخلل بينها وبينه الأكل والشرب والجماع مع انتفاء حضورها بعد ذلك إلى انقضاء يوم الصوم والمعنى الذي لأجله صحت المتقدمة لذلك التيسير ودفع الحرج
____________________
(2/306)
اللازم لو ألزم أحدهما
وهذا المعنى يقتضي تجويزها من النهار للزوم الحرج لو ألزمت من الليل في كثير من الناس كالذي نسيها ليلا وفي حائض طهرت قبل الفجر ولم تعلم إلا بعده وهو كثير جدا فإن عادتهن وضع الكرسف عشاء ثم النوم ثم رفعه بعد الفجر وكثير ممن يفعل كذا تصبح فترى الطهر وهو محكوم بثبوته قبل الفجر ولذا نلزمها بصلاة العشاء وفي صبي بلغ بعده ومسافر أقام وكافر أسلم فيجب القول بصحتها نهارا وتوهم أن مقتضاه قصر الجواز على هؤلاء أو أن هؤلاء لا يكثرون كثرة غيرهم بعيد عن النظر إذ لا يشترط اتحاد كمية المناط في الأصل والفرع فلا يلزم ثبوت الحرج في الفرع وهو المتأخرة بقدر ثبوته في الأصل وهو المتقدمة بل يكفي ثبوته في جنس الصائمين كيف والواقع أنه لم يعتبر المصحح الحرج الزائد ولا ثبوته في أكثر الصائمين في الأصل فكذا يجب في الفرع وهذا لأن أكثر الصائمين يكونون مفيقين قريب الفجر فقوم لتهجدهم وقوم لسحورهم فلو ألزمت النية قبل الفجر على وجه لا يتخلل المنافي بينها وبينه لم يلزم بذلك حرج في كل الصائمين ولا في أكثرهم بل فيمن لا يفيق إلا بعد الفجر وهم قليل بالنسبة إلى غيرهم بخلاف اليقين قبله إذ يمكنهم تأخير النية إلى ما بعد استيفاء الحاجة من الأكل والجماع فتحصل بذلك نية سابقة لم يتخلل بينها وبين الشروع ما ينافي الصوم من غير حرج بهم فلما لم يجب ذلك علم أن المقصود التيسير بدفع الحرج من كل وجه وعن كل صائم ويلزم المطلوب من شرعية المتأخرة
واعلم أن هذا لا يخص الواجب المعين بل يجري في كل صوم لكن القياس إنما يصلح مخصصا للخبر لا ناسخا ولو جرينا على تمام لازم هذا القياس كان ناسخا له إذ لم يبق تحته شيء حينئذ فوجب أن يحاذي به مورد النص وهو الواجب المعين من رمضان ونظيره من النذر المعين ولا يمكن أن يلغى قيد التعيين في مورد النص الذي رويناه فإنه حينئذ يكون إبطالا لحكم لفظ بلا لفظ ينص فيه فليتأمل وانتظم ما ذكرناه جواب مالك أيضا
فإن قيل فمن أين اختص اعتبارها بوجودها في أكثر النهار وما رويتم لا يوجبه قلنا لما كان ما رويناه واقعة حال لا عموم لها في جميع أجزاء النهار احتمل كون إجازة الصوم في تلك الواقعة لوجود النية فيها في أكثره بأن يكون أمره عليه الصلاة والسلام الأسلمي بالنداء كان الباقي من النهار أكثره واحتمل كونها للتجويز من النهار مطلقا في الواجب فقلنا بالاحتمال الأول لأنه أحوط خصوصا ومعنا نص يمنعها من النهار مطلقا وعضده المعنى وهو أن للأكثر من الشيء الواحد حكم الكل في كثير من موارد الفقه فعلى اعتبار هذا يلزم اعتبار كل النهار بلانية لو اكتفى بها في أقله فوجب الاعتبار الآخر وإنما اختص بالصوم فلم يجز مثله في الحج والصلاة لأنه ركن واحد ممتد فبالوجود في أكثره يعتبر قيامها في كله بخلافها فإنهما أركان فيشترط قرانها بالعقد على أدائهما وإلا خلت بعض الأركان عنها فلم يقع ذلك الركن عبادة والحمد الله ولا حول ولا قوة إلا بالله
قوله خلافا لزفر فإنه يقول لا يجوز رمضان من المسافر والمريض إلا بنية من الليل لأنه في حقهما كالقضاء
____________________
(2/307)
لعدم تعينه عليهما
قلنا لا تفصيل فيما ذكرنا في الواجب المعين ثم هما إنما خولف بهما الغير شرعا في التخفيف لا التغليظ وصوم رمضان متعين بنفسه على الكل غير أنه جاز لهما تأخيره تخفيفا للرخصة فإذا صاما وتركا الترخص التحقا بالمقيم قوله وهذا الضرب أي ما يتعلق بزمان بعينه من الواجب يتأدى بمطلق النية وبنية النفل وبنية واجب آخر وهذا الإطلاق لا يتم في المنذور المعين فإنه يتأدى بالنية المطلقة وبنية النفل أما لو نوى واجبا آخر ككفارة يقع عما نوى وعلل بأن تعيين الناذر اليوم يعتبر في إبطال محليته لحق له وهو النفل لا محليته في حق حق عليه لأن ولايته لا تتجاوز حقه وأورد عليه بأن التعيين بإذن صاحب الحق وهو الشارع فينبغي أن يتعدى إلى حقه لإذنه بإلزامه على نفسه وأجيب بأنه أذن مقتصرا على أن يتصرف في حق نفسه أعنى العبد وأورد لما لم يتعد إلى حق صاحب الشرع بقي محتملا لصوم القضاء والكفارة فينبغى أن يشترط التعيين ولا يتأدى بإطلاق النية كالظهر عند ضيق الوقت أجيب بأن صوم القضاء والكفارة من محتملات الوقت وأصل المشروع فيه النفل الذي صار واجبا بالنذر وهو واحد فينصرف المطلق إليه وكذا نية النفل بخلاف الظهر المضيق فإن تعيين الوقت يعارض التقصير بتأخير الأداء فلا يتعين الوقت بعده له بعد ما كان غير متعين له
____________________
(2/308)
قوله كالمتوحد في الدار ينال باسم جنسه علم من وجه قول الشافعي في اشتراط تعيين النية أن الثابت عن الشارع تعيين المحل وهو الزمان لقبول المشروع المعين ولازمه نفي صحة غيره وهذا لا يستلزم نفي لزوم التعيين عن المكلف لأن إلزام التعيين ليس لتعيين المشروع للمحل بل ليثبت الواجب عن اختيار منه في أدائه لا جبرا وتعين المحل شرعا ليس علة لاختيار المكلف ونية مطلق الصوم كذلك قولكم المتوحد ينال باسم جنسه كزيد ينال بيا حيوان ويا رجل قلنا إن أراد بقوله يا حيوان زيدا مثلا فهو صحيح وليس نظيره إلا أن يريد بمطلق الصوم الذي هو متعلق النية صوم رمضان وحينئذ ليس هو محل النزاع لأنه قصد صوم رمضان بذلك وإن لم يرده بعينه به بل أراد فردا ينطلق عليه ذلك الاسم لم يخطر بخاطره سوى ذلك كما هو حقيقة إرادة المطلق مثل قول الأعمى يا رجلا خذ بيدي فليس هو إرادة ذلك المتعين فإنه لم يقصد بل ما يطلق عليه الاسم سواء كان ذلك أو غيره فلزوم ثبوت ذلك بعينه يكون لا عن قصد إليه إذ الفرض أنه لم يقصد بعينه فيكون حينئذ جبرا لكن لا بد في أداء الفرض من الاختيار واختيار الأعم ليس اختيار الأخص بخصوصه وإذا بطل في المطلق بطل في إرادة النفل وواجب آخر لأن الصحة بهما إنما هي باعتبار الصحة بالمطلق بناء على لغو الزائد عليه فيبقى هو وبه يتأدى بل البطلان هنا أولى لأنه يمكن اعتبار قصد المتعين بقصد الأعم من جهة أنه قصد ما ينطلق عليه الاسم وهو منها بخلاف هذا إذا لم يتعلق به قصد تعيين ذلك المعين ثم اعتبار ذلك المطلق الذي في ضمنه بعد ما لغا مصابا به ذلك المعين مع تصريحه بأني لم أرد المطلق بل الكائن بقيد كذا جبر على إيقاعة وهو النافي للصحة فكيف يسقط صوم رمضان وهو ينادي ويقول لم أرده بل صوم كذا وأردت عدمه فإنه مع إرادة عدمه إذا أراد صوما آخر يقع عن رمضان عندكم قوله ولا فرق بين المسافر والمقيم والصحيح والسقيم أي في أنه يتأدى رمضان
____________________
(2/309)
منهما بالمطلقة ونية واجب آخر والنفل عندهما والوجه ظاهر من الكتاب
قوله وعند أبي حنيفة إذا صام المريض والمسافر جمع بينهما وهو رواية عنه
والحاصل أن إخراج أبي جنيفة المسافر إذا نوى واجبا آخر بلا اختلاف في الرواية
وله فيه طريقان أحدهما أن نفس الوجوب وإن كان ثابتا في حق المسافر لوجود سببه إلا أن الشارع أثبت له الترخص بترك الصوم تخفيفا عليه للمشقة ومعنى الترخص أن يدع مشروع الوقت بالميل إلى الأخف فإذا اشتغل بواجب آخر كان مترخصا لأن إسقاطه من ذمته أهم من إسقاط فرض الوقت لأنه لو لم يدرك عدة من أيام أخر لم يؤاخذ بفرض الوقت ويؤاخذ بواجب آخر وهذا يوجب أنه إذا نوى النفل يقع عن رمضان وهو رواية ابن سماعة عنه إذ لا يمكن إثبات معنى الترخص بهذه النية لأن الفائدة في النفل ليس إلا الثواب وهو في الفرض أكثر فكان هذا ميلا إلى الأثقل فيلغو وصف النفلية ويبقى مطلق الصوم فيقع عن فرض الوقت
والثاني أن انتفاء شرعية الصيامات ليس من حكم الوجوب فإن الوجوب موجود في الواجب الموسع بل هو من حكم تعيين هذا الزمان لأداء الفرض ولا تعين في حق المسافر لأنه مخير بين الأداء والتأخير فصار هذا الوقت في حقه كشعبان فيصح منه أداء واجب آخر كما في شعبان
وهذا الطريق يوجب أنه إذا نوى النفل يقع عما نوى وهو رواية الحسن عنه وهاتان الروايتان اللتان حكاهما المصنف
وأما إخراج المريض إذا نوى واجبا آخر وجعله كالمسافر فهو رواية الحسن عنه وهواختيار صاحب الهداية وأكثر مشايخ بخارى
____________________
(2/310)
لأن رخصته متعلقة بخوف ازدياد المرض لا بحقيقة العجز فكان كالمسافر في تعلق الرخصة في حقه بعجز مقدر وذكر فخر الإسلام وشمس الأئمة أنه يقع عما نوى لأن رخصته متعلقة بحقيقة العجز
قيل ما قالاه خلاف ظاهر الرواية
وقال الشيخ عبد العزيز وكشف هذا أن الرخصة لا تتعلق بنفس المرض بالإجماع لأنه يتنوع إلى ما يضر به الصوم نحو الحميات ووجع الرأس والعين وغيرها وما لا يضر به كالأمراض الرطوبية وفساد الهضم وغير ذلك والترخص إنما ثبت للحاجة إلى دفع المشقة فيتعلق في النوع الأول بخوف ازدياد المرض ولم يشترط فيه العجز الحقيقي دفعا للحرج وفي الثاني بحقيقته فإذا صام هذا المريض عن واجب آخر أو النفل ولم يهلك ظهر أنه لم يكن عاجزا فلم يثبت له الترخص فيقع عن فرض الوقت وإذا صام ذلك المريض كذلك يقع عما نوى لتعلقها بعجز مقدر وهو ازدياد المرض كالمسافر فيستقيم جواب الفريقين وإلى هذا أشار شمس الأئمة حيث قال وذكر أبو الحسن الكرخي أن الجواب في المريض والمسافر سواء على قول أبي حنيفة رحمه الله وهذا سهو أو مؤول ومراده مريض يطيق الصوم ويخاف منه ازدياد المرض فهذا يدلك على صحة ما ذكرنا
قوله فلا يجوز إلا بنية من الليل ليس بلازم بل إن نوى مع طلوع الفجر جاز لأنه الواجب قران النية بالصوم لا تقديمها كذا في فتاوي قاضيخان قوله لأن غير متعين وقد قدمنا أن ثبوت التوقف إنما كان بالنص ومورده كان الواجب المعين فعقل أن ثبوت التوفق بواسطة التعين مع لزوم النية واشتراطها في أداء العبادة إذ الظاهر أنه لا يخلى الزمن الذي وجبت فيه العبادة عن النية وكان هذا رفقا بالمكلف كي لا يتضرر في دينه ودفعا للحرج عنه على ما ذكرنا من تقريره وغير المعين لم يلزم من اعتبار خلوه عن النية للخلو الخالي عنها وهو الأصل أعنى اعتبار الخلو للخلو الخالي ضرر ديني عليه لأنه على التراخي فلا يأثم بعدم صحته لعدم النية فيه فلا موجب للتوقف لا يقال توقف في النفل وليس فيه الموجب الذي ذكرت بل مجرد الطلب الثواب وهو مع إسقاط الفرض ثابت في كل يوم في حق هذه الصيامات فيجب التوقف فيها بالنسبة إليها بل أولى
لأنا نقول يمنع منه لزوم كون المعنى ناسخا بالنص أعنى قوله عليه الصلاة والسلام لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل إذ قد خرج منه الواجب المعين بالنص مقارنا للمعنى الذي عيناه وهو لا يتعداه فلو أخرج غير المعين أيضا مع أن النفل قد خرج أيضا بالنص بما ذكرت مما عقلت في إخراج النفل لم يبق تحت العام شيء بالمعنى الذي عينته وهوممنوع ولازمه كون ما عينته في النفل ليس مقصود الشارع من شرعية الصحة في النفل بل مقصوده زيادة تخفيف النفل على تخفيف الواجب حيث اعتبر التوقف فيه لمجرد تحصيل الثواب كما هو المعهود في الصلاة حيث جازت نافلتها على الدابة وجالسا بلا عذر بخلاف فريضتها للمعنى الذي قلنا
لا يقال ما عللتم به في المعين قاصر وأنتم تمنعون التعليل بالقاصرة
لأنا نقول ذلك للقياس لا مجرد إبداء معنى هو حكمة المنصوص لأنه إجماع والنزاع في المسألة لفظي مبني على تفسير التعليل بما يساوي القياس أو أعم منه لا يشك في هذا وقد أوضحناه فيما كتبناه على البديع ومن فروع لزوم التبيت في غير المعين لو نوى القضاء من النهار فلم يصح هل يقع عن النفل في فتاوي النسفي نعم ولو أفطر يلزمه القضاء قيل هذا إذا علم أن صومه عن القضاء لم يصح بنية من النهار أما إذا لم يعلم فلا يلزم بالشروع كما في
____________________
(2/311)
المظنون قوله فإنه يتمسك بإطلاق ما روينا وهو قوله عليه الصلاة والسلام لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل وقد قدمنا الكلام فيه فارجع إليه
ومن فروع النية أن الأفضل النية من الليل في الكل ولو وجب عليه قضاء يومين من رمضان واحد الأولى أن ينوي أول يوم وجب علي قضاؤه من هذا الرمضان وإن لم يعين الأول جاز وكذا لو كانا من رمضانين على المختار حتى لو نوى القضاء لا غير جاز ولو وجبت عليه كفارة فطر فصام أحدا وستين يوما عن القضاء والكفارة ولم يعين يوم القضاء جاز وهل يجوز تقديم الكفارة على القضاء قيل يجوز وهو ظاهر ولو وجب عليه قضاء رمضان سنة كذا فصام شهرا ينوي القضاء عن الشهر الذي عليه غير أنه نوى أنه رمضان سنة كذا لغيره
قال أبو حنيفة رحمه الله يجزيه
ولو صام شهرا ينوى القضاء عن سنة كذا على الخطأ وهو يظن أنه أفطر ذلك قال لا يجزيه ولو نوى بالليل أن يصوم غدا ثم بدا له في الليل وعزم على الفطر لم يصبح صائما فلو أفطر لا شيء عليه إن لم يكن رمضان ولو مضى عليه لا يجزيه لأن تلك النية انتقضت بالرجوع ولو قال نويت صوم غد إن شاء الله تعالى فعن الحلواني يجوز استحسانا لأن المشيئة إنما تبطل اللفظ والنية فعل القلب ولو جمع في نية واحدة بين صومين نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى
وإذا اشتبه على الأسير المسلم في دار الحرب رمضان تحرى وصام فإن ظهر صومه قبله لم يجزه لأن صحة الإسقاط لا تسبق الوجوب وإن ظهر بعده جاز فإن ظهر أنه كان شوالا فعليه قضاء يوم فلو كان ناقصا فقضاء يومين أو ذا الحجة قضى أربعة لمكان أيام النحر والتشريق فإن اتفق كونه ناقصا عن ذلك الرمضان قضى خمسة ثم قال طائفة من المشايخ هذا إذا نوى أن يصوم ما عليه من رمضان أما إذا نوى صوم غد أداء لصيام رمضان فلا يصح إلا أن يوافق رمضان ومنهم من أطلق الجواز وهو حسن
____________________
(2/312)
فصل
قوله وينبغي للناس أي يجب عليهم وهو واجب على الكفاية قوله لقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما
وقوله في اليوم التاسع والعشرين من شعبان فيه تساهل فإن الترائي إنما يجب ليلة الثلاثين لا في اليوم الذي هي عشيته نعم لو رئي في التاسع والعشرين بعد الزوال كان كرؤيته ليلة الثلاثين بالاتفاق وإنما الخلاف في رؤيته قبل الزوال من اليوم الثلاثين فعند أبي يوسف رحمه الله هو من الليلة الماضية فيجب صوم ذلك اليوم وفطره إن كان ذلك في آخر رمضان وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله هو للمستقبلة هكذا حكى الخلاف في الإيضاح وحكاه في المنظومة بين أبي يوسف ومحمد فقط وفي التحفة قال أبو يوسف رحمه الله إذا كان قبل الزوال أو بعده إلى العصر فهو لليلة الماضية وإن كان بعد العصر فهو للمستقبلة بلا خلاف وفيه خلاف بين الصحابة روى عن عمر وابن مسعود وأنس رضي الله عنهم كقولهما وعن عمر رضي الله عنه في رواية أخرى وهو قول علي وعائشة رضي الله عنهما مثل قول أبي يوسف اه
وعن أبي حنيفة إن كان مجراه أمام الشمس والشمس تتلوه فهو للماضية وإن كان خلفها فللمستقبلة وقال الحسن بن زياد إذا غاب بعد الشفق فللماضية وإن كان قبله فللراهنة
وجه قول أبي يوسف أن الظاهر أنه لا يرى قبل الزوال إلا وهو لليلتين فيحكم بوجوب الصوم والفطر على اعتبار ذلك ولهما قوله عليه الصلاة والسلام صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فوجب سبق الرؤية على الصوم والفطر والمفهوم المتبادر منه الرؤية عند عشية آخر كل شهر عند الصحابة والتابعين ومن بعدهم بخلاف ما قبل الزوال من الثلاثين والمختار قولهما وهو كونه للمستقبلة قبل الزوال وبعده إلا أن واحدا لو رآه في نهار الثلاثين من رمضان فظن انقضاء مدة الصوم وأفطر عمدا ينبغي أن لا تجب عليه كفارة وإن رآه بعد الزوال ذكره في الخلاصة
هذا وتكره الإشارة إلى الهلال عند رؤيته لأنه فعل أهل الجاهلية وإذا ثبت في مصر لزم سائر الناس فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب في ظاهر المذهب وقيل يختلف باختلاف المطالع لأن السبب الشهر وانعقاده في حق قوم للرؤية لا يستلزم انعقاده في حق آخرين مع اختلاف المطالع وصار كما لو زالت أو غربت الشمس على قوم دون آخرين وجب على الأولين الظهر
____________________
(2/313)
والمغرب دون أولئك وجه الأول عموم الخطاب في قوله صوموا معلقا بمطلق الرؤية في قوله لرؤيته وبرؤية قوم يصدق اسم الرؤية فيثبت ما تعلق به من عموم الحكم فيعم الوجوب بخلاف الزوال والغروب فإنه لم يثبت تعلق عموم الوجوب بمطلق مسماه في خطاب من الشارع والله أعلم
ثم إنما يلزم متأخري الرؤية إذا ثبت عندهم رؤية أولئك بطريق موجب حتى لو شهد جماعة أن أهل بلد كذا رأوا هلال رمضان قبلكم بيوم فصاموا وهذا اليوم ثلاثون بحسابهم ولم ير هؤلاء الهلال لا يباح لهم فطر غد ولا تترك التراويح هذه الليلة لأن هذه الجماعة لم يشهدوا بالرؤية ولا على شهادة غيرهم وإنما حكوا رؤية غيرهم ولو شهدوا أن قاضي بلد كذا شهد عنده اثنان برؤية الهلال في ليلة كذا وقضى بشهادتهما جاز لهذا القاضي أن يحكم بشهادتهما لأن قضاء القاضي حجة وقد شهدوا به ومختار صاحب التجريد وغيره من المشايخ اعتبار اختلاف المطالع وعورض لهم بحديث كريب أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال يوم الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتموه فقلت رأيناه ليلة الجمعة فقال أنت رأيته فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية رضي الله عنه فقال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه فقلت أو لا تكتفي برؤية معاوية رضي الله عنه وصومه فقال لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شك أحد رواته في تكتفي بالنون أو بالتاء ولا شك أن هذا أولى لأنه نص وذلك محتمل لكون المراد أمر كل أهل مطلع بالصوم لرؤيتهم رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وقد يقال إن الإشارة في قوله هكذا إلى نحو ما جرى بينه وبين رسول أم الفضل وحينئذ لا دليل فيه لأن مثل ما وقع من كلامه لو وقع لنا لم نحكم به لأنه لم يشهد على شهادة غيره ولا على حكم الحاكم
فإن قيل إخباره عن صوم معاوية يتضمنه لأنه الإمام يجاب بأنه لم يأت بلفظة الشهادة ولو سلم فهو واحد لا يثبت بشهادة وجوب القضاء على القاضي والله سبحانه وتعالى أعلم
والأخذ بظاهر الرواية أحوط
قوله ولا يصومون يوم الشك إلا تطوعا الكلام هنا في تصوير يوم
____________________
(2/314)
الشك وبيان حكمه وبيان الاختلاف فيه أما الأول قال هو استواء طرفي الإدراك من النفي والإثبات وموجبه هنا أن يغم الهلال ليلة الثلاثين من شعبان فيشك في اليوم الثلاثين أمن رمضان هو أو من شعبان أو يغم من رجب هلال شعبان فأكملت عدته ولم يكن رئي هلال رمضان فيقع الشك في الثلاثين من شعبان أو الثلاثون أو الحادي والثلاثون ومما ذكر فيه من كلام غير أصحابنا ما إذا شهد من ردت شهادته وكأنهم لم يعتبروا ذلك لأنه إن كان في الصحو فهو محكوم بغلطه عندنا لظهوره فمقابله موهوم لا مشكوك
وإن كان في غيم فهو شك وإن لم يشهد به أحد وهذا لأن الشهر ليس الظاهر فيه أن يكون ثلاثين حتى أنه إذا كان تسعة وعشرين يكون مجيئا على خلاف الظاهر بل يكون تسعة وعشرين كما يكون ثلاثين تستوي هاتان الحالتان بالنسبة إليه كما يعطيه الحديث المعروف في الشهر فاستوى الحال حينئذ في الثلاثين أنه من المنسلخ أو المستهل إذا كان غيم فيكون مشكوكا بخلاف ما إذا لم يكن لأنه لو كان من المستهل لرئي عند الترائي فلما لم ير كان الظاهر أن المنسلخ ثلاثون فيكون هذا اليوم منه غير مشكوك في ذلك وأما الثاني وهو بيان حكم صومه فلا يخلو من أن يقطع النية أو يرددها وعلى الأول لا يخلو من أن ينوي به صوم رمضان أو واجب آخر أو التطوع ابتداء أو لاتفاق يوم كان يصومه أو أيام بأن كان يصوم مثلا ثلاثة أيام من آخر كل شهر وعلى الثاني وهو أن يضجع فيها فأما في أصل النية بأن ينوي من رمضان إن كان منه فإن لم يكن منه فلا يصوم أو في وصفها بأن ينوي صوم رمضان إن كان منه وإن لم يكن منه فعن واجب كذا قضاء أو كفارة أو نذر أو رمضان إن كان منه وإلا فعن النفل والكل مكروه إلا في التردد في أصلها فإنه لا يكون صائما وإلا في النفل بلا إضجاع بل في صورة قطع النية عليه سواء كان لموافقه صوم كان يصومه أو ابتداء واختلفوا في الأفضل إذا لم يوافق صوما كان يصومه قيل الفطر وقيل الصوم ثم فيما يكره تتفاوت الكراهية وتفصيل ذلك ظاهر من الكتاب
وهذا في عين يوم الشك فأما صوم ما قبله ففي التحفة قال والصوم قبل رمضان بيوم أو يومين مكروه أي صوم كان لقوله عليه الصلاة والسلام لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا أن يوافق صوما كان يصومه أحدكم
قال وإنما كره عليه الصلاة والسلام خوفا من أن يظن أنه زيادة على صوم رمضان إذا اعتادوا ذلك وعن هذا قال أبو يوسف يكره وصل رمضان بست من شوال وذكر قبله بأسطر عدم كراهة صوم يوم الشك تطوعا ثم قيده بكونه على وجه لا يعلم العوام ذلك كي لا يعتادوا صومه فيظنه الجهال زيادة في رمضان اه
وظاهر الكافي في خلافه قال إن وافق يعني يوم الشك صوما كان يصومه فالصوم أفضل وكذا إذا صام كله أو نصفه أو ثلاثة من آخره اه
ولم يقيد بكون صوم الثلاثة عادة وهو ظاهر كلام المصنف أيضا حيث حمل حديث التقدم على التقدم بصوم رمضان مع أنه يمكن أن يحمله عليه ويكره صومها لمعنى ما في التحفة فتأمل وما في التحفة أوجه
وأما
____________________
(2/315)
الثالث فقد علمت أن مذهبنا إباحته ومذهب الشافعي كراهته إن لم يوافق صوما له ومذهب أحمد وجوب صومه بنية رمضان في أصح الروايتين عنه ذكره ابن الجوزي في التحقيق
ولنأت الآن على ما ذكره المصنف من الأحاديث وغيرها مما يتعلق به استدلال المذاهب ليظهر مطابقتها لأي المذاهب
الأول حديث لا يصام اليوم الذي يشك فيه أنه من رمضان إلا تطوعا لم يعرف قيل ولا أصل له والله أعلم
وسيأتي ثبوت المقصود وهو إباحة الصوم بوجه آخر والله أعلم
الثاني لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوما فيصومه رواه الستة في كتبهم
الثالث ما أخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بقى النصف من شعبان فلا تصوموا وقال حسن صحيح
لا يعرف إلا من هذا الوجه على هذا اللفظ ومعناه عند بعض أهل العلم أن يفطر الرجل حتى إذا انتصف شعبان أخذ في الصوم
الرابع ما ذكره من قوله قال عليه الصلاة والسلام من صام يوم الشك فقد عصا أبا القاسم وإنما ثبت موقوفا على عمار ذكره البخاري تعليقا عنه فقال وقال صلة عن عمار من صام يوم الشك الخ وأصل الحديث ما رواه أصحاب السنن الأربعة في كتبهم وصححه الترمذي عن صلة بن زفر قال كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه فأتى بشاة مصلية فتنحى بعض القوم فقال عمار من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم ورواه الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة محمد بن عيسى بن عبد الله الآدمي حدثنا أحمد بن عمر الوكيعي حدثنا وكيع عن سفيان عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى الله ورسوله ثم قال تابع الآدمي عليه أحمد بن عاصم الطبراني عن وكيع
الخامس ما تقدم من قوله عليه الصلاة والسلام صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين وهو في الصحيحين
وعند أبي داود والترمذي وحسنه فإن حال بينكم وبينه سحاب فكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالا
السادس ما في الصحيحين مما استدل به الإمام أحمد على وجوب صوم يوم الشك أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل هل صمت من سرر شعبان قال لا
قال فإذا أفطرت فصم يوما مكانه وفي لفظ فصم يوما
وفي الصحيحين أيضا قوله صلى الله عليه وسلم صم يوما وأفطر يوما فإنه صوم داود وسرار الشهر آخره سمى به لاستسرار القمر فيه قاله المذري وغيره
وأعلم أن السرار قد يقال على الثلاث الأخيرة من ليالي الشهر لكن دل قوله صم يوما على أن المراد صم آخرها لا كلها وإلا قال صم ثلاثة أيام مكانها وكذا قوله من سرر الشهر لإفادة التبعيض وعندنا هذا يفيد استحباب صومه لا وجوبه لأنه معارض بنهي التقدم بصيام يوم أو يومين فيحمل على كون المراد التقدم بصوم رمضان جمعا بين الأدلة وهو واجب ما أمكن ويصير حديث السرر
____________________
(2/316)
للاستحباب ولأن المعنى الذي يعقل فيه هو أن يختم شعبان بالعبادة كما يستحب ذلك في كل شهر
فهو بيان أن هذا الأمر وهو ختم الشهر بعبادة الصوم لا يختص بغير شعبان كما قد يتوهم بسبب اتصال الصوم الواجب به بخلاف حمل حديث التقدم على صوم النفل فيجعل هو الممنوع وصوم رمضان هو الواجب بحديث السرر فيكون منع النفل بسبب الإخلال بالواجب المفاد بحديث السرر لأنه يؤدي إلى فتح مفسدة ظن الزيادة في رمضان عند تكرره مع غلبة الجهل وهو مكفر لأنه كذب على الله تعالى فيما شرع كما فعل أهل الكتاب حيث زادوا في مدة صومهم فيثبت بذلك ما ذهبنا إليه من حل صومه مخفيا عن العوام وكل ما وافق حديث التقدم في منعه كحديث إكمال العدة فهو مثله في وجوب حمله على صومه بقصد رمضان لأن صومه تطوعا إكمال لعدة شعبان وحديث عمار بن ياسر وابن عباس رضي الله عنهم بتقدير تسليمه موقوف لا يعارض به حديث السرر والأولى حمله على إرادة صومه عن رمضان وكأنه فهم من الرجل المتنحي قصد ذلك فلا تعارض حينئذ أصلا
وعلى هذا التقرير لا يكره صوم واجب آخر في يوم الشك لأن المنهي عنه صوم رمضان ليس غير إذ لم يثبت غيره وهو ظاهر كلام التحفة حيث قال أما المكروه فأنواع إلى أن قال وصوم يوم الشك بنية رمضان أو بنية مترددة ثم ذكر صورته ثم قال وقد قام الدليل على أن الصوم فيه عن واجب آخر عن التطوع مطلقا لا يكره فثبت أن المكروه ما قلنا يعني صوم رمضان وهو غير بعيد من كلام الشارحين والكافي وغيرهم حيث ذكروا أن المراد من حديث التقدم التقدم بصوم رمضان قالوا ومقتضاه أن لا يكره واجب آخر أصلا وإنما كره لصورة النهي في حديث العصيان وحقيقة هذا الكلام على وجه يصح أن يكون معناه أن يترك صومه عن واجب آخر تورعا وإلا فبعد تأدي الاجتهاد إلى وجوب كون المراد من النهي عن التقدم صوم رمضان كيف يوجب حديث العصيان منع غيره ولا فرق بين حديث التقدم وبينه فما وجب أن يحمل عليه وجب حمل الآخر عليه بعينه إذ لا فرق في المعنى سوى تعدد السند هذا بعد حمله على السماع من النبي صلى الله عليه وسلم والله سبحانه أعلم
قوله لأنه في معنى المظنون ولم يقل مظنون لأن حقيقته تتوقف على تيقن الوجوب ثم الشك في إسقاطه وعدمه وهو منتف لكن هذا في معناه حيث ظن أن عليه صوما قوله وهو مكروه أيضا لما روينا يعني لا يصام اليوم الذي يشك فيه إلا تطوعا وقد عرفت أنه لا أصل له قوله إلا أن هذا دون الأول في الكراهة
____________________
(2/317)
لأنه لم ينو رمضان الذي هو مثار النهي قوله وهو الأصح لأن المنهى عنه وهو التقدم بصوم رمضان لا يقوم بكل صوم بل بصوم رمضان فقط وعن هذا لا يكره أصلا إلا أنه كره لصورة النهي أي النهي المحمول على رمضان فإنه وإن حمل عليه فصورته اللفظية قائمة فالتورع أن لا يحل بساحتها أصلا وهذا يفيد أنها كراهة تنزيه التي مرجعها إلى خلاف الأولى لا غير لا لمعنى في نفس الصوم فلا يوجب نقصانا في ذاته ليمنع من وقوعه
____________________
(2/318)
عن الكامل ولا يكون كالصلاة في الأرض المغصوبة بل دون ذلك على ما حققناه آنفا قوله وقد قيل الصوم أفضل اقتداء بعائشة وعلي رضي الله عنهما فإنهما كانا يصومانه قال في شرح الكنز لا دلالة فيه لأنهما كانا يصومانه بنية رمضان وقال في الغاية ردا على صاحب الهداية إن مذهب علي رضي الله عنه خلاف ذلك ولعل المصنف ينازع فيما ذكره شارح الكنز لأن المنقول من قول عائشة رضي الله عنها في صومها لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان فهذا الكلام يفيد أنها تصومه على أنه يوم من شعبان كي لا تقع في إفطار يوم من رمضان ويبعد أن تقصد به رمضان بعد حكمها بأنه من شعبان وكونه من رمضان احتمال والأولى في التمسك على الأفضلية حديث السرر فإنه يفيد بعد الجمع الذي وجب على ما قدمناه الاستحباب لا الإباحة لكن بشرط أن لا يكون سببا للمفسدة في الاعتقاد فلذا كان المختار أن يصوم المفتي بنفسه أخذا بالاحتياط ويفتي العامة بالتلوم إلى وقت الزوال ثم بالإفطار حسما لمادة اعتقاد الزيادة ويصوم فيه المفتي سرا لئلا يتهم بالعصيان فإنه أفتاهم بالإفطار بعد التلوم لحديث العصيان وهو مشتهر بين العوام فإذا خالف إلى الصوم اتهموه بالمعصية وقصة أبي يوسف صريحة في أن من صامه من الخاصة لا يظهره للعامة وهي ما حكاه أسد بن عمرو قال أتيت باب الرشيد فأقبل أبو يوسف القاضي وعليه عمامة سوداء ومدرعة سوداء وخف أسود وراكب على فرس أسود وما عليه شيء من البياض إلا لحيته البيضاء وهو يوم شك فأفتى الناس بالفطر
____________________
(2/319)
فقلت له أمفطر أنت فقال ادن إلي فدنوت منه فقال في أذنى أنا صائم وقوله المفتي ليس بقيد بل كل من كان من الخاصة وهو من يتمكن من ضبط نفسه عن الاضجاع في النية وملاحظة كونه عن الفرض إن كان غدا من رمضان قوله أجزأه لعدم التردد في أصل النية وعن بعض المشايخ لا يجزيه عن رمضان روى ذلك عن محمد وأصله ما ذهب إليه محمد من أنه إذا كبر ينوي الظهر والعصر على قول أبي يوسف يصير شارعا في الظهر وعلى قول محمد لا يصير شارعا في الصلاة أصلا لكن المسطور في غير موضع لو نوى القضاء والتطوع كان عن القضاء عند أبي يوسف لأنه أقوى وعند محمد عن التطوع لأن النيتين تدافعتا فبقي مطلق النية فيقع عن التطوع ولأبي يوسف ما قلنا ولأن نية التطوع للمتطوع غير محتاج إليها فلغت وتعينت نية القضاء
____________________
(2/320)
فيقع عن القضاء وهذا يقتضي أن يقع عن رمضان عند محمد لأن التدافع لما أوجب بقاء مطلق النية حتى وقع عن التطوع وجب أن يقع عن رمضان لتأديه بمطلق النية ونظيره من الفروع المنقولة أيضا لو نوى قضاء رمضان وكفارة الظهار كان عن القضاء استحسانا وهو قول أبي يوسف
وفي القياس وهو قول محمد يكون تطوعا لتدافع النيتين فصار كأنه صام مطلقا
وجه الاستحسان أن القضاء أقوى لأنه حق الله تعالى وكفارة الظهار فيه حق له فيترجح القضاء ولو نذر صوم يوم بعينه فنوى النذر وكفارة اليمين يقع عن النذر عند محمد وفي هذه كلها ما ذكرناه من عدم بطلان مطلق النية عنده وصحة النذر لأنه نفل في حد ذاته وهذا يقتضي أنه فرق بين الصوم والصلاة فإنه لو بقي أصل النية في نية الظهر والعصر لكان شارعا في صلاة نفل وهو يمنعه على ما عرف في كتاب الصلاة من أنه إذا بطل وصف الفرضية لا يبقى أصل الصلاة عند محمد خلافا لأبي حنيفة وأبي يوسف وهو مطالب بالفرق أو يجعل ما ذكرنا عنه في الصوم رواية توافق قولهما في الصلاة والله سبحانه أعلم قوله وقد رأى ظاهرا فصار شاهدا للشهر وقد قال الله تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ولا فرق بين كون هذا الرجل من عرض الناس أو كان الإمام فلا ينبغي للإمام إذا رآه وحده أن يأمر الناس بالصوم وكذا الفطر بل حكمه حكم غيره قوله وهذه الكفارة تندرىء بالشبهات لأنها التحقت بالعقوبات بدليل عدم وجوبها على المعذور والمخطىء قوله اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه لا كفارة لأن الشبهة قائمة قبل رد شهادته
____________________
(2/321)
روى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون فقام دليلا مانعا من وجوب الكفارة فيما إذا أفطر الرائي وحده لأن المعنى الذي به تستقيم الأخبار أنه الصوم المفروض يوم يصوم الناس والفطر المفروض يوم فطر الناس أعني بقيد العموم قوله اعتبارا للحقيقة التي عنده فالحاصل أن رؤيته موجبة عليه الصوم وعدم صوم الناس المتفرع عن تكذيب الشرع إياه قام فيه شبهة مانعة من وجوب الكفارة عليه إن أفطر لحكم النص من الصوم يوم يصوم الناس وعدم فطر الناس اليوم الحادي والثلاثين من صومه موجب للصوم عليه بذلك النص أيضا والحقيقة التي عنده وهو شهود الشهر وكونه لا يكون أكثر من ثلاثين بالنص شبهة فيه مانعة من وجوب الكفارة عليه إن أفطر وعلى هذا لو قبل الإمام شهادته وهو فاسق وأمر الناس بالصوم فأفطر هو أو واحد من أهل بلده لزمته الكفارة وبه قال عامة المشايخ خلافا للفقيه أبي جعفر لأنه يوم صوم الناس فلو كان عدلا ينبغي أن لا يكون في وجوب الكفارة خلاف لأن وجه النفي كونه ممن لا يجوز القضاء بشهادته وهو منتف هنا قوله لأن قول الفاسق في الديانات غير مقبول أي في التي يتيسر تلقيها من العدول كروايات الأخبار بخلاف الأخبار بطهارة الماء ونجاسته ونحوه حيث يتحرى في خبر الفاسق فيه لأنه قد لا يقدر على تلقيها من جهة العدول إذ قد لا يطلع على الحال في ذلك الأمر الخاص عدل مع أنه لم يقبل خبر الفاسق بمفرده بل مع الاجتهاد في صدقه ولا يعسر في هلال رمضان ذلك لأن المسلمين عامتهم متوجهون إلى طلبه في عدولهم كثرة فلم تمس الحاجة إلى قبول خبر الفاسق مع الاجتهاد فيه قوله وتأويل قول الطحاوي الخ المراد أن بهذا التأويل يرجع قوله إلى إحدى الروايتين في المذهب لا أنه
____________________
(2/322)
يرتفع به الخلاف فإن المراد بالعدل في ظاهر الرواية من ثبتت عدالته وأن الحكم بقوله فرع ثبوتها ولا ثبوت في المستور
وفي رواية الحسن وهي المذكورة تقبل شهادة المستور وبه أخذ الحلواني فصار بهذا التأويل أن الخلاف المتحقق في المذهب هو اشتراط ظهور العدالة أو الاكتفاء بالستر هذا وتقبل فيه شهادة الواحد على شهادة الواحد أما مع تبين الفسق فلا قائل به عندنا وعلى هذا تفرع ما لو شهدوا في تاسع عشري رمضان أنهم رأوا هلال رمضان قبل صومهم بيوم إن كانوا في هذا المصر لا تقبل شهادتهم لأنهم تركوا الحسبة وإن جاءوا من خارج قبلت قوله والحجة عليه ما ذكرنا من أنه أمر ديني قوله وقد صح الخ يعني به ما قدمناه من رواية أصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال فقال أتشهد أن لا إله إلا الله قال نعم قال أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم قال يا بلال أذن في الناس فليصوموا
وهذا الحديث قد يتمسك به لرواية النوادر في قبول المستور لكن الحق أن لا يتمسك به بالنسبة إلى هذا الزمان لأن ذكره الإسلام بحضرته عليه الصلاة والسلام حين سأله عن الشهادتين إن كان هذا أول إسلامه فلا شك في ثبوت عدالته لأن الكافر إذا أسلم أسلم عدلا إلا أن يظهر خلافه منه وإن كان إخبارا عن حاله السابق فكذلك لأن عدالته قد ثبتت بإسلامه فيجب الحكم ببقائها ما لم يظهر الخلاف ولم يكن الفسق غالبا على أهل الإسلام في زمانه عليه الصلاة والسلام فتعارض الغلبة ذلك الأصل فيجب التوقف إلى ظهورها قوله ثم إذا قبل الإمام الخ هكذا الرواية على الإطلاق سواء قبله لغيم أو في صحو وهو ممن يرى ذلك ولا يخفى أن المراد ما إذا لم ير الهلال ليلة الثلاثين ثم خص قول أبي حنيفة
وفي الخلاصة والكافي والفتاوي أضافوا معه أبا يوسف ومنهم من استحسن ذلك في قبوله في صحو وفي قبوله لغيم أخذ بقول محمد فأما لو صاموا بشهادة رجلين فإنهم يفطرون إذا صاموا ثلاثين ولم يروا ذكره في التجريد
وعن القاضي أبي علي
____________________
(2/323)
السغدي لا يفطرون وهكذا في مجموع النوازل وصح الأول في الخلاصة ولو قال قائل إن قبلها في الصحو لا يفطرون أو في غيم أفطروا لتحقق زيادة القوة في الثبوت في الثاني والاشتراك فى عدم الثبوت أصلا فى الأول فصار كالواحد لم يبعد قوله بشهادة الواحد متصل بثبوت الرمضانية لا بثبوث الفطر فهو معنى ما أجاب به محمد ابن سماعة حين قال له يثبت الفطر بشهادة الواحد فقال لا بل يحكم الواحد بثبوت رمضان فإنه لما حكم الحاكم بثبوته وأمر الناس بالصوم فبالضرورة يثبت الفطر بعد ثلاثين يوما قوله كاستحقاق الإرث بناء على النسب الثابت بشهادة القابلة فإنه تقبل شهادتها على النسب فيثبت به مع المؤيد عنده وعندهما مطلقا ثم يثبت استحقاق الإرث بناء على ثبوت النسب وإن كان لا يثبت الإرث ابتداء بشهادتها وحدها
فرع إذا صام أهل مصر رمضان على غير رؤية بل بإكمال شعبان ثمانية وعشرين يوما ثم رأوا هلال شوال إن كانوا أكملوا عدة شعبان عن رؤية هلاله إذا لم يروا هلال رمضان قضوا يوما واحدا حملا على نقصان شعبان غير أنه اتفق أنهم لم يروا ليلة الثلاثين وإن أكملوا عدة شعبان عن غير رؤية قضوا يومين احتياطا لاحتمال نقصان شعبان مع ما قبله فإنهم لما لم يروا هلال شعبان كانوا بالضرورة مكملين رجب قوله يوهم الغلط الأولى أن يقال ظاهر في الغلط فإن مجرد الوهم متحقق في البينات الموجبة للحكم ولا يمنع ذلك قبولها بل التفرد من بين الجم الغفير بالرؤية مع توجههم طالبين لما توجه هو إليه مع فرض عدم المانع وسلامة الأبصار وإن تفاوتت الأبصار في الحدة ظاهر في غلطه كتفرد نافل زيادة من بين سائر أهل مجلس مشاركين له في السماع فإنها ترد وإن كان ثقة مع أن التفاوت في حدة السمع أيضا واقع كما هو في الإبصار مع أنه لا نسبة لمشاركيه في السماع بمشاركيه في الترائي كثرة والزيادة المقبولة ما علم فيه تعدد المجالس أو جهل فيه الحال من الاتحاد والتعدد وقوله لأن التفرد لا يريد تفرد الواحد وإلا لأفاد قبول الاثنين وهو منتف بل المراد تفرد من لم يقع العلم بخبرهم من بين أضعافهم من الخلائق ثم عن أبي يوسف أن الذين يوجب خبرهم الحكم في خصوص هذه الحالة خمسون اعتبارا بالقسامة
وعن خلف خمسمائة ببلخ قليل فبخارى لا تكون أدنى من بلخ فلذا قال البقالي الألف ببخارى قليل والحق ما روى عن محمد وأبي يوسف أيضا أن العبرة لتواتر الخبر ومجيئه من كل جانب وهلال الفطر
____________________
(2/324)
في الصحو كرمضان وفي غيره بخلاف فلا يثبت إلا باثنين ورجل وامرأتين قوله ولا فرق بين أهل المصر ومن ورد من خارج المصر يعني في ظاهر الرواية وما عن الطحاوي من الفرق خلاف ظاهر الرواية وكذا ما يشير إليه كتاب الاستحسان حيث قال فإن كان الذي يشهد بذلك في المصر ولا علة في السماء لم تقبل شهادته لأن الذي يقع في القلب من ذلك أنه باطل فإن القيود المذكورة تفيد بمفهوماتها المخالفة الجواز عند عدمها
قوله لم يفطر قيل معنى قول أبي حنيفة لا يفطر لا يأكل ولا يشرب ولكن لا ينوى الصوم والتقرب إلى الله تعالى لأنه يوم عيد في حقه للحقيقة التي عنده ولا يخفى أن التعليل بالاحتياط ينافي تأويل قوله بذلك
وقيل إن أيقن أفطر ويأكل سرا وعلى القول بأنه لا يفطر لو أفطر يقضي ثم منهم من قال لا كفارة عليه بلا خلاف ومنهم من حكى في لزومها الخلاف بعد رد شهادته وقبله والصحيح عدم لزومها فيهما ولو شهد هذا الرجل عند صديق له فأكل لا كفارة عليه وإن كان صدقه قوله فأشبه سائر حقوقه وعن هذا شرط العدد والحرية في الرائي وأما لفظة الشهادة ففي فتاوي قاضيخان ينبغي أن تشترط كما تشترط الحرية والعدد وأما الدعوى فينبغي أن لا تشترط كما في عتق الأمة وطلاق الحرة عند الكل وعتق العبد في قول أبي يوسف ومحمد وأما على قياس قول أبي حنيفة فينبغي أن تشترط الدعوى في هلال الفطر وهلال رمضان اه وعلى هذا فما ذكروا من أن من رأى هلال رمضان في الرستاق وليس هناك وال ولا قاض فإن كان ثقة يصوم الناس بقوله وفي الفطر إن أخبر عدلان برؤية الهلال لا بأس بأن يفطروا يكون الثبوت فيه بلا دعوى وحكم للضرورة أرأيت لو لم ينصب في الدنيا إمام ولا قاض حتى عصوا بذلك أما كان يصام بالرؤية فهذا الحكم في محال وجوده قوله لأنه تعلق به نفع العبادة تعليل لظاهر الرواية وفي التحفة رجح رواية النوادر فقال والصحيح أنه يقبل فيه
____________________
(2/325)
شهادة الواحد لأن هذا من باب الخبر فإنه يلزم المخبر أولا ثم يتعدى منه إلى غيره اه
وأيضا فإنه يتعلق به أمر ديني وهو وجوب الأضحية وهو حق الله تعالى فصار كهلال رمضان في تعلق حق الله به فيقبل في الغيم الواحد العدل ولا يقبل في الصحو إلا التواتر قوله والصوم هو الإمساك الخ نقض طرده بإمساك الحائض والنفساء لذلك فإنه يصدق عليه ولا يصدق المحدود وبمن أمسك من طلوع الشمس كذلك بعد ما أكل بعد الفجر بناء على أن النهار اسم لما من طلوع الشمس إلى الغروب وعكسه يأكل الناسي فإنه يصدق معه المحدود وهو الصوم الشرعي ولا يصدق الحد وهذا فساد العكس وجعل في النهاية إمساك الحائض والنفساء مفسدا للعكس وجعل أكل الناسي مفسدا للطرد والتحقيق ما أسمعتك
وأجيب بأن الإمساك موجود مع أكل الناسي فإن الشرع اعتبر أكله عدما والمراد من النهار اليوم في لسان الفقهاء وبالحيض والنفاس خرجت عن الأهلية للصوم شرعا ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من العناية والحد الصحيح إمساك عن المفطرات منوى لله تعالى بإذنه في وقته وما قدمناه في أول الباب معناه وهو تفصيل هذا
____________________
(2/326)
& باب ما يوجب القضاء والكفارة
قوله ناسيا لم يفطر إلا فيما إذا أكل ناسيا فقيل له أنت صائم فلم يتذكر واستمر ثم تذكر فإنه يفطر عند أبي حنيفة وأبي يوسف لأنه أخبر بأن الأكل حرام عليه وخبر الواحد حجة في الديانات فكان يجب أن يلتفت إلى تأمل الحال وقال زفر والحسن لا يفطر لأنه ناس قوله فصار كالكلام ناسيا في الصلاة وكترك النية فيه وكالجماع في الإحرام والاعتكاف ناسيا فإن ذلك كله يفسد مع النسيان قوله وجه الاستحسان قوله عليه الصلاة والسلام الخ في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من نسى وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه وحملة على أن المراد بالصوم اللغوي فيكون أمرا بالإمساك بقية يومه كالحائض إذا طهرت في أثناء اليوم ونحوه مدفوع أولا بأن الاتفاق على أن الحمل على المفهوم الشرعي حيث أمكن في لفظ الشارع واجب
فإن قيل يجب ذلك للدليل على البطلان وهو القياس الذي ذكرناه
قلنا حقيقة النص مقدم على القياس لو تم فكيف وهو لا يتم فإنه لا يلزم من البطلان مع النسيان فيما له هيئة مذكرة البطلان معه فيما لا مذكر فيه وهيئة الإحرام والاعتكاف والصلاة مذكرة فإنها تخالف الهيئة العادية ولا كذلك الصوم والنسيان غالب للإنسان فلا يلزم من عدم عذره بالنسيان مع تلك عدم عذره به مع
____________________
(2/327)
الصوم وثانيا بأن نفس اللفظ يدفعه وهو قوله فليتم صومه إنما كان الشرعي فإتمام ذلك إنما يكون بالشرعي
وثالثا بأن في صحيح ابن حبان وسنن الدارقطني أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني كنت صائما فأكلت وشربت ناسيا فقال عليه الصلاة والسلام أتم صومك فإن الله أطعمك وسقاك وفي لفط ولا قضاء عليك ورواه البزار بلفظ الجماعة وزاد فيه ولا تفطر
وفي صحيح ابن حبان أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال من أفطر في رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة ورواه الحاكم وصححه
قال البيهقي في المعرفة تفرد به الأنصاري عن محمد بن عمرو وكلهم ثقات قوله للاستواء في الركنية الركن واحد وهو الكف عن كل منها فتساوت كلها في أنها متعلق الركن لا يفضل واحد منها على أخويه بشيء في ذلك فإذا ثبت في فوات الكف عن بعضها ناسيا عذره بالنسيان وإبقاء صومه كان ثابتا أيضا في فوات الكف ناسيا عن أخويه يحكم بذلك كل من علم ذلك الاستواء ثم علم ذلك الثبوت وإن لم يكن من أهل الاجتهاد هذا ومن رأى صائما يأكل ناسيا إن رأى قوة تمكنه أن يتم صومه بلا ضعف المختار أنه يكره أن لا يخبره وإن كان بحال يضعف بالصوم ولو أكل يتقوى على سائر الطاعات يسعه أن لا يخبره ولو بدأ بالجماع ناسيا فتذكر إن نزع من ساعته لم يفطر وإن دام على ذلك حتى أنزل فعليه القضاء ثم قيل لا كفارة عليه وقيل هذا إذا لم يحرك نفسه بعد التذكر حتى أنزل فإن حرك نفسه بعده فعليه الكفارة كما لو نزع ثم أدخل ولو جامع عامدا قبل الفجر وطلع وجب النزع في الحال فإن حرك نفسه بعده فهو على هذا نظيره ما لو أولج ثم قال لها إن جامعتك فأنت طالق أو حرة إن نزع أو لم ينزع ولم يتحرك حتى أنزل لا تطلق ولا تعتق وإن حرك نفسه طلقت وعتقت ويصير مراجعا بالحركة الثانية ويجب للأمة العقر ولا حد عليهما قوله فإنه يعتبره بالناسي بجامع أنه غير قاصد للجنابة فيعذر بل هو أولى لأنه غير قاصد للشرب ولا للجنابة والناسي قاصد للشرب غير قاصد للجنابة ولقوله عليه الصلاة والسلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان الحديث وقد تقدم في الصلاة تخريجه والجواب عنه
وأما الجواب عن إلحاقه فما ذكره المصنف بقوله ولنا أنه أي عذر الخطأ والإكراه لا يغلب وجوده أما الإكراه فظاهر وكذا الخطأ إذ مع التذكر وعدم قصد الجناية الاحتراز عن الإفساد قائم قدر الوسع وقلما يحصل الفساد مع ذلك بخلاف حالة عدم التذكر مع قيام مطالبة الطبع بالمفطرات فإنه يكثر
____________________
(2/328)
معه الإفساد ولا يلزم من كونه عذر فيما يكثر وجوده مثله فيما لا يكثر ولأن الوصول إلى الجوف مع التذكر في الخطأ ليس إلا لتقصيره في الاحتراز فيناسب الفساد إذ فيه نوع إضافة إليه بخلاف النسيان فإنه برمته مندفع إليه من قبل من الإمساك حقه تعالى وتقدس فكان صاحب الحق هو المفوت لما يستحقه على الخلوص ولذا أضافه عليه الصلاة والسلام إليه تعالى حيث قال تم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك وحقيقة هذا التعليل يقطع نسبته إلى المكلف فلا يكون ملزما عليه شيئا إذ لم يقع من جهته تفويت فظهر ظهورا ساطعا عدم لزوم اعتبار الصوم قائما مع الخطأ والإكراه لاعتباره قائما مع النسيان وصارا مع الناسي كالمقيد مع المريض في قضاء الصلاة التي صلياها قاعدين حيث يجب القضاء على المقيد لا المريض وحكم النائم إذا صب في حلقه ما يفطر حكم المكره فيفطر
واعلم أن أبا حنيفة كان يقول أولا في المكره على الجماع عليه القضاء والكفارة لأنه لا يكون إلا بانتشار الآلة وذلك أمارة الاختيار ثم رجع وقال لا كفارة عليه وهو قولهما لأن فساد الصوم يتحقق بالإيلاج وهو مكره فيه مع أنه ليس كل من انتشر آلته بجامع قوله لقوله عليه الصلاة والسلام ثلاث لا يفطرن الصيام رواه الترمذي ثلاث لا يفطرن الصائم الحجامة والقيء والاحتلام وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه وهو ضعيف وذكره البزار من حديث أخي عبد الرحمن وهو أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه مسندا وضعفه أيضا أحمد كابن معين لسوء حفظه وإن كان رجلا صالحا وقال النسائي ليس بالقوي وأخرجه الدارقطني بطريق آخر فيه هشام بن سعد عن زيد بن أسلم وهشام هذا ضعفه النسائي وأحمد وابن معين ولينه ابن عدي وقال يكتب حديثه وقال عبد الحق يكتب حديثه ولا يحتج به لكن قد احتج به مسلم واستشهد به البخاري
ورواه البزار أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث لا يفطرن الصائم القيء والحجامة والاحتلام قال وهذا من أحسنها إسنادا وأصحها اه
وفيه سليمان بن حبان قال ابن معين صدوق وليس بحجة وأخرجه الطبراني من حديث ثوبان وقال لا يروى عن ثوبان إلا بهذا الإسناد تفرد به ابن وهب
فقد ظهر أن هذا الحديث يجب أن يرتقي إلى درجة الحسن لتعدد طرقه وضعف رواته إنما هو من قبل الحفظ لا العدالة فالتضافر دليل الإجادة في خصوصه والمراد من القي ما ذرع الصائم على ما سيظهر قوله وكذا إذا نظر إلى امرأة بشهوة إلى وجهها أو فرجها كرر النظر أولا لا يفطر إذا أنزل لما بينا أنه لم توجد صورة الجماع ولا معناه وهو الإنزال عن مباشرة وهو حجة على مالك في قوله
____________________
(2/329)
إذا كرره فأنزل أفطر
وما روى عنه عليه الصلاة والسلام لا تتبع النظر النظرة فإنما لك الأولى والمراد به الحل والحرمة وليس يلزم من الحظر الإفطار بل إنما بتعلق بفوات الركن وهو بالجماع لا بكل إنزال لعدم الفطر فيما إذا أنزل بالتفكر في جمال امرأة فإنه لم يفطر وغاية ما يجب أن يعتبر معنى الجماع كالجماع وهو أيضا منتف لأنه الإنزال عن مباشرة لا مطلقا لما ذكرنا قوله على ما قالوا عادته في مثله إفادة الضعف مع الخلاف
وعامة المشايخ على الإفطار
وقال المصنف في التجنيس أنه المختار كأنه اعتبرت المباشرة المأخوذة في معنى الجماع أعم من كونها مباشرة الغير أولا بأن يراد مباشرة هي سبب الإنزال سواء كان ما بوشر مما يشتهي عادة أو لا ولهذا أفطر بالإنزال في فرج البهيمة والميتة وليسا مما يشتهي عادة هذا ولا يحل الاستنماء بالكف ذكر المشايخ فيه أنه عليه الصلاة والسلام قال ناكح اليد ملعون فإن غلبته الشهوة ففعل إرادة تسكينها به فالرجاء أن لا يعاقب قوله لهذا أي عدم المنافي ولما روينا من حديث ثلاث لا يفطرن الصائم ومذهب أحمد أن الحجامة تفطر لقوله عليه الصلاة والسلام أفطر الحاجم والمحجوم رواه الترمذي وهو معارض بما رويناه وبما روى أنه عليه الصلاة والسلام احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم رواه البخاري وغيره
وقيل لأنس أكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا إلا من أجل الضعف رواه البخاري
وقال أنس أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أفطر هذا ثم رخص عليه الصلاة والسلام في الحجامة بعد للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم رواه الدارقطني وقال في رواته كلهم ثقات ولا أعلم له علة قوله ولو اكتحل لم يفطر سواء وجد طعمه في حلقه أولا لأن الموجود في حلقه أثره داخلا من المسام والمفطر الداخل من المنافذ كالمدخل والمخرج لا من المسام الذي هو خلل البدن للاتفاق فيمن شرع في الماء يجد برده في بطنه ولا يفطر وإنما كره أبو حنيفة ذلك أعنى الدخول في الماء والتلفف بالثوب المبلول لما فيه من إظهار الضجر في إقامة العبادة لا لأنه قريب من الإفطار ولو بزق فوجد لون الدم فيه الأصح أنه لا يفطر
وقيل يفطر لتحقق وصول دم إلى بطن من بطونه وهو
____________________
(2/330)
قول مالك وسنذكر الخلاف فيها قوله بخلاف الرجعة الخ أي لو قيل المطلقة الرجعية صار مراجعا وبالقبلة أيضا مع شهوة ينتشر لها الذكر تثبت حرمة أمهات المقبلة وبناتها لأن الحكم وهو ثبوت الرجعة وحرمة المصاهرة أدبر على السبب لأنه يؤخذ فيهما بالاحتياط فتعدي من الحقيقة إلى الشبهة فأقيم السبب فيه مقام المسبب أعنى الوطء قوله أما الكفارة فتفتقر إلى كمال الجنابة لأنها تندرئ بالشبهات فكانت عقوبة وهو أعلى عقوبة للإفطار في الدنيا فيتوقف لزومها على كمال الجنابة ولو قال بالواو كانا تعليلين وهو أحسن ويكون نفس قوله تفتقر إلى كمال الجنابة تعليلا أي لا تجب لأنها تفتقر إلى كمال الجنابة إذ كانت أعلى العقوبات في هذا الباب ولأنها تندرئ بالشبهات وفي كون ذلك مفطرا شبهة حيث كان معنى الجماع لا صورته فلا تجب قوله لأن عينه ذكر على معنى التقبيل وفي الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام كان يقبل ويباشر وهو صائم وعن أم سلمة رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام كان يقبلها وهو صائم متفق عليه والمس في جميع ما ذكرنا كالتقبيل
____________________
(2/331)
قوله مثل التقبيل وروى أبو داود بإسناد جيد عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام سأله رجل عن المباشرة للصائم فرخص له وأتاه آخر فنهاه فإذا الذي رخص له شيخ والذي نهاه شاب وهذا يفيد التفصيل الذي اعتبرناه والمباشرة كالتقبيل في ظاهر الرواية خلافا لمحمد في المباشرة الفاحشة وهي تجردهما متلازقي البطنين وهذا أخص من مطلق المباشرة وهو المفاد في الحديث فجعل الحديث دليلا على محمد محل نظر إذ لا عموم للفعل المثبت في أقسامه بل ولا في الزمان وفهمه فيه من إدخال الراوي لفظ كان على المضارع وقول محمد وهو راوية الحسن عن أبي حنيفة قوله لأنها قلما تخلو عن الفتنة قلنا الكلام فيما إذا كان بحال يأمن فإن خاف قلنا بالكراهة والأوجه الكراهة لأنها إذا كانت سببا غالبا تنزل سببا فأقل الأمور لزوم الكراهة من غير ملاحظة تحقق الخوف بالفعل كما هو قواعد الشرع قوله فأشبه الغبار والدخان إذا دخلا في الحلق فإنه لا يستطاع الاحتراز عن دخولهما لدخولهما من الأنف إذا طبق الفم وصار أيضا كبلل يبقى في فيه بعد المضمضة ونظيره في الخزانة إذا دخل دموعه أو عرقه حلقه وهو قليل كقطرة أو قطرتين لا يفطر وإن كان أكثر بحيث يجد ملوحته في الحلق فسد وفيه نظر لأن القطرة يجد ملوحتها فالأولى عندي الاعتبار بوجدان الملوحة لصحيح الحسن لأنه لا ضرورة في أكثر من ذلك القدر وما في فتاوي قاضيخان لو دخل دمعه أو عرق جبينه أو دم رعافه حلقه فسد صومه يوافق ما ذكرته فإنه علق بوصوله إلى الحلق ومجرد وجدان الملوحة دليل ذلك قوله إذا أواه خيمة أو سقف يقتضي أنه لو لم يقدر على ذلك بأن كان سائرا مسافرا لم يفسد فالأولى تعليل الإمكان بتيسر طبق الفم وفتحه أحيانا مع الاحتراز عن الدخول ولو دخل فمه المطر فابتلعه لزمته الكفارة ولو خرج دم من أسنانه فدخل حلقه إن ساوي الريق فسد إلا لا ولو استشم المخاط من أنفه حتى أدخله إلى فمه وابتلعه عمدا لا يفطر ولو خرج ريقه من فيه فأدخله وابتلعه إن كان لم ينقطع من فيه بل متصل بما في فيه كالخبط فاستشر به
____________________
(2/332)
لم يفطر وإن كان انقطع فأخذه وأعاده أفطر ولا كفارة عليه كما لو ابتلع ريق غيره ولو اجتمع في فيه ثم ابتلعه بكره ولا يفطر ولو اختلط بالريق لون صبغ إبريسم يعمله مخرجا للخيط من فيه فابتلع هذا الريق ذاكرا لصومه أفطر قوله له حكم ظاهر فالإدخال منه الادخال من خارجه ولو شد الطعام بخيط فأرسله في حلقه وطرفه بيده لا يفسد صومه إلا إذا انفصل منه شيء قوله ولنا أن القليل تابع لأسنانه بمنزلة ريقه فلا يفسد كما لا يفسد بالريق وإنما اعتبر تابعا لأنه لا يمكن الامتناع عن بقاء أثر ما من المآكل حوالي الأسنان وإن قل ثم يجري مع الريق التابع من محله إلى الحلق فامتنع تعليق الإفطار بعينه فيعلق بالكثير وهو ما يفسد الصلاة لأنه اعتبر كثيرا في فصل الصلاة ومن المشايخ من جعل الفاصل كون ذلك مما يحتاج في ابتلاعه إلى الاستعانة بالريق أولا الأول قليل والثاني كثير وهو حسن لأن المانع من الحكم بالإفطار بعد تحقق الوصول كونه لا يسهل الاحتراز عنه وذلك فيما يجري بنفسه مع الريق إلى الجوف لا فيما يتعمد في إدخاله لأنه غير مضطر فيه قوله ثم أكله ينبغي أن يفسد المتبادر من لفظة أكله المضغ والابتلاع أو الأعم من ذلك ومن مجرد الابتلاع فيفيد حينئذ خلاف ما في شرح الكنز أنه إذا مضغ ما أدخله وهو دون الحمصة لا يفطره لكن تشبيهه بما روى عن محمد رحمه الله من عدم الفساد في ابتلاع سمسمة بين أسنانه والفساد إذا أكلها من خارج وعدمه إذا مضغها يوجب أن المراد بالأكل الابتلاع فقط وإلا لم يصح إعطاء النظير وفي الكافي في السمسمة قال إن مضغها لا يفسد إلا أن يجد طعمه في حلقه وهذا حسن جدا فليكن الأصل في كل قليل مضغه وإذا ابتلغ السمسمة حتى فسد هل تجب الكفارة قيل لا والمختار وجوبها لأنها من جنس ما يتغذى به وهو رواية عن محمد قوله ولأبي يوسف أنه يعافه الطبع فصار نظير التراب وزفر يقول بل نظير اللحم المنتن وفيه تجب الكفارة والتحقيق أن
____________________
(2/333)
المفتي في الوقائع لا بد له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس وقد عرف أن الكفارة تفتقر إلى كمال الجناية فينظر في صاحب الواقعة إن كان ممن يعاف طبعه ذلك أخذ بقول أبي يوسف وإن كان ممن لا أثر لذلك عنده أخذ بقول زفر رحمه الله
ولو ابتلع حبة عنب ليس معها تفروقها فعليه الكفارة وإن كان معها اختلفوا فيه وإن مضغها وهو معها فعليه الكفارة قوله لقوله عليه الصلاة والسلام أخرج أصحاب السنن الأربعة واللفظ للترمذي عنه عليه الصلاة والسلام من ذرعه القئ وهو صائم فليس عليه قضاء ومن استقاء عمدا فليقض
وقال حديث حسن غريب لا فعرفه تعرفه من حديث هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث عيسى بن يونس
وقال البخاري لا أراه محفوظا لهذا يعني للغرابة ولا يقدح في ذلك بعد تصديقه الراوي فإنه هو الشاذ المقبول وقد صححه الحاكم وكل على شرط الشيخين وابن حبان ورواه الدارقطني وقال رواته كلهم ثقات ثم قد تابع عيسى بن يونس عن هشام بن حسان حفص بن غياث رواه ابن ماجه ورواه الحاكم وسكت عليه ورواه مالك في الموطأ موقوفا على ابن عمر ورواه النسائي من حديث الأوزاعي موقوفا على أبي هريرة وقفه عبد الرزاق على أبي هريرة وعلى أيضا
وما روى في سنن ابن ماجه أنه عليه الصلاة والسلام خرج في يوم كان يصومه فدعا بإناء فشرب فقلنا يا رسول الله إن هذا يوم كنت تصومه قال أجل ولكني قئت محمول على ما قبل الشروع أو عروض الضعف ثم الجمع بين آثار الفطر مما دخل وبين آثار القئ أن في القئ يتحقق رجوع شيء مما يخرج وإن قل فلاعتباره يفطر وفيما إذا ذرعه إن تحقق ذلك أيضا لكن لا صنع له فيه ولا لغيره من العباد فكان كالنسيان لا لإكراه والخطأ قوله فلو عاد أي القئ الذي ذرعه
وجملته أنه إما أن ذرعه القئ أو استقاء وكل منهما إما ملء الفم أو دونه والكل إما أن خرج أو عاد أو أعاده فإن ذرعه وخرج لا يفطر قل أو كثر لإطلاق ما روينا وإن عاد بنفسه وهو ذاكر للصوم إن كان ملء الفم فسد صومه عند أبي يوسف لأنه خارج شرعا حتى انتقضت به الطهارة وقد دخل وعند محمد لا يفسد وهو الصحيح لأنه لم توجد صورة الإفطار وهو الابتلاع ولا معناه إذ لا يتغذى به فأصل أبي يوسف في العود والإعادة اعتبار الخروج وهو بملء الفم وأصل محمد فيه الإعادة قل أو كثر وإن أعاد فسد بالاتفاق عند أبي يوسف للدخول بعد تحقق الخروج شرعا وعند محمد للصنع وإن كان أقل من ملء الفم فعاد لم يفسد بالاتفاق وإن أعاده لم يفسد عند أبي يوسف رحمه الله
وهو المختار لعدم الخروج شرعا ويفسد عند محمد لوجود الصنع وإن استقاء عمدا
____________________
(2/334)
وخرج إن كان ملء الفم فسد صومه بالإجماع لما روينا ولا يتأتي فيه تفريع العود والإعادة لأنه أفطر بمجرد القئ قبلهما وإن كان أقل من ملء فيه أفطر عند محمد لإطلاق ما رويناه ولا يتأتى فيه التفريع أيضا عنده ولا يفطر عند أبي يوسف وهو المختار عند بعضهم لكن ظاهر الرواية كقول محمد ذكره في الكافي ثم إن عاد بنفسه لم يفطر عند أبي يوسف فلا يتحقق الدخول لعدم الخروج وإن أعاده فعنه روايتان في رواية لا يفطر لعدم الخروج وفي رواية يفطر لكثرة الصنع وزفر مع محمد في أن قليله يفسد الصوم جريا على أصله في انتقاض الطهارة بقليله قوله وعند محمد لا يفسد ذكرنا أنه الصحيح قوله عادة قيد به لأنه مما يتغذى به فإنه بحسب الأصل مطعوم فإذا استقر في المعدة يحصل به التغذى بخلاف الحصى ونحوه لكنه لم يعتد فيه ذلك لعدم الحل ونفور الطبع قوله فكذلك عند أبي يوسف تقدم أنه المصحح قوله فإن استقاء عمدا قيد به ليخرج ما إذا استقى ناسيا لصومه فإنه لا يفسد به كغيره من المفطرات قوله وعند أبي يوسف لا يفسد صححه في شرح الكنز وعلمت أنه خلاف ظاهر الرواية أعنى من حيث الإطلاق فيها وهذا كله إذا كان القئ طعاما أو ماء أو مرة فإن كان بلغما فغير مفسد للصوم عند أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف إذا ملأ الفم بناء على قوله إنه ناقض ويظهر أن قوله هنا أحسن من قولهما بخلاف نقض الطهارة وذلك لأن الإفطار إنما نيط بما يدخل أو بالقيء عمدا إما نظرا إلى أنه يستلزم عادة دخول شيء أولا باعتباره بل ابتداء شرع تفطيره بشيء آخر من غير أن يلحظ فيه تحقيق كونه خارجا نجسا أو طاهرا فلا فرق بين البلغم وغيره حينئذ بخلاف نقض الطهارة ولو استقاء مرارا في مجلس ملء فيه لزمه القضاء وإن كان في مجالس أو غدوة ثم نصف النهار ثم عشية لا يلزمه كذا
____________________
(2/335)
نقل من خزانة الأكمل قوله لعدم المعنى أي معنى الفطر وهو إيصال ما فيه نفع البدن إلى الجوف سواء كان مما يتغذى به أو يتداوى به فقصرت الجنابة فانتفت الكفارة وكل ما لا يتغذى به ولا يتداوى به عادة كالحجر والتراب كذلك لا تجب فيه الكفارة ولا تجب في الدقيق والأرز والعجين إلا عند محمد رحمه الله ولا في الملح إلا إذا عتاد أكله وحده
وقيل تجب في قليله دون كثيره ولا في النواة والقطن والكاغد والسفرجل إذا لم يدرك ولا هو مطبوخ ولا في ابتلاع الجوزة الرطبة وتجب لو مضغها وبلع اليابسة ومضغها على هذا وكذا يابس اللوز والبندق والفستق
وقيل هذا إن وصل القشر أولا إلى حلقه أما إذا وصل اللب أولا كفر وفي ابتلاع اللوزة الرطبة الكفارة لأنها تؤكل كما فهي بخلاف الجوزة فلذا افترقا وابتلاع التفاحة كاللوزة والرمانة والبيضة كالجوزة
وفي ابتلاع البطيخة الصغيرة والخوخة الصغيرة والهليلجة
روى هشام عن محمد وجوب الكفارة وتجب بأكل اللحم النئ وإن كان ميتة منتنا إلا إن دود فلا تجب
واختلف في الشحم واختار أوب الليث الوجوب فإن كان قديدا وجبت بلا خلاف وتجب بأكل الحنطة وقضمها لا إن مضغ قمحة للتلاشي وتجب بالطين الأرمني وبغيره على من يعتاد أكله كالمسمى بالطفل لا على من لم يعتده ولا بأكل الدم إلا على رواية ولو مضغ لقمة ناسيا فتذكر فابتلعها قيل تجب وقيل لا وقيل إن ابتلعها قبل أن يخرجها إلا إن أخرجها ثم ابتلعها وقيل بالعكس وصححه أبو الليث لأنها بعد إخراجها تعاف وقبله تلذ وقيل إن كانت سخنة بعد فعليه لا إن تركها بعد الإخراج حتى بردت لأنها حينئذ تعاف لا قبله فالحاصل أن المنظور إليه عند الكل في السقوط العيافة غير أن كلا وقع عنده أن الاستكراه إنما يثبت عند كذا لا كذا قوله فعليه القضاء استدراكا للمصلحة الفائتة والكفارة فلو كفر بالصوم فصام أحدا وستين يوما عن القضاء والكفارة من غير تعيين يوم القضاء منها قالوا يجزيه وقد قدمناه
وفي تصويره عندي ضرب إشكال لأنه يفتقر إلى النية لكل يوم فإذا كان الواقع نيته في كل يوم القضاء والكفارة فإنما يصح بالترجيح على ما عرف فيما إذا نوى القضاء وكفارة الظهار أنه يقع عن القضاء على قول أبي يوسف وأبي حنيفة فإنهما يرجحان في مثله ورجحا في هذه القضاء بأنه حق الله تعالى بخلاف كفارة الظهار فإنها يتوصل بها إلى حق نفسه فيرجح القضاء هنا على كفارة الفطر بقوة ثبوته ولزومه بخلاف كفارة الفطر وإذا كان كذلك فيقع اليوم الأول عن القضاء وما بعده عن الكفارة لأنه لم يبق عليه قضاء فيلغوا جمع القضاء مع الكفارة ولو كان الواقع نية ذلك في اليوم الأول فقط فهكذا أو في
____________________
(2/336)
الأخير فقط تعين الأخير للقضاء للغو جمع الكفارة إذ لم يبق عليه كفارة ولو وقع ذلك في أثناء المدة تعين اليوم الذي نوى كذلك للقضاء وبطل ما قبله وإن كان تسعة وخمسين يوما لانقطاع التتابع في الكفارة فيجب عليه الاستئناف ولو جامع مرارا في أيام من رمضان واحد ولم يكفر كان عليه كفارة واحدة فلو جامع فكفر ثم جامع عليه كفارة أخرى في ظاهر الرواية
وروى زفر عن أبي حنيفة إنما عليه كفارة واحدة ولو جامع في رمضانين فعليه كفارتان وإن لم يكفر للأول في ظاهر الرواية وعن محمد كفارة واحدة وكذا رواه الطحاوي عن أبي حنيفة رحمه الله وعند الشافعي تتكرر في الكل لتكرر السبب ولنا إطلاق جوابه عليه الصلاة والسلام للأعرابي بإعتاق رقبة وإن كان قوله وقعت على امرأتي يحتمل الوحدة والكثرة ولم يستفسره فدل أن الحكم لا يختلف ولأن معنى الزجر معتبر في هذه الكفارة بدليل اختصاصها بالعمد وعدم الشبهة بخلاف سائر الكفارات والزجر يحصل بكفارة واحدة بخلاف ما إذا جامع فكفر ثم جامع للعلم بأن الزجر لم يحصل بالأول ولو أفطر في يوم فأعتق ثم أفطر في آخر فأعتق ثم في آخر فأعتق ثم استحقت الرقبة الأولى أو الثانية لا شيء عليه لأن المتأخر يجزيه ولو استحقت الرقبة الثالثة فعليه إعتاق واحدة لأن ما تقدم لا يجزى عما تأخر ولو استحقت الثانية أيضا فعليه واحدة للثاني والثالث ولو استحقت الأولى أيضا فكذلك وهذا لأن الإعتاق بالاستحقاق يلتحق بالعدم وجعل كأنه لم يكن وقد أفطر في ثلاثة أيام ولم يكفر بشيء فعليه كفارة واحدة ولو استحقت الأولى والثالثة دون الثانية أعتق واحدة للثالثة لأن الثانية كفت عن الأولى والأصل أن الثاني يجزي عما قبله لا عما بعده ولو أفطر وهو مقيم بعد النية فوجبت عليه الكفارة ثم في يومه سافر لم تسقط عنه ولو مرض فيه سقطت لأن المرض معنى يوجب تغير الطبيعة إلى الفساد يحدث أولا في الباطن ثم يظهر أثره فلما مرض في ذلك اليوم ظهر أنه كان المرخص موجودا وقت الفطر فمنع انعقاده موجبا للكفارة
أو نقول وجود أصله شبهة وهذه الكفارة لا تجب معها أما السفر فبنفس الخروج المخصوص فيقتصر على الحال فلم يظهر المانع حال الفطر ولو أفطرت ثم حاضت أو نفست لا كفارة لأن الحيض دم يجتمع في الرحم شيئا فشيئا حتى يتهيأ للبروز فلما برز من يومه ظهر تهيؤه ويجب الفطر أو تهيؤ أصله فيورث الشبهة ولو سافر في ذلك اليوم مكرها لا تسقط الكفارة عند أبي يوسف وهو الصحيح خلافا لزفر ولو جرح نفسه فمرض مرضا مرخصا اختلف المشايخ والمختار لا تسقط لأن المرض من الجرح وإنه وجد مقصورا على الحال فلا يؤثر في الماضي قوله وإنما ذلك شبع أفاد تكامل الجناية قبله فبمجرد الإيلاج حصل قضاء شهوة الفرج على الكمال والإنزال شبع أكمل ولا
____________________
(2/337)
تتوقف الكفارة عليه كما بالأكل تجب بلقمة لا بالشبع ولأنه لما لم يشترط الإنزال في وجوب الحد وهو عقوبة محضة تندرىء بالشبهات فلأن لايشترط فى وجوب الكفارة وفيها معنى العبادة التي يحتاط في إثباتها أولى فعدم الاشتراط على هذا ثابت بدلالة نص الحد قوله تجب على المرأة لو قال على المفعول به كان أفيد إذ يدخل الملاط به طائعا وفي الكافي إن وطئ في الدبر فعن أبي حنيفة رحمه الله لا كفارة عليهما لأنه لا يجعل هذا الفعل كاملا حتى لم يجب الحد ولا شبهة في جانب المفعول به إذ ليس فيه قضاء الشهوة
وعنه أن عليه الكفارة وهو قولهما وهو الأصح لأن الجناية متكاملة وإنما ادعى أبو حنيفة النقصان في معنى الزنا من حيث أنه لا يفسد الفراش ولا عبرة في إيجاب الكفارة به قوله وفي قول يتحمل يعني إذا كفر بالمال قوله ولنا قوله عليه الصلاة والسلام من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر الله أعلم به وهو غير محفوظ
وما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام أمر رجلا أفطر في رمضان أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا علق الكفارة بالإفطار
فإن قيل لا يفيد المطلوب لأنه حكاية واقعة حال لا عموم لها فيجب
____________________
(2/338)
كون ذلك المفطر بأمر خاص لا بالأعم فلا دليل فيه أنه بالجماع أو بغيره فلا متمسك به لأحد بل قام الدليل على أنه أريد جماع الرجل وهو السائل لمجيئه مفسرا كذلك برواية من نحو عشرين رجلا عن أبي هريرة رضي الله عنه قلنا وجه الاستدلال به تعليقها بالإفطار في عبارة الرواي أعنى أبا هريرة إذ أفاد أنه فهم من خصوص الأحول التي يشاهدها في قضائه عليه الصلاة والسلام أو سمع ما يفيد أن إيجابها عليه باعتبار أنه إفطار لا باعتبار خصوص الإفطار فيصح التمسك وهذا كما قالوا في أصولهم في مسألة ما إذا نقل الراوي بلفظ ظاهره العموم فإنهم اختاروا اعتباره ومثلوه بقول الراوي قضى بالشفعة للجار لما ذكرنا من المعنى فهذا مثله بلا تفاوت لمن تأمل ولأن الحد يجب عليها إذا طاوعته فالكفارة أولى على نظير ما ذكرناه آنفا فتكون ثابتة بدلالة نص حدها قوله ولنا أن الكفارة تعلقت بجناية الإفطار مأخوذ ذلك من الحديث الذي ذكره من أفطر رمضان الحديث ومما ذكرنا من قول أبي هريرة رضي الله عنه وروى الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أكل في رمضان فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتق الحديث وأعله بأبي معشر وأخرج الدارقطني أيضا في كتاب العلل في حديث الذي وقع على امرأته عن سعيد بن المسيب أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أفطرت في رمضان متعمدا الحديث وهذا مرسل سعيد وهو مقبول عند كثير ممن لا يقبل المرسل وعندنا هو حجة مطلقا وأيضا دلالة نص الكفارة بالجماع تفيده للعلم بأن من علم استواء الجماع والأكل والشرب في أن ركن الصوم الكف عن كلها ثم علم لزوم عقوبة على من فوت الكف عن بعضها جزم بلزومها على من فوت الكف عن البعض الآخر
____________________
(2/339)
حكما للعلم بذلك الاستواء غير متوقف فيه على أهلية الاجتهاد أعنى بعد حصول العلمين يحصل العلم الثالث ويفهم كل عالم بهما أن المؤثر في لزومها تفويت الركن لا خصوص ركن قوله وبإيجاب الإعتاق الخ جواب عن قوله في وجه مخالفة القياس لارتفاع الذنب بالتوبة وهو غير دافع لكلامه لأنه يسلم أن هذا الذنب لا يرتفع بمجرد التوبة ولهذا يثبت كونها على خلاف القياس يعني القاعدة المستمرة في الشرع قوله ولحديث الأعرابي في الكتب الستة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم قال هلكت قال ما شأنك قال وقعت على امرأتي في رمضان قال فهل تجد رقبة تعتقها قال لا قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال لا قال فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا قال لا قال اجلس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يغرق فيه تمر فقال تصدق به قال على أفقر مني يا رسول الله فوالله ما بين لا بتيها يريد الحرتين أهل بيت أفقر من أهل بيتي فضحك عليه الصلاة والسلام حتى بدت ثناياه وفي لفظ أنيابه وفي لفظ نواجذه ثم قال خذه فأطعمه أهلك وفي لفظ لأبي داود زاد الزهري وإنما كان هذا رخصة له خاصة ولو أن رجلا فعل ذلك اليوم لم يكن له بد من التكفير
قال المنذري قول الزهري ذلك دعوى لا دليل عليها وعن ذلك ذهب سعيد بن جبير إلى عدم وجوب الكفارة على من أفطر في رمضان بأي شيء أفطر
قال لانتساخه بما في آخر الحديث بقوله كلها أنت وعيالك اه
وجمهور العلماء على قول الزهري وأما رفع المصنف قوله يجزيك
____________________
(2/340)
ولا يجزى أحد بعدك فلم ير في شيء من طرقه وكذا لم يوجد فيها لفظ الفرق بالفاء بل العين وهو مكتل يسع خمسة عشر صاعا على ما قيل
قلنا وإن لم يثبت فغاية الأمر أنه أخر عنه إلى الميسرة إذ كان فقيرا في الحال عاجزا عن الصوم بعد ما ذكر له ما يجب عليه كذا قال الشافعي وغيره
والظاهر أنه خصوصية لأنه وقع عند الدارقطني في هذا الحديث فقد كفر الله عنك
وفي لفظ وأهلكت ليس في الكتب الستة لكن أخرج الدارقطني عن أبي ثور حدثنا معلى بن منصور حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هلكت وأهلكت الحديث
قال تفرد أبو ثور عن معلى بن منصور عن ابن عيينة بقوله وأهلكت وأخرجه البيهقي عن جماعة عن الأوزاعي عن الزهري وفيه وأهلكت
وقال ضعف شيخنا أبو عبد الله الحاكم هذه اللفظة وكافة أصحاب الأوزاعي رووه عنه دونها واستدل الحاكم على أنها خطأ بأنه نظر في كتاب الصوم تصنيف المعلى بن منصور فوجد فيه هذا الحديث دون هذه اللفظة وأن كافة أصحاب سفيان رووه دونها قوله ومن جامع فيما دون الفرج أراد بالفرج كلا من القبل والدبر فما دونه حينئذ التفخيذ والتبطين وعمل المرأتين أيضا كعمل الرجال جماع فيما دون الفرج لا قضاء على واحدة منهما إلا إذا أنزلت ولا كفارة مع الإنزال قوله فلا يلحق به غيره في لزوم الكفارة بإفساده إذ القياس ممتنع وكذا الدلالة لأن إفساد صوم غير رمضان ليس في معنى إفساد صوم رمضان من كل وجه بل ذاك أبلغ في الجناية لوقوعه في شرف الزمان ولزوم إفساد الحج النفل والقضاء بالجماع ليس إلحاقا بفساد الحج الفرض بل هو ثابت ابتداء بعلوم نص القضاء والإجماع قوله أو أقطر في أذنه سيقيده بما إذا كان دهنا قوله لقوله عليه الصلاة والسلام الفطر مما دخل روى أبو يعلى الموصلى في مسنده حدثنا أحمد بن منيع حدثنا مروان بن معاوية عن رزين البكري قال حدثتنا مولاة لنا يقال لها سلمى من بكر بن وائل أنها سمعت عائشة رضي الله عنها تقول دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عائشة هل من كسرة فأتيته بقرص فوضعه على فيه فقال
____________________
(2/341)
يا عائشة هل دخل بطني منه شيء كذلك قبلة الصائم إنما الإفطار مما دخل وليس مما خرج ولجهالة الموالاة لم يثبته بعض أهل الحديث ولا شك في ثبوته موقوفا على جماعة
ففي البخاري تعليقا وقال ابن عباس وعكرمة الفطر مما دخل وليس مما خرج وأسند ابن أبي شيبة فقال حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال الفطر مما دخل وليس مما خرج وأسنده عبد الرزاق إلى ابن عباس رضي الله عنهما وقال إنما الوضوء مما خرج وليس مما دخل والفطر في الصوم مما دخل وليس مما خرج
وروى أيضا من قول علي رضي الله عنه قاله البيهقي وعلى كل حال يكون مخصوصا بحديث الاستقاء أو الفطر فيه باعتبار أنه يعود شيء وإن قل حتى لا يحس به كما ذكرنا من قريب قوله ولوجود معنى الفطر قد علمت أنه لا يثبت الفطر إلا بصورته أو معناه وقد مر أن صورته الابتلاع وذكر أن معناه وصول ما فيه صلاح البدن إلى الجوف فاقتضى فيما لو طعن برمح أو رمى بسهم فبقي الحديد في بطنه أو أدخل خشبة في دبره وغيبها أو احتشت المرأة في الفرج الداخل أو استنجى فوصل الماء إلى داخل دبره لمبالغته فيه عدم الفطر لفقدان الصورة وهو ظاهر والمعنى وهو وصول ما فيه صلاح البدن من التغذية أو التداوي لكن الثابت في مسألتي الطعنة والرمية اختلاف وصحح عدم الإفطار جماعة ولا أعلم خلافا في ثبوت الإفطار فيما بعدهما بخلاف ما إذا كان طرف الخشبة بيده وطرف الحشوة في الفرج الخارج والماء لم يصل إلى كثير داخل فإنه لا يفسد
والحد الذي يتعلق بالوصول إليه الفساد قدر المحقنة قال في الخلاصة وقلما يكون ذلك اه
نعم لو خرج سرمه فغسله ثبت ذلك الوصول بلا استبعاد فإن قام قبل أن ينشفه فسد صومه بخلاف ما إذا نشفه لأن الماء اتصل بظاهر ثم زال قبل أن يصل إلى الباطن بعود المقعدة
لا يقال الماء فيه صلاح البدن
لأنا نقول ذكروا أن إيصال الماء إلى هناك يورث داء عظيما
لا يقال يحمل قولهم ما فيه صلاح البدن على ما بحيث يصلح به وتندفع به حاجته وإن كان قد يحصل عنده ضرر أحيانا فيندفع إشكال الاستنجاء
لأنا نقول قد علل المصنف ما اختاره من عدم الفساد فيما إذا دخل الماء أذنه أو أدخله بقوله لانعدام المعنى والصورة وذلك إفادة أنه لم يصل إلى جوف دماغه ما فيه صلاح البدن ولو كان المراد بما فيه صلاح البدن ما ذكرت لم يصح هذا التعليل وبسطه في الكافي فقال لأن الماء يفسد بمخالطة خلط داخل الأذن فلم يصل إلى الدماغ شيء يصلح له فلا يحصل معنى الفطر فلا يفسد فالأولى تفسير الصورة بالإدخال بصنعه كما هو في عبارة الإمام قاضيخان في تعليل ما اختاره من ثبوت الفساد إذا أدخل الماء أذنه لا إذا دخل بغير صنعه كما إذا خاض نهرا حيث قال إذا خاض الماء فدخل أذنه لا يفسد صومه
وإن صب الماء فيها اختلفوا فيه
____________________
(2/342)
والصحيح هو الفساد لأنه موصل إلى الجوف بفعله فلا يعتبر فيه صلاح البدن كما لو أدخل خشبة وغيبها إلى آخر كلامه وبه تندفع الإشكالات ويظهر أن الأصح في الماء التفصيل الذي اختاره القاضي رحمه الله فعلى هذا فاعتبار ما به الصلاح في تفسير معنى الفطر إما على معنى ما به في نفسه كما أوردناه في السؤال وبه يندفع تعليل المصنف لتعميم عدم الإفساد في دخول الماء الأذن فيصح التفصيل المذكور فيه
ووجهه أنه لازم فيما لو احتقن بحقنة ضارة لخصوص مرض المحتقن أو أكل بعد الفجر وهو في غاية الشبع والامتلاء قريبا من التخمة فإن الأكل في هذه الحالة مضر ومع ذلك يلزمه فضلا عن القضاء الكفارة وإما على حقيقة الإصلاح كما يفيده كلام الكافي والمصنف وعلى الأول يلزم تعميم الفساد في الماء الداخل في الأذن وعلى الثاني يلزم تعميم عدمه فيه
هذا ولو أدخل الإصبع في دبره أو فرجها الداخل لا يفسد الصوم إلا أن تكون مبلولة بماء أو دهن على المختار وقيل يجب عليه الغسل والقضاء قوله فوصل أي الدواء إلى جوفه يرجع إلى الجائفة لأنها الجراحة في البطن أو دماغه يرجع إلى الآمة لأنها الجراحة في الرأس من أممته بالعصا ضربت أم رأسه وهي الجلدة التي هي مجمع الرأس وحينئذ فلا تحرير في العبارة لأنه بعد ان أخذ الوصول في صورة المسألة يمتنع نقل الخلاف فيه إذ لا خلاف في الإفطار على تقدير الوصول إنما الخلاف فيما إذا كان الدواء رطبا فقال يفطر للوصول عادة وقالا لا لعدم العلم به فلا يفطر بالشك وهو يقول سبب الوصول قائم وتقريره ظاهر من الكتاب وهو دليل الوصول فيحكم به نظرا إلى الدليل إذ قد يخفى حقيقة المسبب بخلاف اليابس إذ لم يثبت دليل الوصول فيه لما ذكر في الكتاب وإذا حققت هذا التصوير علمت أن المذكور في ظاهر الرواية من الفرق بين الرطب واليابس لا ينافي ما ذكره أكثر مشايخ بخارى كما يعطيه ظاهر عبارة شمس الأئمة حيث قال فرق في ظاهر الرواية بين الرطب واليابس وأكثر مشايخنا على أن العبرة للوصول حتى إذا علم أن اليابس وصل فسد وإن علم أن الطرى لم يصل لم يفسد إلا أنه ذكر الرطب واليابس بناء على العادة فإنه لما بنى الفساد في الرطب على الوصول نظرا إلى دليله علم بالضرورة أنه إذا علم عدم الوصول لا يفسد لتحقق خلاف مقتضى الدليل ولا امتناع فيه فإن المراد بالدليل الأمارة وهي ما قدم يجزم بتخلف متعلقها مع قيامها كوقوف بغلة القاضي على بابه مع العلم بأنه ليس في داره وإنما الكلام فيما إذا لم يعلم خلاف مقتضاه فإن الظن حينئذ يتعلق بثبوته فالقسمان اللذان ذكروهما لا خلاف فيهما والحصر فيهما منتف إذ بقى ما إذا لم يعلم يقيا أحدهما وهو محل الخلاف فأفسده حكما بالوصول نظرا إلى
____________________
(2/343)
دليله ونفياه قوله ولو أقطرإخليل لم يفطر عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف يفطر وقول محمد مضطرب فيه والإقطار في أقبال النساء قالوا أيضا هو على هذا الخلاف وقال بعضهم يفسد بلا خلاف لأنه شبيه بالحقنة قال في المبسوط وهو الأصح قوله فكأنه وقع الخ يفيد أنه لا خلاف لو اتفقوا على تشريح هذا العضو فإن قول أبي يوسف بالإفساد إنما هو بناء على قيام المنفذ بين المثانة والجوف فيصل إلى الجوف ما يقطر فيها وقوله بعدمه بناء على عدمه والبول يترشح من الجوف إلى المثانة فيجتمع فيها أو الخلاف مبني على أن هناك منفذا مستقيما أو شبه الحاء فيتصور الخروج ولا يتصور الدخول لعدم الدافع الموجب له بخلاف الخروج وهذا اتفاق منهم على إناطة الفساد بالوصول إلى الجوف ويفيد أنه إذا علم أنه لم يصل بعد بل هو في قصبة الذكر لا يفسد وبه صرح غير واحد
قال في شرح الكنز وبعضهم جعل المثانة نفسها جوفا عند أبي يوسف وحكى بعضهم الخلاف ما دام في قصبة الذكر وليسا بشيء اه
والذي يظهر أنه لا منافاة على قول أبي يوسف بين ثبوت الفطر باعتبار وصوله إلى الجوف أو إلى جوف المثانة بل يصح إناطته بالثاني باعتبار أنه يصل إذ ذاك إلى الجوف لا باعتبار نفسه وما نقل عن خزانة الأكمل فيما إذا حشا ذكره بقطنة فغيبها أنه يفسد كاحتشائها ما يقضى ببطلان حكاية الاتفاق على عدم الفساد في الإقطار ما دام في قصبة الذكر ولا شك في ذلك ألا ترى إلى التعليل من الجانبين كيف هو بالوصول إلى الجوف وعدمه بناء على وجود المنفذ أو استقامته وعدمه لكن هذا يقتضي في حشو الدبر وفرجها الداخل عدم الفساد ولا مخلص إلا بإثبات أن المدخل فيهما تجتذبه الطبيعة فلا يعود إلا مع الخارج المعتاد وهو في الدبر معلوم لمن فعل ذلك بفتيلة دواء أو صابونة غير أنا لا نعلم في غيره أن شأن الطبيعة ذلك في كل مدخل كالخشبة أو فيما يتداوى به لقبول الطبيعة إياه فتجتذبه لحاجتها إليه وفي القبل ذكرت لنا من تضع مثل الحمصة لتسد بها في الداخل تحرزا من الحبل أنها لا تقدر على إخراجها حتى تخرج هي بعد أيام مع الخارج والله سبحانه وتعالى أعلم قوله ويكره له ذلك قيده الحلواني بما إذا كان في الفرض أما في النفل فلا لأنه يباح الفطر فيه يعذر وبلا عذر في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف أيضا فالذوق أولى
____________________
(2/344)
بعدم الكراهية لأنه ليس بإفطار بل يحتمل أن يصير إياه
وقيل لا بأس في الفرض للمرأة إذا كان زوجها سيء الخلق أن تذوق المرقة بلسانها قوله إذا كان لها منه بد فإن لم يكن بأن لم تجد من يمضع له ممن ليس عليه صوم ولم تجد طعاما لا يحتاج إلى مضغه له لا يكره لها قوله لما بينا من أنه تعريض للصوم على الفساد إذ قد يسبق شيء منه إلى الحلق فإن من حام حول الحمي يوشك أن يقع فيه
وفي الفتاوي يكره للصائم أن يذوق بلسانه العسل أو الدهن ليعرف الجيد من الرديء عند الشراء قوله وقيل إذا لم يكن ملتئما بأن لم يمضغه أحد وإن كان أبيض وكذا إذا كان أسود وإن مضغه غيره لأنه يتفتت وإن مضغ والأبيض يتفتت قبل المضغ فيصل إلى الجوف وإطلاق محمد عدم الفساد محمول على ما إذا لم يكن كذلك للقطع بأنه معلل بعدم الوصول فإذا فرض في بعض العلك معرفة الوصول منه عادة وجب الحكم فيه بالفساد لأنه كالمتيقن قوله إلا أنه يكره استثناء منقطع أي لكنه يكره للتعريض على الفساد وتهمة الإفطار
وعنه عليه الصلاة والسلام من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم
وقال علي رضي الله عنه إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره قوله لقيامه مقام السواك في حقهن فإن بنيتهن ضعيفة قد لا تحتمل السواك فيخشى على اللثة والسن منه وهذا قائم مقامه فيفعلنه قوله لا يستحب أي ولا يكره فهو مباح بخلاف النساء فإنه يستحب لهن لأنه سواكهن وقوله لما فيه من التشبه من النساء إنما يناسب التعليل للكراهة ولذا وضع في غير موضع فيكون قد ترك تعليل الثاني والأولى الكراهة للرجال إلا لحاجة لأن الدليل أعنى التشبيه يقتضيها في حقهم خاليا عن المعارض قوله ودهن الشارب بفتح الدال على أنه مصدر وبضمها على إقامة اسم العين مقام المصدر وفي الأمثلة عجبت من دهنك
____________________
(2/345)
لحيتك بضم الدال وفتح التاء على هذه الإقامة قوله ندب النبي إلى الاكتحال الخ أما ندبه إلى صوم عاشوراء فاشهر من أن يبدى وقد ذكرنا من ذلك في أول كتاب الصوم أحاديث وأما ندبه إلى الكحل فيه ففي حديثين روى أحدهما البيهقي عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم ير رمدا أبدا وضعفه بجويبر والضحاك لم يلق ابن عباس رضي الله عنهما ومن طريق آخر رواه ابن الجوزي في الموضوعات عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اكتحل يوم عاشوراء لم ترمد عينه تلك السنة وقال في رجاله من ينسب إلى التغفيل وقد روى الترمذي عن أبي عاتكة عن أنس قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال اشتكت عيني أفأكتحل وأنا صائم قال نعم قال الترمذي وإسناده ليس بالقوي ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء وأبو عاتكة مجمع على ضعفه وأخرج ابن ماجه عن بقية حدثنا الزبيدي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت اكتحل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم وظن بعض العلماء أن الزبيدي في مسد ابن ماجه هو محمد بن الوليد الثقة الثبت وهو وهم وإنما هو سعيد بن أبي سعيد الزبيدي الحمصي كما هو مصرح به في مسند البيهقي ولكن الراوي دلسه قال في التنقيح ليس هو بمجهول كما قاله ابن عدي والبيهقي بل هو سعيد بن عبد الجبار الزبيدي الحمصي وهو مشهور ولكنه مجمع على ضعفه
وابن عدي في كتابه فرق بين سعيد بن أبي سعيد وسعيد ابن عبد الجبار وهما واحد وأخرجه البيهقي عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع قال وليس بالقوي عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتحل وهو صائم وأخرج أبو داود موقوفا على أنس عن عتبة بن أبي معاذ عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك أنه كان يكتحل وهو صائم قال في التنقيح إسناده مقارب قال أبو حاتم عتبة بن حميد الضبي أبو معاذ البصري صالح الحديث فهذه عدة طرق إن لم يحتج بواحد منها فالمجموع يحتج به لتعدد الطرق وأما ما في أبي داود عن عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هودة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالإثمد عند النوم وقال ليتقه الصائم فقال أبو داود قال لي يحيى ابن معين هذا حديث منكر
قال صاحب التنقيح ومعبد وابنه النعمان كالمجهولين إذ لا يعرف لهما غير هذا الحديث
وعبد الرحمن بن النعمان قال ابن معين ضعيف وقال أبو حاتم صدوق
ولا تعارض بين
____________________
(2/346)
كلاميهما إذ الصدق لا ينفي سائر وجوه الضعف قوله دون الزينة لأنه تعورف من زينة النساء ثم قيد دهن الشارب بذلك أيضا وليس فيه ذلك وفي الكافي يستحب دهن شعر الوجه إذا لم يكن من قصده الزينة به وردت السنة فقيد بانتفاء هذا القصد فكأنه والله أعلم لأنه تبرج بالزينة
وقد روى أبو داود والنسائي عن ابن مسعود كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره عشر خلال ذكر منها التبرج بالزينة لغير محلها وسنورده بتمامه إن شاء الله تعالى في كتاب الكراهية
وما في الموطأ عن أبي قتادة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي جمة أفأرجلها قال نهم وأكرمها فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين من أجل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم وأكرمها فإنما هو مبالغة من أبي قتادة في قصد الامتثال لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لحظ النفس الطالبة للزينة الظاهرة وذلك لأن الإكرام والجمال المطلوب يتحقق مع دون هذا المقدار وفي سنن النسائي أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له عبيد قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كثير من الأرفاه فسئل ابن بريدة عن الأرفاه قال الترجيل والمراد والله أعلم الترجيل الزائد الذي يخرج إلى حد الزينة لا ما كان لقصد دفع أذى الشعر والشعث هذا ولا تلازم بين قصد الجمال وقصد الزينة فالقصد الأول لدفع الشين وإقامة ما به الوقار وإظهار النعمة شكرا لا فخرا وهو أثر أدب النفس وشهامتها والثاني أثر ضعفها وقالوا بالخضاب وردت السنة ولم يكن لقصد الزينة ثم بعد ذلك إن حصلت زينة فقد حصلت في ضمن قصده مطلوب فلا يضره إذا لم يكن ملتفتا إليه قوله وهو أي القدر المسنون في اللحية القبضة بضم القاف قال في النهاية وما وراء ذلك يجب قطعه هكذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذ من اللحية من طولها وعرضها أورده أبو عيسى يعنى الترمذي في جامعه رواه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص
فإن قلت يعارضه ما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عنه عليه الصلاة والسلام أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى فالجواب أنه قد صح عن ابن عمر راوي هذا الحديث أنه كان يأخذ الفاضل عن القبضة قال محمد بن الحسن في كتاب الآثار أخبرنا أبو حنيفة عن الهيثم بن أبي الهيثم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقبض على لحيته ثم يقص ما تحت القبضة ورواه أبو داود والنسائي في كتاب الصوم عن علي بن الحسن بن شقيق عن الحسن بن واقد عن مروان بن سالم المقنع قال رأيت ابن عمر رضي الله يقبض على لحيته فيقطع ما زاد على الكف وقال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله تعالى وذكره البخاري تعليقا فقال وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه وقد روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا أسنده ابن أبي شيبة عنه حدثنا أبو أسامة عن شعبة عن عمر بن أيوب من ولد جرير عن أبي زرعة قال كان أبو هريرة رضي الله عنه يقبض على لحيته
____________________
(2/347)
فيأخذ ما فضل عن القبضة فأقل ما في الباب إن لم يحمل على النسخ كما هو أصلنا في عمل الراوي على خلاف مرويه مع أنه روى عن غير الراوي وعن النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الإعفاء على إعفائها من أن يأخذ غالبها أو كلها كما هو فعل مجوس الأعاجم من حلق لحاهم كما يشاهد في الهنود وبعض أجناس الفرنج فيقع بذلك الجمع بين الروايات ويؤيد إرادة هذا ما في مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم جزوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المجوس فهذه الجملة واقعة موقع التعليل
وأما الأخذ منها وهي دون ذلك كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد قوله ولا بأس بالسواك الرطب يعني للصائم سواء كانت رطوبته بالماء أو من نفسه بكونه اخضر بعد قوله وقال الشافعي يكره استدل بالحديث والمعنى فالحديث ما روى الطبراني والدارقطني عنه عليه الصلاة والسلام إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي فإن الصائم إذا يبست شفتاه كانت له نورا يوم القيامة ورواه الدارقطني موقوفا على علي رضي الله عنه وفي الطريقين كيسان أبو عمر القصاب ضعفه ابن معين
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل سألت أبي عن كيسان أبي عمر فقال ضعيف الحديث ذكره في الميزان وذكر حديثه هذا فيه
والمعنى ما ذكره في الكتاب من أنه إزالة الخلوف المحمود الخ ولنا قوله عليه الصلاة والسلام من خير خلال الصائم السواك أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها والدارقطني وفيه مجالد ضعفه كثير ولينه بعضهم ولنا أيضا عموم قوله عليه الصلاة والسلام لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة إذ يدخل في عموم كل صلاة الظهر والعصر والمغرب للصائم والمفطر وفي رواية عند النسائي وصحيح ابن خزيمة وصححها الحاكم وعلقها البخاري عند كل وضوء فيعم وضوء هذه الصلوات
ولنا أيضا في مسند أحمد عنه عليه الصلاة والسلام صلاة بسواك أفضل عند الله تعالى من سبعين صلاة بغير سواك فهذه النكرة وإن كانت في الإثبات تعم لوصفها بصفة عامة فيصدق على عصر الصائم إذا استاك فيه أنها صلاة أفضل من سبعين كما يصدق على عصر المفطر فهذه خالية عن المعارض فإن ما ذكره لا يقوم حجة
أما الحديث فإنه مع شذوذه ضعيف وأما المعنى فلا يستلزم كراهة الاستياك لأنه بناء على أن السواك يزيل الخلوف وهو غير مسلم بل إنما يزيل أثره الظاهر على السن من الاصفرار
____________________
(2/348)
وهذا لأن سببه خلو المعدة من الطعام والسواك لا يفيد شغلها بطعام ليرتفع السبب ولهذا روى عن معاذ مثل ما قلنا روى الطبراني حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي حدثنا هرون بن معروف حدثنا محمد بن سلمة الحراني حدثنا بكر بن خنيس عن أبي عبد الرحمن بن عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم قال سألت معاذ بن جبل أتسوك وأنا صائم قال نعم قلت أي النهار أتسوك قال أي النهار شئت غدوة وعشية قلت إن الناس يكرهونه عشية ويقولون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فقال سبحان الله لقد أمرهم بالسواك وهو يعلم أنه لابد بفي الصائم خلوف وإن استاك وما كان بالذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمدا ما في ذلك من الخير شيء بل فيه شر إلا من ابتلى ببلاء لا يجد منه بدا قال وكذا الغبار في سبيل الله تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار إنما يؤجر عليه من اضطره إليه ولم يجد عنه محيصا فأما من ألقى نفسه في البلاء عمدا فما له في ذلك من الأجر شيء
قيل ويدخل في هذا أيضا من تكلف الدوران تكثيرا للمشي إلى المساجد نظرا إلى قوله عليه الصلاة والسلام وكثرة الخطا إلى المساجد ومن تصنع في طلوع الشيب لقوله عليه الصلاة والسلام من شاب شيبة في الإسلام إنما يؤجر عليهما من بلى بهما وفي المطلوب أيضا أحاديث مضعفة نذكر منها شيئا للاستشهاد والتقوية وإن لم يحتج إليه في الإثبات منها ما رواه البيهقي عن إبراهيم بن عبد الرحمن حدثنا إسحاق الخوارزمي قال سألت عاصما الأحول أيستاك الصائم بالسواك الرطب قال نعم أتراه أشد رطوبة من الماء قلت أول النهار وآخره قال نعم قلت عمن رحمك الله قال عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقال تفرد به إبراهيم بن عبد الرحمن الخوارزمي وقد حدث عن عاصم بالمناكير لا يحتج به
وروى ابن حبان في كتاب الضعفاء عن ابن عمر رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك آخر النهار وهو صائم وأعله بأبي ميسرة قال لا يحتج به ورفعه باطل
والصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه من قوله قلنا كفى ثبوته عن ابن عمر مع تعدد الضعيف فيه مع تلك العمومات والله سبحانه أعلم
فروع صوم ستة من شوال عن أبي حنيفة وأبي يوسف كراهته وعامة المشايخ لم يروا به بأسا
واختلفوا فقيل الأفضل وصلها بيوم الفطر وقيل بل تفريقها في الشهر
وجه الجواز أنه قد وقع الفصل بيوم الفطر فلم يلزم التشبه بأهل الكتاب وجه الكراهة أنه قد يفضى إلى اعتقاد لزومها من العوام لكثرة المداومة ولذا سمعنا من يقول يوم الفطر نحن إلى الآن لم يأت عيدنا أو نحوه فأما عند الأمن من ذلك فلا بأس لورود الحديث به ويكره صوم يوم النيروز والمهرجان لأن فيه تعظيم أيام نهينا عن تعظيمها فإن وافق يوما ما كان يصومه فلا بأس به
____________________
(2/349)
ومن صام شعبان ووصله برمضان فحسن
ويستحب صوم أيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر ما لم يظن إلحاقه بالواجب وكذا صوم يوم عاشوراء
ويستحب أن يصوم قبله يوما وبعده يوما فإن أفرده فهو مكروه للتشبه باليهود وصوم يوم عرفة لغير الحاج مستحب وللحاج إن كان يضعفه عن الوقوف والدعوات فالمستحب تركه وقيل يكره وهي كراهة تنزيه لأنه لإخلاله بالأهم في ذلك الوقت اللهم إلا أن يسيء خلقه فيوقعه في محظور وكذا صوم يوم التروية لأنه يعجز عن أداء أفعال الحج وسيأتي صوم المسافر
ويكره صوم الصمت وهو أن يصوم لا يتكلم يعني يلتزم عدم الكلام بل يتكلم بخير ولحاجته إن عنت ويكره صوم الوصال ولو يومين ويكره صوم الدهر لأنه يضعفه أو يصير طبعا له ومبني العبادة على مخالفة العادة ولا يحل صوم يومي العيد وأيام التشريق وأفضل الصيام صوم داود صم يوما وأفطر يوما ولا بأس بصوم يوم الجمعة منفردا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ولا تصوم المرأة التطوع إلا بإذن زوجها وله أن يفطرها وكذا المملوك بالنسبة إلى السيد إلا إذا كان غائبا ولا ضرر في ذلك عليه فإن ضرره ضرر بالسيد في ماله وكل صوم وجب على المملوك بسبب باشره كالمنذور وصيامات الكفارات كالنفل إلا كفارة الظهار لما يتعلق به من حق الزوجة كما ستعلم في الظهار إن شاء الله تعالى فصل
هذا الفصل في العوارض وهي حرية بالتأخير
الأعذار المبيحة للمفطر المرض والسفر والحبل والرضاع إذا أضر بها أو بولدها والكبر إذا لم يقدر عليه والعطش الشديد والجوع كذلك إذا خيف منهما الهلاك أو نقصان العقل كالأمة إذا ضعفت عن العمل وخشيت الهلاك بالصوم وكذا وكذا الذي ذهب به متوكل السلطان إلى العمارة في الأيام الحارة والعمل الحثيث إذا خشى الهلاك أو نقصان العقل وقالوا الغازي إذا كان يعلم يقينا أنه يقاتل العدو في شهر رمضان ويخاف الضعف إن لم يفطر ويفطر قبل الحرب مسافرا كان
____________________
(2/350)
أو مقيما قوله وهو يعتبر خوف الهلاك الظاهر من كلام أصحابهم أنه كقولنا
وجه قولنا أن قوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } يبيح الفطر لكل مريض لكن القطع بأن شرعية الفطر له إنما هو لدفع الحرج وتحقق الحرج منوط بزيادة المرض أو إبطاء البر أو فساد عضو ثم معرفة ذلك باجتهاد المريض والاجتهاد غير مجرد الوهم بل هو غلبة الظن عن أمارة أو تجربة أو بإخبار طبيب مسلم غير ظاهر الفسق وقيل عدالته شرط
فلو برأ من المرض لكن الضعف باق وخاف أن يمرض سئل عنه القاضي الإمام فقال الخوف ليس بشيء
وفي الخلاصة لو كان له نوبة حمى فأكل قبل أن تظهر يعني في يوم النوبة لا بأس به قوله وقال الشافعي الفطر أفضل والحق أن قوله كقولنا ولم يحك ذلك عنه إنما هو مذهب أحمد رحمه الله والحديث الذي رواه في الصحيحين وسنورده
وقول الظاهرية إنه لا يجوز الصوم لهذا الحديث ولقوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } فجعل السبب في حقه إدراك العدة فلا يجوز قبل السبب قوله ولنا أن رمضان أفضل الوقتين والصوم في أفضل وقتي الصوم أفضل منه في غيره
فإن قيل إن أردتم أنه أفضل في حق صوم المقيم فلا يفيد وإن مطلقا منعناه ونسنده بما روينا وتلونا
قلنا نختار الثاني وجهه عموم قوله تعالى في رمضان { وأن تصوموا خير لكم } وما رويتم مخصوص بسببه وهو ما روى في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام كان في سفر فرأى زحاما ورجالا قد ظلل عليه فقال ما هذا قالوا صائم فقال ليس من البر الصيام في السفر وكذا ما روى مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فشربه فقيل له إن بعض الناس قد صام فقال أولئك العصاة محمول على أنهم استضروا به بدليل ما ورد في صحيح مسلم في لفظه فيه فقيل له إن الناس قد شق عليهم الصوم ورواه الواقدي في المغازي وفيه وكان أمرهم بالفطر فلم يقبلوا والعبرة وإن كان لعموم اللفظ لا لخصوص السبب لكن يحمل عليه دفعا للمعارضة بين الأحاديث فإنها صريحة في الصوم في السفر ففي مسلم عن حمزة الأسلمي أنه قال يا رسول الله أجد في قوة على الصيام في السفر فهل على
____________________
(2/351)
جناح قال عليه الصلاة والسلام هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه وفي الصحيحين عن أنس كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا الصائم ومنا المفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم وفيه ما عن أبي الدرداء خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته في حر شديد حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه تدل على جواز الصوم
وثم ما يدل على خلافه وهو ما في مسند عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن صفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي عن أم الدرداء عن كعب بن عاصم الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس من أمير امصيام في امسفر وهذه لغة بعض أهل اليمن يجعلون مكان الألف واللام الألف والميم
وعن عبد الرزاق رواه أحمد في مسنده وما في ابن ماجه عن عبد الله بن موسى التميمي عن أسامة بن زيد عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر وأخرجه البزار عن عبد الله بن عيسى المدني حدثنا أسامة بن زيد به ثم قال هذا حديث أسنده أسامة بن زيد وتابعه يونس
ورواه ابن أبي ذئب وغيره عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه موقوفا على عبد الرحمن
ولو ثبت مرفوعا كان خروجه عليه الصلاة والسلام حين خرج فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأمر الناس بالفطر دليلا على نسخه اه
واعلم أن هذا في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما خرج عليه الصلاة والسلام عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر قال الزهري وكان الفطر آخر الأمرين
وقال ابن القطان هكذا قال يعني البزار عبد الله بن عيسى وقال غيره أي غير البزار عبد الله بن موسى وهو أشبه بالصواب وهو عبد الله بن موسى بن إبراهيم بن محمد ابن طلحة بن عبيد الله التميمي القرشي يروى عن أسامة بن زيد وهو لا بأس به اه
وهذا مما يتمسك به القائلون بمنع الصوم لا غيرهم باعتبار ما كان آخر الأمر
فالحاصل التعارض بحسب الظاهر والجمع ما أمكن أولى من إهمال أحدهما واعتبار نسخه من غير دلالة قاطعة فيه والجمع بما قلنا من حمل ما ورد من نسبة من لم يفطر إلى العصيان وعدم البر وفطره بالكديد على عروض المشقة خصوصا وقد ورد ما قدمناه من نقل وقوعها فيجب المصير إليه خصوصا وأحاديث الجواز أقوى ثبوتا واستقامة مجيء وأوفق لكتاب الله تعالى قال الله تعالى بعد قوله سبحانه { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } فعلل التأخير إلى إدراك العدة بإرادة اليسر واليسر أيضا لا يتعين في الفطر بل قد يكون اليسر في الصوم إذا كان قويا عليه غير مستضر به لموافقة الناس فإن في الائتساء تخفيفا ولأن النفس توطئت على هذا الزمان ما لم تتوطن على غيره فالصوم فيه أيسر عليها وبهذا التعليل علم أن المراد بقوله { فعدة من أيام أخر } ليس معناه يتعين
____________________
(2/352)
ذلك بل المعنى فأفطر فعليه عدة أو المعنى فعدة من أيام آخر يحل له التأخير إليها لا كما ظنه أهل الظواهر قوله وحكى الطحاوي رحمه الله فيه خلافا بين أبي حنيفة وأبي يوسف وبين محمد وهو أن عندهما يلزمه إذا صح وأقام يوما قضاء الكل فيلزم الإيصاء بالجميع وعند محمد إنما يلزمه قدر ما صح وأقام والصحيح الاتفاق في القضاء وهو إنما يلزمه قدر الصحة والإقامة وأن الخلاف إنما هو في النذر وهو ما إذا قال المريض لله علي صوم شهر مثلا فصح يوما فعندهما يلزمه الكل والإيصاء به وعند محمد رحمه الله قدر ما صح
وجه الفرق لهما أن النذر هو السبب في وجوب الكل فإذا وجد منه في المرض ومات من ذلك المرض فلا شيء عليه فإن صح صار كأنه قال ذلك في الصحة
والصحيح لو قاله ومات قبل إدراك عدة المنذور لزمه الكل فكذلك هذا بخلاف القضاء لأن السبب هو إدراك العدة وحقيقة هذا الكلام المذكور في النذر إنما يصح على تقدير كون النذر بذلك غير موجب شيئا في حالة المرض وإلا لزم الكل وإن لم يصح لتظهر فائدته في الإيصاء بل هو معلق بالصحة وإن لم يذكر أدوات التعليق تصحيحا لتصرف المكلف ما أمكن النذر مما يتعلق بالشرط كقوله إن شفى الله مريضي فلله علي كذا فينزل عند الصحة فيجب الكل ثم يعجز عنه لعدم إدراك العدة فيجب الإيصاء كما لو لم يجعل
____________________
(2/353)
معلقا في المعنى على ما قلنا وأما قولهم السبب إدراك العدة فهل المراد أن إدراك العدة سبب لوجوب القضاء على المريض أو الأداء فصرح في شرح الكنز فقال في الفرق المذكور وسبب القضاء إدراك العدة فيتقدر بقدره
وفي المبسوط جعله سبب وجوب الأداء وعلى ظاهر الأول أن سبب القضاء على ما اعترفوا بصحته هو سبب وجوب الأداء فيكون إدراك العدة سبب وجوب الأداء كما ذكره في المبسوط ويلزمه عدم حل التأخير عن أول عدة يدركها فإن قال سبب وجوب الأداء لا يستلزم حرمة التأخير عنه
قلنا فليكن نفس رمضان سبب وجوب الأداء على المريض إذ لا مانع من هذا الاعتبار سوى ذلك اللازم فإذا كان منتفيا لزم إذ هو الأصل ويلزمه الإيصاء بالكل إذا لم يدرك العدة كما هو قول محمد على رواية الطحاوي قوله ولا فدية عليه وقال الشافعي رحمه الله عليه الفدية إن أخره بغير عذر لما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال في رجل
____________________
(2/354)
مرض في رمضان فأفطر ثم صح فلم يصم حتى أدركه رمضان آخر يصوم الذي أدركه ثم يصوم الذي أفطر فيه ويطعم عن كل يوم مسكينا ولنا إطلاق قوله تعالى { فعدة من أيام أخر } من غير قيد فكان وجوب القضاء على التراخي فلا يلزمه بالتأخير شيء غير أنه تارك للأولى من المسارعة وما رواه غير ثابت ففي سنده إبراهيم ابن نافع
قال أبو حاتم الرازي كان يكذب وفيه أيضا من اتهم بالوضع قوله إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما يرد ما وقع في بعض الحواشي معزيا إلى الذخيرة من أن المراد بالمرضع الظئر لوجوب الإرضاع عليها بالعقد بخلاف الأم فإن الأب يستأجر غيرها وكذا عبارة غير القدوري أيضا تفيد أن ذلك للأم وكذا إطلاق الحديث وهو ما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحبلى والمرضع الصوم ولأن الإرضاع واجب على الأم ديانة قوله وهو يعتبره أي كلا من الحامل والمرضع بالشيخ الفاني في حكم هو وجوب الفدية بإفطاره بجامع أنه انتفع به من لم يلزمه الصوم غير
____________________
(2/355)
أنه الولد في الفرع
قلنا القياس ممتنع بشرع الفدية على خلاف القياس إذ لا مماثلة تعقل بين الصوم والإطعام والإلحاق دلالة متعذر لأن الشيخ يجب عليه الصوم بالعمومات ثم ينتقل إلى الفدية لعجزه عنه والطفل لا يجب عليه بل على أمه ولم ينتقل عنها شرعا إلى خلف غير الصوم بل أجيز لها التأخير فقط رحمة على الولد إلى خلف هو الصوم بخلاف الشيخ فإنه لا قضاء عليه بل أقيمت الفدية مقام الصيام في حقه
وحاصل الدفع فيهما أنه اختلف الحكم في الأصل والفرع فإنه في الأصل وجوب الفدية عوضا عن الصوم لسقوطه بها ولا سقوط في الحامل قوله ويطعم الخ وعن الطحاوي أنه لا فدية عليه وهو مذهب مالك رحمه الله لأنه عاجز عجزا مستمرا إلى الموت فكان المريض إذا مات قبل أن يصح والمسافر قبل أن يقيم وهذه الآية منسوخة وعن سلمة بن الأكوع لما نزلت هذه الآية { وعلى الذين يطيقونه فدية } الآية كان من أراد أن يفطر ويفدى فعل حتى أنزلت الآية التي بعدها نسختها
ولنا ما روى عطاء أنه سمع ابن عباس رضي الله عنه يقرأ { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } قال ابن عباس رضي الله عنه ليست بمنسوخة وهي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا رواه البخاري وهو مروى عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ولم يرو عن أحد منهم خلاف ذلك فكان إجماعا
وأيضا لو كان لكان قول ابن عباس رضي الله عنهما ليست بمنسوخة مقدما لأنه مما لا يقال بالرأى بل عن سماع لأنه مخالف لظاهر القرآن لأنه مثبت في نظم كتاب الله تعالى فجعله منفيا بتقدير حرف النفي لا يقدم عليه إلا بسماع
____________________
(2/356)
ألبتة وكثيرا ما يضمر حرف لا في اللغة العربية
في التنزيل الكريم { تالله تفتأ تذكر يوسف } أي لا تفتأ وفيه { يبين الله لكم أن تضلوا } أي أن لا تضلوا { رواسي أن تميد بكم } وقال الشاعر ** فقلت يمين الله أبرح قاعدا ** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي **
أي لا أبرح وقال ** تنفك تسمع ما حيي ** ت بهالك حتى تكونه **
أي لا تنفك ورواية الأفقه أولى ولأن قوله تعالى { وأن تصوموا خير لكم } ليس نصا في نسخ إجازة الافتداء الذي هو ظاهر اللفظ هذا ولو كان الشيخ الفاني مسافرا فمات قبل الإقامة قيل ينبغي أن لا يجب عليه الإيصاء بالفدية لأنه يخالف غيره في التخفيف لا في التغليظ فإنما ينتقل وجوب الصوم عليه إلى الفدية عند وجود سبب التعيين ولا تعيين على المسافر فلا حاجة إلى الانتقال ولا تجوز الفدية إلا عن الصوم هو أصل بنفسه لا يدل عن غيره فلو وجب عليه قضاء شيء من رمضان فلم يقضه حتى صار شيخا فانيا لا يرجى برؤه جازت له الفدية وكذا لو نذر صوم الأبد فضعف عن الصوم لاشتغاله بالمعيشة له أن يفطر ويطعم لأنه استيقن أن لا يقدر على قضائه فإن لم يقدر على الإطعام لعسرته يستغفر الله ويستقيله وإن لم يقدر لشدة الحر كان له أن يفطر ويقضيه في الشتاء إذا لم يكن نذر الأبد ولو نذر يوما معينا فلم يصم حتى صار فانيا جازت الفدية عنه ولو وجبت عليه كفارة يمين أو قتل فلم يجد ما يكفر به وهو شيخ كبير عاجز عن الصوم أو لم يصم حتى صار شيخا كبيرا لا تجوز له الفدية لأن الصوم هنا بدل عن غيره ولذا لا يجوز المصير إلى الصوم إلا عند العجز عما يكفر به من المال فإن مات فأوصى بالتكفير جاز من ثلثه هذا ويجوز في الفدية طعام الإباحة أكلتان مشبعتان بخلاف صدقة الفطر للتنصيص على الصدقة فيها والإطعام في الفدية قوله لأن شرط الخلفية أي شرط وقوع الفدية خلفا عن الصوم دوام العجز عن الصوم فخرج المتيمم إذا قدر على الماء لا تبطل الصلوات المؤداة قبل التيمم لأن خلفية التيمم مشروط بمجرد العجز عن الماء لا بقيد دوامه وكذا خلفية الأشهر عن الأقراء في الاعتداد مشروط بانقطاع الدم مع سن الإياس لا بشرط دوامه فلذا يجب الاعتداد بالدم إذا عاد بعد الانقطاع في سن
____________________
(2/357)
الإياس في المستقبل أو في العدة التي فرض عوده فيها حتى تستأنف للقدرة على الأصل قبل حصول المقصود بالخلف لا في الأنكحة المباشرة حال ذلك الانقطاع هذا هو الواقع من الحكم ومقتضاه كون الخلفية على الوجه الذي ذكرناه لا على ما ذكر في النهاية قوله وصار كالشيخ الفاني إلحاقا بطريق الدلالة لا بالقياس
وجهه أن الكلام في مريض عجز عن الأداء وعليه الصوم ولا شك أن كل من سمع أن الشيخ الفاني الذي لا يقدر على الصوم يجزي عنه الإطعام علم أن سبب ذلك عجزه عجزا مستمرا إلى الموت فإن الشيخ الفاني الذي علق عليه هذا الحكم هو الذي كل يوم في نقص إلى أن يموت فيكون الوارد في الشيخ الفاني واردا في المريض الذي هو بتلك الصفة لا فرق إلا بأن الوجوب لم يسبق حال جواز الإطعام في الشيخ الفاني إلا بقدر ما يثبت ثم ينتقل والمريض تقرر الوجوب عليه قبله بإدراك العدة وعجزه الآن بسبب تقصيره في المسارعة إلى القضاء ومعلوم أنه إذا كان الوجوب على التراخي لا يكون بذلك التأخير جانيا فلا أثر لهذا الفرق في إيجاب افتراق الحكم
واعلم أنهم منعوا في الأصول الإلحاق بالشيخ الفاني بطريق الدلالة كما منعوه بطريق القياس لأن شرطه ظهور المؤثر وأثره غير أنه في الدلالة لا يفتقر إلى أهلية الاجتهاد بخلاف القياس وذلك منتف في الشيخ الفاني فإن ظهور المؤثر فيه هو العجز إنما يصلح لإسقاط الصوم
وهنا مقام آخر وهو وجود الفدية ولا يعقل العجز مؤثرا في إيجابها لكنا نقول ذلك في غير المنصوصة وكون العجز سببا لوجوب الفدية علة منصوصة لأن ترتيب الحكم على المشتق نص على علية مبدأ الاشتقاق وإن لم يكن من قبيل الصريح عندنا بل بالإشارة وقد قال تعالى { وعلى الذين يطيقونه فدية } أي لا يطيقونه قوله ثم لا بد من الإيصاء عندنا أي في لزوم الإطعام على الوارث خلافا للشافعي رحمه الله وعلى هذا الزكاة أي إذا مات من عليه دين الزكاة بأن استهلك مال الزكاة بعد الحول والعشر بعد وقت وجوبه لا يجب على وارثه أن يخرج عنه الزكاة والعشر إلا أن يوصى بذلك ثم إذا أوصى فإنما يلزم الوارث إخراجهما إذا كانا يخرجان من الثلث فإن زاد دينهما على الثلث لا يجب على الوارث فإن أخرج كان متطوعا عن الميت ويحكم بجواز إجزائه ولذا قال محمد في تبرع الوارث يجزيه إن شاء الله تعالى كما إذا أوصى بالإطعام عن الصلوات على ما يذكر ويصح التبرع في الكسوة والإطعام لا الإعتاق لأن في الإعتاق بلا إيصاء إلزام الولاء على الميت ولا إلزام في الكسوة والإطعام
وجه قول الشافعي ما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال
____________________
(2/358)
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها فقال لو كان علي أمك دين أكنت قاضيه عنها قال نعم قال فدين الله أحق وفي رواية جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها الحديث إلى أن قال فصومي عن أمك وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عنه عليه الصلاة والسلام من مات وعليه صيام صام عنه وليه قلنا الاتفاق على صرف الأول عن ظاهره فإنه لا يصح في الصلاة الدين وقد أخرج النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو راوي الحديث الأول في سننه الكبرى أنه قال لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد وفتوى الراوي على خلاف مرويه بمنزلة روايته للناسخ ونسخ الحكم يدل على إخراج المناط عن الاعتبار ولذا صرحوا بأن من شرط القياس أن لا يكون حكم الأصل منسوخا لأن التعدية بالجامع ونسخ الحكم يستلزم إبطال اعتباره إذ لو كان معتبرا لاستمر ترتيب الحكم على وفقه وقد روى عن عمر رضي الله عنه نحوه أخرجه عبد الرزاق وذكره مالك في الموطأ بلاغا فقال مالك ولم أسمع عن أحد من الصحابة ولا من التابعين رضي الله تعالى عنهم بالمدينة أن أحدا منهم أمر أحدا أن يصوم عن أحد ولا يصلي عن أحد اه
وهذا مما لا يؤيد النسخ وأنه الأمر الذي استقر الشرع عليه آخرا وإذا أهدر كون المناط الدين فإنما يعلل لوجوب الأداء عن الميت على الوارث بدين العباد فإنه محل الاتفاق وليس هو الكائن في صورة النزاع فلا يجب على الوارث إلا بالإيصاء ثم إذا أوصى لا يجب عليه إلا بقدر الثلث إلا أن يتطوع وعلى هذا دين صدقة الفطر والنفقة الواجبة والكفارات المالية والحج وفدية الصيامات التي عليه والصدقة المنذورة والخراج والجزية وهذا لأن هذه بين عقوبة وعبادة فما كان عبادة فشرط إجزائها النية ليتحقق أداؤها مختارا فيظهر اختياره الطاعة من اختياره المعصية الذي هو المقصود من التكليف وفعل الوارث من غير أمر المبتلي بالأمر والنهي لا يحقق اختياره بل لما مات من غير فعل ولا أمر به فقد تحقق عصيانه بخروجه من دار التكليف ولم يمتثل وذلك يقرر عليه موجب العصيان إذ ليس فعل الوارث الفعل المأمور به فلا يسقط به الواجب كما لو تبرع به حال حياته وما كان فيها مع ذلك معنى العقوبة فلا يخفى أنه فات فيه الأمران إذ لم يتحقق إيقاع ما يستشقه منه ليكون زاجرا له بخلاف ديون العباد فإن المقصود من الأمر بأدائها وصول المال إلى من هو له ليدفع به حاجته ولذا إذا ظفر من له بجنسه كان له أخذه ويسقط عن ذمة من عليه فلزمت من غير إيصاء لتحقق حصول المقصود بفعل الوارث هنا وعن هذا قلنا لا يورث خيار الشرط والرؤية لأنه رأى كان للميت بخلاف خيار العيب لأنه جزء من العين في المعنى احتبس عند البائع
وإذا علمت ما ذكرنا علمت أن المقصود من حقوق الله تعالى إنما هي الأفعال إذ بها تظهر الطاعة والامتثال وما كان ماليا منها فالمال متعلق المقصود أعنى الفعل وقد سقطت الأفعال كلها بالموت لتعذر ظهور طاعته بها في دار التكليف فكان الإيصاء بالمال الذي هو متعلقها تبرعا من الميت ابتداء فيعتبر من الثلث بخلاف دين العباد لأن المقصود فيها نفس المال لا الفعل وهو موجود في التركة فيؤخذ منها بلا إيصاء قوله والصلاة كالصوم باستحسان المشايخ وجهه أن المماثلة قد ثبتت شرعا بين الصوم والإطعام
____________________
(2/359)
والمماثلة بين الصلاة والصوم ثابتة ومثل مثل الشيء جاز أن يكون مثلا لذلك الشيء وعلى تقدير ذلك يجب الإطعام وعلى تقدير عدمها لا يجب فالاحتياط في الإيجاب فإن كان الواقع ثبوت المماثلة حصل المقصود الذي هو السقوط وإلا كان برا مبتدأ يصلح ماحيا للسيئات ولذا قال محمد فيه يجزيه إن شاء الله تعالى من غير جزم كما قال في تبرع الوارث بالإطعام بخلاف إيصائه به عن الصوم فإنه جزم بالإجزاء قوله هو الصحيح احتراز من قول ابن مقاتل إنه يطعم لكل صلاة يوم مسكينا لأنها كصيام يوم ثم رجع إلى ما في الكتاب لأن كل صلاة فرض على حدة فكانت كصوم يوم قوله ومن دخل في صوم التطوع ثم أفسده قضاه لا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله في وجوب القضاء إذا فسد عن قصد أو غير قصد بأن عرض الحيض للصائمة المتطوعة خلافا للشافعي رحمه الله وإنما اختلاف الرواية في نفس الإفساد هل يباح أولا ظاهر الرواية لا إلا بعذر ورواية المنتقى يباح بلا عذر
ثم اختلف المشايخ رحمهم الله على ظاهر الرواية هل الضيافة عذر أو لا قيل نعم وقيل لا وقيل عذر قبل الزوال لا بعده إلا إذا كان في عدم الفطر بعده عقوق لأحد الوالدين لا غيرهما حتى لو حلف عليه رجل بالطلاق الثلاث ليفطرن لا يفطر
وقيل إن كان صاحب الطعام يرضى بمجرد حضوره وإن لم يأكل لا يباح الفطر وإن كان يتأذى بذلك يفطر
واعتقادي أن روية المنتقى أوجه وعلى اعتبار ذلك ينصب الكلام في خلافية الشافعي رحمه الله آخرا ويتبين وجه اختيارنا لها في ضمنه إن شاء الله تعالى وأحسن ما يستدل به للشافعي رحمه الله ما في مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل على النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال هل عندكم شيء فقلنا لا قال فإني إذا صائم ثم أتانا يوما آخر فقلنا يا رسول الله أهدى لنا حيس قال أرنيه
____________________
(2/360)
فلقد أصبحت صائما فأكل وفي لفظ فأكل وقال قد كنت أصبحت صائما فهذا يدل على عدم وجوب الإتمام ولزوم القضاء مرتب على وجوبه فلا يجب واحد منهما
وروى أبو داود والترمذي والنسائي عن أم هانئ موقوفا الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر وفي كل من سنده ومتنه اختلاف وتكلم عليه البيهقي رحمه الله
وقال الشافعي أيضا صح أنه عليه الصلاة والسلام خرج من المدينة حتى إذا كان بكراع الغميم وهو صائم رفع إناء فشرب والناس ينظرون وفي لفظ كان ذلك بعد العصر زاد مسلم عام الفتح وفيه دلالة التأخير
قال الشافعي فلما كان له قبل أن يدخل في صوم الفرض أن لا يدخل فيه للسفر كان له إذا دخل فيه أن يفطر كما فعل عليه الصلاة السلام فالتطوع أولى
وحاصله استدلال بفطره في الفرض بعد الشروع الذي لم يكن واجبا عليه على إباحة فطره في النفل بعد الشروع الذي لم يكن واجبا عليه وهو استدلا حسن جدا ولنا الكتاب والسنة والقياس أما الكتاب فقوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } وقال تعالى { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها } الآية سيقت في معرض ذمهم على عدم رعاية ما التزموه من القرب التي لم تكتب عليهم والقدر المؤدي عمل كذلك فوجب صيانته عن الإبطال بهذين النصين فإذا أفطر وجب قضاؤه تفاديا عن الإبطال وأما السنة فما أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن عروة عن عائشة قالت كنت أنا وحفصة صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدرتني إليه حفصة وكانت ابنة أبيها فقالت يا رسول الله إنا كنا صائمتين فعرض علينا طعام اشتهيناه فأكلنا منه قال اقضيا يوما آخر مكانه وأعله البخاري بأنه لا يعرف لزميل سماع من عروة ولا ليزيد سماع من عروة وأعله الترمذي بأن الزهري لم يسمع من عروة فقال روى هذا الحديث صالح بن أبي الأخضر ومحمد ابن أبي حفصة عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها
وروى مالك بن أنس ومعمر بن عبيد الله بن عمرو بن زياد بن سعد وغير واحد من الحفاظ عن الزهري عن عائشة رضي الله عنها ولم يذكروا فيه عروة وهذا أصح ثم أسند إلى ابن جريج قال سألت الزهري أحدثك عروة عن عائشة رضي الله عنها قال لم أسمع من عروة في هذا شيئا
ولكن سمعنا في خلافه سليمان بن عبد الملك من ناس عن بعض من سأل عائشة رضي الله عنها عن هذا الحديث اه
قلنا قول البخاري مبني على اشتراط العلم بذلك والمختار الاكتفاء بالعلم بالمعاصرة على ما مر غير مرة ولو سلم إعلاله وإعلال الترمذي فهو قاصر على هذا الطريق فإنما يلزم لو لم يكن له طريق آخر لكن قد رواه ابن حبان في صحيحه من غيرها عن جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن
____________________
(2/361)
عائشة قالت أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين الحديث ورواه ابن أبي شيبة من طريق آخر غيرهما عن خصيف عن سعيد بن جبير أن عائشة وحفصة الحديث
ورواه الطبراني في معجمه من حديث خصيف عن عكرمة عن ابن عباس أن عائشة وحفصة ورواه البزار من طريق غيرها عن حماد بن الوليد عن عبيد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن نافع عن ابن عمر قال أصبحت عائشة وحفصة رضي الله عنهما وحماد بن الوليد لين الحديث وأخرجه الطبراني من غير الكل في الوسط
حدثنا موسى بن هرون حدثنا محمد بن مهران الجمال قال ذكره محمد بن أبي سلمة المكي عن محمد بن عمرويه عن أم سلمة عن أبي هريرة قال أهديت لعائشة وحفصة رضي الله عنهما هدية وهما صائمتان فأكلتا منها فذكرتا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اقضيا يوما مكانه ولا تعودا فقد ثبت هذا الحديث ثبوتا لا مرد له لو كان كل طريق من هذه ضعيفا لتعددها وكثرة مجيئها وثبت في ضمن ذلك أن ذلك المجهول في قول الزهري فيما أسند الترمذي إليه عن بعض من سأل عائشة رضي الله عنها عن هذا الحديث ثقة أخبر بالواقع فكيف وبعض طرقه مما يحتج به
وحمله على أنه أمر ندب خروج عن مقتضاه بغير موجب بل هو محفوف بما يوجب مقتضاه ويؤكد وهو ما قدمناه من قوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } كلام المفسرين فيها على أن المراد لا تحبطوا الطاعات بالكبائر كقوله تعالى { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } إلى أن قال { أن تحبط أعمالكم } وكلام ابن عمر رضي الله عنه ظاهر في أن هذا قول الصحابة أو لا تبطلوها بمعصيتهما أي معصية الله ورسوله أو الإبطال بالرياء والسمعة وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وعنه بالشك والنفاق أو بالعجب والكل يفيد أن المراد بالإبطال إخراجها عن أن تترتب عليها فائدة أصلا كأنها لم توجد وهذا غير الإبطال الموجب للقضاء فلا تكون الآية باعتبار المراد دليلا على منع هذا الإبطال بل دليلا على منعه بدون قضاء فتكون دليل رواية المنتقى على ما قدمناه من أنها إباحة الفطر مع إيجاب القضاء ولهذا اخترناها لأن الآية لا تدل باعتبار المراد منها على سوى ذلك
والأحاديث المذكورة لا تفيد سوى إيجاب القضاء إلا ما كان من الزيادة التي في رواية الطبراني وهي قوله ولا تعودا وهي مع كونها منفردا بها لا تقوى قوة حديث مسلم المتقدم الاستدلال به للشافعي فبعد تسليم ثبوت الحجية يحمل على الندب وكذا حديث البخارى آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها ما شأنك قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال كل قال فإني صائم قال ما آكل حتى تأكل فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال له سلمان ثم فنام ثم ذهب يقوم فقال نم فلما كان من آخر الليل قال سلمان قم الآن قال فصليا فقال له سلمان إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال عليه الصلاة والسلام صدق سلمان وهذا مما استدل به القائلون بأن الضيافة عذر وكذا ما أسند الدارقطني إلى جابر قال صنع من أصحاب رسول الله صلى الله
____________________
(2/362)
عليه وسلم طعاما فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلما أتى بالطعام تنحى رجل منهم فقال عليه الصلاة والسلام مالك قال إني صائم فقال عليه الصلاة والسلام تكلف أخوك وصنع طعاما ثم تقول إني صائم كل وصم يوما ومكانه فإن كلا منهما يدل على عدم كون الفطر ممنوعا إذ لا يعهد للضيافة أثر في إسقاط الواجبات ولذا منع المحققون كونها عذرا كالكرخي وأبي بكر الرازي واستدلا بما روى عنه عليه الصلاة والسلام إذا دعى أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليأكل وإن كان صائما فليصل أي فليدع لهم والله أعلم بحال هذا الحديث
وقول بعضهم ثبت موقوف على إبداء ثبت ثم لا يقوى قوة حديث سلمان
والحاصل أن على رواية المنتقى تتظافر الأدلة ولا يعارض ما استدل به الشافعي رحمه الله ما يثبتها على ما لا يخفى وأما القياس فعلى الحج والعمرة النفلين حيث يجب قضاؤهما إذا أفسدا قوله وإذا بلغ الصبي الخ كل من تحقق بصفة أثناء النهار أو قارن ابتداء وجودها طلوع الفجر وتلك الصفة بحيث لو كانت قبله واستمرت معه وجب عليه الصوم فإنه يجب عليه الإمساك تشبها كالحائض والنفساء يطهران بعد الفجر أو معه والمجنون يفيق والمريض يبرأ والمسافر يقدم بعد الزوال أو قبله بعد الأكل أما إذا قدم قبل الزوال والأكل فيجب عليه الصوم لما في الكتاب وكذا لو كان نوى الفطر ولم يفطر حتى قدم في وقت النية وجب عليه نية الصوم والذي أفطر عمدا أو خطأ أو مكرها أو أكل يوم الشك ثم استبان أنه من رمضان أو أفطر على ظن غروب الشمس أو تسحر قبل الفجر وقبل الإمساك مستحب لا واجب لقول أبي حنيفة رحمه الله في الحائض تطهر نهارا لا يحسن أن تأكل وتشرب والناس صيام
والصحيح الوجوب لأن محمدا قال فليصم وقال في الحائض فلتدع
وقول الإمام لا يحسن تعليل للوجوب أي لا يحسن بل يقبح وقد صرح به في بعضها فقال في المسافر إذا أقام بعد الزوال إني أستقبح أن يأكل ويشرب والناس صيام وهو مقيم فبين مراده بعدم الاستحسان ولأنه الموافق للدليل وهو ما ثبت من أمره عليه الصلاة والسلام بالإمساك لمن أكل في يوم عاشوراء حين كان واجبا ولا يخفى على متأمل فوائد
____________________
(2/363)
قيود الضابط وقلنا كل من تحقق أو قارن ولم نقل من صار بصفة الخ ليشمل من أكل عمدا في نهار رمضان لأن الصيرورة للتحول ولو لامتناع ما يليه ولا يتحقق المفاد بهما فيه قوله لأن الصوم غير واجب فيه عليهما وقال زفر في الكافر إذا أسلم يجب عليه قضاء ذلك اليوم لأن إدراك جزء من الوقت بعد الأهلية موجب كما في الصلاة وينبغي أن يكون جوابه في الصبي إذا بلغ كذلك ونحن نفرق بأن السبب في الصلاة الجزء القائم عند الأهلية أي جزء كان فتحقق الموجب في حقهما وفي الصوم الجزء الأول ولم يصادفه أهلا
وعلى هذا فقولهم في الأصول الواجب المؤقت قد يكون الوقت فيه سببا للمؤدي وظرفا له كوقت الصلاة أو سببا ومعيارا وهو ما يقع فيه مقدرا به كوقت الصوم تساهل إذ يقتضي أن السبب تمام الوقت فيهما وقد بان خلافه ثم على ما بان من تحقيق المراد قد يقال يلزم أن لا يجب الإمساك في نفس الجزء الأول من اليوم لأنه هو السبب للوجوب وإلا لزم سبق الوجوب على السبب للزوم تقدم السبب فالإيجاب فيه يستدعي سببا سابقا والفرض خلافه ولو لم يستلزم ذلك لزم كون ما ذكروه في وقت الصلاة من أن السببية تضاف إلى الجزء الأول فإن لم يؤد عقيبه انتقلت إلى ما يلي ابتداء الشروع فإن لم يشرع إلى الجزء الأخير تقررت السببية فيه واعتبر حال المكلف عنده تكلفا مستغنى عنه إذ لا داعي لجعله ما يليه دون ما وقع فيه قوله على ما قالوا إشارة إلى الخلاف وأكثر
____________________
(2/364)
المشايخ على هذا الفرق وهو أن الصبي كان أهلا فتتوقف إمساكاته في حق الصوم في أول النهار على وجود النية في وقتها والكافر ليس أهلا أصلا فلا تتوقف فيقع فطرا فلا يعود صوما ومنهم من تمسك في التسوية بينهما بما في الجامع الصغير في الصبي يبلغ والكافر يسلم قال هما سواء فإنه يدل على صحة نية كل منهما للتطوع قوله وإذا نوى المسافر الإفطار أي في غير رمضان بدليل قوله وإن كان في رمضان ثم نية الإفطار ليس بشرط بل إذا قدم قبل الزوال والأكل وجب عليه صوم ذلك اليوم بنية ينشئها قوله ألا ترى الخ يعني أن المرخص السفر فلما لم يتحقق في أول اليوم كان الخطاب متوجها عليه بتعين الصوم فلا يجوز له الفطر فيه بحدوث إنشائه
وقد يشكل عليه ما صح عنه عليه الصلاة والسلام مما قدمنا أنه خرج من المدينة عام الفتح حتى إذا كان بكراع الغميم وهو صائم رفع إناء فشرب اللهم إلا أن يدفع بتجويز كون خروجه كان قبل الفجر وفيه بعد وأيضا قولهم ما لم يتحقق المرخص فالخطاب بالصوم عينا ممنوع لم لا يجوز أن يكون الخطاب بتعينه إن لم يحدث سفرا في أثناء اليوم فيجب الشروع قبله فإذا سافر في أثناء اليوم زال التعين لأنه كان بشرط عدمه وهذا البحث مذهب بعض الفقهاء حكاه بعض شارحي كتاب مسلم والجمهور على تعين صومه
واعلم أن إباحة الفطر للمسافر إذا لم ينو الصوم فإذا نواه ليلا وأصبح من غير أن ينقض عزيمته قبل الفجر أصبح صائما فلا يحل فطره في ذلك اليوم لكن لو أفطر فيه لا كفارة عليه لأن السبب المبيح من حيث الصورة وهو السفر قائم فأورث شبهة وبها تندفع الكفارة
ويشكل عليه حديث كراع الغميم بناء على أن الصحيح أن فطره عنده ليس في اليوم الذي خرج فيه من المدينة لأنه مسافة بعيدة لا يصل إليها في يوم واحد بل معنى قول الراوي حتى إذا كان بكراع الغميم وهو
____________________
(2/365)
صائم أنه كان صائما حين وصل إليه ولا شك أنه صوم يوم لم يكن في أوله مقيما غير أنه شرع في صوم الفرض وهو مسافر ثم أفطر وتبين بهذا اندفاع الإشكال عن تعين الصوم في اليوم الذي أنشأ فيه السفر وتقريره على تعين صوم اليوم الذي شرع في صومه عن الفرض وهو مسافر
والحاصل أنه إن كان بلوغه كراع الغميم في اليوم الذي خرج فيه أشكل على الأول وإن كان فيما بعد أشكل على ما بعده ولا مخلص إلا بتجويز كونه عليه الصلاة والسلام علم من نفسه بلوغ الجهد المبيح لفطر المقيم ونحوه ممن تعين عليه الصوم وخشى الهلاك والله أعلم قوله في المسألتين هما إذا أنشأ السفر بعد الصوم وإذا صام مسافرا ثم أقام قوله لأنه نوع مرض يضعف القوى ولا يزيل الحجا أي العقل ولهذا ابتلى به من هو معصوم من زوال العقل صلى الله عليه وسلم على ما قد أسلفناه في باب الإمامة من كتاب الصلاة قوله ومن جن رمضان كله قال الحلواني المراد فيما يمكنه إنشاء الصوم فيه حتى لو أفاق بعد الزوال من اليوم الأخير لا يلزمه القضاء لأن الصوم لا يصح فيه كالليل والذي يعطيه الوجه الآتي ذكره خلافه قوله فيكون عذرا في التأخير لا في الإسقاط رتبه بالفاء على كونه لا يزيل العقل بل يضعفه نتيجة له فحاصله لما كان غير مزيل لم يسقط فيتبادر منه أنه لو أزاله كان مسقطا وليس كذلك فإن الجنون مزيل له لا يسقط به من حيث هو مزيل له بل من حيث هو ملزم للحرج فكان الأولى في التعليل التعليل بعدم لزوم الحرج في إلزام قضاء الشهر بالإغماء فيه كله بخلاف جنون الشهر كله فإن ترتيب قضاء الشهر عليه موجب للحرج وهذا لأن امتداد الإغماء شهرا من النوادر لا يكاد يوجد وإلا كان ربما يموت فإنه لا يأكل ولا يشرب ولا حرج في ترتيب الحكم على ما هو من النوادر بخلاف الجنون فإن امتداده شهرا غالب فترتيب القضاء معه موجب للحرج وقد سلك المصنف مسلك التحقيق في تعليل عدم إلزام القضاء بجنون الشهر حيث قال ولنا أن المسقط هو الحرج
ثم قال والإغماء لا يستوعب الشهر عادة فلا حرج فأفاد تعليل وجوب قضاء الشهر إذا أغمى عليه فيه كله بعدم الحرج وهو في الحقيقة تعليل بعدم المانع لأن الحرج مانع لكن المراد أن انتفاء
____________________
(2/366)
الوجوب إنما يكون لمانع الحرج ولا حرج لندرة امتداد الإغماء شهرا وبسط مبني هذا أن الوجوب الذي يثبت جبرا بالسبب أعنى أصل الوجوب لا يسقط بعدم القدرة على استعمال العقل لعدمه او ضعفه بل ينظر فإن كان المقصود من متعلقه مجرد إيصال المال لجهة كالنفقة والدين ثبت الوجوب مع هذا العجز لأن هذا المقصود يحصل بفعل النائب فيطالب به وليه وإن كان من العبادات والمقصود منها نفس الفعل ليظهر مقصود الابتلاء من اختيار الطاعة أو المعصية فلا يخلو من كون هذا العجز الكائن بسبب عدم القدرة على استعمال العقل مما يلزمه الامتداد أو لا يمتد عادة أو قد وقد ففي الأول لا يثبت الوجوب كالصبا لأنه يستتبع فائدته وهي إما في الأداء وهو منتف إذ لا يتوجه عليه الخطاب بالأداء في حالة الصبا أو في القضاء وهو مستلزم للحرج البين فانتفي وفي الثاني لا يسقط الوجوب معه بل يثبت شرعا ليظهر أثره في الخلف وهو القضاء فيصل بذلك إلى مصلحته من غير حرج رحمة عليه كالنوم فلو نام تمام وقت الصلاة وجب قضاؤها شرعا فعلمنا أن الشرع اعتبر هذا العارض بسبب أنه لا يمتد غالبا عدما إذ لا حرج في ثبوت الوجوب معه ليظهر حكمه في الخلف ثم لو نام يومين أو ثلاثة أيام وجب القضاء أيضا لأنه نادر لا يكاد يتحقق فلا يوجب ذلك تغير الاعتبار الذي ثبت فيه شرعا أعنى اعتباره عدما إذ لا حرج في النوادر وفي الثالث أدرنا ثبوت الوجوب وعدمه على ثبوت الحرج إلحاقا له إذا ثبت بما يلزمه الامتداد وإذا لم يثبت بما لم يمتد عادة فقلنا في الإغماء يلحق في حق الصوم بما لا يمتد وهو النوم فلا
____________________
(2/367)
يسقط معه الوجوب إذا امتد تمام الشهر بل يثبت ليظهر حكمه في القضاء لعدم الحرج إذ لا حرج في النادر لأن النادر إنما يفرض فرضا وربما لم يتحقق قط وامتداد الإغماء شهرا كذلك
وفي حق الصلاة بما يمتد إذا زاد على يوم وليلة لثبوت الحرج بثبوت الكثرة بالدخول في حد التكرار فلا يقضي شيئا وبما لا يمتد وهو النوم إذا لم يزد عليها لعدم الحرج وقلنا في الجنون في حق الصلاة كذلك على ما قدمناه في باب صلاة المريض لاتحاد اللازم فيهما وفي حق الصوم إن استوعب الشهر ألحق بما يلزمه الامتداد لأن امتداد الجنون شهرا كثير غير نادر فلو ثبت الوجوب مع استيعابه لزم الحرج وإذا لم يستوعبه بما لا يمتد لأن صوم ما دون الشهر في سنة لا يوقع في الحرج وأيضا أنه يؤدي إلى عدم وجوب القضاء إذا كان الجنون في الغالب يستمر شهرا وأكثر
وهذا التقرير يوجب أن لا فرق بين الأصلي والعارضي وبين أن يفيق المجنون في وقت النية من آخر يوم أو بعده خلافا لما قاله الحلواني وإن اختاره بعضهم ثم نقل المصنف عن محمد أنه فرق بينهما على ما هو في الكتاب وقدمنا في الزكاة الخلاف في نقل هذا الخلاف فجعل هذا التفصيل قول أبي يوسف وقول محمد عدم التفصيل
وقيل الخلاف على عكسه وهو ما نقله المصنف ومنهم من أيد التفصيل بثبوت التفصيل شرعا في العدة بالأشهر والحيض بناء على أصلية امتداد الطهر وعارضيته فإن الطهر إذا متد امتدادا أصليا بأن بلغت الصغيرة بالسن ولم تردما فإنها تعتد بالأشهر بعد البلوغ ولو بلغت بالحيض ثم امتد طهرها اعتدت بالحيض فلا تخرج من العدة إلى أن تدخل سن الإياس فتعتد بالأشهر ولا يخفى على متأمل عدم لزومه فإن المدار فيما نحن فيه لزوم الحرج وعدمه وفي العدة المتبع النص وهو يوجب ذلك التفصيل والله سبحانه وتعالى أعلم قوله وفي الوجوب فائدة جواب عما قد يقال قولك الأهلية بالذمة ومرجع الذمة إلى الآدمية يستلزم ثبوت أصل الوجوب على الصبي فقال هو دائر مع الذمة لكن بشرط الفائدة لأنه يتلو الفائدة ولا فائدة في تحققه في حق الصبي لما ذكرنا من أنه عند العجز عن الأداء إتما يثبت ليظهر أثره في القضاء لتحصل مصلحة الفرض رحمة ومنة وإنما يكون ذلك فائدة إذا لم يستلزم إيجاب القضاء حرجا لأنه حينئذ فتح باب تحصيل المصلحة أما إذا استلزمه فهو معدوم الفائدة ظاهرا لأنه مقترن بطريق التفويب وهو الحرج وذلك باب العذاب لا الفائدة وإن كان قد ثبت له الأفراد من العباد فإن الفوائد الشرعية التي تستتبعها التكاليف إنما تراعي في حق العموم رحمة وفضلا لا بالنسبة إلى آحاد من الناس بخلاف ثبوته مع
____________________
(2/368)
الجنون لأنه يستتبع الفائدة أو نقول لا فائدة لأنها في القضاء ولا يجب القضاء للحرج فلو ثبت الوجوب لم يكن لفائدة قوله وتمامه في الخلافيات إذا حققت ما قدمناه آنفا تحققت تمامه قوله فعليه قضاؤه قيل لابد من التأويل لأن دلالة حال المسلم كافية في وجود النية ألا ترى أن من أغمى عليه في ليلة من رمضان يكون صائما يومها وإنما يقضي ما بعده بناء على أن الظاهر وجود النية منه فيها فلذا أول بأن يكون مريضا أو مسافرا أو متهتكا اعتاد الأكل في رمضان ومن حقق تركيب الكتاب وهو قوله ومن لم ينو في رمضان كله لا صوما ولا فطرا فعليه القضاء جزم بأن هذا التأويل تكلف مستغني عنه بخلاف من أغمى عليه فإن الإغماء قد يوجب نسيانه حال نفسه بعد الإفاقة فيبنى الأمر فيه على الظاهر من حاله وهو وجود النية إلا أن يكون متهتكا يعتاد الأكل فيفتي بلزوم صومه ذلك اليوم أيضا لأن حاله لا يصلح دليلا على قيام النية أما ههنا فإنما علق وجوب القضاء بنفس عدم النية ابتداء لا بأمر يوجب النسيان ولا شك أنه أدرى بحالته
نعم لو قال ومن شك أنه كان نوى أولا أمكن أن يجاب بهذه المسألة بالبناء على ظاهر حاله كما ذكرنا
____________________
(2/369)
قوله في حق الصحيح المقيم قيد بهما لأن المسافر والمريض لابد لهما من النية اتفاق لعدم التعين في حقهما قوله كما إذا وهب النصاب من الفقير أي على مذهبكم فهو إلزامي من زفر فإن إعطاء النصاب فقيرا واحدا عنده لا يقع به عن الزكاة
وثمرة الخلاف تظهر أيضا في لزوم الكفارة بالأكل فيه عند زفر تجب مطلقا وعند أبي حنيفة لا تجب مطلقا وعندهما التفصيل بين أن يأكل قبل الزوال فتجب أو بعده فلا وهي المسألة التي تلي هذه ومنهم من جعل محمدا مع أبي حنيفة قوله ولأبي حنيفة رحمه الله أن الكفارة تعلقت بالإفساد وهذا امتناع عنه لا إفساد لأنه يستدعي سابقة الشروع إلا أن
____________________
(2/370)
لأبي يوسف أن يقول الثابت في الشرع ترتيبها على الفطر في رمضان إذ اسم الفطر لا يستدعي سابقة الصوم يقال أفطرت اليوم وكان من عادتي صومه إذا أصبح غير ناو ثم أكل سلمناه لكن الإمساكات الكائنة في وقت النية من النهار ليس لها حكم الفطر كما أن ليس لها حكم الصوم فيتحقق الفطر بالأكل إذا ورد عليها إلا أن هذا يقتصر على ما إذا أكل قبل نصف النهار
والذي أظنه أن الملحوظ لكل من أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله واقعة الأعرابي المروية في الكفارة لما كانت في فطر بما في مشتهى حال قيام الصوم هل يفهم ثبوتها في فطر كذلك قبل الشروع ففهمه أبو يوسف رحمه الله وفهم أبو حنيفة عدمه إذ لا شك في أن جناية الإفطار حال قيام الصوم أقبح منها حال عدمه فإلزام الكفارة في صورة الجناية التي هي أغلظ لا يوجب فهم ثبوتها فيما هو دون ذلك خصوصا مع الاتفاق على عدم إلغاء كل ما زاد على كونه فطرا جناية في صورة الواقعة للاتفاق على عدم الكفارة مع قيام الفطر لعدم الجناية في ابتلاع الحصى ونحوه
وروى الحسن عن أبي حنيفة فيمن أصبح لا ينوي الصوم ثم نواه قبل الزوال ثم جامع في بقية يومه لا كفارة فيه وروى عن أبي يوسف أن عليه الكفارة
وجه النفي شبهة الخلاف في صحة الصوم بنية من النهار وفي المنتقى فيمن أصبح ينوي الفطر ثم عزم على الصوم ثم أكل عمدا لا كفارة فيه عند أبي حنيفة خلافا لأبي يوسف والكلام فيهما واحد قوله وعلى هذا الخلاف كل من صار أهلا تقدم الكلام في هذا والمقصود هنا ذكر الخلاف والمراد بالمخطئ من فسد صومه بفعله المقصود دون قصد الإفساد كمن تسحر على ظن عدم الفجر أو أكل يوم الشك ثم ظهر أنه الفجر ورمضان قوله لأنه وقت معظم وتعظيمه بعدم الأكل فيه إذا لم يكن المرخص قائما وأصل ذلك حديث عاشوراء على ما ذكرناه
____________________
(2/371)
قريبا فثبت به وجوب التشبه أصلا ابتداء لا خلفا عن الصوم قوله وهو يرى على البناء للمفعول من الرأي بمعنى الظن لا الرؤية بمعنى اليقين كقوله رأيت الله أكبر كل شيء أي علمته ولو صيغ منه للفاعل مرادا به الظن لم يمتنع في القياس لكنه لم يسمع بمعناه إلا مبنيا للمفعول قال ** وكنت أرى زيدا كما قيل سيدا ** إذا أنه عبد القفا واللهازم **
فأريت بمعنى أظننت أي دفع إلى الظن قوله لأن الجناية قاصرة ليس هنا جناية أصلا لأنه لم يقصد وقد صرحوا بعدم الإثم عليه اللهم إلا أن يراد أن عدم تثبته إلى ان يستيقن جناية فيكون المراد جناية عدم التثبت لا جناية الإفطار كما قالوا في القتل الخطأ لا إثم عليه فيه والمراد إثم القتل وصرح بأن فيه إثم ترك العزيمة والمبالغة في التثبت حال الرمي
قال المصنف في الجنايات شرع الكفارة يؤذن باعتبار هذا المعنى اللهم إلا أن يدفع بأن ترك التثبت إلى الاستيقان في القتل ليس كتركه إلى الاستيقان في الفطر وأيضا المعنى الموجب للقول بثبوته في القتل بترك التثبت إلى تلك الغاية شرع الكفارة وهذا الدليل مفقود هنا إذ لا كفارة ولولا هو لم نجسر على القول بذلك هناك
وحديث عمر رضي الله عنه رواه أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال أفطر عمر رضي الله عنه وأصحابه في يوم غيم ظنوا أن الشمس غابت قال فطلعت فقال عمر ما تعرضنا لجنف نتم هذا اليوم ثم نقضي يوما مكانه
وأخرجه ابن أبي شيبة من طرق أقربها إلى لفظ الكتاب ما عن علي بن حنظلة عن أبيه قال شهدت عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رمضان وقرب إليه شراب فشرب بعض القوم وهم يرون الشمس قد
____________________
(2/372)
غربت ثم ارتقى المؤذن فقال يا أمير المؤمنين والله إن الشمس طالعة لم تغرب فقال عمر رضي الله عنه من كان أفطر فليصم يوما مكانه ومن لم يكن أفطر فليتم حتى تغرب الشمس
وأعاده من طريق آخر وزاد فقال له بعثناك داعيا ولم بعثك راعيا وقد اجتهدنا وقضاء يوم يسير
وإنما قال له ذلك لأن خطابه له من أعلى المئذنة رافعا صوته ليس من الأدب بل كان حقه أن ينزل فيخبره متأدبا
وحديث تسحروا فإن في السحور بركة رواه الجماعة إلا أبا داود عن أنس قال قال رسول صلى الله عليه وسلم تسحروا فإن في السحور بركة قيل المراد بالبركة حصول التقوى به على صوم الغد بدليل ما روى عنه عليه الصلاة والسلام استعينوا بقائلة النهار على قيام الليل وبأكل السحر على صيام النهار
أو المراد زيادة الثواب لاستنانه بسنن المرسلين قال عليه الصلاة والسلام فرق ما بين صومنا وصوم أهل الكتاب أكلة السحر ولا منافاة فليكن المراد بالبركة كلا من
____________________
(2/373)
الأمرين والسحور ما يؤكل في السحر وهو السدس الأخير من الليل وقوله في النهاية هو على حذف مضاف تقديره في أكل السحور بركة بناء على ضبطه بضم السين جمع سحر فأما على فتحها وهو الأعرف في الرواية فهو اسم للمأكول في السحر كالوضوء بالفتح ما يتوطأ به
وقيل يتعين الضم لأن البركة ونيل الثواب إنما يحصل بالفعل لا بنفس المأكول
وحديث ثلاث من أخلاق المرسلين على الوجه الذي ذكره المصنف الله أعلم به
والذي في معجم الطبراني حدثنا جعفر بن محمد بن حرب العباداني حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن علي بن أبي العالية عن مورق العجلي عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث من أخلاق المرسلين تعجيل الإفطار وتأخير السحور ووضع اليمين على الشمال في الصلاة
ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه موقوفا وذكر أن الدارقطني في الإفراد رواه من حديث حذيفة مرفوعا بنحو حديث أبي الدرداء
ومما يدل على المطلوب مما في الصحيح حديث البخاري عن سهل بن سعد قال كنت أتسحر ثم يكون لي سرعة أن أدرك صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين عن زيد بن ثابت قال تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة قلت كم كان قدر ما بينهما قال قدر خمسين آية قوله إلا أنه إذا شك استثناء من قوله ثم التسحر مستحب وأخذ الظن في تفسير الشك بناء على استعمال لفظ الظن في الإدراك مطلقا قوله فصومه تام أي مالم يتيقن أنه أكل بعد الفجر فيقضي حينئذ قوله وعن أبي حنيفة الخ يفيد المغايرة بين هذه وبين تلك الرواية فإن استحباب الترك لا يستلزم ثبوت الإساءة إن لم يترك يستلزم كون ذلك مفضولا وفعل المفضول لا يستلزم الإساءة ثم استدل على هذه الرواية بقوله عليه الصلاة والسلام دع ما يريبك إلى ما لا يريبك رواه النسائي والترمذي وزاد فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة قال الترمذى حديث حسن صحيح
فنقول المروي لفظ الأمر فإن كان علي ظاهره كان مقتضاه الوجوب فيلزم بتركه الإثم لا الإساءة وإن صرف عنه صارف كان ندبا ولا إساءة بترك المندوب بل إن فعله نال ثوابه وإلا لم ينل شيئا فهو دائر بين كونه دليل الوجوب أو الندب فلا يصلح جعله دليلا على هذه إلا أن يراد إساءة معها إثم والله أعلم قوله فعليه قضاؤه ولا كفارة قوله وعلى ظاهر الرواية لا قضاء عليه اليقين لا يزال بالشك والليل أصل ثابت بيقين فلا ينتقل عنه إلا بيقين وصححه في الإيضاح
واعلم أن التحقيق هو أن التيقن
____________________
(2/374)
إنما هو دخول الليل في الوجود لا امتداده إلى وقت تحقق ظن طلوع الفجر لاستحالة تعارض اليقين مع الظن لأن العلم بمعنى اليقين لا يحتمل النقيض فضلا أن يثبت ظن النقيض فإذا فرض تحقق ظن طلوع الفجر في وقت فليس ذلك الوقت محل تعارض الظن به واليقين ببقاء الليل بل التحقيق أنه محل تعارض دليلين ظنيين في بقاء الليل وعدمه وهما الاستصحاب والأمارة التي بحيث توجب ظن عدمه لا تعارض طنين في ذلك أصلا إذ ذاك لا يمكن لأن الظن هو الطرف الراجح من الاعتقاد فإذا فرض تعلقه بأن الشيء كذا استحال تعلق آخر بأنه لا كذا من شخص واحد في وقت واحد إذ ليس له إلا طرف واحد راجح فإذا عرف هذا فالثابت تعارض ظنين في قيام الليل وعدمه فيتهاتران لأن موجب تعارضهما الشك لا ظن واحد فضلا عن ظنين وإذا تهاترا عمل بالأصل وهو الليل فحقق هذا وأجره في مواطن كثيرة كقولهم في شك الحدث بعد يقين الطهارة اليقين لا يزال بالشك ونحوه قوله لو أكل فعليه القضاء وفي الكفارة روايتان ومختار الفقيه أبي جعفر لزومها لأن الثابت حال غلبة ظن الغروب شبهة الإباحة لا حقيقتها ففي حال الشك دون ذلك وهو شبهة الشبهة وهي لا تسقط العقوبات هذا إذا لم يتبين الحال فإن ظهر أنه أكل قبل الغروب فعليه الكفارة لا أعلم فيه خلافا والله سبحانه وتعالى أعلم وهو الذي ذكره بقوله ولو كان شاكا إلى قوله ينبغي أن تجب الكفارة قوله فعليه القضاء رواية واحدة أي إذا لم يستبن شيء أو تبين أنه أكل قبل الغروب لأن النهار كان ثابتا بيقين وقد انضم إليه أكبر رأيه
وأورد لو شهد اثنان بأنها غربت واثنان بأن لا فأفطر ثم تبين عدم الغروب لا كفارة مع أن تعارضهما يوجب الشك
أجيب بمنع الشك فإن الشهادة بعدمه على النفي فبقيت الشهادة بالغروب بلا معارض فتوجب ظنه وفي النفس منه شيء يظهر بأدني تأمل قوله ومن أكل في رمضان ناسيا أو جامع ناسيا فظن أنه أفطر فأكل أو جامع عامدا لا كفارة عليه وعلى هذا لو أصبح مسافرا فنوى الإقامة فأكل لا كفارة عليه قوله وإن بلغه الحديث يعني قوله صلى الله عليه وسلم من نسى وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه وتقدم تخريجه ففيه روايتان عن أبي حنيفة في رواية لا تجب وصححه قاضيخان وفي رواية تجب وكذا عنهما ومرجع وجهيهما إلى أن انتفاء الشبهة لازم انتفاء الاشتباه أو لا فقولهما بناء على ثبوت اللزوم والمختار بناء على ثبوت الانفكاك لأن ثبوت الشبهة الحكمية بثبوت دليل الفطر وهو القياس القوي وهو ثابت لم ينتف حتى قال بعض الأئمة بالفطر وصرف قوله عليه الصلاة والسلام فليتم صومه إلى الصوم اللغوي وهو الإمساك
وقال
____________________
(2/375)
أبو حنيفة لولا بالنص لقلت يفطر
وصار كوطء الأب جارية ابنه لا يحد وإن علم بحرمتها عليه نظرا إلى قيام شبهة الملك الثابتة بقوله عليه الصلاة والسلام أنت ومالك لأبيك فإنها ثابتة بثبوت هذا الدليل وإن قام الدليل الراجح على تباين الملكين قوله لأن الظن ما استند إلى دليل شرعي يعني فيما إذا لم يبلغه الحديث لأن القياس لا يقتضي ثبوت الفطر مما خرج بخلاف ما لو ذرعه القئ فظن أنه أفطر فأكل عمدا فإنه كالأول لا كفارة عليه فإن القئ يوجب غالبا عود شيء إلى الحلق لتردده فيه فيستند ظن الفطر إلى دليل أما الحجامة فلا تطرق فيها إلى الدخول بعد الخروج فيكون تعمد أكله بعده موجبا للكفارة إلا إذا أفتاه مفت بالفساد كما هو قول الحنابلة وبعض أهل الحديث فأكل بعده لا كفارة لأن الحكم في حق العامي فتوى مفتيه وإن بلغه الحديث واعتمده على ظاهره غير عالم بتأويله وهو عامي فكذلك عند محمد أي لا كفارة عليه لأن قول المفتي يورث الشبهة المسقطة فقول
____________________
(2/376)
الرسول عليه الصلاة والسلام أولى وعن أبي يوسف لا يسقطها لأن على العامي الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة الأحاديث فإذا اعتمده كان تاركا للواجب عليه وترك الواجب لايقوم شبهة مسقطة لها وإن عرف تأويله ثم أكل تجب الكفارة لانتفاء الشبهة وقول الأوزاعي إنه يفطر لا يورث شبهة لمخالفته القياس مع فرض علم الآكل كون الحديث على غير ظاهره ثم تأويله أنهما كانا يغتابان أو أنه منسوخ
ولا بأس بسوق نبذة تتعلق بذلك
روى أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل يحتجم في رمضان فقال أفطر الحاجم والمحجوم ورواه الحاكم وابن حبان وصححاه ونقل في المستدرك عن الإمام أحمد أنه قال هو أصح ما روى في الباب
وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث شداد بن أوس أنه مر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الفتح على رجل يحتجم بالبقيع لثمان عشرة خلت من رمضان فقال أفطر الحاجم والمحجوم وصححوه
ونقل الترمذي في علله الكبرى عن البخاري أنه قال كلاهما عندي صحيح حديثي ثوبان وشداد وعن ابن المديني أنه قال حديث ثوبان وحديث شداد صحيحان ورواه الترمذي من حديث رافع بن خديج عنه عليه الصلاة والسلام قال أفطر الحاجم والمحجوم وصححه
قال وذكر عن أحمد أنه قال إنه أصح شيء في هذا الباب وله طرق كثيرة غير هذا وبلغ أحمد أن ابن معين ضعفه وقال إنه حديث مضطرب وليس فيه حديث يثبت فقال إن هذا مجازفة وقال إسحاق بن راهويه ثابت من خمسة أوجه
وقال بعض الحفاظ متواتر قال بعضهم ليس ما قاله ببعيد ومن أراد ذلك فلينظر في مسند أحمد ومعجم الطبراني والسنن الكبرى للنسائي
وأجاب القائلون بأن الحجامة لا تفطر بأمرين أحدهما ادعاء النسخ وذكروا فيه ما رواه البخاري في صحيحه من حديث عكرمة
____________________
(2/377)
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم ورواه الدارقطني عن ثابت عن أنس قال أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال أفطر هذان ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم ثم قال الدارقطني كلهم ثقات ولا أعلم له علة وما روى النسائي في سننه عن إسحاق بن راهوية حدثنا معتمر بن سليمان سمعت حميدا الطويل يحدثه عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في القبلة للصائم ورخص في الحجامة للصائم ثم أخرجه عن إسحاق بن يوسف الأزرق عن سفيان بسند الطبراني وسند الطبراني حدثنا محمود بن محمد الواسطي حدثنا يحيى بن داود الواسطي حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق عن سفيان عن خالد الحذاء عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري من قوله ولم يرفعه ولا يخفى أن كونه روى موقوفا لا يقدح في الرفع بعد ثقة رجاله
والحق في تعارض الوقف والرفع تقدم الرفع لأنه زيادة وهي من الثقة العدل مقبوله ثم دل حديث الدارقطني على أنه كان فعله عليه الصلاة والسلام المروي بعد النهي وإلا لزم تكرير النسخ إذ كان الحاصل الآن بحديث الدارقطني الإطلاق وعدمه أولى فيجب الحمل عليه ولفظ رخص أيضا ظاهر في تقدم المنع
بقي أن يقال الناسخ أدنى حاله أن يكون في قوة المنسوخ وليس هنا هذا أما حديث الدارقطني فهو وإن كان سنده يحتج به لكن أعله صاحب التنقيح بأنه لم يورده أحد من أصحاب السنن والمسانيد والصحيح ولم يوجد له أثر في كتاب من الكتب الأمهات كمسند أحمد ومعجم الطبراني ومصنف ابن أبي شيبة وغيرها مع شدة حاجتهم إليه فلو كان لأحد من الأئمة به رواية لذكرها في مصنفه فكان حديثا منكرا لكن ما روى الطبراني حدثنا محمود بن المروزي حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق حدثنا أبي حدثنا أبو حمزة السكري عن أبي سفيان عن أبي قلابة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم بعد ما قال أفطر الحاجم والمحجوم ولا معنى لقوله بعد ما قال الخ إلا إذا كان المراد احتجم وهو صائم وكذا في مسند أبي حنيفة عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن أنس بن مالك قال احتجم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما قال الحديث وهو صحيح وطلحة هذا احتج به مسلم وغيره وكذا ما تقدم من ظاهر حديث النسائي يدفع ما ذكره صاحب التنقيح ولا نسلم تواتر المنسوخ وكذا حديث البخاري عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم وحديث الترمذي من حديث الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه احتجم وهو صائم وهو صحيح فإن أعلا بإنكار أحمد أن يكون سوى احتجم وهو محرم وقال ليس فيه صائم
قال مهنأ قلت له من ذكره قال سفيان بن عيينة عن عمرو ابن دينار عن عطاء وطاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال احتجم عليه الصلاة والسلام وهو محرم
____________________
(2/378)
وكذلك رواه روح عن زكريا بن إسحاق عن عمرو عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنه مثله ورواه عبد الرزاق عن معتمر عن ابن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه مثله
قال أحمد فهؤلاء أصحاب ابن عباس لا يذكرون صائما فليس بلازم إذ قد رواه عن غير هؤلاء من أصحاب ابن عباس عكرمة ومقسم ويجوز كون ما وقع في تلك الطرق عن أولئك اقتصارا منهم على بعض الحديث يجب الحمل عليه لصحة ذكر صائم أو من ابن عباس رضي الله عنهما حين حدث به لكون غرضه إذ ذاك كان متعلقا بذلك فقط نفيا لتوهم كون الحجامة من محظورات الإحرام ولذا لم يكن ابن عباس رضي الله عنهما يرى الحجامة بأسا على ما سنذكره وقول شعبة لم يسمع الحكم من مقسم حديث الحجامة للصائم يمنعه المثبت
وأما رواية احتجم وهو محرم صائم وهي التي أخرجها ابن حبان وغيره عن ابن عباس فأضعف سندا وأظهر تأويلا إما بأنه لم يكن قط محرما إلا وهو مسافر والمسافر يباح له الإفطار بعد الشروع كما اعترف به الشافعي رحمه الله فيما قدمناه وهو جواب ابن خزيمة أو أن الحجامة كانت مع الغروب كما قال ابن حبان إنه روى من حديث أبي الزبير عن جابر أنه عليه الصلاة والسلام أمر أبا طيبة أن يأتيه مع غيبوبة الشمس فأمره أن يضع المحاجم مع إفطار الصائم فحجمه ثم سأله كم خراجك قال صاعان فوضع عنه صاعا اه
فلم ينهض شيء مما ذكر ناسخا لقوة ذلك
الثاني التأويل بأن المراد ذهاب ثواب الصوم بسبب أنهما كانا يغتابان ذكره البزار فإنه بعد ما روى حديث ثوبان أفطر الحاجم والمحجوم أسند إلى ثوبان أنه قال إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر الحاجم والمحجوم لأنهما كانا اغتابا
وروى العقيلي في ضعفائه حدثنا أحمد بن داود بن موسى بصري حدثنا معاوية بن عطاء حدثنا سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجلين يحجم أحدهما الآخر فاغتاب أحدهما ولم ينكر عليه الآخر فقال أفطر الحاجم والمحجوم قال عبد الله لا للحجامة ولكن للغيبة لكن أعل بالاضطراب فإن في بعضها إنما منع إبقاء على أصحابة خشية الضعف فالمعول عليه الأول فبهذا يحصل الجمع وإعمال كل من الأحاديث الصحيحة من احتجامه وترخيصه ومنعه ويدل على ذلك أن المروي عن جماعة من الصحابة الذين يبعد عدم اطلاعهم على حقيقة الحال من رسول صلى الله عليه وسلم لملازمتهم إياه وحفظ ما يصدر عنه منهم أبو هريرة رضي الله عنه فيما أخرجه النسائي عنه من طريق ابن المبارك أخبرنا معمر عن خلاد عن شقيق بن ثور عن أبيه عن أبي هريرة أنه قال يقال أفطر الحاجم والمحجوم وأما أنا فلو احتجمت ما باليت وما أخرج أيضا عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لم يكن يري بالحجامة بأسا وما قدمناه عن أنس رضي الله عنه أيضا أنه كان يحتجم وهو صائم والحق أنه يجب أحد الاعتبارين لا بعينه من النسخ في الواقع أو التأويل قوله والحديث مؤول بالإجماع بذهاب الثواب
____________________
(2/379)
فيصير كمن لم يصم وحكاية الإجماع بناء على عدم اعتبار خلاف الظاهرية في هذا فإنه حادث بعد ما مضى السلف على أن معناه ما قلنا ويريد بالحديث قوله عليه الصلاة والسلام ما صام من ظل يأكل لحوم الناس رواه ابن أبي شيبة وإسحاق في مسنده وزاد إذا اغتاب الرجل فقد أفطر وروى البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلين صليا صلاة الظهر والعصر وكانا صائمين فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال أعيدا وضوءكما وصلاتكما وامضيا في صومكما واقضيا يوما آخر
قالا لم يا رسول الله قال اغتبتما فلانا وفيه أحاديث أخر والكل مدخول ولو لمس أو قبل امرأة بشهوة أو ضاجعها ولم ينزل فظن أنه أفطر فأكل عمدا كان عليه الكفارة إلا إذا تأول حديثا أو استفتى فقيها فأفطر فلا كفارة عليه وإن أخطأ الفقيه ولم يثبت الحديث لأن ظاهر الفتوى والحديث يصير شبهة كذا في البدائع
وفيه لو دهن شاربه فظن أنه أفطر فأكل عمدا فعليه الكفارة وإن استفتى فقيها أو تأول حديثا لما قلنا يعني ما ذكره فيمن اغتاب فظن أنه أفطر فأكل عمدا من قوله فعليه الكفارة وإن استفتى فقيها أو تأول حديثا لأنه لا يعتد بفتوى الفقيه لا بتأويله الحديث هنا لأن هذا مما لا يشتبه على من له سمة من الفقه ولا يخفى على أحد أن ليس المراد من المروي الغيبة تفطر الصائم حقيقة الإفطار فلم يصر ذلك شبهة قوله أو المجنونة قيل كانت في الأصل المجبورة فصحفها الكتاب إلى المجنونة وعن الجوزجاني قلت لمحمد كيف تكون صائمة وهي مجنونة فقال لي دع هذا فإنه انتشر في الأفق
وعن عيسى بن أبان قلت لمحمد هذه المجنونة فقال لا بل المجبورة أي المكرهة قلت ألا نجعلها مجبورة فقال بلى ثم قال كيف وقد سارت بها الركاب دعوها فهذان يؤيدان كونه كان في الأصل المجبورة فصحف ثم لما انتشر في البلاد لم يفد التغيير والإصلاح في نسخة واحدة فتركها لإمكان توجيهها أيضا وهو بأن تكون عاقلة نوت الصوم فشرعت ثم جنت في باقي النهار فإن الجنون لا ينافي الصوم إنما ينافي شرطه أعنى النية وقد وجد في حال الإفاقة فلا يجب قضاء ذلك اليوم إذا أفاقت كمن أعمى عليه في رمضان لا يقضي اليوم الذي حدث فيه الإغماء وقضى ما بعده لعدم النية فيما بعده بخلاف اليوم الذي حدث فيه على ما تقدم فإذا جومعت هذه التي جنت صائمة تقضي ذلك اليوم لطرو المفسد على صوم صحيح والوجه من الجانبين ظاهر من الكتاب وقدمنا أول باب ما يوجب القضاء والكفارة في الفرق بين المكره والناسي ما يغني عن الإعادة هنا
____________________
(2/380)
فصل فيما يوجبه على نفسه
وجه تقديم بيان أحكام الواجب بإيجاب الله تعالى ابتداء على الواجب عند إيجاب العبد ظاهر قوله فهذا النذر صحيح رتبه بالفاء لأنه نتيجة قوله قضى أي لما لزم القضاء كان النذر صحيحا قوله لورود النهي عن صوم هذه الأيام وفي بعض النسخ عن صوم يوم النحر وهو الأنسب بوضع المسألة فإنه قال لله على صوم يوم النحر واسم الإشارة في النسخة الأخرى مشار به إلى معهود في الذهن بناء على شهرة الإيام المنهي عن صيامها وهي أيام التشريق والعيدين ويناسب النسخة الأولى الاستدلال بما روى في الصحيحين عن الخدري نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الأضحى وصيام يوم الفطر وفي لفظ لهما سمعته يقول لا يصح الصيام في يومين يوم الأضحى ويوم الفطر من رمضان ويناسب النسخة الأخرى الاستدلال بما
____________________
(2/381)
سيأتي من قوله عليه الصلاة والسلام ألا لا تصوموا في هذه الأيام الخ
والجواب أن الاتفاق على أن النهي المجرد عن الصوارف ليس موجبه بعد طلب الترك سوى كون مباشرة المنهي عنه معصية سببا للعقاب لا الفساد أما لغة فظاهر لظهور حدوث معنى الفساد وأما شرعا فكذلك بل لا يستلزمه في العبادات ولا المعاملات لتحقق موجبه في كثير منها أعنى المنع المنتهض سببا للعقاب مع الصحة كما في البيع وقت النداء والصلاة في الأرض المغصوبة ومع العبث الذي لا يصل إلى إفساد الصلاة وكثير
فعلم أن ثبوت الفساد ليس من مقتضاه بل إنما يثبت لأمر آخر هو كونه لأمر في ذاته فما لم يعقل فيه ذلك بل كان لأمر خارج عن نفس الفعل متصل به لا يوجب فيه الفساد وإلا لكان إيجابا بغير موجب فإنما يثبت حينئذ مجرد موجبه وهو التحريم أو كراهة التحريم بحسب حاله من الظنية وللقطعية
إذا عرف هذا فقد أنبتنا في المتنازع فيه تمام موجب النهي حتى قلنا إنه يصلح سببا للعقاب ولم يثبت الفساد لو فعل لعدم موجبه لعقلية أنه لأمر خارج فتكون المعصية لاعتباره لا لنفس الفعل أو لما في نفسه فيصح النذر أثرا لتصور الصحة ويجب أن لا يفعل المعصية فيظهر أثره في القضاء لأن الصحة بالانتهاض سببا للآثار الشرعية ومنها هذا وكم موضع يثبت فيه الوجوب ليظهر أثره في القضاء لا الأداء لحرمته كصوم رمضان في حق الحائض والنفساء والاستقراء يوجدك كثيرا من ذلك
فلم يخرج بذلك عن شيء من القواعد التحقيقية وغاية ما بقي بيان أن النهي فيه لأمر خارج ولا يكاد يخفى على ذي لب أن الصوم الذي هو منع النفس مشتهاها لا يعقل في نفسه سببا للمنع بل كونه في هذه الأيام يستلزم الإعراض عن ضيافة الله تعالى على ما ورد في الآثار أن المؤمنين أضياف الله تعالى في هذه الأيام
بقي أن يقال نذر بما هو معصية وهو
____________________
(2/382)
منفي شرعا فلا وجود له فلا ينعقد أما الأولى فظاهرة
وأما الثانية فلما في سنن الثلاثة عن عائشة رضي الله عنها عنه عليه الصلاة والسلام لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين قلنا المراد نفي جواز الإيفاء به نفسه لا نفي انعقاده لما صرح به في حديث النسائي عن عمران بن الحصين سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول النذر نذران فمن كان نذر في طاعة الله فذلك لله ففيه الوفاء ومن كان نذر في معصية الله فذلك للشيطان فلا وفاء ويكفره ما يكفر اليمين فإيجاب الكفارة في النص يفيد أنه انعقد ولم يلغ وأن المنفي الوفاء به بعينه فكذا في حديث عائشة رضي الله عنها فكان وزان قوله عليه الصلاة والسلام لا يمين في قطيعة رحم مع أنها تنعقد للكفارة غير أن الانعقاد فيما نحن فيه يكون لأمرين للقضاء فيما إذا كان جنس المنذور مما يخلو بعض أفراده عن المعصية كما نحن فيه فإن الصوم وهو الجنس كذلك فيجب الفطر والقضاء في يوم لا كراهة فيه وللكفارة إن كان لا يخلو شيء من أفراده عنها كالنذر بالزنا وبالسكر إذا قصد اليمين فينعقد للكفارة وهو محمل الحديث وإلا فيلغو ضرورة أنه لا فائدة في انعقاده ومقتضي الظاهر أن ينعقد مطلقا للكفارة إذا تعذر الفعل وعليه مشي المشايخ
قال الطحاوي رحمه الله لو أضاف النذر إلى سائر المعاصي كقوله لله علي أن أقتل فلانا كان يمينا ولزمته الكفارة بالحنث اه
وإنما لا يلزم اليمين بلفظ النذر إلا بالنية في نذر الطاعة كالحج والصلاة والصدقة على ما هو مقتضي الدليل فلا تجزي الكفارة عن الفعل وبه أفتى السعدي وهو الظاهر عن أبي حنيفة رضي الله عنه وعن أبي حنيفة أنه رجع عنه قبل موته بسبعة أيام وقال تجب فيه الكفارة قال السرخسي وهذا اختياري لكثرة البلوى به في هذا الزمان
قال وهو اختيار الصدر الشهيد في فتاواه الصغرى وبه يفتي
وعلى صحة النذر يصوم يوم النحر لكنه مخصوص بما ذكر لدليل عندهم يذكر في موضعه إن شاء الله تعالى
وعلى هذا فما ذكروا من أن شرط النذر كونه بما ليس بمعصية كون المعصية باعتبار نفسه حتى لا ينفك شيء من أفراد الجنس عنها وإذا صح النذر فلو فعل نفس المنذور عصى وانحل النذر كالحلف بالمعصية ينعقد للكفارة فلو فعل المعصية المحلوف عليها سقطت وأثم قوله ولهما أنه لا تنافي بين الجهتين الكائنتين لهذا اللفظ وهو لله على كذا جهة اليمين وجهة النذر لأنهما أي اليمين والنذر يقتضيان الوجوب أي وجوب ما تعلقا به لا فرق سوى أن النذر يقتضيه لعينه وهو وفاء المنذور لقوله تعالى { وليوفوا نذورهم } واليمين لغيره وهو صيانة اسمه تعالى
____________________
(2/383)
ولا تنافي لجواز كون الشيء واجبا لعينه ولغيره كما إذا حلف ليصلين ظهر هذا اليوم فجمعنا بينهما كما جمعنا بين جهتي التبرع والمعارضة في الهبة بشرط العوض حيث اعتبرت الأحكام الثلاثة لجهة التبرع والبطلان بالشيوع وعدم جواز تصرف المأذون فيها واشتراط التقابض والثلاثة لجهة المعاوضة الرد بخيار العيب والرؤية واستحقاق الشفعة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى
بقي أن يقال يلزم التنافي من جهة أخرى وهو أن الوجوب الذي يقتضيه اليمين وجوب يلزم بترك متعلقة الكفارة والوجوب الذي هو موجب النذر ليس يلزم بترك متعلقه ذلك وتنافي اللوازم أقل ما يقتضي التغاير فلا بد أن لا يرادا بلفظ واحد ونخبة ما قرر به كلام فخر الإسلام هنا أن تحريم المباح وهو معنى اليمين لازم لموجب صيغة النذر وهو إيجاب المباح فيثبت مدلولا التزاميا للصيغة من غير أن يراد هو بها ويستعمل فيه ولزوم الجمع بين الحقيقي والمجازي باللفظ الواحد إنما هو باستعمال اللفظ فيهما والاستعمال ليس بلازم في ثبوت المدلول الالتزامي وحينئذ فقد أزيد باللفظ الموجب فقط ويلازم الموجب الثابت دون استعمال فيه اليمين فلا جمع في الإرادة باللفظ إلا أن هذا يتراءى مغلطة إذ معنى ثبوت الالتزامي غير مراد ليس إلا خطوره عند فهم ملزومه الذي هو مدلول اللفظ محكوما بنفي إرادته للمتكلم والحكم بذلك ينافيه إرادة اليمين به لأن إرادة اليمين التي هي إرادة تحريم المباح هي إرادة المدلول الالتزامي على وجه أخص منه حال كونه مدلولا التزاميا فإنه أريد على وجه تلزم الكفارة بخلفه وعدم إرادة الأعم تنافيه إرادة الأخص أعنى تحريمه على ذلك الوجه فلم يخرج عن كونه أريد باللفظ معنى
نعم إنما يصح إذا فرض عدم قصد المتكلم عند التلفظ سوى النذر ثم بعد التلفظ عرض له إرادة ضم الآخر على فوره لكن الحكم وهو لزومهما لا يخص هذه الصورة فلذا والله أعلم عدل
صاحب البدائع عن هذه الطريقة فقال النذر مستفاد من الصيغة واليمين من الموجب قال فإن إيجاب المباح يمين كتحريمه الثابت بالنص يعني قوله تعالى { لم تحرم ما أحل الله لك } إلى أن قال { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } لما حرم عليه الصلاة والسلام على نفسه مارية رضي الله عنها أو العسل فأفاد أنه إنما أريد باللفظ موجبه وهو إيجاب المباح وأريد بنفس إيجاب المباح الذي هو نفس الموجب كونه يمينا قال ومع الاختلاف فيما أريد به لا جمع يعني حيث أريد باللفظ إيجاب المباح من غير زيادة وبالإيجاب نفسه كونه يمينا لا جمع في الإرادة باللفظ بخلاف ما تقدم فإنه متى أريد الالتزامي ليراد به اليمين لزم الجمع في الإرادة باللفظ إذ ليس معنى الجمع إلا أنه أريد عند إطلاق اللفظ ثم لا يخال أنه قياس لتعدية الاسم للمتأمل
وفيه أيضا نظر لأن إرادة الإيجاب على أنه يمين إرادته على وجه وهو أن يستعقب الكفارة بالخلف وإرادته من اللفظ نذرا إرادته بعينه على أن لا يستعقبها بل القضاء وذلك تناف فيلزم إذا أريد يمينا وثبت حكمها شرعا وهو لزوم الكفارة بالخلف أنه لم يصح نذرا إذ لا أثر لذلك فيه
قوله ولو قال لله علي صوم هذه السنة سواء أراده أو أراد أن يقول صوم يوم فجرى على لسانه سنة وكذلك إذ أراد أن يقول كلاما فجرى
____________________
(2/384)
على لسانه النذر لزمه لأن هذل النذر جد كالطلاق أفطر يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق وقضاها ولو كانت المرأة قالته قضت مع هذه الأيام أيام حيضها لأن تلك السنة قد تخلو عن الحيض فصح الإيجاب
ويمكن أن يجري فيه خلاف زفر فإنه منصوص عنه في قولها أن أصوم غدا فوافق حيضها لا تقضي
وعند أبي يوسف تقضيه لأنها لم تضفه نذرا إلى يوم حيضها بل إلى المحل غير أنه اتفق عروض المانع فلا يقدح في صحة الإيجاب حال صدوره فتقضي وكذا إذا نذرت صوم الغد وهي حائض بخلاف ما لو قالت يوم حيضي لا قضاء لعدم صحته لإضافته إلى غير محله فصار كالإضافة إلى الليل ثم عبارة الكتاب تفيد الوجوب لما عرف
وقوله في النهاية الأفضل فطرها حتى لو صامها خرج عن العهدة تساهل بل الفطر واجب لاستلزام صومها المعصية ولتعليل المصنف فيما تقدم الفطر بها فإن صامها أثم ولا قضاء عليه لأنه أداها كما التزمها ناقصة لكن قارن هذا الالتزام واجبا آخر وهو لزوم الفطر تركه فتحمل إثمه ثم
هذا إذا قال ذلك قبل يوم الفطر فإن قاله في شوال فليس عليه قضاء يوم الفطر وكذا لو قال لله علي صيام هذه السنة بعد أيام التشريق لا يلزمه قضاء يومي العيدين وأيام التشريق بل صيام ما بقي من هذه السنة ذكره في الغاية
وقال في شرح الكنز هذا سهو لأن قوله هذه السنة عبارة عن اثني عشر شهرا من وقت النذر إلى وقت النذر وهذه المدة لا تخلو عن هذه الأيام فيكون نذرا بها اه وهذا سهو بل المسألة كما هي في الغاية منقولة في الخلاصة وفي فتاوي قاضيخان في هذه السنة وهذا الشهر ولأن كل سنة عربية معينة عبارة عن مدة معينة لها مبدأ ومختم خاصان عند العرب مبدؤها المحرم وآخرها ذو الحجة فإذا قال هذه فإنما يفيد الإشارة إلى التي هو فيها فحقيقة كلامه أنه نذر بالمدة المستقبلة إلى آخر ذي الحجة والمدة الماضية التي مبدؤها المحرم الى وقت التكلم فيلغو في حق الماضي كما يلغو في قوله لله علي صوم أمس وهذا فرع يناسب هذا لو قال لله علي صوم أمس اليوم أو اليوم أمس لزم صوم اليوم ولو قال غدا هذا اليوم أو هذا اليوم غدا لزمه صوم أول الوقتين تفوه به ولو قال شهرا لزمه شهر كامل ولو قال الشهر وجبت بقية الشهر الذي هو فيه لأنه ذكر الشهر معينا فينصرف إلى المعهود بالحضور فإن نوى شهرا فهو على ما نوى لأنه محتمل كلامه ذكره في التجنيس وفيه تأييد لما في الغاية أيضا ولو قال صوم يومين في هذا اليوم ليس عليه إلا صوم يومه بخلاف عشر حجات في هذه السنة على ما سنبينه في الحج إن شاء الله تعالى قوله في هذا الفصل احتراز من الفصل الذي قبله وهو ما إذا عين السنة فإنه لا تجب موصولة لأن التتابع هناك غير منصوص عليه ولا ملتزم قصدا بل إنما يلزم ضرورة فعل صومها فإذا قطعها بإذن الشرع انتفى التتابع الضروري بخلاف التتابع هنا فإنه التزمه قصدا فإذا وجب القطع شرعا وجب توفيره بالقدر الممكن ولهذا إذا أفسد يوما من الواجب المتتابع قصدا كصوم الكفارات والمنذور متتابعا لزمه الاستقبال وفي المتتابع ضرورة كما إذا نذر صوم هذه السنة أو رجب لا يلزمه سوى ما أفسده غير أنه يأثم بذلك الإفساد كما إذا أفسد يوما من رمضان وهو واجب التتابع ضرورة لا يلزمه قضاء غيره مع المأثم ولا يجب عليه قضاء شهر
____________________
(2/385)
رمضان في الفصلين أي هذه السنة أو سنة متتابعة لأن هذه السنة والسنة المتتابعة لاتخلو عنه فإيجابها إيجابه وغيره فيصح في غيره ويبطل فيه لوجوبه بإيجاب الله تعالى ابتداء قوله وهو قوله صلى الله عليه وسلم روى الطبراني بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل أيام مني صائحا يصيح أن لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وبعال أي وقاع
ورواه الدارقطني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث هذيل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى ألا إن الذكاة في الحلق واللبة ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق وأيام مني أيام أكل وشرب وبعال وفي مسنده سعيد بن سلام كذبه أحمد
وأخرج أيضا عن عبد الله بن حذاقة السهمي قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلة أيام مني أنادي أيها الناس إنها أيام أكل وشرب وبعال وضعفه بالواقدي وفي الواقدي ما قدمناه أول الكتاب في مباحث المياه
وأخرج بن أبي شيبة في الحج وإسحاق بن راهويه في مسنده قالا حدثنا وكيع عن موسى بن عبيدة عن منذر بن جهم عن عمر بن خلدة عن أمه قالت بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ينادي أيام منى أيام أكل وشرب وبعال وفي صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام قال أيام التشريق أيام أكل وشرب وبعال زاد في طريق آخر وذكر الله تعالى قوله ولو لم يشترط التتابع أي في غير المعينة بأن قال لله على صوم سنة فعليه صوم سنة بالأهلة ولم يجزه صوم هذه الأيام لأن المنكرة اسم لاثني عشر شهرا لا يقيد كون رمضان وشوال وذي الحجة منها فلم يكن النذر بها تدرا بها فيجب عليه أن يقضي خمسة وثلاثين يوما ثلاثين لرمضان ويومي العيد وأيام التشريق وهل يجب وصلها بما مضى قيل نعم
قال المصنف رحمه الله في التجنيس هذا غلط بل ينبغي أن يجزيه ولو قال شهرا لزمه كاملا أو رجب لزمه هو بهلاله ولو قال جمعة إن أراد أيامها لزمه سبعة أيام أو يومها لزمه يوم الجمعة فقط وإن لم يكن له نية تلزمه سبعة أيام لأنها تذكر لكل من الأمرين وفي الأيام السبعة أغلب في الاستعمال فينصرف المطلق إليه
وفي كل موضع عين كما قدمنا ولو قال كل يوم خميس أواثنين فلم يصمه وجب عليه قضاؤه فإن نوى اليمين فقط وجب عليه الكفارة أو اليمين والنذر وجب عليه القضاء والكفارة في إفطار الخميس الأول أو الاثنين وما أفطر منهما بعد ففيه القضاء ليس غير لانحلال اليمين بالحنث الأول وبقاء النذر على الخلاف ولو أخر القضاء حتى صار شيخا فانيا أو كان نذر بصيام الأبد فعجز لذلك أو باشتغاله بالمعيشة لكون صناعته شاقه له أن يفطر ويطعم لكل يوم مسكينا على ما تقدم وإذا لم يقدر على ذلك لعسرته يستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم الغني الكريم ولو لم يقدر لشدة الزمان كالحر له أن يفطر وينتظر الشتاء فيقضي هذا
ويصح تعليق النذر كأن يقولت إذا جاء زيد أو شفي فعلي صوم شهر فلو صام شهرا عن ذلك قبل الشرط لا يجوز عنه ولو أضافه إلى وقت جاز تقديمه على ذلك الوقت لأن
____________________
(2/386)
المعلق لا ينعقد سببا في الحال بل عند الشرط فالصوم قبله صوم قبل السبب فلا يجوز والمضاف ينعقد في الحال فالصوم قبل الوقت صوم بعد السبب فيجوز ومنه أن يقول لله علي صوم رجب فصام قبله عنه خرج عن عهدة نذره وأصل هذا ما قدمناه في أول الصوم أن التعجيل بعد السبب جائز أصله الزكاة خلافا لمحمد وزفر رحمهما الله غير أن زفر لم يجزه فيما إذا كان الزمان المعجل فيه أقل فضيلة من المنذور ومحمدا رحمه الله للتعجيل وعندنا يجوز ذلك بناء على أن لزوم المنذور بما هو قربة فقط وجواز التعجيل بعد السبب بدليل الزكاة فابتني على هذا إلغاء 4 تعيين الزمان والمكان للتصدق والمتصدق عليه فلو نذر أن يصوم رجبا فصام عنه قبله شهر أحط فضيلة منه جاز خلافا لهما وكذا إذا نذر صلاة فى زمان فضيل فصلاها قبله في أحط منه جاز أو نذر ركعتين بمكة فصلاهما في غيرها جاز أو أن يتصدق بهذا الدرهم غدا على فلان الفقير فتصدق بغيره في اليوم على غيره أجزأه خلافا لزفر في الكل ولو قال لله علي صوم اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم فلان بعد ما أكل أو بعد ما حاضت لا يجب عليه شيء عند محمد وعند أبي يوسف يلزمه القضاء ولو قدم بعد الزوال لا يلزمه شيء عند محمد ولا رواية فيه عن غيره
ولو قال لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان شكرا لله تعالى وأراد به اليمين فقدم فلان في يوم من رمضان كان عليه كفارة يمين ولا قضاء عليه لأنه لم يوجد شرط البرد وهو الصوم بالنية الشكر ولوقدم قبل أن ينوي فنوى به الشكر لا عن رمضان برد النية وأجزأه عن رمضان ولا قضاء عليه وإذا نذر المريض صوم شهر فمات قبل الصحة لا شيء عليه وإن صح يوما تقدمت هذه المسألة وتحقيقها ومن نذر صوم هذا اليوم أو يوم كذا شهرا أو سنة لزمه ما تكرر منه في الشهر والسنة ولو نذر صوم الاثنين والخميس فصام ذلك مرة كفاه إلا أن ينوي الأبد ولو قال لله علي صوم يومين متتابعين من أول الشهر وآخره لزمه صيام الخامس عشر والسادس عشر وكل صوم أوجبه ونص على تفريقه فصامه متتابعا خرج عن عهدته وعلى القلب لا يجزيه ولو قال بضعة عشر يوما فهو على ثلاثة عشر أو دهرا فعلى ستة أشهر أو الدهر فعلى العمر ولو قال لله علي صوم مثل شهر رمضان إن أراد مثله في الوجوب له أن يفرق أو في التتابع فعليه أن يتابع وإن لم تكن له نية فله أن يفرق
رجل قال لله علي صوم عشرة أيام متتابعات فصام خمسة عشر يوما وقد أفطر يوما ولا يدري أي يوم هو قضى خمسة أيام ووجهه ظاهر بتأمل يسير قوله من أصبح يوم النحر الخ المقصود أن الشروع في صوم يوم من الأيام المنهية كيومي العيدين والتشريق ليس موجبا للقضاء بالإفساد بخلاف ندرها فإنه يوجبه في غيرها وبخلاف الصلاة في الأوقات المكروهة فإن إفسادها
____________________
(2/387)
موجب للقضاء في وقت غير مكروه هذا ظاهر الرواية
وعن أبي يوسف ومحمد أن الشروع في صوم هذه الأيام كالشروع في الصلاة في الأوقات المكروهة
وعن أبي حنيفة رحمه الله أن الشروع في الأوقات المكروهة ليس موجبا للقضاء كالشروع في صوم هذه الأيام
وجه الظاهر وهو التفصيل أن وجوب القضاء ينبني على وجوب الإتمام فإذا فوته وجب جبره بالقضاء ووجوب الإتمام بالشروع في الصوم في هذه الأيام منتف بل المطلوب بمجرد الشروع قطعه لأنه بمجرده مرتكب للنهي لصدق اسم الصوم الشرعي والصيام على مجرد الإمساك بنية
ولذا حنث به في يمينه لا يصوم وإن لم يحنث به في يمينه لا يصوم صوما ولا يصير بمجرد التلفظ بلفظ النذر ولا بمجرد الشروع في الصلاة مرتكبا للنهي حتى يتوجه عليه طلب القطع لأن المنهى الصلاة والصلاة عبارة عن مجموع أركان معلومة فما لم يفعلها لا تتحقق لأن وجود الشيء بوجود جميع حقيقته فإذا قطعها فقد قطع ما لم يطلب منه بعد قطعه فيكون مبطلا للعمل قبل الأمر بالإبطال فيلزم به القضاء إلا أن هذا يقتضي أنه لو قطع بعد السجدة لا يجب قضاؤها والجواب مطلق في الوجوب
____________________
(2/388)
& باب الاعتكاف
قال القدوري الاعتكاف مستحب قال المصنف والصحيح أنه سنة مؤكدة والحق خلاف كل من الطريقين بل الحق أن يقال الاعتكاف ينقسم إلى واجب وهو المنذور تنجيزا أو تعليقا وإلى سنة مؤكدة وهو اعتكاف العشر الأواخر من رمضان وإلى مستحب وهو ما سواهما
ودليل السنة حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ثم اعتكف أزواجه بعده فهذه المواظبة المقرونة بعدم الترك مرة لما اقترنت بعدم الإنكار على من لم يفعله من الصحابة كانت دليل السنية وإلا كانت تكون دليل الوجوب
أو نقول اللفظ وإن دل على عدم الترك ظاهرا لكن وجدنا صريحا ما يدل على الترك وهو ما في الصحيحين وغيرهما كان عليه الصلاة والسلام يعتكف في كل رمضان فإذا صلى الغداة جاء إلى مكانه الذي اعتكف فيه فاستأذنته عائشة رضي الله عنها أن تعتكف فأذن لها فضربت فيه قبة فسمعت بها حفصة فضربت فيه قبة أخرى فسمعت زينب فضربت فيه قبة أخرى فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغداة أبصر أربع قباب فقال ما هذا فأخبر خبرهن فقال ما حملهن على هذا البر انزعوها فلا أراها فنزعت فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر العشر من شوال وفي رواية فأمر بخبائه فقوض وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف العشر الأول من شوال هذا
وأما اعتكاف العشر الأوسط فقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام اعتكفه فلما فرغ أتاه جبريل عليه السلام فقال إن الذي تطلب أمامك يعني ليلة القدر فاعتكف العشر الآخر وعن هذا ذهب الأكثر إلى أنها في العشر الآخر من رمضان فمنهم من قال في ليلة إحدى وعشرين ومنهم من قال في ليلة سبع وعشرين وقيل غير ذلك
وورد في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال التمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر وعن أبي حنيفة أنها في رمضان فلا يدري أية ليلة هي وقد تقدم وقد تتأخر وعندهما كذلك إلا
____________________
(2/389)
أنها معينة لا تتقدم ولا تتأخر هكذا النقل عنهم في المنظومة والشروح
وفي فتاوي قاضيخان قال وفي المشهور عنه أنها تدور في السنة تكون في رمضان وتكون في غيره فجعل ذلك رواية وثمرة الاختلاف تظهر فيمن قال أنت حر أو أنت طالق ليلة القدر فإن قال قبل دخول رمضان عتق وطلقت إذا انسلخ وإن قال بعد ليلة منه فصاعدا لم يعتق حتى ينسلخ رمضان العام القابل عنده وعندهما إذا جاء مثل تلك الليلة من رمضان الآتي وليس ذكر هذه المسألة لازما من التقرير وإنما ذكرناها لأنها مما أغفلها المصنف رحمه الله ولا ينبغي إغفالها من مثل هذا الكتاب لشهرتها فأوردناها على وجه الاختصار تتميما لأمر الكتاب
وفيها أقوال أخر قيل هي أول ليلة من رمضان
وقال الحسن رحمه الله ليلة سبعة عشر وقيل تسعة عشر وعن زيد بن ثابت ليلة أربع وعشرين
وقال عكرمة ليلة خمس وعشرين
وأجاب أبو حنيفة رحمه الله عن الأدلة المفيدة لكونها في العشر الأواخر بأن المراد في ذلك الرمضان الذي كان عليه الصلاة والسلام التمسها فيه والسياقات تدل عليه لمن تأمل طرق الأحاديث وألفاظها كقوله إن الذي تطلب أمامك وإنما كان يطلب ليلة القدر من تلك السنة وغير ذلك مما يطلع عليه الاستقراء
ومن علاماتها أنها بلجة ساكنة لا حارة ولا قارة تطلع الشمس صبيحتها بلا شعاع كأنها طست كذا قالوا وإنما أخفيت ليجتهد في طلبها فينال بذلك أجر المجتهدين في العبادة كما أخفى الله سبحانه الساعة ليكونوا على وجل من قيامها بغتة والله سبحانه وتعالى أعلم قوله وهو اللبث في المسجد مع الصوم ونية الاعتكاف هذا مفهومه عندنا وفيه معنى اللغة إذ هو لغة مطلق الإقامة في أي مكان على أي غرض كان قال تعالى { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } ثم بين أن ركنه اللبث بشرط الصوم والنية وكذا المسجد من الشروط أي كونه فيه وهذا التعريف على رواية اشتراط الصوم له مطلقا لا على اشتراطه للواجب منه فقط مع أن ظاهر الرواية نه ليس شرطا للنفل منه وعلى هذا أيضا إطلاق قوله والصوم من شرطه عندنا خلافا للشافعي إنما هو على تلك الرواية وهي رواية الحسن وليس هو على ما ينبغي لأنه إذا ادعى انتهاض دليله على الشافعي لزمه ترجيح هذه على ظاهر الرواية وليس كذلك قوله ولنا قوله عليه الصلاة والسلام الخ روى الدارقطني والبيهقي عن سويد ابن عبد العزيز عن سفيان بن الحسين عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا اعتكاف إلا بصوم قال البيهقي هذا وهم من سفيان بن حسين أو من سويد وضعف
____________________
(2/390)
سويدا لكن قال في الإكمال قال علي بن حجر سألت هشيما عنه فأثنى عليه خيرا فقد اختلف فيه
وأخرج أبو داود عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع قال أبو داود غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه قالت السنة
وعبد الرحمن بن إسحاق وإن تكلم فيه بعضهم فقد أخرج له مسلم ووثقه ابن معين وأثنى عليه غيره
وأخرج أبو داود والنسائي عن عبد الله بن بديل عن عمرو بن دينار عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال اعتكف وصم وفي لفظ للنسائي فأمره أن يعتكف ويصوم قال الدارقطني تفرد به عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي عن عمرو وهو ضعيف الحديث والثقات من أصحاب عمرو لم يذكروا الصوم منهم ابن جريج وابن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وغيرهم والحديث في الصحيحين ليس فيه ذكر الصوم بل إني نذرت في الجاهلية أن اعتكف في المسجد الحرام ليلة فقال عليه الصلاة والسلام أوف بنذرك وفيهما أيضا عن عمر رضي الله عنه أنه جعل على نفسه أن يعتكف يوما فقال أوف بنذرك والجمع بينهما أن المراد الليلة مع يومها أو اليوم مع ليلته وغاية ما فيه أنه سكت عن ذكر الصوم في هذه الرواية وقد رويت برواية الثقة وتأيدت بمؤيد فيجب قبولها فالثقة ابن بديل قال فيه ابن معين صالح وذكره ابن حبان في الثقات والمؤيد ما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها الصحيح السند فإن رفعه زيادة ثقة
وما أخرج البيهقي عن أسيد عن عاصم حدثنا الحسين بن حفص عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أنهما قالا المعتكف يصوم فقول ابن عمر رضي الله عنه بلزومه مع أنه راوي واقعة أبيه يقوى ظن صحة تلك الزيادة في حديث أبيه وما رواه الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه وصححه لم يتم له ذلك ففيه عبد الله بن محمد الرملي وهو مجهول ومع جهالته لم يرفعه غيره بل يقفونه على ابن عباس رضي الله عنهما ويؤيد الوقف ما ذكره البيهقي بعد ذكره تفرد الرملي حيث قال وقد
____________________
(2/391)
رواه أبو بكر الحميدي عن عبد العزيز بن محمد بن أبي سهيل بن مالك قال اجتمعت أنا وابن شهاب عند عمر بن عبد العزيز وكان على امرأته اعتكاف نذر في المسجد الحرام فقال ابن شهاب لا يكون اعتكاف إلا بصوم فقال عمر بن عبد العزيز أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا قال فمن أبي بكر قال لا قال فمن عمر قال لا قال أبو سهيل فانصرفت فوجدت طاوسا وعطاء فسألتهما عن ذلك فقال طاوس كان ابن عباس رضي الله عنهما لا يرى على المعتكف صياما إلا أن يجعله على نفسه وقال عطاء ذلك رأي صحيح اه
فلو كان ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه لم يقصره طاوس عليه إذ لم يكن يخف عليه خصوصا في مثل هذه القصة وقول عطاء بحضوره ذلك رأي صحيح فعن ذلك اعترف البيهقي بأن رفعه وهم ثم لم يسلم الموقوف عن المعارض إذ قد ذكرنا رواية البيهقي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا المعتكف يصوم فتعارض عن عباس
وقال عبد الرزاق أخبرنا الثوري عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال من اعتكف فعليه الصوم
ودفع المعارضة عنه بأن يجعل مرجع الضمير في قوله إلا أن يجعله الاعتكاف فيكون دليل اشتراط الصوم في الاعتكاف المنذور دون النفل ويخص حديث عبد الرزاق عنه به وكذا حديث عمر إنما هو دليل على اشتراطه في المنذور والمعمم لاشتراطه حديث عائشة المتقدم المرفوع وما أخرج عبد الرزاق عنها موقوفا قالت من اعتكف فعليه الصوم
وأخرج أيضا عن الزهري وعروة قالا لا اعتكاف إلا بالصوم وفي موطأ مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد ونافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما قالا لا اعتكاف إلا بالصوم لقوله تعالى { ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } فذكر الله تعالى الاعتكاف مع الصيام
قال يحيى قال مالك والأمر على ذلك عندنا أنه لا اعتكاف إلا بصيام وكذا حديث عائشة المتقدم أولا من رواية سويد فهذه كلها تؤيد إطلاق الاشتراط وهو رواية الحسن وفي رواية الأصل وهو قول محمد أقل الاعتكاف النفل ساعة فيكون من غير صوم وجعل رواية عدم اشتراطه في النفل ظاهرا لرواية جماعة ولا يحضرني متمسك لذلك في السنة سوى حديث القباب المتقدم أول الباب في الرواية القائلة حتى اعتكف العشر الأول من شوال فإنه ظاهر في اعتكاف يوم الفطر ولا صوم فيه
وفرعوا على هذه الرواية أنه إذا شرع ساعة ثم تركه لا يكون إبطالا للاعتكاف بل إنهاء له فلا يلزمه القضاء وعلى رواية الحسن يلزمه وحقق بعضهم أن لزوم القضاء على رواية الحسن إنما هو للزوم القضاء في شرطه الصوم لا أن يكون الاعتكاف التطوع لازما في نفسه وأنه يجوز ليلا فقط وعلى تلك الرواية لا يجوز إلا أن يكون الليل تبعا للنهار فيجوز حينئذ
واعلم أن المنقول من مستند إثبات هذه الرواية الظاهرة هو قوله في الأصل إذا دخل المسجد بنية الاعتكاف فهومعتكف ما أقام تارك له إذا خرج وفيه نظر إذ لا يمتنع عند العقل القول بصحته ساعة مع اشتراط الصوم له وإن كان الصوم لا يكون أقل من يوم
وحاصله أن من أراد أن يعتكف فليصم سواء كان يريد اعتكاف يوم أو دونه ولا مانع من اعتبار شرط يكون أطول من مشروطه ومن ادعاه فهو بلا دليل فهذا الاستنباط غير صحيح بلا موجب إذ الإعتكاف لم يقدر شرعا بكمية لا يصح دونها كالصوم بل كل جزء منه لا يفتقر في كونه عبادة إلى
____________________
(2/392)
الجزء الآخر ولم يستلزم تقدير شرطه تقديره لما قلنا
وقول من حقق الوجه إنما ذلك للزوم القضاء في شرطه بعيد عن التحقيق بحسب ظاهره فإن إفساد الاعتكاف لا يستلزم إفساد الصوم ليلزم قضاؤه لجواز كونه بما لا يفسد الصوم كالخروج من المسجد وغاية ما يصحح بأن يراد أنه لما فسد وجب قضاؤه فيجب لذلك استئناف صوم آخر ضرورة اشتراط الصوم له وهذا لا يقتضي أن لزوم القضاء للزومه في الصوم بل بالعكس فلا يلزم القضاء إلا في منذور أفسده قبل إتمامه ومقتضى النظر أنه لو شرع في المسنون أعنى العشر الأواخر بنيته ثم أفسده أن يجب قضاؤه تخريجا على قول أبي يوسف في الشروع في نفل الصلاة ناويا أربعا لا على قولهما
ومن التفريعات أنه لو أصبح صائما متطوعا أو غير ناو للصوم ثم قال لله علي أن أعتكف هذا اليوم لا يصح وإن كان في وقت يصح منه نية الصوم لعدم استيعاب النهار وعند أبي يوسف رحمه الله أقله أكثر النهار فإن كان قاله قبل نصف النهار لزمه فإن لم يعتكفه قضاه وهذا أوجه فيجب التعويل عليه والمصير إليه لما ذكرنا بقليل تأمل قوله وفي رواية الأصل الخ ذكر وجهه من المعنى وذكرنا آنفا وجهه من السنة وحمل صاحب التنقيح إياه على أنه اعتكف من ثاني الفطر دعوى بلا دليل وما تمسك به من أنه جاء مصرحا في حديث فلما أفطر اعتكف عليه لا له لأن مدخول لما ملزوم لما بعده فاقتضى أنه حين أفطر اعتكف بلا تراخ قوله لقول حذيفة رضي الله عنه الخ أسند الطبراني عن إبراهيم النخعي أن حذيفة قال لابن مسعود ألا تعجب من قوم بين دارك ودار أبي موسى يزعمون أنهم عكوف قال فلعلهم أصابوا وأخطأت أو حفظوا وأنسيت قال أما أنا فقد علمت أنه لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة
وأخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إن أبغض الأمر إلى الله تعالى البدع وإن من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور
وروى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما أخبرنا سفيان الثوري أخبرني جابر عن سعيد بن عبيد عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة
وتقدم مرفوعا في رواية عائشة رضي الله عنها قوله وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجوز إلا في مسجد يصلي فيه
____________________
(2/393)
الصلوات الخمس قيل أراد به غيرالجامع أما الجامع فيجوز وإن لم يصل فيه الخمس وعن أبي يوسف أن أن الإعتكاف الواجب لا يجوز في غير مسجد الجماعة والنفل يجوز
وروى الحسن عن ابن أبي حنيفة أن كل مسجد له إمام ومؤذن معلوم وتصلى فيه الخمس بالجماعة وصححه بعض المشايخ قال لقوله عليه الصلاة والسلام لا اعتكاف إلا في مسجد له أذان وأقامة ومعنى هذا ما رواه في المعارضة لابن الجوزى عن حذيفة أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كل مسجد له إمام ومؤذن فالإعتكاف فيه يصح ثم أفضل الإعتكاف في المسجد الحرام ثم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثم مسجد الأقصى ثم الجامع قيل إذا كان يصلي فيه الخمس بجماعة فإن لم يكن ففي مسجده أفضل لئلا يحتاج إلى الخروج ثم كل ما كان أهله أكثر قوله أما المرأة فتعتكف في مسجد بيتها أي الأفضل ذلك ولو إعتكفت في الجامع أو في مسجد حيها هو أفضل من الجامع في حقها جاز وهو مكروه ذكر الكراهة قاضيخان
ولا يجوز أن تخرج من بيتها ولا إلى نفس البيت من مسجد بيتها إذا إعتكفت واجبا أو نفلا على رواية الحسن ولا تعتكف إلا بإذن زوجها فإن لم يأذن كان له أن يأتيها وإذا أذن لم يكن له أن يأذتيها أولا يمنعها وفي الأمة يملك ذلك بعد الإذن مع الكراهة المؤثمة قال محمد أساء وأثم قوله فلحديث عائشة رضى الله عنها روى الستة في كتبهم عن عائشة رضى الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا إعتكف يدنى إلى رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان وتقدم في حديث عائشة رضى الله عنها أيضا قوله الإعتكاف في كل مسجد مشروع هذا على وجه الإلزام على عمومه فإن الشافعي يجيزه في كل مسجد
وأما على رأينا فلا إذ لا يجوز إلا في مسجد يصلى فيه الخمس بجماعة
____________________
(2/394)
أو دونها إذا كان جامعا فلا يكون التمسك على العموم بقوله تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } كما فعله الشارحون صحيحا على المذهب
والحاصل أن الاعتكاف في غير الجامع جائز في الجملة بالاتفاق أو إلزامها بالدليل فإذا صح فبعد ذلك الضرورة مطلقة للخروج مع بقاء الاعتكاف وهي هنا متحققة نظرا إلى الأمر بالجمعة قوله ويصلي قبلها أربعا ينبغي جعل هذه الجملة عطفا على إدراكها من باب صافات ويقبضن وفالق الإصباح وجعل الليل سكنا بمعنى قابضات وجاعل فينحل إلى أن يخرج في وقت بحيث يمكنه إدراكها وصلاة أربع أو ست قبلها يحكم في ذلك رأيه وهذا يستلزم أن يجتهد في خروجه على إدراك السماع للخطبة لأن السنة إنما تصلي قبل خروج الخطيب قوله والركعتان تحية المسجد صرحوا بأنه إذا شرع في الفريضة حين دخل المسجد اجزأه عن تحية المسجد لأن التحية تحصل بذلك فلا حاجة إلى غيرها في تحققها وكذا السنة فهذه الرواية وهي رواية الحسن إما ضعيفة أو مبنية على أن كون الوقت مما يسع فيه السنة وأداء الفرض بعد قطع المسافة مما يعرف تخمينا لا قطعا فقد يدخل قبل الزوال لعدم مطابقة ظنه ولا يمكنه أن يبدأ بالسنة فيبدأ بالتحية فينبغي أن يتحرى على هذا التقدير لأنه قلما يصدق الحزر قوله وبعدها أربعا أو ستا على حسب الاختلاف منهم من جعل قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن السنة بعدها أربع وقولهما ست ومنهم من اقتصر في الست على أنه قول أبي يوسف رحمه الله وقدمنا الوجه في باب صلاة الجمعة للفريقين قوله وسننها توابع لها يعني فتتحقق الحاجة لها كما تحققت لنفس الجمعة فلا يكون بصلاتها في الجامع مخالفا لما هو الأولى وهو أن لا يقعد في الجامع إلا قدر الحاجة التي جوزت خروجه وإلا فلو استمر هو فيه بغير حاجة لم يبطل اعتكافه لأن خروجه كان لمجوز فلم يبطله ومقامه بعد الحاجة في محل الاعتكاف فلا يبطل إلا أن الأولى أن يتم في مكان الشروع لأن إتمام هذه العبادة في محل الشروع وهي عبادة تطول أحمز على النفس منه في محال مختلفة فإن في هذا ترويحا لها من كد التقيد بالعبادة في مكان واحد ولأن الظاهر أنه إذا شرع في عبادة في مكان تقيد به حتى يتمها فيكون كالإخلاف بعد الالتزام قوله ولو خرج من المسجد ساعة من ليل أو نهار وتقييده في الكتاب الفساد بما إذا كان الخروج
____________________
(2/395)
بغير عذر يفيد أنه إذا كان لعذر لا يفسد وعليه مشى بعضهم فيما إذا خرج لانهدام المسجد إلى مسجد آخر أو أخرجه سلطان أو خاف على متاعه فخرج وحكم بالفساد إذا خرج لجنازة وإن تعينت عليه أو لنفير عام أو لأداء شهادة والذي في فتوى قاضيخان والخلاصة أن الخروج عامدا أو ناسيا أو مكرها بأن أخرجه السلطان أو الغريم أو خرج لبول فحبسه الغريم ساعة أو خرج لعذر المرض فسد اعتكافه عند أبي حنيفة رحمه الله وعلل قاضيخان في الخروج للمرض بأنه لا يغلب وقوعه فلم يصر مستثنى عن الإيجاب فأفاد هذا التعليل الفساد في الكل وعن هذا فسد فسد إذا عاد مريضا أو شهد جنازة وتقدم في حديث عائشة النهي عنه مطلقا فأفاد أنه لو تعين عليه صلاة الجنازة أيضا يفسد إلا أنه لا يأثم به كالخروج للمرض بل يجب عليه الخروج كما في الجمعة إلا أنه يفسد لأنه لم يصر مستثنى حيث لم يغلب وقوع تعين صلاة الجنازة على واحد معتكف بخلاف الجمعة فإنه معلوم وقوعها فكانت مستثناة وعلى هذا إذا خرج لإنقاذ غريق أو حريق أو جهاد عم نفيره يفسد ولا يأثم وهذا المعنى يفيد أيضا أنه إذا انهدم المسجد فخرج إلى آخر يفسد لأنه ليس غالب الوقوع ونص على فساده بذلك قاضيخان وغيره وتفرق أهله وانقطاع الجماعة منه مثل ذلك
ونص الحاكم أبو الفضل فقال في الكافي وأما في قول أبي حنيفة فاعتكافه فاسد إذا خرج ساعة لغير غائط أو بول أو جمعة فالظاهر أن العذر الذي لا يغلب مسقط للإثم لا للبطلان وإلا لكان النسيان أولى بعدم الإفساد لأنه عذر ثبت شرعا اعتبار الصحة معه في بعض الأحكام ولا بأس أن يخرج رأسه من المسجد إلى بعض أهله ليغسله أو يرجله كما تقدم من فعله عليه الصلاة والسلام وإن غسله في المسجد في إناء بحيث لا يلوث المسجد لا بأس به وصعود المئذنة إن كان بابها من خارج المسجد لا يفسد في ظاهر الرواية وقال بعضهم هذا في حق المؤذن لأن خروجه للأذان معلوم فيكون مستثنى أما غيره فيفسد اعتكافه وصحح قاضيخان أنه قول الكل في حق الكل ولا شك أن ذلك القول أقيس بمذهب الإمام
وفي شرح الصوم للفقيه أبي الليث المعتكف يخرج لأداء الشهادة وتأويله أنه إذا لم يكن شاهد آخر فينوي حقه
ولو أحرم المعتكف بحج لزمه إذ لا ينافيه ولا يجوز له الخروج إلا إذا خاف فوت الحج فيخرج حينئذ ويستقبل الاعتكاف ولو احتلم لا يفسد اعتكافه فإن أمكنه أن يغتسل في المسجد من غير تلويث فعل وإلا خرج فاغتسل ثم يعود قوله وهو الاستحسان يقتضي ترجيحه لأنه ليس من المواضع المعدودة التي رجح فيها القياس على الاستحسان ثم هو من قبيل الاستحسان بالضرورة كما ذكره المصنف واستنباط من عدم أمره إذا خرج إلى الغائط أن يسرع المشي بل يمشي على التؤدة وبقدر البطء تتخلل السكنات بين الحركات على ما عرف في فن الطبيعة وبذلك يثبت قدر من الخروج في غير محل الحاجة فعلم أن القليل عفو فجعلنا الفاصل بينه وبين الكثير أقل من أكثر اليوم أو الليلة لأن مقابل الأكثر يكون قليلا بالنسبة إليه وأنا لا أشك أن من خرج من المسجد إلى السوق للعب واللهو أو القمار من بعد الفجر إلى ما قبل نصف النهار كما هو قولهما ثم قال يا رسول الله أنا معتكف قال ما أبعدك عن العاكفين ولا يتم مبنى هذا الاستحسان فإن الضرورة التي يناط
____________________
(2/396)
بها التخفيف هي الضرورة اللازمة أو الغالبة الوقوع ومجرد عروض ما هو ملجئ ليس بذلك ألا يرى أن من عرض له في الصلاة مدافعة الأخبثين على وجه عجز عن دفعه حتى يخرج منه لا يقال ببقاء صلاته كما يحكم به مع السلس مع تحقق الضرورة والإلجاء وسمى ذلك معذورا دون هذا مع أنهما يجيزانه لغير ضرورة أصلا إذ المسألة هي أن خروجه أقل من نصف يوم لا يفسد مطلقا سواء كان لحاجة أو لا بل للعب
وأما عدم المطالبة بالإسراع فليس لإطلاق الخروج اليسير بل لأن الله تعالى يحب الأناة والرفق في كل شيء حتى طلبه في المشي إلى الصلاة وإن كان ذلك يفوت بعضها معه بالجماعة وكره الإسراع ونهي عنه وإن كان محصلا لها كلها في الجماعة تحصيلا لفضيلة الخشوع إذ هو يذهب بالسرعة والعاكف أحوج إليها في عموم أحواله لأنه سلم نفسه لله تعالى متقيدا بمقام العبودية من الذكر والصلاة والانتظار للصلاة فهو في حال المشي المطلق له داخل في العبادة التي هي الانتظار والمنتظر للصلاة في الصلاة حكما فكان محتاجا إلى تحصيل الخشوع في حال الخروج فكانت تلك السكنات كذلك وهي معدودة من نفس الاعتكاف لا من الخروج ولو سلم أن القليل غير مفسد لم يلزم تقديره بما هو قليل بالنسبة إلى مقابله من بقية تمام يوم أو ليلة بل بما يعد كثيرا في نظر العقلاء الذين فهموا معنى العكوف وأن الخروج ينافيه قوله لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له مأوى إلا المسجد أي لحاجته الأصلية من الأكل ونحوه أما إذا باع أو اشترى لغير ذلك كالتجارة أو استكثار الأمتعة فلا يجوز لأن إباحته في المسجد للضرورة فلا يجاوز مواضعها قوله لأن المسجد محرر عن حقوق العباد فإنه أخلص لله سبحانه وفي إحضار السلعة شغله بها من غير ضرورة قوله لقوله صلى الله عليه وسلم جنبوا مساجدكم صبيانكم روى ابن ماجه في سننه عن مكحول عن واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع اه
قال الترمذي في كتابه بعد روايته حديث لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك عن مكحول عن واثلة هذا حديث حسن وقد سمع محكول من واثلة وأنس وأبي هند الداري
____________________
(2/397)
ذكره في الزهد ورواه عبد الرزاق حدثنا محمد بن مسلم عن عبد ربه بن عبد الله عن مكحول عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره
وروى أصحاب السنن الأربعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد وأن ينشد فيه ضالة أو ينشد فيه شعر ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة قال الترمذي حديث حسن والنسائي رواه في اليوم والليلة بتمامه وفي السنن اختصره لم يذكر فيه البيع والشراء
وروى الترمذي في كتابه والنسائي في اليوم والليلة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من رأيتموه يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا ربح الله تجارتك ومن رأيتموه ينشد ضالة في المسجد فقولوا لا رد الله عليك قال الترمذي حديث حسن غريب ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه
وروى ابن ماجه في سننه عنه عليه الصلاة والسلام خصال لا تنبغي في المسجد لا يتخذ طريقا ولا يشهر فيه سلاح ولا ينبض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل ولا يمر فيه بلحم نئ ولا يضرب فيه حد ولا يتخذ سوقا وأعل يزيد بن جبيرة
وقد قدمنا للمسجد أحكاما في كتاب الصلاة تنظر هناك قوله ويكره له الصمت أي الصمت بالكلية تعبدا به فإنه ليس في شريعتنا وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل رواه أبو داود
وأسند أبو حنيفة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم الوصال وعن صوم الصمت ويلازم التلاوة والحديث والعلم وتدريسه وسير النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأخبار
____________________
(2/398)
الصالحين وكتابة أمور الدين قوله لأنه أي كلا منهما من دواعيه فمرجع ضمير دواعيه الوطء وضمير محظوره الاعتكاف وحاصل الوجه الحكم باستلزام حرمة الشيء ابتداء في العبادة حرمة دواعيه وبعدم استلزامها حرمة الدواعي إذا كانت حرمته ثابته ضمن ثبوت الأمر للتفاوت بين التحريم الضمني لصد مأمور به والقصدي
ولا شك أن ثبوت ماله الدواعي عند ثبوتها مع قيام الحاجز الشرعي عنه ليس قطعيا ولا غالبا غير أنها طريق في الجملة فحرمت للتحريم القصدي لما هي دواعيه لا الضمني إذ هو غير مقصود بل المقصود ليس إلا تحصيل المأمور به فكان ذلك غير ملحوظ في الطلب إلا لغيره فلا تتعدى الحرمة إلى دواعيه إذا عرف هذا فحرمة
____________________
(2/399)
الوطء في الاعتكاف قصدى إذ هو ثابت بالنهى المفيد للحرمة ابتداء لنفسه وهو قوله تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } ومثله في الإحرام والاستبراء قال تعالى { فلا رفث } الآية
وقال عليه الصلاة والسلام لا تنكح الحبالى حتى يضعن ولا الحيالى حتى يستبرأن يحيضة فتتعدى إلى الدواعي فيها وحرمة الوطء في الصوم والحيض ضمنى للأمر الطالب للصوم وهو قوله تعالى { ثم أتموا الصيام إلى الليل } { فاعتزلوا النساء في المحيض } فإن مقتضاه وجوب الكف فحرمة الوطء تثبت ضمنا بخلاف الأول فإن حرمة الفعل وهو الوطء هي الثابتة أولا بالصيغة ثم يثبت وجوب الكف عنه ضمنا فلذا يثبت سمعا حل الدواعي في الصوم والحيض على مامر في بابيهما قوله ولو لم ينزل لا يفسد وإن كان محرما لأنه ليس في معنى الجماع وهو المفسد أورد لم لم يفسد وإن لم ينزل بظاهر قوله تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون } أجيب بأن مجازها وهو الجماع مراد فتبطل إرادة الحقيقة لامتناع الجمع وهو مشكل لانكشاف أن الجماع من ما صدقات المباشرة لأنه مباشرة خاصة فيكون بالنسبة إلى القبلة والجماع فيما دون الفرج والمس باليد والجماع متواطئا أو مشككا فأيها أريد به كان حقيقة كما هو كل اسم لمعنى كلي غير أنه لا يراد به فردان من مفهومه في إطلاق واحد في سياق الإثبات وما نحن فيه سياق النهي وهو يفيد العموم فيفيد تحريم كل فرد من أفراد المباشرة جماع أو غيره
هذا وإذا فسد الاعتكاف الواجب وجب قضاؤه إلا إذا فسد بالردة خاصة فإن كان اعتكاف شهر بعينه يقضي قدر ما فسد ليس غير ولا يلزمه الاستقبال كالصوم المنذور به في شهر بعينه إذا أفطر يوما يقضي ذلك اليوم ولا يلزمه الإستئناف أصله صوم رمضان وإن كان اعتكاف شهر بغير عينه يلزمه الاستقبال لأنه لزمه متتابعا فيراعي فيه صفة التتابع وسواء أفسده بصنعه من غير عذر كالخروج والجماع والأكل إلا الردة أو لعذر كما إذا مرض فاحتاج إلى الخروج أو بغير صنعه كالحيض والجنون والإغماء الطويل وأما الردة فلقوله تعالى { إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } وقوله عليه الصلاة والسلام الإسلام يجب ما قبله كذا في البدائع قوله ومن أوجب على نفسه اعتكاف أيام
____________________
(2/400)
بأن قال بلسانه عشرة أيام مثلا لزمه اعتكافها بلياليها وكانت متتابعة ولا يكفي مجرد نية القلب وكذا لو قال شهرا ولم ينوه بعينه لزمه متتابعا ليله ونهاره يفتتحه متى شاء بالعدد لا هلاليا والشهر المعين هلالي وإن فرق استقبل
وقال زفر إن شاء فرقه وإن شاء تابعه
والحاصل أن عشرة أيام وشهرا يلحق بالإجارات والأيمان في لزوم التتابع ودخول الليالي فيما إذا استأجره أو حلف لا يكلمه عشرة أيام وبالصوم في عدم لزوم الاتصال بالوقت الذي نذر فيه والمعين لذلك عرف الاستعمال يقال ما رأيتك منذ عشرة أيام وفي التاريخ كتب لثلاث بقين والمراد بلياليها فيهما وقال تعالى { آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } وقال في موضع آخر { ثلاثة أيام } والقصة واحدة وتدخل الليلة الأولى فيدخل قبل الغروب ويخرج بعد الغروب من آخر الأيام التي عدها وإنما يراد بياض النهار باليوم إذا قرن بفعل يمتد وذكر اليوم بلفظ الفرد فلهذا إذا نذر اعتكاف يوم لم يدخل الليل بخلاف الأيام ولو نذر اعتكاف ليلة لا يلزمه شيء لعدم الصوم
وعن أبي يوسف تلزمه بيومها ولو نوى بالليلة اليوم لزمه وعلى المرأة أن تصل قضاء أيام حيضها بالشهر فيما إذا نذرت اعتكاف شهر فحاضت فيه ولا ينقطع التتابع به وعن لزوم التتابع قالوا لو أغمى على المعتكف أو أصابه عته أو لمم استقبل إذا برأ لانقطاع التتابع حتى لو كان في آخر يوم وفي الصوم لا يقضي اليوم الذي حدث فيه الإغماء ويقضي ما بعده فأفادوا أن الإغماء إنما ينافي شرط الصوم وهو النية
والظاهر وجودها في اليوم الذي حدث فيه الإغماء فلا يقضيه والذي يظهر من الفرق أن يقال هو عبادة انتظار الصلاة والانتظار ينقطع بالإغماء في الصلوات التي تجب بعد الإغماء بخلاف الإمساك المسبوق بالنية الذي هو معنى الصوم قوله لأنه نوى حقيقة كلامه لأن حقيقة اليوم بياض النهار وهذا بخلاف ما لو أوجب على نفسه اعتكاف شهر بغير عينه فنوى الأيام دون الليالي أو قلبه لا يصح لأن
____________________
(2/401)
الشهر اسم لعدد ثلاثين يوما وليلة وليس باسم عام كالعشرة على مجموع الآحاد فلا ينطلق على ما دون ذلك العدد أصلا كما لا تنطلق العشرة على خمسة مثلا حقيقة ولا مجازا أما لو قال شهرا بالنهر دون الليالي لزمه كما قال وهو ظاهر أو استثنى فقال شهرا إلا الليالي لأن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنية فكأنه قال ثلاثين نهارا ولو استثنى لأيام لا يجب عليه شيء لأن الباقي الليالي المجردة ولا يصح فيها لمنافاتها شرطه وهو الصوم قوله وقال أبو يوسف في النهاية كان من حقه أن يقول وعن أبي يوسف لا تدخل الليلة الأولى كما هو المذكور في نسخ شروح المبسوط والجامع الكبير لما أن هذه الرواية غير ظاهرة عنه والدليل على هذا ما ذكره في الكتاب في حجتهما بقوله وجه الظاهر قوله لأن المثنى غير الجمع فكان لفظه ولفظ المفرد سواء ثم في لفظ المفرد بأن قال يوما لا تدخل الليلة الأولى بالاتفاق فكذا التثنية إلا أن المتوسطة تدخل لضرورة الاتصال وهذه الضرورة منتفية في الليلة الأولى قوله أن في المثني معنى الجمع ولذا قال عليه الصلاة والسلام الاثنان فما فوقهما جماعة ولو قال ليلتين صح نذره إذا لم ينو الليلتين خاصة بل نوى اليومين معهما ثم خص المصنف الرواية عن أبي يوسف في المثنى وعنه في الجمع مثل المثنى والوجه الذي ذكره لا ينتهض على رواية عدم إدخال الليلة الأولى في الجمع أيضا
فروع لو ارتد عقيب نذر الاعتكاف ثم أسلم لم يلزمه موجب النذر لأن نفس النذر بالقربة قربة فيبطل بالردة كسائر القرب ونذر اعتكاف رمضان لازم فإن أطلقه فعليه في أي رمضان شاء وإن عينه لزمه فيه بعينه فلو صامه ولم يعتكف لزمه قضاؤه متتابعا بصوم مقصود للنذر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف
وعن أبي يوسف أنه تعذر قضاؤه فلا يقضي وهو قول زفر ولا يجوز أن يعتكف عنه في رمضان آخر باتفاق الثلاثة ولو لم يصم ولم يعتكف جاز أن يقضي الاعتكاف في صوم القضاء والمسألة معروفة في الأصول وكل معين نذر اعتكافه كرجب ويوم الأثنين مثلا فمضى ولم يعتكف فيه لزمه
____________________
(2/402)
قضاؤه فلو أخر يوما حتى مرض وجب الإيصاء بإطعام مسكين عن كل يوم للصوم لا للبث نصف صاع من بر أو صاع من غيره ولو كان مريضا وقت الإيجاب ولم يبرأ حتى مات فلا شيء عليه ولو صح يوما ينبغي أن يجري فيه الخلاف السابق في الصوم والنذر باعتكاف أيام العيدين والتشريق ينعقد ويجب في بدلها لأن شرطه الصوم وهو فيها ممتنع فلو اعتكفها صائما أثم ولا يلزمه شيء آخر
ومن نذر اعتكاف شهر بعينه كرجب تعجل اعتكاف شهر قبله عنه يجوز من غير ذكر خلاف في غير موضع
وفي فتاوي قاضيخان قال يجوز عند أبي يوسف خلافا لمحمد رحمه الله
وعلى هذا الخلاف إذا نذر أن يحج سنة كذا فحج سنة قبلها وكذا النذر بالصلاة في يوم الجمعة إذا صلاها قبلها
وفي الخلاصة قال لله على أن أصوم غدا أو أصلي غدا فصام اليوم أو صلى جاز عندهما خلافا لمحمد رحمه الله فجعل أبا حنيفة مع أبي يوسف
وأجمعوا أنه إذا نذر أن يتصدق بدرهم يوم الجمعة فتصدق يوم الخميس عنه أجزأه وكذا لو قال لله علي أن أصلي ركعتين في مسجد المدينة المنورة فصلاهما في مسجد آخر جاز بلا فرق بين المضاف إلى الزمان والمضاف إلى المكان
وقال زفر إن كان هذا المكان دون ذلك المكان لم يجز اه
وعن أبي يوسف في غير رواية الأصول مثل ما عن زفر والخلاف في التعجيل مشكل ولعل ترك الخلاف أنسب للاتفاق على جواز التعجيل بعد السبب وكل منذور فإنما سبب وجوبه النذر ولا تعتكف المرأة والعبد إلا بإذن السيد والزوج فإن منعها بعد الإذن صح منعه في حق العبد ويكون مسيئا في فتاوي قاضيخان وفي الخلاصة يكون آثما ولا يصح في حق الزوجة فلا يحل له وطؤها ولو نذر المملوك اعتكافا لزمه وللمولى منعه منه فإذا عتق يقضيه وكذا إذا نذرت الزوجة صح وللزوج منعها فإن بانت قضت وليس للمولى منع المكاتب ويصح الاعتكاف من الصبي العاقل كغيره من العبادات ولا يبطل الاعتكاف سباب ولا جدال ولا سكر في الليل ويفسد الاعتكاف الردة والإغماء إذا دام أياما وكذا الجنون كما تقدم ذكره قريبا فإن تطاول الجنون سنين ثم أفاق هل يجب عليه أن يقضي في القياس لا كما في صوم رمضان وفي الاستحسان يقضي لأن سقوط القضاء في صوم رمضان إنما كان لدفع الحرج لأن الجنون إذا طال قلما يزول فيتكرر عليه صوم رمضان فيحرج في قضائه وهذا المعنى لا يتحقق في الاعتكاف والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
____________________
(2/403)
= كتاب الحج
أخره عن الصوم لأنه عبادة قهر النفس إذ ليس حقيقته سوى منع شهواتها ومحبوباتها التي هي أعظمها عندها كالأكل والشرب والجماع بخلاف غيره من الصلاة والحج وغيرهما فإن حقيقتها أفعال هي غير ذلك ثم قد تحرم تلك الشهوات فيها كالصلاة وقد لا إلا في البعض كالحج وشتان ما بين المقامين
وأيضا فالحج يشتمل على السفر وقد يكون السفر مشتهاها لما فيه من ترويحها وتفريج الهموم اللازمة في المقام وأيضا فالحج وجوبه مرة في العمر بخلاف ما تقدم من الأركان كالصلاة والزكاة والصوم فكانت الحاجة إليها أمس ووجه أخر للأمسية وهو أن شروط لزوم الحج أكثر من غيره وبكثرة شروط الشيء تكثر معانداته وعلى قدر معاندات الشيء يقل وجوده وتقديم الأظهر وجوبا أظهر
وقد رأيت أن أتبرك في افتتاح هذا الركن بحديث جابر الطويل فإنه أصل كبير أجمع حديث في الباب ثم نذكر مقدمة في آداب السفر والمقصود إعانة الإخوان على تحصيل المقاصد تامة فنقول ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم روى مسلم في صحيحه وغيره كابن أبي شيبة وأبي داود والنسائي وعبد بن حميد والبزار والدارمي في مسانيدهم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال دخلنا على جابر بن عبد الله رضي الله عنه فسأل عن القوم حتى انتهى إلي فقلت أنا محمد بن علي بن الحسين فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زري الأعلى ثم نزع زري الأسفل ثم وضع كفه بين ثديي وأنا يومئذ غلاب شام فقال مرحبا بك يا ابن أخي
سل عما شئت فسألته وهو أعمى وحضر وقت الصلاة فقام في نساجة ملتحفا بها كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه من صغرها ورداؤه إلى جنبه على المشجب فصلى بنا فقلت أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بيده فعقد تسعا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ثم أذن في الناس في العاشرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر رضي الله عنه فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف أصنع فقال اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي فصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن
____________________
(2/404)
وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم منه شيئا ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته
قال جابر لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشي أربعا ثم تقدم إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } فجعل المقام بينه وبين البيت فكان أبي يقول ولا أعلمه ذكره إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين { قل هو الله أحد } و { قل يا أيها الكافرون } ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ابدأوا بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده
ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي رمل حتى إذا صعدها مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى جعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة فقام سراقة بن جعشم رضي الله عنه فقال يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى فقال دخلت العمرة في الحج مرتين لا بل لأبد أبدا
وقدم علي رضي الله عنه من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر ذلك عليها فقالت إن أبي أمرني بهذا قال فكان علي رضي الله عنه بالعراق يقول فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشا على فاطمة للذي صنعت مستفتيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقال صدقت صدقت ماذا قلت حين فرضت الحج قال قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن معي الهدى فلا تحل قال فكان جماعة الهدى الذي قدم به علي رضي الله عنه من اليمن والذي آتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة قال فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدى فلما كان يوم الترويه توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس فأمر بقية من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع
____________________
(2/405)
من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحرث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فرجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى أيها الناس السكينة السكينة كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد ختى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن العباس وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل وصرف وجهه الشق الآخر ينظر حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده ثم أعطى عليا فنحر ماغبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه
وفي رواية أخرى قال نحرت ههنا ومني كلها منحر فانحروا في رحالكم ووقفت ههنا وعرفة كلها موقف ووقفت ههنا وجمع كلها موقف قال ابن حبان في صحيحه حين روى هذا الحديث والحكمة في أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بيده ثلاثا وستين بدنة أنه كانت له يومئذ ثلاث وستون سنة فنحر لكل سنة بدنة ثم أمر عليا بالباقي فنحرها والله سبحانه وتعالى أعلم
____________________
(2/406)
وهذه المقدمة الموعودة يكره الخروج إلى الحج إذا كره أحد أبويه وهو محتاج إلى خدمته لا إن كان مستغنيا والأجداد والجدات كالأبوين عند فقدهما
ويكره الخروج للحج والغزو لمديون إن لم يكن له مال يقضي به إلا أن يأذن الغريم فإن كان بالدين كفيل بإذنه لا يخرج إلا بإذنهما وإن بغير إذنه فبإذن الطالب وحده ويشاور ذا رأي في سفره في ذلك الوقت لا في نفس الحج فإنه خير وكذا يستخير الله تعالى في ذلك
وسننها أن يصلي ركعتين بسورتي { قل يا أيها الكافرون } والإخلاص ويدعو بالدعاء المعروف للاستخارة عنه عليه الصلاة والسلام اللهم إني أستخيرك بعلمك الخ
أخرج الحاكم عنه عليه الصلاة والسلام من سعادة ابن آدم استخارة الله تعالى ومن شقوة ابن آدم تركه استخارة الله تعالى ثم يبدأ بالتوبة وإخلاص النية ورد المظالم والاستحلال من خصومه ومن كل من عامله ويجتهد في تحصيل نفقة حلال فإنه لا يقبل الحج بالنفقة الحرام مع أنه يسقط الفرض معها وإن كانت مغصوبة
ولا تنافي بين سقوطه وعدم قبوله فلا يثاب لعدم القبول ولا يعاقب في الآخرة عقاب تارك الحج ولا بد له من رفيق صالح يذكره إذا نسى ويصبره إذا جزع ويعينه إذا عجز وكونه من الأجانب أولى من الأقارب عند بعض الصالحين تبعدا من ساحة القطيعة ويرى المكارى ما يحمله ولا يحمل أكثر منه إلا بإذنه ويجرد سفره عن التجارة والرياء والسمعة والفخر ولذا كره بعض العلماء الركوب في المحمل
وقيل لا يكره إذا تجرد عن قصد ذلك وركوب الجمل أفضل ويكره الحج على الحمار والمشي أفضل من الركوب لمن يطيقه ولا يسيء خلقه ولا يماكس في شراء الأدوات ولا يشارك في الزاد واجتماع الرفقة كل يوم على طعام أحدهم أحل
ويستحب أن يجعل خروجه يوم الخميس اقتداء به عليه الصلاة والسلام وإلا فيوم الاثنين في أول النهار والشهر ويودع أهله وإخوانه ويستحلهم ويطلب دعاءهم ويأتيهم لذلك وهم يأتونه إذا قدم
وروى الترمذي أن ابن عمر رضي الله عنهما قال لقزعة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال لقمان الحكيم إن الله إذا استودع شيئا حفظه وإني أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك وأقرأ عليك السلام ويقول له من يودعه عند ذلك في حفظ الله وكنفه زودك الله التقوى وجنبك الردى وغفر ذنبك ووجهك الخير أينما توجهت وروى ابن السني عن أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام قال من أراد أن يسافر فليقل لمن يخلفه أستودعك الله الذي لا يضيع ودائعه واستحب جماعة من العلماء أن يشيع المسافر بالمشي معه والدعاء له
وعن ابن عباس رضي الله عنه مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد حين وجههم ثم قال انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم وليتصدق بشيء عند خروجه من منزله وبعده في ابتداء السفر وأقله شبعة فإنه سبب السلامة
وإذا خرج من منزله فليقل اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الخروج إلى سفر قال اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من الضيعة في السفر والكآبة في المنقلب اللهم اقبض لنا الأرض وهون علينا السفر وروى أبو داود عنه عليه الصلاة والسلام إذا خرج الرجل من بيته فقال باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال له هديت وكفيت ووقيت فيتنحى عنه الشيطان الحديث
ومن الآثار من قرأ آية الكرسي
____________________
(2/407)
قبل خروجه من منزله لم يصبه شيء يكرهه حتى يرجع قيل { لإيلاف قريش } وروى الطبراني أنه عليه الصلاة والسلام قال ما خلف أحد عند أهله أفضل من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد سفرا فإذا بلغ باب داره قرأ { إنا أنزلناه في ليلة القدر } فإذا أراد الركوب سمى الله فإذا استوى على دابته قال ما رواه مسلم أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون } اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل وإذا رجع قالهن وزاد فيهن آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون وإذا أتى بلدة فليقل اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما فيها وأعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها وإذا نزل منزلا فليقل { رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين } وإذا حط رحله فليقل بسم الله توكلت على الله أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق وذرأ وبرأ { سلام على نوح في العالمين } اللهم أعطنا خير هذا المنزل وخير ما فيه واكفنا شره وشر ما فيه ويقول في رحيله عنه الحمد الله الذي عافانا في منقلبنا ومثوانا اللهم كما أخرجتنا من منزلنا هذا سالمين بلغنا غيره آمنين وإذا أقبل الليل فليقل ما في أبي داود كان عليه الصلاة والسلام إذا سافر فأقبل الليل قال يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما يدب عليك وأعوذ بالله من شر أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكن البلد ووالد وما ولد
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه كان عليه الصلاة والسلام إذا كان في سفر وأسحر يقول سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذا باللة من النار رواه مسلم وزاد فيه أبو داود بحمد الله ونعمته ورواه الحاكم وزاد فيه يقول ذلك ثلاثا يرفع بها صوته وسمع بكسر الميم خفيفة أى شهد شاهد وقيل بفتحها مشددة أى بلغ سامع قولى هذا لغيره تنبيها على طلب الذكر والدعاء هذا وللحج مفهوم لغوي وفقهي وسبب وشروط وأركان وواجبات وسنن ومستحبات
فمفهومه لغة القصد إلى معظم لا القصد المطلق قال ** ألم تعلمي يا أم أسعد أنما ** تخاطأني ريب الزمان لأكبرا ** ** وأشهد من عوف حلولا كثيرة ** يحجون سب الزبرقان المزعفرا **
أي يقصدونه معظمين إياه
وفي الفقه قصد البيت لأداء ركن من أركان الدين أو قصد زيارته لذلك
ففيه معنى اللغة والظاهر أنه عبارة عن الأفعال المخصوصة من الطواف الفرض والوقوف في وقته محرما بنية الحج سابقا
لأنا نقول أركانه اثنان الطواف والوقوف بعرفة ولا وجود للشخص إلا بأجزائه الشخصية وماهيته
____________________
(2/408)
الكلية إنما هي منتزعة منها اللهم إلا أن يكون ما ذكروا مفهوم الاسم في العرف وقد وضع لغير نفس الماهية فيكون تعريفا اسميا غير حقيقي لكن الشأن في أن أهل العرف الفقهي وضعوا له الاسم لغير الماهية الحقيقية فإن معرف ذلك حيث لا نقل عن خصوص ناقل للاسم إلى ذلك هو ما يتبادر منه عند إطلاقه والمتبادر منه الأعمال المخصوصة لا نفس القصد لأجل الأعمال المخرج لها عن المفهوم مع أنه فاسد في نفسه فإنه لا يشمل للحج النفل لتقييده بأداء ركن الدين فهو غير جامع والتعريف للحج مطلقا لينطبق على فرضه ونفله كما هو تعريف الصلاة والصوم وغيرهما ولأنه على ذلك التقدير يخالف سائر أسماء العبادات السابقة من الصلاة والصوم والزكاة فإنها أسماء للأفعال كما يقال الصلاة عبارة عن القيام والقراءة والركوع والسجود الخ والصوم هو الإمساك الخ وهو فعل من أفعال النفس
والزكاة عند المحققين عبارة عن نفس أداء المال الذي هو فعل المكلف فليكن الحج أيضا عبارة عن الأفعال الكائنة عند البيت وغيره كعرفة وقد اندرج فيما ذكرنا بيان أركانه
وسببه البيت لأنه يضاف إليه
وشرائطه نوعان شرط الوجوب والأداء
والثاني الإحرام والمكان والزمان المخصوص حتى لا يجوز شيء من أفعال قبل أشهر الحج
ومنهم من ذكر بدل الإحرام النية وهذا أولى لاستلزامه النية وغيرها على ما سيظهر لك إن شاء الله تعالى
وشرط وجوبه الإسلام حتى لو ملك ما به الاستطاعة حال كفره ثم أسلم بعد ما افتقر لا يجب عليه شيء بتلك الاستطاعة بخلاف ما لو ملكه مسلما فلم يحج حتى افتقر حيث يتقرر الحج في ذمته دينا عليه والحرية والعقل والبلوغ والوقت أيضا فلا يجب قبل أشهر الحج حتى لو ملك ما به الاستطاعة قبلها كان في سعة من صرفها إلى غيره وأفاد هذا قيدا في صيرورته دينا إذا افتقر وهو أن يكون مالكا في أشهر الحج فلم يحج
الأولى أن يقال إذا كان قادرا وقت خروج أهل بلده إن كانوا يخرجون قبل أشهر الحج لبعد المسافة أو قادرا في أشهر الحج إن كانوا يخرجون فيها ولم يحج حتى افتقر تقرر دينا وإن ملك في غيرها وصرفها إلى غيره لا شيء عليه واقتصر في الينابيع على الأول فقال ولا يجب إلا على القادر وقت خروج أهل بلده فإن ملكها قبل أن يتأهب أهل بلده للخروج فهو في سعة من صرفها حيث شاء لأنه لا يلزمه التأهب في الحال وما ذكرناه أولى لأن هذا يقتضي أنه لو ملك في أوائل الأشهر وهم يخرجون في أواخرها جاز له إخراجها ولا يجب عليه الحج
واعلم أن في المبسوط ما يفيد أن الوقت شرط الأداء عيد أبي يوسف فإنه نفل من اختلاف زفر ويعقوب أن نصرانيا لو أسلم وصبيا لو بلغ فماتا قبل إدراك الوقت وأوصى كل منهما أن يحج عنه حجة الإسلام فوصيتهما باطلة عند زفر لأنه لم يلزمهما بأن يحج عنهما قبل إدراك الوقت وعلى قول أبي يوسف تصح لأن سبب الوجوب قد تقرر في حقهما والوقت شرط الأداء وفيه نظر نذكره من بعد إن شاء الله تعالى
وواجباته إنشاء الإحرام من الميقات أو ما فوقه ما لم يخش الوقوع في محظوره لكثرة البعد ومد الوقوف بعرفة إلى الغروب والوقوف بمزدلفة والسعي ورمي الجمار والحلق أو التقصير وطواف الصدر للآفاقي
____________________
(2/409)
وأما سننه فطواف القدوم والرمل فيه أو في الطواف الفرض والسعي بين الميلين الأخضرين جريا والبيتوته بمنى ليالي أيام منى والدفع من منى إلى عرفة بعد طلوع الشمس ومن مزدلفة إلى منى قبلها وغير ذلك مما ستقف عليه في أثناء الباب
وأما محظوراته فنوعان ما يفعله في نفسه وهو الجماع وإزالة الشعر وقلم الأظفار والتطيب وتغطية الرأس والوجه ولبس المخيط
وما يفعله في غيره وهو حلق رأس الغير والتعرض للصيد في الحل والحرم
وأما قطع شجر الحرم كما في النهاية منقولا فلا ينبغي عده فيما نحن فيه فإن حرمته لا تعلق بالحج ولا الإحرام قوله على الأحرار الخ وفي النهاية إنما ذكر الأحرار وما بعده بلفظ الجمع مع أنه محلى باللام والمحلى يبطل فيه معنى الجمعية ولم يفرد كما أفرد في قوله الزكاة واجبة على الحر إخراجا للكلام مخرج العادة في إرادة الجمعية إذ العادة جرت وقت خروجهم بالجماعة الكثيرة من الرفقاء بخلاف الزكاة فإن الإخفاء فيها خير من الإبداء
قال تعالى { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } أو لأن الوجوب هنا أعم على المكلفين نظرا إلى السبب فإن سببه البيت وهو ثابت في حق الكل حتى قال بعض العلماء بالوجوب على كل صحيح مكتسب بخلاف الزكاة فإن سببها النصاب النامي وهو يتحقق في حق شخص دون شخص فكانت إرادة زيادة التعميم هنا أوفق فلذا أتى بصيغة الجمع مع حرف الاستغراق اه
وحاصل الأول أنه أراد معنى الجمع وإن كان مع اللام والداعي إلى ذلك اجتماع المكلفين في الخروج ولا يخفي أنه يلفظ الجمع لا يفاد معنى الاجتماع إذ ليس الاجتماع من أجزاء مفهوم لفظ الجمع ولا لوازمه بل مجرد المتعدد من الثلاثة فصاعدا ولذا لا يلزم في قولك جاءني الرجال اجتماعهم في المجيء فانتفى هذا الداعي ثم قوله إن الإخفاء في الزكاة أفضل يخالف ما ذكروه من أن الأفضل في الصدقة النافلة الإخفاء والمفروضة كالزكاة الإظهار
وأما الثاني فثبوت السبب في حق الكل إن كان باعتبار وجوده في الخارج فالنصاب أيضا ثابت لذلك لتحقق وجوده في الخارج إن كان باعتبار سببيته فلنا أن نمنع فإن سببيته بموجبيته الحكم وهو لا يوجب الحكم في حق الكل بل في حق من اتصف بالشروط مع تحقق باقي الشروط التي يشترط وجودها في نفس الأمر كأمن الطريق فحقيقة الوجوب شرط سببية السبب للمتأمل فكان كالنصاب بل محل الوجوب في الزكاة أوسع لأن الشروط في الحج أكثر منها في الزكاة وتوسعة التفصيل مما يوجب التطويل وبالمتأمل غني عنه بعد فتح باب التأمل له فكان على هذا إرادة زيادة التعميم في الزكاة أولى
ثم بعد التسليم كل ذلك فزيادة التعميم بالجمع المحلى باللام على المفرد المحلى باللام ممنوع على ما عرف من كلام المحققين من أن استغراق المفرد أشمل وإن أراد بالاستغراق الاجتماع ففيه ما علمت مع أنه لا يصح إرادته على الوجه الثاني بأدنى تأمل
قوله إذا قدروا على الزاد بنفقة وسط لا إسراف فيها ولا تقتير والراحلة أي بطريق الملك أو الإجازة دون الإعارة والإباحة في الوقت الذي قدمنا ذكره
ولو وهب له مال ليحج به لا يجب عليه قبوله سواء كان الواهب ممن تعتبر منته كالأجانب أو لا تعتبر كالأبوين والمولودين وأصله أن القدرة بالملك هي الأصل في توجيه الخطاب فقيل الملك لما به الاستطاعة لا يتعلق به قوله فاضلا حال من كل واحد من الزاد والراحلة عن المسكن وما لا بد منه يعني من غيره كفرسه وسلاحه وثيابه
____________________
(2/410)
مرتين خصوصا وفي ضمن الغموم وعلى الإيضاح بعدم الإبهام المفيد للتفخيم وكذا وضع من كفر مكان من لم يحج إلى آخر ما عرف في الكشاف قوله لأنه عليه الصلاة والسلام الخ كان يكفي لنفي التكرر كون الدليل المذكور وهو الآية الكريمة لا يفيده فلا موجب للتكرر لكن حاصله نفي الحكم الذي هو وجوب التكرر لنفي الدليل وهو وإن كفي في نفي الحكم الشرعي لكن إثبات النفي مقتضي النفي أقوى فلذا أثبته بالدليل المقتضى له وهو قوله لأنه عليه الصلاة والسلام قيل له الحج في كل عام الخ
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه فقوله لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم يستلزم نفي وجوب التكرر من وجهين لإفادة لو هنا امنتاع نعم فيلزمه ثبوت نقيضه وهو لا والتصريح ينفي الاستطاعة أيضا
وقد روى مفسرا ومبينا فيه الرجل المبهم
أخرج أحمد في مسنده والدارقطني في سننه والحاكم في المستدرك وقال حديث صحيح على شرط الشيخين من حديث سليمان بن كثير عن الزهري عن أبي سنان يزيد بن أمية عن ابن عباس ولفظه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس إن الله قد كتب عليكم الحج فقام الأقرع بن حابس فقال أفي كل عام يا رسول الله قال لو قلتها لوجبت ولم تستطيعوا أن تعملوا بها الحج مرة فمن زاد فتطوع ورواه من حديث سفيان بن حسين عن الزهري به وصححه قوله وأنه لا يتعدد فلا يتكرر الوجوب وأما تكرر وجوب الزكاة مع اتحاد المال فلأن السبب هو النامي تقديرا وتقدير النماء دائر مع حولان الحول إذا كان المال معدا للاستنماء في الزمان المستقبل وتقدير النماء الثابت في هذا الحول غير تقدير نماء في حول آخر فالمال مع هذا النماء غير المجموع منه ومن النماء الآخر فيتعدد حكما فيتعدد الوجوب لتعدد النصاب قوله وعن أبي حنيفة رحمه الله ما يدل عليه وهو أنه سئل عمن ملك ما يبلغه إلى بيت الله تعالى أيحج أم يتزوج فقال يحج فإطلاق الجواب بتقديم الحج مع أن التزوج قد يكون واجبا في بعض الأحوال دليل على أن الحج لا يجوز تأخيره وهو قول أبي يوسف
وذكر المصنف في التجنيس أنه إذا
____________________
(2/411)
عنه صلى الله عليه وسلم أمرت أن أسجد على سبعة وأن لا أكف شعرا ولا ثوبا وفي العقص كفه ويتضمن كراهة كون المصلى مشمرا كميه قوله لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه أخرجه أبو داود والحاكم وصححه قوله وهو أن يضع الخ يصدق على أن يكون المنديل مرسلا من كتفيه كما يعتاده كثير فينبغي لمن على عنقه منديل أن يضعه عند الصلاة ويصدق أيضا على لبس القباء من غير إدخال اليدين كميه وقد صرح بالكراهة فيه ويكره اشتماله الصماء في الصلاة وهو أن يلف بثوب واحد رأسه وسائر بدنه ولا يدع منفذا ليده وهل يشترط عدم الإزار مع ذلك عن محمد يشترط وغيره لا يشترط
ويكره الاعتجاز أن يلف العمامة حول رأسه يدع وسطها كما تفعله الدعدة ومتوشحا لا يكره وفي ثوب واحد ليس على عاتقه بعضه يكره إلا لضرورة العدم قوله وحالة الصلاة مذكرة فلا يكون الأكل فيها ناسيا كالأكل في الصوم ناسيا ليلحق به دلالة ثم القدر الذي يتعلق به الفساد ما يفسد الصوم عزى إلى غريب الرواية لأبي جعفر وهو قدر الحمصة من بين أسنانه أما من خارج فلو أدخل سمسمة فابتعلها تفسد وعن أبي حنيفة وأبي يوسف لا تفسد ولو كانت بين أسنانه فابتلعها لا تفسد ولو كان عين سكرة في فيه فذابت فدخل حلقه فسدت ولو لم يكن عينها بل صلى على أثر ابتلاعها فوجد الحلاوة لا تفسد ولو لاك هليلجة فسدت كمضغ العلك ولو لم يلكها لكن دخل في جوفه منه شيء يسير لا تفسد
وذكر شيخ الإسلام أكل بعض اللقمة وبقي في فيه بعضها فدخل في الصلاة فابتلعه لا تفسد مالم تكن ملء الفم قوله في الطاق أي المحراب وفيه طريقان كونه يصير ممتازا عنهم وكي لا يشتبه على من عن يمينه ويساره حاله حتى إذا كان بجنبتي الطاق عمودان وراءهما فرجتان يطلع منها أهل الجهتين على حاله لا يكره وإنما هذا بالعراق لأن محاريبهم مجوفة مطوقة فمن اختار هذه الطريقة لا يكره عنده إذا لم يكن كذلك ومن اختار الأولى يكره عنده مطلقا
ولا
____________________
(2/412)
كال له مال يكفي للحج وليس له مسكن ولا خادم أو خاف العزوبة فأراد أن يتزوج ويصرف الدراهم إلى ذلك إن كان قبل خروج أهل بلده إلى الحج يجوز لأنه لم يجب الأداء بعد وإن كان وقت الخروج فليس له ذلك لأنه قد وجب عليه اه
ولا يخفى أن المنقول عن أبي حنيفة مطلق فإن كان الواقع وقوع السؤال في غير أوان الخروج فهو خلاف ما في التجنيس وإلا فلا يفيد الاستشهاد المقصود ثم على ما أورده المصنف يأثم بالتأخير عن أول سني الإمكان فلو حج بعده ارتفع الإثم ووقع أداء وعند محمد هو على التراخي وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله فلا يأثم إذا حج قبل موته فإن مات بعد الإمكان ولم يحج ظهر أنه آثم وقيل لا يأثم وقيل إن خاف الفوت بأن ظهرت له مخايل الموت في قلبه فأخره حتى مات أثم وإن فجأه الموت لا يأثم وصحة الأول غنية عن الوجه
وعلى اعتباره قيل يظهر الإثم من السنة الأولى وقيل الأخيرة وقيل من سنة رأي في نفسه الضعف وقيل يأثم في الجملة غير محكوم بمعين بل علمه إلى الله تعالى وقد استدل على الفور بالمنقول والمعنى فالأول حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل وهذا بناء على أن لفظة قابل متعارف في السنة الآتية التي تلي هذه السنة وإلا فهو أعم من ذلك فلا دليل فيه
والثاني هو أن الحج لا يجوز إلا في وقت معين واحد في السنة والموت في سنة غير نادر فتأخيره بعد التمكن في وقته
____________________
(2/413)
تعريض له على الفوات فلا يجوز ولذا يفسق بتأخيره ويأثم وترد شهادته فحقيقة دليل وجوب الفور هو الاحتياط فلا يدفعه أن مقتضى الأمر مطلق جواز التأخير بشرط أن لا يخلي العمر عنه وأنه عليه الصلاة والسلام حج سنة عشر وفريضة الحج كانت سنة تسع فبعث أبا بكر رضي الله عنه حج بالناس فيها ولم يحج هو إلى القابلة أو فرض سنة خمس على ما روى الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنه بعثت بنو سعد بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له عليه الصلاة والسلام فرائض الإسلام الصلاة والصوم والحج قال ابن الجوزي وقد رواه شريك بن أبي نمر عن كريب فقال فيه بعث بنو سعد ضماما وافدا في شهر رجب سنة خمس فذكر له صلى الله عليه وسلم فرائض الإسلام الصلاة والصوم والحج أو سة ست فإن تأخيره عليه الصلاة والسلام ليس يتحقق فيه تعريض الفوات وهو الموجب للفور لأنه كان يعلم أنه يعيش حتى يحج ويعلم الناس مناسكهم تكميلا للتبليغ وليس مقتضى الأمر المطلق جواز التأخير ولا الفور حتى يعارضه موجب الفور وهو هذا المعنى فلا يقوى قوته بل مجرد طلب المأمور به فيبقى كل من الفور والتأخير على الإباحة الأصلية وذلك الاحتياط يخرج عنها على أن حديث ابن عباس رضي الله عنه قد رواه أحمد وليس فيه ذكر تاريخ وأما بالتاريخ المذكور فإنما وجدت معضلة في ابن الجوزي وقد رواه شريك ابن أبي نمر عن كريب فقال فيه وذكر ما قدمناه
قال صاحب التنقيح لا أعرف لها سندا والذي نزل سنة ست قوله تعالى { وأتموا الحج والعمرة لله } وهو افتراض الإتمام وإنما يتعلق بمن شرع فيهما
فتلخص من هذا أن الفورية واجبة والحج مطلقا هو الفرض فيقع أداء إذا أخره ويأثم بترك الواجب على نظير ما قدمناه في الزكاة سواء فارجع إليه وقس به قوله لقوله عليه الصلاة والسلام أيما عبد روى الحاكم من حديث محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى وقال صحيح على شرط الشيخين والمراد بالأعرابي الذي لم يهاجر من لم يسلم فإن مشركي العرب كانوا يحجون فنفى إجزاء ذلك الحج عن الحج الذي وجب بعد الإسلام وتفرد محمد بن المنهال برفعه بخلاف الأكثر لا يضر إذ الرفع وزيادة زيادة الثقة مقبولة وقد تأيد ذلك بمرسل أخرجه أبو داود في مراسيله عن محمد بن كعب القرظي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إيما صبي حج به أهله فمات أجزأ عنه فإن أدرك فعليه الحج وأيما عبد حج به أهله فمات أجزأ عنه فإن أعتق فعليه الحج وهذا حجة عندنا
وبما هو شبيه المرفوع أيضا في مصنف ابن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال احفظوا عني ولا تقولوا قال ابن عباس أيما عبد حج الخ وعلى اشتراط الحرية الإجماع والفرق بين الحج والصلاة والصوم بوجهين كونه لا يتأتي إلا بالمال غالبا بخلافهما
____________________
(2/414)
ولا ملك للعبد فلا يقدر على تملك الزاد والراحلة فلم يكن أهلا للوجوب فلذا لا يجب على عبيد أهل مكة بخلاف اشتراط الزاد والراحلة في حق الفقير فإنه للتيسير لا الأهلية فوجب على فقراء مكة
والثاني أن حق المولى يفوت في مدة طويلة وحق العبد مقدم بإذن الشرع لافتقار العبد وغنى الله تعالى لأنه تعالى ما شرع ما شرع إلا لتعود المصالح إلى المكلفين إرادة منه لإفاضة الجود بخلاف الصلاة والصوم فإنه يحرج المولى في استثناء مدتهما قوله وكذا صحة الجوارح حتى إن المقعد والزمن والمفلوج ومقطوع الرجلين لا يجب عليهم الإحجاج إذا ملكوا الزاد والراحلة ولا الإيصاء به في المرض وكذا الشيخ الذي لا يثبت على الراحلة يعني إذا لم يسبق الوجوب حالة الشيخوخة بأن لم يملك ما يوصله إلا بعدها وكذا المريض لأنه بدل الحج بالبدن وإذا لم يجب المبدل لا يجب البدل
وظاهر الرواية عنهما يجب الحج على هؤلاء إذا ملكوا الزاد والراحلة ومؤنة من يرفعهم ويضعهم ويقودهم إلى المناسك وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنه وهي الرواية التي أشار إليها المصنف بقوله وأما المقعد إلا أنه خص المقعد ويقابل ظاهر الرواية عنهما ما نسبه المصنف إلى محمد بقوله فرق محمد في هذه الرواية بين المقعد والأعمى
وإذا وجب على هؤلاء الإحجاج للزومهم الأصل وهو الحج بالبدن فيجب عليهم البدل فلو أحجوا عنهم وهم آيسون من الأداء بالبدن ثم صحوا وجب عليهم بأنفسهم وظهرت نفلية الأول لأنه خلف ضروري فيسقط اعتباره بالقدرة على الأصل كالشيخ الفاني إذا فدى ثم قدر وكذا من كان بينه وبين مكة عدو فأحج عنه فإن أقام العدو على الطريق إلى موت المحجوج عنه جاز الحج عنه وإن لم يقم حتى مات لا يجوز لزوال العذر قبل الموت فيجب الأصل وهو الحج بنفسه والأعمى إذا وجد من يكفيه مؤنة سفره وسفر قائده ففي المشهور عن أبي حنيفة لا يلزمه الحج
وذكر الحاكم الشهيد في المنتقى أنه يلزمه وعنهما فيه روايتان وذكر شيخ الإسلام أنه يلزمه عندهما على قياس الجمعة وإن لم يجد قائدا لا يجب عليه في قولهم وفي رواية أخرى لا يلزمه فرقا على إحدى الروايتين بين الحج والجمعة بأن وجود القائد في الجمعة غير نادر بخلافه في الحج والمريض والمحبوس والخائف من السلطان الذي يمنع الناس من الخروج إلى الحج كذلك لا يجب الحج عليهم
وفي التحفة أن المقعد والزمن والمريض والمحبوس والخائف من السلطان الذي يمنع الناس من الخروج إلى الحج لا يجب عليهم الحج بأنفسهم لأنها عبادة بدنية ولا بد من القدرة بصحة البدن وزوال الموانع حتى تتوجه عليهم التكاليف
____________________
(2/415)
ولكن يجب عليهم الاحجاج إذا ملكوا الزاد والراحلة وهو ظاهر في اختيار قولهما ثم قال وأما الأعمى إذا وجد قائدا بطريق الملك أو استأجر هل عليه أن يحج ذكر في الأصل أنه لا يجب عليه أن يحج بنفسه ولكن يجب في ماله عند أبي حنيفة وروى الحسن عنه أنه يجب عليه أن يحج بنفسه اه
وهو خلاف ما ذكره غير عن ابي حنيفة وجه قولهما حديث الخثعمية إن فريضة الحج أدركت أبى وهو شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة أفأحج عنه قال أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان يجزي عنه قالت نعم قال فدين الله أحق ولنا قوله تعالى { من استطاع إليه سبيلا } قيد الإيجاب به والعجز لازم مع هذه الأمور لا الاستطاعة
فإن قيل الاستطاعة ثابتة إذا قدروا على اتخاذ من يرفعهم ويضعهم ويقودهم بالملك أو الاستئجار
قلنا ملاءمة القائد والخادم وحصول المقصود معه منهم من الرفق غير معلوم والعجز ثابت الحال فلا يثبت الوجوب عليهم بالشك على أن الاستطاعة بالبدن هي الأصل والمتبادر من قولنا فلأن يستطيع عمل كذا فليكن محمل ما في النص إلا أن هذا قد يدفع بأن هذه العبادة تجري فيها النيابة عند العجز لا مطلقا توسطا بين المالية المحضة والبدنية المحضة لتوسطها بينهما على ما سيجيء تحقيقه في باب الحج عن الغير إن شاء الله تعالى والوجوب دائر مع فائدته على ما تحقق في الصوم فيثبت عند قدرة المال ليظهر أثره في الإحجاج والإيصاء
ومن الفروع أنه لو تكلف هؤلاء الحج بأنفسهم سقط عنهم ومعنى هذا أنهم لو صحوا بعد ذلك لا يجب عليهم الأداء لأن سقوط الوجوب عنهم لدفع الحرج فإذا تحملوه وقع عن حجة الإسلام كالفقير إذا حج
هذا وفي الفتاوي تكلموا في أن سلامة البدن في قول أبي حنيفة رحمه الله وأمن الطريق ووجود المحرم للمرأة من شرائط الوجوب أو الأداء فعلى قول من يجعلها من شرائط الوجوب إذا مات قبل الحج لا يلزمه الإيصاء وعلى قول من يجعلها من شرائط الأداء يلزمه اه
وهذا ظاهر في أن الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله لم يثبتا تنصيصا بل تخريجا أو أن كل طائفة من هؤلاء المشايخ اختاروا رواية وإذا آل الحال إلى اختلاف المشايخ في المختار من الروايتين أو تخريجهما فلنا نحن أيضا أن ننظر في ذلك
والذي يترجح كونها شروط الأداء بما قلناه آنفا أن هذه العبادة مما تتأدى بالنائب الخ
وعلى هذا فجعل عدم الحبس والخوف من السلطان شرط الأداء أولى ومن قدر حال صحته ولم يحج حتى أقعد أو زمن أو فلج أو قطعت رجلاه تقرر في ذمته بالاتفاق حتى يجب عليه الإحجاج وهنا قيد حسن ينبغي أن يحفظ وهو
____________________
(2/416)
أن وجوب الإيصاء إنما يتعلق بمن لم يحج بعد الوجوب إذا لم يخرج إلى الحج حتى مات فأما من وجب عليه الحج فحج من عامه فمات في الطريق لا يجب عليه الإيصاء بالحج لأنه لم يؤخر بعد الإيجاب ذكره المصنف في التجنيس قوله لأن عليه الصلاة والسلام سئل عن السبيل روى الحاكم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه في قوله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } قيل يا رسول الله ما السبيل قال الزاد والراحلة وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وتابعه حماد بن سلمة عن قتادة ثم أخرجه كذلك وقال صحيح على شرط مسلم
وقد روى من طريق أخرى صحيحة عن الحسن مرسلا في سنن سعيد بن منصور حدثنا هشام حدثنا يونس عن الحسن قال لما نزلت { ولله على الناس حج البيت } قال رجل يا رسول الله وما السبيل قالوا زاد وراحلة حدثنا هشيم حدثنا منصور عن الحسن مثله حدثنا خالد بن عبد الله عن يونس عن الحسن مثله
ومن طرق عديدة مدفوعا من حديث ابن عمر وابن عباس وعائشة وجابر وعبد الله بن عمرو بن العاص وابن مسعود رضي الله عنهم
وحديث ابن عباس رواه ابن ماجه حدثنا سويد بن سعيد عن هشام بن سليمان القرشي عن ابن جريج قال وأخبرنيه أيضا عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الزاد والراحلة يعني قوله { من استطاع إليه سبيلا } قال في الإمام وهشام بن سليمان بن عكرمة بن خالد بن العاص قال أبو حاتم مضطرب الحديث ومحله الصدق ما أرى به بأسا
وباقي الأحاديث بطرقها عمن ذكرنا من الصحابة عند الترمذي وابن ماجه والدارقطني وابن عدي في الكامل لا يسلم من ضعف فلو لم يكن للحديث طريق صحيح ارتفع بكثرتها إلى الحسن فكيف ومنها الصحيح
هذا وينبغي أن يكون قول المصنف شق محمل أو رأس زاملة على التوزيع ليكون الوجوب يتعلق بمن قدر على رأس زاملة بالنسبة إلى بعض الناس وبالنسبة إلى بعض آخرين لا يتعلق إلا بمن قدر على شق محمل هذا لأن حال الناس مختلف ضعفا وقوة وجلدا ورفاهية فالمرفه لا يجب عليه إذا قدر على رأس زاملة وهو الذي يقال له في عرفنا راكب مقتب لأنه لا يستطيع السفر كذلك بل قد يهلك بهذا الركوب فلا يجب في حق هذا إلا إذا قدر على شق محمل ومثل هذا يتأتي في الزاد فليس كل من قدر على ما يكفيه من خبز وجبن دون لحم وطبيخ قادرا على الزاد بل ربما يهلك مرضا بمداومته ثلاثة أيام إذا كان مترفها معتاد اللحم والأغذية المرتفعة بل لا يجب على مثل هذا إلا إذا قدر على ما يصلح معه بدنه
وقوله عليه الصلاة والسلام الزاد والراحلة ليس معناه إلا الزاد الذي يبلغه والراحلة كذلك وذلك يختلف بالنسبة إلى آحاد الناس فكان المراد ما يبلغ كل واحد قوله وإن أمكنه الخ العقبة أن يكثرى الاثنان راحلة يعتقبان عليها يركب أحدهما مرحلة والآخر مرحلة وليس يلزم لما في الكتاب وقد تقدم أن الشرط أن
____________________
(2/417)
يملكها في أشهر الحج أو وقت خروج أهل بلده ونقلنا ما في الينابيع فارجع إليه قوله وليس من شرط الوجوب على أهل مكة ومن حولهم الراحلة قدمنا فائدة اقتصاره على الراحلة وكلام صاحب النهاية والينابيع فارجع إليه قوله ولا بد من أمن الطريق أي وقت خروج أهل بلده وإن كان مخيفا في غيره وهو أن يكون الغالب فيه السلامة
وما أفتى به أبو بكر الرازي من سقوط الحج عن أهل بغداد وقول أبي بكر الإسكاف لا أقول الحج فريضة في زماننا قاله سنة ست وعشرين وثلاثمائة
وقول الثلجي ليس على أهل خراسان حج منذ كذا وكذا سنة كان وقت غلبة النهب والخوف في الطريق وكذا أسقطه بعضهم من حين خرجت القرامطة وهم طائفة من الخوارج كانوا يستحلون قتل المسلمين وأخذ أموالهم وكانوا يغلبون على أماكن ويترصدون للحجاج وقد هجموا في بعض السنين على الحجيج في نفس مكة فقتلوا خلقا كثيرا في نفس الحرم وأخذوا أموالهم ودخل كبيرهم بفرسه في المسجد الحرام ووقعت أمور شنيعة ولله الحمد على أن عافى منهم
وقد سئل الكرخي عمن لا يحج خوفا منهم فقال ما سلمت البادية من الآفات أي لا تخلو عنها كقلة الماء وشدة الحر وهيجان السموم وهذا إيجاب منه رحمه الله ومحمله أنه رأى أن الغالب اندفاع شرهم عن الحاج ورأى الصفار عدمه فقال لا أرى الحج فرضا منذ عشرين سنة من حين خرجت القرامطة وما ذكر سببا لذلك وهو أنه لا يتوصل إلى الحج إلا بإرشائهم فتكون الطاعة سبب المعصية فيه نظر بل إنما كان من شأنهم ما ذكرته ثم الإثم في مثله على الآخذ لا المعطي على ما عرف من تقسيم الرشوة في كتاب القضاء وكون المعصية منهم لا يترك الفرض لمعصية عاص
والذي يظهر أن يعتبر مع غلبة السلامة عدم غلبة الخوف حتى إذا غلب الخوف على القلوب من المحاربين لوقوع النهب والغلبة منهم مرارا أو سمعوا أن طائفة تعرضت للطريق ولها شوكة والناس يستضعفون أنفسهم عنهم لا يجب
واختلف في سقوطه إذا لم يكن بد من ركوب البحر فقيل البحر يمنع الوجوب
وقال الكرماني إن كان الغالب في البحر السلامة من موضع جرت العادة بركوبه يجب وإلا فلا وهو الأصح
وسيحون وجيحون والفرات والنيل أنهار لا بحار قوله ثم قيل هو أي أمن الطريق قدم الكلام فيه والقائل بأنه شرط الوجوب حتى لا يجب الإيصاء ابن شجاع وقد روى عن ابن حنيفة رحمه الله لأن
____________________
(2/418)
الوصول بدونه لا يكون إلا بمشقة عظيمة فصار من الاستطاعة وهي شرط الوجوب
والقائل بأنه شرط الأداء فيجب الإيصاء القاضي أبو خازم لأنه عليه الصلاة والسلام إنما فسر الاستطاعة بالزاد و الراحلة حين سئل عنها فلو كان أمن الطريق منها لذكره وإلا كان تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة ولأنه مانع من العباد ولا يسقط العبادة الواجبة كالقيد من الظالم
واعلم أن الاختلاف في وجوب الإيصاء بالحج إذا مات قبل أمن الطريق فإن مات بعد حصول الأمن فالاتفاق على الوجوب
تقدم لنا وجه آخر وهو المعول عليه يقتضي ترجيحه وأن عدم الخوف من السلطان والحبس من شروط الأداء أيضا فيجب على الخائف والمحبوس الإيصاء
واعلم أن القدرة على الزاد والراحلة شرط الوجوب لا نعلم عن أحد خلافه
وقالوا لو تحمل العاجز عنهما فحج ماشيا يسقط عنه الفرض حتى لو استغنى لا يجب عليه أن يحج وهو معلل بأمرين الأول أن عدمه عليه ليس لعدم الأهلية كالعبد بل للترفيه ودفع الحرج عنه فإذا تحمله وجب ثم يسقط كالمسافر إذا صام رمضان
الثاني أن الفقير إذا وصل إلى المواقيت صار حكمه حكم أهل مكة فيجب عليه وإن لم يقدر على الراحلة فالثاني يستلزم عدم السقوط عنه لو أحرم قبل المواقيت كدويرة أهله لأن إحرامه لم ينعقد للواجب لعدم الوجوب قبل المواقيت فلا ينقلب له إلا بتجديد كالصبي إذا أحرم ثم بلغ ولا يمكنه التجديد لأن الإحرام انعقد لازما للنفل بخلاف الصبي على ما نذكر قريبا وبخلاف من أطلق النية فلم ينو الواجب لأن إحرامه حينئذ انعقد الواجب وإطلاق الجواب يخالفه والأول يقتضي عدم ثبوت الوجوب إلا بعد الفراغ لأن تحقق تحمله لا يتحقق إلا به لا بمجرد الإحرام ومع الفراغ لو ثبت الوجوب لم يكن أثره إلا في المستقبل لا في المنقضي إذ لا يسبق فعل الواجب الوجوب فمن أحرم قبل الميقات لا ينتهض في سقوط الحج عنه واحد من الوجهين بخلاف من أحرم منه فإنه إن لم ينتهض فيه الأول انتهض فيه الثاني وإنما خصصنا الإيراد بالفقير لأنا نرى أن سلامة الجوارح شرط الأداء لا الوجوب على ما بحثناه آنفا قوله ويعتبر في المرأة وإن كانت عجوزا أن يكون لها محرم كابن أو عم وكما يشترط المحرم كذا يشترط عدم العدة وقالوا في الصبية التي لم تبلغ حد الشهوة تسافر بغير محرم فإذا بلغت لا تسافر إلا به وينبغي أن يكون معنى هذا لاتعان على السفر ولا تستصحب فإنها غير مكلفة مالم تبلغ وبلوغها حد الشهوة لا يستلزمه
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رد المعتدات من النجف فإن لزمتها العدة في السفر فإن كان رجعيا لا يفارقها زوجها أو بائنا فإن كان إلى كل من بلدها ومكة أقل من مدة السفر تخيرت أو إلى أحدهما سفر دون الآخر تعين أن تصير إلى الآخر أو كل منهما سفر فإن كانت في مصر قرت فيه إلى أن تنقضي عدتها ولا تخرج وإن وجدت محرما ما دامت العدة عنده خلافا لهما وإن كانت في قرية أو مفازة لا تأمن على نفسها فلها
____________________
(2/419)
أن تمضي إلى موضع آخر آمن فلا تخرج منه حتى تمضي عدتها وإن وجدت محرما عنده خلافا لهما وهذه المسألة تأتي في كتاب الطلاق إلا أنا ذكرناها هنا لتكون أذكر لمن يطالع الباب قوله وقال الشافعي يجوز لها الخ له العمومات مثل { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وقوله صلى الله عليه وسلم حجوا في حديث مسلم السابق
ولحديث عدي بن حاتم أنه صلى الله عليه وسلم قال يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لاجوار معها لا تخاف إلا الله تعالى قال عدي رأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لاتخاف إلا الله تعالى
رواه البخاري ولم يذكر لها زوجا ولا محرما
والقياس على المهاجرة والمأسورة إذا خلصت بجامع أنه سفر واجب
قلنا أما العمومات فقد تقيدت ببعض الشروط إجماعا كأمن الطريق فتقيد أيضا بما في الأحاديث الصحيحة كما في الصحيحين لا تسافر امرأة ثلاثا إلا ومعها ذو محرم وفي لفظ لهما فوق ثلاث وفي لفظ للبخاري ثلاثة أيام فإن قيل هذه عامة في كل سفر فإنما تنتظم المتنازع فيه وهو سفر الحاج بعمومه لكنه قد خص منه سفر المهاجرة والمأسورة فيخص منه سفر الحج أيضا قياسا عليه بجامع أنه سفر واجب ويصير الداخل تحت اللفظ مرادا السفر المباح
قلنا لا يمكن إخراج المتنازع فيه لأن في عينه نصا يفيد أنه مراد بالعام وهو ما رواه البزار من حديث ابن عباس حدثنا عمرو بن عدي حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج أخبرني عمرو ابن دينار أنه سمع معبدا مولى ابن عباس رضي الله عنهما يحدث عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/420)
قال لا تحج امرأة إلا ومعها محرم فقال رجل يا نبي الله إني اكتتبت في غزوة كذا وامرأتي حاجة قال ارجع فحج معها وأخرجه الدارقطني أيضا عن حجاج عن ابن جريج به ولفظه لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم فثبت تخصيص العمومات بما روينا على أنهم خصوها بوجود الرفقة والنساء الثقات فيما روينا أولى وبه يظهر فساد القياس الذي عينوه لأنه لا يعارض النص بل نقول الآية العامة لا تتناول النساء حال عدم الزوج والمحرم معها لأن المرأة لا تستطيع النزول والركوب إلا مع من يركبها وينزلها ولا يحل ذلك إلا للمحرم والزوج فلم تكن مستطيعة في هذه الحالة فلا يتناولها النص وهذا هو الغالب فلا يعتبر ثبوت القدرة على ذلك في بعضهن ولو قدرت فالقدرة عليه مع أمن انكشاف شيء مما لا يحل لأجنبي النظر إليه كعقبها ورجلها وطرف ساقها وطرف معصمها لا يتحقق إلا بالمحرم ليباشرها في هذه الحالة ويسترها ولانتفاء وجود الجامع فيهما فإن الموجود من المهاجرة والمأسورة ليس سفرا لأنها لا تقصد مكانا معينا بل النجاة خوفا من الفتنة فقطعها المسافة كقطع السابح ولذا إذا وجدت مأمنا كعسكر من المسلمين وجب أن تقر ولا تسافر إلا بزوج أو محرم
على أنها لو قصدت مكانا معينا لا يعتبر قصدها ولا يثبت السفر به لأن حالها وهو ظاهر قصد مجرد التخلص يبطل عزيمتها على ما عرف في العسكر الداخل أرض الحرب ولو سلم ثبوت سفرها فهو للاضطرار لأن الفتنة المتوقعة في سفرها أخف من المتوقعة في إقامتها في دار الحرب فكان جوازه بحكم الإجماع على أن أخف المفسدتين يجب ارتكابها عند لزوم إحداهما فالمؤثر في الأصل السفر المضظر إليه دفعا لمفسدة تفوق مفسدة عدم المحرم والزوج في السفر في دار الإسلام وهو منتف في الفرع ولهذا يجوز مع العدة بخلاف سفر الحج تمنعه العدة فيمنعه عدم المحرم كالسفر المباح
وأما حديث عدي بن حاتم فليس فيه بيان حكم الخروج فيه ما هو ولا يستلزمه بل بيان انتشار الأمن ولو كان مفيدا للإباحة كان نقيض قولهم فإنه يبيح الخروج بلا رفقة ونساء ثقات قوله لأنه يباح لها الخروج إلى ما دون مدة السفر بغير محرم يعني إذا كان لحاجة
ويشكل عليه ما في الصحيحين عن قزعة عن أبي سعيد الخدري مرفوعا لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو المحرم منها وأخرجا عن أبي هريرة مرفوعا لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها وفي لفظ لمسلم مسيرة ليلة وفي لفظ يوم وفي لفظ لأبي داود بريدا وهو عند ابن حبان في صحيحه والحاكم وقال
____________________
(2/421)
صحيح على شرط مسلم
وللطبراني في معجمه ثلاثة أميال فقيل له إن الناس يقولون ثلاثة أيام فقال وهموا
قال المنذري ليس في هذه تباين فإنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قالها في مواطن مختلفة بحسب الأسئلة ويحتمل أن يكون ذلك كله تمثيلا لأقل الأعداد واليوم الواحد أول العدد وأقله والاثنان أول الكثير وأقله والثلاث أول الجمع فكأنه أشار أن مثل هذا في قلة الزمن لا يحل لها السفر مع غير محرم فكيف بما زاد اه
وحاصله أنه نبه بمنع الخروج أقل كل عدد على منع خروجها عن البلد مطلقا إلا بمحرم أو زوج وقد صرح بالمنع مطلقا إن حمل السفر على اللغوي
في الصحيحين عن أبي معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم والسفر لغة ينطلق على ما دون ذلك وقد روى عن أبي حنيفة وأبي يوسف كراهة الخروج لها مسيرة يوم بلا محرم ثم إذا كان المذهب إباحة خروجها ما دون الثلاثة بغير محرم فليس للزوج منعها إذا كان بينها وبين مكة أقل من ثلاثة أيام إذا لم تجد محرما قوله لأن في الخروج تفويت حقه وحق العبد مقدم على ما عرف وصار كالحج الذي نذرته له منعها منه ولنا أن حق الزوج لا يظهر في حق الفرائض وإن امتدت والحج منها كالصوم وهذا لأن ملكه ملك ضعيف لا ينتهض سببا في ذلك بخلاف ملك العبد وإنما لا يظهر في الحج المنذور لأن وجوبه بسبب من جهتها فلا يظهر الوجوب في حقه فكان نفلا في حقه وإذا أحرمت نفلا بغير إذنه فله أن يحللها وهو بأن ينهاها ويصنع بها أدنى ما يحرم عليها كقص ظفرها ونحوه ومجرد نهيها لا يقع به له التحليل كما لا يقع بقوله حللتك ولا يتأخر إلى ذبح الهدى بخلاف الإحصار ولها أن تخرج مع كل محرم سواء كان بنسب أو رضاع أو صهرية مسلما أو كافرا أو عبدا إلا أن يعتقد حل مناكحتها كالمجوسي أو يكون فاسقا إذ لا تؤمن معه الفتنة أو صبيا قوله واختلفوا الخ ثمرته تظهر في وجوب الوصية بالحج إذا مات مثلا قبل أمن الطريق أو هي قبل وجود المحرم أو نفقته على القول باشتراطها فمن قال إن ذلك شرط الوجوب يقول لا يجب الإيصاء لأن الموت قبل الوجوب ومن قال بأنها شرط الأداء قال يجب لأن الموت بعد الوجوب وإنما عذرت في التأخير وفي وجوب التزوج عليها بمن يحج بها إن لم تجد محرما وأما وجوب نفقة المحرم وراحلته إذا أبي أن يحج إلا أن تقوم له بذلك وهو محمل الاختلاف في وجوب نفقته عليها قال الطحاوي لا تجب
وهو قول أبي حفص البخاري ما لم يحرج المحرم بنفقته لأن الواجب عليها الحج لا إحجاج غيرها
____________________
(2/422)
وقال القدوري تجب لأنها من مؤن حجها قوله لأن إحرامها انعقد لأداء النفل فلا ينقلب لأداء الفرض أورد عليه أن الإحرام شرط عندكم
أجيب بأنه شرط يشبه الركن من حيث إمكان اتصال الأداء فاعتبرنا شبه الركن فيما نحن فيه احتياطا في العبادة وقال الشافعي إذا بلغ قبل الوقوف أو عتق يقع عن الفرض
وأصل الخلاف في الصبي إذا بلغ بالسن في أثناء الصلاة يكون عن الفرض عنده وعندنا لا قوله لأن إحرام الصبي غير لازم لعدم أهلية اللزوم عليه ولذا لو أحصر الصبي وتحلل لادم عليه ولا قضاء ولا جزاء عليه لارتكاب المحظورات
وفي المبسوط الصبي لو أحرم بنفسه وهو يعقل أو أحرم عنه أبوه صار محرما وينبغي أن يجرده ويلبسه إزارا ورداء والكافر والمجنون كالصبي فلو حج كافر أو مجنون فأفاق أو أسلم فجدد الإحرام أجزأهما وقيل هذا دليل أن الكافر إذا حج لا يحكم بإسلامه بخلاف الصلاة بجماعة وفي الذخيرة في النوادر البالغ إذا جن بعد الإحرام ثم ارتكب شيئا من محظورات الإحرام فإن فيه الكفارة فرق بينه وبين الصبي
____________________
(2/423)
فصل في المواقيت
جمع ميقات وهو الوقت المعين استعير للمكان المعين كقلبه في قوله تعالى { هنالك ابتلي المؤمنون } لزم شرعا تقديم الإحرام للآفاقى على وصوله إلى البيت تعظيما للبيت وإجلالا كما تراه في الشاهد من ترجل الراكب القاصد إلى عظيم من الخلق إذا قرب من ساحته خضوعا له فكذا لزم القاصد إلى بيت الله تعالى أن يحرم قبل الحلول بحضرته إجلالا فإن في الإحرام تشبها بالأموات وفي ضمن جعل نفسه كالميت سلب اختياره وإلقاء قياده متخليا عن نفسه فارغا عن اعتبارها شيئا من الأشياء فسبحان العزيز الحكيم قوله ولأهل نجد قرن بالسكون موضع وجعله في الصحاح محركا وخطئ بأن المحرك اسم قبيلة إليها ينسب أويس القرني قوله هكذا وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أما توقيت ما سوى ذات عرق ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة وروى هن لهم والمشهور الأول
ووجهه أنه على حذف المضاف التقدير هن لأهلهن
وأما توقيت ذات عرق ففي مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال سمعت أحسبه رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مهل أهل المدينة إلى أن قال ومهل أهل العراق من ذات عرق وفيه شك من الراوي في رفعه هذه المرة ورواه مرة أخرى على ما أخرجه ابن ماجه عنه ولم يشك
ولفظه ومهل أهل الشرق ذات عرق إلا أن فيه إبراهيم بن يزيد الجوزي لا يحتج بحديثه وأخرج أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق وزاد فيه النسائي بقية وفي سنده أفلح بن حميد كان أحمد بن حنبل ينكر عليه هذا الحديث وأخرج عبد الرزاق عن مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما
____________________
(2/424)
أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق ولم يتابعه أصحاب مالك فرووه عنه ولم يذكروا فيه ميقات أهل العراق وكذلك رواه أيوب السختياني وابن عون وابن جريج وأسامة بن زيد وعبد العزيز ابن أبي داود عن نافع وكذا رواه سالم عن ابن عمر وابن دينار عن ابن عمر
وأخرج أبو داود عن محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق قال البيهقي تفرد به يزيد بن أبي زياد عن محمد بن علي وقال ابن القطان أخاف أن يكون منقطعا فإن محمدا إنما عهد يروى عن أبيه عن جده
وقال مسلم في كتاب التمييز لا يعلم له سماع من جده ولا أنه لقيه ولم يذكر البخاري ولا ابن أبي حاتم أنه يروى عن جده وذكر أنه يروى عن أبيه
وأخرج البزار في مسنده عن مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق ذات عرق وقال الشافعي أخبرنا سعيد بن سالم أخبرني ابن جريج أخبرني عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره مرسلا وفيه ولأهل المشرق ذات عرق قال ابن جريج فقلت لعطاء إنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت ذات عرق وأنه لم يكن أهل مشرق يومئذ فقال كذلك سمعنا أنه عليه الصلاة والسلام وقت لأهل المشرق ذات عرق ومن طريق الشافعي رواه البيهقي في المعرفة
وقال الشافعي رحمه الله ومن طريقه البيهقي أيضا أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه قال لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق ولم يكن أهل مشرق حينئذ فوقت الناس ذات عرق قال الشافعي ولا أحسبه إلا كما قال طاوس ويؤيده ما في البخاري بسنده عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال لما فتح هذان المصران أتوا عمر رضي الله عنه فقالوا يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنا وهي جور عن طريقنا وأنا إذا أردنا قرنا شق علينا قال انظروا حذوها من طريقكم فحد لهم ذات عرق قال الشيخ تقي الدين في الإمام المصران هما البصرة والكوفة وحذوهما ما يقرب منها قال وهذا يدل على أن ذات عرق مجتهد فيها لا منصوصة اه
والحق أنه يفيد أن عمر رضي الله عنه لم يبلغه توقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق فإن كانت الأحاديث بتوقيته حسنة فقد وافق اجتهاده توقيته عليه الصلاة والسلام وإلا فهو اجتهادي قوله وفائدة التأقيت المنع من التأخير لأنه يجوز التقديم بالإجماع على ما سنذكره وقد يلزم عليه أن من أتى ميقاتا منها لقصد مكة وجب عليه الإحرام سواء كان يمر بعده على ميقات آخر أم لا لكن المسطور خلافه في غير موضع وفي الكافي للحاكم الصدر الشهيد الذي هو عبارة عن جمع كلام محمد رحمه الله ومن
____________________
(2/425)
جاوز وقته غير محرم ثم أتى وقتا آخر وأحرم منه أجزأة ولو كان أحرم من وقته كان أحب إلى اه
ومن الفروع المدني إذا جاوز إلى الجحفة فأحرم عندها فلا بأس به
والأفضل أن يحرم من ذي الحليفة ومقتضى كون فائدة التوقيت المنع من التأخير أن لا يجوز التأخير عن ذي الحليفة فإن مروره به سابق على مروره بالميقات الآخر ولذا روى عن أبي حنيفة رحمه الله أن عليه دما لكن الظاهر عنه هو الأول لما روى من تمام الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن فمن جاوز إلى الميقات الثاني صار من أهله أي صار ميقاتا له
وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا أرادت أن تحج أحرمت من ذي الحليفة وإذا أرادت أن تعتمر أحرمت من الجحفة ومعلوم أن لا فرق في الميقات بين الحج والعمرة فلو لم تكن الجحفة ميقاتا لهما لما أحرمت بالعمرة منها فبفعلها يعلم أن المنع من التأخير مقيد بالميقات الأخير ويحمل حديث لا يجاوز أحد الميقات إلا محرما على أن المراد لا يجاوز المواقيت
هذا ومن كان في بحر أو بر لا يمر بواحد من المواقيت المذكورة فعليه أن يحرم إذا حاذى أخرها ويعرف بالاجتهاد فعليه أن يجتهد فإن لم يكن بحيث يحاذي فعلى مرحلتين من مكة قوله أو لم يقصد بأن قصد مجرد الرؤية والنزهة أو التجارة قوله لقوله عليه الصلاة والسلام لا يجاوز أحد الميقات إلا محرما روى ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا عبد السلام بن حرب عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يجاوز الوقت إلا بإحرام وكذلك رواه الطبراني
وروى الشافعي في مسنده أخبرنا ابن عيينة عن عمر وعن بن أبي الشعثاء أنه رأى ابن عباس رضي الله عنهما يرد من جاوز الميقات غير محرم ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره
وروى إسحاق بن راهوية في مسنده أخبرنا فضيل بن عياض عن ليث بن أبي سليم عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إذا جاوز الوقت فلم يحرم حتى دخل مكة رجع إلى الوقت فأحرم وإن خشي إن رجع إلى الوقت فإنه يحرم ويهريق لذلك دما فهذه المنطوقات أولى من المفهوم المخالف في قوله ممن أراد الحج والعمرة إن ثبت أنه من كلامه عليه الصلاة والسلام دون كلام الراوي
وما في مسلم والنسائي أنه عليه الصلاة والسلام دخل يوم الفتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام كان مختصا بتلك
____________________
(2/426)
الساعة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام في ذلك اليوم مكة حرام لم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي وإنما حلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما يعني الدخول بغير إحرام لإجماع المسلمين على حل الدخول بعده للقتال قوله ولأن وجوب الإحرام لتعظيم هذه البقعة يعني وجوب الإحرام من الميقات المتقدم على البقعة لتعظيم البقعة على ما قدمنا في أول الفصل قوله ومن كان داخل الميقات الخ المتبادر من هذه العبارة أن يكون بعد المواقيت لكن الواقع أن لا فرق بين كونه بعدها أو فيها نفسها في نص الرواية قال ليس للرجل من أهل المواقيت ومن دونها إلى مكة أن يقرن ولا يتمتع وهو بمنزلة أهل مكة ألا ترى أن له أن يدخل مكة بغير إحرام كذا في كلام محمد وصرح بأن ذلك عند عدم قصد النسك
أما إذا قصدوه وجب عليهم الإحرام قبل دخولهم أرض الحرم فميقاتهم كل الحل إلى الحرم فهم في سعة من دارهم إلى الحرم وما عجلوه من دارهم فهو أفضل
وقال محمد بلغنا عن عمر رضي الله عنه أنه خرج من مكة إلى قديد ثم رجع إلى مكة قال وكذا المكي إذا خرج من مكة لحاجة فبلغ الوقت ولم يجاوزه يعني له أن يدخل مكة راجعا بغير إحرام فإن جاوز الوقت لم يكن له أن يدخل مكة إلا بإحرام قوله كذا قاله علي وابن مسعود روى الحاكم في التفسير من المستدرك عن عبد الله بن سلمة المرادي قال سئل علي رضي الله عنه عن قوله عز وجل { وأتموا الحج والعمرة لله } فقال أن تحرم من دويرة أهلك وقال صحيح على شرط الشيخين اه
وقد روى من حديث أبي هريرة مرفوعا ونظر فيه وحديث ابن مسعود ذكره المصنف وغيره والله أعلم به
ثم هذا خلاف ما تقدم من كون المراد إيجاب الإتمام على من شرع في بحث الفور والتراخي أول كتاب الحج قوله والأفضل التقديم عليها أي على المواقيت بخلاف تقديم
____________________
(2/427)
الإحرام على أشهر الحج أجمعوا أنه مكروه كذا في الينابيع وغيره فيجب حمل الأفضلية من دويرة أهله على ما إذا كان من داره إلى مكة دون أشهر الحج كما قيد به قاضيخان
وإنما كان التقديم على المواقيت أفضل لأنه أكثر تعظيما وأوفر مشقة والأجر على قدر المشقة ولذا كانوا يستحبون الإحرام بهما من الأماكن القاصية
وروى عن ابن عمر أنه أحرم من بيت المقدس وعمران بن حصين من البصرة وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أحرم من الشام وابن مسعود من القادسية وقال عليه الصلاة والسلام من أهل من المسجد الأقصى بعمرة أو حجة غفر له ما تقدم من ذنبه ورواه أحمد وأبو داود بنحوه
ثم هذه الأفضلية مقيدة بما إذا كان يملك نفسه روى ذلك عن أبي حينفة رحمه الله كما ذكره المصنف رحمه الله
ثم إذا انتفت الأفضلية لعدم ملكه نفسه هل يكون الثابت الإباحة أو الكراهة روى عن أبي حنيفة رحمه الله أنه مكروه
فالحاصل تقيد الأفضلية في المكان بملك نفسه والمشهور في الكراهة في الزمان عدم تقيدها بخوف مواقعة المحظورات فعلى هذا التقدير المناسب التعليل للكراهة قبل أشهر الحج بكون الإحرام قبل وقت الحج وهو أشهر الحج كما علل به الفقيه أبو عبد الله وقيل في الزمان أيضا التفصيل إن أمن على نفسه لا يكره قبل أشهر الحج وإلا كره ولا أعلمه مرويا عن المتقدمين فالأولى ما روى عن أئمتنا المتقدمين من إطلاق الكراهة وتعليلها إنما يكون بما ذكرناه من كونه قبل أشهر الحج وكأنه أشكل على من خالف إطلاقهم التعليل بذلك ففصلوا
والحق هو الإطلاق والتعليل بذلك بناء على شبه الإحرام بالركن وإن كان شرطا فيراعي مقتضى ذلك الشبة احتياطا ولوكان ركنا حقيقة لم يصح قبل أشهر الحج فإذا كان شبيها به كره قبلها لشبهه وقربه من عدم الصحة فهذا هو حقيقة الوجه ولشبه الركن لم يجز لفائت الحج استدامة الإحرام ليقضي به من قابل قوله ومن كان داخل المواقيت أو في نفس المواقيت فوقته الحل معلوم إذا كان داخل المواقيت الذي هو الحل أما إذا كان ساكنا في أرض الحرم فيمقاته كميقات أهل مكة وهوالحرم في الحج والحل في العمرة قوله لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه روى مسلم عن جابر رضي الله عنه
____________________
(2/428)
عنه قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى قال فأهللنا من الأبطح وفي الصحيحين من قول عائشة رضي الله عنها يا رسول الله تنطلقون بحجة وعمرة وأنطلق بحج فأمر عبد الرحمن ابن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج & باب الإحرام
حقيقته الدخول في الحرمة والمراد الدخول في حرمات مخصوصة أي التزامها والتزامها شرط الحج شرعا غير أنه لا يتحقق ثبوته شرعا إلا بالنية مع الذكر أو الخصوصية على ما سيأتي وإذا تم الإحرام لا يخرج عنه إلا بعمل النسك الذي أحرم به وإن أفسده إلا في الفوات فبعمل العمرة وإلا الإحصار فبذبح الهدى ثم لا بد من القضاء مطلقا وإن كان مظنونا فلو أحرم بالحج على ظن أن عليه الحج ثم ظهر له أن لا حج عليه يمضي فيه وليس له أن يبطله فإن أبطله فعليه قضاؤه لأنه لم يشرع فسخ الإحرام أبدا إلا بالدم والقضاء وذلك يدل على لزوم المضي مطلقا بخلاف المظنون في الصلاة على ما سلف قوله لما روى الخ أخرج الترمذي عن خارجة ابن زيد بن ثابت عن أبيه زيد بن ثابت أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل وقال حديث حسن غريب
قال ابن القطان إنما حسنه ولم يصححه للاختلاف في عبد الرحمن بن أبي الزناد والراوي عنه عبد الله بن يعقوب المدني أجهدت نفسي في معرفته فلم أجد أحدا ذكره ا هـ لكن تحسين الترمذي للحديث فرع معرفته حاله وعينه وأخرج الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لبس ثيابه فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ثم قعد على بعيره فلما استوى به أحرم بالحج وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه
يعقوب بن عطاء ممن جمع أئمة الإسلام حديثه وأخرج أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال من السنة أن يغتسل إذا أراد أن يحرم وصححه على شرطهما وأخرجه ابن أبى شيبة والبزار وقول الصحابى من السنة حكمه الرفع عند الجمهور وينبغي أن يجامع زوجته إن كان مسافرا بها أو كان يحرم من داره لأنه يحصل به ارتفاق له أولهما فيما بعد ذلك وقد أسند أبو حنيفة رحمه الله عن إبراهيم بن المنتشر عن أبيه عن عائشة رضي الله
____________________
(2/429)
عنها قالت كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يطوف في نسائه ثم يصبح محرما ورواه مرة طيبت فطاف ثم أصبح بصيغة الماضي قوله إلا أنه للتنظيف حتى تؤمر به الحائض قد تقدم في حديث جابر الطويل فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف أصنع فقال اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي ونحوه عن عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم ولفظها نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر رضي الله عنهما بالشجرة وهو شاهد لمطلوبية الغسل للحائض بالدلالة إذ لا فرق بين الحائض والنفساء أو النفاس أقوى من الحيض لامتداده وكثرة دمه ففي الحيض أولى
وفي أبي داود والترمذي أنه عليه الصلاة والسلام قال إن النفساء والحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلها غير أن لا تطوف بالبيت وإذا كان للنظافة وإزالة الرائحة لا يعتبر التيمم بدله عند العجز عن الماء ويؤمر به الصبي
ويستحب كمال التنظيف في الإحرام من قص الأظفار ونتف الإبطين وحلق العانة وجماع أهله كما تقدم قوله ولبس ثوبين الخ هذا هو السنة والثوب الواحد الساتر جائز قوله لأنه عليه الصلاة والسلام ائتزر في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه فلم ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس إلا المزعفرة التي تردع على الجلد فأصبح بذي الحليفة راكب راحلته حتى استوت على البيداء أهل هو وأصحابه الحديث
وائتزر بهمزتين أولاهما همزة وصل ووضع تاء مشددة مكان الثانية خطأ قوله وهو قول مالك والشافعي وكذا قول زفر قوله ووجه المشهور
____________________
(2/430)
في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم وفي لفظ لهما كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم وفي لفظ لمسلم كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبي وفي لفظ لهما قالت كان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد ثم أرى وبيص الطيب في رأسه ولحيته بعد ذلك وللآخرين ما أخرج البخاري ومسلم عن يعلى بن أمية قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل متضمخ بطيب وعليه جبة فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعد ما تضمخ بطيب فقال له عليه الصلاة والسلام أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك وعن هذا قال بعضهم إن حل الطيب كان خاصا به عليه الصلاة والسلام لأنه فعله ومنع غيره
ودفع بأن قوله للرجل ذلك يحتمل كونه لحرمة التطيب ويحتمل كونه لخصوص ذلك الطيب بأن كان فيه خلوق فلا يفيد منعه الخصوصية فنظرنا فإذا في صحيح مسلم في الحديث المذكور وهو مصفر لحيته ورأسه وقد نهى عن التزعفر لما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن التزعفر وفي لفظ لمسلم نهى أن يتزعفر الرجل وهو مقدم على ما في أبي داود أنه عليه الصلاة والسلام كان يلبس النعال السبتية ويصفر لحيته بالورس والزعفران وإن كان ابن القطان صححه لأن ما في الصحيحين أقوى خصوصا وهو مانع فيقدم على المبيح
وحينئذ فالمنع من خصوص الطيب الذي به في قوله أما الطيب الذي بك إذا ثبت أنه نهى عنه مطلقا لا يقتضي المنع عن كل طيب وقد جاء مصرحا في الحديث في مسند أحمد قال له اخلع عنك هذه الجبة واغسل عنك هذا الزعفران ومما يدل على عدم الخصوصية ما في أبي داود عن عائشة رضي الله عنها كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا وعن الشافعي أن حديث الأعرابي منسوخ لأنه كان في عام الجعرانة وهو سنة ثمان وحديث عائشة رضي الله عنها في حجة الوداع سنة عشر
ورئي ابن عباس رضي الله عنهما محرما وعلى رأسه مثل الرب من الغالية
وقال مسلم بن صبيح رأيت ابن الزبير محرما وفي رأسه ولحيته من الطيب ما لو كان لرجل أعد منه رأس مال
قال المنذري وعليه أكثر الصحابة رضي الله عنهم
قال الحازمي وما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه وجد ريح طيب من معاوية وهو محرم فقال له عمر ارجع فاغسله فإن عمر رضي الله عنه لم يبلغه حديث عائشة رضي الله عنها وإلا لرجع إليه وإذا
____________________
(2/431)
لم يبلغه فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثبوتها أحق أن تتبع
وحديث معاوية هذا أخرجه البزار وزاد فيه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الحاج الشعث التفل وللاختلاف استحبوا أن يذيب جرم المسك إذا تطيب به بماء ورد ونحوه قوله والممنوع منه التطيب لأنه فعل المكلف والأحكام إنما تتعلق به ولم يتطيب بعد الإحرام لكن هم يقولون هذا الممنوع منه بعد الإحرام
وهناك منع آخر قبله عن التطيب بما يبقى عينه وحاصل الجواب منع ثبوت هذا المنع فإن قستم على الثوب فهو في مقابلة النص لما ذكرنا من وروده به في البدن
ولم يرد في الثوب فعقلنا أنه اعتبر في البدن تابعا والمتصل في الثوب منفصل عنه فلم يعتبر تبعا وهذا لأن المقصود من استنان الطيب عند الإحرام حصول الاتفاق به حالة المنع منه على مثال السحور للصوم إلا أن هذا القدر يحصل بما في البدن فيغني عن تجويزه في الثوب إذ لم يقصد كمال الارتفاق في حالة الإحرام لأن الحاج الشعث التفل وقد قيل يجوز في الثوب أيضا على قولهما قوله لما روى جابر المعروف عن جابر رضي الله عنه في حديثه الطويل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مسجد ذي الحليفة ولم يذكر عددا
لكن في مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما كان عليه الصلاة والسلام يركع بذي الحليفة ركعتين وأخرج أبو داود عن ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجا فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتين أوجب في مجلسه ورواه الحاكم وصححه ولا يصليهما في الوقت المكروه وتجزي المكتوبة عنهما كتحية المسجد وعن أنس
____________________
(2/432)
رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام صلى الظهر ثم ركب على راحلته قوله والأول أفضل أي التلبية دبر الصلاة لما روينا من أنه عليه الصلاة والسلام لبى في دبر صلاته أعلم أنه اختلفت الروايات في إهلاله عليه الصلاة والسلام وروايات أنه عليه الصلاة والسلام لبى بعد ما استوت به راحلته أكثر وأصح
في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام أهل حين استوت به راحلته قائمة وفي لفظ لمسلم كان عليه الصلاة والسلام إذا وضع رجله في الغرز وانبعثت به راحلته قائمة أهل من ذي الحليفة وفي لفظ لمسلم أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته مختصرا
واخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا وبذي الحليفة ركعتين ثم بات حتى أصبح فلما ركب راحلته واستوت به أهل وكذا هو ظاهر حديث جابر الطويل المتقدم
وأخرجه البخاري أيضا في حديث آخر وأخرج مسلم عن ابن عباس وفيه ثم ركب راحلته فلما استوت على البيداء أهل بالحج فهذه تفيد ما سمعت
وأخرج الترمذي والنسائي عن عبد السلام بن حرب حدثنا خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل في دبر الصلاة وقال حديث حسن غريب لا يعرف أحد رواه غير عبد السلام بن حرب
قال في الإمام وعبد السلام بن حرب أخرج له الشيخان وخصيف
قال ابن حبان في كتاب الضعفاء كان فقيها صالحا إلا أنه كان يخطئ كثيرا والإنصاف فيه قبول ما وافق فيه الأثبات وترك ما لم يتابع عليه وأنا أستخير الله في إدخاله في الثقات ولذلك احتج به جماعة من أئمتنا وتركه آخرون
وحاصل هذا الكلام أن الحديث حسن فإن أمكن الجمع جمع وإلا ترجح ما قبله وقد أمكن بل وقع فيما أخرجه أبو داود عن ابن إسحاق عن خصيف عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس رضي الله عنهما عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلاله حين أوجب فقال إني لأعلم الناس بذلك إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة فمن هناك اختلفوا
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجا فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل وأدرك ذلك أقوام وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالا فسمعناه حين استقلت به ناقته ثم مضى عليه الصلاة والسلام فلما علا على شرف البيداء أهل وأدرك ذلك أقوام فقالوا إنما أهل حين علا على شرف البيداء وايم الله لقد أوجب في مصلاه وأهل
____________________
(2/433)
حين استقلت به ناقته وأهل حين علا على شرف البيداء ورواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم اه
وأنت علمت ما في ابن إسحاق في أوائل الكتاب وصححنا توثيقه وما في خصيف آنفا
وإنما جعله الحاكم على شرط مسلم لما عرف من أن مسلما قد يخرج عمن لم يسلم من غوائل الجرح
والحق أن الحديث حسن فيجب اعتباره وبه يقع الجمع ويزول الإشكال قوله فإن كان مفردا نوى بتلبيته الحج أي إن كان مفردا بالحج نواه لأن النية شرط العبادات وإن ذكر بلسانه وقال نويت الحج وأحرمت به لله تعالى لبيك الخ فحسن ليجتمع القلب واللسان وعلى قياس ما قدمناه في شروط الصلاة إنما يحسن إذا لم تجتمع عزيمته فإن اجتمعت فلا ولم نعلم الرواة لنسكه عليه الصلاة والسلام فصلا فصلا قط روى واحد منهم أنه سمعه عليه الصلاة والسلام يقول نويت العمرة ولا الحج قوله بكسر الهمزة لا بفتحها يعني في الوجه الأوجه وأما في الجواز فيجوز والكسر على استئناف الثناء وتكون التلبية للذات والفتح على أنه تعليل للتلبية أي لبيك لأن الحمد والنعمة لك والملك ولا يخفى أن تعليق الإجابة التي لا نهاية لها بالذات أولى منه باعتبار صفة
هذا وإن كان استئناف الثناء لا يتعين مع الكسر لجواز كونه تعليلا مستأنفا كما في قولك علم ابنك العلم إن العلم نافعه قال الله تعالى { وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } وهذا مقرر من مسالك العلة من علم الأصول لكن لما جاز فيه كل منهما يحمل على الأول لأولويته بخلاف الفتح ليس فيه سوى أنه تعليل
وقول المصنف إنه صفة الأولى يريد متعلقا به
والكلام في مواضع
الأول لفظ لبيك ومعناها لفظها مصدر مثنى تثنية يراد بها التكثير كقوله تعالى { ثم ارجع البصر كرتين } أي كرات كثيرة وهوملزوم النصب كما ترى والإضافة والناصب له من غير لفظه تقديره أجبتك إجابة بعد إجابة إلى ما لا نهاية له وكأنه من ألب بالمكان إذا أقام به ويعرف بهذا معناها فتكون مصدرا محذوف الزوائد والقياسي منه إلباب ومفرد لبيك لب
وقد حكى سيبويه عن بعض العرب لب على أنه مفرد لبيك
____________________
(2/434)
غير أنه مبنى على الكسر لعدم تمكنه هذا هو المشهور فيها
وقيل ليس هنا إضافة والكاف حرف خطاب وإنما حذفت النون لشبه الإضافة
وقيل مضاف إلا أنه إسم مفرد وأصله لبى قليت ألفه ياء للإضافة إلى الضمير كألف عليك الذي هو اسم فعل وألف لدى فرده سيبويه يقول الشاعر ** دعوت لما نا نبي مسورا ** فلبى فلبي يدي مسور **
حيث ثبتت الياء مع كون الإضافة إلى ظاهر
الثاني أنها إجابة فقيل لدعاء الخليل على ما أخرج الحاكم عن جرير عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما فرغ إبراهيم عليه الصلاة والسلام من بناء البيت قال رب قد فرغت
فقال أذن في الناس بالحج
قال رب وما يبلغ صوتي قال أذن وعلي البلاغ
قال رب كيف أقول قال قل يا أيها الناس كتب عليكم الحج البيت حج العتيق فسمعه من بين السماء والأرض ألا ترى أنهم يجيئون من أقصى الأرض يلبون وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأخرجه من طريق آخر
____________________
(2/435)
وأخرجه غيره بألفاظ تزيد وتنقص
وأخرج الأزرقي في تاريخ مكة عن عبد الله بن سلام لما أمر إبراهيم أن يؤذن في الناس قام على المقام فارتفع المقام حتى أشرف على ما تحته الحديث
وأخرج عن مجاهد قام إبراهيم عليه السلام على هذا المقام فقال يا أيها الناس أجيبوا ربكم فقالوا لبيك اللهم لبيك
قال فمن حج البيت اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم يومئذ قوله لأنه هو المنقول باتفاق الرواة قيل لا اتفاق بينهم
فقد أخرج البخاري حديث التلبية عن عائشة رضي الله عنها قالت إني لأعلم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك ولم تذكر ما بعده وأخرج النسائي عن عبد الله هو ابن مسعود مثله
وأما التلبية على الوجه المذكور في الكتاب فهو في الكتب الستة من حديث ابن عمر قال وكان ابن عمر رضي الله عنهما يزيد فيها لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل قوله أن أجلاء الصحابة كابن مسعود الخ ذكرنا زيادة ابن عمر آنفا وأخرجها مسلم من قول عمر أيضا
وزيادة ابن مسعود في مسند إسحاق بن راهويه في حديث فيه طول وفي آخره وزاد ابن مسعود في تلبيته فقال لبيك عدد التراب وما سمعته قبل ذلك ولا بعده وزيادة أبي هريرة الله أعلم بها وإنما أخرج النسائي عنه قال كان من تلبية النبي صلى الله عليه وسلم لبيك إله الخلق لبيك ورواه الحاكم وصححه
وروى ابن سعد في الطبقات عن مسلم بن أبي مسلم قال سمعت الحسن بن علي رضي الله عنهما يزيد في التلبية لبيك ذا النعماء والفضل الحسن وأسند الشافعي رحمه الله عن مجاهد مرسلا كان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر من التلبية لبيك وساق المشهور
قال حتى إذا كان ذات يوم والناس يصرفون عنه كأنه أعجبه ما هو فيه فزاد فيها لبيك إن العيش عيش الآخرة قال ابن جريج وحسبت أن ذلك يوم عرفة
وتقدم في حديث جابر الطويل ما يفيد أنهم زادوا بمسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا
وأخرج أبو داود عنه قال أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر تلبيته المشهورة وقال والناس يزيدون لبيك ذا المعارج ونحوه من الكلام
والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلا
____________________
(2/436)
يقول لهم شيئا فقد صرح بتقريره وهو أحد الأدلة بخلاف التشهيد لأنه في حرمة الصلاة والصلاة يتقيد فيها بالوارد لأنها لم تجعل شرعا كحالة عدمها ولذا قلنا يكره تكراره بعينه حتى إذا كان التشهد الثاني قلنا لا تكره الزيادة بالمأثور لأنه أطلق فيه من قبل الشارع نظرا إلى فراغ أعمالها قوله وإذا لبى فقد أحرم لم يعتبر مفهومه المخالف على ما عليه القاعدة من اعتباره في رواية الفقه وذلك لأنه يصير محرما بكل ثناء وتسبيح في ظاهر المذهب وإن كان يحسن التلبية ولو بالفارسية وإن كان يحسن العربية
والفرق لهما بين افتتاح الإحرام وافتتاح الصلاة مذكور في الكتاب والأخرس يحرك لسانه مع النية وفي المحيط تحريك لسانه مستحب كما في الصلاة وظاهر كلام غيره أنه شرط ونص محمد على أنه شرط
وأما في حق القراءة في الصلاة فاختلفوا فيه والأصح لا يلزمه التحريك قوله إلا أنه لم يذكرها لتقدم الإشارة إليها في قوله اللهم إني أريد الحج قد يقال لا حاجة إلى اسنتباط هذه الإشارة الخفية بل قد ذكرها نصا فإن نظم الكتاب هكذا ثم يلبي عقيب صلاته فإن كان مفردا نوى بتلبيته الحج ثم ذكر صورة التلبية
ثم قال فإذا لبى فقد أحرم فلا يشكل أن المفهوم إذا لبى التلبية المذكورة وهي المقرونة بنية الحج فقد أحرم بالحج
ثم لا يستفاد من هذه العبارة سوى أنه عند النية التلبية يصير محرما أما أن الإحرام بهما أو بأحدهما بشرط ذكر الآخرة فلا
وذكر حسام الدين الشهيد أنه يصير شارعا بالنية لكن عند التلبية كما في الصلاة بالنية لكن عند التكبير ثم لم يذكر سوى أن بنية مطلق الحج من غير تعيين الفرض ولا النفل يصير شارعا في الحج
وكان من المهم ذكر أنه هل يسقط بذلك فريضة الحج أم لا بد فيه من التعيين والمذهب أنه يسقط الفرض بإطلاق نية الحج بخلاف تعيين النية للنفل فإنه يكون نفلا وإن كان لم يحج الفرض بعد
وعند الشافعي إذا نوى النفل وعليه حجة الإسلام يقع عن حجة الإسلام لما روى أنه عليه الصلاة سمع شخصا يقول لبيك عن شبرمة فقال أحججت عن نفسك أو معناه قال لا قال حج عن نفسك ثم عن شبرمة
قلنا غاية ما يفيد وجوب أن يفعل ذلك ومقتضاه ثبوت الإثم بتركه لا تحوله بنفسه إلى غير المنوي من غير قصد إليه فالقول به إثبات بلا دليل بخلاف قولنا مثله في رمضان لأن رمضان حكمه تعيين المشروع فيه فيحتاج بعد هذا إلى مطلق نية الصوم لتتميز العبادة عن العادة فإذا وجدت انصرف إلى
____________________
(2/437)
المشروع في الوقت بخلاف وقت الحج لم يتمحض للحج كوقت الصوم لما عرف بل يشبهه من وجه دون وجه فللمشابهة جاز عن الفرض بالإطلاق ولأنه الظاهر من حال المسلم خصوصا في مثل هذه العبادة المشق تحصيلها والمطلق يحتمل كلا من الخصوصيات فصرفناه إلى بعض محتملاته بدلالة الحال وللمفارقة لم يجز عن الفرض بتعيين النفل وأيضا فالدلالة تعتبر عند عدم معارضة الصريح والمعارضة ثابتة حيث صرح بالضد وهو النفل بخلاف صورة الإطلاق إذ لا منافاة بين الأخص والأعم
فروع إذا أبهم الإحرام بأن لم يعين ما أحرم به جاز وعليه التعيين قبل أن يشرع في الأفعال والأصل حديث علي رضي الله عنه حين قدم من اليمن فقال أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجازه عليه الصلاة والسلام الحديث مر في حديث جابر الطويل
فإن لم يعين حتى طاف شوطا واحدا كان إحرامه للعمرة وكذا إذا أحصر قبل الأفعال والتعيين فتحلل بدم تعين للعمرة حتى يجب عليه قضاؤها لاقضاء حجه وكذا إذا جامع فأفسد ووجب عليه المضي في الفاسد فإنما يجب عليه المضي في عمرة ولو أحرم مبهما ثم أحرم ثانيا بحجة فالأول لعمرة أو بعمرة فالأول لحجة ولو لم ينو بالثاني أيضا شيئا كان قارنا وإن عين شيئا ونسيه فعليه حجة وعمرة احتياطا ليخرج عن العهدة بيقين ولا يكون قارنا فإن أحصر تحلل بدم واحد ويقضي حجة وعمرة وإن جامع مضى فيهما ويقضيهما إن شاء جمع وإن شاء فرق وإن أحرم بشيئين ونسيهما لزمه في القياس حجتان وعمرتان
وفي الاستحسان حجة وعمرة حملا لأمره على المسنون والمعروف وهو القران بخلاف ما قبله إذ لم يعلم أن إحرامه كان بشيئين
وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله خرج يريد الحج فأحرم لا ينوى شيئا فهو حج بناء على جواز أداء العبادات بنية سابقة ولو أحرم نذرا ونفلا كان نفلا أو نوى فرضا وتطوعا كان تطوعا عنده وكذا عند أبي يوسف في الأصح ولو لبى بالحج وهو يريد العمرة أو على القلب فهو محرم بما نوى لا بما جرى على لسانه ولو لبى بحجة وهو يريد الحج والعمرة كان قارنا قوله خلافا للشافعي رحمه الله
____________________
(2/438)
في أحد قوليه
وروى عن أبي يوسف رحمه الله كقوله قياسا على الصوم بجامع أنها عبادة كف عن المحظورات فتكفي النية لالتزامها
وقسنا نحن على الصلاة لأنه التزام أفعال لا مجرد كف بل التزام الكف شرط فكان بالصلاة أشبه فلا بد من ذكر يفتتح به أو بما يقوم مقامه مما هو من خصوصياته
وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى { فمن فرض فيهن الحج } قال فرض الحج الإهلال وقال ابن عمر رضي الله عنهما التلبية وقول ابن مسعود رضي الله عنه الإحرام لا ينافي قولهما كيف وقد ثبت عنه أنه التلبية كقول ابن عمر رواه ابن أبي شيبة وعن عائشة لا إحرام إلا لمن أهل أولبى إلا أن مقتضى بعض هذه الأدلة تعيين التلبية حتى لا يصير محرما بتقليد الهدى وهو القول الأخير للشافعي رحمه الله لكن ثمة آثار أخر تدل على أن به مع النية يصير محرما تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى فالاستدلال بهذه على عدم صحة الاكتفاء بالنية صحيح ثم إذا لبى صلى على النبي المعلم للخيرات صلى الله عليه وسلم ودعا بما شاء لما روى عن القاسم بن محمد أنه قال يستحب للرجل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التلبية
رواه أبو داود والدارقطني
ويستحب في التلبية كلها رفع الصوت من غير أن يبلغ الجهد في ذلك كي لا يضعف والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إلا أنه يخفض صوته إذا صلى عليه صلى الله عليه وسلم
وعن خزيمة بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من التلبية سأل رضوانه والجنة واستعاذ برحمته من النار رواه الدارقطني
واستحب بعضهم أن يقول بعدها اللهم أعني على أداء فرض الحج وتقبله مني واجعلني من الذين استجابوا لك وآمنوا بوعدك واتبعوا أمرك واجعلني من وفدك الذين رضيت عنهم اللهم قد أحرم لك شعري وبشري ودمي ومخي وعظامي قوله والرفث الجماع قال الله تعالى { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } أو ذكر الجماع ودواعيه بحضرة النساء فإن لم يكن بحضرتهن لا يكون رفثا روى أن ابن عباس رضي الله عنهما أنشد ** وهن يمشين بنا هميسا ** إن يصدق الطير ننك لميسا **
فقيل له أترفث وأنت محرم فقال إنما الرفث بحضرة النساء
وقال أبو هريرة رضي الله عنه كنا ننشد الأشعار في حالة الإحرام فقيل له ماذا فقال مثل قول القائل ** قامت تريك رهبة ان تهضما ** ساقا بخنداة وكعبا أدرما **
والبخنداة من النساء التامة والدرم في الكعب أن يواريه اللحم فلا يكون له نتوء ظاهر قوله وهي في حالة الإحرام أشد فإنها حالة يحرم فيها كثير من المباحات المقوية للنفس فكيف بالمحرمات الأصلية قوله والجدال أن يجادل رفيقه وهو المنازعة والسباب وقيل جدال المشركين في تقديم الحج وتأخيره
وقيل التفاخر بذكر آبائهم حتى ربما أفضى إلى الحرب قوله ولا يقتل صيدا الخ يحرم بالإحرام أمور الأول الجماع ودواعيه
____________________
(2/439)
الثاني إزالة الشعر كيفما كان حلقا وقصا وتنورا من أي مكان كان الرأس والوجه والإبط والعانة وغيرها الثالث لبس المخيط على وجه لبس المخيص إلا المكعب فيدخل الخف ويخرج القميص إذا اتشح به على ما سيأتي
الرابع التطيب
الخامس قلم الأظفار
السادس الاصطياد في البر لما يؤكل لحمه وما لا يؤكل
السابع الأدهان على ما يذكر من تفصيله قوله لحديث أبي قتادة أخرج الستة في كتبهم عن أبي قتادة رضي الله عنه أنهم كانوا في مسير لهم بعضهم محرم وبعضهم ليس بمحرم قال أبو القتادة فرأيت حمار وحش فركبت فرسي وأخذت الرمح فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني فاختلست سوطا من بعضهم وشددت على الحمار فأصبته فأكلوا منه واستبقوا
قال فسئل عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا لا قال فكلوا ما بقى من لحمها وفي لفظ لمسلم هل أشرتم هل أعنتم قالوا لا قال فكلوا وفيه دلالة نذكرها في جزاء الصيد إن شاء الله تعالى قوله لما روى أخرج الستة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رجل يا رسول الله ما تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام قال لا تلبسوا القمص ولا السراويلات ولا العمائم ولا البرانس ولا الخفاف إلا أن يكون أحد ليس له نعلان فليلبس الخفين وليقطع أسفل من الكعبين ولا تلبسوا شيئا مسه زعفران ولا ورس زادوا إلا مسلما وابن ماجه ولا تنتقب المرأة الحرام ولا تلبس القفازين قيل قوله ولا تنتقب المرأة الحرام مدرج من قول ابن عمر رضي الله عنهما
دفع بأنه خلاف الظاهر وكأنه نظرا إلى الاختلاف في رفعه ووقفه فإن بعضهم رواه موقوفا لكنه غير قادح إذ قد يفتي الراوي بما يرويه من غير أن يسنده أحيانا مع أن هنا قرينة على الرفع وهي أنه ورد إفراد النهي عن النقاب من رواية نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما
أخرج أبو داود عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين ولأنه قد جاء النهي عنهما في صدر الحديث
أخرج أبو داود بالإسناد المذكور أيضا أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ينهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما شاءت من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو سراويل أو حلى أو قميص أو خف قال المنذري رجاله رجال
____________________
(2/440)
الصحيحين ما خلا ابن إسحاق اه
وأنت علمت أن ابن إسحاق حجة قوله والكعب هنا قيد بالظرف لأنه في الطهارة يراد به العظم الناتيء ولم يذكر هذا في الحديث لكن لما كان الكعب يطلق عليه وعلى الناتئ حمل عليه احتياطا وعن هذا قال المشايخ يجوز للمحرم لبس المكعب لأن الباقي من الخلف بعد القطع كذلك مكعب ولا يلبس الجوربين ولا البرنس لكنهم أطلقوا جواز لبسه ومقتضي المذكور في النص أنه مقيد بما إذا لم يجد نعلين قوله لقوله عليه الصلاة والسلام إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها رواه الدارقطني والبيهقي موقوفا على ابن عمر وقول الصحابي عندنا حجة إذا لم يخالف وخصوصا فيما لم يدرك بالرأي
واستدل الشافعي أيضا بما أسنده من حديث إبراهيم بن أبي حرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي وقص خمروا وجهه ولا تخمروا رأسه
وإبراهيم هذا وثقه وابن معين وأحمد وأبو حاتم
وأخرج الدارقطني في العلل عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن أبان بن عثمان بن عفان عن عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخمر وجهه وهو محرم قال والصواب أنه موقوف وروى مالك في الموطأ عن القاسم بن محمد قال أخبرني الفرافصة بن عمير الحنفي أنه رأى عثمان بن عفان رضي الله عنه بالعرج يغطي وجهه وهو محرم
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام فيما أخرج مسلم والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا وقصته راحلته وفي رواية فأقعصته وهو محرم فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اغسلوه بماء وسدر وكفنوه ولا تمسوه طيبا ولا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا أفاد أن للإحرام أثرا في عدم تغطية الوجه وإن كان أصحابنا قالوا لو مات المحرم يغطي وجهه لدليل آخر نذكره وإن شاء الله تعالى ورواه الباقون ولم يذكروا فيه الوجه فلذا قال الحاكم فيه تصحيف فإن والثقات من أصحاب عمرو بن دينار على روايته عنه ولا تغطوا رأسه وهو المحفوظ
ودفع بأن الرجوع إلى مسلم والنسائي أولى منه إلى الحاكم فإنه كان يهم رحمه الله كثيرا وكيف يقع التصحيف لا مشابهة بين حروف الكلمتين ثم مقتضاه أن يقتصر على ذكر الرأس وهي رواية في مسلم لكن في الرواية الأخرى جمع بينهما فتكون تلك اقتصارا من الراوي فيقدم على معارضه من مروى الشافعي لأنه أثبت سندا وفي فتاوى قاضيخان لا بأس بأن يضع 2 يده على أنفه ولا يغطى فاه ولا ذقنه ولا عارضه فيجب حمل التغطية المروية عمن ذكرنا من الصحابة على مثله
____________________
(2/441)
يعني على أنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يغطي أنفه بيده فوارت بعض أجزائه إطلاقا لاسم الكل على الجزء جمعا قوله وفائدة ما روى الفرق بين الرجل والمرأة في تغطية الرأس أي إحرامه في رأسه فيكشفه وإحرامها في وجهها فتكشفه ففي جانبها قيد فقط مراد وفي جانبه معنى لفظ أيضا مراد
وحديث الحاج الشعث التفل قدمناه من رواية عمر رضي الله عنه مما أخرج البزار والشعث انتشار الشعر وتغيره لعدم تعاهده فأفاد منع الإدهان ولذا قال وكذا لا يدهن لما رويناه والتفل ترك الطيب حتى توجد منه رائحة كريهة فيفيد منع التطيب قوله لقوله عليه الصلاة والسلام لا يلبس المحرم الخ تقدم في ضمن الحديث الطويل قريبا قوله إلا أن يكون غسيلا لا ينفض أي لا تظهر له رائحة عن محمد وهو المناسب لتعليل المصنف بأن المنع للرائحة لا للون ألا ترى أنه يجوز ليس المصبوغ بمغرة لأنه ليس له رائحة طيبة وإنما فيه الزينة والإحرام لا يمنعها حتى قالوا يجوز للمحرمة أن تتحلى بأنواع الحلى وتلبس الحرير وهو موافق لما قدمناه من حديث أبي داود بخلاف المعتدة لأنها منهية عن الزينة وعن محمد أيضا أن معناه أن لا يتعدى منه الصبغ وكلا التفسيرين صحيح وقد وقع الاستثناء في نص حديث ابن عباس في البخاري في قوله إلا المزعفرة التي تردع الجلد وقال الطحاوي حدثنا فهد وساقه إلى ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تلبسوا ثوبا مسه ورس
____________________
(2/442)
ولا زعفران إلا أن يكون غسيلا يعني في الإحرام
قال ابن أبي عمران
ورأيت يحيى بن معين يتعجب من الحماني أن يحدث بهذا الحديث فقال له عبد الرحمن هذا عندي ثم ذهب من فوره فجاء بأصله فخرج هذا الحديث عن أبي معاوية كما ذكر الحماني فكتبه عنه يحيى بن معين قال وقد روى ذلك عن جماعة من المتقدمين ثم أخرج عن سعيد بن المسيب وطاوس والنخعي إطلاقه في الغسيل قوله ولنا أن له رائحة طيبة فمبني الخلاف على أنه طيب الرائحة أولا فقلنا نعم فلا يجوز وعن هذا قلنا لا يتحنى المحرم لأن الحناء طيب ومذهبنا مذهب عائشة رضي الله عنها في هذا
ثم النص ورد بمنع المورس على ما قدمنا وهو دون المعصفر في الرائحة فيمنع المعصفر بطريق أولى لكن تقدم في حديث أبي داود قوله عليه الصلاة والسلام ولتلبس بعد ذلك ما شاءت من ألوان الثياب من معصفر الخ وكذا حديث ابن عباس رضي الله عنه حيث قال فلم ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس إلا المزعفرة التي تردع الجلد قلنا أما الثاني فقد ثبت تخصيصه فإنه قد ثبت منع المورس فيمنع المعصفر بدلالته أي أي بفحواه بل التحقيق أنه لا تخصيص إذ لا تعارض أصلا لأن النص لا يفيد أكثر من أن النهي كان وقع عن المزعفرة التي تردع وسكت عن غيرها وذلك أن قوله لم ينه إلا عن المزعفرة التي تردع إنما هو قول الراوي حكاية عن الحال وهو صادق إذا كان الواقع منه عليه الصلاة والسلام النهي عن المزعفرة من غير تعرض لغيرها بأن لم يكن المثير للجواب إلا في المزعفر وليس في هذا أنه صرح بإطلاق غيره فيكون حينئذ نص المورس وفحواه في المعصفر خاليين عن المعارض وليس تخصيصا أيضا
وأما الأول ففي موطإ مالك أن عمر رضي الله عنه رأى علي طلحة بن عبيد الله ثوبا مصبوغا وهو محرم فقال ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة فقال يا أمير المؤمنين إنما هو مدر فقال عمر رضي الله عنه أيها الرهط إنكم أئمة يقتدي بكم الناس فلو أن رجلا جاهلا رأى هذا الثوب لقال إن طلحة بن عبيد الله كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام فلا تلبسوا أيها الرهط شيئا من هذه الثياب المصبغة اه
فإن صح كونه بمحضر من الصحابة أفاد منع المتنازع فيه وغيره ثم يخرج الأزرق ونحوه بالإجماع عليه ويبقى المتنازع فيه داخلا في المنع
والجواب المحقق إن شاء الله سبحانه أن نقول ولتلبس بعد ذلك الخ مدرج فإن المرفوع صريحا هو قوله سمعته ينهى عن كذا وقوله ولتلبس بعد ذلك ليس من متعلقاته ولا يصح جعله عطفا على ينهى لكمال الانفصال بين الخبر والإنشاء فكان الظاهر أنه مستأنف من كلام ابن عمر
____________________
(2/443)
رضي الله عنهما فتخلوا تلك الدلالة عن المعارض الصريح أعنى منطوق المورس ومفهومه الموافق فيجب العمل به قوله لأن عمر رضي الله عنه اغتسل وهو محرم أسند الشافعي رحمه الله إلى عمر رضي الله عنه أنه قال ليعلى ابن أمية اصبب على رأسي
فقلت أمير المؤمنين أعلم
فقال والله ما يزيد الماء الشعرإلا شعثا فسمى الله ثم أفاض على رأسه ورواه مالك في الموطإ بمعناه
وفي الصحيحين ما يغني عن هذا وهو ما عن عبد الله بن حنين أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء فقال ابن عباس يغتسل المحرم وقال المسور لا يغتسل فأرسله ابن عباس إلى أبى أيوب الأنصارى رضى الله عنه فوجده يغتسل بين القرنين وهو مستتر بثوب قال فسلمت عليه فقال من هذا قلت أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك عبد الله بن عباس بسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل وهو محرم قال فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأ حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه اصبب فصب على رأسه ثم حرك أبو أيوب رضي الله عنه رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم قال هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل والإجماع على وجوب اغتسال المحرم من الجنابة ومن المستحب الاغتسال لدخول مكة مطلقا وإنما كره مالك رحمه الله أن يغيب رأسه في الماء لتوهم التغطية وقتل القمل فإن فعل أطعم
ويجوز للمحرم أن يكتحل بما لا طيب فيه ويجبر الكسر ويعصبه وينزع الضرس ويختتن ويلبس الخاتم ويكره تعصيب رأسه ولو عصبه يوما أو ليلة فعليه صدقة ولا شيء عليه لو عصب غيره من بدنه لعلة أو لغير علة لكنه يكره بلا علة قوله وقال مالك رحمه الله يكره أن يستظل وبه قال أحمد رحمه الله وبقولنا قال الشافعي رحمه الله وذكر المصنف رحمه الله عن عثمان رضي الله عنه أنه كان يضرب له فسطاط في مسند ابن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا الصلت عن عقبة بن صهبان قال رأيت عثمان رضي الله عنه بالأبطح وإن فسطاطه مضروب وسيفه معلق بالشجرة اه
ذكره في باب المحرم يحمل السلاح والظاهر أن الفسطاط إنما يضرب للاستظلال
واستدل أيضا بحديث أم الحصين في مسلم حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقته رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة الحديث
وفي لفظ مسلم والآخر رافع ثوبه على رأس النبي صلى الله عليه وسلم يظله من الشمس ودفع بتجويز كون هذا الرامي في قوله حتى رمى جمرة العقبة كان في غير يوم النحر في اليوم الثاني أو الثالث فيكون بعد إحلاله اللهم إلا أن يثبت من ألفاظه جمرة العقبة يوم النحر وحينئذ يبعد ويكون منقطعا باطنا وإن كان السند صحيحا من جهة أن رميها يوم النحر يكون أول النهار في وقت لا يحتاج فيه إلى تظليل فالأحسن الاستدلال بما في الصحيحين من حديث جابر الطويل حيث قال فيه فأمر بقية من
____________________
(2/444)
شعر فضربت له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزلها الحديث ونمرة بفتح النون وكسر الميم موضع بعرفة
وروى ابن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن عامر قال خرجت مع عمر رضي الله عنه فكان يطرح النطع على الشجرة فيستظل به يعني وهو محرم
قوله إن كان لا يصيب رأسه ولا وجهه يفيد أنه إن كان يصيب يكره وهذا لأن التغطية بالمماسة يقال لمن جلس في خيمة ونزع ما على رأسه جلس مكشوف الرأس وعلى هذا قالوا لا يكره له أن يحمل نحو الطبق والإجانة والعدل المشغول بخلاف حمل الثياب ونحوها لأنها تغطي عادة فيلزم بها الجزاء قوله ولنا أنه ليس في معنى لبس المخيط فاستوت فيه الحالتان قد يقال الكراهة ليس لذلك بل لكراهة شد الإزار والرداء بحبل أو غيره إجماعا وكذا عقده والهميان حينئذ من هذا القبيل
قلنا ذاك بنص خاص سببه شبهه حينئذ بالمخيط من جهة أنه لا يحتاج إلى حفظه وعن ذلك كره تخليل الرداء أيضا وليس في شد الهميان هذا المعنى لأنه يشد تحت الإزار عادة وأما عصب العصابة على رأسه فإنما كره تعصيب رأسه ولزمه إذا دام يوما كفارة للتغليظ وقالوا لا يكره شد المنطقة والسيف والسلاح والتختم وعلى هذا فما قدمناه من كراهة عصب غير الرأس من بدنه إنما هو لكونه نوع عبث قوله لأنه نوع طيب ولأنه يقتل هوام الرأس فلوجود هذين المعنيين تكاملت الجناية فوجب الدم عند أبي حنيفة رحمه الله إذا غسل رأسه بالخطمي فإن له رائحة ملتذة وإن لم تكن ذكية وفي قول أبي يوسف رحمه الله عليه صدقة لأنه ليس بطيب بل هو كالأشنان يغسل به الرأس ولكنه يقتل الهوام قوله كانوا يلبون الخ في مصنف ابن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن خيثمة قال كانوا يستحبون التلبية عند ست دبر الصلاة وإذا استقلت بالرجل راحلته وإذا صعد شرفا أو هبط واديا وإذا لقى بعضهم بعضا وبالأسحار ثم المذكور في ظاهر الرواية في أدبار الصلوات من غير تخصيص كما هو النص وعليه مشي في البدائع فقال فرائض كانت أو نوافل وخصه الطحاوي بالمكتوبات دون النوافل والفوائت فأجراها مجرى التكبير في أيام التشريق وعزى إلى ابن ناجية في فوائده عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر إذا لقى ركبا وذكر الكل سوى استقلال الراحلة وذكره الشيخ تقي الدين في الإمام ولم يعزه
وذكر
____________________
(2/445)
في النهاية حديث خيثمة هذا وذكر مكان استقلت راحلته إذا استعطف الرجل راحلته
والحاصل أنا عقلنا من الآثار اعتبار التلبية في الحج على مثال التكبير في الصلاة فقلنا السنة أن يأتي بها عند الانتقال من حال إلى حال
والحاصل أنها مرة واحدة شرط والزيادة سنة قال في المحيط حتى تلزمه الإساءة بتركها
وروى الإمام أحمد رحمه الله عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أضحى يوما محرما ملبيا حتى غربت الشمس غربت بذنوبه فعاد كما ولدته أمه وعن سهل بن سعد عنه عليه الصلاة والسلام ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وعن شماله صححه الحاكم وهذا دليل ندب الإكثار منها غير مقيد بتغير الحال فظهر أن التلبية فرض وسنة ومندوب ويستحب أن يكررها كلما أخذ فيها ثلاث مرات ويأتي بها على الولاء ولا يقطعها بكلام ولو رد السلام في خلالها جاز ولكن يكره لغيره السلام عليه في حالة التلبية وإذا رأى شيئا يعجبه قال لبيك إن العيش عيش الآخرة كما قدمناه عنه عليه الصلاة والسلام قوله ويرفع صوته بالتلبية وهو سنة فإن تركه كان مسيئا ولا شيء عليه ولا يبالغ فيه فيجهد نفسه كي لا يتضرر على أنه ذكر ما يفيد بعض ذلك
قال أبو حازم كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية إلا أنه يحمل على الكثرة مع قلة المسافة أو هو عن زيادة وجدهم وشوقهم بحيث يغلب الإنسان عن الاقتصاد في نفسه
وكذا العج في الحديث الذي رواه فإنه ليس مجرد رفع الصوت بل بشدة
وهو ما أخرج الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال من الحاج قال الشعث التفل فقام آخر فقال أي الحج أفضل يا رسول الله قال العج والثج فقام آخر فقال ما السبيل يا رسول الله قال الزاد والراحلة قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الجوزي المكي وقد تكلم فيه من قبل حفظه
وأخرجا أيضا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الحج أفضل قال العج والثج ورواه الحاكم وصححه
وقال الترمذي لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان
ومحمد بن المنكدر وهو الذي روى عنه الضحاك لم يسمع من عبد الرحمن بن يربوع
وفي مسند ابن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن أبي حنيفة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أفضل الحج العج والثج والعج العجيج بالتلبية والثج نحر الدماء
وفي الكتب الستة أنه عليه الصلاة والسلام قال أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال أو قال بالتلبية وفي صحيح البخاري عن أنس قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين وسمعتهم يصرخون بهما جميعا بالحج والعمرة في التلبية وعن ابن عباس رضي الله عنهما رفع الصوت بالتلبية زينة الحج وعنه خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة فمررنا بواد فقال أي واد هذا قالوا وادي الأزرق قال كأني أنظر إلى موسى بن عمران واضعا إصبعه في أذنه له جؤار إلى الله بالتلبية مارا بهذا الوادي ثم سرنا الوادي حتى أتينا على ثنية فقال أي ثنية هذه قالوا هرشي أو لفت فقال كأني أنظر
____________________
(2/446)
إلى يونس على ناقة حمراء خطام ناقته ليف خلبة وعليه جبة له من صوف مارا بهذا الوادي ملبيا أخرجه مسلم
ولا يخفى أنه لا منافاة بين قولنا لا يجهد نفسه بشدة رفع صوته وبين الأدلة الدالة على استحباب رفع الصوت بشدة إذ لا تلازم بين ذلك وبين الإجهاد إذ قد يكون الرجل جهوري الصوت عاليه طبعا فيحصل الرفع العالي مع عدم تعبه به
والمعنى فيه أنها من شعائر الحج والسبيل فيما هو كذلك الإظهار والإشهار كالأذان ونحوه
ويستحب أن يصلي على النبي المعلم للخير صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من التلبية ويخفض صوته بذلك قوله فإذا دخل مكة ابتدأ بالمسجد يخرج من عموم ما في الصحيحين كان عليه الصلاة والسلام إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين قبل أن يجلس ثم يجلس للناس وذكر المصنف فيه نصا خاصا عنه عليه الصلاة والسلام ومعناه ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت وروى أبو الوليد الأزرقي في تاريخ مكة بسنده عن عطاء مرسلا لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لم يلو على شيء ولم يعرج ولا بلغنا أنه دخل بيتا ولا لها بشيء حتى دخل المسجد فبدأ بالبيت فطاف به ولا يخفى أن تقديم الرجل اليمنى سنة دخول المساجد كلها
ويستحب أن يقول اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك
ويستحب أن يغتسل لدخول مكة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهارا ويذكر أنه عليه الصلاة والسلام فعله في الصحيحين
ويستحب للحائض والنفساء كما في غسل الإحرام ويدخل مكة من ثنية كداء بفتح الكاف وبعد الألف همزة وهي الثنية العليا على درب المعلى وإنما سن لأنه يكون في دخوله مستقبل باب البيت وهو بالنسبة إلى قاصد البيت كوجه الرجل بالنسبة إلى قاصده وكذا تقصد كرام الناس
وإذا خرج فمن السفلى لما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى قوله ولا يضره ليلا دخلها أو نهارا لما روى النسائي أنه عليه الصلاة والسلام دخلها ليلا ونهارا
دخلها في حجه نهارا وليلا في مرته وهما سواء في حق الدخول لأداء ما به الإحرام ولأنه دخول بلد
وما روى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان ينهى عن الدخول ليلا فليس تقريرا للسنة بل شفقة على الحاج من السراق
ويقول ع 4 ند دخوله اللهم أنت ربي وأنا عبدك جئت لأؤدى فرضك وأطلب رحمتك وألتمس رضاك متبعا لأمرك راضيا بقضائك أسألك مسألة المضطرين المشفقين من عذابك أن تستقبلني اليوم بعفوك وتحفظني برحمتك وتتجاوز عني بمغفرتك وتعينني على أداء فرائضك
اللهم افتح لي أبواب رحمتك وأدخلني فيها وأعذني من الشيطان الرجيم وكذا يقول عند دخول المسجد وكل مسجد وكل لفظ يقع به التضرع والخشوع
ويستحب أن يدخل من باب بني شيبة منه دخل عليه الصلاة والسلام قوله وإذا عاين البيت كبر وهلل ثلاثا ويدعو بما بدا له وعن عطاء أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول إذا لقى البيت أعوذ برب البيت من الكفر والفقر ومن ضيق الصدر وعذاب القبر ويرفع يديه ومن أهم الأدعية طلب الجنة بلا حساب فإن الدعاء مستجاب عند رؤية البيت قوله ولم يعين محمد رحمه الله لمشاهد الحج شيئا من الدعوات لأن توقيتها يذهب بالرقة
____________________
(2/447)
لأنه يصير كمن يكرر محفوظه بل يدعو بما بدا له ويذكر الله كيف بدا له متضرعا وإن تبرك بالمأثور منها فحسن أيضا
ولنسق نبذة منها في مواطنها إن شاء الله تعالى
أسند البيهقي إلى سعيد بن المسيب قال سمعت من عمر رضي الله عنه كلمة ما بقى أحد من الناس سمعها غيري سمعته يقول إذا رأى البيت اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام وأسند الشافعي عن ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما وبرا ومهابة وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفا وتعظيما وتكريما وبرا ورواه الواقدي في المغازي موصولا حدثني ابن أبي سبرة عن موسى بن سعيد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام دخل مكة نهارا من كداء فلما رأى البيت قال الحديث ولم يذكر فيه رفع اليدين قوله ثم ابتدأ بالحجر الأسود فاستقبله وكبر وهلل لما روى الخ أما الابتداء بالحجر ففي حديث جابر الطويل المتقدم ما يدل عليه فارجع إليه ولأنه لما كان أول ما يبدأ به الداخل الطواف لما قدمناه من قريب لزم أن يبدأ الداخل بالركن لأنه مفتتح الطواف قالوا أول ما يبدأ به داخل المسجد محرما كان أولا الطواف لا الصلاة اللهم إلا إن دخل في وقت منع الناس من الطواف أو كان عليه فائتة مكتوبة أو خاف فوت المكتوبة أو الوتر أو سنة راتبة أو فوت الجماعة في المكتوبة فيقدم كل ذلك على الطواف ثم يطوف فإن كان حلالا فطواف تحية أو محرما بالحج فطواف القدوم وهو أيضا تحية إلا أنه خص بهذه الإضافة هذا إن دخل قبل يوم النحر فإن دخل فيه فطواف الفرض يغني كالبداءة بصلاة الفرض تغني عن تحية المسجد أو بالعمرة فبطواف العمرة ولا يسن في حقه طواف القدوم وأما التكبير والتهليل ففي مسند أحمد رحمه الله عن سعيد بن المسيب عن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال له إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وكبر وهلل
وعند البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام طاف على بعير كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر وعند أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم اضطبع فاستلم وكبر ورمل وقال الواقدي حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري عن سالم بن عمر عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى الركن استلمه وهو مضبطع بردائه وقال باسم الله والله أكبر إيمانا بالله وتصديقا بما جاء به محمد
ومن المأثور عند الاستلام اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم لا إله إلا الله والله أكبر اللهم إليك بسطت يدي وفيما عندك عظمت رغبتي فاقبل دعوتي وأقلني عثرتي وارحم تضرعي وجد لي بمغفرتك وأعذني من مضلات الفتن قوله ويرفع يديه يعني عند التكبير لافتتاح الطواف لقوله عليه الصلاة والسلام
____________________
(2/448)
لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن تقدم في الصلاة وليس فيه استلام الحجر ويمكن أن يلحق بقياس الشبه لا العلة ويكون باطنهما في هذا الرفع إلى الحجر كهيئتهما في افتتاح الصلاة وكذا يفعل في كل شوط إذا لم يستلمه قوله واستلمه يعني بعد الرفع للافتتاح والتكبير والتهليل يستلمه
وكيفيته أن يضع يده على الحجر ويقبله لما في الصحيحين أن عمر رضي الله عنه جاء إلى الحجر فقبله
وقال إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولاتنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك وروى الحاكم حديث عمر رضي الله عنه وزاد فيه فقال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه بلى يا أمير المؤمنين يضر وينفع ولو علمت تأويل ذلك من كتاب الله لقلت إنه كما أقول قال الله تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } فلما أقروا أنه الرب عز وجل وأنهم العبيد كتب ميثاقهم في رق وألقمه في هذا الحجر وإنه يبعث يوم القيامة وله عينان ولسان وشفتان يشهد لمن وافاه فهو أمين الله تعالى في هذا الكتاب فقال له عمر رضي الله عنه لا أبقاني الله بأرض لست بها يا أبا الحسن وقال ليس هذا الحديث على شرط الشيخين فإنهما لم يحتجا بأبي هارون العبدي
ومن غرائب المتون ما في ابن أبي شيبة في آخر مسند أبي بكر رضي الله عنه عن رجل رأى النبي صلى الله عليه وسلم وقف عند الحجر فقال إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ثم قبله ثم حج أبو بكر رضي الله عنه فوقف عند الحجر فقال إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك فليراجع إسناده فإن صح يحكم ببطلان حديث الحاكم لبعد أن يصدر هذا الجواب عن علي رضي الله عنه أعني قوله بل يضر وينفع بعد ما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يضر ولا ينفع لأنه صورة معارضة لا جرم أن الذهبي قال في مختصره عن العبدي إنه ساقط وعمر رضي الله عنه إنما قال ذلك أو النبي صلى الله عليه وسلم إزالة لوهم الجاهلية من اعتقاد الحجارة التي هي الأصنام ثم هذا التقبيل لا يكون له صوت
وهل يستحب السجود على الحجر عقيب التقبيل فعن ابن عباس رضي الله عنهما
____________________
(2/449)
أنه كان يقبله ويسجد عليه بجبهته
وقال رأيت عمر رضي الله عنه قبله ثم سجد عليه ثم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ففعلته رواه ابن المنذر والحاكم وصححه
وما رواه الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد على الحجر وصححه يحمل على أنه مرسل صحابي لما صرح من توسط عمر إلا أن الشيخ قوام الدين الكاكي قال وعندنا الأولى أن لا يسجد لعدم الرواية في المشاهير ونقل السجود عن أصحابنا الشيخ عز الدين في مناسكه قوله وقال لعمر في رواية لابن ماجه عن ابن عمر قال استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الحجر ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلا ثم التفت فإذا هو بعمر بن الخطاب يبكي فقال يا عمر ههنا تسكب العبرات قوله وإن أمكنه أن يمس الحجر شيئا في يده أو يمسه بيده ويقبل مامس به فعل أما الأول فلما أخرج الستة إلا الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه لأن يراه الناس وليشرف وليسألوه فإن الناس غشوه
وأخرجه البخاري عن جابر إلى قوله لأن يراه الناس
ورواه مسلم عن أبي الطفيل رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على راحلته يستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن
وههنا إشكال حديثي وهو أن الثابت بلا شبهة أنه عليه الصلاة والسلام رمل في حجة الوداع في غير موضع ومن ذلك حديث جابر الطويل فارجع إليه وهذا ينافي طوافه على الراحلة
فإن أجيب بحمل حديث الراحلة على العمرة دفعه حديث عائشة رضي الله عنها في مسلم طاف عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع على راحلته يستلم الركن كراهية أن يصرف الناس عنه ومرجع الضمير فيه إن احتمل كونه الركن يعني أنه لو طاف ماشيا لانصرف الناس عن الحجر كلما جاء إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم توقيرا له أن يزاحم لكنه يحتمل كون مرجعه النبي صلى الله عليه وسلم يعني لو لم يركب لانصرف الناس عنه لأن كل من رام الوصول إليه لسؤال أو لرؤية لاقتداء لا يقدر لكثرة الخلق حوله فينصرف من غير تحصيل حاجته فيجب الحمل عليه لموافقة هذا الاحتمال حديث ابن عباس فيحصل اجتماع الحديثين دون تعارضهما
والجواب أن في الحج للآفاتي أطوفة فيمكن كون المروي من ركوبه كان في طواف الفرض يوم النحر ليعلمهم ومشيه كان في طواف القدوم وهو الذي يفيده حديث جابر الطويل لأنه حكى ذلك الطواف الذي بدأ به أول دخوله مكة كما يفيده سوقه للناظر فيه
فإن قلت فهل يجمع بين ما عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم إنما طاف راكبا ليشرف ويراه الناس فيسألوه وبين ما عن سعيد بن جبير أنه إنما طاف كذلك لأنه كان يشتكي
كما قال محمد أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان أنه سعى بين الصفا والمروة مع عكرمة
____________________
(2/450)
فجعل حماد يصعد الصفا وعكرمة لا يصعد وصعد حماد المروة وعكرمة لا يصعدها فقال حماد يا أبا عبد الله ألا تصعد الصفا والمروة فقال هكذا كان طواف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حماد فلقيت سعيد بن جبير فذكرت له ذلك فقال إنما طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وهو شاك يستلم الأركان بمحجن فطاف بين الصفا والمروة على راحلته فمن أجل ذلك لم يصعد اه
فالجواب بأن يحمل ذلك على أنه كان في العمرة
فإن قلت قد ثبت في مسلم عن ابن عباس إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورمل بالبيت ليرى المشركين قوته وهذا لازم أن يكون في العمرة إذ لا مشرك في حجة الوداع بمكة
فالجواب نحمل كلا منهما على عمرة غير الأخرى والمناسب حديث ابن عباس كونه في عمرة القضاء لأن الإراءة تفيده فليكن ذلك الركوب للشكاية في غيرها وهي عمرة الجعرانة
وسنسعفك بعد عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب الفوات إن شاء الله تعالى وأما الثاني ففي الصحيحين واللفظ لمسلم عن نافع قال رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم يقبل يده وقال ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله وذكر في فتاوي قاضيخان مسح الوجه باليد مكان تقبيل اليد قوله فإن لم يستطع شيئا من ذلك أي من التقبيل والمس باليد أو بما فيها استقبله ويرفع يديه مستقبلا بباطنهما إياه وكبر وهلل وحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويفعل في كل شوط عند الركن الأسود ما يفعله في الابتداء قوله ثم أخذ عن يمينه الخ أما الأخذ عن اليمين ففي مسلم عن جابر لما قدم عليه الصلاة والسلام مكة بدأ بالحجر فاستلمه ثم مضى على يمينه فرمل ثلاثا ومشى أربعا وأما حديث الاضطباع ففي أبي داود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى سكت عنه أبو داود وحسنه غيره
وأخرج هو والترمذي وابن ماجه عن يعلي بن أمية طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطبعا ببرد أخضر حسنه الترمذي وسمى اضطباعا افتعال من الضبع وهو العضد وأصله اضتباع لكن قد عرف أن تاء الافتعال تبدل طاء إذا وقعت
____________________
(2/451)
إثر حرف إطباق وينبغي أن يضطبع قبل الشروع في الطواف بقليل ويجب حمل الرمل في حديث الجعرانة على فعل الصحابة بتقدير ذلك الجمع الذي قدمناه
ويقول إذا أخذ في الطواف عند محاذاة الملتزم وهو ما بين الحجر الأسود والباب من الكعبة اللهم إليك مددت يدي وفيما عندك عظمت رغبتي فاقبل دعوتي وأقلني عثرتي وارحم تضرعي وجد لي بمغفرتك وأعذني من مضلات الفتن
اللهم إن لك علي حقوقا فتصدق بها علي وعند محاذاة الباب يقول اللهم هذا البيت بيتك وهذا الحرم حرمك وهذا الأمن أمنك وهذا مقام العائذ بك من النار
يعني نفسه إبراهيم عليه الصلاة والسلام أعوذ بك من النار فأعذني منها وإذا أتى الركن العراقي وهو الركن الذي من الباب إليه قال اللهم إني أعوذ بك من الشك والشرك والشقاق والنفاق ومساوي الأخلاق وسوء المنقلب في المال والأهل والولد وإذا حازى الميزاب قال اللهم إني أسألك إيمانا لا يزول ويقينا لا ينفد ومرافقة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم اللهم أظلني تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك واسقني بكأس محمد صلى الله عليه وسلم شربة لا أظمأ بعدها أبدا وإذا حاذى الركن الشامي وهو الذي من العراقي إليه قال اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا وتجارة لن تبور يا عزيز يا غفور وإذا أتى الركن اليماني وهو الذي من الشامي إليه قال اللهم إني أعوذ بك من الكفر وأعوذ بك من الفقر وأعوذ بك من عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات وأعوذ بك من الخزى في الدنيا والآخرة وأسند الواقدي في كتاب المغازي عن عبيد الله ابن السائب المخزومي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين الركن اليماني والأسود ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واعلم أنك إذا أردت أن تستوفي ما أثر من الأدعية والأذكار في الطواف كان وقوفك في أثناء الطواف أكثر من مشيك بكثير وإنما أثرت هذه في طواف فيه تأن ومهلة لارمل ثم وقع لبعض السلف من الصحابة والتابعين أن قال في موطن كذا وكذا ولآخر في آخر كذا ولآخر في نفس أحدهما شيئا آخر فجمع المتأخرون الكل لا أن الكل وقع في الأصل لواحد بل المعروف في الطواف مجرد ذكر الله تعالى ولم نعلم خبرا روى فيه قراءة القرآن في الطواف
وروى ابن ماجه عن أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول من طاف بالبيت سبعا ولا يتكلم إلا بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم محيت عنه عشر سيئات وكتبت له عشر حسنات ورفع له بها عشر درجات وسنذكر فروعا تتعلق بالطواف نذكر فيها حكم قراءة القرآن قوله لقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين واللفظ لمسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجر أمن البيت هو قال نعم قلت فما بالهم لم يدخلوه في البيت قال إن قومك قصرت بهم النفقة قلت فما شأن بابه
____________________
(2/452)
مرتفعا قال فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ولولا أن قومك حديث عهد بكفر وأخاف أن تنكره قلوبهم لنظرت أن أدخل الحجر بالبيت وأن ألزق بابه بالأرض وفي سنن أبي داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها كنت أحب أن أدخل البيت وأصلي فيه فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأدخلني في الحجر فقال صلي في الحجر إذا أردت دخول البيت فإنما هو قطعة من البيت وإن قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت قال الترمذي حسن صحيح
وكان عبد الله بن الزبير هدمه في خلافته وبناه على ما أحب عليه الصلاة والسلام أن يكون فلما قتل أعاده الحجاج على ما كان يحبه عبد الملك بن مروان قال عبد الملك لسنا من تخليط أبي خبيب في شيء فهدمها وبناها على ما كانت عليه فلما فرغ جاءه الحرث بن أبي ربيعة المعروف بالقباع وهو أخو عمر بن أبي ربيعة الشاعر ومعه رجل آخر فحدثاه عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث المتقدم فندم وجعل ينكت الأرض بمخصرة في يده ويقول وددت أني تركت أبا خبيب وما عمل من ذلك ذكر السهيلي هذا وليس الحجر كله من البيت بل ستة أذرع منه فقط لحديث عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ستة أذرع من الحجر من البيت وما زاد ليس من البيت رواه مسلم قوله لا يجوز أي لا يحل له ذلك فتجب إعادة كله ليؤديه على وجهه المشروع فإن لم يفعل بل أعاد على الحجر فقط ودخل الفرجتين جاز وإن لم يفعل حتى رجع إلى أهله فسيأتي في باب الجنايات إن شاء الله تعالى
ولو طاف ولم يدخل الفرجتين بل كان يرجع كلما وصل إلى بابهما ففي الغاية لا يعد عوده شوطا لأنه منكوس اه
وهو بناء على أن طواف المنكوس لا يصح لكن المذهب الاعتداد به ويكون تاركا للواجب فالواجب هو الأخذ في الطواف من جهة الباب فيكون بناء الكعبة على يسار الطائف فتركه ترك واجب فإنما يوجب الإثم فيجب إعادته ما دام بمكة فإن رجع قبل إعادته فعليه دم والافتتاح من غير الحجر اختلف فيه المتأخرون قيل لا يجزيه لأن الأمر بالطواف في الآية مجمل في حق الابتداء فالتحق فعله عليه الصلاة والسلام بيانا
وقيل يجزيه لأنها مطلقة لا مجملة غير أن الافتتاح من الحجر واجب
لأنه عليه الصلاة والسلام لم يتركه قط قوله لأن فرضية التوجه تقدم مثله في عدم جواز التيمم على أرض تنجست ثم جفت وتقدم البحث فيه بأن قطعية التكليف بفعل يتعلق بشيء لا يتوقف الخروج عن عدته على القطع بذلك الشىء بل ظنه كاف للقطع بالتكليف باستعمال الطاهر من الماء ثم يخرج عن عهدية القطع باستعمال ما يظن
____________________
(2/453)
طهارته منه
ويجاب بأن الأصل عدم الانتقال عن الشغل المقطوع به إلا بالقطع به
غير أن ما لم يوجد فيه طريق للقطع يكتفي فيه بالظن ضرورة كحال الماء فإنه لا يتيقن بطهارته إلا حال نزوله من السماء وكونه في البحر وماله حكمه وليس يتمكن كل أحد من تحصيل ذلك في كل تطهير بخلاف التوجه والتيمم والله سبحانه وتعالى أعلم قوله وكان سببه الخ في الصحيحين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب
فقال المشركون إنه يقدم غدا عليكم قوم قد وهنتهم الحمى ولقوا منها شدة فجلسوا مما يلي الحجر فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا بين الركنين ليرى المشركون جلدهم فقال المشركون هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هم أجلد من كذا وكذا وقال ابن عباس ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم اه
ويعني بالركنين اليماني والأسود كما في أبي داود كانوا إذا بلغوا الركن اليماني وتغيبوا عن قريش مشوا ثم يطلعون عليهم فيرملون يقول المشركون كأنهم الغزلان قال ابن عباس فكانت سنة
فعن هذا ذهب الحسن البصري وسعيد بن جبير وعطاء إلى أنه لا رمل بين الركنين
وذهب ابن عباس رضي الله عنهما فيما نقل عنه إلى أنه لا رمل أصلا ونقله الكرماني عن بعض مشايخنا وفي الصحيحين عن أبي الطفيل قال قلت لابن عباس يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمل بالبيت وأن ذلك سنة قال صدقوا وكذبوا قلت ما صدقوا وكذبوا قال صدقوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمل وكذبوا ليس سنة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة فقال المشركون إن محمدا وأصحابه لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من الهزال وكانوا يحسدونه فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يرملوا ثلاثا ويمشوا أربعا فأشار المصنف إلى خلاف الفريقين بقوله ثم بقى الحكم بعد زوال السبب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده وبقوله والرمل من الحجر إلى الحجر هو المنقول أما أنه بقى الحكم بعد زوال السبب في زمنه عليه الصلاة والسلام وبعده فلحديث جابر الطويل أنه رمل في حجة الوداع وتقدم الحديث وكذا الصحابة بعده والخلفاء الراشدون وغيرهم
وأخرج البخاري عن ابن عمر أن عمر قال ما لنا
____________________
(2/454)
وللرمل إنما كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم الله ثم قال شيء صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه وأخرج أبو داود وابن ماجه عن زيد بن أسلم عن أبيه قال سمعت عمر رضي الله عنه يقول فيم الرمل وكشف المناكب وقد أعز الله تعالى الإسلام ونفي الكفر وأهله و مع ذلك فلا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما أنه من الحجر إلى الحجر منقولا ففي مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر قال رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثا ومشى أربعا وأخرج مسلم والترمذي عن جابر مثله
وفي مسند الإمام أحمد نن أبي الطفيل عامر بن واثلة أنه عليه الصلاة والسلام رمل ثلاثا من الحجر إلى الحجر
وفي آثار محمد بن الحسن مرسلا أخبرنا أبو حنيفة رحمه الله عن حماد بن أبي سلمان عن إبراهيم النخعي أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر فهذه تقدم على ذلك لأنها مثبتة وذلك ناف
وأيضا فإنما في ذلك الإخبار عن الصحابة رضي الله عنهم والمخبر عنه في هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ما فسر المصنف الرمل به هو ما فسر به في المبسوط
وقيل هو إسراع مع تقارب الخطأ دون الوثوب والعدو
هذا والرمل بالقرب من البيت أفضل فإن لم يقدر فهو بالبعد من البيت أفضل من الطواف بلا رمل مع القرب منه ولو مشى شوطا ثم تذكر لا يرمل إلا في شوطين وإن لم يذكر في الثلاثة لا يرمل بعد ذلك قوله ويستلم الحجر كلما مر به ذكر في وجهه المعنى دون المنقول وهو إلحاق الأشواط بالركعات فما يفتتح به العبادة وهو الاستلام يفتتح به كل شوط كالتكبير في الصلاة وهو قياس شبه لإثبات استحباب شيء وفتح بابه قوله عليه الصلاة والسلام الطواف بالبيت صلاة لكن فيه المنقول وهو مافي مسند أحمد والبخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعير كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر قوله وإن لم يستطع الاستلام أي كلما مر استقبل وكبر وهلل ولم يذكر المصنف ولا كثير رفع اليدين في كل تكبير يستقبل به في كل مبدأ شوط فإن لا حظنا ما رواه من قوله عليه الصلاة والسلام لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن ينبغي أن ترفع للعموم في استلام الحجر وإن لاحظنا عدم صحة هذا اللفظ فيه وعدم تحسينه بل القياس المتقدم لم يفد ذلك إذ لا رفع مع ما به الافتتاح فيها إلا في الأول واعتقادي أن هذا هو الصواب ولم أر عنه عليه الصلاة والسلام خلافه قوله وعن محمد أنه سنة هذا هو مقابل ظاهر الرواية في قوله وهوحسن في ظاهر الرواية ويقبله مثل الحجر وحديث ابن عمر من رواية الجماعة إلا الترمذي لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يمس من الأركان إلا اليمانيين ليس حجة على ظاهر الرواية كما قد يتوهم إذ ليس فيه سوى إثبات رؤية استلامه عليه الصلاة والسلام للركنين ومجرد ذلك لا يفيد كونه على وجه المواظبة ولا سنة دونها غير أنا علمنا المواظبة على استلام الأسود من خارج فقلنا باستنانه فيكون مجرد حديث ابن عمر دليل ظاهر الرواية
وكذا ما في مسلم عن ابن عمر ما تركت استلام
____________________
(2/455)
هذين الركنين اليماني والحجر الأسود منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما فإنه لا يزيد على أنه رآه يستلمه فلم يتركه هو وذلك قد يكون محافظة منه على الأمر المستحب وكذا ما عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال مسح الركن اليماني والركن الأسود يحط الخطايا حطا رواه أحمد والنسائي قال هذا ندب والمندوب من المستحب
نعم ما في الدارقطني عن ابن عمر كان عليه الصلاة والسلام يقبل الركن اليماني ويضع يده عليه وأخرجه عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال ويضع خده عليه ظاهر في المواظبة
وأظهر منه ماعن ابن عمر كان عليه الصلاة والسلام لا يدع أن يستلم الحجر والركن اليماني في كل طوافه رواه أحمد وأبو داود وعن مجاهد من وضع يده على الركن اليماني ثم دعا استجيب له وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال وكل بالركن اليماني سبعون ألف ملك فمن قال اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة سنة وقنا عذاب النار قالوا آمين
ويستحب الإكثار من هذا الدعاء لأنه جامع لخيرات الدنيا والآخرة قوله ولنا قوله عليه الصلاة والسلام وليصل الطائف لكل أسبوع ركعتين لم يعرف هذا الحديث
نعم فعله عليه الصلاة والسلام لهما ثابت في الصحيحين وجميع كتب الحديث إلا أن مفيد الوجوب من الفعل أخص من مطلق الفعل إذ هو يفيد المواظبة المقرونة بعدم الترك مرة وقد يثبت استدلالا بما يستقل بإثبات نفس المطلوب فيثبتان معا وهو بما تقدم من حديث جابر الطويل أنه عليه الصلاة والسلام لما انتهى إلى مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام قرأ { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } نبه بالتلاوة قبل الصلاة على أن صلاته هذه امتثالا لهذا الأمر والأمر للوجوب إلا أن استفادة ذلك من التنبيه وهو ظني فكان الثابت الوجوب أي بالمعنى المصطلح ويلزمه حكمنا بمواظبته من غير ترك إذ لا يجوز عليه ترك الواجب
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر كان عليه الصلاة والسلام إذا طاف في الحج والعمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أطواف ويمشي أربعا ثم يصلي سجدتين وهو لا يفيد عموم فعله إياهما عقيب كل طواف
وروى عبد الرزاق مرسلا أخبرنا مندل عن ابن جريج عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي لكل أسبوع ركعتين وفي البخاري تعليقا قال إسماعيل قلت للزهري إن عطاء يقول تجزيه المكتوبة من ركعتي الطواف فقال السنة أفضل لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم أسبوعا قط إلا صلى ركعتين
وقول شذوذ منا ينبغي أن تكونا واجبتين عقب الطواف الواجب لا غير ليس بشيء لإطلاق الأدلة
ويكره وصل الأسابيع عند أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف وسنذكر تمام هذا في فروع تتعلق بالطواف إن شاء الله تعالى
ويتفرع على الكراهة أنه لو نسيهما فلم يتذكر إلا بعد أن شرع في طواف آخر إن كان قبل إتمام شوط رفضه وبعد إتمامه لا لأنه دخل فيه فيلزمه إتمامه
____________________
(2/456)
وعليه لكل أسبوع منهما ركعتان آخرا لأنه لو ترك الأسبوع الثاني بعد أن طاف منه شوطا أو شوطين واشتغل بركعتي الأسبوع الأول لأخل بالسنتين بتفريق الأشواط في الأسبوع الثاني لأن وصل الأشواط سنة وترك ركعتي الأسبوع الأول عن موضعهما فإن الركعتين واجبتان وفعلهما في موضعهما سنة ولو مضى في الأسبوع الثاني فأتمه لأخل بسنة واحدة فكان الإخلال بإحداهما أولى من الإخلال بهما كذا في مناسك الكرماني ولو طاف بصبي لا يصلي ركعتي الطواف عنه ويستحب أن يدعو بعد ركعتي الطواف بدعاء آدم عليه السلام اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي
اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما كتبت علي ورضني بما قسمت لي
فأوحى الله إليه إني قد غفرت لك ولن يأتي أحد من ذريتك يدعو بمثل ما دعوتني به إلا غفرت ذنوبه وكشفت همومه ونزعت الفقر من بين عينيه وأنجزت له كل ناجز وأتته الدنيا وهي راغمة وإن كان لا يريدها قوله لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى ركعتين عاد إلى الحجر تقدم في حديث جابر الطويل وقوله والأصل الخ استنباط أمر كلي من فعله هذا وهو ظاهر الوجه
ويستحب أن يأتي زمزم بعد الركعتين قبل الخروج إلى الصفا فيشرب منها ويتضلع ويفرغ الباقي في البئر ويقول اللهم إني أسألك رزقا واسعا وعلما نافعا وشفاء من كل داء وسنعقد للشرب منها فصلا عند ذكر المصنف الشرب منها عقيب طواف الوداع نذكر فيه إن شاء الله تعالى ما فيه مقنع ثم يأتي الملتزم قبل الخروج إلى الصفا وقيل يلتزم الملتزم قبل الركعتين ثم يصليهما ثم يأتي زمزم ثم يعود إلى الحجر ذكره السروجي
والتزامه أن يتشبث به ويضع صدره وبطنه عليه وخده الأيمن ويضع يديه فوق رأسه مبسوطتين على الجدار قائمتين قوله وهو سنة أي للآفاتي لا غير قوله لقوله عليه الصلاة والسلام من أتى البيت فليحيه هذا غريب جدا ولو ثبت كان الجواب بأن هناك قرينة تصرف الأمر عن الوجوب وهو نفس مادة اشتقاق هذا الأمر وهو التحية فإنه مأخوذ في مفهومها التبرع لأنها في اللغة عبارة عن إكرام يبدأ به الإنسان على سبيل التبرع كلفظ التطوع فلو قال تطوع أفاد الندب فكذا إذا قال حيه بخلاف قوله تعالى { فحيوا بأحسن منها } لأنه وقع جزاء لا ابتداء فلفظة التحية فيه من مجاز المشاكلة مثل جزاء سيئة سيئة
____________________
(2/457)
وهذا هو الجواب الثاني في الكتاب
وأما الجواب الذي تضمنه الدليل القائل إن الأمر بالطواف لا يقتضي التكرار في قوله تعالى { وليطوفوا } وقد تعين طواف الزيارة بالإجماع فلا يكون غيره كذلك فإنما يفيد لو ادعى في طواف القدوم الركنية بدعوى الافتراض لكنه ليس مدعاه
قوله ثم يخرج إلى الصفا مقدما رجله اليسري حال الخروج من المسجد قائلا باسم الله والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وأدخلني فيها وأعذني من الشيطان قوله ويكبر ويهلل وفي الأصل قال فيحمد الله ويثني عليه ويكبر ويهلل ويلبي ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو الله لحاجته وقدمنا من حديث جابر الطويل قوله فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك قال مثل ذلك ثلاث مرات
____________________
(2/458)
ومن المأثور أن يقول لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ويرفع يديه جاعلا باطنهما إلى السماء كما للدعاء ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو
وفي البدائع الصعود على الصفا والمروة سنة فيكره تركه ولا شيء عليه ويقول في هبوطه اللهم استعملني بسنة نبيك وتوفني على ملته وأعذني من مضلات الفتن برحمتك يا أرحم الراحمين فإذا وصل إلى بطن الوادي بين الميلين الأخضرين قال رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم يؤثر ذلك عن ابن عمر ويقول على المروة مثل ما قال على الصفا وأما أنه عليه الصلاة والسلام خرج من باب بني مخزوم فأسنده الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد إلى الصفا من باب بني مخزوم
وأسند أيضا عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قال ثم خرج من باب الصفا وروى ابن أبي شيبة عن عطاء مرسلا أنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى الصفا من باب بني مخزوم وأما عدد الأشواط ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة فطاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين وطاف بين الصفا والمروة سبعا هذا والأفضل للمفرد أن لا يسعى بين الصفا والمروة عقيب طواف القدوم بل يؤخر السعي إلى يوم النحر عقيب طواف الزيارة لأن السعي واجب فجعله تبعا للفرض أولى من جعله تبعا للسنة وإنما جاز بعد طواف القدوم رخصة بسبب كثرة ما على الحاج من الأعمال يوم النحر فإنه يرمي وقد يذبح ثم يحلق بمنى ثم يجيء إلى مكة فيطوف الطواف المفروض ثم يرجع إلى منى ليبيت بها فإذا لم يكن من غرضه أن يسعى بعد طواف القدوم أخذا بالأولى فلا يرمل فيه لأن الرمل إنما شرع في طواف بعده سعى ويرمل في طواف الزيارة على ما سنذكر
هذا وشرط جواز السعي أن يكون بعد طواف أو أكثره ذكره في البدائع قوله وهذا شوط ظاهر المذهب أن كلا من الذهاب إلى المروة والمجيء منه إلى الصفا شوط وعند الطحاوي لا فقيل الرجوع إلى الصفا ليس معتبرا من الشوط بل لتحصيل الشوط الثاني ويعطي بعض العبارات أنه من الصفا إلى الصفا لما ذكروا في وجه إلحاقه بالطواف حيث كان من المبدإ أعنى الحجر إلى المبدأ وعنده في مراده من ذلك اشتباه وأياما كان فإبطاله بحديث جابر الطويل حيث قال فيه فلما كان آخر طوافه بالمروة قال لو استقبلت من أمري الحديث لا ينتهض أما على الأول فلأن آخر السعي عند الطحاوي لاشك أنه
____________________
(2/459)
بالمروة ورجوعه عنها إلى حال سبيله فإنه إنما كان يحتاج إلى الرجوع إلى الصفا ليفتتح الشوط وقد تم السعي وعلى الثاني إذا كان الشوط الأخير صح أن يقال عند رجوعه فيه من المروة هذا آخر طوافه بالمروة لأنه لا يرجع بعد هذه الوقفة بها إليها وإن احتاج إلى رجوعه إلى الصفا لتتميم الشوط وما دفع به أيضا من أنه لو كان كذلك لكان الواجب أربعة عشر شوطا وقد اتفق رواة نسكه عليه الصلاة والسلام إنه إنما طاف سبعة فموقوف على أن مسمى الشوط ما من الصفا إلى المروة أو من الصفا إلى الصفا في الشرع وهو ممنوع إذ يقول هذا اعتباركم لا اعتبار الشرع لعدم النقل عنه عليه الصلاة والسلام في ذلك وأقل الأمور إذا لم يثبت عن الشارع تنصيص في مسماه أن يثبت احتمال أنه كما قلتم وكما قلت فيجب الاحتياط فيه وذلك باعتبار قولي فيه ويقويه أن لفظ الشوط أطلق على ما حوالي البيت وعرف قطعا أن المراد به ما من المبدأ إلى المبدأ فكذا إذا أطلق في السعي إذ لا منصص على المراد فيجب أن يحمل على المعهود منه في غيره فالوجه أن إثبات مسمى الشوط في اللغة يصدق على كل من الذهاب من الصفا إلى المروة والرجوع منها إلى الصفا وليس في الشرع ما يخالفه فيبقى على المفهوم اللغوي وذلك أنه في الأصل مسافة يعدوها الفرس كالميدان ونحوه مرة واحدة ومنه قول سليمان بن صرد لعلي رضي الله عنه إن الشوط بطيء أي بعيد وقد بقي من الأمور ما تعرف به صديقك من عدوك فسبعة أشواط حينئذ قطع مسافة مقدرة سبع مرات فإذا قال طاف بين كذا وكذا سبعا صدق بالتردد من كل من الغايتين إلى الأخرى سبعا بخلاف طاف بكذا فإن حقيقته متوقفة على أن يشمل بالطواف ذلك الشيء فإذا قال طاف به سبعا كان بتكريره تعميمه بالطواف سبعا فمن هنا افترق الحال بين الطواف بالبيت حيث لزم في شوطه كونه من المبدإ إلى المبدإ والطواف بين الصفا والمروة حيث لم يستلزم ذلك
فرع إذا فرغ من السعي يستحب له أن يدخل فيصلي ركعتين ليكون ختم السعي كختم الطواف كما ثبت أن مبدأه بالاستلام كمبدئه عنه عليه الصلاة والسلام ولا حاجة إلى هذا القياس إذ فيه نص وهو ما روى المطلب بن أبي وداعة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من سعيه جاء حتى إذا حاذى الركن فصلى ركعتين في حاشيه المطاف وليس بينه وبين الطائفين أحد رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان
وقال في روايته رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حذو الركن الأسود والرجال والنساء يمرون بين يديه ما بينهم وبينه سترة وعنه أنه رآه عليه الصلاة والسلام يصلي مما يلي باب بني سهم والناس يمرون الخ وباب بني سهم هو الذي يقال له اليوم باب العمرة لكن على هذا لا يكون حذو الركن الأسود والله أعلم بحقيقة الحال قوله لقوله عليه الصلاة والسلام اعلم أنه روى بصيغة الخبر أبدأ في مسلم من حديث جابر الطويل
____________________
(2/460)
ونبدأ في رواية أبي داود والترمذي وابن ماجه ومالك في الموطأ وبصيغة الأمر وهو المذكور في الكتاب وهو عند النسائي والدارقطني وهو مفيد الوجوب خصوصا مع ضميمة قوله عليه الصلاة والسلام لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه أخرجه مسلم
فعن هذا مع كون نفس السعي واجبا لو افتتح من المروة لم يعتبر ذلك الشوط إلى الصفا وهذا لأن ثبوت شرط الواجب بمثل ما يثبت به أقصى حالاته وهو ما يثبت بالآحاد فكذا شرطه قوله وقال الشافعي إنه ركن الخ قال الشافعي رحمه الله أخبرنا عبد الله ابن المؤمل العابدي عن عمر بن عبد الرحمن بن محيص عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجزأة إحدى نساء بني عبد الدار قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة ما يسعى وهو يقول اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا محمد بن بشر حدثنا عبد الله بن المؤمل حدثنا عبد الله ابن أبي حسين عن عطاء عن حبيبة بنت أبي تجزأة فذكره وخطئ ابن أبي شيبة فيه حيث أسقط صفية بنت شيبة وجعل مكان ابن محيص ابن أبي حسين
قال ابن القطان نسبة الوهم إلى ابن المؤمل أولى وطعن في حفظه مع
____________________
(2/461)
أنه اضطرب في هذا الحديث كثيرا فأسقط عطاء مرة وابن محيص أخرى وصفية بنت شيبة وأبدل ابن محيص بابن أبي حسين وجعل المرأة عبدرية تارة ويمنية أخرى وفي الطواف تارة وفي السعي بين الصفا والمروة أخرى اه
وهذا لا يضر بمتن الحديث إذ بعد تجويز المتقنين له لا يضره تخليط بعض الرواة وقد ثبت من طرق عديدة منها طريق الدارقطني عن ابن المبارك أخبرني معروف بن مشكان أخبرني منصور بن عبد الرحمن عن أخته صفية قالت أخبرني نسوة من بني عبد الدار اللاتي أدركن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلن دخلنا دار ابن أبي حسين فرأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف الخ قال صاحب التنقيح إسناده صحيح
والجواب أنا قد قلنا بموجبه إذ مثله لا يزيد على إفادة الوجوب وقد قلنا به أما الركن فإنما يثبت عندنا بدليل مقطوع به فإثباته بهذا الحديث إثبات بغير دليل فحقيقة الخلاف في أن مفاد هذا الدليل ماذا والحق فيه ما قلنا لأن نفس الشيء ليس إلا ركنه وحده أو مع شيء آخر فإذا كان ثبوت ذلك الشيء قطعيا لزم في ثبوت أركانه القطع لأن ثبوتها هو ثبوته فإذا فرض القطع به كان ذلك للقطع بها وتقدم مثل هذا في مسألة قراءة الفاتحة في الصلاة وإذا تحققت هذا فجواب المصنف بتأويله بمعنى كتب استحبابا كقوله تعالى { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية } مناف لمطلوبه فكيف يحمل عليه بعض الأدلة بل العادة التأويل بما يوافق المطلوب فكيف ولا مفيد للوجوب فيما نعلم سواه فنحن محتاجون إليه في إثبات الدعوى فإن الآية وهي { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه في مصحفه / < فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما > / لايفيد الوجوب والإجماع لم يثبت على الوجوب بالمعنى الذي يقول به إذ ليس هو معنى الفرض الموجب فواته عدم الصحة فالثابت الخلاف والفريقان متمسكهم الحديث المذكور فلا يجوز أن يصرف عن الوجوب مع أنه حقيقته إلى ما ليس معناه بلا موجب بل مع ما يوجب عدم الصرف بخلاف لفظ كتب في الوصية للصارف هناك
واعلم أن سياق الحديث يفيد أن المراد بالسعي المكتوب الجرى الكائن في بطن الوادي إذا راجعته لكنه غير مراد بلا خلاف يعلم فيحمل على أن المراد بالسعي التطوف بينهما اتفق أنه عليه الصلاة والسلام قاله لهم عند الشروع في الجري الشديد المسنون لما وصل إلى محله شرعا أعنى بطن الوادي ولا يسن جرى شديد في غير هذا المحل بخلاف الرمل في الطواف إنما هو مشي فيه شدة وتصلب
ثم قيل في سبب شرعية الجري في بطن الوادي إن هاجر رضي الله عنها لما تركها إبراهيم عليه الصلاة والسلام عطشت فخرجت تطلب الماء وهي تلاحظ إسماعيل عليه السلام خوفا عليه فلما وصلت إلى بطن الوادي تغيب عنها فسعت لتسرع الصعود فتنظر إليه فجعل ذلك نسكا إظهارا لشرفهما وتفخيما لأمرهما وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أمر بالمناسك عرض الشيطان له عند السعي فسابقه فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام أخرجه أحمد
وقيل إنما سعى سيدنا ونبينا عليه الصلاة والسلام إظهارا للمشركين الناظرين إليه في الوادي الجلد
____________________
(2/462)
ومحمل هذا الوجه ما كان من السعي في عمرة القضاء ثم بقى بعده كالرمل إذ لم يبق في حجة الوداع مشرك بمكة
والمحققون على أن لا يشتغل بطلب المعنى فيه وفي نظائره من الرمي وغيره بل هي أمور توقيفية يحال العلم فيها إلى الله تعالى قوله ثم يقيم بمكة حراما لأنه محرم بالحج فلا يتحلل قبل الإتيان بأفعاله خلافا للحنابلة والظاهرية وعامة أهل الحديث في قولهم إنه يفسخ الحج إذا طاف للقدوم إلى عمرة وظاهر كلامهم أن هذا واجب
وقال بعض الحنابلة نحن نشهد الله أنا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضا فسخه إلى عمرة تفاديا من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن في السنن عن البراء بن عازب رضي الله عنه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأحرمنا بالحج فلما قدمنا مكة قال اجعلوها عمرة فقال الناس يا رسول الله قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة قال انظروا ما آمركم به فافعلوا فردوا عليه القول فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة رضي الله عنها غضبان فرأت الغضب في وجهه فقالت من أغضبك أغضبه الله قال وما لي لا أغضب وأنا آمر أمرا فلا أتبع وفي لفظ لمسلم دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان فقلت ومن أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار قال أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون الحديث
وقال سلمة بن شبيب لأحمد كل أمرك عندي حسن إلا خلة واحدة قال وما هي قال تقول بفسخ الحج إلى العمرة فقال يا سلمة كنت أرى لك عقلا عندي في ذلك أحد عشر حديثا صحاحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتركها لقولك ولنورد منها ما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابة صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم فقالوا يا رسول الله أي الحل قال الحل كله وفي لفظ وأمر أصحابه أن يحلوا إحرامهم بعمرة إلا من كان معه الهدى وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أهل عليه الصلاة والسلام وأصحابه بالحج وليس معه أحد منهم هدى غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة إلى أن قال فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة الحديث
وفيه قالوا ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر يعنون الجماع جاء مفسرا في مسند أحمد قالوا يا رسول الله أيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا قال نعم عاد للحديث قبله فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدى لأحللت وفي لفظ فقام فينا فقال قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم ولولا هدبي لحللت كما تحلون وفي لفظ في الصحيح أيضا أمرنا لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى قال فأهللنا من الأبطح فقال سراقة بن مالك بن جعشم يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد وفي لفظ أرأيت متعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد وفي السنن عن الربيع بن سبرة عن أبيه خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان قال له سراقة بن مالك المدلجي يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم فقال إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجكم عمرة فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وسعى
____________________
(2/463)
بين الصفا والمرة فقد حل إلا من كان أهدى وظاهر هذا أن مجرد الطواف والسعي يحلل المحرم بالحج وهو ظاهر مذهب ابن عباس رضي الله عنهما قال عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال من جاء مهلا بالحج فإن الطواف بالبيت يصيره إلى العمرة شاء أو أبى قلت إن الناس ينكرون ذلك عليك قال هي سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وإن رغموا وقال بعض أهل العلم كل من طاف بالبيت ممن لا هدى معه من مفرد أو قارن أو متمتع فقد حل إما وجوبا وإما حكما وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم إذا أدبر النهار من ههنا وأقبل الليل من ههنا فقد أفطر الصائم أي حكما أي دخل وقت فطره فكذا الذي طاف إما أن يكون قد حل وإما أن يكون ذلك الوقت في حقه ليس وقت إحرام وعامة الفقهاء المجتهدين على منع الفسخ
والجواب أولا بمعارضة أحاديث الفسخ بحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بالحج ومنا من أهل بالعمرة ومنا من أهل بالحج والعمرة وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج فأما من أهل بالعمرة فأحلوا حين طافوا بالبيت وبالصفا والمروة
وأما من أهل بالحج أو بالحج والعمرة فلم يحلوا إلى يوم النحر وبما صح عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال لم يكن لأحد بعدنا أن يصير حجته عمرة إنها كانت رخصة لنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وعنه كان يقول فيمن حج ثم فسخها عمرة لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود عنه
وروى النسائي عنه بإسناد صحيح نحوه
ولأبي داود بإسناد صحيح عن عثمان رضي الله عنه أنه سئل عن متعة الحج فقال كانت لنا ليست لكم
وفي سنن أبي داود والنسائي من حديث بلال بن الحرث عن أبيه قال قلت يا رسول الله أرأيت فسخ الحج في العمرة لنا خاصة أم للناس عامة فقال بل لنا خاصة ولا يعارضه حديث سراقة حيث قال ألعامنا هذا أم للأبد فقال له للأبد لأن المراد ألعامنا فعل العمرة في أشهر الحج أم للأبد لا أن المراد فسخ الحج إلى العمرة وذلك أن سبب الأمر بالفسخ ما كان إلا تقريرا لشرع العمرة في أشهر الحج ما لم يكن مانع سوق الهدى وذلك أنه كان مستعظما عندهم حتى كانوا يعدونها في أشهر الحج من أفجر الفجور فكسر سورة ما استحكم في نفوسهم من الجاهلية من إنكارها بحملهم على فعله بأنفسهم يدل على هذا ما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا ويقولون إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم فقالوا يا رسول الله أي الحل قال الحل كله فلو لم يكن حديث بلال بن الحرث ثابتا كما قال الإمام أحمد حيث قال لا يثبت عندي ولا يعرف هذا الرجل كان حديث ابن عباس هذا صريحا في كون سبب الأمر بالفسخ هو قصد محو ما استقر في نفوسهم في الجاهلية بتقرير الشرع بخلافه ألا ترى إلى ترتيبه الأمر بالفسخ على ما كان عندهم من ذلك بالفاء غير أنه رضي الله عنه بعد ذلك ظن أن هذا الحكم مستمر بعد إثارة السبب إياه كالرمل والاضطباع فقال به وظهر لغيره كأبي ذر وغيره أنه منقض بانقضاء سببه ذلك ومشى عليه محققو الفقهاء المجتهدين وهو اولى لو كان قول أبي ذر عن رأي لا عن نقل عنه عليه الصلاة والسلام لأن الأصل المستمر
____________________
(2/464)
في الشرع عدم استحباب قطع ما شرع فيه من العبادات وإبدالها بغيرها مما هو مثلها فضلا عما هو أخف منها بل يستمر فيما شرع فيه حتى ينهيه وإذا كان الفسخ ينافي هذا مع كون المثير له سببا لم يستمر وجب أن يحكم برفعه مع ارتفاعه
ثم بعد هذا رأيت التصريح في حديث سراقة بكون المسئول عنه العمرة لا الفسخ في كتاب الآثار في باب التصديق بالقدر
محمد بن الحسن قال أخبرنا أبو حنيفة قال حدثنا أبو الزبير عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سأل سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي قال يا رسول الله أخبرنا عن عمرتنا هذه ألعامنا هذا أم للأبد فقال للأبد فقال أخبرنا عن ديننا هذا كأنما خلقنا له في أي شيء العمل في شيء قد جرت به الأقلام وثبتت به المقادير أم في شيء يستأنف له العمل قال في شيء جرت به الأقلام وثبتت به المقادير وساق الحديث إلى آخره فقول أحمد رحمه الله عندي أحد عشر حديثا الخ لا يفيد لأن مضمونها لا يزيد على أمرهم بالفسخ والعزم عليهم فيه وغضبه على من تردد استشفاق لاستحكام نفرتهم من العمرة في أشهر الحج ونحن لا ننكر ذلك وإن كان حديث عائشة الذي عارضنا به يفيد خلافه وإنما الكلام في أنه شرع في عموم الزمان ذلك الفسخ أولا وشيء منها لا يمسه سوى حديث سراقة بتلك الرواية وقد بينا المراد به وأثبتناه مرويا وثبت أنه حكم كان لقصد تقرير الشرع المستحكم في نفوسهم ضده وكذا إعادة الشارع إذا أورد حكما يستعظم لأحكام ضده المنسوخ في شريعتنا يرد بأقصى المبالغات ليفيد استئصال ذلك التمكن المرفوض كما في الأمر بقتل الكلاب لما كان المتمكن عندهم مخالطتها وعدها من أهل البيت حتى انتهو فنسخ فكذا هذا لما استقر الشرع عندهم وانقشع غمام ما كان في نفوسهم من منعه رجع الفسخ وصار الثابت مجرد جواز العمرة في أشهر الحج والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة الحال قوله قال عليه الصلاة والسلام الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله قد أحل فيه المنطق فمن نطق فلا ينطق إلا بخير هذا الحديث روى مرفوعا وموقوفا أما المرفوع فمن رواية سفيان عن عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما أخرجها الحاكم وابن حبان ومن رواية موسى بن أعين عن ليث بن أبي سليم عن عطاء عن طاوس مرفوعا باللفظ المذكور أخرجها البيهقي
ومن رواية الباغندي يبلغ به ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا رواه البيهقي وقال ولم يصنع الباغندي شيئا في رفعه لهذا الحديث فقد رواه ابن جريج وأبو عوانة عن إبراهيم بن ميسرة موقوفا وبهذا عرف وقفه ولا يخفى أن عطاء بن السائب من الثقات غير أنه اختلط فمن روى عنه قبل الاختلاط فحديثه حجة قيل وجميع من روى عنه روى بعد الاختلاط إلا شعبة وسفيان هذا من حديث سفيان عنه
وأيضا فقد تابعه على رفعه من سمعت فيقوى ظن رفعه لو لم يكن من رواية سفيان عنه
وأسنده الطبراني من حديث طاوس عن ابن عمر رضي الله عنهما لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/465)
قال الطواف بالبيت صلاة فأقلوا فيه الكلام وسنذكره من رواية الترمذي أيضا قوله فإذا كان قبل يوم التروية بيوم وهو اليوم السابع من ذي الحجة ويوم التروية هو الثامن سمى به لأنهم كانوا يروون إبلهم فيه استعدادا للوقوف يوم عرفة
وقيل لأن رؤيا إبراهيم كانت في ليلته فتروى فيه في أن ما رآه من الله أولا من الرأى وهو مهموز ذكره في طلبة الطلبة
وقيل لأن الإمام يروى للناس مناسكهم من الرواية وقيل غير ذلك
وهذه الخطبة خطبة واحده بلا جلوس وكذا خطبة الحادي عشر وأما خطبة عرفة فيجلس بينهما وهي قبل صلاة الظهر والخطبتان الأوليان بعده قوله أولها يوم التروية قلنا خلاف المروي عنه صلى الله عليه وسلم فإنه روى عنه أنه خطب في السابع وكذا أبو بكر وقرأ على رضى الله عنه عليهم سورة براءة رواه ابن المنذر وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما ولأن تلك الأيام أيام اشتغال على ما لا يخفى فيكون داعية تركهم الحضور فيفوت المقصود من شرع الخطب فكان ما ذكرناه أنفع وفي القلوب أنجع أي أبلغ قوله فإذا صلى الفجر يوم التروية بمكة خرج إلى منى ظاهر هذا التركيب إعقاب صلاة الفجر بالخروج إلى منى وهو خلاف السنة
والحديث الذي ذكره المصنف في الاستدلال أخص من الدعوى ليفيد أن مضمونه هو السنة ولم يبين في المبسوط خصوص وقت الخروج واستحب في المحيط كونه بعد الزوال وليس بشيء
وقال المرغيناني بعد طلوع الشمس وهو الصحيح لما عن ابن عمر رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام صلى الفجر يوم التروية بمكة فلما طلعت الشمس راح إلى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح يوم عرفة وكأن مستند الأول ما في حديث جابر أنه عليه الصلاة والسلام توجه قبل صلاة الظهر فإنه لا يقال في التخاطب لما بعد طلوع الشمس
____________________
(2/466)
جئتك قبل صلاة الظهر ولا لما قبل الأذان ودخول الوقت وإنما يقال إذ ذاك قبل الظهر أو أذان الظهر فإنما يقال ذلك عرفا لما بعد الوقت قبل الصلاة
لكن حديث ابن عمر رضي الله عنه صريح فيقضي به على المحتمل وفي الكافي للحاكم الشهيد ويستحب أن يصلي الظهر بمنى يوم التروية هذا ولا يترك التلبية في أحواله كلها حال إقامته بمكة في المسجد وخارجه إلا حال كونه في الطواف ويلبي عند الخروج إلى منى ويدعو بما شاء ويقول اللهم إياك أرجو وإياك أدعو وإليك أرغب اللهم بلغني صالح عملي وأصلح لي في ذريتي فإذا دخل منى قال اللهم هذا منى وهذا ما دللتنا عليه من المناسك فمن علينا بجوامع الخيرات وبما مننت به على إبراهيم خليلك ومحمد حبيبك وبما مننت به على أهل طاعتك فإني عبدك وناصيتي بيدك جئت طالبا مرضاتك ويستحب أن ينزل عند مسجد الخيف قوله لما روى الخ في حديث جابر الطويل قال لما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة الحديث
وذكر المصنف رحمه الله لهذا الحديث يفيد أن السنة عنده الذهاب من منى إلى عرفة بعد طلوع الشمس وصرح به في الإيضاح
وعن ذلك حمل في النهاية مرجع ضمير قبله على طلوع الشمس
ثم اعترضه بأنه كان من حق الكلام أن يقول قبل طلوع الشمس لأنه لم يتقدم ذكر طلوع الشمس لكنه تبع صاحب الإيضاح لأن طلوع الشمس مذكور في الإيضاح متقدما اه
ولا يخفى أن قوله ثم يتوجه إلى عرفات متصل في المتن بقوله حتى يصل الفجر من يوم عرفة إما بناء على عدم توقيت وقت الخروج إلى منى أو توقيته بما بعد صلاة الفجر كما هو مقتضى التركيب الشرطي كما قدمناه
وقول المصنف وهذا بيان الأولوية يتعلق به شرحا فمرجع ضمير قبله البتة صلاة الفجر من يوم عرفة ولا شك أنه أخذ في بيان حكم هذا الجواز والجواز متحقق في التوجه قبل الصلاة كما هو متحقق فيه قبل الشمس
والإساءة لازمة في الوجهين فلا حاجة إلى إلزامه أن مرجع الضمير طلوع الشمس ثم اعتراضه وقد استفيد من مجموع ما قلنا أن السنة الذهاب إلى عرفات بعد طلوع الشمس أيضا ويقول عند التوجه إلى عرفات اللهم إليك توجهت وعليك توكلت ووجهك أردت فاجعل ذنبي مغفورا وحجي مبرورا وارحمني ولا تخيبني واقض بعرفات حاجتي إنك على كل شيء قدير ويلبي ويهلل ويكبر لقول ابن مسعود رضي الله عنه حين أنكر عليه التلبية أجهل الناس أم نسوا والذي بعث محمدا بالحق لقد خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة إلا أن يخلطها بتكبير أو تهليل رواه أبو ذر
ويستحب أن يسير على طريق ضب ويعود على طريق المأزمين اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم كما في العيد إذا ذهب إلى المصلى فإذا قرب من
____________________
(2/467)
عرفات ووقع بصره على جبل الرحمة قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ثم يلبي إلى أن يدخل عرفات قال في الأصل وينزل بها مع الناس لأن الانتباذ أي الانفراد عنهم نوع تجبر والحال حال تضرع ومسكنة والإجابة في الجمع أرجى ولأنه يأمن بذلك من اللصوص وقيل مراده أن لا ينزل على الطريق كي لا يضيق على المارة والسنة أن ينزل الإمام بنمرة ونزول النبي صلى الله عليه وسلم بها لا نزاع فيه قوله وإذا زالت الشمس ظاهر هذا التركيب الشرطي إعقاب الزوال بالاشتغال بمقدمات الصلاة من غير تأخير ويدل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما في أبي داود ومسند أحمد غدا عليه الصلاة والسلام من منى حين طلع الصبح في صبيحة يوم عرفة حتى أتى عرفة فنزل بنمرة وهو منزل الإمام الذي ينزل به بعرفة حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح عليه الصلاة والسلام مهجرا فجمع بين الظهر والعصر ثم خطب الناس الحديث وظاهره تأخير الخطبة عن الصلاة
وعن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما جاء إلى الحجاج يوم عرفة حين زالت الشمس وأنا معه فقال الرواح إن كنت تريد السنة فقال هذه الساعة قال نعم قال سالم فقلت للحجاج إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة وعجل الصلاة فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما صدق
____________________
(2/468)
رواه البخاري والنسائي رحمهما الله قوله فيخطب خطبتين ويجلس بينهما كالجمعة ثم قال المصنف هكذا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحضرني حديث فيه تنصيص على خطبتين كالجمعة بل ما أفاد أنه خطب قبل صلاة الظهر من حديث جابر الطويل وحديث عبد الله بن الزبير من المستدرك وحديث أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما يفيد أنهما بعد الصلاة وقال فيه فجمع بين الظهر والعصر ثم خطب الناس ثم راح فوقف على الموقف من عرفة وهو حجة لمالك في الخطبة بعد الصلاة
قال عبد الحق وفي حديث جابر الطويل أنه خطب قبل الصلاة وهو المشهور الذي عمل به الأئمة والمسلمون وأعل هو وابن القطان حديث ابن عمر رضي الله عنه بابن إسحاق نعم ذكر صاحب المنتقى عن جابر قال راح النبي صلى الله عليه وسلم إلى الموقف بعرفة فخطب الناس الخطبة الأولى ثم أذن بلال ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة الثانية ففرغ من الخطبة الثانية وبلال من الأذان ثم أقام بلال فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر رواه الشافعي وهذا يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام ساوق الأذان بخطبته فكأنها والله أعلم إذا كان الأمر على ظاهر اللفظ كانت قصيرة جدا كتسبيحة وتهليلة
____________________
(2/469)
وتحميدة بحيث كانت قدر الأذان ولا بعد في تسمية مثله خطبة والخطبة الأولى الثناء كالتهليل والتكبير والتحميد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والوعظ ثم تعليم المناسك التي ذكرها المصنف
ثم ظاهر المذهب عندنا إذا صعد الإمام المنبر جلس وأذن المؤذن كما في الجمعة فإذا فرغ أقام
وعن أبي يوسف رحمه الله يؤذن والإمام في الفسطاط ثم يخرج فيخطب
قال في المبسوط هذا ظاهر قوله الأول
وروى الطحاوي عنه أن الإمام يبدأ بالخطبة قبل الأذان فإذا مضى صدر خطبته أذنوا ثم يتم الخطبة بعده فإذا فرغ أقاموا وهذا على مساوقة ما روى الشافعي رحمه الله
والصحيح أنه معهم لحديث جابر الطويل ذكر فيه أنه عليه الصلاة والسلام خطب الناس وهو راكب على القصواء إلى أن قال ثم أذن ثم أقام
والوجه في ذلك الحديث أن يحمل أذان بلال ذلك على الإقامة فيكون عليه الصلاة والسلام ساوق الإقامة بخطبة ثانية خفيفة قدر الإقامة تمجيدا وتسبيحا
وفي حديث جابر رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام صلاهما بأذان وإقامتين ولم يصل بينهما شيئا وعنه قلنا لا يتطوع بين الصلاتين
وما في الذخيرة والمحيط من أنه يصلي بهم العصر في وقت الظهر من غير أن يشتغل بين الصلاتين بالنافلة غير سنة الظهر ينافي حديث جابر الطويل إذ قال فصلي الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا وكذا ينافي إطلاق المشايخ رضي الله عنهم في قولهم ولا يتطوع بينهما فإن التطوع يقال على السنة قوله خلافا لما روى عن محمد رحمه الله وجه قوله أنه قد جمعهما وقت واحد فيكفيهما أذان واحد
____________________
(2/470)
قلنا الأصل أن كل فرض بأذان ترك فيما إذا جمع بينهما على وجه معين فعند عدمه يعود الأصل قوله فرض بالنصوص لقوله تعالى { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } أي فرضا موقتا وفي حديث من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر قوله والتقديم الخ لا حاجة إلى تعليل الجمع الوارد بأنه لصيانة الجماعة إبطالا لتعليلهما بل يكفي في بيان أنه لا يجوز ارتكابه في غير مورد من حالة الانفراد بيان ثبوته على خلاف القياس ثم إنه يتراءى أن ما أبداه سببا للجمع مناف لما ذكره آنفا من قوله ولهذا أي لتحصيل مقصود الوقوف قدم العصر على وقته إلا أن يدعى أن ذلك خرج على قولهما لا قوله ثم ما عينه أولى لما ذكر من أنه لا منافاة أي بين الوقوف والصلاة فإنه واقف بعرفة حال كونه نائما أو مغمى عليه فكيف لا يكون حال كونه
____________________
(2/471)
مصليا
وإن أراد الوقوف المتوجه فيه إلى الدعاء وكل ذلك فضيلة وامتداده وعدم تفريقه
قلنا تفريقه بالنوم والحديث ليس بمكروه وترك الجماعة مكروه لأنها واجبة أو في حكم الواجب على ما أسلفناه في باب الإمامة وعدم خروج الصلاة عن وقتها فرض فإذا ثبت بلا مرد إخراجها في صورة فالحكم بأنه لتحصيل واجب أو ما هو قريب منه أولى من جعله لتحصيل فضيلة ولذا لم يختلف فيه مع الجماعة بخلافه مع الانفراد فيه اختلاف روى عن ابن مسعود رضي الله عنه منعه قوله وعلى هذا الخلاف الإحرام بالحج الحاصل أن جواز الجمع مشروط عند أبي حنيفة بالإحرام بالحج في الصلاتين جميعا وعندهما في العصر فقط وبالجماعة فيهما عنده وهذا قول زفر رحمه الله أيضا غير أنه يشترطهما في العصر ليس غير قوله ولأبي حنيفة رحمه الله تقريره ظاهر
وفي المبسوط وجه قول أبي حنيفة أن العصر في هذا اليوم كالتبع للظهر لأنهما صلاتان أديتا في وقت واحد والثانية مرتبة على الأولى فكانا كالعشاء مع الوتر
وينبغي أن يزاد بعد قوله صلاتان واجبتان
قال ولما جعل الإمام شرطا في التبع كان شرطا في الأصل بطريق الأولى
ودليل التبعية لغيره أنه لا يجوز العشر في هذا اليوم إلا بعد صحة الظهر حتى لو تبين لغيم أنهم صلوا الظهر قبل الزوال والعصر بعده لزمهم إعاده الصلاتين وكذا لو جدد الوضوء بين الصلاتين ثم ظهر أن الظهر صلى بغير وضوء لزمه إعادة الصلاتين بخلاف الوتر فيما تقدم لا يعيده عند الإمام والفرق أن الوتر أداؤه في وقته بخلاف العصر ولما كان في لزوم الأولوية خفاء اقتصر المصنف على ما ذكره
____________________
(2/472)
قوله عقيب انصرافهم من الصلاة ظرف ليتوجه لأنه عليه الصلاة والسلام راح إلى الموقف عقيب الصلاة هو في حديث جابر
واعلم أن أول وقت الوقوف إذا زالت الشمس ويمتد إلى طلوع فجر يوم النحر
فالوقوف قبل ذلك وبعده عدم والركن ساعة من ذلك والواجب إن وقف نهارا يمده إلى الغروب أو ليلا فلا واجب فيه قوله لقوله عليه الصلاة والسلام عرفة كلها موقف روى من طرق عديدة من حديث جابر عند ابن ماجه قال عليه الصلاة والسلام كل عرفة موقف وارتفعوا عن بطن عرنة وكل المزدلفة موقف وارتفعوا عن بطن محسر وكل منى منحر إلا ما وراء العقبة وفيه القاسم بن عبد الله بن عمر العمري متروك
ومن حديث جبير ابن مطعم وفيه وكل فجاج منى منحر ولم يستثن وكل أيام التشريق ذبح رواه أحمد عن سليمان بن موسى الأشدق عن جبير بن مطعم وهو منقطع فإن ابن الأشدق لم يدرك جبيرا
ورواه ابن حبان في صحيحه وأدخل فيه بين سليمان وجبير عبد الرحمن بن أبي حسين وكذا رواه الترمذي لكن قال البزار ابن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم قال وإنما ذكرنا هذا الحديث لأنا لا نحفظ عنه عليه الصلاة والسلام في كل أيام التشريق ذبح إلا فيه فذكرناه وبينا العلة فيه اه
وروى أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما فرواه الطبراني والحاكم وقال على شرط مسلم عنه مرفوعا عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر اه
ومن حديث ابن عمر أخرجه ابن عدي في الكامل بلفظ حديث ابن عباس وفي سنده عبد الرحمن بن عبد الله العمري المضعف
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه ابن عدي أيضا نحوه سواء
____________________
(2/473)
وأعله بيزيد بن عبد الملك فثبت بهذا كله ثبوت هذا الحديث وعدم ثبوت تلك الزيادة أعنى كل أيام التشريق ذبح للانفراد بها مع الانقطاع والانفاق على ما سواها سوى ذلك الاستثناء قوله لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على ناقته هو في حديث جابر الطويل فارجع إليه قوله وقال عليه الصلاة والسلام ألخ روى الحافظ أبو نعيم في تاريخ أصبهان من حديث محمد بن الصلت عن ابن شهاب عن نافع عن ابن عمر مرفوعا خير المجالس ما استقبل به القبلة وأما خير المواقف فالله سبحانه أعلم به وروى الحاكم في الأدب حديثا طويلا وسكت عنه أوله عنه عليه الصلاة والسلام إن لكل شىء شرفا وإن شرف المجالس ما استقبل به القبلة وأعل بهشام بن زياد وعن ابن عمر يرفعه أكرم المجالس ما استقبل به القبلة وهو معلول بحمزة النصيبني ونسب للوضع قوله ويدعو عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير رواه أحمد والترمذي عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وقيل لابن عيينة هذا ثناء فلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء فقال الثناء على الكريم دعاء لأنه يعرف حاجته
وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مسلم يقف عشية عرفة بالموقف مستقبلا بوجهه ثم يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على شيء قدير مائة مرة ثم يقرأ { قل هو الله أحد } مائة مرة ثم يقول اللهم صلى على محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد وعلينا معهم مائة مرة إلا قال الله تعالى يا ملائكتي ما جزاء عبدي هذا سبحني وهللني وكبرني وعظمني وعرفني وأثنى علي وصلى على نبي اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له وشفعته في نفسه ولو سألني عبدي هذا لشفعته في أهل الموقف رواه البيهقي وهو متن غريب في إسناده من اتهم بالوضع
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كلمات أسأل عنهن فقال عليه الصلاة والسلام اجلس وجاء رجل من ثقيف فقال يا رسول الله كلمات أسأل عنهن فقال عليه الصلاة والسلام سبقك الأنصاري فقال الأنصاري إنه رجل غريب وإن للغريب حقا فابدأ به فأقبل على الثقفي وساق الحديث إلى أن قال ثم أقبل على الأنصاري فقال إن شئت
____________________
(2/474)
أخبرتك عما جئت تسألني وإن شئت تسألني فأخبرك فقال لا يا نبي الله أخبرني عما جئت أسألك فقال جئت تسأل عن الحاج ماله وساق الحديث إلى أن قال فإذا وقف بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا فيقول انظروا إلى عبادي شعثا غبرا اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبهم وإن كانت عدد قطر السماء ورمل عالج وإذا رمى الجمار لا يدري أحد ماله حتى يتوفاه الله تعالى وإذا قضى آخر طوافه بالبيت خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه رواه البزار وابن حبان في صحيحه واللفظ له
وروى أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما كان فلان ردف النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أخي إن هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له
ومن مأثورات الأدعية اللهم اجعل لي في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا
اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري
اللهم إني أعوذ بك من وساوس الصدر وشتات الأمر وعذاب القبر
اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل وشر ما يلج في النهار وشر ما تهب به الرياح وشر بوائق الدهر
اللهم إني أعوذ بك من تحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك وأعطني في هذه العشية أفضل ما تؤتى أحدا من خلقك وكل حاجة في نفسه يسألها فإنه يوم إفاضة الخيرات من الجواد العظيم
وحديث كان عليه الصلاة والسلام يدعو مادا يديه كالمستطعم رواه البزار بسنده عن ابن عباس عن الفضل قال رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام واقفا بعرفة مادا يديه كالمستطعم أو كلمة نحوها وأعل بحسين بن عبد الله ضعفه النسائي وابن معين
قال ابن عدي هو حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي وهو ممن يكتب حديثه فإني لم أر له حديثا منكرا جاوز المقدار
وأخرجه البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما رأيته عليه الصلاة والسلام يدعو بعرفة يداه إلى صدره كالمستطعم المسكين قوله وينبغي للناس أن يقفوا بقرب الإمام وكلما كان إلى الإمام أقرب فهو أفضل وغسل عرفة تقدم في باب الغسل قوله فاستجيب له إلا في الدماء والمظالم روى ابن ماجه في سننه عن عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداس أن أباه أخبره عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة فأجيب إني قد غفرت لهم ماخلا المظالم فإني آخذ للمظلوم منه فقال أي رب إن شئت أعطيت المظلوم
____________________
(2/475)
الجنة وغفرت للظالم فلم يجب عشية عرفة فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال فتبسم فقال له أبو بكر رضي الله عنه بأبي أنت وأمي إن هذه لساعة ما كنت لتضحك فيها فما الذي أضحكك أضحك الله سنك قال إن عدو الله إبليس لما علم أن الله قد استجاب دعائي وغفر لأمتي أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه ويدعو بالويل والثبور فأضحكني ما رأيت من جزعه ورواه ابن عدي وأعله بكنانة وقال ابن حبان في كتاب الضعفاء كنانة بن عباس بن مرداس السلمي يروى عن أبيه وروى عنه ابنه منكر الحديث جدا فلا أدري التخليط في حديثه منه أو من أبيه ومن أيهما كان فهو ساقط الاحتجاج وذلك لعظم ما أتى من المناكير عن المشاهير
ورواه البيهقي وفيه فلما كان غداة المزدلفة أعاد الدعاء فأجابه الله تعالى إني قد غفرت لهم قال فتبسم الحديث ثم قال وهذا الحديث له شواهد كثيرة وقد ذكرناها في كتاب الشعب فإن صح بشواهده ففيه الحجة وإن لم يصح فقد قال الله تعالى { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وظلم بعضهم بعضا دون الشرك اه
قال الحافظ المنذري وروى ابن المبارك عن سفيان الثوري عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات وقد كادت الشمس أن تئوب فقال يا بلال أنصت الناس فقام بلال رضي الله عنه فقال أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنصت الناس فقال معاشر الناس أتاني جبريل آنفا فأقرأني من ربي السلام وقال إن الله عز وجل قد غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا رسول الله هذا لنا خاصة قال هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة فقال عمر بن الخطاب كثر خير ربنا وطاب
وفي كتاب الآثار قال محمد أخبرنا أبو حنيفة رضي الله عنه قال حدثنا محمد بن مالك الهمذاني عن أبيه قال خرجنا في رهط نريد مكة حتى إذا كنا بالربذة رفع لنا خباء فإذا فيه أبو ذر فأتينا فسلمنا عليه فرفع جانب الخباء فرد السلام فقال من أين أقبل القوم فقلنا من الفج العميق قال فأين تؤمون قلنا البيت العتيق قال آلله الذي لا إله إلا هو ما أشخصكم غير الحج فكرر ذلك علينا مرارا فحلفنا له فقال انطلقوا إلى نسككم ثم استقبلوا العمل
وفي موطإ مالك عن طلحة بن عبيد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما رئي الشيطان يوما هو أصغر ولا أدحر ولا أغطظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عز وجل عن الذنوب العظام إلا ما رئي يوم بدر فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة قوله ولنا ما روى أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن الفضل بن العباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة وقد قدمناه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وحلفه عليه فزاد فيه ابن ماجه فلما رماها قطع التلبية والوجه الذي ذكره المصنف من المعنى يقتضي أن لا يقطع إلا عند الحلق لأن الإحرام باق قبله والأولى أن يقول فيأتي بها إلى آخر الأحوال المختلفة في الإحرام فإنها كالتكبير وآخره مع القعدة لأنها آخر الأحوال
____________________
(2/476)
قوله فإذا غربت الشمس أفاض الإمام والناس معه على هينتهم أخرج الإمام أبو داود والترمذي وابن ماجه عن علي رضي الله عنه قال وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال ثم أفاض حين غربت الشمس وأردف خلفه أسامة بن زيد وجعل يشير بيده على هينته والناس يضربون يمينا وشمالا فجعل يلتفت إليهم ويقول أيها الناس عليكم السكينة ثم أتى جمعا فصلى بهم الصلاتين جميعا فلما أصبح أتى قزح فوقف عليه صححه الترمذي
وفي حديث جابر الطويل فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس إلى أن قال ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله وهو يقول بيده اليمنى أيها الناس السكينة السكينة كلما أتى حبلا أرخى لها حتى تصعد وأخرج مسلم أيضا عن الفضل بن العباس رضي الله عنهما وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عشية عرفة وغداة جمع الناس حين أفاض عليكم بالسكينة وهو كاف ناقته حتى دخل محسرا وهو من منى فقال عليكم بحصى الحذف فما في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص وفسر بأن العنق خطا فسيحة محمول على خطا الناقة لأنها فسيحة في نفسها إذا لم تكن مثقلة جدا قوله ولأن فيه إظهار مخالفة المشركين فإنهم كانوا يدفعون قبل الغروب على ما روى الحاكم في المستدرك عن المسور بن مخرمة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من هذا الموضع إذا كانت الشمس على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال على رءوسها وإنا ندفع بعد أن تغيب الشمس وكانوا يدفعون من المشعر الحرام إذا كانت الشمس منهبطة وقال صحيح على شرط الشيخين قال وقد صح بهذا سماع المسور بن مخرمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كما يتوهم رعاع أصحابنا أن له رؤية بلا سماع قوله فإن خاف الزحام فدفع قبل الإمام أي قبل الغروب ولم يجاوز حدود عرفة قيد به لأنه لو جاوزها قبل الإمام وقبل الغروب وجب
____________________
(2/477)
عليه دم
وحاصله أنه إذا دفع قبل الغروب وإن كان لحاجة بأن ند بعيره فتبعه إن جاوز عرفة بعد الغروب فلا شيء عليه وإن جاوز قبله فعليه دم فإن لم يعد أصلا أو عاد بعد الغروب لم يسقط الدم وإن عاد قبله فدفع مع الإمام بعد الغروب سقط على الصحيح لأنه تداركه في وقته
وجه مقابله أن الواجب مد الوقوف إلى الغروب وقد فات ولم يتدارك فيتقرر موجبه وهو الدم
قلنا وجوب المد مطلقا ممنوع بل الواجب مقصود النفر بعد الغروب ووجوب المد ليقع النفر كذلك فهو لغيره وقد وجد المقصود فسقط ما وجب له كالسعي للجمعة في حق من في المسجد
وغاية الأمر فيه أن يهدر ما وقفه قبل دفعه في حق الركن ويعتبر عوده الكائن في الوقت ابتداء وقوفه أليس بذلك يحصل الركن من غير لزوم دم
ولو تأخر الإمام عن الغروب دفع الناس قبله لدخول وقته ويكثر من الاستغفار والذكر من حين يفيض قال الله تعالى { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله } وقال تعالى { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } قوله لما روى أن عائشة روى ابن أبي شيبة بسنده عنها أنها كانت تدعو بشراب فتفطر ثم تفيض فحمله المصنف على أن فعلها كان لقصد التأخير لخفة الزحام ويجوز أنه كان للاحتياط في تمكن الوقت وفيه دليل على عدم كراهة صوم يوم عرفة بعرفة لمن يأمن على نفسه سوء خلقه
وقزح غير منصرف للعلمية والعدل من قازح اسم فاعل من قزح الشيء إذا ارتفع وهو جبل صغير في آخر المزدلفة والمستحب أن يدخل المزدلفة ماشيا والغسل لدخولها قوله ولنا رواية جابر روى ابن أبي شيبة حدثنا حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة ولم يسبح بينهما وهو متن غريب والذي في حديث جابر الطويل الثابت في صحيح مسلم وغيره أنه صلاهما بأذان وإقامتين وعند البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه أيضا قال جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع كل واحدة منهما
____________________
(2/478)
بإقامة ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جبير أفضنا مع ابن عمر رضي الله عنهما فلما بلغنا جمعا صلى بنا المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة فلما انصرف قال ابن عمر هكذا صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المكان وأخرج أبو الشيخ عن الحسين بن حفص حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بجمع بإقامة واحدة وأخرج أبو داود عن أشعث بن سليم عن أبيه قال أقبلت مع ابن عمر من عرفات إلى المزدلفة فلم يكن يفتر عن التكبير والتهليل حتى أتينا مزدلفة فأذن وأقام أو أمر إنسانا فأذن وأقام فصلى المغرب ثلاث ركعات ثم التفت إلينا فقال الصلاة فصلى العشاء ركعتين ثم دعا بعشائه
قال وأخبرني علاج بن عمرو بمثل حديث أبي عن ابن عمر رضي الله عنه فقيل لابن عمر في ذلك فقال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا فقد علمت ما في هذا من التعارض فإن لم يرجح ما اتفق عليه الصحيحان على ما انفرد به صحيح مسلم وأبو داود حتى تساقطا كان الرجوع إلى الأصل يوجب تعدد الإقامة بتعدد الصلاة كما في قضاء الفوائت بل أولى لأن الصلاة الثانية هنا وقتية فإذا أقيم للأولى المتأخرة عن وقتها المعهود كانت الحاضرة أولى أن يقام لها بعدها
وينبغي أن يصلى الفرض قبل حط رحله بل ينيخ جماله ويعقلها وهذه ليلة جمعت شرف المكان والزمان فينبغي أن يجتهد في إحيائها بالصلاة والتلاوة والذكر والتضرع قوله لما روى أنه عليه الصلاة والسلام الخ لا أصل لهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو في البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه فعله وكذا أخرجه ابن أبي شيبة عنه ولفظه قال فلما أتى جمعا أذن وأقام فصلى المغرب ثلاثا ثم تعشى ثم أذن وأقام فصلى العشاء ركعتين
وكيف يسوغ للمصنف أن يعتبر هذا حديثا حجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصرح بصدور تعدد الإقامة منه عليه الصلاة والسلام في هاتين الصلاتين والمصنف من قريب يناضل على أنه صلاهما بإقامة واحدة ولم يكن منه عليه الصلاة والسلام إلا حجة واحدة فإن كان قد ثبت عند المصنف الأول فقد اعتقد أنه صلاهما من غير تخلل عشاء بينهما بإقامة واحدة فيستحيل اعتقاد الثاني وإلا لزم اعتقاد أنه تعشى ولا تعشى وأفرد الإقامة ولا أفردها وهذا لأن رواية الحديث للاحتجاج فرع اعتقاد صحته قوله لأن المغرب مؤخرة عن وقتها وأداء صلاة بعد وقتها على وفق القياس قوله لم يجزه الخارج من الدليل
____________________
(2/479)
والتقرير صريحا أن الإعادة واجبة وهو لا يستلزم الحكم بعد الإجزاء وإلا وجب الإعادة مطلقا بل لم تكن إعادة بل أداء في الوقت وقضاء خارجه
وحاصل الدليل أن الظني أفاد تأخر وقت المغرب في خصوص هذا اليوم ليتوصل إلى الجمع بجمع وإعمال مقتضاه واجب ما لم يلزم تقديم على القاطع وهو بإيجاب أداء المغرب بعد الكون بمزدلفة ما لم يطلع الفجر فإذا طلع الفجر انتفى إمكان تدارك هذا الواجب وتقرر المأثم إذ لو وجب بعده كان حقيقة عدم الإجزاء فيما هو موقت قطعا وفيه التقديم الممتنع وعن ذلك قلنا إذا بقى في الطريق طويلا حتى علم أنه لا يدرك مزدلفة قبل الفجر جاز له أن يصلي المغرب في الطريق
وإذ قد عرفت هذا فلولا تعليل ذلك الظني بأن التأخر والتأخير للجمع لوجب أن الإعادة لازمة مطلقا لكن ما وجب لشيء ينتفي وجوبه عند تحقق انتفاء ذلك الشيء
بقي الكلام في إفادة صورة ذلك الظني وهو ما في الصحيحين عن أسامة بن زيد قال دفع عليه الصلاة والسلام من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء فقلت له الصلاة
____________________
(2/480)
فقال الصلاة أمامك فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت الصلاة فصلاها ولم يصل بينهما شيئا اه
وقوله الصلاة أمامك المراد وقتها وقد يقال مقتضاه وجوب الإعادة مطلقا لأنه أداها قبل وقتها الثابت بالحديث فتعليله بأنه للجمع فإذا فات سقطت الإعادة تخصيص للنص بالمعنى المستنبط منه ومرجعه إلى تقديم المعنى على النص وكلمتهم على أن العبرة في المنصوص عليه لعين النص لا لمعنى النص
لا يقال لو أجريناه في إطلاق أدى إلى تقديم الظني على القاطع
لأنا نقول ذلك لو قلنا بافتراض ذلك لكنا نحكم بالإجزاء ونوجب إعادة ما وقع مجزيا شرعا مطلقا ولا بدع في ذلك فهو نظير وجوب إعادة صلاة أديت مع كراهة التحريم حيث يحكم بإجزائها وتجب إعادتها مطلقا والله تعالى أعلم قوله وإذا طلع الفجر أي فجر يوم النحر قوله لرواية ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيحين عنه ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لميقاتها إلإ صلاتين صلاة المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها يريد قبل وقتها الذي اعتاد صلاتها فيه كل يوم لأنه غلس بها يبينه لفظ البخاري والفجر حين بزغ الفجر وفي لفظ لمسلم قبل ميقاتها بغلس فأفاد أن المعتاد في غير ذلك اليوم الإسفار بالفجر
____________________
(2/481)
وأخرجا أنه صلى بجمع الصلاتين جميعا وصلى الفجر حين طلع الفجر قوله لأن النبي صلى الله عليه وسلم الخ تقدم في حديث جابر الطويل قوله فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس الحديث
وقول المصنف حتى روى في حديث ابن عباس الخ قالوا هو وهم وإنما هو في حديث العباس بن مرداس ولو اتجه أن يقال الحديث من رواية كنانة بن العباس بن مرداس فيصدق أنه من رواية ابن عباس اندفع لكن ابن عباس إذا أطلق لا يراد به إلا عبد الله الملقب بالبحر رضي الله عنه قوله وقال الشافعي إنه ركن هذا
____________________
(2/482)
سهو فإن كتبهم ناطقة بأنه سنة
وفي المبسوط ذكر الليث بن سعد مكان الشافعي
وفي الأسرار ذكر علقمة
وجه الركنية قوله تعالى { فاذكروا الله عند المشعر الحرام } قلنا غاية ما يفيد إيجاب الكون في المشعر الحرام بالالتزام لأجل الذكر ابتداء وهذا لأن الأمر فيها إنما هو بالذكر عنده لا مطلقا فلا يتحقق الامتثال إلا بالكون عنده فالمطلوب هو المقيد فيجب القيد ضرورة لا قصدا فإذا أجمعنا على أن نفس الذكر الذي هو متعلق الأمر ليس بواجب انتفى وجوب الأمر فيه بالضرورة فانتفى الركنية والإيجاب من الآية وإنما عرفنا الإيجاب بغيرها وهو ما رواه أصحاب السنن الأربعة عن عروة بن مضرس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى يدفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد ثم حجة قال الحاكم صحيح على شرط كافة أهل الحديث وهو قاعدة من قواعد أهل الإسلام ولم يخرجاه على أصلهما لأن عروة بن مضرس لم يرو عنه إلا الشعبي وقد وجدنا عروة بن الزبير قد حدث عنه ثم أخرج عن عروة بن الزبير عن عروة بن مضرس قال جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموقف فقلت يا رسول الله أتيت من جبل طيئ أكللت مطيتي وأتعبت نفسي والله ما بقي جبل من تلك الجبال إلا وقفت عليه فقال من أدرك معنا هذه الصلاة يعني صلاة الصبح وقد أتى عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه علق به تمام الحج وهو يصلح لإفادة الوجوب لعدم القطعية فكيف مع حديث البخاري عن ابن عمر أنه كان يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلقة بليل فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا رموا الجمرة وكان ابن عمر يقول رخص في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أخرج أصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم ضعفة أهله بغلس ويأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس فإن بذلك تنتفي الركنية لأن الركن لا يسقط للعذر بل إن كان عذر يمنع أصل العبادة سقطت كلها أو أخرت أما إن شرع فيها فلا تتم إلا بأركانها وكيف وليست هي سوى أركانها فعند عدم الأركان لم يتحقق مسمى تلك العبادة أصلا قوله والمزدلفة الخ وهي تمتد إلى وادي محسر بكسر السين المشددة قبلها حاء مهملة مفتوحة
والمستحب أن يقف وراء الإمام بقزح قيل هو المشعر الحرام
وفي كلام الطحاوي أن للمزدلفة ثلاثة أسماء المزدلفة والمشعر الحرام وجمع والمأزمان بوادي محسر وأول محسر من القرن المشرف من الجبل الذي على يسار الذاهب إلى منى سمى به لأن فيل
____________________
(2/483)
أصحاب الفيل أعيا فيه وأهل مكة يسمونه وادي النار قيل لأن شخصا اصطاد فيه فنزلت نار من السماء فأحرقته وآخره أول منى وهي منه إلى العقبة التي يرمي بها الجمرة يوم النحر وليس وادي محسر من منى ولا من المزدلفة فالاستثناء في قوله ومزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر منقطع
واعلم أن ظاهر كلام القدوري والهداية وغيرها في قولهم مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر وكذا عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة أن المكانين ليسا مكان وقوف فلو وقف فيهما لا يجزيه كما لو وقف في منى سواء قلنا إن عرنة ومحسرا من عرفة ومزدلفة أولا وهكذا ظاهر الحديث الذي قدمنا يجزيجه وكذا عبارة الأصل من كلام محمد
ووقع في البدائع وأما مكانه يعني الوقوف بمزدلفة فجزء من أجزاء مزدلفة إلا أنه لا ينبغي أن ينزل في وادي محسر
وروى الحديث ثم قال ولو وقف به أجزأه مع الكراهة وذكر مثل هذا في بطن عرنة أعنى قوله إلا أنه لا ينبغي أن يقف في بطن عرنة لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك وأخبر أنه وادي الشيطان اه
ولم يصرح فيه بالإجزاء مع الكراهة كما صرح به في وادي محسر ولا يخفى أن الكلام فيهما واحد وما ذكره غير مشهور من كلام الأصحاب بل الذي يقتضيه كلامهم عدم الإجزاء وأما الذي يقتضيه النظر إن لم يكن إجماع على عدم إجزاء الوقوف بالمكانين هو أن عرنة ووادي محسر إن كانا من مسمى عرفة والمشعر الحرام يجزي الوقوف بهما ويكون مكروها لأن القاطع أطلق الوقوف بمسماهما مطلقا وخبر الواحد منعه في بعضه فقيده والزيادة عليه بخبر الواحد لا تجوز فيثبت الركن بالوقوف في مسماهما مطلقا والوجوب في كونه في غير المكانين المستثنيين وإن لم يكونا من مسماهما لا يجزي أصلا وهو ظاهر والاستثناء منقطع
هذا وأول وقت الوقوف بمزدلفة إذا طلع الفجر من يوم النحر وآخره طلوع الشمس منه فلا يجوز قبل الفجر عندنا والمبيت بمزدلفة ليلة النحر سنة قوله وهذا غلط هو كما قال وقد تقدم في غير حديث أنه عليه الصلاة والسلام أفاض حين أسفر قبل طلوع الشمس كحديث جابر الطويل وغيره فارجع إلى استقرائها
وعن محمد في حده إذا صار إلى طلوع الشمس قدر ركعتين دفع وهذا بطريق التقريب وهو مروى عن عمر هذا حال الوقوف
أما المبيت بها فسنة لا شيء عليه في تركه
ولا يشترط النية للوقوف كوقوف عرفة ولو مر بها بعد طلوع الفجر من غير أن يبيت بها جاز ولا شيء عليه لحصول الوقوف ضمن المرور كما في عرفة
ولو وقف بعد ما أفاض الإمام قبل طلوع الشمس أجزأه ولا شيء عليه كما لو وقف بعد إفاضة الإمام
ولو دفع قبل الناس أو قبل أن يصلي الفجر بعد
____________________
(2/484)
الفجر لا شيء عليه إلا أنه خالف السنة إذ الستة مد الوقوف إلى الإسفار والصلاة مع الإمام قوله فيرميها من بطن الوادي الخ في حديث جابر الطويل فدفع قبل أن تطلع الشمس حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطي التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة وفي سنن أبي داود عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أمه قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو راكب يكبر مع كل حصاة ورجل من خلفه يستره فسألت عن الرجل فقالوا الفضل بن عباس وازدحم الناس فقال عليه الصلاة والسلام يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضا وإذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف وعن جابر قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة بمثل حصى الخذف رواه مسلم
وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه رمى جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة فقيل له إن ناسا يرمونها من فوقها فقال عبد الله هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة وفي البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رمى الجمرة الأولى رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم ينحدر أمامها فيستقبل القبلة رافعا يديه يدعو وكان يطيل الوقوف ويأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات يكبر كلما رمى بحصاة ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الوادي فيقف مستقبل البيت رافعا يديه يدعو ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات يكبر كلما رماها بحصاة ثم ينصرف ولا يقف عندها قوله إلا أنه لا يرمي بالكبار من الأحجار أطلق في منع الكبار بعد ما أطلق في تجويز الكبار بقوله ولو رمى بأكبر منها جاز فعلم إرادة تقييد كل منهما فالمراد بالأول الأكبر منها قليلا والمراد بالثاني الأكبر منها كثيرا كالصخرة العظيمة ونحوها وما يقرب منها ويجب كون المنع على وجه الكراهة وذلك لأن مقتضي ظاهر الدليل منع الأكبر من حصى الخذف مطلقا وهو ما رويناه آنفا فلما أجازوا الأكبر قليلا ولو كان مثل حصاة الخذف علم أن الأمر بحصى الخذف محمول على الندب نظرا إلى تعليله بتوهم الأذى ويلزمه الإجزاء برمي الصخرات فيكون المنع منها منع كراهة لتوقع الأذى بها قوله ولو رماها من فوق العقبة أجزأه إلا أنه خلاف السنة ففعله عليه الصلاة والسلام من أسفلها سنة لا لأنه المتعين ولذا ثبت رمى خلق كثير في زمن الصحابة من أعلاها كما ذكرناه آنفا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ولم يأمروهم بالإعادة ولا أعلنوا بالنداء بذلك في الناس
وكان وجه اختياره عليه الصلاة والسلام لذلك هو وجه اختياره حصى الخذف فإنه يتوقع الأذى إذا رموا من أعلاها لمن أسفلها فإنه لا يخلو من مرور الناس فيصيبهم بخلاف الرمي من
____________________
(2/485)
أسفل مع المارين من فوقها إن كان قوله ويكبر مع كل حصاة كذا روى ابن مسعود وابن عمر تقدم الرواية عنهما آنفا وقدمناه أيضا من حديث جابر وأم سليمان
وظاهر المرويات من ذلك الاقتصار على الله أكبر غير أنه روى عن الحسن بن زياد أنه يقول الله أكبر رغما للشيطان وحزبه وقيل يقول أيضا اللهم اجعل حجي مبرورا وسعيي مشكورا وذنبي مغفورا قوله ولو سبح مكان التكبير أجزأه وكذا غير التسبيح من ذكر الله تعالى كالتهليل للعلم بأن المقصود من تكبيره صلى الله عليه وسلم الذكر لا خصوصه
ويمكن حمل التكبير في لفظ الرواة على معناه من التعظيم كما قلنا في تكبير الافتتاح فيدخل كل ذكر لفظا لا معنى فقط لكن فيه بعد بسبب أن المعروف من إطلاقهم لفط كبر الله ونحوه إرادة ما كان تعظيما بلفظ التكبير فإنه إذا كان غيره قالوا سبح الله ووحده أو ذكر الله فهذا المعتاد يبعد هذا الحمل قوله ولا يقف عندها على هذا تظافرت الروايات عنه عليه الصلاة والسلام ولم تظهر حكمة تخصيص الوقوف والدعاء بغيرها من الجمرتين فإن تخايل أنه في اليوم الأول لكثرة ما عليه من الشغل كالذبح والحلق والإفاضة إلى مكة فهو منعدم فيما بعده من الأيام إلا أن يكون كون الوقوف يقع في جمرة العقبة في الطريق فيوجب قطع سلوكها على الناس وشدة الزحام الواقفين والمارين وفقضي ذلك إلى ضرر عظيم بخلافه في باقي الجمار فإنه لا يقع في نفس الطريق بل بمعزل منضم عنه والله أعلم قوله ويقطع التلبية مع أول حصاة لما روينا عن ابن مسعود يحتمل أن المراد لما ثبت لنا رفع روايته عن ابن مسعود أي لما اشتملت عليه روايتنا له وإن لم يكن رواه في هذا الكتاب وهذه عناية دعا إليها أنه لم يتقدم له رواية ذلك عنه في الكتاب
وقد تقدم في حديث الفضل بن العباس في بحث الوقوف بعرفة أنه عليه الصلاة والسلام لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة أخرجه الستة وقدمناه قبل ذلك من حديث ابن مسعود وإقسامه عليه
وفي البدائع فإن زار البيت قبل أن يرمي ويحلق ويذبح قطع التلبية في قول أبي حنيفة
وعن أبي يوسف أنه يلبي ما لم يحلق أو تزول الشمس من يوم النحر
وعن محمد ثلاث روايات رواية كأبي حنيفة ورواية ابن سماعة من لم يرم قطع التلبية إذا غربت الشمس من يوم النحر ورواية هشام إذا ضت أيام النحر وظاهر روايته مع أبي حنيفة
وجه أبي يوسف أنه لم يتحلل له بهذا الطواف شيء فكان كعدمه فلا يقطعها إلا إذا زالت الشمس لأن أصله أن رمى يوم النحر بتوقت بالزوال فيفعل بعده قضاء فصار فواته عن وقته كفعله في وقته وعند فعله فيه يقطعها كذا عند فواته بخلاف ما إذا حلق قبل الرمي لأنه خرج عن إحرامه باعتبار الغالب ولا تلبية في غير الإحرام
ولهما أن الطواف إن كان قبل الرمي والحلق والذبح لكن وقع به التحلل في الجملة عن النساء حتى يلزمه بالجماع بعده شاة لا بدنة فلم يكن الإحرام قائما مطلقا ولم تشرع التلبية إلا في الإحرام المطلق
ولو ذبح قبل الرمي وهومتمتع أو قارن يقطعها في قول أبي حنيفة لا إن كان مفردا لأن الذبح محلل في الجملة في حقهما بخلاف المفرد
وعند
____________________
(2/486)
محمد لا يقطع إذ لا تحلل به بل بالرمي والحلق قوله ثم كيفية الرمي أن يضع الحصاة على ظهر إبهامه ويستعين بالمسبحة هذا التفسير يحتمل كلا من تفسيرين قيل بهما أحدهما أن يضع طرف إبهامه اليمنى على وسط السبابة ويضع الحصاة على ظهر الإبهام كأنه عاقد سبعين فيرميها وعرف منه أن المسنون في كون الرمي باليد اليمنى
والآخر أن يحلق سبابته ويضعها على مفصل إبهامه كأنه عاقد عشرة وهذا في التمكن من الرمي به مع الزحمة والوهجة عر
وقيل يأخذها بطرفي إبهامه وسبابته وهذا هو الأصل لأنه أيسر والمعتاد ولم يقم دليل على أولوية تلك الكيفية سوى قوله عليه الصلاة والسلام فارموا مثل حصى الخذف وهذا لا يدل ولا يستلزم كون كيفية الرمي المطلوبة كيفية الخذف وإنما هو تعيين ضابط مقدار الحصاة إذا كان مقدار ما يخذف به معلوما لهم
وأما ما زاد في رواية صحيح مسلم بعد قوله عليكم بحصى الخذف من قوله ويشير بيده كما يخذف الإنسان يعني عند ما نطق بقوله عليكم بحصى الخذف أشار بصورة الخذف بيده فليس يستلزم طلب كون الرمي بصورة الخذف لجواز كونه ليؤكد كون المطلوب حصى الخذف كأنه قال خذوا حصى الخذف الذي هو هكذا ليشير أنه لا تجوز في كونه حصى الخذف وهذا لأنه لا يعقل في خصوص وضع الحصاة في اليد على هذه الهيئة وجه قربة فالظاهر أنه لا يتعلق به غرض شرعي بل بمجرد صغر الحصاة
ولو أمكن أن يقال فيه إشارة إلى كون الرمي خذفا عارضه كونه وضعا غير متمكن واليوم يوم زحمة يوجب نفي غير المتمكن قوله ولو طرحها طرحا أجزأه يفيد أن المروى عن الحسن تعيين الأولى وأن مسمى الرمي لا ينتفي في الطرح رأسا بل إنما فيه معه قصور فتثبت الإساءة به بخلاف وضع الحصاة وضعا فإنه لا يجزى لانتفاء حقيقة الرمي بالكلية قوله ولو رماها فوقعت قريبا من الجمرة قدر ذراع ونحوه ومنهم من لم يقدره كأنه اعتمد على اعتبار القرب عرفا وضده البعد في العرف فما كان مثله يعد بعيدا عرفا لا يجوز وهذا بناء على أنه لا واسطة بين البعيد والقريب حتى إن ما ليس بعيدا فهو قريب وما ليس قريبا فهو البعيد ولعله غير لازم إذ قد يكون الشيء من الشيء بحيث يقال فيه ليس بقريب منه ولا بعيد والظاهر على هذا التعويل على القرب وعدمه فما ليس بقريب لا يجوز لا على القرب والبعد
ولو وقعت على ظهر رجل أو محمل وثبتت عليه حتى طرحها الحامل كان عليه إعادتها ولو وقعت عليه فنبت عنه ووقعت عند الجمرة بنفسها أجزأه ومقام الرامي بحيث يرى موقع حصاه
وما قدر به بخمسة أذرع في رواية الحسن فذاك تقدير أقل ما يكون بينه وبين المكان في المسنون ألا ترى إلى تعليله في الكتاب بقوله لأن ما دون ذلك يكون طرحا قوله ولو رمى بسبع جملة فهي واحدة فيلزمه ست سواها والسابع وأكثر منها واحد قوله ويأخذ الحصى من أي موضع شاء إلا من عند الجمرة فإنه يكره يتضمن خلاف ما قيل إنه يلتقطها من الجبل الذي على الطريق من
____________________
(2/487)
مزدلفة قال بعضهم جرى التوارث بذلك وما قيل يأخذها من المزدلفة سبعا رمى جمرة العقبة في اليوم الأول فقط فأفاد أنه لا سنة في ذلك يوجب خلافها الإساءة
وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يأخذها من جمع بخلاف موضع الرمي لأن السلف كرهوه لأنه المردود
وقوله وبه ورد الأثر كأنه ما عن سعيد بن جبير
قلت لابن عباس رضي الله عنهما ما بال الجمار ترمى من وقت الخليل عليه الصلاة والسلام ولم تصر هضابا تسد الأفق فقال أما علمت أن من تقبل حجه رفع حصاه ومن لم يقبل ترك حصاه قال مجاهد لما سمعت هذا من ابن عباس رضي الله عنه جعلت على حصياتي علامة ثم توسطت الجمرة فرميت من كل جانب ثم طلبت فلم أجد بتلك العلامة شيئا قوله ومع هذا لو فعل وأخذها مع موضع الرمي أجزأه مع الكراهة وما هي إلا كراهة تنزيه
ويكره أن يلتقط حجرا واحد فيكسر سبعين حجرا صغيرا كما يفعله كثير من الناس اليوم ويستحب أن يغسل الحصيات قبل أن يرميها ليتيقن طهارتها فإنه يقام بها قربة ولو رمى بمتنجسة بيقين كره وأجزأه قوله ويجوز الرمي بكل ما كان من أجزاء الأرض كالحجر والطين والنورة والكحل والكبريت والزرنيخ وكف من تراب
وظاهر إطلاقه جواز الرمي بالفيروزج والياقوت لأنهما من أجزاء الأرض وفيهما خلاف منعه الشارحون وغيرهم بناء على أن كون المرمى به يكون الرمي به استهانة شرط وأجازه بعضهم بناء على نفي ذلك الاشتراط وممن ذكر جوازه الفارسي في مناسكه
وقوله بخلاف ما لو رمى بالذهب والفضة لأنه يسمى نثارا لارميا جواب عن مقدر من جهة الشافعي لو تم ما ذكرتم في تجويز الطين من كون الثابت معه فعل الرمي وهو المقصود من غير نظر إلى ما به الرمي لجاز بالذهب والفضة بل وبما ليس من أجزاء الأرض كاللؤلؤ والمرجان والجوهر والعنبر والكل ممنوع عندكم
فأجاب بأنه بالذهب والفضة يسمى نثارا لارميا فلم يجز لانتفاء مسمى الرمي
ولا يخفى أنه يصدق
____________________
(2/488)
اسم الرمى مع كونه يسمى نثارا فغاية ما فيه أنه رمى خص باسم آخر باعتبار خصوص متعلقه ولا تأثير لذلك في سقوط اسم الرمي عنه ولا صورته
وأيضا فهو جواب قاصر إذ لا يعم ما ذكرنا مما ليس من أجزاء الأرض اللهم إلا أن يدعي ثبوت اسم النثار أيضا فيما باللؤلؤ والعنبر أيضا وهو غير بعيد وحينئذ يكون فيه ما ذكرنا من أنه يصدق اسم الخ ولو غير أصل الجواب إلى اشتراط الاستهانة اندفع الكل لكنه يطالب بدليل اعتباره وليس فيه سوى ثبوت فعله عليه الصلاة والسلام بالحجر إذ لا إجماع فيه وهو لا يستلزم بمجرد التعيين كرميه من أسفل الجمرة لا من أعلاها وغيره ولو استلزمه تعين الحجر وهو مطلوب الخصم ثم لو تم نظر إلى ما أثر من أن الرمي رغما للشيطان إذ أصله رمي نبي الله إياه عند الجمار لما عرض له عندها للإغواء بالمخالفة استلزم جواز الرمي بمثل الخشبة والرثة والبعرة وهو ممنوع على أن أكثر المحققين على أنها أمور تعبدية لا يشتغل بالمعنى فيها
والحاصل أنه إما أن يلاحظ مجرد الرمي أو مع الاستهانة أو خصوص ما وقع منه عليه الصلاة والسلام والأول يستلزم الجواز بالجواهر والثاني بالبعرة والخشبة التي لا قيمة لها والثالث بالحجر خصوصا فليكن هذا أولى لكونه أسلم والأصل في أعمال هذه المواطن إلا ما قام دليل على عدم تعينه كما في الرمي من أسفل الجمرة مما ذكرنا قوله لقوله عليه الصلاة والسلام إن أول نسكنا الخ غريب وإنما أخرج الجماعة إلا ابن ماجه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى فنحر ثم قال للحلاق خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس وهذا يفيد أن السنة في الحلق البداءة بيمين المحلوق رأسه وهو خلاف ما ذكر في المذهب وهذا الصواب قوله فيقدم عليه الذبح حتى يصير كأن الحلق لم يقع في محض الإحرام قوله لقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال اللهم ارحم المحلقين قالوا والمقصرين يا رسول الله قال اللهم ارحم المحلقين قالوا والمقصرين يا رسول الله قال اللهم ارحم المحلقين قالوا والمقصرين يا رسول الله قال والمقصرين وفي رواية البخاري فلما كانت الرابعة قال والمقصرين وقوله ظاهر هو بفتح الهاء فعل ماض ومن لا شعر على رأسه يجري الموسى على رأسه وجوبا لأن الواجب شيئان إجراؤه مع الإزالة فما عجز عنه سقط دون ما لم يعجز عنه
وقيل استحبابا لأن وجوب الإجراء للإزالة لا لعينه فإذا سقط ما وجب لأجله سقط هو
على أنه قد يقال بمنع وجوب عين الإجراء وإن كان للإزالة بل الواجب طريق الإزالة ولو فرض بالنورة أو الحرق أو النتف وإن عسر في أكثر الرءوس أو قاتل غيره فنتفه أجزأ عن
____________________
(2/489)
الحلق قصدا ولو تعذر لعارض تعين التقصير أو التقصير تعين الحلق كأن لبده بصمغ فلا يعمل فيه المقراض ومن تعذر إجراء الآلة على رأسه صار حلالا كالذي لا يقدر على مسح رأسه في الوضوء لآفة
قال محمد رحمه الله فيمن على رأسه قروح لا يستطيع إجراء الموسى عليه ولا يصل إلى تقصيره حل منزلة من حلق والأحسن له أن يؤخر الإحلال إلى آخر الوقت من أيام النحر ولا شيء عليه إن لم يؤخره ولو لم تكن به قروح لكنه خرج إلى البادية فلم يجد آلة أو من يحلقه لا يجزيه إلا الحلق أو التقصير وليس هذا بعذر ويعتبر في سنة الحلق البداءة بيمين الحالق لا المحلوق ويبدأ بشقه الأيسر وقد ذكرنا آنفا أن مقتضى النص البداءة بيمين الرأس
ويستحب دفن شعره ويقول عند الحلق الحمد لله على ما هدانا وأنعم علينا
اللهم هذه ناصيتي بيدك فتقبل منى واغفر لي ذنوبي
اللهم اكتب لي بكل شعرة حسنة وامح بها عني سيئة وارفع لي بها درجة اللهم اغفر لي وللمحلقين والمقصرين يا واسع المغفرة آمين
وإذا فرغ فليكبر وليقل الحمد لله الذي قضى عنا نسكنا اللهم زدنا إيمانا ويقينا ويدعو لوالديه والمسلمين قوله ويكتفي في الحلق بربع الرأس اعتبارا بالمسح وحلق الكل أولى اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم قال الكرماني فإن حلق أو قصر أقل من النصف أجزأ وهو مسيء ولا يأخذ من شعر غير رأسه ولا من ظفره فإن فعل لم يضره لأنه أوان التحلل وهذا كله مما يحصل به التحلل لأنه من قضاء التفث كذا علله في المبسوط
وفي المحيط أبيح له التحلل فغسل رأسه بالخطمي أو قلم ظفره قبل الحلق عليه دم الأن الإحرام باق لأنه لا تحلل إلا بالحلق فقد جنى عليه بالطيب
وذكر الطحاوي لادم عليه عند أبي يوسف ومحمد لأنه أبيح له التحلل فيقع به التحلل
واعلم أنه اتفق كل من الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله على أنه يجزي في الحلق القدر الذي قال أنه يجزي في المسح في الوضوء
ولا يصح أن يكون هذا منهم بطريق القياس كما تفيده عبارة المصنف لأنه يكون قياسا بلا جامع يظهر أثره وذلك لأن حكم الأصل على تقدير القياس وجوب المسح ومحله المسح وحكم الفرع وجوب الحلق ومحله الحلق للتحلل ولا يظن أن محل الحكم الرأس إذ لا يتحد الأصل والفرع وذلك أن الأصل والفرع هما محلا الحكم المشبه به والمشبه والحكم هو الوجوب مثلا ولا قياس يتصور عند اتحاد محله إذ لا اثنينية وحينئذ فحكم الأصل وهو وجوب
____________________
(2/490)
المسح ليس فيه معنى يوجب جواز قصره على الربع وإنما فيه نفس النص الوارد فيه وهو قوله تعالى { وامسحوا برؤوسكم } بناء إما على الإجمال والتحاق حديث المغيرة بيانا أو على عدمه والمفاد بسبب الباء إلصاق اليد كلها بالرأس لأن الفعل حينئذ يصير متعديا إلى الآلة بنفسه فيشملها وتمام اليد يستوعب الربع عادة فتعين قدره لا أن فيه معنى ظهر أثره في الاكتفاء بالربع أو بالبعض مطلقا أو تعين الكل وهو متحقق في وجوب حلقها عند التحلل من الإحرام ليتعدى الاكتفاء بالربع من المسح إلى الحلق وكذا الآخران وإذا انتفت صحة القياس فالمرجع في كل من المسحة وحلق التحلل ما يفيده نصه الوارد فيه والوارد في المسح دخلت فيه الباء على الرأس التي هي المحل فأوجب عند الشافعي التبعيض وعندنا وعند مالك لا بل الإلصاق غير أنا لاحظنا تعدي الفعل للآلة فيجب قدرها من الرأس ولم يلاحظه مالك رحمه الله فاستوعب الكل أو جعله صلة كما في { فامسحوا بوجوهكم } في آية التيمم فاقتضي وجوب استيعاب المسح
وأما الوارد في الحلق فمن الكتاب قوله تعالى { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم } من غير باء
والآية فيها إشارة إلى طلب تحليق الرءوس أو تقصيرها وليس فيها ما هو الموجب لطريق التبعيض على اختلافه عندنا وعند الشافعي رحمه الله وهو دخول الباء على المحل
ومن السنة فعله عليه الصلاة والسلام وهوالاستيعاب فكان مقتضى الدليل في الحلق وجوب الاستيعاب كما هو قول مالك وهو الذي أدين الله به والله سبحانه وتعالى أعلم قوله وهو مقدم على القياس يفيد أن ما استدل به مالك قياس وإن لم يذكر أصله على ما ذكرنا من أنه قد يترك ذكره كثيرا إذا كان أصله ظاهرا أو له أصول كثيرة وهنا كذلك
وحاصله الطيب من دواعي المحرم وهو الجماع فيحرم قياسا على اللمس بشهوة في الاعتكاف والاستبراء فأجاب بأنه في معارضة النص لكن قد استدل لمالك بحديث رواه الحاكم في المستدرك عن عبد الله بن الزبير قال من سنة الحج إن رمى الجمرة الكبرى حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء والطيب حتى يزور البيت وقال علي شرطهما اه
وقول الصحابي من السنة حكمه الرفع
وعن عمر رضي الله عنه بطريق منقطع أنه قال إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم ما حرم إلا النساء والطيب ذكره وانقطاعه في الإمام
ولنا ما أخرج النسائي وابن ماجه عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن ابن عباس قال إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء فقال رجل والطيب فقال أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك أفطيب هو أم لا وأما ما في الكتاب فهو ما أخرج ابن أبي شيبة حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها عنه عليه الصلاة والسلام إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء ورواه أبو داود بسند فيه الحجاج ابن أرطاة والدارقطني بسند آخر هو فيه أيضا وقال إذا رميتم وحلقتم وذبحتم وقال لم يروه إلا الحجاج بن أرطأة
____________________
(2/491)
وفي الصحيحين عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطبيب فيه مسك وأخرجه مسلم عن عمرة عنها قالت طيبته عليه الصلاة والسلام لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يفيض قوله ولنا أن ما يكون محللا يكون جناية في غير أوانه كالحلق يعني هذا هو الأصل لأن التحلل من العبادة هو الخروج منها ولا يكون ذلك بركنها بل إما بمنافيها أو بما هو محظورها هو أقل ما يكون بخلاف دم الإحصار لأنه على خلاف الأصل للحاجة إلى التحلل قبل أوان إطلاق مباشرة المحظور تحللا فإن قيل يرد الطواف فإنه محلل من النساء وليس من المحظورات أجاب بمنع كونه محللا بل التحلل عنده بالحلق السابق لا به غاية الأمر بعض أحكام الحلق يؤخر إلى وقته
ولا يخفى أن ما ذكرناه آنفا من السمعيات يفيد أنه هو السبب للتحلل الأول
وعن هذا نقل عن الشافعي أن الحلق ليس بواجب والله أعلم
وهو عندنا واجب لأن التحلل الواجب لا يكون إلا به ويحملون ما ذكرنا على إضمار الحلق أي إذا رمى وحلق جمعا بينه وبين ما في بعض ما ذكرناه من عطفه على الشرط في رواية الدارقطني
وقوله تعالى { ثم ليقضوا تفثهم } وهو الحلق واللبس على ما عن ابن عمر وقول أهل التأويل إنه الحلق وقص الأظفار وقوله تعالى { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين } الآية أخبر بدخلولهم محلقين فلا بد من وقوع التحليق وإن لم يكن حالة الدخول في العمرة لأنها حال مقدرة ثم هو مبني على اختيارهم فلا بد من الوجوب الحامل على الوجود فيوجد المخبر به ظاهرا وغالبا لتطابق الأخبار غير أن هذا التأويل ظني فيثبت به الوجوب لا القطع
ولو غسل رأسه بالخطمي بعد الرمي قبل الحلق لزمه دم على قول أبي حنيفة رضي الله عنه على الأصح لأن إحرامه باق لا يزول إلا بالحلق
____________________
(2/492)
قوله لما روى الخ هذا دليل يخص يوم النحر بالإفاضة لا أنه يفيد ما ذكره من أنه يفيض في أحد الأيام الثلاثة فكان الأحسن أن يقدم عليه قوله وأفضل هذه الأيام أولها ليكون دليل السنة ويثبت الجواز في اليومين الأخرين بالمعنى وهو ما ذكره بقوله ووقته أيام النحر الخ وأما حديث أفضلها أولها فالله سبحانه وتعالى أعلم به
ثم الحديث الذي ذكره أخرجه مسلم عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى قال قال نافع وكان ابن عمر يفيض يوم النحر ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله
والذي في حديث جابر الطويل الثابت في مسلم وغيره من كتب السنن خلاف ذلك حيث قال ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى الظهر بمكة ولا شك أن أحد الخبرين وهم
وثبت عن عائشة رضي الله عنها مثل حديث جابر الطويل بطريق فيه ابن إسحاق وهو حجة على ما هو الحق ولهذا قال المنذري في مختصره هو حديث حسن
وإذا تعارضنا ولا بد من صلاة الظهر في أحد المكانين ففي مكة بالمسجد الحرام أولى لثبوت مضاعفة الفرائض فيه
ولو تجشمنا الجمع حملنا فعله بمنى على الإعادة بسبب اطلع عليه يوجب نقصان المؤدي أولا قوله فكان وقتهما واحدا يعني فكان وقت الذبح وقتا للطواف لا وقت الطواف فإن الطواف لا يتوقت بأيام النحر حتى يفوت بفواتها بل وقته العمر إلا أنه يكره تأخيره عن هذه الأيام وحينئذ فوجه الاستدلال بالعطف أنه عطف طلب الطواف على الأكل من الأضحية الملزوم للذبح في قوله تعالى { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق } فكان على الذبح اللازم ومن ضرورة جمع طلبهما مطلقا إطلاق الإتيان بكل منهما من حين يتحقق وقت أحدهما والذبح يتحقق وقته من فجر النحر فمنه يتحقق وقت الطواف
والحاصل أن وقت الطواف أوله طلوع الفجر من يوم النحر لا من ليلته كما يقوله الشافعي لأن ذلك وقت الوقوف ولا آخر له
بل مدة وقته العمر إلا أنه يجب فعله قبل مضي أيام النحر عند أبي حينفة خلافا لهما بل ذلك عندهما للسنة يكره خلافها وستأتي المسألة
____________________
(2/493)
وهذه فروع تتعلق بالطواف مكان الطواف داخل المسجد فلو طاف من وراء السواري أو من وراء زمزم أجزأه وإن طاف من وراء المسجد لا يجوز وعليه الإعادة
وفي موضع إن كان حيطانه بينه وبين الكعبة لم يجزه يعني بخلاف ما لو كانت حيطانه منهدمة والأول أصوب
يعني وقع ذكر الحيطان في ظاهر الرواية لكنه اتفاقي لا معتبر المفهوم لما يفهم من التعليل في أصل المبسوط فأما إذا طاف من وراء المسجد فكانت حيطانه بينه وبين الكعبة لم يجزه لأنه طاف بالمسجد لا بالبيت أرأيت لو طاف بمكة كان يجزيه وإن كان البيت في مكة أرأيت لو طاف بالدنيا أكان يجزيه من الطواف بالبيت لا يجزيه شيء من ذلك فهذا مثله اه
ولا شك أن الطائف بمكة يقال فيه طائف بمكة وإن لم تكن حيطان سور وكذا بالمسجد وهذا لأن النسبة أعنى نسبه الطواف إلى الكعبة إنما تثبت بقرب منها مناسب ولولا أن المسجد له حكم البقعة الواحدة وإن انتشرت أطرافه لكان يناسب القول بعدم الإجزاء بالطواف في حواشيه تحت الأبنية للبعد الذي قد يقطع النسبة إليه حتى إن من دار هناك إنما يقال كان فلان يدور في المسجد كأنه يتأمل بقعه وأبنيته ولا يقال في العرف كان يطوف بالبيت
وأول ما يبدأ به داخل المسجد الطواف محرما أو غير محرم دون الصلاة إلا أن يكون عليه صلاة فائتة أو خاف فوت الوقتية ولو الوتر أو سنة راتبة أو فوت الجماعة فيقدم الصلاة في هذه الصور على الطواف
كما لو دخل في وقت منع الناس الطواف فيه فإن لم يكن محرما فطواف تحية وإن كان بالحج فطواف القدوم إن كان دخوله قبل يوم النحر وإن كان فيه فطواف الفريضة يغني عنه ولو نواه وقع عن الفرض وإن كان بالعمرة فبطواف العمرة ولا يسن طواف القدوم له ولو نواه وقع عن العمرة
وينبغي أن يكون قريبا من البيت في طوافه إذا لم يؤد أحدا
والأفضل للمرأة أن تكون في حاشية المطاف ويكون طوافه من وراء الشاذ وان كي لا يكون بعض طوافه بالبيت بناء على أنه منه
وقال الكرماني الشاذروان ليس من البيت عندنا وعند الشافعي منه حتى لا يجوز الطواف عليه والشاذروان هو تلك الزيادة الملصقة بالبيت من الحجر الأسود إلى فرجة الحجر
قيل بقي منه حين عمرته قريش وضيقت
ولا يخفى أن ما لم يثبت ذلك بطريق لا مرد له كثبوت كون بعض الحجر من البيت فالقول قولنا لأن الظاهر أن البيت هو الجدار المرئي قائما إلى أعلاه
وينبغي أن يبدأ بالطواف من جانب الحجر الذي يلي الركن اليماني ليكون مارا على جميع الحجر بجميع بدنه فيخرج من خلاف من يشترط المرور كذلك عليه وشرحه أن يقف مستقبلا على جانب الحجر بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ثم يمشي كذلك مستقبلا حتى يجاوز الحجر فإذا جاوزه انفتل وجعل يساره إلى البيت وهذا في الافتتاح خاصة وإذا أقيمت الصلاة المكتوبة أو الجنازة خرج من طوافه إليها وكذا إذا كان في السعي ثم إذا فرغ وعاد بنى على ما كان طافه ولا يستقبله وكذا إذا خرج لتجديد وضوء
ولا يكره الطواف في الأوقات التي تكره فيها الصلاة إلا أنه لا يصلي ركعتي الطواف فيها بل يصر إلى أن يدخل ما لا كراهة فيه
ويكره وصل الأسابيع وهو مذهب عمر وغيره
وعند أبي يوسف رحمه الله لا بأس به بشرط أن ينفصل عن وتر منها
ومع الكراهة لو طاف أسبوعا ثم شوطا أو شوطين من آخر ثم ذكر أنه لا ينبغي له أن يجمع بين أسبوعين لا يقطع الأسبوع الذي شرع فيه
____________________
(2/494)
بل يتمه
ولا بأس بأن يطوف منتعلا إذا كانتا طاهرتين أو بخفه وإن كان على ثوبه نجاسه أكثر من قدر الدرهم كرهت له ذلك ولم يكن عليه شيء
والركن في الطواف أربعة أشواط فما زاد إلى السبعة واجب نص عليه محمد رحمه الله وسنذكر ما عندنا فيه
وقيل الركن ثلاثة أشواط وثلثا شوط
وافتتاح الطواف من الحجر سنة فلو افتتحه من غيره أجزأ وكره عند عامة المشايخ ونص محمد في الرقيات على أنه لا يجزيه فجعله شرطا
ولو قيل أنه واجب لا يبعد لأن المواظبة من غير ترك مرة دليلة فيأثم به ويجزيه
ولو كان في آية الطواف إجمال لكان شرطا كما قاله محمد رحمه الله لكنه منتف في حق الابتداء فيكون مطلق التطوف هو الفرض وافتتاحه من الحجر واجب للمواظبة كما قالوا في جعل الكعبة عن يساره حال الطواف أنه واجب حتى لو طاف منكوسا بأن جعلها عن يمينه اعتد به في ثبوت التحلل وعليه الإعادة فإن رجع ولم يعد فيه فعليه دم
وفي الكافي للحاكم الذي هو جمع كلام محمد يكره له أن ينشد الشعر في طوافه أو يتحدث أو يبيع أو يشتري فإن فعله لم يفسد طوافه
ويكره أن يرفع صوته بالقرآن فيه ولا بأس في قراءته في نفسه اه
وفي المنتقى عن أبي حنيفة رحمه الله لا ينبغي للرجل أن يقرأ في طوافه ولا بأس بذكر الله وصرح المصنف في التجنيس بأن الذكر أفضل من القراءة في الطواف وليس ينبو عما ذكر الحاكم لأنه لا بأس في الأكثر لخلاف الأولى ومنهم من فصل في الشعر بين أن يعرى عن حمد أو ثناء فيكره وإلا فلا
وقيل يكره في الحالين كما هو ظاهر جواب الرواية
والحاصل أن هدى النبي صلى الله عليه وسلم هو الأفضل ولم يثبت عنه في الطواف قراءة بل الذكر وهو المتوارث عن السلف والمجمع عليه فكان أولى وأما كراهة الكلام فالمراد فضوله إلا ما يحتاج إليه بقدر الحاجة
ولا بأس بأن يفتي في الطواف ويشرب ماء إن احتاج إليه ولا يلبي حالة الطواف في طواف القدوم ومن طاف راكبا أو محمولا أو سعى بين الصفا والمروة كذلك إن كان بعذر جاز ولا شيء عليه وإن كان بغير عذر فما دام بمكة يعيد فإن رجع إلى أهله بلا إعادة فعليه دم لأن المشي واجب عندنا وعلى هذا نص المشايخ وهو كلام محمد
وما في فتاوي قاضيخان من قوله الطواف ماشيا أفضل تساهل أو محمول على النافلة
لا يقال بل ينبغي في النافلة أن تجب صدقة لأنه إذا شرع فيه وجب فوجب المشي لأن الفرض أن شروعه لم يكن بصفة المشي والشروع إنما يوجب ما شرع فيه
ولو طاف زحفا لعذر أجزأه ولا شيء عليه وبلا عذر عليه الإعادة أو الدم ولو كان الحامل محرما أجزأه عن طوافه الموقت في ذلك الوقت فرضا كان أو سنة قيل إلا أن يقصد حمل المحمول فلا يجزيه بناء على أن نية الواف الواقع جزء نسك ليست شرطا بل الشرط أن لا ينوى شيئا آخر ولذا لو طاف طالبا لغريم أو هاربا من عدو لا يجزيه بخلاف الوقوف بعرفة وسنذكر الفرق إن شاء الله تعالى في الفصل الآتي
والحاصل أن كل من طاف طوافا في وقته وقع عنه بعد أن ينوي أصل الطواف نواه بعينه أولا أو نوى طوافا آخر لأن النية تعتبر في الإحرام لأنه عقد على الأداء فلا يعتبر في الأداء فلو قدم معتمر وطاف وقع عن العمرة وإن كان حاجا قبل يوم النحر وقع للقدوم وإن كان قارنا وقع الأول للعمرة والثاني للقدوم ولو كان في يوم النحر إذا طاف فهو للزيارة وإن طاف بعد ما حل النفر فللصدر ولو كان نواه للتطوع
قيل لأن غير هذا الطواف غير مشروع فلا يحتاج إلى نية التعيين ويلغو غيرها كصوم رمضان ويحتاج إلى أصلها وتحقيقه أن خصوص ذلك الوقت إنما يستحق خصوص
____________________
(2/495)
ذلك الطواف بسبب أنه في إحرام عبادة اقتضت وقوعه في ذلك الوقت فلا يشرع غيره كمن سجد في إحرم الصلاة ينوي سجدة شكر أو نفل أو تلاوة عليه من قبل تقع عن سجدة الصلاة لذلك الاستحقاق فكان مقتضى هذا أن لا يحتاج إلى نية أصلا كسجدة الصلاة لكن لما كان هذا الركن لا يقع في محض إحرام العبادة الذي اقترن به النية بعد انحلال أكثره وجب له أصل النية دون التعيين لأنه لم يخرج عنه بالكلية بخلاف الوقوف بعرفة
واعلم أن دخول البيت مستحب إذا لم يؤذ أحدأ ثبت دخوله عليه الصلاة والسلام إياه على ما أسلفناه في باب الصلاة في الكعبة وأنه دعا وكبر في نواحيه
وعن ابن عباس عنه عليه الصلاة والسلام من دخل البيت دخل في حسنة وخرج من سيئة مغفورا له رواه البيهقي وغيره
وينبغي أن يقصد مصلاه عليه الصلاة والسلام وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا دخلها مشى قبل وجهه وجعل الباب قبل ظهره حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهة قريب من ثلاثة أذرع ثم يصلي يتوخى مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقالت عائشة رضي الله عنها عجبا للمرء المسلم إذا دخل الكعبة كيف يرفع بصره قبل السقف يدع ذلك إجلالا لله تعالى وإعظاما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها وكان البيت في زمنه على ستة أعمدة وليست البلاطة الخضراء بين العمودين مصلاه عليه الصلاة والسلام فإذا صلى إلى الجدار يضع خده عليه ويستغفر ويحمد ثم يأتي الأركان فيحمد ويهلل ويسبح ويكبر ويسأل الله تعالى ما شاء ويلزم الأدب ما استطاع بظاهره وباطنه وما تقوله العامة من العروة الوثقى وهو موضع عال في جدار البيت بدعة باطلة لا أصل لها
والمسمار الذي وسط البيت يسمونه سرة الدنيا يكشف أحدهم سرته وبضعها عليه فعل من لا عقل له فضلا عن علم قوله ما شرع إلا مرة في طواف بعده سعى لأنه عليه الصلاة والسلام إنما سعى في طواف العمرة المفردة أعني عمرة القضاء والعمرة التي قرن إلى حجته فإنه عليه الصلاة والسلام حج قارنا على ما نبين في باب القران إن شاء الله تعالى قوله لما بينا ولم يقل لما روينا أعني قوله عليه الصلاة والسلام وليصل الطائف لكل أسبوع ركعتين لأنه ذكر هناك
____________________
(2/496)
وجه التمسك به للوجوب حيث قال والأمر للوجوب فقوله لما بينا يشمل جميع المروي مع ما ذكر من وجه الاستدلال قوله إذ هو المأمور به في قوله تعالى { وليطوفوا بالبيت العتيق } على ذلك إجماع المسلمين قوله كما روينا يعني من قريب من قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم لما حلق أفاض إلى مكة فطاف بالبيت الخ قوله وإذا زالت الشمس الخ أفاد أن وقت الرمي في اليوم الثاني لا يدخل إلا بعد الزوال وكذا في اليوم الثالث وسيتبين قوله فيبتدئ بالتي تلي مسجد الخيف الخ هل هذا الترتيب متعين أو أولى مختلف فيه ففي المناسك لو بدأ في اليوم الثاني بجمرة العقبة ثم بالوسطى ثم بالتي تلي مسجد الخيف فإن أعاد على الوسطى ثم على العقبة في يومه فحسن لأن الترتيب سنة وإن لم يعد أجزأه
وفي المحيط فإن رمى كل جمرة بثلاث أتم الأولى بأربع ثم أعاد الوسطى بسبع ثم العقبة بسبع وإن كان رمى كل واحدة بأربع أتم كل واحدة بثلاث ثلاث ولا يعيد لأن للأكثر حكم الكل وكأنه رمى الثانية والثالثة بعد الأولى وإن استقبل رميها فهو أفضل
وعن محمد لو رمى الجمرات الثلاث فإذا في يده أربع حصيات لا يدري من أيتهن هن يرميهن على الأولى ويستقبل الباقيتين لاحتمال أنها من الأولى فلم يجز رمى الأخريين ولو كن ثلاثا أعاد على كل جمرة واحدة ولو كانت حصاة أو حصاتين أعاد على كل واحدة واحدة ويجزيه لأنه رمى كل واحدة بأكثرها اه
وهذا صريح في الخلاف والذي يقوي عندي استنان الترتيب لا تعينه والله سبحانه وتعالى أعلم
بخلاف تعيين الأيام كلها للرمي والفرق لا يخفى على محصل
ولو ترك حصاة من البعض لا يدري من أيتها أعاد لكل واحدة حصاة ليبرأ بيقين
ولو رمى في اليوم الثاني الوسطى والثالثة ولم يرم الأولى فإن رمى الأولى وأعاد على الباقيتين فحسن وإن رمى الأولى وحدها جاز والله أعلم قوله ويقف عندها أي عند الجمرة بعد تمام الرمي لا عند كل حصاة وقوله هكذا روى جابر
الذي في حديث جابر الطويل إنما هو التعرض لرمي جمرة العقبة ليس غير وغير ذلك لم يعرف في حديث جابر
وحديث ابن عمر الذي قدمناه من البخاري وهو قوله كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رمى الجمرة الأولى الخ يبين كيفية الوقوف وموضعه وأنه صلى الله عليه وسلم كان يطيله رافعا يديه فارجع إليه تستغن به عنه وعن حديث لا ترفع الأيدي إلا
____________________
(2/497)
في سبع مواطن مع زيادات أخر
وقوله في المقام الذي يقف فيه الناس تعيين لمحله وإفادة أنه لم يتغير بل الناس توارثوه فما هم عليه هو الذي كان
وقال في النهاية نقلا يريد بالمقام الذي يقوم فيه الناس أعلى الوادي والذي صرح به حديث ابن عمر أنه ينحدر في الأولى أمامها فيقف وينحدر في الثانية ذات اليسار مما يلي الوادي وكان ابن عمر يفعله في حديث البخاري
وفي البخاري أيضا عن سالم عن ابن عمر أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة ثم يتقدم فيسهل ويقوم مستقبل القبلة قياما طويلا يدعو ويرفع يديه ثم يرمي الجمرة الوسطى كذلك فيأخذ ذات الشمال فيسهل ويقوم مستقبل القبلة قياما طويلا فيدعو ويرفع يديه ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ويقول هكذا رأيته عليه الصلاة والسلام يفعل هذا
وإنما يرفع يديه حذاء منكبيه قيل يقف قدر سورة البقر
ومن كان مريضا لا يستطيع الرمي يوضع في يده ويرمى بها أو يرمى عنه غيره وكذا المغمى عليه
ولو رمى بحصاتين إحداهما لنفسه والأخرى لآخر جاز ويكره ولا ينبغي أن يترك صلاة الجماعة مع الإمام بمسجد الخيف
ويكثر من الصلاة فيه أمام المنارة عند الأحجار قوله فإذا كان من الغد هو اليوم الثالث من أيام النحر وهو الملقب بيوم النفر الأول فإنه يجوز له أن ينفر فيه بعد الرمي واليوم الرابع آخر أيام التشريق يسمى يوم النفر الثاني قوله لما روى أنه عليه الصلاة والسلام الخ وروى
____________________
(2/498)
أبو داود من حديث ابن إسحاق يبلغ به عائشة رضي الله عنها قالت أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يوم حين صلى الظهر
يعني يوم النحر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس الحديث
قال المنذري حديث حسن رواه بن حبان فى صحيحه قوله وفيه خلاف الشافعي فإن عنده إذا غربت الشمس من اليوم الثالث ليس له أن ينفر حتى يرمي قال لأن المنصوص عليه الخيار في اليوم وإنما يمتد اليوم إلى الغروب
وقلنا ليس الليل وقتا لرمي اليوم الرابع فيكون خياره في النفر باقيا فيه كما قبل الغروب من الثالث فإنه خير فيه في النفر لأنه لم يدخل وقت رمي الرابع وهذا ثابت في ليلته قوله اعتبارا بسائر الأيام أي باقي الأيام التي يرمي فيها الجمرات كلها وهما الثاني والثالث قوله ومذهبه أي مذهب أبي حنيفة رحمه الله مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أخرج البيهقي عنه إذا انتفخ النهار من يوم النفر فقد حل الرمي والصدر
والانتفاخ الارتفاع وفي سنده طلحة بن عمرو ضعفه البيهقي قوله أولى مما يمنع لجواز أن يرخص في تركه مالم يطلع الفجر فإذا طلع منع من تركه أصلا ولزمه أن يقيمه في وقته
ولا شك أن المعتمد في تعيين الوقت للرمي في الأول من أول النهار وفيما بعده من بعد الزوال ليس إلا فعله عليه الصلاة والسلام كذلك مع أنه غير معقول فلا يدخل وقته قبل الوقت الذي فعله فيه عليه الصلاة والسلام كما لا يفعل في غير ذلك المكان الذي رمى فيه عليه الصلاة والسلام وإنما رمى عليه الصلاة والسلام في الرابع بعد الزوال فلا يرمى قبله
وبهذا الوجه يندفع المذكور لأبي حنيفة لو قرر بطريق القياس على اليوم الأول لا إذا قرر بطريق الدلالة والله سبحانه وتعالى أعلم قوله بخلاف اليوم الأول أي من أيام التشريق لا الرمي والثاني منها فإنهما الثاني من أيام الرمي والثالث منه قوله في المشهور من الرواية احتراز عما عن أبي حنيفة رحمه الله قال أحب إلي أن لا يرمي في اليوم
____________________
(2/499)
الثاني والثالث حتى تزول الشمس فإن رمى قبل ذلك أجزأه وحمل المروي من قوله عليه الصلاة والسلام على اختيار الأفضل
وجه الظاهر ما قدمناه من وجوب اتباع المنقول لعدم المعقولية ولم يظهر أثر تخفيف فيها بتجويز الترك لينفتح باب التخفيف بالتقديم وهذه الزيادة يحتاج إليها أبو حنيفة وحده قوله لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام رخص للرعاء أن يرموا ليلا أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره
ورواه أيضا في مصنفه عن عطاء مرسلا ورواه الدارقطني بسند ضعيف وزاد فيه وأية ساعة شاءوا من النهار وحمله المصنف على الليلة الثانية والثالثة لما عرف أن وقت رمي كل يوم إذا دخل من النهار امتد إلى آخر الليلة التي تتلو ذلك النهار فيحمل على ذلك فالليالي في الرمي تابعة للأيام السابقة لا اللاحقة بدليل ما في السنن الأربعة عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم ضعفاء أهله بغلس ويأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس وما روى البزار من حديث الفضل بن العباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ضعفة بني هاشم أن يرتحلوا من جمع بليل ويقول أبني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس وقال الطحاوي حدثنا ابن أبي داود قال حدثنا المقدمي حدثنا فضيل بن سليمان حدثني موسى بن عقبة أخبرنا كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر نساءه وثقله صبيحة جمع أن يفيضوا مع أول الفجر بسواد ولا يرموا الجمرة إلا مصبحين حدثنا محمد بن خزيمة حدثنا حجاج حدثنا حماد حدثنا الحجاج عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه في الثقل وقال لا ترموا الجمار حتى تصبحوا فأثبتنا الجواز بهذين والفضيلة بما قبله
وفي النهاية نقلا من مبسوط شيخ الإسلام أن ما بعد طلوع الفجر من يوم النحر وقت الجواز مع الإساءة وما بعد طلوع
____________________
(2/500)
الشمس إلى الزوال وقت مسنون وما بعد الزوال إلى الغروب وقت الجواز بلا إساءة والليل وقت الجواز مع الإساءة اه
ولا بد من كون محمل ثبوت الإساءة عدم العذر حتى لا يكون رمي الضعفة قبل الشمس ورمى الرعاء ليلا يلزمهم الإساءة وكيف بذلك بعد الترخيص ويثبت وصف القضاء في الرمي من غروب الشمس عند أبي حنيفة إلا أنه لا شيء فيه سوى ثبوت الإساءة إن لم يكن لعذر قوله وبيان الأفضل مروي عن أبي يوسف رحمه الله حكى عن إبراهيم بن الجراح قال دخلت على أبي يوسف رحمه الله في مرضه الذي توفي به ففتح عينيه وقال الرمي راكبا أفضل أم ماشيا فقلت ماشيا فقال أخطأت فقلت راكبا فقال أخطأت ثم قال كل رمي بعده وقوف فالرمي ماشيا أفضل وما ليس بعده وقوف فالرمي راكبا أفضل فقمت من عنده فما انتهيت إلى باب الدار حتى سمعت الصراخ بموته فتعجبت من حرصه على العلم في مثل تلك الحالة وفي فتاوى قاضيخان قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله الرمى كله راكبا أفضل اه لأنه روى ركوبه عليه الصلاة والسلام فيه كله وكان أبا يوسف يحمل ما روى من ركوبه عليه الصلاة والسلام في رمى الجمار كلها على أنه ليظهر فعله فيقتدي به ويسأل ويحفظ عنه المناسك كما ذكر في طوافه راكبا وقال عليه الصلاة والسلام خذوا عني مناسككم فلا أدري لعلي لا أحج بعد هذا العام وفي الظهيرية أطلق استحباب المشي قال يستحب المشي إلى الجمار وإن ركب إليها فلا بأس به والمشي أفضل
وتظهر أولويته لأنا إذا حملنا ركوبه عليه الصلاة والسلام على ما قلنا يبقى كونه مؤديا عبادة وأداؤها ماشيا أقرب إلى التواضع والخشوع وخصوصا في هذا الزمان فإن عامة المسلمين مشاة في جميع الرمي فلا يأمن من الأذى بالركوب بينهم للزحمة قوله خلافا للشافعي فإنه واجب عنده ثم قيل يلزمه بتركه مبيت ليلة مد ومدان لليلتين ودم لثلاث قوله لأنه وجب أي ثبت إذ هو سنة عندنا يلزم بتركه الإساءة على ما يفيده لفظ الكافي حيث استدل بأن العباس رضي الله عنه استأذن النبي عليه الصلاة والسلام في أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له ثم قال ولو كان واجبا
____________________
(2/501)
لما رخص في تركها لأجل السقاية اه
فعلم أنه سنة وتبعه صاحب النهاية وبحديث العباس هذا استدل ابن الجوزي للشافعي على الوجوب وقال ولولا أنه واجب لما احتاج إلى إذن وليس بشيء إذ مخالفة السنة عندهم كان مجانبا جدا خصوصا إذ انضم إليها الانفراد عن جميع الناس مع الرسول عليه الصلاة والسلام فاستأذن لإسقاط الإساءة الكائنة بسبب عدم موافقته عليه الصلاة والسلام مع مرافقته فإنه أفظع منه حال عدم المرافقة بل هو جفاء لما فيه من إظهار المخالفة المستلزمة لسوء الأدب وذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان يبيت بمنى على ما قدمناه من حديث عائشة رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام مكث بمنى ليال أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس ونفس حديث العباس رضي الله عنه يفيده وما ذكره المصنف من أن عمر رضي الله عنه كان يؤدب على ترك المبيت بمنى الله سبحانه أعلم به
نعم أخرج ابن أبي شيبة عنه أنه كان ينهي أن يبيت أحد من وراء العقبة وكان يأمرهم أن يدخلوا منى
وأخرج أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه
وأخرج أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كره أن ينام أحد أيام منى بمكة
وأخرج في تقديم الثقل عن الأعمش عن عمارة قال عمر رضي الله عنه من قدم ثقله من منى ليلة ينفر فلا حج له
وقال أيضا حدثنا وكيع عن شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن عمرة بن شرحبيل عن عمر قال من قدم ثقله قبل النفر فلا حج له اه يعني الكمال قوله وهو الأبطح قال في الإمام وهو موضع بين مكة ومنى وهو إلى منى أقرب وهذا لا تحرير فيه
وقال غيره هو فناء مكة حده ما بين الجبلين المتصلين بالمقابر إلى الجبال المقابلة لذلك مصعدا في الشق الأيسر وأنت ذاهب إلى منى مرتفعا من بطن الوادي وليست المقبرة من المحصب ويصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويهجع هجعة ثم يدخل مكة قوله هو الأصح يحترز به عن قول من قال لم يكن قصدا فلا يكون سنة لما أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ليس المحصب بشيء إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأخرج مسلم عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنزل الأبطح حين خرج من منى ولكن جئت وضربت قبته فجاء فنزل
وعن عائشة رضي الله عنها أنه قصده وليس بسنة لأنه قصده لمعنى التسهيل
روى الستة عنها قالت إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصب ليكون أسمح لخروجه وليس بسنة فمن شاء نزله ومن شاء لم ينزله
وجه المختار ما نقله المصنف وهو ما أخرجه الجماعة عن أسامة بن زيد قال قلت يا رسول الله أين تنزل غدا في حجته فقال هل ترك لنا عقيل منزلا ثم قال نحن نازلون بخيف بني كنانة حيث تقاسمت قريش على الكفر يعني المحصب الحديث
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى نحن نازلون
____________________
(2/502)
غدا بخيف بنى كنانة حيث تقاسموا على الكفر وذلك أن قريشا وبنى كنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لايناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني بذلك المحصب اه
فثبت بهذا أنه نزله قصدا ليرى لطيف صنع الله به وليتذكر فيه نعمته سبحانه عليه عند مقايسة نزوله به الآن إلى حاله قبل ذلك أعنى حال إنحساره من الكفار في ذات الله تعالى وهذا أمر يرجع إلى معنى العبادة ثم هذه النعمة التي شملته عليه الصلاة والسلام من النصر والاقتدار على إقامة التوحيد وتقرير قواعد الوضع الإلهى الذي دعا الله تعالى إليه عباده لينتفعوا به في دنياهم ومعادهم لاشك في انها النعمة العظمى على امته لأنهم مظاهر المقصود من ذلك المؤزر فكل واحد منهم جدير بتفكرها والشكر التام عليها لأنها عليه أيضا فكان سنة في حقهم لأن معنى العبادة في ذلك يتحقق في حقهم أيضا
وعن هذا حصب الخلفاء الراشدون
أخرج مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا ينزلون بالأبطح وأخرج عنه أيضا أنه كان يرى التحصب سنة وكان يصلي الظهر يوم النفر بالمحصب قال نافع قد حصب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده اه
وعلى هذا الوجه لا يكون كالرمل ولا على الأول لأن الإراءه لم يلزم أن يراد بها إراءة المشركين ولم يكن بمكة مشرك عام حجة الوداع
بل المراد إراءة المسلمين الذين كان لهم علم بالحال الأول قوله لأنه يودع البيت ولهذا كان المستحب أن يجعله آخر طوافه
وفي الكافي للحاكم ولا بأس بأن يقيم بعد ذلك ما شاء ولكن الأفضل من ذلك أن يكون طوافه حين يخرج
وعن أبي يوسف والحسن إذا اشتغل بعده بعمل بمكة يعيده لأنه للصدر وإنما يعتد به إذا فعله حين يصدر
وأجيب بأنه إنما قدم مكة للنسك فحين تم فراغه منه جاء أوان الصدر فطوافه حينئذ يكون له إذ الحال أنه على عزم الرجوع
نعم روى عن أبي حنيفة رضي الله عنه إذا طاف للصدر ثم أقام إلى العشاء قال أحب إلي أن يطوف طوافا آخر كي لا يكون بين طوافه ونفره حائل لكن هذا على وجه الاستحباب تحصيلا لمفهوم الاسم عقيب ما أضيف إليه وليس ذلك بحتم إذ لا يستغرب في العرف تأخير السفر عن الوداع بل قد يكون ذلك
والحاصل أن المستحب فيه أن يوقع عند إرادة السفر وأما وقته على التعيين فأوله بعد طواف الزيارة إذا كان على عزم السفر حتى لو طاف لذلك ثم أطال الإقامة بمكة ولو سنة ولم ينو الإقامة بها ولم يتخذها دارا جاز طوافه ولا آخر له وهو مقيم بل لو أقام عاما لا ينوي الإقامة فله أن يطوفه ويقع أداء
ولو نفر ولم يطف يجب عليه أن يرجع فيطوفه مالم يجاوز المواقيت بغير إحرام جديد فإن جاوزها لم يجب الرجوع عينا بل إما أن يمضي وعليه دم وإما أن يرجع فيرجع بإحرام جديد لأن الميقات لا يجاوز بلا إحرام فيحرم بعمرة فإذا رجع ابتدأ بطواف العمرة ثم بطواف الصدر ولا شيء عليه لتأخيره
____________________
(2/503)
وقالوا الأولى أن لا يرجع ويريق دما لأنه أنفع للفقراء وأيسر عليه لما فيه من دفع ضرر التزام الإحرام ومشقة الطريق قوله لقوله عليه الصلاة والسلام أخرج الترمذي عنه عليه الصلاة والسلام من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت إلا الحيض فرخص لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال حسن صحيح
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض لا يقال أمر ندب بقرينة المعنى وهو أن المقصود الوداع لأنا نقول ليس هذا يصلح صارفا عن الوجوب لجواز أن يطلب حتما لما في عدمه من شائبة عدم التأسف على الفراق وشبه عدم المبالاة به على أن معنى الوداع ليس مذكورا في النصوص بل أن يجعل آخر عهدهم بالطواف فيجوز أن يكون معلولا بغيره مما لم نقف عليه ولو سلم فإنما تعتبر دلالة القرينة إذا لم يفقها ما يقتضي خلاف مقتضاها وهنا كذلك فإن لفظ الترخيص يفيد أنه ختم في حق من لم يرخص له لأن معنى عدم الترخيص في الشيء هو تحتم طلبه إذ الترخيص فيه هو إطلاق تركه فعدمه عدم إطلاق تركه ومما يفيد أيضا أن الأمر على حقيقته من الوجوب ما وقع في صحيح مسلم كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينصرفن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت فهذا النهي وقع مؤكدا بالنون الثقيلة وهو يؤكد موضوع اللفظ والله سبحانه أعلم قوله وليس على أهل مكة ومن كان داخل الميقات وكذا من اتخذ مكة دارا ثم بدا له الخروج ليس عليهم طواف صدر وكذا فائت الحج لأن العود مستحق عليه ولأنه صار كالمعتمر وليس على المعتمر طواف الصدر ذكره في التحفة
وفي إثباته على المعتمر حديث ضعيف رواه الترمذي
وفي البدائع قال أبو يوسف رحمه الله أحب إلي أن يطوف المكي طواف الصدر لأنه وضع لختم أفعال الحج وهذا المعنى يوجد في أهل مكة
وفصل فيمن اتخذ مكة دارا بين أن نوى الإقامة بها قبل أن يحل النفر الأول فلا طواف عليه للصدر وإن نواه بعده لا يسقط عنه في قول أبي حنيفة
وقال
____________________
(2/504)
أبو يوسف يسقط عنه في الحالين إلا إذا كان شرع فيه قوله ويأتي زمزم أي بعد تقبيل العتبة والتزام الملتزم فيشرب منه ويفرغ على جسده باقي الدلو ويقول اللهم إني أسألك رزقا واسعا وعلما نافعا وشفاء من كل داء كذا عن ابن عباس رضي الله عنهما وسنضم إلى هذا ما يتيسر من قريب إن شاء الله تعالى ثم ينصرف راجعا إلى أهله مقهقرا
وإذا خرج من مكة يخرج من الثنية السفلى من أسفل مكة لما روى الجماعة إلا الترمذي أنه عليه الصلاة والسلام كان يدخل من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى قوله لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام استقى الخ الذي في حديث جابر الطويل يفيد أنهم نزعوا له كذا في مسند أحمد ومعجم الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه قال جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمزم فنزعنا له دلوا فشرب ثم مج فيها ثم أفرغناها في زمزم ثم قال لولا أن تغلبوا عليها لنزعت بيدي وما رواه المصنف من أنه عليه الصلاة والسلام استقى بنفسه دلوا رواه في كتاب الطبقات مرسلا
أخبرنا عبد الوهاب عن ابن جريج عن عطاء أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أفاض نزع بالدلو يعني من زمزم لم ينزع معه أحد فشرب ثم أفرغ باقي الدلو في البئر وقال لولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لم ينزع منها أحد غيري قال فنزع هو بنفسه الدلو فشرب منها لم يعنه على نزعها أحد وقد يجمع بأن ما في هذا كان بعقب طواف الوداع وما في حديث جابر رضي الله عنه وما معه كان عقيب طواف الإفاضة ولفظه ظاهر فيه حيث قال فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال انزعوا الحديث
وطوافه للوداع كان ليلا كما رواه البخاري عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بمكة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بالمحصب ثم ركب إلى البيت فطاف به ولكن قد يعكره ما رواه الأزرقي في تاريخ مكة حدثني جدي أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن طاوس عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض في نسائه ليلا فطاف على راحلته يستلم الركن بمحجنه ويقبل طرف المحجن ثم أتى زمزم فقال انزعوا فلولا أن تغلبوا لنزعت معكم ثم أمر بدلو فنزع له منها فشرب الحديث إلا أن يحمل على أن أزواجه أفضن لطواف الإفاضة ليلا فمضى معهن عليه الصلاة والسلام والله سبحانه أعلم فصل في فضل ماء زمزم تكثيرا للفائدة وترغيبا للعابدين
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم فيه طعام طعم وشفاء سقم وشر ماء على وجه الأرض ماء بوادي برهوت بقية حضرموت كرجل الجراد يصبح يتدفق وتمسى لا بلال فيها رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات ورواه ابن حبان أيضا
وبرهوت
____________________
(2/505)
بفتح الباء الموحدة والراء وضم الهاء وآخره تاء مثناة
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم زمزم طعام طعم وشفاء سقم رواه البزار بإسناد صحيح
وطعم بضم الطاء وسكون العين أي طعام يشبع
وعن ابن عباس رضي الله عنه كنا نسميها شباعة يعني زمزم وكنا نجدها نعم العون على العيال رواه الطبراني في الكبير وإسناده صحيح
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء زمزم لما شرب له إن شربته تستشفى شفاك الله وإن شربته لشبعك أشبعك الله وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل رواه الدارقطني وسكت عنه مع أن شيخه فيه عمر بن حسن الأشناني تأثمه الذهبي في الميزان بسكوته مع أن عمر بن الحسن الأشناني القاضي أبا الحسين قد ضعفه الدارقطني وجاء عنه أنه كذبه وله بلايا قال وهو بهذا الإسناد باطل لم يروه ابن عيينة بل المعروف حديث جابر من رواية عبد الله بن المؤمل
ودفع بأن الأشناني لم ينفرد به حتى يلزم الدارقطني شرح حاله وقد سلم الذهبي ثقة من بين الأشناني وابن عيينة ولهذا انحصر القدح عنه فيه لكن قد رواه الحاكم في المستدرك قال حدثنا علي بن حمشاد العدل حدثنا محمد بن هشام به وزاد فيه وإن شربته مستعيذا أعاذك الله قال وكان ابن عباس رضي الله عنه إذا شرب ماء زمزم قال اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا واسعا وشفاء من كل داء
وقال صحيح الإسناد إن سلم من الجارود وقيل قد سلم منه فإنه صدوق
وقال الخطيب في تاريخه والحافظ المنذري لكن الراوي محمد بن هشام المروزي لا أعرفه اه
وقال غيره ممن يوثق بسعة حاله وهو قاضي القضاة شهاب الدين العسقلاني هو ابن حجر علي بن حمشاد من الأثبات وهو بفتح الحاء المهملة أول الحرف ثم ميم ساكنة بعدها شين معجمة وشيخه محمد بن هشام ثقة
والهزمة بفتح الهاء أن تغمر موضعا بيدك أو رجلك فيصير فيه حفرة فقد ثبت صحة هذا الحديث إلا ما قيل إن الجارود تفرد عن ابن عيينة بوصله ومثله لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف وهومن رواية الحميدي وابن أبي عمر وغيرهما ممن لازم ابن عيينة أكثر من الجارود فيكون أولى
واعلم أن الذي نحتاج إليه الحكم بصحة المتن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا علينا كونه من خصوص طريق بعينه
وهنا أمور تدل عليه منها أن مثله لا مجال للرأي فيه فوجب كونه سماعا وكذا إن قلنا العبرة في تعارض الوصل والوقف والإرسال للواصل بعد كونه ثقة لا للأحفظ ولا غيره مع أنه قد صح تصحيح نفس ابن عيينة له في ضمن حكاية حكاها أبو بكر الدينوري في الجزء الرابع من المجالسة قال حدثنا محمد ابن عبد الرحمن حدثنا الحميدي قال كنا عند سفيان بن عيينة فحدثنا بحديث ماء زمزم لما شرب له فقام رجل من المجلس ثم عاد فقال يا أبا محمد أليس الحديث الذي قد حدثتنا في ماء زمزم صحيحا قال نعم قال الرجل فإني شربت الآن دلوا من زمزم على أنك تحدثني بمائة حديث فقال له سفيان اقعد فقعد فحدث بمائة حديث فبجميع ما ذكرنا لا يشك بعد في صحة هذا الحديث سواء كان على اعتباره موصولا من حديث ابن عباس رضي الله عنه أو حكما بصحة المرسل لمجيئه من وجه آخر مما سنذكره أو حكما بأنه عن النبي عليه الصلاة والسلام بسبب أنه مما لا يدرك بالرأي
وأعنى بالمرسل ذلك الموقوف على مجاهد بناء على أنه إذا كان لا مجال للرأي فيه بمنزلة قول
____________________
(2/506)
مجاهد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما رواه سعيد بن منصور عن ابن عيينة في السنن كذلك
وأما مجيئه من وجه آخر فروى أحمد في مسنده وابن ماجه عن عبد الله بن المؤمل أنه سمع أبا الزبير يقول سمعت جابر ابن عبد الله يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ماء زمزم لما شرب له هذا لفظه عند ابن ماجه ولفظه عند أحمد ماء زمزم لما شرب منه وقال الحافظ المنذري وهذا إسناد حسن وإنما حسنه مع أنه ذكر له علتان ضعف ابن المؤمل وكون الراوي عنه في مسند ابن ماجه الوليد بن مسلم وهو يدلس وقد عنعنه لأن ابن المؤمل مختلف فيه واختلف فيه قول ابن معين قال مرة ضعيف وقال مرة لا بأس به وقال مرة صالح
ومن ضعفه فإنما ضعفه من جهة حفظه كقول أبي زرعة والدارقطني وأبي حاتم فيه ليس بقوي وقال ابن عبد البر سيء الحفظ ما علمنا فيه ما يسقط عدالته فهو حينئذ ممن يعتبر بحديثه وإذا جاء حديثه من غير طريقه صار حسنا ولا شك في مجئ الحديث المذكور كذلك
وأما العلة الثانية فمنتفية فإن الحديث معروف عن عبد الله بن المؤمل من غير رواية الوليد فإنه في رواية الإمام أحمد هكذا حدثنا عبد الله بن الوليد حدثنا عبد الله بن المؤمل عن أبي الزبير الخ فقد ثبت حسنه من هذا الطريق فإذا انضم إليه ما قدمناه حكم بصحته
وفي فوائد أبي بكر بن المقرئ من طريق سويد بن سعيد المذكور قال رأيت ابن المبارك دخل زمزم فقال اللهم إن ابن المؤمل حدثني عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ماء زمزم لما شرب له اللهم فإني أشربه لعطش يوم القيامة
وما عن سويد عن ابن المبارك في هذه القصة أنه قال اللهم إن ابن المؤمل حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر محكوم بانقلابه على سويد في هذه المرة بل المعروف في السند الأول
وهذه زيادات عن السائب أنه كان يقول اشربوا من سقاية العباس رضي الله عنه فإنه من السنة
رواه الطبراني وفيه رجل مجهول
وعن جماعة من العلماء أنهم شربوه لمقاصد فحصلت فمنهم صاحب ابن عيينة المتقدم
وعن الشافعي أنه شربه للرمي فكان يصيب في كل عشرة تسعة وشربه الحاكم لحسن التصنيف ولغير ذلك فكان أحسن أهل عصره تصنيفا
قال شيخنا قاضي القضاة شهاب الدين العسقلاني الشافعي
ولا يحصى كم شربه من الأئمة لأمور نالوها قال وأنا شربته في بداية طلب الحديث أن يرزقني الله حالة الذهبي في حفظ الحديث ثم حججت بعد مدة تقرب من عشرين سنة وأنا أجد من نفسي المزيد على تلك الرتبة فسألت رتبة أعلى منها وأرجو الله أن أنال ذلك منه اه
وجميع ما تضمنه هذا الفصل غالبه من كلامه وقليل منه من كلام الحافظ عبد العظيم المنذري والعبد الضعيف يرجو الله سبحانه شربه للاستقامة والوفاة على حقيقة الإسلام معها قوله هكذا روى روى أبو داود عن عمرو ابن شعيب قال طفت مع عبد الله فلما جئنا دبر الكعبة قلت ألا تتعوذ قال أتعوذ بالله من النار ثم مضى حتى استلم الحجر وقام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا وبسطهما بسطا ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله
ورواه ابن ماجه وقال فيه عن أبيه عن جده قال
____________________
(2/507)
المنذري فيكون شعيب ومحمد قد طافا مع عبد الله اه
وهو مضعف بالمثنى بن الصباح والمراد بعبد الله عبد الله بن عمرو بن العاص جد عمرو بن شعيب الأعلى صرح بتسميته عبد الرزاق في روايته بسند أجود منه
وأما تعيين محل الملتزم فأسند البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما عنه صلى الله عليه وسلم قال ما بين الركن والباب ملتزم وأخرجه ابن عدي في الكامل عن عباد بن كثير عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا ووقفه عبد الرزاق قال حدثنا ابن عيينة عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد قال قال ابن عباس هذا الملتزم ما بين الركن والباب وكذا هو في الموطإ بلاغا ولمثله حكم المرفوع لعدم استقلال العقل به هذا والملتزم من الأماكن التي يستجاب فيها الدعاء نقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فوالله ما دعوت قط إلا أجابني
وفي رسالة الحسن البصري أن الدعاء مستجاب هناك في خمسة عشر موضعا في الطواف وعند الملتزم وتحت الميزاب وفي البيت وعند زمزم وخلف المقام وعلى الصفا وعلى المروة وفي السعي وفي عرفات وفي مزدلفة وفي منى وعند الجمرات
وذكر غيره أنه يستجاب عند رؤية البيت وفي الحطيم لكن الثاني هو تحت الميزاب ويستحب أن يدخل البيت وقد قدمنا آدابه في الفروع التي تتعلق في الطواف فارجع إليها فصل
حاصله مسائل شيء من أفعال الحج هي عوارض خارجة عن أصل الترتيب وهي تتلو الصورة السليمة وهي ما أفاده من ابتداء الحج بقوله فإن كان مفردا نوى بتلبيته الحج إلى أن قال فهذا بيان تمام الحج قوله لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعد الزوال تقدم في حديث جابر الطويل وقال من أدرك عرفة الخ رواه الدارقطني عنه صلى الله عليه وسلم من وقف بعرفة بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج فليحل بعمرة وعليه الحج من قابل وفي سنده رحمة بن مصعب قال الدارقطني ولم يأت به غيره
____________________
(2/508)
وفي ذكر الجملتين معا أحاديث أخر لم تسلم وأخرجه الأربعة مقتصرا على الجملة الأولى عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة فسألوه فأمر مناديا ينادي الحج عرفة فمن جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج
الحديث وما أظن أن في معنى الجملة الثانية خلافا بين الأئمة فيحتاج إلى إثباته
ورواه الحاكم وصححه وعبد الرحمن هذا ذكره البغوي في الصحابة وروى له الترمذي والنسائي حديثا آخر في النهي عن المزفت وبه بطل قول ابن عبد البر لم يرو عنه غير هذا الحديث قوله فهو محجوج عليه بما روينا حجة مالك الحديث الذي سنذكره من قوله عليه الصلاة والسلام الحج عرفة فمن وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وتقدم من حديث عروة بن مضرس وليس فيه لفظ الحج عرفة وهو في حديث الديلي فمجموع هذا اللفظ يتحصل من مجموع الحديثين
وحاصل حجة المصنف أن فعله عليه الصلاة والسلام كان من الزوال وهو وقع بيانا لوقت الوقوف الذي دلت الإشارة على افتراضه في قوله تعالى { فإذا أفضتم من عرفات } وعليه أن يقال إنما يلزم لو لم يثبت غير ذلك الفعل فأما إذا ثبت قول أيضا فيه يصرح بأن وقته لا يقتصر على ذلك القدر عرف به أن فعله كان بيانا لسنة الوقوف والأولى فيه ويثبت بالقول بيان أصل الوقت المباح وغيره فقول ابن عمر رضي الله عنهما للحجاج حين زالت الشمس الساعة إن أردت السنة مراد به السنة الاصطلاحية في عرف الفقهاء ألا ترى أنه لا يتعين الذهاب إلى الموقف من ذلك الوقت بل لو أخره جاز قوله وقال مالك رحمه الله لا يجزيه إن وقف من النهار إلا أن يقف في اليوم وجزء من الليل التحرير في العبارة أن يقال قال مالك لا يجزيه إن وقف من النهار إلا أن يقف معه جزءا من الليل وهذا لأنه إذا لم
____________________
(2/509)
يقف إلا من الليل أجزأه عنده
والحاصل أنه يلزم الجمع بين جزء من الليل مع جزء من النهار لمن وقف بالنهار وهو بأن يفيض بعد الغروب وملجؤه فعله صلى الله عليه وسلم
ووجه الاستدلال به مثل ما قلنا معه في أن أول الوقت من الزوال
ويرد عليه هنا مثل ما أوردناه علينا من جهته هناك وهو أنه قد ثبت قول يفيد عدم تعين ذلك وبه يقع البيان كالفعل فتحمل الإفاضة بعد الغروب على أنه السنة الواجبة وقبله على أنه الركن بالقول المذكور مع ترك الواجب قوله لأن ما هو الركن قد وجد وهو الوقوف والمشي وإن أسرع لا يخلو عن قليل وقوف على ما قرر في فنه والوقوف بمزدلفة على هذا يجزيه الكون بها ولو نائما أو مارا لا يعلم أنها مزدلفة قوله وهي ليست بشرط لكل ركن إلا أن يكون ذلك الركن مما يستقل عبادة مع عدم إحرام تلك العبادة فيحتاج فيه إلى أصل النية وعن هذا وقع الفرق بين الوقوف والطواف فإنه لو طاف هاربا أو طالبا لهارب أو لا يعلم أنه البيت الذي يجب الطواف به لا يجزيه لعدم النية
ولو نوى أصل الطواف جاز
ولو عين جهة غير الفرض مع أصل النية لغت حتى لو طاف يوم النحر عن نذر وقع عن طواف الزيارة ولم يجزه عن النذر ولأن الوقوف يؤدي في إحرام مطلق فأغنت النية عند العقد عن الأداء عنها فيه بخلاف الطواف يؤدي بعد التحلل من الإحرام بالحلق فلا يغني وجودها عند الإحرام عنها فيه وهذا الفرق لا يتأتي إلا في طواف الزيارة لا العمرة والأول يعمهما قوله ومن أغمى عليه فأهل عنه رفقاؤه جاز الرفيق قيد عند بعضهم وليس بقيد عند آخرين حتى لو أهل غير رفقاؤه عنه جاز وهو الأولى لأن هذا من باب الإعانة لا الولاية ودلالة الإعانة قائمة عند كل من علم
____________________
(2/510)
قصده رفيقا كان أولا
وأصله أن الإحرام شرط عندنا اتفاقا كالوضوء وستر العورة وإن كان له شبه الركن فجازت النيابة فيه بعد وجود نية العبادة منه عند خروجه من بلده وإنما اختلفوا في هذه المسألة بناء على أن المرافقة هل تكون أمرا به دلالة عند العجز عنه أولا فقالا لا لأن المرافقة إنما تراد لأمور السفر لا غير فلا تتعدى إلى الإحرام بل الظاهر منع غيره عنه ليتولاه بنفسه فيحرز ثواب ذلك ولأن دلالة الإنابة فيه إنما تثبت إذا كان
____________________
(2/511)
معلوما عند الناس
وصحة الإذن بالإحرام عن غيره لا يعرفه كثير من المتفقهة فكيف بالعامي وهذا الوجه يعم منع الرفيق وغيره نصا والأول دلالة
وله أن عقد الرفقة استعانة كل منهم بكل منهم فيما يعجز عنه في سفره وليس المقصود بهذا السفر إلا الإحرام وهو أهمها إن كان مثلا يقصد التجارة مع الحج فكان عقد السفر استعانة فيه إذا عجز عنه كما هو في حفظ الأمتعة والدواب أو أقوى فكانت دلالة الإذن ثابتة والعلم بجوازه ثابت نظرا إلى الدليل الذي دل على جواز الاستنابة في الإحرام وهو كونه شرطا والشرط تجري فيه النيابة كمن أجرى الماء على أعضاء محدث فإنه يصير بذلك متوضئا أو غطى عورة عريان فإنه يصير بذلك محصلا للشرط وذلك أن الدليل الشرعي منصوب فيقام وجوده مقام العلم به في حق كل من كلف بطلب العلم ولذا لا يعذر بالجهل في دار الإسلام بخلاف من أسلم في دار الحرب فجهل وجوب الصلاة مثلا لا قضاء عليه
فإن قيل ينبغي أن يجردوه ويلبسوه الإزار والرداء لأن النيابة ظهر أن معناها إيجاد الشرط في المنوب عنه كالتوضئة لكن الواقع أن ليس معنى الإحرام عنه ذلك بل أن يحرموا هم بطريق النيابة فيصير هو محرما بذلك الإحرام من غير أن يجردوه حتى إذا أفاق وجب عليه الأفعال والكف عن المحظورات من غير أن يحرم بنفسه
فالجواب التجريد وإلباس غير المخيط ليس وزان التوضئة التي هي الشرط إذ ليس ذلك الإحرام بل كف عن بعض المحظورات أعنى لبس المخيط وإنما الإحرام وصف شرعي هو صيرورته محرما عليه أشياء موجبا عليه المضي في أفعال مخصوصة
وآلة ثبوت هذا المعنى الشرعي المسمى بالإحرام نية التزام نسك مع التلبية أو ما يقوم مقامها
ونيابتهم إنما هي بذلك المعنى في الشرط فوجب كون الذي هو إليهم أن ينووا ويلبوا عنه فيصير هو بذلك محرما كما لو نوى هو ولبى وينتقل إحرامهم إليه حتى كان للرفيق أن يحرم عن نفسه مع ذلك
وإذا باشر محظور الإحرام لزمه جزاء واحد بخلاف القارن لأنه في إحرامين وهذا في إحرام واحد لانتقال ذلك الإحرام إلى المنوب عنه شرعا
واعلم أنهم اختلفوا فيما لو استمر مغمى عليه إلى وقت أداء الأفعال هل يجب أن يشهدوا به المشاهد فيطاف به ويسعى ويوقف أولا بل مباشرة الرفقة لذلك عنه تجزيه فاختار طائفة الأول وعليه يمشي التقرير المذكور واختار آخرون الثاني وجعله في المبسوط الأصح وإنما ذلك أولى لامتعين
وعلى هذا يجب كون الدليل الذي دل على جواز الاستنابة في الإحرام الذي أقيم وجوده مقام العلم به هو كون هذه العبادة أعنى الحج عن نفسه مما نجري فيه النيابة عند العجز كما في استنابة الذي زمن بعد القدرة وأدركه الموت فأوصى به غير أنه إن أفاق قبل الأفعال تبين أن عجزه كان في الإحرام فقط فصحت نيابتهم على الوجه الذي قلنا فيه ثم يجري هو بنفسه على موجبه فإن لم يفق تحقق عجزه عن الكل فأجروا هم على موجبه غير أنه لا يلزم الرفيق بفعل المحظورات شيء عن هذا الإحرام بخلاف النائب في الحج عن الميت ولأنه يتوقع إفاقة هذا في كل ساعة وحينئذ يجب الأداء بنفسه لعدم العجز فنقلنا الإحرام إليه لأنا لو لم ننقل الإحرام إليه مع هذا الاحتمال لفاته الحج إذا أفاق في بعض الصور وهو أن يفيق
____________________
(2/512)
بعد يوم عرفة لعدم العجز عن باقي الأفعال مع العجز عن تجديد الإحرام للأداء في هذه السنة
وما جعل عقد الرفقة أو العلم بحاله دليل الإذن إلا كي لا يفوت مقصوده من هذا السفر بخلاف الميت انتفى فيه ذلك فانتفى موجب النقل عن المباشر للإحرام
وذكر فخر الإسلام إذا أغمى عليه بعد الإحرام فطيف به المناسك فإنه يجزيه عند اصحابنا جميعا لأنه هو الفاعل وقد سبقت النية منه فهو كمن نوى الصلاة في ابتدائها ثم أدى الأفعال ساهيا لا يدري ما يفعل أجزأه لسبق النية اه
ويشكل عليه اشتراط النية لبعض أركان هذه العبادة وهو الطواف بخلاف سائر أركان الصلاة ولم توجد منه هذه النية
والأولى في التعليل أن جواز الاستنابة فيما يعجز عنه ثابت بما قلنا
فتجوز النيابة في هذه الأفعال
ويشترط نيتهم الطواف إذا حملوه فيه كما تشترط نيته إلا أن هذا يقتضى عدم تعين حمله والشهود ولا أعلم تجويز ذلك عنهم
في المنتقى
روى عيسى بن أبان عن محمد رحمه الله رجل أحرم وهو صحيح ثم أصابه عته فقضى به أصحابه المناسك ووقفوا به فلبث بذلك سنين ثم أفاق أجزأه ذلك عن حجة الإسلام
قال وكذلك الرجل إذا قدم مكة وهو صحيح أو مريض إلا أنه يعقل فأغمى عليه بعد ذلك فحمله أصحابه وهو مغمى عليه فطافوا به فلما قضى الطواف أو بعضه أفاق وقد أغمى عليه ساعة من نهار ولم يتم يوما أجزأه عن طوافه
وفيه أيضا لو أن رجلا مريضا لا يستطيع الطواف إلا محمولا وهو يعقل نام من غير عته فحمله أصحابه وهو نائم فطافوا به أو أمرهم أن يحملوه ويطوفوا به فلم يفعلوا حتى نام ثم احتملوه وهو نائم فطافوا به أو حملوه حين أمرهم بحمله وهو مستيقظ فلم يدخلوا به الطواف حتى نام فطافوا به على تلك الحالة ثم استيقظ
روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله أنهم إذا طافوا به من غير أن يأمرهم لا يجزيه ولو أمرهم ثم نام فحملوه بعد ذلك وطافوا به أجزأه وكذلك إن دخلوا به الطواف أو توجهوا به نحوه فنام وطافوا به أجزأه
ولو قال لبعض من عنده استأجر لي من يطوف بي ويحملني ثم غلبته عيناه ونام ولم يمض الذي أمره بذلك من فوره بل تشاغل بغيره طويلا ثم استأجر قوما يحملونه وأتوه وهو نائم فطافوا به قال أستحسن إذا كان على فوره ذلك أنه يجوز
فأما إذا طال ذلك ونام فأتوه وحملوه وأتوه وهو نائم لا يجزيه عن الطواف ولكن الإحرام لازم بالأمر
قال والقياس في هذه الجملة أن لا يجزيه حتى يدخل الطواف وهو مستيقظ ينوي الدخول فيه لكنا استحسنا إذا حضر ذلك فنام وقد أمر أن يحمل فطاف به أنه يجزيه
وحاصل هذه الفروع الفرق بين النائم والمغمى عليه في اشتراط صريح الإذن وعدمه ثم في النائم قياس واستحسان
استأجر رجالا فحملوا امرأة فطافوا بها ونووا الطواف أجزأهم ولهم الأجرة وأجزأ المرأة
وإن نوى الحاملون طلب غريم لهم والمحمول يعقل وقد نوى الطواف أجزأ المحمول دون الحاملين وإن كان مغمى عليه لم يجزه لانتفاء النية منه ومنهم
أما جواز الطواف فلأن المرأة حين أحرمت نوت الطواف ضمنا وإنما تراعي النية وقت الإحرام لأنه وقت العقد على الأداء
وأما استحقاق الأجر فلأن الإجارة وقعت على عمل معلوم وليس بعبادة وضعا وإذا حملوها وطافوا ولا ينوون الطواف بل طلب غريم لا يجزيها إذا كانت مغمى عليها لأنهم ما أتوا بالطواف وإنما أتوا بطلب الغريم والمنتقل إليها إنما هو فعلهم فلا
____________________
(2/513)
يجزيها إلا إذا كانت مفيقة ونوت الطواف قوله لقوله عليه الصلاة والسلام إحرام المرأة في وجهها تقدم في باب الإحرام ولا شك في ثبوته موقوفا وحديث عائشة رضي الله عنها أخرجه أبو داود وابن ماجه قالت كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه قالوا والمستحب أن تسدل على وجهها شيئا وتجافيه وقد جعلوا لذلك أعوادا كالقبة توضع على الوجه ويسدل فوقها الثوب ودلت المسألة على أن المرأة منهية عن إبداء وجهها للأجانب بلا ضرورة وكذا دل الحديث عليه قوله وتلبس من المخيط ما بدا لها كالدرع والقميص والخفين والقفازين لكن لا تلبس المورس والمزعفر والمعصفر قوله أو جزاء صيد إما بأن يكون عليه جزاء صيد في حجة سابقة فقلده في السنة الثانية أو جزاء صيد الحرم اشترى بقيمته هديا قوله وتوجه معها يريد الحج أفاد أنه لا بد من ثلاثة التقليد والتوجه معها ونية النسك
وما شرح الطحاوي لو قلد بدنة بغير نية الإحرام لا يصير محرما ولو ساقها هديا قاصدا إلى مكة صار محرما بالسوق نوى الإحرام أو لم ينو مخالف لما في عامة الكتب فلا يعول عليه
وما في الإيضاح من قوله السنة أن يقدم التلبية على التقليد لأنه إذا قلدها فربما تسير فيصير شارعا في الإحرام والسنة أن يكون الشروع بالتلبية يجب حمله على ما إذا كان المقلد ناويا قوله لقوله عليه الصلاة والسلام من قلد بدنة الخ غريب مرفوعا ووقفه ابن أبي شيبة في مصنفه على ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم قال حدثنا ابن نمير حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال من قلد فقد أحرم
حدثنا وكيع
____________________
(2/514)
عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس قال من قلد أو جلل أو أشعر فقد أحرم
ثم أخرج عن سعيد بن جبير أنه رأى رجلا قلد فقال أما هذا فقد أحرم
وورد معناه مرفوعا أخرجه عبد الرزاق ومن طريقه البزار في مسنده عن عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة أنه سمع ابني جابر يحدثان عن أبيهما جابر بن عبد الله قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابة رضي الله عنهم إذا شق قميصه حتى خرج منه فسئل فقال واعدتهم يقلدون هديي اليوم فنسيت وذكره ابن القطان في كتابه من جهة البزار قال ولجابر بن عبد الله ثلاثة أولاد عبد الرحمن ومحمد وعقيل والله أعلم من هما من الثلاثة
وأخرجه الطحاوي أيضا عن عبد الرحمن بن عطاء وضعف ابن عبد الحق وابن عبد البر عبد الرحمن بن عطاء ووافقهما ابن القطان
وروى الطبراني حدثنا محمد بن علي الصائغ المكي حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد حدثني أبي عن يونس عن ابن شهاب أخبرني ثعلبة بن أبي مالك القرظي أن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه كان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الحج فرجل أحد شقي رأسه فقام غلامه فقلد هديه فنظر إليه قيس فأهل وحل شق رأسه الذي رجله ولم يرجل الشق الآخر
وأخرجه البخاري في صحيحه مختصرا عن ابن شهاب بأن قيس بن سعد الأنصاري وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الحج فرجل اه قوله أو لحاء شجرة هو بالمد قشرها والمعني بالتقليد إفادة أنه عن قريب يصير جلدا كهذا اللحاء والنعل في اليبوسة لإراقة دمه وكان في الأصل يفعل ذلك كي لا تهاج عن الورود والكلأ ولترد إذا ضلت للعلم بأنها هدى قوله لما روى عن عائشة رضي الله عنها أخرج الستة عنها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدى فأنا فتلت قلائدها بيدي من عهن كان عندنا ثم أصبح فينا حلالا يأتي ما يأتي الرجل من أهله وفي لفظ لقد رأيتني أفتل القلائد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعث به ثم يقيم فينا حلالا وأخرجا واللفظ للبخاري عن مسروق أنه أتى عائشة رضي الله عنها فقال لها يا أم المؤمنين إن رجلا يبعث بالهدى إلى الكعبة ويجلس في المصر فيوصى أن تقلد بدنته فلا يزال من ذلك اليوم محرما حتى يحل الناس قال فسمعت تصفيقها من وراء الحجاب فقالت لقد كنت أفتل قلائد هدى رسول الله
____________________
(2/515)
صلى الله عليه وسلم فيبعث هديه إلى الكعبة فما يحرم عليه ما أحل للرجل من أهله حتى يرجع الناس اه
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج فقالت عائشة رضي الله عنها ليس كما قال أنا فتلت قلائد هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم قلدها ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم عليه صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدى وهذان الحديثان يخالفان حديث عبد الرحمن بن عطاء صريحا فيجب الحكم بغلطه
والحاصل أنه قد ثبت أن التقليد مع عدم التوجه معها لا يوجب الإحرام
وأما ما تقدم من الآثار مطلقة في إثبات الإحرام فقيدناها به حملا لها على ما إذا كان متوجها جمعا بين الأدلة وشرطنا النية مع ذلك لأنه لا عبادة إلا بالنية بالنص فكل شيء روى من التقليد مع عدم الإحرام فما كان محله إلا في حال عدم التوجه والنية فلا يعارض المذكور شيء منها
وما في فتاوي قاضيخان لو لبى ولم ينو لا يصير محرما في الرواية الظاهرة مشعر بأن هناك رواية بعدم اشتراطها مع التلبية وما أظنه إلا نظر إلى بعض الإطلاقات ويجب في مثلها الحمل على إرادة الصحيح وأن لا تجعل رواية قوله فإذا أدركها وساقها أو أدركها ردو بين السوق وعدمه لاختلاف الرواية فيه
شرط في المبسوط السوق مع اللحوق ولم يشترطه في الجامع الصغير
وقال في الأصل ويسوقه ويتوجه معه وهو أمر اتفاتي فلو أدرك فلم يسق وساق غيره فهو كسوقه لأن فعل الوكيل بحضرة الموكل كفعل الموكل قوله إلا في هدى المتعة استثناء من قوله لم يصر محرما حتى يلحقها
____________________
(2/516)
يعني حين خرج على إثرها وإن لم يدركها استحسانا
وهنا قيد لا بد منه وهو أنه إنما يصير محرما في هدى المتعة بالتقليد والتوجه إذا حصلا في أشهر الحج فإن حصلا في غيرها لا يصير محرما ما لم يدركها ويسر معها كذا في الرقيات وذلك لأن تقليد هدى المتعة قبل أشهر الحج لا عبرة به لأنه من أفعال المتعة وأفعال المتعة قبل أشهر الحج لا يعتد بها فيكون تطوعا
وفي هدى التطوع ما لم يدركه ويسر معه لا يصير محرما
وذكر أبو اليسر دم القران يجب أن يكون كالمتعة وجه القياس ظاهر
وحاصل وجه الاستحسان زيادة خصوصية هدى المتعة بالحج فالتوجه إليه توجه إلى ما فيه زيادة خصوصية بالحج حتى شرط لذبحه الحرم ويبقى بسبب سوقه الإحرام فلما ظهر أثره في الإحرام بقاء أظهرنا له في ابتدائه نوع اختصاص وهو أن بالتوجه إليه مع قصد الإحرام يصير محرما بخلاف غيره لأنه قد يجب بالجناية وإن لم يصل إلى مكة ويذبح قبل مكة ولم يظهر له أثر شرعا في الإحرام أصلا قوله وقال الشافعي الخ هذا خلاف في مفهوم لفظ البدنة إما في أنه هل هو في اللغة كذلك أو لا فقلنا نعم ونقلنا كلام أهل اللغة فيه
قال الخليل البدنة ناقة أو بقرة تهدى إلى مكة
قال النووي هو قول أكثر أهل اللغة
وقال الجوهري البدنة اقة أو بقرة وإما في أنه في اللغة كذلك اتفاقا ولكنه هل هو في الشرع على المفهوم منه لغة لم ينقل عنه أولا فقلنا نعم وقال الشافعي لا فإذا طلب من المكلف بدنة خرج عن العهدة بالبقرة كما يخرج بالجزور
وعنده لا يخرج إلا بالجزور
له قوله عليه الصلاة والسلام من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأما قرب بقرة الحديث متفق عليه
فقول المصنف والصحيح من الرواية في الحديث كالمهدي جزورا غير صحيح بل هي أصح لأنه متفق عليها ورواية الجزور في مسلم فقط ولفظه أن عليه الصلاة والسلام قال على كل باب من أبواب المسجد ملك يكتب الأول فالأول مثل الجزور ثم صغر إلى مثل بيضة الحديث
بل الجواب أن التخصيص باسم خاص لا ينفي الدخول باسم عام وغاية ما يلزم من الحديث أنه أراد بالاسم الأعم في الأول وهو البدنة خصوص بعض ما يصلح له وهو الجزور لا كل ما يصدق عليه بقرينة إعطاء البقرة لمن راح في الساعة الثانية في مقام إظهار التفاوت في الأجر للتفاوت في المسارعة
وهذا لا يستلزم أنه في الشرع خصوص الجزور إلا ظاهرا بناء على عدم إرادة الأخص بخصوصه بالأعم لكن يلزمه النقل والحكم باستعمال لفظ في خصوص بعض ما صدقاته مع الحكم ببقاء ما استقر
____________________
(2/517)
له على حاله أسهل من الحكم بنقله عنه بسبب استعمال من الاستعمالات من غير كثرة فيه عند تعارض الحكمين ولزوم أحدهما مع أنه قد ثبت من لسان أهل العرف الذي يدعى نقله إليه خلافه في حديث جابر كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل والبقرة فقال وهل هي إلا من البدن ذكره مسلم في صحيحه
فرع اشترك جماعة في بدنة فقلدها أحدهم صاروا محرمين إن كان يأمر البقية وساروا معها
ويستحب التجليل والتصدق بالجل لأنه أعمل في الكرامة وهداياه عليه الصلاة والسلام كانت مجللة مقلدة
وقال لعلي رضي الله عنه تصدق بجلالها وخطامها والتقليد أحب من التجليل لأن له ذكرا في القرآن إلا في الشاة فإنه ليس بسنة على ما ذكره المصنف رحمه الله & باب القران
المحرم إن أفرد الإحرام بالحج فمفرد بالحج وإن أفرد بالعمرة فإما في أشهر الحج أو قبلها إلا أنه أوقع أكثر أشواط طوافها فيها أولا
الثاني مفرد بالعمرة والأول أيضا كذلك إن لم يحج من عامة أو حج وألم بأهله بينهما إلماما صحيحا وإن حج ولم يلم بأهله بينهما إلماما صحيحا فتمتع وسيأتي معنى الإلمام الصحيح إن شاء الله تعالى
وإن لم يفرد الإحرام لواحد منهما بل أحرم بهما معا أو أدخل إحرام الحج على إحرام العمرة قبل أن يطوف للعمرة أربعة أشواط فقارن بلا إساءة وإن أدخل إحرام العمرة على إحرام الحج قبل أن يطوف للقدوم ولو شوطا فقارن مسيء لأن القارن من يبني الحج على العمرة في الأفعال فينبغي أن يبنيه أيضا في الإحرام أو يوجدهما معا فإذا خالف أساء وصح لتمكنه من أن يبني الأفعال إذا لم يطف شوطا فإن لم يحرم بالعمرة حتى طاف شوطا رفض العمرة وعليه قضاؤها ودم للرفض لأنه عجز عن الترتيب وهذا بناء على ما تقدم من أنه لا طواف قدوم للعمرة
هذا كلامهم في القارن ومقتضاه أن لا يعتبر في القران إيقاع العمرة في أشهر الحج
ويشكل عليه ما عن محمد لو طاف في رمضان لعمرته فهو قارن ولكن لا دم عليه إن لم يطف لعمرته في أشهر الحج وسيأتيك تحقيق المقام إن شاء الله تعالى في باب التمتمع قوله القران أفضل الخ المراد بالإفراد في الخلافية أن يأتي بكل منهما مفردا خلافا
____________________
(2/518)
لما روى عن محمد من قوله حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل عندي من القران أما مع الاقتصار على إحداهما فلا إشكال أن القران أفضل بلا خلاف
وحقيقة الخلاف ترجع إلى الخلاف في أنه عليه الصلاة والسلام كان في حجته قارنا أو مفردا أو متمتعا فالذي يهمنا النظر في ذلك ولنقدم عليه استلالال المصنف لنوفي بتقرير الكتاب ثم نرجع إلى تحرير النظر في ذلك
استدل للخصوم بقوله عليه الصلاة والسلام القران رخصة ولا يعرف هذا الحديث
وللمذهب بقوله صلى الله عليه وسلم يا أهل محمد أهلوا بحجة وعمرة معا رواه الطحاوي بسنده وسنذكره عند تحقيق الحق إن شاء الله
ونقول اختلف الأمة في إحرامه عليه الصلاة والسلام
فذهب قائلون إلى أنه أحرم مفردا ولم يعتمر في سفرته تلك وآخرون إلى أنه أفرد واعتمر فيها من التنعيم وآخرون إلى أنه تمتع ولم يحل لأنه ساق الهدى وآخرون إلى أنه تمتع وحل وآخرون إلى أنه قرن فطاف طوافا واحدا وسعى سعيا واحدا لحجته وعمرته وآخرون إلى أنه قرن فطاف طوافين وسعى سعيين لهما وهذا مذهب علمائنا
وجه الأول ما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحجة وأهل رسول الله بحجة فهذا التقسيم يفيد أن من أهل بالحج لم يضم إليه غيره
ولمسلم عنها أنه عليه الصلاة والسلام أهل بالحج مفردا
وللبخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم أهل بالحج وحده وفي سنن ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج وللبخاري عن عروة بن الزبير قال حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة أنه أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم عمر مثل ذلك ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك ثم لم تكن عمرة ثم آخر من رأيت يفعل ذلك ابن عمر
____________________
(2/519)
ثم لم ينقضها بعمرة ولا أحد ممن مضى وما كانوا يبدءون بشيء حين يضعون أقدامهم أول من الطواف ثم لا يحلون وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبدءان بشيء أول من البيت تطوفان به ثم لا تحلان
فهذه كلها تدل على أنه أفرد ولم ينقل أحد مع كثرة ما نقل أنه اعتمر بعده فلا يجوز الحكم بأنه فعله ومن ادعاه فإنما اعتمد على ما رأى من فعل الناس في هذا الزمان من اعتمارهم بعد الحج من التنعيم فلا يلتفت إليه ولا يعول عليه وقد تم بهذا مذهب الإفراد
وجه القائلين أنه كان متمتعا ما في الصحيحين عن ابن عمر تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى فساق معه الهدى من ذي الحليفة فلما قدم مكة قال للناس من كان منكم أهدى فلا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليحلل ثم يهل بالحج وليهد ولم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه وعن عائشة تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه بمثل حديث ابن عمر متفق عليه وعن عمران بن حصين تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه رواه مسلم والبخاري بمعناه
وفي رواية لمسلم والنسائي أن أبا موسى كان يفتي بالمتعة فقال له عمر قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله وأصحابه ولكني كرهت ان يظلوا معرسين بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم فهذا اتفاق منهما على أنه عليه الصلاة والسلام كان متمتعا وقد علمت من هذا أن الذين رووا عنه الإفراد عائشة وابن عمر رووا عنه أنه كان متمتعا
وأما رواية عروة بن الزبير فقوله في الكل ثم لم تكن عمرة يعني ثم لم يكن إحرام الحج يفعل به عمرة بفسخه فإنما هو دليل ترك الناس فسخ الحج إلى العمرة لما علموا من دليل منعه مما أسلفناه في كتاب الحج والدليل عليه قوله ثم لم ينقضها بعمرة الخ ثم صرح في حديث ابن عمر السابق بأنه لم يحل حتى قضى حجه فثبت المطلوب
وأما ما استدل به القائلون بأنه أحل من حديث معاوية قصرت عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص قالوا ومعاوية أسلم بعد الفتح والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن محرما في الفتح فلزم كونه في حجة الوداع وكونه عن إحرام العمرة لما زاده أبو داود في روايته من قوله عند المروة والتقصير في الحج إنما يكون في منى
فدفعه بأن الأحاديث الدالة على عدم إحلاله جاءت مجيئا متظافرا يقرب القدر المشترك من الشهرة التي هي قريبة من التواتر كحديث ابن عمر السابق وما تقدم في الفسخ من الأحاديث وحديث جابر الطويل الثابت في مسلم وغيره وكثير وسيأتي شيء منها في أدلة القران
ولو انفرد حديث ابن عمر كان مقدما على حديث معاوية فكيف والحال ما أعلمناك فلزم في حديث معاوية الشذوذ عن الجم الغفير فإما هو خطأ أو محمول على عمرة الجعرانة فإنه كان قد أسلم إذ ذاك وهي عمرة خفيت على بعض الناس لأنها كانت ليلا على ما في الترمذي والنسائي أنه عليه الصلاة والسلام خرج من الجعرانة ليلا معتمرا فدخل مكة ليلا فقضى عمرته ثم خرج من ليلته الحديث
قال فمن أجل ذلك خفيت على الناس وعلى هذا فيجب الحكم على لزيادة التي في سنن النسائي وهي قوله في أيام العشر بالخطأ ولو كانت بسند صحيح إما لنسيان من معاوية أو من بعض الرواة عنه ونحن نقول وبالله التوفيق لا شك أن تترجح رواية تمتعه لتعارض الرواية عمن روى عنه الإفراد وسلامة رواية غيره ممن روى التمتع دون الإفراد ولكن التمتع بلغة القرآن الكريم وعرف الصحابة
____________________
(2/520)
أعم من القرآن كما ذكره غير واحد وإذا كان أعم منه احتمل أن يراد به الفرد المسمى بالقرآن في الاصطلاح الحادث وهو مدعانا وأن يراد به الفرد المخصوص باسم التمتع في ذلك الاصطلاح فعلينا أن ننظر أولا في أنه أعم في عرف الصحابة أولا وثانيا في ترجيح أي الفردين بالدليل والأول يبين في ضمن الترجيح وثم دلالات أخر على الترجيح مجردة عن بيان عمومه عرفا
أما الأول فما في الصحيحين عن سعيد بن المسيب قال اجتمع علي وعثمان بعسفان فكان عثمان ينهي عن المتعة فقال علي ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه فقال عثمان دعنا منك فقال علي إني لا أستطيع أن أدعك فلما رأى على ذلك أهل بهما جميعا
هذا لفظ مسلم
ولفظ البخاري اختلف علي وعثمان بعسفان في المتعة فقال علي ما تريد إلا أن تنهي عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا فهذا يبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مهلا بهما وسيأتيك عن علي التصريح به ويفيد أيضا أن الجمع بينهما تمتع فإن عثمان كان ينهي عن المتعة وقصد علي إظهار مخالفته تقريرا لما فعله عليه الصلاة والسلام وأنه لم ينسخ فقرن وإنما تكون مخالفة إذا كانت المتعة التي نهى عنها عثمان هي القران فدل على الأمرين اللذين عيناهما وتضمن اتفاق علي وعثمان على أن القرآن من مسمى التمتع وحينئذ يجب حمل قول ابن عمر تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم على التمتع الذي نسميه قرانا لو لم يكن عنه ما يخالف ذلك اللفظ فكيف وقد وجد عنه ما يفيد ما قلناه وهو ما في صحيح مسلم عن ابن عمر أنه قرن الحج مع العمرة وطاف لهما طوافا واحدا ثم قال هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فظهر أن مراده بلفظ المتعة في ذلك الحديث الفرد المسمى بالقران وكذا يلزم مثل هذا في قول عمران بن حصين تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه لو لم يوجد عنه غير ذلك فكيف وقد وجد وهو ما في صحيح مسلم عن عمران بن حصين قال لمطرف أحدثك حديثا عسى الله أن ينفعك به إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل قرأن يحرمه وكذا يجب مثل ما قلنا في حديث عائشة تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر ما تقدم لو لم يوجد عنها ما يخالفه فكيف وقد وجد ما هو ظاهر فيه وهو ما في سنن أبي داود عن النفيلي حدثنا زهير بن معاوية حدثنا أبو إسحاق عن مجاهد سئل ابن عمر رضي الله عنهما كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مرتين فقالت عائشة رضي الله عنها لقد علم ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثا سوى التي قرن بحجته
وكذا ما في مسلم من أن أبا موسى كان يفتي بالمتعة يعني بقسميها
وقول ابن عمر رضي الله عنه له قد علمت أنه صلى الله عليه وسلم فعله وأصحابه أي فعلوا ما يسمى متعة فهو عليه الصلاة والسلام فعل النوع المسمى بالقران وهم فعلوا النوع المخصوص باسم المتعة في عرفنا بواسطة فسخ الحج إلى عمرة
ويدل على اعتراف عمر به عنه صلى الله عليه وسلم ما في البخاري عن عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال صل في هذا الوادي المبارك ركعتين وقل عمرة في حجة ولا بد له من امتثال ما أمر به في منامه الذي هو وحي
وما في أبي داود والنسائي عن منصور وابن ماجه عن الأعمش كلاهما عن أبي وائل عن الصبي بن معبد التغلبي
____________________
(2/521)
قال أهللت بهما معا فقال عمر هديت لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم
وروى من طرق أخرى وصححه الدارقطني قال وأصحه إسناد حديث منصور والأعمش عن أبي وائل عن الصبي عن عمر
وأما الثاني ففي الصحيحين عن بكر بن عبد الله المزني عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعا قال بكر فحدثت ابن عمر فقال لبي بالحج وحده فلقيت أنسا فحدثته بقول ابن عمر فقال أنس رضي الله عنه ما تعدونا إلا صبيانا سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لبيك حجا وعمرة وقول ابن الجوزي إن أنسا كان إذ ذاك صبيا لقصد تقديم رواية ابن عمر عليه غلط بل كان سن أنس في حجة الوداع عشرين سنة أو إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين سنة أو ثلاثا وعشرين سنة وذلك أنه اختلف في أنه توفي سنة تسعين من الهجرة أو إحدى وتسعين أو اثنتين وتسعين أو ثلاث وتسعين ذكر ذلك الذهبي في كتاب العبر وقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وسنة عشر سنين فكيف يسوغ الحكم عليه بسن الصبا إذ ذاك مع أنه إنما بين ابن عمر وأنس في السن سنة واحدة أو سنة وبعض سنة ثم إن رواية ابن عمر عنه عليه الصلاة والسلام الإفراد معارضة بروايته عنه التمتع كما أسمعناك وعلمت أن مراده بالتمتع القران كما حققته وثبت عن ابن عمر فعله ونسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرناه آنفا ولم يختلف على أنس أحد من الرواة في أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا قالوا اتفق عن أنس ستة عشر راويا أنه عليه الصلاة والسلام قرن مع زيادة ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان خادمه لا يفارقه حتى إن في بعض طرقه كنت آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى تقصع بجرتها ولعابها يسيل على يدى وهو يقول لبيك بحجه وعمرة معا وفى صحيح مسلم عن عبد العزيز وحميد ويحيى بن أبى إسحاق أنهم سمعوا أنسا يقول سمعت رسول صلى الله عليه وسلم أهل بهما لبيك عمرة وحجا وروى أبو يوسف عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أنس قال سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول لبيك بحجه وعمرة معا وروى النسائي من حديث أبي أسماء عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بالحج والعمرة حين صلى الظهر وروى البزار من حديث زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب عن أنس مثله
وذكر وكيع حدثنا مصعب بن سليم قال سمعت أنسا مثله قال وحدثنا ثابت البناني عن أنس مثله
وفى صحيح البخارى عن قتادة عن أنس اعتمر رسول صلى الله عليه وسلم أربع عمر فذكرها وقال عمرة مع حجة وذكر عبد الرزاق حدثنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة وحميد بن هلال عن أنس مثله فهؤلاء جماعة ممن ذكرنا فلم تبق شبهة من جهة النظر في تقديم القران
وفي أبي داود عن البراء بن عازب قال كنت مع علي رضي الله عنه حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن الحديث إلى أن قال فيه قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم يعنى عليا فقال لي كيف صنعت قلت أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال فإني سقت الهدى وقرنت وذكر الحديث
وروى الإمام أحمد من حديث سراقة بإسناد كله ثقات قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة قال وقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع
وروى النسائي عن مروان بن الحكم كنت جالسا عند عثمان فسمع عليا يلبي بحج وعمرة فقال ألم تكن
____________________
(2/522)
تنهى عن هذا فقال بلى ولكنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعا فلم أدع فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولك وهذا ما وعدناك من الصريح عن علي رضي الله عنه
وروى أحمد من حديث أبي طلحة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الحج والعمرة ورواه ابن ماجه بسند فيه الحجاج ابن أرطاة وفيه مقال ولا ينزل حديثه عن الحسن ما لم يخالف أو ينفرد
قال سفيان الثوري ما بقي على وجه الأرض أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه وعيب عليه التدليس وقال من سلم منه
وقال أحمد = كان من الحفاظ
وقال ابن معين ليس بالقوي وهو صدوق يدلس
وقال أبو حاتم إذا قال حدثنا فهو صالح لا يرتاب في حفظه وهذه العبارات لا توجب طرح حديثه
وروى أحمد من حديث الهرماس بن زياد الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن في حجة الوداع بين الحج والعمرة وروى البزار بإسناد صحيح إلى ابن أبى أوفى قال إنما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة لأنه علم أن لا يحج بعد عامه ذلك
وروى أحمد من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة فطاف لهما طوافا واحدا وروى أيضا من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أهلوا يا آل محمد بعمرة في حج وهو الحديث الذي ذكره المصنف في الكتاب
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن حفصة قالت قلت يا رسول الله ما بال الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك قال إني قلدت هديي الحديث وهذا يدل على أنه كان في عمرة يمتنع منها التحلل قبل تمام أعمال الحج ولا يكون ذلك على قول مالك والشافعي إلا للقارن فهذا وجه إلزامي فإن سوق الهدى عندهما لا يمنع المتمتع عن التحلل والاستقصاء واسع وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله تعالى
هذا وما يمكن الجمع به بين روايات الإفراد والتمتع أن يكون سبب روايات الإفراد سماع من رواه تلبيته عليه الصلاة والسلام بالحج وحده وأنت تعلم أنه لا مانع من إفراد ذكر نسك في التلبية وعدم ذكر شيء أصلا وجمعة أخرى مع نية القران فهو نظير سبب الاختلاف في تلبيته عليه الصلاة والسلام أكانت دبر الصلاة أو استواء ناقته أو حين علا على البيداء على ما قدمناه في أوائل باب الإحرام
هذا وأما أنه حين قرن طاف طوافين وسعى سعيين فسيأتي الكلام فيه ولنرجع إلى تقرير الترجيحات المعنوية التي ذكرها المصنف رحمه الله قوله ولأنه أي القران جمع بين العبادتين فأشبه الصوم مع الاعكتاف والحراسة في سبيل الله مع صلاة الليل وأنت تعلم أن الجمع بين النسكين في الأداء متعذر بخلاف الصوم مع الاعتكاف والحراسة مع الصلاة وإنما الجمع بينهما حقيقة في الإحرام وليس هو من الأركان عندنا بل شرط فلا يتم التشبيه
وأيضا علمت أن موضع الخلاف ما إذا أتى بالحج والعمرة لكن أفردكلا منهما في سفرة واحدة يكون القران وهو الجمع بين إحراميهما أفضل فملاقاة التشبيه تكون على تقديرأن الإنسان إذا صام يوما بلا اعتكاف ثم اعتكف يوما آخر بلا صوم أو حرس ليلة بلا صلاة وصلى ليلة بلا حراسة يكون الجمع بينهما في يوم وليلة أفضل وهذا ليس بضروري فيحتاج إلى البيان ولا يكون إلا بسمع لأن تقدير الأثوبة والأفضلية لا يكون إلا به قوله والتلبية الخ دفع لترجيح الإفراد بزيادة التلبية والسفر والحلق فقال التلبية غير محصورة يعني لا يلزم زيادتها في الإفراد على القران لأنها غير محصورة
____________________
(2/523)
ولا مقدر لكل نسك قدر منها فيجوز زيادة تلبية من قرن على من أفرد كما يجوز قلبه والسفر غير مقصود إلا للنسك فهو في نفسه غيرعبادة وإن كان قد يصير عبادة بنية النسك به فلا يبعد أن يعتبر نفس النسك الذي هو أقل سفرا أفضل من الأكثر سفرا لخصوصية فيه اعتبرها الشارع فإن ظهرنا عليها وإلا حكمنا بالأفضلية تعبدا وقد علمنا الأفضلية بالعلم بأنه قرن لظهور أنه لم يكن ليعبد الله تعالى هذه العبادة الواجبة التي لم تقع له في عمره إلا مرة واحدة إلا على أكمل وجه فيها والحلق خروج عن العبادة فلا يوجب زيادته بالتكرر زيادة أفضلية ما لم يتكرر فيه كما قلنا فيما قبله والمقصد بما روى أي بالرخصة فيما روى القران رخصة لو صح نفى قول أهل الجاهلية العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور فكان تجويز الشرع إياها في أشهر الحج حتى لا يحتاج إلى وقت آخر البتة رخصة إسقاط فكان أفضل فإن رخصة الإسقاط هي العزيمة في هذه الشريعة حيث كانت نسخا للشرع المطلوب رفضه وأقل ما في الباب أن يكون أفضل لأن في فعله بعد تقرر الشرع المطلوب إظهاره ورفض المطلوب رفضه
وهو أقوى في الإذعان والقبول من مجرد اعتقاد حقيقته وعدم فعله وهذا من الخصوصيات وكثير في هذا الشرح من فضل الله تعالى مثله إذا تتبع ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قوله وللقرن ذكر في القرآن جواب عن قول مالك للتمتع ذكر في القرآن ولا ذكر للقران فيه فقال بل فيه وهو
____________________
(2/524)
قوله تعالى { وأتموا الحج والعمرة لله } على ما روينا من قول ابن مسعود رضي الله عنه إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك وعلى ما قدمناه من الخلافية نفس ذكر التمتع ذكر القران لأنه نوع منه فذكره ذكر كل من أنواعه ضمنا وقوله تعالى { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } على هذا معناه من ترفق بالعمرة في وقت الحج ترفقا غايته الحج وسماه تمتعا لما قلنا إنها كانت ممنوعة عند الجاهلية في أشهر الحج تعظيما للحج بأن لا يشرك معه في وقته شيء فلما أباحها العزيز جل جلاله فيه كان توسعة وتيسيرا لما فيه من إسقاط مؤنة سفر آخر أو صبر إلى أن ينقضى وقت الحج فكان الآتي به متمتعا بنعمة الترفق بهما في وقت أحدهما قوله وعنده طوافا واحدا الخ فلما كان في الجمع بينهما نقصان أفعال بالنسبة إلى إفراد كل منهما كان إفراد كل منهما أولى من الجمع قوله عقيب الصلاة أي سنة الإحرام على ما قدمناه قوله والقران في معنى التمتع وعلى ما قلناه في قوله تعالى { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج }
____________________
(2/525)
يفيد تقديم العمرة في القران بنظم الآية لا بالإلحاق قوله لقوله عليه الصلاة والسلام دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة تقدم غير مرة وتقدم من حديث ابن عمر الثابت في الصحيحين وأنه قرن فطاف طوافا واحدا لهما ثم قال هكذا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم
أجاب المصنف بقوله ولنا أنه لما طاف صبي بن معبد طوافين وسعى سعيين قال له عمر رضي الله عنه هديت لسنة نبيك
ثم حمل الدخول على الدخول في الوقت وذلك أن ظاهره غير مراد اتفاقا وإلا كان دخولها في الحج غير متوقف على نية القران بل كل من حج يكون قد حكم بأن حجه تضمن عمرة وليس كذلك اتفاقا
بقي أن يراد الدخول وقتا أو تداخل الأفعال بشرط نية القران والدخول وقتا ثابت اتفاقا وهو محتمله وهو متروك الظاهر فوجب الحمل عليه بخلاف المحتمل الآخر لأنه مختلف فيه ومخالف للمعهود المستقر شرعا في الجمع بين عبادتين وهو كونه بفعل أفعال كل منهما ألا ترى أن شفعي التطوع لا يتداخلان إذا أحرم لهما بتحريمة واحدة وأنت خبير بأن هذا الجواب متوقف على صحة حديث صبي ابن معبد على النص الذي ذكره المصنف والذي قدمناه من تصحيحه في أدلة القران إنما نصه عن الصبي قال أهللت بهما معا فقال عمر رضي الله عنه هديت لسنة نبيك وفي رواية أبي داود والنسائي عن الصبي بن معبد قال كنت رجلا أعرابيا نصرانيا فأسلمت فأتيت رجلا من عشيرتي يقال له هذيم بن ثرملة فقلت يا هناه إني حريص على الجهاد وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فكيف لي بأن أجمع بينهما فقال لي اجمعهما واذبح ما استيسر من الهدى فأهللت فلما أتيت العذيب لقيني سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأنا أهل
____________________
(2/526)
بهما معا فقال أحدهما للآخر ما هذا بأفقه من بعيره قال فكأنما ألقى علي جبل حتى أتيت عمر بن الخطاب فقلت يا أمير المؤمنين إني كنت رجلا أعرابيا نصرانيا وإني أسلمت وإني حريص على الجهاد وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي فأتيت رجلا من قومي فقال لي اجمعهما واذبح ما استيسر من الهدى وإني أهللت بهما جميعا فقال عمر رضي الله عنه هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم اه
وليس فيه أنه قال له ذلك عقيب طوافه وسعيه مرتين
لا جرم أن صاحب المذهب رواه على النص الذي هو حجة وإنما قصره المصنف
وذلك أن أبا حنيفة رضي الله عنه روى عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن الصبي بن معبد قال أقبلت من الجزيرة حاجا قارنا فمررت بسلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وهما منيخان بالعذيب فسمعاني أقول لبيك بحجة وعمرة معا فقال أحدهما هذا أضل من بعيره وقال الآخر هذا أضل من كذا وكذا فمضيت حتى إذا قضيت نسكي مررت بأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فساقه إلى أن قال فيه قال يعني عمر له فصنعت ماذا قال مضيت فطفت طوافا لعمرتي وسعيت سعيا لعمرتي ثم عدت ففعلت مثل ذلك لحجي ثم بقيت حراما ما أقمنا أصنع كما يصنع الحاج حتى قضيت آخر نسكي قال هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وأعاده وفيه كنت حديث عهد بنصرانية فأسلمت فقدمت الكوفة أريد الحج فوجدت سلمان بن ربيعة وزيد ابن صوحان يريدان الحج وذلك في زمان عمر بن الخطاب فأهل سلمان وزيد بالحج وحده وأهل الصبي بالحج والعمرة فقالا ويحك تمتع وقد نهى عمر عن المتعة والله لأنت أضل من بعيرك فساقه وفيه ما قدمناه من أن التمتع في عرف الصدر الأول وتابعيهم يعم القران والتمتع بالعرف الواقع الآن
وأيضا المعارضة بين أقوال الصحابة ورواياتهم عنه عليه الصلاة والسلام الاكتفاء بطواف واحد وسعى واحد ثابتة فتقدم عن ابن عمر رضي الله عنه فعلا ورواية الاكتفاء بواحد كذا من غيره
وصح عن غير واحد عدمه فمن ذلك عن علي رضي الله عنه أخرج النسائي في سننه الكبرى عن حماد بن عبد الرحمن الأنصاري عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية قال طفت مع أبي وقد جمع الحج والعمرة فطاف لهما طوافيين وسعى لهما سعيين
وحدثني أن عليا رضي الله عنه فعل ذلك وحدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وحماد هذا إن ضعفه الأزدي فقد ذكره ابن حبان في الثقات فلا ينزل حديثه عن الحسن
وقال محمد بن الحسن في كتاب الآثار أخبرنا أبو حنيفة رضي الله عنه حدثنا منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي عن أبي نصر السلمي عن علي رضي الله عنه قال إذا أهللت بالحج والعمرة فطف لهما طوافين واسع لهما سعيين بالصفا والمروة قال منصور فلقيت مجاهدا وهو يفتي بطواف واحد لمن قرن فحدثته بهذا الحديث فقال لو كنت سمعته لم أفت إلا بطوافين وأما بعده فلا أفتي
____________________
(2/527)
إلا بهما ولا شبهة في هذا السند مع أنه روى عن علي رضي الله عنه بطرق كثيرة مضعفة ترتقي إلى الحسن غير أنا تركناها واقتصرنا على ما هو الحجة بنفسه بلا ضم
ورواه الشافعي رحمه الله بسند فيه مجهول وقال معناه أنه يطوف بالبيت حين يقدم وبالصفا وبالمروة ثم يطوف بالبيت للزيارة اه
وهو صريح في مخالفة النص عن علي رضي الله عنه
وقول ابن المنذر لو كان ثابتا عن علي رضي الله عنه كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من أحرم بالحج والعمرة أجزأه عنهما طواف واحد وسعى واحد مدفوع بأن عليا رضي الله عنه رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أسمعناك فوقعت المعارضة فكانت هذه الرواية أقيس بأصول الشرع فرجحت وثبت عن عمران بن الحصين أيضا رفعه
وهو ما أخرجه الدارقطني عن محمد بن يحيى الأزدي حدثنا عبد الله ابن داود عن شعبة عن حميد بن هلال عن مطرف عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين ومحمد بن يحيى هذا قال الدارقطني ثقة وذكره ابن حبان في كتاب الثقات غير أن الدارقطني نسب إليه في خصوص هذا الحديث الوهم فقال يقال إن يحيى حدث به من حفظه فوهم
والصواب بهذا الإسناد أنه صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة وليس فيه ذكر الطواف ولا السعي
ويقال إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي وحدث به على الصواب ثم أسند عنه به أنه عليه الصلاة والسلام قرن
قال وقد خالفه غيره فلم يذكروا فيه الطواف
ثم أسند إلى عبد الله بن داود وبذلك الإسناد أيضا أنه قرن اه
وحاصل ما ذكر أنه ثقة ثبت عنه أنه ذكر زيادة على غيره والزيادة من الثقة مقبولة
وما أسند إليه غاية ما فيه أنه اقتصر مرة على بعض الحديث وهذا لا يستلزم رجوعه واعترافه بالخطأ فكثيرا يقع مثل هذا
وثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه مثل ذلك أيضا
قال ابن أبي شيبة حدثنا هشيم عن منصور بن زاذان عن الحكم عن زياد بن مالك أن عليا وابن مسعود رضي الله عنهما قالا في القران يطوف طوافين ويسعى سعيين فهؤلاء أكابر الصحابة عمر وعلي وابن مسعود وعمران بن الحصين رضى الله عنهم فإن عارض ما ذهبوا إليه رواية ومذهبا رواية غيرهم ومذهبه كان قولهم وروايتهم مقدمة مع ما يساعد قولهم وروايتهم مما استقر في الشرع من ضم عبادة إلى أخرى أنه بفعل أركان كل منهما والله تعالى أعلم بحقيقة الحال قوله فإن طاف طوافين وسعى سعيين أي والى بين الأسبوعين
____________________
(2/528)
للحج والعمرة وبين سعيين لهما قوله لأنه في معنى المتعة والهدى منصوص عليه فيها فيلحق بها فيه دلالة لأن وجوبه في المتعة لشكر نعمة إطلاق الترفق بها في وقت الحج بشرطه على ما نذكر وعلى ما هو الحق مما قررناه إيجاب الهدي بالنص في المتعة إيجاب في القران وغيره وهو المسمى بالمتعة عرفا ويجب الدم بعد الرمي قبل الحلق فإن حلق قبله لزمه دم عند أبي حنيفة رحمه الله قوله فإن لم يكن له ما يذبح صام ثلاثة أيام الخ شرط إجزائها وجود الإحرام بالعمرة في أشهر الحج وإن كان في شوال وكلما أخرها إلى آخر وقتها فهو أفضل لرجاء أن يدرك الهدى ولذا كان الأفضل أن يجعلها السابع من ذي الحجة ويوم التروية ويوم عرفة
وأما صوم السبعة فلا يجوز تقديمه على الرجوع عن منى بعد إتمام أعمال الواجبات لأنه معلق بالرجوع قال تعالى { وسبعة إذا رجعتم } والمعلق بالشرط عدم قبل وجوده فتقديمه عليه تقديم على وقته بخلاف صوم الثلاثة فإنه تعالى أمر به في الحج قال تعالى { فصيام ثلاثة أيام في الحج } والمراد وقته لاستحالة كون أعماله ظرفا له فإذا صام بعد الإحرام بالعمرة
____________________
(2/529)
في أشهر الحج فقد صام في وقته فيجوز فإن قدر على الهدى في خلال الثلاثة أو بعدها قبل يوم النحر لزمه الهدى وسقط الصوم لأنه خلف وإذا قدر على الأصل قبل تأدي الحكم بالخلف بطل الخلف وإن قدر عليه بعد الحلق قبل أن يصوم السبعة في أيام الذبح أو بعدها لم يلزمه الهدى لأن التحلل قد حصل بالحلق فوجود الأصل بعده لا ينقض الخلف كرؤية المتيمم الماء بعد الصلاة بالتيمم وكذا لولم يجد حتى مضت أيام الذبح ثم وجد الهدى لأن الذبح مؤقت بأيام النحر فإذا مضت فقد حصل المقصود وهو إباحة التحلل بلا هدى وكأنه تحلل ثم وجده ولو صام في وقته مع وجود الهدى ينظر فإن بقي الهدى إلى يوم النحر لم يجزه للقدرة على الأصل وإن هلك قبل الذبح جاز للعجز عن الأصل فكان المعتبر وقت التحلل قوله إذ الفراغ سبب الرجوع هذا تعيين للعلاقة في إطلاق الرجوع على الفراغ في الآية فذكرالمسبب وأريد السبب وبه صرح فى الكافي لكن الشأن فى دليل إرادة المجاز
ويمكن أن يكون الإجماع على أنه لو رجع إلى مكة غير قاصد للإقامة بها حتى تحقق رجوعه إلى غير أهله ووطنه ثم بدا له أن يتخذها وطنا كان له أن يصوم بها مع أنه لم يتحقق منه الرجوع إلى وطنه بل إلى غيره وإنما عرض الاستيطان بعد ذلك القدر من الرجوع ثم لم يتحقق بعد صيرورتها وطنا رجوع ليكون رجوعا إلى وطنه
وعلى أنه لو لم يتخذ وطنا أصلا ولم يكن له وطن بل مستمر على السياحة وجب عليه صومها بهذا النص ولا يتحقق في حقه سوى الرجوع عن الأعمال فعلم أن المراد به الرجوع عنها وقول المصنف فيكون أداء بعد السبب فيجوز على هذا معناه بعد سبب الرجوع
وفيه نظر فإن ترتب الجواز إنما هو على وجود سبب الحكم
____________________
(2/530)
لا سبب شيء آخر والحكم هنا وجوب الصوم وجوازه عن الواجب وسبب الأول وهو وجوب الصوم إنما هو التمتع قال الله تعالى { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } أي كاملة في كونها قائمة مقام الهدى عند العجز عنه
والثاني مسبب عن نفس الأداء في وقته بشرطه وهو العجز عن الهدى لما عرف من أن المأمور إذا أتى به كذلك يثبت له صفة الجواز وانتفاء الكراهة بنفس الإتيان به فلم يكن حاجة إلى ذكره بل إذا أتى به بعد الفراغ قبل الرجوع فقد أتى به في وقته بالنص فيجوز قوله فيتقيد به أي بالنهي المشهورعن صوم هذه الأيام النص وهو قوله تعالى { فصيام ثلاثة أيام في الحج } لأن المشهور يتقيد إطلاق الكتاب به فيتقيد وقت الحج المطلق بما لم ينه عنه قوله أو يدخله النقص
____________________
(2/531)
أي يدخل الصوم النقص للنهي عنه فلا يتأدى به الكامل الذي هو مطلوب المطلق وهذا يرجع إلى الأول لأن دخول النقص إنما يعرف بالنهي فهو المقيد
وغاية ما هناك أن يكون تقييد النهي بعلة دخول النقص للنهي عنه فعلى هذا فالأولى إبدال أو بإذ فيقال فيتقيد به النص إذ يدخله النقص
هذا وأما ما في البخاري عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا لم يرخص في أيام التشريق أن يضمن إلا لمن لم يجد الهدى
قيل وهذا شبيه بالمسند
قال الشافعي وبلغني أن ابن شهاب يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلا
وأخرج البخاري أيضا من كلام ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال الصوم لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة فإن لم يجد هديا ولم يصم صام أيام التشريق
فعلى أصلنا لو صح رفعه لم يعارض النهي العام لو وازنه فكيف وذلك أشهر وعلى أصلهم لا يخص ما لم يجزم برفعه وصحته والمرسل عندهم من قبيل الضعيف لو تحقق فكيف وإنما ذكره الشافعي بلاغا وغيره موقوفا ولو تم على أصلهم لم يلزمنا اعتباره قوله فقد صار رافضا لعمرته أطلق فيه وفي كافي الحاكم قال محمد لا يصير رافضا لعمرته حتى يقف بعرفة بعد الزوال اه
وهو حق لأن ما قبله ليس وقتا للوقوف فحلوله بها كحلوله بغيرها قوله هو الصحيح احتراز عن رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يرفضها بمجرد التوجه لأنه من خصائص الحج فيرتفض به كما ترتفض الجمعة بعد الظهر بالتوجه إليها عنده والصحيح
____________________
(2/532)
ظاهر الرواية
والفرق أن إقامة ما هو من خصوصيات الشيء مقامه إنما هو عند كون ذلك الشيء مطلوبا مأمورا به وهنا القارن مأمور بضد الوقوف بعرفة قبل أفعال العمرة فهو مأمور بالرجوع ليرتب الأفعال على الوجه المشروع فلا يقام التوجه مقام نفس الوقوف لأنه على ذلك التقدير احتياطا لإثبات المنهي عنه بخلاف الجمعة على ما هو ظاهر من الكتاب وكذا إذا وقف بعد أن طاف ثلاثة أشواط فإنه يرفض العمرة ولو كان طاف أربعة أشواط لم يصر رافضا للعمرة بالوقوف وأتمها يوم النحر وهو قارن
وإن لم يطف لعمرته حين قدم مكة بل طاف وسعى ينوي عن حجته ثم وقف بعرفة لم يكن رافضا لعمرته وكان طوافه وسعيه لها وهو رجل لم يطف للحج فيرمل في طواف الزيارة ويسعى بعده وهذا بناء على ما تقدم من أن المأتى به إذا كان من جنس ما هو متلبس به في وقت يصلح له ينصرف إلى ما هو متلبس به
وعن هذا قولنا لو طاف وسعى للحج ثم طاف وسعى لعمرة لا شيء عليه وكان الأول عن العمرة والثاني عن الحج وهذا كمن سجد في الصلاة بعد الركوع ينوي سجدة تلاوة عليه انصرف إلى سجدة الصلاة والله سبحانه أعلم شرح فتح القدير ج 3
____________________
(2/533)
& باب التمتع
قوله وجه الظاهر أن في التمتع جمعا بين العبادتين فأشبه بالقرآن حقيقة هذا الوجه أنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم حج قارنا ومعلوم أن ما ارتكبه أفضل خصوصا في عبادة فريضة لم يفعلها إلا مرة واحدة في عمره ثم رأينا المعنى الذي به كان القرآن أفضل متحققا في التمتع دون الأفراد فيكون أفضل منه وذلك المعنى هو ما يلزم كونه جمعا بين العبادتين في وقت الحج من زيادة التحقق بالإذعان والقبول للمشروع الناسخ لشرع الجاهلية في المطلوب رفضه ثم هذا أرفق فوجب دم للشكر على أمرين أحدهما إطلاق الارتفاق بالعمرة في وقت الحج حتى خفت المؤنة بالنسبة إلى لزوم إنشاء سفر آخر للعمرة أو التأخير بعد قضاء الأفعال لينشئ أخرى من أدنى الحل وهذا شكر على أمر دنيوي وثانيهما توفيقه للتحقق بهذا الإذعان الشرعي المطلوب تحقيقه وإظهاره وجعله مظهرا له فإنه أكمل من مجرد اعتقاد الحقبة من غير تحقق به بالفعل وهذا يرجع إلى أمر أخروي ولهذا تسمعهم يقولون تارة وفق لأداء النسكين ومرة ترفق بأدائهما في سفرة واحدة فزادت الفضيلة بشرعية هذا الدم لأنه زاد في النسك عبادة أخرى شكرا لا جبرا لنقصان متمكن فيه غير أن القرآن زاد عليه باستدامة الإحرام إلى يوم النحر بهما والمسارعة إلى إحرام الحج فبالأمرين يفضل على تمتع لم يسق فيه هدي حتي حل التحلل وبالثاني على التمتع الذي سيق فيه الهدي فوجب استدامة الإحرام فيه قوله وسفره واقع لحجته الخ جواب عن قوله لأن سفره واقع لعمرته
____________________
(3/3)
وهو ظاهر من الكتاب قوله ومعنى التمتع الترفق بأداء النسكين وينبغي أن يزاد في أشهر الحج ولم يقل أن يحرم بهما بل ذكر أداءهما فعلم أنه ليس من شرط التمتع وجود الإحرام بالعمرة في أشهر الحج بل أداؤها فيها أو أداء أكثر طوافها فلو طاف ثلاثة أشواط في رمضان ثم دخل شوال فطاف الأربعة الباقية ثم حج في عامه كان متمتعا فتحرير الضابط للتمتع أن يفعل العمرة أو أكثر طوافها في أشهر الحج عن إحرام بها قبلها أو فيها ثم حج من عامة بوصف الصحة من غير أن يلم بأهله بينهما إلماما صحيحا والحيلة لمن دخل مكة محرما بعمرة قبل أشهر الحج يريد التمتع أن لا يطوف بل يصبر إلى أن تدخل أشهر الحج ثم يطوف فإنه متى طاف طوافا ما وقع عن العمرة على ما سبق من قبل ولو طاف ثم دخلت أشهر الحج فأحرم بعمرة أخرى ثم حج من عامه لم يكن متمتعا في قول الكل لأنه صار حكمه حكم أهل مكة بدليل أنه صار ميقاته ميقاتهم وقولنا ثم حج من عامه يعنى من عام الفعل أما عام الإحرام فليس بشرط بدليل ما في نوادر ابن سماعة عن محمد فيمن أحرم بعمرة في رمضان وأقام على إحرامه إلى شوال من قابل ثم طاف لعمرته في العام القابل ثم حج من عامه ذلك أنه متمتع لأنه باق على إحرامه وقد أتى بأفعال العمرة والحج في أشهر الحج بخلاف من وجب عليه أن يتحلل من الحج بعمرة كفائت الحج فأخر إلى قابل فتحلل بها في شوال وحج من عامه ذلك لا يكون متمتعا لأنه ما أتى بأفعالها عن إحرام عمرة بل للتحلل عن إحرام الحج فلم تقع هذه الأفعال معتدا بها عن العمرة فلم يكن متمتعا وهذا فائدة القيد الذى ذكرناه آخرا أعنى قولنا عن إحرام بها قوله فيطوف لها ويسعى الخ لم يذكر طواف القدوم لأنه ليس للعمرة طواف قدوم ولا صدر
____________________
(3/4)
وذكر من الصفة الحلق أو التقصير فظاهره لزوم ذلك في التمتع وليس كذلك بل لو لم يحلق حتى أحرم بالحج وحلق بمنى كان متمتعا وهو أولى بالتمتع ممن أحرم بالحج بعد طواف أربعة أشواط للعمرة على ما ذكرناه آنفا قوله هكذا فعل الخ إما أن أفعال العمرة ما ذكر غير الحلق أو التقصير فضروري لا يحتاج إلى بيان وإما أن منها الحلق أو التقصير خلافا لمالك رحمه الله فيدل عليه ما قدمناه في بحث القرآن من حديث معاوية قصرت عن رأس صلى الله عليه وسلم بمشقص ومعلوم أن التقصير عند المروة لا يكون إلا في عمرة غير أن عند البخاري ومسلم قصرت أو رأيته يقصر عن رأسه فإن كان الواقع الأول تعين كونها عمرة الجعرانة كما قدمناه وإن كان الثاني لم يلزم وهو حجة على مالك رحمه الله قوله وقال مالك كما وقع بصره على البيت وعنه كما رأى بيوت مكة ولنا ما روى الترمذي عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم وقال حديث صحيح ورواه أبو داود ولفظه أن صلى الله عليه وسلم قال يلي المعتمر حتى يستلم الحجر قوله ولهذا يقطعها الحاج الخ إنما تتم هذه الملازمة لو كان الرمي هو المقصود في الحج وهو منتف بل المقصود الوقوف والطواف فالصواب في التقرير على رأينا أن يقال كما لم تقطع التلبية في الحج قبل الشروع في الأفعال
____________________
(3/5)
كذا لا تقطع في العمرة قبله فبطل قولكم بقطعها قبل الطواف وعلى رأيه بطريق الإلزام أن يقال كما أنها لم تقطع في الحج إلا عند الشروع في المقاصد وهو الوقوف عندك يجب في العمرة أن لا تقطع إلا عند الشروع في مقاصدها وهو الطواف قوله والمسجد ليس بلازم بل هو أفضل ومكة أفضل من غيرها من الحرم والشرط الحرم قوله وفعل ما يفعله الحاج المفرد إلا طواف التحية لأنه في حكم أهل مكة ولا طواف قدوم عليهم قوله ولو كان هذا المتمتع بعد ما أحرم بالحج طاف أي للتحية وسعى قبل أن يروح إلى منى لم يرمل في طواف الزيارة سواء كان رمل في طواف التحية أولا ولا يسعى بعده لأنه قد أتى بالسعي مرة قيل هذا دليل على أن طواف التحية مشروع للتمتع حتى اعتبر سعيه عقيبه اه ولا يخلو من شيء فإن الظاهر أن المراد أنه إذا طاف ثم سعى أجزأه عن السعي لا أنه يشترط للإجزاء اعتباره طواف تحية بل المقصود أن السعي لا بد أن يترتب شرعا على طواف فإذا فرضنا أن المتمتع بعد إحرام الحج تنفل بطواف ثم سعي بعده سقط عنه الحج ومن قيد إجزاءه بكون الطواف المقدم طواف تحية فعليه البيان قوله فلا يجوز أداؤه قبل وجود سببه فالشرط فيها أن يكون محرما بالعمرة في أشهر الحج مثل ما ذكرناه في القرآن وإلى آخر ما ذكرناه فيه قوله خلافا للشافعي فإنه لا يجزئه إلا بعد إحرام الحج
____________________
(3/6)
قوله لأنه أداه بعد انعقاد سببه لا شك أن سببه التمتع اللغوي الذي هو الترفق لترتيبه على التمتع في النص ومأخذ الاشتقاق علة للمرتب والعمرة في أشهر الحج هي السبب فيه لأنها التي بها يتحقق الترفق الذي كان ممنوعا في الجاهلية وهو معنى التمتع لا أن الحج معتبر جزء السبب بناء على إرادة التمتع في عرف الفقه لوجهين أحدهما جعل الحج غاية لهذا التمتع حيث قال فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فكان المفاد ترفق بالعمرة في أشهر الحج ترفقا غايته الحج وإلا كان ذكر التمتع ذكرا للحج من عامه فلم يحتج إلى ذكره والثاني أنه على ذلك التقرير كان يلزم أن لا يجوز صوم الثلاثة إلا بعد الفراغ كالسبعة لكنه سبحانه فصل بينهما فجعل الثلاثة في الحج أي وقته والسبعة بعد الفراغ فعلم أنه لم يعتبر في السبب المجوز للصوم تحقق حقيقة التمتع بالمعنى الفقهي بل الترفق بالعمرة في أشهر الحج لكن لا مطلقا بل المقيد بكونه غايته الحج من عامه لا على اعتبار القيد جزءا من السبب أو شرطا في ثبوت سببيته وإلا لزم ما ذكرنا من امتناع الصوم قبل الفراغ وهو منتف فكان السبب المقيد لا يشترط قيده في السببية فإذا صام بعد إحرام العمرة في أشهر الحج ثم حج من عامه ظهر أنه صام بعد السبب وفي وقته بخلاف ما إذا لم يحج من عامة لأنه لم يظهر وقوعه بعد المقيد ومثل هذا جائز إذا أمكن وقد أمكن وسببه تراخى القيد عنه في الوجود أما السبعة فإن السبب وإن تحقق بعد إحرام العمرة لكن لم يجيء وقتها لأن الإيجاب معلق بالرجوع فالصوم قبله قبل وقته وإن كان بعد السبب واعلم أن مقتضى هذا عدم الجواز قبل الفراغ من العمرة لأن التمتع أعنى الترفق بالعمرة لا يتحقق بمجرد الإحرام بها لكن الحكم هو الجواز بمجرد الإحرام كأنه لثبوت عدم القدرة على الخروج
____________________
(3/7)
عن الإحرام بلا فعل وفيه إقناع إلا أن يستلزم خلافه إحداث قول ثالث فيتم المراد قوله إلا إذا كانت لا تنقاد أي للسوق وفي بعض النسخ لا تنساق قوله لأن صلى الله عليه وسلم طعن الخ قالوا لأنها كانت تساق إليه وهو يستقبلها فيدخل من قبل رءوسها والحربة بيمينه لا محالة والطعن حينئذ إلى جهة اليسار أمكن وهو طبع هذه الحركة فيقع الطعن كذلك مقصودا ثم يعطف طاعنا إلى جهة يمينه بيمينه وهو متكلف بخلافه إلى الجهة الأولى وهذا بناء على أنه صلى الله عليه وسلم أشعر من جهة اليمين واليسار وعلى أن صفته حاله الإشعار كان ما ذكر فأما الأول فالذى في مسلم عن أبى حسان عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا ببدنة فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وروى البخاري الإشعار فلم يذكر فيه الأيمن ولا الأيسر إلا أن ابن عبد البر ذكر أنه رأى في كتاب ابن علية بسنده إلى أبى حسان عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم أشعر بدنه من الجانب الأيسر ثم سلت الدم عنها وقلدها نعلين قال ابن عبد البر هذا منكر من حديث ابن عباس بل المعروف ما رواه مسلم وغيره عنه في الجانب الأيمن وصحح ابن القطان كلامه لكن قد أسند أبو يعلى إلى أبى حسان عن ابن عباس بطريق آخر أنه صلى الله عليه وسلم أشعر بدنه في شقها الأيسر ثم سلت الدم بأصبعه الحديث وفي موطأ مالك عن نافع أن ابن عمر رضى الله عنهما كان إذا أهدى هديا من المدينة يقلده بنعلين ويشعره في الشق الأيسر فهذا يعارض ما في مسلم من حديث ابن عباس إذ لم يكن أحد أشد اقتفاء لظواهر فعل صلى الله عليه وسلم من ابن عمر فلولا علمه وقوع ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم فوجه التوفيق حينئذ هو ما صرنا إليه من الإشعار فيهما حملا للروايتين على رؤية كل راء الإشعار من جانب وهو واجب ما أمكن وأما الثاني فلا نعلم صريحا في وصفه كيف كان لكنه حمل على ما هو الظاهر إذ الظاهر من قاصدها لإثبات فعل فيها وهى تساق إليه ذلك والله أعلم بجلية كل حال قوله لأنه ألزم
____________________
(3/8)
لأن القلادة قد تنحل أو تنقطع فتسقط قوله ولو وقع التعارض فالترجيح للمحرم قد يقال لا تعارض فإن النهى عنه كان بأثر قصة العرنيين عقيب غزوة أحد ومعلوم أن الإشعار كان بعده فعلم أنه إما مخصوص من نص نسخ المثلة ما كان هديا أو أنه ليس بمثلة أصلا وهو الحق إذ ليس كل جرح مثله بل هو ما يكون تشويها كقطع الأنف والأذنين وسمل العيون فلا يقال لكل من جرح مثل به والأولى ما حمل عليه الطحاوى من أن أبا حنيفة إنما كره إشعار أهل زمانه لأنهم لا يهتدون إلى إحسانه وهو شق مجرد الجلد ليدمى بل يبالغون في اللحم حتى يكثر الألم ويخاف منه السراية قوله لأن المشركين لا يمتنعون إلا به قد يقال هذا يتم في إشعار عام الحديبية وهو مفرد بالعمرة لا في إشعاره هدايا حجة الوداع لأن المشركين كانوا قد أجلوا قبل ذلك في فتح مكة في الثامنة ثم بعث عليا رضى الله عنه في التاسعة يتلو عليهم سورة براءة وينادى لا يطوف بهذا البيت مشرك ولا عريان والجواب أن يراد تعرضهم للطريق حال السفر لتسامعهم بمال لسيد المسلمين قوله وهذا ينفى التحلل عند سوق الهدى يعنى لما كان المقصود من هذا الكلام وتقدم تخريجه إظهار التأسف على
____________________
(3/9)
تأتى الإحلال ليشرح صدر أصحابه بموافقته لهم كما كان دأبه صلى الله عليه وسلم كان قوله
لو استدركت ما فاتني لما سقت الهدى ولجعلتها عمرة أي مفردة لم أقرن معها الحج وتحللت يفيد أن التحلل لا يأتي إلا بما يتضمنه كلامه من إفراد العمرة وعدم سوق الهدى فلو كان التحلل يجوز مع سوق الهدى لاكتفى بقوله لجعلتها عمرة وتحللت وإنما احتاج إلى هذا لأنه لو استدل بأنه لما ساق الهدى امتنع عليه التحلل من العمرة كان معترفا بأنه صلى الله عليه وسلم حج متمتعا والثابت عندنا أنه حج قارنا على ما قدمناه قوله وهذه الأفضلية أي أفضلية تعجيل المتمتع الإحرام بالحج قوله فقد حل من الإحرامين فيه دليل على بقاء إحرام العمرة إلى الحلق وأورد عليه في النهاية لو كان كذلك لزم القارن دمان إذا جنى قبل الحلق وقال علماؤنا إذا قتل القارن صيدا بعد الوقوف قبل الحلق لزمه قيمة واحدة ولو بقى بعد الوقوف لزمه دمان وأجاب بأن إحرام العمرة انتهى بالوقوف ولم يبق إلا في حق التحلل لأن الله تعالى جعل الحج غاية إحرام العمرة ولا وجود للمضروب له الغاية بعدها إلا ضرورة وهى ما ذكرنا وإذا لم يبق في حق غير ذلك لم تقع الجناية عليه اه قال في شرح الكنز وهذا بعيد فإن القارن إذا جامع بعد الوقوف يجب عليه بدنة للحج وشاة للعمرة وبعد الحلق قبل الطواف شاتان اه وما نقله في النهاية إنما هو قول شيخ الإسلام ومن تبعه وقد صرح به عنه بخصوصه في النهاية في آخر فصل جزاء الصيد وأكثر عبارات الأصحاب مطلقة وهى الظاهرة إذ قضاء الأعمال لا يمنع بقاء الإحرام والوجوب إنما هو باعتبار أنه جناية على الإحرام لا على الأعمال والفرع المنقول في الجماع يدل على ما قلنا بل سنذكر عن الكتب المعتبرة عن بعضهم أن فيما بعد الحلق البدنة والشاة أيضا بالجماع وعن بعضهم البدنة فقط ونبين الأولى منهما ثم إن شيخ الإسلام قيد لزوم الدم الواحد بغير الجماع وقال إن في الجماع بعد الوقوف شاتين فلا يخلو من أن يكون إحرام العمرة بعد الوقوف توجب الجناية عليه شيئا أولا فإن أوجبت لزم شمول الوجوب وإلا فشمول العدم قوله وليس لأهل مكة تمتع ولا قران يحتمل نفى الوجود أي ليس يوجد لهم حتى لو أحرم مكي بعمرة أو بهما
____________________
(3/10)
وطاف للعمرة في أشهر الحج ثم حج من عامه لا يكون متمتعا ولا قارنا ويوافقه ما سيأتي في الكتاب من قوله وإذا عاد المتمتع إلى بلده بعد فراغه من العمرة ولم يكن ساق الهدي بطل تمتعه لأنه ألم بأهله فيما بين النسكين إلماما صحيحا وذلك يبطل التمتع فأفاد أن عدم الإلمام شرط لصحة التمتع فينتفي لانتفائه وعن ذلك أيضا خص القرآن في قوله بخلاف المكي إذا خرج إلى الكوفة وقرن حيث يصح لأن عمرته وحجته ميقاتيتان قالوا خص القرآن لأن التمتع منه لا يصح لأنه ملم بأهله بعد العمرة ويحتمل نفي الحل كما يقال ليس لك أن تصوم يوم النحر ولا أن تتنفل بالصلاة عند الطلوع والغروب حتى لو أن مكيا اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه أو جمع بينهما كان متمتعا أو قارنا آثما بفعله إياهما على وجه منهي عنه وهذا هو المراد بحمل ما قدمناه من اشتراط عدم الإلمام للصحة على اشتراطه لوجود التمتع الذي لم يتعلق به نهي شرعا المنهض سببا للشكر ويوافقه ما في غاية البيان ليس لأهل مكة تمتع ولا قران ومن تمتع منهم أو قرن كان عليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه وصح عن عمر رضي الله عنه أنه قال ليس لأهل مكة تمتع ولا قران وقال في التحفة ومع هذا لو تمتعوا جاز وأساءوا وعليهم دم الجبر وسنذكر من كلام الحاكم صريحا اه ومن حكم هذا الدم أن لا يقوم الصوم مقامه حالة العسرة فإذا كان الحكم في الواقع لزوم دم الجبر لزم ثبوت الصحة لأنه لا جبر إلا لما وجد بوصف النقصان لا لما لم يوجد شرعا فإن قيل يمكن كون الدم للاعتمار في أشهر الحج من المكي لا للتمتع منه وهذا فاش بين حنفية العصر من أهل مكة ونازعهم في ذلك بعض الآفاقين من الحنفية من قريب وجرت بينهم شئون ومعتمد أهل مكة ما وقع في البدائع من قوله ولأن دخول العمرة في أشهر الحج وقع رخصة لقوله تعالى { الحج أشهر معلومات } قيل في بعض وجوه التأويل أي للحج أشهر معلومات واللام للاختصاص فاختصت هذه الأشهر بالحج وذلك بأن لا يدخل فيها غيره إلا أن العمرة دخلت فيها رخصة للآفاقي ضرورة تعذر إنشاء سفر للعمرة نظرا له وهذا المعني لا يوجد في حق أهل مكة ومن بمعناهم فلم تكن العمرة مشروعة في أشهر الحج في حقهم فبقيت العمرة في أشهر الحج في حقهم معصية اه
وفيه بعض اختصار والذي ذكره غير واحد خلافه وقد صرحوا في جواب الشافعي لما أجاز التمتع للمكي وقال في بعض الأوجه نسخ منع العمرة في أشهر الحج عام فيتناول المكي كغيره فقالوا أما النسخ فثابت عندنا في حق المكي أيضا حتى يعتمر في أشهر الحج ولا يكره له ذلك ولكن لا يدرك
____________________
(3/11)
فضيلة التمتع إلى آخر ما سنذكره إن شاء الله تعالى فإنكار أهل مكة على هذا اعتمار المكي في أشهر الحج إن كان لمجرد العمرة فخطأ بلا شك وإن كان لعلمهم بأن هذا الذي اعتمر منهم ليس بحيث يتخلف عن الحج إذا خرج الناس للحج بل يحج من عامه فصحيح بناء على أنه حينئذ إنكار لمتعة المكي لا لمجرد متعته فإذا ظهر لك صريح هذا الخلاف منه في إجازة العمرة من حيث هي مجرد عمرة في أشهر الحج ومنعها وجب أن يتفرغ عليه ما لو كرر المكي العمرة في أشهر الحج وحج من عامه هل يتكرر الدم عليه فعلى من صرح بحلها له وأن المنع ليس إلا لتمتعه لا يتكرر عليه لأن تكرره لا أثر عليه في ثبوت تكرره تمتعه فإنما عليه دم واحد لأنه تمتع مرة واحدة وعلى من منع نفس العمرة منه وأثبت أن نسخ حرمتها إنما هو للآفاقي فقط ينبغي أن يتكرر الدم بتكررها والله أعلم وإنما النظر بعد ذلك في أولي القولين ونظر هؤلاء إلى العمومات مثل دخلت العمرة في الحج وصريح منع المكي شرعا لم يثبت إلا بقوله تعالي { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وهو خاص بالجمع تمتعا فيبقى فيما وراءه على الإباحة غير أن للآخر أن يقول دليل التخصيص مما يصح تعليله ويخرج به معه وتعليل منع الجمع المتبادر منه أن يحصل الرفق ودفع المشقة الآتية من قبل تعدد السفر أو إطالة الإقامة وذلك خاص فيبقي المنع السابق على ما كان ويختص النسخ بالآفاقي وللنظر بعد ذلك مجال والله سبحانه الموفق ثم ظهر لي بعد نحو ثلاثين عاما من كتابة هذا الكتاب أن الوجه منع العمرة للمكي في أشهر الحج سواء حج من عامه أولا لأن النسخ خاص لم يثبت إذ المنقول من قولهم العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور لا يعرف إلا من كلام الجاهلية دون أنه كان في شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أو غيره ولم يبق إلا النظر في الآية وحاصله عام مخصوص فإن قوله ذلك الخ تخصيص من تمتع بالعمرة إلى الحج لأنه مستقل مقارن واتفقوا في تعليله بأن تجويزه للآفاقي لدفع الحرج كما عرف ومنعه من المكي لعدمه ولا شك أن عدم الحرج في عدم الجمع لا يصلح علة لمنع الجمع لأنه إذا لم يحرج بعدم الجمع لا يقتضي أن يتعين عليه عدمه بل إنما يصلح عدم الحرج في عدم الجمع أن يجوز له كل من عدم الجمع والجمع لأنه كما لم يخرج في عدم الجمع لا يحرج في الجمع فحين وجب عدم الجمع لم يكن إلا لأمر زائد وليس هنا سوى كونه في الجمع موقعا العمرة في أشهر الحج ثم لا شك أن منع نفس العمرة في أشهر الحج للمكي متعين على الاحتمال الأول الذي أبديناه في قوله وليس لأهل مكة تمتع ولا قران الخ وهو أن العمرة لا تتحقق منه أصلا لأنه إذا لم يتحقق منه حقيقة التمتع الشرعية لا يكون منعه من التمتع إلا للعمرة فكان حاصل منع صورة التمتع إما لمنع العمرة أو الحج والحج غير ممنوع منه فتعينت العمرة غير أني رجحت أنها تتحقق ويكون مستأنسا بقول صاحب التحفة لكن الأوجه خلافه لتصريح أهل المذهب من أبي حنيفة وصاحبيه فى الآفاقى الذي يعتمر ثم يعود إلى أهله ولم يكن ساق الهدي ثم حج من عامه بقولهم بطل تمتعه وتصريحهم بأن من شرط التمتع مطلقا أن لا يلم بأهله بينهما إلماما صحيحا ولا وجود للمشروط قبل وجود شرطه ولا شك أنهم قالوا بوجود الفاسد مع الإثم ولم يقولوا بوجود الباطل شرعا مع ارتكاب النهي كبيع الحر ليس ببيع شرعي ومقتضى كلام أئمة المذهب أولى بالاعتبار من كلام بعض المشايخ وإنما لم نسلك في منع العمرة في أشهر الحج مسلك صاحب البدائع لأنه بناه على
____________________
(3/12)
أمر لم يلزم ثبوته على الخصم وهو قوله جاء في بعض الأوجه أن المراد للحج أشهر واللام للاختصاص وهذا مما للخصم منعه ويقول بل جاز كون المراد أن الحج في أشهر معلومات فيفيد أنه يفعل فيها لا في غيرها وهو لا يستلزم أن لا يفعل فيها غيره والله أعلم قوله والحجة عليه مدار احتجاج الشافعي على أن نسخ ترك العمرة في أشهر الحج عام في حق المكي وغيره ومعلوم شرعية الحج في حق الكل فجاز التمتع للكل وقوله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } لا ينفيه إذ مرجع الإشارة إلى الهدي لا التمتع فثبت بذلك جواز المتعة لهم وسقوط الهدي عنهم قلنا بل مرجع الإشارة التمتع لوصلها باللام وهي تستعمل فيما لنا أن نفعله والتمتع لنا أن نفعله بخلاف الهدي فإنه علينا فلو كان مرادا لجيء مكان اللام بعلى فقيل ذلك على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فإن قيل شرع العمرة في أشهر الحج عام قلنا ممنوع بل ذلك على القول الذي رددناه وعلى تقديره أيضا لا يفيد لأنا نجيز للمكي العمرة في أشهر الحج فإن أريد المجموع من العمرة مع الحج من عامه وهو المعبر عنه بالتمتع بالعمرة إلى الحج في النص فهو أول المسئلة ومحل النزاع ثم إن عللنا دليل التخصيص أعني قوله تعالي { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } بكونه ملما بأهله بين أدائهما فلم يكمل
____________________
(3/13)
معنى الارتفاق في حق أهل مكة بشرعهما في أشهر الحج بخلاف الآفاقى فتقاصر عن إيجاب الشكر بإراقة الدم بالنسبة إلى الآفاقي فعديناه إلى كل من ألم بأهله بين النسكين حتى إذا اعتمر الآفاقى في أشهر الحج ثم رجع إلى أهله فأقام ثم حج من عامه لا يكون متمتعا وصار شرط التمتع المأذون فيه شرعا أن لا يلم بأهله بهذا المأخذ إلا أن أبا حنيفة فرق بين كون العود مستحقا على الآفاقى بأن كان ساق الهدى أولا فجعل الإلمام عند استحقاق العود شرعا كعدمه وسيأتي وإذا عملت هذا فمقتضاه مع ما قدمنا من الحق من أن التمتع بإطلاق القرآن الكريم وألفاظ الصحابة يعم القرآن لأنه تمتع للارتفاق بالعمرة في أشهر الحج اشتراط عدم الإلمام للقرآن المأذون فيه أيضا فيقتضي في المكي إذا خرج إلى الكوفة ثم عاد فأحرم بهما من الميقات في أشهر الحج ثم فعلهما أن لا يكون القرآن الشرعي المستعقب الحكم المعلوم من إيجاب الدم شكرا وهو خلاف ما ذكروه مما نص عليه المصنف بقوله بخلاف المكي إذا خرج إلى الكوفة الخ قالوا خص المكي بالقران لأنه لا تمتع له في مثل هذه الصورة لأنه ملم بأهله بعد العمرة ولو ساق الهدى لأن العود غير مستحق عليه ومقتضى الدليل ما أعلمتك بل ويقتضي أيضا بأدنى تأمل وجوب الدم جبرا على الآفاقي إذا عاد وألم ثم رجع وحج من عامه إذا كانوا أوجبوه على المكي إذا تمتع لارتكابه النهى وأنت علمت أن مناط نهيه وجود الإلمام وهو ثابت في الآفاقي الملم والله سبحانه وتعالى أعلم وقوله لأن عمرته وحجته ميقاتيتان فكان كالآفاقى قالوا يشير إلى أن عدم صحة التمتع منه إذا كان بمكة لإخلاله بميقات أحد النسكين لأنه إن أحرم بهما من الحرم أخل بميقات العمرة أو من الحل فبميقات الحج للمكى فيكره ويلزمه الرفض ولا يخفى أن ترك الإحرام من الميقات لا يوجب عدم النسك المعين ألا ترى لو أن آفاقيا جاوز الميقات ثم أحرم بهما وفعلها أنه يكون قارنا ويلزمه دم القرآن مع دم الوقت كما لو جنى على إحرامه بل أولى إذا تأملت على أن المانع لو كان هذا لصح قران كل مكي بطريق أن يخرج إلى أدنى الحل كالتنعيم فيحرم بعمرة ثم يخطو خطوة فيدخل أرض الحرم فيحرم بالحج لكن المنع عام وسببه ليس إلا الآية والقران من التمتع وقد صرح به المصنف فقال في آخر الباب والقران منه أي من التمتع هذا ثم قيد المحبوبي قران المكي بأن يخرج من الميقات إلى الكوفة مثلا قبل أشهر الحج أما إذا خرج بعد دخولها فلا قران له لأنه لما دخلت أشهر الحج وهو داخل المواقيت فقد صار ممنوعا من القران شرعا فلا يتغير ذلك بخروجه من الميقات هكذا روى عن محمد وقد يقال إنه لا يتعلق به خطاب المنع مطلقا بل ما دام بمكة فإذا خرج إلى الآفاق التحق بأهله لما عرف أن كل من وصل إلى مكان صار ملحقا بأهله كالآفاقى إذا قصد بستان بنى عامر حتى جاز له دخول مكة بلا إحرام
____________________
(3/14)
وغير ذلك وأصل هذه الكلية الإجماع على أن الآفاقي إذا قدم بعمرة في أشهر الحج إلى مكة كان إحرامه بالحج من الحرم وإن لم يقم بمكة إلا يوما واحدا فإطلاق المصنف حينئذ هو الوجه هذا وأما على ما قدمناه من البحث فلا يصح منه القران الجائز ما لم ينقص وطنه بمكة للزوم اشتراط عدم الإلمام فيه كالتمتع فإن قرن لزمه دم كما لو قرن وهو بمكة لما عملت من أن القران من ما صدقات التمتع بالنظم القرآني ويلزم فيه وجود أكثر أشواط العمرة في أشهر الحج لأنه التمتع بالعمرة إلى الحج في أشهر الحج ووجوب الشكر بالدم ما كان إلا لفعل العمرة فيها ثم الحج فيها وهذا في القران كما هو في التمتع وما عن محمد فيمن أحرم بهما وطاف لعمرته في رمضان أنه قارن ولا دم عليه مراد به القارن بالمعنى اللغوي إذ لا شك في أنه قرن أي جمع ألا ترى أنه نفى لازم القران بالمعنى الشرعي المأذون فيه وهو لزوم الدم ونفى اللازم الشرعي نفى الملزوم والشرعي والحاصل أن النسك المستعقب للدم شكرا هو ما تحقق فيه فعل المشروع المرتفق به الناسخ لما كان في الجاهلية وذلك بفعل العمرة أشهر الحج فإن كان مع الجمع في الإحرام قبل أكثر طواف العمرة فهو المسمى بالقران وإلا فهو التمتع بالمعنى العرفي وكلاهما التمتع بالإطلاق القرآني وعرف الصحابة وهو في الحقيقة إطلاق اللغة لحصول الرفق بهذا النسخ هذا كله على أصول المذهب وأما ما أعتقده مقتضى الدليل فسأذكره من قريب إن شاء الله تعالى قوله وإذا عاد الحاصل أن عود الآفاقي الفاعل للعمرة في أشهر الحج إلى أهله ثم رجوعه حجه من عامه إن كان لم يسق الهدى بطل تمتعه باتفاق علمائنا وإن كان ساق الهدى فكذلك عند محمد وقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يبطل إلحاقا لعوده بالعدم بسبب استحقاق الرجوع شرعا إذا كان على عزم المتعة والتقييد بعزم المتعة لنفى استحقاق العود شرعا عند عدمه فإنه لو بدا له بعد العمرة أن لا يحج من عامه لا يؤاخذ بذلك فإنه لم يحرم بالحج بعد وإذا ذبح الهدى أو أمر بذبحه يقع تطوعا ثم استدل المصنف عليه بقول التابعين وقول من نعلمه قاله منهم مطلق والظاهر أنهم أيضا أخذوه من قوله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } إذ لا سنة ثابتة في ذلك من روايتهم روى الطحاوي
____________________
(3/15)
عن سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد والنخعي أن التمتع إذا رجع بعد العمرة بطل تمتعه وكذا ذكر الرازي في كتاب أحكام القرآن والذي يظهر من مقتضى الدليل أن لا تمتع لأهل مكة ولا قران وأن رجوع الآفاقي إلى أهله ثم عوده وحجه من عامه لا يبطل تمتعه مطلقا وهذا لأن الله تعالى قيد جواز التمتع بعدم الإلمام بالأهل القاطنين بالمسجد الحرام أي مكة ومن ألحق بأهلها بقوله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } فأفاد ما نعية الإلمام عن التمتع وعليته لعدم الجواز بقيد كونه في مكة فتعدية المنع بتعدية الإلمام إلى ما بغير حاضري المسجد الحرام من الأهل تبتنى على إلغاء قيد الكون بالمسجد الحرام واعتبار المؤثر مطلق الإلمام وصحته تتوقف على عقلية عدم دخول القيد في التأثير وكونه طرديا والواقع خلافه للعلم بأن حصول الرفق التام بشرعية العمرة في أشهر الحج المنتهض مؤثرا في إيجاب الشكر إذا حج في تلك الأشهر التى اعتمر فيها إنما هو للآفاقي لا لحاضري المسجد الحرام القاطنين فيه لأنهم لا يلحقهم من المشقة نحو ما يلحق الآفاقى بمنع العمرة في أشهر الحج بخلاف الآفاقى فكان فائدة شرعية العمرة فيها في حق الآفاقى هو الظاهر فناسب أن يخص هو بشرعية التمتع فكان قيد حضور الأهل في الحرم ظاهر الاعتبار في المنع من التمتع فلا يجوز إلغاؤه والله سبحانه أعلم قوله ومالك يعتبر الإتمام في أشهر الحج أي في كونه متمتعا إذا حج من عامه فالمذاهب ثلاثة مذهبنا يصير متمتعا إذا أدى أكثر أفعال العمرة في أشهر الحج وإن أحرم بها قبلها ومذهب مالك إذا أتمها فيها وإن فعل الأكثر خارجها ومذهب الشافعي لا يصير متمتعا حتى يحرم بالعمرة في أشهر الحج وهو بناء على أن الإحرام ركن وعندنا هو
____________________
(3/16)
شرط فلا يكون من مسمى العمرة هذا وهل يشترط في القران أيضا أن يفعل أكثر أشواط العمرة في أشهر الحج ذكر في المحيط أنه لا يشترط وكأنه مستند في ذلك إلى ما قدمناه عن محمد رحمه الله فيمن أحرم بهما ثم قدم مكة وطاف لعمرته في رمضان أنه قارن ولا هدي عليه وتقدم أنه غير مستلزم لذلك وأن الحق اشتراط فعل أكثر العمرة في أشهر الحج لما قدمناه قوله كذا روى عن العبادلة الثلاثة وعبد الله بن الزبير العبادلة في عرف أصحابنا
____________________
(3/17)
عبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر وعبدالله بن عباس رضى الله عنهم وفي عرف غيرهم أربعة أخرجوا ابن مسعود وأدخلوا ابن عمرو بن العاص وابن الزبير قاله أحمد بن حنبل وغيره وغلطوا صاحب الصحاح إذ أدخل ابن مسعود وأخرج ابن عمرو بن العاص قيل لأن ابن مسعود تقدمت وفاته وهؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم ولا يخفى أن سبب غلبه لفظ العبادلة في بعض من سمى بعبد الله من الصحابة دون غيرهم مع أنهم نحو مائتى رجل ليس إلا لما يؤثر عنهم من العلم وابن مسعود أعلمهم ولفظ عبدالله إذا أطلق عند المحدثين انصرف إليه فكان اعتباره من مسمى لفظ العبادلة أولى من الباقين ولو سلم أنه لا غلبة في اعتباره جزء المسمى فلا مشاحة في وضع الألفاظ ثم حديث ابن عمر أخرجه الحاكم وصححه وعلقه البخارى وحديث ابن عباس أخرجه الدار قطنى وكذا أخرجه أيضا عن ابن مسعود وأخرجه ابن أبى شيبة أيضا وحديث ابن الزبير أخرجه الدار قطني عنه قال أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة إن هذه الأشهر ليست أشهر العمرة إنما هى للحج وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء أيام منى وعن أبى يوسف أنه أخرج يوم النحر عنها فهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة واستبعد باستبعاد أن يوضع لأداء ركن عبادة وقت ليس وقتها ولا هو منه وفائدة كونه من أشهر الحج تظهر فيها لو قدم المحرم بالحج يوم النحر فطاف للقدوم وسعى وبقى على إحرامه إلى قابل فإنه لاسعي عليه عقيب طواف الزيارة لوقوع ذلك السعي معتدا به وأيضا لا يكره الإحرام بالحج فيه مع أنه يكره الإحرام بالحج في غير أشهر الحج وأيضا لو أحرم بعمرة يوم النحر فأتى بأفعالها ثم أحرم من يومه ذلك بالحج وبقى
____________________
(3/18)
محرما إلى قابل فحج كان متمتعا وهذا يعكر على ما تقدم ويوجب أن يوضع مكان قولهم وحج من عامه ذلك في تصوير التمتع وأحرم بالحج من عامه ذلك قوله فإن قدم الإحرام بالحج عليها لجاز لكنه يكره فقيل لأنه يشبه الشرط لعدم اتصال الأفعال والركن ولذا إذا أعتق العبد بعدما أحرم لا يتمكن من أن يخرج بذلك الإحرام عن الفرض فالجواز للشبه الأول والكراهة للثاني وقيل هو شرط والكراهة للطول المفضي إلى الوقوع في محظوره قوله أما الأول وهو ما إذا اتخذ مكة دارا حتى صار متمتعا بالاتفاق وأما الثاني وهو ما إذا اتخذ البصرة دارا فقيل هو بالاتفاق كالأول قاله الجصاص لأنه ذكره في الجامع الصغير من غير خلاف وقيل هو قول أبى حنيفة
____________________
(3/19)
وفي قولهما لا يكون متمتعا قاله الطحاوي والمسألة التى تأتى بعد هذه وهى ما إذا أفسد العمرة ترجح قول الطحاوى ومبنى الخلاف فيها على أن سفره الأول انتقض بقصد البصرة والنزول بها ونحوها كالطائف وغيره مما هو خارج المواقيت أولا فعندهما نعم فلا يكون متمتعا في الأولى لأنه لم يترفق بالنسكين في سفرة ويكون متمتعا في الثانية وهى ما إذا أفسد العمرة ثم اتخذ البصرة دارا ثم قدم بعمرة قضاء وحج من عامه لأن ذلك السفر انتهى بالفاسدة وهذا سفر آخر حصل فيه نسكين صحيحين وعنده لا فيكون متمتعا في الأولى لحصولهما صحيحين في سفرة ولا يكون متمتعا في الثانية لأنه لم يحصلهما صحيحين في السفرة الواحدة وتقييدهم بكونه اتخذ
____________________
(3/20)
البصرة ونحوها دارا اتفاقي بل لا فرق بين أن يتخذها دارا أولا صرح به في البدائع فقال فأما إذا عاد إلى غير أهله بأن خرج من الميقات ولحق بموضع لأهله القران والتمتع كالبصرة مثلا واتخذ هناك دارا أو لم يتخذ توطن بها أو لم يتوطن الخ وإذا رجعت إلى ما سمعت من قريب من أن من وصل إلى مكان كان حكمه حكم أهله إذا كان قصده إليه زال الريب
فروع لو عاد إلى أهله بعد ما طاف لعمرته قبل أن يحلق ثم حج من عامه فهو متمتع لأن العود مستحق عليه عند من جعل الحرم شرط جواز الحلق وهو أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله إن لم يكن مستحقا فهو مستحب كذا في البدائع وذكر بعده بنحو ورقتين فيمن اعتمر في أشهر الحج فقال وإن رجع إلى أهله بعد ما طاف أكثر طواف العمرة أو كله ولم يحل وألم بأهله محرما ثم عاد وأتم عمرته وحج من عامه فهو متمتع في قول أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد له أنه أدي العمرة بسفرتين وأكثرها حصل في السفر الأول وهذا يمنع التمتع ولهما أن إلمامه لم يصح بدليل أنه يباح له العود بذلك الإحرام لا بإحرام جديد فصار كأنه أقام بمكة ولو عاد بعد ما طاف ثلاثة أشواط ثم رجع فأتمها وحج من عامه كان متمتعا ولو أفسد العمرة ومضى فيها حتى أتمها ثم رجع إلى أهله ثم عاد وقضاها وحج من عامه فهو متمتع لأنه لما لحق بأهله صار من أهل التمتع وقد أتي به ولو أنه لما فرغ من الفاسدة لم يخرج أو لم يجاوز الميقات حتى قضى عمرته وحج لا يكون متمتعا لأنه حينئذ كواحد من أهل مكة حتى لو حج من عامه كان مسيئا وعليه لإساءته دم ولو خرج بعد إتمام الفاسدة إلى خارج المواقيت كالطائف ونحوه مما لأهله المتعة ثم رجع فقضى عمرته الفاسدة وحج من عامه فهو على الخلاف عنده ليس بمتمتع
____________________
(3/21)
لأنه على سفره الأول فكأنه لم يخرج من مكة فحين فرغ من الفاسدة لزمه أن يقضيها من مكة لأنه من أهل مكة فلما خرج ثم أحرم بها فقضاها صار ملما بأهله كما فرغ فيبطل تمتعه كالمكي إذا خرج ثم عاد فاعتمر ثم حج من عامه وعندهما متمتع لانتهاء سفره الأول فهو حين عاد آفاقي فعلهما في أشهر الحج هذا إذا اعتمر في أشهر الحج وأفسدهما فأما إذا كان اعتمر قبل أشهر الحج وأفسدها وأتمها على الفساد فإن لم يخرج من الميقات حتى دخل أشهر الحج فقضى عمرته فيها ثم حج من عامه فليس بمتمتع اتفاقا وهو كمكي تمتع فيكون مسيئا وعليه دم فلو عاد إلى غير أهله إلى موضع لأهله المتعة ثم عاد بإحرام العمرة ثم عاد فقضاها في أشهر الحج ثم حج من عامه ففي قول أبي حنيفة هذا على وجهين في وجه يكون متمتعا وهو ما إذا رأي هلال شوال خارج المواقيت وفي وجه لا يكون متمتعا وهو ما إذا رأي هلال شوال داخل المواقيت لأن في الوجه الأول أدركه أشهر الحج وهو من أهل التمتع وفي الثاني أدركته وهو ممنوع منه لأنه لا يزول المنع حتى يلحق بأهله وعندهما هو متمتع في الوجهين بناء على انقضاء السفرة الأولى بلحوقه بذلك الموضع فهو كما لو لحق بأهله هذا وكلام الأصحاب كله على أن الخروج إلى الميقات من غير مجاوزة بمنزلة عدم الخروج من مكة لأن أهل المواقيت في حكم حاضري المسجد الحرام حتى إنه ليس لهم تمتع ولا قران ويحل لهم دخول مكة بغير إحرام إذا لم يريدوا النسك إلا ما ذكر الطحاوي أنه بمنزلة العود إلى الأهل قال لو فرغ من عمرته وحل ثم ألم بأهله أو خرج إلي ميقات نفسه ثم عاد وأحرم بحجة من الميقات وحج من عامه لا يكون متمتعا بالإجماع لأن العود إلي ميقات نفسه ملحق بالأهل من وجه ولو خرج إلي غير ميقات نفسه ولحق بموضع لأهله المتعة اتخذ دارا أولا توطن أولا ثم أحرم من هناك وحج من عامه يكون متمتعا عند أبي حنيفة لعدم الإلحاق بالأهل من كل وجه وقالا لا يكون متمتعا اه والمعول عليه ما هو المشهور قوله لحديث عائشة رضي الله عنها في
الصحيحين عنها قالت خرجنا لا نري إلا الحج فلما كنا بسرف حضت فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال مالك أنفست قلت نعم قال إن هذا أمر كتبه الله علي بنات آدم فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري وأخرجا عن جابر رضي الله عنه قال أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج مفرد وأقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كنا بسرف عركت عائشة حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة وبالصفا والمروة فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي قال فقلنا حل ماذا قال الحل كله فواقعنا النساء وتطيبنا ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال ثم أهللنا يوم التروية ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة وهي تبكي فقال لها ما شأنك قالت شأني أني حضت وقد حل الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن قال إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج ففعلت ووقفت المواقف حتى إذا
____________________
(3/22)
طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة ثم قال قد حللت من حجتك وعمرتك جميعا قالت يارسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت قال فاذهب بها يا عبد الرحمن فاعمرها من التنعيم اه وقد يتمسك به من يكتفي لهما بطواف واحد وهو غير لازم ومعنى حللت من حجتك وعمرتك لا يستلزم الخروج منهما بعد قضاء فعل كل منهما بل يجوز ثبوت الخروج من العمرة قبل إتمامها ويكون عليها قضاؤها ألا ترى إلى قولها في الرواية الأخري في الصحيحين ينطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج فأقرها على ذلك ولم ينكر عليها وأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم وهذا لأنها إذا لم تطف للحيض حتى وقفت بعرفة صارت رافضة للعمرة وسكوته صلى الله عليه وسلم إلى أن سألته إنما يقتضي تراخي القضاء لا عدم لزومه أصلا قوله ولأن الطواف في المسجد يعني ولا يحل للحائض دخوله والحاصل أن حرمة الطواف من وجهين دخولها المسجد وترك واجب الطواف فإن الطهارة واجبة في الطواف فلا يحل لها أن تطوف حتى تطهر فإن طافت كانت عاصية مستحقة لعقاب الله تعالى ولزمها الإعادة فإن لم تعده كان عليها بدنة وتم حجها والله سبحانه أعلم وأحكم
____________________
(3/23)
& باب الجنايات بعد ذكر أقسام المحرمين شرع في بيان أحكام عوارض لهم وللحرم الجناية فعل محرم والمراد هنا خاص منه وهو ما تكون حرمته بسبب الإحرام أو الحرم قوله وإذا تطيب يفيد مفهوم شرطه أنه إذا شم الطيب لا كفارة عليه إذ ليس تطيبا بل التطيب تكلف جعل نفسه طيبا وهو أن يلصق ببدنه أو ثوبه طيبا وهو جسم له رائحة طيبة والزعفران والبنفسج والياسمين والغالية والريحان والورد والروس والعصفر طيب وعن أبى يوسف رحمه الله القسط طيب وفي الخطمي اختلافهم ولا فرق في المنع بين بدنه وإزاره وفراشه وعن أبى يوسف رحمه الله لا ينبغى للمحرم أن يتوسد ثوبا مصبوغا بالزعفران ولا ينام عليه ثم إن لم يكن على المحرم شيء بشم الطيب والرياحين لكن يكره له ذلك وكذا شم الثمار الطيبة كالتفاح وهى مختلفة بين الصحابة كرهه عمر وجابر وأجازه عثمان وابن عباس ولا يجوز له أن يشد مسكا في طرف إزاره ولا بأس بأن يجلس في حانوت عطار ولو دخل بيتا قد أجمر فيه فعلق بثوبه رائحة فلا شيء عليه بخلاف ما لو أجمره هو قالوا إن أجمر ثوبه يعنى بعد الإحرام فإن تعلق به كثير فعليه دم وإلا فصدقه وكان المرجع في الفرق بين الكثير والقليل العرف إن كان وإلا فما يقع عند المبتلى وما في المجرد إن كان في ثوبه شبر في شبر فمكث عليه يوما يطعم نصف صاع وإن كان أقل من يوم فقبضة يفيد التنصيص على أن الشبر في الشبر داخل في القليل وعلى تقدير الطيب في الثوب بالزمان ولا بأس بشم الطيب الذي تطيب به قبل إحرامه وبقائه عليه ولو انتقل بعد الإحرام من مكان إلى مكان من بدنه لا جزاء عليه اتفاقا إنما الخلاف فيما إذا تطيب بعد الإحرام وكفر ثم بقى عليه الطيب منهم من قال ليس عليه بالبقاء جزاء ومنهم من قال عليه لأن ابتداءه كان محظورا فكان كله محظورا فيكون لبقائه حكم ابتدائه بخلاف الأول والرواية توافقه في المنتقى هشام عن محمد إذا مس طيبا كثيرا فأراق له دما ثم ترك الطيب على حاله يجب عليه لتركه
____________________
(3/24)
دم آخر ولا يشبه هذا الذي تطيب قبل أن يحرم ثم أحرم وترك الطيب قوله فما زاد يفيد أنه لا فرق في وجوب الدم بين أن يطيب عضوا قال في المبسوط كاليد والساق ونحوهما وفي الفتاوى كالرأس والساق والفخذ أو أزيد إلى أن يعم كل البدن ويجمع المفرق فإن بلغ عضوا فدم وإلا فصدقه فإن كان قارنا فعليه كفارتان للجاية على إحرامين ثم إنما تجب كفارة واحدة بتطيب كل البدن إذا كان في مجلس واحد فإن كان في مجالس فالكل طيب كفارة كفر للأول أولا عندهما وقال محمد عليه كفارة واحدة مالم يكفر للأول وإن داوى قرحة بدواء فيه طيب ثم خرجت قرحة أخرى فداواها مع الأولى فليس عليه لا كفارة واحدة مالم تبرإ الأولى ولا فرق بين قصده وعدمه في المبسوط استلم الركن فأصاب يده أو فمه خلوق كثير فعليه دم وإن كان قليلا فصدقه وهل يشترط بقاؤه عليه زمانا أولا في المنتقى إبراهيم عن محمد رحمه الله إذا أصاب المحرم طيبا فعليه دم فسألته عن الفرق بينه وبين لبس القميص لا يجب الدم حتى يكون أكثر اليوم قال لأن الطيب يعلق به فقلت وإن اغتسل من ساعته قال وإن اغتسل من ساعته وفيه هشام عن محمد خلوق البيت والقبر إذا أصاب ثوب المحرم فحكه فلا شيء عليه وإن كان كثيرا وإن أصاب جسده منه كثير فعليه الدم اه وهذا يوجب التردد وفي الكافى للحاكم الذي هو جمع كلام محمد إن مس فإن لزق به تصدق بصدقه فإن لم يلزق به فلا شيء عليه إلا أن يكون ما لزق به كثيرا فاحشا فعليه دم وفي الفتاوى لا يمس طيبا بيده وإن كان لا يقصد به التطيب واعلم أن محمدا قد أشار إلى اعتبار الكثرة في الطيب والقلة في الدم والصدقة قال في باب إن كان كثيرا فاحشا فعليه دم وإن كان قليلا فصدقه كما صرح باعتبارهما في العضو وبعضه ووفق شيخ الإسلام وغيره بينهما بأنه إن كان كثيرا ككفين من ماء الورد وكف من الغالية وفي المسك ما يستكثره الناس ففيه الدم وإن كان في نفسه قليلا وهو ما يستقله الناس فالغبرة لتطييب عضوبه وعدمه فإن طيب به عضوا كاملا ففيه دم وإلا فصدقه وإنما اعتبر الهندوانى الكثرة والقلة في نفسه والتوفيق هو التوفيق قوله ونحن نذكر الفرق أى بين حلق ربع الرأس وتطييب ربع العضو وهو ما ذكر قريبا وسننبه عليه عند ذكره وما في النوادر عن أبى يوسف إن طيب شاربه كله أو بقدره من لحيته فعليه دم تفريع على ما في المنتقى قوله إلا في موضعين مواضع البدنة أربعة من طاف الطواف المفروض جنبا أو حائضا أو نفساء أو جامع بعد الوقوف بعرفه لكن القدوري اقتصر على الأول والأخير كأنه اعتمد على استعلام لزوم البدنة في الحائض والنفساء بالدلالة من
____________________
(3/25)
الجنب إما لأن الأحداث متساوية في الغلط أو لأنهما أغلط ألا ترى أنهما يمنعان قربان الزوج بخلاف جنابتها قوله إلا ما يجب بقتل القملة والجرادة فإنه يتصدق بما شاء قوله فإن خضب رأسه بحناء منونا لأنه فعال لا فعلاء ليمنع صرفه ألف التأنيث فعليه دم وكذا إذا خضبت امرأة يدها لأن له رائحة مستلذة وإن لم تكن ذكية قال صلى الله عليه وسلم الحناء طيب رواه البيهقى وغيره وفي سنده عبدالله بن لهيعة وعزاه صاحب الغاية إلى النسائي ولفظه نهى المعتدة عن التكحل والدهن والخضاب بالحناء وقال الحناء طيب وهذا إذا كان مائعا فإن كان ثخينا فلبد الرأس ففيه دمان للكيب والتغطية ولا يخفى أن ذلك داوم يوما أو ليلة على جميع رأسه أو ربعه وكذا إذا غلف الوسمة قوله وهذا صحيح أي فينبغي أن لا يكون فيه خلاف لأن التغطية موجبة بالاتفاق غير أنها للعلاج فلهذا ذكر الجزاء ولم يذكر الدم وعلى هذا فما في الجوامع إن لبد رأسه فعليه دم والتلبيد أن يأخذ شيئا من الخطمي والآس والصمغ فيجعله في أصول الشعر ليتلبد وما ذكر رشيد الدين البصروي في مناسكه من قوله وحسن أن يلبد رأسه قبل الإحرام للتغطية مشكل لأنه لا يجوز استصحاب التغطية الكائنة قبل الإحرام بخلاف التطيب وفي سين الوسمة الإسكان والكسر وهو نبت يصبغ بورقه فإن لم يغلف فلا شيء عليه كالغسل بالأشنان والسدر وعن أبى حنيفة فيه صدقة لأنه يلين الشعر ويقتل الهوام قوله فإن ادهن بزيت خصه من بين الأدهان التي لا رائحة لها ليفيد بمفهوم اللقب نفى الجزاء فيما عداه من الأدهان كالشحم والسمن
____________________
(3/26)
ولا بد على هذا من كونه عمم الزيت في الحل فإنه ذكر الحل كالزيت في المبسوط قوله ولأبى حنيفة أنه أصل الطيب ولا يخلو عن نوع طيب ويقتل الهوام الخ لما كان الواجب الدم عينا باعتبار أن وضع المسألة فيما إذا دهن كله أو عضوا لم يكتف بالتعليل بأنه أصل الطيب إلحاقا بكسر بيض فإن الواجب فيه قيمته فاحتاج إلى جعله جزء علة في لزوم الدم ومن اكتفى بذلك كصاحب المبسوط فقصد الإلحاق في لزوم الدم في الجزاء في الجملة احتجاجا على الشافعي فيما إذا استعمله في غير الشعر من بدنه فإنه حكى خلافه ثم أعقبه بهذا الاستدلال وفيه نظر فإنه ذكر وجه قول أبى حنيفة بعد حكاية قول الصاحبين في لزوم الصدقة وقول الشافعي وقال فيه فيجب باستعمال أصل الطيب ما يجب باستعمال الطيب ككسر بيض الصيد ومعنى كونه أصل الطيب أنه يلقى فيه الأنوار كالورد والبنفسج فيصير نفسه طيبا قوله وهذا الخلاف في الزيت البحت أي الخالص والحل البحت هو بالمهملة الشيرج أما المطيب منه وهو ما ألقى فيه الأنوار كالزنبق بالنون وهو الياسمين ودهن البان والورد فيجب باستعماله بالاتفاق الدم إذا كان كثيرا قوله وهذا إذا استعمله أي الزيت الخالص أو الحل لما لم يكن طيبا كاملا اشترط في لزوم الدم بهما استعمالهما على وجه التطيب فلو أكلهما أو داوى بهما شقوق رجليه أو أقطر في أذنيه لا يجب شيء ولذا جعل المنفي الكفارة لينتفي الدم والصدقة بخلاف المسك وما أشبهه من العنبر والغالية والكافور حيث يلزم الجزاء بالاستعمال على وجه التداوي لكنه يتخير إذا كان لعذر بين الدم والصوم والإطعام على ما سيأتي وكذا إذا أكل الكثير من الطيب وهو ما يلزق بأكثر فمه فعليه الدم وهذه تشهد بعدم اعتبار العضو مطلقا في لزوم الدم بل ذاك إذا لم يبلغ مبلغ الكثرة في نفسه على ما ذكرناه آنفا ثم الأكل الموجب أن يأكله كما هو فإن جعله في طعام قد طبخ كالزعفران والأفاويه من الزنجبيل والدار صيني يجعل في الطعام فلا شيء عليه فعن ابن عمر أنه كان يأكل السكباج الأصفر وهو محرم وإن لم يطبخ بل خلطه بما يؤكل بلا طبخ كالملح وغيره فإن كانت رائحته موجودة كره ولا شيء عليه إذا كان مغلوبا فإنه كالمستهلك أما إذا كان غالبا فهو كالزعفران الخالص لأن اعتبار الغالب عدما عكس الأصول والمعقول فيجب الجزاء وإن لم تظهر رائحته ولو خلطه بمشروب وهو غالب ففيه الدم وإن كان مغلوبا فصدقه إلا أن يشرب مرارا فدم فإن كان الشرب تداويا تخير في خصال الكفارة وفي المبسوط فيما إذا اكتحل بكحل فيه طيب عليه صدقه إلا أن يكون كثيرا فعليه دم وما في فتاوى قاضيخان إن اكتحل بكحل فيه طيب مرة أو مرتين فعليه الدم في قول أبى حنيفة
____________________
(3/27)
يفيد تفسير المراد بقوله إلا أن يكون كثيرا أنه الكثرة في الفعل لا في نفس الطيب المخالط فلا يلزم الدم بمرة واحدة وإن كان الطيب كثيرا في الكحل ويشعر بالخلاف لكن ما في كافي الحاكم من قوله فإن كان فيه طيب يعنى الكحل ففيه صدقة إلا أن يكون ذلك مرارا كثيرة فعليه دم لم يحك فيه خلافا ولو كان لحكاه ظاهرا كما هو عادة محمد رحمه الله اللهم إلا أن يجعل موضع الخلاف ما دون الثلاث كما يفيده تنصيصه على المرة والمرتين وما في الكافي المرار الكثير هذا فإن كان الكحل عن ضرورة تخير في الكفارة وكذا إذا تداوى باواء فيه طيب فألزقه بجراحته أو شربه شربا وفي الفتاوى لو غسل بأشنان فيه طيب فإن كان من رآه سماه أشنانا فعليه الصدقة وإن سماه طيبا فعليه الدم اه ولو غسل رأسه بالخطمي فعليه دم عند أبى حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد عليه الصدقة لأنه ليس طيبا لكنه يقتل الهوام وله منع نفى الطيب مطلقا بل له رائحة وإن لم تكن ذكية فكان كالحناء مع قتله الهوام فتتكامل الجناية فيلزمه الدم وعن أبى يوسف ليس فيه شيء وأول بما إذا غسل به بعد الرمي يوم النحر لأنه أبيح له حلق رأسه وعنه في أخرى أن عليه دمين للتطيب والتغليف قيل قول لأبى حنيفة في خطمي العراق وله رائحة وقولهما في خطمى الشام ولا رائحة له فلا خلاف وقيل بل الخلاف في العراقي ولو غسل بالصابون أو الحرض لا رواية فيه وقالوا لا شيء فيه لأنه ليس بطيب ولا يقتل قوله وإن لبس ثوبا مخيطا الخ لا فرق في لزوم الدم بين ما إذا أحدث اللبس بعد الإحرام أو أحرم وهو لا بسه فدام يوما أو ليلة عليه بخلاف انتفاعه بعد الإحرام بالطيب السابق عليه قبله للنص فيه ولولاه لأوجبنا فيه أيضا ولا فرق بين كونه مختارا في اللبس أو مكرها عليه أو نائما فغطى إنسان رأسه ليلة أو وجهه حتى يجب الجزاء على النائم لأن الارتفاق حصل له وعدم الاختيار أسقط الإثم عنه لا الموجب على ما عرف تحقيقه في مواضع والتقييد بثوب في قوله وإن لبس ثوبا مخيطا ليس بمعتبر المفهوم بل لو جمع اللباس كله القميص والعمامة والخفين يوما كان عليه دم واحد كالإيلاجات في الجماع لأنه لبس واحد وقع على جهة واحدة وعلى القارن دمان فيما على المفرد فيه دم وكذا لو دام على ذلك أياما أو كان ينزعها ليلا ويعاود لبسها نهارا أو يلبسها ليلا للبرد وينزعها نهارا مالم يعزم على الترك عند الخلع فإن عزم عليه ثم لبس تعدد الجزاء وإن كان كفر للأول بالاتفاق لأنه لما كفر للأول التحق بالعدم فيعتبر اللبس الثاني لبسا مبتدأ وإن لم يكن كفر للأول فعليه كفارتان عند أبى حنيفة وأبى يوسف وفي قول محمد كفارة واحدة بناء على أنه مالم يكفر فاللبس على حاله فهو واحد بخلاف ما إذا كفر على ما قررنا وهما يقولان لما نزع على عزم الترك فقطع حكم اللبس الأول فتعين الثاني مبتدأ فالحاصل أن النزع مع عزم الترك يوجب اختلاف اللبسين عندهما وعنده الكفير ولو لبس يوما فأراق دما ثم دام على لبسه يوما آخر كان عليه دم آخر بلا خلاف لأن الدوام على اللبس كابتدائه بدليل ما لو أحرم وهو مشتمل على
____________________
(3/28)
المخيط فدام عليه بعد الإحرام يوما إذ عليه الدم واعلم أن ما ذكرناه من اتحاد الجزاء إذا لبس جميع المخيط محله ما إذا لم يتعدد سبب اللبس فإن تعدد كما إذا اضطر إلى لبس ثوب فلبس ثوبين فإن لبسهما على موضع الضرورة فعليه كفارة واحدة يتخير فيها وكذلك نحو أن يضطر إلى لبس قميص فلبس قميصين أو قميصا وجبة أو اضطر إلى لبس قلنسوة فلبسها مع عمامة وإن لبسهما على موضعين موضع الضرورة وغيرها كالقلنسوة مع القميص في الوجه الأول والثاني كان عليه كفارتان يتخير في إحداهما وهى ما الضرورة والأخرى لا يتخير فيها وهى ما لغيرها ومن صور تعدد السبب واتحاده ما إذا كان به مثلا حمى يحتاج إلى اللبس لها ويستغنى عنه في وقت زوالها فإن عليه كفارة واحدة وإن تعدد اللبس مالم تزل عنه فإن زالت وأصابه مرض آخر أو حمى غيرها وعرف ذلك فعليه كفارتان سواء كفر للأولى أو لا عندهما وعند محمد كفارة واحدة مالم يكفر للأولى فإن كفر فعليه أخرى وكذا إذا حصره عدو فاحتاج إلى اللبس للقتال أياما يلبسها إذا خرج إليه وينزعها إذا رجع فعليه كفارة واحدة مالم يذهب هذا العدو فإن ذهب وجاء عدو غيره لزمه كفارة أخرى والأصل في جنس هذه المسائل أنه ينظر إلى اتحاد الجهة واختلافها لا إلى ضرورة اللبس كيف كانت ولو لبس للضرورة فزالت فدام بعدها يوما أو يومين فما دام في شك من زوال الضرورة ليس عليه إلا كفارة واحدة وإن تيقن زوالها فاستمر كان عليه كفارة أخرى لا يتخير فيها قوله وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة في خزانة الأكمل في ساعة نصف صاع وفي أقل من ساعة قبضة من بر قوله فلا بد من اعتبار المدة ليحصل على الكمال يتضمن منع قول الشافعي إن الارتفاق يتكامل بالإشتمال بل مجرد الاشتمال ثم النزع في الحال لا يجد الإنسان به ارتفاقا فضلا عن كماله وقوله في وجه التقدير بيوم لأنه يلبس فيه ثم ينزع عادة يفيد أنه لا يقتصر على اليوم بل لبس الليلة الكاملة كاليوم لجريان المعنى المذكور فيه ونص عليه في الأسرار وغيره قوله غير أن أبا يوسف أقام الأكثر مقام الكل كما اعتبره في كشف العورة في الصلاة وعن محمد في لبس بعض اليوم قسطه من الدم كثلث اليوم
____________________
(3/29)
فيه ثلث الدم وفي نصفه نصفه وعلى هذا الاعتبار يجرى قوله لأنه لم يلبسه لبس المخيط أن يحصل بواسطة الخياطة اشتمال على البدن واستمساك فأيهما انتفى لبس المخيط ولذا قلنا فيما لو أدخل منكبيه في القباء دون أن يدخل يديه في الكمين أنه لا شيء عليه وكذا إذا لبس الطيلسان من غير أن يزره عليه لعدم الاستمساك بنفسه فإن زر القباء أو الطيلسان يوما لزمه دم لحصول الاستمساك بالزر مع الاشتمال بالخياطة بخلاف ما لو عقد الرداء أو شد الإزار بحبل يوما كره له ذلك للشبه بالمخيط ولا شيء عليه لانتفاء الاشتمال بواسطة الخياطة وفي إدخال المنكبين القباء خلاف زفر ولا بأس أن يفتق السراويل إلى موضع التكة فيأتزر به وأن يلبس المكعب الذي لا يبلغ الكعب إذا كان في وسط القدم لأن الحاصل حينئذ هو الحاصل من قطع الخفين أسفل من الكعبين وقد ورد النص بإطلاق ذلك بخلاف الجورب فإنه كالخف فلبسه يوما موجب للدم قوله ولو غطى بعض رأسه فالمروى عن أبى حنيفة اعتبار الربع إن بلغ قدر الربع فدام يوما لزمه دم اعتبارا بالحلق والعورة حيث يلزم الدم بحلق ربع الرأس أو اللحية وفساد الصلاة بكشف ربع العورة وقوله وهذا لأن ستر البعض استمتاع مقصود يعتاده بعض الناس يصلح إبداء للجامع أي العلة التي بها وجب في حلق الربع الدم وهى الارتفاق به على وجه الكمال وإن كان هناك أكمل منه ثابتة في تغطية البعض ولذا يعتاده بعض الناس وإنما يعتاده تحصيلا للارتفاق وإلا كان عبثا وإن كان الجامع هذا فلا يصح اعتبار العورة أصلا لانتفاء هذا الجامع إذ ليس فساد الصلاة بانكشاف الربع لذلك بل لعدة كثيرا عرفا وليس الموجب هذا هنا ألا ترى أن أبا حنيفة لم يقل بإقامة الأكثر مقام الكل في اليوم أو الليلة الواقع فيهما التغطية واللبس لأن النظر هنا ليس إلا لثبوت الارتفاق كاملا وعدمه وكذا إذا غطى ربع وجهه أو غطت المرأة ربع وجهها قوله وعن أبى يوسف أنه يعتبر أكثر الرأس اعتبارا للحقيقة ولم يذكر لمحمد قولا ونقل في البدائع عن نوادر ابن سماعة عن محمد رحمه الله
____________________
(3/30)
عين هذا القول ولم يحك خلافا في الأصل وهذا القول أوجه في النظر لأن المعتبر الارتفاق الكامل واعتياد تغطية البعض دليل على تحصيله به لكن ذلك البعض المعتاد ليس هو الربع فإن ما يفعله من نعلم من اليمانيين الذين يلبسون السرقوج يشدونه تحت الحنك تغطية البعض الذي هو الأكثر فإن البادي منهم هو الناصية ليس غير ولعل تغطية مجرد الربع فقط على وجه يستمسك مما لم يتحقق إلا أن يكون نحو جبيرة تشد وحينئذ ظهر أن ما عينه جامعا في الحلق غير صحيح لأن العلة في الأصل حصول الارتفاق كاملا بحلق الربع بدليل القصد إليه على وجه العادة والثابت في الفرع الاعتياد بتغطية البعض الذي هو الأكثر لا الأقل وهو الدليل على الارتفاق به فلم يتحد في الأصل والفرع ولذا لم يعين المصنف رحمه الله الفرع سوى مطلق البعض فإن عنى به الربع منعنا وجوده في الفرع ومن فروع اعتبار الربع ما لو عصب المحرم رأسه بعصابة أو وجهه يوما أو ليلة فعليه صدقة إلا أن يأخذ قدر الربع ولو عصب موضعا آخر من جسده لا شيء عليه وإن كثر لكنه يكره من غير عذر كعقد الإزار وتخليل الرداء لشبه المخيط بخلاف لبس المرأة القفازين لأن لها أن تستر بدنها بمخيط وغيره فلم يكره لها ولا بأس أن يغطى أذنيه وقفاه ومن لحيته ما هو أسفل من الذقن بخلاف فيه وعارضه وذقنه ولا بأس أن يضع يده على أنفه دون ثوب وعلى القارن في جميع ما تقدم أن فيه دما أو صدقة دمان أو صدقتان لما سنذكر قوله ولنا أن حلق بعض الرأس الخ هذا هو الفرق الموعود بين حلق الربع وتطيب الربع وقوله لأنه معتاد صريح في أن الحكم بحصول كمال الارتفاق بذلك البعض مستدل عليه بالقصد إليه على وجه الاعتياد وقدمنا ما يغنى فيه وممن يفعله بعض الأتراك والعلوية فإنهم يحلقون نواصيهم فقط وكذا حلق بعض اللحية معتاد بأرض العراق والعرب وبعض أهل المغرب إلا أن في هذا احتمال أن فعلهم للراحة أو الزينة فتعتبر فيه الكفارة احتياطا لأن هذه الكفارة مما يحتاط في إثباتها بدليل لزومها مع الأعذار وقوله لأنه غير مقصود يعنى العادة أن كل من مس طيبا لقصد التطيب كماء ورد أو طيب عمم به يديه مسحا بل ويمسح بفضله وجهه أيضا بخلاف الاقتصار على بعضه فإنما يكون غالبا عند قصد مجرد إمساكه للحفظ أو للملاقاة من غير قصد أو لغاية القلة في الطيب نفسه فتتقاصر الجناية فيما دون العضو فتجب الصدقة ثم ما ذكر من أن في حلق ربع الرأس أو اللحية دما من غير خلاف موافق لعامة الكتب وهو المصحح لا ما في جامعي شمس الأئمة وقاضيخان أن على قولهما في الجميع الدم وفي
____________________
(3/31)
الأقل منه الطعام وعن أبى يوسف أن في حلق الأكثر الدم وعن محمد رحمه الله يجب الدم بحلق العشر لأنه يقدر به الأشياء الشرعية فيقام مقام الكل احتياطا هذا فلو كان أصلع على ناصيته أقل من ربع شعرها فإنما فيه صدقة وكذا لو حلق كل رأسه وما عليه أقل من ربع شعره وإن كان عليه قدر ربع شعره لو كان شعر رأسه كاملا ففيه دم وعلى هذا يجيء مثله فيمن بلغت لحيته الغاية في الخفة وفي المرغيناني حلق رأسه وأراق دما ثم حلق لحيته وهو في مقام واحد فعليه دم آخر ولو حلق رأسه ولحيته وإبطيه وكل بدنه في مجلس واحد فدم واحد وإن اختلفت المجالس فلكل مجلس موجب جنايته فيه عندهما وعند محمد دم واحد وإن اختلفت المجالس مالم يكفر للأول وتقدم في الطيب مثله اعتبره بما لو حلق في مجلس ربع رأسه وفي آخر ربعا آخر حتى أتمها في أربعة مجالس يلزمه دم واحد اتفاقا مالم يكفر للاول والفرق لهما أن هذه جناية واحدة وإن تعددت المجالس لاتحاد محلها وهو الرأس هذا فأما ما في مناسك الفارسي من قوله وما سقط من شعرات رأسه ولحيته عند الوضوء لزمه كف من طعام إلا أن تزيد على ثلاث شعرات فإن بلغ عشرا لزمه دم وكذا إذا خبز فاحترق ذلك غير صحيح لما عملت من أن القدر الذي يجب فيه الدم هو الربع من كل منهما نعم في الثلاث كف من طعام عن محمد وهو خلاف ما في فتاوى قاضيخان قال وإن نتف من رأسه أو أنفه أو لحيته شعرات ففي كل شعرة كف من طعام وفي خزانة الأكمل في خصلة نصف صاع قوله لأنها عضو مقصود بالحلق يفعل ذلك كثير من الناس للراحة والزينة قوله وإن حلق الإبطين أو أحدهما فعليه دم المعروف هذا الإطلاق وفي فتاوى قاضيخان في الإبط إن كان كثير الشعر يعتبر فيه الربع لوجوب الدم وإلا فالأكثر قوله وقال أبو يوسف ومحمد تخصيص قولهما ليس
____________________
(3/32)
لخلاف أبى حنيفة بل لأن الرواية في ذلك محفوظة عنهما وقوله أراد به الساق والصدر وما أشبه ذلك تفسير المراد بما هو أخص من مؤدى اللفظ ليخرج بذلك الرأس واللحية فإن في الربع من كل منهما الدم بخلاف هذه الأعضاء والفارق العادة ثم جعله الصدر والساق مقصودين بالحلق موافق لجامع فخر الإسلام مخالف لما في المبسوط ففيه متى حلق عضوا مقصودا بالحلق فعليه دم وإن حلق ما ليس بمقصود فصدقة ثم قال ومما ليس بمقصود حلق شعر الصدر والساق ومما هو مقصود حلق الرأس والإبطين وهذا أوجه وقوله لأنه مقصود بطريق التنور مدفوع بأن القصد إلى حلقهما إنما هو في ضمن غيرهما إذ ليست العادة تنوير الساق وحده بل تنوير المجموع من الصلب إلى القدم فكان بعض المقصود بالحلق نعم كثيرا ما يعتادون تنوير الفخذ مع ما فوقه دون الساق وقد يقتصر على العانة أو مع الصلب وإنما يفعل هذا للحاجة أما الساق وحده فلا فالحق أن يجب في كل منهما الصدقة واعلم أنه يجمع المتفرق في الحلق كما في الطيب قوله فإن أخذ من شاربه أو أخذه كله أو حلقه فعليه طعام هو حكومة عدل بأن ينظر إلى المأخوذ ما نسبته من ربع اللحية فيجب بحسابه فإن كان مثل ربع ربعها لزمه قيمة ربع الشاة أو ثمنها فثمنها وهكذا وفي المبسوط خلاف هذا قال ولم يذكر في الكتاب ما إذا حلق شاربه وإنما ذكر إذا أخذ من شاربه فعليه الصدقة فمن أصحابنا من يقول إذا حلق شاربه يلزمه الدم لأنه مقصود بالحلق تفعله الصوفية وغيرهم والأصح أنه لا يلزمه الدم لأنه طرف من اللحية وهو مع اللحية كعضو واحد وإذا كان الكل عضوا واحدا لايجب بما دون الربع منه الدم والشارب دون الربع من اللحية فتكفيه الصدقة في حلقه اه وما في الهداية إنما يظهر تفريعه على قول محمد في تطيبب بعض العضو حيث قال يجب بقدره من الدم أما على ما عرف من جادة ظاهر المذهب وهو أن مالم يجب فيه الدم تجب فيه الصدقة مقدرة بنصف صاع إلا فيما يستثنى فلا ثم على تقدير التفريع على قول محمد فالواجب أن ينظر إلى نسبة المأخوذ من
____________________
(3/33)
ربع اللحية معتبرا معها الشارب كما يفيده ما في المبسوط من كون الشارب طرفا من اللحية هو معها عضو واحد لا أنه ينسب إلى ربع اللحية غير معتبر الشارب معها فصلى هذا إنما يجب ربع قيمه الشاة إذا بلغ المأخوذ من الشارب ربع المجموع من اللحية مع الشارب لا دونه وإذا أخذ المحرم من شارب حلال أطعم ما شاء قوله ولفظة الأخذ تدل على أنه هو السنة فيه دون الحلق يشير الى خلاف ما ذكر الطحاوي في شرح الآتار حيث قال القص حسن وتفسيره أن يقص حتى ينتقص عن الإطار هو بكسر الهمزة ملتقى الجلدة واللحم من الشفة وكلام المصنف على أن يحاذيه ثم قال الطحاوي والحلق أحسن وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد والمذهب عند بعض المتأخرين من مشايخنا أن السنة القص اه فالمصنف إن حكم بكون المذهب القص أخذا من لفظ الأخذ في الجامع الصغير فهو أعم من الحلق لأن الحلق أخذ والذي ليس أخذا هو النتف فإن ادعى أنه المتبادر لكثرة استعماله فيه منعناه وإن سلم فليس المقصود في الجامع هنا بيان أن السنة هو القص أولا بل بيان ما في إزالة الشعر على المحرم ألا ترى أنه ذكر في الإبط الحلق ولم يذكر كون المذهب فيه استنان الحلق فعلم أن المقصود ذكر ما يفيد الإزالة بأي طريق حصلت لتعيين حكمه وأما الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام خمس من الفطرة الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الآباط فلا ينافي ما يريده بلفظ الحلق فإن المراد منه المبالغة في الاستئصال عملا بقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين أحفوا الشوارب وهو المبالغة في القطع وبأي شيء حصل حصل المقصود غير أنه بالحلق بالموسى أيسر منه بالمقصة وقد يكون بالمقصة أيضا مثله وذلك بخاص منها يضع للشارب فقط فقول الطحاوي الحق أحسن من القص يريد القص الذي لم يبلغ ذلك المبلغ في المبالغة فإن عند أهل الصناعة قص يسمونه قص حلاقة قوله لأنه لا يتوسل إلى المقصود إلا به يفيد أنه إذا لم تترتب الحجامة على حلق موضع المحاجم لا يجب الدم لأنه أفاد أن كونه مقصودا إنما هو للتوسل به إلى الحجامة فإذا لم تعقبه الحجامة لم يقع وسيلة فلم يكن مقصودا فلا يجب إلا الصدقة وعبارة
____________________
(3/34)
شرح الكنز واضحة في ذلك حيث قال في دليلهما ولأنه قليل فلا يوجب الدم كما إذا حلقه لغي الحجامة وفي دليله أن حلقه لمن يحتجم مقصود وهو المعتبر بخلاف الحلق لغيرها فظهر لك أن التركيب الصالح في وجه قولهما عبارة شرح الكنز بخلاف تركيب الكتاب حيث قال الحجامة ليست بمحظورة فكذا ما يكون وسيلة إليها فإنه يفيد نفي حظر هذا الحلق للحجامة إذا لا تفعل الحجامة إلا للحاجة إلى تنقيص الدم فلا يكون الحلق محظورا ولازم هذا ليس إلا عدم وجوب الصدقة عينا بل يتخير بين ذلك والصوم وليس المقصود هذا بل لزوم الصدقة عينا بمعنى عدم دخول الدم في كفارة هذا الحلق خلافا لأبى حنيفة وعدم الحظر لا يستلزمه وقوله في وجه قول أبى حنيفة رحمه الله وقد وجد إزالة التفث عن عضو كامل يريد أن هذا الموضع في حق الحجامة كامل قوله وإن حلق رأس محرم الفاعل ضمير المحرم لأن الضمائر في الأفعال كلها مثل فإن خضب رأسه بالحناء فإن ادهن بزيت وإن لبس ثوبا مخيطا أو غطى رأسه للمحرم بعد ما صرح به في أول الباب إذ قال إذا تطيب المحرم ولهذا قال بعده وكذا إذا كان الحالق حلالا لايختلف الجواب في المحلوق رأسه إلا أن تعيين المحلوق رأسه بنفي اختلاف الجواب غير مفيد والحاصل أنه إما أن يكونا محرمين أو حلالين أو الحالق محرما والمحلوق رأسه حلالا أو قلبه وفي كل الصور على الحالق صدقة إلا أن يكونا حلالين وعلى المحلوق دم إلا أن يكون حلالا ولا يتخير فيه وإن كان بغير إرادته بأن يكون مكرها أو نائما لأنه عذر من جهة العباد بخلاف المضطر فإذا حلق الحلال رأس محرم فقد باشر قطع ما استحق الأمن بالأحرام إذ لا فرق لا تحلقوا حتى تحلوا وبين لا تعضدوا شجر الحرم فإذا استحق الشجر نفسه الأمن من هذه العبارة استحق الشعر أيضا الأمن فيجب بتفويته الكفارة بالصدقة وإذا حلق المحرم رأس حلال فالارتفاق الحاصل له برفع تفث غيره إذ لا شك في تأذى الإنسان بتفت غيره يجده من رأى ثائر الرأس شعثها وسخ الثوب تفل الرائحة وما سن غسل الجمعة بل ما كان واجبا إلا لذلك التأذى إلا أنه دون التأذى بتفت نفسه فقصرت الجناية فوجبت الصدقة والمصنف أجرى الوجه الأول في هذا وقد يمنع بأن استحقاق الشعر الأمن إنما هو بالنسبة إلى من قام به الإحرام حالقا أو محلوقا فإن خطاب لا تحلقوا للمحرمين فلذا خصصنا به الأول بقى أن المحرم إذا حلق رأس المحرم اجتمع فيه تفويت الأمن المستحق والارتفاق بإزالة
____________________
(3/35)
تفث غيره وقد كان كل منهما بانفراده موجبا للصدقة فربما يقال تتكامل الجناية بهذا الاجتماع فتقتضي وجوب الدم على الحالق كما قال أبو حنيفة في الادهان بالزيت البحت حيث أوجب الدم لاجتماع أمور لو انفرد كل منها لم يوجبه كتليين الشعر وأصالته للطيب وقتل الهوام فتكاملت الجناية بهذا الجملة فوجب الدم وتقرير الخلاف مع الشافعي ظاهر من الكتاب فمبنى عدم إلزام المحرم شيئا إذا كان غير مختار ما تقدم غير مرة في الصلاة والصوم من أن عدمه يسقط الحكم عنده وعندنا لا ومبنى عدمه عنده على الحالق مطلقا عدم الموجب أما إن كان حلالا فلأن الحلق غير محرم عليه وإن كان محرما فكذلك لأن الارتفاق لم يحصل له وهو الموجب عليه فإن قيل قد باشر أمرا محظورا وهو إعانة المحلوق المحرم على المعصية إن كان باختياره وبغير اختياره أولى قلنا المعاصي إنما هي أسباب لعقوبة الإحلال وليس كل معصية توجب جزاء في أحكام الدنيا إلا بالنص وهو منتف في الحالق فنقول أما الحلال فألحقناه بقاطع شجر الحرم بجامع تفويت أمن مستحق مستعقب للجزاء والواجب اتباع الدليل لا بقيد كونه نصا وأما المحرم فلأن المؤثر للجزاء في حقه هو نيل الارتفاق بقضاء التفث فإن كان على وجه الكمال كان الجزاء دما وإلا فصدقة وقيد الإضافة إلى نفسه ملغى إذ لم يثبت اعتباره وعقلية استقلال ما سواه ثابتة والحاصل أن نفسه محل والمحل لا يدخل في التعليل وإلا امتنع القياس فالأصل إلغاء المحال إلا أن يدل على قصد تخصيص الحكم به دليل لا مرد له خصوصا إذا لم يتوقف عليه مناسبة الماسب فيتعدى من نفسه إلى غيره إذا وعد فيه تمام المؤثر وقصورها ردها إلى الصدقة وقد يقال مباشرة الفعل الذي به قضاء التفث إن كان جزء العلة ولو حكما بأن يأذن المحرم في حلق رأسه لزم عدم الجزاء على النائم بحلق رأسه وإلا لزم الجزاء إذا نظر إلى ذي زينة مقضي التفث فإن اختير الثاني وادعى أن الارتفاق لا يحصل بمجرد رؤية كما قلنا بنفي الجزاء في مجرد اللبس لذلك عكره ما لو فرض طولها يوما مع محادثته وصحبته واستنشاق طيبه ولو كان إلى شيء لقلت باختيار الأول ونفى الجزاء عن النائم والمكره ولا يلزمني هذا في كل موضع كالصلاة وغيرها لأن الفساد فيها مثلا علق بمجرد وجود الكلام مثلا وهنا قد فرض تعليق الجزاء بالارتفاق الكائن عن مباشرة السبب ولو حكما
____________________
(3/36)
قوله فصار كالمغرور يعنى كما لا يرجع بالعفر على من غره بحرية من تزوج بها إذا ظهرت أمة بعد الدخول لأن بدله وهو ما ناله من اللذة والراحة حصل للمغرور فيكون البدل الآخر عليه دون الغار كذلك لا يرجع المحلوق رأسه على الحالق بغير إذن لأن سببه اختص به قوله فإن أخذ من شارب حلال أو قلم أظافيره أطعم ماشاء أما في الشارب فلا شك وأما في قلم الأظافير فمخالف لما في المبسوط فأصل الجواب في قص الأظفار هنا كالجواب في الحلق وفي المحيط أيضا قال عليه صدقة هذا وعن محمد رواية لا يضمن في قص الأظفار واعلم أن صريح عبارة الأصل في المبسوط وفي الكافي للحاكم في الحالق هكذا وإن حلق المحرم رأس حلال تصدق بشيء وإذا حلق المحرم رأس محرم آخر بأمره أو بغير أمره فعلى المحلوق دم وعلى الحالق صدقة اه وهذه العبارة إنما تقتضي لزوم الصدقة المقدرة بنصف صاع فيما إذا حلق رأس محرم وأما في الحلال فتقتضي أن يطعم أي شيء شاء كقولهم من قتل قملة أو جرادة تصدق بما شاء وإرادة المقدرة في عرف إطلاقهم أن يذكر لفظ صدقة فقط والله أعلم بحقيقة الحال ثم بعد التفصيل المذكور في الحالق قال والجواب في قص الأظفار كالجواب في الحلق وإن كان ما ذكرناه أنه مقتضى عرفهم في التعبير واقعا فيكون ذلك اللفصيل أيضا جاريا في قص الأظفار فيصدق ما في الهداية لأنه فرض الصورة في قلم أظفار الحلال قوله فإن قص أظافير يديه ورجليه فعليه دم لأنه
____________________
(3/37)
أكمل ارتفاق يكون بالقص وقص يد واحدة ارتفاق كامل ففيه الدم أيضا فقص الكل في مجلس واحد كلبس كل الثياب وحلق شعر كل البدن في مجلس لا يوجب غير دم واحد فإن كان في مجالس فكذا عند محمد أي دم واحد لأن مبنى هذه الكفارة على التداخل حتى لزم المحرم بقتل صيد الحرم قيمة واحدة مع الجناية على الإحرام والحرم فأشبهت كفارة الفطر في رمضان في أنه إذا تكررت الجنايات بالفطر ولم يكفر لواحدة منها لزمه كفارة واحدة وإن كفر للسابقة كفر للاحقة كذا هنا قوله وعلى قول أبى حنيفة وأبى يوسف عليه أربعة دماء إن قص في كل مجلس طرفا من أربعته لأن الغالب فيه معنى العبادة خرج الجواب عن كفارة الإفطار فيتقيد التداخل باتحاد المجلس غير أنه لا بد من إثبات هذه المقدمة والمثبت لها لزوم الكفارة شرعا مع الأعذار ومن المعلوم أن الأعذار مسقطة للعقوبات وعلى هذا فلا يخفى أن لازم ترجح معنى العبادة عدم التداخل لأنه اللائق بالجود إلا أن يوجبه موجب آخر كما أوجبه في آي السجدة لزوم الحرج لو لم يعتبر ولا موجب هنا والإلحاق بآي السجدة في الكتاب إنما هو في تقيد التداخل بالمجلس لا في إثبات التداخل نفسه نفسه وإلا كان بلا جامع لأن موجبه في الأصل أعنى آي السجدة لزوم الحرج وذلك لأن العادة مستمرة بتكرار الآيات للدراية والدراسة والتدبر للاتعاظ للحاجة إلى ذلك فلو لم يتداخل لزم الحرج غير أن ما تندفع هذه الحاجات به من التكرار يكون غالبا في مجلس واحد فتقيد التداخل به وليس سبب لزوم الحرج لولا التداخل هنا قائما إذ لا داعي لمن أراد قص أظفار يديه ورجليه إلى تفريق ذلك في مجالس فلا عادة مستمرة في ذلك فلا حرج يلزم بتقدير عدم التداخل
____________________
(3/38)
على تقدير قص كل طرف في مجلس فلا يثبت هذا الحكم إلا أن يكون فيه إجماع وفي المبسوط لو قص إحدى يديه ثم الأخرى في مجلس أو حلق رأسه ولحيته وإبطيه أو جامع مرارا قبل الوقوف في مجلس واحد مع امرأة واحدة أو نسوة فعليه دم واحد وإن اختلف المجالس يلزمه لكل مجلس موجب جنايته فيه عندهما وقال محمد عليه دم واحد في تعدد المجالس أيضا مالم يكفر عن الأولى وتقدم نظيره في الطيب اعتبره بما لو حلق في مجلس واحد ربع رأسه ثم في مجلس آخر ربعه ثم وثم حتى حلق كله في أربعة مجالس يلزمه دم واحد اتفاقا مالم يكفر للأول والفرق لهما أن الجناية في الحلق واحدة لاتحاد محلها وهو الرأس قوله إقامة للربع مقام الكل كما في الحلق أي حلق الرأس واللحية لأن حلق ربع غيرهما من الأعضاء إنما فيه الصدقة فإن قيل إلحاق الربع من الرأس بكله بناء على انه معتاد والمعتاد في قلم الأظفار ليس الاقتصار على طرف واحد فكيف هذا الإلحاق مع انتفاء الجامع فالجواب أن الجامع إنما هو كمال الارتفاق لا الاعتياد إلا أنه لما كان قد يتردد في حصوله بحلق ربع الرأس أثبته بالعادة إذ القصد إليه على وجه العادة لمن يقصده ليس إلا لنيل الارتفاق لا أنها هي المناط للزوم الدم ولا شك أن أدنى كمال الارتفاق يحصل بقلم تمام يد وإن كان في اليدين أكمل وفي الكل أكمل من هذا فيثبت به الدم ولا يبالي بكونه غير معتاد قوله لأنه يؤدى إلى مالا يتناهى كلام خطابي لا تحقيقي أي كان يجب أن يقام أكثر الثلاثة أيضا
____________________
(3/39)
كالظفرين ثم يقام أكثرهما وهكذا إلى أن يجب بقطع جوهرين لا يتجزآن من قلامة ظفر واحد قوله وبالقلم على هذا الوجه يتأذى بخلاف ما قست عليه من الطيب والحلق في مواضع متفرقة إذ يرتفق بهما متفرقين فانتفى الجامع قالوا لو قص ستة عشر ظفرا من كل طرف أربعة وجب عليه لكل ظفر صدقة إلا أن يبلغ ذلك دما فينقص ما شاء هذا وكل ما يفعله العبد المحرم مما فيه الدم عينا أو الصدقة عينا فعليه ذلك إذا عتق لا في الحال ولا يبدل بالصوم قوله أو لبس من عذر بأن اضطر إلى تغطية الرأس لخوف الهلاك من البرد أو للمرض أو لبس السلاح للحرب فعليه كفارة واحدة يتخير كفارة واحدة يتخير فيها بين أن يذبح شاة أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام أو بصوم ثلاثة أيام وإن كان ينزعه ليلا ويلبسه نهارا مالم يذهب العدو مثلا ويأتي غيره وتقدم لهذا زيادة تفصيل فارجع إليه قوله وقد فسرها أي فسر الكفارة المتخير فيها بقوله تعالى { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } بما ذكرنا وذلك في حديث كعب بن عجرة في الصحيحين قال حملت إلى صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى أتجد شاة فقلت لا فقال صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع وفي رواية فأمره أن يطعم فرقا بين ستة أو يهدى شاة أو يصوم ثلاثة أيام وفسر الفرق بثلاثة أصوع وقوله في الرواية الأولى أتجد شاة في الابتداء محمول على أنه سأله هل تجد النسك فإن وجده أخبره أنه مخير بينه وبين الخصلتين وإن كان خلاف المتبادر كي لا تقع المعارضة بينه وبين الكتاب وهو قوله تعالى { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك }
____________________
(3/40)
والرواية الأخرى قوله وأما النسك فيختص بالحرم قال تعالى في جزاء الصيد { هديا بالغ الكعبة } وهو واجب بطريق الكفارة فكان أصلا في كل هدى وجب كفارة في اختصاصه بالحرم وقوله لأن الإراقة لم تعرف قربه إلا في زمان أو مكان يعطي أن القربة هنا تعلقت بالإراقة ولازمه جواز الأكل منه كهدى المنعة والقران والأضحية لكن الواقع لزوم التصدق بجميع لحمه لأنه كفارة ثم لازم هذا بحسب المتبادر أنه لو سرق بعدما ذبح يلزمه إقامة غير مقامه لكن الواقع أن لا يلزمه ذلك وغيره فكان القربة فيه لها جهتان جهة الإراقة وجهة التصدق فللأولى لا يجب غيره إذا سرق مذبوحا وللثانية يتصدق بلحمه ولا يأكل منه قوله وهو أي الصدقة على تأويل التصدق المذكور في الآية قيل قول أبي حنيفة كقول محمد وقال أبي يوسف الحديث الذي فسر الآية فيه لفظ الإطعام فكان ككفارة اليمين وفيه نظر فإن الحديث ليس مفسر المجمل بل إنه مبين للراد بالإطلاق وهو حديث مشهور عملت به الأمة فجازت الزيادة به ثم المذكور في الآية الصدقة وتحقق حقيقتها بالتمليك فيجب أن يحمل في الحديث الإطعام على الإطعام الذى هو الصدقة وإلا كان معارضا وغاية الأمر أنه يعتبر بالاسم الأعم والله أعلم
____________________
(3/41)
فصل قدم النوع السابق على هذا لأنه كالمقدمة له إذ الطيب وإزالة الشعر والظفر مهيجات للشهوة لما تعطيه من الراحة والزينة قوله ولا فرق بين ما إذا أنزل أو لم ينزل مخالف لما صحح في الجامع الصغير لقاضيخان من اشتراط الإنزال قال ليكون جماعا من وجه موافق لما في المبسوط حيث قال وكذلك إذا لم ينزل يعني يجب الدم عندنا خلافا للشافعي في قول قياسا على الصوم فإنه لا يلزمه شيء إذا لم ينزل بالتقبيل لكنا نقول الجماع فيما دون الفرج من جملة الرفث فكان منهيا عنه بسبب الإحرام وبالإقدام عليه يصير مرتكبا محظورا إحرامه اه وقد يقال إن كان الإلزام للنهي فليس كل نهي يوجب كالرفث وإن كان للرفث فكذلك إذ أصله الكلام في الجماع بحضرتهن وليس ذلك موجبا شيئا قوله في جميع ذلك ظاهره إرادة المس بشهوة والقبلة بشهوة والجماع فيما دون الفرج والمفاد حينئذ بالتركيب المذكور أعني قوله إنما يفسد إحرامه في جميع ذلك إذا أنزل أنه إذا أنزل يفسد إحرامه وإذا لم ينزل لم يلزمه دم وهذا لأنه لو أريد مجرد معنى الجملة الأول وهو إذا أنزل يفسد كان لفظ
____________________
(3/42)
إنما لغوا إذ هذا المعنى ثابت مع الاقتصار على قوله وقال الشافعي يفسد في جميع ذلك إذا أنزل فالمعنى ما ذكرنا وتحقيقه أنه قصر الضرر المذكورة على حكم هو الفساد إذا أنزل وفيه تقديم وتأخير والأصل إنما في جميع تلك الصور فساد الإحرام بالإنزال وهو معنى قولنا لا حكم فيها إلا الفساد بالإنزال فيفيد مجموع الأمرين من الفساد بالإنزال وعدم وجوب شيء عند عدم الإنزال لأنه لم يجعل فيها حكما سوى ما ذكر ثم مذهب الشافعي هو مجموع الأمرين في قول بالصوم صالح لإثباتهما معا فيحمل عليه وعادتهم نصب الخلاف باعتبار قول ثم قصد المصنف اتباع ما في المبسوط والذي فيه ما علمت من قوله خلافا للشافعي في قول قياسا على الصوم فانه لا يلزمه شيء إذا لم ينزل ثم ذكر المصنف الفرق الذي ذكره وعلى المصنف على هذا أن يتعرض في تقرير المذهب للطرفين ويمكن تحميله لكلامه فالتعرض للأول بقوله ولنا أن فساد الإحرام يتعلق بالجماع يعني إنما يتعلق به ثم استدل على هذا بعدم فساد شيء من المحظورات بقوله ولهذا لا يفسد بسائر المحظورات وتفصيله أن المعلوم أن سائرها لا يفسد بمباشرتها الإحرام والنص ورد به في الجماع بصورته فإنه صلى الله عليه وسلم إنما سئل عن الجماع ومطلقه ينصرف إلى ما هو بالصورة الخاصة فيتعلق الجواب بالفساد بحقيقته ولولا ذلك النص لم نقل بأن الجماع أيضا مفسد ولأن أقصى ما يجب في الحج القضاء وفي الصوم الكفارة فكانا متوازيين والكفارة في الصوم لا تجب بالإنزال مع المس فكذا قضاء الحج وعدم وجوب القضاء حكم عدم الفساد فيثبت عدمه وهو المطلوب والتعرض للثاني بقوله إلا أن فيه معنى الاستمتاع الخ وجهه أن مرجع ضمير فيه لفظ جميع ذلك والمراد به ما قلنا من المس بشهوة والتقبيل والجماع فيما دون الفرج لا بقيد الإنزال كما يفيده لفظ النهاية وإلا لم يكن لقوله بعد ذلك إذا أنزل معنى وكان ينحل إلى قولنا في المس بشهوة مع الإنزال إذا أنزل فالحاصل من العبارة إلى قوله فيما دون الفرج إلا أن المس بشهوة والتقبيل والوطء فيما دون الفرج استمتاعا بالمرأة أعم من كونه مع إنزال أولا وذلك محظور إحرامه فيلزم الدم بخلاف الصوم الذي قست عليه عدم لزوم شيء إذا لم ينزل والفساد إذا أنزل لأن المحرم فيه قضاء الشهوة فلا يحصل المحرم فيه فيما دون الفرج إلا بالإنزال ثم إنما يفسد عنده لأن تحريمه بسبب كونه تفويتا للركن الذي هو الكف عن قضاء الشهوة من المرأة وقبله لم يوجد محرم أصلا بل الثابت فعل المكروه فلا يجب شيئا بخلاف ما نحن فيه فإن بالاستمتاع
____________________
(3/43)
بلا إنزال يحصل محظور الإحرام فيستعقب الجزاء ومع الإنزال يثبت الفساد بالنص قوله فسد حجه وعليه شاة وكذا إذا تعدد الجماع في مجلس واحد في مجلس واحد لامرأة أو نسوة والوطء في الدبر كهو في القبل عندهما وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة وفي أخرى عنه لا يتعلق به فساد والأول أصح فإن جامع في مجلس آخر قبل الوقوف ولم يقصد به رفض الحجة الفاسدة لزمه دم آخر عند أبي حنيفة وأبي يوسف ولو نوي بالجماع الثاني رفضن الفاسدة لا يلزمه بالثاني شيء كذا في خزانة الأكمل وقاضيخان وقدمنا من المبسوط قريبا لزوم تعدد الموجب لتعدد المجالس عندهما من غير هذا القيد وقال محمد يلزمه كفارة واحدة إلا أن يكون كفر عن الأولي فيلزمه أخرى والحق اعتباره على أن تصير الجنايات المتعددة بعدة متحدة فإنه نص في ظاهر الرواية على أن المحرم إذا جامع النساء ورفض إحرامه وأقام يصنع ما يصنعه الحلال من الجماع وقتل الصيد فعليه أن يعود حراما كما كان قال في المبسوط لأن بإفساد الإحرام لم يصر خارجا عنه قبل الأعمال وكذا بنية الرفض وارتكاب المحظورات فهو محرم على حاله إلا أن عليه بجميع ما صنع دما واحدا لما بينا أن ارتكاب المحظورات استند إلى قصد واحد وهو تعجيل الإحلال فيكفيه لذلك دم واحد اه فكذا لو تعدد جماع بعد الأول لقصد الرفض فيه دم واحد وما يلزمه به الفساد والدم على الرجل يلزم مثله على المرأة وإن كانت مكرهة أو ناسية إنما ينتفي بذلك الإثم ولو كان الزوج صبيا يجامع مثله فسد حجها دونه ولو كانت هي الصبية أو مجنونة انعكس الحكم ولو جامع بهيمة وأنزل لم يفسد حجه وعليه دم وإن لم ينزل فلا شيء عليه والاستمناء بالكف على هذا ثم إذا كانت مكرهة حتى فسد حجها ولزمها دم هل ترجع على الزوج عن ابن شجاع لا وعن القاضي أبي خازم نعم والقارن إذا جامع قبل الوقوف وقبل أن يطوف لعمرته أربعة أشواط فسد حجه وعمرته وعليه أن يمضي فيهما ويتمهما على الفساد وشاتان وقضاؤهما فلو جامع بعد ما طاف لعمرته أربعة أشواط فسد حجه دون عمرته وإذا فسد الحج سقط دم القران لأنه لم يجتمع له نسكان صحيحان وعليه دمان لفساد الحج وللجماع في إحرام العمرة لأنه باق فيقضي الحج فقط ولذا لو أحرم بعمرة فأفسدها ثم أهل بحجة ليس بقارن لهذا قوله والأصل الخ روي أبو داود في المراسيل عن يحيى بن أبي كثير حدثنا يزيد بن نعيم أو زيد بن نعيم شك فيه أبو توبة أن رجلا من جذام جامع امرأته وهما محرمان فسأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال
اقضيا حجكما وأهديا هديا قال ابن القطان لا يصح فإن زيد بن نعيم مجهول ويزيد بن نعيم بن هزال ثقة وقد شك أبو توبة في أيهما حدثه بها اه قلنا قد رواه البيهقي وقال إنه منقطع وهو يزيد بن نعيم بلا شك وقوله منقطع بناء على الاختلاف في سماع يزيد هذا من جابر بن عبد الله وفي صحبه أبيه فإنه سمع من أبيه واختلف في صحبة أبيه فمن قال إنه صحابي وإنه سمع من جابر جعله مرسلا وعليه مشي أبو داود فإنه أورد هذا الحديث في المراسيل
____________________
(3/44)
ومن قال لم يسمع من جابر وليس لأبيه صحبة يجعله منقطعا فإنه لم يعلم سماعه من صحابي آخر وليس في سند أبي داود انقطاع فإنه رواه عن أبي توبة الربيع بن نافع عن معاوية بن سلام عن يحيى بن أبي كثير قال أخبرني يزيد ابن نعيم أو زيد بن نعيم وهذا سند متصل كله ثقات بتقدير يزيد ولا شك فيه في طريق البيهقي فيحصل إتصاله وإرساله وهو حجة عندنا وعند أكثر أهل العلم وروي ابن وهب بسند فيه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن رجلا من جذام الحديث وفيه حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فأحرما وتفرقا الحديث إلى أن قال وأهديا وضعف بابن لهيعة ويشد المرسل والمذكور منه ما سوي الزيادة وروي بالزيادة عن جماعة من الصحابة في مسند ابن أبي شيبة إلى من سأل مجاهدا عن المحرم بواقع امرأته فقال كان ذلك على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يقضيان حجهما ثم يرجعان حلالين فإذا كان من قابل حجا وأهديا وتفرقا من المكان الذي أصابها فيه وروي الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال فيه بطل حجه قال له السائل فيقعد قال لا بل يخرج مع الناس فيصنع ما يصنعون فإذا أدركه من قابل حج وأهدى ووافقه على هذا ابن عباس وعبد الله ابن عمرو بن العاص وصحح البيهقي إسناده عنهم وفي موطأ مالك من بلاغاته عن علي وعمر وأبي هريرة رضي الله عنهم نحوه إلا أن عليا قال فيه يفترقان حتى يقضيا حجهما قوله اعتبارا بما لو جامع بعد الوقوف بل أولى لأن الجماع قبله في مطلق الإحرام بخلافه بعده قوله والحجة عليه ما رويناه يعني لفظ الشاه وعلى
____________________
(3/45)
ما خرجنا إطلاق لفظ الهدى وهو يصدق بالتناول على الشاة كان في البدنة أكمل والواجب اتصراف المطلق إلى الكامل في الماهية لا إلى الأكمل وماهية الهدى كاملة فيها بخلاف السمك بالنسبة إلى لفظ اللحم فإن ماهية اللحم ناقصة فيه على ما ستعرف إن شاء الله تعالى ثم بين المقامين فرق وهو وجوب القضاء فإنه لا يجب إلا ليقوم مقام الأول وهو معنى استدراك المصلحة فبعد قيامه مقامه لم يبق إلا جزاء تعجيل الإحلال ويكفى فيه الشاة كالمحصر بل أولى لأن الإحلال لم يتم بالجماع ولهذا يمضنى فيه ولا يحل إلا مع الناس غير أنه أخر المعتد به إلى قابل ثم لا تجب عمرة لعدم فوات حجة بخلاف المحصر قوله فلا معنى للافتراق وهذا لأن الافتراق ليس بنسك في الأداء فكذا في القضاء فلم يكن أمر من روى عنه من الصحابة الأمر بالافتراق أمر إيجاب بل أمر ندب مخافة الوقوع لظهور أنه لا يصبر أحدهما عن الآخر لما ظهر منهما في الإحرام الأول فكان كالشاب في حق القبلة في الصوم لا لأنهما يتذاكران فيقعان لأنه معارض بأنهما يتذاكران فلا يقعان لتذكرهما ما حصل لهما من المشقة للذة يسيرة ونحن نقول باستحباب الافتراق لذلك قوله ومن جامع بعد الوقوف بعرفة يعنى قبل الحلق لأنه سيذكر أن الجماع بعد الحلق فيه شاة هذا والعبد إذا جامع مضى فيه وعليه هدى وحجة إذا أعتق سوى حجة الإسلام وكل ما يجب فيه المال يؤاخذ به بعد عتقه بخلاف ما فيه الصوم فإنه يؤاخذ به للحال ولا يجوز إطعام المولى عنه إلا في الإحصار فإن المولى يبعث عنه ليحل هو فإذا أعتق فعليه حجة وعمرة قوله لقوله صلى الله عليه وسلم
ومن وقف بعرفة فقد تم حجة تقدم هذا الحديث وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم علق
____________________
(3/46)
التمام بالوقوف بعرفة والمزدلفة على ما أسلفناه ثم لا شك أن ليس التمام باعتبار عدم بقاء شيء عليه فهو باعتبار أمن الفساد والفوات وإنما أوجبنا البدنة بما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنى قبل أن يفيض فأمره أن ينحر بدنة رواه مالك في الموطإ عن أبي الزبير المكي عن عطاء بن أبى رباح عنه وأسنده ابن أبى شيبة عن عطاء أيضا قال سئل ابن عباس رضى الله عنهما عن رجل قضى المناسك كلها غير أنه لم يزر البيت حتى وقع على امرأته قال عليه بدنة ولأنه لا قضاء هنا ليخف أثر الجناية بجبر القضاء بخلاف ما قبل الوقوف وهو أرجح مما عن ابن عمر مما أخرجه ابن أبى شيبة عنه جاء رجل إليه فقال يا أبا عبد الرحمن إني رجل جاهل بالسنة بعيد الشقة قليل ذات اليد قضيت المناسك كلها غير أنى لم أزر البيت حتى وقعت على امرأتى فقال عليك بدنة وحج من قابل فإنه متروك بعضه وقال صلى الله عليه وسلم
من وقف بعرفة فقد تم حجة بخلاف قول ابن عباس هذا ولو جامع مرة ثانية فعلى كل واحد شاة مع البدنة لأنه وقع في حرمة مهتوكة فصادف إحراما ناقصا فيجب الدم ولو جامع القارن بعد الوقوف لزمه بدنه لحجته وشاة لعمرته قوله وإن جامع بعد الحلق فعليه شاة مالم يكن جامع بعد ما طاف أربعة أشواط من طواف الزيارة فلا شيء عليه
____________________
(3/47)
ولو كان لم يحلق حتى طاف للزيارة أربعة أشواط ثم جامع كان عليه الدم وذكر في الغاية معزيا إلى المبسوط والبدائع والإسبيجابي لو جامع القارن أول مرة بعد الحلق قبل طواف الزيارة فعليه بدنة للحج وشاة للعمرة لأن القارن يتحلل من إحرامين بالحلق إلا في حق النساء فهو محرم بهما في حقهن وهذا مخالف لما ذكره في الكتاب وشروح القدورى فإنهم يوجبون على الحاج شاة بعد الحلق وذكر فيها أيضا معزيا إلى الوبري في هذه المسألة إنما عليه بدنة للحج ولا شيء للعمرة لأنه خرج من إحرامها بالحلق وبقى في إحرام الحج في حق النساء واستشكله شارح الكنز لأنه إذا بقى محرما بالحج فكذا في العمرة والذي يظهر أن الصواب ما في الوبرى لأن إحرام العمرة لم يعهد بحيث يتحلل منه بالحلق في غير النساء ويبقى في حقهن بل إذا حلق بعد أفعالها حل بالنسبة إلى كل ما حرم عليه وإنما عهد ذلك في إحرام الحج فإذا ضم إلى إحرام الحج إحرام العمرة استمر كل على ما عهد له في الشرع إذ لا يزيد القيروان على ذلك الضم فينطوى بالحلق إحرام العمرة بالكلية فلا يكون له موجب بسبب الوطء بل الحج فقط ثم يجب النظر في الترجيح بين قول من قال بوجوب الشاة أو البدنة وقول موجب البدنة أوجه لأن إيجابها ليس إلا بقول ابن عباس والمروى عنه ظاهر فيما بعد الحلق فارجع إليه وتأمله ثم المعنى يساعده وذلك أن وجوبها قبل الحلق ليس إلا للجناية على الإحرام ومعلوم أن الوطء ليس جناية عليه إلا باعتبار تحريمه له لا لاعتبار تحريمه لغيره فليس الطيب جناية على الإحرام باعتبار تحريمه الجماع أو الحلق بل باعتبار تحريمه للطيب وكذا كل جناية على الإحرام ليست جناية عليه إلا باعتبار تحريمه لها لا لغيرها فيجب أن يستوي ما قبل الحلق وما بعده في حق الوطء لأن الذي به كان جناية قبله بعينه ثابت بعده والزائل لم يكن الوطء جناية باعتباره لا جرم أن المذكور في ظاهر الرواية إطلاق لزوم البدنة بعد الوقوف من غير تفصيل بين كونه قبل الحلق أو بعده
____________________
(3/48)
ثم ذكر فيها أيضا فقال وإذا طاف أربعة أشواط من طواف الزيارة وقد قصر ثم جامع فليس عليه شيء وإن لم يكن قصر فعليه دم فمن هنا والله أعلم أخذ التفصيل من أخذه إن كان إذ خف الموجب بعد وجود أحدهما بعد الوقوف ولقائل أن يستشكله بأن الطواف قبل الحلق لم يحل به من شيء فكان ينبغي أن يجب الجزور وإن كان سؤال ابن عباس وفتواه به إنما كان فيمن لم يطف للعلم بأن فتواه بذلك لوقوع الجناية على إحرام أمن فساده ولو كان قارنا أعنى الذي طاف للزيارة قبل الحلق ثم جامع قال في البدائع عليه شاتان لبقاء الإحرام لهما جميعا وروى ابن سماعة عن محمد في الرقيات فيمن طاف للزيارة جنبا ثم جامع قبل الإعادة قال محمد أما في القياس فليس عليه شيء ولكن أبا حنيفة استحسن فيما إذا طاف جنبا ثم جامع ثم أعاد طاهر أن يوجب عليه دما وكذلك قول أبى يوسف رحمه الله وجه القياس أن الجماع وقع بعد التحلل لما عرف من أن الطهارة ليست بشرط لصحة الطواف وجه الاستحسان أن بالإعادة طاهرا ينفسخ الطواف الأول عند بعض مشايخ العراق ويصير طوافه المعتبر هو الثاني لأن الجناية توجب نقصانا فاحشا فيتبين أن الجماع كان قبل الطواف فيوجب الكفارة بخلاف ما إذا طاف على غير وضوء يعنى ثم جامع ثم أعاده متوضئا لا شيء عليه لأن النقصان يسير فلم ينفسخ الأول فيقع جماعه بعد التحلل كذا في البدائع وفيه تأمل فإن الانفساخ إن قال به بعض المشايخ فقد قال آخرون بعدمه وصحح فلم يلزم وعلى تقديره فوقوعه شرعا قبل التحلل إنما موجبه البدنة لا مطلق الدم اللهم إلا أن يقال إنه قبله من وجه دون وجه وسنوجه عدم الانفساح إن شاء الله تعالى فصل قوله ومن طاف طواف القدوم محدثا فعليه صدقة موافق لما في عامة النسخ وصرح به عن محمد ومخالف
____________________
(3/49)
لما في مبسوط شيخ الإسلام قال ليس لطواف التحية محدثا ولا جنبا شيء لأنه لو تركه لم يكن عليه شيء فكذا تركه من وجه والوجهان اللذان أبطل بهما المصنف كون الطهارة سنة أعنى قوله لأنه يجب بتركها الجابر ولأن الخبر يوجب العمل كافلان بإبطاله ولما استشعر أن يقال على الأول لزوم الجابر مطلقا ممنوع وهو أول المسألة فإنا ننفيه في غير الطواف الواجب دفعه بتقرير أن كل ترك لا يخلو من كونه في واجب فإن التطوع إذا شرع فيه صار واجبا بالشروع ثم يدخله النقص بترك الطهارة فيه غاية الأمر أن وجوبه ليس بإيجابه تعالى ابتداء فأظهرنا التفاوت في الحط من الدم إلى الصدقة فيما إذا طاف محدثا ومن البدنة إلى الشاة إذا طاف جنبا قوله لقوله صلى الله عليه وسلم
الطواف بالبيت صلاة روى الترمذى عن ابن عباس رضى الله عنهما عن صلى الله عليه وسلم أنه قال
الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه فمن تكلم لا يتكلم إلا بخير وجه الاستدلال أنه تشبيه في الحكم بدليل الاستثناء من الحكم في قوله إلا أنكم تتكلمون فيه فمن تكلم فكأنه قال هو مثل الصلاة في حكمها إلا في جواز الكلام فيصير ما سوى الكلام داخلا في الصدر ومنه اشتراط الطهارة واستدل ابن الجوزي
____________________
(3/50)
بما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها حاضت فقال لها صلى الله عليه وسلم
اقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت فرتب منع الطواف على انتفاء الطهارة وهذا حكم وسبب وظاهر أن الحكم يتعلق بالسبب فيكون المنع لعدم الطهارة لا لعدم دخول المسجد للحائض ولنا في الجواب عن الأول طريقان أحدهما ينتظم الجواب عن هذا وهو تسليم أنه تشبيه في الحكم لكنه خبر واحد لو لم يلزم نسخه لإطلاق كتاب الله تعالى لثبت به الوجوب لا الافتراض لاستلزامه الإكفار بجحد مقتضاه وليس ذلك لازم مقتضاه بل لازمه التنسيق به فكيف ولو ثبت به افتراض الطهارة كان ناسخا له إذ قوله تعالى { وليطوفوا } يقتضي الخروج عن عهدته بالدوران حول البيت مع الطهارة وعدمها فجعله لا يخرج مع عدمها نسخ لإطلاقه وهو لا يجوز فرتبنا عليه موجبة من إثبات وجوب الطهارة حتى أثمنا بتركها وألزمنا الجابر وليس مقتضى خبر الواحد غير هذا لا الاشتراط المفضى إلى نسخ إطلاق كتاب الله تعالى ويؤيد انتفاء الاشتراط ما ذكره الشيخ تقي الدين في الإمام وروى سعيد ابن منصور حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن عطاء قال حاضت امرأة وهي تطوف مع عائشة أم المؤمنين فأتمت بها عائشة سنة طوافها وقال روى أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة قال سألت حمادا ومنصورا عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة فلم يروا به بأسا وقد انتظم ما ذكرناه الجواب عما أورده ابن الجوزي ثانيهما منع ذلك التقرير ونقول بل التشبيه في الثواب لا في الأحكام وقوله إلا أنكم تتكلمون فيه كلام منقطع مستأنف بيان لإباحة الكلام فيه وجب المصير إلي هذا لأنه لو كان كما قالوا لكان المشي ممتنعا لدخوله في الصدر وكأن الشيخ رحمه الله استشعر فيه منعا وهو أن يقال المشي قد علم إخراجه قبل التشبيه فإن الطواف نفس الشيء فحيث قال صلاة فقد قال المشي الخاص كالصلاة فيكون وجه التشبيه ما سوى المشي فلذا اقتصر علي الأول لكن يبقي الانحراف مؤيدا للوجه الثاني فإن قيل الأصح هو الأول لأن الوجوب ثابت عندنا ولا بد له من دليل وحمله علي الوجه الثاني ينفيه وما أورده ابن الجوزي ظاهر فيه والحديث المذكور يحتمله على الوجه الأول فوجب المصير إليه ويخص الانحراف أيضا بإجماع المسلمين وباتفاق رواه مناسكه عليه الصلاة والسلام أنه جعل البيت عن يساره حين طاف ولاعتباره وجب ستر العورة في الطواف فلو طاف مكشوف العورة لزم الدم إن لم يعده فالجواب لو كان الأول هو المعتبر لكان مقتضاه وجوب طهارة الثوب والبدن فيه لكنهم صرحوا بعدم وجوبها وفي البدائع أنها ليست بشرط بالإجماع فلا يفترض تحصيلها ولا يجب لكنه سنة حتى لو طاف وعلى ثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم لا يلزمه شيء لكنه يكره اه فيحمل الحديث على أن التشبيه في الثواب ويضاف إيجاب الطهارة عن الحدث إلى ما أورده ابن الجوزي وإيجاب ستر العورة إلى قوله صلى الله عليه وسلم
____________________
(3/51)
ألا لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان قال محمد رحمه الله ومن طاف تطوعا على شيء من هذه الوجوه فأحب إلينا إن كان بمكة أن يعيد الطواف وإن كان قد رجع إلى أهله فعليه صدقة سوى الذي طاف وعلى ثوبه نجاسة هذا وما ذكر في بعض النسخ من أن في نجاسة البدن كله الدم لا أصل له في الرواية والله أعلم وقد يقال فلم لم تلحق الطهارة عن النجس بالطهارة عن الحدث وهو الأصل المنصوص عليه قياسا أو بستر العورة وليس هذا قياسا في إثبات شرط بل في إثبات الوجوب وقد يجاب بحاصل ما في المبسوط من أن حكم النجاسة في الثوب أخف حتى جازت الصلاة مع قليل النجاسة في الثوب ومع كثيرها حالة الضرورة فلا يتمكن بنجاسة الثوب نقصان في الطواف وهذا يخص الفرق بطهارة الحدث دون الستر ثم أفاد فرقا بين الستر وبينه بأن وجوب الستر لأجل الطواف أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم
ألا لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فبسبب الكشف يتمكن نقصان في الطواف واشتراط طهارة الثوب ليس للطواف على الخصوص فلا يتمكن بتركه نقصان فيه ولم يبين الجهة المشاركة للطواف في سببية المنع وأفادها في البدائع فقال المنع من الطواف مع الثوب النجس ليس لأجل الطواف بل لصيانة المسجد عن إدخاله النجاسة وصيانته عن التلويث فلا يوجب ذلك نقصا في الطواف فلا حاجة إلى الجبر إلا أنه نفى سببية الطواف بالكلية وقوله المنع من الطواف مع الثوب النجس إما أن يكون معناه أنه كان منع لكان لصيانة المسجد أو أن المنع ثابت مع النجاسة ولذا تثبت الكراهة به إلا أنه لا يبلغ إلى الوجوب فلا ينتهض موجبا للجابر والله سبحانه أعلم ولم يكن في ظاهر الرواية تنصيص سوى على الثوب والتعليل يفيد تعميم البدن أيضا قوله فكان أفحش فإن قيل لم اختلف الجابر في الفرض والنفل في الطواف دون الصلاة فالجواب أن الأصل أن يختلف الجابر باختلاف الجناية اعتبارا للمسبب على وزان سببه فلا يترك إلا للتعذر الشرعي وقد أمكن في الحج لشرع الجابر فيه متنوعا إلى بدنة وشاة وصدقة فاعتبر تفاوت الجابر بتفاوت الجناية وتعذر في الصلاة إذ لم يشرع الجابر للنقص الواقع
____________________
(3/52)
سهوا إلا السجود قوله والأصح أنه يؤمر بالإعادة في الحدث استحبابا وإنما لم يؤمر مطلقا كما هو تلك الرواية مع أن الطهارة في الطواف مطلقا واجبة لأنه لم يتعين الطواف جابرا فإن الدم والصدقة مما يجبر بهما فالواجب أحدهما غير عين واستحباب المعين أعني الطواف ليكون الجابر من جنس المجبور بخلاف ما إذا رجع إلى أهله ولم يطف فإن البعث بالشاة أفضل لأن النقصان كان يسيرا وفي الشاة تقع للفقراء قوله لأذبح عليه وإن أعاده بعد أيام النحر إن هذه وصية وعدم وجوب الشيء إذا أعاده بعد أيام النحر دليل أن العبرة للأول في الحدث وإلا لوجب عند أبي حنيفة رحمه الله دم للتأخير عن أيام النحر وقوله في فصل الجنابة وإن أعاده بعد أيام النحر لزمه الدم عند أبي حنيفة بالتأخير أخذ منه الرازي أن العبرة في فصل الجنابة للطواف الثاني وينفسخ الأول به وذهب الكرخى إلى أن المعتبر الأول في الفصلين جميعا وصححه صاحب الإيضاح إذ لا شك في وقوع الأول معتدا به حتى حل به النساء وتقرير ما علم شرعا باعتداده حال وجوده أولى واستدل الكرخى بما في الأصل لو طاف للعمرة جنبا أو محدثا في رمضان وحج من عامه لم يكن متمتعا إن أعاده في شوال أو لم يعده واعتذر عنه السرخسى في المبسوط بأنه إنما لم يكن متمتعا لوقوع الأمن له عن فساد العمرة فإذا أمن فسادها قبل دخول وقت الحج
____________________
(3/53)
لا يكون بها متمتعا قال والطواف الأول كان حكمه مراعى لتفاحش النقصان فإن أعاده انفسخ وصار المعتد به الثاني وإن لم يعد كان معتدا به في التحلل كمن قام في صلاته ولم يقرأ حتى ركع كان قيامه وركوعه مراعى على سبيل التوقف فإن عاد فقرأ ثم ركع انفسخ الأول حتى إن من أدرك معه الركوع الثاني مدرك للركعة وإن لم يعد فقرأ في الركعتين الآخريين كان الأول معتدا به وهذا بخلاف المحدث لأن النقصان يسير فلا يتوقف به حكم الطواف بل بقي معتدا به على الإطلاق والثاني جابر للتمكن فيه من النقصان ولو طافت المرأة للزيارة حائضا فهو كطواف الجنب سواء اه وقول الكرخى أولى وجعل عدم التمتع في شاهده للأمن عن فساد العمرة قبل أشهر الحج ليس بأولى من جعل الدم لتأخير الجابر لجعله كنفس الطواف بسبب أن النقصان لما كان متفاحشا كان كتركه من وجه فيكون وجود جابره كوجوده أو نقول الواجب عليه فعل الطواف في أيامه خاليا عن النقص الفاحش الذي ينزل منزلة الترك لبعضه فبإدخاله يكون موجدا لبعضه ووجب عليه البعض الآخر أعني صفة الكمال وهو تكامل الصفة وهو الطواف الجابر فوجب في أيام الطواف فإذا أخره وجب دم كما إذا أخر أصل الطواف قوله ويرجع بإحرام جديد بناء على أنه حل في حق النساء بطواف الزيارة جنبا وهو آفاقى يريد مكة فلا بد له من إحرام بحج أو عمرة وقيل يعود بذلك الإحرام حكاه الفارسي ثم إذا عاد فأحرم بعمرة يبدأ بها فإذا فرغ منها يطوف للزيارة ويلزمه دم لتأخير طواف الزيارة عن وقته وقد تقدم ولو طاف القارن طوافين وسعى سعيين محدثا عاد طواف العمرة قبل يوم النحر ولا شيء عليه للجبر بجنسه في وقته فإن لم يعد حتى طلع فجر يوم النحر لزمه دم لطواف العمرة محدثا وقد فات وقت القضاء ويرمل في طواف الزيارة يوم النحر ويسعى بعده استحبابا ليحصل الرمل والسعي عقيب طواف كامل وإن لم يعد لاشيء عليه لأنه سعى عقيب طواف معتد به إذ الحدث الأصغر لا يمنع الاعتداد وفي الجنابة إن لم يعد فعليه دم للسعي وكذا الحائض قوله ولو لم يطف طواف الزيارة أصلا الخ وكذا إذا رجع إلى أهله وقد ترك منه أربعة أشواط يعود بذلك الإحرام وهو محرم أبدا في حق النساء وكلما جامع لزمه دم إذا تعددت المجالس إلا أن يقصد رفض الإحرام بالجماع الثاني وتقدم أوائل الفصل من ذلك شيء قوله ومن طاف طواف الصدر الخ ذكر في حكمه روايتين
____________________
(3/54)
وفيه رواية ثالثة هي رواية أبي حفص أنه تجب عليه الصدقة لأن طواف الجنب معتد به حتى يتحلل به إلا أنه ناقص والواجب بترك طواف الصدر الدم فلا يجب بالنقصان ما يجب بالترك والجواب أن مناط وجوب الدم كمال الجناية وهو متحقق في الطواف مع الجناية فيجب به كما يجب بتركه ولذا حققنا وجوب الدم بطواف القدوم جنبا ولا يلزم بتركه شيء أصلا لثبوت الجناية في فعله جنبا وعدمها في تركه فالمدار الجناية فإن قلت ذكر الشيخ في الفرق بين لزوم الدم في طواف الزيارة محدثا والصدقة في طواف القدوم محدثا وإن كان فيه إدخال النقص في الواجب بالشروع أنه إظهار التفاوت بين ما وجب بإيجاب الله تعالى ابتداء وبين ما يتعلق وجوبه بإيجاب العبد وهذا الفرق ثابت بين طواف القدوم والصدر فلم اتحد حكمهما فالجواب منع قيام الفرق فإن وجوبه مضاف إلى الصدر الذي هو فعل العبد كوجوب طواف القدوم بفعله وهو الشروع ولهذا لو اتخذ مكة دارا لم يجب لعدم فعل الصدر وفي المحيط لو طاف للعمرة جنبا أو محدثا فعليه شاة ولو ترك من طواف العمرة شوطا فعليه دم لأنه لا مدخل للصدقة في العمرة قوله يسير لرجحان جانب الوجود بالكثرة وعن هذا ما ذكر من أن الركن عندنا هو الأربعة أشواط والثلاثة الباقية واجبة لأن تركها يجبر بالدم وإنما يجبر به الواجب وهذا حكم لا يعلل به لأنه محل النزاع إذ جبرها بالدم ممنوع عند من يخالف فيه وهم كثيرون بل جبرها به لإقامة الأكثر مقام الكل وسبب اختصاص هذه العبادة به على خلاف الصلاة والصوم إذ لا يقام الأكثر منهما مقام الكل قوله صلى الله عليه وسلم
الحج عرفة ومن وقف بعرفات فقد تم حجه مع العلم ببقاء ركن آخر عليه وحكمنا لهذا بالأمن من فساد الحج إذا تحقق بعد الوقوف ما يفسده قبله فعلمنا أن باب الحج اعتبر فيه شرعا هذا الاعتبار والطواف منه فأجرينا فيه ذلك وهذا هو الأوجه في إثبات الإقامة المذكورة وإنما قلنا أن هذا الوجه أوجه لأن الوجه الآخر غير منتهض وهو أن المأمور به الطواف وهو يحصل بمرة فلما فعله صلى الله عليه وسلم سبعا احتمل كونه تقديرا للكمال ولما لا يجزى أقل منه فيثبت المتيقن من ذلك وهو أنه شرط للكمال أو للاعتداد ويقام الأكثر مقام الكل كإدراك الركوع يجعل شرعا إدراكا للركعة وكالنية في أكثر النهار للصوم تجعل شرعا في كله ولا يخفى أن المأمور به التطوف وهو أخص يقتضي زيادة تكلف وهو يحتمل كونه من حيث الإسراع ومن حيث التكثر فلما فعله صلى الله عليه وسلم متكثرا كان تنصيصا على أحد المحتملين ثم وقوع التردد بين كونه للكمال أو للاعتداد على السواء لا يستلزم كون المتيقن كونه للكمال فإنه محض تحكم في أحد المحتملين المتساويين بل في مثله يجب الاحتياط فيعتبر للاعتداد ليقع اليقين بالخروج عن العهدة وعلى اعتبار كونه للاعتداد يكون إقامة أكثره مقام كله منافيا له في التحقيق إذ كون السبع للاعتداد معناه أنه لا يجزى أقل منها وإقامة الأكثر لازمة حصول الإجزاء بأقل من السبع فكيف يرتب لازما على شيء وهو مناف للملزوم ثم بتقديره فإثباته بإلحاق مدرك الركوع والنية باطل أما إدراك الركعة بالركوع فبالشرع على خلاف القياس ولذا لم يقل بإجزاء ثلاث ركعات عن الأربع قياسا وأما النية فبعد أنه من رد المختلف إلى المختلف فإنا نعتبر الإمساكات السابقة على وجود النية متوقفة على وجودها فإذا وجدت بأن ينوي أنه صائم من أول النهار تحقق
____________________
(3/55)
صرف ذلك الموقوف كله لله تعالى فإنما تعلقت النية بالكل لوجودها في الأكثر لا بالأكثر وكان سبب تصحيح تعلقها بالكل من غير قران وجودها بالكل الحرج اللازم من اشتراط قران وجودها للكل بسبب النوم الحاكم على ما أسلفنا إيضاحه في كتاب الصوم وليس ما نحن فيه كذلك هذا وأما الوجه الأول فهو وإن كان أوجه لكنه غير سالم مما يدفع به وذلك أن إقامة الأكثر في تمام العبادة إنما هو في حق حكم خاص وهو أمن الفساد والفوات ليس غير ولذا لم يحكم بأن ترك ما بقي أعني الطواف يتم معه الحج وهو مورد ذلك النص فلا يلزم جواز إقامة أكثر كل جزء منه مقام تمام ذلك الجزء وترك باقيه كما لم يجز ذلك في نفس مورد النص أعني الحج فلا ينبغي التعويل على هذا الحكم والله أعلم بل الذي ندين به أن لا يجزي أقل من السبع ولا يجبر بعضه بشيء غير أنا نستمر معهم في التقرير على أصلهم هذا قوله ويبعث بشاة يعني عن الباقي من طواف الزيارة وبشاة أخرى
____________________
(3/56)
لترك طواف الصدر وهذا لأن بعث الشاة لترك بعض طواف الزيارة لا يتصور إلا إذا لم يكن طاف الصدر فإنه لو طاف للصدر انتقل منه إلى طواف الزيارة ما يكمله ثم ينظر في الباقي من طواف الصدر إن كان أقله لزمه صدقة له وإلا فدم ولو كان طاف للصدر في آخر أيام التشريق وقد ترك من طواف الزيارة أكثره كمل من الصدر ولزمه دمان في قول أبي حنيفة دم لتأخير ذلك ودم آخر لتركه أكثر الصدر وإن كان قد ترك أقله لزمه للتأخير دم وصدقة للمتروك من الصدر مع ذلك الدم وجملته أن عليه في ترك الأقل من طواف الزيارة دما وفي تأخير الأقل صدقة وفي ترك الأكثر من طواف الصدر دم وفي ترك أقله صدقة ومبنى هذا النقل ما تقدم من أن طواف الزيارة ركن عبادة والنية ليست بشرط لكل ركن إلا أنه يستقل عبادة في نفسه فشرط له نية أصل الطواف دون التعيين فلو طاف في وقته ينوي النذر أو النفل وقع عنه كما لو نوي بالسجدة من الظهر النفل لغت نيته ووقعت عن الركن وإن توالى الأشواط ليس بشرط لصحة الطواف كمن خرج من الطواف لتجديد وضوء ففعل ثم رجع بنى قوله وليس عليه لترك السعي شيء عطف على قوله فعليه دم والمراد ليس عليه لترك جابر السعي شيء أي لا يجب باعتبار مجرد السعي محدثا شيء لأنه لا تجب الطهارة فيه بل الواجب فيه الطهارة في الطواف الذي هو عقيبه وقد جبر ذلك بالدم إذ فوت وقدمنا أن شرط جواز السعي كونه بعد أكثر طواف والله أعلم وما في البدائع من قوله لا يشترط له الطهارة لأنه نسك غير متعلق بالبيت إلا أنه يشترط أن يكون
____________________
(3/57)
الطواف على طهارة من الجنابة والحيض إلى أن قال والحاصل أن حصول الطواف على الطهارة عن الحيض والجنابة من شرائط جواز السعي تساهل وهذا بالاتفاق بخلاف ما إذا أعاد الطواف وحده ذكر فيه الخلاف وصحح عدم الوجوب وهو قول شمس الأئمة والمحبوبي وذهب كثير من شارحي الجامع الصغير إلى وجوب الدم بناء على انفساخ الأول بالثاني وإلا كانا فرضين أو الأول فلا يعتد بالثاني ولا قائل به فيلزم كون المعتبر الثاني فحينئذ وقع السعي قبل الطواف فلا يعتد به بخلاف ما إذا لم يعد فإنه لا يوجب انفساخ الأول والجواب منع الحصر بل الطواف الثاني معتد به جابرا كالدم والأول معتد به في حق الفرض وهذا أسهل من الفسخ خصوصا وهو نقصان بسبب الحدث الأصغر ومن واجبات الطواف ستر العورة والمشي وأن لا يكون منكوسا بأن يجعل البيت عن يمينه لا عن يساره وكلها وإن تقدم ذكرها لكن لا قصدا بل في ضمن التعاليل أما الستر فلما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم
ألا لا يطوفن بهذا البيت بعد العام مشرك ولا عريان وأما المشي فلأن الراكب ليس طائفا حقيقة بل الطائف حقيقة مركوبة وهو في حكمه إذ كان حركته عن حركة المركوب وطوافه صلى الله عليه وسلم راكبا فيما ركب فيه قدمنا ما روى فيه من كلام الصحابة أنه كان ليظهر فيقتدى بفعله وهذا عذر أي عذر فإنه كان مأمورا بتعليمهم وهذا طريق ما أمر به فيباح له ونحن نقول إذا ركب من عذر فلا شيء عليه وإلا أعاده وإن لم يعده لزمه دم وكذا إذا طاف زحفا ولو نذر أن يطوف زحفا وهو قادر على المشي لزمه أن يطوف ماشيا لأنه نذر العبادة بوجه غير مشروع فلغت وبقي النذر بأصل العبادة كما إذا نذر أن يطوف للحج بلا طهارة ثم إن طاف زحفا أعاده فإن رجع إلى أهله ولم يعده فعليه دم لأنه ترك الواجب كذا ذكر في الأصل وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه إذا طاف زحفا أجزأه لأنه أدى ما أوجب على نفسه كمن نذر أن يصلي في أرض مغصوبة أو يصوم يوم النحر فإنه يجب عليه أن يصلي في موضع آخر ويصوم يوما آخر ولو صلى في المغصوبة أو صام يوم النحر أجزأه وخرج عن عهدة النذر كذا هذا هكذا حكى في البدائع وسوقه يقتضي أن المذكور في شرح القاضي مخالف لما في الأصل وليس كذلك إلا لو صرح بنفي الدم وهو لم يذكر سوى الإجزاء وما في الأصل لا ينفيه ولو كان خلافا كان في الأصل هو الحق لأن الأصل أن العبادة متى شرع فيها جابر لتفويت شيء من واجباتها ففوت وجب الجبر وإن كان لو لم يجبر صحت كالصلاة بالسجود في السهو وبالإعادة في العمد فقد قلنا كل صلاة أديت مع كراهة التحريم يجب إعادتها وباب الحج مما تحقق فيه ذلك فيجب الجبر أولا بجنسه إذا فوت واجبه فإن لم يعد وجب الجابر الآخر وهو الدم بخلاف الصوم فإنه لم يتحقق فيه جبر وبخلاف الصلاة في الأرض المغصوبة فإن عدم حل الصلاة فيها ليس من واجبات الصلاة بل الواجب عدم الكون فيها مطلقا في الصلاة وغيرها وأما جعل البيت عن يساره فاختلف فيه والأصح الوجوب بفعله صلى الله عليه وسلم كذلك على سبيل المواظبة من غير ترك في الحج وجميع عمره مع ما ذكرنا أن ما فعله صلى الله عليه وسلم في موضع التعليم يحمل على الوجوب إلى أن يقوم دليل على عدمه خصوصا اقتران ما فعله في الحج بقوله
خذوا عني مناسككم فعليه أن يعيد فإن لم يعد حتى رجع إلى أهله لزمه دم وأما الافتتاح من الحجر ففي ظاهر الرواية هو سنة يكره تركها وذكر محمد في الرقيات لا يعتد بذلك الشوط إلى أن يصل إلى
____________________
(3/58)
الحجر فيعتبروا ابتداء الطواف منه وقدمنا فيما سلف أنه ينبغي أن يكون واجبا إذ لا فرق بينه وبين جعل البيت عن يساره في الدليل وجعل البيت عن يسار الطائف واجب فكذا ابتداء الطواف من الحجر واجب البتة قوله ومن ترك السعي بين الصفا والمروة فعليه دم وحجة تام لأن السعي من الواجبات عندنا وقد تقدم نصب الخلاف فيه مع الشافعي وغيره وأقمنا دليل الوجوب وأبطلنا ما جعله دليلا للركنية فارجع إليه في أثناء باب الإحرام قال في البدائع وإذا كان السعي واجبا فإن تركه لعذر فلا شيء عليه وإن تركه لغير عذر لزمه دم لأن هذا حكم ترك الواجب في هذا الباب أصله طواف الصدر وأصل ذلك ما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال
من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف ورخص للحيض فأسقطه للعذر وعلى هذا فإلزام الدم في الكتاب بترك السعي يحمل على عدم العذر وكذا يلزم الدم بترك أكثره فإن ترك ثلاثة أشواط منه لزمه صدقة أي يطعم لكل شوط مسكينا لنصف صاع من بر أو قيمته إلا أن يبلغ ذلك دما فهو بالخيار وكما يلزمه بتركه الدم فكذلك يلزم بركوبه فيه من غير عذر إلا إن ركب لعذر وتقدم في الهداية أن في ترك الوقوف بمزدلفة لغير عذر دما لا لعذر قوله ومن أفاض قبل الإمام قد تركنا مواضع من هذا الفصل لأنها مفصلة واضحة في الكتاب فتراجع فيه ثم الأولي أن يقول قبل أن تغرب الشمس لأنه المدار إلا أن الإفاضة من الإمام لما لم تكن قط إلا على الوجه الواجب أعني بعد الغروب وضع المسألة باعتبارها وأشار في الدليل إلى خصوص المراد بقوله ولنا أن الاستدامة إلى غروب الشمس واجبة والحديث الذي ذكره وهو قوله صلى الله عليه وسلم
فادفعوا بعد غروب الشمس غريب ولا شبهة في أنه صلى الله عليه وسلم دفع بعد غروب الشمس ويمكن أن يقال كل ما وقع من قوله صلى الله عليه وسلم في الحج يحمل على الوجوب إلا أن يقوم دليل خلافه لقوله صلى الله عليه وسلم
خذوا عني مناسككم وأيضا ما تقدم من حديث الحاكم عن المسور خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
أما بعد فإن أهل الشرك كانوا يدفعون من هذا الموضع إذا كانت الشمس علي رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال في وجوهها وإنا ندفع بعد أن تغيب فإن هذا السوق يفيد الوجوب بأدنى تأمل فيه ومسائل الإفاضة قبل الغروب ذكرناها في بحث الوقوف بعرفة فارجع إليها تستغن عن إعادتها هنا
____________________
(3/59)
وقوله في ظاهر الرواية يحترز به عما قدمناه هناك من رواية ابن شجاع قوله واختلفوا فيما إذا عاد قبل الغروب ذكر الكرخى أنه يسقط لأن الواجب الإفاضة بعد الغروب وقد وجد وتقدم ما عليه وجوابه وأنه الحق فارجع إليه قوله كما في الحلق حيث يجب دم واحد بحلق شعر كل البدن في مجلس واحد لاتحاد الجناية باتحاد الجنس فكذا ترك رمي الجمار في كل الأيام يلزمه به دم واحد قوله والترك إنما يتحقق بغروب الشمس من آخر أيام الرمي وهو آخر أيام التشريق وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة ولا يبقى في ليلة الرابع عشر بخلاف الليالي التي تتلو الأيام التي قبلها وتقدم بيان ذلك في بحث الرمي وقوله فيرميها على التأليف يعني على الترتيب كما كان يرتب الجمار في الأداء واعلم أن إطلاق إلزام الدم والصدقة بترك الرمي على الاتفاق فيما إذا لم يقضه أما إن قضى رمى اليوم الأول في الثاني أو الثالث أو الثاني في الثالث فالايجاب على قول أبي حنيفة رحمه الله لا على قولهما لأن
____________________
(3/60)
تأخير النسك وتقديمه غير موجب عندهما شيئا قوله إلا أن يكون المتروك أكثر من النصف بأن يترك إحدى عشر حصاة في غير اليوم الأول وأربع حصيات من جمرة العقبة في يوم النحر وتفاصيل مسائل الرمي ظاهرة من الكتاب وتقدم شيء منها في بحث الرمي فلا نعيده وارجع إليه قوله وكذا إذا أخر طواف الزيارة يعني عن أيام النحر بخلاف ما إذا أخر السعي عن طواف الزيارة حتى مضت أيام النحر لاشيء عليه لأنه أتى به بعده
____________________
(3/61)
قوله كالحلق قبل الرمي الخ وفي موضع إن رمى قبل أن يطوف ورجع إلى أهله فعليه دم بالاتفاق وليس على الحائض لتأخير طواف الزيارة عن أيام النحر شيء بالاتفاق للعذر حتى لو طهرت في آخر أيام النحر ويمكنها أن تطوف قبل الغروب أربعة أشواط فلم تفعل كان عليها الدم لا إن أمكنها أقل منها ولو طاف قبل الرمي يقع معتدا به وإن كان مسنونا بعد الرمي قوله لهما أن ما فات مستدرك بالقضاء الخ ولهما أيضا من المنقول ما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع فقال رجل
يا رسول الله لم أشعر فحلفت قبل أن أذبح قال اذبح ولا حرج وقال آخر يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي قال ارم ولا حرج فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال افعل ولا حرج والجواب أن نفي الحرج يتحقق بنفي الإثم والفساد فيحمل عليه دون نفي الجزاء فإن في قول القائل لم أشعر ففعلت ما يفيد أنه ظهر له بعد فعله أنه ممنوع من ذلك فلذا قدم اعتذاره على سؤاله وإلا لم يسأل أو لم يعتذر لكن قد يقال يحتمل أن الذي ظهر له مخالفة ترتيبه لترتيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فظن أن الترتيب متعين فقدم ذلك الإعتذار وسأله عما يلزمه به فبين عليه صلى الله عليه وسلم في الجواب عدم تعينه عليه بنفي الحرج وأن ذلك الترتيب مسنون لا واجب والحق أنه يحتمل أن يكون كذلك وأن يكون الذي ظهر له كان هو الواقع إلا أنه صلى الله عليه وسلم عذرهم للجهل وأمرهم أن
____________________
(3/62)
يتعلموا مناسكهم وإنما عذرهم بالجهل لأن الحال كان إذ ذاك في ابتدائه وإذا احتمل كلا منهما فالاحتياط اعتبار التعيين والأخذ به واجب في مقام الاضطراب فيتم الوجه لأبي حنيفة ويؤيده ما نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه من قدم نسكا على نسك فعليه دم بل هو دليل مستقل عندنا وفي بعض النسخ ابن عباس وهو الأعرف رواه ابن أبي شيبة عنه ولفظه من قدم شيئا من حجة أو أخره فليهرق دما وفي سنده ابراهيم بن مهاجر مضعف وأخرجه الطحاوي بطريق آخر ليس ذلك المضعف حدثنا ابن مرزوق حدثنا الخصيب حدثنا وهيب عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله قال فهذا ابن عباس أحد من روى عنه صلى الله عليه وسلم
افعل ولا حرج لم يكن ذلك عنده على الإباحة بل على أن الذي فعلوه كان على الجهل بالحكم فعذرهم وأمرهم أن يتعلموا مناسكهم ومما استدل به قياس الإخراج عن الزمان بالإخراج عن المكان وأما الاستدلال بدلالة قوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية } الآية فإن إيجاب الفدية للحلق قبل أوانه حالة العذر يوجب الجزاء مع عدم العذر بطرق أولى فمتوقف على أن ذلك التأقيت الصادر عنه صلى الله عليه وسلم بالقول كان لتعينه لا لاستنانه ونص المصنف على صور التقديم والتأخير يغني عن ذكرنا وتخصيص القارن في قوله ونحر القارن قبل الرمي ليس بلازم بل المتمتع مثله وذلك لأن ذبحه واجب بخلاف المفرد قوله قيل هو بالاتفاق أي التفاق على لزوم الدم للحاج لأن التوارث من لدن النبي صلى الله عليه وسلم وجميع الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المسلمين جرى على الحلق في الحج في الحرم من منى وهو إحدى الحجج قوله فالحاصل أن الحلق يتوقت بالزمان وهو أيام النحر والمكان وهو الحرم عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف لا يتوقت بهما وعند محمد بالمكان لا المكان وعند زفر عكسه
____________________
(3/63)
وهذا الخلاف في التضمين بالدم لا في التحلل يعني أنه لا خلاف في أنه أي مكان أو زمان أتى به يحصل به التحلل بل الخلاف في أنه إذا حلق في غير ما توقت به يلزم الدم عند من وقته ولا شيء عليه عند من لم يوقته ثم هو أيضا في حلق الحاج أما المعتمر فلا يتوقت في حقه بالزمان بالاتفاق بل بالمكان عند أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف لأبي يوسف ومحمد في نفي توقته بالزمان ما روى أنه صلى الله عليه وسلم
قال اذبح ولا حرج لمن قال حلقت قبل أن أذبح فدل على أنه غير موقت به وتقدم الجواب عن هذا ولأبي يوسف وزفر في نفي توقته بالمكان حلقه عام الحديبيه بها وهي من الحل ولا فرق بين العمرة والحج في هذا الحكم بالاتفاق والجواب ما ذكر في الكتاب من أن بعض الحديبية من الحرم فيجوز كون الحلق كان فيه فلا حجة إلا أن ينقل صريحا أن الحلق كان في البعض الذي هو حل مع ما روى أنه صلى الله عليه وسلم نزل بالحديبية في الحل وكان يصلي في الحرم فالظاهر أنه لم يحلق في الحل وهو بسبيل من أن يحلق في الحرم فيبقى التوارث الكائن في الزمان والمكان خاليا عن المعارض وكذا ما قدمناه آنفا من قول ابن عباس في الزمان ثم
____________________
(3/64)
يلحق به المكان قوله فإن لم يقصر حتى رجع متصل بقوله فخرج من الحرم وقصر غير أنه فصل بالتقرير ونقل الأصل الخلافي قوله وإن حلق القارن قبل أن يذبح فعليه دمان عند أبي حنيفة رحمه الله دم بالحلق في غير أوانه
____________________
(3/65)
لأن أوانه بعد الذبح ودم بالتأخير عن الحلق هذا سهو من القلم بل أحد الدمين لمجموع التقديم والتأخير والآخر دم القران والدم الذي يجب عندهما دم القران ليس غير لا للحلق قبل أوانه ولو وجب ذلك لزم في كل تقدم نسك على نسك دمان لأنه لا ينفك عن الأمرين ولا قائل به ولو وجب في حلق القارن قبل الذبح لوجب ثلاثة دماء في تفريع من يقول إن إحرام عمرته انتهى بالوقوف وفي تفريع من لا يراه كما قدمنا خمسة دماء لأن جنايته على إحرامين والتقديم والتأخير جنايتان فيهما أربعة دماء ودم القران فصل في جزاء الصيد قوله اعلم أن صيد البر محرم الخ أي قتله وإن لم يأكله وأكله وإن ذكاه المحرم وعن هذا لو اضطر محرم إلى
____________________
(3/66)
أكل الميتة أو الصيد يأكل الميتة لا الصيد على قول زفر لتعدد جهات حرمته عليه وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يتناول الصيد ويؤدي الجزاء لأن حرمة الميتة أغلظ ألا ترى أن حرمة الصيد ترتفع بالخروج من الإحرام فهي مؤقتة بخلاف حرمة الميت فعليه أن يقصد أخف الحرمتين دون أغلظهما والصيد وإن كان محظور الإحرام لكن عند الضرورة يرتفع الحظر فيقتله ويأكل منه ويؤدي الجزاء هكذا في المبسوط وفي فتاوي قاضيخان أن المحرم إذا اضطر إلى ميتة وصيد فالميتة أولى في قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف والحسن يذبح الصيد ولو كان الصيد مذبوحا فالصيد أولى عند الكل ولو جد صيدا ولحم آدمي كان ذبح الصيد أولى ولو وجد صيدا وكلبا فالكلب أولى لأن في الصيد ارتكاب المحظورين وعن محمد الصيد أولى من لحم الخنزير ففي هذا خلاف ما ذكرناه من المبسوط قوله وصيد البر الخ ليس ما ذكره تعريفا لصيد البر بل للبرى من الأشياء ومراده تعريف البري مطلقا ثم الصيد مطلقا فيعرف منهما صيد البر ولذا أفرده بعده الصيد فقال والصيد هو الممتنع الخ فينتظم منهما تعريف صيد البر هكذا هو ما توالده ومثواه في البر مما هو ممتنع لتوحشه الكائن في أصل الخلقة فيدخل الظبي المستأنس ويحرج البعير والشاة المتوحشان لعروض الوصف لهما وكون ذكاة الظبي المستأنس بالذبح والأهلي المتوحش بالعقر لا ينافيه لأن الذكاة بالذبح والعقر دائران مع الإمكان وعدمه لامع الصيدية وعدمها ويخرج الكلب لأنه ليس بصيد سواء كان أهليا أو وحشيا لأن الكلب أهلي في الأصل لكن ربما يتوحش وكذا السنور الأهلي ليس بصيد لأنه مستأنس أما البري منه نفيه روايتان عن أبي حنيفة هذا والمعول عليه في كونه بريا وبحريا التوالد في البر والبحر لا مع كون مثواه فيه كظاهر عبارة الكتاب كذا في النهاية وعلى اعتباره لا يجب الجزاء بقتل كلب الماء والضفدع المائي لأنه يعيش في البر وهو مائي المولد واختلف في أنه هل يباح كل ما كان من صيد البحر أو ما يحل أكله منه فقط ففي المحيط كل ما يعيش في الماء يحل قتله وصيده للمحرم اه قال بعضهم كالسمك والضفدع والسرطان وكلب الماء وفي مناسك الكرماني الذي يرخص من صيد البحر للمحرم هو السمك خاصة والأصح هو الأول لأن قوله تعالى { أحل لكم صيد البحر وطعامه }
____________________
(3/67)
يتناول بحقيقته عموم ما في البحر وفي البدائع أما صيد البحر فيحل اصطياده للحلال والمحرم جميعا مأكولا أو غير مأكول واستدل بالآية وأما ما في الأصل من قوله والذي رخص للمحرم من صيد البحر هو السمك خاصة فأما طير البحر فلا يرخص فيه للمحرم فقد شرحه في المبسوط بما يفيد تعميم الإباحة وأن المراد ما يقابل المائي بالسمك فالضفدع جعله شمس الأئمة في المبسوط من صيد البحر مطلقا وكذا قاضيخان وينبغي قبل الحكم بالحل بناء على أن مولده في البحر وإن كان يعيش في البر تحقيق ذلك ومثله السرطان والتمساح والسلحفاة هذا ويستثني من صيد البر بعضه كالذئب والغراب والحدأة وأما باقي الفواسق فليست بصيود وأما باقي السباع فالمنصوص عليه في ظاهر الرواية أنه يجب بقتلها الجزاء لا يجاوز شاة إن ابتدأها المحرم فإن ابتدأته بالأذى فقتلها فلا شيء عليه وذلك كالأسد والفهد والنمر والصقر والبازي وأما صاحب البدائع فقسم البري إلى مأكول وغيره والثاني إلى ما يبتدئ بالأذى غالبا كالأسد والذئب والنمر والفهد وإلى ما ليس كذلك كالضبع والثعلب فلا يحل قتل الأول والأخير إلا أن يصول ويحل قتل الثاني ولا شيء فيه وإن لم يصل وجعل ورود النص في الفواسق ورودا فيها دلالة ولم يحك خلافا بل ذكره حكما مبتدأ مسكوتا فيه ثم رأيناه رواية عن أبي يوسف قال في فتاوي قاضيخان وعن أبي يوسف الأسد بمنزلة الذئب وفي ظاهر الرواية السباع كلها صيد إلا الكلب والذئب اه وسنذكر إن شاء الله تعالى ما هو الأسعد بالوجه فيما يأتي هذا ولا فرق في وجوب الجزاء بين المباشرة والتسبيب إذا كان متعديا فيه فلو نصب شبكة للصيد أو حفر للصيد حفيرة فعطب صيد ضمن لأنه متعد ولو نصب فسطاطا لنفسه فتعقل به فمات أو حفر حفيرة للماء أو لحيوان مباح قتله كالذئب فعطب فيها لا شيء عليه وكذا لو أرسل كلبه على حيوان مباح فأخذ ما يحرم أو أرسله إلى صيد في الحل وهو حلال فتجاوز إلى الحرام فقتل صيدا لا شيء عليه لأنه غير متعد في التسبيب وكذا لو طرد الصيد حتى أدخله في الحرم فقتله فيه فلا شيء عليه ولا يشبه هذا الرمي يعني لو رمي إلى صيد في الحل فأصابه في الحرم فإن عليه الجزاء لأنه تمت جنايته بالمباشرة قال الشهيد وهو قول أبو حنيفة فيما أعلم وفيه كلام نذكره في صيد الحرم إن شاء الله تعالى ولا ما لو انقلب محرم نائم على صيد فقتله يجب عليه الجزاء ذكره في المحيط
____________________
(3/68)
لأن المباشرة لا يشترك فيها عدم التعدي ومثله الكلب لو زجره بعدما دخل الحرم وجب عليه الجزاء استحسانا ومثله لو أرسل مجوسي كلبا على صيد فزجره محرم فانزجر فقتل الصيد فعليه جزاؤه ولا يؤكل وأعلم أن الجزاء يتعدد بتعدد المقتول إلا إذا قصد به التحلل ورفض إحرامه في الأصل ولو أصاب المحرم صيدا كثيرا على قصد الإحلال والرفض لإحرامه فعليه لذلك كله دم وقال الشافعي عليه جزاء كل صيد لأنه مرتكب محظور إحرامه بقتل كل واحد فيلزمه موجب كل واحد كما لو لم يقصد رفض الإحرام وهذا لأن قصده هذا ليس بشيء لأنه لا يرتفض به الإحرام فوجوده كعدمه وقلنا إن قتل الصيد من محظورات الإحرام وارتكاب محظورات العبادة يوجب ارتفاضها كالصوم والصلاة إلا أن الشرع جعل الإحرام لازما لا يخرج عنه إلا بأداء الأعمال ألا ترى أنه حين لم يكن في الابتداء لازما كان يرتفض بارتكاب المحظور وكذا الأمة إذا أحرمت بغير إذن سيدها والمرأة إذا أحرمت بغير إذن زوجها بحجة التطوع لما لم يكن ذلك لازما في حق الزوج كان له أن يحللها بفعل شيء من المحظورات فكان هو في قتل الصيد هنا قاصدا إلى تعجيل الإحلال إلى الجناية على الإحرام وتعجيل الإحلال يوجب دما واحدا كما في المحصر بخلاف ما إذا لم يكن على قصد الإحلال لأنه قصد الجناية على الإحرام بقتل كل صيد فيلزمه جزاء كل صيد وقد بينا أن جزاء الصيد في حق المحرم ينبني على قصده حتى إن ضارب الفسطاط لا يكون ضامنا للجزاء بخلاف ناصب الشبكة كذا في المبسوط ولو رمى إلى صيد فتعدى إلى آخر فقتلهما وجب عليه قيمتهما وكذا لو اضطرب بالسهم فوقع على بيضة أو فرخ فأتلفها لزماه جميعا وروى أن جماعة نزلوا بيتا بمكة ثم خرجوا إلى منى فأمروا أحدهم أن يغلق الباب وفيه حمام من الطيور وغيرها فلما رجعوا وجدوها ماتت عطشا فعلى كل واحد منهم جزاؤها لأن الآمرين تسببوا بالأمر والمغلق بالإغلاق ولو نفر صيدا فقتل صيدا آخر ضمنهما وكذا لو أرسل محرم كلبه فزجره آخر ضمن قوله فأشبه دلالة الحلال حلالا كون المحلول حلالا اتفاقي والمراد أشبه دلالة الحلال على صيد الحرم غيره حلالا أو محرما فإنه استحق الأمن بحلوله في الحرم كما استحق الصيد مطلقا الأمن بالإحرام فكما أن تفويت الأمن المستحق بالحرم لا يوجب الجزاء كذا تفويت المستحق بالإحرام لا يوجبه قوله ولنا ما روينا من حديث أبي قتادة أي في باب الإحرام وتقدم تخريجه من الصحيحين وغيرهما وليس فيه هل دللتم بل قال صلى الله عليه وسلم
هل منكم أحد أمره أن يحمل
____________________
(3/69)
عليها أو أشار إليها قالوا لا قال فكلوا ما بقى من لحمها وجه الاستدلال به على هذا أنه علق الحل على عدم الإشارة وهي تحصل الدلالة بغير اللسان فأحرى أن لا يحل إذا دله باللفظ فقال هناك صيد ونحوه قالوا الثابت بالحديث حرمة اللحم على المحرم إذا دل قلنا فيثبت أن الدلالة من محظورات الإحرام بطريق الالتزام لحرمة اللحم فيثبت أنه محظور إحرام هو جناية على الصيد فنقول حينئذ إنه جناية على الصيد بتفويت الأمن على وجه اتصل قتله عنها ففيه الجزاء كالقتل وهذا هو القياس الذي ذكره المصنف بعد ذلك فلا يحسن عطفه على الحديث لأن الحديث لم يثبت الحكم المتنازع فيه وهو وجوب الكفارة بل محل الحكم ثم ثبوت الوجوب المذكور في المحل إنما هو بالقياس على القتل وعن هذا الوجه والقياس الآخر الذي سنذكره وهو إلحاق الدال بالمودع وقول عطاء أجمع الناس على أن على الدال الجزاء وليس الناس إذ ذاك إلا الصحابة والتابعيين يجب أن يحمل ما عن ابن عمر أن لا جزاء على الدال على دال لم يقع عن دلالته قتل دفعا لتوهم أن مجرد الدلالة موجبة للجزاء هذا وحديث عطاء غريب وذكره ابن قدامة في المغنى عن على وابن عباس على أن قول الطحاوي هو مروى عن عدة من الصحابة رضى الله عنهم ولم يرو عن غيرهم خلافه فكان إجماعا يتضمن رد الرواية عن ابن عمر قوله كالمودع هذا هو القياس الآخر وتقريره التزم عدم التعرض للصيد بعقد خاص فيضمن ما تلف عن ترك ما التزمه كالمودع فإنه التزم الحفظ كذلك فيضمن لو دل سارقا على الوديعة فسرقها بخلاف الحلال الذي قاس هو عليه لأنه لم يلتزم عدم التعرض لصيد الحرم ولا للمسلم بعقد خاص بل بعموم حكم الإسلام وترك ذلك
____________________
(3/70)
يوجب استحقاق عذاب الآخرة فلهذا لو دل سارقا على مال مسلم أو نفسه فقتله تأخر جزاؤه الأعظم إلى الآخرة ويعزر في الدنيا من غير تضمين وإن كانت جنايته أعظم من دلالة المحرم على الصيد قوله لا ضمان على المكذب يفيد لزوم الضمان على المصدق وفي الكافي لو أخبر محرما بصيد فلم يره حتى أبصره محرم آخر فلم يصدق الأول ولم يكذبه ثم طلب الصيد فقتله كان على كل واحد منهما الجزاء ولو كذب الأول لم يكن عليه جزاء ومن شرائطها أيضا أن يتصل بها القتل وأن يبقى الدال محرما إلى أن يقتله الآخذ وأن لا ينفلت فلو انفلت ثم أخذه فلا شيء على الدال لانتهاء دلالته بالانفلات والأخذ ثانيا إنشاء لم يكن عن عين تلك الدلالة ولو أمره بقتله بعدما أخذه ينبغي أن يضمن وعلى هذا إذا أعاره سكينا ليقتله بها وليس مع الآخذ ما يقتله به أو قوسا أو نشابا يرميه به وقد قدمنا من روايات الحديث في باب الإحرام عند مسلم هل أعنتم ولا شك أن إعارة السكين إعانة عليه وما في الأصل من أنه لا جزاء على صاحب السكين حمل على ما إذا كان المستعير يقدر على ذبحه بغيرها وصرح في السير بأن على صاحب السكين الجزاء وكذا لو دل على قوس ونشاب من رآه ولا يقدر على قتله لبعده وأعلم أن صريح عبارة الأصل في الإعارة أنه لا جزاء على صاحب السكين ويكره له ذلك قال شمس الأئمة في المبسوط أكثر مشايخنا يقولون تأويل هذه المسألة أنه إذا كان مع المحرم القاتل سلاح يقتل به لأنه متمكن من قتله فأما
____________________
(3/71)
إذا لم يكن معه ما يقتل به ينبغى أن يجب الجزاء لأن التمكن بإعارته له وإلى هذا أشار في السير قال شمس الأئمة والأصح عندي أنه لا يجب الجزاء على المعير على كل حال لوجهين حاصل الأول أن معني الصيدية تلف بأخذ المستعير للصيد فأخذه قتل حكما ثم يقتله حقيقة وإعارة السكين ليس بإتلاف حقيقة ولا حكما بخلاف الدلالة فإنه إتلاف لمعنى الصيدية من وجه حيث أعلم به من لا يقدر الصيد على الامتناع منه والثاني أن إعارة السكين تتم بالسكين لا بالصيد فإنها صحيحة وإن لم يكن صيد إذ لا يتعين استعماله في قتل الصيد بخلاف الإشارة إلى قتل الصيد فإنها متصلة بالصيد ليس فيها فائدة أخرى سوى ذلك ولا يتم ذلك إلا بصيد هناك ولذا يتعلق وجوب الجزاء بها ولو أمر المحرم غيره بأخذ صيد فأمر المأمور آخر فالجزاء على الآمر الثاني لأنه لم يتمثل أمر الأول لأنه لم يأمره بالأمر بخلاف ما لو دل الأول على الصيد وأمره فأمر الثاني ثالثا بالقتل حيث يجب الجزاء على الثلاثة وكذا الإرسال فلو أرسل محرم محرما إلى محرم يدله على صيد فقتله المرسل إليه فعلى كل من الثلاثة الجزاء وعن أبي يوسف لو قال خلف هذا الحائط صيد فإذا صيد كثير فأخذه ضمن الدال كله فلو رأى واحدا فدل عليه فإذا عنده آخر فقتلهما المدلول كان على الدال جزاء الأول فقط كما لو دله على واحد تنصيصا والباقي بحاله ولو قال خذ أحد هذين وهو يراهما فقتلهما كان على الدال جزاء واحد وإن كان لا يراهما فعليه جزاءان لأنه بالأمر بأخذ أحدهما دال على الآخر لما لم يعلم المأمور بهما قوله فأشبه غرامات الأموال من حيث أن الضمان يدور
____________________
(3/72)
مع الإتلاف غير مقيد بالعمد لا مطلقا فإن هذا الضمان يتأدى بالصوم وله قوله وقال محمد والشافعي الخ ذكر في النهاية أن الخلاف في فصول الأول أن الواجب عندهما القيمة وعند محمد والشافعي النظير فيما له نظير الثاني أن الذي إلى الحكمين تقويم المقتول فإذا ظهرت قيمته فالخيار إلى القاتل بين أن يشترى بها هديا يهديه أو طعاما يتصدق به أو يصوم عن كل طعام مسكين يوما وعند محمد والشافعي إلى الحكمين فإذا عينا نوعا لزمه ا هـ وقال غيره الخيار في تعيين الهدى والإطعام والصيام إلى الحكمين فإذا حكما بالهدى فالمعتبر فيما له مثل ونظير من حيث الخلقة ما هو مثله ففي الضبع شاة الخ والحاصل أن المشايخ اختلفوا في تعيين قول محمد حكى الطحاوي عنه أن الخيار إلى الحكمين فإذا حكما عليه بالهدى نظر القاتل إلى نظيره من النعم من حيث الخلقة إن كان الصيد مما له نظير سواء كانت قيمته نظيره مثل قيمته أو أقل أو أكثر لا ينظر إلى القيمة فيجب وإن لم يكن له نظير كسائر الطيور تعتبر قيمته كما قالا وحكى الكرخي قول محمد أن الخيار إلى القاتل غير أنه إن اختار الهدى تعين النظير فيما له نظير وعند الشافعي يجب النظير ابتداء من غير اختيار أحد وله أن يطعم ويكون الطعام بدلا عن النظير لا عن الصيد كذا في البدائع وعن زفر رحمه الله عدم جواز الصوم حالة القدرة على الهدى والإطعام قاسه على كفارة اليمين والظهار وهدى المتعة وقال حرف أو لا ينفى الترتيب كما في قطاع الطريق ودفع بأن شرط القياس عدم النص في الفرع والنص الكائن فيه يوجب التخيير بحقيقة أو وإعمالها في موضع في مجازيها لدليل لا يجوز اعتبارها كذلك في كل موضع لعدم الدليل فيها قوله ففي الأرنب عناق الخ العناق الأنثى من أولاد المعز والجدى الذكر وهما دون الجذع والجفر ما يبلغ أربعة أشهر من
____________________
(3/73)
العناق والأنثى جفرة بالجيم قوله فلقوله تعالى { فجزاء مثل ما قتل من النعم } بناء على حمل المثل على المماثل في الصورة ولفظ من النعم بيان للجزاء أو للمثل والقيمة ليست نعما ولذا أوجب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين المثل من حيث الصورة في موطأ مالك أخبرنا أبو الزبير عن جابر أن عمر قضى في الضبع بكبش وفي الغزال بعنز وفي الأرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة وروى الشافعي حديثا أن عمر وعثمان وعليا وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية رضوان الله عليهم قالوا في النعامة يقتلها المحرم بدنه من الإبل وفيه ضعف وانقطاع فلذا قال عقيبه إنما نقول إن في النعامة بدنه بالقياس لا بهذا الأثر لأنه غير ثابت عند أهل العلم بالحديث أ هـ لكن أخرج البيهقي عن ابن عباس قال في حمامة الحرم شاة وفي بيضتين درهم وفي النعامة جزور وفي البقرة بقرة وفي الحمار بقرة وقال صلى الله عليه وسلم
الضبع صيد وفيه شاة رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع أصيد هو قال نعم ويجعل فيه كبش إذا أصابه المحرم وأخرجه أيضا الحاكم عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه كبش مسن ويؤكل وقال صحيح ولم يخرجاه قوله ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن المثل المطلق هو المثل صورة و معنى وهو المشارك في النوع وهو غير مراد هنا بالإجماع فبقي أن يراد المثل معنى وهو القيمة
____________________
(3/74)
وهذا لأن المعهود في الشرع في إطلاق لفظ المثل أن يراد المشارك في النوع أو القيمة قال تعالى في ضمان العدوان { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } والمراد الأعم منهما أعنى المماثل في النوع إذا كان المتلف مثليا والقيمة إذا كان قيميا بناء على أنه مشترك معنوي والحيوانات من القيميات شرعا إهدارا للمماثلة الكائنة
____________________
(3/75)
في تمام الصورة فيها تغليبا للاختلاف الباطني بين أبناء نوع واحد فما ظنك إذا انتفى المشاركة في النوع أيضا فلم يبق إلا مشاكلة في بعض الصورة كطول العنق والرجلين في النعامة مع البدنة ونحو ذلك في غيره فإذا حكم الشرع بانتفاء اعتبار المماثلة مع المشاكلة في تمام الصورة ولم يضمن المتلف بما شاركه في تمام نوعه بل بالمثل المعنوى فعند عدمها وكون المشاكلة في بعض الهيئة انتفاء الاعتبار أظهر إلا أن لا يمكن وذلك بأن لا يكون للفظ محمل يمكن سواه فالواجب إذا عهد المراد بلفظ في الشرع وتردد فيه في موضع يصح حمله على ذلك المعهود وغيره أن يحمل على المعهود وما نحن فيه كذلك فوجب المصير إليه وأن يحمل حكم الصحابة بالنظير على أنه كان باعتبار تقدير المالية أي بيان أن مالية المقتول كمالية الشاة الوسط لا على معنى أنه لا يجزي غيره بقي أن يبين احتمال لفظ الآية لذلك وفيها قراءتان مشهورتان { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء } مرفوع منون مثل ما قتل من النعم يرفع مثل والأخرى فجزاء مثل بإضافة الجزاء إلى مثل وهي إضافة بيانية فالمعنى واحد أي فجزاء هو مثل ما قتل ومضمون الآية شرط وجزاء حذف منه المبتدأ بعد فاء الجزاء أو الخبر تقديره فالواجب عليه جزاء مثل ما قتل أي قيمة ما قتل أو فعليه جزاء ومن النعم بيان لما قتل أو للعائد إليها أعنى المنصوب المحذوف أي ما قتله من النعم الوحشي والنعم يطلق عليه لغة كما يطلق على الأهلى فيتعلق بمحذوف لأنه في موضع الحال وقوله تعالى { يحكم به ذوا عدل منكم } جملة واقعة صفة لجزاء الذي هو القيمة أو لمثل الذي هو هي لأن مثلا لا تتعرف بالإضافة فجاز وصفها ووصف ما أضيف إليها بالجملة وهديا حال من ضمير به وهو الراجع إلى ما يجعل موصوفا منهما وهي حال مقدرة أي صائرا هديا به وذلك في نفس الأمر بواسطة الشراء بها أو غير ذلك وبالغ الكعبة صفة لأن إضافته لفظية فتوصف به النكرة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما معطوفان على الجزاء لأنهما مرفوعان وتمام مؤدي التركيب على هذا فالواجب عليه جزاء هو قيمة ما قتله من النعم الوحشى يحكم به أي بذلك الجزاء الذي هو القيمة عدلان حال كونه صائرا هديا بواسطة القيمة أو ككفارة طعام مساكين إلى آخرها أي الواجب أحد الأمرين من القيمة الصائرة هديا ومن الإطعام والصيام المبنيين على تعرف القيمة فقد
____________________
(3/76)
ظهر تأدى المعنى الذي ذهبنا إليه من لفظة الآية من غير زيادة تكلف فيها وكون الحال مقدرة كثير بثير وهو وإن لم يلزم على تقدير المخالف فيها يلزم على تقديره في وصفها وهو بالغ الكعبة فإنه لا يصح حكمهما بالهدى موصوفا ببلوغه إلى الكعبة حال حكمهما به على التحقيق بل المراد يحكمان به مقدرا بلوغه فلزوم التقدير ثابت غير أنه يختلف محله على الوجهين ثم على كل تقدير لا دلالة للآية على أن الاختيار إلى الحكمين بل الظاهر منها أنه إلى من عليه فإن مرجع ضمير المحذوف من الخبر أو متعلق المبتدإ إليه أعنى ما قدرناه من قولنا فالواجب عليه أو فعليه والله جلت عظمته أعلم قوله لأنه تفسير لقوله تعالى { يحكم به } سماه تفسيرا لأنه أزال الإبهام عنه في الجملة حتى سماه بعض تمييزا لكونه حالا وكل حال تكشف عن إبهام في الجملة أعنى اعتبار أحوال ما هي له لهذا ويقوم الصيد بما فيه من الخلقة لا بما زاده التعليم فلو كان بازيا صيود أو حما ما يجيء من بعيد قوم لا باعتبار الصيودية والمجيء من بعيد فإذا كان مملوكا كان عليه قيمته لمالكه يعتبر فيها ما يزيده التعليم وقيمته للجناية لا يعتبر فيها ذلك أما لو كان قيمته زائدة لحسن تصويته ففي اعتبارها روايتان في رواية لا تعتبر لأنه ليس من أصل الصيدية وفي أخرى تعتبر لأنه ثابت بأصل الخلقة كالحمام المطوق أما في الغصب فيضمن بما يشترى به
____________________
(3/77)
في البلد إلا إذا كان المحرم من اللهو كقيمة الديك لنقاره والكبش لنطاحه والتيس للعبه قوله وقيل يعتبر المثنى أي في الحكم المقوم والذين لم يوجبوه حملوا العدد في الآية على الأولوية لأن المقصود به زيادة الإحكام والإتقان والظاهر الوجوب وقصد الإحكام والإتقان لا ينافيه بل قد يكون داعيته قوله ونحن نقول الخ وذلك أنه لما عين الهدى أحد الواجبات علم أنه ليس المراد مجرد التصدق باللحم وإلا لحصل التصدق بالقيمة أو بلحم يشتريه بل المراد التقرب بالإراقة مع التصدق بلحم القربان وهو تبع متمم لمقصوده فلا ينعدم الإجزاء بفواته عن ضرورة فلذا لو سرق بعد الإراقة أجزأه بخلاف ما لو سرق قبلها أو ذبح بالكوفة فسرق لا يجزيه لأن القربة هناك لا تحصل إلا بالتصدق لاختصاص قربة الإراقة بمكان مخصوص أعنى الحرم ولا يتصدق بشيء من الجزاء على من لا تقبل شهادته له ويجوز على أهل الذمة والمسلم أحب ولو أكل من الجزاء غرم قيمة ما أكل قوله وإذا وقع الاختيار على الهدى بهدى ما يجزى في الأضحية حتى لو لم تبلغ قيمة المقتول إلا عناقا أو حملا كفر بالإطعام أو الصوم لا بالهدى ولا يتصور التكفير بالهدى إلا أن تبلغ قيمته جذعا عظيما من الضأن أو ثنيا من غيره وهذا عند أبى حنيفة وأبي يوسف وعند محمد رحمه الله يكفر بالهدى وإن لم يبلغ ذلك ومنهم من جعل قول
____________________
(3/78)
أبي يوسف كقول محمد لأن الصحابة أوجبوا عناقا وجفرة على ما ذكرناه من قريب وأبو حنيفة يقول المنصوص عليه الهدى ومطلقه في الشرع ينصرف إلى ما يبلغ ذلك السن لأنه المعهود من إطلاقه في هدى المتعة والقران والأضحية فيحمل عليه وإنما يراد به غير ما ذكرنا مجازا فيتقيد جواز اعتباره بالقرينة كما لو قال ثوبي هدى لزمه الثوب لتقيد الهدى بذكره ولذا لو قال إن فعلت كذا فعلي هدى لزمه شاة ثم إذا اختار الهدى وبلغ ما يضحى به قال المصنف لا يذبح إلا بمكة يريد الحرم مطلقا ولو ذبحه في الحل لا يجزيه من الهدى بل من الإطعام فيشترط أن يعطي كل فقير قدر قيمة نصف صاع حنطة أو صاع من غيرها فإن كانت قيمة اللحم مثل قيمة المقتول أجزأه وإلا فيكمل ويجوز أن يتصدق بالشاة الواقعة هديا على مسكين واحد كما في هدى المتعة قوله وعند أبي حنيفة وأبي يوسف يجوز الصغار على وجه الإطعام الخ يتضمن جوابهما يعنى أن المنفي وقوع الصغار هديا تتعلق القربة فيه بنفسه بمجرد الإراقة لا جوازها مطلقا بل نجزيها باعتبار القيمة إطعاما فيجوز كون حكم الصحابة كان على هذا الاعتبار في الصغار فمجرد فعلهم ذلك حينئذ لا ينافي ما ذهب إليه فلا ينتهض عليه وأما صيرورة ولد الهدى هديا فللتبعية كولد الأضحية قوله عندنا قيد بالظرف لنفى قول محمد إنه يقوم النظير على ما ذكر لأنه الواجب عينا إذا كان للمقتول نظير وقوله لأنه راجع إلى المتلف يعنى المتلف هو المضمون فلا معنى لتقوم غيره لجبره ولو سلم أن النظير هو الواجب عينا عند اختيار الهدى لم يلزم منه وجوب تقويمه عند اختيار خصلة أخرى فكيف وهو ممنوع قوله ولا يجوز أن يطعم المسكين أقل من نصف صاع ولا يمنع أن يعطيه أكثر ولو كان كل الطعام غير أنه إن فعل أجزأ عن إطعام مسكين نصف صاع وعليه أن يكمل بحسابه ويقع الباقي تطوعا بخلاف الشاة
____________________
(3/79)
في الهدي بناء على أن أصل القربة قد حصلت بالإراقة وإطعامه تبع متمم له قوله ضمن ما نقصه وإن برأ وبق له أثر وإن لم يعلم أمات وأبرأ ففي القياس يضمن ما نقص وفي الاستحسان يضمن قيمته احتياطا كمن أخرج صيدا من الحرم ثم أرسله ولا يعلم أدخل الحرم أم لا تجب قيمته ولو قلع سن ظبي أو نتف شعر صيد فنبت مكانها أو ضرب عينها فابيضت ثم انجلت فلا شيء عليه عند أبي حنيفة وعليه صدقة عند أبي يوسف باعتبار ما وصل إليه من الألم وقد روي عن أبي يوسف أيضا اعتبارا الألم في الجناية على العباد حتى أوجب على الجاني ثمن الدواء وأجرة الطبيب إلى أن يندمل وفي مناسك الكرماني لو ضرب صيدا فمرض فانتقصت قيمته أو زادت ثم مات كان عليه أكثر القيمتين من قيمة وقت الجرح أو وقت الموت ولو جرحه فكفر ثم قتله كفر أخرى فلو لم يكفر حتى قتله وجبت عليه كفارة واحدة وما نقصته الجراحة الأولى ساقط وفي الجامع محرم بعمرة جرح صيدا غير مستهلك ثم أضاف إلى عمرته حجة ثم جرحه كذلك فمات منهما فعليه للعمرة قيمته صحيحا وللحج قيمته وبه الجرح الأول ولو كان جرحه ثم حل من عمرته ثم أحرم بالحج ثم جرحه ثانيا فعليه للعمرة قيمته وبه الجرح الثاني وللحج قيمته وبه الجرح الأول ولو حل من العمرة ثم قرن ثم جرحه فمات فعليه للعمرة قيمته وبه الجرح الثاني وللقران قيمتان وبه الجرح الأول ولو كان الأول مستهلكا بأن قطع يده والثاني غير مستهلك وباقي المسألة بحالها فعليه للعمرة قيمته صحيحا للحال وللقران قيمتان وبه الجرح الأول ولو كان الثاني قطع يد أخرى فهي وما لو كان جرحا غير مستهلك سواء لأنه لا يمكنه استهلاكه مرة ثانية قوله لأنه فوت عليه الأمن بتفويت آلة الامتناع يعني وكان كالإتلاف فهذا كالقياس الجاري في الدلالة مما قدمناه فإن أدى الجزاء ثم قتله لزمه جزاء آخر وإن لم يؤده حتى قتله فجزاء واحد قوله عن علي وابن عباس رضي الله عنهم قال عبد الرزاق حدثنا سفيان الثوري عن عبد الكريم الجزرى عن عكرمة عن ابن عباس قال في بيض النعام يصيبه المحرم ثمنه وروى ابن أبي شيبة عنه قال في كل بيضتين درهم وفي كل بيضة نصف درهم وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال حدثنا ابن الفضيل عن خصيف عن أبي عبيدة عن عبد الله قال في بيض النعام قيمته وقال عبد الرزاق أخبرنا أبو حنيفة عن خصيف به وأخرج ابن أبي شيبه مثله عن عمر منقطعا وأخرج نحوه عن مجاهد والشعبي والنخعي وطاوس وفيه حديث
____________________
(3/80)
مرفوع رواه عبد الرزاق والدارقطني وهو ضعيف قوله ما لم يفسد الأوجه وصله بكسر بيض نعامة أي ومن كسر بيض نعامة ما لم يفسد أي في زمن عدم فسادها فعليه قيمته وما مصدرية نائبة عن ظرف الزمان وإنما لم يجب في البيضة المذرة لأن ضمان البيضة ليس لذاتها بل لعرضية الصيد وليست المذرة بعرضية أن تصير صيدا فانتفى بهذا ما قال الكرماني إذا كسر بيض نعامة مذرة وجب الجزاء لأن لقشرتها قيمة وإن كانت غير نعامة لا يجب شيء وذلك لأن المحرم بالإحرام ليس التعرض للقشر بل للصيد فقط وليس للمذرة عرضية الصيدية قوله والكسر قبل أوانه سبب لموته فيحال به عليه يفيد أن هذا الحكم فيما إذا جهل أن موته من الكسر أولا فأما إذا علم أن موته قبل الكسر لا يجب فيه شيء لانعدام الإماته ولا في البيض لعدم العرضية وإذا ضمن الفرخ لا يجب في البيض شيء لأن ما ضمانه لأجله قد ضمنه ولو أخذ البيضة فحضنها تحت دجاجة ففسدت لا يختلف الجواب ولو لم تفسد وخرج منها فرخ وطار لا شيء عليه وكذا لو نفر صيد عن بيضه ففسد ضمنه إحالة للفساد عليه لأنه السبب الظاهر ولا يخفى عليك إذا تذكرت أن التعليل المذكور كالتعليل في مسألة الفأرة التي توجد في البئر ميتة لا يدري متى وقعت حيث حكم أبو حنيفة بإضافة موتها إلى وقوعها في البئر ورتب عليها حكم البئر التي ماتت فيها فأرة إحالة على السبب الظاهر وهما قد خالفاه هناك ووافقاه هنا فيطالبان بالفرق المؤثر لا كل فرق وعلى هذا لو جرح صيدا فغاب فوجده ميتا إن علم أنه مات بسبب آخر فعليه ضمان الجرح وإن لم يعلم يجب الضمان احتياطا للسببية الظاهرة كمن أخرج صيدا من الحرم وأرسله ولا يعلم أدخل الحرم أم لا تجب قيمته قوله وعلى هذا أي هذا الأصل وهو النسبة إلى ما هو السبب الظاهر إذا ضرب بطن ظبية فألقت جنينا ميتا وماتت الأم فعليه ضمانهما أما الأم فظاهر وأما الجنين فلأن ضرب البطن سبب ظاهر لموته وقد ظهر عقيبه
____________________
(3/81)
ميتا فيحال عليه قوله وليس في قتل الغراب لم يقل ليس في قتل المحرم الخ جزاء بل أطلق نفي الجزاء في قتلهن ليفيد أنه لا يستعقب جزاء في الحرم ولا في الإحرام فلهذا استدل بما يفيد إباحة قتلهن في الحرم وبما يفيد في الإحرام فالأول هو ما
في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور وفي لفظ مسلم
الحية عوض العقرب وقال فيه الغراب الأبقع والثاني ما
في الصحيحين عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح العقرب والفأرة والكلب العقور والغراب والحدأة وأخرجناه أيضا
عن ابن عمر قال حدثني إحدى نسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقتل المحرم فذكر الخمسة وزاد فيه مسلم
والحية قال وفي الصلاة أيضا
وروى أبو داود عن أبى سعيد الخدري سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يقتل المحرم قال يقتل الحية والعقرب والفويسقة والكلب العقور والحدأة والسبع العادي ويرمي الغراب ولا يقتله ولم يذكر فيه الترمذي السبع العادي وقال حديث حسن وحمل الغراب المنهى عن قتله هنا على غير الأبقع وهو الذي يأكل الزرع كما ذكره المصنف وإنما يرميه لينفره عن الزرع وأخرج الدارقطنى
عن ابن عمر قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المحرم بقتل الذئب والفأرة والحدأة والغراب وفيه الحجاج بن أرطاة ورواه ابن أبى شيبة في مصنفه مقتصرا على الذئب وأخرج نحوه عن عمر وابن عمر وأخرج عن عطاء قال يقتل المحرم الذئب وكل عدو ولم يذكر في الكتاب وهذا ما قال المصنف وذكر الذئب في بعض الروايات
وأخرج الطحاوي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث مالك والليث إلا أنه قال فيه والحية والذئب والكلب العقور وقال السرقسطي في غريبه الكلب العقور يقال لكل عاقر حتى اللص المقاتل قوله وقيل المراد بالكلب العقور الذئب وقيل المراد به الأسد أسنده السرقسطي
عن أبي هريرة قال حدثنا محمد بن علي قال حدثنا سعيد بن منصور حدثنا حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن ابن سيلان عن أبي هريرة أنه قال الكلب العقور الأسد قوله أو يقال إن الذئب في معناه يعني
____________________
(3/82)
فيلحق به دلالة ولا بد من تعيين ذلك الموجب للإلحاق في الدلالة والذي يدور عليه كلامه هو كونهن مبتدئات بالأذي وضم غيره إلى ذلك مخالطتها يعني كونها تعيش بالاختطاف والانتهاب وسنذكر لهذا إتماما إن شاء الله تعالى قوله لأن المعتبر في ذلك الجنس وإن كان وصفه بالعفور إيماء إلى العلة لما روى أبو داود في المراسيل وذكر الكلب من غير وصفه بالعقور فعلم أن المراد الجنس والذي ذكر وصفه بالعقورية يراد به الكلب الوحشي لأنه يكون عقورا مبتدئا بالأذى فأفاد أنه وإن كان صيدا لا شيء فيه لكونه عقورا ويكون ما في المراسيل تعميم النوع بنفي الجزاء لأن أحد صنفيه مؤذ وهو الصيد والآخر ليس بصيد أصلا إلا أن هذا يقتضي أن يكون بعض النوع الواحد وحشيا وبعضه لا فإن استبعد ذلك وادعى أنه كل نوع فطرته في الوحشية وعدمها شاملة لكل أفراده ثم يعرض لبعضها خلاف الطبع الأصلي من التوحش والاستئناس قلنا على التنزل نختار أن جنس الكلب غير وحشي وإن وجد منه وحشي فالتوحش عارض له فاقتضى أن لا يجب بقتل شيء منه جزاء وفائدة التنصيص على وصف بخصوصه بنفي الجزاء أعنى ما هو معروض التوحش دفع توهم أنه وحشي بالأصالة فيجب بقتله الجزاء وأنه لو كان وحشيا لم يكن فيه شيء لكونه عقورا على أن الحق جواز الانقسام وقولهم
____________________
(3/83)
الفأرة الوحشية والأهلية يفيده وهذا كله إذا حكم بإرادة حقيقة الكلب أما إذا قيل بأن المراد من الكلب العقور الذئب أو الأسد فلا إشكال حينئذ إلا أنه يجب أن يحمل الأسد المحكوم عليه بأنه هو المراد بالكلب العقور على الأسد العادي عندهم لأنهم يوجبون الجزاء بقتل الأسد إذا لم يصل ويدل على هذه الإرادة ما ذكرناه من حديث الترمذي وأبي داود قوله وكذا الفأرة الأهلية والوحشية لوجود المبيح في الوحشية وهو فسقها والسنور كذلك في رواية الحسن عن أبي حنيفة
وفي رواية هشام عن محمد ما كان منه بريا فهو متوحش كالصيود يجب بقتله الجزاء قوله وليست بمتولدة من البدن احتراز عن القملة قوله ومالا يؤذي لا يحل قتلها وإن كان لا يجب بقتلها الجزاء وهكذا الكلب الأهلي إذا لم يكن مؤذيا لا يحل قتله لأن الأمر بقتل الكلاب نسخ فتقيد القتل بوجود الإيذاء قوله للعلة الأولى يعني كونها ليست بصيود ولا متولدة من البدن وهما وإن كانا علتين للحكم الذي هو وجوب الجزاء لكن نفيهما معا علة لنفيه لأن الحكم إذا كان يثبت بعلل شتى يكون نفيه معلولا بعدم الكل إذ لو ثبت شيء منها لم ينتف وعن أبى يوسف في قتل القنفذ روايتان في رواية جعله نوعا من الفأرة وفي أخرى جعله كاليربوع نفيه الجزاء وفي الفتاوى لا شيء في ابن عرس خلافا لأبي يوسف وأطلق غيره لزوم الجزاء في الضب واليربوع والسمور والسنجاب والدلق والثعلب وابن عرس والأرنب من غير حكاية خلاف في شيء قوله لأنها متولدة من التفث الذي على البدن يفيد أن الجزاء باعتبار أنه قضاء التفث فيستفاد منه أنه لو لم يأخذها من بدنه بل وجد قملة على الأرض فقتلها لا شيء عليه واعلم أن الإلقاء على الأرض كالقتل تجب به الصدقة ولو قال محرم لحلال ارفع هذا القمل عني أو دفع ثوبه إليه ففلى ما فيه من القمل فقتله كان على الآمر الجزاء وكذا إذا أشار إلى قملة فقتلها الحلال كان عليه جزاؤها لأن الدلالة موجبة في الصيد فكذا ما في حكمه كذا
____________________
(3/84)
في التجنيس والقملتان والثلاث كالواحدة وفي الزائد عن الثلاث بالغا ما بلغ نصف صاع وهذا إذا قتلها قصدا وكذا لو ألقى ثوبه في الشمس بقصد قتلها كان عليه نصف صاع بر ونحوه ولو ألقاه لا للقتل فماتت لا شيء عليه قوله لأن الجراد من صيد البر عليه كثير من العلماء ويشكل عليه ما
في لأبي داود والترمذي عن أبي هريرة قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة أو عمرة فاستقبلنا رجل من جراد فجعلنا نضربه بسياطنا وقسينا فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلوه فإنه من صيد البحر وعلى هذا لا يكون فيه شيء أصلا لكن تظاهر عن عمر إلزام الجزاء فيها في الموطإ أنبأنا يحيى بن سعيد أن رجلا سأل عمر عن جرادة قتلها وهو محرم فقال عمر لكعب تعال حتى نحكم فقال كعب درهم فقال عمر إنك لتجد الدراهم التمرة خير من جرادة ورواه ابن أبي شيبة عنه بقصته ورواه عبد الرزاق عن إبراهيم أن كعبا سأل عمر فذكر معناه وقال حدثنا محمد بن راشد عن مكحول أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن الجراد يقتله المحرم فقال تمرة خير من جرادة وتبع عمر أصحاب المذاهب والله أعلم وفي المحيط مملوك أصاب جرادة وهو محرم إن صام يوما فقد زاد وإن شاء جمعها حتى تصير عدة جراد ثم يصوم يوما قوله كالسباع ونحوها فالسباع كالأسد والفهد والنمر والفيل ففي المحيط إن قتل خنزيرا أو قردا أو فيلا تجب القيمة خلافا لهما اه وقول العتابى الفيل المتوحش صيد ليس على ما ينبغي فإن المستأنس يجب كونه صيدا أيضا لعروض الاستئناس كما قالوا في الظبي وحمار الوحش إنهما صيد وإن تألفا وغاية الأمر أن يجري في الفيل المتألف روايتان كما أن في الطيور المصونة روايتين ولكن المختار فيها أنها صيد والمراد بنحوها سباع الطير كالبازي والصقر معلما وغير معلم قوله وكذا اسم الكلب يتناول السباع بأسرها ويدل عليه
أنه صلى الله عليه وسلم قال داعيا على عتبة بن أبي لهب
____________________
(3/85)
اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فافترسه سبع قوله وكونه مقصودا بالأخذ هذا زيادة قيد على ما قدمناه في معنى الصيد لم يذكره في تعريفه السابق فيلزم إما فساد السابق أو هذا اللاحق قوله لما فيه من إبطال العدد العدد المنصوص هو الخمس فيلزم من الإلحاق به قياسا أن يكون المستثنى شرعا أكثر من خمس فيبطل العدد أي ينتفى فائدة تحصيص اسمه دون غيره من الأعداد المحيطة بالملحق وغيره أو الإطلاق أعني ذكره باسم عام مثل أن يقول يقتل كل عاد منتهب وفيه نظر من وجوه أما أولا فإن مثله يلزم في مفهوم الصفة فيقال مثلا لو جاز نكاح الأمة الكتابية لم يبق لذكر المؤمنات في قوله تعالى { من فتياتكم المؤمنات } فائدة وكذا في المقيد بالشرط وسائر المفاهيم المخالفة فما هو جوابكم عن هذا فهو بعينه جوابنا عن مفهوم العدد وأما ثانيا فإن عدد الخمس قد تحقق عدم قصر الحكم عليه شرعا وفرغ من ذلك فإنه قد ثبت النص على الذئب والحية أيضا في أحاديث لم ينص في صدرها على عدد بل قال يقتل المحرم كذا وكذا إلى آخر ما رويناه من قريب فثبت عدم إرادة قصر ذلك الحكم على الخمس فانفتح باب القياس إذ حديث الفواسق تخصيص للآية ودليل التخصيص يعلل ويلحق بما أخرجه ما تخرجه العلة أيضا بالاتفاق وأما ثالثا فإن المصنف رحمه الله جوز إلحاق الذئب بطريق الدلالة وعلى تقديره يبطل أيضا العدد وكون الثابت دلالة ثابتا بالنص لا يخرج به الحال عن أنه بطل خصوص الخمس ويجيء فيه عين ما تقدم من أنه لو أراده لذكر عدد يحيط به معها فيقول ست من الفواسق سلمناه لكن الإلحاق بالدلالة لابد فيه على ما عرف من معنى جامع غير أنه لا يتوقف سوى على فهم اللغة دون أهلية الاجتهاد ولذا سماه كثير القياس الجلى ونسميه نحن الثابت بمعنى النص لغة وإذا كان كذلك فلابد من تعيينه فما عينتموه من قولكم لأنها مبتدئات بالأذى ونحوه أو غيره في إلحاق الذئب فهو الذي يلحق باعتباره سائر السباع فإن سميتم ذلك دلالة فهذا أيضا دلالة وأما رابعا فإنا لم نخرجه بالقياس بل بالنص وهو ما قدمناه
من حديث أبى داود والترمذي من قوله صلى الله عليه وسلم وكل سبع عاد وقال الترمذي حسن فإن قيل نقول من الرأس يخرج مجموع ما نص على إخراجه وهو الحية والعقرب والفأرة والكلب والغراب والذئب والحدأة والسبع العادي على أن المراد به في حالة اعتدائه وهو إذا صال على المحرم فإنه حقيقة اسم الفاعل وبه نقول إنه إذا صال فقتله فلا شيء عليه كما سنذكره ثم نمنع الإلحاق لأنه حينئذ ناسخ على أصولنا لا مخصص لاشتراطنا المقارنة في المخصص الأول فما لم يقارن به يكون العموم مرادا فإذا أخرج بعضه بعد الحكم بإرادة الكل كان نسخا لأنه بعد تعلق الحكم بالفرد المخرج والتخصيص بيان عدم إرادة المخرج وإذا كان ناسخا عندنا فلا يلحق إذ لا نسخ بالقياس قلنا لا نخرج بالقياس بل بالدلالة فإن أخذتم في الجامع الدلالي كونها تعيش مخالطة باللاختطاف والانتهاب كما ذكر بعضهم
____________________
(3/86)
منعنا أن الحكم باعتباره أسندناه بإخراج الذئب وهو لا يعيش مخالطا والحق أن الوجه المذكور يصلح إلزاميا للخصم لأن الدلالة عندهم وهي التي يسمونها مفهوم الموافقة يشترط فيها كون المسكوت أولى بالحكم من المذكور فهم منع الضرب من منع التأفيف ولا تظهر أولوية السباع بإباحة القتل من الفواسق بل غايته المماثلة وأما إثبات منع قتلها على أصولنا ففيه ما سمعت ولعل لعدم قوة وجهه كان في السباع روايتان كما هو في المحيط حيث قال وفي ظاهر الرواية السباع كلها صيود وعن أبي يوسف رحمه الله أن الأسد كالكلب العقور والذئب وفي العتابى لا شيء في الأسد وقال أبو حنيفة رحمه الله يجب وقدمنا من البدائع التصريح بحل قتل الأسد والفهد والنمر أول الباب من غيره ذكر خلاف قوله واسم الكلب لا يقع على السبع عرفا ظاهر تخصيصه بالعرف أنه يقع عليها لغة بطريق الحقيقة وعلى هذا التقدير يتم مقصود الشافعي رحمه الله فإن الخطاب كان مع أهل اللغة ولم يثبت فيه تخصيص من الشرع بغير السبع بل ثبت استعماله فيه على ما سمعته عنه صلى الله عليه وسلم
من قوله اللهم سلط عليه كلبا فافترسه سبع فالأولى منع وقوعه على السباع حقيقة لغة ولفظ الكلب في دعائه صلى الله عليه وسلم مستعمل في المعني المجازي العام أعني المفترس الضاري لا يقال ادعاؤنا أنه في كل السباع حقيقة هو دعوى أنه في كل مفترس ضار حقيقة والأفراد حينئذ أفراد المعنى الكلي فدار الأمر بين كونه في العام مجازا كما قلتم أو مشتركا معنويا والاشتراك المعنوي أولى بالاعتبار عند التردد بينه وبين المجاز لأنا نقول ذلك عند التردد وهو عند عدم دليل عدمه وتبادر النوع المخصوص المعروف عند إطلاق لفظ الكلب دليل عدمه إذ لو كان للمعنى الأعم لم يتبادر خصوص بعضها وإذا تبادر خصوص بعضها كان ظاهرا في أن الوضع كان لذلك المعين فيجب اعتباره لذلك وإن جاز عروض تبادر البعض بعينه لعروض شهرة وغلبة استعمال لأن الظاهر هو الذي يجب المصير إليه لا المجوز إلا أن يدل دليل عليه ويتحقق كذلك
قوله ولنا قوله صلى الله عليه وسلم الضبع صيد وفيه شاة وفي بعض النسخ سبع وليس بمعروف بل المعروف
حديث جابر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع أصيد هو قال نعم ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم رواه أبو داود وانفرد بزيادة فيه كبش والباقون رووه ولم يذكروها فيه
ورواه الحاكم بهذه الزيادة عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه كبش مسن ويؤكل وهذا دليل أكله عند الخصم وسيأتي في موضعه والمصنف إن استدل بلفظ السبع فغير ثابت وإن استدل بلفظ الضبع بناء على أنه
____________________
(3/87)
سبع عندنا وغير مأكول تقديما للنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع فنقول يجب حمله على أنه كان قدر المالية في وقت التنصيص وإلا تلزم المعارضة بينه وبين قوله تعالى { فجزاء مثل ما قتل من النعم } على أن المراد قيمة ما قتل من النعم وإذا كنتم قلتم في حديث جابر إن ما بين السنين في الزكاة من كونه مقدرا بشاتين أو عشرين درهما مع أنه ثابت في الصحيح من كتاب الصديق أن التقدير به كان لأنه قدر التفاوت في ذلك الزمان لا أنه تقدير لازم في كل زمان فلأن تقولوا مثله في هذا الحديث من أنه لم يبلغ درجة ذلك الحديث في الصحة وكون ذلك مخلصا من المعارضة التي ذكرناها أولى وقوله في الوجه المعقول ولأن اعتبار قيمته لمكان الانتفاع بجلده لا لأنه محارب مؤذ يعني لأنه من هذا الوجه ساقط الجزاء مع أنه يخالف قوله قبله بأسطر وكونه مقصودا بالأخذ إما لجلده أو ليصطاد به أو لدفع أذاه حيث زاد باعثا آخر معارض بعموم قوله تعالى { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } أوجب قيمة المقتول مطلقا فتعين قيمة مجرد جلده في بعض المقتول خروج عن مقتضاه مع أن أخذه لم ينحصر في طلب جلده كما ذكره هنا بل قد يكون لغرض أن يصطاد به كما ذكره قبله ومن هذا الوجه تجب قيمته قوله وقال إنا ابتدأناه هذا غريب لا يعرف وبتقدير ثبوته فإنما يفيد عدم الجزاء إذا كان المبتدي السبع بمفهوم المخالفة وهو ليس بحجة عندهم ولا يمكن استناد عدم الوجوب فيه إلى العدم الأصلي لأن العدم الأصلي قد نسخ بإيجاب الجزاء في الصيد على العموم فما لم يخرجه دليل صحيح فهو داخل في الحكم العام
____________________
(3/88)
فالأوجه الاستدلال بحديث أبي داود الذي ذكر فيه السبع العادي والوجه الذي ذكره من الاستدلال بدلالة نص قتل الفواسق فإنه أباحه لتوهم الأذى له أي للقاتل أو لأبناء نوعه فمع تحقق الإيذاء له نفسه أولى وإذا ثبت الإذن من صاحب الحق سقط الضمان إلا أن يقيد الأذن به فما لم يقيد الإذن بالضمان لا يجب فلذا قلنا بوجوب الجزاء إذا اضطر المحرم إلى قتل الصيد لمأكله عند عدم صياله لتقيد الإذن فيه بالكفارة وهو قوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية } الآية قوله بخلاف الجمل الصائل فإنه لا إذن من صاحب الحق فيضمنه له وطولب بالفرق بينه وبين العبد إذا صال بالسيف على إنسان فقتله المصول عليه لا يضمنه مع أنه لا إذن أيضا من مالكه أجيب بأن العبد مضمون في الأصل حقا لنفسه بالآدمية لا للمولى لأنه مكلف كسائر المكلفين من أقرانه ألا ترى أنه لو ارتد أو قتل يقتل وإذا كان ضمان نفسه في الأصل له سقط بمبيح جاء من قبله وهو المحاربة ومالية المولى فيه وإن كانت متقومة مضمونة له فهي تبع لضمان النفس فيسقط التبع في ضمن سقوط الأصل قوله مسرولا بفتح الواو أي في رجليه ريش كأنه سراويل
____________________
(3/89)
قوله الحمام متوحش بأصل الخلقة والاستثناء عارض بخلاف البط الذي يكون في الحياض والبيوت فإنه ألوف بأصل الخلقة قوله لأنه عامل لغيره يقتضي ظاهرا أن اللام في لغيره يتعلق بذبحه لا بيحل ولفظ المبسوط وقال الشافعي لا يحل للمحرم القتل ويحل لغيره من الناس يقتضي تعلقه بيحل وهو الحق عن الشافعي وهو أحد قوليه ويمكن توجيه التعليل على هذا الاعتبار بأنه لما لم يحل للقاتل وحل لغيره لم ينزله الشرع عاملا لنفسه بل لغيره فصار عاملا لغيره شرعا وإن لم يقصد هو ذلك فانتقل فعله إليهم فحل لهم سواء ذبح لأجلهم أو لنفسه
____________________
(3/90)
قوله وهذا لأن المشروع الخ حاصلة إثبات الملازمة بين المشروعية والإقامة مقام الميز ثم نفى الثاني فينتفى الأول أعني المشروعية وهو المفاد بقوله فينعدم المشروع لانعدامه أي لانعدام الفعل الذي أقيم ونحن إلى غير هذا الكلام أحوج في إثبات المطلوب فإن حاصل هذا إثبات المقدمة القائلة وهذا فعل حرام وهي إن كانت من المسلمات بيننا وبين الشافعي لم يحتج إليه وإن كانت ممنوعة عنده لا ينتهض المذكور مثبتا لها عليه فإنه إذا منع الحرمة منع عدم الإقامة مقام الميز لكنها مسلمة ونحن نحتاج بعد تسليم حرمة الفعل إلى أمر زائد فإن مجرد حرمته لا يوجب حرمة اللحم مطلقا كما لو ذبح شاة الغير لا بإذنه لا يصير لها حكم الميتة مع حرمة الفعل فيقال وهذا فعل حسي محرم فيكون ذلك لقبح اعتبر في عينه على ما هو الأصل عندنا في إضافة التحريم إلى الأفعال الحسية أنه يضاف القبح إلى عينها لعدم المانع بخلاف الشرعية إلا أن يقوم دليل على خلاف ذلك كما في ذبح شاة الغير ونعني بثبوت القبح لذاته مع أنه إنما ذبح لغرض صحيح هو أن يأكله كون الشرع اعتبره قبيحا لعينه لأنه جعله عبثا حيث أخرج الذابح عن الأهلية والمذبوح عن المحلية فصار فعلا في غير محله فكان عبثا باعتبار الشارع كما لو اشتغل عاقل بذبح حجر ونحوه فإنه يعد جنونا أو سخرية بخلاف شاة الغير فإنه لم يثبت إخراجها عن محلية الذبح شرعا للأجنبي وإخراجه عن الأهلية بالنسبة إليها فلم يعد عبثا شرعا وإذا صار ذبح المحرم عبثا شرعا صار قبيحا لعينه فلا يفيد حكم الحل فيما كان محرم الأكل اعني الصيد قبل ذبحه بقي دليل الإخراجين وذلك أن قوله تعالى { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } يفيدهما وقوله تعالى { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } يفيد إخراج المحرم عن أهلية الذبح فقط وهذا الأن الأول أضاف التحريم إلى العين وهي تفيد المبالغة فإن الأصل أن تضاف الأحكام إلى أفعال المكلفين فإذا أضيفت إلى العين كان إخراجا له عن محلية الفعل الذي هو متعلق الحرمة بالأصالة فإنه جعل نفس هذا العين حراما ونفس الحرام لا يقترب منه فكان منعا عن الإقتراب منه نفسه وهذا إخراجه عن المحلية ولو قلنا إن إضافته إلى العين يجب أن تكون مجازا عقليا لم يضرنا إذ العدول عن إضافته إلى الفعل إلى إضافته إلى نفس العين سببه ما قلنا وأفاد الثاني أن التحريم بمعني من جهة الذابح وهو الإحرام فأوجب إخراجه عن الأهلية والإحرام هو السبب في الأمرين معا على التحقيق فلذا قال في المسئلة التي تلي هذه لأن الإحرام هو الذي أخرج الصيد عن المحلية والذابح
____________________
(3/91)
عن الأهلية قوله فعليه قيمة ما أكل عند أبي حنيفة يعني سواء أدي ضمان المذبوح قبل الأكل أو لا غير أنه إن أدي قبله ضمن ما أكل على حدته بالغا ما بلغ وإن كان أكل قبله دخل ضمان ما أكل في ضمان الصيد فلا يجب له شيء بانفراده وقال القدوري في شرحه لمختصر الكرخي لا رواية في هذه المسألة فيجوز أن يقال يلزمه جزاء آخر ويجوز أن يقال يتداخلان وسواء تولي صيده بنفسه أو أمر غيره أو أرسل كلبه ولا فرق بين أن يأكل المحرم أو يطعم كلابه في لزوم قيمة ما أطعم لأنه انتفع بمحظور إحرامه قوله فصارت حرمة التناول الخ يعني أن حرمة التناول بواسطة أنه ميتة وكونه ميته بواسطة خروجه عن الأهلية والصيد عن المحلية وثبوتهما معا بواسطة الإحرام فكان الأكل من محظورات إحرامه بواسطة وسبب السبب سبب خصوصا وهذه حرمة يحتاط في إثباتها لما تقدم من شرع الكفارة مع العذر فيجب به الجزاء وبهذا التعليل استغني الشيخ عن إيراد الفرق بين هذا وبين ما لو أكل الحلال من لحم ذبحه من صيد الحرم بعد أداء قيمته لأن الأكل ليس من محظورات الحرم بل تفويته الأمن الذي استحقه بحلوله في الحرم فقط وقد ضمنه إذ فوته فكان حرمته لكونه ميتة فقط وعن هذا ما في خزانة الأكمل لو شوي المحرم بيض صيد فعليه جزاؤه وللحلال أكله ويكره بيعه قبل ذلك فإن باعه جاز ويجعل ثمنه في الفداء إن شاء وكذا شجر الحرم واللبن وكذا لو شوي جرادا أو بيضا ضمنه ثم إن أكله لا جزاء عليه ولا يحرم بخلاف الصيد قوله خلافا لمالك فيما إذا اصطاده لأجل المحرم يعني بغير أمره
____________________
(3/92)
أما إذا اصطاد الحلال لمحرم صيدا بأمره اختلف فيه عندنا فذكر الطحاوي تحريمه على المحرم وقال الجرجاني لا يحرم قال القدوري هذا غلط واعتمد على رواية الطحاوي قوله له قوله صلى الله عليه وسلم الحديث على ما في أبي داود والترمذي والنسائي عن جابر لحم الصيد حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصاد لكم هكذا بالألف في يصاد فعارضه المصنف ثم أوله دفعا للمعارضة أما المعارضة فيما روي محمد بن الحسن أخبرنا أبو حنيفة عن محمد بن المنكدر عن عثمان بن محمد عن طلحة بن عبيد الله قال تذاكرنا لحم الصيد يأكله المحرم والنبي صلى الله عليه وسلم نائم فارتفعت أصواتنا فاستيقظ رسول صلى الله عليه وسلم فقال فيم تتنازعون فقلنا في لحم الصيد أيأكله المحرم فأمرنا بأكله أخرجه في الآثار وروي الحافظ أبو عبد الله الحسين بن خسر والبلخي في مسند أبي حنيفة عن أبي حنيفة عن هشام بن عروة عن أبيه عن جده الزبير بن العوام قال كنا نحمل الصيد صفيفا وكنا نتزوده ونأكله ونحن محرمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واختصره مالك في موطئه وأما التأويل فبوجهين كون اللام للملك والمعنى أن يصطاد ويجعل له فيكون تمليك عين الصيد من المحرم وهو ممتنع أن يتملكه فيأكل من لحمه والحمل على أن المراد أن يصاد بأمره وهذا لأن الغالب في عمل الإنسان لغيره أن يكون بطلب منه فليكن محمله هذا دفعا للمعارضة وقد يقال القواعد تقتضي أن لا يحكم هنا بالمعارضة والترجيح لأن قول طلحة
____________________
(3/93)
فأمرنا بأكله مقيد عندنا بما إذا لم يدله المحرم ولا أمره بقتله على ما هو المختار للمصنف إعمالا لحديث أبي قتادة فيجب تخصيصه بما إذا لم يصد للمحرم بالحديث الآخر لدخول الظنية في دلالته وحديث الزبير حاصلة نقل وقائع أحوال لا عموم لها فيجوز كون ما كانوا يحملونه من لحوم الصيد للتزود مما لم يصد لأجل المحرمين بل هو الظاهر لأنهم يتزودونه من الحضر ظاهرا والإحرام بعد الخروج إلى الميقات فالأولى به الاستدلال على أصل المطلوب بحديث أبي قتاده على وجه المعارضة على ما في الصحيحين فإنهم لما سألوه عليه الصلاة والسلام لم يجب بحله لهم حتى سألهم عن موانع الحل أكانت موجودة أم لا فقال صلى الله عليه وسلم
أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا لا قال فكلوا إذا فلو كان من الموانع أن يصاد لهم لنظمه في سلك ما يسأل عنه منها في التفحص عن الموانع ليجيب بالحكم عند خلوه عنها وهذا المعني كالصريح في نفي كون الاصطياد للمحرم مانعا فيعارض حديث جابر ويقدم عليه لقوة ثبوته إذ هو في الصحيحين وغيرهما من الكتب الستة بخلاف ذلك بل قيل في حديث جابر لحم الصيد الخ انقطاع لأن المطلب بن حنطب لم يسمع من جابر عند غير واحد وكذا في رجاله من فيه لين وبعد ثبوت ما ذهبنا إليه بما ذكرنا يقوم دليل على ما ذكره المصنف من التأويل هذا ويعارض الكل حديث الصعب بن جثامة في مسلم أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم لحم حمار وفي لفظ رجل حمار وفي لفظ عجز حمار وفي لفظ شق حمار فرده عليه فلما رأى ما في وجهه قال إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم فإنه يقتضي حرمة أكل المحرم لحم الصيد مطلقا سواء صيد له أو بأمره أو لا وهو مذهب نقل عن جماعة من السلف منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومذهبنا مذهب عمر وأبي هريرة وطلحة بن عبيد الله وعائشة رضي الله عنه أخرج عنهم ذلك الطحاوي رحمه الله وقول الشافعي رحمه الله حديث مالك وهو أنه أهدى له حمارا أثبت من حديث من قال إنه أهدى له من لحم حمار يعني فيكون رده امتناع تملك المحرم الصيد منع بأن الروايات كلها على ما ذكرنا أول الحديث تدل على البعضية ولا تعارض بين رجل حمار وعجزه وشقه على ما لا يخفى إذ يندفع بإرادة رجل معها الفخذ وبعض جانب الذبيحة فوجب حمل رواية أهدى حمارا على أنه من إطلاق اسم الكل على البعض لما ذكرنا ولتعينه لامتناع عكسه إذ إطلاق الرجل على كل الحيوان غير معهود لا يطلق على زيد إصبع ونحوه لأنه غير جائز لما عرف من أن شرط إطلاق اسم البعض على الكل التلازم كالرقبة على الإنسان والرأس فإنه لا إنسان دونهما بخلاف نحو الرجل والظفر وأما إطلاق العين على الربيئة فليس من حيث هو إنسان بل من حيث هو رقيب وهو من هذه الحيثية لا يتحقق بلا عين على ما عرف في التحقيقات أو هو أحد معاني المشترك اللفظي كما عده لأكثر منها ثم أن في هذا الحمل ترجيحا للأكثر أو نحكم بغلط تلك الروايات بناء على أن الراوي رجع عنها تبينا لغلطه قال الحميدي كان سفيان يقول في الحديث أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حمار وحش وربما قال يقطر دما وربما لم يقل ذلك وكان فيما
____________________
(3/94)
خلا قال حمار وحش ثم صار إلى لحم حتى مات وهذا يدل على رجوعه وثباته على ما رجع إليه والظاهر أنه لتبين غلطه أولا قال الشافعي رحمه الله وإن كان أهدى له لحما فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له فرده عليه اه فإن قيل إن التعليل ما وقع إلا بالإحرام فلو كان كما ذكره الشافعي رحمه الله لقال بأنك صدته لأجلي قلنا كلام الشافعي رحمه الله يتضمن ذلك يعني علم أنه قد صيد لأجله وهو محرم فرده عليه معللا بالإحرام بسبب أنه يمنع من أكل ما صيد للمحرم وبه يقع الجمع بين حديث الصعب وحديثي أبي قتادة وجابر السابق على رأي من يقول يحرم على المحرم ما صيد لأجله أما على رأينا وهو إباحته بغير هذا الشرط فلا يقع الجمع بينه وبين حديث أبي قتادة فإنا قلنا إنه يفيد عدم اشتراط أن لا يصاد لأجله على ما ذكرنا فإن حمل حديث الصعب على أنه علم أنه صيد لأجله تعارضا فإنما يصار إلى الترجيح فيترجح حديث أبي قتادة بعدم اضطرا به أصلا بخلاف حديث الصعب فإنه قال في بعض رواياته إنه صلى الله عليه وسلم أكل منه رواه يحيى بن سعيد عن جعفر عن عمرو ابن أمية الضمري عن أبيه أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول صلى الله عليه وسلم عجز حمار وهو بالجحفة فأكل منه وأكل القوم وما قيل هذه الرواية منكرة فإن في جميع الروايات أنه لم يأكل منها إلا في هذه الرواية أحسن منه أن يجمع بعد ثبوت صحة هذه الرواية بأن الذي تعرضت له تلك الروايات ليس سوى أنه رده وعلل بالإحرام ثم سكت الكل على هذا القدر فمن الجائز أن يكون لما رده معللا بذلك بناء على ظن أنه صيد لأجله ذكر له أنه لم يصده لأجله فقبله بعد الرد وأكل منه وهذا جمع على قول من يشترط عدم الاصطياد لأجله وعلى قول لكل ما قال البيهقي بعد ما ذكر الرواية التي ذكرناها قال وهذا إسناد صحيح فإن كان محفوظا فكأنه رد الحي وقبل اللحم اه إلا أن هذا جمع بإنشاء إشكال آخر وهو رد رواية أنه رد اللحم وهي بعد صحتها ثبت عليها الراوي ورجع عما سواها على ما قدمناه إلا أن يدعي أنه عبر بالبعض عن الكل في رواية رد اللحم وفيه ما قدمناه وعلى كل حال ففي هذا الحديث اضطراب ليس مثله في حديث أبي قتادة فكان هو أولى فإن قيل إن حديث أبي قتادة كان سنة ست في عمرة الحديبية وحديث الصعب كان في حجة الوداع فيكون ناسخا لما قبله قلنا أما أن حديث الصعب كان في حجة الوداع فلم يثبت عندنا وإنما ذكره الطبري وبعضهم ولم نعلم لهم فيه ثبتا صحيحا وأما حديث أبي قتادة فإنه وقع في مسند عبد الرزاق عنه قال انطلقنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فأحرم أصحابه ولم أحرم فساق الحديث ففي الصحيحين عنه خلاف ذلك وهو ما روي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حاجا فخرجوا معه فصرف طائفة منهم أبو قتادة وقال لهم خذوا ساحل البحر حتى نلتقي الحديث ومعلوم أنه عليه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد الهجرة إلا حجة الوداع فكان بالتقديم أولى ومما يدل على ما ذهبنا إليه حديث البهزي أخرج الطحاوي عن عمير بن سلمة الضرير قال بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(3/95)
ببعض أفناء الروحاء وهو محرم إذا حمار معقور فيه سهم قد مات فقال صلى الله عليه وسلم دعوه فيوشك صاحبه أن يأتيه فجاء رجل من بهز هو الذي عقر الحمار فقال يا رسول الله هو رميتي فشأنكم به فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يقسمه بين الرفاق وهم محرمون وجه الاستدلال أن ترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة العموم في المقال قوله صلى الله عليه وسلم روى الستة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة قام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ثم قال فإن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنما أحلت لي ساعة من النهار ثم بقيت حرمتها إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا يختلي خلاها ولا تحل ساقطتها فقال العباس إلا الإذخر فإنه لقبورنا وبيوتنا فقال صلى الله عليه وسلم
إلا الإذخر والخلي بالمعجمة مقصورا الحشيش إذا كان رطبا واختلاؤه قطعة قوله والواجب على المحرم الخ حاصل ما هنا أن حرمة القتل ثابتة في الصورتين غير أن سببها في الإحرام وجوب الجرى على موجبه فإنه عبارة عن الدخول في حرمة عبادة الحج أو العمرة بالتزام ما يمنع منه حال التلبس بها كالدخول في حرمة الصلاة ومنه عدم التعرض للصيد فكان حكمة منعه والله سبحانه أعلم كونه يهيج النفس إلى حالة تنافي حالة الإحرام التي هي التصور بصورة الموت والفاقة فإن فيه ضراوة وحالة الإحرام ضراعة قد ظهر أثرها أكثر من ظهوره في سائر العبادات ألا ترى إلى كشف الرأس والتلفف بثياب الموت فإذا قتله فقد جنى على العبادة حيث لم يجر على موجبها وجبر العبادة المحضة بعبادة محضة فدخله الصوم وأما في الحرم فسببها إبقاء أمنه الحاصل له شرعا بسبب الإيواء إلى حمي الله تعالي فإذا فوته وجب الجزاء لتفويت ذلك الوصف الكائن في المحل لا لجناية على عبادة تلبس بها والتزمها بعقد خاص بارتكاب محظورها فلا يدخل الصوم فيه كتفويت أمن كائن لمملوك رجل في ماله لاستهلاكه لا يكون بصوم ونحوه بل جبر الأمن الفائت بإثبات أمن للفقير عن بعض الحاجات أنسب لأنه من جنس المجبور وعلى وفق هذا وقع في الشرع إلا أن مستحق هذا
____________________
(3/96)
الضمان هو الله سبحانه فتجاذبه أصلان شبه الغرامات اللازمة لتفويت المحال وكونه حقا من حقوق الله تعالي فرتبنا على كل وجه مقتضاه محتاطين في الترتيب المذكور فقلنا لا يدخله الصوم نظرا إلى أنه ضمان محل ولا ضمان على الصبي لو قتل صيد الحرم ولو قتل الصيد حلال في يد حلال صاده من الحرم وجب على كل واحد منهما ضمان كامل لتفويت كل الأمن الواحد الثابت للصيد أحدهما بالأخذ والثاني بالقتل بعد ما كان بعرضية أن يطلقه وفي مثليهما من ضمان المتلفات قيمة واحدة على الآخذ واتفقوا هنا على رجوع الآخذ على القاتل أما على قول أبي حنيفة فظاهر لأنه في الإحرام يقول يرجع الآخذ على القاتل مع جناية ليس ضمان محل فهنا أولى وهما منعا الرجوع هناك وأثبتاه هنا لأنه ضمان محل من وجه وفي ضمان المحل يرجع على من يقرر الضمان وإذا تأملت رأيت خصوص الاعتبار في كل مسألة من هذه بجهة دون الجهة الأخري لأنه اللائق فيها فتأمل مستعينا بالله تعالي ترشد إن شاء الله تعالى ثم يدخل جزاء صيد الحرم في جزاء صيد الإحرام فلو قتل محرم صيد الحرم وجب عليه جزاء واحد على وفق جزاءه للإحرام خاصة وتحقيق هذا المقام أن الثابت هنا حق واحد لله تعالى بسبب ارتكابه حرمة واحدة وذلك لأن المتحقق أن الله تعالى حرم قتله ووضع لهذه الحرمة سببين حلوله في الحرم ووجود الإحرام فأيهما وجد استقل بإثارة الحرمة فإذا وجدا معا وهو الإحرام في الحرم لم يتحقق سوى تلك الحرمة وثبوت الأمن إنما هو عن هذه الحرمة وعلمت أنها حرمة واحدة فههنا أمر واحد عن حرمة فوتت غير أن الله تعالى رتب على انتهاك الحرمة الكائن بالقتل حال كونها عن سبب الإحرام جزاء يدخله الصوم ودل النظر السابق حال كونها عن حلول الصيد في الحرم على وجوب جزاء لا يدخله فإذا ثبتت الحرمة عن السببين جميعا بأن كان محرما في الحرم ثم انتهكت بالقتل فيه تعذر في الجزاء اللازم اعتباره في الوجهين جميعا فلزم اعتباره على أحدهما فرأينا اعتباره على الوجه الذي اعتبره صاحب الشرع وهو ما إذا كان القتل مع الإحرام هو الوجه لأنه أقوي السببين فقلنا بذلك وإنما كان أقوى لأن كونه سببا للضمان منصوص عليه بالنص القطعي قال تعالى { فجزاء مثل ما قتل من النعم } بخلاف الكون في الحرم فإن النصوص إنما أفادت سببيته لحرمة التعرض ولم يصرح بلزوم الجزاء ذاك التصريح فظهر العلماء على أنه تفويت أمن مستحق كالقتل في الإحرام فوجب الضمان على ذلك الوجه أعني على وجه لا يدخل فيه الصوم وعليه ترديد نورده في جناية القارن والله سبحانه أعلم قوله وهل يجزيه الهدي فيه روايتان في رواية لا فلا يتأدي بالإراقة بل لا بد من التصدق بلحمه بعد أن تكون قيمة اللحم بعد الذبح مثل قيمة الصيد لا إذا كان دونه ولذا لو سرق المذبوح وجب أن يقيم غيره مقامه لأنه لا مدخل للإراقة في غرامات الأموال وفي أخرى يتأدى فتكون الأحكام المذكورة على عكسها وإنما يشترط كون قيمة الهدي قبل الذبح قيمة المقتول لأن الحق لله تعالى والهدي مال يجعل لله تعالى وإراقة الدم طريق صالح شرعا لجعل المال
____________________
(3/97)
له خالصا كالتصدق ألا نرى أن المضحي يجعل الأضحية خالصة له سبحانه بإراقة دمها قوله ومن دخل الحرم بصيد أي وهو حلال حتى يظهر خلاف الشافعي رحمه الله فإنه لو كان محرما وجب إرساله بمجرد الإحرام اتفاقا قوله خلافا للشافعي قاسه على الاسترقاق فإن الإسلام يمنعه حقا لله تعالى ولا يرفعه حتى إذا ثبت حال الكفر ثم طرأ الإسلام لا يرتفع علم من هذا أن حق الشرع لا يظهر في محلول العبد بعد تقرر ملكه بطريقة تفضلا من تعالى لحاجة العبد وغناه وهذا كذلك وهذا ما ذكره المصنف وحاصله تقرير الجامع وترك المقيس عليه وتلخيصه مملوك للعبد بطريق صحيح فلا يظهر فيه حق الشرع وإن كان يمنعه في هذه الحالة إذا لم يكن تحقق كالاسترقاق ولك في اعتبار القياس أن تجعله ملك الصيد على الاسترقاق أو الصيد المملوك على المرقوق قوله ولنا الخ حقيقته أنه استدلال بالنص فيقدم على القياس تقريره هذا صيد الحرم وما كان كذلك لا يحل التعرض له بالنص فهذا لا يحل التعرض له بالنص أما الأولى فلأنه ليس يراد بصيد الحرم إلا ما كان حالا فيه وأما الثانية فلإطلاق النص المذكور من السنة ولم يوجد مثله في الرق بل ثبت شرعا بقاؤه بعد الإسلام بل عداه إلى أولاد الإماء من أزواجهن وإن لم يتصف الزوج بالكفر قط ويمكن كون سر هذا الفرق التغليظ على من أمر فخالف لأن الرق حكم هذه المخالفة بخلاف من لم يخالف وهو الصيد قوله فإن باعه يعني بعد ما أدخله الحرم رد البيع فيه إن كان قائما ووجبت قيمته إن كان هالكا سواء باعه في الحرم أو بعد ما أخرجه إلى الحل لأنه صار بالإدخال من صيد الحرم فلا يحل إخراجه بعد ذلك ولو تبايع الحلالان وهما في الحرم الصيد وهو في الحل جاز عند أبي حنيفة خلافا لمحمد لأنه ليس بتعرض يتصل به بساحل حكما وليس هو بأبلغ من أمره بذبح هذا الصيد
____________________
(3/98)
بخلاف ما لو رماه من الحرم للاتصال الحسي قوله ومن أحرم وفي بيته أو في قفص معه قيد المسئلة به لأنه لو كان في يده حقيقة وجب الإرسال اتفاقا ولو هلك وهو في يده وجب الجزاء وإن كان مالكا له للجناية على الإحرام بعدم تركه فلذا اختلفوا فيما إذا كان القفص في يده هل يجب عليه تركه وإن كان على وجه لا يضيع أولا بناء على كون الصيد في يده بكون القفص فيها ولهذا يصير غاصبا له بغصب القفص أو ليس فيها بل يكون القفص فيها ولذا جاز للمحدث أخذ المصحف بغلافه قوله وبذلك جرت العادة الفاشية من لدن الصحابة إلى الآن وهم والتابعون ومن بعدهم يحرمون وفي بيوتهم حمام في أبراج وعندهم دواجن والطيور لا يطلقونها وهي إحدى الحجج فدلت على أن استبقاءها في الملك محفوظة بغير اليد ليس هو التعرض الممتنع قوله ولا معتبر ببقاء الملك أي لا يعتبر بقاء الملك جناية على الصيد وإلا لم يكن الواجب عليه الإرسال لأنه لا يفيد إخراجه عن ملكه بل كان الواجب عليه تمليكه والعادة الفاشية تنفيه قوله وله أن ملك الصيد بالأخذ حلالا ملكا محترما حتى لو أخذه وهو حلال ثم أحرم فأرسله ثم وجده بعد الإحلال في يد شخص كان له أن يأخذه منه لأنه ما أرسله عن اختيار كذا علل التمرتاشي فهذا يدل على أنه لو أرسله من غير إحرام يكون إباحة أما لو كان صاده في إحرامه ثم أرسله ثم حل فوجده في يد رجل فليس له أن يأخذه منه لأنه ما ملكه بالأخذ في الإحرام والله أعلم
____________________
(3/99)
قوله والواجب عليه ترك التعرض جواب عن قولهما المرسل آمر بمعروف فأجاب بأن الواجب الذي يجب الأمر به ترك التعرض وذلك يحصل بتفويت يده الحقيقية لا مطلق يده فإن ادعيا الثاني منعناه أو الأول سلمناه وذلك يحصل بإرساله ولو في قفص قوله ولنا أن الأخذ إنما يصير سببا للضمان إذا اتصل به القتل والمتوجه قبل قتله خطاب لإرساله وتخليته فهو بالقتل جعل فعل الآخذ علة فيكون في معني مباشرة علة العلة فيحال بالضمان عليه وإن لم يفوت بهذا القتل يدا محترمة ولا ملكا فإن المتعلق بهما ضمان يجب لذي اليد والملك ابتداء بدل ملكه ويده وهنا الواجب عليه ليس إلا الرجوع بما غرمه لكونه السبب فيه فإنه منوط بتفويته يدا معتبرة كما في غصب المدبر إذ قتله إنسان في يد غاصبة فأدى الغاصب قيمته وهنا قد تحقق ذلك فإنه فوت يدا معتبرة في حق التمكين بها من إسقاط ما عليه من الإرسال ودفع وجوب الجزاء فهو مورطة في ذلك وإذا وجب الرجوع بنصف المهر على شهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا فالرجوع هنا أولى لأن الشهود قرروا ما كان متوهم السقوط بعد تحقق الوجوب بسبب مباشرة الزوج باختياره والقاتل هنا هو الذي حقق سبب الوجوب على وجه لا يتوهم سقوط الواجب به لما عرف من أن مجرد الأخذ سبب لوجوب الإرسال وإنما يكون سببا للجزاء إذا اتصل به القتل وإنما قال فيكون في معنى مباشرة علة العلة لأن الأخذ ليس علة العلة فإن العلة القتل والأخذ ليس علة للقتل ولا جزء علة ولا سببا بل القتل
____________________
(3/100)
مستقل بسببية إيجاب الجزاء ألا ترى أنه يجب عليه الجزاء لو رماه من بعيد قبل أن يأخذه فالأخذ قد يكون شرطا حسيا للقتل وقد لا يكون إلا أن مباشرة الشرط في الإتلاف سبب للضمان كحفر البئر فإنه شرط للوقوع والعلة ثقل الواقع وبهذا التقرير يسقط سؤالان كيف يرجع ولم يفوت يدا محترمة ولا ملكا وأيضا أن الشيء إذا خرج عن محلية الملك لا يضمن مستهلكه وإن جنى من كان في يده فإن قيل ما الفرق بين هذا وبين المسلم إذا غصب خمر الذمي فاستهلكه مسلم آخر في يده يضمن الآخذ للذمي ولا يرجع على المستهلك فالجواب أن اتحاد اعتقاد سقوط تقومها منع من رجوع المسلم على ذلك المسلم المستهلك هذا وقد أورد في النهاية كيف يرجع وهو قد لزمته كفارة تخرج بالصوم وهو إنما يرجع بضمان يحبسه فلا يجوز أن يرجع عليه بأكثر مما لزمه وأجاب بأن مثل هذا التفاوت لا يمنع كالأب إذا غصب مدبر ابنه فغصبه منه آخر فضمن الإبن أباه فإنه لا يحبسه وللأب أن يحبس من قتله في يده ولا فرق بين ضمان يفتي به وضمان يقضى به فإن زكاة السائمة تدخل تحت القضاء بخلاف زكاة سائر الأموال فحق الله تعالى إذا كان له طالب معين يكون له المطالبة وإذا لم يكن لا تتعين المطالبة وهذا قد يوهم أن له الرجوع وإن كفر بغير المال وقد صرح في المنتقى بأنه إنما يرجع إذا كفر بالمال ونقل عن أبي عبد الله الجرجاني أنه قال ولا فرق بين كون القاتل صبيا أو نصرانيا أو مجوسيا في ثبوت الرجوع عليه وأصل المسائل كلها أن تفويت الأمن على الصيد يوجب الجزاء والأمن يكون بثلاثة أشياء بإحرام الصائد أو دخوله في أرض الحرم أو دخول الصيد فيه وأنه إذا تحقق التفويت لا يبرأ بالشك فلذا قلنا يجب الجزاء في إرسال الحلال الصيد في أرض الحل بعد ما أخرجه من أرض الحرم وبإرسال المحرم إياه في جوف البلد لأنه لم يصر بهذا لإرسال ممتنعا ظاهرا ولذا لو أخذه إنسان حلال كره أه أكله قوله فعليه قيمته جعله
____________________
(3/101)
جواب المسئلة ليفيد أنه لا يدخله الصوم وحاصل وجوه المسئلة أن النابت في الحرم إما إذخر أو غيره وقد جف أو انكسر أو ليس واحدا منها فلا شيء في الأول وأما الثاني وهو ما ليس واحدا منها إما أن يكون أنبته الناس أولا فالأول لا شيء فيه أيضا سواء كان من جنس ما يستنبت عادة أولا والثاني وهو ما لا ينبته الناس بل نبت بنفسه إما أن يكون من جنس ما ينبتونه أولا فلا شيء في الأول والثاني هو الذي فيه الجزاء فما فيه الجزاء هو ما نبت بنفسه وليس من جنس ما ينبته الناس ولا منكسرا ولا جافا ولا إذخرا ولا بد في إخراج ما خرج عن حكم الجزاء من دليل فأشار المصنف إلى أن الإذخر خرج بالنص وما أنبتوه بقسيميه بالإجماع وأما الجاف والمنكسر ففي معناه فاعلم أن الألفاظ التي وردت في هذا الباب الشجر والشوك والخلى فالخلى والشجر قدمناهما في حديث أبي هريرة والشوك في الصحيحين أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح
إن هذا البلد حرمه الله إلى أن قال لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلي خلاها الحديث فالخلى هو الرطب من الكلا وكذا الشجر اسم للقائم الذي بحيث ينمو فإذا جف فهو حطب والشوك لا يعارضه لأنه أعم يقال على الرطب والجاف فليحمل على أحد نوعيه دفعا للمعارضة وأما الذي نبت من غير أن ينبته الناس وهو من جنس ما ينبتونه فلا أدرى ما المخرج له غير أن المصنف علل إخراج أهل الإجماع ما ينبته الناس بأن إنباتهم يقطع كمال النسبة إلى الحرم فإن صح أن يقال إن كونه من جنس ما ينبتونه يمنع كلام النسبة إليه ألحق بما ينبتونه وإلا فيحتاج إلى وجه آخر والله أعلم هذا وكل ما جاز الانتفاع به في الحرم جاز إخراجه ومن ذلك أحجار أرض الحرم وحصاها إلا أن يبالغ في ذلك فيحفر كثيرا يضر بالأرض أو الدور فيمنع قوله والفرق ما نذكره أي الفرق بين نبات الحرم إذا أدى قيمته حيث يصح بيعه ويكره لأنه ملكه بسبب محظور وبين الصيد
____________________
(3/102)
حيث لا يصح بيعه وإن أدى ضمانه ما سيذكره من قوله لأن بيعه حيا تعرض للصيد إلى آخر ما يجيء قوله فعلى قاطعه قيمتان هذا على قولهما أما على قول أبي حنيفة فلا يتصور لأنه لا يتحقق عنده تملك أرض الحرم بل هي سوائب عنده على ما سيأتي إن شاء الله تعالى قوله ولنا ما روينا يعني قولنا عليهالصلاة والسلام
لا يختلي خلاها أي لا يقطع خلاه واختلاه قطعة ولا يعضد شوكها والعضد قطع الشجر من حد ضرب فقد منع القطع مطلقا أعم من كونه بالمناجل أو المشافر فلا يحل الرعي والضرورة تندفع بحمل الحشيش من الحل ومشفر كل شيء
____________________
(3/103)
حرفه ومن ذلك شفرة السيف حده وشفير الخندق والنهر والبئر حرفه ومشفر البعير شفته قوله وبخلاف الكمأة لأنها ليست من جنس النبات لأنه اسم لما يظهر على وجه الأرض والكمأة تخلق في باطنها لا يظهر منها شيء وأيضا لا تنمو ولو قدر كونها نباتا كانت من الجاف قوله وكل شيء فعله القارن مما ذكرنا أن فيه على المفرد دما فعليه دمان دم لحجته ودم لعمرته وقال الشافعي دم واحد بناء على أنه محرم بإحرام واحد عنده وعندنا بإحرامين فالجناية عليهما مجتمعين كالجناية عليهما منفردين وأورد فلم لم يتداخلا كحرمة الإحرام والحرم فيما إذا قتل المحرم صيد المحرم إذ كان عليه جزاء واحد أجيب بأن حرمة الإحرام أقوي من حرمة الحرم لأنها توجب حرمات كثيرة غير الصيد بخلاف حرمة الحرم فاستبعت أقوي الحرمتين الأخرى لأن الأصل إذا اجتمع موجبان لحكم واحد إضافة الحكم إلى أقواهما وجعل الآخر تبعا له كالعدم وهذا كالحافر مع الدافع والحاز للرقبة مع الجارح وإحرام الحج مساو لإحرام العمرة فإن جميع ما يحرم به يحرم بالآخر فلم يمكن الاستتباع فيجعل
____________________
(3/104)
كل كأن ليس معه غيره كما لو جرح اثنان آخر فمات ويرد عليه ما ذكره المصنف في دفع إيجاب الشافعي البدنة على من جامع في العمرة بعد ما طاف أربعة أشواط قياسا على وجوبها إذا جامع في الحج بعد الوقوف بعرفة من أنها سنة ومنع افتراضها فيجب عليه شاة إظهارا للتفاوت فأظهر التفاوت في الأجزية للتفاوت في المجني عليه فلو اتحد رتبة إحرامي الحج والعمرة لم يصح ما ذكره وإذا ظهر التفاوت جاز الاستتباع وإن لم يبلغ إلى درجة عدم الإيجاب ألا ترى أن حرمة الحرم موجبة بانفرادها ما يوجبه الإحرام ومع ذلك ظهر التفاوت من وجه آخر ووقع الاستتباع وعند هذا نورد ما كنا وعدنا وهو أن قتل الصيد محرم واقع جناية على الإحرام فموجب الجزاء إن كان نفس انتهاك حرمة القتل وجب أن لا يتعدد لأنه لا تعدد في الحرمة بل التعدد في السبب على ما حققناه في مسئلة قتل المحرم صيد الحرم وإن كان الجناية على الإحرام والإحرام متعدد فيتعدد الجزاء وجب التعدد في قتل المحرم صيد الحرم لتعدد الجناية بتعدد المجني عليه وهو الإحرام والحرم إذ لاشك أن منع قتل الصيد فيه لإثبات الله تعالى له حرمة وجعله حماه والقتل فيه جناية على حرم الله وكون إحدى الحرمتين فوق الأخرى لم يعرف في الشرع سببا لإهدار الحرمة وجعلها تبعا بل الأصل أن كل حرمة تستتبع موجبها سواء ساوت غيرها أو لا ومن المعلوم أن الوجوبات والتحريمات تتفاوت بالآكدية وقوة الثبوت ولم يسقط اعتبار شيء منها خصوصا وهذه الكفارة ظهر من الشارع الاحتياط في إثباتها حيث ثبتت مع النسيان والاضطرار في قتل الصيد فلا يجوز الاحتياط في إسقاطها إلا لموجب لا مرد له كثبوت الحاجة إلى تكرير السبب كثيرا كما قلنا في تكرير آية سجدة التلاوة وليس ذلك بلازم إذ لا حاجة متحققة في تكثير القتل مع الإحرام والحرم ليستلزم تعدد الواجب الحرج فيدفع بالتداخل لطفا ورحمة فيلزم التداخل والجواب منع الحصر لجواز كون الجزاء لإدخال النقص في العبادة لا لكونه جناية والقارن بالجناية على الإحرامين مدخل للنقص في عبادتين بخلاف قتل المحرم صيد الحرم وذكر شيخ الإسلام أن وجوب الدمين على القارن إذا كانت الجناية قبل الوقوف في الجماع وغيره أما بعد الوقوف ففي الجماع يجب دمان وفي سائر المحظورات دم واحد وتقدم ما فيه قوله لأن المستحق عليه الخ هذا وجه المذهب واقتصر عليه ولم يذكر وجه قول زفر لضعف كلامه في هذه المسألة وأما الصورة التي يجب بسببها على القارن دمان بسبب المجاوزة فهي فيما إذا جاوز فأحرم بحج ثم دخل مكة فأحرم بعمرة ولم يجد إلى الحل محرما فليس كلاهما للمجاوزة بل الأول لها والثاني لترك ميقات العمرة فإنه لما دخل مكة التحق بأهلها وميقاتهم في العمرة الحل قوله وإذا اشترك محرمان الخ وجهها ظاهر من الكتاب وكذا الفرق بين اشتراك المحرمين في قتل الصيد والحلالين في صيد الحرم
____________________
(3/105)
فارجع إليه ولو اشترك محرمون ومحلون في قتل صيد الحرم وجب جزاء واحد يقسم على عددهم ويجب على كل محرم مع ما خصه من ذلك جزاء كامل وإن كان معهم من لا يجب عليه كصبي وكافر يجب على الحلال بقدر ما يخصه من القسمة لو قسمت على الكل واعلم أن قتل الحلالين صيد الحرم إن كان بضربه فلا شك في لزوم كل نصف الجزاء أما إذا كان كل منهما ضربه ضربة فإنه يجب على كل منهما ما نقصته ضربته ثم يجب على كل نصف قيمته مضروبا بضربتين لأن عند اتحاد فعلهما جميع الصيد صار متلفا بفعلهما فضمن مل منهما نصف الجزاء وعند الاختلاف الجزاء الذي تلف بضربة كل ما هو المختص بإتلافه فعليه جزاؤه والباقي متلف بفعلهما فعليهما ضمانه كذا في المبسوط قوله فالبيع باطل لاشك في حقيقة البطلان إن باعه بعد الذبح لأنه ميتة وأما إذا كان حيا فلا شك فيه إذا كان هو المشتري لأنه محرم العين في حقه لقوله تعالى { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } أضاف التحريم إلى العين فيكون ساقط التقوم في حقه كالخمر وهذا هو النهي الذي أراد المصنف بقوله لأنه منهى التعرض وإطلاق اسم النهي على التحريم إطلاق اسم السبب على المسبب وأنت علمت أن إضافة التحريم إلى العين تفيد منع سائر الانتفاعات والكل مندرج في مطلق التعرض وحاصله إخراج العين عن المحلية لسائر التصرفات فيكون تعليق تصرف ما بها عبثا فيكون قبيحا لعينه فيبطل وما ذكر من أنه إذا هلك بعد البيع في يد المشتري فعليهما جزاءان لأنهما جنيا عليه صحيح إذا كان المتيايعان محرمين فإن كان البائع حلالا خص المشتري وقوله ويضمن أيضا المشتري للبائع لفساد البيع قال وعلى هذا إذا وهب محرم صيدا من محرم فهلك عنده يجب عليه جزاءان ضمانه لصاحبه لفساد الهبة وجزاء آخر حقا لله تعالى محله ما إذا كان البائع والواهب حلالين أما البيع فظاهر كذمي باع خمرا من مسلم فهلكت عنده يضمنها له فإن قامت بينة على أنه أخذ هذا الصيد محرما فباعه يجب أن لا يضمن له لأنه لم يملكه بهذا الأخذ فلا يجب الضمان بخلاف ما إذا أخذه حلالا ثم
____________________
(3/106)
أحرم فباعه وأما الهبة فبعد أن يكون الواهب مالكا بالطريق الذي ذكرنا فيه نظر ولو تبايعنا صيدا في الحل ثم أحرمنا أو أحدهما ثم وجد المشتري به عيبا رجع بالنقصان وليس له الرد وقد قدمنا أنه إذا أصاب المحرم صيودا كثيرة على قصد التحلل والرفض للإحرام فعليه جزاء واحد لتناوله انقطاع الإحرام وإن أخطأ وإن لم يكن على وجه التحلل ورفض الإحرام فعليه لكل جزاء وعلى هذا سائر محظورات الإحرام قوله ومن أخرج ظبية من الحرم وهو حلال أو محرم قوله وهذه أي كونها مستحقة الأمن بالرد إلى المأمن صفة شرعية فالتأنيث هو باعتبار الخبر مثل قولك زيد هي هدية إليك ولا يصح على اعتبار اكتساب الكون التأنيث من المضاف إليه لأنه هنا مما لا يصح حذفه وإقامة المضاف إليه مقامه لفساد المعنى لأنه ضمير الظبية ولا يصح الظبية صفة شرعية بخلاف نحو شرقت صدر القناة من الدم والحاصل أن صفة استحقاق الأمن شرعية كالرق والحرية فتسري إلى الولد عند حدوثه كسائر الصفات الشرعية فيصير خطاب رد الولد مستمرا وإذا تعلق خطاب الرد كان الإمساك تعرضا له ممنوعا فإذا اتصل الموت به ثبت الضمان بخلاف ولد المغصوب لأن سبب الضمان الغصب وهو إزالة اليد ولم توجد في حق الولد حتى لو منع الولد بعد طلب المالك حتى مات ضمنه أيضا قالوا وهذا إذا لم يؤد ضمان الأم قبل الولادة فإن كان فعل لا يضمن الولد لأن الولد حينئذ لا يسرى إليه استحقاق الأمن بالرد إلى المأمن لانتفاء هذه الصفة عن الأم قبل وجوده حتى لو ذبح الأم والأولاد حل لأنه صيد الحل ولكنه يكره ذكره في الغاية وكل زيادة في هذا الصيد كالسمن والشعر فضمانه عند موته على التفصيل المذكور والذي يقضيه النظر أن التكفير أعني أداء الجزاء أن كان حال القدرة على إعادة أمنها بالرد إلى المأمن لا يقع بذلك كفارة ولا يحل بعده التعرض لها بل حرمة التعرض لها قائمة وإن كان العجز عنه بأن هربت في الحل عند ما أخرجها إليه خرج به عن عهدتها فلا يضمن ما يحدث بعد التكفير من أولادها إذا متن وله أن يصطادها وهذا لأن المتوجه قبل العجز عن تأمينها إنما هو خطاب الرد إلى المأمن ولا يزال متوجها ما كان قادرا لأن سقوط الأمن إنما هو بفعل المأمور به ما لم يعجز ولم يوجد فإذا عجز توجه خطاب الجزاء وقد صرح هو بأن الأخذ
____________________
(3/107)
ليس سببا للضمان بل القتل بالنص فالتكفير قبله واقع قبل السبب فلا يقع إلا نفلا فإذا ماتت بعد هذا الجزاء لزمه الجزاء لأنه الآن تعلق به خطاب الجزاء هذا الذي أدين به وأقول يكره اصطيادها إذا أدى الجزاء بعد الهرب ثم ظفر بها لشبهة كون دوام العجز شرط إجزاء الكفارة إلا إذا اصطادها ليردها إلى الحرم فروع غصب حلال صيد حلال ثم أحرم الغاصب والصيد في يده لزمه إرساله وضمان قيمته للمغصوب منه فلو لم يفعل بل دفعه للمغصوب منه حتى برأ من الضمان له كان عليه الجزاء وقد أساء وهذا لغز يقال غاصب يجب عليه عدم الرد بل إذا فعل يجب به الضمان فلو أحرم المغصوب منه ثم دفعه إليه فعلى كل واحد منهما الجزاء ألا إن عطب قبل وصوله إلى يده ولو كان المغصوب منه اصطاده وهو حلال وأدخله الحرم يضمن الغاصب له على قول أبي حنيفة خلافا لهما ويلزم الجزاء برمي الحلال من الحرم صيدا في الحل كما يلزم في عكسه لقوله تعالى { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } يقال أحرم إذا دخل في أرض الحرم كأشأم إذا دخل في أرض الشأم كما يقال أحرم إذا دخل في حرمة الشيء فبعمومه يفيده وكذا إرسال الكلب وقدمنا في أول فصل الجزاء أن الحلال إذا رمى صيدا في الحل فأصابه في الحرم بأن هرب إلى الحرم فأصابه السهم فيه أن عليه الجزاء والذي صرح به في المبسوط أنه لا يلزمه جزاء ولكن لا يحل تناوله لأنه في الرمي غير مرتكب للنهي قال وهذه المسألة هي المستثناه من أصل أبي حنيفة فإن عنده المعتبر حالة الرمي إلا في هذه المسألة خاصة فإنه اعتبر في التناول حالة الأصابة احتياطا لأن الحل بالذكاة يحصل وإنما يكون ذلك عند الإصابة فإذا كان عندها الصيد صيد الحرم لم يحل وعلى هذا أرسال الكلب والله أعلم & باب مجاوزة الوقت بغير إحرام فصله عن الجنايات وأخره لأن المتبادر من اسم الجنايات في كتاب الحج ما يقع جناية على الإحرام وهي
____________________
(3/108)
ما تكون مسبوقة به وهذا الجناية قبله ولا تبادر أيضا ثم تحقيق ما تقع عليه هذه الجناية أمران البيت والإحرام لا الميقات فإنه لم يجب الإحرام منه إلا لتعظيم غيره فالحاصل أنه أوجب تعظيم البيت بالإحرام من المكان الذي عينه فإذا لم يحرم منه كان مخلا بتعظيمه على الوجه الذي أوجبه فيكون جناية على البيت ونقصا في الإحرام لأنه لما وجب عليه أن ينشئه من المكان الأقصى فلم يفعل فقد أوجده ناقصا قوله فإن رجع إلى ذات عرق ليس بقيد بل بناء على الظاهر من أنه إذا تدارك بالرجوع فإنما يرجع إلى ميقاته الذي جاوزه وإلا فظاهر الرواية أنه لا فرق بين أن يرجع إلى ميقاته أو إلى ميقات آخر من مواقيت الآفاقيين وعن أبى يوسف إن كان الذي رجع إليه محاذيا لميقاته أو أبعد منه فكميقاته وإلا لم يسقط الدم بالرجوع إليه والصحيح ظاهر الرواية لما قدمناه أن كلا من المواقيت ميقات لأهله ولغير أهله بالنص مطلقا بلا اعتبار المحاذاة والحاصل أن الآفاقي إذا وصل إلى ميقات من مواقيت الآفاقيين فإما أن يكون بعد ميقات آخر في طريقه أولا فإن كان جاز له مجاوزته إلى الميقات الأخير وإن لم يكن وجب عليه الإحرام منه كالميقات الأخير فإن لم يحرم حتى جاوزه فإن عاد قبل استلام الحجر إلى الميقات فلبى عنده سقط عنه دم المجاوزة اتفاقا وإن لم يلب لا يسقط عند أبى حنيفة وعندهما يسقط وإن لم يلب وعند زفر لا يسقط وإن لبى فيه قوله بخلاف الإفاضة فإنه لم يتدارك المتروك لأن الواجب عليه
____________________
(3/109)
إذا وقف نهارا إما الكون بها وقت الغروب أو مده إلى الغروب على حسب اختلافهم على ما قدمناه وبالعود بعد الغروب لم يتدارك واحدا منهما أما ما نحن فيه فالواجب التعظيم بالكون محرما في الميقات ليقطع المسافة التي بينه وبين مكة متصفا بصفة الإحرام وهذا حاصل بالرجوع محرما إليه وعلى هذا الوجه لا تجب التلبية فيه إلا أن أبا حنيفة ألزم لسقوط الدم التلبية تحصيلا للصورة بالقدر الممكن وفي صورة إنشاء الإحرام لابد من التلبية أو ما يقوم مقامها وكذا إذا أراد أن يجبره بخلاف ما إذا رجع محرما حتى جاوز الميقات فلبى ثم رجع ومر به ولم يلب يجوز لأنه فوق الواجب عليه في تعظيم البيت قوله ولو عاد بعد ما ابتدأ بالطواف ولو شوطا لا يسقط بالاتفاق لأن السقوط بالرجوع باعتبار مبتدإ الإحرام عند الميقات وهذا الاعتبار بعد الشروع في الأفعال يستلزم اعتبار بطلان ما وجد منه من الطواف ولا سبيل إليه بعد وقوعه معتدا به فكان اعتبارا ملزوما للفاسد وملزوم الفاسد فاسد وكذا إذا لم يعد حتى شرع في الوقوف بعرفة من غير أن يطوف لما ذكرناه بعينه قوله وهذا إذا أراد الحج أو العمرة يوهم ظاهره أن ما ذكرنا من أنه إذا جاوز غير محرم وجب الدم إلا أن يتلافاه محله ما إذا كان الكوفي قاصدا للنسك فإن لم يقصده بل قصد التجارة أو السياحة لاشيء عليه بعد الإحرام وليس كذلك
____________________
(3/110)
بل يجب أن يحمل على أنه إنما ذكره بناء على أن الغالب في قاصدي مكة من الآفاقيين قصد النسك فالمراد بقوله إذا أراد الحج أو العمرة إذا أراد مكة وذلك أنه إنما يريد بيان أن ما ذكره من لزوم الإحرام من الميقات إنما هو على من قصد مكة أما من قصد مكانا آخر من الحل داخل الميقات فلا يجب عليه الإحرام منه لتعظيم مكة لأن الإحرام منه لتعظيم مكة لا لتعظيم ذلك المكان ولا نفس الميقات ولذا قابل قوله وهذا إذا أراد الحج بقوله فإن دخل البستان لحاجة الخ ثم موجب هذا الحمل أن جميع الكتب ناطقة بلزوم الإحرام على من قصد مكة سواء قصد النسك أولا ويطول تفصيل المنقولات في ذلك وقد صرح به المنصف في فصل المواقيت حيث قال ثم الآفاقي إذا انتهى إليها على قصد دخول مكة فعليه أن يحرم سواء قصد الحج أو العمرة أو لم يقصد عندنا لقوله صلى الله عليه وسلم
لا يجاوز أحد الميقات لا محرما ولأن وجوب الإحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة فيستوي فيه التاجر والمعتمر وغيرهما ولا أصرح من هذا شيء بل ينبغي أن يعلم قصد الحرم في كونه موجبا للإحرام كقصد مكة قوله فإن دخل البستان الخ اعلم أن عند أبى يوسف أنه إنما يجوز له المجاوزة بغير إحرام إذا كان على قصد أن يقيم بالبستان خمسة عشر يوما وإلا لم يجز بغير إحرام لأنه يبقى على حكم السفر الأول ولذا يقصر الصلاة والأول أوجه للمتأمل قوله ومن دخل مكة بغير إحرام ثم خرج من عامه حاصل الأحكام الكائنة هنا أربعة أحدهما أنه لا يجوز للآفاقى دخول مكة بغير إحرام ثانيها أن من دخلها بلا إحرام يجب عليه إما حجة أو عمرة قال في البدائع فإن أقام بمكة حتى تحولت السنة ثم أحرم يريد قضاء ما وجب عليه بدخول مكة بغير إحرام أجزأه في ذلك ميقات أهل مكة في الحج بالحرم وفي العمرة بالحل لأنه لما أقام بمكة صار في حكم أهلها فيجزيه إحرامه من ميقاتهم أهل اه وتعليله يقتضي أن لا حاجة إلى تقييده بتحويل السنة ثالثها أنه إذا خرج من عامه ذلك إلى الميقات وحج حجة الإسلام سقط ما وجب عليه بدخول مكة بلا إحرام رابعها أنه إذا خرج بعد مضى تلك السنة لا يسقط وقول المصنف بحجة عليه أعم من كونها منذورة أو حجة الإسلام وكذا إذا أحرم بعمرة منذورة وقوله أجزأه من دخول مكة بغير إحرام يعنى من آخر دخول دخله بغير إحرام فإنه لو دخلها مرارا بغير إحرام وجب عليه لكل مرة حجة أو عمرة فإذا خرج فأحرم بنسك أجزأء عن دخوله الأخير لا عما قبله ذكره في شرح الطحاوي قال لأن الواجب قبل الأخير صار دينا في ذمته فلا يسقط إلا بالتعيين بالنية وفي المبسوط إذا دخل مكة بلا إحرام فوجب عليه حجة أو عمرة فأهل به بعد سنة من وقت غير وقته هو أقرب منه قال
____________________
(3/111)
يجزيه ذلك ولا شيء عليه لأنه في السنة الأولى لو أهل منه أجزأه عما يلزمه من دخولها قوله اعتبارا بما لزمه بالنذر أي اعتبارا لما لزمه بالدخول بغير إحرام بما لزمه بالنذر وفي المنذور لا يخرجه عن عهدته إلا أن ينويه عنه فكذا ما بالدخول ولنا وهو وجه الاستحسان أنه تلافى المتروك في وقته الخ معنى هذا الكلام أن الواجب عليه أن يكون محرما عند قصد دخول مكة من الميقات تعظما للبقعة لا لذات دخول مكة من حيث هو دخولها فإذا لم يفعل ودخل هو بلا إحرام وجب عليه قضاء حقها الذي لم يفعله وذلك بأن يدخلها على ذلك الوجه الذي فوته فإذا خرج إلى الميقات فأحرم فأحرم بحجة عليه وقدم مكة فقد فعل ما تركه وذلك لأن وجوب أحد النسكين فيما إذا دخلها بلا إحرام ليس إلا لوجوب الإحرام إلا أنه لما كان الإحرام لا يتحقق إلا بأحدهما قلنا وجب عليه أحدهما فإذا خرج إلى الميقات فأحرم بما عليه فقد فعل ما كان واجبا عليه بالدخول وهو الإحرام في ضمن ما وجب عليه بسبب آخر وصار كما إذا أتاها محرما ابتداء بما عليه من حجة الإسلام من الميقات لم يلزمه شيء آخر لحصول المقصود في ضمن ما عليه بخلاف ما إذا تحولت السنة فإنه لما لم يقض حقها في تلك صار بتفويته دينا عليه فصار تفويتا مقصودا محتاجا إلى النية كما إذا نذر أن يعتكف هذا الرمضان فاعتكف فيه جاز وإن لم يعتكفه لا يجوز أن يعتكفه في رمضان الآتي لأنه لما فاته المنذور المعين تقررا اعتكافه في الذمة دينا فلا يتأدى
____________________
(3/112)
إلا بصوم مقصودا لعود شرطه أعنى الصوم إلى الكمال الأصلي فلا يتأذى في ضمن صوم آخر ولقائل أن يقول لا فرق بين سنة المجاوزة وسنة أخرى فإن مقتضى الدليل إذا دخلها بلا إحرام ليس إلا وجوب الإحرام بأحد النسكين فقط ففي أي وقت فعل ذلك يقع أداء لأن الدليل لم يوجب ذلك في سنة معينة ليصبر بفواتها دينا يقضى فمهما أحرم من الميقات بنسك عليه تأدي هذا الواجب في ضمنه وعلى هذا إذا تكرر الدخول بلا إحرام منه ينبغي أن لا يحتاج إلى التعين وإن كانت أسبابا متعددة الأشخاص دون النوع كما قلنا فيمن عليه صوم يومين من رمضان فصام ينوى مجرد قضاء ما عليه ولم يعين الأول ولا غيره جاز وكذا لو كانا من رمضانين على الأصح فكذا نقول إذا رجع مرارا فأحرم كل مرة بنسك حتى أتى على عدد دخلاته خرج عن عهدة ما عليه قوله وليس عليه دم لترك الوقت لأن المراد بقوله وقضاها كون القضاء بإحرام من الميقات وهذا نظير الاختلاف فيمن جاوز الميقات بلا إحرام ثم أحرم بالحج ومضى ففاته فتحلل بعمرة وقضاء من الميقات أو جاوز فأحرم بالحج فأفسده وقضاه من الميقات لا دم عليه قوله هو يعتبر المجاوزة هذه بغيرها من المحظورات كالتطيب والحلق إذ لو تطيب أو حلق في إحرام نسك ثم أفسده وقضاه واجتنب المحظورات في القضاء لا يسقط عنه الدم فكذا هذا ولنا أنه يصير قاضيا حق الميقات بالإحرام منه في القضاء وهو يحكى الفائت فيينجبر به وهذا لأن النقص حصل بترك الإحرام من الميقات ويصير قاضيا حقه بالقضاء بخلاف ما ذكر لأن الكف عن محظور إحرام فيه لا ينعدم به فعل محظور في آخر قوله وإذا خرج المكي يعنى إلى الحل يريد الحج لأنه لو خرج إلى الحل لحاجة فأحرم منه ووقف بعرفة فلا شيء عليه كالآفاقي إذا جاوز الميقات قاصدا البستان ثم أحرم منه هذا
____________________
(3/113)
وإذا أحرم المكي للعمرة من الحرم فعليه دم إن لم يعد إلى ميقاته على ما عرف قوله لأنه لما دخل إلى مكة الخ ظاهر مسألة ذكرت في المناسك أن بدخول أرض الحرم يصير له حكم أهل مكة في الميقات وهي أن من جاوزه بغير إحرام فأحرم بحجة ثم أحرم من الحرم بعمرة لزمه دمان دم لترك الميقات ودم لترك ميقات العمرة لأنه في حق من صار من أهل مكة الحل اه ولم أر تقييد مسئلة المتمتع بما إذا خرج على قصد الحج وينبغي أن يقيد به وأنه لو خرج لحاجة إلى الحل ثم أحرم بالحج منه لا يجب عليه شيء كالمكي هذا وفي مجاوزة المرقوق مع مولاه بلا إحرام ثم أذن له مولاه فأحرم من مكة دم يؤخذ به بعد العتق وإن جاوزه صبى أو كافر فأسلم أو بلغ الصبي فلا شيء عليهما والله أعلم & باب إضافة الإحرام إلى الإحرام قوله قال أبو حنيفة الخ حاصل وجوه ما إذا أحرم المكي بعمرة فأدخل عليها إحرام حجة ثلاثة إما أن يدخله قبل أن يطوف فترتفض عمرته اتفاقا ولو فعل هذا آفاقي كان قارنا على ما أسلفناه في باب القران أو يدخله بعد أن يطوف أكثر الأشواط فترتفض حجته اتفاقا ولو فعل هذا آفاقي كان متمتعا إن كان الطواف في أشهر الحج على ما قدمناه أو بعد أن طاف الأقل فهي الخلافية عنده يرفض الحج لما يلزم رفض العمرة من إبطال العمل وعندهما العمرة لأنها أدنى حالا إذ ليس من جنسها فرض بخلاف الحج وأقل أعمالا وهو ظاهر وأيسر قضاء لعدم توقيتها وقلة أعمالها ولو فعل هذا آفاقي كان قارنا على ما استوفيناه في صدر باب القران وكل من رفض نسكا فعليه دمل ما روي أبو حنيفة عن عبد الملك بن عمير عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(3/114)
أمر لرفضها العمرة بدم ولو مضي المكي عليهما ولم يرفض شيئا أجزأه لأنه أدي أفعالهما كما التزمهما غير أنه منهي عنه بقوله تعالي { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } يعني التمتع وقد قدمنا أن القرآن داخل في مفهومه وسماه المصنف نهيا باعتبار المعنى وهو عن فعل شرعي فلا يمنع تحقق الفعل على وجه المشروعية بأصله غير أنه يتحمل إثمه كصيام يوم النحر بعد أن يكون نذره ثم عليه دم لتمكن النقصان في نسكه بارتكاب المنهي عنه فيه فهو دم جبر فلا يتناول منه شيئا أما إن كان المضي عليهما بعد أن أدخل الحج على العمرة قبل الطواف للعمرة أو بعد طواف الأقل فظاهر لأنه قارن وإن كان بعد فعل الأكثر في أشهر الحج فكذلك لأنه متمتع وليس لأهل مكة تمتع ولا قران فلو كان طواف الأكثر منه للعمرة في غير أشهر الحج ففي المبسوط أن عليه الدم أيضا قال لأنه أحرم بالحج قبل أن يفرغ من العمرة وليس للمكي أن يجمع بينهما فإذا صار جامعا من
____________________
(3/115)
وجه كان عليه الدم قوله وله أورد وجهين الثاني منهما دافع لما يتوهم مما أورده بعض الطلبة على الأول وهو أنه لما كان الأكثر كالكل في اعتبار الشرع لزمه أن الأقل ليس له حكم الوجود في اعتباره بل حكم العدم وهذا لأنه ليس معني الكل إلا نفس الشيء فعدم اعتبار الأقل كالكل هو عدم اعتباره ذلك الشيء موجودا فيكون معتبرا عدما فيلزم اعتبار هذا البعض عدما إذ لا عبرة به إلا إذا كان في ضمن الكل إذ لا تصح العبادة ما لم
____________________
(3/116)
تتم فصار فعل البعض كعدم فعل شيء وإذا لم يفعل شيئا ثم أحرم بالحج يرفض العمرة فكذا إذا فعل الأقل وجوابه منع كون الأقل إذا لم يعتبر تمام الشيء فإنه يعتبر عدما لجواز أن لا يعتبر عدما ولا كالكل بل يعتبر بمجرد وجوده عبادة متنهضا سببا للثواب بنفسه إن كان البعض يصلح عبادة بالاستقلال وبواسطة إتمامه إن لم يصلح مع إيجاب الإتمام وحينئذ هذا البعض إن كان من الأول فلا إشكال وإن كان من الثاني فقد ثبت بمجرد وجوده اعتباره وتعليق خطاب الإتمام به وهو قوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } وفي رفض العمرة إبطاله فوجب إتمامه ولنذكر تقسيما ضابطا لفروع الباب ثم ننتقل في كلام المصنف فنقول الجمع إما بين إحرامي حجتين فصاعدا كعشرين أو عمرتين كذلك أو حجة وعمرة الأول إما أن يجمع بينهما معا أو على التعاقب أو على التراخي فإما بعد الحلق في الأول أو قبله وفي هذا إما أن يفوته الحج من عامه أولا ففيما إذا أحرم بهما معا أو على التعاقب لزماه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد في المعية يلزمه إحداهما وفي التعاقب الأولى فقط وإذا لزماه عندهما ارتفضت إحداهما باتفاقهما ويثبت حكم الرفض واختلفا في وقت الرفض فعند أبي يوسف
____________________
(3/117)
عقيب صيرورته محرما بلا مهلة وعند أبي حنيفة إذا شرع في الأعمال وقيل إذا توجه سائرا ونص في المبسوط على أنه ظاهر الرواية وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا جنى قبل الشروع فعليه دمان للجناية على إحرامين ودم عند أبي يوسف رحمه الله لارتفاض إحداهما قبلها اه ومن الفروع لو جامع قبل أن يسير أو يشرع على الخلاف لزمه دمان للجماع ودم ثالث للرفض فإنه يرفض إحداهما ويمضي في الأخرى ويقضي التي مضى فيها وحجة وعمرة مكان التي رفضها ولو قتل صيدا فعليه قيمتان أو أحصر فدمان هذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف دم سوى دم الرفض وإذا تراخى فأدخل بعد الحلق في الأولى لزمته الثانية ولا يلزم رفض شيء ولا دم عليه ثم يتم أفعال الأولى ويستمر محرما إلى قابل فيفعل الثانية وإن أحرم بها قبل الحلق ولا فوات لزمه ثم إن وقف يوم عرفة أو ليلة المزدلفة بالمزدلفة رفضها وعليه دم الرفض وحجة وعمرة مكانها ويمضي فيما هو فيها وهذا قولهما أما عند محمد فإحرامه باطل وإنما يرفضها لأنه لو لم يرفضها ووقف لها كان مؤديا حجتين في سنة واحدة وكذا في ليلة المزدلفة لو لم يرفضها وعاد إلى عرفات فوقف يصير مؤديا لحجتين في سنة واحدة وإن كان بعد طلوع فجر النحر لم يرفض شيئا لأن وقت الوقوف قد فات فلا يكون باستدامة الإحرام مؤديا لحجتين في سنة فيتم أعمال الحجة الأولى ويقيم حراما ثم إن حلق في الأولى لزمه دم الجنابة على إحرام الثانية اتفاقا وإن لم يحلق بل استمر حتى حل من قابل لزمه دم لتأخير الحلق عنده خلافا لهما وهل يلزم دم آخر للجمع قيل فيه روايتان وقيل ليس إلا رواية الوجوب وهو الأوجه وإن أحرم بالثانية بعد ما فاته الحج وجب رفضها ودم وقضاؤها وقضاء عمرة لأن فائت الحج وإن تحلل بأفعال عمرة هو محرم بالحج فيصير جامعا بين إحرام حجتين فيرفض الثانية وأما الثاني وهو بعمرتين ففي المعية والتعاقب أعني بلا فصل عمل ما في الحجتين والخلاف فيما يلزم ووقت الرفض إذا لزم وفيما إذا طاف للأولى شوطا رفض الثانية وعليه دم الرفض والقضاء وكذا هذا ما لم يفرغ من السعي فإن كان فرغ منه إلا الحلق لم يرفض شيئا وعليه دم للجمع وهذه تؤيد رواية لزومه في الجمع بين الحجتين على الوجه الذي ذكرناه فإن حلق للأولى لزمه دم واحد للجناية على الثانية ولو كان جامع في الأولى قبل أن يطوف فأفسدها ثم أدخل الثانية يرفضها
____________________
(3/118)
ويمضي في الأولى حتى يتمها لأن الفاسد معتبر بالصحيح في وجوب الإتمام ولو كانت الأولى صحيحة كان عليه أن يمضي فيها ويرفض الثانية فكذا بعد فسادها وإن نوى رفض الأولى والعمل في الثانية لم يكن عليه إلا الأولى ومن أحرم ولا ينوي شيئا فطاف ثلاثة أو أقل ثم أحرم بعمرة رفضها لأن الأولى تعينت عمرة حيث أخذ في الطواف لما أسلفناه فحين أهل بعمرة أخرى صار جامعا بين عمرتين فلهذا يرفض الثانية وأما الثالث وهو بحجة وعمرة فإما أن يجمع بينهما المكي ومن بمعناه كأهل المواقيت ومن دونهم أو الآفاقي فإن كان الأولين ففي الكافي للحاكم أنه لا يقرن بينهما ولا يضيف العمرة إلى الحج ولا الحج إلى العمرة فإن قرن بينهما رفض العمرة ومضى في الحج وكذا أهل المواقيت ومن دونهم إلى مكة قال وكذلك إن أحرم المكي أولا بالعمرة من وقتها ثم أحرم بالحج رفض عمرته فإن مضى عليهما حتى يقضيهما أجزأه وعليه لجمعه بينهما دم فإن طاف للعمرة شوط أو ثلاثة ثم أحرم بالحج رفض الحج في قول أبي حنيفة وقالا يرفض العمرة وإن كان طاف أربعة أشواط ثم أهل بالحج قال هذا يفرغ مما بقي من عمرته ويفرغ من حجته وعليه دم لأنه أهل بالحج قبل أن يحل عن العمرة وهو مكي ولا ينبغي لأهل مكة أن يجمعوا بينهما ولو كان كوفيا لم يكن عليه هذا الدم اه ولفظه أظهر في عدم رفض الحج منه في الرفض وصرح بذلك صاحب المبسوط شمس الأئمة فقال لا يرفض واحدا منهما لأن للأكثر حكم الكل فكأنه أحرم به التحلل من العمرة واختار صاحب الهداية وقوم أنه يرفض الحج إن تعذر رفض العمرة ولو كان المكي أهل أولا بالحج فطاف شوطا ثم أهل بالعمرة رفض العمرة وإن لم يرفضها وطاف لها وسعى وفرغ منها أجزأه وعليه دم لأنه أهل بها قبل أن يفرغ من حجته وفي الكافي إذا خرج المكي إلى الكوفة لحاجة فاعتمر فيها وحج من عامه لم يكن متمتعا وإن قرن من الكوفة كان قارنا ألا ترى أن كوفيا لو قرن وطاف لعمرته في أشهر الحج ثم رجع إلى أهله ثم وافى الحج فحج كان قارنا ولم يبطل عنه دم القران لرجوعه إلى أهله كما يبطل عنه دم المتعة اه وحاصله أن عدم الإلمام بالأهل شرط التمتع المشروع دون القران على ما أسلفنا نقله وقررناه بالبحث في باب التمتع من أن النظر يقتضي اشتراط عدم الإلمام للقران كالمتعة وإن كان الثاني وهو الآفاقي فإن جمع بينهما أو أدخل إحرام الحج على إحرام العمرة قبل أن يطوف لها أربعة أشواط أو إن لم يطف شيئا فهو قارن وعليه دم شكر وهل يشترط في كون الجامع على أحد هذه الوجوه قارنا أن يؤدي طواف عمرته أو أكثره في أشهر الحج تقدم ما نقلناه من عدم اشتراط ذلك وتقدم معه ما أوردناه عليه وإن أدخل فيه بعد أربعة فإن كان فعلها في أشهر الحج من غير إلمام صحيح على ما تقدم في باب التمتع فهو متمتع إن حج من عامه وإلا فهو مفرد بهما وإن أدخل إحرام العمرة على إحرام الحج فإن كان قبل أن يطوف شيئا من طواف القدوم فهو قارن مسيء وعليه دم شكر وإن كان بعد ما شرع فيه ولو قليلا فهو أكثر إساءة وعليه دم اختلف فيه فعند صاحب الهداية وفخر الإسلام أنه دم جبر فلا يأكل منه وعند شمس الإئمة دم
____________________
(3/119)
شكر وقولهم رفض العمرة في هذه الصورة مستحب يونس به في أنه دم شكر وكذا أن أهل بالعمرة بعرفة وإن أهل بها يوم النحر وجب رفضها إن كان قبل الحلق اتفاقا والدم والقضاء وإن كان بعده اختلف فيه والأصح وجوب الرفض ولو لم يرفض في الصورتين أجزأه ويجب عليه دم للمضي وكذا إذا أحرم بها بعد ما فاته الحج قبل أن يتحلل بأفعال العمرة يجب رفض العمرة وكل شيء رفضه يجب لرفضه دم وقضاؤه فإن كان عمرة لم يلزمه في قضائها سوى عمرة وإن كان حجة لزمه حج وعمرة أما الحجة للقضاء وأما العمرة فلأنه في معنى فائت الحج وهو يتحلل بها ثم يقضي الحج شرعا ولذا قلنا لو أحرم بالحج في سنته لا عمرة عليه والله سبحانه وتعالى أعلم ولنرجع لنحل كلام المصنف رحمه الله قوله فعليه دم لإحرامه قبل الوقت لأن وقته بعد الحلق ولم يذكر محمد دما في الجمع بين الحجتين في الجامع الصغير وذكره في الجمع بين العمرتين وأوجبه في المناسك من المبسوط فجعل بعض المشايخ فيه روايتين وذكر بعضهم أنه لا فرق وسكوته في الجامع ليس نفيا بعد وجوب الموجب لأن الموجب له في العمرتين وهو عدم المشروعية ثابت في الحجتين وما ذكر في الفرق
____________________
(3/120)
من أنه في الحجتين لا يصير جامعا فعلا لأنه لا يؤدي أفعال الأخرى إلا في سنة أخرى بخلاف العمرة فإنه يؤدى الثانية في هذه السنة فيصير جامعا فعلا لا يتم لأن كونه بحيث يتمكن من أداء العمرة الثانية لا يوجب الجمع فعلا فاستويا فالأوجه أنه ليس فيه إلا رواية الوجوب قوله وقد ذكرناه يعنى في باب القران قوله والمراد بهذا الطواف يعنى في قوله فإن طاف للحج قوله وهو دم كفارة وجبر هو الصحيح فلا فرق في وجوب الدم بين الصورة الأولى والثانية غير أن الدم في الأولى دم القران للشكر اتفاقا وفي الثانية مختلف فيه ومختار المصنف وفخر الإسلام أنه دم جبر لأنه بان أفعال العمرة على أفعال الحج من وجه لتقديم طواف القدوم واختار شمس الأئمة السرخسي أنه شكر وإن كان هو أكثر إساءة من الأول فإن هذا الطواف لما لم يكن ركنا ولا واجبا أمكنه بناء أفعال العمرة فيصير بانيا أفعال العمرة على أفعال الحج فلا موجب للدم جبرا ولا نسلم بناءه من وجه بسبب تقديم بعض السنن ولو سلم منعنا كون هذا القدر من الوجه الاعتباري يوجب الجناية الموجبة للدم ولو قال قائل إن طواف القدوم ليس من أفعال الحج أصلا ولا من سنن نفس عبادة الحج بل هو سنة لقدوم المسجد الحرام كركعتي التحية لغيره من المساجد ولذا سقط بطواف آخر من مشروعات الوقت حتى لو لم يدخل المحرم بالحج مكة إلا يوم النحر بعد الوقوف سقط استنانه بفعل طواف الإفاضة وكذا المعتمر لا يسن في حقه لإغناء
____________________
(3/121)
طواف العمرة عنه كما تسقط الركعتان بإقامة الفريضة عند الدخول لحصول التحية تعظيما في ضمن الفرض ولو كان معتبرا سنة نفس العبادة تابعا لها لم يسقط بحال كما لم تسقط سنة الظهر بفعل الفرض فكان أظهر في الدفع لأنه حينئذ لا يكون تقدمه موجبا بناء العمرة من ذلك الوجه أيضا وهذا الوجه الذي ذكرناه هو من كلامهم في توجيه سقوطه إذا لم يدخل المحرم مكة وتوجه إلى عرفات ويستلزم أن طواف القدوم لا يسن للقارن لأنه يبدأ بطواف العمرة إذا دخل فيحصل المقصود في ضمنه فإن قيل قد ذكرت فيما تقدم من الآثار ما يدل على أنه يطوف طوافين فلا تعارض بما ذكرت من المعنى قلنا فيلزم بطلان سقوطه فيما إذا لم يدخل مكة إلا بعد الوقوف يوم النحر فالحاصل أن أحد الأمرين لازم والحق أن دلالة الآثار على استنان طوافين للقارن لا يلزمه كون أحدهما
____________________
(3/122)
للقدوم فادعاء أنه طواف القدوم ادعاء أمر زائد على مقتضى الدليل واعتقادي أن استنانه لإيقاع سعي الحج فإن السعي لم يشرع إلا مرتبا على طواف ومعلوم أنه رخص في تقديم السعي على يوم النحر فكان الثابت في الآثار بيان طريق تقديم سعى الحج للقارن وعن هذا قلنا في المتمتع إذا أحرم بالحج بعد الفراغ من العمرة له أن يطوف طوافا ينتفل به ثم يسعى بعده للحج وليس هو طواف القدوم نعم يقتضي أن القارن لو لم يرد تقديم السعي لا يسن في حقه طواف آخر ولا يلزم من التزامه محال وغاية ما يلزم إذا دل دليل على استنان طوافين مطلقا أعنى غير مقيد بقصد تقديم السعي كون تقديم السعي سنة للقارن ولا ضرر في التزامه قوله قال الفقيه أبو جعفر ومشايخنا على هذا أي على وجوب الرفض وإن كان بعد الحلق وصححه بعض المتأخرين لأنه بقى عليه واجبات من الحج كالرمي وطواف الصدر وسنة المبيت وقد كرهت العمرة في هذه الأيام أيضا فيصير بانيا أفعال العمرة على أفعال الحج بلا ريب
____________________
(3/123)
& باب الإحصار هو من العوارض النادرة وكذا الفوات فأخرهما ثم إن الإحصار وقع له صلى الله عليه وسلم فقدم بيانه على الفوات والإحصار يتحقق عندنا بالعدو وغيره كالمرض وهلاك النفقة وموت محرم المرأة أو زوجها في الطريق وفي التجنيس في سرقة النفقة إن قدر على المشي فليس بمحصر وإلا فمحصر لأنه عاجز ولو أحرمت ولا زوج لها ولا محرم فهي محصرة لا تحل إلا بالدم لأنها منعت شرعا آكد من المنع بسبب العدو وقال الشافعي رحمه الله لا إحصار إلا بالعدو قوله لأن التحلل شرع في حق المحصر لتحصيل النجاة من السبب المانع وبالإحلال ينجو من العدو لا المرض ولا يخفى أنه يرد على هذا ببادىء النظر أن يقال إن قلت إنه لم يشرع إلا للنجاة من السبب منعنا الحصر وإن أردت أنه من أسباب شرعيته لم يفد نفى شرعيته في محل النزاع فلذا جعل بعضهم هذا الوجه مبنيا على الاستدلال بالآية هكذا الآية وردت لبيان حكم إحصاره صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكان بالعدو وقال في سياق الآية فإذا أمنتم إلى آخرها فعلم أن شرعية الإحلال في العدو كان لتحصيل الأمن منه وبالإحلال لا ينجو من المرض ولا يكون الإحصار بالمرض في معناه فلا يكون النص الوارد في العدو واردا في المرض فلا يلحق به دلالة ولا قياسا لأن شرعية التحلل قبل أداء الأفعال بعد الشروع في الإحرام على خلاف القياس فلا يقاس عليه قوله فإنهم قالوا الإحصار بالمرض والحصر بالعدو أفاد هذا أن مراده بقوله
____________________
(3/124)
وردت في الإحصار بالمرض بإجماع أهل اللغة أن إجماعهم على أن مدلول لفظ الإحصار المنع الكائن بالمرض والآية وردت بذلك على اللفظ فيلزم إجماعهم على أن معناها ذلك إلا بناف وهذا لأن ذلك نقل عن الفراء والكسائي والأخفش وأبي عبيدة وابن السكيت والقتبى وغيرهم وقال أبو جعفر النحاس على ذلك جميع أهل اللغة ثم المقابلة في نقله قولهم الإحصار بالمرض والحصر بالعدو ظاهر في أن الإحصار خاص بالمرض والحصر خاص بالعدو ويحتمل أن يراد كون المنع بالمرض من ما صدقات الإحصار فإن أراد الأول ورد عليه كون الآية لبيان حكم الحادثة التي وقعت للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم واحتاج إلى جواب صاحب الأسرار وحاصله كون النص الوارد لبيان حكم حادثة قد ينتظمها لفظا وقد ينتظم غيرها مما يعرف به حكمها دلالة وهذه الآية كذلك إذ يعلم منها حكم منع العدو بطريق أولى لأن منع العدو حسى لا يتمكن معه من المضي بخلافه في المرض إذ يتمكن منه بالمحمل والمركب والخدم فإذا جاز التحلل مع هذا فمع ذلك أولى إلا أنه مناف لما ذكره المصنف من الوجه المعقول وهو قوله ولأن التحلل إنما شرع لدفع الحرج الآتي من قبل إمتداد الإحرام والصبر عليه مع المرض أعظم فإنه يفيد أن حكم التحلل مع المرض أولى منه مع العدو فلا يكون النص عليه مع المرض يفيده مع العدو بطريق الدلالة ولا تندفع المنافاة بقولنا إن هذا مذكور بطريق التنزل في معنى الآية أي لو سلمنا أنها في الإحصار بالعدو فيثبت في المرض بطريق أولى لأن المذكور على تقدير التسليم مدعى حقيقته وعلى تقديره يلزم ما ذكرنا والأولى إرادة الأول وهو محمل قول أهل اللغة الإحصار بالمرض لقوله تعالى { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } والمراد منعهم الاشتغال بالجهاد وهو أمر راجع إلى العدو أو المراد أهل الصفة منعهم تعلم القرآن أو شدة الحاجة والجهد عن الضرب في الأرض للتكسب وقال ابن ميادة ** وما هجر ليلى أن تكون تباعدت ** ** عليك ولا أن أحصرتك شغول **
وليس هو بالمرض وفي الكشاف يقال أحصر فلان إذا منعه أمر من خوف أو مرض أو عجز وحصر إذا حبسه عدو عن المضى أو سجن ومنه قيل للمحبس الحصير وللملك الحصير هذا هو الأكثر في كلامهم اه وفي نهاية إبن الأثير يقال أحصره المرض أو السلطان إذا منعه من مقصده فهو محصر وحصره إذا حبسه فهو محصور والمعارضة مع ذلك بين جواب الشيخين قائمة والأقرب حينئذ كلام المصنف لأن الظاهر كون الآية تنتظم الحادثة لفظا ولو بعمومها وعلى التقدير انتفى نفي الشافعي إلحاق المرض بالعدو وقصر إفادة الآية على شرعيته
____________________
(3/125)
للنجاة من العدو ثم وجدناه واقعا في الحديث روى الحجاج بن عمرو الأنصاري أنه صلى الله عليه وسلم قال من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل فذكر ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا صدق رواه الخمسة قال الترمذي حديث حسن وفي شرح الآثار حدثنا فهد حدثنا علي بن معبد بن شداد العبدي صاحب محمد ابن الحسن قال حدثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال لدغ صاحب لنا وهو محرم بعمرة فذكرناه لأبن مسعود فقال يبعث بهدى ويواعد أصحابه موعدا فإذا نحر عنه حل وبه إلى جرير عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال قال عبد الله ثم عليه عمرة بعد ذلك وهذان يفيد أن شرعيته لدفع أذى امتداد الإحرام مع الحابس عن الأعمال وقد يقال حديث من كسر غير مصرح بجواز الإحلال فيجوز كون المراد أنه إذا حبس بذلك حتى فاته الحج فعليه الحج من قابل فإذا قامت الدلالة على أن شرعيته للحابس مطلقا استفيد جوازه لمن سرقت نفقته ولا يقدر على المشي لا إن قدر كذا عن أبي يوسف ولا يبعد أن لا يجب المشي في الابتداء ويلزم بعد الشروع كالفقير إذا شرع في الحج والمرأة إذا مات محرمها في الطريق أو زوجها في غير محل إقامة ولا قريب منه وبينها وبين مكة أكثر من ثلاثة أيام على ما يعرف في باب العدة إن شاء الله تعالى وأما الذي ضل الطريق فهو محصر إلا أن يزول إحصاره بوجود من يبعث معه هدى التحلل فإنه به يذهب المانع إذ يمكنه الذهاب معه إلى مكة فهو كالمحصر الذي لايقدر على الهدى فيبقى محرما إلى أن يحج إن زال الإحصار قبل فوات الحج أو يتحلل بالطواف والسعي إذا استمر الإحصار حتى فاته الحج هذا إذا ضل في الحل أما إن ضل في أرض الحرم فعلى قول من أثبت الإحصار في الحرم إذا لم يجد أحدا من الناس له أن يذبح إن كان معه الهدي ويحل كذا ذكر والذي يظهر من تعليل منع الإحصار في الحرم تخصيصه بالعدو أما إن أحصر فيه بغيره فالظاهر تحققه على قول الكل والله أعلم وأحكم قوله وواعد الاحتياج إلى المواعدة على قول أبي حنيفة لأنه يجوز ذبح هدي الإحصار قبل يوم النحر أما على قولهما فلا حاجة لأنهما عينا يوم النحر وقتا له وقوله ثم تحلل يفيد أنه لا يتحلل قبله حتى لو ظن المحصر أن الهدي قد ذبح في يوم المواعدة ففعل من محظورات الإحرام ثم ظهر عدم الذبح إذ ذاك كان عليه موجب الجناية وكذا لو ذبح في الحل على ظن أنه
____________________
(3/126)
ذبح في الحرم وما أكل منه الذي معه ضمن قيمته يتصدق بها عن المحصر إن كان غنيا قوله وإليه مرجع الضمير التوقت بالحرم المفهوم من قوله يذبح في الحرم مع قوله والإراقة لم تعرف قربة إلا في زمان أو مكان والآية وهي قوله تعالى { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } إما في الإحصار بخصوصه أو فيه وفي غيره أو هو من عموم اللفظ الوارد على سبب خاص فيتناول منع الحلق قبل الأعمال في الإحصار وبعدها في غيره إلى أن يبلغ الهدي محله وبين محله بقوله تعالى { ثم محلها إلى البيت العتيق } وعنها قلنا إذا لم يجد المحصر الهدي يبقى محرما حتى يجده فيتحلل به أو يتحلل بالطواف والسعي إن لم يجده حتى فاته الحج فإن استمر لا يقدر على الوصول إلى مكة ولا إلى الهدي بقي محرما أبدا هذا هو المذهب المعروف ولو سرق الهدي بعد ذبحه لا شيء عليه فإن لم يسرق تصدق به فإن أكل منه الذابح ضمن قيمة ما أكل إن كان غنيا يتصدق به عن المحصر وعن أبي يوسف في المحصر إن لم يجد هديا قوم الهدي طعاما وتصدق به على كل مسكين نصف صاع أو يصوم مكان كل مسكين يوما فيتحلل به رواه عن عطاء قال في الأمالي وهذا أحب إلي قلنا هذا قياس يخالف النص في عين المقيس فلا يقبل وقال التمرتاشي إن لم يجد بقي محرما وقيل يصوم عشرة أيام ثم يتحلل وقيل ثلاثة أيام وقيل بإزاء كل نصف صاع يوما ومن أحصر فوصل إلى مكة لم يبق محصرا على قول الإمام على ما سيأتي فإن لم يقدر على الأعمال صبر حتى يفوته الحج ويتحلل بأفعال العمرة وقد ذكرنا أنه يجب أن يكون هذا في الإحصار بالعدو وكذا قيل لو قدم قارن فطاف وسعى لعمرته وحجته ثم خرج إلى بعض الآفاق قبل الوقوف وأحصر فإنه يبعث بهدي ويحل به ويقضى حجة وعمرة لحجته ولا عمرة عليه لعمرته مع أنه طاف وسعى لحجته ولا يحل بذلك لأن ذلك إنما يجب بعد الفوات ولو أحصر عبد أحرم بغير إذن مولاه بعث المولى الهدي ندبا ولو كان أحرم بإذنه اختلفت الرواية في وجوب بعث المولى وعدمه بل يجب على العبد عند العتق قوله ولنا أن المراعي أصل التخفيف لا نهايته لم يذكر في كلام الشافعي أنه اعتبر نهاية التخفيف لكن دعواه القائلة أن التوقيت يبطل التخفيف وحاصل الجواب أن يقال إن قلت إن المراعي نهاية التخفيف منعناه أو أصله فبالتوقيت لا ينتفى أصل التخفيف بالكلية لتيسر من يرسل معه الهدي عادة من المسافرين وأما الاستيضاح على كون المراعي أصل التخفيف بأنه لو لم يجد هديا يبقى محرما أبدا فلا يرد عليه لأن الشافعي لا يقول به بل إذا لم يجده عنده قومت شاة وسط فيصوم
____________________
(3/127)
عن كل مدمن قيمتها يوما وفي قول عشرة أيام كما في العجز عن هدى المتعة عندة والجواب ما تقدم والمعول عليه الترديد الذي ذكرناه قوله إشارة إلى أنه ليس عليه الحلق أو التقصير وإلا قال ثم احلق ونحوه فلما عدل إلى المعنى الأعم استفدنا عدم تعين الحلق وقوله وهو قول أبي حنيفة ومحمد أطلقه عنهما وفي الكافي إنما لا يحلق إذا أحصر في الحل أما إذا أحصر في الحرم فيحلق لأن الحلق موقت بالحرم عندهما فعلى هذا كان حلقه صلى الله عليه وسلم لكونه في الحرم لأن بعض الحديبية من الحرم على ماقدمه المصنف ولما لم يقل المصنف في جواب أبي يوسف عن حلقه صلى الله عليه وسلم لأنه كان في الحرم بل إن حلقه كان ليعرف بتشديد الراء أو بتخفيفها مبنيا للمفعول استحكام عزيمتهم على الانصراف أي ليعرف المشركين ذلك فلا يشتغلوا بأمر الحرب
____________________
(3/128)
كان ظاهرا في اعتقاده إطلاق الجواب فلا يجب عندهما الحلق سواء أحصر في الحل أو الحرم قوله لأن التحلل منهما شرع في حالة واحدة أي ليس غير قال صلى الله عليه وسلم فلا أحل حتى أحل منهما جميعا في الصحيح قوله وربما يعتبر أنه الخ أما اعتبارهما إياه بالحلق فبجامع أنه محلل وهو إلزامي فإنهما لا يقولان بتوقت الحلق في الحرم بل من حيث السنية والملحق هنا عندهما اللزوم والإلزامي لا يفيد في المطلوب شيئا لأنه لو اعترف الخصم بالخطأ في أحدهما فقال اعترف بالخطإ في أحد الأمرين من عدم توقيت الذبح بالزمان أو توقيت الحلق به لم يلزم خطؤه في محل النزاع عينا وأما اعتبارهما بهدي المتعة والقرآن فبجامع أنه هدي تتعلق القربة فيه بنفس الإراقة وهو معارض بالقياس على سائر دماء الكفارات وهذا أولى لأن الجامع في قياسهما إنما هو أثره في توقته بالمكان بسبب أنه اسم إضافي إذ معناه ما يهدى إلى مكان وذلك المكان هو الحرم بالاتفاق والنص وهو قوله تعالى { ثم محلها إلى البيت العتيق } وتوقته بالزمان ليس معلولا لكونه هديا بل اتفق معه اتفاقا حكما شرعيا
____________________
(3/129)
لم يظهر تأثيره فيه فكان وصفا طرديا في حق هذا الحكم فلا يعلل به بخلاف دماء الكفارات فإن الكفارة مؤثرة في ستر الجناية وهذا كذلك فإنه يمنع التأثيم في مباشرة محظورات الإحرام كما أن ذلك يرفعه ومعنى ستر الجناية مؤثر في عدم التأخير ما أمكن ولازمه جوازه قبل يوم النحر وهو المطلوب مع أن قوله تعالى { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } مطلق فلا ينسخ إطلاقه بما ذكراه لو صح قوله هكذا روى عن ابن عباس وابن عمر وذكره الرازي عن ابن عباس وابن مسعود ثم ذكر وجهه من القياس وهو على فائت الحج وقد يورد عليه أن وجوب العمرة على فائت الحج إنما هو للتحلل بها والمحصر يتحلل بالهدي فلا تجب العمرة عليه الجواب أن العمرة الهدي لتعجيل الإحلال قبل الأعمال وهذا لأنه قد تحقق من الشرع أنه متى صح الشروع في الإحرام انعقد لازما ولا يخرج عنه إلا بأداء الأفعال أي أفعال حج أو عمرة حتى أنه إذا فاته ما أحرم به من الحج لم يسوغ خروجه إلا بأفعال هي أفعال عمرة وإذا أحرم بالحج ينوي الفرض ثم ظهر له أنه كان أداه لزمه المضي فيه بخلاف الصلاة والصوم حيث لا يلزم بالشروع فيه مظنون الوجوب وإذا أفسده وجب المضي في الفاسد ولا يخرج عن عهدته إلا بالأفعال بخلاف سائر العبادات وإذا صح شروع المحصر لا يتحلل بمقتضى ما ذكرنا إلا بأفعال عمرة كفائت الحج فإنه عجز عن الإتمام بعد الشروع فإذا لم يفعل وجب أن يحكم بوجوب قضائها ردا إلى ما عهد من أمر الحج في الشرع وأن الدم وجب عليه بتعجيل الإحلال قبل الأعمال وهو لا ينفي بقاء ذلك الواجب وعن هذا
____________________
(3/130)
قلنا لو لم يحل حتى تحقق بوصف الفوات تحلل بالأفعال بلا دم ولا عمرة في القضاء ثم ما ذكرناه من وجوب الحجة والعمرة في القضاء على المحصر هو فيما إذا قضاها من قابل فلو قضى الحجة من عامة لا تجب معها عمرة لأنه لا يكون كفائت الحج كذا عن أبي حنيفة وعنه لا يحتاج إلى نية التعيين إذ قضاها في تلك السنة ذكرهما محمد في الأصل وروى الحسن عن أبي حنفية أنه عليه حجة وعمرة في الوجهين وعليه نية القضاء وهو قول زفر وعلى هذا الاختلاف والتفصيل ما إذا أحرمت المرأة بحجة تطوع فمنعها زوجها وحللها ثم أذن لها لها بالإحرام فأحرمت من عامها أو تحولت السنة وإذا قضاهما من قابل إن شاء قرن بهما إن شاء أفردهما واعلم أن نية القضاء إنما تلزم إذا تحولت السنة اتفاقا فيما إذا كان الإحصار بحج نفل أما إذا كان بحجة الإسلام فلا لأنها قد بقيت عليه حين لم يؤدها فينوي حجة الإسلام من قابل قوله لأنها لا تتوقت فلا يتحقق خوف الفوات قلنا خوف الفوات ليس هو المبيح للتحلل وإلا لم يجز التحلل لأنه إذا فاته الحج يتحلل بأفعال العمرة وذلك لا يفوت فعلم أن التحلل إنما أبيح لما قدمناه من ضرر امتداد الإحرام مع ظهور عجزه عن الأداء
ومن فروع الإحصار بالعمرة رجل أهل بنسك مبهم فأحصر قبل التعيين فعليه أن يبعث بهدي واحد ويقضى عمرة استحسانا وفي القياس حجة وعمرة لأن إحرامه إن كان للحج لزماه فكان فيه الاحتياط لكنه استحسن المتيقن وهو العمرة فتصير هي دينا في ذمته وفيه نظر ولأنه كان متمكنا من الخروج عن هذا الإحرام بأداء عمرة فكذا بعده وعن هذا أيضا قلنا لو جامع قبل التعيين لزمه دم الجماع والمضي في أفعال العمرة وقضاؤهما بخلاف ما لو كان عين نسكا فنسيه ثم أحصر لأن هناك تيقنا عدم نية الحج وهنا جاز كون المنوي كان الحج فيحل بهدي وعليه حجة وعمرة لهذا الاحتياط ولو أحرم بشيئين والباقي بحاله فأحصر بعث بهديين ويقضي حجة وعمرتين استحسانا وقد قدمنا هذه قوله وعلى القارن حجة وعمرتان يقضيهما بقران أو إفراد وهذا إذا لم يقض
____________________
(3/131)
في سنة الإحصار وأما إذا زال الإحصار بعد التحلل بالذبح والوقت يسع لتجديد الإحرام والأداء ففعل فإنما عليه عمرة القران على ما هو رواية الأصل قوله فإن بعث القارن هديا الصواب المحصر مكان القارن وهذا غلط ظاهر في النسخ أما أولا فلأن هذا الحكم لا يخص القارن فالحاجة إلى بيانه مطلقا لا على خصوص القارن وأما ثانيا فلأن القارن إنما يبعث بدمين قوله فإن كان لا يدرك إلخ حاصل وجوه المسئلة أنه إذا زال الإحصار بعد البعث فإما أن يكون بحيث يدرك الهدي والحج أو لا يدركهما أو يدرك الحج فقط أو الهدي فقط وهذا التقسيم على قول أبي حنيفة كما ذكره المصنف وذكره أحكام الأقسام وهي ظاهرة قوله وإن توجه ليحل بأفعال العمرة له ذلك وله في هذا فائدة هي أنه لا يلزمه عمرة في القضاء فإن قيل إذا كان المحصر قارنا ينبغي أن يجب عليه أن يأتي بالعمرة التي وجبت عليه بالشروع في القران لأنه قادر عليها قلنا إنه لا يقدر على أدائها على
____________________
(3/132)
الوجه الذي تلزمه وهو كونه على وجه يترتب عليها الحج إذ بفوات الحج يفوت ذلك قوله لزمه التوجه وليس له أن يتحلل بالهدي لأن ذلك كان لعجزه عن إدراك الحج وقد قدر عليه فلا يجوز الخلف مع القدرة على الأصل قوله وهو قول زفر وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة قوله ولو خاف على نفسه ألا يلزمه التوجه فكذا على ماله فإنا رأينا الشرع في كثير من المواضع أنه أنزل المال كالنفس حتى أباح القتال دونه والقتل كالنفس وفي البدائع لأنه إذا كان لا يقدر على إدراك الهدي صار كأن الإحصار زال عنه بالذبح فيحل به ولأن الهدي قد مضى لسبيله بدليل أنه لا يجب الضمان على المبعوث معه بالذبح فصار كأنه قدر على الذهاب بعد ما ذبح عنه أه
____________________
(3/133)
ولا يثلج الخاطر شيء من ذلك والأفضل أن يتوجه لأن فيه الإيقاء بما التزمه كما التزمه قوله ومن أحصر بعد الوقوف بعرفة لا يكون محصرا لوقوع الأمن من الفوات بتحقق الفعل فلا يرد النقض بالعمرة فإن الأمن من الفوات متحقق فيها مع تحقق الإحصار بها لأن المراد هنا أنه قد وقع الفعل بحيث لا يتصور بعده فساد ولا فوات وسقط به الفرض إذا انضم إليه الطواف في أي وقت اتفق من عمره بخلاف معنى عدم الفوات في العمرة فلم يصدق عليه معنى الإحصار عن الحج فإن معناه المنع من أفعاله وهذا قد فعل ماله حكم الكل فلم يلزم امتداد الإحرام الموجب للحرج لأنه متمكن من الإحلال بالحلق يوم النحر عن كل محظور سوى النساء ثم إن حلق في غير الحرم لزمه دم والحاصل أنه لم يتحقق العذر المجوز للإحلال على ذلك الوجه لتمكنه منه على سنن المشروع الأصلي غير أنه يبقى المنع في يسير وهو النساء فيزول بالطواف ولا يعجز المحصر عن ساعة من ليل أو نهار يجد بها فرصة قدر الطواف مختفيا في زمان قدر شهر والمنع من النساء في هذا المقدار لا يستلزم حرجا يبيح الإحلال مطلقا بغير الطريق الأصلي أعني الحلق بخلاف الإحصار بالعمرة وهو محرم بها هذا وإذا تحقق الإحصار بعد مجرد الوقوف كان عليه دم لوقوف المزدلفة ودم الرمى ودمان لتأخير الحلق عن المكان وتأخير الطواف عند أبي حنيفة إن أخرهما ودم آخر إن حلق في الحل واختلف هل له ذلك أم لا قيل ليس له أن يحلق في مكانه في غير الحرم ولو أخره حتى يحلق في الحرم تأخر عن زمانه وتأخيره عن الزمان أهون منه في غير المكان وقيل له إذ ربما لو أخره ليحلق في الحرم يمتد الإحصار فيحتاج إلى الحلق في الحل فيفوت المكان والزمان قوله وقد قيل في هذه المسألة خلاف وهو ما ذكر علي بن الجعد عن أبي يوسف قال سألت أبا حنيفة
____________________
(3/134)
عن المحرم يحصرر بالحرم فقال لا يكون محصرا فقلت أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم أحصر بالحديبية وهي من الحرم فقال إن مكة كانت يومئذ دار الحرب وأما اليوم فهي دار الإسلام فلا يتحقق الإحصار فيها قال أبو يوسف أما أنا فأقول إذا غلب العدو على مكة حتى حالوا بينه وبين البيت فهو محصر والأصح أن التفصيل المذكور قول الكل وفيه أن الحديبية من الحرم وهو خلاف ما ذكره البخاري أنها من الحل وما ذكره المصنف وغيره من مشايخنا أن بعضها من الحرم ولو صحت هذه الرواية فلا خلاف في المعنى إذا لاحظت تعليل أبي حنيفة وبملاحظته أيضا يتضح ما ذكرنا من حمل منعه الإحصار بالحرم على ما بالعذر إذ لا يخفى إمكان تحقق العجز عن الذهاب إلى مكة بشدة المرض في بعض الصور مع تحقق الإضرار ببقاء الإحرام مع المرض والله سبحانه أعلم
تقسيم المتحلل قبل أعمال ما أحرم به إما محصر أو فائت الحج أو غيرهما وتحلل الأول في الحال بالدم والثاني بأفعال العمرة والثالث بلا شيء يتقدمه وهو كل من منع من المضي شرعا لحق العبد كالمرأة والعبد الممنوعين لحق الزوج والمولى إذا أحرما بغير إذن فإن للزوج والمولى أن يحلللاهما في الحال بلا شيء ثم على المرأة أن تبعث بهدي يذبح عنها في الحرم وعلى العبد إذا أعتق هدي الإحصار وعليهما معا قضاء حجة وعمرة وسنذكر تمامه إن شاء الله تعالى في المسائل المنثورة & باب الفوات
قوله لقوله عليه الصلاة والسلام من فاته عرفة بليل فقد فاته الحج فليحل بعمرة وعليه الحج من قابل
____________________
(3/135)
رواه الدارقطني من حديث ابن عمر وابن عباس فحديث ابن عمر في سنده رحمة بن مصعب قال الدارقطني ضعيف وقد تفرد به ورواه ابن عدي في الكامل وضعفه بمحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وضعفه عن جماعة وحديث ابن عباس فيه يحيى بن عيسى النهشلي ضعفه ابن حبان وأسند تضعيفه عن ابن معين وقال صاحب التنقيح روى مسلم وأعلم أن الغرض من خصوص هذا المتن الاستدلال على نفي لزوم الدم فإن ما سواه من الأحكام المذكورة لا يعلم فيها خلاف ووجه أنه شرع في بيان حكم الفوات وكان المذكور جميع ما له من الحكم وإلا نافى الحكمة وليس من المذكور لزوم الدم فلو كان من حكمة لذكره قوله كما في الإحرام المبهم وهو أن لا يزيد في النية عن مجرد الإحرام ثم يلبي فإنه يصح ولا يخرج عنه إلا بأداء أحد النسكين وله أن يعين ما شاء ما لم يشرع في الطواف فإذا شرع قبل التعيين تعينت العمرة ولذا قلنا لو لم يعين حتى طاف أقل الأشواط ثم أحرم بعمرة رفضها ولزمه حكم الرفض على ما ذكرناه في إضافة الإحرام إلى الإحرام لأنه حينئذ صار جامعا بين عمرتين وقد أسلفنا في الإحرام المبهم شيئا في باب الإحرام والمراد بالصحيح في قوله لأن الإحرام بعدما انعقد صحيحا اللازم ليخرج به العبد والزوجة بغير إذن لا مقابل ما فسد قوله ولا دم عليه وقال الحسن بن زياد عليه الدم كقول الشافعي ومالك رحمهما الله ولنا فيه ما ذكرنا من الحديث آنفا وهو حجة لأن مسلما روى للنهشلي وما رواه مالك في الموطإ عن عمر أنه قال لأبي أيوب الأنصاري حين فاته الحج اصنع كما يصنع المعتمر ثم قد حللت فإذا أدركك الحج من قابل فاحجج وأهد ما استيسر من الهدي وكذا روى عنه أنه قال لهبار ابن الأسود ومن معه حين فاتهم الحج وعن ابن عمر مثل ما عن أبيه رضي الله عنهما رواه الشافعي عنه فمحمول على الندب لما قدمناه من الحديث المرفوع أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر به حين بيانه لحكم الفوات أو لم يعلمنا فيه
____________________
(3/136)
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا وتأيد بما ذكره من المعنى في الكتاب وهو أن العمرة لفائت الحج جعلت شرعا شرطا للتحلل وكانت كالدم في المحصر فلا يجمع بينهما وقوله لأن التحلل الخ المراد أن لزوم الدم على المحصر لكونه تعجل الإحلال قبل الأعمال وهذا قد حل بالأعمال فلا يجب عليه الدم لا ما يتخايل من ظاهر العبارة ليقال عليه مقتضاه أن لا يجب على المحصر عمرة في قضاء الحجة حينئذ قوله لما روى عن عائشة أخرج البيهقي عن شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة عن عائشة قالت حلت العمرة في السنة كلها إلا أربعة أيام يوم عرفة ويوم النحر ويومان بعد ذلك اه وهو يشير إلى أن الكراهة كراهة تحريم وفي كلام المصنف ما يفيده وقال الشيخ تقي الدين في الإمام روى إسماعيل بن عياش عن إبراهيم ونافع عن طاوس قال قال البحر يعني ابن عباس خمسة أيام يوم عرفة ويوم النحر والثلاثة أيام التشريق اعتمر قبلها أو بعدها ما شئت أه
هذا وأما أفضل أوقاتها فرمضان وعن ابن عباس رضي الله عنهما عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال عمرة في رمضان تعدل حجة وفي طريق لمسلم تقضى حجة أو حجة معي وفي رواية لأبي داود تعدل حجة معي من غير شك وكان السلف رحمهم الله يسمونها الحج الأصغر
هذا وقد قدمنا في أوئل كتاب الحج الوعد بعدد عمراته عليه الصلاة والسلام فنقول قد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمرات كلهن بعد الهجرة ولم يعتمر مدة مقامه بمكة بعد النبوة شيئا وذلك ثلاث عشرة سنة وعن هذا ادعى من ادعى أن السنة في العمرة أن تفعل داخلا إلى مكة لا خارجا بأن يخرج المقيم بمكة إلى الحل فيعتمر كما يفعل اليوم وإن لم يكن ذلك ممنوعا ثم المراد بالأربعة إحرامه بهن فأما ما تم له منها فثلاث ولهذا قال البراء بن عازب اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرتين قبل أن يحج فلم يحتسب بعمرة الحديبية كذا في الصحيحين وكلهن في ذي القعدة على ما هو حق
الأولى عمرة الحديبية سنة ست فصد بها فنحر الهدي بها وحلق هو وأصحابه ورجع إلى المدينة
الثانية عمرة القضاء في العام المقبل وهي قضاء عن الحديبية هذا مذهب أبي حنيفة وذهب مالك إلى
____________________
(3/137)
أنها مستأنفة لا قضاء عنها وتسمية الصحابة وجميع السلف إياها بعمرة القضاء ظاهر في خلافه وتسمية بعضهم إياها عمرة القضية لا ينفيه فإنه اتفق في الأولى مقاضاة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة على أن يأتي من العام المقبل فيدخل مكة بعمرة ويقيم بها ثلاثا وهذا الأمر قضية تصح إضافة هذه العمرة إليها فإنها عمرة كانت عن تلك القضية فهي قضاء عن تلك القضية فتصح إضافتها إلى كل منهما فلا تستلزم الإضافة إلى القضية نفي القضاء وبالإضافة إلى القضاء يفيد ثبوته فيثبت مفيد ثبوته بلا معارض وأيضا فالحكم الثابت فيمن شرع في إحرام بنسك فلم يتمه لإحصار فحل أن يقضى وهذه تحتمل القضاء فوجب حملها عليه وعدم نقل أنه عليه الصلاة والسلام أمر الذين كانوا معه بالقضاء لا يفيد ذلك بل المفيد له نقل العدم لا عدم النقل نعم هو مما يؤنس به في عدم الوقوع لأن الظاهر أنه لو كان لنقل لكن ذلك إنما يعتبر لو لم يكن من الثابت ما يوجب القضاء في مثله على العموم فيجب الحكم بعلمهم به وقضائها من غير تعيين طريق علمهم
الثالثة عمرته التي قرنها مع حجته على ما أسلفنا إثباته من أنه صلى الله عليه وسلم حج قارنا أو التي تمتع بها إلى الحج على قول القائلين بأنه حج متمتعا أو التي اعتمرها في سفره ذلك على قول القائلين بأنه أفرد واعتمر ولاعبرة بقول الرابع
الرابعة عمرته من الجعرانة لما خرج صلى الله عليه وسلم إلى حنين ودخل بهذه العمرة إلى مكة ليلا وخرج منها ليلا إلى الجعرانة فبات بها فلما أصبح وزالت الشمس خرج في بطن سرف حتى جامع في الطريق ومن ثمة خفيت هذه العمرة على كثير من الناس وأما أنهن كلهن في ذي القعدة فلما ثبت عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة وأما ما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته عمرة من الحديبية أو زمن الحديبية في ذي القعدة وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة وعمرة مع حجته فلا ينافيه لأن مبدأ عمرة القران كان في ذي القعدة وفعلها كان في ذي الحجة فصح طريقا الإثبات والنفي وأما قول ابن عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربعا إحداهن في رجب فقد قالت عائشة لما بلغها ذلك يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة قط إلا وهو شاهد وما اعتمر في رجب قط وأما ما ما رواه الدارقطني عن عائشة خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان فقد حكم الحفاظ بغلط هذا الحديث إذ لاخلاف أن عمرة كلها لم تزد عن أربع وقد عينها أنس وعدها وليس فيما ذكر شيء منها في غير ذي القعدة سوى التي مع حجته وقد جمع بما ذكرناه من الوجه الصحيح فلو كانت له عمرة في رجب وأخرى في رمضان لكانت ستا ولو كانت أخرى في شوال كما هو في سنن أبي داود عن عائشة رضي الله أنه عليه الصلاة والسلام اعتمر في شوال كانت سبعا والحق في ذلك أن ما أمكن الجمع فيه وجب ارتكابه دفعا للمعارضة وما لم يكن فيه الجمع فيه حكم بمقتضى الأصح والأثبت وهذا أيضا يمكن فيه الجمع بإرادة عمرة الجعرانة فإنه خرج إلى حنين في شوال والإحرام بها في ذي القعدة فكان
____________________
(3/138)
مجازا للقرب هذا إن صح وحفظ وإلا فالمعول عليه الثابت والله أعلم ولما ثبت أن عمرة صلى الله عليه وسلم كانت كلها في ذي القعدة وقع تررد لبعض أهل العلم في أن أفضل أوقات العمرة أشهر الحج أو رمضان ففي رمضان ما قدمناه مما يدل على الأفضلية ولكن فعله لما لم يقع إلا في أشهر الحج كان ظاهرا أنه أفضل إذ لم يكن الله سبحانه وتعالى يختار لنبيه إلا ما هو الأفضل أو أن رمضان أفضل بتنصيصه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتركه لذلك لأقترانه بأمر يخصه كاشتغاله بعبادات أخرى في رمضان تبتلا وألا يشق على أمته فإنه لو اعتمر فيه لخرجوا معه ولقد كان بهم رحيما وقد أخبر في بعض العبادات أن تركه لها لئلا يشق عليهم مع محبته له كالقيام في رمضان بهم ومحبته لأن يسقى بنفسه مع سقاة زمزم ثم تركه كي لا يغلبهم الناس على سقياتهم ولم يعتمر عليه الصلاة والسلام في السنة إلا مرة وما ظنه بعضهم من حديث في أبي داود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين عمرة في ذي القعدة وعمرة في شوال وليس المراد ذكر جميع ما اعتمر عليه الصلاة والسلام للعلم بأنه اعتمر أكثر فكان الرد ذكر أنه وقع له ذلك في سنة يجب أن يحكم فيه بالغلط فإنه قد تظافر قول عائشة وابن عباس وأنس وغيرهم على أنها أربع ومعلوم أن الأولى كانت في ذي القعدة عام الحديبية سنة ست ثم لم يعتمر إلا من قابل سنة سبع سوى التي في ذي القعدة عمرة القضاء ثم لم يخرج إلى مكة حتى فتحها سنة ثمان في رمضان ولم يعتمر في دخوله في الفتح ثم أخرج إلى حنين في شوال من تلك السنة ثم رجع منها فأحرم بعمرة في ذي القعدة فمتى اعتمر في شوال والله سبحانه وتعالى أعلم ولا علم إلا ما علم قوله والعمرة سنة أي من أتى بها مرة في العمرة فقد أقام السنة غير مقيد بوقت غير ما ثبت النهي عنها فيه إلا أنها في رمضان أفضل هذا إذا أفردها فلا ينافيه أن القران أفضل لأن ذلك أمر يرجع إلى الحج لا إلى العمرة فالحاصل أن من أراد الإتيان بالعمرة على وجه أفضل فيها ففي رمضان أو الحج على وجه أفضل فيه فبأن يقرن معه عمرة قوله وقال الشافعي رحمه الله فريضة وقال محمد بن الفضل من مشايخ بخارى فرض كفاية وقيل هي واجبة وجه
____________________
(3/139)
قول الشافعي رحمه الله تعالى ما رواه الحاكم في المستدرك والدراقطني عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت قال الحاكم الصحيح عن زيد بن ثابت من قوله أه وفيه إسماعيل بن مسلم المكي ضعفوه قال البخاري منكر الحديث وقال أحمد حذفنا حديثه ورواه البيهقي عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين موقوفا وهو الصحيح وأخرج الدارقطني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا قال يا رسول الله ما الإسلام قال أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وأن تحج وتعتمر قال الدارقطني إسناده صحيح ورواه الحاكم في كتابه المخرج على صحيح مسلم قال صاحب التنقيح الحديث مخرج في الصحيحين ليس فيه وتعتمر وهذه الزيادة فيها شذوذ وفيه أحاديث أخر لم تسلم من ضعف أو عدم دلالة وأخرج الحاكم أيضا عن ابن عمر ليس أحد من خلق الله تعالى إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان على من استطاع إلى ذلك سبيلا وعلقه البخاري وأخرج عن ابن عباس الحج والعمرة فريضتان على الناس كلهم إلا أهل مكة فإن عمرتهم طوافهم فليخرجوا إلى التنعيم ثم ليدخلوها الحديث وقال على شرط مسلم وقال البيهقي قال الشافعي رحمه الله في مناظرة من أنكر عليه القول بوجوب العمرة أشبه بظاهر القرآن لأنه قرنها بالحج ولنا ما أخرجه الترمذي عن حجاج بن أرطأة عن محمد ابن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي قال لا وأن تعتمر فهو أفضل قال الترمذي حديث حسن صحيح هكذا وقع في رواية الكرخي ووقع في رواية غيره حديث حسن لا غير قيل هو الصحيح فإن الحجاج بن أرطأة هذا فيه مقال وقد ذكرنا في باب القران ما فيه وأنه لا ينزل به عن كون حديثه حسنا والحسن حجة اتفاقا وإن قال الدارقطني إن الحجاج بن أرطأة لا يحتج به فقد اتفقت الرواة عن الترمذي على تحسين حديثه هذا وقد رواه ابن جريج عن محمد بن المنكدر عن جابر وأخرجه الطبراني في الصغير والدارقطني بطريق آخر عن جابر فيه يحيى بن أيوب وضعفه وروى عبد الباقي ابن قانع عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج جهاد والعمرة تطوع وهو أيضا حجة وقول ابن حزم إنه مرسل رواه معاوية بن إسحاق عن أبي صالح ماهان الحنفي عنه عليه الصلاة والسلام وتضعيف عبد الباقي وماهان اعترضه الشيخ تقي الدين في الإمام بأن عبد الباقي بن قانع من كبار الحفاظ وباقي الإسناد ثقات
____________________
(3/140)
مع أن المرسل حجة عندنا وإنما كلامنا على التنزل قال وتضعيف ماهان غير صحيح فقد وثقه ابن معين وروى عنه جماعة مشاهير وذكرهم وقد روى أيضا من حديث ابن عباس وفي سنده مجاهيل وروى ابن ماجه عن طلحة بن عبيد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الحج الجهاد والعمرة تطوع وفيه عمرو بن قيس قال في الإمام متكلم فيه أه وهذا القدر لا يخرج حديثه عن الحسن فلا ينزل عن مطلق الحجية وأخرج ابن أبي شيبة من حديث أبي أسامة عن سعيد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم قال قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الحج فريضة والعمرة تطوع وكفى بعبد الله قدوة فبعد إرخاء العنان في تحسين حديث الترمذي تعدد طرقه يرفعه إلى درجة الصحيح على ما حققناه كما أن تعدد طرق الضعيف يرفعه إلى الحسن لضعف الاحتمال بها وقد تحقق ذلك فقام ركن المعارضة والافتراض لا يثبت مع المعارضة لأن المعارضة تمنعه عن إثبات مقتضاه ولا يخفى أن المراد من قول الشافعي رحمه الله الفرض الظني وهو الوجوب عندنا ومقتضى ما ذكرناه أن لا يثبت مقتضى ما رويناه أيضا للاشترك في موجب المعارضة فحاصل التقرير حينئذ تعارض مقتضيات الوجوب والنفل فلا يثبت ويبقى مجرد فعله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين وذلك يوجب السنية فقلنا بها والله سبحانه وتعالى أعلم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
فروع وإن استفيد شيء منها مما تقدم فإني لا أكره تكرارها فإن تعدد المواقع يوسع باب الوجدان وهو المقصود إحرام فائت الحج حال التحلل بالعمرة إحرام الحج عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف رحمه الله يصير إحرام عمرة وعند زفر المفعول أيضا أفعال الحج من الطواف والسعي لأنه حين عجز عن الكل فإنه يتحلل بما يقدر عليه الثابت شرعا التحلل بعد الوقوف لا قبله ولا تحلل إلا بطواف بعد فوات وقت الوقوف فلو قدم محرم بحجة فطاف وسعى ثم خرج إلى الربذة 1 مثلا فأحصر بها حتى فاته الحج فعليه أن يحل بعمرة ولا يكفيه طواف التحية والسعي في التحلل حتى لو كان قارنا والمسئلة بحالها لا يجب عليه قضاء عمرته التي قرنها لأنه أداها وإن كان قارنا ولم يطف شيئا حتى فاته يطوف الآن لعمرته لأنها لا تفوت ويسعى ولا يقطع التلبية عندها وإنما يقطعها إذا أخذ في الطواف الذي يتحلل به عن الإحرام في الحج ومن فاته الحج فمكث حراما حتى دخلت أشهر الحج من قابل فتحلل بعمرة ثم حج من عامه ذلك لا يكون متمتعا وهذا مما يدل على أن إحرام حجة باق إذ لو انقلب إحرام عمرة كان متمتعا إذ لايمنع من التمتع تقدم إحرام العمرة على أشهر الحج بعد أن أوقع أفعالها في أشهر الحج وليس لفائت الحج أن يحج بذلك الإحرام وإن قلنا ببقائه إحرام حج حتى لو مكث محرما إلى قابل لم يفعل أفعال عمرة التحلل وأراد أن يحج ليس له ذلك لأن موجب إحرام حجة تغير شرعا بالفوات فلا يترتب عليه غير موجبة فلا يتمكن أبو يوسف في الاستدلال بهذا على صيرورتها إحرام عمرة ولا فرق في وجوب
____________________
(3/141)
التحلل بعمرة بين كون الفوات حال الصحة أو بعدما فسد بالجماع ولو فاته الحج فأهل بأخرى طاف للفائتة وسعى ورفض التي أدخلها لأنه قبل التحلل بالعمرة جامع بين إحرامي حجتين وعليه فيها ما على الرافض ولو نوى بهذه التي أهل بها قضاء الفائتة لم يلزمه بهذا الإهلال شيء سوى التي هو فيها لأن إحرامه بعد الفوات باق ونية إيجاد ما هو موجود له فيتحلل بالطواف والسعي ويقضي الفائت فقط فلو كان أهل بعمرة رفضها أيضا لأنه جامع بين عمرتين إحراما على قول أبي يوسف وعملا على قولهما ولو أهل رجل بحجتين فقدم مكة وقد فاته الحج تحلل بعمرة واحدة لا بعمرتين لأنه بالترك والشروع رفض إحداهما والتحلل بالعمرة إنما يجب لغير ما رفض وذلك واحدة & باب الحج عن الغير
إدخال اللام على غير غير واقع على وجه الصحة بل هو ملزوم الإضافة ولما كان الأصل كون عمل الإنسان لنفسه لا لغيره قدم ما تقدم قوله أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوما عند أهل السنة والجماعة لا يراد به أن الخلاف بيننا وبينهم في أن له ذلك أو ليس له كما هو ظاهره بل في أنه ينجعل بالجعل أو لا بل يلغو جعله قوله أوغيرها كتلاوة القرآن والأذكار قوله عند أهل السنة والجماعة ليس المراد أن المخالف لما ذكر خارج عن أهل السنة والجماعة فإن مالكا والشافعي رضي الله عنهما لا يقولان بوصول العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة بل غيرها كالصدقة والحج بل المراد أن أصحابنا لهم كمال الاتباع والتمسك ما ليس لغيرهم فعبر عنهم باسم أهل السنة فكأنه قال عند أصحابنا غير أن لهم وصفا عبر عنهم به وخالف في كل العبادات المعتزلة وتمسكوا بقوله تعالى { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وسعي لغيره ليس سعيه وهي وإن كانت مسوقة قصا لما
____________________
(3/142)
في صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام فحيث لم يتعقب بإنكار كان شريعة لنا على ما عرف والجواب أنها وإن كانت ظاهرة فيما قالوه لكن يحتمل أنها نسخت أو مقيدة وقد ثبت ما يوجب المصير إلى ذلك وهو ما رواه المصنف وما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته والملحة بياض يشوبه شعرات سود وفي سنن ابن ماجه بسنده عن عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يضحي يشتري كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين فذبح أحدهما عن أمته ممن شهد لله بالوحداينة وله بالبلاغ وذبح الآخر عن محمد وآل محمد ورواه أحمد والحاكم والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه وأخرج أبو نعيم في ترجمة ابن المبارك عنه عن يحيى بن عبد الله عن أبيه سمعت عن أبا هريرة يقول ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين أملحين موجوءين فلما وجههما قال { إني وجهت وجهي } الآية اللهم لك ومنك عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر ثم ذبح ورواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم بنقص في المتن ورواه ابن أبي شيبة عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم أتى بكبشين أملحين عظيمين أقرنين موجوءين فأضجع أحدهما وقال بسم الله والله أكبر اللهم عن محمد وآل محمد ثم أضجع الآخر وقال باسم الله والله أكبر اللهم عن محمد وأمته ممن شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ وكذا رواه إسحاق وأبو يعلى في مسنديهما وروى هذا المعنى من حديث أبي رافع رواه أحمد وإسحاق والطبراني والبزار والحاكم ومن حديث حذيفة بن أسيد الغفاري أخرجه الحاكم في الفضائل ومن حديث أبي طلحة الأنصاري رواه ابن أبي شيبة ومن طريقه رواه أبو يعلى والطبراني ومن حديث أنس بن مالك رواه ابن أبي شيبة أيضا والدارقطني فقد روى هذا عندة من الصحابة وانتشرت مخرجوه فلا يبعد أن يكون القدر المشترك وهو أنه ضحى عن أمته مشهورا يجوز تقييد الكتاب به بما لم يجعله صابحه أو ننظر إليه وإلى ما رواه الدارقطني أن رجلا سأله صلى الله عليه وسلم فقال كان لي أبوان أبرهما حال حياتهما فكيف لي ببرهما بعد موتهما فقال له صلى الله عليه وسلم إن من البر بعد الموت أن تصلي لهما مع صلاتك وتصوم لهما مع صيامك ما رواه أيضا عن علي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من مر على المقابر وقرأ قل هو الله احد إحدى عشرة مرة ثم وهب أجرهما للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات وإلى ما عن أنس بن مالك أنه سأله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نتصدق عن موتانا ونحج عنهم وندعو لهم فهل يصل ذلك إليهم قال نعم إنه ليصل إليهم وإنهم ليفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدي إليه رواه أبو حفص الكبير العكبري وعنه صلى الله عليه وسلم اقرءوا على موتاكم يس رواه أبو داود فهذه الأثار وما قبلها وما في السنة أيضا من نحوهما عن كثير قد تركناه لحال الطول يبلغ القدر المشترك بين الكل وهو أن من جعل شيئا من الصالحات لغيره نفعه الله به مبلغ
____________________
(3/143)
التواتر وكذا ما في كتاب الله تعالى من الأمر الدعاء للوالدين في قوله تعالى { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } ومن الإخبار باستغفار الملائكة للمؤمنين قال تعالى { والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض } وقال تعالى في آية أخرى { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا } وساق عبارتهم { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } إلى قوله { وقهم السيئات } قطعي في حصول الانتفاع بعمل الغير فيخالف ظاهر الآية التي استدلوا بها إذ ظاهرها أنه لا ينفع استغفار أحد لأحد بوجه من الوجوه لأنه ليس من سعيه فلا يكون له منه شيء فقطعنا بانتفاء إراداة ظاهرها على صرافته فتتقيد بما لم يهبه العامل وهو أولى من النسخ أما أولا فلأنه أسهل إذ لم يبطل بعد الإرادة وأما ثانيا فلأنها من قبيل الإختبارات ولا يجري النسخ في الخبر وما يتوهم جوابا من أنه تعالى أخبر في شريعة إبراهيم وموسى عليهما السلام أن لا يجعل الثواب لغير العامل ثم جعله لمن بعدهم من أهل شريعتنا حقيقة مرجعه إلى تقييد الإخبار لا إلى النسخ إذ حقيقته أن يراد المعنى ثم ترفع إرادته وهذا تخصيص بالإرادة بالنسبة إلى أهل تلك الشرائع ولم يقع نسخ لهم ولم يرد الإخبار أيضا في حقنا ثم نسخ وأما جعل اللام في للإنسان بمعنى على فبعيد من ظاهرها ومن سياق الآية أيضا فإنها وعظ للذي تولى وأعطى قليلا وأكدى وقد ثبت في ضمن إبطالنا لقول المعتزلة انتفاء قول الشافعي ومالك رحمها الله في العبادات البدنية بما في الآثار والله سبحانه هو الموفق قوله لحصول المقصود
____________________
(3/144)
المقصود الأصلي من التكاليف الابتلاء ليظهر من المكلف ما سبق العلم الأزلي بوقوعه منه من الامتثال بالصبر على ما أمر به تاركا هوى نفسه لإقامة أمر ربه سبحانه وتعالى فيثاب أو المخالفة فيعفى عنه أو يعاقب فتحقق بذلك آثار صفاته تعالى فإنه تعالى اقتضت حكمته الباهرة وكمال فضله وإحسانه أن لا يعذب بما علم أنه سيقع من المخالفة قبل ظهوره عن اختيار المكلف ثم من التكاليف العبادات وهي بدنية ومالية ومركبة منهما والمشقة في البدنية تقيد الجوارح والنفس بالأفعال المخصوصة في مقام الخدمة وفي المالية في تنقيص المال المحبوب للنفس وفيها مقصود آخر وهو سد خلة المحتاج والمشقة فيها ليس به بل التنقيص فكل ما تضمن المشقة لا يخرج عن عهدته إلا بفعله بنفسه إذ بذلك يتحقق مقصود الابتلاء والاختبار فلذا لم تجز النيابة في البدنية لأن فعل غيره لا يتحقق به الاشتقاق على نفسه بمخالفة هواها بالصبر عليه وأما المالية فما فيه المشقة من أحد مقصود بها وهو تنقيص المال بإخراجه لم تجز فيه النيابة ولا يقوم به غيره إذ لا بد من إذنه والواقع من النائب ليس إلا المناولة للفقير وبه يحصل المقصود الآخر الذي هو من حيث هو لا مشقة به على المالك وعلى هذا كان مقتضى القياس أن لا تجري النيابة في الحج لتضمنه المشقتين البدنية والمالية والأولى لم تقم بالآمر لكنه تعالى رخص في إسقاطه بتحمل المشقة الأخرى أعني إخراج المال عند العجز المستمر إلى الموت رحمة وفضلا وذلك بأن يدفع نفقة الحج إلى من يحج عنه بخلاف حال القدرة فإنه لم يعذره لأن تركه فيها ليس إلا لمجرد إيثار راحة نفسه على أمر ربه وهو بهذا يستحق العقاب لا التخفيف في طريق الإسقاط وإنما شرط دوامه إلى الموت لأن الحج فرض العمر فحيث تعلق به خطابه لقيام الشروط وجب عليه أن يقوم هو بنفسه في أول أعوام الإمكان فإذا لم يفعل أثم وتقرر القيام بها بنفسه في ذمته في مدة عمره وإن كان غير متصف بالشروط فإذا عجز عن ذلك بعينه وهو أن يعجز عنه في مدة عمره رخص له الاستنابة رحمة وفضلا منه فحيث قدر عليه وقتا ما من عمره بعدما استناب فيه لعجز لحقه
____________________
(3/145)
ظهر انتفاء شرط الرخصة فلذا لو حج عنه غيره لمرض يرجى زواله أولا أو كان محبوسا كان أمره مراعى إن استمر بذلك المانع حتى مات ظهر أنه وقع مجزيا وإن عوفي أو خلص من السجن ظهر أنه لم يقع مجزيا وظهر وجوب المباشرة بنفسه ولو أحج صحيح غيره ثم عجز لا يجزيه كذا في فتاوي قاضيخان وهو الصحيح لأنه أذن قبل وجوب سبب الرخصة ولا يتخايل خلاف هذا مما في الفتاوي أيضا قال إذا قال رجل لله على ثلاثون حجة فأحج عنه ثلاثين نفسا في سنة واحدة إن مات قبل أن يجيء وقت الحج جاز عن الكل لأنه لم تعرف قدرته بنفسه عند مجيء وقت الحج فجاز وإن جاء وقت الحج وهو يقدر بطلت حجته لأنه يقدر بنفسه عليها فانعدم شرط صحة الإحجاج في هذه السنة وعلى هذا كل سنة تجيء وفيها المرأة إذا لم تجد محرما لا تخرج إلى الحج إلى أن تبلغ الوقت الذي تعجز عن الحج فيه فحينئذ تبعث من يحج عنها أما قبل ذلك فلا يجوز لتوهم وجود المحرم فإن بعثت رجلا إن دام عدم وجود المحرم إلى أن ماتت فذلك جائز كالمريض إذا أحج عنه رجلا ودام المرض إلى أن مات وأعلم أن ما تقدم في أول كتاب الحج من كون شرط الإحجاج عن الفريضة مجيء الوقت وهو قادر فلا يحج حتى يعرض المانع ويدوم إلى الموت فلو أوصى قبل الوقت فمات لا يصح وقدمنا من اختلاف زفر ويعقوب في نصراني أسلم أو صبي بلغ فمات قبل إدراك الوقت وأوصيا بحجة الإسلام أن الوصية باطلة على قول زفر لما قلنا وجائزة على قول أبي يوسف لأن السبب تقرر في حقهما والوقت شرط الأداء وفيه نظر أولا في كونه شرط الأداء بل هو شرط الوجوب والسبب وإن كان هو البيت لكن الموصى به ليس مطلق الحج ليلزم الورثة إن وسع الثلث بل الحج الفرض وقد تحققنا عدمه عليهما إلى أن ماتا فقول زفر أنظر وفي البدائع لو كان فقيرا صحيح البدن لا يجوز حج غيره عنه لأن المال شرط الوجوب فإذ لا مال لا وجوب فلا ينوب عنه غيره في أداء الواجب ولا واجب حينئذ وهذا يؤيد ما ذكرناه والله سبحانه أعلم أما الحج النفل فلا يشترط فيه العجز لأنه لم يجب عليه واحدة من المشقتين فإذا كان له تركهما كان له أن يتحمل إحداهما تقربا إلى ربه عز وجل فله الاستنابة فيه صحيحا ثم إن وجوب الإيصاء إنما يثبت ابتداء إذا كان صحيح البدن عند أبي حنيفة رحمه الله فمن لم يكن صحيحه لم يتعلق به فلا يجب عليه الإحجاج وعندهما إذا كان له مال تعلق به وإن كان زمنا أو مفلوجا على ما سلف من أن من الشرائط عنده صحة الجوارح خلافا لهما وأسلفنا في أول كتاب الحج أن قولهما رواية الحسن عنه وأنها أوجه وذكرنا الوجه ثمة فليراجع ثم اختلف في أن نفس الحج يقع عن الآمر أو عن المأمور فعن محمد عن المأمور بناء على أنه أقيم الإنفاق على الحاج مقام نفس الفعل شرعا كالشيخ الفاني حيث أقيم الإطعام في حقه مقام الصوم قالوا إن بعض الفروع ظاهرة في هذا وسيأتي وعليه جمع من المتأخرين صدر الإسلام والإسبيجابي وقاضيخان حتى نسب شبخ الإسلام هذا لأصحابنا فقال على قول أصحابنا أصل الحج عن المأمور ومختار شمس الآئمة السرخسي وجمع من المحققين أنه يقع عن الآمر وهو ظاهر المذهب ويشهد بذلك الآثار من السنة ومن المذهب بعض الفروع فمن الآثار حديث الخثعمية وهو أن امرأة من خثعم قالت يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخنا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم متفق عليه
____________________
(3/146)
فقد أطلق على فعلها الحج كونه عنه وكذا قوله للرجل حج عن أبيك واعتمر رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه وأما الفروع فإن المأمور لا يسقط عنه حجة الإسلام بهذه الحجة فلو كانت عنه لسقطت إذ الفرض أن حجة الإسلام تتأدى بإطلاق النية وتلغو الجهة على ذلك التقدير وفيه تأمل ولم يستدل في البدائع بعد حديث الخثعمية سوى باحتياج النائب إلى إسناد الحج إلى المحجوج عنه في النية ولو لم يقع نفس الحج عن الآمر لم يحتج إلى نيته واعلم أن شرط الإجزاء كون أكثر النفقة من مال الآمر والقياس كون الكل من ماله إلا أن في التزام ذلك حرجا بينا لأن الإنسان لا يستصحب المال ليلا ونهارا في كل حركة وقد يحتاج إلى شربة ماء وكسرة خبز في بغتة فأسقطنا اعتبار القليل استحسانا واعتبرنا الأكثر إذ له حكم الكل فإن أنفق الأكثر أو الكل من مال نفسه وفي المال المدفوع إليه وفاء لحجه رجع به فيه إذ قد يبتلى بالإنفاق في مال نفسه لبغتة الحاجة ولا يكون المال حاضرا فيجوز ذلك كالوصي والوكيل يشتري لليتيم ويعطى الثمن من مال نفسه ثم يرجع به في مال اليتيم وحينئذ لا يشكل ما في الكافي للحاكم الشهيد لو قال أحجوا فلانا حجة ولم يقل عني ولم يسم كم يعطى قال يعطى قدر ما يحج به وله أن لا يحج به إذا أخذه ويصرفه إلى حاجة أخرى قال في المبسوط لأنه لما أمر بذلك إنما جعل الحج عيارا لما أوصى له به من المال ثم أشار عليه أن يحج به عن نفسه فكانت الوصية صحيحة ومشورته غير ملزمة فإن شاء حج وإن شاء لم يحج 1 هـ والحاصل أنه إنما أوصى له بمال يبلغ أن يحج به وفي غريب الرواية للسيد الإمام ابن شجاع رجل أوصى بأن يحج عنه فحج عنه ابنه ليرجع في التركة فإنه يجوز كالدين إذا قضاه من مال نفسه ولو حج على أن لا يرجع لا يجوز عن الميت ويتخايل خلافه في عيون المسائل قال إذا أوصى أن يحج عنه بعض ورثته فأجاز سائر الورثة وهم كبار جاز وإن كانوا صغارا أو غيبا كبارا لم يجز لأن هذا يشبه الوصية للوارث بالنفقة فلا تجوز إلا بإجازة الورثة 1 هـ فيحمل الأول على ما إذا أمره باقي الورثة بذلك والنفقة المشروطة ما تكفيه للذهابه وإيابه لأنه في ذلك عامل للميت ولو توطن مكة بعد الفراغ خمسة عشر يوما بطلت نفقته في مال الميت لأنه توطن حينئذ لحاجة نفسه بخلاف ما إذا أقام أقل فإنه مسافر على حاله وقال بعض المشايخ إذا أقام أكثر من ثلاث فهي في مال نفسه لتحقق الحاجة إلى الثلاث للاسترحة لا للأكثر قالوا هذا في زمانهم إذ كان يقدر على الخروج متى شاء أما في زماننا فلا إلا مع الناس فعلى هذا إذا كان مقامه بمكة أو غيرها لانتظار قافلته فنفقته في مال الميت وإن كان أكثر من خمسة عشر يوما لأنه لا يقدر على الخروج إلا معهم فلم يكن متوطنا لحاجة نفسه فإن أقام بعد خروجها فنفقته في مال نفسه فإن بدا له بعد ذلك أن يرجع رجعت نفقته في مال الميت لأنه كان استحق نفقة الرجوع في مال الميت فهو كالناشزة إذا عادت إلى المنزل والمضارب إذا أقام في بلدته أو بلدة أخرى خمسة عشر يوما لحاجة نفسه لم ينفق من مال المضاربة فإن خرج مسافرا بعد ذلك عادت فيه وقد روى عن أبي يوسف أنه لا تعود نفقته في مال الميت لأنه في الرجوع عامل لنفسه لا للميت لكنا قلنا إن أصل سفره كان للميت فما بقي ذلك السفر بقيت النفقة كذا في المبسوط وذكر غير واحد من غير ذكر خلاف أنه إن نوى الإقامة خمسة عشر يوما سقطت فإن عاد عادت وإن توطنها سواء قل أو كثر لا تعود وهذا يفيد أن التوطن غير مجرد نية الإقامة خمسة عشر يوما والظاهر أن معناه أن يتخذها وطنا
____________________
(3/147)
ولا يحد في ذلك حدا فتسقط النفقة ثم العود إنشاء سفر لحاجة نفسه ولو بعد يومين فلا يستحق به النفقة على الميت والله سبحانه أعلم وصرح في البدائع بعد نقل الرواية عن أبي يوسف فقال وهذا إذا لم يتخذ مكة دارا فأما إذا اتخذها دارا ثم عاد لا تعود النفقة بلا خلاف ولو كان أقام بها أياما من غير نية الإقامة قالوا إن كانت إقامة معتادة لم تسقط وإن زاد على المعتاد سقطت ولو تعجل إلى مكة فهي في مال نفسه إلى أن يدخل عشر ذي الحجة فتصير في مال الآمر ولو سلك طريقا أبعد من المعتاد إن كان مما يسلكه الناس ففي مال الآمر وإلا ففي مال نفسه وما دام مشغولا بالعمرة بعد الحج فنفقته في مال نفسه لأنه عامل لنفسه فإذا فرغ عادت في مال ميت ولو كان بدأ بالعمرة لنفسه ثم حج عن الميت قالوا يضمن جميع النفقة لأنه خالف الأمر وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى في فتاوى قاضيخان لو ضاعت النفقة بمكة أو بقرب منها أو لم تبق يعني فنيت فأنفق من مال نفسه كان له أن يرجع في مال الميت وإن فعله بغير قضاء لأنه لما أمره بالحج فقد أمره بأن ينفق عنه ثم ذكر بعده بأسطر إذا قطع الطريق على المأمور وقد أنفق بعض المال في الطريق فمضى وحج وأنفق من مال نفسه يكون متبرعا فلا يسقط الحج عن الميت لأن سقوطه بطريق التسبب بإنفاق المال في كل الطريق ولا في ذلك بين الصورتين سوى أنه قيد الأولى بكون ذلك الضياع بمكة أو قريبا منها لكن المعنى الذي علل به يوجب اتفاق الصورتين في الحكم وهو أن يثبت له الرجوع فإن لم يرجع وتبرع به إن كان الأقل جاز وإلا فهو ضامن لماله والمراد بالنفقة ما يحتاج إليه من طعام ومنه اللحم وشرابه وثيابه وركوبه وثياب إحرامه وليس له أن يدعو أحدا إلى طعامه ولايتصدق به ولا يقرض أحدا ولا يصرف الدراهم بالدنانير إلا لحاجة تدعو إلى ذلك ولا يشترى منها ماء الوضوء بل يتيمم ولا يدخل الحمام وفي فتاوى قاضيخان له أن يدخلها بالمتعارف يعني من الزمان ويعطى أجرة الحارس من مال الآمر وله أن يخلط دراهم النفقة مع الرفقة ويودع المال واختلف في شراء دهن السراج والإدهان قيل لا وقيل يشتري دهنا يدهن به لإحرامه وزيتا للإستصباح ولا يتداوى منه ولا يحتجم ولا يعطى أجرة الحلاق إلا أن يوسع عليه الميت أو الوارث وقياس ما في الفتاوي أن يعطى أجرة الحلاق ولا ينفق على من يخدمه إلا إذا كان ممن لا يخدم نفسه وله أن يشتري دابة يركبها ومحملا وقربة وإداوة وسئر الآلات ومهما فضل من الزاد والأمتعة يرده على الورثة أو الوصي إلا أن يتبرع به الوارث أو أوصى له به الميت وهذا لأن النفقة لا تصير ملكا للحاج بالإحجاج وإنما ينفق في ذهابه وإيابه على حكم ملك الميت لأنه لو مكله لكان بالاستئجار ولا يجوز الاستئجار على الطاعات وعن هذا قلنا لو أوصى أن يحج عنه ولم يزد على ذلك كان للوصي أن يحج عنه بنفسه إلا أن يكون وارثا أو دفعه إلى وارث ليحج فإنه لا يجوز إلا أن يجير الورثة وهم كبار لأن هذا كالتبرع بالمال فلا يصح للوارث إلا بإجازة الباقين ولو قال الميت للوصي ادفع المال لمن يحج عني لم يجز له أن يحج بنفسه مطلقا وإذا علم هذا فما في فتاوى قاضيخان من قوله إذا استأجر المحبوس رجلا ليحج عنه حجة الإسلام جازت الحجة عن المحبوس إذا مات في الحبس وللأجير أجرة مثله مشكل لا جرم أن الذي في الكافي للحاكم الشهيد أبي الفضل في هذه المسئلة قال وله نفقة مثله هي العبارة المحررة وزاد إيضاحها في المبسوط فقال وهذه النفقة ليس يستحقها بطريق العوض بل بطريق الكفاية لأنه فرغ نفسه لعمل ينتفع المستأجر
____________________
(3/148)
به هذا وإنما جاز الحج عنه لأنه لما بطلت الإجارة بقي الأمر بالحج فيكون له نفقة مثله وإذا أراد أن يكون ما فضل للمأمور من الثياب والنفقة يقول له وكلتك أن تهب الفضل من نفسك وتقبضه لنفسك فإن كان على موت قال والباقي مني لك وصية وفي الفتاوي لو حج المأمور بالحج ماشيا وأمسك مئونة الكراء كان ضامنا مال الميت والحج لنفسه لانصراف الأمر بالحج إلى المتعارف وهو بالزاد والراحلة ولو أوصى أن يعطي بعيره هذا إلى رجل يحج عنه فأكراه الرجل وأنفق الكراء على نفسه في الطريق وحج ماشيا جاز عن الميت استحسانا هو المختار لأنه ملك أن يبيعه ويحج بثمنه فكذا يملك أن يؤجره ولأنه لو لم يملك ذلك كانت الأجرة له ولا يضمن كالغاصب ويقع الحج عن المأمور فيتضرر الميت به فوجب أن يملك الإجارة نظرا للميت ثم يؤدي البعير إلى الورثة لأنه ملك مورثهم قال أبو الليث في النوازل وعندي أن الحج عن نفسه ويضمن نقصان البعير إلا أن يكون الميت فوض إليه ذلك ألا ترى أن رجلا لوكل رجلا بأن يبيع بعيره بمائة فآجره بمائة لا يجوز فكذا هذا أه ولو أوصى أن يحج عنه فلان فمات فلان أحجوا عنه غيره ولو اختلف المأمور والوارث أو الوصي فقال وقد أنفق من مال الميت منعت من الحج وكذبه الآخر لايصدق ويضمن إلا أن يكون أمرا ظاهرا يشهد على صدقه لأن سبب الضمان قد ظهر فلا يصدق في دفعه إلا بأمر ظاهر يدل على صدقه ولو اختلفا فقال حججت وكذبه الآخر كان القول للمأمور مع يمينه لأنه يدعي الخروج عن عهدة ما هو أمانة في يده ولا تقبل بينة الوارث أو الوصي أنه كان يوم النحر بالبلد إلا أن يقيما على إقراره أنه لم يحج نظيره قال المودع دفعتها إليك بمكة وأقام رب الوديعة البينة أنه كان في اليوم الذي ادعى فيه الدفع بمكة بالكوفة لم تجز هذه الشهادة بخلاف ما إذا أقامها على إقراره أنه كان بالكوفة أما لو كان الحاج مديونا للميت وأمره أن يحج بماله الذي عليه وباقي المسئلة بحالها فإنه لايصدق إلا ببينة لأنه يدعي قضاء الدين وفي خزانة الأكمل القول له مع يمينه إلا أن يكون للورثة مطالب بدين الميت فإنه لا يصدق في حق غريم الميت إلا بالحجة وفي فتاوى أهل سمرقند أوصى رجلا أن يحج عنه ولم يقدر فيه شيئا والوصي إن أعطى للحاج في محمل احتاج إلى ألف ومائتين أو راكبا لا في محمل يكفيه الأقل والأكثر يخرج من الثلث يجب الأقل لأنه المتيقن ولو مرض الحاج عن غيره فليس له أن يدفع المال إلى غيره ليحج به إلا إذا قال له الدافع اصنع ما شئت فهذه فوائد مهمة لا يستغنى عنها قدمناها أمام ما في الكتاب تتميما أو تكميلا لفائدته ولنرجع إلى الشرح قوله ومن أمره رجلان إلخ صور الإبهام هنا أربعة أن يهل بحجة عنهما أو عن أحدهما عن الإبهام أو يهل بحجة من غير تعيين للمحجوج عنه أو يحرم عن أحدهما بعينه بلا تعيين لما أحرم به ففي الأولى قال هي عن الحاج ويضمن النفقة وفي الثانية قال إن مضى على ذلك إلخ وحاصله أنه ما لم يشرع في الأعمال فالأمر موقوف لم ينصرف الإحرام إلى نفسه ولا إلى واحد من الأمرين فإن عين أحدهما قبل الوقوف انصرف إليه وإلا انصرف إلى نفسه وضمن النفقة وفي الثالثة قال في الكافي لا نص فيه وينبغي أن
____________________
(3/149)
يصح التعيين هنا إجماعا لعدم المخالفة وفي الرابعة يجوز بلا خلاف ومبنى الأجوبة على أنه إذا وقع عن نفس المأمور لا يتحول بعد ذلك إلى الآمر وأنه بعد ما صرف نفقة الآمر إلى نفسه ذاهبا إلى الوجه الذي أخذ النفقة له لا ينصرف الإحرام إلى نفسه إلا إذا تحققت المخالفة أو عجز شرعا عن التعيين إذا عرفنا هذا فلا إشكال في تحقق المخالفة وإذا أحرم بحجة واحدة عنهما وهو غني عن الإطناب وما يتخايل من جعل الحجة الواحدة عن أبويه مضمحل بأن الكلام فيما إذا كان مأمورا بفعل بحكم الآمر على وزانه لا فيما إذا حج متبرعا فلا يتحقق الخلاف في تركه تعيين أحدهما في الابتداء فيحتمل التعيين في الانتهاء لأن حقيقته جعل الثواب ونقول لو أمره كل
____________________
(3/150)
من الأبوين أن يحج عنه حجة الإسلام فأحرم بها عنهما كان الجواب كالجواب المذكور في الأجنبيين فلا إشكال أن مخالفة كل منهما فيما إذا أحرم بحجة عن أحدهما لم تتحقق بمجرد ذلك لأن كلا منهما أمره بحجة وأحدهما صالح لكل منهما صادق عليه ولا منافاة بين العام والخاص ولا يمكن أن تصير للمأمور لأنه نص على إخراجهما عن نفسه بجعلها لأحد الآمرين فلا تنصرف إليه إلا إذا وجد أحد الأمرين اللذين ذكرناهما ولم يتحقق بعد لأن معه مكنة التعيين ما لم يشرع في الأعمال بخلاف ما إذا لم يعين حتى شرع وطاف ولو شوطا لأن الأعمال لا تقع لغير معين فتقع عنه ثم ليس في وسعه أن يحولها إلى غيره وإنما جعل له الشرع ذلك في الثواب ولولا السمع لم يحكم به في الثواب أيضا ولا خفاء في أن إحرمه بحجة بلا زيادة ليس فيه مخالفة أحد ولا تعذر التعيين ولا يقع عن نفسه لما قدمناه وأما الرابع فأظهر من الكل ولو أمره رجل بحجة فأهل بحجتين إحداهما عن نفسه والأخرى عن الآمر فهو مخالف لتضمن الإذن بالحج مع كون نفقة السفر هي المحققة للصحة إفراد السفر للآمر فلو فرض التي عن نفسه جازت الباقية عن الآمر كأنه أحرم بها وحدها ابتداء إذ لا إخلال في ذلك المقصود بالرفض والحاج عن غيره إنشاء قال لبيك عن فلان وإن شاء اكتفى بالنية عنه والأفضل أن يكون قد حج عن نفسه حجة الإسلام خروجا من الخلاف وسنقرره إن شاء الله تعالى ويجوز إحجاج الحر والعبد والأمة والحرة وفي الأصل نص على كراهة المرأة في المبسوط فإن أحج امرأته جاز مع الكراهة لأن حج المرأة أنقص فإنه ليس عليها رمل ولا سعي في بطن الوادي ولا رفع صوت بالتلبية ولا الحلف أه والأفضل إحجاج الحر العالم بالمناسك الذي حج عن نفسه حجة الإسلام وذكر في البدائع كراهة إحجاج الصرورة لأنه تارك فرض الحج والعبد لأنه ليس أهلا لأداء الفرض عن نفسه فيكره عن غيره وليس للمأمور أن يأمر غيره بما أمر به عن الآمر وإن مرض في الطريق إلا أن يكون وقت الدفع قيل له اصنع ما شئت فحينئذ يكون له أن يأمر غيره به وإن كان صحيحا وفيه لو أحج رجلا يحج ثم يقيم بمكة جاز لأن الفرض صار مؤدى والأفضل أن يحج ثم يعود إليه قوله بخلاف ما إذا لم يعين حجة أو عمرة هذه هي الصورة الرابعة فيما ذكرناه من صور الإبهام توهما واردة عليه فدفع الإيراد بالفرق لأن الملتزم فيها مجهول دون الملتزم له وما نحن فيه قلبه وجهالة الملتزم لا تمنع لما عرف في الإقرار بمجهول لمعلوم
____________________
(3/151)